الكتاب: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (المتوفى: 808هـ) المحقق: خليل شحادة الناشر: دار الفكر، بيروت الطبعة: الثانية، 1408 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تاريخ ابن خلدون ابن خلدون الكتاب: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (المتوفى: 808هـ) المحقق: خليل شحادة الناشر: دار الفكر، بيروت الطبعة: الثانية، 1408 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [ المجلد الأول ] بسم الله الرحمن الرحيم المؤلف والكتاب كلمة الناشر العلامة ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ، ولد في تونس سنة 732 هـ- 332 م، ينحدر من أصل أندلسي إشبيلي، تلقى العلم على عدد كبير من العلماء الاندلسيين الذين هاجروا إلى تونس. وإذا كان في شبابه اجتذبه بلاط بني مرين في فاس للخدمة فيه فقد أتيح له الاتصال هناك بالوزير لسان الدين ابن الخطيب خلال فترة نفيه مع سلطانه إلى المغرب وقد توطدت بين الرجلين صداقة متينة ظهرت بوضوح في تلك الترجمة التي أفردها له ابن الخطيب في كتابه «الاحاطة في أخبار غرناطة» بعد عودته الى وطنه قال فيه: ... مفخر من مفاخر التخوم المغربية- أي ابن خلدون- شرح البردة شرحا بديعا دل على غزارة حفظه وتفنن إدراكه ولخص كثيرا من كتب- ابن رشد وعلق للسلطان أبي سالم في العقليات تقييدا مفيدا في المنطق، ولخص محصل الامام فخر الدين الرازيّ، وألف كتابا في الحساب، وشرع في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال [1] » . وإذا كان ابن خلدون انغمر في حياة سياسية حافلة سواء في بلاط المرينيين بفاس أو الحفصيين في تونس فإنه اعتزل السياسة وآثر الانطواء بعد مقتل صديقه ابن الخطيب في سجنه فقد ملّ السياسة وانسحب من الحياة العامة واختلى أربع سنوات 776- 780 هـ- في قلعة بني سلامه في ولاية وهران غربي الجزائر وفي تلك الخلوة كتب «مقدمة» والتي اشتهرت بمقدمة ابن خلدون والتي قال عنها هو: «سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها، على ذلك النحو الّذي اهتديت إليه في تلك الخلوة» . وعاش ابن خلدون بعد ذلك مدة طويلة ارتحل خلالها الى الشام ومصر حيث ولي منصب قاضي القضاة المالكية، في مصر عدة مرات، وتصادف أيضا وجوده في دمشق عند ما حاصرها المغولي، تيمور لنك. وتمكن من الخروج قاصدا تيمور لنك، متوسلا إليه إنقاذ المدينة. وبعدها   [1] يشير بذلك الى كتاب الحلل المرموقة في اللمع المنظومة لابن الخطيب وهو الفية في أصول الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 عاد ابن خلدون الى مصر وتوفي فيها سنة 808 هـ- ومن أشهر مؤلفاته في التاريخ: «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا» وكتاب «العبر وديوان المبتدإ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر» وهو كتابنا هذا الّذي نقدم له. يتألف الكتاب من سبعة أجزاء وجزء ثامن للفهارس الجزء الأول منه: مقدمة ابن خلدون المشهورة والتي تضمنت نظريته في التاريخ على أنه فرع من الفلسفة وأنه لا بد من تحليل الحوادث التاريخية وذلك بدراسة طبائع البشر والعمران وأنظمة الحكم والسلطان واستقصاء عللها وأسبابها لفهم التاريخ واستخلاص منه العبر وتناول في بقية الاجزاء الستة التالية أخبار العرب وأجيالهم ودولهم ومن عاصرهم من الدول المشاهير منذ بدء الخليقة الى عصره، ثم أخبار البربر وأجيالهم وما كان بديار المغرب خاصة والمشرق عامة من الملك والدول. والجزء الثامن فهارس عامة. وقد تفردت هذه النسخة بتعليقات وشروحات معتمدة على المقارنة بين كل النسخ المتوافرة بالإضافة الى المراجع العديدة لضبط النص والأحداث والأسماء حيث لاحظنا تحريف في الأسماء ناجم عن الأسماء الأعجمية والبربرية وغيرها كما يعود الاضطراب الى أخطاء النساخ والناقلين وقد ضبطنا هذه الأسماء وأشرنا في الهوامش اليها كما وردت في مختلف النسخ واستعنا لذلك بتاريخ ابن الأثير «الكامل في التاريخ» وتاريخ الطبري كما استعنا بمكتبة الدكتور سهيل زكار فيما يخص تاريخ شمال افريقية. كما لاحظنا اضطرابا في نقل النص أحيانا وأحيانا أخرى عمد المؤلف الى ترك أمكنة بيضاء ليعود الى إملائها فيما بعد ولكن الموت عاجله قبل ذلك كما أن بعض النساخ أحيانا يترك فراغا مكان الكلمة التي لا يفهمها أو غير المقروءة ولا يعود اليها وعمدنا الى ملأ الفراغ ما أمكن من النسخ الأخرى وأشرنا اليه في الهوامش. كما وجدنا بعض الفصول قد حذف من نسخة ووجد في نسخة أخرى وبالعكس لذلك أضفنا هذا النقص الحاصل بحيث تخرج هذه الطبعة كاملة متكاملة. وأضفنا اليها جزءا خاصا يحتوي على فهارس للأسماء والقبائل والمدن والأماكن. هذه النسخة الجديدة نضعها بين أيدي القراء الكرام آملين أن يجدوا فيها ما يتوخون من الدقة شاكرين لكل من ساهم معنا وقدم لنا العون والله من وراء القصد. 25 جمادى الآخرة 1401 خليل شحادة- دار الفكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 [ مقدمة المؤلف ] بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغنيّ بلطفه عبد الرّحمن بن محمّد بن خلدون الحضرميّ وفّقه الله. الحمد للَّه الّذي له العزّة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى والنّعوت، العالم فلا يغرب عنه ما تظهره النّجوى أو يخفيه السّكوت، القادر فلا يعجزه شيء في السّماوات والأرض ولا يفوت، أنشأنا من الأرض نسما [1] واستعمرنا فيها أجيالا وأمما ويسّر لنا منها أرزاقا وقسما، تكنفنا الأرحام والبيوت، ويكفلنا الرّزق والقوت، وتبلينا الأيّام والوقوت، وتعتورنا الآجال الّتي خطّ علينا كتابها الموقوت وله البقاء والثّبوت، وهو الحيّ الّذي لا يموت، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد النّبي العربيّ المكتوب في التّوراة والإنجيل المنعوت، الّذي تمحّض لفصاله الكون قبل أن تتعاقب الآحاد والسّبوت، ويتباين زحل واليهموت [2] ، وعلى آله وأصحابه الّذين لهم في صحبته وأتباعه الأثر   [1] أي نفوسا، والله بارئ النسم أي خالق النفوس (قاموس) . [2] قوله اليهموت هو النون أي الحوت الّذي على ظهره الأرض السابقة ويسمى أيضا لوتيا كما في المزهر وروح البيان واللهجة ومعلوم ان بينه وبين زحل الّذي مر في الفلك السابع بونا بعيدا وقال الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي 1 هـ- في أول سورة نون اليهموت بفتح المثناة النحمية وسكون الهاء وما لشهر من أنه بالباء الموحدة غلط على ما ذكره الفاضل المحشي ومثله في روح البيان قاله نصر الهوريني أقره المصحح الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 البعيد والصّيت، والشّمل الجميع في مظاهرته ولعدوّهم الشّمل الشّتيت، صلى الله عليه وعليهم ما اتّصل بالإسلام جدّه المبخوت. وانقطع بالكفر حبله المبتوت، وسلم كثيرا. أمّا بعد فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال [1] ، وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدّول، والسّوابق من القرون الأول، تنمو [2] فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال، واتّسع للدّول فيها النّطاق والمجال، وعمّروا الأرض حتّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزّوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق. وإنّ فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها، وسطّروها في صفحات الدّفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفّلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الرّوايات المضعفة لفّقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممّن بعدهم واتّبعوها، وأدّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتّحقيق قليل، وطرف التّنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتّقليد عريق في الآدميّين وسليل، والتّطفّل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل، والحقّ لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النّظر شيطانه، والنّاقل إنّما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصّحيح إذا تمقّل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل.   [1] جمع قيل، والقيل الملك وقيل: هو الرئيس دون الملك الأعلى. [2] نما الخبر أو الحديث: ارتفع وذاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 هذا وقد دوّن النّاس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدّول في العالم وسطّروا، والّذين ذهبوا بفضل الشّهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخّرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطّبريّ وابن الكلبيّ ومحمّد بن عمر الواقديّ وسيف بن عمر الأسديّ وغيرهم من المشاهير، المتميّزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعوديّ والواقديّ من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات. ومشهور بين الحفظة الثّقات، إلّا أنّ الكافّة اختصّتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التّصنيف واتّباع آثارهم، والنّاقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم. فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الرّوايات والآثار. ثمّ إنّ أكثر التّواريخ لهؤلاء عامّة المناهج والمسالك، لعموم الدّولتين صدر الإسلام [1] في الآفاق والممالك. وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملّة من الدّول والأمم، والأمر العمم [2] . كالمسعوديّ ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التّقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشّأو البعيد، فقيّد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على تاريخ دولته ومصره، كما فعل أبو حيّان مؤرّخ الأندلس والدّولة الأمويّة بها وابن الرّفيق مؤرّخ إفريقية والدّولة الّتي كانت بالقيروان. ثمّ لم يأت من بعد هؤلاء إلّا مقلّد، وبليد الطّبع والعقل وبليد، ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عمّا أحالته الأيّام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون [3] الأخبار عن الدّول،   [1] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: لعموم صدر الإسلام والدولتين (أي دولة بني أمية والدولة العباسية) . [2] امر عمم: تام، عام (لسان العرب) . [3] بمعنى يجمعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وحكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجرّدت عن موادّها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها [1] ، إنّما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحقّقت فصولها، يكرّرون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتّباعا لمن عني من المتقدّمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال النّاشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم [2] صحفهم عن بيانها، ثمّ إذا تعرّضوا لذكر الدّولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرّضون لبدايتها، ولا يذكرون السّبب الّذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علّة الوقوف عند غايتها، فيبقى النّاظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدّول ومراتبها، مفتّشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كلّه في مقدّمة الكتاب. ثمّ جاء آخرون بإفراط الاختصار، وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار، مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيّامهم بحروف الغبار [3] ، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل، وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعدّ لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرّخين والعوائد. ولمّا طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبّهت عين القريحة من سنة الغفلة والنّوم. وسمت التّصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السّوم [4] ، فأنشأت في التّاريخ كتابا. رفعت به عن أحوال النّاشئة من الأجيال حجابا: وفصّلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأوّليّة الدّول والعمران عللا وأسبابا. وبنيته على أخبار الأمم الّذين عمّروا المغرب في هذه الأعصار، وملئوا   [1] أي قديمها وحديثها. [2] اسعجم الكلام: أصبح مبهما. [3] اسم العلامات تدل على الأعداد (قاموس) . [4] السوم: طلب الشراء (لسان العرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أكناف الضّواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدّول الطّوال أو القصار، ومن سلف لهم من الملوك والأنصار، وهما العرب والبربر، إذ هما الجيلان اللّذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما، حتّى لا يكاد يتصوّر فيه ما عداهما، ولا يعرف أهله من أجيال الآدميّين سواهما، فهذّبت مناحيه تهذيبا، وقرّبته لأفهام العلماء والخاصّة تقريبا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا. وشرحت فيه من أحوال العمران والتّمدّن وما يعرض في الاجتماع الإنسانيّ من العوارض الذّاتيّة ما يمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرّفك كيف دخل أهل الدّول من أبوابها، حتّى تنزع من التّقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيّام والأجيال وما بعدك ورتّبته على مقدّمة وثلاثة كتب. المقدّمة في فضل علم التّاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرّخين. الكتاب الأوّل في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذّاتيّة من الملك والسّلطان والكسب والمعاش والصّنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب. الكتاب الثّاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه من الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النّبط والسّريانيّين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والرّوم والتّرك والإفرنجة الكتاب الثّالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة وذكر أوّليّتهم وأحيالهم وما كان بديار المغرب خاصّة من الملك والدّول ثمّ كانت الرّحلة إلى المشرق لاجتناء [1] أنواره، وقضاء الفرض والسّنّة في مطافه ومزاره: والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره: فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الدّيار، ودول التّرك فيما ملكوه من الأقطار، وأتبعت بها ما كتبته في تلك الأسطار، وأدرجتها   [1] وفي بعض النسخ لاجتلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من أمم النّواحي، وملوك الأمصار والضّواحي، سالكا سبيل الاختصار والتّلخيص، مفتديا بالمرام السّهل من العويص، داخلا من باب الأسباب على العموم إلى الإخبار على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلّل من الحكم النّافرة صعابا، وأعطى لحوادث الدّول عللا وأسبابا، فأصبح للحكمة صوانا. وللتّاريخ جرابا. ولمّا كان مشتملا على أخبار العرب والبربر، من أهل المدن والوبر، والإلماع بمن عاصرهم من الدّول الكبر، وأفصح بالذّكرى والعبر، في مبتدإ الأحوال ومما بعدها من الخبر، سمّيته كتاب العبر، وديوان المبتدإ والخبر، في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر، ولم أترك شيئا في أوّليّة الأجيال والدّول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التّصرّف والحول، في القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملّة، ومدينة وحلّة [1] ، وعزّة وذلّة، وكثرة وقلّة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلّبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلّا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله، فجاء هذا الكتاب فذّا بما ضمّنته من العلوم الغريبة، والحكم المحجوبة القريبة، وأنا من بعدها موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء، في مثل هذا القضاء [2] ، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتّسعة الفضاء، في النّظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتّغمّد [3] لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء، فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللّوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة، والله اسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل. وبعد أن استوفيت علاجه، وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه،   [1] الحلة، القرية مجازا، ومعناها في الأصل، القوم النازلون في مكان ما. [2] بمعنى، هذه القضايا. [3] تغمده: ستر ما كان منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه، وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه وأدرت سياجه، أتحفت بهذه النّسخة منه [1] خزانة مولانا السّلطان الإمام المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي منذ خلع التّمائم [2] ، ولوث [3] العمائم، بحلي القانت الزّاهد، المتوشّح بزكاء المناقب والمحامد، وكرم الشّمائل والشّواهد، بأجمل من القلائد، في نحور الولائد، المتناول بالعزم القويّ السّاعد، والجدّ المواتي المساعد، والمجد الطّارف والتّالد، ذوائب ملكهم الرّاسي القواعد، الكريم المعالي والمصاعد، جامع أشتات العلوم والفوائد، وناظم شمل المعارف والشّوارد، ومظهر الآيات الرّبّانيّة، في فضل المدارك الإنسانيّة، بفكره الثّاقب النّاقد، ورأيه الصّحيح المعاقد، النيّر المذاهب والعقائد، نور الله الواضح المراشد، ونعمته العذبة الموارد، ولطفه الكامن بالمراصد للشّدائد. ورحمته الكريمة المقالد، الّتي وسعت صلاح الزّمان الفاسد) ، واستقامة المائد من الأحوال   [1] قوله أتحفت بهذه النسخة منه إلخ وجد في نسخة بخط بعض فضلاء المغاربة زيادة قبل قوله أتحفت وبعد قوله وأدرت سياجه ونصها التمست له الكف الّذي يلمح بعين الاستبصار فنونه. ويلحظ بمداركه الشريفة معياره الصحيح وقانونه. ويميز رتبته في المعارف عما دونه. فسرحت فكري في فضاء الوجود. واجلت نظري ليل التمام والهجود. بين التهائم والنجود. في العلماء الركع والسجود. والخلفاء أهل الكرم والجود. حتى وقف الاختيار بساحة الكمال. وطافت الأفكار بموقف الآمال. وظفرت أيدي المساعي والاعتمال. بمنتدى المعارف مشرقة فيه غرر الجمال. وحدائق العلوم الوارفة الظلال. عن اليمين والشمال. فأنخت مطيّ الأفكار في عرصاتها، وجلوت محاسن الأنظار على منصاتها. وأتحفت بديوانها مقاصير إيوانها. واطلعته كوكبا وقادا في أفق خزانتها وصوانها. ليكون آية للعقلاء يهتدون بمناره. ويعرفون فضل المدارك الإنسانية في أثارة. وهي خزانة مولانا السلطان الامام المجاهد. الفاتح الماهد. إلى آخر النعوت المذكورة هنا ثم قال الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين أبو العباس أحمد ابن مولانا الأمير الطاهر المقدس أبي عبد الله محمد ابن مولانا الخليفة المقدس أمير المؤمنين. أبي يحيى أبي بكر ابن الخلفاء الراشدين. من أئمة الموحدين الذين جددوا الدين. ونهجوا السبل للمهتدين. ومحوا أثر البغاة المفسدين من المجسّمة والمعتدين. سلالة أبي الحفص والفاروق. والنبعة النامية على تلك المغارس الزاكية والعروق. والنور المتلألئ من تلك الأشعة والبروق. فأوردته من مودعها إلى العلي بحيث مقر الهدى. ورياض المعارف خضلة الندي، إلى اخر ما ذكر هنا الا أنه لم يقيد الإمامة بالفارسية لكن النسخة المذكورة مختصرة عن هذه النسخة المنقولة من خزانة الكتب الفارسية ولم يقل فيها ثم كانت الرحلة إلى المشرق إلخ. [2] التميمة: خرزة رقطاء تنظم في السير، ثم يعقد في العنق، وهي التمائم والتميم، عن ابن جني وقيل: هي قلادة يجعل فيها سبور وعوذ، وحكي عن ثعلب، تمّت المولود، علّقت عليه التمائم (لسان العرب) . [3] لوث: عصب العمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والعوائد، وذهبت بالخطوب الأوابد، وخلعت على الزّمان رونق الشّباب العائد، وحجّته الّتي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند، (أمير المؤمنين) أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السّلطان المعظّم الشّهير الشّهيد أبي سالم إبراهيم ابن مولانا السّلطان المقدّس أمير المؤمنين، أبي الحسن ابن السّادة الأعلام من ملوك بني مرين، الّذين جدّدوا الدّين، ونهجوا السّبيل للمهتدين، ومحوا آثار البغاة المفسدين، أفاء الله على الأمّة ظلاله، (وبلّغه في نصر دعوة الإسلام آماله) . وبعثته إلى خزانتهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويّين من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسيّ سلطانهم، حيث مقرّ الهدى، ورياض المعارف خضلة النّدى. وفضاء الأسرار الرّبّانيّة فسيح المدى، والإمامة الفارسيّة الكريمة [1] العزيزة إن شاء الله بنظرها الشّريف، وفضلها الغنيّ عن التّعريف، تبسط له من العناية مهادا، وتفسح له في جانب القبول آمادا، فتوضح بها أدلّة على رسوخه وأشهادا، ففي سوقها تنفق بضائع الكتّاب وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب، ومن مدد بصائرها المنيرة نتائج القرائح والألباب، والله يوزعنا شكر نعمتها، ويوفّر لنا حظوظ المواهب من رحمتها ويعيننا على حقوق خدمتها، ويجعلنا من السّابقين في ميدانها المحلّين في حومتها، ويضفي على أهل إيالتها، وما أوي من الإسلام إلى حرم عمالتها، لبوس حمايتها وحرمتها، وهو سبحانه المسئول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها، بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها، وهو حسبنا ونعم الوكيل.   [1] قوله الفارسية أي المنسوبة إلى أبي فارس المتقدم ذكره 1 هـ-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المقدمة في فضل علم التّاريخ وتحقيق مذاهبه والالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها اعلم أنّ فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا [1] على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياستهم. حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ وينكّبان به عن المزلّات والمغالط لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ ولا قيس الغائب منها بالشّاهد والحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادّة الصّدق وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر ولا بدّ من ردّها إلى الأصول وعرضها على القواعد.   [1] بمعنى يطلعنا، وهي لغة ضعيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرّخين في جيوش بني إسرائيل بأنّ موسى عليه السّلام أحصاهم في التّيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السّلاح خاصّة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستّمائة ألف أو يزيدون ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشّام واتّساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكلّ مملكة من الممالك حصّة من الحامية تتّسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عمّا فوقها تشهد بذلك الغوائد المعروفة والأحوال المألوفة ثمّ إنّ مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها وبعدها إذا اصطفّت عن مدى البصر مرّتين أو ثلاثا أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصّفّين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء. ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بخت نصّر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملّتهم وسلطانهم وهو من بعض عمّال مملكة فارس يقال إنّه كان مرزبان المغرب من تخومها وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النّهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قطّ مثل هذا العدد ولا قريبا منه وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسيّة مائة وعشرين ألفا كلّهم متبوع على ما نقله سيف [1] قال وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف وعن عائشة والزّهريّ فإنّ جموع رستم الّذين زحف بهم سعد بالقادسيّة إنّما كانوا ستّين ألفا كلّهم متبوع وأيضا فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتّسع نطاق ملكهم وانفسح مدى دولتهم فإنّ العمالات والممالك في الدّول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلّتها وكثرتها حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأوّل والقوم لم تتّسع ممالكهم إلى غير الأردنّ وفلسطين من الشّام وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف.   [1] هو سيف بن عمر الأسدي، من جامعي تواريخ الأمم والدول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وأيضا فالّذين بين موسى وإسرائيل إنّما هو أربعة آباء على ما ذكره المحقّقون فإنّه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بفتح الهاء وكسرها ابن لاوي بكسر الواو وفتحها ابن يعقوب وهو إسرائيل الله هكذا نسبه في التّوراة والمدّة بينهما على ما نقله المسعوديّ قال دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السّلام إلى التّيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة ويبعد أن يتشعّب النّسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد وإن زعموا أنّ عدد تلك الجيوش إنّما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضا إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلّا أحد عشر أبا فإنّه سليمان بن داود بن يشّا بن عوفيذ (ويقال ابن عوفذ) ابن باعز (ويقال بوعز) بن سلمون بن نحشون بن عمّينوذب (ويقال حمّيناذاب) بن رمّ بن حصرون (ويقال حسرون) بن بارس (ويقال ببرس) بن يهوذا بن يعقوب ولا يتشعّب النّسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الّذي زعموه اللَّهمّ إلى المائتين والآلاف فربّما يكون وأمّا أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف تجد زعمهم باطلا ونقلهم كاذبا. والّذي ثبت في الإسرائيليّات أنّ جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصّة وأنّ مقرّباته [1] كانت ألفا وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه هذا هو الصّحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامّة منهم وفي أيّام سليمان (عليه السّلام) وملكه كان عنفوان دولتهم واتّساع ملكهم هذا وقد نجد الكافّة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدّول الّتي لعهدهم أو قريبا منه وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النّصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السّلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغّلوا في العدد   [1] المقرّبات، جمع مقربة: وهي من الخيل التي يقرّب معلفها ومربطها لكرامتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الإعراب فإذا استكشف أصحاب الدّواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثّروة في بضائعهم وفوائدهم واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدّونه وما ذلك إلّا لولوع النّفس بالغرائب وسهولة التّجاوز على اللسان والغفلة على المتعقّب والمنتقد حتّى لا يحاسب نفسه على خطإ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتّخذ آيات الله هزءا [1] ويشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة. ومن الأخبار الواهية للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في أخبار التّبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنّهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية [2] والبربر من بلاد المغرب وأنّ أفريقش بن قيس بن صيفيّ من أعاظم ملوكهم الأول وكان لعهد موسى عليه السّلام أو قبله بقليل غزا إفريقية وأثخن في البربر وأنّه الّذي سمّاهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ وأنّه لمّا انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة [3] وكتامة ومن هذا ذهب الطّبريّ والجرجانيّ والمسعوديّ وابن الكلبيّ والبيليّ إلى أنّ صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر وهو الصّحيح وذكر المسعوديّ أيضا أنّ ذا الأذعار من ملوكهم قبل أفريقش وكان على عهد سليمان (عليه السّلام) غزا المغرب ودوّخه وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده وأنّه بلغ وادي الرّمل في بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكا لكثرة الرّمل فرجع وكذلك يقولون في تبّع الآخر وهو أسعد أبو كرب وكان على عهد يستأسف من ملوك الفرس الكيانيّة أنّه ملك الموصل وأذربيجان   [1] وفي بعض النسخ هزوا. [2] كذا المشهور بدون تشديد الباء، وقد تشدّد الياء: (إفريقية) في معجم البلدان لياقوت الحموي. [3] صنهاجة بفتح الصاد كما هي معروفة في المغرب، وبكسر الصاد كما وردت في ألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ولقي التّرك فهزمهم وأثخن ثمّ غزاهم ثانية وثالثة كذلك وأنّه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصّغد من بلاد أمم التّرك وراء النّهر وإلى بلاد الرّوم فملك الأوّل البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى الصين فوجد أخاه الثّاني الّذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها فأثخنا في بلاد الصّين ورجعا جميعا بالغنائم وتركوا ببلاد الصّين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد وبلغ الثّالث إلى قسطنطنيّة فدرسها [1] ودوّخ بلاد الرّوم ورجع. وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصّحّة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة. وذلك أنّ ملك التّبابعة إنّما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيّهم بصنعاء اليمن. وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها فبحر الهند من الجنوب وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق وبحر السّويس الهابط منه إلى السّويس من أعمال مصر من جهة المغرب كما تراه في مصوّر الجغرافيا فلا يجد السّالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السّويس والمسلك هناك ما بين بحر السّويس والبحر الشّاميّ قدر مرحلتين فما دونهما ويبعد أن يمرّ بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن يصير من أعماله هذه ممتنع في العادة. وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشّام والقبط بمصر ثمّ ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشّام ولم ينقل قطّ أنّ التّبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال وأيضا فالشّقّة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزّرع والنّعم وانتهاب البلاد فيما يمرّون عليه ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة وإن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرّواحل بنقله فلا بدّ وأن يمرّوا في طريقهم كلّها بأعمال قد ملكوها ودوّخوها لتكون الميرة منها وإن قلنا إنّ تلك العساكر تمرّ بهؤلاء الأمم من غير أن   [1] درس الأثر: بمعنى محاه (لسان العرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة فذلك أبعد وأشدّ امتناعا فدلّ على أنّ هذه الأخبار واهية أو موضوعة. وأمّا وادي الرّمل الّذي يعجز السّالك فلم يسمع قطّ ذكره في المغرب على كثرة سالكه ومن يقصّ طرقه من الرّكّاب والقرى [1] في كلّ عصر وكلّ جهة وهو على ما ذكروه من الغرابة تتوفّر الدّواعي على نقله. وأمّا غزوهم بلاد الشّرق وأرض التّرك وإن كان طريقه أوسع من مسالك السّويس إلّا أنّ الشّقّة هنا أبعد وأمم فارس والرّوم معترضون فيها دون التّرك ولم ينقل قطّ أنّ التّبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الرّوم وإنّما كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق وما بين البحرين والحيرة والجزيرة بين دجلة والفرات وما بينهما في الأعمال وقد وقع ذلك بين ذي الأذعار منهم وكيكاوس من ملوك الكيانيّة وبين تبّع الأصغر أبي كرب ويستأسف منهم أيضا ومع ملوك الطّوائف بعد الكيانيّة والسّاسانيّة من بعدهم بمجاوزة [2] أرض فارس بالغزو إلى بلاد الترك والتّبت وهو ممتنع عادة من أجل الأمم المعترضة منهم والحاجة إلى الأزودة والعلوفات مع بعد الشّقّة كما مرّ فالأخبار بذلك واهية مدخولة وهي لو كانت صحيحة النّقل لكان ذلك قادحا فيها فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح وقول ابن إسحاق في خبر يثرب والأوس والخزرج أنّ تبّعا الآخر سار إلى المشرق محمولا على العراق وبلاد فارس وأمّا بلاد التّرك والتّبت فلا يصحّ غزوهم إليها بوجه لما تقرّر فلا تثقنّ بما يلقى إليك من ذلك وتأمّل الأخبار واعرضها على القوانين الصّحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه والله الهادي إلى الصّواب. فصل وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسّرون في تفسير سورة «والفجر»   [1] بمعنى: الأشخاص الذين يطوفون في البلاد (قاموس) . [2] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: وأمّا مجاوزة أرض فارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 89: 6- 7 فيجعلون لفظة إرم اسما لمدينة وصفت بأنّها ذات عماد أي أساطين وينقلون أنّه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشدّاد ملكا من بعده وهلك شديد فخلص الملك لشدّاد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنّة فقال لأبنينّ مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدّة ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وأنّها مدينة عظيمة قصورها من الذّهب وأساطينها من الزّبرجد والياقوت وفيها أصناف الشّجر والأنهار المطّردة [1] ولمّا تمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتّى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السّماء فهلكوا كلّهم. ذكر ذلك الطّبريّ والثّعالبيّ والزّمخشريّ وغيرهم من المفسّرين وينقلون عن عبد الله بن قلّابة [2] من الصّحابة أنّه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه وبلغ خبره معاوية فأحضره وقصّ عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثمّ التفت فأبصر ابن قلّابة فقال هذا والله ذلك الرّجل. وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض وصحارى عدن الّتي زعموا أنّها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا والأدلّاء تقصّ طرقه من كلّ وجه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريّين ولا من الأمم ولو قالوا إنّها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلّا أنّ ظاهر كلامهم أنّها موجودة وبعضهم يقول إنّها دمشق بناء على أنّ قوم عاد ملكوها وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنّها غائبة وإنّما يعثر عليها أهل الرّياضة والسّحر مزاعم كلّها أشبه بالخرافات والّذي حمل المفسّرين   [1] الجارية. [2] هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي وكنيته: أبو قلابة وهو من التابعين (معجم الأدباء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد أنّها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء ورشّح لهم ذلك قراءة ابن الزّبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين ثمّ وقفوا على تلك الحكايات الّتي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة الّتي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات وإلّا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنّهم أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوّتهم لأنّه بناء خاصّ في مدينة معيّنة أو غيرها وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزّبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار وأيّ ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الّذي تمحّلت [1] لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية الّتي ينزّه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصّحّة. ومن الحكايات المدخولة للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في سبب نكبة الرّشيد للبرامكة من قصّة العبّاسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنّه لكلفه بمكانهما من معاقرته إيّاهما الخمر أذن لهما في عقد النّكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه وأنّ العبّاسة تحيّلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبّه حتّى واقعها (زعموا في حالة السكر) فحملت ووشي بذلك للرّشيد فاستغضب وهيهات ذلك من منصب العبّاسة في دينها وأبويها وجلالها وأنّها بنت عبد الله بن عبّاس ليس بينها وبينه إلّا أربعة رجال هم أشراف الدّين وعظماء الملّة من بعده. والعبّاسة بنت محمّد المهديّ ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمّد السّجّاد ابن عليّ أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابن العبّاس عمّ النّبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النّبويّة وصحبة الرّسول وعمومته وإقامة الملّة ونور الوحي ومهبط   [1] تمحل للشيء بمعنى، احتال في طلبه. وفي العبارة اضطراب، والتصويب «الّذي تمحل لتوجيهه بأمثال هذه الحكايات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبيّة وسذاجة [1] الدّين البعيدة عن عوائد التّرف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصّون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطّهارة والذّكاء [2] إذا فقدا من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنّس شرفها العربيّ بمولى من موالي العجم بملكة جدّه من الفرس أو بولاء جدّها من عمومة الرّسول وأشراف قريش وغايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقّتهم إلى منازل الأشراف وكيف يسوغ من الرّشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همّته وعظم آبائه ولو نظر المتأمّل في ذلك نظر المنصف وقاس العبّاسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولجّ في تكذيبه وأين قدر العبّاسة والرّشيد من الناس. وإنّما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدّولة واحتجافهم [3] أموال الجباية حتّى كان الرّشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن له معهم تصرّف في أمور ملكه فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمّروا مراتب الدّولة وخططها [4] بالرّؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عمّن سواهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم. يقال إنّه كان بدار الرّشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدّولة بالمناكب ودفعوهم عنها بالرّاح لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون وليّ عهد وخليفة حتّى شبّ في حجره ودرج   [1] بمعنى الوضع الصحيح الطبيعي الّذي لم تشبه شائبة (قاموس) . [2] في جميع النسخ المطبوعة الذكاء بالذال، وفي النسخة الباريسية المخطوطة، الزكاء بالزين وهو الأصح بمعنى الصلاح. [3] احتجف الشيء: استخلصه وحازه. والأصح استعمال كلمة احتجانهم، واحتجن الشيء أي جذبه، ولكن ابن خلدون يتعمد استعمال الكلمات الفريدة. [4] جمع خطة بضم الخاء وهي بمعنى الأمر، واما بالكسر كما أوردها محقق لجنة البيان العربيّ بمعنى «المكان المختط لعمارة: فليس لها معنى في هذا المقام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 من عشّه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت فتوجّه الإيثار من السّلطان إليهم وعظمت الدّالّة منهم وانبسط الجاه عندهم وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرّقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطّت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وتسرّبت إلى خزائنهم في سبيل التّزلّف والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشّيعة وعظماء القرابة العطاء وطوّقوهم المنن وكسبوا [1] من بيوتات الأشراف المعدم وفكّوا العاني [2] ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنّوا لعفاتهم [3] الجوائز والصّلات واستولوا على القرى والضّياع من الضّواحي والأمصار في سائر الممالك حتّى أسفّوا البطانة وأحقدوا الخاصّة وأغصّوا [4] أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبّت إلى مهادهم الوثير من الدّولة عقارب السّعاية حتّى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم السّاعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرّحم ولاوزعتهم أواصر القرابة وقارن ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكان الحقود الّتي بعثتها منهم صغائر الدّالّة. وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصّتهم في يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أخي محمّد المهديّ الملقّب بالنّفس الزّكيّة الخارج على المنصور ويحيى هذا هو الّذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الدّيلم على أمان الرّشيد بخطّه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطّبريّ ودفعه الرّشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره فحبسه مدّة ثمّ حملته الدّالّة على تخلية سبيله والاستبداد بحلّ عقاله حرما [5] لدماء أهل البيت بزعمه ودالّة على السّلطان في حكمه. وسأله الرّشيد عنه لمّا وشي به إليه ففطن وقال أطلقته فأبدى له وجه   [1] يتعدى فعل كسب بنفسه إلى مفعول ثان، وهو هنا بمعنى: كسب فلانا مالا أي اناله (قاموس) . [2] العاني: الأسير. [3] اسنوا الجوائز: أي اجزلوها، والعفاة جمع عاف، وهو طالب المعروف. [4] ثقال كلمة غص للطعام، واستعملها هنا ابن خلدون للغيظ على التشبيه. [5] أي لحرمة دماء أهل البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الاستحسان وأسرّها في نفسه فأوجد السّبيل بذلك على نفسه وقومه حتّى ثلّ عرشهم وألقيت عليهم سماؤهم وخسفت الأرض بهم وبدارهم وذهبت سلفا ومثلا للآخرين أيّامهم ومن تأمّل أخبارهم واستقصى سير الدّولة وسيرهم وجد ذلك محقّق الأثر ممهّد الأسباب وانظر ما نقله ابن عبد ربّه في مفاوضة الرّشيد عمّ جدّه داود بن علي في شأن نكبتهم وما ذكره في باب الشّعراء في كتاب العقد في محاورة الأصمعيّ للرّشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم تتفهّم أنّه إنّما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه وكذلك ما تحيّل به أعداؤهم من البطانة فيما دسّوه للمغنّين من الشّعر احتيالا على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله: ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا ممّا نجد واستبدّت مرّة واحدة ... إنّما العاجز من لا يستبد وإنّ الرّشيد لمّا سمعها قال: «إي والله إنّي عاجز» حتّى بعثوا بأمثال هذه كامن غيرته وسلّطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ باللَّه من غلبة الرّجال وسوء الحال. وأمّا ما تموّه له الحكاية من معاقرة الرّشيد الخمر واقتران سكره بسكر النّدمان فحاشا الله ما علمنا عليه من سوء، وأين هذا من حال الرّشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدّين والعدالة وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السّماك والعمريّ ومكاتبته سفيان الثّوريّ وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكّة في طوافه وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصّلوات وشهود الصّبح لأوّل وقتها. حكى الطّبريّ وغيره أنّه كان يصلّي في كلّ يوم مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاما ويحجّ عاما ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرّض له بمثل ذلك في الصّلاة لمّا سمعه يقرأ «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي 36: 22» وقال والله ما أدري لم؟ فما تمالك الرّشيد أن ضحك ثمّ التفت إليه مغضبا وقال يا ابن أبي مريم في الصّلاة أيضا إيّاك إيّاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والقرآن والدّين ولك ما شئت بعدهما وأيضا فقد كان من العلم والسّذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك ولم يكن بينه وبين جدّه أبي جعفر بعيد زمن إنّما خلّفه غلاما وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدّين قبل الخلافة وبعدها وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطّإ يا أبا عبد الله إنّه لم يبق على وجه الأرض أعلم منّي ومنك وإنّي قد شغلتني الخلافة فضع أنت للنّاس كتابا ينتفعون به تجنّب فيه رخص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر ووطّئه للنّاس توطئة قال مالك فو الله لقد علّمني التّصنيف يومئذ ولقد أدركه ابنه المهديّ أبو الرّشيد هذا وهو يتورّع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال ودخل عليه يوما وهو بمجلسه يباشر الخيّاطين في إرقاع [1] الخلقان من ثياب عياله فاستنكف المهديّ من ذلك وقال يا أمير المؤمنين عليّ كسوة هذه العيال عامنا هذا من عطائي فقال له لك ذلك ولم يصدّه عنه ولا سمح بالإنفاق فيه من أموال المسلمين فكيف يليق بالرّشيد على قرب العهد من هذا الخليفة وأبوّته وما ربّي عليه من أمثال هذه السّير في أهل بيته والتّخلّق بها أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهليّة في اجتناب الخمر معلومة ولم يكن الكرم شجرتهم وكان شربها مذمّة عند الكثير منهم والرّشيد وآباؤه كانوا على ثبج [2] من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم والتّخلّق بالمحامد وأوصاف الكمال ونزعات العرب. وانظر ما نقله الطّبريّ والمسعوديّ في قصّة جبريل بن بختيشوع الطّبيب حين أحضر له السّمك في مائدته فحماه عنه ثمّ أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله وفطن الرّشيد وارتاب به ودسّ خادمه حتّى عاينه يتناوله فأعدّ ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السّمك في ثلاثة أقداح خلط إحداها باللّحم المعالج بالتّوابل والبقول والبوارد والحلوى وصبّ على الثّانية ماء   [1] الأصح أن يقول في رقع الخلقان أو في ترقيعها. والخلقان الثياب البالية (قاموس) . [2] الثبج من كل شيء: معظمه، أعلاه ووسطه ومنه حديث عبادة: يوشك أن يرى الرجل من ثبج المسلمين أي من وسطهم، وقيل: من سراتهم وعليتهم (قاموس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 مثلّجا وعلى الثّالثة خمرا صرفا وقال في الأوّل والثّاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السّمك بغيره أو لم يخلطه وقال في الثّالث هذا طعام ابن بختيشوع ودفعها إلى صاحب المائدة حتّى إذا انتبه الرّشيد وأحضره للتّوبيخ، أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط وأماع وتفتّت ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما فكانت له في ذلك معذرة وتبين من ذلك أنّ حال الرّشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنّه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتّى تاب وأقلع وإنّما كان الرّشيد يشرب نبيذ التّمر على مذهب أهل العراق [1] وفتاويهم فيها معروفة وأمّا الخمر الصّرف فلا سبيل إلى اتّهامه بها ولا تقليد الأخبار الواهية فيها فلم يكن الرّجل بحيث يواقع محرّما من أكبر الكبائر عند أهل الملّة ولقد كان أولئك القوم كلّهم بمنحاة من ارتكاب السّرف والتّرف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدّين الّتي لم يفارقوها بعد فما ظنّك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلّة إلى الحرمة ولقد اتّفق المؤرّخون الطّبريّ والمسعوديّ وغيرهم على أنّ جميع من سلف من خلفاء بني أميّة وبني العبّاس إنّما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة في المناطق والسّيوف واللّجم والسّروج وأنّ أوّل خليفة أحدث الرّكوب بحلية الذّهب هو المعتزّ بن المتوكّل ثامن الخلفاء بعد الرّشيد وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم فما ظنّك بمشاربهم؟ ويتبيّن ذلك بأتمّ من هذا إذا فهمت طبيعة الدّولة في أوّلها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأوّل إن شاء الله والله الهادي إلى الصّواب. ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافّة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنّه كان يعاقر الخمر وأنّه سكر ليلة مع شربه [2] فدفن في الرّيحان حتّى أفاق وينشدون على لسانه: يا سيّدي وأمير النّاس كلّهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني   [1] يقصد به مذهب أبي حنيفة. [2] الشرب: الذين يشربون معا، جمع شارب (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 إنّي غفلت عن السّاقي فصيّرني ... كما تراني سليب العقل والدّين وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرّشيد وشرابهم إنّما كان النّبيذ ولم يكن محظورا عندهم وأمّا السّكر فليس من شأنهم وصحابته للمأمون إنّما كانت خلّة في الدّين ولقد ثبت أنّه كان ينام معه في البيت ونقل في فضائل المأمون وحسن عشرته أنّه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسّس ويلتمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم وثبت أنّهما كانا يصلّيان الصّبح جميعا فأين هذا من المعاقرة وأيضا فإنّ يحيى بن أكثم كان من علية أهل الحديث وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي وخرّج عنه التّرمذيّ كتابه الجامع [1] وذكر المزنيّ الحافظ أنّ البخاريّ روى عنه في غير الجامع فالقدح فيه قدح في جميعهم وكذلك ما ينبزه [2] المجّان بالميل إلى الغلمان بهتانا على الله وفرية على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصّاص الواهية الّتي لعلّها من افتراء أعدائه فإنّه كان محسودا في كماله وخلّته للسّلطان وكان مقامه من العلم والدّين منزّها عن مثل ذلك وقد ذكر لابن حنبل ما يرميه به النّاس فقال سبحان الله سبحان الله ومن يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكارا شديدا وأثنى عليه إسماعيل القاضي فقيل له ما كان يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذيب باغ وحاسد وقال أيضا يحيى بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء ممّا كان يرمى به من أمر الغلمان ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله لكنّه كانت فيه دعابة وحسن خلق فرمى بما رمى به ابن حيّان في الثّقات وقال لا يشتغل بما يحكى عنه لأنّ أكثرها لا يصحّ عنه ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربّه صاحب العقد من حديث الزّنبيل في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران وأنّه عثر في بعض اللّيالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل [3] مدلّى من بعض السّطوح بمعالق وجدل مغارة الفتل   [1] كذا بالأصل في جميع النسخ، والتصويب: وخرّج عنه الترمذي في كتابه الجامع. [2] الأصح، ما ينبزه به المجان. وفي بعض النسخ (ما يثبجه المجان) . [3] كذا بالأصل في جميع النسخ ولعلها عثر على زنبيل، أو بمعنى زلّ: أي لم ينتبه للزنبيل فوقع فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 من الحرير فاعتقده وتناول المعالق فاهتزّت وذهب به صعدا إلى مجلس شأنه كذا ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته وجمال رؤيته ما يستوقف الطّرف ويملك النّفس وأنّ امرأة برزت له من خلل السّتور في ذلك المجلس رائقة الجمال فتّانة المحاسن فحيّته ودعته إلى المنادمة فلم يزل يعاقرها الخمر حتّى الصّباح ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره وقد شغفته حبّا بعثه على الإصهار إلى أبيها وأين هذا كلّه من حال المأمون المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الرّاشدين من آبائه وأخذه بسير الخلفاء الأربعة أركان الملّة ومناظرته العلماء وحفظه لحدود الله تعالى في صلواته وأحكامه فكيف تصحّ عنه أحوال الفسّاق المستهترين [1] في التّطواف باللّيل وطروق المنازل وغشيان السّمر سبيل عشّاق الأعراب وأين ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصّون والعفاف وأمثال هذه الحكايات كثيرة وفي كتب المؤرّخين معروفة وإنّما يبعث على وضعها والحديث بها الانهماك في اللّذّات المحرّمة وهتك قناع المخدّرات ويتعلّلون بالتّأسّي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذّاتهم فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقّرون عنها عند تصفّحهم لأوراق الدّواوين ولو ائتسوا بهم في غير هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللّائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون. ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلّم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك فقال لي أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهديّ كيف كان إمام هذه الصّناعة ورئيس المغنّين في زمانه؟ فقلت له يا سبحان الله وهلّا تأسّيت بأبيه أو أخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم فصمّ عن عذلي وأعرض وَالله يَهْدِي من يَشاءُ 2: 213. ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرّخين والأثبات في العبيديين خلفاء الشّيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله   [1] المستهتر: لشيء بالفتح المولع به لا يبالي بما فعل فيه وشتم له والّذي كثرت أباطيله هـ- قاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 عليهم والطّعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن جعفر الصّادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفّقت للمستضعفين من خلفاء بني العبّاس تزلّفا إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفنّنا في الشّمات بعدوّهم حسبما تذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التّفطّن لشواهد الواقعات وأدلّة الأحوال الّتي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرّدّ عليهم. فإنّهم متّفقون في حديثهم عن مبدإ دولة الشّيعة أنّ أبا عبد الله المحتسب لمّا دعي بكتامة للرّضى من آل محمّد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهديّ وابنه أبي القاسم خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محلّ الخلافة واجتازا بمصر وأنّهما خرجا من الاسكندريّة في زيّ التّجّار ونمي خبرهما إلى عيسى النّوشريّ عامل مصر والاسكندريّة فسرّح في طلبهما الخيّالة حتّى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبّسوا به من الشّارة والزّيّ فأفلتوا إلى المغرب. وأنّ المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقيا بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر أليشع صاحب سجلماسة من آل مدرار على خفيّ مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة. هذا قبل أن تظهر الشّيعة على الأغالبة بالقيروان ثمّ كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب وإفريقية ثمّ باليمن ثمّ بالإسكندريّة ثمّ بمصر والشّام والحجاز وقاسموا بني العبّاس في ممالك الإسلام شقّ الأبلمة [1] وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويزايلون من أمرهم ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيريّ من موالي الدّيلم المتغلبين على خلفاء بني العبّاس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم وخطب لهم على منابرها حولا كاملا وما زال بنو العبّاس يغصّون بمكانهم ودولتهم وملوك بني أميّة وراء البحر ينادون بالويل والحرب   [1] يقال: الأمر بيننا شق الأبلمة. والأبلمة هي الخوصة أي ورقة الدوم وهي شجرة تشبه النخلة. وذلك لأنها تؤخذ فتشق طولا على السواء. والمعنى أنهم قاسموا بني العباس أعمالهم. وفي نسخة لجنة البيان العربيّ «شق الأبلة» وهو تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 منهم وكيف يقع هذا كلّه لدعيّ في النّسب يكذب في انتحال الأمر واعتبر حال القرمطيّ إذ كان دعيّا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرّقت أتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم ولو كان أمر العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة: ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم فقد اتّصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام إبراهيم عليه السّلام ومصلّاه وموطن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ومدفنه وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثمّ انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كلّه على أتمّ ما كانوا عليه من الطّاعة لهم والحبّ فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصّادق ولقد خرجوا مرارا بعد ذهاب الدّولة ودروس أثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة ويذهبون إلى تعيينهم بالوصيّة ممّن سلف قبلهم من الأئمّة ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبّس في أمره ولا يشبّه في بدعته ولا يكذّب نفسه فيما ينتحله. والعجب من القاضي أبي بكر الباقلانيّ شيخ النّظّار من المتكلّمين كيف يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرّاي الضّعيف فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدّين والتّعمّق في الرّافضيّة فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم وليس إثبات منتسبهم بالّذي يغني عنهم من الله شيئا في كفرهم فقد قال تعالى لنوح عليه السّلام في شأن ابنه «إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ 11: 46. [1] » وقال صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة يعظها يا فاطمة اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا ومتى عرف امرؤ قضيّة أو استيقن أمرا وجب عليه أن يصدع به والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل والقوم كانوا في مجال لظنون الدّول بهم وتحت رقبة من الطّغاة لتوفّر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم وتكرّر   [1] سورة هود آية 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 خروجهم مرّة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون كما قيل: فلو تسأل الأيّام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكانيا حتّى لقد سمّي محمّد بن إسماعيل الإمام جدّ عبيد الله المهديّ بالمكتوم سمّته بذلك شيعتهم لما اتّفقوا عليه من إخفائه حذرا من المتغلّبين عليهم فتوصّل شيعة بني العبّاس بذلك عند ظهورهم إلى الطّعن في نسبهم وازدلفوا بهذا الرّأي القائل [1] للمستضعفين من خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولّون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم وسلطانهم معرّة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشّام ومصر والحجاز من البربر الكتّامين شيعة العبيديّين وأهل دعوتهم حتّى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النّسب وشهد بذلك عندهم من أعلام النّاس جماعة منهم الشّريف الرّضيّ وأخوه المرتضى وابن البطحاويّ ومن العلماء أبو حامد الأسفرايينيّ والقدّوريّ والصّيمريّ وابن الأكفانيّ والأبيورديّ وأبو عبد الله بن النّعمان فقيه الشّيعة وغيرهم من أعلام الأمّة ببغداد في يوم مشهود وذلك سنة ستّين وأربعمائة في أيّام القادر وكانت شهادتهم في ذلك على السّماع لما اشتهر وعرف بين النّاس ببغداد وغالبها شيعة بني العبّاس الطّاعنون في هذا النّسب فنقله الأخباريّون كما سمعوه ورووه حسبما وعوه والحقّ من ورائه. وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحّة نسبهم فالمعتضد أقعد [2] بنسب أهل البيت من كلّ أحد والدّولة والسّلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصّنائع وتلتمس فيه ضوالّ الحكم وتحدى إليه ركائب الرّوايات والأخبار وما   [1] أي الضعيف أو الخاطئ. [2] اقعد، بمعنى أكفأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 نفق فيها نفق عند الكافّة فإن تنزّهت الدّولة عن التّعسّف والميل والأفن [1] والسّفسفة وسلكت النّهج الأمم ولم تجر [2] عن قصد السّبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللّجين [3] المصفّى وإن ذهبت مع الأعراض والحقود وماجت بسماسرة العرب البغي والباطل نفق البهرج والزّائف والنّاقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه. ومثل هذا وأبعد منه كثيرا ما يتناجى به الطّاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (رضوان الله عليهم) الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ويعرّضون تعريض الحدّ بالتّظنّن في الحمل المخلّف عن إدريس الأكبر إنّه لراشد مولاهم قبّحهم الله وأبعدهم ما أجهلهم أما يعلمون أنّ إدريس الأكبر إنّه لراشد مولاهم قبّحهم الله وأبعدهم ما أجلهم أما يعلمون أنّ إدريس الأكبر كان إصهاره في البربر وأنّه منذ دخل المغرب إلى أن توفّاه الله عزّ وجلّ عريق في البدو وأنّ حال البادية في مثل ذلك غير خافية إذ لا مكامن لهم يتأتّى فيها الرّيب وأحوال حرمهم أجمعين بمرأى من جاراتهنّ ومسمع من جيرانهنّ لتلاصق الجدران وتطامن [4] البنيان وعدم الفواصل بين المساكن وقد كان راشد يتولّى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاه بمشهد من أوليائهم وشيعتهم ومراقبة من كافّتهم وقد اتّفق برابرة المغرب الأقصى عامّة على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه وآتوه طاعتهم عن رضى وإصفاق [5] وبايعوه على الموت الأحمر وخاضوا دونه بحار المنايا في حروبه وغزواته ولو حدّثوا أنفسهم بمثل هذه الرّيبة أو قرعت أسماعهم ولو من عدوّ كاشح أو منافق مرتاب لتخلّف   [1] الأفن: ضعف الرأي. [2] قوله ولم تجر بضم الجيم: أي لم تمل. [3] اللجين: الفضة. [4] اطمأنت وتطامنت: انخفضت (لسان العرب) . [5] واصفقت يده بكذا أي صادفته ووافقته، وقد استعملها ابن خلدون بمعنى الموافقة وهو ضعيف. والأصح عن رضا وصفق من صفق: أي ضرب يده على يده (لسان العرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عن ذلك ولو بعضهم كلّا والله إنّما صدرت هذه الكلمات من بني العبّاس أقتالهم [1] ومن بني الأغلب عمّالهم كانوا بإفريقيّة وولاتهم. وذلك أنّه لمّا فرّ إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ أوعز الهادي إلى الأغالبة أن يقعدوا له بالمراصد ويذكوا عليه العيون فلم يظفروا به وخلص إلى المغرب فتمّ امره وظهرت دعوته وظهر الرّشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم وعاملهم على الاسكندريّة من دسيسة التّشيّع للعلويّة وإدهانه [2] في نجاة إدريس إلى المغرب فقتله ودسّ الشّمّاخ من موالي المهديّ أبيه للتّحيّل على قتل إدريس فأظهر اللّحاق به والبراءة من بني العبّاس مواليه فاشتمل عليه إدريس وخلطه بنفسه وناوله الشّمّاخ في بعض خلواته سمّا استهلكه به [3] ووقع خبر مهلكه من بني العبّاس أحسن المواقع لما رجوه من قطع أسباب الدّعوة العلويّة بالمغرب واقتلاع جرثومتها ولمّا تأدّى إليهم خبر الحمل المخلّف لإدريس فلم يكن لهم إلّا كلا ولا [4] وإذا بالدّعوة قد عادت والشّيعة بالمغرب قد ظهرت ودولتهم بإدريس بن إدريس قد تجدّدت فكان ذلك عليهم أنكى من وقع السّهام وكان الفشل والهرم قد نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية فلم يكن منتهى قدرة الرّشيد على إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب واشتمال البربر عليه إلّا التّحيّل في إهلاكه بالسّموم فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بإفريقية في سدّ تلك الفرجة من ناحيتهم وحسم الدّاء المتوقّع بالدّولة من قبلهم واقتلاع تلك العروق قبل أن تشج [5] منهم يخاطبهم بذلك المأمون ومن بعده من خلفائهم فكان الاغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز ولمثلها من الزّبون [6]   [1] جمع قتل وهو العدو المقابل. [2] بمعنى الغش. [3] بمعنى أهلكه. [4] كذا في جميع النسخ، وأظن أنها محرفة عن كلالة أي الوارث الّذي ليس بولد للميت ولا والد له. [5] بمعنى تمتد وترسخ. [6] يقال للناقة إذا كان من عادتها أن تدفع حالبها عن حلبها: «زبون» (لسان العرب) وقد استعملت هنا بمعنى الأشخاص الذين يدافعون عن الملوك. وان كان هذا الاستعمال ضعيفا. وقد تكررت هذه العبارة بنصها عدة مرات في تاريخ ابن خلدون، لذلك لا يمكننا أن نقول أن ابن خلدون قصد بها كلمة سواها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 على ملوكهم أحوج لما طرق الخلافة من انتزاء [1] ممالك العجم على سدّتها وامتطائهم صهوة التّغلّب عليها وتصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها وجبايتها وأهل خططها [2] وسائر نقضها وإبرامها كما قال شاعرهم: خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السّعايات وتلوا بالمعاذير فطورا باحتقار المغرب وأهله وطورا بالإرهاب بشأن إدريس الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونهم بتجاوزه حدود التّخوم من عمله وينفذون سكّته في تحفهم وهداياهم ومرتفع جباياتهم تعريضا باستفحاله وتهويلا باشتداد شوكته وتعظيما لما دفعوا إليه من مطالبته ومراسه وتهديدا بقلب الدّعوة إن ألجئوا إليه وطورا يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك الطّعن الكاذب تخفيضا لشأنه لا يبالون بصدقة من كذبه لبعد المسافة وأفن عقول من خلّف من صبية بني العبّاس وممالكهم العجم في القبول من كلّ قائل والسّمع لكلّ ناعق ولم يزل هذا دأبهم حتّى انقضى أمر الأغالبة فقرعت هذه الكلمة الشّنعاء أسماع الغوغاء وصرّ عليها بعض الطّاعنين أذنه واعتدّها ذريعة إلى النّيل من خلفهم عند المنافسة. وما لهم قبّحهم الله والعدول عن مقاصد الشّريعة فلا تعارض فيها بين المقطوع والمظنون وإدريس ولد على فراش أبيه والولد للفراش. على أنّ تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان فاللَّه سبحانه قد أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ففراش إدريس طاهر من الدّنس ومنزه عن الرّجس بحكم القرآن ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه وولج الكفر من بابه وإنّما أطنبت في هذا الرّد سدّا لأبواب الرّيب ودفعا في صدر الحاسد لما   [1] بمعنى الثوب. [2] الخطة: الأرض. والدار يختطها الرجل في أرض غير مملوكة ليتحجرها ويبني فيها وذلك إذا أذن السلطان (لسان العرب) وعنى بها ابن خلدون هنا: بالموظفين المشرفين على أعمال الخطط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم القادح في نسبهم بفريته وينقله بزعمه عن بعض مؤرّخي المغرب ممّن انحرف عن أهل البيت وارتاب في الإيمان بسلفهم وإلّا فالمحلّ منزّه عن ذلك معصوم منه ونفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكنّي جادلت عنهم في الحياة الدّنيا وأرجو أن يجادلوا عنّي يوم القيامة ولتعلم أنّ أكثر الطّاعنين في نسبهم إنّما هم الحسدة لأعقاب إدريس هذا من منتم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم فإنّ ادّعاء هذا النّسب الكريم دعوى شرف عريضة على الأمم والأجيال من أهل الافاق فتعرض التّهمة فيه. ولمّا كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فارس وسائر ديار المغرب قد بلغ من الشّهرة والوضوح مبلغا لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه إذ هو نقل الأمّة والجيل من الخلف عن الأمّة والجيل من السّلف وبيت جدّهم إدريس مختطّ فاس ومؤسّسها من بيوتهم ومسجده لصق محلّتهم ودروبهم وسيفه منتضى برأس المئذنة العظمى من قرار بلدهم وغير ذلك من آثاره الّتي جاوزت أخبارها حدود التّواتر مرّات وكادت تلحق بالعيان فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النّسب إلى ما أتاهم الله من أمثالها وما عضد شرفهم النّبويّ من جلال الملك الّذي كان لسلفهم بالمغرب واستيقن أنّه بمعزل عن ذلك وأنّه لا يبلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه [1] وأنّ غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممّن لم يحصل له أمثال هذه الشّواهد أن يسلّم لهم حالهم لأنّ النّاس مصدّقون في أنسابهم وبون ما بين العلم والظّنّ واليقين والتّسليم فإذا علم بذلك من نفسه غصّ بريقه وودّ كثير منهم لو يردّونهم عن شرفهم ذلك سوقة ووضعاء [2] حسدا من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد وارتكاب اللّجاج والبهت بمثل هذا الطّعن الفائل والقول المكذوب تعلّلا بالمساواة في الظنّة والمشابهة في تطرّق الاحتمال وهيهات لهم ذلك فليس في   [1] قوله: «لا يبلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» مثل يكنى به عن ضعة مكانة شخص بالنسبة لشخص آخر. [2] قوله: ووضعاء بضم الواو جمع وضيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن. وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الحوطيّ بن محمّد بن يحيى العوّام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم نقباء أهل البيت هناك والسّاكنون ببيت جدّهم إدريس ولهم السّيادة على أهل المغرب كافّة حسبما نذكرهم عند ذكر الادارسة إن شاء الله تعالى ويلحق بهذه المقالات الفاسدة والمذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرّأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهديّ صاحب دولة الموحّدين ونسبته إلى الشّعوذة والتّلبيس فيما أتاه من القيام بالتّوحيد الحقّ والنّعي على أهل البغي قبله وتكذيبهم لجميع مدّعياته في ذلك حتّى فيما يزعم الموحّدون اتّباعه من انتسابه في أهل البيت وإنّما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه فإنّهم لمّا رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدّين بزعمهم ثمّ امتاز عنهم بأنّه متبوع الرّأي مسموع القول موطأ العقب نفسوا ذلك عليه [1] وغضّوا منه بالقدح في مذاهبه والتّكذيب لمدّعياته وأيضا فكانوا يؤنسون [2] من ملوك لمتونة أعدائه تجلّة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم لما كانوا عليه من السّذاجة وانتحال الدّيانة فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب للشّورى كلّ في بلده وعلى قدره في قومه فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحربا لعدوّهم ونقموا على المهديّ ما جاء به من خلافهم والتّثريب [3] عليهم والمناصبة [4] لهم تشيّعا للمتونة وتعصّبا لدولتهم ومكان الرّجل غير مكانهم وحاله على غير معتقداتهم وما ظنّك برجل نقم على أهل الدّولة ما نقم من أحوالهم وخالف اجتهاده فقهاؤهم فنادى في قومه ودعا إلى   [1] أي حسدوه. [2] بمعنى يعلمون. [3] التثريب كالتأنيث والتعيير والاستقصاء في اللوم (قاموس) . [4] ناصبة مناصبة: عاداه وقاومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 جهادهم بنفسه فاقتلع الدّولة من أصولها وجعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوّة وأشدّ شوكة وأعزّ أنصارا وحامية وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلّا خالقها وقد بايعوه على الموت ووقوه بأنفسهم من الهلكة وتقرّبوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدّعوة والتّعصّب لتلك الكلمة حتّى علت على الكلم ودالت بالعدوّتين من الدّول وهو بحالة من التّقشّف والحصر [1] والصّبر على المكاره والتّقلّل من الدّنيا حتّى قبضه الله وليس على شيء من الحظّ والمتاع في دنياه حتّى الولد الّذي ربّما تجنح إليه النّفوس وتخادع عن تمنّيه فليت شعري ما الّذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله وهو لم يحصل له حظّ من الدّنيا في عاجله ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تمّ أمره وانفسحت دعوته سنّة الله الّتي قد خلت في عباده وأمّا إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده [2] حجّة لهم مع أنّه إن ثبت أنّه ادّعاه وانتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه لأنّ النّاس مصدّقون في أنسابهم وإن قالوا إنّ الرّئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصّحيح حسبما يأتي في الفصل الأوّل من هذا الكتاب والرّجل قد رأس سائر المصامدة ودانوا باتّباعه والانقياد إليه وإلى عصابته من هرغة حتّى تمّ أمر الله في دعوته فاعلم أنّ هذا النّسب الفاطميّ لم يكن أمر المهديّ يتوقّف عليه ولا اتّبعه النّاس بسببه وإنّما كان اتّباعهم له بعصبيّة الهرغيّة والمصموديّة ومكانه منها ورسوخ شجرته فيها وكان ذلك النّسب الفاطميّ خفيّا قد درس عند النّاس وبقي عنده وعند عشيرته يتناقلونه بينهم فيكون النّسب الأوّل كأنّه انسلخ منه ولبس جلدة هؤلاء وظهر فيها فلا يضرّه الانتساب الأوّل في عصبيّته إذ هو مجهول عند أهل العصابة ومثل هذا واقع كثيرا إذا كان النّسب الأوّل خفيّا وانظر قصّة عرفجة وجرير في رئاسة بجيلة وكيف كان عرفجة من الأزد ولبس جلدة بجيلة حتّى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه كما هو مذكور تتفهّم منه وجه   [1] بمعنى الامتناع عن النساء. [2] عضده: بكسر الضاد: بمعنى أعانه وكان له عضدا (لسان العرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الحقّ والله الهادي للصّواب وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط فقد زلّت أقدام كثير من الأثبات والمؤرّخين الحفّاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت أفكارهم ونقلها عنهم الكافّة من ضعفة النّظر والغفلة عن القياس وتلقّوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا رويّة واندرجت في محفوظاتهم حتّى صار فنّ التّاريخ واهيا مختلطا وناظره مرتبكا وعدّ من مناحي العامّة فإذا يحتاج صاحب هذا الفنّ إلى العلم بقواعد السّياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السّير والأخلاق والعوائد والنّحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتّفق منها والمختلف والقيام على أصول الدّول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتّى يكون مستوعبا لأسباب كلّ خبره وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلّا زيّفه واستغنى عنه وما استكبر القدماء علم التّاريخ إلّا لذلك حتّى انتحله الطّبريّ والبخاريّ وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمّة وقد ذهل الكثير عن هذا السّر فيه حتّى صار انتحاله مجهلة [1] واستخفّ العوامّ ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتّطفّل عليه فاختلط المرعيّ بالهمل [2] واللّباب بالقشر والصّادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور ومن الغلط الخفيّ في التّاريخ الذّهول عن تبدّل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدّل الأعصار ومرور الأيّام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلّا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطّن له إلّا الآحاد من أهل الخليقة وذلك أنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ إنّما هو اختلاف على الأيّام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص   [1] المجهلة: ما يحملك على الجهل (قاموس) . [2] هو مثل جيد لاختلاط الجيد بالقبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسّريانيّون والنّبط والتّبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصّة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم [1] ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثمّ جاء من بعدهم الفرس الثّانية والرّوم والعرب فتبدّلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها ثمّ جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السّلف ثمّ درست دولة العرب وأيّامهم وذهبت الأسلاف الذين شيّدوا عزّهم ومهّدوا ملكهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل التّرك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشّمال فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها والسّبب الشّائع في تبدّل الأحوال والعوائد أنّ عوائد كلّ جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال الحكميّة النّاس على دين الملك وأهل الملك والسّلطان إذا استولوا على الدّولة والأمر فلا بدّ من أن يفزعوا إلى [2] عوائد من قبلهم ويأخذون الكثير منها ولا يغفلون عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدّولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأوّل فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشّيء وكانت للأولى أشدّ مخالفة ثمّ لا يزال التّدريج في المخالفة حتّى ينتهي إلى المباينة بالجملة فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسّلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة. والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذّهول والغفلة عن قصده وتعوّج به [3] عن مرامه فربّما يسمع   [1] صنائع: جمع صناعة، وجمع صنيعة بمعنى الإحسان (قاموس) . [2] وفي بعض النسخ (لا بدّ وأن) وهو تركيب غير فصيح وقد استعمله ابن خلدون كثيرا في كتابه والأصح استعمال «لا بدّ أن ... » وفزع إلى معنى: لجأ إلى. [3] بمعنى ترجع به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 السّامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطّن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأوّل وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط فمن هذا الباب ما ينقله المؤرّخون من أحوال الحجّاج وأنّ أباه كان من المعلّمين مع أنّ التّعليم لهذا العهد من جملة الصّنائع المعاشيّة البعيدة من اعتزاز أهل العصبيّة والمعلّم مستضعف مسكين منقطع الجذم [1] فيتشوّف الكثير من المستضعفين أهل الحرف والصّنائع المعاشيّة إلى نيل الرّتب الّتي ليسوا لها بأهل ويعدّونها من الممكنات لهم فتذهب بهم وساوس المطامع وربّما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتّلف ولا يعلمون استحالتها في حقّهم وأنّهم أهل حرف وصنائع للمعاش وأنّ التّعليم صدر الإسلام والدّولتين لم يكن كذلك ولم يكن العلم بالجملة صناعة إنّما كان نقلا لما سمع من الشّارع وتعليما لما جهل من الدّين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب والعصبيّة الّذين قاموا بالملّة هم الّذين يعلّمون كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على معنى التّبليغ الخبريّ لا على وجه التّعليم الصّناعيّ إذ هو كتابهم المنزل على الرّسول منهم وبه هداياتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه وقتلوا واختصّوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمّة لا تصدّهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عاذل الأنفة ويشهد لذلك بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كبار أصحابه مع وفود العرب يعلّمونهم حدود الإسلام وما جاء به من شرائع الدّين بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم فما استقرّ الإسلام ووشجت عروق الملّة حتّى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها واستحالت بمرور الأيّام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشّرعيّة من النّصوص لتعدّد الوقائع وتلاحقها فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطإ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التّعلّم فأصبح من جملة الصّنائع والحرف كما يأتي ذكره في فصل العلم والتّعليم واشتغل أهل العصبيّة بالقيام   [1] الجذم: الأصل (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 بالملك والسّلطان فدفع لعلم من قام به من سواهم وأصبح حرفة للمعاش وشمخت أنوف المترفين وأهل السّلطان عن التّصدّي للتّعليم واختصّ انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبيّة والملك والحجّاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم ومكانهم من عصبيّة العرب ومناهضة قريش في الشّرف ما علمت ولم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنّه حرفة للمعاش وإنّما كان على ما وصفناه من الأمر الأوّل في الإسلام ومن هذا الباب أيضا ما يتوهّمه المتصفّحون لكتب التّاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرّئاسة في الحروب وقود العساكر فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرّتب يحسبون أنّ الشّأن خطّة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل ويظنّون بابن أبي عامر صاحب [1] هشام المستبدّ عليه وابن عبّاد من ملوك الطّوائف بإشبيليّة إذا سمعوا أنّ آباءهم كانوا قضاة أنّهم مثل القضاة لهذا العهد ولا يتفطّنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبيّنه في فصل القضاء من الكتاب الأوّل وابن أبي عامر وابن عبّاد كانا من قبائل العرب القائمين بالدّولة الأمويّة بالأندلس وأهل عصبيّتها وكان مكانهم فيها معلوما ولم يكن نيلهم لما نالوه من الرّئاسة والملك بخطّة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنّما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبيّة من قبيل [2] الدّولة ومواليها كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب وانظر خروجهم بالعساكر في الطّوائف [3] وتقليدهم عظائم الأمور الّتي لا تقلّد إلّا لمن له الغنى [4] فيها بالعصبيّة فيغلط السّامع في ذلك ويحمل الأحوال على غير ما هي وأكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد   [1] كذا بالأصل في جميع النسخ، وأظنها تحريف من الناسخ وصوابها (حاجب هشام) وهشام هذا هو أحد ملوك الأندلس، وكان ابن أبي عامر حاجبا له. [2] بمعنى جماعة الدولة. [3] كذا بالأصل في جميع النسخ والغالب أنه تحريف عن «صوائف» وهي غزوات الصين. [4] كذا بالأصل في جميع النسخ ولا معنى لها هنا والصحيح، الغناء بمعنى الاجزاء والكفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 لفقدان العصبيّة في مواطنهم منذ أعصار بعيدة بفناء العرب ودولتهم بها وخروجهم عن ملكة أهل العصبيّات [1] من البربر فبقيت أنسابهم العربيّة محفوظة والذّريعة إلى العزّ من العصبيّة والتّناصر مفقودة بل صاروا من جملة الرّعايا المتخاذلين الذين تعبّدهم القهر ورئموا للمذلّة [2] يحسبون أنّ أنسابهم مع مخالطة الدّولة هي الّتي يكون لهم بها الغلب والتّحكّم فتجد أهل الحرف والصّنائع منهم متصدّين لذلك ساعين في نيله فأمّا من باشر أحوال القبائل والعصبيّة ودولهم بالعدوة الغربيّة وكيف يكون التّغلّب بين الأمم والعشائر فقلّما يغلطون في ذلك ويخطئون في اعتباره. ومن هذا الباب أيضا ما يسلكه المؤرّخون عند ذكر الدّول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه وأمّه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره كلّ ذلك تقليد لمؤرّخي الدّولتين من غير تفطّن لمقاصدهم والمؤرّخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدّولة وأبناؤها متشوّفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم حتّى في اصطناع الرّجال من خلف دولتهم وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم والقضاة أيضا كانوا من أهل عصبيّة الدّولة وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كلّه وامّا حين تباينت الدّول وتباعد ما بين العصور ووقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصّة ونسب الدّول بعضها من بعض في   [1] العصبية بفتحتين التعصب وهو أن يذب الرجل عن حريم صاحبه ويشمر عن ساق الجد في نصره منسوبة إلى العصبة محركة وهم أقارب الرجل من قبل أبيه لأنهم هم الذابون عن حريم من هو منتهاهم وهي بهذا المعنى ممدوحة وإما العصبية المذمومة في الحديث الجامع الصغير ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية فهي تعصب رجال لقبيلة على رجال لقبيلة أخرى لغير ديانة كما كان يقع من قيام سعد على حرام نسبة إلى العصبة بمعنى قوم الرجل الذين يتعصبون له ولو من غير أقاربه ظالما كان أو مظلوما وفي الفتاوي الخيرية من موانع قبول الشهادة العصبية وهي أن يبغض الرجل الرجل لأنه من بني فلان أو من قبيلة كذا والوجه في ذلك ظاهر وهو ارتكاب المحرم ففي الحديث ليس منا من دعي إلى عصبية وهو موجب للفسق ولا شهادة لمرتكبه. قاله الأستاذ أبو ألوفا. [2] في القاموس: يقولون: «هو رءوم للضيم أي ذليل راضي بالخسف» وهذه العبارة قليلة الاستعمال. والأصح: رئموا المذلة بمعنى ألفوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قوّتها وغلبتها ومن كان يناهضها من الأمم أو يقصّر عنها فما الفائدة للمصنّف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنّساء ونقش الخاتم واللّقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم ولا مقاماتهم إنّما حملهم على ذلك التّقليد والغفلة عن مقاصد المؤلّفين الأقدمين والذّهول عن تحرّي الأغراض من التّاريخ اللَّهمّ إلّا ذكر الوزراء الّذين عظمت آثارهم وعفت [1] على الملوك أخبارهم كالحجّاج وبني المهلّب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الإخشيديّ وابن أبي عامر وأمثالهم فغير نكير الالماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك. ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها وهي أنّ التّاريخ إنّما هو ذكر الأخبار الخاصّة بعصر أو جيل فأمّا ذكر الأحوال العامّة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أسّ للمؤرّخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبيّن به أخباره وقد كان النّاس يفردونه بالتّأليف كما فعله المسعوديّ في كتاب مروج الذّهب شرح فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده في عصر الثّلاثين والثّلاثمائة غربا وشرقا وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدّول وفرّق شعوب العرب والعجم فصار إماما للمؤرّخين يرجعون إليه وأصلا يعوّلون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه ثمّ جاء الكبريّ من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصّة دون غيرها من الأحوال لأنّ الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم تغيّر وأمّا لهذا العهد وهو آخر المائة الثّامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الّذي نحن شاهدوه وتبدّلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بما طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامّة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثّامنة من الطّاعون الجارف الّذي تحيّف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن   [1] عفا عليه: زاد (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 العمران ومحاها وجاء للدّول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلّص من ظلالها وفلّ من حدّها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التّلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السّبل والمعالم وخلت الدّيار والمنازل وضعفت الدّول والقبائل وتبدّل السّاكن وكأنّي بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنّما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره وكأنّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدوّن أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنّحل الّتي تبدّلت لأهلها ويقفو مسلك المسعوديّ لعصره ليكون أصلا يقتدي به من يأتي من المؤرّخين من بعده وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربيّ إمّا صريحا أو مندرجا في أخباره وتلويحا لاختصاص قصدي في التّأليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار لعدم اطّلاعي على أحوال المشرق وأممه وأنّ الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه والمسعوديّ إنّما استوفى ذلك لبعد رحلته وتقلّبه في البلاد كما ذكر في كتابه مع أنّه لمّا ذكر المغرب قصّر في استيفاء أحواله وفوق كلّ ذي علم عليم ومردّ العلم كلّه إلى الله والبشر عاجز قاصر والاعتراف متعيّن واجب ومن كان الله في عونه تيسّرت عليه المذاهب وأنجحت له المساعي والمطالب ونحن آخذون بعون الله فيما رمناه من أغراض التّأليف والله المسدّد والمعين وعليه التّكلان وقد بقي علينا أن نقدّم مقدّمة في كيفيّة وضع الحروف الّتي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا. اعلم أنّ الحروف في النّطق كما يأتي شرحه بعد هي كيفيّات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصّوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الحنك والحلق والأضراس أو بقرع الشّفتين أيضا فتتغاير كيفيّات الأصوات بتغاير ذلك القرع وتجيء الحروف متمايزة في السّمع وتتركب منها الكلمات الدّالّة على ما في الضّمائر وليست الأمم كلّها متساوية في النّطق بتلك الحروف فقد يكون لأمّة من الحروف ما ليس لأمّة أخرى والحروف الّتي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفا كما عرفت ونجد للعبرانيّين حروفا ليست في لغتنا وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم وكذلك الإفرنج والتّرك والبربر وغير هؤلاء من العجم ثمّ إنّ أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدّلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثّمانية والعشرين وإذا عرض لهم الحرف الّذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملا عن الدّلالة الكتابيّة مغفلا عن البيان وربّما يرسمه بعض الكتّاب بشكل الحرف الّذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده وليس بكاف في الدّلالة بل هو تغيير للحرف من أصله. ولمّا كان كتابنا مشتملا على أخبار البربر وبعض العجم وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا اضطررنا إلى بيانه ولم نكتف برسم الحرف الّذي يليه كما قلناه لأنّه عندنا غير واف بالدّلالة عليه فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجميّ بما يدلّ على الحرفين اللّذين يكتنفانه ليتوسّط القارئ بالنّطق به بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته وإنّما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام كالصّراط في قراءة خلف فإنّ النّطق بصاده فيها معجم متوسّط بين الصّاد والزّاي فوضعوا الصّاد ورسموا في داخلها شكل الزّاي ودلّ ذلك عندهم على التّوسّط بين الحرفين فكذلك رسمت أنا كلّ حرف يتوسّط بين حرفين من حروفنا كالكاف المتوسّطة عند البربر بين الكاف الصّريحة عندنا والجيم أو القاف مثل اسم بلكين فأضعها كافا وأنقّطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين فيدلّ ذلك على أنّه متوسّط بين الكاف والجيم أو القاف وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر وما جاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسّط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معا ليعلم القارئ أنّه متوسّط فينطق به كذلك فنكون قد دللنا عليه ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبه لكنّا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الّذي من لغتنا وغيّرنا لغة القوم فاعلم ذلك والله الموفّق للصّواب بمنّه وفضله [1] .   [1] يعتبر ابن خلدون أول من حاول استخدام العلوم الاجتماعية والسياسية مجتمعة وتسخيرها لدراسة التاريخ، غير أنه لم يجد من يخلفه في الإسلام إلى أن جاءت المؤثرات الحديثة تؤثر في العالم الإسلامي وقد باءت بالفشل حتى اليوم كل محاولة لمعرفة المثال الّذي احتذاه ابن خلدون في تفكيره ومن المحتمل انه كانت في بيئته. شمالي افريقيا وفي اسبانيا، أفكار تناقش أمامه بشكل أولي. غير أنه لا جدال في إبداعه الأساس، وقد ذكر ابداعه بقوة إذ قال «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما. وأعثرنا على علم بين بكرة وجهينة خبره، فان كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية، وان فاتني شيء من إحصائه واشتبهت بغيره مسائله فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء» ويؤيد صدق قوله تواضعه الواضح. ثم انه ليس هناك مبرر للريبة بابن خلدون عند ما يقول ان مصادر الهامة هي أصول الفقه وكتب الآداب، فهو يقول «وهذا الفن الّذي لاح لنا النظر فيه نجد مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم من جنس مسائله بالموضوع والمطلب مثل ما يذكره الحكماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه الحاكم والوازع، ومثلما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون للعبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع وشأن العبارات أخف ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع والقتل أيضا مفسد للنوع وان الظلم مؤذن بخراب العمران ... » ولا شك أن أعظم ما قام به ابن خلدون هو تطبيق الأفكار السياسية والاجتماعية المبعثرة على التاريخ الّذي يعتبره القوة الحية التي تربط الماضي بالحاضر بعملية واحدة مستمرة. فالإنسان والبيئة والجهود الفردية والتنظيمات الاجتماعية كلها مادة أولية للتاريخ، حسب تحليل ابن خلدون العميق رغم تعسفه أحيانا، وتحليل ابن خلدون هذا رغم إمكان تفسيره على ضوء أسسه الإسلامية، إلا أنه أقرب إلى التوقف الفذ منه إلى مجرد وقفة عادية في مجرى علم التاريخ الإسلامي. (علم التاريخ عند المسلمين ص 165- 166. فرانز روزنثال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب اعلم أنّه لمّا كانت حقيقة التّاريخ أنّه خبر عن الاجتماع الانسانيّ الّذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التّوحّش والتّأنّس والعصبيّات وأصناف التّغلّبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدّول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصّنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. ولمّا كان الكذب متطرّقا للخبر بطبعته وله أسباب تقتضيه. فمنها التّشيّعات للآراء والمذاهب فإنّ النّفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التّمحيص والنّظر حتّى تتبيّن صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأوّل وهلة وكان ذلك الميل والتّشيّع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتّمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثّقة بالنّاقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التّعديل والتّجريح. ومنها الذّهول عن المقاصد فكثير من النّاقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنّه وتخمينه فيقع في الكذب. ومنها توهّم الصّدق وهو كثير وإنّما يجيء في الأكثر من جهة الثّقة بالنّاقلين ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التّلبيس والتّصنّع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتّصنّع على غير الحقّ في نفسه. ومنها تقرّب النّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 في الأكثر لأصحاب التّجلّة والمراتب بالثّناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذّكر بذلك فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة فالنّفوس مولعة بحبّ الثّناء والنّاس متطلّعون إلى الدّنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغيين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها. ومن الأسباب المقتضية له أيضا وهي سابقة على جميع ما تقدّم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإنّ كلّ حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بدّ له من طبيعة تخصّه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله فإذا كان السّامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصّدق من الكذب وهذا أبلغ في التّمحيص من كلّ وجه يعرض وكثيرا ما يعرض للسّامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم كما نقله المسعوديّ عن الإسكندر لمّا صدّته دوابّ البحر عن بناء الإسكندريّة وكيف اتّخذ صندوق الزّجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتّى صوّر تلك الدّوابّ الشّيطانيّة الّتي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنيّة ونصبها حذاء البنيان ففرّت تلك الدّوابّ حين خرجت وعاينتها وتمّ بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتّخاذه التّابوت الزّجاجيّ ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أنّ الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور [1] ومن أعتمده منهم فقد عرّض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع النّاس إلى غيره وفي ذلك إتلافه ولا ينظرون به رجوعه من غروره [2] ذلك طرفة عين ومن قبل أنّ الجنّ لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختصّ بها إنّما هي قادرة على التّشكّل وما يذكر من كثرة الرّؤوس لها فإنّما المراد به البشاعة والتّهويل لا أنّه حقيقة. وهذه كلّها قادحة في تلك الحكاية والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كلّه وهو أنّ المنغمس في الماء ولو كان في الصّندوق يضيق عليه الهواء للتّنفّس الطّبيعىّ وتسخن روحه بسرعة لقلّته فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدّل لمزاج الرّئة والرّوح   [1] في بعض النسخ الغرر أي بمعنى تعريض النفس للهلاك. [2] كذا في جميع النسخ ومقتضى السياق: أغرره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 القلبيّ ويهلك مكانه وهذا هو السّبب في هلاك أهل الحمّامات إذا أطبقت [1] عليهم عن الهواء البارد والمتدلّين في الآبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرّياح فتخلخلها فإنّ المتدلّي فيها يهلك لحينه وبهذا السّبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإنّ الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حارّ بإفراط والماء الّذي يعدّله بارد والهواء الّذي خرج إليه حارّ فيستولي الحارّ على روحه الحيوانيّ ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعوديّ أيضا في تمثال الزّرزور الّذي برومة تجتمع إليه الزّرازير في يوم معلوم من السّنة حاملة للزّيتون ومنه يتّخذون زيتهم وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطّبيعيّ في اتّخاذ الزّيت. ومنها ما نقله البكريّ في بناء المدينة المسمّاة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة وتشتمل على عشرة آلاف باب والمدن إنّما اتّخذت للتّحصّن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا معتصم وكما نقله المسعوديّ أيضا في حديث مدينة النّحاس وأنّها مدينة كلّ بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب وأنّها مغلقة الأبواب وأنّ الصّاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفّق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدّهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصّاص وصحراء سجلماسة قد نفضها [2] الرّكّاب والأدلّاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر ثمّ إنّ هذه الأحوال الّتي ذكروا عنها كلّها مستحيل عادة مناف للأمور الطّبيعية في بناء المدن واختطاطها وأنّ المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية والخرثيّ [3] وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنّما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق   [1] بمعنى دامت. [2] نفض المكان: نظر جميع ما فيه حتى يتعرّفه (قاموس) . [3] الخرثيّ بالضم أثاث البيت (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 على التّمحيص بتعديل الرّواة ولا يرجع إلى تعديل الرّواة حتّى يعلم أنّ ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع وأمّا إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنّظر في التّعديل والتّجريح ولقد عدّ أهل النّظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللّفظ وتأويله بما لا يقبله العقل وإنّما كان التّعديل والتّجريح هو المعتبر في صحّة الأخبار الشّرعيّة لأنّ معظمها تكاليف إنشائيّة [1] أوجب الشّارع العمل بها حتّى حصل الظّنّ بصدقها وسبيل صحّة الظّنّ الثّقة بالرّواة بالعدالة والضّبط. وأما الأخبار عن الواقعات فلا بدّ في صدقها وصحّتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه وصار فيها ذلك أهمّ من التّعديل ومقدّما عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشريّ الّذي هو العمران ونميّز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتدّ به وما لا يمكن أن يعرض له وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار والصّدق من الكذب بوجه برهانيّ لا مدخل للشّكّ فيه وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرّى به المؤرّخون طريق الصّدق والصّواب فيما ينقلونه وهذا هو غرض هذا الكتاب الأوّل من تأليفنا وكأنّ هذا علم مستقلّ بنفسه فإنّه ذو موضوع وهو العمران البشريّ والاجتماع الإنسانيّ وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته [2] واحدة بعد أخرى وهذا شأن كلّ علم من العلوم وضعيّا كان أو عقليّا. واعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مستحدث الصّنعة غريب النّزعة عزيز الفائدة اعثر عليه البحث وأدّى إليه الغوص وليس من علم الخطابة إنّما هو الأقوال المقنعة   [1] إنشائية نسبة إلى إنشاء وهو الّذي يشمل الأمر والنهي وما شاكل وهو قابل الخبر ويقال جملة إنشائية في مقابل جملة خبرية. [2] أي ما يلحق المجتمع من العوارض والأحوال لذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 النّافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدّهم عنه ولا هو أيضا من علم السّياسة المدنية إذ السياسة المدنيّة هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النّوع وبقاؤه فقد خالف موضوعة موضوع هذين الفنّين اللّذين ربّما يشبهانه وكأنّه علم مستنبط النّشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظّنّ بهم أو لعلّهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا من فالعلوم كثيرة ممّا وصل فأين علوم الفرس الّتي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيّين والسّريانيّين وأهل بابل وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنّما وصل إلينا علوم أمّة واحدة وهم يونان خاصّة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها ولم نقف على شيء من علوم غيرهم وإذا كانت كلّ حقيقة متعلّقة طبيعيّة يصلح أن يبحث عمّا يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون باعتبار كلّ مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصّه لكنّ الحكماء لعلّهم إنّما لاحظوا في ذلك العناية بالثّمرات وهذا إنّما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة فلهذا هجروه والله أعلم «وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85» . وهذا الفنّ الّذي لاح لنا النّظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم وهي من جنس مسائله بالموضوع والطّلب مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النّبوّة من أنّ البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع [1] ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللّغات أنّ النّاس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التّعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخفّ ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشّرعيّة بالمقاصد في أنّ الزّنا مخلط للأنساب   [1] الوازع ج وزعة ووزّاع: من يدبّر أمور الجيش، الزاجر. (قاموس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مفسد للنّوع وأنّ القتل أيضا مفسد للنّوع وأنّ الظّلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النّوع وغير ذلك من سائر المقاصد الشّرعيّة في الأحكام فإنّها كلّها مبنيّة على المحافظة على العمران فكان لها النّظر فيما يعرض له وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثّلة وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرّقة لحكماء الخليقة لكنّهم لم يستوفوه فمن كلام الموبذان [1] بهرام بن بهرام في حكاية البوم الّتي نقلها المسعوديّ. «أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا سبيل للمال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك» . ومن كلام أنوشروان في هذا المعنى بعينه «الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل والعدل بإصلاح العمّال وإصلاح العمّال باستقامة الوزراء ورأس الكلّ بافتقاد الملك حال رعيّته بنفسه واقتداره على تأديبها حتّى يملكها ولا تملكه. وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السّياسة المتداول بين النّاس جزء صالح منه إلّا أنّه غير مستوف ولا معطي حقّه من البراهين ومختلط بغيره وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الّتي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان وجعلها في الدّائرة القريبة الّتي أعظم القول فيها هو قوله: «العالم بستان سياجه الدّولة الدّولة سلطان تحيا به السّنّة السّنّة سياسة يسوسها الملك الملك نظام يعضده الجند الجند أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرّعيّة الرّعيّة عبيد يكنفهم العدل العدل مألوف وبه قوام العالم العالم بستان» ثمّ ترجع إلى أوّل الكلام. فهذه ثمان كلمات حكميّة سياسيّة ارتبط بعضها ببعض وارتدّت أعجازها إلى صدورها واتّصلت في دائرة لا يتعيّن طرفها فخر بعثوره عليها وعظّم من فوائدها. وأنت إذا   [1] الموبذان فقيه الفرس وحاكم المجوس (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 تأمّلت كلامنا في فصل الدّول والملك وأعطيته حقّه من التّصفّح والتّفهّم عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات وتفصيل إجمالها مستوفى بيّنا بأوعب [1] بيان وأوضح دليل وبرهان أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان وكذلك تجد في كلام ابن المقفّع وما يستطرد في رسائله من ذكر السّياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهنّاه إنّما يجليها في الذّكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسّل وبلاغة الكلام وكذلك حوّم القاضي أبو بكر الطّرطوشيّ في كتاب سراج الملوك وبوّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله لكنّه لم يصادف فيه الرّمية ولا أصاب الشّاكلة [2] ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلّة إنّما يبوّب الباب للمسألة ثمّ يستكثر من الأحاديث والآثار وينقل كلمات متفرّقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة ولا يكشف عن التّحقيق قناعا ولا يرفع البراهين الطّبيعيّة حجابا إنّما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ وكأنّه حوّم على الغرض ولم يصادفه ولا تحقّق قصده ولا استوفى مسائله ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما وأعثرنا على علم جعلنا بين نكرة وجهينة خبره [3] فإن كنت قد استوفيت مسائله وميّزت عن سائر الصّنائع أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره فللنّاظر المحقّق إصلاحه ولي الفضل لأنّي نهجت له السّبيل وأوضحت له الطّريق والله يهدي بنوره من يشاء. ونحن الآن نبيّن في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصّنائع بوجوه برهانيّة يتّضح بها التّحقيق في معارف الخاصّة والعامّة وتندفع بها الأوهام وترفع الشّكوك. ونقول لمّا كان الإنسان   [1] أوعب: ايعابا الشيء أخذه بأجمعه (قاموس) . [2] الرميّة: ما يرمى من حيوان، والشاكلة: الوجهة والطريقة والمعنى في الجملتين لم يصب الغرض. [3] في بعض النسخ: جعلنا سن بكرة وجهينة خبره وهو مثل يطلق على من يأتي بالخبر الصادق واليقين. وفيه إشارة إلى المثل المشهور «وعند جهينة الخبر اليقين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 متميّزا عن سائر الحيوانات بخواصّ اختصّ بها فمنها العلوم والصّنائع الّتي هي نتيجة الفكر الّذي تميّز به عن الحيوانات وشرّف بوصفه على المخلوقات ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسّلطان القاهر إذ لا يمكن وجوده دون ذلك [1] من بين الحيوانات كلّها إلّا ما يقال عن النّحل والجراد وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهاميّ لا بفكر ورويّة ومنها السّعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه لما جعل الله من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه وهداه إلى التماسه وطلبه قال تعالى: «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى 20: 50» ومنهما العمران وهو التّساكن والتّنازل في مصر [2] أو حلّة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التّعاون على المعاش كما نبيّنه ومن هذا العمران ما يكون بدويّا وهو الّذي يكون في الضّواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرّمال ومنه ما يكون حضريّا وهو الّذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر [3] للاعتصام بها والتّحصّن بجدرانها وله في كلّ هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيّا له فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستّة فصول. الأوّل في العمران البشريّ على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض. والثّاني في العمران البدويّ وذكر القبائل والأمم الوحشيّة. والثّالث في الدّول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانيّة والرّابع في العمران الحضريّ والبلدان والأمصار. والخامس في الصّنائع والمعاش والكسب ووجوهه. والسّادس في العلوم واكتسابها وتعلّمها. وقد قدّمت العمران البدويّ لأنّه سابق على جميعها كما نبيّن لك بعد وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار وأمّا تقديم المعاش فلأنّ المعاش ضروريّ طبيعيّ وتعلّم العلم كماليّ أو حاجيّ والطّبيعيّ أقدم من الكماليّ وجعلت   [1] يظهر أن هنا عبارة ساقطة من جميع النسخ لأن الكلام غير مستقيم. وفي نسخة لجنة البيان العربيّ عبارة بين قوسين وهي: «ولا يشبهه في ذلك» . [2] مصرج أمصار. أي البلد أو المدينة. [3] المدر. سكان القرى والأمصار والعرب تسمي القرية المدرة (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الصّنائع مع الكسب لأنّها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبيّن لك بعد والله الموفّق للصّواب والمعين عليه. الباب الأوّل من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة وفيه مقدمات الأولى في أنّ الاجتماع الإنسانيّ ضروريّ ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدنيّ بالطّبع أي لا بدّ له من الاجتماع الّذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران وبيانه أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصحّ حياتها وبقاؤها إلّا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله إلّا أنّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادّة حياته منه ولو فرضنا منه أقلّ ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا فلا يحصل إلّا بعلاج كثير من الطّحن والعجن والطّبخ وكلّ واحد من هذه الأعمال الثّلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتمّ إلّا بصناعات متعدّدة من حدّاد ونجّار وفاخوريّ وهب أنّه يأكله حبّا من غير علاج فهو أيضا يحتاج في تحصيله أيضا حبّا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه من الزّراعة والحصاد والدّراس الّذي يخرج الحبّ من غلاف السّنبل ويحتاج كلّ واحد من هذه من الزّراعة والحصاد والدّارس الّذي يخرج الحبّ من غلاف السّنبل ويحتاج كلّ واحد من هذه آلات متعدّدة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ويستحيل أن تفي بذلك كلّه أو ببعضه قدرة الواحد فلا بدّ من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتّعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف وكذلك يحتاج كلّ واحد منهم أيضا في الدّفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأنّ الله سبحانه لمّا ركّب الطّباع في الحيوانات كلّها وقسم القدر بينها جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظّ الإنسان فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثّور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته. ولمّا كان العدوان طبيعيّا في الحيوان جعل لكلّ واحد منها عضوا يختصّ بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره وجعل للإنسان عوضا من ذلك كلّه الفكر واليد فاليد مهيّئة للصّنائع بخدمة الفكر والصّنائع تحصّل له الآلات الّتي تنوب له عن الجوارح المعدّة في سائر الحيوانات للدّفاع مثل الرّماح الّتي تنوب عن القرون النّاطحة والسّيوف النّائبة عن المخالب الجارحة والتّراس [1] النّائبة عن البشرات الجاسية [2] إلى غير ذلك وغيره ممّا ذكره جالينوس في كتاب منافع الأعضاء فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيّما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدّة لها فلا بدّ في ذلك كلّه من التّعاون عليه بأبناء جنسه وما لم يكن هذا التّعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتمّ حياته لما ركّبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السّلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدى حياته ويبطل نوع البشر وإذا كان التّعاون حصل له القوت للغذاء والسّلاح للمدافعة وتمّت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه فإذن هذا الاجتماع ضروريّ للنّوع الإنسانيّ وإلّا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إيّاهم وهذا هو معنى العمران الّذي جعلناه موضوعا لهذا العلم وفي هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنّه الّذي هو موضوع له وهذا وإن لم يكن واجبا على صاحب الفنّ لما تقرّر في الصّناعة المنطقيّة أنّه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضا من الممنوعات عندهم فيكون إثباته من التّبرّعات والله الموفّق بفضله. ثمّ إنّ هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قرّرناه وتمّ عمران العالم بهم فلا بدّ من وازع يدفع   [1] جمع ترس وهو ما يلبس على الجسم لاتقاء السهام والسيوف (قاموس) . [2] القاسية والصلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانيّة من العدوان والظّلم وليست السّلاح الّتي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنّها موجودة لجميعهم فلا بدّ من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسّلطان واليد القاهرة حتّى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك وقد تبيّن لك بهذا أنّ للإنسان خاصّة طبيعيّة ولا بدّ لهم منها وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النّحل والجراد لما استقرئ فيها من الحكم والانقياد والاتّباع لرئيس من أشخاصها متميّز عنهم في خلقه وجثمانه إلّا أنّ ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسّياسة «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى 20: 50» وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوّة بالدّليل العقليّ وأنّها خاصّة طبيعية للإنسان فيقرّرون هذا البرهان إلى غاية وأنّه لا بدّ للبشر من الحكم الوازع ثمّ يقولون بعد ذلك وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنّه لا بدّ أن يكون متميّزا عنهم بما يودع الله فيه من خواصّ هدايته ليقع التّسليم له والقبول منه حتّى يتمّ الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزيّف وهذه القضيّة للحكماء غير برهانيّة كما تراه إذ الوجود وحياة البشر قد تتمّ من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبيّة الّتي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادّته فأهل الكتاب والمتّبعون للأنبياء قليلون بالنّسبة إلى المجوس الّذين ليس لهم كتاب فإنّهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدّول والآثار فضلا عن الحياة وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشّمال والجنوب بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتّة فإنّه يمتنع وبهذا يتبيّن لك غلطهم في وجوب النّبوّات وأنّه ليس بعقليّ وإنّما مدركة الشّرع كما هو مذهب السّلف من الأمّة والله وليّ التوفيق والهداية . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار [1] والأنهار والأقاليم اعلم أنّه قد تبيّن في كتب الحكماء النّاظرين في أحوال العالم أنّ شكل الأرض كرويّ وأنّها محفوفة بعنصر الماء كأنّها عنبة طافية عليه فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنّوع البشريّ الّذي له الخلافة على سائرها وقد يتوهّم من ذلك أنّ الماء تحت الأرض وليس بصحيح وإنّما النّحت الطّبيعيّ قلب الأرض ووسط كرتها الّذي هو مركزها والكلّ يطلبه بما فيه من الثّقل وما عدا ذلك من جوانبها وأمّا الماء المحيط بها فهو فوق الأرض وإن قيل في شيء منها إنّه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه. وأمّا الّذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النّصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائيّ بها من جميع جهاتها بحرا يسمّى البحر المحيط ويسمّى أيضا لبلايه بتفخيم اللّام الثّانية ويسمّى أوقيانوس أسماء أعجميّة ويقال له البحر الأخضر والأسود ثمّ إنّ هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه والخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشّمال وإنّما المعمور منه أميل إلى الجانب الشّماليّ على شكل مسطّح كرويّ ينتهي من جهة الجنوب إلى   [1] ورد بالأصل في جميع النسخ الأشجار وهو تحريف. وفي النسخة الباريسية المخطوطة: البحار وهو الصحيح لأن البحث في هذه المقدمة مستفيض عن البحار ولا يكاد يكون للأشجار بها ذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 خطّ الاستواء ومن جهة الشّمال إلى خطّ كرويّ ووراءه الجبال الفاصلة بينه وبين الماء العنصريّ الّذي بينهما سدّ يأجوج ومأجوج وهذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق وينتهي من المشرق والمغرب إلى عنصر الماء أيضا بقطعتين من الدّائرة المحيطة وهذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النّصف من الكرة أو أقلّ والمعمور منه مقدار ربعه وهو المنقسم بالأقاليم السّبعة وخطّ الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق وهو طول الأرض وأكبر خطّ في كرتها كما أنّ منطقة فلك البروج ودائرة معدّل النّهار أكبر خطّ في الفلك ومنطقة البروج منقسمة بثلاثمائة وستّين درجة والدّرجة من مسافة الأرض خمسة وعشرون فرسخا والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع والذّراع أربعة وعشرون إصبعا والإصبع ستّ حبّات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهرا لبطن وبين دائرة معدّل النّهار الّتي تقسم الفلك بنصفين وتسامت خطّ الاستواء من الأرض وبين كلّ واحد من القطبين تسعون درجة لكنّ العمارة في الجهة الشّماليّة من خطّ الاستواء أربع وستّون درجة والباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدّة البرد والجمود كما كانت الجهة الجنوبيّة خلاء كلّها لشدّة الحرّ كما نبيّن ذلك كلّه إن شاء الله تعالى. ثمّ إنّ المخبرين عن هذا المعمور وحدوده وعمّا فيه من الأمصار والمدن والجبال والبحار والأنهار والقفار والرّمال مثل بطليموس في كتاب الجغرافيا وصاحب كتاب زخّار [1] من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمّونها الأقاليم السّبعة بحدود وهميّة بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطّول فالإقليم الأوّل أطول ممّا بعده وهكذا الثّاني إلى آخرها فيكون السّابع أقصر لما اقتضاه وضع   [1] وردت في بعض النسخ روجار وهو الصحيح وروجار هو ملك صقلّيّة وقد ألف له الشريف الادريسي كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» وقد طاف الادريسي في بلاد الروم واليونان ومصر والمغرب وفرنسا وجزيرة بريطانيا وقد دعاه الملك روجار إلى زيارة صقلّيّة فرسم له ما عاينه من البلاد على كرة من فضة. وقد ازدهرت العلوم في أيام الملك روجار لاحتكاك الثقافتين العربية واليونانية في بلاده (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الدّائرة النّاشئة عن انحسار الماء عن كرة الأرض وكلّ واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التّوالي وفي كلّ جزء الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه. وذكروا أنّ هذا البحر المحيط يخرج من جهة المغرب في الإقليم الرّابع البحر الرّوميّ المعروف يبدأ في خليج متضايق في عرض اثني عشر ميلا أو نحوها ما بين طنجة وطريف ويسمّى الزّقاق ثمّ يذهب مشرّقا وينفسح إلى عرض ستّمائة ميل ونهايته في آخر الجزء الرّابع من الإقليم الرّابع على ألف فرسخ ومائة وستّين فرسخا من مبدئه وعليه هنالك سواحل الشّام وعليه من جهة الجنوب سواحل المغرب أوّلها طنجة عند الخليج ثمّ إفريقية [1] ثمّ برقة إلى الاسكندريّة ومن جهة الشّمال سواحل القسطنطنيّة عند الخليج ثمّ البنادقة ثمّ رومة ثمّ الافرنجة ثمّ الأندلس إلى طريف عند الزّقاق قبالة طنجة ويسمّى هذا البحر الرّوميّ والشّاميّ وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلّيّة وميورقة وسردانية قالوا: ويخرج منه في جهة الشّمال بحران آخران من خليجين. أحدهما مسامت للقسطنطينيّة يبدأ من هذا البحر متضايقا في عرض رمية السّهم ويمرّ ثلاثة بحار فيتّصل بالقسطنطينيّة ثمّ ينفسح في عرض أربعة أميال ويمرّ في جرية ستّين ميلا ويسمّى خليج القسطنطينيّة ثمّ يخرج من فوهة عرضها ستّة أميال فيمدّ بحر نيطش وهو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشّرق فيمرّ بأرض هرقلة وينتهي إلى بلاد الخزريّة على ألف وثلاثمائة ميل من فوهته وعليه من الجانبين أمم من الرّوم والتّرك وبرجان والرّوس. والبحر الثّاني من خليجي هذا البحر الرّوميّ وهو بحر البنادقة [2] يخرج من بلاد الرّوم على سمت الشّمال فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة وينتهي إلى بلاد إنكلاية على ألف ومائة ميل من مبدئه وعلى حافتيه من   [1] كانت تطلق قديما على المغرب الأدنى أي تونس وما يليها. [2] هو بحر الادرياتيك. نسبة إلى شعوب البنادقة الذين توطنوا على سواحله ودعوا بنادقة نسبة إلى مدينة البندقية (فينيسيا اليوم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 البنادقة والرّوم وغيرهم أمم ويسمّى خليج البنادقة. قالوا وينساح من هذا البحر المحيط أيضا من الشّرق وعلى ثلاث عشرة درجة في الشّمال من خطّ الاستواء بحر عظيم متّسع يمرّ في الجنوب قليلا حتّى ينتهي إلى الإقليم الأوّل ثمّ يمرّ فيه مغربا إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة والزّنج وإلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ من مبدئه ويسمّى البحر الصّينيّ والهنديّ والحبشيّ [1] وعليه من جهة الجنوب بلاد الزّنج وبلاد بربر الّتي ذكرها امرؤ القيس في شعره وليسوا من البربر الّذين هم قبائل المغرب ثمّ بلد مقدشو ثمّ بلد سفالة وأرض الواق واق وأمم أخر ليس بعدهم إلّا القفار والخلاء وعليه من جهة الشّمال الصّين من عند مبدئه ثمّ الهند ثمّ السّند ثمّ سواحل اليمن من الأحقاف وزبيد وغيرها ثمّ بلاد الزّنج عند نهايته وبعدهم الحبشة. قالوا ويخرج من هذا البحر الحبشيّ بحران آخران أحدهما يخرج من نهايته عند باب المندب فيبدأ متضايقا ثمّ يمرّ مستبحرا إلى ناحية الشّمال ومغرّبا قليلا إلى أن ينتهي إلى القلزم في الجزء الخامس من الإقليم الثّاني على ألف وأربعمائة ميل من مبدئه ويسمّى بحر القلزم [2] وبحر السّويس وبينه وبين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل وعليه من جهة الشّرق سواحل اليمن ثمّ الحجاز وجدّة ثمّ مدين وأيلة وفاران عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل الصّعيد وعيذاب وسواكن وزيلع ثمّ بلاد الحبشة عند مبدئه وآخره عند القلزم يسامت البحر الرّوميّ عند العريش وبينهما نحو ستّ مراحل وما زال الملوك في الإسلام وقبله يرومون خرق ما بينهما ولم يتمّ ذلك [3] . والبحر الثّاني من هذا البحر الحبشيّ ويسمّى الخليج الأخضر [4] يخرج   [1] هو المحيط الهندي. [2] بحر القلزم: اسم أطلقه العرب سابقا على البحر الأحمر وسمي نسبة إلى مدينة (قليزمة) بالقرب من السويس. (المنجد) . [3] هنا شرح للدكتور علي عبد الواحد وافي. في طبعه دار «الجنة البيان العربيّ» ننقلها بنصها «تم ذلك بعد وفاة ابن خلدون بنحو أربعة قرون ونصف قرن عن طريق قناة السويس. وكلام ابن خلدون يدل على أن توصيل هذين البحرين أحدهما بالآخر مشروع قديم فكر فيه الملوك في الإسلام ومن قبل الإسلام. وفي الحق ان تاريخه يبدأ من العهد الفرعوني نفسه ويقال ان أول ملك من الفراعنة فكر في حفر القناة هو سنوابرات الثالث الّذي يفكر أولياء الأمور في مصر الآن في إقامة تمثال له في بور سعيد» . [4] هو الخليج الفارسيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ما بين بلاد السند والأحقاف من اليمن ويمرّ إلى ناحية الشّمال مغرّبا قليلا إلى أن ينتهي إلى الأبلّة من سواحل البصرة في الجزء السّادس من الإقليم الثّاني على أربعمائة فرسخ وأربعين فرسخا من مبدئه ويسمّى بحر فارس وعليه من جهة الشّرق سواحل السّند ومكران وكرمان وفارس والأبلّة وعند نهايته من جهة الغرب سواحل البحرين واليمامة وعمان والشّحر والأحقاف عند مبدئه وفيما بين بحر فارس والقلزم وجزيرة العرب كأنّها داخلة من البرّ في البحر يحيط بها البحر الحبشيّ من الجنوب وبحر القلزم من الغرب وبحر فارس من الشّرق وتفضي إلى العراق بين الشّام والبصرة على ألف وخمسمائة ميل بينهما وهنالك الكوفة والقادسيّة وبغداد وإيوان كسرى والحيرة ووراء ذلك أمم الأعاجم من الترك والخزر وغيرهم وفي جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها وبلاد اليمامة والبحرين وعمان في جهة الشّرق منها وبلاد اليمن في جهة الجنوب منها وسواحله على البحر الحبشيّ. قالوا وفي هذا المعمور بحر آخر منقطع من سائر البحار في ناحية الشّمال بأرض الدّيلم يسمّى بحر جرجان وطبرستان طوله ألف ميل في عرض ستّمائة ميل في غربيّه أذربيجان والدّيلم وفي شرقيّه أرض الترك وخوارزم وفي جنوبيّه طبرستان وفي شماليّه أرض الخزر واللّان. هذه جملة البحار المشهورة الّتي ذكرها أهل الجغرافيا. قالوا وفي هذا الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار وهي النّيل والفرات ودجلة ونهر بلخ المسمّى جيحون. فأمّا النّيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خطّ الاستواء بستّ عشرة درجة على سمت الجزء الرّابع من الإقليم الأوّل ويسمّى جبل القمر ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصبّ بعضها في بحيرة هناك وبعضها في أخرى ثمّ تخرج أنهار من البحيرتين فتصبّ كلّها في بحيرة واحدة عند خطّ الاستواء على عشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 مراحل من الجبل ويخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشّمال على سمته ويمرّ ببلاد النّوبة ثمّ بلاد مصر فإذا جاوزها تشعّب في شعب متقاربة يسمّى كلّ واحد منها خليجا وتصبّ كلّها في البحر الرّوميّ عند الإسكندريّة ويسمّى نيل مصر وعليه الصّعيد من شرقيّه والواحات من غربيّه ويذهب الآخر منعطفا إلى المغرب ثمّ يمرّ على سمته إلى أن يصبّ في البحر المحيط وهو نهر السّودان وأممهم كلّهم على ضفّتيه. وأمّا الفرات فمبدؤه من بلاد أرمينيّة في الجزء السّادس من الإقليم الخامس ويمرّ جنوبا في أرض الرّوم وملطية إلى منبج ثمّ يمرّ بصفّين ثمّ بالرّقة ثمّ بالكوفة إلى أن ينتهي إلى البطحاء الّتي بين البصرة وواسط ومن هناك يصبّ في البحر الحبشيّ وتنجلب إليه في طريقه أنهار كثيرة ويخرج منه أنهار أخرى تصبّ في دجلة. وأمّا دجلة فمبدؤها عين ببلاد خلاط من أرمينيّة أيضا وتمرّ على سمت الجنوب بالموصل وأذربيجان وبغداد إلى واسط فتتفرّق إلى خلجان كلّها تصبّ في بحيرة البصرة وتفضي إلى بحر فارس وهو في الشّرق على يمين الفرات وينجلب إليه أنهار كثيرة عظيمة من كلّ جانب وفيما بين الفرات ودجلة من أوّله جزيرة الموصل قبالة الشّام من عدوتي الفرات وقبالة آذربيجان من عدوة دجلة. وأمّا نهر جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثّامن من الإقليم الثّالث من عيون هناك كثيرة وتنجلب إليه أنهار عظام ويذهب من الجنوب إلى الشّمال فيمرّ ببلاد خراسان ثمّ يخرج منها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثّامن من الإقليم الخامس فيصبّ في بحيرة الجرجانيّة الّتي بأسفل مدينتها وهي مسيرة شهر في مثله وإليها ينصبّ نهر فرغانة والشّاش الآتي من بلاد التّرك وعلى غربيّ نهر جيحون بلاد خراسان وخوارزم وعلى شرقيّه بلاد بخارى وترمذ وسمرقند ومن هنالك إلى ما وراءه بلاد التّرك وفرغانة والخزلجيّة وأمم الأعاجم وقد ذكر ذلك كلّه بطليموس في كتابه والشّريف في كتاب روجار وصوّروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال والبحار والأودية واستوفوا من ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ما لا حاجة لنا به لطوله ولأنّ عنايتنا في الأكثر إنّما هي بالمغرب الّذي هو وطن البربر وبالأوطان الّتي للعرب من المشرق والله الموفّق. تكملة لهذه المقدمة الثانية في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمرانا من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة أن الأوّل والثّاني من الأقاليم المعمورة أقلّ عمرانا ممّا بعدهما وما وجد من عمرانه فيتخلّله الخلاء والقفار والرّمال والبحر الهنديّ الّذي في الشّرق منهما وأمم هذين الإقليمين وأناسيّهما ليست لهم الكثرة البالغة وأمصاره ومدنه كذلك والثّالث والرّابع وما بعدهما بخلاف ذلك فالقفار فيها قليلة والرّمال كذلك أو معدومة وأممها وأناسيّها تجوز الحدّ من الكثرة وأمصارها ومدنها تجاوز الحدّ عددا والعمران فيها مندرج ما بين الثّالث والسّادس والجنوب خلاء كلّه وقد ذكر كثير من الحكماء أنّ ذلك لإفراط الحرّ وقلّة ميل الشّمس فيها عن سمت الرّؤوس فلنوضح ذلك ببرهانه ويتبيّن منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثّالث والرّابع من جانب الشّمال إلى الخامس والسّابع. فنقول إنّ قطبي الفلك الجنوبيّ والشّماليّ إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدّوائر المارّة من المشرق إلى المغرب وتسمّى دائرة معدّل النّهار وقد تبيّن في موضعه من الهيئة أنّ الفلك الأعلى متحرّك من المشرق إلى المغرب حركة يوميّة يحرّك بها سائر الأفلاك في جوفه قهرا وهذه الحركة محسوسة وكذلك تبيّن أنّ للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة وهي من المغرب إلى المشرق وتختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 السّرعة والبطء وممرّات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلّها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين وهي دائرة فلك البروج منقسمة باثني عشر برجا وهي على ما تبيّن في موضعه مقاطعة لدائرة معدّل النّهار على نقطتين متقابلتين من البروج هما أوّل الحمل وأوّل الميزان فتقسمها دائرة معدّل النّهار بنصفين نصف مائل عن معدّل النّهار إلى الشّمال وهو من أوّل الحمل إلى آخر السّنبلة ونصف مائل عنه إلى الجنوب وهو من أوّل الميزان إلى آخر الحوت وإذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح الأرض خطّ واحد يسامت دائرة معدّل النّهار يمرّ من المغرب إلى المشرق ويسمّى خطّ الاستواء ووقع هذا الخطّ بالرّصد على ما زعموا في مبدإ الإقليم الأوّل من الأقاليم السّبعة والعمران كلّه في الجهة الشّماليّة يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتّدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع وستّين درجة وهنالك ينقطع العمران وهو آخر الإقليم السّابع وإذا ارتفع على الأفق تسعين درجة وهي الّتي بين القطب ودائرة معدّل النّهار على الأفق وبقيت ستّة من البروج فوق الأفق وهي الشّماليّة وستّة تحت الأفق وهي الجنوبيّة والعمارة فيما بين الأربعة والسّتين إلى التّسعين ممتنعة لأنّ الحرّ والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزّمان بينهما فلا يحصل التّكوين فإذا الشّمس تسامت الرّؤوس على خطّ الاستواء في رأس الحمل والميزان ثمّ تميل عن المسامتة إلى رأس السّرطان ورأس الجدي ويكون نهاية ميلها عن دائرة معدّل النّهار أربعا وعشرين درجة ثمّ إذا ارتفع القطب الشّماليّ عن الأفق مالت دائرة معدّل النّهار عن سمت الرّؤوس بمقدار ارتفاعه وانخفض القطب الجنوبيّ كذلك بمقدار متساو في الثّلاثة وهو المسمّى عند أهل المواقيت عرض البلد وإذا مالت دائرة معدّل النّهار عن سمت الرّؤوس علت عليها البروج الشّماليّة مندرجة في مقدار علوّها إلى رأس السّرطان وانخفضت البروج الجنوبيّة من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه فلا يزال الأفق الشّماليّ يرتفع حتّى يصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أبعد الشّماليّة وهو رأس السّرطان في سمت الرّؤوس وذلك حيث يكون عرض البلد أربعا وعشرين في الحجاز وما يليه وهذا هو الميل الّذي إذا مال رأس السّرطان عن معدّل النّهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشّماليّ حتّى صار مسامتا فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع وعشرين نزلت الشّمس عن المسامتة ولا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعا وستّين ويكون انخفاض الشّمس عن المسامتة كذلك وانخفاض القطب الجنوبيّ عن الأفق مثلها فينقطع التّكوين لإفراط البرد والجمد وطول زمانه غير ممتزج بالحرّ. ثمّ إنّ الشّمس عند المسامتة وما يقاربها تبعث الأشعّة قائمة وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادّة وإذا كانت زوايا الأشعّة قائمة عظم الضّوء وانتشر بخلافه في المنفرجة والحادّة فلهذا يكون الحرّ عند المسامتة وما يقرب منها أكثر منه فيما بعد لأنّ الضّوء سبب الحرّ والتّسخين. ثمّ إنّ المسامتة في خطّ الاستواء تكون مرّتين في السّنة عند نقطتي الحمل والميزان وإذا مالت فغير بعيد ولا يكاد الحرّ يعتدل في آخر ميلها عند رأس السّرطان والجدي إلّا إن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعّة القائمة الزّوايا تلحّ على ذلك الأفق ويطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة ويفرط في شدّتها وكذا ما دامت الشّمس تسامت مرّتين فيما بعد خطّ الاستواء إلى عرض أربع وعشرين فإنّ الأشعّة ملحّة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خطّ الاستواء وإفراط الحرّ يفعل في الهواء تجفيفا ويبسا يمنع من التّكوين لأنّه إذا أفرط الحرّ جفّت المياه والرّطوبات وفسد التّكوين في المعدن والحيوان والنّبات إذ التّكوين لا يكون إلّا بالرّطوبة ثمّ إذا مال رأس السّرطان عن سمت الرّؤوس في عرض خمس وعشرين فما بعده نزلت الشّمس عن المسامتة فيصير الحرّ إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلا قليلا فيكون التّكوين ويتزايد على التّدريج إلى أن يفرط البرد في شدّته لقلّة الضّوء وكون الأشعّة منفرجة الزّوايا فينقص التّكوين ويفسد بيد أنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فساد التّكوين من جهة شدّة الحرّ أعظم منه من جهة شدّة البرد لأنّ الحرّ أسرع تأثيرا في التّجفيف من تأثير البرد في الجمد فلذلك كان العمران في الإقليم الأوّل والثّاني قليلا وفي الثّالث والرّابع والخامس متوسّطا لاعتدال الحرّ بنقصان الضّوء وفي السّادس والسّابع كثيرا لنقصان الحرّ وأنّ كيفيّة البرد لا تؤثّر عند أوّلها في فساد التّكوين كما يفعل الحرّ إذ لا تجفيف فيها إلّا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السّابع فلهذا كان العمران في الرّبع الشّماليّ أكثر وأوفر والله أعلم. ومن هنا أخذ الحكماء خلاء خطّ الاستواء وما وراءه وأورد [1] عليهم أنّه معمور بالمشاهدة والأخبار المتواترة فكيف يتم البرهان على ذلك والظّاهر أنّهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلّيّة إنّما أدّاهم البرهان إلى أنّ فساد التّكوين فيه قويّ بإفراط الحرّ والعمران فيه إمّا ممتنع أو ممكن أقليّ وهو كذلك فإنّ خطّ الاستواء والّذي وراءه وإن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جدّا. وقد زعم ابن رشد أنّ خطّ الاستواء معتدل وأنّ ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراءه في الشّمال فيعمر منه ما عمر من هذا والّذي قاله غير ممتنع من جهة فساد التّكوين وإنّما امتنع فيما وراء خطّ الاستواء في الجنوب من جهة أنّ العنصر المائيّ غمر وجه الأرض هنالك إلى الحدّ الّذي كان مقابلة من الجهة الشّماليّة قابلا للتّكوين [2] ولمّا امتنع المعتدل لغيبة الماء تبعه ما سواه لأنّ العمران متدرّج ويأخذ في التّدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع وأمّا القول بامتناعه في خطّ الاستواء فيردّه النّقل المتواتر والله أعلم. ولنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيّا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثمّ نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى آخره.   [1] أورد عليه الخبر: قصّه (قاموس) . [2] جاء كشف اوستراليا وأميركا والقسم الواقع جنوب خط الاستواء من افريقيا مؤيدا لرأي ابن رشد. ومبينا فساد ما كان يعتقد حينئذ من قلة، العمران جنوب خط الاستواء (عن طبعة لجنة البيان العربيّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا اعلم أنّ الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدّم ذكره على سبعة أقسام من الشّمال إلى الجنوب يسمّون كلّ قسم منها إقليما فانقسم المعمور من الأرض كلّه على هذه السّبعة الأقاليم كلّ واحد منها آخذ من الغرب إلى الشّرق على طوله. فالأوّل منها مار من المغرب إلى المشرق مع خطّ الاستواء بحدّه من جهة الجنوب وليس وراءه هنالك إلّا القفار والرّمال وبعض عمارة إن صحّت فهي كلا عمارة ويليه من جهة شماليّه الإقليم الثّاني ثمّ الثّالث كذلك ثمّ الرّابع والخامس والسّادس والسّابع وهو آخر العمران من جهة الشّمال وليس وراء السّابع إلّا الخلاء والقفار إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط كالحالّ فيما وراء الإقليم الأوّل في جهة الجنوب إلّا أنّ الخلاء في جهة الشّمال أقلّ بكثير من الخلاء الّذي في جهة الجنوب. ثمّ إنّ أزمنة اللّيل والنّهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل الشّمس عن دائرة معدّل النّهار وارتفاع القطب الشّماليّ عن آفاقها فيتفاوت قوس اللّيل والنّهار لذلك وينتهي طول اللّيل والنّهار في آخر الإقليم الأوّل وذلك عند حلول الشّمس برأس الجدي للّيل وبرأس السّرطان للنّهار كلّ واحد منهما إلى ثلاث عشرة ساعة وكذلك في آخر الإقليم الثّاني ممّا يلي الشّمال فينتهي طول النّهار فيه عند حلول الشّمس برأس السّرطان وهو منقلبها الصّيفيّ إلى ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة ومثله أطول اللّيل عند منقلبها الشّتويّ برأس الجدي ويبقى للأقصر من اللّيل والنّهار ما يبقى بعد الثّلاث عشرة ونصف من حملة أربع وعشرين السّاعات الزّمانيّة لمجموع اللّيل والنّهار وهي دورة الفلك الكاملة وكذلك في آخر الإقليم الثّالث ممّا يلي الشّمال أيضا ينتهيان إلى أربع عشرة ساعة وفي آخر الرّابع إلى أربع عشرة ساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ونصف ساعة وفي آخر الخامس إلى خمس عشرة ساعة وفي آخر السّادس إلى خمس عشرة ساعة ونصف وإلى آخر السّابع إلى ستّ عشرة ساعة وهنالك ينقطع العمران فيكون تفاوت هذه الأقاليم في الأطول من ليلها ونهارها بنصف ساعة لكلّ إقليم يتزايد من أوّله في ناحية الجنوب إلى آخره في ناحية الشّمال موزّعة على أجزاء هذا البعد. وأمّا عرض البلدان في هذه الأقاليم وهو عبارة عن بعد ما بين سمت رأس البلد ودائرة معدّل النّهار الّذي هو سمت رأس خطّ الاستواء وبمثله سواء ينخفض القطب الجنوبيّ عن أفق ذلك البلد ويرتفع القطب الشّماليّ عنه وهو ثلاثة أبعاد متساوية تسمّى عرض البلد كما مرّ ذلك قبل. والمتكلّمون على هذه الجغرافيا قسموا كلّ واحد من هذه الأقاليم السّبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية ويذكرون ما اشتمل عليه كلّ جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار والمسافات بينها في المسالك ونحن الآن نوجز القول في ذلك ونذكر مشاهير البلدان والأنهار والبحار في كلّ جزء منها ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب نزهة المشتاق الّذي ألّفه العلويّ الإدريسيّ الحمّوديّ لملك صقلّيّة من الإفرنج وهو زخّار بن زخّار [1] عند ما كان نازلا عليه بصقلّية بعد خروج صقلّيّة من إمارة مالقة وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السّادسة وجمع له كتبا جمّة للمسعوديّ وابن خرداذبه والحوقليّ والقدريّ وابن إسحاق المنجّم وبطليموس وغيرهم ونبدأ منها بالإقليم الأوّل إلى آخرها والله سبحانه وتعالى يعصمنا بمنّه وفضله. الإقليم الأوّل، وفيه من جهة غربيّه الجزائر الخالدات الّتي منها بدأ بطليموس بأخذ أطوال البلاد وليست في بسيط الإقليم وإنّما هي في البحر المحيط جزر متكثّرة أكبرها وأشهرها ثلاث ويقال إنّها معمورة وقد بلغنا أنّ سفائن من الإفرنج مرّت بها في أواسط هذه المائة وقاتلوهم فغنموا منهم وسبوا وباعوا بعض   [1] روجار الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أسراهم بسواحل المغرب الأقصى وصاروا إلى خدمة السّلطان فلمّا تعلّموا اللّسان العربيّ أخبروا عن حال جزائرهم وأنّهم يحتفرون الأرض للزّراعة بالقرون وأنّ الحديد مفقود بأرضهم وعيشهم من الشّعير وماشيتهم المعز وقتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف وعبادتهم السّجود للشّمس إذا طلعت ولا يعرفون دينا ولم تبلغهم دعوة ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلّا بالعثور لا بالقصد إليها لأنّ سفر السّفن في البحر إنّما هو بالرّياح ومعرفة جهات مهابّها وإلى أين يوصل إذا مرّت على الاستقامة من البلاد الّتي في ممرّ ذلك المهبّ وإذا اختلف المهبّ وعلم حيث يوصل على الاستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل السّفينة بها على قوانين في ذلك محصّلة عند النّواتية [1] والملّاحين الّذين هم رؤساء السّفن في البحر والبلاد الّتي في حافات البحر الرّوميّ وفي عدوته مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود وفي وضعها في سواحل البحر على ترتيبها ومهابّ الرّياح وممرّاتها على اختلافها معها في تلك الصّحيفة ويسمّونها الكنباص وعليها يعتمدون في أسفارهم وهذا كلّه مفقود في البحر المحيط فلذلك لا تلج فيه السّفن لأنّها إن غابت عن مرأى السّواحل فقلّ أن تهتدي إلى الرّجوع إليها مع ما ينعقد في جوّ هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسّفن في مسيرها وهي لبعدها لا تدركها أضواء الشّمس المنعكسة من سطح الأرض فتحلّلها فلذلك عسر الاهتداء إليها وصعب الوقوف على خبرها. وأمّا الجزء الأوّل من هذا الإقليم ففيه مصبّ النّيل الآتي من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه ويسمّى نيل السّودان ويذهب إلى البحر المحيط فيصبّ فيه عند جزيرة أوليك وعلى هذا النّيل مدينة سلا وتكرور وغانة وكلّها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السّودان وإلى بلادهم تسافر تجّار المغرب الأقصى وبالقرب منها من شماليّها بلاد لمتونة وسائر طوائف الملثّمين ومفاوز يجولون فيها وفي جنوبيّ هذا النّيل قوم من السّودان يقال لهم   [1] بالعامية: الملاحون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 «لملم» وهم كفار ويكتوون في وجوههم وأصداغهم وأهل غانة والتّكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتّجّار فيجلبونهم إلى المغرب وكلّهم عامّة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلّا أناسيّ أقرب إلى الحيوان العجم من النّاطق يسكنون الفيافي والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيّأة وربّما يأكل بعضهم بعضا وليسوا في عداد البشر. وفواكه بلاد السّودان كلّها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان. فكان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويّين يعرفون ببني صالح وقال صاحب كتاب روجار إنّه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن وقد ذهبت هذه الدّولة لهذا العهد وصارت غانة لسلطان مالي وفي شرقيّ هذا البلد في الجزء الثّالث من الإقليم بلد (كوكو) على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك ويمرّ مغرّبا فيغوص في رمال الجزء الثّاني وكان ملك كوكو قائما بنفسه ثمّ استولى عليها سلطان مالي وأصبحت في مملكته وخربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلّها من تاريخ البربر وفي جنوبيّ بلد كوكو بلاد كاتم [1] من أمم السّودان وبعدهم ونغارة على ضفّة النّيل من شماليّه وفي شرقيّ بلاد ونغارة وكاتم بلاد زغاوة وتاجرة المتّصلة بأرض النّوبة في الجزء الرّابع من هذا الإقليم وفيه يمرّ نيل مصر ذاهبا من مبدئه عند خطّ الاستواء إلى البحر الرّوميّ في الشّمال ومخرج هذا النّيل من جبل القمر الّذي فوق خطّ الاستواء بستّ عشرة درجة واختلفوا في ضبط هذه اللّفظة فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السّماء لشدّة بياضه وكثرة ضوءه وفي كتاب المشترك لياقوت بضمّ القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم من أهل الهند وكذا ضبطه ابن سعيد فيخرج من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كلّ خمسة منها في بحيرة وبينهما ستّة أميال ويخرج من كلّ واحدة من البحيرتين ثلاثة أنهار تجتمع كلّها في بطيحة   [1] كانم وليس كاتم: بكسر النون من بلاد البربر بأقصى الغرب في بلاد السودان وقيل كانم صنف من السودان. (معجم البلدان) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 واحدة في أسفلها جبل معترض يشقّ البحيرة من ناحية الشّمال وينقسم ماؤها بقسمين فيمرّ الغربيّ منه إلى بلاد السّودان مغرّبا حتّى يصبّ في البحر المحيط ويخرج الشّرقيّ منه ذاهبا إلى الشّمال على بلاد الحبشة والنّوبة وفيما بينهما وينقسم في أعلى أرض مصر فيصبّ ثلاثة من جداوله في البحر الرّوميّ عند الإسكندريّة ورشيد ودمياط ويصبّ واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتّصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأوّل وعلى هذا النّيل بلاد النّوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان وحاضرة بلاد النّوبة مدينة دنقلة وهي في غربيّ هذا النّيل وبعدها علوة وبلاق [1] وبعدهما جبل الجنادل على ستّة مراحل من بلاق في الشّمال وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النّوبة فينفذ فيه النّيل ويصبّ في مهوى بعيد صبّا هائلا فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظّهر إلى بلد أسوان قاعدة الصّعيد إلى فوق الجنادل وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة والواحات في غربيّها عدوة النّيل وهي الآن خراب وبها آثار العمارة القديمة. وفي وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خطّ الاستواء ذاهبا إلى أرض النّوبة فيصبّ هناك في النّيل الهابط إلى مصر وقد وهم فيه كثير من النّاس وزعموا أنّه من نيل القمر وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنّه ليس من هذا النّيل. وإلى وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس ينتهي بحر الهند الّذي يدخل من ناحية الصّين ويغمر عامّة هذا الإقليم إلى هذا الجزء الخامس فلا يبقى فيه عمران إلّا ما كان في الجزائر الّتي في داخله وهي متعدّدة يقال تنتهي إلى ألف جزيرة أو فيما على سواحله من جهة الشّمال وليس منها في هذا الإقليم الأوّل إلّا طرف من بلاد الصّين في جهة الشّرق وفي بلاد اليمن. وفي الجزء السّادس من هذا الإقليم فيما بين البحرين الهابطين من هذا البحر الهنديّ إلى جهة الشّمال وهما بحر قلزم   [1] بلاق: هي- بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وبحر فارس وفيما بينهما جزيرة العرب وتشتمل على بلاد اليمن وبلاد الشّحر [1] في شرقيّها على ساحل هذا البحر الهنديّ وعلى بلاد الحجاز واليمامة وما إليهما كما نذكره في الإقليم الثّاني وما بعده فأمّا الّذي على ساحل هذا البحر من غربيّه فبلد زالع من أطراف بلاد الحبشة ومجالات البجّة [2] في شماليّ الحبشة ما بين جبل العلّاقيّ في أعالي الصّعيد وبين بحر القلزم الهابط من البحر الهنديّ وتحت بلاد زالع من جهة الشّمال في هذا الجزء خليج باب المندب يضيق البحر الهابط هنالك بمزاحمة جبل المندب المائل في وسط البحر الهنديّ ممتدّا مع ساحل اليمن من الجنوب إلى الشّمال في طول اثني عشر ميلا فيضيق البحر بسبب ذلك إلى أن يصير في عرض ثلاثة أميال أو نحوها ويسمّى باب المندب وعليه تمرّ مراكب اليمن إلى ساحل السّويس قريبا من مصر وتحت باب المندب جزيرة سواكن ودهلك وقبالته من غربيه مجالات البجّة من أمم السّودان كما ذكرناه ومن شرقيّه في هذا الجزء تهائم اليمن ومنها على ساحله بلد عليّ بن يعقوب وفي جهة الجنوب من بلد زالع وعلى ساحل هذا البحر من غربيّه قرى بربر يتلو بعضها بعضا وينعطف من جنوبيّه إلى آخر الجزء السّادس ويليها هنالك من جهة شرقيّها بلاد الزّنج ثمّ بلاد سفالة من ساحله الجنوبيّ بلاد الوقواق متّصلة إلى آخر الجزء العاشر من هذا الإقليم عند مدخل هذا البحر من البحر المحيط. وأمّا جزائر هذا البحر فكثيرة. من أعظمها جزيرة سرنديب مدوّرة الشّكل. وبها الجبل المشهور يقال ليس في الأرض أعلى منه وهي قبالة سفالة. ثمّ جزيرة القمر وهي جزيرة مستطيلة تبدأ من قبالة أرض سفالة وتذهب إلى الشّرق منحرفة بكثير إلى أن تقرب من سواحل أعالي الصّين ويحتفّ بها في هذا البحر من جنوبيّها جزائر الوقواق ومن شرقيّها جزائر السّيلان إلى جزائر أخر في هذا البحر كثيرة العدد وفيها أنواع الطّيب   [1] الشحر: ساحل اليمن وقيل الساحل ما بين عدن وعمان. [2] ويقال أيضا البجاة واما زالع فهي زيلع: مجموعة قبائل تسكن ما بين النيل والبحر الأحمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والأفاويه وفيها يقال معادن الذّهب والزّمرّد وعامّة أهلها على دين المجوسيّة وفيهم ملوك متعدّدون وبهذه الجزائر من أحوال العمران عجائب ذكرها أهل الجغرافيا وعلى الصّفّة الشّماليّة من هذا البحر في الجزء السّادس من هذا الإقليم بلاد اليمن كلّها فمن جهة بحر القلزم بلد زبيد والمهجم وتهامة اليمن وبعدها بلد صعدة مقرّ الإمامة الزّيديّة وهي بعيدة عن البحر الجنوبيّ وعن البحر الشّرقيّ وفيما بعد ذلك مدينة عدن وفي شماليّها صنعاء وبعدهما إلى المشرق أرض الأحقاف وظفّار وبعدها أرض حضرموت ثمّ بلاد الشّحر ما بين البحر الجنوبيّ وبحر فارس. وهذه القطعة من الجزء السّادس هي الّتي انكشف عنها البحر من أجزاء هذا الإقليم الوسطى وينكشف بعدها قليل من الجزء التّاسع وأكثر منه من العاشر فيه أعالي بلاد الصّفين ومن مدنه الشّهيرة خانكو وقبالتها من جهة الشّرق جزائر السّيلان وقد تقدّم ذكرها وهذا آخر الكلام في الإقليم الأوّل والله سبحانه وتعالى وليّ التّوفيق بمنّه وفضله. الإقليم الثّاني: وهو متّصل بالأوّل من جهة الشّمال وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات الّتي مرّ ذكرها وفي الجزء الأوّل والثّاني منه في الجانب الأعلى منهما أرض قنورية وبعدها في جهة الشّرق أعالي أرض غانة ثمّ مجالات زغاوة من السّودان وفي الجانب الأسفل منهما صحراء نستر متّصلة من الغرب إلى الشّرق ذات مفاوز تسلك فيها التّجّار ما بين بلاد المغرب وبلاد السّودان وفيها مجالات الملثّمين من صنهاجة وهم شعوب كثيرة ما بين كزولة ولمتونة ومسراتة ولمطة ووريكة وعلى سمت هذه المفاوز شرقا أرض فزّان ثمّ مجالات أزكار [1] من قبائل البربر ذاهبة إلى أعالي الجزء الثّالث على سمتها في الشّرق وبعدها من هذا الجزء الثّالث وهي جهة الشّمال منه بقيّة أرض وذّان وعلى سمتها شرقا أرض سنتريّة وتسمّى الواحات الدّاخلة وفي الجزء الرّابع من أعلاه   [1] وفي بعض النسخ ازكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بقيّة أرض الباجويّين ثمّ يعترض في وسط هذا الجزء بلاد الصّعيد حافات النّيل الذّاهب من مبدئه في الإقليم الأوّل إلى مصبّه في البحر فيمرّ في هذا الجزء بين الجبلين الحاجزين وهما جبل الواحات من غربيّه وجبل المقطّم من شرقيّه وعليه من أعلاه بلد أسنا وأرمنت ويتّصل كذلك حافاته إلى أسيوط وقوص ثمّ إلى صول ويفترق النّيل هنالك على شعبين ينتهي الأيمن منهما في هذا الجزء عند اللّاهون والأيسر عند دلاص وفيما بينهما أعالي ديار مصر وفي الشّرق من جبل المقطّم صحارى عيذاب ذاهبة في الجزء الخامس إلى أن تنتهي إلى بحر السّويس وهو بحر القلزم الهابط من البحر الهنديّ في الجنوب إلى جهة الشّمال وفي عدوته الشّرقيّة من هذا الجزء أرض الحجاز من جبل يلملم إلى بلاد يثرب في وسط الحجاز مكّة شرّفها الله وفي ساحلها مدينة جدّة تقابل بلد عيذاب في العدوة الغربيّة من هذا البحر. وفي الجزء السّادس من غربيّه بلاد نجد أعلاها في الجنوب وتبالة وجرش إلى عكاظ من الشّمال وتحت نجد من هذا الجزء بقيّة أرض الحجاز وعلى سمتها في الشّرق بلاد نجران وخيبر وتحتها أرض اليمامة وعلى سمت نجران في الشّرق أرض سبإ ومأرب ثمّ أرض الشّحر وينتهي إلى بحر فارس وهو البحر الثّاني الهابط من البحر الهنديّ إلى الشّمال كما مرّ ويذهب في هذا الجزء بانحراف إلى الغرب فيمرّ ما بين شرقيّه وجوفيه قطعة مثلّثة عليها من أعلاه مدينة قلهات وهي ساحل الشّحر ثمّ تحتها على ساحله بلاد عمان. ثمّ بلاد البحرين وهجر منها في آخر الجزء وفي الجزء السّابع في الأعلى من غربيّه قطعة من بحر فارس تتّصل بالقطعة الأخرى في السّادس ويغمر بحر الهند جانبه الأعلى كلّه وعليه هنالك بلاد السّند إلى بلاد مكران ويقابلها بلاد الطّوبران وهي من السّند أيضا فيتّصل السّند كلّه في الجانب الغربيّ من هذا الجزء وتحول المفاوز بينه وبين أرض الهند ويمرّ فيه نهره الآتي من ناحية بلاد الهند ويصبّ في البحر الهنديّ في الجنوب وأوّل بلاد الهند على ساحل البحر الهنديّ وفي سمتها شرقا بلاد بلهرا وتحتها الملتان بلاد الصنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 المعظّم عندهم، ثمّ إلى أسفل من السّند، ثمّ إلى أعالي بلاد سجستان. وفي الجزء الثّامن من غربيّه بقيّة بلاد بلهرا من الهند، وعلى سمتها شرقا بلاد القندهار، ثمّ بلاد منيبار وفي الجانب الأعلى على ساحل البحر الهنديّ وتحتها في الجانب الأسفل أرض كابل وبعدها شرقا إلى البحر المحيط بلاد القنوج ما بين قشمير الدّاخلة وقشمير الخارجة عند آخر الإقليم وفي الجزء التّاسع ثمّ في الجانب الغربيّ منه بلاد الهند الأقصى ويتّصل فيه إلى الجانب الشّرقيّ فيتّصل من أعلاه إلى العاشر وتبقى في أسفل ذلك الجانب قطعة من بلاد الصّين فيها مدينة شيغون ثمّ تتّصل بلاد الصّين في الجزء العاشر كله إلى البحر المحيط والله ورسوله أعلم وبه سبحانه التّوفيق وهو وليّ الفضل والكرم. الإقليم الثّالث: وهو متّصل بالثّاني من جهة الشّمال ففي الجزء الأوّل منه وعلى نحو الثّلث من أعلاه جبل درن معترض فيه من غربيّه عند البحر المحيط إلى الشّرق عند آخره ويسكن هذا الجبل من البربر أمم لا يحصيهم إلّا خالقهم حسبما يأتي ذكره وفي القطعة الّتي بين هذا الجبل والإقليم الثّاني وعلى البحر المحيط منها رباط ماسة ويتّصل به شرقا بلاد سوس ونول وعلى سمتها شرقا بلاد درعة ثمّ بلاد سجلماسة ثمّ قطعة من صحراء نستر المفازة الّتي ذكرناها في الإقليم الثّاني وهذا الجبل مطلّ على هذه البلاد كلّها في هذا الجزء وهو قليل الثّنايا والمسالك في هذه النّاحية الغربيّة إلى أن يسامت وادي ملويّة فتكثر ثناياه ومسالكه إلى أن ينتهي وفي هذه النّاحية منه أمم المصامدة ثمّ هنتاتة ثمّ تين ملّل ثمّ كدميوه ثمّ مشكورة وهم آخر المصامدة فيه ثمّ قبائل صنهاكة وهم صنهاجة وفي آخر هذا الجزء منه بعض قبائل زناتة ويتّصل به هنالك من جوفيه جبل أوراس وهو جبل كتامة وبعد ذلك أمم أخرى من البرابرة نذكرهم في أماكنهم. ثمّ إنّ جبل درن هذا من جهة غربيّه مطلّ على بلاد المغرب الأقصى وهي في جوفيه ففي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 النّاحية الجنوبيّة منها بلاد مراكش وأغمات وتادلّا [1] وعلى البحر المحيط منها رباط أسفى ومدينة سلا وفي الجوف عن بلاد مراكش بلاد فاس ومكناسة وتازا وقصر كتامة وهذه هي الّتي تسمّى المغرب الأقصى في عرف أهلها وعلى ساحل البحر المحيط منها بلدان أصيلا والعرايش وفي سمت هذه البلاد شرقا بلاد المغرب الأوسط وقاعدتها تلمسان وفي سواحلها على البحر الرّوميّ بلد هنين ووهران والجزائر لأنّ هذا البحر الرّوميّ يخرج من البحر المحيط من خليج طنجة في النّاحية الغربيّة من الإقليم الرّابع ويذهب مشرّقا فينتهي إلى بلاد الشّام فإذا خرج من الخليج المتضايق غير بعيد انفسح جنوبا وشمالا فدخل في الإقليم الثّالث والخامس فلهذا كان على ساحله من هذا الإقليم الثّالث الكثير من بلاده ثمّ يتّصل ببلاد الجزائر من شرقيّها بلاد بجاية في ساحل البحر ثمّ قسطنطينيّة في الشّرق منها وفي آخر الجزء الأوّل وعلى مرحلة من هذا البحر في جنوبيّ هذه البلاد ومرتفعا إلى جنوب المغرب الأوسط بلد أشير ثمّ بلد المسيلة ثمّ الزّاب وقاعدته بسكرة تحت جبل أوراس المتّصل بدرن كما مرّ وذلك عند آخر هذا الجزء من جهة الشّرق والجزء الثّاني من هذا الإقليم على هيئة الجزء الأوّل ثمّ جبل درن على نحو الثّلث من جنوبه ذاهبا فيه من غرب إلى شرق فيقسمه بقطعتين ويغمر البحر الرّوميّ مسافة من شماله فالقطعة الجنوبيّة عن جبل درن غربيّها كلّه مفاوز وفي الشّرق منها بلد عذامس وفي سمتها شرقا أرض ودّان الّتي بقيّتها في الإقليم الثّاني كما مرّ والقطعة الجوفيّة عن جبل درن ما بينه وبين البحر الرّوميّ في الغرب منها جبل أوراس وتبسة والأوبس وعلى ساحل البحر بلد بونة ثمّ في سمت هذه البلاد شرقا بلاد إفريقية فعلى ساحل البحر مدينة تونس ثمّ السّوسة ثمّ المهديّة وفي جنوب هذه البلاد تحت جبل درن بلاد الجريد توزر وقفصة ونفزاوة وفيما بينها وبين السواحل مدينة القيروان وجبل وسلات وسبيطلة وعلى سمت هذه البلاد   [1] كذا في جميع النسخ وقد ذكرها ياقوت الحموي في معجمه تادلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كلّها شرقا بلد طرابلس على البحر الرّوميّ وبإزائها في الجنوب جبل دمّر ونقرة من قبائل هوارة متّصلة بجبل درن وفي مقابلة غذامس الّتي مرّ ذكرها في آخر القطعة الجنوبيّة وآخر هذا الجزء في الشّرق سويقة ابن مشكورة على البحر وفي جنوبها مجالات العرب في أرض ودّان وفي الجزء الثّالث من هذا الإقليم يمرّ أيضا فيه جبل درن إلّا أنّه ينعطف عند آخره إلى الشّمال ويذهب على سمته إلى أن يدخل في البحر الرّوميّ ويسمّى هنالك طرف أوثان والبحر الرّوميّ من شماليّه يغمر طائفة منه إلى أن يضايق ما بينه وبين جبل درن فالّذي وراء الجبل في الجنوب وفي الغرب منه بقيّة أرض ودّان. ومجالات العرب فيها ثمّ زويلة ابن خطّاب ثمّ رمال وقفار إلى آخر الجزء في الشّرق وفيما بين الجبل والبحر في الغرب منه بلد سرت على البحر ثمّ خلاء وقفار تجول فيها العرب ثمّ أجدابيّة ثمّ برقة عند منعطف الجبل ثمّ طلمسة على البحر هنالك ثمّ في شرق المنعطف من الجبل مجالات هيب ورواحة إلى آخر الجزء وفي الجزء الرّابع من هذا الإقليم وفي الأعلى من غربيّه صحارى برقيق وأسفل منها بلاد هيب ورواحة ثمّ يدخل البحر الرّوميّ في هذا الجزء فيغمر طائفة منه إلى الجنوب حتّى يزاحم طرفه الأعلى ويبقى بينه وبين آخر الجزء قفار تجول فيها العرب وعلى سمتها شرقا بلاد الفيّوم وهي على مصبّ أحدّ الشّعبين من النّيل [1] الّذي يمرّ على اللّاهون من بلاد الصّعيد في الجزء الرّابع من الإقليم الثّاني ويصبّ في بحيرة فيّوم [2] وعلى سمته شرقا أرض مصر ومدينتها الشّهيرة على الشّعب الثّاني الّذي يمرّ بدلاص من بلاد الصّعيد عند آخر الجزء الثّاني ويفترق هذا الشّعب افتراقة ثانية من تحت مصر على شعبين آخرين من شطنوف وزفتي وينقسم الأيمن منهما من قرمط بشعبين آخرين ويصبّ   [1] يقصد به بحر يوسف الّذي يأخذ مياهه من ترعة الإبراهيمية عند ديروط. ويمر بمديريات أسيوط والمنيا وبني سويف والفيوم (عن نسخة لجنة البيان العربيّ) . [2] يقصد بها بحيرة قارون. وهي المشهورة في التاريخ باسم «بحيرة موريس» (عن نسخة لجنة البيان العربيّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 جميعها في البحر الرّوميّ فعلى مصبّ الغربيّ من هذا الشّعب بلد الإسكندريّة وعلى مصبّ الوسط بلد رشيد وعلى مصبّ الشّرقيّ بلد دمياط وبين مصر والقاهرة وبين هذه السّواحل البحريّة أسافل الدّيار المصريّة كلّها محشوّة عمرانا وفلجا [1] وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم بلاد الشّام وأكثرها على ما أصف وذلك لأنّ بحر القلزم ينتهي من الجنوب وفي الغرب منه عند السّويس لأنّه في ممرّه مبتدئ من البحر الهنديّ إلى الشّمال ينعطف آخذا إلى جهة الغرب فتكون قطعة من انعطافه في الجزء طويلة فينتهي في الطّرف الغربيّ منه إلى السّويس وعلى هذه القطعة بعد السّويس فاران ثمّ جبل الطّور ثمّ أيلة مدين ثمّ الحوراء في آخرها ومن هنالك ينعطف بساحله إلى الجنوب في أرض الحجاز كما مرّ في الإقليم الثّاني في الجزء الخامس منه وفي النّاحية الشّماليّة من هذا الجزء قطعة من البحر الرّوميّ غمرت كثيرا من غربيّه عليها الفرما والعريش وقارب طرفها بلد القلزم فيضايق ما بينهما من هنالك وبقي شبه الباب مفضيا إلى أرض الشّام وفي غربيّ هذا الباب فحص التّيه أرض جرداء لا تنبت كانت مجالا لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وقبل دخولهم إلى الشّام أربعين سنة كما قصّه القرآن وفي هذه القطعة من البحر الرّوميّ في هذا الجزء طائفة من جزيرة قبرص وبقيّتها في الإقليم الرّابع كما نذكره وعلى ساحل هذه القطعة عند الطّرف المتضايق لبحر السّويس بلد العريش وهو آخر الدّيار المصريّة وعسقلان وبينهما طرف هذا البحر ثمّ تنحطّ هذه القطعة في انعطافها من هنالك إلى الإقليم الرّابع عند طرابلس وغزّة وهنالك ينتهي البحر الرّوميّ في جهة الشّرق وعلى هذه القطعة أكثر سواحل الشّام ففي شرقه غزّة ثمّ عسقلان وبانحراف يسير عنها إلى الشّمال بلد قيساريّة ثمّ كذلك بلد عكّا ثمّ صور ثمّ صيداء ثمّ ينعطف البحر إلى الشّمال في الإقليم الرّابع ويقابل هذه البلاد السّاحليّة من هذه القطعة في هذا الجزء جبل عظيم يخرج من ساحل أيلة من بحر   [1] وفي بعض النسخ خلجا: جمع خليج. والفلج الشق في الأرض الزراعة (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 القلزم ويذهب في ناحية الشّمال منحرفا إلى الشّرق إلى أن يجاوز هذا الجزء ويسمّى جبل اللّكام وكأنّه حاجز بين أرض مصر والشّام ففي طرفه عند أيلة العقبة الّتي يمرّ عليها الحجّاج من مصر إلى مكّة ثمّ بعدها في ناحية الشّمال مدفن الخليل عليه الصّلاة والسّلام عند جبل السّراة يتّصل من عند جبل اللّكام المذكور من شمال العقبة ذاهبا على سمت الشّرق ثمّ ينعطف قليلا وفي شرقه هنالك بلد الحجر وديار ثمود وتيماء ودومة الجندل وهي أسافل الحجاز وفوقها جبل رضوى وحصون خيبر في جهة الجنوب عنها وفيما بين جبل السّراة وبحر القلزم صحراء تبوك وفي شمال جبل السّراة مدينة القدس عند جبل اللّكام ثمّ الأردنّ ثمّ طبريّة وفي شرقيّها بلاد الغور إلى أذرعات وفي سمتها دومة الجندل آخر هذا الجزء وهي آخر الحجاز. وعند منعطف جبل اللّكام إلى الشّمال من آخر هذا الجزء مدينة دمشق مقابلة صيدا وبيروت من القطعة البحريّة وجبل اللّكام يعترض بينها وبينها وعلى سمت دمشق في الشّرق مدينة بعلبكّ ثمّ مدينة حمص في الجهة الشّماليّة آخر الجزء عند منقطع جبل اللّكام وفي الشّرق عن بعلبكّ وحمص بلد تدمر ومجالات البادية إلى آخر الجزء وفي الجزء السّادس من أعلاه مجالات الأعراب تحت بلاد نجد واليمامة ما بين جبل العرج والصّمّان إلى البحرين وهجر على بحر فارس وفي أسافل هذا الجزء تحت المجالات بلد الحيرة والقادسيّة ومغايض الفرات. وفيما بعدها شرقا مدينة البصرة وفي هذا الجزء ينتهي بحر فارس عند عبّادان والأبلّة من أسافل الجزء من شماله ويصبّ فيه عند عبّادان نهر دجلة بعد أن ينقسم بجداول كثيرة وتختلط به جداول أخرى من الفرات ثمّ تجتمع كلها عند عبّادان وتصبّ في بحر فارس وهذه القطعة من البحر متّسعة في أعلاه متضايقة في آخره في شرقيّه وضيّقة عند منتهاه مضايقة للحدّ الشّماليّ منه وعلى عدوتها الغربيّة منه أسافل البحرين وهجر والإحساء وفي غربها أخطب والصّمّان وبقيّة أرض اليمامة وعلى عدوته الشّرقيّة سواحل فارس من أعلاها وهو من عند آخر الجزء من الشّرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 على طرف قد امتدّ من هذا البحر مشرّقا ووراءه إلى الجنوب في هذا الجزء جبال القفص من كرمان وتحت هرمز على الساحل بلد سيراف ونجيرم على ساحل هذا البحر وفي شرقيّه إلى آخر هذا الجزء وتحت هرمز بلاد فارس مثل سابور وداربجرد ونسا وإصطخر والشّاهجان وشيراز وهي قاعدتها كلّها وتحت بلاد فارس إلى الشّمال عند طرف البحر بلاد خوزستان ومنها الأهواز وتستر وصدى وسابور والسّوس ورامهرمز وغيرها وأرّجان وهي حدّ ما بين فارس وخوزستان وفي شرقيّ بلاد خوزستان جبال الأكراد متّصلة إلى نواحي أصبهان وبها مساكنهم ومجالاتهم وراءها في أرض فارس وتسمّى الرّسوم. وفي الجزء السّابع في الأعلى منه من المغرب بقيّة جبال القفص ويليها من الجنوب والشّمال بلاد كرمان ومكران ومن مدنها الرّودان والشّيرجان [1] وجيرفت ويزدشير والبهرج وتحت أرض كرمان إلى الشّمال بقيّة بلاد فارس إلى حدود أصبهان ومدينة أصبهان [2] في طرف هذا الجزء ما بين غربة وشماله ثمّ في المشرق عن بلاد كرمان وبلاد فارس أرض سجستان وكوهستان [3] في الجنوب وأرض كوهستان في الشّمال عنها ويتوسّط بين كرمان وفارس وبين سجستان وكوهستان وفي وسط هذا الجزء المفاوز العظمى القليلة المسالك لصعوبتها ومن مدن سجستان بست والطّاق وأمّا كوهستان فهي من بلاد خراسان ومن مشاهير بلادها سرخس وقوهستان آخر الجزء. وفي الجزء الثّامن من غربة وجنوبه مجالات الحلج من أمم التّرك متّصلة بأرض سجستان من غربها وبأرض كابل الهند من جنوبها. وفي الشّمال عن هذه المجالات جبال الغور وبلادها وقاعدتها غزنة فرضة الهند وفي آخر الغور من الشّمال بلاد أستراباذ ثمّ في الشّمال غربا إلى آخر الجزء بلاد هراة أوسط خراسان وبها أسفراين وقاشان وبوشنج ومروالرّوذ والطّالقان والجوزجان وتنتهي خراسان هنالك إلى نهر   [1] لم نعثر على شيرجان في معجم البلدان ولكن وجدنا سيرجان ونعتقد أنها المقصودة. [2] هي مدينة أصفهان اليوم. [3] ذكرها ياقوت الحموي في معجمه «قوهستان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 جيحون. وعلى هذا النّهر من بلاد خراسان من غربيّه مدينة بلخ وفي شرقيّه مدينة ترمذ ومدينة بلخ كانت كرسيّ مملكة التّرك وهذا النّهر نهر جيحون مخرجه من بلاد وجّار في حدود بذخشان ممّا يلي الهند ويخرج من جنوب هذا الجزء وعند آخره من الشّرق فينعطف عن قرب مغرّبا إلى وسط الجزء ويسمّى هنالك نهر خرناب ثمّ ينعطف إلى الشّمال حتّى يمرّ بخراسان ويذهب على سمته إلى أن يصبّ في بحيرة خوارزم في الإقليم الخامس كما نذكره ويمدّه عند انعطافه في وسط الجزء من الجنوب إلى الشّمال خمسة أنهار عظيمة من بلاد الختل والوخش من شرقيّه وأنهار أخرى من جبال البتم من شرقيّه أيضا وجوفي الجبل حتّى يتّسع ويعظم بما لا كفاء [1] له ومن هذه الأنهار الخمسة الممدّة له نهر وخشاب يخرج من بلاد التّبت وهي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء فيمرّ مغرّبا بانحراف إلى الشّمال إلى أن يخرج إلى الجزء التّاسع قريبا من شمال هذا الجزء يعترضه في طريقه جبل عظيم يمرّ من وسط الجنوب في هذا الجزء ويذهب مشرّقا بانحراف إلى الشّمال إلى أن يخرج إلى الجزء التّاسع قريبا من شمال هذا الجزء فيجوز بلاد التّبت إلى القطعة الشرقيّة الجنوبيّة من هذا الجزء ويحول بين التّرك وبين بلاد الختل وليس فيه إلّا مسلك واحد في وسط الشّرق من هذا الجزء جعل فيه الفضل بن يحيى سدّا وبنى فيه بابا كسدّ يأجوج ومأجوج فإذا خرج نهر وخشاب من بلاد التّبت واعترضه هذا الجبل فيمرّ تحته في مدى بعيد إلى أن يمرّ في بلاد الوخش ويصبّ في نهر جيحون عند حدود بلخ ثمّ يمرّها بطا إلى التّرمذ في الشّمال إلى بلاد الجوزجان وفي الشّرق عن بلاد الغور فيما بينها وبين نهر جيحون بلاد النّاسان من خراسان وفي العدوة الشّرقيّة هنالك من النّهر بلاد الختل وأكثرها جبال وبلاد الوخش ويحدّها من جهة الشّمال جبال البتم تخرج من طرف خراسان غربيّ نهر جيحون وتذهب مشرّقة إلى أن يتّصل طرفها بالجبل العظيم الّذي خلفه بلاد التّبت ويمرّ تحته نهر وخشاب كما قلناه فيتّصل   [1] بمعنى لا مثيل له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عند باب الفضل بن يحيى ويمرّ نهر جيحون بين هذه الجبال وأنهار أخرى تصبّ فيه منها نهر بلاد الوخش يصبّ فيه من الشّرق تحت التّرمذ إلى جهة الشّمال ونهر بلخ يخرج من جبال البتم مبدئه عند الجوزجان ويصبّ فيه من غربيّه وعلى هذا النّهر من غربيّه بلاد آمد من خراسان وفي شرقيّ النّهر من هنالك أرض الصّغد وأسر وشنّة من بلاد التّرك وفي شرقها أرض فرغانة أيضا إلى آخر الجزء شرقا وكلّ بلاد التّرك تحوزها جبال البتم إلى شمالها وفي الجزء التّاسع من غربة أرض التّبت إلى وسط الجزء وفي جنوبيّها بلاد الهند وفي شرقيّها بلاد الصّين إلى آخر الجزء وفي أسفل هذا الجزء شمالا عن بلاد التّبت بلاد الخزلجيّة من بلاد التّرك إلى آخر الجزء شرقا وشمالا ويتّصل بها من غربيّها أرض فرغانة أيضا إلى آخر الجزء شرقا ومن شرقيّها أرض التّغرغر من التّرك إلى الجزء شرقا وشمالا. وفي الجزء العاشر في الجنوب منه جميعا بقيّة الصّين وأسافله وفي الشّمال بقيّة بلاد التّغرغر ثمّ شرقا عنهم بلاد خرخير من التّرك أيضا إلى آخر الجزء شرقا وفي الشّمال من أرض خرخير بلاد كتمان من التّرك وقبالتها في البحر المحيط جزيرة الياقوت في وسط جبل مستدير لا منفذ منه إليها ولا مسلك والصّعود إلى أعلاه من خارجة صعب في الغاية وفي الجزيرة حيّات قتّالة وحصى من الياقوت كثيرة فيحتال أهل تلك النّاحية بما يلهمهم الله إليه وأهل هذه البلاد في هذا الجزء التّاسع والعاشر فيما وراء خراسان والجبال كلّها مجالات للتّرك أمم لا تحصى وهم ظواعن رحّالة أهل إبل وشاء وبقر وخيل للنّتاج والرّكوب والأكل وطوائفهم كثيرة لا يحصيهم إلّا خالقهم وفيهم مسلمون ممّا يلي بلاد النّهر نهر جيحون ويغزون الكفّار منهم الدّائنين [1] بالمجوسيّة فيبيعون رقيقهم لمن يليهم ويخرجون إلى بلاد خراسان والهند والعراق الإقليم الرّابع: يتّصل بالثّالث من جهة الشّمال. والجزء الأوّل منه في غربيّه   [1] الذين يدينون بالمجوسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قطعة من البحر المحيط مستطيلة من أوّله جنوبا إلى آخره شمالا وعليها في الجنوب مدينة طنجة ومن هذه القطعة تحت طنجة من البحر المحيط إلى البحر الرّوميّ في خليج متضايق بمقدار اثني عشر ميلا ما بين طريف والجزيرة الخضراء شمالا وقصر المجاز وسبتة جنوبا ويذهب مشرّقا إلى أن ينتهي إلى وسط الجزء الخامس من هذا الإقليم وينفسح في ذهابه بتدريج إلى أن يغمر الأربعة الأجزاء وأكثر الخامس من هذا الإقليم الثّالث والخامس كما سنذكره ويسمّى هذا البحر البحر الشّاميّ أيضا وفيه جزائر كثيرة أعظمها في جهة الغرب يابسة ثمّ مايرقة ثمّ منرقة ثمّ سردانيّة ثمّ صقلّيّة وهي أعظمها ثمّ بلونس ثمّ أقريطش ثمّ قبرص كما نذكرها كلّها في أجزائها الّتي وقعت فيها ويخرج من هذا البحر الرّوميّ عند آخر الجزء الثّالث منه وفي الجزء الثّالث من الإقليم الخامس خليج البنادقة يذهب إلى ناحية الشّمال ثمّ ينعطف عند وسط الجزء من جوفه ويمرّ مغرّبا إلى أن ينتهي في الجزء الثّاني من الخامس ويخرج منه أيضا في آخر الجزء الرّابع شرقا من الإقليم الخامس خليج القسطنطينيّة يمرّ في الشّمال متضايقا في عرض رمية السّهم إلى آخر الإقليم ثمّ يفضي إلى الجزء الرّابع من الإقليم السّادس وينعطف إلى بحر نيطش ذاهبا إلى الشّرق في الجزء الخامس كلّه ونصف السّادس من الإقليم السّادس كما نذكر ذلك في أماكنه وعند ما يخرج هذا البحر الرّوميّ من البحر المحيط في خليج طنجة وينفسح إلى الإقليم الثّالث. يبقى في الجنوب عن الخليج قطعة صغيرة من هذا الجزء فيها مدينة طنجة على مجمع البحرين وبعدها مدينة سبتة على البحر الرّوميّ ثمّ قطاون ثمّ باديس ثمّ يغمر هذا البحر بقيّة هذا الجزء شرقا ويخرج إلى الثّالث وأكثر العمارة في هذا الجزء في شماله وشمال الخليج منه وهي كلّها بلاد الأندلس الغربيّة منها ما بين البحر المحيط والبحر الرّوميّ أوّلها طريف عند مجمع البحرين وفي الشّرق منها على ساحل البحر الرّوميّ الجزيرة الخضراء ثمّ مالقة ثمّ المنقب [1] ثمّ المرية وتحت هذه من لدن البحر المحيط غربا   [1] وفي بعض النسخ المنكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وعلى مقربة منه شريش ثمّ لبلة وقبالتها فيه جزيرة قادس وفي الشّرق عن شريش ولبلة إشبيليّة ثمّ أستجة وقرطبة ومديلة ثمّ غرناطة وجيّان وأبّدة ثمّ وادياش وبسطة وتحت هذه شنت مريّة وشلب على البحر المحيط غربا وفي الشّرق عنهما بطليوس وماردة ويابرة ثمّ غافق وبزجالة ثمّ قلعة رياح وتحت هذه أشبونة على البحر المحيط غربا وعلى نهر باجة وفي الشّرق عنها شنترين وموزيّة على النّهر المذكور ثمّ قنطرة السّيف ويسامت اشبونة من جهة الشّرق جبل الشّارات يبدأ من المغرب هنالك ويذهب مشرّقا مع آخر الجزء من شماليّه فينتهي إلى مدينة سالم فيما بعد النّصف منه وتحت هذا الجبل طلبيرة في الشّرق من فورنة ثمّ طليطلة ثمّ وادي الحجارة ثمّ مدينة سالم وعند أوّل هذا الجبل فيما بينه وبين أشبونة بلد قلمريّة وهذه غربيّ الأندلس. وأمّا شرقيّ الأندلس فعلى ساحل البحر الرّوميّ منها بعد المرية قرطاجنّة ثمّ لفتة ثمّ دانية ثمّ بلنسية إلى طرطوشة آخر الجزء في الشّرق، وتحتها شمالا ليورقة وشقّورة تتاخمان بسطة وقلعة رياح من غرب الأندلس ثمّ مرسية شرقا ثمّ شاطبة تحت بلنسية شمالا ثمّ شقر ثمّ طرطوشة ثمّ طركونة آخر الجزء ثمّ تحت هذه شمالا أرض منجالة وريدة متاخمان لشقّورة وطليطلة من الغرب ثمّ أفراغة شرقا تحت طرطوشة وشمالا عنها ثمّ في الشّرق عن مدينة سالم قلعة أيّوب ثمّ سرقسطة ثمّ لاردة [1] آخر الجزء شرقا وشمالا. والجزء الثّاني من هذا الإقليم غمر الماء جميعه إلّا قطعة من غربيّه في الشّمال فيها بقيّة جبل البرنات ومعناه جبل الثّنايا والسّالك يخرج إليه من آخر الجزء الأوّل من الإقليم الخامس يبدأ من الطّرف المنتهي من البحر المحيط عند آخر ذلك الجزء جنوبا وشرقا ويمرّ في الجنوب بانحراف إلى الشّرق فيخرج في هذا الإقليم الرّابع منحرفا عن الجزء الأوّل منه إلى هذا الجزء الثّاني فيقع فيه قطعة منه تفضي ثناياها إلى البرّ المتّصل وتسمّى أرض غشكونيّة وفيه مدينة خريدة وقرقشونة وعلى ساحل البحر الرّوميّ من هذه القطعة مدينة برشلونة ثمّ أربونة وفي هذا البحر الّذي غمر   [1] هكذا في معجم البلدان وفي نسخة لجنة البيان العربيّ لارادة وهو تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الجزء جزائر كثيرة والكثير منها غير مسكون لصغرها ففي غربيّه جزيرة سردانيّة [1] وفي شرقيّه جزيرة صقلّيّة متّسعة الأقطار يقال إنّ دورها سبعمائة ميل وبها مدن كثيرة من مشاهيرها سرقوسة وبلرم وطرابغة ومازر ومسيني وهذه الجزيرة تقابل أرض إفريقية وفيما بينهما جزيرة أعدوش ومالطة. والجزء الثّالث من هذا الإقليم مغمور أيضا بالبحر إلّا ثلاث قطع من ناحية الشّمال الغربيّة منها أرض قلوريّة والوسطى من أرض أبكيردة والشّرقيّة من بلاد البنادقة. والجزء الرّابع من هذا الإقليم مغمور أيضا بالبحر كما مرّ وجزائره كثيرة وأكثرها غير مسكون كما في الثّالث والمغمور منها جزيرة بلونس في النّاحية الغربيّة الشّماليّة وجزيرة أقريطش مستطيلة من وسط الجزء إلى ما بين الجنوب والشرق منه. والجزء الخامس من هذا الإقليم غمر البحر منه مثلّثة كبيرة بين الجنوب والغرب ينتهي الضّلع الغربيّ منها إلى آخر الجزء في الشّمال وينتهي الضّلع الجنوبيّ منها إلى نحو الثّلثين من الجزء ويبقى في الجانب الشّرقيّ من الجزء قطعة نحو الثّلث يمرّ الشّمالي منها إلى الغرب منعطفا مع البحر كما قلناه وفي النّصف الجنوبيّ منها أسافل الشّام ويمرّ في وسطها جبل اللّكام إلى أن ينتهي إلى آخر الشّام في الشّمال فينعطف من هنالك ذاهبا إلى القطر الشّرقيّ الشّماليّ ويسمّى بعد انعطافه جبل السّلسلة ومن هنالك يخرج إلى الإقليم الخامس ويجوز من عند منعطفه قطعة من بلاد الجزيرة إلى جهة الشّرق ويقوم من عند منعطفه من جهة المغرب جبال متّصلة بعضها ببعض إلى أن ينتهي إلى طرف خارج من البحر الرّوميّ متأخّر إلى آخر الجزء من الشّمال وبين هذه الجبال ثنايا تسمّى الدّروب وهي الّتي تفضي إلى بلاد الأرمن وفي هذا الجزء قطعة منها بين هذه الجبال وبين جبل السّلسلة فأمّا الجهة الجنوبيّة الّتي قدّمنا أنّ فيها أسافل الشّام وأنّ جبل اللّكام معترض فيها بين البحر الرّوميّ وآخر الجزء من الجنوب إلى الشّمال فعلى ساحل   [1] أي سردينية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 البحر بلد أنطرطوس [1] في أوّل الجزء من الجنوب متاخمة لغزّة وطرابلس على ساحله من الإقليم الثّالث وفي شمال أنطرطوس جبلة ثمّ اللّاذقيّة ثمّ إسكندرونة ثمّ سلوقيّة وبعدها شمالا بلاد الرّوم وأمّا جبل اللّكام المعترض بين البحر وآخر الجزء بحافاته فيصاقبه من بلاد الشّام من أعلى الجزء جنوبا من غربيّه حصن الحواني وهو للحشيشة [2] الإسماعيليّة ويعرفون لهذا العهد بالفداويّة ويسمّى مصيات [3] وهو قبالة أنطرطوس وقبالة هذا الحصن في شرق الجبل بلد سلميّة [4] في الشّمال عن حمص وفي الشّمال وفي مصيات بين الجبل والبحر بلد أنطاكية ويقابلها في شرق الجبل المعرّة وفي شرقها المراغة وفي شمال أنطاكية المصيصة ثمّ أذنة ثمّ طرسوس آخر الشّام ويحاذيها من غرب الجبل قنّسرين ثمّ عين زربة [5] وقبالة قنّسرين في شرق الجبل حلب ويقابل عين زربة منبج آخر الشّام. وأمّا الذروب فعن يمينها ما بينها وبين البحر الرّوميّ بلاد الرّوم الّتي هي لهذا العهد للتّركمان وسلطانها ابن عثمان وفي ساحل البحر منها بلد أنطاكية والعلايا. وأمّا بلاد الأرمن الّتي بين جبل الدّروب وجبل السّلسلة ففيها بلد مرعش وملطية والمعرّة إلى آخر الجزء الشّماليّ ويخرج من الجزء الخامس في بلاد الأرمن نهر جيحان ونهر سيحان في شرقيّه فيمرّ بها جيحان جنوبا حتّى يتجاوز الدّروب ثمّ يمرّ بطرسوس ثمّ بالمصيصة ثمّ ينعطف هابطا إلى الشّمال ومغرّبا حتّى يصبّ في البحر الرّوميّ جنوب سلوقيّة ويمرّ نهر سيحان موازيا لنهر جيحان فيحاذي المعرّة ومرعش ويتجاوز جبال الدّروب إلى أرض الشّام ثمّ يمرّ بعين زربة ويحوز عن نهر جيحان ثمّ ينعطف إلى الشّمال مغرّبا فيختلط بنهر جيحان عند المصيصة   [1] أي طرطوس. [2] أظن أنه يعني الحشاشون الإسماعيلية. [3] ورد ذكرها في معجم البلدان مصياب أو مصياف كما تعرف اليوم أما مصيات فهي محرفة. [4] كذا ذكرها ياقوت بياء مفتوحة غير مشددة وتعرف في أنحاء بلاد الشام بياء مشددة وفتح اللام وتسكين الميم. [5] ذكرها ياقوت «عين زربى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ومن غربها وأمّا بلاد الجزيرة الّتي يحيط بها منعطف جبل اللّكام إلى جبل السّلسلة ففي جنوبها الرّافضة والرّقّة ثمّ حرّان ثمّ سروج والرّها ثمّ نصيبين ثمّ سميساط وآمد تحت جبل السّلسلة وآخر الجزء من شماله وهو أيضا آخر الجزء من شرقيّه ويمرّ في وسط هذه القطعة نهر الفرات ونهر دجلة يخرجان من الإقليم الخامس ويمرّان في بلاد الأرمن جنوبا إلى أن يتجاوزا جبل السلسلة فيمرّ نهر الفرات من غربيّ سميساط وسروج وينحرف إلى الشّرق فيمرّ بقرب الرّافضة والرّقّة ويخرج إلى الجزء السّادس ويمرّ دجلة في شرق آمد وينعطف قريبا إلى الشّرق فيخرج قريبا إلى الجزء السّادس وفي الجزء السّادس من هذا الإقليم من غربيّه بلاد الجزيرة وفي الشّرق منها بلاد العراق متّصلة بها تنتهي في الشّرق إلى قرب آخر الجزء ويعترض من آخر العراق هنالك جبل أصبهان هابطا من جنوب الجزء منحرفا إلى الغرب فإذا انتهى إلى وسط الجزء من آخره في الشّمال يذهب مغرّبا إلى أن يخرج من الجزء السّادس ويتّصل على سمته بجبل السّلسلة في الجزء الخامس فينقطع هذا الجزء السّادس بقطعتين غربيّة وشرقيّة ففي الغربيّة من جنوبيّها مخرج الفرات من الخامس وفي شماليّها مخرج دجلة منه أمّا الفرات فأوّل ما يخرج إلى السّادس يمرّ بقرقيسياء ويخرج من هنالك جدول إلى الشّمال ينساب في أرض الجزيرة ويغوص في نواحيها ويمرّ من قرقيسيا غير بعيد ثمّ ينعطف إلى الجنوب فيمرّ بقرب الخابور إلى غرب الرّحبة ويخرج منه جداول من هنالك يمرّ جنوبا ويبقى صفّين في غربيّه ثمّ ينعطف شرقا وينقسم بشعوب فيمرّ بعضها بالكوفة وبعضها بقصر ابن هبيرة وبالجامعين وتخرج جميعا في جنوب الجزء إلى الإقليم الثّالث فيغوص هنالك في شرق الحيرة والقادسيّة ويخرج الفرات من الرّحبة مشرّقا على سمته إلى هيت من شمالها يمرّ إلى الزّاب والأنبار من جنوبهما ثمّ يصبّ في دجلة عند بغداد. وأمّا نهر دجلة فإذا دخل من الجزء الخامس إلى هذا الجزء يمرّ بجزيرة ابن عمر على شمالها ثمّ بالموصل كذلك وتكريت وينتهي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الحديثة فينعطف جنوبا وتبقى الحديثة في شرقه والزّاب الكبير والصّغير كذلك ويمرّ على سمته جنوبا وفي غرب القادسيّة إلى أن ينتهي إلى بغداد ويختلط بالفرات ثمّ يمرّ جنوبا على غرب جرجرايا إلى أن يخرج من الجزء إلى الإقليم الثّالث فتنتشر هنالك شعوبه وجداوله ثمّ يجتمع ويصبّ هنالك في بحر فارس عند عبّادان وفيما بين نهر دجلة والفرات قبل مجمعهما ببغداد هي بلاد الجزيرة ويختلط بنهر دجلة بعد مفارقته ببغداد نهر آخر يأتي من الجهة الشّرقيّة الشّماليّة منه وينتهي إلى بلاد النّهروان قبالة بغداد شرقا ثمّ ينعطف جنوبا ويختلط بدجلة قبل خروجه إلى الإقليم الثّالث ويبقى ما بين هذا النّهر وبين جبل العراق والأعاجم بلد جلولاء وفي شرقها عند الجبل بلد حلوان وصيمرة [1] . وأمّا القطعة الغربيّة من الجزء فيعترضها جبل يبدأ من جبل الأعاجم مشرّقا إلى آخر الجزء ويسمّى جبل شهرزور ويقسمها بقطعتين في الجنوب من هذه القطعة الصّغرى بلد خونجان من الغرب والشّمال عن أصبهان وتسمّى هذه القطعة بلد الهلوس وفي وسطها بلد نهاوند وفي شمالها بلد شهرزور غربا عند ملتقى الجبلين والدّينور شرقا عند آخر الجزء وفي القطعة الصّغرى الثّانية من بلاد أرمينيّة قاعدتها المراغة والّذي يقابلها من جبل العراق يسمّى باريا وهو مساكن للأكراد والزّاب الكبير والصّغير الّذي على دجلة من ورائه وفي آخر هذه القطعة من جهة الشّرق بلاد أذربيجان ومنها تبريز والبيدقان وفي الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة من هذا الجزء قطعة من بحر نيطش وهو بحر الخزر وفي الجزء السّابع من هذا الإقليم من غربة وجنوبه معظم بلاد الهلوس وفيها همذان وقزوين وبقيّتها في الإقليم الثّالث وفيها هنالك أصبهان ويحيط بها من الجنوب جبل يخرج من غربها ويمرّ بالإقليم الثّالث ثمّ ينعطف من الجزء السّادس إلى الإقليم الرّابع ويتّصل بجبل العراق في شرقيّه الّذي مرّ ذكره هنالك وإنّه محيط ببلاد الهلوس في القطعة الشّرقيّة ويهبط   [1] ورد في بعض النسخ صميرة وهو تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 هذا الجبل المحيط بأصبهان من الإقليم الثّالث إلى جهة الشّمال ويخرج إلى هذا الجزء السّابع فيحيط ببلاد الهلوس من شرقها وتحته هنالك قاشان ثمّ قم وينعطف في قرب النّصف من طريقه مغرّبا بعض الشّيء ثمّ يرجع مستديرا فيذهب مشرّقا ومنحرفا إلى الشّمال حتّى يخرج إلى الإقليم الخامس ويشتمل على منعطفه واستدارته على بلد الرّيّ في شرقيّه ويبدأ من منعطفه جبل آخر يمرّ غربا إلى آخر هذا الجزء ومن جنوبه من هنالك قزوين ومن جانبه الشّماليّ وجانب جبل الرّيّ المتّصل معه ذاهبا إلى الشّرق والشّمال إلى وسط الجزء ثمّ إلى الإقليم الخامس بلاد طبرستان فيما بين هذه الجبال وبين قطعة من بحر طبرستان ويدخل من الإقليم الخامس في هذا الجزء في نحو النّصف من غربة إلى شرقه ويعترض عند جبل الرّيّ وعند انعطافه إلى الغرب جبل متّصل يمرّ على سمته مشرّقا وبانحراف قليل إلى الجنوب حتّى يدخل في الجزء الثّامن من غربة ويبقى بين جبل الرّيّ وهذا الجبل من عند مبدئهما بلاد جرجان فيما بين الجبلين ومنها بسطام ووراء هذا الجبل قطعة من هذا الجزء فيها بقيّة المفازة الّتي بين فارس وخراسان وهي في شرقيّ قاشان وفي آخرها عند هذا الجبل بلد أستراباذ وحافات هذا الجبل من شرقيّه إلى آخر الجزء بلاد نيسابور من خراسان ففي جنوب الجبل وشرق المفازة بلد نيسابور ثمّ مرو الشّاهجان آخر الجزء وفي شماله وشرقيّ جرجان بلد مهرجان وخازرون وطوس آخر الجزء شرقا وكلّ هذا تحت الجبل وفي الشّمال عنها بلاد نسا ويحيط بها عند زاوية الجزئين الشّمال والشّرق مفاوز معطّلة. وفي الجزء الثّامن من هذا الإقليم وفي غربيّه نهر جيحون ذاهبا من الجنوب إلى الشمال ففي عدوته الغربيّة رمم [1] وآمل من بلاد خراسان والظّاهريّة والجرجانيّة من بلاد خوارزم ويحيط بالزّاوية الغربيّة الجنوبيّة منه جبل أستراباذ المعترض في الجزء السّابع   [1] في بعض النسخ رمّ بفتح أوله وتشديد ثانيه، جمع رموم ومعناها محال الأكراد ومنازلهم. بلغة أهل فارس. وهي مواضع بفارس (معجم البلدان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قبله ويخرج في هذا الجزء من غربيّه ويحيط بهذه الزّاوية وفيها بقيّة بلاد هراة والجوزخان حتّى يتّصل بجبل البتّم كما ذكرناه هنالك وفي شرقيّ نهر جيحون من هذا الجزء وفي الجنوب منه بلاد بخارى ثمّ بلاد الصّغد وقاعدتها سمرقند ثمّ سردارا وأشنه [1] ومنها خجندة آخر الجزء شرقا وفي الشّمال عن سمرقند وسردار وأشنه أرض إيلاق [2] ثمّ في الشّمال عن إيلاق أرض الشّاش إلى آخر الجزء شرقا ويأخذ قطعة من الجزء التّاسع في جنوب تلك القطعة بقيّة أرض فرغانة ويخرج من تلك القطعة الّتي في الجزء التّاسع نهر الشّاش يمرّ معترضا في الجزء الثّامن إلى أن ينصبّ في نهر جيحون عند مخرجه من هذا الجزء الثّامن في شماله إلى الإقليم الخامس ويختلط معه في أرض إيلاق نهر يأتي من الجزء التّاسع من الإقليم الثّالث من تخوم بلاد التّبّت ويختلط معه قبل مخرجه من الجزء التّاسع نهر فرغانة وعلى سمت نهر الشّاش جبل جبراغون يبدأ من الإقليم الخامس وينعطف شرقا ومنحرفا إلى الجنوب حتّى يخرج إلى الجزء التّاسع محيطا بأرض الشّاش ثمّ ينعطف في الجزء التّاسع فيحيط بالشّاش وفرغانة هناك إلى جنوبه فيدخل في الإقليم الثّالث وبين نهر الشّاش وطرف هذا الجبل في وسط هذا الجزء بلاد فاراب وبينه وبين أرض بخارى وخوارزم مفاوز معطّلة وفي زاوية هذا الجزء من الشّمال والشّرق أرض خجندة وفيها بلد إسبيجاب وطراز. وفي الجزء التّاسع من هذا الإقليم في غربيّه بعد أرض فرغانة والشّاش أرض الخزلجيّة في الجنوب وأرض الخليجة في الشّمال وفي شرق الجزء كلّه أرض الكيماكيّة ويتّصل في الجزء العاشر كلّه إلى جبل قوقيا آخر الجزء شرقا وعلى قطعة من البحر المحيط هنالك وهو جبل يأجوج ومأجوج وهذه الأمم كلّها من شعوب الترك. انتهى. الإقليم الخامس: الجزء الأوّل منه أكثره مغمور بالماء إلّا قليلا من جنوبه   [1] في بعض النسخ اسروشنة وفي معجم البلدان: اشروسنة. [2] في المشترك إقليم إيلاق متصل بإقليم الشاش لا فصل بينهما وهو بكسر الهمزة وسكون الياء بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وشرقه لأنّ البحر المحيط بهذه الجهة الغربيّة دخل في الإقليم الخامس والسّادس والسّابع عن الدّائرة المحيطة بالإقليم فأمّا المنكشف من جنوبه فقطعة على شكل مثلّث متّصلة من هنالك بالأندلس وعليها بقيّتها ويحيط بها البحر من جهتين كأنّهما ضلعان محيطان بزاوية المثلّث ففيها من بقيّة غرب الأندلس سعيور على البحر عند أوّل الجزء من الجنوب والغرب وسلمنكة شرقا عنها وفي جوفها سمّورة وفي الشّرق عن سلمنكة أيّلة آخر الجنوب وأرض قستالية [1] شرقا عنها وفيها مدينة شقّونيّة وفي شمالها أرض ليون وبرغشت [2] ثمّ وراءها في الشّمال أرض جليقيّة إلى زاوية القطعة وفيها على البحر المحيط في آخر الضّلع الغربيّ بلد شننياقو ومعناه يعقوب وفيها من شرق بلاد الأندلس مدينة شطلّية عند آخر الجزء في الجنوب وشرقا عن قستالية وفي شمالها وشرقها وشقة وبنبلونة على سمتها شرقا وشمالا وفي غرب بنبلونة قشتالة ثمّ ناجزة فيما بينها وبين برغشت ويعترض وسط هذه القطعة جبل عظيم محاذ للبحر وللضّلع الشّماليّ الشّرقيّ منه وعلى قرب ويتّصل به وبطرف البحر عند بنبلونة في جهة الشّرق الّذي ذكرنا من قبل أن يتّصل في الجنوب بالبحر الرّوميّ في الإقليم الرّابع ويصير حجرا [3] على بلاد الأندلس من جهة الشّرق وثناياه لها أبواب تفضي إلى بلاد غشكونيّة من أمم الفرنج فمنها من الإقليم الرّابع برشلونة وأربونة على ساحل البحر الرّوميّ وخريدة وقرقشونة وراءهما في الشّمال ومنها من الإقليم الخامس طلّوشة شمالا عن خريدة. وأمّا المنكشف في هذا الجزء من جهة الشّرق فقطعة على شكل مثلّث مستطيل زاويته الحادّة وراء البرنات شرقا وفيها على البحر المحيط على رأس القطعة الّتي يتّصل بها جبل البرنات بلد نيونة وفي آخر هذه القطعة في النّاحية الشّرقيّة الشّماليّة من الجزء أرض بنطو من الفرنج إلى آخر الجزء. وفي الجزء الثّاني من النّاحية الغربيّة   [1] قشتالة. [2] برغش (معجم البلدان) . [3] يصير مانعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 منه أرض غشكونيّة وفي شمالها أرض بنطو وبرغشت وقد ذكرناهما وفي شرق بلاد غشكونيّة في شمالها قطعة أرض من البحر الرّوميّ دخلت في هذا الجزء كالضّرس مائلة إلى الشّرق قليلا وصارت بلاد غشكونيّة في غربها داخلة في جون من البحر وعلى رأس هذه القطعة شمالا بلاد جنوة وعلى سمتها في الشّمال جبل نيت جون وفي شماله وعلى سمته أرض برغونة وفي الشّرق عن طرف جنوة الخارج من البحر الرّوميّ طرف آخر خارج منه يبقى بينهما جون داخل من البرّ في البحر في غربيّه نيش وفي شرقيّه مدينة رومة العظمى كرسيّ ملك الإفرنجة ومسكن البابا بطركهم الأعظم وفيها من المباني الضّخمة والهياكل الهائلة والكنائس العاديّة [1] ما هو معروف الأخبار ومن عجائبها النّهر الجاري في وسطها من المشرق إلى المغرب مفروش قاعه ببلاط النّحاس وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريّين وهما مدفونان بها وفي الشّمال عن بلاد رومة بلاد أقرنصيصة إلى آخر الجزء، وعلى هذا الطّرف من البحر الّذي في جنوبه رومة بلاد نابل [2] في الجانب الشّرقيّ منه متّصلة ببلد قلوريّة من بلاد الفرنج وفي شمالها طرف من خليج البنادقة دخل في هذا الجزء من الجزء الثّالث مغرّبا ومحاذيا للشّمال من هذا الجزء وانتهى إلى نحو الثّلث منه وعليه كثير من بلاد البنادقة دخل في هذا الجزء من جنوبه فيما بينه وبين البحر المحيط ومن شماله بلاد إنكلاية في الإقليم السّادس. وفي الجزء الثّالث من هذا الإقليم في غربيّه بلاد قلوريّة بين خليج البنادقة والبحر الرّوميّ يحيط بها من شرقيّه يصل من برّها في الإقليم الرّابع في البحر الرّوميّ في جون بين طرفين خرجا من البحر على سمت الشّمال إلى هذا الجزء في شرقيّ بلاد قلوريّة بلاد أنكبردة في جون بين خليج البنادقة والبحر الرّوميّ ويدخل طرف من هذا الجزء في الجون في الإقليم الرّابع وفي البحر الرّوميّ ويحيط به من شرقيّه   [1] نسبة إلى عاد. [2] نابولي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 خليج البنادقة من البحر الرّوميّ ذاهبا إلى سمت الشّمال ثمّ ينعطف إلى الغرب محاذيا لآخر الجزء الشّماليّ ويخرج على سمته من الإقليم الرّابع جبل عظيم يؤازيه ويذهب معه إلى الشّمال ثمّ يغرّب معه في الإقليم السّادس إلى أن ينتهي قبالة خليج في شماليّه في بلاد إنكلاية من أمم اللّمانيّين كما نذكر وعلى هذا الخليج وبينه وبين هذا الجبل ما داما ذاهبين إلى الشّمال بلاد البنادقة فإذا ذهبا إلى المغرب فبينهما بلاد حروايا ثمّ بلاد الألمانيّين عند طرف الخليج. وفي الجزء الرّابع من هذا الإقليم قطعة من البحر الرّوميّ خرجت إليه من الإقليم الرّابع مضرّسة كلّها بقطع من البحر ويخرج منها إلى الشّمال وبين كلّ ضرسين منها طرف من البحر في الجون بينهما وفي آخر الجزء شرقا قطع من البحر ويخرج منها إلى الشّمال خليج القسطنطينيّة يخرج من هذا الطّرف الجنوبيّ ويذهب على سمت الشّمال خليج القسطنطينيّة يخرج من هذا الطّرف الجنوبيّ ويذهب على سمت الشّمال إلى أن يدخل في الإقليم السّادس وينعطف من هنالك عن قرب مشرّقا إلى بحر نيطش في الجزء الخامس وبعض الرّابع قبله والسّادس بعده من الإقليم السّادس كما نذكر وبلد القسطنطينيّة في شرقيّ هذا الخليج عند آخر الجزء من الشّمال وهي المدينة العظيمة الّتي كانت كرسيّ القياصرة وبها من آثار البناء والضّخامة ما كثرت عنه الأحاديث والقطعة الّتي ما بين البحر الرّوميّ وخليج القسطنطينيّة من هذا الجزء وفيها بلاد مقدونيّة الّتي كانت لليونايّين ومنها ابتداء ملكهم وفي شرقيّ هذا الخليج إلى آخر الجزء قطعة من أرض باطوس وأظنّها لهذا العهد مجالات للتّركمان وبها ملك ابن عثمان وقاعدته بها بورصة وكانت من قبلهم للرّوم وغلبهم عليها الأمم إلى أن صارت للتّركمان. وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم من غربيّه وجنوبيّه أرض باطوس وفي الشّمال عنها إلى آخر الجزء بلاد عمّوريّة وفي شرقيّ عمّورية نهر قباقب الّذي يمدّ الفرات ويخرج من جبل هنالك ويذهب في الجنوب حتّى يخالط الفرات قبل وصوله من هذا الجزء إلى ممرّه في الإقليم الرّابع وهنالك في غربيّه آخر الجزء في مبدإ نهر سيحان ثمّ نهر جيحان غربيّه الذّاهبين على سمته وقد مرّ ذكرهما وفي شرقه هنالك مبدأ نهر دجلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الذّاهب على سمته وفي موازاته حتّى يخالطه عند بغداد وفي الزّاوية الّتي بين الجنوب والشّرق من هذا الجزء وراء الجبل الّذي يبدأ منه نهر دجلة بلد ميّافارقين ونهر قباقب الّذي ذكرناه يقسم هذا الجزء بقطعتين إحداهما غربيّة جنوبيّة وفيها أرض باطوس كما قلناه وأسافلها إلى آخر الجزء شمالا ووراء الجبل الّذي يبدأ منه نهر قباقب أرض عمّورية كما قلناه والقطعة الثّانية شرقيّة شماليّة على الثّلث في الجنوب منها مبدأ دجلة والفرات وفي الشّمال بلاد البيلقان متّصلة بأرض عمّوريّة من وراء جبل قباقب وهي عريضة وفي آخرها عند مبدإ الفرات بلد خرشنة وفي الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة قطعة من بحر نيطش الّذي يمدّه خليج القسطنطينيّة. وفي الجزء السّادس من هذا الإقليم في جنوبه وغربة بلاد أرمينيّة متّصلة إلى أن يتجاوز وسط الجزء إلى جانب الشّرق وفيها بلدان أردنّ في الجنوب والغرب وفي شمالها تفليس ودبيل وفي شرق أردنّ مدينة خلاط ثمّ بردعة في جنوبها بانحراف إلى الشّرق مدينة أرمينيّة ومن هنالك مخرج بلاد أرمينيّة إلى الإقليم الرّابع وفيها هنالك بلد المراغة في شرقيّ جبل الأكراد المسمّى بأرمى وقد مرّ ذكره في الجزء السّادس منه ويتاخم بلاد أرمينيّة في هذا الجزء وفي الإقليم الرّابع قبله من جهة الشّرق فيها بلاد أذربيجان وآخرها في هذا الجزء شرقا بلاد أردبيل على قطعة من بحر طبرستان دخلت في النّاحية الشّرقيّة من الجزء السّابع ويسمّى بحر طبرستان وعليه من شماله في هذا الجزء قطعة من بلاد الخزر وهم التّركمان ويبدأ من عند آخر هذه القطعة البحريّة في الشّمال جبال يتّصل بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخامس فتمرّ فيه منعطفة ومحيطة ببلد ميّافارقين ويخرج إلى الإقليم الرّابع عند آمد ويتّصل بجبل السّلسلة في أسافل الشّام ومن هنالك يتّصل بجبل اللّكام كما مرّ وبين هذه الجبال الشّماليّة في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين ففي جنوبيّها بلاد الأبواب متّصلة في الشرق إلى بحر طبرستان وعليه من هذه البلاد مدينة باب الأبواب وتتّصل بلاد الأبواب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الغرب من ناحية جنوبيّها ببلد أرمينيّة وبينهما في الشّرق وبين بلاد أذربيجان الجنوبيّة بلاد الزّاب [1] متّصلة إلى بحر طبرستان وفي شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة السّرير في الزّاوية الغربيّة الشّماليّة منها وفي زاوية الجزء كلّه قطعة أيضا من بحر نيطش الّذي يمدّه خليج القسطنطينيّة وقد مرّ ذكره ويحفّ بهذه القطعة من نيطش بلاد السّرير وعليها منها بلد أطرابزيدة بزيدة [2] وتتّصل بلاد السّرير بين جبل الأبواب والجهة الشّماليّة من الجزء إلى أن ينتهي شرقا إلى جبل حاجز بينها وبين أرض الخزر وعند آخرها مدينة صول ووراء هذا الجبل الحاجز قطعة من أرض الخزر تنتهي إلى الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة من هذا الجزء من بحر طبرستان وآخر الجزء شمالا. والجزء السّابع من هذا الإقليم غربيّه كله مغمور ببحر طبرستان وخرج من جنوبه في الإقليم الرّابع القطعة الّتي ذكرنا هنالك أنّ عليها بلاد طبرستان وجبال الدّيلم إلى قزوين وفي غربيّ تلك القطعة متّصلة بها القطعة الّتي في الجزء السّادس من الإقليم الرّابع ويتّصل بها من شمالها القطعة الّتي في الجزء السّادس من شرقه أيضا وينكشف من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشّماليّة الغربيّة يصبّ فيها نهر أثل [3] في هذا البحر ويبقى من هذا الجزء في ناحية الشّرق قطعة منكشفة من البحر هي مجالات للغزّ من أمم التّرك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثّامن ويذهب في الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشّمال إلى أن يلاقي بحر طبرستان فيحتفّ به ذاهبا معه إلى بقيّته في الإقليم السّادس ثمّ ينعطف مع طرفه ويفارقه ويسمّى هنالك جبل سياه ويذهب مغرّبا إلى الجزء السّادس من الإقليم السّادس ثمّ يرجع جنوبا إلى الجزء السّادس من الإقليم الخامس وهذا الطّرف منه وهو الّذي اعترض في هذا الجزء بين   [1] لا بد أن الزاب محرفة فالزاب تقع في الجزائر ولا صلة لها بالمنطقة التي يتكلم عنها ابن خلدون. [2] كذا في جميع النسخ وفي معجم البلدان. أما اليوم فتسمى طرابزون. [3] هو نهر أورال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أرض السّرير وأرض الخزر واتّصلت بأرض الخزر في الجزء السّادس والسّابع حافات هذا الجبل المسمّى جبل سياه كما سيأتي. والجزء الثّامن من هذا الإقليم الخامس كلّه مجالات للغزّ من أمم التّرك وفي الجهة الجنوبيّة الغربيّة منه بحيرة خوارزم الّتي يصبّ فيها نهر جيحون دورها ثلاثمائة ميل ويصبّ فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات وفي الجهة الشّماليّة الشّرقيّة منه بحيرة عرعون دورها أربعمائة ميل وماؤها حلو وفي النّاحية الشّماليّة من هذا الجزء جبل مرغار ومعناه جبل الثّلج لأنّه لا يذوب فيه وهو متّصل بآخر الجزء وفي الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من الحجر الصّلد لا ينبت شيئا يسمّى عرعون وبه سمّيت البحيرة وينجلب منه ومن جبل مرغار شماليّ البحيرة أنهار لا تنحصر عدّتها فتصبّ فيها من الجانبين. وفي الجزء التّاسع من هذا الإقليم بلاد أركس من أمم التّرك في غرب بلاد الغزّ وشرق بلاد الكيماكيّة ويحفّ به من جهة الشّرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج يعترض هنالك من الجنوب إلى الشّمال حتّى ينعطف أوّل دخوله من الجزء العاشر وقد كان دخل إليه من آخر الجزء العاشر من الإقليم الرّابع قبله واحتفّ هنالك بالبحر المحيط إلى آخر الجزء في الشّمال ثمّ انعطف مغرّبا في الجزء العاشر من الإقليم الرّابع إلى ما دون نصفه وأحاط من أوّله إلى هنا ببلاد الكيماكيّة ثمّ خرج إلى الجزء العاشر من الإقليم الخامس فذهب فيه مغرّبا إلى آخره وبقيت في جنوبيّه من هذا الجزء قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكيّة ثمّ خرج إلى الجزء التّاسع في شرقيّه وفي الأعلى منه وانعطف قريبا إلى الشّمال وذهب على سمته إلى الجزء التّاسع من الإقليم السّادس وفيه السّدّ هنالك كما نذكره وبقيت منه القطعة الّتي أحاط بها جبل قوقيا عند الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة من هذا الجزء مستطيلة إلى الجنوب وهي من بلاد يأجوج ومأجوج وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم أرض يأجوج ومأجوج متّصلة فيه كلّه إلّا قطعة من البحر غمرت طرفا في شرقيه من جنوبه إلى شماله إلّا القطعة الّتي يفصلها إلى جهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الجنوب والغرب جبل قوقيا حين مرّ فيه وما سوى ذلك فأرض يأجوج ومأجوج والله سبحانه وتعالى أعلم. الإقليم السّادس. فالجزء الأوّل منه غمر البحر أكثر من نصفه واستدار شرقا مع النّاحية الشّماليّة ثمّ ذهب مع النّاحية الشّرقيّة إلى الجنوب وانتهى قريبا من النّاحية الجنوبيّة فانكشف قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة بين الطّرفين وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة من البحر المحيط كالجون فيه وينفسح طولا وعرضا وهي كلّها أرض بريطانية وفي بابها بين الطّرفين وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة من هذا الجزء بلاد صاقس متّصلة ببلاد بنطو الّتي مرّ ذكرها في الجزء الأوّل والثّاني من الإقليم الخامس. والجزء الثّاني من هذا الإقليم دخل البحر المحيط من غربة وشماله فمن غربة قطعة مستطيلة أكبر من نصفه الشّماليّ من شرق أرض بريطانية في الجزء الأوّل واتّصلت بها القطعة الأخرى في الشّمال من غربة إلى شرقه وانفسحت في النّصف الغربيّ منه بعض الشّيء وفيه هنالك قطعة من جزيرة أنكلترّا وهي جزيرة عظيمة مشتملة على مدن وبها ملك ضخم وبقيّتها في الإقليم السّابع وفي جنوب هذه القطعة وجزيرتها في النّصف الغربيّ من هذا الجزء بلاد أرمندية وبلاد أفلادش متّصلين بها ثمّ بلاد إفرنسية جنوبا وغربا من هذا الجزء وبلاد برغونية شرقا عنها وكلها لأمم الافرنجة وبلاد اللّمانيّين في النّصف الشّرقيّ من الجزء فجنوبه بلاد أنكلاية ثمّ بلاد برغونية شمالا ثمّ أرض لهويكة وشطونية وعلى قطعة البحر المحيط في الزّاوية الشّماليّة الشّرقيّة أرض أفريرة وكلّها لأمم اللّمانيّين. وفي الجزء الثّالث من هذا الإقليم في النّاحية الغربيّة بلاد مراتية في الجنوب وبلاد شطونية في الشّمال وفي النّاحية الشّرقيّة بلاد أنكوّيّة في الجنوب وبلاد بلونيّة في الشّمال يعترض بينهما جبل بلواط داخلا من الجزء الرّابع ويمرّ مغرّبا بانحراف إلى الشّمال إلى أن يقف في بلاد شطونيّة آخر النّصف الغربيّ. وفي الجزء الرّابع في ناحية الجنوب أرض جثوليّة وتحتها في الشّمال بلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الرّوسيّة ويفصل بينهما جبل بلواط من أوّل الجزء غربا إلى أن يقف في النّصف الشّرقيّ وفي شرق أرض جثوليّة بلاد جرمانية وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة أرض القسطنطينيّة ومدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرّوميّ وعند مدفعه في بحر نيطش فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء ويمدّها الخليج وبينهما في الزّاوية بلد مسيناه. وفي الجزء الخامس من الإقليم السّادس ثمّ في النّاحية الجنوبيّة عند بحر نيطش يتّصل من الخليج في آخر الجزء الرّابع ويخرج من سمته مشرّقا فيمرّ في هذا الجزء كلّه وفي بعض السّادس على طول ألف وثلاثمائة ميل من مبدئه في عرض ستّمائة ميل ويبقى وراء هذا البحر في النّاحية الجنوبيّة من هذا الجزء في غربها إلى شرقها برّ مستطيل في غربة هرقليّة على ساحل بحر نيطش متّصلة بأرض البيلقان من الإقليم الخامس وفي شرقه بلاد اللّانيّة وقاعدتها سوتلي على بحر نيطش وفي شمال بحر نيطش في هذا الجزء غربا أرض ترخان وشرقا بلاد الرّوسيّة وكلّها على ساحل هذا البحر وبلاد الرّوسيّة محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السّابع ومن غربها في الجزء الرّابع من هذا الإقليم. وفي الجزء السّادس في غربيّه بقيّة بحر نيطش وينحرف قليلا إلى الشّمال ويبقى بينه هنالك وبين آخر الجزء شمالا بلاد قمانيّة وفي جنوبه منفسحا إلى الشّمال بما انحرف هو كذلك بقيّة بلاد اللّانيّة الّتي كانت آخر جنوبه في الجزء الخامس وفي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء متّصل أرض الخزر وفي شرقها أرض برطاس وفي الزّاوية الشّرقيّة الشّماليّة أرض بلغار وفي الزّاوية الشّرقيّة الجنوبيّة أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سياكوه المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السّابع بعده ويذهب بعد مفارقته مغرّبا فيجوز في هذه القطعة ويدخل إلى الجزء السّادس من الإقليم الخامس فيتّصل هنالك بجبل الأبواب وعليه من هنالك ناحية بلاد الخزر. وفي الجزء السّابع من هذا الإقليم في النّاحية الجنوبيّة ما جازه جبل سياه بعد مفارقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بحر طبرستان وهو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غربا وفي شرقها القطعة من بحر طبرستان الّتي يجوزها هذا الجبل من شرقها وشمالها ووراء جبل سياه في النّاحية الغربيّة الشّماليّة أرض برطاس وفي النّاحية الشّرقيّة من الجزء أرض شحرب ويخناك وهم أمم التّرك. وفي الجزء الثّامن والنّاحية الجنوبيّة منه كلّها أرض الجولخ من التّرك في النّاحية الشّماليّة غربا والأرض المنتنة وشرق الأرض الّتي يقال إنّ يأجوج ومأجوج خرباها قبل بناء السّدّ وفي هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من أعظم أنهار العالم وممرّه في بلاد التّرك ومصبّه في بحر طبرستان في الإقليم الخامس في الجزء السابع منه وهو كثير الانعطاف يخرج من جبل من الأرض المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد ويمرّ على سمت الغرب إلى آخر السّابع من هذا الإقليم فينعطف شمالا إلى الجزء السّابع من الإقليم السّابع فيمرّ في طرفه بين الجنوب والمغرب فيخرج في الجزء السّادس من السّابع ويذهب مغرّبا غير بعيد ثمّ ينعطف ثانية إلى الجنوب ويرجع إلى الجزء السّادس من الإقليم السّادس ويخرج منه جدول يذهب مغرّبا ويصبّ في بحر نيطش في ذلك الجزء ويمرّ هو في قطعة بين الشّمال والشّرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السّابع من الإقليم السّادس ثمّ ينعطف ثالثة إلى الجنوب وينفذ في جبل سياه ويمرّ في بلاد الخزر ويخرج إلى الإقليم الخامس في الجزء السّابع منه فيصبّ هنالك في بحر طبرستان في القطعة الّتي انكشفت من الجزء عند الزّاوية الغربيّة الجنوبيّة. والجزء التّاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربيّ منه بلاد خفشاخ من التّرك وهم قفجاق وبلاد الشّركس منهم أيضا وفي الشّرق منه بلاد يأجوج يفصل بينهما جبل قوقيا المحيط وقد مرّ ذكره يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم الرّابع ويذهب معه إلى آخر الإقليم في الشّمال ويفارقه مغرّبا وبانحراف إلى الشّمال حتّى يدخل في الجزء التّاسع من الإقليم الخامس فيرجع إلى سمته الأوّل حتّى يدخل في هذا الجزء التّاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى المغرب وفي وسطه هاهنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 السّدّ الّذي بناه الإسكندر ثمّ يخرج على سمته إلى الإقليم السّابع وفي الجزء التّاسع منه فيمرّ فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى البحر المحيط في شماله ثمّ ينعطف معه من هنالك مغرّبا إلى الإقليم السّابع إلى الجزء الخامس منه فيتّصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيّه وفي وسط هذا الجزء التّاسع هو السّدّ الّذي بناه الإسكندر كما قلناه والصّحيح من خبره في القرآن وقد ذكر عبد الله بن خرداذبه في كتابه في الجغرافيا أنّ الواثق رأى في منامه كأنّ السّدّ انفتح فانتبه فزعا وبعث سلّاما التّرجمان فوقف عليه وجاء بخبره ووصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجوج متّصلة فيه إلى آخره على قطعة من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه وشماله مستطيلة في الشّمال وعريضة بعض الشّيء في الشّرق. الإقليم السّابع: والبحر المحيط قد غمر عامّته من جهة الشّمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتّصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج. فالجزء الأوّل والثّاني مغموران بالماء إلّا ما انكشف من جزيرة أنكلترّا الّتي معظمها في الثّاني وفي الأوّل منها طرف انعطف بانحراف إلى الشّمال وبقيّتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثّاني من الإقليم السّادس وهي مذكورة هناك والمجاز منها إلى البرّ في هذه القطعة سعة اثني عشر ميلا ووراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثّاني جزيرة رسلاندة مستطيلة من الغرب إلى الشّرق. والجزء الثّالث من هذا الإقليم مغمور أكثره بالبحر إلّا قطعة مستطيلة في جنوبه وتتّسع في شرقها وفيها هنالك متّصل أرض فلونيّة الّتي مرّ ذكرها في الثّالث من الإقليم السّادس وأنّها في شماله وفي القطعة من البحر الّتي تغمر هذا الجزء ثمّ في الجانب الغربيّ منها مستديرة فسيحة وتتّصل بالبرّ من باب في جنوبها يفضي إلى بلاد فلونيّة وفي شمالها جزيرة برعاقبة (وفي نسخة بوقاعة) مستطيلة مع الشّمال من المغرب إلى المشرق. والجزء الرّابع من هذا الإقليم شماله كلّه مغمور بالبحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المحيط من المغرب إلى المشرق وجنوبه منكشف وفي غربة أرض قيمازك من التّرك وفي شرقها بلاد طست ثمّ أرض رسلان إلى آخر الجزء شرقا وهي دائمة الثّلوج وعمرانها قليل ويتّصل ببلاد الرّوسيّة في الإقليم السّادس وفي الجزء الرّابع والخامس منه وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم في النّاحية الغربيّة منه بلاد الرّوسيّة وينتهي في الشّمال إلى قطعة من البحر المحيط الّتي يتّصل بها جبل قوقيا كما ذكرناه من قبل وفي النّاحية الشّرقيّة منه متّصل أرض القمانية الّتي على قطعة بحر نيطش من الجزء السّادس من الإقليم السّادس وينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء وهي عذبة تنجلب إليها أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب والشّمال وفي شمال النّاحية الشّرقية من هذا الجزء أرض التّتاريّة من التّرك (وفي نسخة التركمان) إلى آخره. وفي الجزء السّادس من النّاحية الغربيّة الجنوبيّة متّصل بلاد القمانيّة وفي وسط النّاحية بحيرة عثور عذبة تنجلب إليها الأنهار من الجبال في النّواحي الشّرقيّة وهي جامدة دائما لشدّة البرد إلّا قليلا في زمن الصّيف وفي شرق بلاد القمانيّة بلاد الرّوسيّة الّتي كان مبدؤها في الإقليم السّادس في النّاحية الشّرقيّة الشّماليّة من الجزء الخامس منه وفي الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة من هذا الجزء بقيّة أرض بلغار الّتي كان مبدؤها في الإقليم السّادس وفي النّاحية الشّرقيّة الشّماليّة من الجزء السّادس منه وفي وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل القطعة الأولى إلى الجنوب كما مرّ وفي آخر هذا الجزء السّادس من شماله جبل قوقيا متّصل من غربة إلى شرقه وفي الجزء السّابع من هذا الإقليم في غربة بقيّة أرض يخناك من أمم الترك وكان مبدؤها من النّاحية الشّماليّة الشّرقيّة من الجزء السّادس قبله وفي النّاحية الجنوبيّة الغربيّة من هذا الجزء ويخرج إلى الإقليم السّادس من فوقه وفي النّاحية الشّرقيّة بقيّة أرض سحرب ثمّ بقيّة الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقا وفي آخر الجزء من جهة الشّمال جبل قوقيا المحيط متّصلا من غربة إلى شرقه. وفي الجزء الثّامن من هذا الإقليم في الجنوبيّة الغربيّة منه متّصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الأرض المنتنة وفي شرقها الأرض المحفورة وهي من العجائب خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع الوصول إلى قعره يستدلّ على عمرانه بالدّخان في النّهار والنّيران في اللّيل تضيء وتخفى وربّما رئي فيها نهر يشقّها من الجنوب إلى الشّمال وفي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسّدّ وفي آخر الشّمال منه جبل قوقيا متّصلا من الشّرق إلى الغرب وفي الجزء التّاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربيّ منه بلاد خفشاخ وهم قفجق يجوزها جبل قوقيا حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط ويذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى الشّرق فيخرج في الجزء التّاسع من الإقليم السّادس ويمرّ معترضا فيه وفي وسطه هنالك سدّ يأجوج ومأجوج وقد ذكرناه وفي النّاحية الشّرقيّة من هذا الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلة أحاطت به من شرقه وشماله. والجزء العاشر غمر البحر جميعه. هذا آخر الكلام على الجغرافيا وأقاليمها السّبعة وفي خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآيات للعالمين [1] .   [1] جاء في سورة آل عمران الآية 190 قوله تعالى: «إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ 3: 190» وقوله تعالى في سورة الروم الآية 22 «وَمن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ 30: 22» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير في أحوالهم قد بيّنا أنّ المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنّما هو وسطه لإفراط الحرّ في الجنوب منه والبرد في الشّمال. ولمّا كان الجانبان من الشّمال والجنوب متضادّين من الحرّ والبرد وجب أن تتدرّج الكيفيّة من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا فالإقليم الرّابع أعدل [1] العمران والّذي حافاته من الثّالث والخامس أقرب إلى الاعتدال والّذي يليهما والثّاني والسّادس بعيدان من الاعتدال والأوّل والسّابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم والصّنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكوّن في هذه الأقاليم الثّلاثة المتوسّطة مخصوصة بالاعتدال وسكّانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا حتّى النّبوءات فإنّما توجد في الأكثر فيها ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبيّة ولا الشّماليّة وذلك أن الأنبياء والرّسل إنّما يختصّ بهم أكمل النّوع في خلقهم وأخلاقهم قال تعالى «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ 3: 110» وذلك ليتمّ القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجدهم على غاية من التّوسّط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم يتّخذون البيوت المنجّدة بالحجارة المنمّقة بالصّناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطّبيعيّة من الذّهب والفضّة والحديد   [1] أعدل مشتقة من عدل وليس لها معنى والأصح: أكثر اعتدالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 والنحاس والرّصاص والقصدير ويتصرّفون في معاملاتهم بالنّقدين العزيزين ويبعدون عن الانحراف في عامّة أحوالهم وهؤلاء أهل المغرب والشّام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسّند والصّين وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والرّوم واليونانيّين ومن كان مع هؤلاء أو قريبا منهم في هذه الأقاليم المعتدلة ولهذا كان العراق والشّام أعدل هذه كلّها لأنّها وسط من جميع الجهات. وأمّا الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأوّل والثّاني والسّادس والسّابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطّين والقصب وأقواتهم من الذّرة والعشب وملابسهم من أوراق الشّجر يخصفونها عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التّكوين مائلة إلى الانحراف ومعاملاتهم بغير الحجرين الشّريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدّرونها للمعاملات وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم حتّى لينقل عن الكثير من السّودان أهل الإقليم الأوّل أنّهم يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون العشب وأنّهم متوحّشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضا وكذا الصّقالبة والسّبب في ذلك أنّهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم ويبعدون عن الإنسانيّة بمقدار ذلك وكذلك أحوالهم في الدّيانة أيضا فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلّا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقلّ النّادر مثل الحبشة المجاورين لليمن الدّائنين بالنّصرانيّة فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدّائنين بالإسلام لهذا العهد يقال إنّهم دانوا به في المائة السّابعة ومثل من دان بالنّصرانيّة من أمم الصّقالبة والإفرنجة والتّرك من الشّمال ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا فالدّين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسيّ قريبة من أحوال البهائم «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 16: 8» . ولا يعترض على هذا القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما يليها من جزيرة العرب في الإقليم الأوّل والثّاني فإنّ جزيرة العرب كلّها أحاطت بها البحار من الجهات الثّلاث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس والانحراف الّذي يقتضيه الحرّ وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر. وقد توهّم بعض النّسّابين ممّن لا علم لديه بطبائع الكائنات أنّ السّودان هم ولد حام بن نوح اختصّوا بلون السّواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرّقّ في عقبه وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التّوراة وليس فيه ذكر السّواد وإنّما دعا عليه بأن يكون ولده عبيدا لولد إخوته لا غير وفي القول بنسبة السّواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحرّ والبرد وأثرهما في الهواء وفيما يتكوّن فيه من الحيوانات وذلك أنّ هذا اللّون شمل أهل الإقليم الأوّل والثّاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإنّ الشّمس تسامت رءوسهم مرّتين في كلّ سنة قريبة إحداهما من الأخرى فتطول المسامتة عامّة الفصول فيكثر الضّوء لأجلها ويلح القيظ الشّديد عليهم وتسودّ جلودهم لإفراط الحرّ ونظير هذين الإقليمين ممّا يقابلهما من الشّمال الإقليم السّابع والسّادس شمل سكّانهما أيضا البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشّمال إذ الشّمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحرّ فيها ويشتدّ البرد عامّة الفصول فتبيضّ ألوان أهلها وتنتهي إلى الزّعورة [1] ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشّعور وتوسّطت بينهما الأقاليم الثّلاثة الخامس والرّابع والثّالث فكان لها في الاعتدال الّذي هو مزاج المتوسّط حظّ وافر والرّابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التّوسّط كما قدّمناه فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم وخلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم وتبعه من جانبيه الثّالث والخامس وإن لم يبلغا غاية التّوسّط لميل هذا   [1] كلمة ليست من الفصحى وعنى بها شدة البياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قليلا إلى الجنوب الحارّ وهذا قليلا إلى الشّمال البارد إلّا أنّهما لم ينتهيا إلى الانحراف وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خلقهم وخلقهم فالأوّل والثّاني للحرّ والسّواد والسّابع للبرد والبياض ويسمّى سكّان الجنوب من الإقليمين الأوّل والثّاني باسم الحبشة والزّنج والسّودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيّرة بالسّواد وإن كان اسم الحبشة مختصّا منهم بمن تجاه مكّة واليمن والزّنج بمن تجاه بحر الهند وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدميّ أسود لا حام ولا غيره وقد نجد من السّودان أهل الجنوب من يسكن الرّبع المعتدل أو السّابع المنحرف إلى البياض فتبيضّ ألوان أعقابهم على التّدريج مع الأيّام وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشّمال أو الرّابع بالجنوب فتسودّ ألوان أعقابهم وفي ذلك دليل على أنّ اللّون تابع لمزاج الهواء قال ابن سينا في أرجوزته في الطّبّ بالزّنج حرّ غير الأجسادا ... حتّى كسا جلودها سوادا والصّقلب اكتسبت البياضا ... حتّى غدت جلودها بضاضا وأمّا أهل الشّمال فلم يسمّوا باعتبار ألوانهم لأنّ البياض كان لونا لأهل تلك اللّغة الواضعة للأسماء فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التّسمية لموافقته واعتياده ووجدنا سكّانه من التّرك والصّقالبة والطّغرغر والخزر واللّان والكثير من الإفرنجة ويأجوج ومأجوج أسماء متفرّقة وأجيالا متعدّدة مسمّين بأسماء متنوعة وأمّا أهل الأقاليم الثّلاثة المتوسّطة أهل الاعتدال في خلقهم وسيرهم وكافّة الأحوال الطّبيعيّة للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصّنائع والعلوم والرّئاسات والملك فكانت فيهم النّبوءات والملك والدّول والشّرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصّنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة وأهل هذه الأقاليم الّتي وقفنا على أخبارهم مثل العرب والرّوم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السّند والهند والصّين. ولمّا رأى النّسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 حسبوا ذلك لأجل الأنساب فجعلوا أهل الجنوب كلّهم السّودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم فتكلّفوا نقل تلك الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشّمال كلّهم أو أكثرهم من ولد يافث وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصّنائع والملل والشّرائع والسّياسة والملك من ولد سام وهذا الزّعم وإن صادف الحقّ في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطّرد إنّما هو إخبار عن الواقع لا أنّ تسمية أهل الجنوب بالسّودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود. وما أدّاهم إلى هذا الغلط إلّا اعتقادهم أنّ التّمييز بين الأمم إنّما يقع بالأنساب فقط وليس كذلك فإنّ التّمييز للجيل أو الأمّة يكون بالنّسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس ويكون بالجهة والسمة كما للزّنج والحبشة والصّقالبة والسّودان ويكون بالعوائد والشّعار والنّسب كما للعرب. ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصّهم ومميّزاتهم فتعميم القول في أهل جهة معيّنة من جنوب أو شمال بأنّهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنّما هو من الأغاليط الّتي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات وإنّ هذه كلّها تتبدّل في الأعقاب ولا يجب استمرارها سنّة الله في عباده ولن تجد لسنّة الله تبديلا والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم وهو المولى المنعم الرّؤوف الرّحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر قد رأينا من خلق السّودان على العموم الخفّة والطّيش وكثرة الطّرب فتجدهم مولعين بالرّقص على كلّ توقيع موصوفين بالحمق في كلّ قطر والسّبب الصّحيح في ذلك أنّه تقرّر في موضعه من الحكمة أنّ طبيعة الفرح والسّرور هي انتشار الرّوح الحيوانيّ وتفشّيه وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه. وتقرّر أنّ الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميّته ولهذا يجد المنتشي من الفرح والسّرور ما لا يعبّر عنه وذلك بما يداخل بخار الرّوح في القلب من الحرارة العزيزيّة الّتي تبعثها سورة الخمر في الرّوح من مزاجه فيتفشّى الرّوح وتجيء طبيعة الفرح وكذلك نجد المتنعّمين بالحمّامات إذا تنفّسوا في هوائها واتّصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخّنت لذلك حدث لهم فرح وربّما انبعث الكثير منهم بالغناء النّاشئ عن السّرور. ولمّا كان السّودان ساكنين في الإقليم الحارّ واستولى الحرّ على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرّابع أشدّ حرّا فتكون أكثر تفشّيا فتكون أسرع فرحا وسرورا وأكثر انبساطا ويجيء الطّيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحريّة لمّا كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعّته كانت حصّتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفّة موجودة أكثر من بلاد التّلول والجبال الباردة وقد نجد يسيرا من ذلك في أهل البلاد الجزيريّة من الإقليم الثّالث لتوفّر الحرارة فيها وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 هوائها لأنّها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتّلول واعتبر ذلك أيضا بأهل مصر فإنّها مثل عرض البلاد الجزيريّة أو قريبا منها كيف غلب الفرح عليهم والخفّة والغفلة عن العواقب حتّى أنّهم لا يدّخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم وعامّة مأكلهم من أسواقهم. ولمّا كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التّوغّل في التّلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتّى إنّ الرّجل منهم ليدّخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ [1] شيئا من مدّخره وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثرا من كيفيّات الهواء والله الخلّاق العليم وقد تعرّض المسعوديّ للبحث عن السّبب في خفّة السّودان وطيشهم وكثرة الطّرب فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنّه نقل عن جالينوس ويعقوب بن إسحاق الكنديّ أنّ ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم وهذا كلام لا محصّل له ولا برهان فيه وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213. المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم اعلم أنّ هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلّها يوجد بها الخصب ولا كلّ سكّانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال الطّينة ووفور العمران وفيها الأرض الحرّة الّتي لا تنبت زرعا ولا عشبا بالجملة فسكّانها في شظف من العيش مثل   [1] أن ينقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أهل الحجاز وجنوب اليمن ومثل الملثّمين من صنهاجة السّاكنين بصحراء المغرب وأطراف الرّمال فيما بين البربر والسّودان فإنّ هؤلاء يفقدون الحبوب والأدم جملة وإنّما أغذيتهم وأقواتهم الألبان واللّحوم ومثل العرب أيضا الجائلين في القفار فإنّهم وإن كانوا يأخذون الحبوب والأدم من التلول إلّا أنّ ذلك في الأحايين وتحت ربقة من حاميتها وعلى الإقلال لقلّة وجدهم فلا يتوصّلون منه إلى سدّ الخلّة [1] أو دونها فضلا عن الرّغد والخصب وتجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان وتعوّضهم من الحنطة أحسن معاض وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهل القفار أحسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التّلول المنغمسين في العيش فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتمّ وأحسن وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم اثقب في المعارف والإدراكات هذا أمر تشهد له التّجربة في كلّ جيل منهم فكثير ما بين العرب والبربر فيما وصفناه وبين الملثّمين وأهل التّلول يعرف ذلك من خبره والسّبب في ذلك والله أعلم أنّ كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولّد في الجسم فضلات رديئة تنشأ عنها بعد- أفظارها- في غير نسبة ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللّحم كما قلناه وتغطّي الرّطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدّماغ من أبخرتها الرّديّة فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنّعام والمها والزّرافة والحمر الوحشيّة والبقر مع أمثالها من حيوان التّلول والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بونا بعيدا في صفاء أديمها وحسن رونقها وأشكالها وتناسب أعضائها وحدّة مداركها فالغزال أخو المعز والزّرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر والبون بينها ما رأيت وما ذاك إلّا لأجل أنّ الخصب في التّلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرّديّة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها   [1] الفقر والحاجة (قاموس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أثره والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء واعتبر ذلك في الآدميّين أيضا فإنّا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزّرع والضّرع والأدم والفواكه يتّصف أهلها غالبا بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم وهذا شان البربر المنغمسين في الأدم والحنطة مع المتقشّفين في عيشهم المقتصرين على الشّعير أو الذرة مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هؤلاء أحسن حالا في عقولهم وجسومهم وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسين في الأدم والبرّ مع أهل الأندلس المفقود بأرضهم السّمن حملة وغالب عيشهم الذّرة فتجد لأهل الأندلس من ذكاء العقول وخفّة الأجسام وقبول التّعليم ما لا يوجد لغيرهم وكذا أهل الضّواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار فإنّ الأمصار وإن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلّا أنّ استعمالهم إيّاها بعد العلاج بالطّبخ والتّلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرقّ قوامها وعامّة مآكلهم لحوم الضّأن والدّجاج ولا يغبطون [1] السّمن من بين الأدم لتفاهته فتقلّ الرّطوبات لذلك في أغذيتهم ويخفّ ما تؤدّيه إلى أجسامهم من الفضلات الرّديّة فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار ألطف من جسوم البادية المخشّنين في العيش وكذلك تجد المعوّدين بالجوع من أهل البادية لا فضلات في جسومهم غليظة ولا لطيفة. واعلم أنّ أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتّى في حال الدّين والعبادة فنجد المتقشّفين من أهل البادية أو الحاضرة ممّن يأخذ نفسه بالجوع والتّجافي عن الملاذّ أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل التّرف والخصب بل نجد أهل الدّين قليلين في المدن والأمصار لما يعمّها من القساوة والغفلة المتّصلة بالإكثار من اللّحمان والأدم ولباب البرّ ويختصّ وجود العبّاد والزّهّاد لذلك بالمتقشّفين في غذائهم من أهل البوادي وكذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيّباته من أهل البادية ومن أهل الحواضر   [1] لا يكثرون من استعمال السمن ولا يلتزمونه في أدمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والأمصار إذا نزلت بهم السّنون [1] وأخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل برابرة المغرب وأهل مدينة فاس ومصر فيما يبلغنا لا مثل العرب أهل القفر والصّحراء ولا مثل أهل بلاد النّخل الّذين غالب عيشهم التّمر ولا مثل أهل إفريقية لهذا العهد الّذين غالب عيشهم الشّعير والزّيت وأهل الأندلس الّذين غالب عيشهم الذّرة والزّيت فإنّ هؤلاء وإن أخذتهم السّنون والمجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك ولا يكثر فيهم الهلاك بالجوع بل ولا يندر والسّبب في ذلك والله أعلم أنّ المنغمسين في الخصب المتعوّدين للأدم والسّمن خصوصا تكتسب من ذلك أمعاؤهم رطوبة فوق رطوبتها الأصليّة المزاجيّة حتّى تجاوز حدّها فإذا خولف بها العادة بقلّة الأقوات وفقدان الأدم واستعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعى اليبس والانكماش وهو ضعيف في الغاية فيسرع إليه المرض ويهلك صاحبه دفعة لأنّه من المقاتل فالهالكون في المجاعات إنّما قتلهم الشّبع المعتاد السّابق لا الجوع الحادث اللّاحق. وأمّا المتعوّدون لقلّة الأدم [2] والسّمن فلا تزال رطوبتهم الأصليّة واقفة عند حدّها من غير زيادة وهي قابلة لجميع الأغذية الطّبيعيّة فلا يقع في معاهم بتبدّل الأغذية يبس ولا انحراف فيسلمون في الغالب من الهلاك الّذي يعرض لغيرهم بالخصب وكثرة الأدم في المآكل وأصل هذا كلّه أن تعلم أنّ الأغذية وائتلافها أو تركها إنّما هو بالعادة فمن عوّد نفسه غذاء ولاءمه تناوله كان له مألوفا وصار الخروج عنه والتّبدّل به داء ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسّموم واليتّوع [3] وما أفرط في الانحراف فأمّا ما وجد فيه التّغذّي والملاءمة فيصير غذاء مألوفا بالعادة فإذا أخذ الإنسان نفسه باستعمال اللّبن والبقل عوضا عن الحنطة حتّى صار له ديدنا فقد حصل له ذلك   [1] السنون: ج السّنة: الجدب والقحط (قاموس) . [2] في بعض النسخ: اما المتعودون للعيمة وترك الأدم والعيمة شهوة اللبن (قاموس) . [3] قال في القاموس اليتّوع كصبور أو تنور كل نبات له لبن دار مسهل محرق مقطع والمشهور منه سبعة الشيرم واللاعية والعرطنيثا والماهودانه والمازريون والفلجلشت والعشر وكل اليتوعات إذا استعملت في غير وجهها أهلكت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك وكذا من عوّد نفسه الصّبر على الجوع والاستغناء عن الطّعام كما ينقل عن أهل الرّياضيّات فإنّا نسمع عنهم في ذلك أخبارا غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها والسّبب في ذلك العادة فإنّ النّفس إذا ألفت شيئا صار من جبلتها وطبيعتها لأنّها كثيرة التّلوّن فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتّدريج والرّياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعيّة لها وما يتوهّمه الأطبّاء من أنّ الجوع مهلك فليس على ما يتوهّمونه إلّا إذا حملت النّفس عليه دفعة وقطع عنها الغذاء بالكليّة فإنّه حينئذ ينحسم المعاء ويناله المرض الّذي يخشى معه الهلاك وأمّا إذا كان ذلك القدر تدريجا ورياضة بإقلال الغذاء شيئا فشيئا كما يفعله المتصوّفة فهو بمعزل عن الهلاك وهذا التّدريج ضروريّ حتّى في الرّجوع عن هذه الرّياضة فإنّه إذا رجع به إلى الغذاء الأوّل دفعة خيف عليه الهلاك وإنّما يرجع به كما بدأ في الرّياضة بالتّدريج ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا وأكثر. وحضر أشياخنا بمجلس السّلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين وشاع أمرهما ووقع اختبارهما فصحّ شأنهما واتّصل على ذلك حالهما إلى أن ماتتا ورأينا كثيرا من أصحابنا أيضا من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النّهار أو عند الإفطار ويكون ذلك غذاءه واستدام على ذلك خمس عشرة سنة وغيرهم كثير ولا يستنكر ذلك. واعلم أنّ الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكلّ وجه لمن قدر عليه أو على الإقلال منها وإنّ له أثرا في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها كما قلناه واعتبر ذلك بآثار الأغذية الّتي تحصل عنها في الجسوم فقد رأينا المتغذّين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا المتغذّون بألبان الإبل ولحومها أيضا مع ما يؤثّر في أخلاقهم من الصّبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل وتنشأ أمعاؤهم أيضا على نسبة أمعاء الإبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 في الصّحّة والغلظ فلا يطرقها الوهن ولا ينالها من مدار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتّوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه والدّرياس والقربيون ولا ينال أمعاءهم منها ضرر وهي لو تناولها أهل الحضر الرّقيقة أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السّمية ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهل التّجربة أنّ الدّجاج إذا غذّيت بالحبوب المطبوخة في بعر الإبل واتخذ بيضها ثمّ حضنت عليه جاء الدّجاج منها أعظم ما يكون وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضّن فيجيء دجاجها في غاية العظم وأمثال ذلك كثيرة فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شكّ أنّ للجوع أيضا آثارا في الأبدان لأنّ الضّدّين على نسبة واحدة في التّأثير وعدمه فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزّيادات الفاسدة والرّطوبات المختلطة المخلّة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثّرا في وجود ذلك الجسم والله محيط بعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 المقدمة السادسة في أصناف المدركين من البشر بالفطرة أو الرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا اعلم أنّ الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضّلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينهم وبين عباده يعرّفونهم بمصالحهم ويحرّضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزاتهم عن النّار ويدلّونهم على طريق النّجاة وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيّبة عن البشر الّتي لا سبيل إلى معرفتها إلّا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلّا بتعليم الله إيّاهم قال صلّى الله عليه وسلّم ألا وإنّي لا أعلم إلّا ما علّمني الله واعلم أنّ خبرهم في ذلك من خاصّيّته وضرورته الصّدق لما يتبيّن لك عند بيان حقيقة النّبوة وعلامة هذا الصّنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنّها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء وإنّما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الرّوحانيّ بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلّيّة ثمّ يتنزّل إلى المدارك البشريّة إمّا بسماع دويّ من الكلام فيتفهّمه أو يتمثّل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثمّ تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما القي إليه قال صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن الوحي «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم [1] عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» ويدركه أثناء ذلك من   [1] يفصم عني: يفارقني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الشدّة والغطّ ما لا يعبّر عنه ففي الحديث كان ممّا يعالج من التّنزيل شدّة [1] وقالت عائشة كان ينزّل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا وقال تعالى «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 73: 5» ولأجل هذه الغاية في تنزّل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون له رئيّ أو تابع من الجنّ وإنّما لبّس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال ومن يضلل الله فما له من هاد. ومن علاماتهم أيضا أنّه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزّكاء ومجانبة المذمومات والرّجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنّه مفطور على التّنزّه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنّها منافية لجبلته وفي الصّحيح أنّه حمل الحجارة وهو غلام مع عمّه العبّاس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيّا عليه حتّى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النّوم إلى أن طلعت الشّمس ولم يحضر شيئا من شأنهم بل نزّهه الله عن ذلك كله حتّى إنّه بجبلته يتنزّه عن المطعومات المستكرهة فقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يقرب البصل والثّوم فقيل له في ذلك فقال إنّي أناجي من لا تناجون وانظر لما أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أوّل ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك فلمّا فعل ذلك ذهب عنه فقالت إنّه ملك وليس بشيطان ومعناه أنّه لا يقرب النّساء وكذلك سألته عن أحبّ الثّياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنّه الملك يعني أنّ البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسّواد من ألوان الشّرّ والشّياطين وأمثال ذلك. ومن علاماتهم أيضا دعاؤهم إلى الدّين والعبادة من الصّلاة والصّدقة والعفاف وقد استدلّت خديجة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم بذلك وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه وفي الصّحيح أنّ هرقل حين جاءه كتاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان   [1] الحديث: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل بشدة، رواه ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فيما سأل أن قال بم يأمركم فقال أبو سفيان بالصّلاة والزّكاة والصّلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال إن يكن ما تقول حقّا فهو نبيّ وسيملك ما تحت قدميّ هاتين والعفاف الّذي أشار إليه هرقل [1] هو العصمة فانظر كيف أخذ من العصمة والدّعاء إلى الدّين والعبادة دليلا على صحّة نبوته ولم يحتج إلى معجزة فدلّ على أنّ ذلك من علامات النّبوة. ومن علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوي حسب في قومهم وفي الصّحيح ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه وفي رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصّحيحين وفي مسألة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصّحيح قال كيف هو فيكم فقال أبو سفيان هو فينا ذو حسب فقال هرقل والرّسل تبعث في أحساب قومها ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفّار حتّى يبلّغ رسالة ربّه ويتمّ مراد الله من إكمال دينه وملّته. ومن علاماتهم أيضا وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسمّيت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنّما تقع في غير محلّ قدرتهم وللنّاس في كيفيّة وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف فالمتكلّمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنّها واقعة بقدرة الله لا بفعل النّبيّ وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلّا أنّ المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم وليس للنّبيّ فيها عند سائر المتكلّمين إلّا التّحدّي بها بإذن الله وهو أن يستدلّ بها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل وقوعها على صدقه في مدّعاه فإذا وقعت تنزّلت منزلة القول الصّريح من الله بأنّه صادق وتكون دلالتها حينئذ على الصّدق قطعيّة فالمعجزة الدّالّة بمجموع الخارق والتّحدّي ولذلك كان التّحدّي جزءا منها وعبارة المتكلّمين صفة نفسها وهو واحد لأنّه معنى الذّاتيّ عندهم والتّحدّي هو الفارق بينها وبين الكرامة والسّحر إذ لا حاجة فيهما إلى التّصديق فلا وجود للتّحدّي إلّا إن وجد اتّفاقا وإن وقع التّحدّي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة فإنّما هي على الولاية وهي غير النّبوة ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحاق وغيره وقوع   [1] قوله الّذي أشار إليه هرقل الظاهر أبو سفيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الخوارق كرامة فرارا من الالتباس بالنّبوءة عند التّحدّي بالولاية وقد أريناك المغايرة بينهما وإنّه يتحدّى بغير ما يتحدّى به النّبيّ فلا لبس على أنّ النّقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحا وربّما حمل على إنكار لأن تقع خوارق الأنبياء لهم بناء على اختصاص كل من الفريقين بخوارقه. وأمّا المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أنّ الخوارق ليست من أفعال العباد وأفعالهم معتادة فلا فرق وأمّا وقوعها على يد الكاذب تلبيسا فهو محال أمّا عند الأشعريّة فلأنّ صفة نفس المعجزة التّصديق والهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدّليل شبهة والهداية ضلالة والتّصديق كذبا واستحالت الحقائق وانقلبت صفات النّفس وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكنا وأمّا عند المعتزلة فلأنّ وقوع الدّليل شبهة والهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله. وأمّا الحكماء فالخارق عندهم من فعل النّبيّ ولو كان في غير محلّ القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذّاتيّ ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقّف على الأسباب والشّروط الحادثة مستندة أخيرا إلى الواجب الفاعل بالذّات لا بالاختيار وإنّ النّفس النّبويّة عندهم لها خواصّ ذاتيّة منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التّكوين والنبيّ عندهم مجبول على التّصريف [1] في الأكوان مهما توجّه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك والخارق عندهم يقع للنّبيّ سواء كان للتّحدّي أم لم يكن وهو شاهد بصدقة من حيث دلالته على تصرّف النّبيّ في الأكوان الّذي هو من خواصّ النّفس النّبويّة لا بأنّه يتنزّل منزلة القول الصّريح بالتّصديق فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعيّة كما هي عند المتكلّمين ولا يكون التّحدّي جزأ من المعجزة ولم يصحّ فارقا لها عن السّحر والكرامة وفارقها عندهم عن السّحر أنّ النّبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشّرّ فلا يلمّ الشّرّ بخوارقه والسّاحر على الضّدّ فأفعاله كلّها شرّ وفي مقاصد الشّرّ وفارقها عن الكرامة أنّ خوارق النّبيّ مخصوصة   [1] صرفه في الأمر: فوّض الأمر إليه (قاموس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 كالصّعود إلى السّماء والنّفوذ في الأجسام الكثيفة وإحياء الموتى وتكليم الملائكة والطّيران في الهواء وخوارق الوليّ دون ذلك كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله ممّا هو قاصر عن تصريف الأنبياء ويأتي النّبيّ بجميع خوارقه ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء وقد قرر ذلك المتصوّفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقّنوه عمّن أخبرهم وإذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزّل على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم فإنّ الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الّذي يتلقّاه النّبيّ ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقة والقرآن هو بنفسه الوحي المدّعي وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتّحاد الدّليل والمدلول فيه وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «ما من نبيّ من الأنبياء إلّا وأتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحي إليّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» يشير إلى أنّ المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوّة الدّلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصّدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدّق المؤمن وهو التّابع والأمّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شان العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب فنقول اعلم. أرشدنا الله وإيّاك أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلّها على هيئة من التّرتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسبّبات واتّصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثمانيّ وأوّلا عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعدا من الأرض إلى الماء ثمّ إلى الهواء ثمّ إلى النّار متّصلا بعضها ببعض وكلّ واحد منها مستعدّ إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدا وهابطا ويستحيل بعض الأوقات والصّاعد منها ألطف ممّا قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكلّ على طبقات اتّصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحسّ منها إلّا الحركات فقط وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذّوات الّتي لها هذه الآثار فيها ثمّ انظر إلى عالم التّكوين كيف ابتدأ من المعادن ثمّ النّبات ثمّ الحيوان على هيئة بديعة من التّدريج آخر أفق المعادن متّصل بأوّل أفق النّبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النّبات مثل النّخل والكرم متّصل بأوّل أفق الحيوان مثل الحلزون والصّدف ولم يوجد لهما إلّا قوة اللّمس فقط ومعنى الاتّصال في هذه المكوّنات أنّ آخر أفق منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مستعدّ بالاستعداد الغريب [1] لأن يصير أول أفق الّذي بعده واتّسع عالم الحيوان وتعدّدت أنواعه وانتهى في تدريج التّكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرّويّة ترتفع إليه من عالم القدرة [2] الّذي اجتمع فيه الحسّ والإدراك ولم ينته إلى الرّويّة والفكر بالفعل وكان ذلك أوّل أفق من الإنسان بعده وهذا غاية شهودنا ثمّ إنّا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوّعة ففي عالم الحسّ آثار من حركات الأفلاك والعناصر وفي عالم التّكوين آثار من حركة النّموّ والإدراك تشهد كلّها بأنّ لها مؤثّرا مباينا للأجسام فهو روحانيّ ويتّصل بالمكوّنات لوجود اتّصال هذا العالم في وجودها ولذلك هو النّفس المدركة والمحرّكة ولا بدّ فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة ويتّصل بها أيضا ويكون ذاته إدراكا صرفا وتعقّلا محضا وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنّفس استعداد للانسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللّمحات وذلك بعد أن تكمل ذاتها الرّوحانيّة بالفعل كما نذكره بعد ويكون لها اتّصال بالأفق الّذي بعدها شأن الموجودات المرتّبة كما قدّمناه فلها في الاتّصال جهتا العلوّ والسّفل وهي متّصلة بالبدن من أسفل منها وتكتسب به المدارك الحسّيّة الّتي تستعدّ بها للحصول على التّعقّل بالفعل ومتّصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلميّة والغيبيّة فإنّ عالم الحوادث موجود في تعقّلاتهم من غير زمان وهذا على ما قدّمناه من التّرتيب المحكم في الوجود باتّصال ذواته وقواه بعضها ببعض ثمّ إنّ هذه النّفس الإنسانيّة غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن فكأنّه وجميع أجزائه مجتمعة ومفترقة آلات للنّفس ولقواها أمّا الفاعليّة فالبطش باليد والمشي بالرّجل والكلام باللّسان والحركة الكلّيّة بالبدن متدافعا وأمّا المدركة وإن كانت قوى الإدراك مرتّبة   [1] وفي بعض النسخ: القريب وليس لهما أي معنى هنا. والمرجح أنها محرفة عن كلمة غريزي. [2] كذا في جميع النسخ ما عدا نسخة لجنة البيان العربيّ: القردة وهي منسجمة مع سياق معنى العبارة هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ومرتقيّة إلى القوّة العليا منها ومن المفكّرة الّتي يعبّر عنها بالنّاطقيّة فقوى الحسّ الظّاهرة بآلاته من السّمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن وأوّله الحسّ المشترك وهو قوّة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة وبذلك فارقت قوّة الحسّ الظّاهر لأنّ المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثمّ يؤدّيه الحسّ المشترك إلى الخيال وهي قوة تمثّل الشّيء المحسوس في النّفس كما هو مجرّد عن الموادّ الخارجة فقط وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأوّل من الدّماغ مقدّمه للأولى ومؤخّره للثّانية ثمّ يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلّقة بالشّخصيّات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذّئب والحافظة لإيداع المدركات كلّها متخيّلة وهي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخّر من الدّماغ أوّله للأولى ومؤخّره للأخرى ثمّ ترتقي جميعها إلى قوّة الفكر وآلته البطن الأوسط من الدّماغ وهي القوّة الّتي يقع بها حركة الرّؤية والتّوجّه نحو التّعقّل فتحرّك النّفس بها دائما لما ركب فيها من النّزوع للتّخلّص من درك القوّة والاستعداد الّذي للبشريّة وتخرج إلى الفعل في تعقّلها متشبّهة بالملإ الأعلى الرّوحانيّ وتصير في أوّل مراتب الرّوحانيّات في إدراكها بغير الآلات الجسمانيّة فهي متحرّكة دائما ومتوجّهة نحو ذلك وقد تنسلخ بالكلّيّة من البشريّة وروحانيّتها إلى الملكيّة من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك. أصناف النفوس البشرية إنّ النّفوس البشريّة على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطّبع عن الوصول فينقطع بالحركة إلى الجهة السّفلى نحو المدارك الحسّيّة والخياليّة وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة وترتيب خاصّ يستفيدون به العلوم التّصوّريّة والتّصديقيّة الّتي للفكر في البدن وكلّها خياليّ منحصر نطاقه إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوّليّات ولا يتجاوزها وإن فسد فسد ما بعدها وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشريّ الجسمانيّ وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم. وصنف متوجّه بتلك الحركة الفكريّة نحو العقل الرّوحانيّ والإدراك الّذي لا يفتقر إلى الآلات البدنيّة بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتّسع نطاق إدراكه عن الأوّليّات الّتي هي نطاق الإدراك الأوّل البشريّ ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنيّة وهي وجدان كلّها نطاق من مبدئها ولا من منتهاها وهذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدّينيّة والمعارف الرّبّانيّة وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السّعادة في البرزخ. الوحي وصنف مفطور على الانسلاخ من البشريّة جملة جسمانيّتها وروحانيّتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللّمحات ملكا بالفعل ويحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النّفسانيّ والخطاب الإلهيّ في تلك اللّمحة وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشريّة في تلك اللّمحة وهي حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صوّرهم فيها ونزّههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشريّة بما ركّب في غرائزهم من القصد والاستقامة الّتي يحاذون بها تلك الوجهة وركّز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها فهم يتوجّهون إلى ذلك الأفق بذلك النّوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة الّتي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة فلذا توجّهوا وانسلخوا عن بشريّتهم وتلقّوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقّونه، وعاجوا به على المدارك البشريّة منزّلا في قواها لحكمة التّبليغ للعباد فتارة يسمع أحدهم دويّا كأنّه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الّذي ألقي إليه فلا ينقضي الدّويّ إلّا وقد وعاه وفهمه وتارة يتمثّل له الملك الّذي يلقي إليه رجلا فيكلّمه ويعي ما يقوله والتّلقّي من الملك والرّجوع إلى المدارك البشريّة وفهمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ما ألقي عليه كلّه كأنّه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنّه ليس في زمان بل كلّها تقع جميعا فيظهر كأنّها سريعة ولذلك سمّيت وحيا لأنّ الوحي في اللّغة الإسراع واعلم أنّ الأولى وهي حالة الدّويّ هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حقّقوه والثّانية وهي حالة تمثّل الملك رجلا يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت أكمل من الأولى وهذا معنى الحديث الّذي فسّر فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوحي لمّا سأله الحارث بن هشام وقال: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك فيكلّمني فأعي ما يقول» وإنّما كانت الأولى أشدّ لأنّها مبدأ الخروج في ذلك الاتّصال من القوّة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لمّا عاج فيها على المدارك البشريّة اختصّت بالسّمع وصعب ما سواه وعند ما يتكرّر الوحي ويكثر التّلقّي يسهل ذلك الاتّصال فعند ما يعرّج إلى المدارك البشريّة يأتي على جميعها وخصوصا الأوضح منها وهو إدراك البصر وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثّانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أنّ الكلام جاء مجيء التّمثيل لحالتي الوحي فمثّل الحالة الأولى بالدّويّ الّذي هو في المتعارف غير كلام وأخبر أنّ الفهم والوعي يتبعه غبّ انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع ومثّل الملك في الحالة الثّانية برجل يخاطب ويتكلّم والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتّجدّد. واعلم أنّ في حالة الوحي كلّها صعوبة على الجملة وشدّة قد أشار إليها القرآن قال تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 73: 5» وقالت عائشة: «كان ممّا يعاني من التّنزيل شدّة» [1] وقالت: «كان ينزّل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» . ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط   [1] رواه ابن عباس وليست عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ما هو معروف وسبب ذلك أنّ الوحي كما قرّرنا مفارقة البشريّة إلى المدارك الملكيّة وتلقّي كلام النّفس فيحدث عنه شدّة من مفارقة الذّات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر وهذا هو معنى الغطّ الّذي عبّر به في مبدإ الوحي في قوله «فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ وكذا ثانية وثالثة» . كما في الحديث وقد يفضي الاعتياد بالتّدريج فيه شيئا فشيئا إلى بعض السّهولة بالقياس إلى ما قبله ولذلك كان تنزّل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكّة أقصر منها وهو بالمدينة وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك وأنّها نزّلت كلّها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكّة ينزّل عليه بعض السّورة من قصار المفصل في وقت وينزّل الباقي في حين آخر وكذلك كان آخر ما نزّل بالمدينة آية الدّين وهي ما هي في الطّول بعد أن كانت الآية تنزّل بمكّة مثل آيات الرّحمن والذّاريات والمدثّر والضّحى والفلق وأمثالها. واعتبر من ذلك علامة تميّز بها بين المكّيّ والمدنيّ من السّور والآيات والله المرشد إلى الصّواب. هذا محصّل أمر النّبوة. الكهانة وأمّا الكهانة فهي أيضا من خواصّ النّفس الإنسانيّة وذلك أنّه قد تقدّم لنا في جميع ما مرّ أنّ للنّفس الإنسانيّة استعدادا للانسلاخ من البشريّة إلى الرّوحانيّة الّتي فوقها وأنّه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك وتقرّر أنّه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التّصوّرات ولا من الأفعال البدنيّة كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور إنّما هو انسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجودا في الطّبيعة البشريّة فيعطى التّقسيم العقليّ وإنّ هنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة الصّنف الأوّل نقصان الضّدّ عن ضدّه الكامل لأنّ عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضدّ الاستعانة فيه وشتّان ما بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفا آخر من البشر مفطورا على أن تتحرّك قوّته العقليّة حركتها الفكريّة بالإرادة عند ما يبعثها النّزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة عند ما يعوّقها العجز عن ذلك تشبّث بأمور جزئيّة محسوسة أو متخيّلة كالأجسام الشّفّافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التّخيّل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الّذي يقصده ويكون كالمشيّع له وهذه القوّة الّتي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النّفوس مفطورة على النّقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيّات أكثر من الكلّيّات ولذلك تكون المخيّلة فيهم في غاية القوّة لأنّها آلة الجزئيّات فتنفذ فيها نفوذا تامّا في نوم أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيّلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأنّ وحيه من وحي الشّيطان وأرفع أحوال هذا الصّنف أن يستعين بالكلام الّذي فيه السّجع والموازنة ليشتغل به عن الحواسّ ويقوى بعض الشّيء على ذلك الاتّصال النّاقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والّذي يشيّعها من ذلك الأجنبيّ ما يقذفه على لسانه فربّما صدق ووافق الحقّ وربّما كذب لأنّه يتمّم نقصه بأمر أجنبيّ عن ذاته المدركة ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصّدق والكذب جميعا ولا يكون موثوقا به وربّما يفزع إلى الظّنون والتّخمينات حرصا على الظّفر بالإدراك بزعمه وتمويها على السّائلين وأصحاب هذا السّجع هم المخصوصون باسم الكهّان لأنّهم أرفع سائر أصنافهم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في مثله «هذا من سجع الكهّان» فجعل السّجع مختصّا بهم بمقتضى الإضافة وقد قال لابن صيّاد حين سأله كاشفا عن حاله بالأخبار كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال: «يأتيني صادقا وكاذبا» فقال: «خلط عليك الأمر» يعني أنّ النّبوة خاصّتها الصّدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنّها اتّصال من ذات النّبيّ بالملإ الأعلى من غير مشيّع ولا استعانة بأجنبيّ والكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الاستعانة بالتّصوّرات الأجنبيّة كانت داخلة في إدراكه والتبست بالإدراك الّذي توجّه إليه فصار مختلطا بها وطرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبوة وإنّما قلنا إنّ أرفع مراتب الكهانة حالة السّجع لأنّ معنى السّجع أخفّ من سائر المغيّبات من المرئيّات والمسموعات وتدلّ خفّة المعنى على قرب ذلك الاتّصال والإدراك والبعد فيه عن العجز بعض الشّيء وقد زعم بعض النّاس أنّ هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النّبوة بما وقع من شأن رجم الشّياطين بالشّهب بين يدي البعثة وأنّ ذلك كان لمنعهم من خبر السّماء كما وقع في القرآن والكهّان إنّما يتعرّفون أخبار السّماء من الشّياطين فبطلت الكهانة من يومئذ ولا يقوم من ذلك دليل لأنّ علوم الكهّان كما تكون من الشّياطين تكون من نفوسهم أيضا كما قرّرناه وأيضا فالآية إنّما دلّت على منع الشّياطين من نوع واحد من أخبار السّماء وهو ما يتعلّق بخبر البعثة ولم يمنعوا ممّا سوى ذلك. وأيضا فإنّما كان ذلك الانقطاع بين يدي النّبوة فقط ولعلّها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظّاهر لأنّ هذه المدارك كلّها تخمد في زمن النّبوة كما تخمد الكواكب والسّرج عند وجود الشّمس لأنّ النّبوة هي النّور الأعظم الّذي يخفى معه كلّ نور ويذهب. وقد زعم بعض الحكماء أنّها إنّما توجد بين يدي النّبوة ثمّ تنقطع وهكذا كلّ نبؤه وقعت لأنّ وجود النّبوة لا بدّ له من وضع فلكيّ يقتضيه وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النّبوة الّتي دلّ عليها ونقص ذلك الوضع عن التّمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النّوع الّذي يقتضيه ناقصة وهو معنى الكاهن على ما قرّرناه فقبل أن يتمّ ذلك الوضع الكامل يقع الوضع النّاقص ويقتضي وجود الكاهن إمّا واحدا أو متعدّدا فإذا تمّ ذلك الوضع تمّ وجود النّبيّ بكماله وانقضت الأوضاع الدّالّة على مثل تلك الطّبيعة فلا يوجد منها شيء بعد وهذا بناء على أنّ بعض الوضع الفلكيّ يقتضي بعض أثره وهو غير مسلّم. فلعلّ الوضع إنّما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة ولو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئا، لا إنّه يقتضي ذلك الأثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ناقصا كما قالوه. ثمّ إنّ هؤلاء الكهّان إذا عاصروا زمن النّبوة فإنّهم عارفون بصدق النّبيّ ودلالة معجزته لأنّ لهم بعض الوجدان من أمر النّبوة كما لكلّ إنسان من أمر اليوم ومعقوبيّة تلك النّسبة موجودة للكاهن بأشدّ ممّا للنّائم ولا يصدّهم عن ذلك ويوقعهم في التّكذيب إلّا قوّة المطامع في أنّها نبوة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأميّة بن أبي الصلت فإنّه كان يطمع أن يتنبّأ وكذا وقع لابن صيّاد ولمسيلمة وغيرهم فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأمانيّ آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسديّ وسواد بن قارب وكان لهما في الفتوحات الإسلاميّة من الآثار الشّاهدة بحسن الإيمان. الرؤيا وأمّا الرّؤيا فحقيقتها مطالعة النّفس النّاطقة في ذاتها الرّوحانيّة لمحة من صور الواقعات فإنّها عند ما تكون روحانيّة تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذّوات الرّوحانيّة كلّها وتصير روحانيّة بأن تتجرّد عن الموادّ الجسمانيّة والمدارك البدنيّة وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النّوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا وغير جليّ بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلّصه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التّعبير وقد يكون الاقتباس قويّا يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال والسّبب في وقوع هذه اللّمحة للنّفس أنّها ذات روحانيّة بالقوّة مستكملة بالبدن ومداركه [1] حتّى تصير ذاتها تعقّلا محضا ويكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتا روحانيّة مدركة بغير شيء من الآلات البدنيّة إلّا أنّ نوعها في الرّوحانيّات دون نوع   [1] في نسخة لجنة البيان العربيّ عبارة بين قوسين وهي (ولا بد من تخلصها من البدن ومداركه) وهذه الجملة غير واردة في جميع النسخ الأخرى وهي متممة لمعنى الجملة التي قبلها، ولا يستقيم المعنى بدونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الملائكة أهل الأفق الأعلى على الّذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن ومنه خاصّ كالّذي للأولياء ومنه عامّ للبشر على العموم وهو أمر الرّؤيا. وأمّا الّذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة المحضة الّتي هي أعلى الرّوحانيّات ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرّرا في حالات الوحي وهو عند ما يعرّج على المدارك البدنيّة ويقع فيها ما يقع من الإدراك يكون [1] شبيها بحال النّوم شبها بيّنا وإن كان حال النّوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشّبه عبّر الشّارع عن الرّؤيا بأنّها جزء من ستّة وأربعين جزأ من النّبوة وفي رواية ثلاثة وأربعين وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصودا بالذّات وإنّما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السّبعين في بعض طرقه وهو للتّكثير عند العرب وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستّة وأربعين من أنّ الوحي كان في مبدئه بالرّؤيا ستّة أشهر وهي نصف سنة ومدّة النّبوة كلّها بمكّة والمدينة ثلاث وعشرون سنة فنصف السّنة منها جزء من ستّة وأربعين فكلام بعيد من التّحقيق لأنّه إنّما وقع ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن أين لنا أنّ هذه المدّة وقعت لغيره من الأنبياء مع أنّ ذلك إنّما يعطي نسبة زمن الرّؤيا من زمن النّبوة ولا يعطى حقيقتها من حقيقة النّبوة وإذا تبيّن لك هذا ممّا ذكرناه أوّلا علمت أنّ معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأوّل الشّامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاصّ بصنف الأنبياء الفطريّ لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاما في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل ومن أعظم تلك الموانع الحواسّ الظّاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواسّ بالنّوم الّذي هو جبليّ لهم فتتعرّض النّفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوّف إليه في عالم الحقّ فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظّفر   [1] وردت هذه الكلمة في نسخة. لجنة البيان العربيّ فقط وهي غير موجودة في جميع النسخ ولا يستقيم المعنى بدونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بالمطلوب ولذلك جعلها الشّارع من المبشّرات فقال لم يبق من النّبوة إلّا المبشّرات قالوا وما المبشّرات يا رسول الله قال الرّؤيا الصّالحة يراها الرّجل الصّالح أو ترى له وأمّا سبب ارتفاع حجاب الحواسّ بالنّوم فعلى ما أصفه لك وذلك أنّ النّفس النّاطقة إنّما إدراكها وأفعالها بالرّوح الحيوانيّ الجسمانيّ وهو بخار لطيف مركزه بالتّجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التّشريح لجالينوس وغيره وينبعث مع الدّم في الشّريانات والعروق فيعطي الحسّ والحركة وسائر الأفعال البدنيّة ويرتفع لطيفه إلى الدّماغ فيعدّل من برده وتتمّ أفعال القوى الّتي في بطونه فالنّفس النّاطقة إنّما تدرك وتعقل بهذا الرّوح البخاريّ وهي متعلّقة به لما اقتضته حكمة التّكوين في أنّ اللّطيف لا يؤثّر في الكثيف ولمّا لطف هذا الرّوح الحيوانيّ من بين الموادّ البدنيّة صار محلّا لآثار الذّات المباينة له في جسمانيّته وهي النّفس النّاطقة وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته وقد كنّا قدّمنا أنّ إدراكها على نوعين إدراك بالظّاهر وهو الحواسّ الخمس وإدراك بالباطن وهو القوى الدّماغيّة وأنّ هذا الإدراك كلّه صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الرّوحانيّة الّتي هي مستعدّة له بالفطرة ولمّا كانت الحواسّ الظّاهرة جسمانيّة كانت معرّضة للوسن والفشل بما يدركها من التّعب والكلال وتغشى الرّوح بكثرة التّصرّف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرّد الإدراك على الصّورة الكاملة وإنّما يكون ذلك بانخناس [1] الرّوح الحيوانيّ من الحواسّ الظّاهرة كلّها ورجوعه إلى الحسّ الباطن ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد باللّيل فتطلب الحرارة الغريزيّة أعماق البدن وتذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيّعة مركبها وهو الرّوح الحيوانيّ إلى الباطن ولذلك كان النّوم للبشر في الغالب إنّما هو باللّيل فإذا انخنس الرّوح عن الحواسّ الظّاهرة ورجع إلى القوى الباطنة وخفّت عن النّفس شواغل الحسّ وموانعه ورجعت إلى الصّورة الّتي في الحافظة تمثّل منها   [1] انخناس: تأخر وانقباض وتخلف (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بالتّركيب والتّحليل صور خياليّة وأكثر ما تكون معتادة لأنّها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا ثمّ ينزّلها الحسّ المشترك الّذي هو جامع الحواسّ الظّاهرة فيدركها على أنحاء الحواسّ الخمس الظّاهرة وربّما التفتت النّفس لفتة إلى ذاتها الرّوحانيّة مع منازعتها القوى الباطنيّة فتدرك بإدراكها الرّوحانيّ لأنّها مفطورة عليه وتقتبس من صور الأشياء الّتي صارت متعلّقة في ذاتها حينئذ ثمّ يأخذ الخيال تلك الصّور المدركة فيمثّلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتّعبير وتصرّفها بالتّركيب والتّحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللّمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. وفي الصّحيح أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرؤيا ثلاث رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشّيطان» وهذا التّفصيل مطابق لما ذكرناه فالجليّ من الله والمحاكاة الدّاعية إلى التّعبير من الملك وأضغاث الأحلام من الشّيطان لأنّها كلّها باطل والشّيطان ينبوع الباطل هذه حقيقة الرّؤيا وما يسبّبها ويشيّعها من النّوم وهي خواصّ للنّفس الإنسانيّة موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كلّ واحد من الإنسانيّ رأى في نومه ما صدر له في يقظته مرارا غير واحدة وحصل له على القطع أنّ النّفس مدركة للغيب في النّوم ولا بدّ وإذا جاز ذلك في عالم النّوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال لأنّ الذّات المدركة واحدة وخواصّها عامّة في كلّ حال والله الهادي إلى الحقّ بمنّه وفضله. فصل: ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالبا إنّما هو من غير قصد ولا قدرة عليه وإنّما تكون النّفس متشوّقة لذلك الشّيء فيقع بتلك اللّمحة في النّوم لأنّها تقصد إلى ذلك فتراه وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرّياضيّات ذكر أسماء تذكر عند النّوم فتكوّن عنها الرّؤيا فيما يتشوّف إليه ويسمّونها الحالوميّة وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سمّاها حالومة الطّبّاع التّامّ وهو أن يقال عند النّوم بعد فراغ السّرّ وصحّة التّوجّه هذه الكلمات الأعجميّة وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 «تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس» [1] ويذكر حاجته فإنّه يرى الكشف عمّا يسأل عنه في النّوم. وحكي إنّ رجلا فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره فتمثّل له شخص يقول له أنا طبّاعك التّامّ فسأله وأخبره عمّا كان يتشوّف إليه وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة واطّلعت بها على أمور كنت أتشوّف عليها من أحوالي وليس ذلك بدليل على أنّ القصد للرّؤيا يحدثها وإنّما هذه الحالومات تحدث استعدادا في النّفس لوقوع الرّؤيا فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعدّ له وللشّخص أن يفعل من الاستعداد ما أحبّ ولا يكون دليلا على إيقاع المستعدّ له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشّيء فاعلم ذلك وتدبّره فيما تجد من أمثاله والله الحكيم الخبير. فصل : ثمّ إنّا نجد في النّوع الإنسانيّ أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميّز بها صنفهم عن سائر النّاس ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلّون عليه بأثر من النّجوم ولا من غيرها إنّما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم الّتي فطروا عليها وذلك مثل العرّافين والنّاظرين في الأجسام الشّفافة كالمرايا وطساس الماء والنّاظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزّجر في الطّير والسّباع وأهل الطّرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنّوى وهذه كلّها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحدا جحدها ولا إنكارها وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها وكذلك النّائم والميت لأوّل موته أو نومه يتكلّم بالغيب وكذلك أهل الرّياضيّات من المتصوّفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. ونحن الآن نتكلّم عن هذه الإدراكات كلّها ونبتدئ منها بالكهانة ثمّ نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها ونقدّم على ذلك مقدّمة في أنّ النّفس الإنسانيّة كيف تستعدّ لإدراك الغيب في جميع الأصناف الّتي ذكرناها وذلك أنّها ذات روحانيّة موجودة بالقوّة إلى الفعل   [1] ليس لهذه الكلمات أي معنى في اللغات التي نعرفها وربما تكون لأسماء بعض الجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بالبدن وأحواله وهذا أمر مدرك لكلّ أحد وكلّ ما بالقوّة فله مادّة وصورة وصورة هذه النّفس الّتي بها يتمّ وجودها هو عين الإدراك والتّعقّل فهي توجد أوّلا بالقوّة مستعدّة للإدراك وقبول الصّور الكلّيّة والجزئيّة ثمّ يتمّ نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها وما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلّيّة فتتعقّل الصّور مرّة بعد أخرى حتّى يحصل لها الإدراك والتّعقّل بالفعل فتتمّ ذاتها وتبقى النّفس كالهيولى والصّور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة ولذلك نجد الصّبيّ في أوّل نشأته لا يقدر على الإدراك الّذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف ولا بغيرهما وذلك انّ صورتها الّتي هي عين ذاتها وهي الإدراك والتّعقّل لم تتمّ بعد بل لم يتمّ لها انتزاع الكلّيّات ثمّ إذا تمّت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤدّيه إليها المدارك البدنيّة وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواسّ وبشواغلها لأنّ الحواسّ أبدا جاذبة لها إلى الظّاهر بما فطرت عليه أوّلا من الإدراك الجسمانيّ وربّما تنغمس من الظّاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إمّا بالخاصّيّة الّتي هي للإنسان على الإطلاق مثل النّوم أو بالخاصيّة الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطّرق أو بالرّياضة مثل أهل الكشف من الصّوفيّة فتلتفت حينئذ إلى الذّوات الّتي فوقها من الملا لما بين أفقها وأفقهم من الاتّصال في الوجود كما قرّرنا قبل وتلك الذّوات روحانيّة وهي إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مرّ فيتجلّى فيها شيء من تلك الصّور وتقتبس منها علوما وربّما دفعت تلك الصّور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثمّ يراجع الحسّ بما أدركت إمّا مجرّدا أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النّفس لهذا الإدراك الغيبيّ. ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه. فأمّا النّاظرون في الأجسام الشّفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطّرق بالحصى والنّوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فكلّهم من قبيل الكهان إلّا أنّهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأنّ الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحسّ إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسّيّة كلّها في نوع واحد منها وأشرفها البصر فيعكف على المرئيّ البسيط حتّى يبدو له مدركة الّذي يخبر به عنه وربّما يظنّ أنّ مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنّه غمام يتمثّل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجّهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه وأمّا المرآة وما يدرك فيها من الصّور فلا يدركونه في تلك الحال وإنّما ينشأ لهم بها هذا النّوع الآخر من الإدراك وهو نفسانيّ ليس من إدراك البصر بل يتشكّل به المدرك النّفسانيّ للحسّ كما هو معروف ومثل ذلك ما يعرض للنّاظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وللنّاظرين في الماء والطّساس وأمثال ذلك. وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحسّ بالبخور فقط ثمّ بالعزائم للاستعداد ثمّ يخبر كما أدرك ويزعمون أنّهم يرون الصّور متشخّصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجّهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة وغيبة هؤلاء عن الحسّ أخفّ من الأوّلين والعالم أبو الغرائب. وأمّا الزّجر وهو ما يحدث من بعض النّاس من التّكلّم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوّة في النّفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئيّ أو مسموع وتكون قوّته المخيّلة كما قدّمناه قويّة فيبعثها في البحث مستعينا بما رآه أو سمعه فيؤدّيه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوّة المتخيّلة في النّوم وعند ركود الحواسّ تتوسّط بين المحسوس المرئيّ في يقظته وتجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرّؤيا. وأمّا المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التّعلّق بالبدن لفساد أمزجتهم غالبا وضعف الرّوح الحيوانيّ فيها فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواسّ ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النّقص ومرضه وربّما زاحمها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 التّعلّق به روحانيّة أخرى شيطانيّة تتشبّث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التّخبّط فإذا أصابه ذلك التّخبّط إمّا لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النّفوس الشّيطانيّة في تعلّقه غاب عن حسّه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصّور وصرفها الخيال وربّما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النّطق وإدراك هؤلاء كلّهم مشوب فيه الحقّ بالباطل لأنّه لا يحصل لهم الاتّصال وإن فقدوا الحسّ إلّا بعد الاستعانة بالتّصوّرات الأجنبيّة كما قرّرناه ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأمّا العرّافون فهم المتعلّقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتّصال فيسلّطون الفكر على الأمر الّذي يتوجّهون إليه ويأخذون فيه بالظّنّ والتّخمين بناء على ما يتوهّمونه من مبادئ ذلك الاتّصال والإدراك ويدّعون بذلك معرفة الغيب وليس منه على الحقيقة هذا تحصيل هذه الأمور وقد تكلّم عليها المسعودي في مروج الذّهب فما صادف تحقيقا ولا إصابة ويظهر من كلام الرّجل أنّه كان بعيدا عن الرّسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله وهذه الإدراكات الّتي ذكرناها موجودة كلّها في نوع البشر فقد كان العرب يفزعون إلى الكهّان في تعرّف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرّفوهم بالحقّ فيها من إدراك غيبهم وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك واشتهر منهم في الجاهليّة شقّ بن أنمار بن نزار وسطيح بن مازن بن غسّان وكان يدرج كما يدرج الثّوب ولا عظم فيه إلّا الجمجمة ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن مضر وما أخبراه به ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النّبوة المحمّديّة في قريش ورؤيا الموبذان الّتي أوّلها سطيح لمّا بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النّبوة وخراب ملك فارس وهذه كلّها مشهورة وكذلك العرّافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم قال فقلت لعرّاف اليمامة داوني ... فإنّك إن داويتني لطبيب وقال الآخر: جعلت لعرّاف اليمامة حكمه ... وعرّاف نجد إن هما شفياني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فقالا شفاك الله والله ما لنا ... بما حملت منك الضّلوع يدان [1] وعرّاف اليمامة هو رباح بن عجلة وعرّاف نجد الأبلق الأسديّ. ومن هذه المدارك الغيبيّة ما يصدر لبعض النّاس عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنّوم من الكلام على الشّيء الّذي يتشوّف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد ولا يقع ذلك إلّا في مبادئ النّوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختبار في الكلام فيتكلّم كأنّه مجبور على النّطق وغايته أن يسمعه ويفهمه وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رءوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظّالمين أنّهم قتلوا من سجونهم أشخاصا ليتعرّفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أنّ آدميّا إذا جعل في دنّ مملوء بدهن السّمسم ومكث فيه أربعين يوما يغذّى بالتّين والجوز حتّى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلّا العروق وشئون رأسه فيخرج من ذلك الدّهن فحين يجفّ عليه الهواء يجيب عن كلّ شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصّة والعامّة وهذا فعل من مناكير أفعال السّحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنسانيّ ومن النّاس. من يحاول حصول هذا المدرك الغيبيّ بالرّياضة فيحاولون بالمجاهدة موتا صناعيا بإماتة جميع القوى البدنيّة ثمّ محو آثارها الّتي تلوّنت بها النّفس ثمّ تغذيتها بالذّكر لتزداد قوّة في نشئها ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع ومن المعلوم على القطع أنّه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحسّ وحجابه واطّلعت النّفس على المغيّبات ومن هؤلاء أهل الرّياضة السّحريّة يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطّلاع على المغيّبات والتّصرّفات في العوالم وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا خصوصا بلاد الهند ويسمّون هنالك الحوكيّة ولهم كتب في كيفيّة هذه الرّياضة كثيرة والأخبار عنهم في ذلك غريبة. وأمّا المتصوّفة فرياضتهم دينيّة وعريّة عن هذه المقاصد المذمومة   [1] أي لا نستطيع أن نشفيك من الحب الّذي تحمله ضلوعك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وإنّما يقصدون جمع الهمّة والإقبال على الله بالكلّيّة ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتّوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التّغذية بالذّكر فبها تتمّ وجهتهم في هذه الرّياضة لأنّه إذا نشأت النّفس على الذّكر كانت أقرب إلى العرفان باللَّه وإذا عرّيت عن الذّكر كانت شيطانيّة وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتّصرّف لهؤلاء المتصوّفة إنّما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أوّل الأمر لأنّه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله وإنّما هي لقصد التّصرّف والاطّلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنّها في الحقيقة شرك قال بعضهم: «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثّاني [1] » فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم وكثير منهم يفرّ منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنّما يريد الله لذاته لا لغيره وحصول ذلك لهم معروف ويسمّون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا وما يقع لهم من التّصرّف كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقّهم وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ وأبو محمّد بن أبي زيد المالكيّ في آخرين [2] فرارا من التباس المعجزة بغيرها والمعوّل عليه عند المتكلّمين حصول التّفرقة بالتحدّي فهو كاف. وقد ثبت في الصّحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ فيكم محدّثين وإنّ منهم عمر» وقد وقع للصّحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه «يا سارية الجبل» وهو سارية بن زنيم كان قائدا على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيّام الفتوحات وتورّط مع المشتركين في معترك وهمّ بالانهزام وكان بقربة جبل يتحيّز إليه فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصّة معروفة ووقع مثله أيضا لأبي بكر في وصيّته   [1] أي أشرك باللَّه بمعنى ان الله له ثان. [2] استعمال غير صحيح، وقد استعمله ابن خلدون في مواضع متفرقة من كتابه والصحيح: أخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها [1] من أوسق [2] التّمر من حديقته ثمّ نبّهها على جذاذه لتحوّزه [3] عن الورثة فقال في سياق كلامه «وإنّما هما أخواك وأختاك» فقالت: «إنّما هي أسماء فمن الأخرى؟» فقال: «إنّ ذا بطن بنت خارجة أراها جارية» فكانت جارية وقع في الموطّإ في باب ما لا يجوز من النّحل ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصّالحين وأهل الاقتداء إلّا أنّ أهل التّصوّف يقولون إنّه يقلّ في زمن النّبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النّبيّ حتّى إنّهم يقولون إنّ المريد إذا جاء للمدينة النّبويّة يسلب حاله ما دام فيها حتّى يفارقها والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحقّ. ومن هؤلاء المريدين من المتصوّفة قوم بهاليل [4] معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحّت لهم مقامات الولاية وأحوال الصّدّيقين وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذّوق [5] مع أنّهم غير مكلّفين ويقع لهم من الأخبار عن المغيّبات عجائب لأنّهم لا يتقيّدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب وربّما ينكر الفقهاء أنّهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التّكليف عنهم والولاية لا تحصل إلّا بالعبادة وهو غلط فإنّ فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقّف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها وإذا كانت النّفس الإنسانيّة ثابتة الوجود فاللَّه تعالى يخصّها بما شاء من مواهبه وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم النّاطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنّما فقد لهم العقل الّذي يناط به التّكليف وهي صفة خاصّة للنّفس وهي علوم ضروريّة للإنسان يشتدّ بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله وكأنّه إذا ميّز أحوال معاشه واستقامة منزله   [1] نحلة: أعطاه. ولكن هنا تعني خصّها. والأصح أن يقول أنحلها. [2] أوسق: ج وسق: وهو وزن ستين صاعا أو حمل بعير. [3] لتختص به. [4] بهاليل: ج بهلول وهو السيد الجامع لكل خير، والمعنى الشائع لكلمة البهلول هو المعتوه. [5] أهل الذوق: (الذين يتاح لهم أن يذوقوا حلاوة المعرفة الإلهية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لم يبق له عذر في قبول التّكاليف لإصلاح معاده وليس من فقد هذه الصّفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التّكليفيّ الّذي هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقّف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التّكاليف وإذا صحّ ذلك فاعلم أنّه ربّما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الّذين تفسد نفوسهم النّاطقة ويلتحقون بالبهائم ولك في تمييزهم علامات منها أنّ هؤلاء البهاليل لا تجد لهم وجهة أصلا ومنها أنّهم يخلقون على البله من أوّل نشأتهم والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدّة من العمر لعوارض بدنيّة طبيعيّة فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم النّاطقة ذهبوا بالخيبة ومنها كثرة تصرّفهم في النّاس بالخير والشّرّ لأنّهم لا يتوقّفون على إذن لعدم التّكليف في حقّهم والمجانين لا تصرّف لهم وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصّواب. وقد يزعم بعض النّاس أنّ هنا مدارك [1] للغيب من دون غيبة عن الحسّ فمنهم المنجّمون القائلون بالدّلالات النّجوميّة ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر وما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتّناظر ويتأدّى من ذلك المزاج إلى الهواء وهؤلاء المنجّمون ليسوا من الغيب في شيء إنّما هي ظنون حدسيّة وتخمينات مبنيّة على التّآثير النّجوميّة وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به النّاظر على تفصيله في الشّخصيّات في العالم كما قاله بطليموس ونحن نبيّن بطلان ذلك في محلّه إن شاء الله وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس ممّا ذكرناه في شيء. ومن هؤلاء قوم من العامّة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرّف الكائنات صناعة سمّوها خطّ الرّمل نسبة إلى المادّة الّتي يضعون فيها عملهم ومحصول هذه الصّناعة أنّهم صيّروا من النّقط أشكالا ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزّوجيّة والفرديّة واستوائها فيهما فكانت ستّة عشر   [1] كذا في جميع النسخ والكلمة ضعيفة والأصح أن يقال: قد يظن البعض أن هنا من يدرك الغيب. فتنسجم العبارة كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 شكلا لأنّها إن كانت أزواجا كلّها أو أفرادا كلّها فشكلان وإن كان الفرد فيهما في مرتبة واحدة فقط فأربعة أشكال وإن كان الفرد في مرتبتين فستّة أشكال وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال جاءت ستّة عشر شكلا ميّزوها كلّها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس شأن الكواكب وجعلوا لها ستّة عشر بيتا طبيعيّة بزعمهم وكأنّها البروج الاثنا عشر الّتي للفلك والأوتاد الأربعة وجعلوا لكلّ شكل منها بيتا وخطوطا [1] ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختصّ به واستنبطوا من ذلك فنّا حاذوا به فنّ النّجامة ونوع فضائه إلّا أنّ أحكام النّجامة مستندة إلى أوضاع طبيعيّة كما يزعم بطليموس وهذه إنّما مستندها أوضاع تحكيميّة وأهواء اتفاقيّة ولا دليل يقوم على شيء منها ويزعمون أنّ أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم وربّما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصّنائع كلّها وربّما يدّعون مشروعيّتها ويحتجّون بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كان نبيّ يخطّ فمن وافق خطّه فذاك» وليس في الحديث دليل على مشروعيّة خطّ الرّمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأنّ معنى الحديث كان نبيّ يخطّ فيأتيه الوحي عند ذلك الخطّ ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطّه ذلك النّبيّ فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخطّ بما عضده من الوحي لذلك النّبيّ الّذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخطّ وأمّا إذا أخذ ذلك من الخطّ مجرّدا من غير موافقة وحي فلا وهذا معنى الحديث والله أعلم. فإذا أرادوا استخراج مغيّب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النّقط سطورا على عدد المراتب الأربع ثمّ كرّروا ذلك أربع مرّات فتجيء ستة عشر سطرا ثمّ يطرحون النّقط أزواجا ويضعون ما بقي من كلّ سطر زوجا كان أو فردا في مرتبته على التّرتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ثمّ يولّدون منها أربعة أشكال أخرى من جانب العرض باعتبار كلّ مرتبة وما   [1] في بعض النسخ: حظوظا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قابلها من الشّكل الّذي بإزائه وما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثمّ يولّدون من كلّ شكلين شكلا تحتهما باعتبار ما يجتمع في كلّ مرتبة من مراتب الشّكلين أيضا من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثمّ يولّدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها من الشّكلين شكلا كذلك تحتهما ثمّ من هذا الشّكل الخامس عشر مع الشّكل الأوّل شكلا يكون آخر السّتّة عشر ثمّ يحكمون على الخطّ كلّه بما اقتضته أشكاله من السّعودة والنّحوسة بالذّات والنّظر والحلول والامتزاج والدّلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكّما غريبا وكثرت هذه الصّناعة في العمران ووضعت فيها التّآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدّمين والمتأخّرين وهي كما رأيت تحكّم وهوى والتّحقيق الّذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أنّ الغيوب لا تدرك بصناعة البتّة ولا سبيل إلى تعرّفها إلّا للخواصّ من البشر المفطورين على الرّجوع من عالم الحسّ إلى عالم الرّوح ولذلك يسمّي المنجمون هذا الصّنف كلهم بالزّهريّين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزّهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب فالخطّ وغيره من هذه إن كان النّاظر فيه من أهل هذه الخاصّيّة وقصد بهذه الأمور الّتي ينظر فيها من النّقط أو العظام أو غيرها إشغال الحسّ لترجع النّفس إلى عالم الرّوحانيّات لحظة ما، فهو من باب الطّرق بالحصى والنّظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشّفّافة كما ذكرناه. وإن لم يكن كذلك وإنّما قصد معرفة الغيب بهذه الصّناعة وأنّها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل والله يهدي من يشاء. والعلامة لهذه الفطرة الّتي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبيّ أنّهم عند توجّههم إلى تعرّف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطّبيعيّة كالتّثاؤب والتّمطّط ومبادئ الغيبة عن الحسّ ويختلف ذلك بالقوّة والضّعف على اختلاف وجودها فيهم فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنّما هو ساع في تنفيق [1] كذبه.   [1] ترويج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فصل ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطّور الأوّل الّذي هو من مدارك النّفس الرّوحانيّة ولا من الحدس المبنيّ على تأثيرات النّجوم كما زعمه بطليموس ولا من الظّنّ والتّخمين الّذي يحاول عليه العرّافون وإنّما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة ولست أذكر من ذلك إلّا ما ذكره المصنّفون وولع به الخواصّ فمن تلك القوانين الحساب الّذي يسمّونه حساب النّيم وهو مذكور في آخر كتاب السّياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك وهو أن تحسب الحروف الّتي في اسم أحدهما بحساب الجمّل المصطلح عليه في حروف أبجد [1] من الواحد إلى   [1] حساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد هو أن لكل حرف من الحروف الهجائية رقما خاصا على النحو الآتي: أولا: على طريقة المغاربة وهي الطريقة التي عناها ابن خلدون وسار عليها: أب ج د هـ ور ح ط ي ك ل م ن ص ع ف ض ق ر س ث ت خ ذ ظ غ ش 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 20 30 40 50 60 70 80 90 100 200 300 400 500 600 700 800 900 1000 ثانيا: على طريقة المشارقة وهي الطريقة المشهورة في مصر والعراق وسورية وغيرها من البلاد العربية الأخرى: أب ج د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 20 30 40 50 60 70 80 90 100 200 300 400 500 600 700 800 900 1000 ويستعمل حساب الجمل هذا المنجمون والذين يتعاطون تاريخ الاحداث التاريخية والوفيات والولادات وما شاكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الألف آحادا وعشرات ومئين وألوفا فإذا حسبت الاسم وتحصّل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك ثمّ اطرح من كلّ واحد منهما تسعة تسعة واحفظ بقيّة هذا وبقيّة هذا ثمّ انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين فإن كان العددان مختلفين في الكمّيّة وكانا معا زوجين أو فردين معا فصاحب الأقلّ منهما هو الغالب وإن كان أحدهما زوجا والآخر فردا فصاحب الأكثر هو الغالب وإن كانا متساويين في الكميّة وهما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب وإن كانا معا فردين فالطّالب هو الغالب ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين النّاس وهما: أرى الزّوج والأفراد يسمو أقلّها ... وأكثرها عند التّحالف غالب ويغلب مطلوب إذا الزّوج يستوي ... وعند استواء الفرد يغلب طالب ثمّ وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها بتسعة قانونا معروفا عندهم في طرح تسعة وذلك أنّهم جمعوا الحروف الدّالّة على الواحد في المراتب الأربع وهي (أ) الدّالّة على الواحد وهي: (اي) الدّالّة على العشرة وهي واحد في مرتبة العشرات و (ق) الدّالّة على المائة لأنّها واحد في مرتبة المئين و (ش) الدّالّة على الألف لأنّها واحد في مرتبة الآلاف وليس بعد الألف عدد يدلّ عليه بالحروف لأنّ الشّين هي آخر حروف أبجد ثمّ رتّبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعيّة وهي (ايقش) ثمّ فعلوا ذلك بالحروف الدّالّة على اثنين في المراتب الثّلاث وأسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنّها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثّلاث ثلاثة حروف وهي (ب) الدّالّة على اثنين في الآحاد و (ك) الدّالّة على اثنين في العشرات وهي عشرون و (ر) الدّالّة على اثنين في المئين وهي مائتان وصيّروها كلمة واحدة ثلاثيّة على نسق المراتب وهي بكر ثمّ فعلوا ذلك بالحروف الدّالّة على ثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فنشأت عنها كلمة جلس وكذلك إلى آخر حروف أبجد وصارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد وهي ايقش بكر جلس دمت هنث وصخ زعد حفظ طضغ مرتّبة على توالي الأعداد ولكلّ كلمة منها عددها الّذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة ايقش والاثنان لكلمة بكر والثّلاثة لكلمة جلس وكذلك إلى التّاسعة الّتي هي طضغ فتكون لها التّسعة فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كلّ حرف منه في أيّ كلمة هو من هذه الكلمات وأخذوا عددها مكانه ثمّ جمعوا الأعداد الّتي يأخذونها بدلا من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التّسعة أخذوا ما فضل عنها وإلّا أخذوه كما هو ثمّ يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدّمناه والسّرّ في هذا بيّن وذلك أنّ الباقي من كلّ عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنّما هو واحد فكأنّه يجمع عدد العقود خاصّة من كلّ مرتبة فصارت أعداد العقود كأنّها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلّها اثنان وكذلك الثّلاثة والثّلاثون والثّلاثمائة والثّلاثة الآلاف كلّها ثلاثة ثلاثة فوضعت الأعداد على التّوالي دالّة على أعداد العقود لا غير وجعلت الحروف الدّالّة على أصناف العقود في كلّ كلمة من الآحاد والعشرات والمئين والألوف [1] وصار عدد الكلمة الموضوع عليها نائبا عن كلّ حرف فيها سواء دلّ على الآحاد أو العشرات أو المئين فيؤخذ عدد كلّ كلمة عوضا من الحروف الّتي فيها وتجمع كلّها إلى آخرها كما قلناه هذا هو العمل المتداول بين النّاس منذ الأمر القديم وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أنّ الصّحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها ويفعلون بها في الطّرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء وهي هذه ارب يستمك جزلط مدوص هف تحذن عش خع ثضظ تسع كلمات على توالي العدد ولكلّ كلمة منها   [1] قوله الألوف فيه نظر لأن الحروف ليس فيها ما يزيد عن الألف كما سبق في كلامه (الهوريني في طبعة بولاق) وعلق د. علي عبد الواحد وافي على قول الهوريني: «وقد أورد ابن خلدون كلمة الألوف بالجمع للمشاكلة مع قوله الآحاد والعشرات والمئين. وان لم يكن في الحروف الا ألف واحد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 عددها الّذي في مرتبته فيها الثّلاثيّ والرّباعيّ والثّنائيّ وليست جارية على أصل مطّرد كما تراه لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السّيمياء وأسرار الحروف والنّجامة وهو أبو العبّاس بن البنّاء ويقولون عنه أنّ العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النّيم أصحّ من العمل بكلمات ايقش والله يعلم كيف ذلك وهذه كلّها مدارك للغيب غير معزوّ إلى أرسطو عند المحقّقين لما فيه من الآراء البعيدة عن التّحقيق والبرهان يشهد لك بذلك تصفّحه إن كنت من أهل الرّسوخ 1 هـ-. ومن هذه القوانين الصّناعيّة لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزّايرجة المسمّاة «بزايرجة العالم» المعزوّة إلى أبي العبّاس سيّدي أحمد السّبتيّ من أعلام المتصوّفة بالمغرب كان في آخر المائة السّادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحّدين وهي غريبة العمل صناعة. وكثير من الخواصّ يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرّضون بذلك على حلّ رمزه وكشف غامضه. وصورتها الّتي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكوّنات والرّوحانيّات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم وكلّ دائرة مقسومة بأقسام فلكها إمّا البروج وإمّا العناصر أو غيرهما وخطوط كلّ قسم مارّة إلى المركز ويسمّونها الأوتار وعلى كلّ وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم [1] الزّمام الّتي هي أشكال الأعداد عند أهل الدّواوين والحسّاب بالمغرب لهذا العهد ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزّايرجة وبين الدّوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان وعلى ظاهر الدّوائر جدول متكثّر البيوت المتقاطعة طولا وعرضا يشتمل على خمسة وخمسين بيتا في العرض ومائة وواحد وثلاثين في الطّول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد   [1] قوله برشوم أي موضوعة بضم الراء جمع رشم بالشين المعجمة 1 هـ-: ومعنى رشم: كتب. والرشم الكتابة والشكل. ومعنى رسوم الزمام: أشكال الأعداد المستعملة في الغرب. وبرشوم الغبار: أشكال الأرقام الهندية المصطلح عليها في الشرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وأخرى بالحروف وجوانب خالية البيوت ولا تعلم نسبة تلك الأعداد في أوضاعها ولا القسمة الّتي عيّنت البيوت العامرة من الخالية وحافات الزّايرجة أبيات من عروض الطّويل على رويّ اللّام المنصوبة تتضمّن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزّايرجة إلّا أنّها من قبيل الإلغاز في عدم الوضوح والجلاء وفي بعض جوانب الزّايرجة بيت من الشّعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان [1] بالمغرب وهو مالك بن وهيب من علماء إشبيليّة كان في الدّولة اللّمتونيّة ونصّ البيت. سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شكّ ضبطه الجدّ مثّلا وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السّؤال في هذه الزّايرجة وغيرها فإذا أرادوا استخراج الجواب عمّا يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السّؤال وقطّعوه حروفا ثمّ أخذوا الطّالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها وعمدوا إلى الزّايرجة ثمّ إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطّالع من أوّله مارّا إلى المركز ثمّ إلى محيط الدّائرة قبالة الطّالع فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوّله إلى آخره والأعداد المرسومة بينهما ويصيّرونها حروفا بحساب الجمّل وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم ويضعونها مع حروف السّؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثّالث من الطّالع من الحروف والأعداد من أوّله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأوّل ويضيفونها إلى الحروف الأخرى ثمّ يقطّعون حروف البيت الّذي هو أصل العمل وقانونه عندهم وهو بيت مالك بن وهيب المتقدّم ويضعونها ناحية ثمّ يضربون عدد درج الطّالع في أسّ البرج وأسّه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأسّ عند أهل صناعة الحساب فإنّه عندهم البعد عن أوّل المراتب ثمّ   [1] أي إنه من كبار المحدّثين والمخبرين عما يخبئه الغيب من أحداث الدهر وشئون المستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يضربونه في عدد آخر يسمّونه الأسّ الأكبر والدّور الأصليّ ويدخلون بما تجمّع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة ويستخرجون منها حروفا ويسقطون أخرى ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السّؤال وما معها ثمّ يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمّونها الأدوار ويخرجون في كلّ دور الحرف الّذي ينتهي عنده الدّور ويعاودون ذلك بعدد الأدوار المعيّنة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطّعة وتؤلّف على التّوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الّذي يقابل به العمل ورويّه وهو بيت مالك ابن وهيب المتقدّم حسبما نذكر ذلك كلّه في فصل العلوم عند كيفيّة العمل بهذه الزّايرجة وقد رأينا كثيرا من الخواصّ يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أنّ ما وقع من مطابقة الجواب للسّؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع وليس ذلك بصحيح لأنّه قد مرّ لك أنّ الغيب لا يدرك بأمر صناعيّ البتّة وإنّما المطابقة الّتي فيها بين الجواب والسّؤال من حيث الإفهام والتّوافق في الخطاب حتّى يكون الجواب مستقيما أو موافقا للسّؤال ووقوع ذلك في هذه الصّناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السّؤال والأوتار والدّخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح أخرى ومعاودة ذلك في الأدوار المعدودة ومقابلة ذلك كلّه بحروف البيت على التّوالي غير مستنكر وقد يقع الاطّلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول فالتّناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنّفس وطريق لحصوله سيّما من أهل الرّياضة فإنّها تفيد العقل قوّة على القياس وزيادة في الفكر وقد مرّ تعليل ذلك غير مرّة ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزّايرجة في الغالب لأهل الرّياضة فهي منسوبة للسّبتيّ ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله ولعمري إنّها من الأعمال الغريبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 والمعاناة [1] العجيبة والجواب الّذي يخرج منها فالسّرّ في خروجه منظوما يظهر لي إنّما هو المقابلة بحروف ذلك البيت ولهذا يكون النّظم على وزنه ورويّه ويدلّ عليه أنّا وجدنا أعمالا أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوما كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه وكثير من النّاس تضيق مداركهم عن التّصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب فينكر صحّتها ويحسب أنّها من التّخيّلات والإيهامات وأنّ صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الّذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السّؤال والأوتار ويفعل تلك الصّناعات على غير نسبة ولا قانون ثمّ يجيء بالبيت ويوهم أنّ العمل جاء على طريقة منضبطة وهذا الحسبان توهّم فاسد حمل عليه القصور عن فهم التّناسب بين الموجودات والمعدومات والتّفاوت بين المدارك والعقول ولكن من شأن كلّ مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه ويكفينا في ردّ ذلك مشاهدة العمل بهذه الصّناعة والحدس القطعيّ فإنّها جاءت بعمل مطّرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممّن له ذكاء وحدس وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الّذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النّسبة فيه وخفائها فما ظنّك بمثل هذا مع خفاء النّسبة فيه وغرابتها فلنذكر مسألة من المعاياة يتّضح لك بها شيء ممّا ذكرنا مثاله لو قيل لك خذ عددا من الدّراهم واجعل بإزاء كلّ درهم ثلاثة من الفلوس ثمّ اجمع الفلوس الّتي أخذت واشتر بها طائرا ثمّ اشتر بالدّراهم كلّها طيورا بسعر ذلك الطّائر فكم الطّيور المشتراة بالدّراهم فجوابه أن تقول هي تسعة لأنّك تعلم أنّ فلوس الدّراهم أربعة وعشرون وأنّ الثّلاثة ثمنها وأنّ عدّة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثّمن من الدّراهم إلى الثّمن الآخر فكان كلّه ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدّة أثمان الواحد وتزيد على الثّمانية طائرا آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أوّلا وعلى سعره اشتريت بالدّراهم فتكون تسعة فأنت ترى   [1] كذا في جميع النسخ. «ولعلها محرّفة عن (المعاياة) وهو الإتيان بكلام لا يهتدى كله هكذا يقتضي سياق الكلام» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 كيف خرج لك الجواب المضمر بسرّ التّناسب الّذي بين أعداد المسألة والوهم أوّل ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنّما يجعله من قبيل الغيب الّذي لا يمكن معرفته وظهر أنّ التّناسب بين الأمور هو الّذي يخرج مجهولها من معلومها وهذا إنّما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم وأمّا الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته وإذا تبيّن لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزّايرجة كلّها إنّما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السّؤال لأنّها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر وسرّ ذلك إنّما هو من تناسب بينهما يطّلع عليه بعض دون بعض فمن عرف ذلك التّناسب تيسّر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين والجواب يدلّ في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السّؤال من نفي أو إثبات وليس هذا من المقام الأوّل بل إنّما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثر الله بعلمه وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2: 216. الباب الثاني في العمران البدويّ والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية اعلم أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإنّ اجتماعهم إنّما هو للتّعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروريّ منه ونشيط قبل الحاجيّ والكماليّ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزّراعة ومنهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنّحل والدّود لنتاجها واستخراج فضلاتها وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضّرورة ولا بدّ إلى البدو لأنّه متّسع لما لا يتّسع له الحواضر من المزارع والفدن [1] والمسارح للحيوان وغير ذلك فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرا ضروريا لهم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكنّ والدّفء إنّما هو بالمقدار الّذي يحفظ الحياة ويحصّل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عمّا وراء ذلك ثمّ إذا اتّسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرّفه دعاهم ذلك إلى السّكون والدّعة وتعاونوا في الزّائد على الضّرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتّأنّق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتّحضّر ثمّ تزيد أحوال الرّفه والدّعة فتجيء عوائد التّرف البالغة مبالغها في التّأنّق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والدّيباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصّروح وإحكام وضعها في تنجيدها [2] والانتهاء في الصّنائع في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى غايتها فيتّخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون في استجادة ما يتّخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصّنائع ومنهم من ينتحل التّجارة وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأنّ أحوالهم زائدة على الضّروريّ ومعاشهم على نسبة وجدهم فقد تبيّن أنّ أجيال البدو والحضر طبيعيّة لا بدّ منها كما قلناه.   [1] الفدن: ج فدّان: مزرعة (منجد) [2] ترتيبها وتزيينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الفصل الثاني في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي ّ قد قدّمنا في الفصل قبله أنّ أهل البدو هم المنتخلون للمعاش الطّبيعيّ من الفلح والقيام على الأنعام وأنّهم مقتصرون على الضّروريّ من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصّرون عمّا فوق ذلك من حاجيّ أو كماليّ يتّخذون البيوت من الشّعر والوبر أو الشّجر أو من الطّين والحجارة غير منجّدة إنّما هو قصد الاستظلال والكنّ لا ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران [1] والكهوف وأمّا أقواتهم فيتناولون بها يسيرا بعلاج أو بغير علاج البتّة إلّا ما مسّته النّار فمن كان معاشه منهم في الزّراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظّعن وهؤلاء سكّان المدر والقرى والجبال وهم عامّة البربر والأعاجم ومن كان معاشه في السّائمة مثل الغنم والبقر فهم ظعّن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتّقلّب في الأرض أصلح بهم ويسمّون شاوية ومعناه القائمون على الشّاء والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطّيّبة وهؤلاء مثل البربر والتّرك وإخوانهم من التّركمان والصّقالبة وأمّا من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعنا وأبعد في القفر مجالا لأنّ مسارح التّلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشّجر بالقفر وورود مياهه الملحة [2] والتّقلّب فصل الشّتاء في نواحيه فرارا من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلبا لماخض النتاج في رماله إذ الإبل أصعب الحيوان فصالا   [1] الغور: ما انحدر واطمأن من الأرض وجمعها مغاور ومغارات. وهذا مقتضى السياق. وقد استعمل ابن خلدون الغيران بهذا المعنى. والأصح مغاور أو مغارات. [2] يقال: أملح الماء: صار «ملحا» بعد أن كان عذبا (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ومخاضا وأحوجها في ذلك إلى الدّفء فاضطرّوا إلى إبعاد النّجعة وربّما زادتهم الحامية عن التلول أيضا فأوغلوا في القفار نفرة عن الضّعة منهم فكانوا لذلك أشدّ النّاس توحّشا وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتّركمان والتّرك بالمشرق إلّا أنّ العرب أبعد نجعة وأشدّ بداوة لأنّهم مختصّون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشّياه والبقر معها فقد تبيّن لك أنّ جيل العرب طبيعيّ لا بدّ منه في العمران والله سبحانه وتعالى أعلم. الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وان البادية أصل العمران والأمصار مدد لها قد ذكرنا أنّ البدو هم المقتصرون على الضّروريّ في أحوالهم العاجزون عمّا فوقه وأنّ الحضر المعتنون بحاجات التّرف والكمال في أحوالهم وعوائدهم ولا شكّ أنّ الضّروريّ أقدم من الحاجيّ والكماليّ وسابق عليه ولأنّ الضّروريّ أصل والكماليّ فرع ناشئ عنه فالبدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما لأنّ أوّل مطالب الإنسان الضّروريّ ولا ينتهي إلى الكمال والتّرف إلّا إذا كان الضّروريّ حاصلا فخشونة البداوة قبل رقّة الحضارة ولهذا نجد التّمدّن غاية للبدويّ يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحة منها ومتى حصل على الرّياش الّذي يحصل له به أحوال التّرف وعوائده عاج إلى الدّعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة وهكذا شأن القبائل المتبدّية كلّهم والحضريّ لا يتشوّف إلى أحوال البادية إلّا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته وممّا يشهد لنا أنّ البدو أصل للحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ومتقدّم عليه أنّا إذا فتّشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أوّليّة أكثرهم من أهل البدو الّذين بناحية ذلك المصر وعدلوا إلى الدّعة والتّرف الّذي في الحضر وذلك يدلّ على أنّ أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنّها أصل لها فتفهّمه. ثمّ إنّ كلّ واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه فربّ حيّ أعظم من حيّ وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمرانا من مدينة فقد تبيّن أنّ وجود البدو متقدّم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أنّ وجود المدن والأمصار من عوائد التّرف والدّعة الّتي هي متأخرة عن عوائد الضّرورة المعاشيّة والله أعلم. الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر وسببه أنّ النّفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شرّ قال صلّى الله عليه وسلّم «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشّرّ وصعب عليه طريقه وكذا صاحب الشّرّ إذا سبقت إليه أيضا عوائده وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذّ وعوائد التّرف والإقبال على الدّنيا والعكوف على شهواتهم منها وقد تلوّنت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشّرّ وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتّى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدّهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السّوء في التّظاهر بالفواحش قولا وعملا وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدّنيا مثلهم إلّا أنّه في المقدار الضّروريّ لا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 التّرف ولا في شيء من أسباب الشّهوات واللّذّات ودواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السّوء ومذمومات الخلق بالنّسبة إلى أهل الحضر أقلّ بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عمّا ينطبع في النّفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر وقد يتوضّح فيما بعد أنّ الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشّرّ والبعد عن الخير فقد تبيّن أنّ أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر والله يحبّ المتّقين ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاريّ من قول الحجّاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنّه خرج إلى سكنى البادية فقال له ارتددت على عقبيك تعرّبت فقال لا ولكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن لي في البدو فاعلم أنّ الهجرة افترضت أوّل الإسلام على أهل مكّة ليكونوا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المظاهرة والحراسة ما لا يمسّ غيرهم من بادية الأعراب وقد كان المهاجرون يستعيذون باللَّه من التّعرّب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة وقال صلّى الله عليه وسلّم في حديث سعد بن أبي وقّاص عند مرضه بمكّة «اللَّهمّ أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم» ومعناه أن يوفّقهم لملازمة المدينة وعدم التّحوّل عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم الّتي ابتدءوا بها وهو من باب الرّجوع على العقب في السّعي إلى وجه من الوجوه وقيل أنّ ذلك كان خاصّا بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلّة المسلمين وأمّا بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزّوا وتكفّل الله لنبيّه بالعصمة من النّاس فإنّ الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلّى الله عليه وسلّم «لا هجرة بعد الفتح» وقيل سقط إنشاؤها عمّن يسلم بعد الفتح وقيل سقط وجوبها عمّن أسلم وهاجر قبل الفتح والكلّ مجمعون على أنّها بعد الوفاة ساقطة لأنّ الصّحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 يبق إلّا فضل السّكنى بالمدينة وهو هجرة فقول الحجّاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعرّبت نعى عليه في ترك السّكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدّعاء المأثور الّذي قدمناه وهو قوله لا تردّهم على أعقابهم وقوله تعرّبت إشارة إلى أنّه صار من الأعراب الّذين لا يهاجرون وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أذن له في البدو ويكون ذلك خاصّا به كشهادة خزيمة [1] وعناق أبي بردة [2] أو يكون الحجّاج إنّما نعى عليه ترك السّكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة بأنّ اغتنامه لإذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولى وأفضل فما آثره به واختصّه إلّا لمعنى علمه فيه وعلى كلّ تقدير فليس دليلا على مذمّة البدو الّذي عبّر عنه بالتّعرّب لأنّ مشروعيّة الهجرة إنّما كانت كما علمت لمظاهرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحراسته لا لمذمّة البدو فليس في النّعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمّة التّعرّب والله سبحانه أعلم وبه التّوفيق. الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر والسّبب في ذلك أنّ أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدّعة وانغمسوا في النّعيم والتّرف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الّذي يسوسهم والحامية الّتي تولّت حراستهم واستناموا إلى الأسوار الّتي تحوطهم والحرز الّذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة [3] ولا ينفر لهم صيد فهم غارّون [4] آمنون، قد ألقوا السّلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزّلوا منزلة   [1] هو خذيمة بن ثابت الأنصاري من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد جعل شهادته بشهادة رجلين. [2] العناق: أم الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة. وقد أجاز النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بردة ابن نيار خاصة أن يضحّي بها قصد ابن خلدون فهو استثناء الخصوصيات من عموم الأحكام، لما ورد بشأنها في أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم. [3] هيعة: الصوت المرعب والمخيف. [4] غارّون: مطمئنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 النّساء والولدان الّذين هم عيال على أبي مثواهم حتّى صار ذلك خلقا يتنزّل منزلة الطّبيعة وأهل البدو لتفرّدهم عن المجتمع وتوحّشهم في الضّواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السّلاح ويتلفّتون عن كلّ جانب في الطّرق ويتجافون عن الهجوع إلّا غرارا في المجالس وعلى الرّجال وفوق الأقتاب ويتوجّسون للنّبئات [1] والهيعات ويتفرّدون في القفر والبيداء مدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشّجاعة سجيّة يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السّفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم وذلك مشاهد بالعيان حتّى في معرفة النّواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السّبل وسبب ذلك ما شرحناه وأصله أنّ الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه فالّذي ألفه في الأحوال حتّى صار خلقا وملكة وعادة تنزّل منزلة الطّبيعة والجبلة واعتبر ذلك في الآدميّين تجده كثيرا صحيحا والله يخلق ما يشاء.   [1] يتوجسون: يتسمعون. النبآت: الأصوات الخفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم وذلك أنّه ليس كلّ أحد مالك أمر نفسه إذ الرّؤساء والأمراء المالكون لأمر النّاس قليل بالنّسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، ولا بدّ فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني منها حكم ولا منع وصدّ كان النّاس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتّى صار لهم الإذلال جبلّة لا يعرفون سواها وأمّا إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسّطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التّكاسل في النّفوس المضطهدة كما نبيّنه وقد نهى عمر سعدا رضي الله عنهما عن مثلها لمّا أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفا من الذّهب وكان اتّبع الجالنوس يوم القادسيّة فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد وقال له هلّا انتظرت في اتّباعه إذني وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر تعمد إلى مثل زهرة وقد صلّى بما صلّى به [1] وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه [2] وتفسد قلبه وأمضى له عمر سلبه وأمّا إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلّيّة لأنّ وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلّة الّتي تكسر من سورة بأسه بلا شكّ وأمّا إذا كانت الأحكام تأديبيّة وتعليميّة وأخذت من عهد الصّبا أثّرت في ذلك بعض الشّيء لمرباه على المخافة والانقياد   [1] بمعنى قاسي شدائد الحرب. [2] تثبط همته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فلا يكون مدلّا ببأسه ولهذا نجد المتوحّشين من العرب [1] أهل البدو أشدّ بأسا ممّن تأخذه الأحكام ونجد أيضا الّذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التّأديب والتّعليم في الصّنائع والعلوم والدّيانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمّة الممارسين للتّعليم والتّأديب في مجالس الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصّحابة من أخذهم بأحكام الدّين والشّريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشدّ النّاس بأسا لأنّ الشّارع صلوات الله عليه لمّا أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلي عليهم من التّرغيب والتّرهيب ولم يكن بتعليم صناعيّ ولا تأديب تعليميّ إنّما هي أحكام الدّين وآدابه المتلقّاة نقلا يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتّصديق فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التّأديب والحكم قال عمر رضي الله عنه «من لم يؤدّ به الشّرع لا أدّبه الله» حرصا على أن يكون الوازع لكلّ أحد من نفسه ويقينا بأنّ الشّارع أعلم بمصالح العباد ولمّا تناقص الدّين في النّاس وأخذوا بالأحكام الوازعة ثمّ صار الشّرع علما وصناعة يؤخذ بالتّعليم والتّأديب ورجع النّاس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم فقد تبيّن أنّ الأحكام السّلطانيّة والتّعليميّة مفسدة للبأس لأنّ الوازع فيها ذاتيّ ولهذا كانت هذه الأحكام السّلطانيّة والتّعليميّة ممّا تؤثّر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد [2] الشّوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم والبدو بمعزل من هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السّلطان والتّعليم والآداب ولهذا قال محمّد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلّمين والمتعلّمين «أنّه لا ينبغي للمؤدّب أن يضرب أحدا من الصّبيان في التّعليم فوق ثلاثة أسواط» نقله عن شريح القاضي   [1] المتوحشين من العرب: بمعنى البدو أو سكان البادية. [2] انكسار الشوكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 واحتجّ له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغطّ وأنّه كان ثلاث مرّات وهو ضعيف ولا يصلح شأن الغطّ أن يكون دليلا على ذلك لبعده عن التّعليم المتعارف والله الحكيم الخبير. الفصل السابع في أن سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية اعلم أنّ الله سبحانه ركّب في طبائع البشر الخير والشّرّ كما قال تعالى «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 90: 10» وقال «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 91: 8» والشّرّ أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذّبه الاقتداء بالدّين وعلى ذلك الجمّ الغفير إلّا من وفّقه الله ومن أخلاق البشر فيهم الظّلم والعدوان بعض على بعض فمن امتدّت عينه إلى متاع أخيه فقد امتدّت يده إلى أخذه إلّا أن يصدّه وازع كما قال: والظّلم من شيم النّفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم فأمّا المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكّام والدّولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافّة أن يمتدّ بعضهم على بعض أو يعدو عليه فهم مكبوحون بحكمة القهر والسّلطان عن التّظالم إلّا إذا كان من الحاكم بنفسه وأمّا العدوان الّذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرّة ليلا أو العجز عن المقاومة نهارا أو يدفعه ازدياد الحامية من أعوان الدّولة عند الاستعداد والمقاومة وأمّا أحياء البدو فيزغ بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وفر في نفوس الكافّة لهم من الوقار والتّجلّة وأمّا حللهم فإنّما يذود عنها من خارج حامية الحيّ من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشّجاعة فيهم ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلّا إذا كانوا عصبيّة وأهل نسب واحد لأنّهم بذلك تشتدّ شوكتهم ويخشى جانبهم إذ نعرة كلّ أحد على نسبه وعصبيّته أهمّ وما جعل الله في قلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 عباده من الشّفقة والنّعرة [1] على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في الطّبائع البشريّة وبها يكون التّعاضد والتّناصر وتعظم رهبة العدوّ لهم واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السّلام حين قالوا لأبيه لئن أكله الذّئب ونحن عصبة إنّا إذا لخاسرون والمعنى أنّه لا يتوهّم العدوان على أحد مع وجود العصبة له وأمّا المتفرّدون في أنسابهم فقلّ أن تصيب أحدا منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجوّ بالشّرّ يوم الحرب تسلّل كلّ واحد منهم يبغي النّجاة لنفسه خيفة واستيحاشا من التّخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنّهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم وإذا تبيّن ذلك في السّكنى الّتي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبيّن لك في كلّ أمر يحمل النّاس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كلّه إنّما يتمّ بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء ولا بدّ في القتال من العصبيّة كما ذكرناه آنفا فاتّخذه إماما تقتدي به فيما نورده عليك بعد والله الموفّق للصّواب. الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه وذلك أنّ صلة الرّحم طبيعيّ في البشر إلّا في الأقلّ ومن صلتها النّعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإنّ القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويودّ لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعيّة في البشر مذ كانوا فإذا كان النّسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدّا بحيث حصل به الاتّحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجرّدها ووضوحها وإذا بعد النّسب بعض الشّيء فربّما   [1] النعرة والنعار بالضمّ فيهما والنعير: الصراخ والصياح في حرب أو شر (قاموس) والمعنى هنا التعصب لذوي الأرحام ونجدتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النّصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارا من الغضاضة الّتي يتوهّمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كلّ أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة الّتي تلحق النّفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النّسب وذلك لأجل اللّحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النّسب أو قريبا منها ومن هذا تفهم معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم» بمعنى أنّ النّسب إنّما فائدته هذا الالتحام الّذي يوجب صلة الأرحام حتّى تقع المناصرة والنّعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النّسب أمر وهميّ لا حقيقة له ونفعه إنّما هو في هذه الوصلة والالتحام فإذا كان ظاهرا واضحا حمل النّفوس على طبيعتها من النّعرة كما قلناه وإذا كان إنّما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الشّغل به مجّانا [1] ومن أعمال اللهو المنهيّ عنه ومن هذا الاعتبار معنى قولهم النّسب علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ بمعنى أنّ النّسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النّفس وانتفت النّعرة الّتي تحمل عليها العصبيّة فلا منفعة فيه حينئذ والله سبحانه وتعالى أعلم. الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك لما اختصّوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن حملتهم عليها الضّرورة الّتي عيّنت لهم تلك القسمة وهي لمّا كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها والإبل تدعوهم إلى التّوحّش في القفر لرعيها من شجره   [1] الأصوب أن يقول مجانة أو مجونا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ونتاجها في رماله كما تقدّم والقفر مكان الشّظف والسّغب [1] فصار لهم إلفا وعادة وربيت فيه أجيالهم حتّى تمكّنت خلقا وجبلّة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم ولا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السّبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها ولا تزال بينهم محفوظة صريحة واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة لمّا كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشّام والعراق ومعادن الأدم والحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيها شوب. وأمّا العرب الّذين كانوا بالتّلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسّان وطيّ وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم ففي كلّ واحد من بيوتهم من الخلاف عند النّاس ما تعرف وإنّما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم وهم لا يعتبرون المحافظة على النّسب في بيوتهم وشعوبهم وإنّما هذا للعرب [2] فقط. قال عمر رضى الله تعالى عنه «تعلّموا النّسب ولا تكونوا كنبط السّواد» إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع النّاس على البلد الطّيّب والمراعي الخصيبة فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنّسرين جند دمشق جند العواصم وانتقل ذلك إلى الأندلس ولم يكن لاطّراح العرب أمر النّسب وإنّما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتّى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النّسب يتميّزون بها عند أمرائهم ثمّ وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم   [1] السغب: الجوع مع التعب. [2] بمعنى ان المحافظة على النسب محصورة في العرب سكان البادية والأرياف أو كما يعني بهم ابن خلدون (العرب المتوحشون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبيّة فاطرحت ثمّ تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبيّة بدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان والله وارث الأرض ومن عليها. الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع اعلم أنّه من البيّن أنّ بعضا من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدّعي بنسب هؤلاء ويعدّ منهم في ثمراته من النّعرة والقود [1] وحمل الدّيات وسائر الأحوال وإذا وجدت ثمرات النّسب فكأنّه وجد لأنّه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلّا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه وكأنّه التحم بهم ثمّ إنّه قد يتناسى النّسب الأوّل بطول الزّمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهليّة والإسلام والعرب والعجم. وانظر خلاف النّاس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبيّن لك شيء من ذلك ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لمّا ولّاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه وقالوا هو فينا لزيق أي دخيل ولصيق وطلبوا أن يولّي عليهم جريرا فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة صدقوا يا أمير المؤمنين أنا رجل من الأزد أصبت دما في قومي ولحقت بهم وانظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتّى ترشّح للرّئاسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه ولو غفلوا عن ذلك وامتدّ الزّمن لتنوسي بالجملة وعدّ منهم بكلّ وجه ومذهب فافهمه واعتبر سرّ الله في خليقته ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود والله الموفّق للصّواب بمنّه وفضله وكرمه.   [1] القود: القصاص في القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الفصل الحادي عشر [1] في أن الرئاسة لا تزال في نصابها المخصوص من أهل العصبية اعلم أنّ كلّ حيّ أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العامّ ففيهم أيضا عصبيّات أخرى لأنساب خاصّة هي أشدّ التحاما من النّسب العامّ لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو إخوة بني أب واحد لا مثل بني العمّ الأقربين أو الأبعدين فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النّسب العامّ والنّعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النّسب العامّ إلّا أنّها في النّسب الخاصّ أشدّ لقرب اللّحمة والرّئاسة فيهم إنّما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكون في الكلّ ولمّا كانت الرّئاسة إنّما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبيّة ذلك النّصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتمّ الرّئاسة لأهلها فإذا وجب ذلك تعيّن أنّ الرّئاسة عليهم لا تزال في ذلك النّصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الأخرى النّازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمّت لهم الرّئاسة فلا تزال في ذلك النّصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع ولا تنتقل إلّا إلى الأقوى من فروعه لما قلناه من سرّ الغلب لأنّ الاجتماع والعصبيّة بمثابة المزاج للمتكوّن والمزاج في المتكوّن لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بدّ من غلبة أحدها وإلّا لم يتمّ التّكوين فهذا هو سرّ اشتراط الغلب في العصبيّة ومنه تعيّن استمرار الرّئاسة في النّصاب المخصوص بها كما قرّرناه.   [1] هذا الفصل ساقط من النسخ الفارسية وموجود في النسخة التونسية وإثباته أولى ليطابق كلام أول الفصل 112 هـ- قاله نصر الهوريني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الفصل الثاني عشر في ان الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم وذلك أنّ الرّئاسة لا تكون إلّا بالغلب والغلب إنّما يكون بالعصبيّة كما قدّمناه فلا بدّ في الرّئاسة على القوم أن تكون من عصبيّة غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأنّ كلّ عصبيّة منهم إذا أحسّت بغلب عصبيّة الرّئيس لهم أقرّوا بالإذعان والاتّباع والسّاقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبيّة فيهم بالنّسب إنّما هو ملصق لزيق وغاية التّعصّب له بالولاء والحلف وذلك لا يوجب له غلبا عليهم البتّة وإذا فرضنا أنّه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأوّل من الالتصاق ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم فكيف له الرّئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه والرّئاسة على القوم إنّما تكون متناقلة في منبت واحد تعيّن له الغلب بالعصبيّة فالأوّليّة الّتي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شكّ ومنعه ذلك الالتصاق من الرّئاسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه وهو على حال الإلصاق والرّئاسة لا بدّ وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التّغلّب بالعصبيّة وقد يتشوّف كثير من الرّؤساء على القبائل والعصائب إلى أنساب يلهجون بها إمّا لخصوصيّة فضيلة كانت في أهل ذلك النّسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتّفق فينزعون إلى ذلك النّسب ويتورّطون بالدّعوى في شعوبه ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم والطّعن في شرفهم وهذا كثير في النّاس لهذا العهد فمن ذلك ما يدّعيه زناتة جملة أنّهم من العرب ومنه ادّعاء أولاد ربّاب المعروفين بالحجازيّين من بني عامر أحد شعوب زغبة أنّهم من بني سليم ثمّ من الشّريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 منهم لحق جدّهم ببني عامر نجّارا يصنع الحرجان [1] واختلط بهم والتحم بنسبهم حتّى رأس عليهم ويسمّونه الحجازيّ. ومن ذلك ادّعاء بني عبد القويّ بن العبّاس بن توجين أنّهم من ولد العبّاس بن عبد المطّلب رغبة في هذا النّسب الشّريف وغلطا باسم العبّاس بن عطيّة أبي عبد القويّ ولم يعلم دخول أحد من العبّاسيّين إلى المغرب لأنّه كان منذ أوّل دولتهم على دعوة العلويّين أعدائهم من الأدارسة والعبيديّين فكيف يكون من سبط العبّاس أحد من شيعة العلويّين؟ وكذلك ما يدّعيه أبناء زيّان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنّهم من ولد القاسم بن إدريس ذهابا إلى ما اشتهر في نسبهم أنّهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزّناتيّ أنت القاسم أي بنو القاسم ثمّ يدّعون أنّ القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمّد بن إدريس ولو كان ذلك صحيحا فغاية القاسم هذا أنّه فرّ من مكان سلطانه مستجيرا بهم فكيف تتمّ له الرّئاسة عليهم في باديتهم وإنّما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنّه كثير الوجود في الأدارسة فتوهّموا أنّ قاسمهم من ذلك النّسب وهم غير محتاجين لذلك فإنّ منالهم للملك والعزّة إنّما كان بعصبيّتهم ولم يكن بادّعاء علويّة ولا عبّاسيّة ولا شيء من الأنساب وإنّما يحمل على هذا المتقرّبون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتّى يبعد عن الرّدّ ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيّان مؤثّل سلطانهم أنّه لمّا قيل له ذلك أنكره وقال بلغته الزّناتيّة ما معناه أمّا الدّنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النّسب وأمّا نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله وأعرض عن التّقرّب إليهما بذلك. ومن هذا الباب ما يدّعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنّهم من ولد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنّهم من سليم والزّواودة شيوخ رياح أنّهم من أعقاب البرامكة وكذا بنو مهنّا أمراء طيِّئ بالمشرق يدّعون فيما بلغنا أنّهم من أعقابهم وأمثال ذلك كثير ورئاستهم في قومهم مانعة من ادّعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعيّن أن يكونوا من صريح ذلك   [1] قوله الحرجان بكسر الحاء جمع حرج بفتحتين نعش الموتى. 1 هـ-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 النّسب وأقوى عصبيّاته فاعتبره واجتنب المغالط فيه ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهديّ الموحّدين بنسب العلويّة فإنّ المهديّ لم يكن من منبت الرّئاسة في هرثمة قومه، وإنّما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدّين ودخول قبائل المصامدة في دعوته وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسّطة فيهم والله عالم الغيب والشّهادة. الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالاصالة والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه وذلك أنّ الشّرف والحسب إنّما هو بالخلال ومعنى البيت أن يعدّ الرّجل في آبائه أشرافا مذكورين يكون له بولادتهم إيّاه والانتساب إليهم تجلّة في أهل جلدته لما وقر في نفوسهم من تجلّة سلفه وشرفهم بخلالهم والنّاس في نشأتهم وتناسلهم معادن قال صلّى الله عليه وسلّم «النّاس معادن خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب وقد بيّنا أنّ ثمرة الأنساب وفائدتها إنّما هي العصبيّة للنّعرة والتّناصر فحيث تكون العصبيّة مرهوبة والمنبت فيها زكيّ محميّ تكون فائدة النّسب أوضح وثمرتها أقوى وتعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب والشّرف أصليّين في أهل العصبيّة لوجود ثمرة النّسب وتفاوت البيوت في هذا الشّرف بتفاوت العصبيّة لأنّه سرّها ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلّا بالمجاز وإن توهّموه فزخرف من الدّعاوى وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار وجدت معناه أنّ الرّجل منهم يعدّ سلفا في خلال الخير ومخالطة أهله مع الرّكون إلى العافية ما استطاع وهذا مغاير لسرّ العصبيّة الّتي هي ثمرة النّسب وتعديد الآباء لكنّه يطلق عليه حسب وبيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 بالمجاز لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير ومسالكه وليس حسبا بالحقيقة وعلى الإطلاق وإن ثبت أنّه حقيقة فيهما بالوضع اللّغويّ فيكون من المشكّك الّذي هو في بعض مواضعه أولى وقد يكون للبيت شرف أوّل بالعصبيّة والخلال ثمّ ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدّم ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدّون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب العصبيّة جملة وكثير من أهل الأمصار النّاشئين في بيوت العرب أو العجم لأوّل عهدهم موسوسون بذلك وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل فإنّه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت أوّلا لما تعدّد في سلفهم من الأنبياء والرّسل من لدن إبراهيم عليه السّلام إلى موسى صاحب ملّتهم وشريعتهم ثمّ بالعصبيّة ثانيا وما أتاهم الله بها من الملك الّذي وعدهم به ثمّ انسلخوا من ذلك أجمع وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وكتب عليهم الجلاء في الأرض وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافا من السّنين وما زال هذا الوسواس مصاحبا لهم فتجدهم يقولون هذا هارونيّ هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبيّة ورسوخ الذّلّ فيهم منذ أحقاب متطاولة وكثير من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبيّة يذهب إلى هذا الهذيان. وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لمّا ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلّم الأوّل [1] والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة ولم يتعرّض لما ذكرناه وليت شعري ما الّذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه فكأنّه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط مع أنّ الخطابة إنّما هي استمالة من تؤثّر استمالته وهم أهل الحلّ والعقد وأمّا من لا قدرة له البتّة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلّا أنّ ابن رشد ربا في جبل وبلد ولم يمارسوا العصبيّة ولا أنسوا أحوالها فبقي في   [1] المعلم الأول هو أرسطو. أما المعلم الثاني فهو الفارابيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق ولم يراجع فيه حقيقة العصبيّة وسرّها في الخليفة وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 2: 282. الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم وذلك أنّا قدّمنا أنّ الشّرف بالأصالة والحقيقة إنّما هو لأهل العصبيّة فإذا اصطنع أهل العصبيّة قوما من غير نسبهم أو استرقّوا العبدان والموالي والتحموا به كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبيّة ولبسوا جلدتها كأنّها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبيّة مساهمة في نسبها كما قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم مولى القوم منهم وسواء كان مولى رقّ أو مولى اصطناع وحلف [1] وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبيّة إذ هي مباينة لذلك النّسب وعصبيّة ذلك النّسب مفقودة لذهاب سرّها عند التحامه بهذا النّسب الآخر وفقدانه أهل عصبيّتها فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم فإذا تعدّدت له الآباء في هذه العصبيّة كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كلّ حال وهذا شأن الموالي في الدّول والخدمة كلّهم فإنّهم إنّما يشرفون بالرّسوخ في ولاء الدّولة وخدمتها وتعدّد الآباء في ولايتها ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العبّاس وإلى بني برمك من قبلهم وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشّرف وبنوا المجد والأصالة بالرّسوخ في ولاء الدّولة فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم النّاس بيتا وشرفا بالانتساب إلى ولاء الرّشيد وقومه لا بالانتساب في الفرس وكذا موالي كلّ   [1] مولى الرق هو العبد يعتقه سيده فيصبح ولاؤه له، ثم يرثه إذا مات ولم يترك عصبة. ومولى الحلف: الرجل الحر الأصل يتخذ له مولى يعقد صريح، فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 دولة وخدمها إنّما يكون لهم البيت والحسب بالرّسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها ويضمحلّ نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده وإنّما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سرّ العصبيّة الّتي بها البيت والشّرف فكان شرفه مشتقا من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته وإنّما بنى مجده نسب الولاء في الدّولة ولحمة الاصطناع فيها والتّربية وقد يكون نسبه الأوّل في لحمة عصبيّته ودولته فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيّتها وانتفع بالثّانية لوجودها وهذا حال بني برمك إذ المنقول أنّهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النّار عندهم ولمّا صاروا إلى ولاء بني العبّاس لم يكن بالأوّل اعتبار وإنّما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدّولة واصطناعهم وما سوى هذا فوهم توسوس به النّفوس الجامحة ولا حقيقة له والوجود شاهد بما قلناه «وإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ 49: 13» والله ورسوله أعلم. الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة اباء اعلم أنّ العالم العنصريّ بما فيه كائن فاسد لا من ذواته ولا من أحواله والمكوّنات من المعدن والنّبات وجميع الحيوانات الإنسان وغيره كائنة فاسدة بالمعاينة وكذلك ما يعرض لها من الأحوال وخصوصا الإنسانيّة فالعلوم تنشأ ثمّ تدرس وكذا الصّنائع وأمثالها والحسب من العوارض الّتي تعرض للآدميّين فهو كائن فاسد لا محالة وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلّا ما كان من ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كرامة به وحياطة على السّرّ فيه وأوّل كلّ شرف خارجيّة كما قيل، وهي الخروج عن الرّئاسة والشّرف إلى الضّعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والابتذال وعدم الحسب ومعناه أنّ كلّ شرف وحسب فعدمه سابق عليه شأن كلّ محدث ثمّ إنّ نهايته في أربعة آباء وذلك أنّ باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال الّتي هي أسباب كونه وبقائه وابنه من بعده مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلّا أنّه مقصّر في ذلك تقصير السّامع بالشّيء عن المعاني له ثمّ إذا جاء الثّالث كان حظّه الاقتفاء والتّقليد خاصّة فقصّر عن الثّاني تقصير المقلّد عن المجتهد ثمّ إذا جاء الرّابع قصّر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهّم أنّ ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلّف وإنّما هو أمر وجب لهم منذ أوّل النّشأة بمجرّد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التّجلّة بين النّاس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهّم أنّه النّسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصبيّته ويرى الفضل له عليهم وثوقا بما ربّي فيه من استتباعهم وجهلا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال الّتي منها التّواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فينغّصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيّتهم كما قلناه بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأوّل وينهدم بناء بيته هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبيّة أجمع ثمّ في بيوت أهل الأمصار إذا انحطّت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النّسب «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ 14: 19- 20» [1] واشتراط الأربعة في الأحساب إنّما هو في الغالب وإلّا فقد يدّثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم وقد يتّصل أمرها إلى الخامس والسّادس إلّا أنّه في انحطاط وذهاب واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان ومباشر له ومقلّد وهادم وهو أقلّ ما يمكن وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثّناء قال صلّى الله عليه وسلّم «إنّما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن   [1] سورة فاطر الآية: 16 و 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» إشارة إلى أنّه بلغ الغاية من المجد وفي التّوراة ما معناه إنّ الله ربّك طائق [1] غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثّوالث والرّوابع وهذا يدلّ على أنّ الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب. وفي كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أنّ كسرى قال للنّعمان هل في العرب قبيلة تتشرّف على قبيلة قال نعم قال بأيّ شيء قال من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثمّ اتّصل ذلك بكمال الرّابع فالبيت من قبيلته وطلب ذلك فلم يجده إلّا في آل حذيفة بن بدر الفزاريّ وهم بيت قيس وآل ذي الجدّين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من كندة وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم المنقريّ من بني تميم فجمع هؤلاء الرّهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكّام والعدول فقام حذيفة بن بدر ثمّ الأشعث بن قيس لقرابته من النّعمان ثمّ بسطام بن قيس بن شيبان ثمّ حاجب بن زرارة ثمّ قيس بن عاصم وخطبوا ونثروا فقال كسرى كلّهم سيّد يصلح لموضعه وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم ومعهم بيت بني الذّبيان من بني الحرث بن كعب اليمنيّ وهذا كلّه يدلّ على أنّ الأربعة الآباء نهاية في الحسب والله أعلم. الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها اعلم أنّه لمّا كانت البداوة سببا في الشّجاعة كما قلناه في المقدّمة الثّالثة [2] لا جرم كان هذا الجيل الوحشيّ أشدّ شجاعة من الجيل الآخر فهم أقدر على التّغلّب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك   [1] طائق: قادر [2] ورد هذا العنوان في المقدمة الخامسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 باختلاف الأعصار فكلّما نزلوا الأرياف وتفنّقوا [1] النّعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنّعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحّشهم وبداوتهم واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظّباء والبقر الوحشيّة والحمر إذا زال توحّشها بمخالطة الآدميّين وأخصب عيشها كيف يختلف حالها في الانتهاض [2] والشّدّة حتّى في مشيتها وحسن أديمها وكذلك الآدميّ المتوحّش إذا أنس وألف وسببه أنّ تكوّن السّجايا والطّبائع إنّما هو عن المألوفات والعوائد وإذا كان الغلب للأمم إنّما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحّشا كان أقرب إلى التّغلّب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافئا في القوّة العصبيّة وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السّابقين إلى الملك والنّعيم ومع ربيعة المتوطّنين أرياف العراق ونعيمه لمّا بقي مضر في بداوتهم وتقدّمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة [3] النّعيم كيف أرهفت البداوة حدّهم في التّغلّب فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم وهذا حال بني طيِّئ وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور ومن بعدهم لمّا تأخّروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبّسوا بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوّة عصبيّتهم ولم تخلفها مذاهب التّرف حتّى صاروا أغلب على الأمر منهم وكذا كلّ حيّ من العرب يلي نعيما وعيشا خصبا دون الحيّ الآخر فإنّ الحيّ المتبدّي [4] يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافئا في القوّة والعدد. سنة الله في خلقه.   [1] تفنقوا: تنعموا [2] الانتهاض: القيام بالأمر. [3] الغضارة: النعمة والخصب (قاموس) . [4] المتبدي: المقيم في البادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الفصل السابع عشر في ان الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك وذلك لأنّا قدّمنا أنّ العصبيّة بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكلّ أمر يجتمع عليه وقدّمنا أنّ الآدميّين بالطّبيعة الإنسانيّة يحتاجون في كلّ اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بدّ أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبيّة وإلّا لم تتمّ قدرته على ذلك وهذا التّغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرّئاسة لأن الرّئاسة إنّما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه وأمّا الملك فهو التّغلّب والحكم بالقهر وصاحب العصبيّة إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السّؤدد والاتّباع ووجد السّبيل إلى التّغلّب والقهر لا يتركه لأنّه مطلوب للنّفس ولا يتمّ اقتدارها عليه إلّا بالعصبيّة الّتي يكون بها متبوعا فالتّغلّب الملكيّ غاية للعصبيّة كما رأيت ثمّ إنّ القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات مفترقة وعصبيّات متعدّدة فلا بدّ من عصبيّة تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيّات فيها وتصير كأنّها عصبيّة واحدة كبرى وإلّا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتّنازع «وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ 2: 251» [1] ثمّ إذا حصل التّغلّب بتلك العصبيّة على قومها طلبت بطبعها التّغلّب على أهل عصبيّة أخرى بعيدة عنها فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالا وأنظارا ولكلّ واحدة منهما التّغلّب على حوزتها وقومها شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضا وزادت قوّة في التّغلّب   [1] سورة البقرة الآية 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 إلى قوّتها وطلبت غاية من التّغلّب والتّحكّم أعلى من الغاية الأولى وأبعد وهكذا دائما حتّى تكافئ بقوّتها قوّة الدّولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدّولة أهل العصبيّات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها وصار الملك أجمع لها وإن انتهت قوّتها ولم يقارن ذلك هرم الدّولة وإنّما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيّات انتظمتها الدّولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعنّ من مقاصدها وذلك ملك آخر دون الملك المستبدّ وهو كما وقع للتّرك في دولة بني العبّاس ولصنهاجة وزناتة مع كتامة ولبني حمدان مع ملوك الشّيعة من العلويّة والعبّاسيّة فقد ظهر أنّ الملك هو غاية العصبيّة وأنّها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إمّا بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق كما نبيّنه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره. الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أنّ القبيل إذا غلبت بعصبيّتها بعض الغلب استولت على النّعمة بمقداره وشاركت أهل النّعم والخصب في نعمتهم وخصبهم وضربت معهم في ذلك بسهم وحصّة بمقدار غلبها واستظهار الدّولة بها فإن كانت الدّولة من القوّة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها والقنوع بما يسوّغون من نعمتها ويشركون [1] فيه من جبايتها ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه إنّما همّتهم النّعيم والكسب وخصب العيش والسّكون في ظلّ الدّولة إلى الدّعة والرّاحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني   [1] شركته في البيع والميراث والأمر، أشركه، إذا صرت له شريكا (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 والملابس والاستكثار من ذلك والتّأنّق فيه بمقدار ما حصل من الرّياش والتّرف وما يدعو إليه من توابع ذلك فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبيّة والبسالة ويتنعّمون فيما أتاهم الله من البسطة وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من التّرفّع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم ويستنكفون عن سائر الأمور الضّروريّة في العصبيّة حتّى يصير ذلك خلقا لهم وسجيّة فتنقص عصبيّتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبيّة فيأذنون بالانقراض وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلا عن الملك فإنّ عوارض التّرف والغرق في النّعيم كاسر من سورة العصبيّة الّتي بها التّغلّب وإذا انقرضت العصبيّة قصّر القبيل عن المدافعة والحماية فضلا عن المطالبة والتهمتهم الأمم سواهم فقد تبيّن أنّ التّرف من عوائق الملك وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247. الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم وسبب ذلك أنّ المذلّة والانقياد كاسران لسورة العصبيّة وشدّتها فإنّ انقيادهم ومذلّتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلّة حتّى عجزوا عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة واعتبر ذلك في بني إسرائيل لمّا دعاهم موسى عليه السّلام إلى ملك الشّام وأخبرهم بأنّ الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا: «إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها 5: 22» [1] أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيّتنا وتكون من معجزاتك يا موسى ولمّا عزم عليهم لجّوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا 5: 24» [2] وما ذلك إلّا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة   [1] سورة المائدة الآية 22. [2] سورة المائدة الآية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والمطالبة كما تقتضيه الآية [1] وما يؤثّر في تفسيرها وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذّلّ للقبط أحقابا حتّى ذهبت العصبيّة منهم جملة مع أنّهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى من أنّ الشّام لهم وأنّ العمالقة الّذين كانوا بأريحا فريستهم بحكم من الله قدّره لهم فأقصروا عن ذلك وعجزوا تعويلا على ما في أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق المذلّة وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به فعاقبهم الله بالتّيه وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشّام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها العمران ولا نزلوا مصرا ولا خالطوا بشرا كما قصّه القرآن لغلظة العمالقة بالشّام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه ويظهر من مساق الآية ومفهومها أنّ حكمة ذلك التّيه مقصودة وهي فناء الجيل الّذين خرجوا من قبضة الذّلّ والقهر والقوّة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيّتهم حتّى نشأ في ذلك التّيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسأم بالمذلّة فنشأت بذلك عصبيّة أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتّغلّب ويظهر لك من ذلك أنّ الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبيّة وأنّها هي الّتي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة وأنّ من فقدها عجز عن جميع ذلك كلّه ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلّة للقبيل شأن المغارم والضّرائب فإنّ القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتّى رضوا بالمذلّة فيه لأنّ في المغارم والضّرائب ضيما ومذلّة لا تحتملها النّفوس الأبيّة إلّا إذا استهونته عن القتل والتّلف وأنّ عصبيّتهم حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية ومن كانت عصبيّته لا تدفع عنه الضّيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة وقد حصل له الانقياد للذّلّ والمذلّة عائقة كما قدّمناه. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في شأن الحرث لمّا رأى سكّة المحراث في بعض دور الأنصار «ما دخلت هذه دار قوم إلّا دخلهم الذّلّ»   [1] جاء ختام هذه القصة في القرآن الكريم بقوله تعالى: «قال فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الْأَرْضِ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ 5: 26. (سورة المائدة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فهو دليل صريح على أنّ المغرم موجب للذّلّة [1] هذا إلى ما يصحب ذلّ المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذّلّ فلا تطمعنّ لها بملك آخر الدّهر ومن هنا يتبيّن لك غلط من يزعم أنّ زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدّون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك وهو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتبّ لهم ملك ولا تمّت لهم دولة وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرّحمن بن ربيعة لمّا أطلّ عليه وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له فقال أنا اليوم منكم يدي في أيديكم وصعري [2] معكم فمرحبا بكم وبارك الله لنا ولكم وجزيتنا إليكم النّصر لكم والقيام بما تحبّون ولا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوّكم فاعتبر هذا فيما قلناه فإنّه كاف. الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس لمّا كان الملك طبيعيّا للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشّرّ بأصل فطرته وقوّته النّاطقة العاقلة لأنّ الشّرّ إنّما جاءه من قبل القوى الحيوانيّة الّتي فيه وأمّا من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب والملك والسّياسة إنّما كانا له من حيث هو إنسان لأنّهما للإنسان خاصّة لا للحيوان فإذا خلال الخير فيه هي الّتي تناسب السّياسة والملك إذ الخير هو المناسب للسّياسة وقد ذكرنا أنّ المجد له أصل يبنى عليه وتتحقّق به حقيقته وهو العصبيّة والعشير وفرع يتمّم وجوده ويكمله وهو الخلال وإذا كان الملك غاية للعصبيّة فهو غاية لفروعها ومتمّماتها وهي الخلال لأنّ وجوده دون   [1] لأن المشتغلين بالزراعة كانوا يدفعون غالبا الخراج للدولة، وهناك حديث شائع على السنة العامة: «إذا غضب الله على قوم أسكنهم القرى أو المزارع» وهو مثل قديم سببه أن الدولة العثمانية التي كانت تحكم على بلادنا كان جل اعتمادها على الضرائب الزراعية. [2] صعر: صعرا وجهه: مال إلى أحد الشقين (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 متمّماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عريانا بين النّاس وإذا كان وجود العصبيّة فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصا في أهل البيوت والأحساب فما ظنّك بأهل الملك الّذي هو غاية لكلّ مجد ونهاية لكلّ حسب وأيضا فالسّياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة للَّه في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم وأحكام الله في خلقه وعباده إنّما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشّرائع وأحكام البشر إنّما هي من الجهل والشّيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره فإنّه فاعل للخير والشّرّ معا ومقدّرهما إذ لا فاعل سواه فمن حصلت له العصبيّة الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيّأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق ووجدت فيه الصّلاحيّة لذلك. وهذا البرهان أوثق من الأوّل وأصحّ مبنى فقد تبيّن أنّ خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبيّة فإذا نظرنا في أهل العصبيّة ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النّواحي والأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزّلّات والاحتمال من غير القادر والقرى للضّيوف وحمل الكلّ [1] وكسب المعدم والصّبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشّريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عند ما يحدّدونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظّنّ بهم واعتقاد أهل الدّين والتّبرّك بهم ورغبة الدّعاء منهم والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم والانقياد إلى الحقّ مع الدّاعي إليه وإنصاف المستضعفين من أنفسهم والتّبذّل [2] في أحوالهم والانقياد للحقّ والتّواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين والتّديّن بالشّرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك علمنا أنّ هذه خلق السّياسة قد حصلت لديهم واستحقّوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنّه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب   [1] الكل: اليتيم، من لا يقدر على القيام بشئون نفسه (قاموس) . [2] التبذل: ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنى على جهة التواضع (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لعصبيّتهم وغلبهم وليس ذلك سدى فيهم ولا وجد عبثا منهم والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيّتهم فعلمنا بذلك أنّ الله تأذّن لهم بالملك وساقه إليهم وبالعكس من ذلك إذا تأذّن الله بانقراض الملك من أمّة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرّذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السّياسيّة منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدّل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك وجعل في أيديهم من الخير «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 17: 16» [1] واستقرئ ذلك وتتبّعه في الأمم السّابقة تجد كثيرا ممّا قلناه ورسمناه والله يخلق ما يشاء ويختار واعلم أنّ من خلال الكمال الّتي يتنافس فيها القبائل أولو العصبيّة وتكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء والصّالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التّجار والغرباء وإنزال النّاس منازلهم وذلك أنّ إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشّرف ويجاذ بهم حبل العشير والعصبيّة ويشاركهم في اتّساع الجاه أمر طبيعيّ يحمل عليه في الأكثر الرّغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه وأمّا أمثال هؤلاء ممّن ليس لهم عصبيّة تتّقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشّكّ في شأن كرامتهم ويتمحّض القصد فيهم أنّه للمجد وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السّياسة بالكلّيّة لأنّ إكرام أقتاله [2] وأمثاله ضروريّ في السّياسة الخاصّة بين قبيله ونظرائه وإكرام الطّارئين من أهل الفضائل والخصوصيّات كمال في السّياسة العامّة فالصّالحون للدّين والعلماء للجائي إليهم في إقامة مراسم الشّريعة والتّجّار للتّرغيب حتّى تعمّ المنفعة بما في أيديهم والغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال النّاس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيّته انتماؤهم للسّياسة العامّة وهي الملك وأنّ الله قد تأذّن بوجودها فيهم لوجود علاماتها ولهذا كان أوّل ما يذهب   [1] سورة الاسراء الآية 16. [2] اقتال: ج قتل بكسر القاف: العدو- الصديق- القرن، النظير وهنا تعني النظير (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 من القبيل أهل الملك إذا تأذّن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصّنف من الخلق فإذا رأيته قد ذهب من أمّة من الأمم فاعلم أنّ الفضائل قد أخذت في الذّهاب عنهم وارتقب زوال الملك منهم «وَإِذا أَرادَ الله بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ 13: 11» والله تعالى أعلم. الفصل الحادي والعشرون في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع وذلك لأنّهم أقدر على التّغلب والاستبداد كما قلناه واستعباد الطّوائف لقدرتهم على محاربة الأمم سواهم ولأنّهم يتنزّلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم وهؤلاء مثل العرب [1] وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتّركمان وأهل اللّثام من صنهاجة وأيضا فهؤلاء المتوحّشون ليس لهم وطن يرتافون [2] منه ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السّواء فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد ولا يقفون عند حدود أفقهم بل يظفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلّبون على الأمم النّائية وانظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضي الله عنه لمّا بويع وقام يحرّض النّاس على العراق فقال: إنّ الحجاز ليس لكم بدار إلّا على النّجعة ولا يقوى عليه أهله إلّا بذلك أين القرّاء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض الّتي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها، فقال: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 9: 33» [3] واعتبر ذلك أيضا بحال العرب السّالفة من قبل مثل التّبابعة وحمير كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرّة وإلى العراق والهند أخرى ولم يكن ذلك لغير   [1] يعني ابن خلدون العرب المتوحشون الذين ذكرهم في مواضع عدة. [2] يعتاشون منه. [3] سورة الصف الآية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 العرب من الأمم وكذا حال الملثّمين من المغرب لمّا نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأوّل ومجالاتهم منه في جوار السّودان إلى الإقليم الرّابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة وهذا شأن هذه الأمم الوحشيّة فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقا وأبعد من مراكزها نهاية «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» [1] وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 13: 16 لا شريك له. الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم فيتعيّن منهم المباشرون للأمر الحاملون سرير الملك ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة الّتي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة الّتي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرّتبة فإذا تعيّن أولئك القائمون بالدّولة انغمسوا في النّعيم وغرقوا في بحر التّرف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل وأنفقوهم في وجوه الدّولة ومذاهبها وبقي الّذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظلّ من عزّ الدّولة الّتي شاركوها بنسبهم وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن التّرف وأسبابه فإذا استولت على الأوّلين الأيّام وأباد غضراءهم الهرم فطبختهم الدّولة وأكل الدّهر عليهم وشرب بما أرهف النّعيم من حدّهم واستقت غريزة التّرف من مائهم وبلغوا غايتهم من طبيعة التّمدّن الإنسانيّ والتّغلّب السّياسيّ (شعر) : كدود القزّ ينسج ثمّ يفنى ... بمركز نسجه في الانعكاس   [1] سورة المزّمل الآية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 كانت حينئذ عصبيّة الآخرين موفورة وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة فتسمو آمالهم إلى الملك الّذي كانوا ممنوعين منه بالقوّة الغالبة من جنس عصبيّتهم وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم فيستولون على الأمر ويصير إليهم وكذا يتّفق فيهم مع من بقي أيضا منتبذا عنه من عشائر أمّتهم فلا يزال الملك ملجئا في الأمّة إلى أن تنكسر سورة العصبيّة منها أو يفنى سائر عشائرها سنّة الله في الحياة الدّنيا «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ 43: 35» [1] واعتبر هذا بما وقع في العرب لمّا انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير أيضا ومن بعدهم إخوانهم التّبابعة من حمير أيضا ومن بعدهم الأذواء كذلك ثمّ جاءت الدّولة لمضر وكذا الفرس لمّا انقرض أمر الكينيّة ملك من بعدهم السّاسانيّة حتّى تأذّن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام وكذا اليونانيّون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الرّوم وكذا البربر بالمغرب لمّا انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأوّل منهم رجع إلى صنهاجة ثمّ الملثّمين من بعدهم ثمّ من بقي من شعوب زناتة وهكذا سنّة الله في عباده وخلقه وأصل هذا كلّه إنّما يكون بالعصبيّة وهي متفاوتة في الأجيال والملك يخلقه التّرف ويذهبه كما سنذكره [2] بعد فإذا انقرضت دولة فإنّما يتناول الأمر منهم من له عصبيّة مشاركة لعصبيّتهم الّتي عرف لها التّسليم والانقياد وأونس منها الغلب لجميع العصبيّات وذلك إنّما يوجد في النّسب القريب منهم لأنّ تفاوت العصبيّة بحسب ما قرب من ذلك النّسب الّتي هي فيه أو بعد حتّى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملّة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الّذي يأذن الله بقيامه بذلك التّبديل كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدّول وأخذوا الأمر من أيدي أهل العالم بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقابا.   [1] سورة الزخرف آخر الآية 35. [2] ذكر ابن خلدون هذا في الفصلين 16 و 18 ولعله غير ترتيب الفصول فكان هذا الفصل سابقا للفصلين المذكورين ثم أصبح لاحقا. ولم ينتبه ابن خلدون إلى هذه الكلمة ليحذفها أو يبدلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إمّا لنظره بالكمال بما وقر [1] عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أنّ غلب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوّة بأس وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب وهذا راجع للأوّل ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبّهين بهم دائما وما ذلك إلّا لاعتقادهم الكمال فيهم وانظر إلى كلّ قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زيّ الحامية وجند السّلطان في الأكثر لأنّهم الغالبون لهم حتّى أنّه إذا كانت أمّة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التّشبّه والاقتداء حظّ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنّك تجدهم يتشبّهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتّى في رسم التّماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتّى لقد يستشعر من ذلك النّاظر بعين الحكمة أنّه من علامات الاستيلاء والأمر للَّه. وتأمّل في هذا سرّ قولهم العامّة على دين الملك   [1] وقر: يوقر وقارة ووقارا الرجل: كان رزينا ذا وقار (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فإنّه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرّعيّة مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلّمين بمعلّميهم والله العليم الحكيم وبه سبحانه وتعالى التّوفيق. الفصل الرابع والعشرون في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسّبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النّفوس من التّكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التّناسل والاعتمار إنّما هو عن جدّة الأمل وما يحدث عنه من النّشاط في القوى الحيوانيّة فإذا ذهب الأمل بالتّكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبيّة ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد [1] الغلب من شوكتهم فأصبحوا مغلّبين لكلّ متغلّب وطعمة لكلّ آكل وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا. وفيه والله أعلم سرّ آخر وهو أنّ الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الّذي خلق له والرّئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزّه تكاسل حتّى عن شبع بطنه وريّ كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسيّ. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنّها لا تسافد إلّا إذا كانت في ملكة الآدميّين فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء والبقاء للَّه وحده واعتبر ذلك في أمّة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة ولمّا فنيت حاميتهم في أيّام العرب بقي منهم كثير وأكثر من الكثير يقال إنّ سعدا أحصى ما وراء المدائن فكانوا مائة ألف وسبعة وثلاثين ألفا منهم سبعة وثلاثون   [1] خضد: خضدا العود: كسره ولم يبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ألفا ربّ بيت ولمّا تحصّلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلّا قليلا ودثروا كأن لم يكونوا ولا تحسبنّ أنّ ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان شملهم فملكة الإسلام في العدل ما علمت وإنّما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره وصار آلة لغيره ولهذا إنّما تذعن للرّقّ في الغالب أمم السّودان لنقص الإنسانيّة فيهم وقربهم من عرض الحيوانات العجم كما قلناه أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرّقّ حصول رتبة أو إفادة مال أو عزّ كما يقع لممالك التّرك بالمشرق والعلوج [1] من الجلالقة والإفرنجة فإنّ العادة جارية باستخلاص الدّولة لهم فلا يأنفون من الرّقّ لما يأملونه من الجاه والرّتبة باصطفاء الدّولة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط وذلك أنّهم بطبيعة التّوحّش الّذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرّون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلّا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكلّ معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم لأنّهم لا يتسنّمون إليهم الهضاب ولا يركبون الصّعاب ولا يحاولون الخطر وأمّا البسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدّولة فهي نهب لهم وطمعة لآكلهم يردّدون عليها الغارة والنّهب والزّحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم ثمّ يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السّياسة إلى أن ينقرض عمرانهم والله قادر على خلقه وهو الواحد القهّار لا ربّ غيره.   [1] العلوج: بمعنى كفار العجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسّياسة وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب [1] وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران ومناف له فالحجر مثلا إنّما حاجتهم إليه لنصبه أثافيّ القدر فينقلونه من المباني ويخرّبونها عليه ويعدّونه لذلك والخشب أيضا إنّما حاجتهم إليه ليعمّدوا [2] به خيامهم ويتّخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخرّبون السّقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران هذا في حالهم على العموم وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه بل كلّما امتدّت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تمّ اقتدارهم على ذلك بالتّغلب والملك بطلت السّياسة في حفظ أموال النّاس وخرب العمران وأيضا فلأنّهم يكلّفون على أهل الأعمال من الصّنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثّمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجّانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعرّ السّاكن وفسد العمران وأيضا فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عن المفاسد ودفاع بعضهم   [1] بمعنى التنقل. [2] عمد السقف: دعائمه وركائزه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 عن بعض إنّما همّهم ما يأخذونه من أموال النّاس نهبا أو غرامة فإذا توصّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عمّا بعده من تسديد أحوالهم والنّظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وربّما فرضوا العقوبات في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرّض لها بل يكون ذلك زائدا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرّعايا في ملكتهم كأنّها فوضى [1] دون حكم والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أنّ وجود الملك خاصّة طبيعيّة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلّا بها وتقدّم ذلك أوّل الفصل وأيضا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلّ أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلّا في الأقلّ وعلى كره من أجل الحياء فيتعدّد الحكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابيّ الوافد على عبد الملك لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثّناء عليه عنده بحسن السّياسة والعمران فقال: «تركته يظلم وحده» وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّض عمرانه وأقفر ساكنه وبدّلت الأرض فيه غير الأرض فاليمن قرارهم خراب إلّا قليلا من الأمصار وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الّذي كان للفرس أجمع والشّام لهذا العهد كذلك وإفريقية والمغرب لمّا جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أوّل المائة الخامسة وتمرّسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السّنين قد لحق بها وعادت بسائطه خرابا كلّها بعد أن كان ما بين السّودان والبحر الرّوميّ كلّه عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.   [1] ومما يعزى آلى سيدنا علي: لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة والسّبب في ذلك أنّهم لخلق التّوحّش الّذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمّة والمنافسة في الرّئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم فإذا كان الدّين بالنّبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدّين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التّحاسد والتّنافس فإذا كان فيهم النّبيّ أو الوليّ الّذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلّف كلمتهم لإظهار الحقّ تمّ اجتماعهم وحصل لهم التّغلّب والملك وهم مع ذلك أسرع النّاس قبولا للحقّ والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق إلّا ما كان من خلق التّوحّش القريب المعاناة المتهيّئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى وبعده عمّا ينطبع في النّفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإنّ كلّ مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدّم. الفصل الثامن والعشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك والسّبب في ذلك أنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التّلول وحبوبها لاعتيادهم الشّظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتّوحّش ورئيسهم محتاج إليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 غالبا للعصبيّة الّتي بها المدافعة فكان مضطرّا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم [1] لئلّا يختلّ عليه شأن عصبيّته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم وسياسة الملك والسّلطان تقتضي أن يكون السّائس وازعا بالقهر وإلّا لم تستقم سياسته وأيضا فإنّ من طبيعتهم كما قدّمناه أخذ ما في أيدي النّاس خاصّة والتّجافي عمّا سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمّة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم وربّما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصا على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعا وربّما يكون باعثا بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران فتبقى تلك الأمّة كأنّها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعا شأن الفوضى كما قدّمناه فبعدت طباع العرب لذلك كلّه عن سياسة الملك وإنّما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدّلها بصبغة دينيّة تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع النّاس بعضهم عن بعض كما ذكرناه واعتبر ذلك بدولتهم في الملّة لمّا شيّد لهم الدّين أمر السّياسة بالشّريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم. كان رستم [2] إذا رأى المسلمين يجتمعون للصّلاة يقول أكل عمر كبدي يعلّم الكلاب الآداب ثمّ إنّهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدّولة أجيال نبذوا الدّين فنسوا السّياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيّتهم مع أهل الدّولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النّصفة فتوحّشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلّا أنّهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ولمّا ذهب أمر الخلافة وامّحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك   [1] عدائهم وهجرانهم. [2] رستم هو قائد جيوش الفرس في معركة القادسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ولا سياسته بل قد يجهل الكثير منهم أنّهم قد كان لهم ملك في القديم وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتّبابعة شاهدة بذلك ثمّ دولة مضر في الإسلام بني أميّة وبني العبّاس لكن بعد عهدهم بالسّياسة لمّا نسوا الدّين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدّول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله وغايته إلّا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدّمناه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247. الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار قد تقدّم لنا أنّ عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار لأنّ الأمور الضروريّة في العمران ليس كلّها موجودة لأهل البدو. وإنّما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح وموادّها معدومة ومعظمها الصّنائع فلا توجد لديهم في الكلّيّة من نجّار وخيّاط وحدّاد وأمثال ذلك ممّا يقيم لهم ضروريّات معاشهم في الفلح وغيره وكذا الدّنانير والدّراهم مفقودة لديهم وإنّما بأيديهم أعواضها من مغلّ الزّراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألبانا وأوبارا وأشعارا وإهابا ممّا يحتاج إليه أهل الأمصار فيعوّضونهم عنه بالدّنانير والدّراهم إلّا أنّ حاجتهم إلى الأمصار في الضّروريّ وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجيّ [1] والكماليّ فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرّفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك وطالبوهم به وإن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك   [1] بمعنى الضروريّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وإن لم يكن في المصر ملك فلا بدّ فيه من رئاسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلّا انتقض عمرانه وذلك الرّئيس يحملهم على طاعته والسّعي في مصالحه إمّا طوعا ببذل المال لهم ثمّ يبدي لهم ما يحتاجون إليه من الضّروريّات في مصره فيستقيم عمرانهم وإمّا كرها إن تمّت قدرته على ذلك ولو بالتّغريب بينهم حتّى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطرّ الباقون إلى طاعته بما يتوقّعون لذلك من فساد عمرانهم وربّما لا يسعهم مفارقة تلك النّواحي إلى جهات أخرى لأنّ كلّ الجهات معمور بالبدو الّذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرها فلا يجد هؤلاء ملجأ إلّا طاعة المصر فهم بالضّرورة مغلوبون لأهل الأمصار والله قاهر فوق عباده وهو الواحد الأحد القهّار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات الفصل الأول في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية وذلك أنّا قرّرنا في الفصل الأوّل أنّ المغالبة والممانعة إنّما تكون بالعصبيّة لما فيها من النّعرة والتّذامر [1] واستماتة كلّ واحد منهم دون صاحبه. ثمّ إنّ الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدّنيويّة والشّهوات البدنيّة والملاذّ النّفسانيّة فيقع فيه التّنافس غالبا وقلّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلّا بالعصبيّة كما ذكرناه آنفا وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل فلا يعرفون ما فعل الله أوّل الدّولة إنّما يدركون أصحاب الدّولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التّسليم لهم والاستغناء عن العصبيّة في تمهيد أمرهم ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوّله وما لقي أوّلهم من المتاعب دونه   [1] تذامر القوم: حضّ بعضهم بعضا على القتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وخصوصا أهل الأندلس في نسيان هذه العصبيّة وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوّة العصبيّة بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب والله قادر على ما يشاء وهو بكلّ شيء عليم وهو حسبنا ونعم الوكيل. الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية والسّبب في ذلك أنّ الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتّسليم وقاتل النّاس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانيّة فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأنّ طاعتها كتاب من الله لا يبدّل ولا يعلم خلافه ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانيّة كأنّه من جملة عقودها ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إمّا بالموالي والمصطنعين الّذين نشئوا في ظلّ العصبيّة وغيرها وإمّا بالعصائب الخارجين عن نسبها الدّاخلين في ولايتها ومثل هذا وقع لبني العبّاس فإنّ عصبيّة العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنّما كان بالموالي من العجم والتّرك والدّيلم والسّلجوقيّة وغيرهم ثمّ تغلّب العجم الأولياء على النّواحي وتقلّص ظلّ الدّولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتّى زحف إليها الدّيلم وملكوها وصار الخلائق في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وملك السّلجوقيّة من بعدهم فصاروا في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وزحف آخر التّتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدّولة وكذا صنهاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 بالمغرب فسدت عصبيّتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها واستمرّت لهم الدّولة متقلّصة الظّلّ بالمهديّة وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية وربّما انتزى [1] بتلك الثّغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسّلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتّى تأذّن الله بانقراض الدّولة وجاء الموحّدون بقوّة قويّة من العصبيّة في المصامدة فمحوا آثارهم وكذا دولة بني أميّة بالأندلس لمّا فسدت عصبيّتها من العرب استولى ملوك الطّوائف على أمرها واقتسموا خطّتها وتنافسوا بينهم وتوزّعوا ممالك الدّولة وانتزى كلّ واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه وبلغهم شأن العجم مع الدّولة العبّاسيّة فتلقّبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته وأمنوا ممّن ينقض ذلك عليهم أو يغيّره لأنّ الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمرّ لهم ذلك كما قال ابن شرف. ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطّراء [2] على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدّولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبيّة العرب واستبدّ بن أبي عامر على الدّولة فكان لهم دول عظيمة استبدّت كلّ واحدة منها بجانب من الأندلس وحظّ كبير من الملك على نسبة الدّولة الّتي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتّى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبيّة القويّة من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبيّة لديهم فبهذه العصبيّة يكون تمهيد الدّولة وحمايتها من أوّلها وقد ظنّ الطّرطوشيّ أنّ حامية الدّول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الّذي   [1] بمعنى توثب، والأصح تنزى. [2] بمعنى الذين أتوا من أماكن اخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 سمّاه سراج الملوك وكلامه لا يتناول تأسيس الدّول العامّة في أوّلها وإنّما هو مخصوص بالدّول الأخيرة بعد التّمهيد واستقرار الملك في النّصاب واستحكام الصّبغة لأهله فالرّجل إنّما أدرك الدّولة عند هرمها وخلق جدّتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصّنائع ثمّ إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنّه إنّما أدرك دول الطّوائف وذلك عند اختلال بني أميّة وانقراض عصبيّتها من العرب واستبداد كلّ أمير بقطرة وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفّر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبيّة شيء لاستيلاء التّرف على العرب منذ ثلاثمائة من السّنين وهلاكهم ولم ير إلّا سلطانا مستبدّا بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدّولة وبقيّة العصبيّة فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطّرطوشيّ القول في ذلك ولم يتفطّن لكيفيّة الأمر منذ أوّل الدّولة وإنّه لا يتمّ إلّا لأهل العصبيّة فتفطّن أنت له وافهم سرّ الله فيه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247. الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية وذلك أنّه إذا كان لعصبيّة غلب كثير على الأمم والأجيال وفي نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم وانقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج وانتبذ عن مقرّ ملكه ومنبت عزّه اشتملوا عليه وقاموا بأمره وظاهروه على شأنه وعنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه وتناوله الأمر من يد أعياصه [1] وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر ولا   [1] اعياص: ج عيص، الأصل بمعنى أنهم يرجون انتقال الملك إليه من أصوله أي من آبائه وأجداده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليما لعصبيّته وانقيادا لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم وعقيدة إيمانيّة استقرّت في الإذعان لهم فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها وهذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى والعبيديّين بإفريقيّة ومصر لمّا انتبذ الطّالبيّون من المشرق إلى القاصية وابتعدوا عن مقرّ الخلافة وسموا إلى طلبها من أيدي بني العبّاس بعد أن استحكمت الصّبغة لبني عبد مناف لبني أميّة أوّلا ثمّ لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب ودعوا لأنفسهم وقام بأمرهم البرابرة مرّة بعد أخرى فأوربّة ومغيلة للأدارسة وكتامة وصنهاجة وهوّارة للعبيديّين فشيّدوا دولتهم ومهّدوا بعصائبهم أمرهم واقتطعوا من ممالك العبّاسيّين المغرب كلّه ثمّ إفريقية ولم يزل ظلّ الدّولة يتقلّص وظلّ العبيديّين يمتدّ إلى أن ملكوا مصر والشّام والحجاز وقاسموهم في الممالك الإسلاميّة شقّ الأبلمة وهؤلاء البرابرة القائمون بالدّولة مع ذلك كلّهم مسلّمون للعبيديّين أمرهم مذعنون لملكهم وإنّما كانوا يتنافسون في الرّتبة عندهم خاصّة تسليما لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم ولما استحكم من الغلب لقريش ومضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41. الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين اما من نبوة أو دعوة حق وذلك لأنّ الملك إنّما يحصل بالتّغلّب والتّغلّب إنّما يكون بالعصبيّة واتّفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنّما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى «لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ 8: 63» وسرّه أنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدّنيا حصل التّنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدّنيا والباطل وأقبلت على الله اتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وقلّ الخلاف وحسن التّعاون والتّعاضد واتّسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدّولة كما نبيّن لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى وبه التّوفيق لا ربّ سواه. الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها والسّبب في ذلك كما قدّمناه أنّ الصّبغة الدّينيّة تذهب بالتنافس والتّحاسد الّذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحقّ فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأنّ الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه وأهل الدّولة الّتي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقيّة الموت حاصل فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من التّرف والذّلّ كما قدّمناه وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسيّة واليرموك بضعة وثلاثين ألفا في كلّ معسكر وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسيّة وجموع هرقل على ما قاله الواقديّ أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحّدين فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممّن يقاومهم في العدد والعصبيّة أو يشفّ [1] عليهم إلّا أنّ الاجتماع الدّينيّ ضاعف قوّة عصبيّتهم بالاستبصار   [1] يشفّ: يزيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبيّة وحدها دون زيادة الدّين فتغلب الدّولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزّائدة القوّة عليها الّذين غلبتهم بمضاعفة الدّين لقوّتها ولو كانوا أكثر عصبيّة منها وأشدّ بداوة واعتبر هذا في الموحّدين مع زناتة لمّا كانت زناتة أبدى [1] من المصامدة وأشدّ توحّشا وكان للمصامدة الدّعوة الدّينيّة باتّباع المهديّ فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوّة عصبيّتهم بها فغلبوا على زناتة أوّلا واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبيّة والبداوة أشدّ منهم فلمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21. الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدّمناه من أنّ كلّ أمر تحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح كما مرّ «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبيّة وقد وقع هذا لابن قسيّ شيخ الصّوفية وصاحب كتاب خلع النّعلين في التّصوّف ثار بالأندلس داعيا إلى الحقّ وسمّي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهديّ فاستتبّ له الأمر قليلا لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحّدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحّدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقلة   [1] أبدى: من البداوة وأبدى أفعل التفضيل من بدا ومعناها أشد بداوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بحصن أركش [1] وأمكنهم من ثغره وكان أوّل داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته تسمّى ثورة المرابطين ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء فإنّ كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون [2] بهم من الغوغاء والدّهماء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل مأزورين [3] غير مأجورين لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة فطاح في هوّة الهلاك وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين ولا يشكّ في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة وأوّل ابتداء هذه النّزعة في الملّة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر [4] وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدّم العراق ثمّ عهد لعليّ بن موسى الرّضى من آل الحسين فكشف بنو العبّاس عن   [1] لم نعثر على حصن اركش في معجم البلدان وكذلك في المراجع التي بين أيدينا وربما هناك تحريف بالاسم وهو حصن اركون، وهو حصن منيع في الأندلس وموقعه ينسجم مع سياق الحديث عن المرابطين بالأندلس. [2] وفي بعض النسخ المتشبثون. [3] الأصح موزورين. [4] هو طاهر بن الحسين، كان قائدا لجيش المأمون زمن الخلاف بين الأخوين الأمين والمأمون وقد خرج أيام الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وجه النّكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهديّ فوقع الهرج [1] ببغداد وانطلقت أيدي الزّعرة [2] بها من الشّطّار [3] والحربيّة [4] على أهل العافية والصّون وقطعوا السّبيل وامتلأت أيديهم من نهاب النّاس وباعوها علانية في الأسواق واستعدى [5] أهلها الحكّام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين والصّلاح على منع الفسّاق وكفّ عاديتهم وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدّريوش ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فأجابه خلق وقاتل أهل الزّعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم بالضّرب والتّنكيل ثمّ قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاريّ ويكنى أبا حاتم وعلّق مصحفا في عنقه ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فاتّبعه النّاس كافّة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتّخذ الدّيوان وطاف ببغداد ومنع كلّ من أخاف المارّة ومنع الخفارة [6] لأولئك الشّطّار وقال له خالد الدّريوش أنا لا أعيب على السّلطان فقال له سهل لكني أقاتل كلّ من خالف الكتاب والسّنّة كائنا من كان وذلك سنة إحدى ومائتين وجهّز له إبراهيم بن المهديّ العساكر فغلبه وأسره وانحلّ أمره سريعا وذهب ونجا بنفسه ثمّ اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحقّ ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبيّة ولا يشعرون بمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم والّذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إمّا المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإمّا التّنكيل بالقتل أو الضّرب إن أحدثوا هرجا وإمّا إذاعة السّخريّة منهم وعدّهم من جملة   [1] الفتنة. [2] الزعرة ج زعر وفي العامية ازعر وزعران وهم ذوي الأخلاق السيئة. (قاموس) . [3] اللصوص والمجرمين. [4] هو نهب مال الإنسان بأجمعه. وفي الحديث الحارب الميشلح أي الغاصب الناهب، الّذي يعرّي الناس ثيابهم. [5] طلب النجدة والعون. [6] المحافظة أي منع المحافظة عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الصّفّاعين [1] وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطميّ المنتظر إمّا بأنّه هو أو بأنّه داع له وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطميّ ولا ما هو وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبّسين يطلبون بمثل هذه الدّعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التّوصّل إليها بشيء من أسبابها العاديّة فيحسبون أنّ هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤمّلونه من ذلك ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم وقد كان لأوّل هذه المائة خرج بالسّوس رجل من المتصوّفة يدعى التّويذريّ عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك وزعم أنّه الفاطميّ المنتظر تلبيسا على العامّة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك وأنّ من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامّة البربر تهافت الفراش ثمّ خشي رؤساؤهم اتّساع نطاق الفتنة فدسّ إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السّكسيويّ من قتله في فراشه وكذلك خرج في غماره أيضا لأوّل هذه المائة رجل يعرف بالعبّاس وادّعى مثل هذه الدّعوة واتّبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأعمارهم [2] وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة. ثمّ قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته ومضى في الهالكين الأوّلين وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبيّة في مثلها وأمّا إن كان التّلبيس فأحرى أن لا يتمّ له أمر وأن يبوء بإثمه وذلك جزاء الظّالمين والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ غيره ولا معبود سواه. الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها والسّبب في ذلك أنّ عصابة الدّولة وقومها القائمين بها الممهّدين لها لا بدّ   [1] الكذابين. [2] اغمارهم: احداثهم الذين لم يفقهوا الأمور بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 من توزيعهم حصصا على الممالك والثّغور الّتي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدوّ وإمضاء أحكام الدّولة فيها من جباية وردع وغير ذلك فإذا توزّعت العصائب كلّها على الثّغور والممالك فلا بدّ من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حدّ يكون ثغرا للدّولة وتخما لوطنها ونطاقا لمركز ملكها فإن تكفّلت الدّولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدوّ والمجاور ويعود وبال ذلك على الدّولة بما يكون فيه من التّجاسر وخرق سياج الهيبة وما كانت العصابة موفورة ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثّغور والنّواحي بقي في الدّولة قوّة على تناول ما وراء الغاية حتّى ينفسح نطاقها إلى غايته والعلّة الطّبيعيّة في ذلك هي قوّة العصبيّة من سائر القوى الطّبيعيّة وكلّ قوّة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها والدّولة في مركزها أشدّ ممّا يكون في الطّرف والنّطاق وإذا انتهت إلى النّطاق الّذي هو الغاية عجزت وأقصرت عمّا وراءه شأن الأشعّة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدّوائر المنفسحة على سطح الماء من النّقر عليه ثمّ إذا أدركها الهرم والضّعف فإنّما تأخذ في التّناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظا إلى أن يتأذّن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز وإذا غلب على الدّولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنّطاق بل تضمحلّ لوقتها فإنّ المركز كالقلب الّذي تنبعث منه الرّوح فإذا غلب على القلب وملك انهزم جميع الأطراف وانظر هذا في الدّولة الفارسيّة كان مركزها المدائن فلمّا غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه وبالعكس من ذلك الدّولة الرّوميّة بالشّام لمّا كان مركزها القسطنطينيّة وغلبهم المسلمون بالشّام تحيّزوا إلى مركزهم بالقسطنطينيّة ولم يضرّهم انتزاع الشّام من أيديهم فلم يزل ملكهم متّصلا بها إلى أن تأذّن الله بانقراضه وانظر أيضا شأن العرب أوّل الإسلام لمّا كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشّام والعراق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ومصر لأسرع وقت ثمّ تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السّند والحبشة وإفريقية والمغرب ثمّ إلى الأندلس فلمّا تفرّقوا حصصا على الممالك والثّغور ونزلوها حامية ونفد عددهم في تلك التّوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد وانتهى أمر الإسلام ولم يتجاوز تلك الحدود ومنها تراجعت الدّولة حتّى تأذّن الله بانقراضها وكذا كان حال الدّول من بعد ذلك كلّ دولة على نسبة القائمين بها في القلّة والكثرة وعند نفاد عددهم بالتّوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء سنّة الله في خلقه. الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما يكون بالعصبيّة وأهل العصبيّة هم الحامية الّذين ينزلون بممالك الدّولة وأقطارها وينقسمون عليها فما كان من الدّولة العامّة قبيلها وأهل عصابتها أكثر كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطانا وكان ملكها أوسع لذلك واعتبر ذلك بالدّولة الإسلاميّة لمّا ألّف الله كلمة العرب على الإسلام وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر غزوات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة فلمّا توجّهوا لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمى ولا وزر [1] فاستبيح حمى فارس والرّوم أهل الدّولتين العظيمتين في العالم لعهدهم والتّرك بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب والقوط بالأندلس وخطوا من الحجاز إلى السّوس الأقصى ومن اليمن إلى التّرك بأقصى الشّمال واستولوا على الأقاليم السّبعة ثمّ انظر بعد ذلك دولة صنهاجة والموحّدين مع العبيديّين قبلهم   [1] المعقل والملجأ (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لمّا كان كتامة القائمين بدولة العبيديّين أكثر من صنهاجة ومن المصامدة كانت دولتهم أعظم فملكوا إفريقية والمغرب والشّام ومصر والحجاز ثمّ انظر بعد ذلك دولة زناتة لمّا كان عددهم أقلّ من المصامدة قصّر ملكهم عن ملك الموحّدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة منذ أوّل أمرهم ثمّ اعتبر بعد ذلك حال الدّولتين لهذا العهد لزناتة بني مرين وبني عبد الواد، كانت دولتهم أقوى منها وأوسع نطاقا وكان لهم عليهم الغلب مرّة بعد أخرى. يقال إنّ عدد بني مرين لأوّل ملكهم كان ثلاثة آلاف وإنّ بني عبد الواد كانوا ألفا إلّا أنّ الدّولة بالرّفه وكثرة التّابع كثّرت من أعدادهم وعلى هذه النّسبة في أعداد المتغلّبين لأوّل الملك يكون اتّساع الدّولة وقوّتها وأمّا طول أمدها أيضا فعلى تلك النّسبة لأنّ عمر الحادث من قوّة مزاجه ومزاج الدّول إنّما هو بالعصبيّة فإذا كانت العصبيّة قويّة كان المزاج تابعا لها وكان أمد العمر طويلا والعصبيّة إنّما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه والسّبب الصّحيح في ذلك أنّ النّقص إنّما يبدو في الدّولة من الأطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة وكلّ نقص يقع فلا بدّ له من زمن فتكثر أزمان النّقص لكثرة الممالك واختصاص كلّ واحد منها بنقص وزمان فيكون أمدها أطول الدّول لا بنو العبّاس أهل المركز ولا بنو أميّة المستبدون بالأندلس [1] . ولم ينقص أمر جميعهم إلّا بعد الأربعمائة من الهجرة ودولة العبيديّين كان أمدها قريبا من مائتين وثمانين سنة ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معزّ الدّولة أمر إفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة إلى حين استيلاء الموحّدين على القلعة وبجاية سنة سبع وخمسين وخمسمائة ودولة الموحّدين لهذا العهد تناهز مائتين وسبعين سنة وهكذا نسب الدّول في أعمارها على نسبة القائمين بها سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.   [1] هناك تشويش في معنى العبارة وربما تكون العبارة: يتساوى في ذلك بنو العباس أهل المركز وبنوا أمية المستبدون بالأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الفصل التاسع في ان الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة والسّبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء وأنّ وراء كلّ رأي منها وهوى عصبيّة تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدّولة والخروج عليها في كلّ وقت وإن كانت ذات عصبيّة لأنّ كلّ عصبيّة ممّن تحت يدها تظنّ في نفسها منعة وقوّة وانظر ما وقع من ذلك بإفريقيّة والمغرب منذ أوّل الإسلام ولهذا العهد فإنّ ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيّات فلم يغن فيهم الغلب الأوّل الّذي كان لابن أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة شيئا وعاودوا بعد ذلك الثّورة والرّدّة مرّة بعد أخرى وعظم الإثخان [1] من المسلمين فيهم ولمّا استقرّ الدّين عندهم عادوا إلى الثّورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرّات عديدة قال ابن أبي زيد ارتدّت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرّة ولم تستقرّ كلمة الإسلام فيهم إلّا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده وهذا معنى ما ينقل عن عمر أنّ إفريقة مفرّقة لقلوب أهلها إشارة إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصّفة ولا الشّام إنّما كانت حاميتها من فارس والرّوم والكافّة دهماء أهل مدن وأمصار فلمّا غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق فيها ممانع ولا مشاقّ [2] والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى وكلّهم بادية وأهل عصائب وعشائر وكلّما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى دينها من الخلاف والرّدّة فطال أمر العرب في تمهيد الدّولة بوطن إفريقية والمغرب وكذلك كان الأمر بالشّام لعهد بني إسرائيل كان فيه من   [1] اثخن في العدو: أكثر في القتل والجرح وورد في الآية 67 من سورة الأنفال «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ 8: 67» . [2] مخالف وفي الآية 4 من سورة الحشر «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ 59: 4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والرّوم واليونان والعمالقة وأكريكش والنّبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوّعا في العصبيّة فصعب على بني إسرائيل تمهيد دولتهم ورسوخ أمرهم واضطرب عليهم الملك مرّة بعد أخرى وسرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم وخرجوا عليه ولم يكن لهم ملك موطّد سائر أيّامهم إلى أن غلبهم الفرس ثمّ يونان ثمّ الرّوم آخر أمرهم عند الجلاء والله غالب على أمره وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيّات يسهل تمهيد الدّولة فيها ويكون سلطانها وازعا لقلّة الهرج والانتقاض ولا تحتاج الدّولة فيها إلى كثير من العصبيّة كما هو الشّأن في مصر والشّام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيّات كأن لم يكن الشّام معدنا لهم كما قلناه فملك مصر في غاية الدّعة والرّسوخ لقلّة الخوارج وأهل العصائب إنّما هو سلطان ورعيّة ودولتها قائمة بملوك التّرك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحدا بعد واحد وينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت والخلافة مسمّاة للعبّاسيّ من أعقاب الخلفاء ببغداد وكذا شأن الأندلس لهذا العهد فإنّ عصبيّة ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأوّل دولتهم بقويّة ولا كانت كرّات [1] إنّما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدّولة الأمويّة بقوا من ذلك القلّة وذلك أنّ أهل الأندلس لمّا انقرضت الدّولة العربيّة منهم وملكهم البربر من لمتونة والموحّدين سئموا ملكتهم وثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضائهم وأمكن الموحّدون والسّادة في آخر الدّولة كثيرا من الحصون للطّاغية [2] في سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملّك الحضرة مراكش فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبيّة القديمة معادن من بيوت العرب تجافى بهم المنبت عن الحاضرة والأمصار بعض الشّيء ورسخوا في العصبيّة مثل ابن هود وابن الأحمر وابن مردنيش وأمثالهم فقام ابن هود بالأمر ودعا بدعوة الخلافة العبّاسيّة بالمشرق وحمل النّاس على الخروج   [1] متتالية ومتتابعة. [2] الاسم الّذي أطلقه عرب الأندلس على ملك الفرنج في البرتغال وقشتالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 على الموحّدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم واستقلّ ابن هود بالأمر في الأندلس ثمّ سما ابن الأحمر للأمر وخالف ابن هود في دعوته فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب إفريقية من الموحّدين وقام بالأمر وتناوله بعصابة قريبة من قرابته كانوا يسمّون الرّؤساء ولم يحتج لأكثر منهم لقلّة العصائب بالأندلس وإنّها سلطان ورعيّة ثمّ استظهر بعد ذلك على الطّاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة على المثاغرة والرّبّاط ثمّ سما لصاحب من ملوك زناتة أمل في الاستيلاء على الأندلس فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثّل [1] أمره ورسخ وألفته النّفوس وعجز النّاس عن مطالبته وورثه أعقابه لهذا العهد فلا تظنّ أنّه بغير عصابة فليس كذلك وقد كان مبدؤه بعصابة إلّا أنّها قليلة وعلى قدر الحاجة فإنّ قطر الأندلس لقلّة العصائب والقبائل فيه يغني عن كثرة العصبيّة في التّغلّب عليهم والله غنيّ عن العالمين. الفصل العاشر في ان من طبيعة الملك الانفراد بالمجد وذلك أنّ الملك كما قدّمناه إنّما هو بالعصبيّة والعصبيّة متألّفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلّها فتغلبها وتستولي عليها حتّى تصيّرها جميعا في ضمنها وبذلك يكون الاجتماع والغلب على النّاس والدّول وسرّه أنّ العصبيّة العامّة للقبيل هي مثل المزاج للمتكوّن والمزاج إنّما يكون عن العناصر وقد تبيّن في موضعه أنّ العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلا بل لا بدّ من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكلّ حتّى تجمعها وتؤلّفها وتصيّرها عصبيّة واحدة شاملة لجميع العصائب وهي موجودة في ضمنها   [1] ترسخ وتأصّل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وتلك العصبيّة الكبرى إنّما تكون لقوم أهل بيت ورئاسة فيهم، ولا بدّ من أن يكون واحد منهم رئيسا لهم غالبا عليهم فيتعيّن رئيسا للعصبيّات كلّها لغلب منبته لجميعها وإذا تعيّن له ذلك فمن الطّبيعة الحيوانيّة خلق الكبر والأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتّحكّم فيهم ويجيء خلق التّألّه الّذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السّياسة من انفراد الحاكم لفساد الكلّ باختلاف الحكّام «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا 21: 22» [1] فتجدع حينئذ أنوف العصبيّات وتفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التّحكّم وتقرع عصبيّتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتّى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملا فينفرد بذلك المجد بكلّيّته ويدفعهم عن مساهمته وقد يتمّ ذلك للأوّل من ملوك الدّولة وقد لا يتمّ إلّا للثّاني والثّالث على قدر ممانعة العصبيّات وقوّتها إلّا أنّه أمر لا بدّ منه في الدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده والله تعالى أعلم. الفصل الحادي عشر في ان من طبيعة الملك الترف وذلك أنّ الأمّة إذا تغلّبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقّته وزينته ويذهبون إلى اتّباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النّوافل عوائد ضروريّة في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى رقّة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطّيّب ولبس الأنيق وركوب الفاره [2] ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدّولة وعلى قدر ملكهم يكون حظّهم من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك   [1] سورة الأنبياء الآية 22. [2] الفارة في الفرس والبرذون والحمار: الجيد السير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الغاية الّتي للدّولة إلى أن تبلغها بحسب قوّتها وعوائد من قبلها سنّة الله في خلقه والله تعالى أعلم. الفصل الثاني عشر في ان من طبيعة الملك الدعة والسكون وذلك أنّ الأمّة لا يحصل لها الملك إلّا بالمطالبة والمطالبة غايتها الغلب والملك وإذا حصلت الغاية انقضى السّعي إليها (قال الشاعر) عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب الّتي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الرّاحة والسّكون والدّعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرّياض ويستمتعون بأحوال الدّنيا ويؤثرون الرّاحة على المتاعب ويتأنّقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذّن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم. الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم وبيانه من وجوه. الأوّل أنّها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه ومهما كان المجد مشتركا بين العصابة وكان سعيهم له واحدا كانت هممهم في التّغلّب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الغير والذّبّ عن الحوزة [1] أسوة في طموحها وقوّة شكائمها ومرماهم إلى العزّ جميعا يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيّتهم وكبح من أعنّتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو وفشل ربحهم ورئموا [2] المذلّة والاستعباد ثمّ ربي الجيل الثّاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرا من السّلطان لهم عن الحماية والمعونة لا يجري في عقولهم سواه وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهنا في الدّولة وخضدا من الشّوكة وتقبل به على مناحي الضعف والهرم لفساد العصبيّة بذهاب البأس من أهلها. والوجه الثّاني أنّ طبيعة الملك تقتضي التّرف كما قدّمناه فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم ولا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ثمّ يزداد ذلك في أجيالهم المتأخّرة إلى أن يقصر العطاء كلّه عن التّرف وعوائده وتمسّهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب فلا يجدون وليجة [3] عنها فيوقعون بهم العقوبات وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم ويضعف صاحب الدّولة بضعفهم وأيضا إذا كثر التّرف في الدّولة وصار عطاؤهم مقصّرا عن حاجاتهم ونفقاتهم احتاج صاحب الدّولة الّذي هو السّلطان إلى الزّيادة في أعطياتهم حتّى يسدّ خللهم [4] ويزيح عللهم والجباية مقدارها معلوم ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزّيادة محدودا فإذا وزّعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزّيادة لكلّ واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عمّا كان قبل زيادة الأعطيات ثمّ يعظم   [1] الدفاع عن الناحية. [2] أحبوا وآلفوا. [3] الوليجة: البطانة والخاصة ومن يتخذه الإنسان معتمدا عليه من غير أهله (قاموس) . [4] الخلل: الوهن في الأمر والرقة في الناس (قاموس) ولعل الكلمة محرّفة من كلمة الخلّة وهي الحاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 التّرف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية وثالثا ورابعا إلى أن يعود العسكر إلى أقلّ الأعداد فتضعف الحماية لذلك وتسقط قوّة الدّولة ويتجاسر عليها من يجاوزها من الدّول أو من هو تحت يديها من القبائل والعصائب ويأذن الله فيها بالفناء الّذي كتبه على خليقته وأيضا فالتّرف مفسد للخلق بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ والسّفسفة [1] وعوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير الّتي كانت علامة على الملك ودليلا عليه ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشّرّ فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته وتأخذ الدّولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها. الوجه الثّالث أنّ طبيعة الملك تقتضي الدّعة كما ذكرناه وإذا اتّخذوا الدّعة والرّاحة مألفا وخلقا صار لهم ذلك طبيعة وجبلّة شأن العوائد كلّها وإيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد التّرف والدّعة وينقلب خلق التّوحّش وينسون عوائد البداوة الّتي كان بها الملك من شدّة البأس وتعوّد الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر فلا يفرق بينهم وبين السّوقة من الحضر إلّا في الثّقافة والشّارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بما تلبّس من ثياب الهرم ثمّ لا يزالون يتلوّنون بعوائد التّرف والحضارة والسّكون والدّعة ورقّة الحاشية في جميع أحوالهم وينغمسون فيها وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة وينسلخون عنها شيئا فشيئا وينسون خلق البسالة الّتي كانت بها الحماية والمدافعة حتّى يعودوا عيالا على حامية أخرى إن كانت لهم واعتبر ذلك في الدّول الّتي أخبارها في الصّحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحا من غير ريبة وربّما يحدث في الدّولة إذا طرقها هذا الهرم بالتّرف والرّاحة أن يتخيّر صاحب الدّولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم ممّن تعوّد الخشونة فيتّخذهم جندا يكون أصبر على الحرب وأقدر على   [1] الرديء من كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 معاناة الشّدائد من الجوع والشّظف ويكون ذلك دواء للدّولة من الهرم الّذي عساه أن يطرقها حتّى يأذن الله فيها بأمره وهذا كما وقع في دولة التّرك بالمشرق فإنّ غالب جندها الموالي من التّرك فتتخيّر ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرسانا وجندا فيكونون أجرأ على الحرب وأصبر على الشّظف من أبناء المماليك الّذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النّعيم والسّلطان وظلّه وكذلك في دولة الموحّدين بإفريقيّة فإنّ صاحبها كثيرا ما يتّخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم ويترك أهل الدّولة المتعوّدين للتّرف فتستجدّ الدّولة بذلك عمرا آخر سالما من الهرم والله وارث الأرض ومن عليها. الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص اعلم أنّ العمر الطّبيعيّ للأشخاص على ما زعم الأطبّاء والمنجّمون مائة وعشرون سنة وهي سنو القمر الكبرى عند المنجّمين ويختلف العمر في كلّ جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا وينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامّة وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلّة القرانات عند النّاظرين فيها وأعمار هذه الملّة ما بين السّتّين إلى السّبعين كما في الحديث ولا يزيد على العمر الطّبيعيّ الّذي هو مائة وعشرون إلّا في الصّور النّادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السّلام وقليل من قوم عاد وثمود. وأمّا أعمار الدّول أيضا وإن كانت تختلف بحسب القرانات إلّا أنّ الدّولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الّذي هو انتهاء النّموّ والنّشوء إلى غايته قال تعالى «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً 46: 15» [1] ولهذا قلنا إنّ عمر الشّخص الواحد هو عمر الجيل   [1] سورة الأحقاف الآية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ويؤيّده ما ذكرناه في حكمة التّيه الّذي وقع في بني إسرائيل وأنّ المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذّلّ ولا عرفوه فدلّ على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الّذي هو عمر الشّخص الواحد وإنّما قلنا إنّ عمر الدّولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبيّة محفوظة فيهم فحدّهم مرهف وجانبهم مرهوب والنّاس لهم مغلوبون والجيل الثّاني تحوّل حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة ومن الشّظف إلى التّرف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السّعي فيه ومن عزّ الاستطالة إلى ذلّ الاستكانة فتنكسر سورة العصبيّة بعض الشّيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأوّل وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكليّة وإن ذهب منه ما ذهب ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال الّتي كانت للجيل الأوّل أو على ظنّ من وجودها فيهم وأمّا الجيل الثّالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العزّ والعصبيّة بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم التّرف غايته بما تبنّقوه [1] من النّعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالا على الدّولة ومن جملة النّساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم وتسقط العصبيّة بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ويلبّسون على النّاس في الشّارة والزّيّ وركوب الخيل وحسن الثّقافة يموّهون بها وهم في الأكثر أجبن من النّسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدّولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النّجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدّولة بعض الغناء حتّى يتأذّن الله بانقراضها فتذهب الدّولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدّولة وتخلّفها ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرّابع   [1] في بعض النسخ تفنقوه: أي تنعموا به (قاموس) وتبنقوه: توصلوا إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 كما مرّ في أنّ المجد والحسب إنّما هو أربعة آباء وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعيّ كاف ظاهر مبنيّ على ما مهّدناه قبل من المقدّمات فتأمّله فلن تعدو وجه الحقّ إن كنت من أهل الإنصاف وهذه الأجيال الثّلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مرّ ولا تعدو الدّول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلّا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلا مستوليا والطّالب لم يحضرها ولو قد جاء الطّالب لما وجد مدافعا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 7: 34» فهذا العمر للدّولة بمثابة عمر الشّخص من التّزيّد إلى سنّ الوقوف ثمّ إلى سنّ الرّجوع ولهذا يجري على ألسنة النّاس في المشهور أنّ عمر الدّولة مائة سنة وهذا معناه فاعتبره واتّخذ منه قانونا يصحّح لك عدد الآباء في عمود النّسب الّذي تريده من قبل معرفة السّنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم وكانت السّنون الماضية منذ أوّلهم محصّلة لديك فعدّ لكلّ مائة من السّنين ثلاثة من الآباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود [1] عددهم فهو صحيح وإن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النّسب وإن زادت بمثله فقد سقط واحد وكذلك تأخذ عدد السّنين من عددهم إذا كان محصّلا لديك فتأمّله تجده في الغالب صحيحا «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» . الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة اعلم أنّ هذه الأطوار طبيعيّة للدّول فإنّ الغلب الّذي يكون به الملك إنّما هو بالعصبيّة وبما يتبعها من شدّة البأس وتعوّد الافتراس ولا يكون ذلك غالبا إلّا مع البداوة فطور الدّولة من أوّلها بداوة ثمّ إذا حصل الملك تبعه الرّفه واتّساع الأحوال   [1] الأصح أن يقول نفاد عددهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والحضارة إنّما هي تفنّن في التّرف وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق فيه تختصّ به ويتلو بعضها بعضا وتتكثّر باختلاف ما تنزع إليه النّفوس من الشّهوات والملاذّ والتّنعّم بأحوال التّرف وما تتلوّن به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعيّة الرّفه للملك وأهل الدّول أبدا يقلّدون في طور الحضارة وأحوالها للدّولة السّابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لمّا كان الفتح وملكوا فارس والرّوم واستخدموا بناتهم وأبناءهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنّه قدّم لهم المرقّق [1] فكانوا يحسبونه رقاعا وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا ومثال ذلك كثير فلمّا استعبدوا أهل الدّول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتّفنّن فيه مع ما حصل لهم من اتّساع العيش والتّفنّن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك وتطوّروا بطور الحضارة والتّرف في الأحوال واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثيّ [2] وكذلك أحوالهم في أيّام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية وانظر ما نقله المسعوديّ والطّبريّ وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصّلح وركب إليها في السّفين وما أنفق في أملاكها [3] وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنه أنّ الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصّنيع الّذي حضره حاشية المأمون فنثر على   [1] الخبز المرقوق. [2] اردأ المتاع. [3] أملاكها: زواجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الطّبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثة على الرّقاع بالضّياع والعقار مسوّغة لمن حصلت في يده يقع لكلّ واحد منهم ما أدّاه إليه الاتّفاق والبخت وفرّق على الطّبقة الثّانية بدر [1] الدّنانير في كلّ بدرة عشرة آلاف وفرّق على الطّبقة الثّالثة بدر الدّراهم كذلك بعد أن أنفق على مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك ومنه أنّ المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت وأوقد شموع العنبر في كلّ واحدة مائة من وهو رطل وثلثان [2] وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذّهب مكلّلا بالدّرّ والياقوت وقال المأمون حين رآه قاتل الله أبا نواس كأنّه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر: كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب وأعدّ بدار الطّبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة وأربعين بغلا مدّة عام كامل ثلاث مرّات في كلّ يوم وفني الحطب لليلتين وأوقدوا الجريد يصبّون عليه الزّيت وأوعز إلى النّواتية بإحضار السّفن لإجازة الخواصّ من النّاس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحرّاقات [3] المعدّة لذلك ثلاثين ألفا أجازوا النّاس فيها أخريات نهارهم وكثير من هذا وأمثاله وكذلك عرس المأمون بن ذي النّون بطليطلة نقله ابن سام في كتاب الذّخيرة وابن حيّان بعد أن كانوا كلّهم في الطّور الأوّل من البداوة عاجزين عن ذلك جملة لفقدان أسبابه والقائمين على صنائعه في غضاضتهم [4] وسذاجتهم يذكر أنّ الحجّاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدّهاقين [5] يسأله عن ولائم الفرس وقال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيّها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعا أحضر فيه صحاف الذّهب على أخونة الفضّة   [1] بدر: ج بدرة وهي عشرة آلاف درهم. [2] قوله وثلثان الّذي كتب في اللغة ان المن رطل وقيل رطلان ولم يوجد في النسخة التونسية ثلثان. [3] الحراقات بالفتح جمع حراقة سفينة فيها مرامي نار يرمي بها العدو 1 هـ- مختار. [4] نضارتهم. [5] اسم فارسي يطلق على رئيس القرية وأصحاب العقارات الكبيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 أربعا على كلّ واحد وتحمله أربع وصائف ويجلس عليه أربعة من النّاس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصفائها فقال الحجّاج: «يا غلام انحر الجزر وأطعم النّاس» [1] وعلم أنّه لا يستقلّ بهذه الأبّهة وكذلك كانت. ومن هذا الباب أعطية بني أميّة وجوائزهم فإنّما كان أكثرها الإبل أخذا بمذاهب العرب وبداوتهم ثمّ كانت الجوائز في دولة بني العبّاس والعبيديّين من بعدهم ما علمت من أحمال المال وتخوت الثّياب وإعداد الخيل بمراكبها وهكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بإفريقيّة وكذا بني طفج بمصر وشأن لمتونة مع ملوك الطّوائف بالأندلس والموحّدين كذلك وشأن زناتة مع الموحّدين وهلمّ جرّا تنتقل الحضارة من الدّول السّالفة إلى الدّول الخالفة فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أميّة وبني العبّاس وانتقلت حضارة بني أميّة بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحّدين وزناتة لهذا العهد وانتقلت حضارة بني العبّاس إلى الدّيلم ثمّ إلى التّرك ثمّ إلى السّلجوقيّة ثمّ إلى التّرك المماليك بمصر والتّتر بالعراقين وعلى قدر عظم الدّولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع التّرف والتّرف من توابع الثّروة والنّعمة والثّروة والنّعمة من توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل الدّولة فعلى نسبة الملك يكون ذلك كلّه فاعتبره وتفهّمه وتأمّله تجده صحيحا في العمران «وَالله وَارِثُ الأَرْضِ وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ» . الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها والسّبب في ذلك أنّ القبيل إذا حصل لهم الملك والتّرف كثر التّناسل والولد والعموميّة فكثرت العصابة واستكثروا أيضا من الموالي والصّنائع وربيت أجيالهم   [1] ان طبيعة الحجاج البدوية أبت التصنع والتكلف فأمر غلامه بذبح الجزر وإطعام الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 في جوّ ذلك النّعيم والرّفه فازدادوا به عددا إلى عددهم وقوّة إلى قوّتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد فإذا ذهب الجيل الأوّل والثّاني وأخذت الدّولة في الهرم لم تستقلّ أولئك الصّنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدّولة وتمهيد ملكها لأنّهم ليس لهم من الأمر شيء إنّما كانوا عيالا على أهلها ومعونة لها فإذا ذهب الأصل لم يستقلّ الفرع بالرّسوخ فيذهب ويتلاشى ولا تبقى الدّولة على حالها من القوّة. واعتبر هذا بما وقع في الدّولة العربيّة في الإسلام. كان عدد العرب كما قلنا لعهد النّبوة والخلافة مائة وخمسين ألفا وما يقاربها من مضر وقحطان ولمّا بلغ التّرف مبالغه في الدّولة وتوفّر نموّهم بتوفّر النّعمة واستكثر الخلفاء من الموالي والصّنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه يقال إنّ المعتصم نازل عمّوريّة لمّا افتتحها في تسعمائة ألف ولا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحا إذا اعتبرت حاميتهم في الثّغور الدّانية والقاصية شرقا وغربا إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي والمصطنعين وقال المسعوديّ أحصى بنو العبّاس ابن عبد المطّلب خاصّة أيّام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفا بين ذكران وإناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقلّ من مائتي سنة واعلم أنّ سببه الرّفه والنّعيم الّذي حصل للدّولة وربي فيه أجيالهم وإلّا فعدد العرب لأوّل الفتح لم يبلغ هذا ولا قريبا منه والله الخلّاق العليم. الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار اعلم أنّ الدّولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجدّدة ويكتسب القائمون بها في كلّ طور خلقا من أحوال ذلك الطّور لا يكون مثله في الطّور الآخر لأنّ الخلق تابع بالطّبع لمزاج الحال الّذي هو فيه وحالات الدّولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار. الطّور الأوّل طور الظّفر بالبغية وغلب المدافع والمانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدّولة في هذا الطّور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأنّ ذلك هو مقتضى العصبيّة الّتي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطّور الثّاني طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التّطاول للمساهمة والمشاركة ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور معنيا باصطناع الرّجال واتّخاذ الموالي والصّنائع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيّته وعشيرته المقاسمين له في نسبة الضّاربين في الملك بمثل سهمه فهو يدافعهم عن الأمر ويصدّهم عن موارده ويردّهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه حتّى يقرّ الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأوّلون في طلب الأمر أو أشدّ لأنّ الأوّلين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبيّة بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم أهل العصبيّة بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلّا الأقلّ من الأباعد فيركب صعبا من الأمر. الطّور الثّالث طور الفراغ والدّعة لتحصيل ثمرات الملك ممّا تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصّيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدّخل والخرج وإحصاء النّفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتّسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبثّ المعروف في أهله هذا مع التّوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه واعتراض [1] جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكلّ هلال حتّى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكّتهم [2] وشاراتهم يوم الزّينة فيباهي بهم الدّول المسالمة ويرهب الدّول المحاربة وهذا الطّور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدّولة لأنّهم في هذه الأطوار كلّها مستقلّون بآرائهم بانون لعزّهم موضحون الطّرق لمن بعدهم. الطّور الرّابع طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدّولة في هذا   [1] بمعنى استعراض جنده. [2] سلاحهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 قانعا بما بنى أوّلوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلّدا للماضين من سلفه فيتّبع آثارهم حذو النّعل بالنّعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أنّ في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنّهم أبصر بما بنوا من مجده. الطّور الخامس طور الإسراف والتّبذير ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور متلفا لما جمع أوّلوه في سبيل الشّهوات والملاذّ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السّوء وخضراء الدّمن [1] وتقليدهم عظيمات الأمور الّتي لا يستقلّون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها مستفسدا لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه حتّى يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته مضيّعا من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقّده فيكون مخرّبا لما كان سلفه يؤسّسون وهادما لما كانوا يبنون وفي هذا الطّور تحصل في الدّولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المزمن الّذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبيّنه في الأحوال الّتي نسردها والله خير الوارثين. الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها والسّبب في ذلك أنّ الآثار إنّما تحدث عن القوّة الّتي بها كانت أوّلا وعلى قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدّولة وهياكلها العظيمة فإنّما تكون على نسبة قوّة الدّولة في أصلها لأنّها لا تتمّ إلّا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل بالتّعاون فيه فإذا كانت الدّولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرّعايا كان الفعلة كثيرين جدّا وحشروا من آفاق الدّولة وأقطارها فتمّ العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصّه القرآن عنهما.   [1] (بمعنى الجميل في مظهرة، الوضيع في مخبره وفي الحديث: «وإياكم وخضراء الدمن» قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: «المرأة الحسناء في المنبت السوء» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتّى إنّه عزم الرّشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد [1] عنه وشرع فيه ثمّ أدركه العجز وقصّة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السّهولة. تعرف من ذلك بون ما بين الدّولتين وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أميّة بقرطبة والقنطرة الّتي على واديها وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنّة في القناة الرّاكبة عليها وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلاف الدّول في القوّة والضّعف. واعلم أنّ تلك الأفعال للأقدمين إنّما كانت بالهندام [2] واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها فبذلك شيّدت تلك الهياكل والمصانع ولا تتوهّم ما تتوهّمه العامّة أنّ ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل والآثار ولقد ولع القصّاص بذلك وتغالوا فيه وسطّروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق [3] رجل من العمالقة الّذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشّام زعموا أنّه كان لطوله يتناول السّمك من البحر ويشويه إلى الشّمس ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أنّ للشّمس حرارة وأنّها شديدة فيما قرب منها ولا يعلمون أنّ الحرّ هو الضّوء وأنّ الضّوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعّة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك وإذا تجاوزت مطارح الأشعّة المنعكسة   [1] تكاءد: تكلفه وكابده. والأصح أن يقول تكاءده. [2] الهندام: التنظيم والإصلاح. [3] قوله ابن عناق الّذي في القاموس في باب الجيم عوج بن عوق بالواو والمشهور على ألسنة الناس عنق بالنون قاله نصر الهوريني (وهو رجل ولد في منزل آدم. فعاش إلى زمن موسى، وذكر من عظم خلقه ما لا يصدقه العقل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فلا حرّ هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السّحاب وأنّ الشّمس في نفسها لا حارّة ولا باردة وإنّما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له [1] . وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيّين الّذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشّام وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنّها وإن خرّبت وجدّدت لم تزل المحافظة على أشكالها ومقادير أبوابها وكيف يكون التّفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار وإنّما مثار غلطهم في هذا أنّهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدّول في الاجتماع والتّعاون وما يحصل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلى قوّة الأجسام وشدّتها بعظم هياكلها وليس الأمر كذلك. وقد زعم المسعوديّ ونقله عن الفلاسفة مزعما لا مستند له إلّا التّحكّم وهو أنّ الطّبيعة الّتي هي جبلة للأجسام لمّا برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة [2] ونهاية القوّة والكمال وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطّبيعة فإنّ طروء الموت إنّما هو بانحلال القوى الطّبيعيّة فإذا كانت قويّة كانت الأعمار أزيد فكان العالم في أوّليّة نشأته تامّ الأعمار كامل الأجسام ثمّ لم يزل يتناقص لنقصان المادّة إلى أن بلغ إلى هذه الحال الّتي هو عليها ثمّ لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلّا التّحكّم كما تراه وليس له علّة طبيعيّة ولا سبب برهانيّ ونحن نشاهد مساكن الأوّلين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والدّيار والمساكن كديار ثمود المنحوتة في الصّلد من الصّخر بيوتا صغارا وأبوابها ضيّقة وقد أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى أنّها ديارهم ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرق   [1] ثبت للعلم الحديث أن الشمس جسم ملتهب، وأنها محتفظة بالتهابها وحرارتها. [2] في بعض النسخ المرّة: بمعنى القوة وقال تعالى في آيتي 5 و 6 من سورة النجم: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى 53: 5- 6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وقال «لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» . وكذلك أرض عاد ومصر والشّام وسائر بقاع الأرض شرقا وغربا والحقّ ما قرّرناه ومن آثار الدّول أيضا حالها في الأعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجّاج وابن ذي النّون وقد مرّ ذلك كلّه. ومن آثارها أيضا عطايا الدّول وأنّها تكون على نسبتها ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم فإنّ الهمم الّتي لأهل الدّولة تكون على نسبة قوّة ملكهم وغلبهم للنّاس والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدّولة واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذّهب والفضّة والأعبد والوصائف عشرا عشرا ومن كرش [1] العنبر واحدة وأضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطّلب وإنّما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصّة تحت استبداد فارس وإنّما حمله على ذلك همّة نفسه بما كان لقومه التّبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب وكان الصّنهاجيّون بإفريقيّة أيضا إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنّما يعطونهم المال أحمالا والكساء تخوتا مملوءة والحملان [2] جنائب عديدة. وفي تاريخ ابن الرّقيق من ذلك أخبار كثيرة وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم وكانوا إذا كسبوا معدما فإنّما هو الولاية والنّعمة آخر الدّهر لا العطاء الّذي يستنفده يوم أو بعض يوم وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلّها على نسبة الدّول جارية هذا جوهر الصّقلبيّ الكاتب قائد جيش العبيديّين لمّا ارتحل إلى فتح مصر استعدّ من القيروان بألف حمل من المال ولا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا. وكذلك وجد بخطّ أحمد بن محمّد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيّام المأمون من جميع النّواحي نقلته من جراب   [1] كرش: وعاء الطيب (قاموس) . [2] الحملان: ما يحمل عليه من الدواب في الهبة خاصة (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الدّولة (غلات السواد) [1] سبع وعشرون ألف ألف درهم مرّتين وثمانمائة ألف درهم ومن الحلل [2] النّجرانيّة مائتا حلّة ومن طين الختم مائتان وأربعون رطلا (كنكر) [3] أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وستّمائة ألف درهم (كورد جلة) عشرون ألف ألف درهم وثمانيّة دراهم. (حلوان) [4] أربعة آلاف ألف درهم مرّتين وثمانمائة ألف درهم (الأهواز) خمسة وعشرون ألف درهم مرّة ومن السّكّر ثلاثون ألف رطل (فارس) سبعة وعشرون ألف ألف درهم ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة ومن الزّيت الأسود عشرون ألف رطل (كرمان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين ومائتا ألف درهم ومن المتاع اليمانيّ خمسمائة ثوب ومن التّمر عشرون ألف رطل (مكران) أربعمائة ألف درهم مرّة (السند وما يليه) أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وخمسمائة ألف درهم ومن العود الهنديّ مائة وخمسون رطلا (سجستان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين ومن الثّياب المعيّنة ثلاثمائة ثوب ومن الفانيد [5] عشرون رطلا (خراسان) ثمانيّة وعشرون ألف ألف درهم مرّتين ومن نقر [6] الفضّة ألفا نقرة ومن البراذين أربعة آلاف ومن الرّقيق ألف رأس ومن المتاع عشرون ألف ثوب ومن الإهليلج [7] ثلاثون ألف رطل (جرجان) اثنا عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن الإبريسم ألف شقّة. (قومس) ألف ألف مرّتين وثلاثمائة ألف ومن الفرش الطّبريّ ستّمائة قطعة ومن الأكسية مائتان ومن الثّياب خمسمائة ثوب ومن المناديل ثلاثمائة ومن الجامات ثلاثمائة (الري) اثنا عشر   [1] السواد: كان العرب يطلقونها على الأراضي الزراعية (سواد العراق سواد فارس إلخ.) . [2] الحلل: ج حلة: ثوبان من جنس واحد. [3] كنلور في معجم البلدان هكذا ذكرها ياقوت الحموي. [4] حلوان: مقاطعة في العراق وهي غير حلوان مصر وهي في شرقي العراق. [5] نوع من الحلوى. [6] القطعة المذابة من الفضة أو الذهب. [7] ثمر معروف ج اهليلجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ألف ألف درهم مرّتين ومن العسل عشرون ألف رطل (همذان) أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وثلاثمائة ألف ومن ربّ الرّمّان ألف رطل ومن العسل اثنا عشر ألف رطل (ما بين البصرة والكوفة) عشرة آلاف ألف درهم مرّتين وسبعمائة ألف درهم (ماسبذان والدينار [1] ) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين (شهرزور) ستّة آلاف ألف درهم مرّتين وسبعمائة ألف درهم (الموصل وما يليها) أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرّتين ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل (آذربيجان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين (الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات) أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرّتين ومن الرّقيق ألف راس ومن العسل اثنا عشر ألف زقّ ومن البزاة [2] عشرة ومن الأكسية عشرون (ارمينية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن البسط [3] المحفور عشرون ومن الزّقم خمسمائة وثلاثون رطلا ومن المسايج السّور ما هي عشرة آلاف رطل ومن الصّونج عشرة آلاف رطل ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون (قنسرين) أربعمائة ألف دينار ومن الزّيت ألف حمل (دمشق) أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار (الأردن) سبعة وتسعون ألف دينار (فلسطين) ثلاثمائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار ومن الزّيت ثلاثمائة ألف رطل (مصر) ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار. (برقة) ألف ألف درهم مرّتين. (افريقية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن البسط مائة وعشرون. (اليمن) ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع. (الحجاز) ثلاثمائة ألف دينار انتهى. وأمّا الأندلس فالّذي ذكره الثّقات من مؤرّخيها أنّ عبد الرّحمن النّاصر خلّف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكرّرة ثلاث مرّات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.   [1] قوله والدينار والظاهر أنها الدينور وفي الترجمة التركية ما سندان وربان انتهى- [2] قوله ومن البزاة في التركية ومن السكر عشرة صناديق انتهى- [3] وفي نسخة القسط وهو عود يتداوى به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ورأيت في بعض تواريخ الرّشيد أنّ المحمول إلى بيت المال في أيّامه سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار في كلّ سنة فاعتبر ذلك في نسب الدّول بعضها من بعض ولا تنكرنّ ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات فكثير من الخواصّ إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدّول السّالفة بادر بالإنكار وليس ذلك من الصّواب فإنّ أحوال الوجود والعمران متفاوتة ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلّها فيها ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العبّاس وبني أميّة والعبيديّين وناسبنا الصّحيح من ذلك والّذي لا شكّ فيه بالّذي نشاهده من هذه الدّول الّتي هي أقلّ بالنّسبة إليها وجدنا بينها بونا وهو لما بينها من التّفاوت في أصل قوّتها وعمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوّة كما قدّمناه ولا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشّهرة والوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدّول في قوّتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها واعتبر ذلك بما نقصّه عليك من هذه الحكاية المستظرفة. وذلك أنّه ورد بالمغرب لعهد السّلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة [1] كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلّب في بلاد العراق واليمن والهند ودخل مدينة دهلي [2] حاضرة ملك الهند وهو السّلطان محمّد شاه واتّصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه وكان له منه مكان واستعمله في خطّة القضاء بمذهب المالكيّة في عمله ثمّ انقلب إلى المغرب واتّصل بالسّلطان أبي عنان وكان يحدّث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض وأكثر ما كان يحدّث عن دولة صاحب الهند ويأتي من   [1] كان ابتداء رحلة ابن بطوطة سنة 725 وانتهاؤها سنة 754 وهي عجيبة ومختصرها 7 كراريس 1 هـ. [2] كذا في جميع النسخ وتعرف اليوم باسم دلهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أحواله بما يستغربه السّامعون مثل أنّ ملك الهند إذا خرج إلى السّفر أحصى أهل مدينته من الرّجال والنّساء والولدان وفرض لهم رزق ستّة أشهر تدفع لهم من عطائه وأنّه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه النّاس كافّة إلى صحراء البلد ويطوفون به وينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظّهر ترمى بها شكائر [1] الدّراهم والدّنانير على النّاس إلى أن يدخل إيوانه وأمثال هذه الحكايات فتناحى النّاس بتكذيبه ولقيت أيّامئذ وزير السّلطان فارس بن وردار البعيد الصّيت ففاوضته في هذا الشّأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرّجل لما استفاض في النّاس من تكذيبه. فقال لي الوزير فارس إيّاك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدّول بما أنّك لم تره فتكون كابن الوزير النّاشئ في السّجن وذلك أنّ وزيرا اعتقله سلطانه ومكث في السّجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس فلمّا أدرك وعقل سأل عن اللّحمان الّتي كان يتغذّى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال وما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه ويقول أين الغنم من الفأر وكذا في لحم الإبل والبقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلّا الفار فيحسبها كلّها أبناء جنس الفأر ولهذا كثيرا ما يعتري النّاس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزّيادة عند قصد الإغراب كما قدّمناه أوّل الكتاب فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمنا على نفسه ومميّزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه وليس مرادنا الإمكان العقليّ المطلق فإنّ نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدّا بين الواقعات وإنّما مرادنا الإمكان بحسب المادّة الّتي للشّيء فإنّا إذا نظرنا أصل الشّيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوّته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 20: 114 وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] شكائر من شكر: بمعنى الضروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين اعلم أنّ صاحب الدّولة إنّما يتمّ أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه وبهم يقارع الخوارج على دولته ومنهم يقلّد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنّهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهموه في سائر مهمّاته هذا ما دام الطّور الأوّل للدّولة كما قلناه فإذا جاء الطّور الثّاني وظهر الاستبداد عنهم والانفراد بالمجد ودافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدّهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم ويتولّاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم وأخصّ به قربا واصطناعا وأولى إيثارا وجاها لما أنّهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الّذي كان لهم والرّتبة الّتي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدّولة ويخصّهم بمزيد التّكرمة والإيثار ويقسم لهم ما للكثير من قومه ويقلّدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختصّ به لنفسه وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنّهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون وذلك حينئذ مؤذن باهتضام [1] الدّولة وعلامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبيّة الّتي كان بناء الغلب عليها. ومرض قلوب أهل الدّولة حينئذ من الامتهان وعداوة السّلطان فيضطغنون [2] عليه ويتربّصون به الدّوائر ويعود وبال ذلك على الدّولة ولا يطمع في برئها من   [1] بمعنى رخاوة. [2] بمعنى يحقدون عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 هذا الدّاء لأنّه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها واعتبر ذلك في دولة بني أميّة كيف كانوا إنّما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجّاج بن يوسف والمهلّب بن أبي صفرة وخالد بن عبد الله القسريّ وابن هبيرة وموسى بن نصير وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ ونصر بن سيّار وأمثالهم من رجالات العرب وكذا صدر من دولة بني العبّاس كان الاستظهار فيها أيضا برجالات العرب فلمّا صارت الدّولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التّطاول للولايات صارت الوزارة للعجم والصّنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر ثمّ بني بويه وموالي التّرك مثل بغا ووصيف وأثلمش وباكناك وابن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدّولة لغير من مهّدها والعزّ لغير من اجتلبه سنّة الله في عباده والله تعالى أعلم. الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول اعلم أنّ المصطنعين في الدّول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدّولة بتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها والسّبب في ذلك أنّ المقصود في العصبيّة من المدافعة والمغالبة إنّما يتمّ بالنّسب لأجل التّناصر في ذوي الأرحام والقربى والتّخاذل في الأجانب والبعداء كما قدّمناه والولاية والمخالطة بالرّقّ أو بالحلف تتنزّل منزلة ذلك لأنّ أمر النّسب وإن كان طبيعيّا فإنّما هو وهميّ والمعنى الّذي كان به الالتحام إنّما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصّحبة بالمربى والرّضاع وسائر أحوال الموت والحياة وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النّعرة والتّناصر وهذا مشاهد بين النّاس واعتبر مثله في الاصطناع فإنّه يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصّة من الوصلة تتنزّل هذه المنزلة وتؤكّد اللحمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وإن لم يكن نسب فثمرات النّسب موجودة فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج وعقائدها أصحّ ونسبها أصرح لوجهين أحدهما أنّهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميّز النّسب عن الولاية إلّا عند الأقلّ منهم فيتنزّلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم وإذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميّزة للسّيد عن المولى. ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع لما تقتضيه أحوال الرّئاسة والملك من تميّز الرّتب وتفاوتها فتتميّز حالتهم ويتنزّلون منزلة الأجانب ويكون الالتحام بينهم أضعف والتّناصر لذلك أبعد وذلك أنقص من الاصطناع قبل الملك. الوجه الثّاني أنّ الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدّولة بطول الزّمان ويخفي شأن تلك اللّحمة ويظنّ بها في الأكثر النّسب فيقوى حال العصبيّة وأمّا بعد الملك فيقرب العهد ويستوي في معرفته الأكثر فتتبيّن اللّحمة وتتميّز عن النّسب فتضعف العصبيّة بالنّسبة إلى الولاية الّتي كانت قبل الدّولة واعتبر ذلك في الدّول والرّئاسات تجده فكلّ من كان اصطناعه قبل حصول الرّئاسة والملك لمصطنعه تجده أشدّ التحاما به وأقرب قرابة إليه ويتنزّل منه منزلة أبنائه وإخوانه وذوي رحمه ومن كان اصطناعه بعد حصول الملك والرّئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة واللّحمة ما للأوّلين وهذا مشاهد بالعيان حتّى إنّ الدّولة في آخر عمرها ترجع إلى استعمال الأجانب واصطناعهم ولا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدّولة لقرب العهد حينئذ بأوّليّتهم ومشارفة الدّولة على الانقراض فيكونون منحطّين في مهاوي الضّعة. وإنّما يحمل صاحب الدّولة على اصطناعهم والعدول إليهم عن أوليائها الأقدمين وصنائعها الأوّلين ما يعتريهم في أنفسهم من العزّة على صاحب الدّولة وقلّة الخضوع له ونظره بما ينظره به قبيله وأهل نسبه لتأكّد اللّحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى والاتّصال بآبائه وسلف قومه والانتظام مع كبراء أهل بيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فيحصل لهم بذلك دالّة عليه واعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدّولة ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم ويكون عهد استخلاصهم واصطناعهم قريبا فلا يبلغون رتب المجد ويبقون على حالهم من الخارجيّة وهكذا شأن الدّول في أواخرها وأكثر ما يطلق اسم الصّنائع والأولياء على الأوّلين وأمّا هؤلاء المحدثون فخدم وأعوان والله وليّ المؤمنين وهو على كلّ شيء وكيل. الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه إذا استقرّ الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدّولة وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه وتداوله بنوهم واحدا بعد واحد بحسب التّرشيح فربّما حدث التّغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم وسببه في الأكثر ولاية صبيّ صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعة للملك فيحجب الصّبيّ عن النّاس ويعوّده إليها ترف أحواله ويسيمه في مراعيها متى أمكنه وينسيه النّظر في الأمور السّلطانيّة حتّى يستبدّ عليه وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السّلطان من الملك إنّما هو جلوس السّرير وإعطاء الصّفقة وخطاب التّهويل والقعود مع النّساء خلف الحجاب وأنّ الحلّ والرّبط والأمر والنّهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة وتفقّدها من النّظر في الجيش والمال والثّغور إنّما هو للوزير ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرّئاسة والاستبداد ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبني بويه والتّرك وكافور الإخشيديّ وغيرهم بالمشرق وللمنصور بن أبي عامر بالأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه فيحاول على [1] الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ويرجع الملك إلى نصابه ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه إمّا بقتل أو برفع عن الرّتبة فقط إلّا أنّ ذلك في النّادر الأقلّ لأنّ الدّولة إذا أخذت في تغلّب الوزراء والأولياء استمرّ لها ذلك وقلّ أن تخرج عنه لأنّ ذلك إنّما يوجد في الأكثر عن أحوال التّرف ونشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمه قد نسوا عهد الرّجولة وألفوا أخلاق الدّايات والأظآر [2] وربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسة ولا يعرفون استبدادا من تغلّب إنّما همّهم في القنوع بالأبّهة والتّنفّس في اللّذّات وأنواع التّرف وهذا التّغلّب يكون للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفرادهم به دونهم وهو عارض للدّولة ضروريّ كما قدّمناه وهذان مرضان لا برء للدّولة منهما إلّا في الأقلّ النّادر وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247 وهو على كلّ شيء قدير. الفصل الثاني والعشرون في ان المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك وذلك أنّ الملك والسّلطان حصل لأوّليه مذ أوّل الدّولة بعصبيّة قومه وعصبيّته الّتي استتبعتهم حتّى استحكمت له ولقومه صبغة الملك والغلب وهي لم تزل باقية وبها انحفظ رسم الدّولة وبقاؤها وهذا المتغلّب وإن كان صاحب عصبيّة من قبيل الملك أو الموالي والصّنائع فعصبيّته مندرجة في عصبيّة أهل الملك وتابعة لها وليس له صبغة في الملك وهو لا يحاول في استبداده انتزاع ثمراته من الأمر والنّهي والحلّ والعقد والإبرام والنّقص يوهم فيها أهل الدّولة أنّه متصرّف عن   [1] ليس لها معنى وربما تكون زائدة. [2] أظآر ج ظئر: المرضع. وظئر القصر: ركنه (قاموس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك وشاراته وألقابه جهده ويبعد نفسه عن التّهمة بذلك. وإن حصل له الاستبداد لأنّه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الّذي ضربه السّلطان وأوّلوه على أنفسهم عن القبيل منذ أوّل الدّولة ومغالط عنه بالنّيابة ولو تعرّض لشيء من ذلك لنفسه [1] عليه أهل العصبيّة وقبيل الملك وحاولوا الاستئثار به دونه لأنّه لم تستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التّسليم له والانقياد فيهلك لأوّل وهلة وقد وقع مثل هذا لعبد الرّحمن بن النّاصر بن منصور بن أبي عامر حين سما إلى مشاركة هشام وأهل بيته في لقب الخلافة ولم يقنع بما قنع به أبوه وأخوه من الاستبداد بالحلّ والعقد والمراسم المتتابعة فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان وسائر قريش وبايعوا لابن عمّ الخليفة هشام محمّد بن عبد الجبّار بن النّاصر وخرجوا عليهم وكان في ذلك خراب دولة العامريّين وهلاك المؤيّد خليفتهم واستبدل منه سواه من أعياص [2] الدّولة إلى آخرها واختلّت مراسم ملكهم والله خير الوارثين. الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه الملك منصب طبيعيّ للإنسان لأنّا قد بيّنا أنّ البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلّا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضروريّاتهم وإذا اجتمعوا دعت الضّرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومدّ كلّ واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطّبيعة الحيوانيّة من الظّلم والعدوان بعضهم على بعض   [1] قوله لنفسه بفتح اللام والنون وكسر الفاء يقال نفس عليه الشيء كفرح لم يره أهلا له كما في القاموس. [2] اعياص ج عيص: منبت خيار الشجر، ويقال هو من عيص كريم: أي من أصل كريم (قاموس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوّة البشريّة في ذلك فيقع التّنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدّي إلى الهرج وسفك الدّماء وإذهاب النّفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النّوع وهو ممّا خصّه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزع بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطّبيعة البشريّة الملك القاهر المتحكّم ولا بدّ في ذلك من العصبيّة لما قدّمناه من أنّ المطالبات كلّها والمدافعات لا تتمّ إلّا بالعصبيّة وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجّه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات. ولا يتمّ شيء من ذلك إلّا بالعصبيّات كما مرّ والعصبيّات متفاوتة وكلّ عصبيّة فلها تحكّم وتغلّب على من يليها من قومها وعشيرها وليس الملك لكلّ عصبيّة وإنّما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرّعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثّغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور فمن قصّرت به عصبيّته عن بعضها مثل حماية الثّغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتمّ حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدّولة العباسيّة. ومن قصّرت به عصبيّته أيضا عن الاستعلاء على جميع العصبيّات، والضّرب على سائر الأيدي وكان فوقه حكم غيره فهو أيضا ملك ناقص لم تتمّ حقيقته وهؤلاء مثل أمراء النّواحي ورؤساء الجهات الّذين تجمعهم دولة واحدة وكثيرا ما يوجد هذا في الدّولة المتّسعة النّطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النّواحي القاصية يدينون بطاعة الدّولة الّتي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديّين وزناتة مع الأمويّين تارة والعبيديّين تارة أخرى ومثل ملوك العجم في دولة بني العبّاس ومثل ملوك الطّوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيّين وكثير من هؤلاء فاعتبره تجده والله القاهر فوق عباده . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضرّ بالملك ومفسد له في الأكثر اعلم أنّ مصلحة الرّعيّة في السّلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتّساع علمه أو جودة خطّه أو ثقوب ذهنه وإنّما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم فإنّ الملك والسّلطان من الأمور الإضافيّة وهي نسبة بين منتسبين فحقيقة السّلطان أنّه المالك للرّعيّة القائم في أمورهم عليهم فالسّلطان من له رعيّة والرّعيّة من لها سلطان والصّفة الّتي له من حيث إضافته إليهم هي الّتي تسمّى الملكة وهي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السّلطان على أتمّ الوجوه فإنّها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم وإن كانت سيئة متعسّفة كان ذلك ضررا عليهم وإهلاكا لهم. ويعود حسن الملكة إلى الرّفق فإنّ الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقّبا عن عورات النّاس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذّلّ ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلّقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربّما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النّيّات وربّما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدّولة ويخرّب السّياج وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبيّة لما قلناه أوّلا وفسد السّياج من أصله بالعجز عن الحماية وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبّته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كلّ جانب وأمّا توابع حسن الملكة فهي النّعمة عليهم والمدافعة عنهم فالمدافعة بها تتمّ حقيقة الملك وأمّا النّعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرّفق بهم والنّظر لهم في معاشهم وهي أصل كبير من التّحبّب إلى الرّعيّة واعلم أنّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قلّما تكون ملكة الرّفق في من يكون يقظا شديد الذّكاء من النّاس وأكثر ما يوجد الرّفق في الغفّل والمتغفّل وأقلّ ما يكون في اليقظ لأنّه يكلّف الرّعيّة فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطّلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعيّة فيهلكون لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «سيروا على سير أضعفكم» ومن هذا الباب اشترط الشّارع في الحاكم قلّة الإفراط في الذّكاء، ومأخذه من قصّة زياد ابن أبي سفيان لمّا عزله عمر عن العراق وقال له: «لم عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أم لخيانة» فقال عمر: «لم أعزلك لواحدة منهما ولكنّي كرهت أن أحمل فضل عقلك عن النّاس» فأخذ من هذا أنّ الحاكم لا يكون مفرط الذّكاء والكيس مثل زياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التّعسّف وسوء الملكة وحمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب والله خير المالكين وتقرّر من هذا أنّ الكيس والذّكاء عيب في صاحب السّياسة لأنّه إفراط في الفكر كما أنّ البلادة إفراط في الجمود والطّرفان مذمومان من كلّ صفة إنسانيّة والمحمود هو التّوسّط كما في الكرم مع التّبذير والبخل وكما في الشّجاعة مع الهوج والجبن وغير ذلك من الصّفات الإنسانيّة ولهذا يوصف الشّديد الكيس بصفات الشّيطان فيقال شيطان ومتشيطن وأمثال ذلك والله يخلق ما يشاء وهو العليم القدير. الفصل الخامس والعشرون في معنى الخلافة والإمامة لمّا كانت حقيقة الملك أنّه الاجتماع الضّروريّ للبشر ومقتضاه التّغلّب والقهر اللّذان هما من آثار الغضب والحيوانيّة كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحقّ مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحملة إيّاهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته ويختلف ذلك باختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المقاصد من الخلف والسّلف منهم فتعسر طاعته لذلك وتجيء العصبيّة المفضية إلى الهرج والقتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسيّة مفروضة يسلّمها الكافّة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم وإذا خلت الدّولة من مثل هذه السّياسة لم يستتبّ أمرها ولم يتمّ استيلاؤها «سنّة الله في الّذين خلوا من قبل» . فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدّولة وبصرائها كانت سياسة عقليّة وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقرّرها ويشرّعها كانت سياسة دينيّة نافعة في الحياة الدّنيا وفي الآخرة وذلك أنّ الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنّها كلّها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء، والله يقول «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً 23: 115» فالمقصود بهم إنّما هو دينهم المفضي بهم إلى السّعادة في آخرتهم «صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ 42: 53» فجاءت الشّرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتّى في الملك الّذي هو طبيعيّ للاجتماع الإنسانيّ فأجرته على منهاج الدّين ليكون الكلّ محوطا بنظر الشّارع. فما كان منه بمقتضى القهر والتّغلّب وإهمال القوّة العصبيّة في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السّياسيّة وما كان منه بمقتضى السّياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنّه نظر بغير نور الله «وَمن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ من نُورٍ 24: 40» لأنّ الشّارع أعلم بمصالح الكافّة فيما هو مغيّب عنهم من أمور آخرتهم وأعمال البشر كلّها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلّى الله عليه وسلّم «إنّما هي أعمالكم تردّ عليكم» وأحكام السّياسة إنّما تطلع على مصالح الدّنيا فقط «يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا 30: 7» ، ومقصود الشّارع بالنّاس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشّرائع حمل الكافّة على الأحكام الشّرعيّة في أحوال دنياهم وآخرتهم وكان هذا الحكم لأهل الشّريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء فقد تبيّن لك من ذلك معنى الخلافة وأنّ الملك الطّبيعيّ هو حمل الكافّة على مقتضى الغرض والشّهوة والسّياسيّ هو حمل الكافّة على مقتضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 النّظر العقليّ في جلب المصالح الدّنيويّة ودفع المضارّ والخلافة هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعي في مصالحهم الأخرويّة والدّنيويّة الرّاجعة إليها إذ أحوال الدّنيا ترجع كلّها عند الشّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد والله الحكيم العليم. الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه وإذ قد بيّنّا حقيقة هذا المنصب وأنّه نيابة عن صاحب الشّريعة في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا به تسمّى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما فأمّا تسميته إماما فتشبيها بإمام الصّلاة في اتّباعه والاقتداء به ولهذا يقال الإمامة الكبرى وأمّا تسميته خليفة فلكونه يخلف النّبيّ في أمّته فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله واختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباسا من الخلافة العامّة الّتي للآدميّين في قوله تعالى «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30» وقوله «جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ 6: 165» . ومنع الجمهور منه لأنّ معنى الآية ليس عليه وقد نهى أبو بكر عنه لمّا دعي به وقال: «لست خليفة الله ولكنّي خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ولأنّ الاستخلاف إنّما هو في حقّ الغائب وأمّا الحاضر فلا. ثمّ إنّ نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشّرع بإجماع الصّحابة والتّابعين لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النّظر إليه في أمورهم وكذا في كلّ عصر من بعد ذلك ولم تترك النّاس فوضى في عصر من الأعصار واستقرّ ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض النّاس إلى أنّ مدرك وجوبه العقل، وأنّ الإجماع الّذي وقع إنّما هو قضاء بحكم العقل فيه. قالوا وإنّما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التّنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أنّ حفظ النّوع من مقاصد الشّرع الضّروريّة وهذا المعنى بعينه هو الّذي لحظه الحكماء في وجوب النّبوءات في البشر وقد نبّهنا على فساده وأنّ إحدى مقدّماته أنّ الوازع إنّما يكون بشرع من الله تسلّم له الكافّة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلّم لأنّ الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشّوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممّن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدّعوة أو نقول يكفي في رفع التّنازع معرفة كلّ واحد بتحريم الظّلم عليه بحكم العقل فادّعاؤهم أنّ ارتفاع التّنازع إنّما يكون بوجود الشّرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرّؤساء أهل الشّوكة أو بامتناع النّاس عن التّنازع والتّظالم فلا ينهض دليلهم العقليّ المبنيّ على هذه المقدّمة فدلّ على أنّ مدرك وجوبه إنّما هو بالشّرع وهو الإجماع الّذي قدّمناه. وقد شذّ بعض النّاس فقال بعدم وجوب هذا النّصب رأسا لا بالعقل ولا بالشّرع منهم الأصمّ من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء إنّما هو إمضاء الحكم الشّرع فإذا تواطأت الأمّة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجوجون بالإجماع. والّذي حملهم على هذا المذهب إنّما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتّغلّب والاستمتاع بالدّنيا لمّا رأوا الشّريعة ممتلئة بذمّ ذلك والنّعي على أهله ومرغّبة في رفضه. واعلم أنّ الشّرع لم يذمّ الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنّما ذمّ المفاسد النّاشئة عنه من القهر والظّلم والتّمتّع باللّذات ولا شكّ أنّ في هذه مفاسد محظورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وهي من توابعه كما أثنى على العدل والنّصفة وإقامة مراسم الدّين والذّبّ عنه وأوجب بإزائها الثّواب وهي كلّها من توابع الملك. فإذا إنّما وقع الذّمّ للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمّه لذاته ولا طلب تركه كما ذمّ الشّهوة والغضب من المكلّفين وليس مراده تركهما بالكلّيّة لدعاية الضّرورة إليها وأمّا المراد تصريفهما على مقتضى الحقّ وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الّذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده ثمّ نقول لهم إنّ هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النّصب [1] لا يغنيكم شيئا لأنّكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشّريعة وذلك لا يحصل إلّا بالعصبيّة والشّوكة والعصبيّة مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصّب إمام وهو عين ما قرّرتم عنه. وإذا تقرّر أنّ هذا النّصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحلّ فيتعيّن عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» . وأمّا شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواسّ والأعضاء ممّا يؤثّر في الرّأي والعمل واختلف في شرط خامس وهو النّسب القرشيّ فأمّا اشتراط العلم فظاهر لأنّه إنّما يكون منفّذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها وما لم يعلمها لا يصحّ تقديمه لها ولا يكفي من العلم إلّا أن يكون مجتهدا لأنّ التّقليد نقص والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال وأمّا العدالة فلأنّه منصب دينيّ ينظر في سائر المناصب الّتي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه. ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها وفي انتفائها بالبدع الاعتقاديّة خلاف.   [1] أي نصب الامام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وأمّا الكفاية فهو أن يكون جريئا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها كفيلا يحمل النّاس عليها عارفا بالعصبيّة وأحوال الدّهاء قويّا على معاناة السّياسة ليصحّ له بذلك ما جعل إليه من حماية الدّين وجهاد العدوّ وإقامة الأحكام وتدبير المصالح. وأمّا سلامة الحواسّ والأعضاء من النّقص والعطلة [1] كالجنون والعمى والصّمم والخرس وما يؤثّر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرّجلين والأنثيين فتشترط السّلامة منها كلّها لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه وإن كان إنّما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السّلامة منه شرط كمال ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التّصرّف وهو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السّلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التّصرّف جملة بالأسر وشبهه وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقّة فينتقل النّظر في حال هذا المستولي فإن جرى على حكم الدّين والعدل وحميد السّياسة جاز قراره وإلّا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علّته حتّى ينفّذ فعل الخليفة. وأمّا النّسب القرشيّ فلإجماع الصّحابة يوم السّقيفة على ذلك واحتجّت قريش على الأنصار لمّا همّوا يومئذ ببيعة سعد بن عبّادة وقالوا «منّا أمير ومنكم أمير» بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأئمّة من قريش» وبأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصيّة بكم فحجّوا الأنصار ورجعوا عن قولهم «منّا أمير ومنكم أمير» وعدلوا عمّا كانوا همّوا به من بيعة سعد لذلك. وثبت أيضا في الصّحيح «لا يزال هذا الأمر في هذا الحيّ من قريش» وأمثال هذه الأدلّة كثيرة إلّا أنّه لمّا ضعف أمر قريش وتلاشت   [1] تعطل الرجل إذا بقي لا عمل له والاسم العطلة وفلان ذو عطلة إذا لم تكن له صنعة يمارسها (لسان العرب) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى فقد الحواس أو تعطيلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 عصبيّتهم بما نالهم من التّرف والنّعيم وبما أنفقتهم الدّولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة وتغلّبت عليهم الأعاجم وصار الحلّ والعقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشيّة وعوّلوا على ظواهر في ذلك، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم «اسمعوا وأطيعوا وإن ولّي عليكم عبد حبشيّ ذو زبيبة» وهذا لا تقوم به حجّة في ذلك فإنّه خرج مخرج التّمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السّمع والطّاعة ومثل قول عمر «لو كان سالم مولى حذيفة حيّا لولّيته أو لما دخلتني فيه الظّنّة» وهو أيضا لا يفيد ذلك لما علمت أنّ مذهب الصّحابيّ ليس بحجّة وأيضا فمولى القوم منهم وعصبيّة الولاء حاصلة لسالم في قريش وهي الفائدة في اشتراط النّسب ولمّا استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنّها مفقودة في ظنّه عدل إلى سالم لتوفّر شروط الخلافة عنده فيه حتّى من النّسب المفيد للعصبيّة كما نذكر ولم يبق إلّا صراحة النّسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النّسب إنّما هي العصبيّة وهي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر رضي الله عنه على النّظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة. ومن القائلين بنفي اشتراط القرشيّة القاضي أبو بكر الباقلانيّ لمّا أدرك عليه عصبيّة قريش من التّلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرط القرشيّة وإن كان موافقا لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحّة الإمامة للقرشيّ ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين وردّ عليهم سقوط شرط الكفاية الّتي يقوى بها على أمره لأنّه إذا ذهبت الشّوكة بذهاب العصبيّة فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرّق ذلك أيضا إلى العلم والدّين وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الاجتماع. ولنتكلّم الآن في حكمة اشتراط النّسب ليتحقّق به الصّواب في هذه المذاهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فنقول: إنّ الأحكام الشّرعيّة كلّها لا بدّ لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النّسب القرشيّ ومقصد الشّارع منه لم يقتصر فيه على التبرّك بوصلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما هو في المشهور وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتّبرّك بها حاصلا لكنّ التّبرّك ليس من المقاصد الشّرعيّة كما علمت فلا بدّ إذن من المصلحة في اشتراط النّسب وهي المقصودة من مشروعيّتها وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلّا اعتبار العصبيّة الّتي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملّة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها وذلك أنّ قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم وكان لهم على سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبيّة والشّرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقّع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردّهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكرّة فتتفرّق الجماعة وتختلف الكلمة. والشّارع محذّر من ذلك حريص على اتّفاقهم ورفع التّنازع والشّتات بينهم لتحصل اللّحمة والعصبيّة وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنّهم قادرون على سوق النّاس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم ولا فرقة لأنّهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع النّاس منها فاشترط نسبهم القرشيّ في هذا المنصب وهم أهل العصبيّة القويّة ليكون أبلغ في انتظام الملّة واتّفاق الكلمة وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملّة ووطئت جنودهم قاضية البلاد كما وقع في أيّام الفتوحات واستمرّ بعدها في الدّولتين إلى أن اضمحلّ أمر الخلافة وتلاشت عصبيّة العرب ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتّغلّب على بطون مضر من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطّن لذلك في أحوالهم. وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السّير وغيره فإذا ثبت أنّ اشتراط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 القرشيّة إنّما هو لدفع التّنازع بما كان لهم من العصبيّة والغلب وعلمنا أنّ الشّارع لا يخصّ الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمّة علمنا أنّ ذلك إنّما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلّة المشتملة على المقصود من القرشيّة وهي وجود العصبيّة فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبيّة قويّة غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشيّة إذ الدّعوة الإسلاميّة الّتي كانت لهم كانت عامّة وعصبيّة العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنّما يخصّ لهذا العهد كلّ قطر بمن تكون له فيه العصبيّة الغالبة وإذا نظرت سرّ الله في الخلافة لم تعد هذا لأنّه سبحانه إنّما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردّهم عن مضارّهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلّا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب [1] في شأن النّساء وأنّهنّ في كثير من الأحكام الشّرعية جعلن تبعا للرّجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع. وإنّما دخلن عنده بالقياس وذلك لمّا لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرّجال قوّامين عليهنّ اللَّهمّ إلّا في العبادات الّتي كلّ أحد فيها قائم على نفسه فخطابهنّ فيها بالوضع لا بالقياس ثمّ إنّ الوجود شاهد بذلك فإنّه لا يقوم بأمر أمّة أو جيل إلّا من غلب عليهم وقلّ أن يكون الآمر الشّرعيّ مخالفا للأمر الوجوديّ والله تعالى أعلم.   [1] قوله الإمام ابن الخطيب هو الفخر الرازيّ قاله نصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الفصل السابع والعشرون في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة اعلم أنّ الشّيعة لغة هم الصّحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلّمين [1] من الخلف والسّلف على اتّباع عليّ وبنيه رضي الله عنهم ومذهبهم جميعا متّفقين عليه أنّ الإمامة ليست من المصالح العامّة الّتي تفوّض إلى نظر الأمّة ويتعيّن القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدّين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبيّ إغفاله ولا تفويضه إلى الأمّة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوما من الكبائر والصّغائر وإنّ عليّا رضي الله عنه هو الّذي عيّنه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤوّلونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السّنّة ولا نقله الشّريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة. وتنقسم هذه النّصوص عندهم إلى جليّ وخفيّ فالجليّ مثل قوله «من كنت مولاه فعليّ مولاه» قالوا ولم تطّرد هذه الولاية إلّا في عليّ ولهذا قال له عمر «أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة» ومنها قوله «أقضاكم عليّ» ولا معنى للإمامة إلّا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» والمراد الحكم والقضاء ولهذا كان حكما   [1] هم علماء التوحيد المسمّى بعلم الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 في قضيّة الإمام يوم السّقيفة دون غيره ومنها قوله «من يبايعني على روحه وهو وصيّ ووليّ هذا الأمر من بعدي» فلم يبايعه إلّا عليّ. ومن الخفيّ عندهم بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليّا لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنّه بعث بها أوّلا، أبا بكر ثمّ أوحي إليه ليبلّغه رجل منك أو من قومك فبعث عليّا ليكون القارئ المبلّغ قالوا: وهذا يدلّ على تقديم عليّ. وأيضا فلم يعرف أنّه قدّم أحدا على عليّ. وأمّا أبو بكر وعمر فقدّم عليهما في غزاتين [1] أسامة بن زيد مرّة وعمر بن العاص أخرى وهذه كلّها أدلّة شاهدة بتعيين عليّ للخلافة دون غيره فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم ثمّ منهم من يرى أنّ هذه النّصوص تدلّ على تعيين عليّ وتشخيصه. وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإماميّة ويتبرّءون من الشّيخين حيث لم يقدّموا عليّا ويبايعوه بمقتضى هذه النّصوص ويغمصون [2] في إمامتهما. ولا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم ومنهم من يقول إنّ هذه الأدلّة إنّما اقتضت تعيين عليّ بالوصف لا بالشّخص والنّاس مقصّرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه وهؤلاء هم الزّيديّة ولا يتبرّءون من الشّيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأنّ عليّا أفضل منهما لكنّهم يجوّزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل. ثمّ اختلفت نقول هؤلاء الشّيعة في مساق الخلافة بعد عليّ فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنّصّ عليهم واحدا بعد واحد على ما يذكر بعد وهؤلاء يسمّون الإماميّة نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان وهي أصل عندهم ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشّيوخ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالما زاهدا جوادا شجاعا ويخرج داعيا إلى إمامته وهؤلاء هم   [1] كذا في جميع النسخ والأصح أن يقول غزوتين. مثنى غزوة. [2] غمص عليه قوله: كذب عليه كلامه، عابه عليه. وغمصه: حقره واستصغره (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الزّيديّة نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن عليّ بن الحسين السّبط [1] وقد كان يناظر أخاه محمّدا الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماما لأنّه لم يخرج ولا تعرّض للخروج وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إيّاها عن واصل بن عطاء ولمّا ناظر الإماميّة زيدا في إمامة الشّيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرّأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمّة وبذلك سمّوا رافضة ومنهم من ساقها بعد عليّ وابنيه السّبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمّد بن الحنفيّة ثمّ إلى ولده وهم الكيسانيّة نسبة إلى كيسان مولاه وبين هذه الطّوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصارا ومنهم طوائف يسمّون الغلاة تجاوزوا حدّ العقل والإيمان في القول بألوهيّة هؤلاء الأئمّة. إمّا على أنّهم بشر اتّصفوا بصفات الألوهيّة أو أنّ الإله حلّ في ذاته البشريّة وهو قول بالحلول يوافق مذهب النّصارى في عيسى صلوات الله عليه ولقد حرق عليّ رضي الله عنه بالنّار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخّط [2] محمّد بن الحنفيّة المختار بن أبي عبيد لمّا بلغه مثل ذلك عنه فصرّح بلعنته والبراءة منه وكذلك فعل جعفر الصّادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه ومنهم من يقول إنّ كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتّناسخ ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمّة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعيّن لذلك عندهم وهؤلاء هم الواقفيّة فبعضهم يقول هو حيّ لم يمت إلّا أنّه غائب عن أعين النّاس ويستشهدون لذلك بقصّة الخضر [3] قيل مثل ذلك في عليّ رضي الله عنه وإنّه في السّحاب والرّعد   [1] السبط: ولد البنت، ولذلك يطلق على الحسن والحسين ابني الإمام علي (رضي الله عنهم) من فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكل منهما سبط للرسول صلّى الله عليه وسلّم. [2] ربما سقط حرف على من الجملة. بحيث تصبح الجملة «وسخط محمد بن الحنفية على المختار..» . [3] ورد ذكر هذه القصة في القرآن الكريم «سورة الكهف بين الآية 65- 85» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 صوته والبرق في صوته وقالوا مثله في محمّد بن الحنفيّة وإنّه في جبل رضوى من أرض الحجاز. وقال شاعرهم. ألا إنّ الأئمّة من قريش ... ولاة الحقّ أربعة سواء عليّ والثّلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتّى ... يقود الجيش يقدمه اللّواء تغيّب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء وقال مثله غلاة الإماميّة وخصوصا الاثنا عشريّة منهم يزعمون أنّ الثّاني عشر من أئمّتهم وهو محمّد بن الحسن العسكريّ ويلقّبونه المهديّ دخل في سرداب بدارهم في الحلّة [1] وتغيّب حين اعتقل مع أمّه وغاب هنالك وهو يخرج آخر الزّمان فيملأ الأرض عدلا يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب التّرمذيّ في المهديّ وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمّونه المنتظر لذلك، ويقفون في كلّ ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السّرداب وقد قدّموا مركبا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتّى تشتبك النّجوم ثمّ ينفضّون ويرجئون الأمر إلى اللّيلة الآتية وهم على ذلك لهذا العهد وبعض هؤلاء الواقفيّة يقول إنّ الإمام الّذي مات يرجع إلى حياته الدّنيا ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصّة أهل الكهف والّذي مرّ على قرية وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة الّتي أمروا بذبحها ومثل ذلك من الخوارق الّتي وقعت على طريق المعجزة ولا يصحّ الاستشهاد بها في غير مواضعها وكان من هؤلاء السّيّد الحميريّ ومن شعره في ذلك إذا ما المرء شاب له قذال ... وعلّله المواشط بالخضاب [2] فقد ذهبت بشاشته وأودى ... فقم يا صاح نبك على الشّباب   [1] المعروف أنه غاب في سامراء ومقامه معروف إلى اليوم. [2] قذال: ج قذل وأقذلة: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. الخضاب: الحنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 إلى يوم تتوب النّاس فيه ... إلى دنياهم قبل الحساب فليس بعائد ما فات منه ... إلى أحد إلى يوم الإياب أدين بأنّ ذلك دين حقّ ... وما أنا في النّشور بذي ارتياب كذاك الله أخبر عن أناس ... حيوا من بعد درس في التّراب وقد كفانا مئونة هؤلاء الغلاة أئمّة الشّيعة فإنّهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها وأمّا الكيسانيّة فساقوا الإمامة من بعد محمّد بن الحنفيّة إلى ابنه أبي هاشم وهؤلاء هم الهاشميّة ثمّ افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه عليّ ثمّ إلى ابنه الحسن بن عليّ وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لمّا مات بأرض السّراة منصرفا من الشّام أوصى إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وأوصى محمّد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثيّة الملقّب بالسّفّاح وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقّب بالمنصور وانتقلت في ولده بالنّصّ والعهد واحدا بعد واحد إلى آخرهم وهذا مذهب الهاشميّة القائمين بدولة بني العبّاس وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثيّر وأبو سلمة الخلّال وغيرهم من شيعة العبّاسيّة وربّما يعضدون ذلك بأنّ حقّهم في هذا الأمر يصل إليهم من العبّاس لأنّه كان حيّا وقت الوفاة وهو أولى بالوراثة بعصبيّة العمومة وأمّا الزّيديّة فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها وإنّها باختيار أهل الحلّ والعقد لا بالنّصّ فقالوا بإمامة عليّ ثمّ ابنه الحسن ثمّ ابنه الحسن ثمّ أخيه الحسين ثمّ ابنه زيد بن عليّ وهو صاحب هذا المذهب وخرج بالكوفة داعيا إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة وقال الزّيديّة بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمّد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السّبط ويقال له النّفس الزّكيّة، فخرج بالحجاز وتلقّب بالمهديّ وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن عليّ فوجّه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصّادق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أخبرهم بذلك كلّه وهي معدودة في كراماته وذهب آخرون منهم إلى أنّ الإمام بعد محمّد ابن عبد الله النّفس الزّكيّة هو محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر، وعمر هو أخو زيد بن عليّ فخرج محمّد بن القاسم بالطّالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه وقال آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الّذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور ونقلوا الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعيّ الزّنج كما نذكره في أخبارهم وقال آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد محمّد بن عبد الله أخوه إدريس الّذي فرّ إلى المغرب ومات هنالك وقام بأمره ابنه إدريس واختطّ مدينة فاس وكان من بعده عقبه ملوكا بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. وبقي أمر الزّيديّة بعد ذلك غير منتظم وكان منهم الدّاعي الّذي ملك طبرستان وهو الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسين السّبط وأخوه محمّد بن زيد ثمّ قام بهذه الدّعوة في الدّيلم النّاصر الأطروش منهم، وأسلموا على يده وهو الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن عمر وعمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصّل الدّيلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. وأمّا الإماميّة فساقوا الإمامة من عليّ الرّضى [1] إلى ابنه الحسن بالوصيّة ثمّ إلى أخيه الحسين ثمّ إلى ابنه عليّ زين العابدين ثمّ إلى ابنه محمّد الباقر ثمّ إلى ابنه جعفر الصّادق ومن هنا افترقوا فرقتين فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم الإسماعيليّة وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشريّة لوقوفهم عند الثّاني عشر من الأئمّة وقولهم بغيبته إلى آخر الزّمان كما مرّ فأمّا الإسماعيليّة فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنّصّ من أبيه جعفر وفائدة النّصّ عليه عندهم وإن كان قد مات قبل أبيه إنّما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصّة هارون مع موسى صلوات الله عليهما قالوا ثمّ انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمّد المكتوم وهو أوّل الأئمّة   [1] يقصد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 المستورين لأنّ الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجّة على الخلق وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته قالوا وبعد محمّد المكتوم ابنه جعفر الصّادق [1] وبعده ابنه محمّد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله المهديّ الّذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشّيعيّ في كتامة وتتابع النّاس على دعوته ثمّ أخرجه من معتقله بسجلماسة وملك القيروان والمغرب وملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم ويسمّى هؤلاء نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل ويسمّون أيضا بالباطنيّة نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمّون أيضا الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمّد الصّبّاح في آخر المائة الخامسة وملك حصونا بالشّام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزّعها الهلاك بين ملوك التّرك بمصر وملوك التّتر بالعراق فانفرضت. ومقالة هذا الصّبّاح في دعوته مذكورة في كتاب «الملل والنّحل» للشّهرستانيّ، وأمّا الاثنا عشريّة فربّما خصّوا باسم الإماميّة عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصّادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنصّ على إمامة موسى هذا، ثمّ ابنه عليّ الرّضا الّذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتمّ له أمر ثمّ ابنه محمّد التّقيّ ثمّ ابنه عليّ الهادي ثمّ ابنه محمّد الحسن العسكري ثمّ ابنه محمّد المهديّ المنتظر الّذي قدّمناه قبل وفي كلّ واحدة من هذه المقالات للشّيعة اختلاف كثير إلّا أنّ هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب الملل والنّحل لابن حزم [2] والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان ذلك والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العليّ الكبير.   [1] لقب الإسماعيلية جعفر بن محمد المكتوم بلقب جده الثاني جعفر الصادق. [2] كتاب ابن حزم اسمه: «الفصل في الملل والنّحل» وكتاب الشهرستاني «الملل والنحل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الفصل الثامن والعشرون في انقلاب الخلافة إلى الملك اعلم أنّ الملك غاية طبيعية للعصبيّة ليس وقوعه عنها باختيار إنّما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل وأنّ الشّرائع والدّيانات وكلّ أمر يحلّ عليه الجمهور فلا بدّ فيه من العصبيّة إذ المطالبة لا تتمّ إلّا بها كما قدّمناه. فالعصبيّة ضروريّة للملّة وبوجودها يتمّ أمر الله منها وفي الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» ثمّ وجدنا الشّارع قد ذمّ العصبيّة وندب إلى اطّراحها وتركها فقال «إنّ الله أذهب عنكم عبّيّة [1] الجاهليّة وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من تراب» وقال تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ 49: 13» ووجدناه أيضا قد ذمّ الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق [2] والإسراف في غير القصد والتّنكّب عن صراط الله وإنّما حضّ على الألفة في الدّين وحذّر من الخلاف والفرقة، واعلم أنّ الدّنيا كلّها وأحوالها مطيّة للآخرة ومن فقد المطيّة فقد الوصول، وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمّه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكليّة أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى الّتي ينشأ عليها بالكلّيّة إنّما قصده تصريفها في أغراض الحقّ جهد الاستطاعة حتّى تصير المقاصد كلّها حقّا وتتّحد الوجهة كما قال صلّى الله عليه وسلّم «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فلم يذمّ الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان فإنّه لو زالت منه قوّة الغضب لفقد منه الانتصار للحقّ وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله وإنّما يذمّ الغضب   [1] عبة بضم العين وكسرها الموحدة المشددة وتشديد المثناة التحتية الكبر والفخر والنخوة أهـ- قاموس. [2] الخلاق: النصيب الوافر من الخير، وبكسر الخاء نوع من الطيب أعظم أجزائه الزعفران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 للشّيطان وللأغراض الذّميمة فإذا كان الغضب لذلك كان مذموما وإذا كان الغضب في الله وللَّه كان ممدوحا وهو من شمائله صلّى الله عليه وسلّم وكذا ذمّ الشّهوات أيضا ليس المراد إبطالها بالكلّيّة فإنّ من بطلت شهوته كان نقصا في حقّه وإنّما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبدا متصرّفا طوع الأوامر الإلهيّة وكذا العصبيّة حيث ذمّها الشّارع وقال: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ 60: 3» فإنّما مراده حيث تكون العصبيّة على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهليّة وأن يكون لأحد فخر بها أو حقّ على أحد لأنّ ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الآخرة الّتي هي دار القرار فأمّا إذا كانت العصبيّة في الحقّ وإقامة أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشّرائع إذ لا يتمّ قوامها إلّا بالعصبيّة كما قلناه من قبل وكذا الملك لمّا ذمّه الشّارع لم يذمّ منه الغلب بالحقّ وقهر الكافّة على الدّين ومراعاة المصالح وإنّما ذمّه لما فيه من التّغلّب بالباطل وتصريف الآدميّين طوع الأغراض والشّهوات كما قلناه، فلو كان الملك مخلصا في غلبه للنّاس أنّه للَّه ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوّه لم يكن ذلك مذموما وقد قال سليمان صلوات الله عليه «وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي 38: 35» لما علم من نفسه أنّه بمعزل عن الباطل في النّبوة والملك. ولمّا لقي معاوية عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشّام في أبّهة الملك وزيّه من العديد والعدّة استنكر ذلك وقال: «أكسرويّة يا معاوية؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدوّ وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة» فسكت ولم يخطّئه لما احتجّ عليه بمقصد من مقاصد الحقّ والدّين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعه الجواب في تلك الكسرويّة وانتحالها بل كان يحرّض على خروجه عنها بالجملة وإنّما أراد عمر بالكسرويّة ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظّلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأنّ القصد بذلك ليس كسرويّة فارس وباطلهم وإنّما قصده بها وجه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فسكت، وهكذا كان شأن الصّحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذرا من التباسها بالباطل فلمّا استحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر على الصّلاة إذ هي أهمّ أمور الدّين وارتضاه النّاس للخلافة وهي حمل الكافّة على أحكام الشّريعة ولم يجر للملك ذكر لما أنّه مظنّة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدّين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متّبعا سنن صاحبه وقاتل أهل الرّدّة حتّى اجتمع العرب على الإسلام ثمّ عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدّنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم ثمّ صارت إلى عثمان بن عفّان ثمّ إلى عليّ رضي الله عنهما والكلّ متبرّءون من الملك منكّبون عن طرقه وأكّد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدّنيا وترفها لا من حيث دينهم الّذي يدعوهم إلى الزّهد في النّعيم ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الّذي ألفوه، فلم تكن أمّة من الأمم أسغب عيشا من مضر لمّا كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيرا ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه [1] بالحجارة في الدّم ويطبخونه وقريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم حتّى إذا اجتمعت عصبيّة العرب على الدّين بما أكرمهم الله من نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم زحفوا إلى أمم فارس والرّوم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصّدق فابتزّوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرّفه لديهم حتّى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفا من الذّهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر وهم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقّع ثوبه بالجلد وكان عليّ يقول:   [1] أي يضربونه بالحجارة حتى يرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 «يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري» وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدّجاج لأنّه لم يعهدها للعرب لقلّتها يومئذ وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنّما يأكلون الحنطة بنخالها ومكاسبهم مع هذا أتمّ ما كانت لأحد من أهل العالم قال المسعوديّ في أيّام عثمان اقتنى الصّحابة الضّياع والمال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائتا ألف [1] دينار وخلّف إبلا وخيلا كثيرة وبلغ الثّمن الواحد من متروك الزّبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلّف ألف فرس وألف أمة وكانت غلّة طلحة من العراق ألف دينار كلّ يوم ومن ناحية السّراة أكثر من ذلك وكان على مربط عبد الرّحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم وبلغ الرّبع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا وخلّف زيد بن ثابت من الفضّة والذّهب ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلّف من الأموال والضّياع بمائة ألف دينار وبنى الزّبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندريّة وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيّد داره بالمدينة وبناها بالجصّ والآجر والسّاج وبنى سعد بن أبي وقّاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصّصة الظّاهر والباطن وخلّف يعلى بن منبّه [2] خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم 1 هـ- كلام المسعوديّ. فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعيّا عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنّها غنائم وفيوء ولم يكن تصرّفهم فيها بإسراف إنّما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدّنيا مذموما فإنّما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد وإذا كان حالهم قصدا ونفقاتهم في سبل الحقّ ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عونا لهم على طرق الحقّ واكتساب   [1] وفي بعض النسخ مائة ألف. [2] يعلى بن منيه أو يعلى بن أميه (أعلام الرجال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الدّار الآخرة فلمّا تدرّجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة كما قلناه وحصل التّغلّب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرّفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التّغلّب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الدّيانة ومذاهب الحقّ، ولمّا وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية وهي مقتضى العصبيّة كان طريقهم فيها الحقّ والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيويّ أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهّمه متوهّم وينزع إليه ملحد وإنّما اختلف اجتهادهم في الحقّ وسفّه كلّ واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحقّ فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليّا فلم يكن معاويّة قائما فيها بقصد الباطل إنّما قصد الحقّ وأخطأ والكلّ كانوا في مقاصدهم على حق ثمّ اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به ولم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعيّ ساقته العصبيّة بطبيعتها واستشعرته بنو أميّة ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحقّ من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه ولو حملهم معاويّة على غير تلك الطّريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمة الّتي كان جمعها وتأليفها أهمّ عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمّد بن أبي بكر «لو كان لي من الأمر شيء لولّيته الخلافة» ولو أراد أن يعهد إليه لفعل ولكنّه كان يخشى من بني أميّة أهل الحلّ والعقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحوّل الأمر عنهم لئلّا تقع الفرقة. وهذا كلّه إنّما حمل عليه منازع الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة فالملك إذا حصل وفرضنا أنّ الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحقّ ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به وكانوا ما علمت من النّبوة والحقّ وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أميّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 غيره اختلفوا عليه مع أنّ ظنّهم كان به صالحا ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظنّ بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا الله لمعاوية من ذلك وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي إنّما كانوا متحرّين لمقاصد الحقّ جهدهم إلّا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الّذي هو أهمّ لديهم من كلّ مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتّباع والاقتداء وما علم السّلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتجّ مالك في الموطّإ [1] بعمل عبد الملك وأمّا مروان فكان من الطّبقة الأولى من التّابعين وعدالتهم معروفة ثمّ تدرّج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدّين بالمكان الّذي كانوا عليه وتوسّطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصّحابة جهده ولم يهمل. ثمّ جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدّنيويّة ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحرّي القصد فيها واعتماد الحقّ في مذاهبها فكان ذلك ممّا دعا النّاس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدّعوة العبّاسيّة منهم وولّي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرّفوا الملك في وجوه الحقّ ومذاهبه ما استطاعوا حتّى جاء بنو الرّشيد من بعده فكان منهم الصّالح والطّالح ثمّ أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والتّرف حقّه وانغمسوا في الدّنيا وباطلها ونبذوا الدّين وراءهم ظهريّا فتأذّن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم والله لا يظلم مثقال ذرّة. ومن تأمّل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحرّي الحقّ من الباطل علم صحّة ما قلناه وقد حكاه المسعوديّ مثله في أحوال بني أميّة عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أميّة فقال: «أمّا عبد الملك فكان جبّارا لا يبالي بما صنع وأمّا سليمان فكان همّه بطنه وفرجه وأمّا عمر فكان أعور بين عميان وكان رجل القوم هشام» قال ولم يزل بنو أميّة ضابطين لما مهّد لهم من السّلطان يحوّطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه مع   [1] هو كتاب مشهور في الحديث لمالك بن أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 تسنّمهم معالي الأمور ورفضهم دنيّاتها حتّى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همّتهم قصد الشّهوات وركوب اللّذّات من معاصي الله جهلا باستدراجه وأمنا لمكره مع اطّراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحقّ الرّئاسة وضعفهم عن السّياسة فسلبهم الله العزّ وألبسهم الذّلّ ونفى عنهم النّعمة ثمّ استحضر عبد الله [1] ابن مروان فقصّ عليه خبره مع ملك النّوبة لمّا دخل أرضهم فارّا أيّام السّفّاح قال أقمت مليّا ثمّ أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا [2] فقال إنّي ملك وحقّ لكلّ ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثمّ قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرّمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا قال: فلم تطئون الزّرع بدوابّكم والفساد محرّم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال: فلم تلبسون الدّيباج والذّهب والحرير وهو محرّم عليكم في كتابكم؟ قلت: ذهب منّا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منّا، فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ثمّ رفع رأسه إليّ وقال: «ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرّم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العزّ وألبسكم الذّلّ بذنوبكم وللَّه نقمة لم تبلغ غايتها فيكم وأنا خائف أن يحلّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم وإنّما الضّيافة ثلاث فتزوّد ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي» فتعجّب المنصور وأطرق فقد تبيّن لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأنّ الأمر كان في أوّله خلافة ووازع كلّ أحد فيها من نفسه وهو الدّين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافّة فهذا عثمان لمّا حصر في الدّار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون   [1] قوله عبد الله كذا في النسخة التونسية وبعض الفارسية وفي بعضها عبد الملك وأظنه تصحيفا (قاله نصر) . [2] فرشنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 المدافعة عنه فأبى ومنع من سلّ السّيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظا للإلفة الّتي بها حفظ الكلمة ولو أدّى إلى هلاكه. وهذا عليّ أشار عليه المغيرة لأوّل ولايته باستبقاء الزّبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتّى يجتمع النّاس على بيعته وتتّفق الكلمة وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فرارا من الغشّ الّذي ينافيه الإسلام وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال: «لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثمّ عدت إلى نظري فعلمت أنّه ليس من الحقّ والنّصيحة وأنّ الحقّ فيما رأيته أنت» فقال عليّ: «لا والله بل أعلم أنّك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم ولكن منعني ممّا أشرت به زائد الحقّ وهكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحرّي الدّين ومذاهبه والجري على منهاج الحقّ ولم يظهر التّغيّر إلّا في الوازع الّذي كان دينا ثمّ انقلب عصبيّة وسيفا وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصّدر الأوّل من خلفاء بني العبّاس إلى الرّشيد وبعض ولده ثمّ ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلّا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا وجرت طبيعة التّغلّب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتّقلّب في الشّهوات والملاذّ وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرّشيد من بني العبّاس واسم الخلافة باقيا فيهم لبقاء عصبيّة العرب والخلافة والملك في الطّورين ملتبس بعضهما ببعض ثمّ ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيّة العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشّأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبرّكا والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديّين ومغراوة وبني يفرن أيضا مع خلفاء بني أميّة بالأندلس والعبيديّين بالقيروان فقد تبيّن أنّ الخلافة قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وجدت بدون الملك أوّلا ثمّ التبست معانيهما واختلطت ثمّ انفرد الملك حيث افترقت عصبيّته من عصبيّة الخلافة والله مقدّر اللّيل والنّهار وهو الواحد القهّار الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة [1] اعلم أنّ البيعة هي العهد على الطّاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره على أنّه يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشّط والمكره وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمّي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللّغة ومعهود الشّرع وهو المراد في الحديث في بيعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة وعند الشّجرة وحيثما ورد هذا اللّفظ ومنه بيعة الخلفاء ومنه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلّها لذلك فسمّي هذا الاستيعاب أيمان البيعة وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب ولهذا لمّا أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة، ووقع ما وقع من محنة الإمام رضى الله عنه وأمّا البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحيّة الملوك الكسرويّة من تقبيل الأرض أو اليد أو الرّجل أو الذّيل أطلق عليها اسم البيعة الّتي هي العهد على الطّاعة مجازا لما كان هذا الخضوع في التّحيّة والتزام الآداب من لوازم الطّاعة وتوابعها وغلب فيه حتّى صارت حقيقيّة عرفيّة واستغنى بها عن مصافحة أيدي النّاس الّتي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكلّ أحد من التّنزّل والابتذال المنافيين للرّئاسة وصون المنصب الملوكيّ إلّا في الأقلّ   [1] البيعة بفتح الموحدة أما بكسرها على وزن شيعة بسكون الياء فيها فهي معبد النصارى. 1 هـ-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ممّن يقصد التّواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصّه ومشاهير أهل الدّين من رعيّته فافهم معنى البيعة في العرف فإنّه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حقّ سلطانه وإمامه ولا تكون أفعاله عبثا ومجّانا واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك والله القويّ العزيز. الفصل الثلاثون في ولاية العهد اعلم أنّا قدّمنا الكلام في الإمامة ومشروعيّتها لما فيها من المصلحة وأنّ حقيقتها للنّظر في مصالح الأمّة لدينهم ودنياهم فهو وليّهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته ويقيم لهم من يتولّى أمورهم كما كان هو يتولّاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل وقد عرف ذلك من الشّرع بإجماع الأمّة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمحضر من الصّحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم وكذلك عهد عمر في الشّورى إلى السّتّة بقيّة العشرة وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوّض بعضهم إلى بعض حتّى أفضى ذلك إلى عبد الرّحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متّفقين على عثمان وعلى عليّ فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إيّاه على لزوم الاقتداء بالشّيخين في كلّ ما يعنّ دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته والملأ من الصّحابة حاضرون للأولى والثّانية ولم ينكره أحد منهم فدلّ على أنّهم متّفقون على صحّة هذا العهد عارفون بمشروعيّته. والإجماع حجّة كما عرف ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنّه مأمون على النّظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 خلافا لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصّص التّهمة بالولد دون الوالد فإنّه بعيد عن الظنّة في ذلك كلّه لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقّع مفسدة فتنتفي الظنّة في ذلك رأسا كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد وإن كان فعل معاوية مع وفاق النّاس له حجّة في الباب والّذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع النّاس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة إذ بنو أميّة يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملّة أجمع وأهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممّن يظنّ أنّه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصا على الاتّفاق واجتماع الأهواء الّذي شأنه أهمّ عند الشّارع. وإن كان لا يظنّ بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصّحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الرّيب فيه فليسوا ممّن يأخذهم في الحقّ هوادة وليس معاوية ممّن تأخذه العزّة في قبول الحقّ فإنّهم كلّهم أجلّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنّما هو محمول على تورّعه من الدّخول في شيء من الأمور مباحا كان أو محظورا كما هو معروف عنه ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الّذي اتّفق عليه الجمهور إلّا ابن الزّبير وندور المخالف معروف ثمّ إنّه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الّذين كانوا يتحرّون الحقّ ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أميّة والسّفّاح والمنصور والمهديّ والرّشيد من بني العبّاس وأمثالهم ممّن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنّظر لهم ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فإنّهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيّا فعند كلّ أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدّين فقط وآثروه على غيره ووكلوا كلّ من يسمو إلى ذلك إلى وازعه. وأمّا من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبيّة قد أشرفت على غايتها من الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والوازع الدّينيّ قد ضعف واحتيج إلى الوازع السّلطانيّ والعصبانيّ فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبيّة لردّت ذلك العهد وانتفض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف. سأل رجل عليّا رضي الله عنه: «ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟» فقال: «لأنّ أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم وال على مثلك» يشير إلى وازع الدّين أفلا ترى إلى المأمون لمّا عهد إلى عليّ بن موسى بن جعفر الصّادق وسمّاه الرّضا كيف أنكرت العبّاسيّة ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهديّ وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السّبل وتعدّد الثّوّار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتّى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد وردّ أمرهم لمعاهده فلا بدّ من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيّات وتختلف باختلاف المصالح ولكلّ واحد منها حكم يخصّه لطفا من الله بعباده وأمّا أن يكون القصد بالعهد حفظ التّراث على الأبناء فليس من المقاصد الدّينيّة إذ هو أمر من الله يخصّ به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسّن فيه النيّة ما أمكن خوفا من العبث بالمناصب الدّينيّة والملك للَّه يؤتيه من يشاء، وعرض هنا أمور تدعو الضّرورة إلى بيان الحقّ فيها. فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيّام خلافته فإيّاك أن تظنّ بمعاوية رضي الله عنه أنّه علم ذلك من يزيد فإنّه أعدل من ذلك وأفضل بل كان يعذله أيّام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقلّ من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة ولمّا حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصّحابة حينئذ في شأنه فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزّبير رضي الله عنهما ومن اتّبعهما في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأنّ شوكة يزيد يومئذ هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 عصابة بني أميّة وجمهور أهل الحلّ والعقد من قريش وتستتبع عصبيّة مضر أجمع وهي أعظم من كلّ شوكة ولا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدّعاء بهدايته والرّاحة منه وهذا كان شأن جمهور المسلمين والكلّ مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البرّ وتحرّي الحقّ معروفة وفّقنا الله للاقتداء بهم. والأمر الثّاني هو شأن العهد مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما تدّعيه الشّيعة من وصيّته لعليّ رضي الله عنه وهو أمر لم يصحّ ولا نقله أحد من أئمّة النّقل والّذي وقع في الصّحيح من طلب الدّواة والقرطاس ليكتب الوصيّة وأنّ عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنّه لم يقع وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال: «إن أعهد فقد عهد من هو خير منّي» يعني أبا بكر «وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي» يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يعهد وكذلك قول عليّ للعبّاس رضي الله عنهما حين دعاه للدّخول إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى عليّ من ذلك وقال إنّه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدّهر وهذا دليل على أنّ عليّا علم أنّه لم يوص ولا عهد إلى أحد وشبهة الإماميّة في ذلك إنّما هي كون الإمامة من أركان الدّين كما يزعمون وليس كذلك وإنّما هي من المصالح العامّة المفوّضة إلى نظر الخلق ولو كانت من أركان الدّين لكان شأنها شأن الصّلاة ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصّلاة ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصّلاة واحتجاج الصّحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصّلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أنّ الوصيّة لم تقع. ويدلّ ذلك أيضا على أنّ أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهمّا كما هو اليوم وشأن العصبيّة المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأنّ أمر الدّين والإسلام كان كلّه بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه واستماتة النّاس دونه وذلك من أجلّ الأحوال الّتي كانوا يشاهدونها في حضور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الملائكة لنصرهم وتردّد خبر السّماء بينهم وتجدّد خطاب الله في كلّ حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبيّة لما شمل النّاس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزّهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهيّة الواقعة والملائكة المتردّدة الّتي وجموا منها ودهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبيّة وسائر هذه الأنواع مندرجا في ذلك القبيل كما وقع فلمّا انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثمّ بفناء القرون الّذين شاهدوها فاستحالت تلك الصّبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبيّة ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهمّا من المهمّات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير مهمّة فلم يعهد فيها ثمّ تدرّجت الأهميّة زمان الخلافة بعض الشّيء بما دعت الضّرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الرّدّة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والتّرك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثمّ صارت اليوم من أهمّ الأمور للإلفة على الحماية والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبيّة الّتي هي سرّ الوازع عن الفرقة والتّخاذل ومنشأ الاجتماع والتّوافق الكفيل بمقاصد الشّريعة وأحكامها. والأمر الثّالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصّحابة والتّابعين فاعلم أنّ اختلافهم إنّما يقع في الأمور الدّينيّة وينشأ عن الاجتهاد في الأدلّة الصّحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إنّ الحقّ في المسائل الاجتهاديّة واحد من الطّرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإنّ جهته لا تتعيّن بإجماع فيبقى الكلّ على احتمال الإصابة ولا يتعيّن المخطئ منها والتأثيم مدفوع عن الكلّ إجماعا وإن قلنا إنّ الكلّ حقّ وإنّ كلّ مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتّأثيم وغاية الخلاف الّذي بين الصّحابة والتّابعين أنّه خلاف اجتهاديّ في مسائل دينيّة ظنّيّة وهذا حكمه والّذي وقع من ذلك في الإسلام إنّما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 واقعة عليّ مع معاوية ومع الزّبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزّبير مع عبد الملك فأمّا واقعة عليّ فإنّ النّاس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة عليّ والّذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقّف حتّى يجتمع النّاس ويتّفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدريّ وكعب بن مالك والنّعمان بن بشير وحسّان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصّحابة والّذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضا إلى الطّلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتّى يكون شورى بين المسلمين لمن يولّونه وظنّوا بعليّ هوادة في السّكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش للَّه من ذلك. ولقد كان معاوية إذا صرّح بملامته إنّما يوجّهها عليه في سكوته فقط ثمّ اختلفوا بعد ذلك فرأى عليّ أنّ بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخّر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وموطن الصّحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع النّاس واتّفاق الكلمة فيتمكّن حينئذ من ذلك ورأى الآخرون أنّ بيعته لم تنعقد لافتراق الصّحابة أهل الحلّ والعقد بالآفاق ولم يحضر إلّا قليل ولا تكون البيعة إلّا باتّفاق أهل الحلّ والعقد ولا تلزم بعقد من تولّاها من غيرهم أو من القليل منهم وإنّ المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أوّلا بدم عثمان ثمّ يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأمّ المؤمنين عائشة والزّبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمّد وسعد وسعيد والنّعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من الصّحابة الّذين تخلّفوا عن بيعة عليّ بالمدينة كما ذكرنا إلّا أنّ أهل العصر الثاني من بعدهم اتّفقوا على انعقاد بيعة عليّ ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه وتعيين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصا طلحة والزّبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 لانتقاضهما على عليّ بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التّأثيم عن كلّ من الفريقين كالشّأن في المجتهدين وصار ذلك إجماعا من أهل العصر الثّاني على أحد قولي أهل العصر الأوّل كما هو معروف. ولقد سئل عليّ رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفّين فقال: «والّذي نفسي بيده لا يموتنّ أحد من هؤلاء وقلبه نقيّ إلّا دخل الجنّة» يشير إلى الفريقين نقله الطّبريّ وغيره فلا يقعنّ عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت وأقوالهم وأفعالهم إنّما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السّنّة إلّا قولا للمعتزلة فيمن قاتل عليّا لم يلتفت إليه أحد من أهل الحقّ ولا عرّج عليه وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت النّاس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان واختلاف الصّحابة من بعد وعلمت أنّها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمّة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوّهم وملّكهم أرضهم وديارهم ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشّام ومصر وكان أكثر العرب الّذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهليّة من الجفاء والعصبيّة والتّفاخر والبعد عن سكينة الإيمان وإذا بهم عند استفحال الدّولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السّابقين الأوّلين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك وغصّوا به لما يرون لأنفسهم من التّقدّم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والرّوم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر فصاروا إلى الغضّ من قريش والأنفة عليهم، والتّمريض في طاعتهم والتّعلّل في ذلك بالتّظلّم منهم والاستعداء عليهم والطّعن فيهم بالعجز عن السّويّة والعدل في القسم عن السّويّة وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بعث ابن عمر ومحمّد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئا ولا رأوا عليهم طعنا وأدّوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطّعن من أهل الأمصار وما زالت الشّناعات تنمو ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحدّه عثمان وعزله ثمّ جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمّال وشكوا إلى عائشة وعليّ والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض العمّال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلمّا رجع اعترضوه بالطّريق وردّوه معزولا ثمّ انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصّحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلّا أن يكون على جرحة [1] ثمّ نقلوا النّكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسّك بالاجتهاد وهم أيضا كذلك ثمّ تجمّع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النّصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله وفيهم من البصرة والكوفة ومصر وقام معهم في ذلك عليّ وعائشة والزّبير وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلا ثمّ رجعوا وقد لبّسوا بكتاب مدلّس يزعمون أنّهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على ذلك فقالوا مكّنّا من مروان فإنّه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر من هذا فحاصروه بداره ثمّ بيّتوه على حين غفلة من النّاس وقتلوه وانفتح باب الفتنة فلكلّ من هؤلاء عذر فيما وقع وكلّهم كانوا مهتمّين بأمر الدّين ولا يضيعون شيئا من تعلّقاته. ثمّ نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا والله مطّلع على أحوالهم وعالم بهم ونحن لا نظنّ بهم إلّا خيرا لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصّادق فيهم وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك وظنّها من نفسه بأهليّته   [1] ما تجرح به شهادة خصمك أو حجته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وشوكته فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ وزيادة وأمّا الشّوكة فغلط يرحمه الله فيها لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة تعرف ذلك لهم قريش وسائر النّاس ولا ينكرونه وإنّما نسي ذلك أوّل الإسلام لما شغل النّاس من الذّهول بالخوارق وأمر الوحي وتردّد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبيّة الجاهليّة ومنازعها ونسيت ولم يبق إلّا العصبيّة الطّبيعيّة في الحماية والدّفاع ينتفع بها في إقامة الدّين وجهاد المشركين والدّين فيها محكم والعادة معزولة حتّى إذا انقطع أمر النّبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشّيء للعوائد فعادت العصبيّة كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أميّة من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبيّن لك غلط الحسين إلّا أنّه في أمر دنيويّ لا يضرّه الغلط فيه وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه لأنّه منوط بظنّه وكان ظنّه القدرة على ذلك ولقد عذله ابن العبّاس وابن الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عمّا هو بسبيله لما أراده الله. وأمّا غير الحسين من الصّحابة الّذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشّام والعراق ومن التّابعين لهم فرأوا أنّ الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدّماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثّموه لأنّه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنّهم أكثر الصّحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو بكربلاء على فصله وحقّه ويقول سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدريّ وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرّض لذلك لعلمه أنّه عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد ويكون ذلك كما يحدّ الشّافعيّ والمالكيّ والحنفيّ على شرب النّبيذ واعلم أنّ الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم وإنّما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه ولا تقولنّ إنّ يزيد وإن كان فاسقا ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة واعلم أنّه إنّما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعا وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسقه والحسين فيها شهيد مثاب وهو على حقّ واجتهاد والصّحابة الّذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الّذي سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه: إنّ الحسين قتل بشرع جدّه وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء وأمّا ابن الزّبير فإنّه رأى في منامه ما رآه الحسين وظنّ كما ظنّ وغلطه في أمر الشّوكة أعظم لأنّ بني أسد لا يقاومون بني أميّة في جاهليّة ولا إسلام. والقول بتعيّن الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع عليّ لا سبيل إليه. لأنّ الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده هاهنا. وأمّا يزيد فعيّن خطأه فسقه. وعبد الملك صاحب ابن الزّبير أعظم النّاس عدالة وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عبّاس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزّبير وهم معه بالحجاز مع أنّ الكثير [1] من الصّحابة كانوا يرون أنّ بيعة ابن الزّبير لم تنعقد لأنّه لم يحضرها أهل العقد والحلّ كبيعة مروان وابن الزّبير على خلاف ذلك والكلّ مجتهدون محمولون على الحقّ في الظّاهر وإن لم يتعيّن في جهة منهما والقتل الّذي نزل به بعد تقرير ما قرّرناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه مع أنّه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحرّيه الحقّ هذا هو الّذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السّلف من الصّحابة والتّابعين فهم خيار الأمّة وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الّذي يختصّ   [1] كذا في جميع النسخ ومقتضى السياق: هذا إلى أن الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بالعدالة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول «خير النّاس قرني» [1] ثمّ الّذين يلونهم مرّتين أو ثلاثا ثمّ يفشو الكذب فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحد منهم ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت فهم أولى النّاس بذلك وما اختلفوا إلّا عن بيّنة وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ واعتقد مع ذلك أنّ اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله فافهم ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنّه على كلّ شيء قدير وإليه الملجأ والمصير والله تعالى أعلم. الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية لمّا تبيّن أنّ حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشّرع في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا فصاحب الشّرع متصرّف في الأمرين أمّا في الدّين فبمقتضى التّكاليف الشّرعيّة الّذي هو مأمور بتبليغها وحمل النّاس عليها وأمّا سياسة الدّنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشريّ وقد قدّمنا أنّ هذا العمران ضروريّ للبشر وأنّ رعاية مصالحه كذلك لئلّا يفسد إن أهملت وقدّمنا أنّ الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح. نعم إنّما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشّرعيّة لأنّه [2] أعلم بهذه المصالح   [1] (ورد في لسان العرب قول الأزهري: والّذي يقع عندي. والله أعلم. ان القرن) هل كل مدة كان فيها، أو كان فيها طبقة من أهل العلم، قلت السنون أو كثرت والدليل على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «خيركم قرني، يعني أصحابي ثم الذين يلونهم، يعني التابعين، ثم الذين يلونهم، يعني الذين أخذوا عن التابعين» قال: وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة، وهؤلاء قرون فيها. [2] الضمير يعود إلى الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميّا ويكون من توابعها وقد ينفرد إذا كان في غير الملّة وله على كلّ حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعيّن خططا وتتوزّع على رجال الدّولة وظائف فيقوم كلّ واحد بوظيفته حسبما يعيّنه الملك الّذي تكون يده عالية عليهم فيتمّ بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه وأمّا المنصب الخلافيّ وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الّذي ذكرناه فتصرّفه الدّيني يختصّ بخطط ومراتب لا تعرف إلّا للخلفاء الإسلاميّين فلنذكر الآن الخطط الدّينيّة المختصّة بالخلافة ونرجع إلى الخطط الملوكيّة السّلطانيّة. فاعلم أنّ الخطط الدّينيّة الشّرعيّة من الصّلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلّها مندرجة تحت الإمامة الكبرى الّتي هي الخلافة فكأنّها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلّها متفرّعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرّفها في سائر أحوال الملّة الدّينيّة والدّنيويّة وتنفيذ أحكام الشّرع فيها على العموم. فأمّا إمامة الصّلاة فهي أرفع هذه الخطط كلّها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. ولقد يشهد لذلك استدلال الصّحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصّلاة على استخلافه في السّياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فلولا أنّ الصّلاة أرفع من السّياسة لما صحّ القياس وإذا ثبت ذلك فاعلم أنّ المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة كثيرة الغاشية [1] معدّة للصّلوات المشهودة. وأخرى دونها مختصّة بقوم أو محلّة وليست للصّلوات العامّة فأمّا المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوّض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصّلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء وتعيّن ذلك إنّما هو من طريق الأولى   [1] الذين يزورونها للصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 والاستحسان ولئلّا يفتات [1] الرّعايا عليه في شيء من النّظر في المصالح العامّة وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجبا وأمّا المساجد المختصّة بقوم أو محلّة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولّى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السّلطانيّة للماورديّ وغيره فلا نطوّل بذكرها ولقد كان الخلفاء الأوّلون لا يقلّدونها لغيرهم من النّاس. وانظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصّلاة وترصّدهم لذلك في أوقاتها، يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنّهم لم يكونوا مستخلفين فيها. وكذا كان رجال الدّولة الأمويّة من بعدهم استئثارا بها واستعظاما لرتبتها. يحكى عن عبد الملك أنّه قال لحاجبه «قد جعلت لك حجابة يأبى إلّا عن ثلاثة: صاحب الطّعام فإنّه يفسد بالتّأخير والأذان بالصّلاة فإنّه داع إلى الله والبريد فإنّ في تأخيره فساد القاصية» فلمّا جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والتّرفّع عن مساواة النّاس في دينهم ودنياهم استنابوا في الصّلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصّلوات العامّة كالعيدين والجمعة إشارة وتنويها فعل ذلك كثير من خلفاء بني العبّاس والعبيديّين صدر دولتهم. وأمّا الفتيا فللخليفة تصفّح أهل العلم والتّدريس وردّ الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلا لها وزجره لأنّها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلّا يتعرّض لذلك من ليس له بأهل فيضلّ النّاس. وللمدرّس الانتصاب لتعليم العلم وبثّه والجلوس لذلك في المساجد فإن كانت من المساجد العظام الّتي للسّلطان الولاية عليها والنّظر في أئمّتها كما مرّ فلا بدّ من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامّة فلا يتوقّف ذلك على إذن. على أنّه ينبغي أن يكون لكلّ أحد من المفتين والمدرّسين زاجر من نفسه يمنعه عن   [1] يخالفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 التّصدّي لما ليس له بأهل فيضلّ [1] به المستهدي ويضلّ به المسترشد وفي الأثر «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على جراثيم جهنّم» فللسّلطان فيهم لذلك من النّظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو ردّ. وأمّا القضاء فهو من الوظائف الدّاخلة تحت الخلافة لأنّه منصب الفصل بين النّاس في الخصومات حسما للتّداعي وقطعا للتّنازع إلّا أنّه بالأحكام الشّرعيّة المتلقّاة من الكتاب والسّنّة، فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجا في عمومها وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأوّل من دفعه إلى غيره وفوّضه فيه عمر رضي الله عنه فولّى أبا الدّرداء معه بالمدينة وولّى شريحا بالبصرة وولّى أبا موسى الأشعريّ بالكوفة وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الّذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه يقول أمّا بعد: «فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنّه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له وآس بين النّاس في وجهك ومجلسك وعدلك حتّى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحقّ فإنّ الحقّ قديم ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك ممّا ليس في كتاب ولا سنّة ثمّ اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقّه وإلّا استحللت القضاء عليه فإنّ ذلك أنفى للشّكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلّا مجلودا في حدّ أو مجرى [2] عليه   [1] في بعض النسخ: فيدلّ أي يثق به ويعتز. [2] وفي بعض النسخ: مجرّبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء، فإنّ الله سبحانه عفا عن الإيمان ودرأ بالبيّنات. وإيّاك والقلق والضّجر والتّأفّف بالخصوم فإنّ استقرار الحقّ في مواطن الحقّ يعظّم الله به الأجر ويحسن به الذّكر والسّلام» . انتهى كتاب عمر وإنّما كانوا يقلّدون القضاء لغيرهم وإن كان ممّا يتعلّق بهم لقيامهم بالسّياسة العامّة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسدّ الثّغور وحماية البيضة، ولم يكن ذلك ممّا يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقّوا القضاء في الواقعات بين النّاس واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفا على أنفسهم وكانوا مع ذلك إنّما يقلّدونه أهل عصبيّتهم بالنّسب أو الولاء ولا يقلّدونه لمن بعد عنهم في ذلك. وأمّا أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصا كتب الأحكام السّلطانيّة. إلّا أنّ القاضي إنّما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثمّ دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التّدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسّياسة الكبرى واستقرّ منصب القضاء آخر الأمر على أنّه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامّة للمسلمين بالنّظر في أموال [1] المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السّفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنّظر في مصالح الطّرقات والأبنية وتصفّح الشّهود والأمناء والنّوّاب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلّها من تعلّقات وظيفته وتوابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النّظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السّلطنة ونصفة القضاء وتحتاج إلى علوّ يد وعظيم رهبة تقمع الظّالم من الخصمين وتزجر المتعدّي وكأنّه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه ويكون نظره في البيّنات والتّقرير واعتماد الأمارات   [1] وفي بعض النسخ: أمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحقّ وحمل الخصمين على الصّلح واستحلاف الشّهود وذلك أوسع من نظر القاضي. وكان الخلفاء الأوّلون يباشرونها بأنفسهم إلى أيّام المهتدي من بني العبّاس وربّما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولانيّ وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي داود وربّما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطّوائف [1] وكان يحيى بن أكثم يخرج أيّام المأمون بالطّائفة إلى أرض الرّوم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرّحمن النّاصر من بني أميّة بالأندلس فكانت تولية هذه الوظائف إنّما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوّض أو سلطان متغلّب. وكان أيضا النّظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدّولة العبّاسيّة والأمويّة بالأندلس والعبيديّين بمصر والمغرب راجعا إلى صاحب الشّرطة وهي وظيفة أخرى دينيّة كانت من الوظائف الشّرعيّة في تلك الدّول توسّع النّظر فيها عن أحكام القضاء قليلا فيجعل للتّهمة في الحكم مجالا ويفرض العقوبات الزّاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثّابتة في محالّها ويحكم في القود [2] والقصاص ويقيم التّعزير والتّأديب في حقّ من لم ينته عن الجريمة. ثمّ تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدّول الّتي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعا إلى السّلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن وانقسمت وظيفة الشّرطة قسمين منها وظيفة التّهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعيّن ونصب لذلك في هذه الدّول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشّرعيّة ويسمّى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشّرطة وبقي قسم التّعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثّابتة شرعا فجمع   [1] ربّما تكون محرّفة من الصوائف: أي الغزو أثناء الصيف. [2] القود: قتل القاتل بدل القتيل (منجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ذلك للقاضي مع ما تقدّم وصار ذلك من توابع وظيفة ولايته واستقرّ الأمر لهذا العهد على ذلك وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبيّة الدّولة لأنّ الأمر لمّا كان خلافة دينيّة وهذه الخطّة من مراسم الدّين فكانوا لا يولّون فيها إلّا من أهل عصبيّتهم من العرب ومواليهم بالحلف أو بالرّقّ أو بالاصطناع ممّن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، ولمّا انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كلّه ملكا أو سلطانا صارت هذه الخطط الدّينيّة بعيدة عنه بعض الشّيء لأنّها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثمّ خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم التّرك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافيّة بعدا عنهم بمنحاها وعصبيّتها. وذلك أنّ العرب كانوا يرون أنّ الشّريعة دينهم وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك إنّما يولّونها جانبا من التّعظيم لما دانوا بالملّة فقط. فصاروا يقلّدونها من غير عصابتهم ممّن كان تأهّل لها في دول الخلفاء السّالفة. وكان أولئك المتأهّلون بما أخذهم ترف الدّول منذ مئين من السّنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلّة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدّول الملوكيّة من بعد الخلفاء مختصّة بهذا الصّنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العزّ لفقد الأهليّة بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في التّرف والدّعة، البعداء عن عصبيّة الملك الّذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدّولة من أجل قيامها بالملّة وأخذها بأحكام الشّريعة، لما أنّهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدّولة حينئذ إكراما لذواتهم، وإنّما هو لما يتلمّح من التّجمّل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرّتب الشّرعيّة، ولم يكن لهم فيها من الحلّ والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسميّ لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحلّ والعقد إنّما هي لأهل القدرة عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فمن لا قدرة له عليه فلا حلّ له ولا عقد لديه. اللَّهمّ إلّا أخذ الأحكام الشّرعيّة عنهم، وتلقّي الفتاوى منهم فنعم والله الموفّق. وربّما يظنّ بعض النّاس أنّ الحقّ فيما وراء ذلك وأنّ فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشّورى مرجوح وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ ذلك ليس كما ظنّه [1] وحكم الملك والسّلطان إنّما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلّا كان بعيدا عن السّياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئا من ذلك لأنّ الشّورى والحلّ والعقد لا تكون إلّا لصاحب عصبيّة يقتدر بها على حلّ أو عقد أو فعل أو ترك، وأمّا من لا عصبيّة له ولا يملك من أمر نفسه شيئا ولا من حمايتها وإنّما هو عيال على غيره فأيّ مدخل له في الشّورى أو أيّ معنى يدعو إلى اعتباره فيها؟ اللَّهمّ إلّا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشّرعيّة فموجودة في الاستفتاء خاصّة. وأمّا شوراه في السّياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبيّة والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها وإنّما إكرامهم من تبرّعات الملوك والأمراء الشّاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدّين وتعظيم من ينتسب إليه بأيّ جهة انتسب وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتفّ به إنّما حمّلوا الشّريعة أقوالا في كيفيّة الأعمال في العبادات وكيفيّة القضاء في المعاملات ينصّونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتّصفون إلّا بالأقلّ منها وفي بعض الأحوال والسّلف رضوان الله عليهم وأهل الدّين والورع من المسلمين حملوا الشّريعة اتّصافا بها وتحقّقا بمذاهبها. فمن حملها اتّصافا وتحقّقا دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيريّ ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التّابعين والسّلف والأئمّة الأربعة ومن اقتفى طريقهم وجاء على أثرهم وإذا انفرد واحد من الأمّة بأحد الأمرين فالعابد أحقّ بالوراثة من الفقيه الّذي ليس بعابد لأنّ العابد ورث بصفة والفقيه الّذي ليس بعابد لم يرث   [1] الضمير يعود إلى الناس أو العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 شيئا إنّما هو صاحب أقوال ينصّها علينا في كيفيّات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ 38: 24» . العدالة: وهي وظيفة دينيّة تابعة للقضاء ومن موادّ تصريفه وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشّهادة بين النّاس فيما لهم وعليهم تحمّلا عند الإشهاد وأداء عند التّنازع وكتبا في السّجلّات تحفظ به حقوق النّاس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم وشرط هذه الوظيفة الاتّصاف بالعدالة الشّرعيّة والبراءة من الجرح ثمّ القيام بكتب السّجلّات والعقود من جهة عباراتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشّرعيّة وعقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلّق بذلك من الفقه ولأجل هذه الشّروط وما يحتاج إليه من المران [1] على ذلك والممارسة له اختصّ ذلك ببعض العدول وصار الصّنف القائمون به كأنّهم مختصّون بالعدالة وليس كذلك وإنّما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة ويجب على القاضي تصفّح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك لما يتعيّن عليه من حفظ حقوق النّاس فالعهدة عليه في ذلك كلّه وهو ضامن دركه وإذا تعيّن هؤلاء لهذه الوظيفة عمّت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتّساع الأمصار واشتباه الأحوال واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبيّنات الموثوقة فيعوّلون غالبا في الوثوق بها على هذا الصّنف ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصّون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب وصار مدلول هذه اللّفظة مشتركا بين هذه الوظيفة الّتي تبيّن مدلولها وبين العدالة الشّرعيّة الّتي هي أخت الجرح وقد يتواردان ويفترقان والله تعالى أعلم. الحسبة والسكة إمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر   [1] المران بكسر الميم التمرن والاعتياد على الشيء 1 هـ-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الّذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ويحمل النّاس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطّرقات ومنع الحمّالين وأهل السّفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسّقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السّابلة والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصّبيان المتعلّمين ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النّظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدّعاوي مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ والتّدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة ولا إنفاذ حكم وكأنّها أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدّول الإسلاميّة مثل العبيديّين بمصر والمغرب والأمويّين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولّي فيها باختياره ثمّ لمّا انفردت وظيفة السّلطان عن الخلافة وصار نظره عامّا في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية. وأمّا السّكّة فهي النّظر في النّقود المتعامل بها بين النّاس وحفظها ممّا يداخلها من الغشّ أو النّقص إن كان يتعامل بها عددا أو ما يتعلّق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات ثمّ في وضع علامة السّلطان على تلك النّقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتّخذ لذلك ونقش فيه نقوش خاصّة به فيوضع على الدّينار بعد أن يقدّر ويضرب عليه بالمطرقة حتّى ترسم فيه تلك النّقوش وتكون علامة على جودته بحسب الغاية الّتي وقف عندها السّبك والتّخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدّولة الحاكمة فإنّ السّبك والتّخليص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 في النّقود لا يقف عند غاية وإنّما ترجع غايته إلى الاجتهاد فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التّخليص وقفوا عندها وسمّوها إماما وعيارا يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفا والنّظر في ذلك كلّه لصاحب هذه الوظيفة وهي دينيّة بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثمّ أفردت لهذا العهد كما وقع في الحبشة. هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافيّة وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانيّة فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانيّة نتكلّم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلّا في قليل من الدّول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالبا في السّلطانيّات وكذا نقابة الأنساب الّتي يتوصّل بها إلى الخلافة أو الحقّ في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسّياسة في سائر الدّول لهذا العهد والله مصرّف الأمور كيف يشاء. الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين وانه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء وذلك أنّه لمّا بويع أبو بكر رضي الله عنه وكان الصّحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمّونه خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك فلمّا بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأنّهم استثقلوا هذا اللّقب بكثرته وطول إضافته وأنّه يتزايد فيما بعد دائما إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التّمييز بتعدّد الإضافات وكثرتها فلا يعرف فكانوا يعدلون عن هذا اللّقب إلى ما سواه ممّا يناسبه ويدعى به مثله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وكانوا يسمّون قوّاد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة وقد كان الجاهليّة يدعون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمير مكّة وأمير الحجاز وكان الصّحابة أيضا يدعون سعد بن أبي وقّاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسيّة وهم معظم المسلمين يومئذ واتّفق أن دعا بعض الصّحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه النّاس واستصوبوه ودعوه به. يقال إنّ أوّل من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل عمرو بن العاصي والمغيرة بن شعبة وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين حقا فدعوه بذلك وذهب لقبا له في النّاس وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلّا سائر دولة بني أميّة ثمّ إنّ الشّيعة خصّوا عليّا باسم الإمام نعتا له بالإمامة الّتي هي أخت الخلافة وتعريضا بمذهبهم في أنّه أحقّ بإمامة الصّلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصّوه بهذا اللّقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلّهم يسمّون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخلفاء حتّى إذا يستولون على الدّولة يحوّلون [1] اللّقب فيما بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العبّاس فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم بالإمام إلى إبراهيم الّذي جهروا بالدّعاء له وعقدوا الرّايات للحرب على أمره فلمّا هلك دعي أخوه السّفّاح بأمير المؤمنين. وكذا الرّافضة بإفريقيا فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتّى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهديّ وكانوا أيضا يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده فلمّا استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام وابنه إدريس الأصغر كذلك وهكذا شأنهم وتوارث الخلفاء هذا اللّقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك   [1] الأصح أن يقول: حتى إذا استولوا على الدولة حولوا اللقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الحجاز والشّام والعراق والمواطن الّتي هي ديار العرب ومراكز الدّولة وأهل الملّة والفتح وازداد لذلك في عنفوان الدّولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميّز به بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث لذلك بنو العبّاس حجابا لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في ألسنة السّوقة وصونا لها عن الابتذال فتلقّبوا بالسّفّاح والمنصور والمهديّ والهادي والرّشيد إلى آخر الدّولة واقتفى أثرهم في ذلك العبيديّون بإفريقيّة ومصر وتجافى بنو أميّة عن ذلك بالمشرق قبلهم مع الغضاضة والسّذاجة لأنّ العروبيّة ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحوّل عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة وأمّا بالأندلس فتلقّبوا كسلفهم مع ما عملوه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملّة والبعد عن دار الخلافة الّتي هي مركز العصبيّة وأنّهم إنّما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العبّاس حتّى إذا جاء عبد الرحمن الدّاخل الآخر منهم وهو النّاصر بن محمّد بن الأمير عبد الله بن محمّد بن عبد الرّحمن الأوسط لأوّل المائة الرّابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسّمل ذهب عبد الرّحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمّى بأمير المؤمنين وتلقّب بالنّاصر لدين الله، وأخذت من بعده عادة ومذهب لقّن عنه ولم يكن لآبائه وسلف قومه. واستمرّ الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبيّة العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلّب الموالي من العجم على بني العبّاس والصّنائع على العبيديّين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطّوائف بالأندلس على أمر بني أميّة واقتسموه وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسمّوا جميعا باسم السّلطان. فأمّا ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصّونهم بألقاب تشريفيّة حتّى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدّولة وعضد الدّولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وركن الدّولة ومعزّ الدّولة ونصير الدّولة ونظام الملك وبهاء الدّولة وذخيرة الملك وأمثال هذه وكان العبيديّون أيضا يخصّون بها أمراء صنهاجة فلمّا استبدّوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدبا معها وعدولا عن سماتها المختصّة بها شأن المتغلّبين المستبدّين كما قلناه ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدّولة والسّلطان وتلاشت عصبيّة الخلافة واضمحلّت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصّة بالملك مثل النّاصر والمنصور وزيادة على ألقاب يختصّون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدّين فقط فيقولون صلاح الدّين أسد الدّين نور الدّين. وأمّا ملوك الطّوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزّعوها لقوّة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيّتها فتلقّبوا بالنّاصر والمنصور والمعتمد والمظفّر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف [1] ينعى عليهم: ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد وأمّا صنهاجة فاقتصروا عن الألقاب الّتي كان الخلفاء العبيديّون يلقّبون بها للتّنويه مثل نصير الدّولة ومعزّ الدّولة واتّصل لهم ذلك لمّا أدالوا من دعوة العبيديّين بدعوة العبّاسيّين ثمّ بعدت الشّقّة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السّلطان وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئا من هذه الألقاب إلّا اسم السّلطان جريا على مذاهب البداوة والغضاضة. ولمّا محي رسم الخلافة وتعطّل دستها [2] وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همّته إلى الدّخول في طاعة الخليفة تكميلا لمراسم دينه   [1] كذا في جميع النسخ واسمه ابن شرف. [2] الدست كلمة أعجمية لم ترد في لسان العرب ومعناها صدر البيت أو المجلس والدست من الثياب ما يكفي حاجة الإنسان (المنجد) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى المراس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فخاطب المستظهر العبّاسيّ وأوفد عليه بيعته عبد الله بن العربيّ وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيليّة يطلبان توليته إيّاها على المغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه [1] بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيّهم في لبوسه [2] ورتبته وخاطبه فيه يا أمير المؤمنين تشريفا واختصاصا فاتّخذها لقبا ويقال إنّه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدبا مع رتبة الخلافة لما كان عليه هو وقومه المرابطون من انتحال الدّين واتّباع السّنّة وجاء المهديّ على أثرهم داعيا إلى الحقّ آخذا بمذاهب الأشعريّة ناعيا على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السّلف في ترك التّأويل لظواهر الشّريعة وما يؤول إليه ذلك من التّجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعريّة وسمّى أتباعه الموحّدين تعريضا بذلك النّكير وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنّه لا بدّ منه في كلّ زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمّي بالإمام لما قلناه أوّلا من مذهب الشّيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام وتنزّه عند اتّباعه عن أمير المؤمنين أخذا بمذاهب المتقدّمين من الشّيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق. ثمّ انتحل عبد المؤمن وليّ عهده اللّقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثارا به عمّن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهديّ من ذلك وأنّه صاحب الأمر وأولياؤه من بعده كذلك دون كلّ أحد لانتفاء عصبيّة قريش وتلاشيها فكان ذلك دأبهم. ولمّا انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أوّلهم مذاهب البداوة والسّذاجة وأتباع لمتونة في انتحال اللّقب بأمير المؤمنين [3] أدبا مع رتبة الخلافة الّتي كانوا على طاعتها لبني   [1] الأصح أن يقول: فانقلبا إليه. [2] اللبوس، الثياب والسلاح، قال الله تعالى: «وعلمناه صنعة لبوس لكم» قالوا: هي الدرع تلبس في الحروب (لسان العرب) . [3] يتضح من سياق الجملة وما يليها أن الأصح أن يقول: في عدم انتحال اللقب بأمير المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 عبد المؤمن أوّلا ولبني أبي حفص من بعدهم ثمّ نزع المتأخّرون منهم إلى اللّقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغا في منازع الملك وتتميما لمذاهبه وسماته وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21. الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود اعلم أنّ الملّة لا بدّ لها من قائم عند غيبة النّبيّ يحملهم على أحكامها وشرائعها ويكون كالخليفة فيهم للنّبيّ فيما جاء به من التّكاليف والنّوع الإنسانيّ أيضا بما تقدّم من ضرورة السّياسة فيهم للاجتماع البشريّ لا بدّ لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمّى بالملك والملّة الإسلاميّة لمّا كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدّعوة وحمل الكافّة على دين الإسلام طوعا أو كرها اتّخذت فيها الخلافة والملك لتوجّه الشّوكة من القائمين بها إليهما معا. وأمّا ما سوى الملّة الإسلاميّة فلم تكن دعوتهم عامّة ولا الجهاد عندهم مشروعا إلّا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدّين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنّما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير دينيّ وهو ما اقتضته لهم العصبيّة لما فيها من الطّلب للملك بالطّبع لما قدّمناه لأنّهم غير مكلّفين بالتّغلّب على الأمم كما في الملّة الإسلاميّة وإنّما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصّتهم. ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنّما همّهم إقامة دينهم فقط وكان القائم به بينهم يسمّى الكوهن كأنّه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الصّلاة والقربان ويشترطون فيه أن يكون من ذرّية هارون صلوات الله عليه لأنّ موسى لم يعقب ثمّ اختاروا لإقامة السّياسة الّتي هي للبشر بالطّبع سبعين شيخا كانوا يتلون أحكامهم العامّة والكوهن أعظم منهم رتبة في الدّين وأبعد عن شغب الأحكام واتّصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبيّة وتمحّضت الشّوكة للملك فغلبوا الكنعانيّين على الأرض الّتي أورثهم الله بيت المقدس وما جاورها كما بيّن لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيّين والأرمن وأردنّ وعمّان ومأرب ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم وأقاموا على ذلك نحوا من أربعمائة سنة ولم تكن لهم صولة الملك وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم، فطلبوا على لسان شمويل [1] من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولّي عليهم طالوت وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين. ثمّ ملك بعده داود ثمّ سليمان صلوات الله عليهما واستفحل ملكه وامتدّ إلى الحجاز ثمّ أطراف اليمن ثمّ إلى أطراف بلاد الرّوم ثمّ افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبيّة في الدّول كما قدّمناه إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة والأخرى بالقدس والشّام لبني يهوذا وبنيامين. ثمّ غلبهم بخت نصّر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أوّلا الأسباط العشرة ثمّ ثانيا بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتّصال ملكهم نحو ألف سنة وخرّب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق إلى أن ردّهم بعض ملوك الكيانيّة من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنة من خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرّسم الأوّل للكهنة فقط والملك للفرس ثمّ غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم ثمّ فشل أمر اليونانيّين فاعتزّ اليهود عليهم بالعصبيّة الطّبيعيّة ودفعوهم عن   [1] هو صموئيل كما في التوراة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الاستيلاء عليهم وقام بملكهم الكهنة الّذين كانوا فيهم من بني حشمناي وقاتلوا يونان حتّى انقرض أمرهم وغلبهم الرّوم فصاروا تحت أمرهم ثمّ رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي وبقيت دولتهم فحاصروهم مدّة ثمّ افتتحوها عنوة وأفحشوا في القتل والهدم والتّحريق وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها وهو الخراب الثّاني للمسجد ويسمّيه اليهود بالجلوة [1] الكبرى فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبيّة منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الرّوم من بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرّئيس عليهم المسمّى بالكوهن ثمّ جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدّين والنّسخ لبعض أحكام التّوراة وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى واجتمع عليه كثير من النّاس وآمنوا به وأكثرهم الحواريّون من أصحابه وكانوا اثني عشر وبعث منهم رسلا إلى الآفاق داعين إلى ملّته وذلك أيّام أوغسطس أوّل ملوك القياصرة وفي مدّة هيرودس ملك اليهود الّذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره فحسده اليهود وكذّبوه [2] وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله ووقع ما تلاه القرآن من أمره وافترق الحواريّون شيعا ودخل أكثرهم بلاد الرّوم داعين إلى دين النّصرانيّة وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك القياصرة ثمّ كتبوا الإنجيل الّذي أنزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم فكتب متّى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانيّة ونقله يوحنّا بن زبدي منهم إلى اللّسان اللّاتينيّ وكتب لوقا منهم إنجيله باللّاتينيّ إلى بعض أكابر الرّوم وكتب يوحنّا بن زبدي منهم إنجيله برومة وكتب بطرس إنجيله باللّاتينيّ ونسبه إلى مرقاص [3] تلميذه واختلفت هذه النّسخ الأربع من الإنجيل مع أنّها ليست كلّها   [1] الجلوة: زفاف العروس وليس لها معنى هنا والأصح أن يقول الجلاء أو الجلو من جلا. [2] أي حسدوا المسيح وكذبوه. [3] وهو مرقص الرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وحيا صرفا بل مشوبة بكلام عيسى عليه السّلام وبكلام الحواريّين وكلّها مواعظ وقصص والأحكام فيها قليلة جدا واجتمع الحواريّون الرّسل لذلك العهد برومة ووضعوا قوانين الملّة النّصرانيّة وصيّروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عدد الكتب الّتي يجب قبولها والعمل بها. فمن شريعة اليهود القديمة التّوراة وهي خمسة أسفار وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة وسفر بنيامين وكتب المقابيّين لابن كريون ثلاثة [1] وكتاب عزرا الإمام وكتاب أوشير [2] وقصّة هامان وكتاب أيّوب الصّدّيق ومزامير داود عليه السّلام وكتب ابنه سليمان عليه السّلام خمسة ونبؤات الأنبياء الكبار والصّغار ستّة عشر وكتاب يشوع بن شارخ [3] وزير سليمان. ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقّاة من الحواريّين نسخ الإنجيل الأربع وكتب القتاليقون سبع رسائل وثامنها الإبريكسيس في قصص الرّسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام وكتاب أبو غالمسيس وفيه رؤيا يوحنّا بن زبدي. واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشّريعة تارة وتعظيم أهلها ثمّ تركها أخرى والتّسلّط عليهم بالقتل والبغي إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمرّوا عليها. وكان صاحب هذا الدّين والمقيم لمراسيمه يسمّونه البطرك وهو رئيس الملّة عندهم وخليفة المسيح فيهم يبعث نوّابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النّصرانيّة ويسمّونه الأسقف أي نائب البطرك ويسمّون الإمام الّذي يقيم الصّلوات ويفتيهم في الدّين بالقسّيس ويسمّون المنقطع الّذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالرّاهب. وأكثر خلواتهم في الصّوامع وكان بطرس الرّسول رأس الحواريّين وكبير   [1] وفي التوراة: سفر المكابيين (بتشديد الميم والكاف) الأول والثاني وليس هناك ثالث. ولم يرد ذكر ابن كريون وربما تكون محرفة عن اسم الرجل الّذي اختصر اسفار المكابيين واسمه (يس الكريوني) نسبة إلى كريان وهي الاسم القديم لمقاطعة برقة في ليبيا. [2] هو سفر استير (التوراة) . [3] هو يشوع بن سيراخ (التوراة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 التّلاميذ برومة يقيم بها دين النّصرانيّة إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة ثمّ قام بخلافته في كرسيّ رومة آريوس [1] وكان مرقاس الإنجيليّ بالإسكندريّة ومصر والمغرب داعيا سبع سنين فقام بعده حنانيّا وتسمّى بالبطرك وهو أوّل البطاركة فيها وجعل معه اثني عشر قسّا على أنّه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه ويختار من المؤمنين واحدا مكان ذلك الثّاني عشر فكان أمر البطاركة إلى القسوس ثمّ لمّا وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيّام قسطنطين لتحرير الحقّ في الدّين واتّفق ثلاثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدّين فكتبوه وسمّوه الإمام وصيّروه أصلا يرجعون إليه وكان فيما كتبوه أنّ البطرك القائم بالدّين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسّة كما قرّره حنانيّا تلميذ مرقاس وأبطلوا ذلك الرّأي وإنّما يقدّم عن بلاء واختبار [2] من أئمّة المؤمنين ورؤسائهم فبقي الأمر كذلك. ثمّ اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدّين وكانت لهم مجتمعات في تقريره ولم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك واتّصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضا تعظيما له فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركيّة هرقل بإسكندريّة فأرادوا أن يميّزوا البطرك عن الأسقف في التّعظيم فدعوه البابا ومعناه أبو الآباء وظهر هذا الاسم أوّل ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تأريخه ثمّ نقلوه إلى صاحب الكرسيّ الأعظم عندهم وهو كرسيّ بطرس الرّسول كما قدّمناه فلم يزل سمة عليه حتّى الآن ثمّ اختلفت النّصارى في دينهم بعد ذلك وفيما يعتقدونه في المسيح   [1] كذا بالأصل وهو خطأ. لأن اريوس قسيس، ولم يتولّ مطلقا كرسي الباباوية ولا ما يقرب منها. وله مذهب خاص يقول بنفي الطبيعة اللاهوتية للمسيح، ولذلك حكم مجمع نيقية بتجريده من ألقابه الكهونية سنة 325 م. [2] وفي بعض النسخ ملاء واختبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وصاروا طوائف وفرقا واستظهروا بملوك النّصرانيّة كلّ على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرّت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفتون إلى غيرها وهم الملكيّة واليعقوبيّة والنّسطوريّة ثمّ اختصّت كلّ فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمّى بالبابا على رأي الملكيّة ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك النّاحية وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبيّة وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك. واختصّ اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد ولا تسمّي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم وضبط هذه اللّفظة بباءين موحّدتين من أسفل والنّطق بها مفخّمة والثّانية مشدّدة ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنّه يحضّهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرّجا من افتراق الكلمة ويتحرّى به العصبيّة الّتي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم ويسمّونه الإنبرذور [1] وحرفه الوسط بين الذّال والظاء المعجمتين ومباشره يضع التّاج على رأسه للتّبرّك فيسمّى المتوّج [2] ، ولعلّه معنى لفظة الإنبرذور وهذا ملخّص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين اللّذين هما البابا والكوهن والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان والقابها اعلم أنّ السّلطان في نفسه ضعيف يحمّل أمرا ثقيلا فلا بدّ له من الاستعانة   [1] المشهور قديما إمبراطور بالطاء المهملة والفرنسيس تقول (أمبرور) ومعناها عندهم ملك الملوك. [2] أي أن البابا يضع التاج على رأس الامبراطور ثم يباركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 بأبناء جنسه وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه [1] فما ظنّك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده وهو محتاج إلى حماية الكافّة من عدوّهم بالمدافعة عنهم وإلى كفّ عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم وكفّ العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم [2] وإلى حملهم على مصالحهم وما تعمّهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقّد المعايش والمكاييل والموازين حذرا من التّطفيف وإلى النّظر في السّكّة بحفظ النّقود الّتي يتعاملون بها من الغشّ وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرّضى بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم فيتحمّل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب قال بعض الأشراف من الحكماء: «لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون عليّ من معاناة قلوب الرّجال» ثمّ إنّ الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النّسب أو التّربية أو الاصطناع القديم للدّولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتمّ المشاكلة في الاستعانة قال تعالى «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً من أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ به أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي 20: 29- 32» [3] وهو إمّا أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجّابه عن النّاس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النّظر في مهمّاتهم [4] أو يدفع النّظر في الملك كلّه [5] ويعوّل على كفايته في ذلك واضطلاعه فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص وقد يتفرّع كلّ واحد منها إلى فروع كثيرة كالقلم يتفرّع إلى قلم الرّسائل والمخاطبات وقلم الصّكوك والإقطاعات وإلى قلم المحاسبات وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش وكالسّيف يتفرّع إلى صاحب الحرب وصاحب الشّرطة   [1] المهنة الخدمة وجمعها مهن بكسر الميم. [2] أبناء السبيل. [3] سورة طه (الآية 29- 32) . [4] معنى الجملة: ان الملك يستعين بسيف هذا في شئون الحرب وقلم ذاك في شئون الكتابة. ورأي آخر في شئون السياسة. [5] الأصح أن يقول «يدفع النظر إليه في الملك كله» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وصاحب البريد وولاية الثّغور ثمّ اعلم أنّ الوظائف السّلطانيّة في هذه الملّة الإسلاميّة مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدّين والدّنيا كما قدّمناه فالأحكام الشّرعيّة متعلّقة بجميعها وموجودة لكلّ واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلّق الحكم الشّرعيّ بجميع أفعال العباد والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسّلطان وشروط تقليدها استبدادا على الخلافة وهو معنى السّلطان أو تعويضا منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السّياسات مطلقا أو مقيّدا وفي موجبات العزل إن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسّلطان وكذا في سائر الوظائف الّتي تحت الملك والسّلطان من وزارة أو جباية أو ولاية لا بدّ للفقيه من النّظر في جميع ذلك كما قدّمناه من انسحاب حكم الخلافة الشّرعيّة في الملّة الإسلاميّة على رتبة الملك والسّلطان إلّا أنّ كلامنا في وظائف الملك والسّلطان ورتبته إنّما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصّها من أحكام الشّرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشّرعيّة مع أنّها مستوفاة في كتب الأحكام السّلطانيّة مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماورديّ وغيره من أعلام الفقهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك وإنّما تكلّمنا في الوظائف الخلافيّة وأفردناها لنميّز بينها وبين الوظائف السّلطانيّة فقط لا لتحقيق أحكامها الشّرعيّة فليس من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنسانيّ والله الموفّق. الوزارة: وهي أمّ الخطط السّلطانيّة والرّتب الملوكيّة لأنّ اسمها يدلّ على مطلق الإعانة فإنّ الوزارة مأخوذة إمّا من المؤازرة وهي المعاونة أو من الوزر وهو الثّقل كأنّه يحمل مع مفاعله أوزاره وأثقاله وهو راجع إلى المعاونة المطلقة وقد كنّا قدّمنا في أوّل الفصل أنّ أحوال السّلطان وتصرّفاته لا تعدو أربعة لأنّها إمّا أن تكون في أمور حماية الكافّة وأسبابها من النّظر في الجدّ والسّلاح والحروب وسائر أمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الحماية والمطالبة وصاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدّول القديمة بالمشرق ولهذا العهد بالمغرب وإمّا أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في أمور جباية المال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضبطة وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمّى بالوزير لهذا العهد بالمشرق وإمّا أن يكون في مدافعة النّاس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه وهذا راجع لصاحب الباب الّذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. وكلّ خطّة أو رتبة من رتب الملك والسّلطان فإليها ترجع. إلّا أنّ الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامّة فيما تحت يد السّلطان من ذلك الصّنف إذ هو يقتضي مباشرة السّلطان دائما ومشاركته في كلّ صنف من أحوال ملكه وأمّا ما كان خاصّا ببعض النّاس أو ببعض الجهات فيكون دون الرّتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصّة أو النّظر في أمر خاصّ كحسبة الطّعام أو النّظر في السّكّة فإنّ هذه كلّها نظر في أحوال خاصّة فيكون صاحبها تبعا لأهل النّظر العامّ وتكون رتبته مرءوسة لأولئك. وما زال الأمر في الدّول قبل الإسلام هكذا حتّى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلّها بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعيّ من المعاونة بالرّأي والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بدّ منه فكان صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهمّاته العامّة والخاصّة ويخصّ مع ذلك أبا بكر بخصوصيّات أخرى حتّى كان العرب الّذين عرفوا الدّول وأحوالها في كسرى وقيصر والنّجاشيّ يسمّون أبا بكر وزيره ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام وكذا عمر مع أبي بكر وعليّ وعثمان مع عمر وأمّا حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأنّ القوم كانوا عربا أميّين لا يحسنون الكتاب [1] والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب [2] أو أفرادا من موالي العجم ممّن يجيده وكان قليلا فيهم   [1] أي الكتابة. [2] أهل الكتاب: أي النصارى واليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وأمّا أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأنّ الأميّة كانت صفتهم الّتي امتازوا بها وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصّة للأمّيّة الّتي كانت فيهم والأمانة العامّة في كتمان القول وتأديته ولم تخرج السّياسة إلى اختياره لأنّ الخلافة إنّما هي دين ليست من السّياسة الملكيّة في شيء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد لخليفة أحسنها لأنّ الكلّ كانوا يعبّرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلّا الخطّ فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عنّ له من يحسنه وأمّا مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظورا بالشّريعة فلم يفعلوه فلمّا انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السّلطان وألقابه كان أوّل شيء بدئ به في الدّولة شأن الباب وسدّه دون الجهور بما كانوا يخشون عن أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعليّ ومعاوية وعمر بن العاصي وغيرهم مع ما في فتحه من ازدحام النّاس عليهم وشغلهم بهم عن المهمّات فاتّخذوا من يقوم لهم بذلك وسمّوه الحاجب وقد جاء أنّ عبد الملك لمّا ولّى حاجبه قال له «قد ولّيتك حجابة بابي إلّا عن ثلاثة المؤذّن للصّلاة فإنّه داعي الله وصاحب البريد فأمر ما جاء به وصاحب الطّعام لئلّا يفسد» ثمّ استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير وبقي أمر الحسبان في الموالي والذّمّيّين واتّخذ للسّجلّات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السّلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه ولم يكن بمثابة الوزير لأنّه إنّما احتيج له من حيث الخطّ والكتاب لا من حيث اللّسان الّذي هو الكلام إذ اللّسان لذلك العهد على حاله لم يفسد فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أميّة فكان النّظر للوزير عامّا في أحوال التّدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النّظر في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهليّة وغير ذلك فلمّا جاءت دولة بني العبّاس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت وعظم شأن الوزير وصارت إليه النّيابة في إنفاذ الحلّ والعقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 تعيّنت مرتبته في الدّولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرّقاب وجعل لها النّظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطّته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النّظر في جمعه وتفريقه وأضيف إليه النّظر فيه ثمّ جعل له النّظر في القلم والتّرسيل لصون أسرار السّلطان ولحفظ البلاغة لما كان اللّسان قد فسد عند الجمهور وجعل الخاتم لسجلّات السّلطان ليحفظها من الذّياع والشّياع [1] ودفع إليه فصار اسم الوزير جامعا لخطّتي السّيف والقلم وسائر معاني الوزارة والمعاونة حتّى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسّلطان أيّام الرّشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدّولة ولم يخرج عنه من الرّتب السّلطانيّة كلّها إلّا الحجابة الّتي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك ثمّ جاء في الدّولة العبّاسيّة شأن الاستبداد على السّلطان [2] وتعاور فيها استبداد الوزارة مرّة والسّلطان أخرى وصار الوزير إذا استبدّ محتاجا إلى استنابة الخليفة إيّاه لذلك لتصحّ الأحكام الشّرعيّة وتجيء على حالها كما تقدّمت فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ وهي حال ما يكون السّلطان قائما على نفسه وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبدّا عليه ثمّ استمرّ الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطّل رسم الخلافة ولم يكن لأولئك المتغلّبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللّقب لأنّهم خول لهم فتسمّوا بالإمارة والسّلطان وكان المستبدّ على الدّولة يسمّى أمير الأمراء أو بالسّلطان إلى ما يحلّيه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولّاها للخليفة في خاصّته ولم يزل هذا الشّأن عندهم إلى آخر دولتهم وفسد اللّسان خلال ذلك كلّه وصارت صناعة ينتحلها بعض النّاس فامتهنت وترفّع الوزراء عنها لذلك ولأنّهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخيّر لها من سائر الطّبقات واختصّت به وصارت خادمة للوزير واختصّ اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها ويده مع ذلك عالية   [1] الذياع والشياع: ليسا من مصادر ذاع وشاع والأصح أن يقول: الذيوع والشيوع. [2] أي الخليفة كما يتضح من العبارة اللاحقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 على أهل الرّتب وأمره نافذ في الكلّ إمّا نيابة أو استبدادا واستمرّ الأمر على هذا ثمّ جاءت دولة التّرك آخرا بمصر فرأوا أنّ الوزارة قد ابتذلت بترفّع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور ونظره مع ذلك متعقّب بنظر الأمير فصارت مرءوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرّتبة العالية في الدّولة عن اسم الوزارة وصار صاحب الأحكام والنّظر في الجند يسمّى عندهم بالنّائب لهذا العهد وبقي اسم الحاجب في مدلوله واختصّ اسم الوزير عندهم بالنّظر في الجباية. وأمّا دولة بني أميّة بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أوّل الدّولة ثمّ قسموا خطّته أصنافا وأفردوا لكلّ صنف وزيرا فجعلوا لحسبان المال وزيرا وللتّرسيل وزيرا وللنّظر في حوائج المتظلّمين وزيرا وللنّظر في أحوال أهل الثّغور وزيرا وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم وينفّذون أمر السّلطان هناك كلّ فيما جعل له وأفرد للتّردّد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السّلطان في كلّ وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب ولم يزل الشّأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطّة الحاجب ومرتبته على سائر الرّتب حتّى صار ملوك الطّوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمّى الحاجب كما نذكره ثمّ جاءت دولة الشّيعة بإفريقيّة والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أوّلا وتنقيح أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم، ولمّا جاءت دولة الموحّدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أوّلا للبداوة ثمّ صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب وكان اسم الوزير لمن يحجب السّلطان في مجلسه ويقف بالوفود والدّاخلين على السّلطان عند الحدود في تحيّتهم وخطابهم والآداب الّتي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطّة الحجابة عنه ما شاءوا ولم يزل الشّأن ذلك إلى هذا العهد وأمّا في دولة التّرك بالمشرق فيسمّون هذا الّذي يقف بالنّاس على حدود الآداب في اللّقاء والتّحيّة في مجالس السّلطان والتّقدّم بالوفود بين يديه الدّويدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ويضيفون إليه استتباع كاتب السّرّ وأصحاب البريد المتصرّفين في حاجات السّلطان بالقاصية وبالحاضرة وحالهم على ذلك لهذا العهد والله مولّي الأمور لمن يشاء. الحجابة: قد قدّمنا أنّ هذا اللّقب كان مخصوصا في الدّولة الأمويّة والعبّاسيّة بمن يحجب السّلطان عن العامّة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته وكانت هذه منزّلة يوما عن الخطط مرءوسة لها إذ الوزير متصرّف فيها بما يراه وهكذا كانت سائر أيّام بني العبّاس وإلى هذا العهد فهي بمصر مرءوسة لصاحب الخطّة العليا المسمّى بالنّائب. وأمّا في الدّولة الأمويّة بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السّلطان عن الخاصّة والعامّة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد وغيره من حجّابهم ثمّ لمّا جاء الاستبداد على الدّولة اختصّ المستبدّ باسم الحجابة لشرفها فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك ولمّا بدوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطّوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدّونه شرفا لهم وكان أعظمهم ملكا بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لا بدّ له من ذكر الحاجب وذي الوزارتين يعنون به السّيف والقلم ويدلّون بالحجابة على حجابة السّلطان عن العامّة والخاصّة وبذي الوزارتين عن جمعه لخطّتي السّيف والقلم. ثمّ لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة الّتي كانت فيهم وربّما يوجد في دولة العبيديّين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلّا أنّه قليل. ولمّا جاءت دولة الموحّدين لم تستمكن فيها الحضارة الدّاعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلّا آخرا فلم يكن عندهم من الرّتب إلّا الوزير فكانوا أوّلا يخصّون بهذا الاسم الكاتب المتصرّف المشارك للسّلطان في خاصّ أمره كابن عطيّة وعبد السّلام الكوميّ وكان له مع ذلك النّظر في الحساب والأشغال الماليّة ثمّ صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الدّولة من الموحّدين كابن جامع وغيره ولم يكن اسم الحاجب معروفا في دولتهم يومئذ. وأمّا بنو أبي حفص بإفريقيّة فكانت الرّئاسة في دولتهم أوّلا والتّقدّم لوزير والرّأي والمشورة وكان يخصّ باسم شيخ الموحّدين وكان له النّظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب واختصّ الحسبان والدّيوان برتبة أخرى ويسمّى متولّيها بصاحب الأشغال ينظر فيها النّظر المطلق في الدّخل والخرج ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التّفريط وكان من شرطه أن يكون من الموحّدين واختصّ عندهم القلم أيضا بمن يجيد التّرسيل ويؤتمن على الأسرار لأنّ الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا التّرسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النّسب واحتاج السّلطان لاتّساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاصّ بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والإصطبلات وغيرهما وحصر الذّخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصّوه باسم الحاجب وربّما أضافوا إليه كتابة العلامة على السّجلّات إذا اتّفق أنّه يحسن صناعة الكتابة وربما جعلوه لغيره واستمرّ الأمر على ذلك وحجب السّلطان نفسه عن النّاس فصار هذا الحاجب واسطة بين النّاس وبين أهل الرّتب كلّهم ثمّ جمع له آخر الدّولة السّيف والحرب ثمّ الرأي والمشورة فصارت الخطّة أرفع الرّتب وأوعبها [1] للخطط ثمّ جاء الاستبداد والحجر مدّة من بعد السّلطان الثّاني عشر منهم ثمّ استبدّ بعد ذلك حفيده السّلطان أبو العبّاس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطّة الحجابة الّتي كانت سلّما إليه وباشر أموره كلّها بنفسه من غير استعانة بأحد والأمر على ذلك لهذا العهد. وأمّا دولة زناتة بالمغرب وأعظمها دولة بني مرين فلا أثر لاسم الحاجب عندهم وأمّا رئاسة الحرب والعساكر فهي للوزير ورتبة القلم في الحسبان والرّسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها وإن اختصّت ببعض البيوت المصطنعين في   [1] بمعنى استيعابها للخطط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 دولتهم وقد تجمع عندهم وقد تفرّق وأمّا باب السّلطان وحجبه عن العامّة فهي رتبة عندهم فيسمّى صاحبها عندهم بالمزوار ومعناه المقدّم على الجنادرة المتصرّفين بباب السّلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك فالباب له وأخذ النّاس بالوقوف عند الحدود في دار العامّة راجع إليه فكأنّها وزارة صغرى. وأمّا دولة بني عبد الوادّ فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها وإنّما يخصّون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفّذ الخاصّ بالسّلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص وقد يجمعون له الحسبان والسّجلّ كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدّولة بما كانوا في تبعتها وقائمين بدعوتها منذ أوّل أمرهم. وأمّا أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ حال السّلطان وسائر الأمور الماليّة يسمّونه بالوكيل وأمّا الوزير فكالوزير إلّا أنّه يجمع له التّرسيل والسّلطان عندهم يضع خطّه على السّجلّات كلّها فليس هناك خطّة العلامة كما لغيرهم من الدّول. وأمّا دولة التّرك بمصر فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل الشّوكة وهم التّرك ينفّذ الأحكام بين النّاس في المدينة وهم متعدّدون وهذه الوظيفة عندهم تحت وظيفة النّيابة الّتي لها الحكم في أهل الدّولة وفي العامّة على الإطلاق وللنّائب التّولية والعزل في بعض الوظائف على الأحيان ويقطع القليل من الأرزاق ويبتها وتنفّذ أوامره كما تنفّذ المراسم السّلطانيّة وكان له النّيابة المطلقة عن السّلطان وللحجّاب الحكم فقط في طبقات العامّة والجند عند التّرافع إليهم وإجبار من أبى الانقياد للحكم وطورهم تحت طور النّيابة والوزير في دولة التّرك هو صاحب جباية الأموال في الدّولة على اختلاف أصنافها من خراج أو مكس أو جزية ثمّ في تصريفها في الإنفاقات السّلطانيّة أو الجرايات المقدّرة وله مع ذلك التّولية والعزل في سائر العمّال المباشرين لهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الجباية والتّنفيذ على اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة وقد يولّيها السّلطان بعض الأحيان لأهل الشّوكة من رجالات التّرك أو أبنائهم على حسب الدّاعية لذلك والله مدبّر الأمور ومصرّفها بحكمته لا إله إلّا هو ربّ الأوّلين والآخرين ديوان الأعمال والجبايات اعلم أنّ هذه الوظيفة من الوظائف الضّروريّة للملك وهي القيام على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدّولة في الدّخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إبّاناتها والرّجوع في ذلك إلى القوانين الّتي يرتّبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدّولة وهي كلّها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدّخل والخرج مبنيّ على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلّا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمّى ذلك الكتاب بالدّيوان وكذلك مكان جلوس العمّال المباشرين لها. ويقال إنّ أصل هذه التّسمية أنّ كسرى نظر يوما إلى كتّاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنّهم يحادثون فقال ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمّي موضعهم بذلك وحذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفا فقيل ديوان ثمّ نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمّن للقوانين والحسبانات وقيل إنّه اسم للشّياطين بالفارسيّة سمّي الكتّاب بذلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجليّ منها والخفيّ وجمعهم لما شذّ وتفرّق ثمّ نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال وعلى هذا فيتناول اسم الدّيوان كتاب الرّسائل ومكان جلوسه بباب السّلطان على ما يأتي بعد وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال وقد يفرد كلّ صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدّول النّظر في العساكر وإقطاعاتهم وحسبان أعطياتهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدّولة وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قرّره أوّلوها. واعلم أنّ هذه الوظيفة إنّما تحدث في الدّول عند تمكّن الغلب والاستيلاء والنّظر في أعطاف الملك وفنون التّمهيد. وأوّل من وضع الدّيوان في الدّولة الإسلاميّة عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالدّيوان وقال: «رأيت ملوك الشّام يدوّنون» فقبل منه عمر وقيل بل أشار عليه به الهرمزان لمّا رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم فإنّ من تخلّف أخلّ بمكانه وإنّما يضبط ذلك الكتاب فأثبت لهم ديوانا وسأل عمر عن اسم الدّيوان فعبّر له ولمّا اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتّاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلاميّة على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما بعدها الأقرب فالأقرب هكذا كان ابتداء ديوان الجيش وروى الزّهريّ بن سعيد بن المسيّب أنّ ذلك كان في المحرّم سنة عشرين وأمّا ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسيّة وديوان الشّام بالرّوميّة وكتّاب الدّواوين من أهل العهد من الفريقين ولمّا جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكا وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأميّة إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتّاب والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد والي الأردنّ لعهده أن ينقل ديوان الشّام إلى العربيّة فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتّاب الرّوم: «اطلبوا العيش في غير هذه الصّناعة فقد قطعها الله عنكم» . وأمّا ديوان العراق فأمر الحجّاج كاتبه صالح بن عبد الرّحمن وكان يكتب بالعربيّة والفارسيّة ولقّن ذلك عن زادان فروخ كاتب الحجّاج قبله ولمّا قتل زادان في حرب عبد الرّحمن بن الأشعث استخلف الحجّاج صالحا هذا مكانه وأمره أن ينقل الدّيوان من الفارسيّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 إلى العربيّة ففعل ورغم لذلك كتّاب الفرس وكان عبد الحميد بن يحيى يقول للَّه درّ صالح ما أعظم منّته على الكتّاب ثمّ جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العبّاس مضافة إلى من كان له النّظر فيه كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدّولة. وأمّا ما يتعلّق بهذه الوظيفة من الأحكام الشّرعيّة ممّا يختصّ بالجيش أو بيت المال في الدّخل والخرج وتمييز النّواحي بالصلح والعنوة وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون وشروط النّاظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السّلطانيّة وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم فيها من حيث طبيعة الملك الّذي نحن بصدد الكلام فيه وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأنّ الملك لا بدّ له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السّيف وأمر القلم وأمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رئاسة الملك وكذلك كان الأمر في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف بعدهم وأمّا في دولة الموحّدين فكان صاحبها إنّما يكون من الموحّدين يستقلّ بالنّظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقّب نظر الولاة والعمّال فيها ثمّ تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها وكان يعرف بصاحب الأشغال وكان ربّما يليها في الجهات غير الموحّدين ممّن يحسنها. ولمّا استبدّ بنو أبي حفص بإفريقيّة وكان شان الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك وجعلوا لهم النّظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس ودالوا فيها بينهم وبين الموحّدين ثمّ استقلّ بها أهل الحسبان والكتّاب وخرجت عن الموحّدين ثمّ لمّا استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كلّ شأن من شئون الدّولة تعطّل هذا الرّسم وصار صاحبه مرءوسا للحاجب وأصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرّئاسة الّتي كانت له في الدّولة. وأمّا دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرّتبة هو الّذي يصحّح الحسبانات كلّها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقّب بنظر السّلطان أو الوزير وخطّه معتبر في صحّة الحسبان في الخارج والعطاء هذه أصول الرّتب والخطط السّلطانيّة وهي الرّتب العالية الّتي هي عامّة النّظر ومباشرة للسّلطان. وأمّا هذه الرّتبة في دولة التّرك فمتنوّعة وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش وصاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو النّاظر في ديوان الجباية العامّة للدّولة وهو أعلى رتب النّاظرين في الأموال لأنّ النّظر في الأموال عندهم يتنوّع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتّساع الأموال والجبايات عن أن يستقلّ بضبطها الواحد من الرّجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعيّن للنّظر العامّ منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السّلطان وأهل عصبيّته وأرباب السّيوف في الدّولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمّى عندهم أستاذ الدّولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدّولة من الجند وأرباب السّيوف ويتبع هذه الخطّة خطط عندهم أخرى كلّها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النّظر إلى أمور خاصّة مثل ناظر الخاصّ وهو المباشر لأموال السّلطان الخاصّة به من إقطاعاته أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية ممّا ليس من أموال المسلمين العامّة وهو تحت يد الأمير أستاذ الدّار وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لأستاذ الدّار نظر عليه ونظر الخاصّ تحت يد الخازن لأموال السّلطان من مماليكه المسمّى خازن الدّار لاختصاص وظيفتهما بمال السّلطان الخاصّ. هذا بيان هذه الخطّة بدولة التّرك بالمشرق بعد ما قدّمناه من أمرها بالمغرب والله مصرّف الأمور لا ربّ غيره. ديوان الرسائل والكتابة هذه الوظيفة غير ضروريّة في الملك لاستغناء كثير من الدّول عنها رأسا كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 في الدّول العريقة في البداوة الّتي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصّنائع وإنّما أكّد الحاجة إليها في الدّولة الإسلاميّة شأن اللّسان العربيّ والبلاغة في العبارة عن المقاصد فصار الكتّاب يؤدّي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللّسانيّة في الأكثر وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان للخلفاء وأمراء الصّحابة بالشّام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم فلمّا فسد اللّسان وصار صناعة اختصّ بمن يحسنه وكانت عند بني العبّاس رفيعة وكان الكاتب يصدر السّجلّات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السّلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السّلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمّى طين الختم ويطبع به على طرفي السّجلّ عند طيّه وإلصاقه ثمّ صارت السّجلّات من بعدهم تصدّر باسم السّلطان ويضع الكاتب فيها علامته أوّلا أو آخرا على حسب الاختيار في محلّها وفي لفظها ثمّ قد تنزل هذه الخطّة بارتفاع المكان عند السّلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدّولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرّئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرّئيس كما وقع آخر الدّولة الحفصيّة لمّا ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التّفويض ثمّ الاستبداد صار حكم العلامة الّتي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة إتباعا لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخطّ يصنعه ويتخيّر له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة وقد يختصّ السّلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبدّا بأمره قائما على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته، ومن خطط الكتابة التّوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السّلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها متلقّاة من السّلطان بأوجز لفظ وأبلغه فإمّا أن تصدر كذلك وإمّا أن يحذو الكاتب على مثالها في سجلّ يكون بيد صاحب القصّة ويحتاج الموقّع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 توقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقّع في القصص بين يدي الرّشيد ويرمي بالقصّة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتّى قيل إنّها كانت تباع كلّ قصّة منها بدينار وهكذا كان شأن الدّول، واعلم أنّ صاحب هذه الخطّة لا بدّ من أن يتخيّر أرفع طبقات النّاس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنّه معرّض للنّظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب والتّخلّق بالفضائل مع ما يضطرّ إليه في التّرسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها وقد تكون الرّتبة في بعض الدّول مستندة إلى أرباب السّيوف لما يقتضيه طبع الدّولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبيّة فيختصّ السّلطان أهل عصبيّته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلّد المال والسّيف والكتابة منهم فأمّا رتبة السّيف فتستغني عن معاناة العلم وأمّا المال والكتابة فيضطرّ إلى ذلك البلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطّبقة ما دعت إليه الضّرورة ويقلّدونه إلّا أنّه لا تكون يد آخر من أهل العصبيّة غالبة على يده ويكون نظره منصرفا عن نظره كما هو في دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فإنّ الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الإنشاء إلّا أنّه تحت يد أمير من أهل عصبيّة السّلطان يعرف بالدّويدار وتعويل السّلطان ووثوقه به واستنامته في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها. وأمّا الشّروط المعتبرة في صاحب هذه الرّتبة الّتي يلاحظها السّلطان في اختياره وانتقائه من أصناف النّاس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتّاب وهي: «أمّا بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفّقكم وأرشدكم فإنّ الله عزّ وجلّ جعل النّاس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرّمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 سواء وصرّفهم في صنوف الصّناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتّاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرّزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلّا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم الّتي بها يسمعون وأبصارهم الّتي بها يبصرون وألسنتهم الّتي بها ينطقون وأيديهم الّتي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النّعمة عليكم وليس أحد من أهل الصّناعات كلّها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيّها الكتّاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإنّ الكاتب يحتاج في نفسه ويحتاج منه صاحبه الّذي يثق به في مهمّات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم مقداما في موضع الإقدام محجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيّا عند الشّدائد عالما بما يأتي من النّوازل يضع الأمور مواضعها والطّوارق في أماكنها قد نظر في كلّ فنّ من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعدّ لكلّ أمر عدّته وعتاده ويهيّئ لكلّ وجه هيئته وعادته فتنافسوا يا معشر الكتّاب في صنوف الآداب وتفقّهوا في الدّين وابدءوا بعلم كتاب الله عزّ وجلّ والفرائض ثمّ العربيّة فإنّها ثقاف ألسنتكم ثمّ أجيدوا الخطّ فإنّه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإنّ ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النّظر في الحساب فإنّه قوام كتّاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيّها ودنيّها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنّها مذلّة للرّقاب مفسدة للكتّاب ونزّهوا صناعتكم عن الدّناءة واربأوا بأنفسكم عن السّعاية والنّميمة وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فيه أهل الجهالات وإيّاكم والكبر والسّخف والعظمة فإنّها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابّوا في الله عزّ وجلّ في صناعتكم وتواصوا عليها بالّذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنّبل من سلفكم وإن نبا الزّمان برجل منكم فاعطفوا عليه وآسوه حتّى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظّموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرّجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشّغل محمدة فلا يصفها إلّا إلى صاحبه وإن عرضت مذمّة فليحملها هو من دونه وليحذر السّقطة والزّلّة والملل عند تغيّر الحال فإنّ العيب إليكم معشر الكتّاب أسرع منه إلى القرّاء وهو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أنّ الرّجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقّه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سرّه وتدبير أمره ما هو جزاء لحقّه ويصدّق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك وفّقكم الله من أنفسكم في حالة الرّخاء والشّدّة والحرمان والمؤاساة والإحسان والسّرّاء والضّرّاء فنعمت السّيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصّناعة الشّريفة وإذا ولّي الرّجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عزّ وجلّ وليؤثر طاعته وليكن على الضّعيف رفيقا وللمظلوم منصفا «فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أرفقهم بعياله» ثمّ ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفّرا وللبلاد عامرا وللرّعيّة متألّفا وعن أذاهم متخلّفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلّات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عمّا يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أنّ سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا [1] لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوبا [2] اتّقاها من بين يديها وإن خاف   [1] كثيرة الرفس. [2] كثيرة رفع اليدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 منها شرودا توقّاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها [1] فإن استمرّت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السّياسة دلائل لمن ساس النّاس وعاملهم وجرّبهم وداخلهم والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من النّاس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرّفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة الّتي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلّا بقدر ما يصيّرها إليه صاحبها الرّاكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النّظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الرّويّة والفكر تأمنوا بإذن الله ممّن صحبتموه النّبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشّفقة إن شاء الله. ولا يجاوزنّ الرّجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقّه فإنّكم مع ما فضّلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التّقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التّضييع والتّبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كلّ ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السّرف وسوء عاقبة التّرف فإنّهما يعقبان الفقر ويذلّان الرّقاب ويفضحان أهلهما وسيّما الكتّاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلّوا على مؤتنف [2] أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثمّ اسلكوا من مسالك التّدبير أوضحها محجّة وأصدقها حجّة وأحمدها عاقبة واعلموا أنّ للتّدبير آفة متلفة وهو الوصف الشّاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه ورويّته فليقصد الرّجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإنّ ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتّشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضرّ ببدنه وعقله وأدبه فإنّه إن ظنّ منكم ظانّ أو قال قائل إنّ الّذي برز من جميل صنعته وقوّة حركته إنّما هو   [1] بمعنى الضرب. [2] الجديد الّذي لم تسبق فيه تجربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرّض بظنّه أو مقالته إلى أن يكله الله عزّ وجلّ إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمّله غير خاف ولا يقل أحد منكم إنّه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التّدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإنّ أعقل الرّجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أنّ أصحابه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كلّ واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جلّ ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر [1] على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيرة وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتّواضع لعظمته والتّذلّل لعزّته والتّحدّث بنعمته وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النّصيحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرّة كلامه بعد الّذي فيه من ذكر الله عزّ وجلّ فلذلك جعلته آخره وتمّمته به تولّانا الله وإيّاكم يا معشر الطّلبة والكتبة بما يتولّى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإنّ ذلك إليه وبيده والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» . الشرطة: ويسمّى صاحبها لهذا العهد بإفريقيّة الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة التّرك الوالي. وهي وظيفة مرءوسة لصاحب السّيف في الدّولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان وكان أصل وضعها في الدّولة العبّاسيّة لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أوّلا ثمّ الحدود بعد استيفائها فإنّ التّهم الّتي تعرض في الجرائم لا نظر للشّرع إلّا في استيفاء حدودها وللسّياسة النّظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفّت به القرائن لما توجبه المصلحة العامّة في ذلك فكان الّذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزّه عنه القاضي يسمّى صاحب الشّرطة وربّما جعلوا إليه النّظر في الحدود والدّماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي ونزّهوا هذه المرتبة وقلّدوها كبار القوّاد وعظماء الخاصّة من مواليهم ولم تكن عامّة التّنفيذ في   [1] يتعاظم أو يفاخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 طبقات النّاس إنّما كان حكمهم على الدّهماء وأهل الرّيب والضّرب على أيدي الرّعاع والفجرة. ثمّ عظمت نباهتها في دولة بني أميّة بالأندلس ونوّعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى وجعل حكم الكبرى على الخاصّة والدّهماء وجعل له الحكم على أهل المراتب السّلطانيّة والضّرب على أيديهم في الظّلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه وجعل صاحب الصّغرى مخصوصا بالعامّة ونصب لصاحب الكبرى كرسيّ بباب دار السّلطان ورجال يتبوّءون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلّا في تصريفه وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدّولة حتّى كانت ترشيحا للوزارة والحجابة. وأمّا في دولة الموحّدين بالمغرب فكان لها حظّ من التّنويه وإن لم يجعلوها عامّة وكان لا يليها إلّا رجالات الموحّدين وكبراؤهم ولم يكن له التّحكّم على أهل المراتب السّلطانيّة ثمّ فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحّدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين. وأمّا في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة التّرك بالمشرق في رجالات التّرك أو أعقاب أهل الدّولة قبلهم من التّرك يتخيّرونهم لها في النّظر بما يظهر منهم من الصّلابة والمضاء في الأحكام لقطع موادّ الفساد وحسم أبواب الدّعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشّرعيّة والسّياسيّة كما تقتضيه رعاية المصالح العامّة في المدينة والله مقلّب اللّيل والنّهار وهو العزيز الجبّار والله تعالى أعلم. قيادة الأساطيل: وهي من مراتب الدّولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرءوسة لصاحب السّيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال ويسمّى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللّام منقولا من لغة الإفرنجة فإنّه اسمها في اصطلاح لغتهم وإنّما اختصّت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنّهما جميعا على ضفّة البحر الرّوميّ من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبيّة بلاد البربر كلّهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 من سبتة إلى الشّام وعلى عدوته الشّماليّة بلاد الأندلس والإفرنجة والصّقالبة والرّوم إلى بلاد الشّام أيضا ويسمّى البحر الرّوميّ والبحر الشّاميّ نسبة إلى أهل عدوته والسّاكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمّة من أمم البحار فقد كانت الرّوم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشّماليّة من هذا البحر الرّوميّ وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السّفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ولمّا أسفّ [1] من أسفّ منهم إلى ملك العدوة الجنوبيّة مثل الرّوم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا [2] في الأساطيل وملكوها وتغلّبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنّة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة وكان صاحب قرطاجنّة من قبلهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر السّاكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث ولمّا ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن صف لي البحر» فكتب إليه: «إنّ البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود» فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب إلّا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزديّ سيّد بجيلة لمّا أغزاه عمّان فبلغه غزوة في البحر فأنكر عليه وعنّفه أنّه ركب البحر للغزو ولم يزل الشّأن ذلك حتّى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه والرّوم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التّقلّب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدّارية بثقافته فلمّا استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرّب كلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النّواتية في حاجاتهم البحريّة أمما وتكرّرت ممارستهم للبحر   [1] دنا. [2] قطعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشئوا السّفن فيه والشّواني وشحنوا الأساطيل بالرّجال والسّلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشّام وإفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية باتّخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحريّة حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلّيّة أيّام زيادة الله الأوّل ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرّة أيضا في أيّامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلّيّة أيّام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديّين والأمويّين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السّواحل بالإفساد والتّخريب. وانتهى أسطول الأندلس أيّام عبد الرّحمن النّاصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريبا منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس ومرفأها للحطّ والإقلاع بجاية والمرية وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كلّ بلد تتّخذ فيه السّفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النّواتية يدبّر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبّر أمر جريته بالرّيح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطانيّ مهمّ عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السّلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلّهم إليه ثمّ يسرّحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة وكان المسلمون لعهدة الدّولة الإسلاميّة قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النّصرانيّة قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيّامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الجزائر المنقطعة عن السّواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلّيّة وقوصرّة ومالطة وأقريطش وقبرس وسائر ممالك الرّوم والإفرنج وكان أبو القاسم الشّيعيّ وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهديّة جزيرة جنوة فتنقلب بالظّفر والغنيمة وافتتح مجاهد العامريّ صاحب دانية من ملوك الطّوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النّصارى لوقتها والمسلمون خلال ذلك كلّه قد تغلّبوا على كثير من لجّة هذا البحر وصارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلاميّة تجيز البحر في الأساطيل من صقلّيّة إلى البرّ الكبير المقابل لها من العدوة الشّماليّة فتوقع بملوك الأفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيّام بني الحسين ملوك صقلّيّة القائمين فيها بدعوة العبيديّين وانحازت أمم النّصرانيّة بأساطيلهم إلى الجانب الشّماليّ الشّرقيّ منه من سواحل الإفرنجة والصّقالبة وجزائر الرّومانيّة لا يعدونها وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدّة وعددا واختلفت في طرقه سلما وحربا فلم تظهر للنّصرانيّة فيه ألواح حتّى إذا أدرك الدّولة العبيديّة والأمويّة الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مدّ النّصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشّرقيّة مثل صقلّيّة وإقريطش ومالطة فملكوها ثمّ ألحّوا على سواحل الشّام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكّا واستولوا على جميع الثّغور بسواحل الشّام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثمّ على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثمّ ملكوا المهدية مقرّ ملوك العبيديّين من يد أعقاب بلكّين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرّة بهذا البحر وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشّام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدّولة العبيديّة عناية تجاوزت الحدّ كما هو معروف في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقيّة والمغرب فصارت مختصّة بها وكان الجانب الغربيّ من هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوّة لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا. ولمّا استفحلت دولة الموحّدين في المائة السّادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطّة هذا الأسطول على أتمّ ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصّقلّيّ أصله من صدّ غيار الموطّنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النّصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلّيّة واستكفاه ثمّ هلك، وولي ابنه فأسخطه ببعض النّزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السّيّد بها من بني عبد المؤمن وأجاز مراكش فتلقّاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرّة والكرامة وأجزل الصّلة وقلّده أمر أساطيله فجلّى في جهاد أمم النّصرانيّة وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحّدين. وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه ولمّا قام صلاح الدّين يوسف بن أيّوب ملك مصر والشّام لعهده باسترجاع ثغور الشّام من يد أمم النّصرانيّة وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثّغور من كلّ ناحية قريبة لبيت المقدس الّذي كانوا قد استولوا عليه فأمدّوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندريّة لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشّرقيّ من البحريّة وتعدّد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدّين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحّدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر، وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من أمداد النّصرانيّة بثغور الشّام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيسانيّ يقول في افتتاحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 «فتح الله لسيّدنا أبواب المناهج والميامن» حسبما نقله العماد الأصفهانيّ في كتاب الفتح القيسيّ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرّها في نفسه وحملهم على مناهج البرّ والكرامة وردّهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنّصرانيّة في الجانب الشّرقيّ من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدّول بمصر والشّام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحريّة والاستعداد منها للدّولة ولمّا هلك أبو يعقوب المنصور واعتلّت دولة الموحّدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجئوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر الّتي بالجانب الغربيّ من البحر الرّوميّ قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدّت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوّة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السّلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإنّ أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدّة النّصرانيّة وعديدهم ثمّ تراجعت عن ذلك قوّة المسلمين في الأساطيل لضعف الدّولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدويّة بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسيّة ورجع النّصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدّربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجّته على أعواده وصار المسلمون فيه كالأجانب إلّا قليلا من أهل البلاد السّاحليّة لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار والأعوان أو قلّة من الدّولة تستجيش لهم أعوانا وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكا وبقيت الرّتبة لهذا العهد في الدّولة الغربيّة محفوظة والرّسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والرّكوب معهودا لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السّلطانيّة في البلاد البحريّة والمسلمون يستهبّون الرّيح على الكفر وأهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنّه لا بدّ للمسلمين من الكرّة على النّصرانيّة وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وأنّ ذلك يكون في الأساطيل والله وليّ المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الفصل الخامس والثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة وكذلك في آخر الدّولة حيث تضعف عصبيّتهما كما ذكرناه ويقلّ أهلها بما ينالهم من الهرم الّذي قدّمناه فتحتاج الدّولة إلى الاستظهار بأرباب السّيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدّولة والمدافعة عنها كما كان الشّأن أوّل الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزيّة على القلم في الحالتين ويكون أرباب السّيف حينئذ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعا وأمّا في وسط الدّولة فيستغني صاحبها بعض الشّيء عن السّيف لأنّه قد تمهّد أمره ولم يبق همّه إلّا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضّبط ومباهاة الدّول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السّيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلّا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سدّ فرجة [1] وممّا سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السّلطان مجلسا وأكثر إليه تردّدا وفي خلواته نجيّا لأنّه حينئذ آلته الّتي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنّظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السّيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السّلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم أمّا بعد فإنّه ممّا حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدّهماء سنّة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] الفرجة: ج فرج: كل منفرج بين شيئين وهنا بمعنى خلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به اعلم أنّ للسّلطان شارات وأحوالا تقتضيها الأبّهة والبذخ فيختصّ بها ويتميّز بانتحالها عن الرّعيّة والبطانة وسائر الرّؤساء في دولته فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 12: 76» . الآلة: فمن شارات الملك اتّخاذ الآلة من نشر الألوية والرّايات وقرع الطّبول والنّفخ في الأبواق والقرون وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السّياسة أنّ السّرّ في ذلك إرهاب العدوّ في الحرب فإنّ الأصوات الهائلة لها تأثير في النّفوس بالرّوعة ولعمري إنّه أمر وجدانيّ في مواطن الحرب يجده كلّ أحد من نفسه وهذا السّبب الّذي ذكره أرسطو إن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات. وأمّا الحقّ في ذلك فهو أنّ النّفس عند سماع النّغم والأصوات يدركها الفرح والطّرب بلا شكّ فيصيب مزاج الرّوح نشوة يستسهل بها الصّعب ويستميت في ذلك الوجه الّذي هو فيه وهذا موجود حتّى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصّفير والصّريح كما علمت ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتّخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقيّة [1] لا طبلا ولا بوقا فيحدق المغنّون بالسّلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحرّكون نفوس الشّجعان بضربهم إلى الاستماتة ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنّى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كلّ قرن إلى قرنه وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدّم الشّاعر عندهم أمام الصّفوف ويتغنّى فيحرّك بغنائه الجبال الرّواسي ويبعث على   [1] قوله موسيقية وفي نسخة الموسيقارية وهي صحيحة لأن الموسيقى بكسر القاف بين التحتيتين اسم للنغم والألحان وتوقيعها ويقال فيها موسيقير ويقال لضارب الآلة موسيقار انظر أول سفينة الشيخ محمد شهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 الاستماتة من لا يظنّ بها ويسمّون ذلك الغناء تاصوكايت وأصله كلّه فرح يحدث في النّفس فتنبعث عنه الشّجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح والله أعلم وأمّا تكثير الرّايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التّهويل لا أكثر وربّما تحدث في النّفوس من التّهويل زيادة في الاقدام وأحوال النّفوس وتلويناتها غريبة والله الخلّاق العليم. ثمّ إنّ الملوك والدّول يختلفون في اتّخاذ هذه الشّارات فمنهم مكثر ومنهم مقلّل بحسب اتّساع الدّولة وعظمها فأمّا الرّايات فإنّها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده من الخلفاء. وأمّا قرع الطّبول والنّفخ في الأبواق فكان المسلمون لأوّل الملّة متجافين عنه تنزّها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله واحتقارا لأبّهته الّتي ليست من الحقّ في شيء حتّى إذا انقلبت الخلافة ملكا وتبجّحوا بزهرة الدّنيا ونعيمها ولا بسهم الموالي من الفرس والرّوم أهل الدّول السّالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والتّرف فكان ممّا استحسنوه اتّخاذ الآلة فأخذوها وأذنوا لعمّالهم في اتّخاذها تنويها بالملك وأهله فكثيرا ما كان العامل صاحب الثّغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العبّاسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرّايات والآلات فلا يميّز بين موكب العامل والخليفة إلّا بكثرة الألوية وقلّتها أو بما اختصّ به الخليفة من الألوان لرأيته كالسّواد في رايات بني العبّاس فإنّ راياتهم كانت سودا حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بني أميّة في قتلهم ولذلك سمّوا المسوّدة، ولمّا افترق أمر الهاشميّين وخرج الطّالبيّون على العبّاسيين من كلّ جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتّخذوا الرّايات بيضا وسمّوا المبيضة لذلك سائر أيّام العبيديّين ومن خرج من الطّالبيّين في ذلك العهد بالمشرق كالدّاعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرّافضة من غيرهم كالقرامطة. ولمّا نزع المأمون عن لبس السّواد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء. وأمّا الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حدّ وقد كانت آلة العبيديين لمّا خرج العزيز إلى فتح الشّام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق. وأمّا ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصّوا بلون واحد بل وشّوها بالذّهب واتّخذوها من الحرير الخالص ملوّنة واستمرّوا على الإذن فيها لعمّالهم حتّى إذا جاءت دولة الموحّدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطّبول والبنود على السّلطان وحظروها على من سواه من عمّاله وجعلوا لها موكبا خاصّا يتبع أثر السّلطان في مسيره يسمّى السّاقة وهم فيه بين مكثر ومقلّ باختلاف مذاهب الدّول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبرّكا بالسّبعة كما هو في دولة الموحّدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة وقد بلغت في أيّام السّلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطّبول ومائة من البنود ملوّنة بالحرير منسوجة بالذّهب ما بين كبير وصغير ويأذنون للولاة والعمّال والقوّاد في اتّخاذ راية واحدة صغيرة من الكتّان بيضاء وطبل صغير أيّام الحرب لا يتجاوزون ذلك وأمّا دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فيتّخذون راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشّعر يسمّونها الشّالش والجتر وهي شعار السّلطان عندهم ثمّ تتعدّد الرّايات ويسمّونها السّناجق واحدها سنجق وهي الرّاية بلسانهم. وأمّا الطّبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمّونها الكوسات ويبيحون لكلّ أمير أو قائد عسكر أن يتّخذ من ذلك ما يشاء إلّا الجتر فإنّه خاصّ بالسلطان. وأمّا الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتّخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجوّ صعدا ومعها قرع الأوتار من الطّنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم هكذا يبلغنا عنهم وعمّن وراءهم من ملوك العجم ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم «إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ 30: 22» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 السرير: وأمّا السّرير والمنبر والتّخت والكرسيّ فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضّدة لجلوس السّلطان عليها مرتفعا عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصّعيد ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم وقد كانوا يجلسون على أسرّة الذّهب وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسيّ وسرير من عاج مغشّى بالذّهب إلّا أنّه لا تأخذ به الدّول إلّا بعد الاستفحال والتّرف شأن الأبّهة كلّها كما قلناه وأمّا في أوّل الدّولة عند البداوة فلا يتشوّقون إليه. وأوّل من اتّخذه في الإسلام معاوية واستأذن النّاس فيه وقال لهم إني قد بدنت [1] فأذنوا له فاتّخذه واتّبعه الملوك الإسلاميّون فيه وصار من منازع الأبّهة ولقد كان عمرو بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذّهب محمولا على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه [2] وفاء له بما عقد معهم من الذّمّة واطّراحا لأبّهة الملك. ثمّ كان بعد ذلك لبني العبّاس والعبيديّين وسائر ملوك الإسلام شرقا وغربا من الأسرّة والمنابر والتّخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة والله مقلّب اللّيل والنّهار. السكة: وهي الختم على الدّنانير والدّراهم المتعامل بها بين النّاس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدّينار أو الدّرهم فتخرج رسوم تلك النّقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النّقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسّبك مرّة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدّراهم والدّنانير بوزن معيّن صحيح يصطلح عليه فيكون التّعامل بها عددا وإن لم تقدّر أشخاصها يكون التّعامل بها وزنا ولفظ السّكّة كان اسما للطّابع وهي الحديدة المتّخذة لذلك ثمّ نقل إلى أثرها وهي النّقوش الماثلة على الدّنانير والدّراهم ثمّ نقل إلى القيام على ذلك والنّظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علما   [1] أي سمنت والبدن: عظم بدنه بكثرة لحمه، أصبح جسيما (قاموس) [2] أي يهجمون على المقوقس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عليها في عرف الدّول وهي وظيفة ضروريّة للملك إذ بها يتميّز الخالص من المغشوش بين النّاس في النّقود عند المعاملات ويتّقون في سلامتها الغشّ بختم السّلطان عليها بتلك النّقوش المعروفة وكان ملوك العجم يتّخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السّلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشّأن عند العجم إلى آخر أمرهم. ولمّا جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدّين وبداوة العرب وكانوا يتعاملون بالذّهب والفضّة وزنا وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم ويردّونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغشّ في الدّنانير والدّراهم لغفلة الدّولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجّاج على ما نقل سعيد بن المسيّب وأبو الزّناد بضرب الدّراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدائنيّ سنة خمس وسبعين ثمّ أمر بصرفها في سائر النّواحي سنة ستّ وسبعين وكتب عليها «الله أحد الله الصّمد» ثمّ ولّي ابن هبيرة العراق أيّام يزيد بن عبد الملك فجوّد السّكّة [1] ثمّ بالغ خالد القسريّ في تجويدها ثمّ يوسف بن عمر بعده وقيل أوّل من ضرب الدّنانير والدّراهم مصعب بن الزّبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لمّا ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين «بركة الله» وفي الآخر «اسم الله» ثمّ غيّرها الحجّاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجّاج وقدّر وزنها على ما كانت استقرّت أيّام عمر وذلك أنّ الدّرهم كان وزنه أوّل الإسلام ستّة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل وكان السّبب في ذلك أنّ أوزان الدّرهم أيّام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطا ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلمّا احتيج إلى تقديره في الزّكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطا فكان المثقال درهما وثلاثة أسباع درهم وقيل كان منها البغليّ بثمانية دوانق والطّبريّ أربعة دوانق والمغربيّ ثمانية دوانق واليمنيّ ستّة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في   [1] وكانت الدنانير تسمى بالهبيرية نسبة إلى ابن هبيرة. واشتهرت بجودتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 التّعامل فكان البغليّ والطّبريّ اثني عشر دانقا وكان الدّرهم ستّة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالا وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهما فلمّا رأى عبد الملك اتّخاذ السّكّة لصيانة النّقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغشّ عيّن مقدارها على هذا الّذي استقرّ لعهد عمر رضي الله عنه. واتّخذ فيه كلمات لا صورا، لأنّ العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أنّ الشّرع ينهى عن الصّور فلمّا فعل ذلك استمرّ بين النّاس في أيّام الملّة كلّها وكان الدّينار والدّرهم على شكلين مدوّرين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلا وتحميدا وصلاة على النّبيّ وآله. وفي الوجه الثّاني التّاريخ واسم الخليفة وهكذا أيّام العبّاسيّين والعبيديّين والأمويّين وأمّا صنهاجة فلم يتّخذوا سكّة إلّا آخر الأمر اتّخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه ولمّا جاءت دولة الموحّدين كان ممّا سنّ لهم المهديّ اتّخاذ سكّة الدّرهم مربّع الشّكل وأن يرسم في دائرة الدّينار شكل مربّع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلا وتحميدا ومن الجانب الآخر كتبا في السّطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحّدون وكانت سكّتهم على هذا الشّكل لهذا العهد ولقد كان المهديّ فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدّرهم المربّع نعته بذلك المتكلّمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته وأمّا أهل المشرق لهذا العهد فسكّتهم غير مقدّرة وإنّما يتعاملون بالدّنانير والدّراهم وزنا بالصّنجات المقدّرة بعدّة منها ولا يطبعون عليها بالسّكّة نقوش الكلمات بالتّهليل والصّلاة واسم السّلطان كما يفعله أهل المغرب «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 6: 96» . ولنختم الكلام في السّكّة بذكر حقيقة الدّرهم والدّينار الشّرعيّين وبيان حقيقة مقدارهما. مقدار الدرهم والدينار الشرعيين وذلك أنّ الدّينار والدّرهم مختلفا السّكّة في المقدار والموازين بالآفاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 والأمصار وسائر الأعمال والشّرع قد تعرّض لذكرهما وعلّق كثيرا من الأحكام بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود وغيرها فلا بدّ لهما عنده من حقيقة ومقدار معيّن في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشّرعيّ منهما فاعلم أنّ الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصّحابة والتّابعين أنّ الدّرهم الشّرعيّ هو الّذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذّهب والأوقيّة منه أربعين درهما وهو على هذا سبعة أعشار الدّينار ووزن المثقال من الذّهب اثنتان وسبعون حبّة من الشّعير فالدّرهم الّذي هو سبعة أعشاره خمسون حبّة وخمسا حبّة وهذه المقادير كلّها ثابتة بالإجماع فإنّ الدّرهم الجاهليّ كان بينهم على أنواع أجودها الطّبريّ وهو أربعة دوانق والبغليّ وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشّرعيّ بينهما وهو ستّة دوانق فكانوا يوجبون الزّكاة في مائة درهم بغليّة ومائة طبريّة خمسة دراهم وسطا وقد اختلف النّاس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع النّاس بعد عليه كما ذكرناه. ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السّنن والماورديّ في الأحكام السّلطانيّة وأنكره المحقّقون من المتأخّرين لما يلزم عليه أن يكون الدّينار والدّرهم الشّرعيّان مجهولين في عهد الصّحابة ومن بعدهم مع تعلّق الحقوق الشّرعيّة بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه والحقّ أنّهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلّق بهما من الحقوق وكان مقدارهما غير مستخصّ في الخارج وإنّما كان متعارفا بينهم بالحكم الشّرعيّ على المقدار في مقدارهما وزنتهما حتّى استفحل الإسلام وعظمت الدّولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشّرع ليستريحوا من كلفة التّقدير وقارن ذلك أيّام عبد الملك [1] فشخّص مقدارهما وعيّنهما في الخارج كما هو في الذّهن ونقش عليهما السّكّة باسمه وتأريخه أثر الشّهادتين الإيمانيّتين وطرح النّقود الجاهليّة رأسا حتّى خلصت ونقش عليها سكّة وتلاشى وجودها فهذا هو   [1] مقتضى السياق «وقارن ذلك عبد الملك ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الحقّ الّذي لا محيد عنه ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السّكّة في الدّول على مخالفة المقدار الشّرعيّ في الدّينار والدّرهم واختلفت في كلّ الأقطار والآفاق ورجع النّاس إلى تصوّر مقاديرهما الشّرعيّة ذهنا كما كان في الصّدر الأوّل وصار أهل كلّ أفق يستخرجون الحقوق الشّرعيّة من سكّتهم بمعرفة النّسبة الّتي بينها وبين مقاديرها الشّرعيّة وأمّا وزن الدّينار باثنتين وسبعين حبّة من الشّعير الوسط فهو الّذي نقله المحقّقون وعليه الإجماع إلّا ابن حزم خالف ذلك وزعم أنّ وزنه أربع وثمانون حبّة. نقل ذلك عنه القاضي عبد الحقّ وردّه المحقّقون وعدّوه وهما وغلطا وهو الصّحيح والله يحقّ الحقّ بكلماته وكذلك تعلم أنّ الأوقيّة الشّرعيّة ليست هي المتعارفة بين النّاس لأنّ المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشّرعيّة متّحدة ذهنا لا اختلاف فيها والله خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا. الخاتم وأمّا الخاتم فهو من الخطط السّلطانيّة والوظائف الملوكيّة والختم على الرّسائل والصّكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ثبت في الصّحيحين أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له إنّ العجم لا يقبلون كتابا إلّا أن يكون مختوما فاتّخذ خاتما من فضّة ونقش فيه «محمّد رسول الله» قال البخاريّ جعل الثّلاث الكلمات ثلاثة أسطر وختم به وقال لا ينقش أحد مثله قال وتختّم به أبو بكر وعمر وعثمان ثمّ سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتمّ عثمان وتطيّر منه وصنع آخر على مثله وفي كيفيّة نقش الخاتم والختم به وجوه وذلك أنّ الخاتم يطلق على الآلة الّتي تجعل في الإصبع ومنه تختّم إذا لبسه ويطلق على النّهاية والتّمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النّبيّين وخاتم الأمر ويطلق على السّداد الّذي يسدّ به الأواني والدّنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى «خِتامُهُ مِسْكٌ 83: 26» وقد غلط من فسّر ذلك بالنّهاية والتّمام قال لأنّ آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنّما هو من الختام هو السّداد لأنّ الخمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 يجعل لها في الدّنّ سداد الطّين أو القار يحفظها ويطيّب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنّة بأنّ سدادها من المسك وهو أطيب عرفا وذوقا من القار والطّين المعهودين في الدّنيا فإذا صحّ إطلاق الخاتم على هذه كلّها صحّ إطلاقه على أثرها النّاشئ عنها وذلك أنّ الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثمّ غمس في مداف من الطّين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصّفح وكذلك إذا طبع به على جسم ليّن كالشّمع فإنّه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسما فيه وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النّقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النّقش من الجهة اليسرى لأنّ الختم يقلب جهة الخطّ في الصّفح عمّا كان في النّقش من يمين أو يسار فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطّين ووضعه في الصّفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتّمام بمعنى صحّة ذلك المكتوب ونفوذه كأنّ الكتاب إنّما يتمّ العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام وقد يكون هذا الختم بالخطّ آخر الكتاب أو أوّله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السّلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخطّ علامة على صحّة الكتاب ونفوذه ويسمّى ذلك في المتعارف علامة، ويسمّى ختما تشبيها له بأثر الخاتم الآصفيّ [1] في النّقش ومن هذا خاتم القاضي الّذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطّه الّذي ينفّذ بهما أحكامه ومنه خاتم السّلطان أو الخليفة أي علامته. قال الرّشيد ليحيى بن خالد لمّا أراد أن يستوزر جعفرا ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى: «يا أبت إني أردت أن أحوّل الخاتم من يميني إلى شمالي» فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرّسائل والصّكوك من وظائف الوزارة لعهدهم ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطّبريّ أنّ معاوية أرسل إلى   [1] نسبة إلى آصف، كاتب النبي سليمان عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الحسن عند مراودته إياه في الصّلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصّحيفة الّتي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصّحيفة بخطّه أو غيره ويحتمل أن يختم به في جسم ليّن فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السّداد كما مرّ وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم وأوّل من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنّه أمر لعمر بن الزّبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصيّر المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتّى قضاها عنه أخوه عبد الله واتّخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم. ذكره الطّبريّ وقال آخرون وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السّداد وديوان الختم عبارة عن الكتّاب القائمين على إنفاذ كتب السّلطان والختم عليها إمّا بالعلامة أو بالحزم وقد يطلق الدّيوان على مكان جلوس هؤلاء الكتّاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال والحزم للكتب يكون إمّا بدسّ الورق كما في عرف كتّاب المغرب وإمّا بإلصاق رأس الصّحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق وقد يجعل على مكان الدّسّ أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطّلاع على ما فيه فأهل المغرب يجعلون على مكان الدّسّ قطعة من الشّمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النّقش في الشّمع وكان في المشرق في الدّول القديمة يختم على مكان اللّصق بخاتم منقوش أيضا قد غمس في مداف من الطّين معدّ لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النّقش عليه وكان هذا الطّين في الدّولة العبّاسيّة يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنّه مخصوص بها فهذا الخاتم الّذي هو العلامة المكتوبة أو النّقش للسّداد والحزم للكتب خاصّ بديوان الرّسائل وكان ذلك للوزير في الدّولة العبّاسيّة ثمّ اختلف العرف وصار لمن إليه التّرسيل وديوان الكتّاب في الدّولة ثمّ صاروا في دول المغرب يعدّون من علامات الملك وشاراته الخاتم للإصبع فيستجيدون صوغه من الذّهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ويرصّعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزّمرّد ويلبسه السّلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدّولة العبّاسيّة والمظلّة في الدّولة العبيديّة والله مصرّف الأمور بحكمه. الطراز: من أبّهة الملك والسّلطان ومذاهب الدّول أن ترسم أسماؤهم أو علامات تختصّ بهم في طراز أثوابهم المعدّة للباسهم من الحرير أو الدّيباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطّها في نسج الثّوب إلحاما وإسداء بخيط الذّهب أو ما يخالف لون الثّوب من الخيوط الملوّنة من غير الذّهب على ما يحكمه الصّنّاع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثّياب الملوكيّة معلمة بذلك الطّراز قصد التّنويه بلابسها من السّلطان فمن دونه أو التّنويه بمن يختصّه السّلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطّراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معيّنة لذلك ثمّ اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السّجلّات وكان ذلك في الدّولتين من أبّهة الأمور وأفخم الأحوال وكانت الدّور المعدّة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمّى دور الطّراز لذلك وكان القائم على النّظر فيها يسمّى صاحب الطّراز، ينظر في أمور الصّباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم وكانوا يقلّدون ذلك لخواصّ دولتهم وثقات مواليهم وكذلك كان الحال في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف من بعدهم وفي دولة العبيديّين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق ثمّ لمّا ضاق نطاق الدّول عن التّرف والتّفنّن فيه لضيق نطاقها في الاستيلاء وتعدّدت الدّول تعطّلت هذه الوظيفة والولاية عليها من أكثر الدّول بالجملة ولمّا جاءت دولة الموحّدين بالمغرب بعد بني أميّة أوّل المائة السّادسة لم يأخذوا بذلك أوّل دولتهم لما كانوا عليه من منازع الدّيانة والسّذاجة الّتي لقّنوها عن إمامهم محمّد بن تومرت المهديّ وكانوا يتورّعون عن لباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الحرير والذّهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدّولة طرفا لم يكن بتلك النّباهة وأمّا لهذا العهد، فأدركنا بالمغرب في الدّولة المرينيّة لعنفوانها وشموخها رسما جليلا لقّنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتّبع هو في ذلك ملوك الطّوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر. وأمّا دولة التّرك بمصر والشّام لهذا العهد ففيها من الطّراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلّا أنّ ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنّما ينسج ما تطلبه الدّولة من ذلك عند صنّاعه من الحرير ومن الذّهب الخالص ويسمّونه المزركش لفظة أعجميّة ويرسم اسم السّلطان أو الأمير عليه ويعدّه الصّنّاع لهم فيما يعدّونه للدّولة من طرف الصّناعة اللّائقة بها «وَالله مُقَدِّرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالله خَيْرُ الْوَارِثِينَ» . الفساطيط والسياج اعلم أنّ من شارات الملك وترفه اتّخاذ الأخبية والفساطيط والفازات [1] من ثياب الكتّان والصّوف والقطن فيباهي بها في الأسفار وتنوّع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدّولة في الثّروة واليسار وإنّما يكون الأمر في أوّل الدّولة في بيوتهم الّتي جرت عادتهم باتّخاذها قبل الملك وكان العرب لعهد الخلفاء الأوّلين من بني أميّة إنّما يسكنون بيوتهم الّتي كانت لهم خياما من الوبر والصّوف ولم تزل العرب لذلك العهد بادين [2] إلّا الأقلّ منهم فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرّقة الأحياء يغيب كلّ واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب ولذلك ما كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد النّاس على أثره وأن يقيموا إذا ظعن.   [1] مظلة بعامودين. [2] من البداوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ونقل أنّه استعمل في ذلك الحجّاج حين أشار به روح بن زنباع وقصّتهما في إحراق فساطيط روح وخيامه لأوّل ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصّة مشهورة. ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجّاج بين العرب فإنّه لا يتولّى إرادتهم على الظّعن إلّا من يأمن بوادر السّفهاء من أحيائهم بما له من العصبيّة الحائلة دون ذلك ولذلك اختصّه عبد الملك بهذه الرّتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيّته وصرامته فلمّا تفنّنت الدّولة العربيّة في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخفّ إلى ظهر الحافر اتّخذوا للسّكنى في أسفارهم ثياب الكتّان يستعملون منها بيوتا مختلفة الأشكال مقدّرة الأمثال من القوراء [1] والمستطيلة والمربّعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزّينة ويدير الأمير والقائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجا من الكتّان يسمّى في المغرب بلسان البربر الّذي هو لسان أهله أفراك بالكاف والقاف ويختصّ به السّلطان بذلك القطر لا يكون لغيره. وأمّا في المشرق فيتّخذه كلّ أمير وإن كان دون السّلطان ثمّ جنحت الدّعة بالنّساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخفّ لذلك ظهرهم وتقاربت السّياج بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسّلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهوا أنيقا لاختلاف ألوانه واستمرّ الحال على ذلك في مذاهب الدّول في بذخها وترفها. وكذا كانت دولة الموحّدين وزناتة الّتي أظلّتنا كان سفرهم أوّل أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطين [2] حتّى إذا أخذت الدّولة في مذاهب التّرف وسكنى القصور وعادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط بلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من التّرف بمكان إلّا أنّ العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصّيحة ولخفّتهم من الأهل   [1] القوراء: الواسعة. [2] القياطين: المخادع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 والولد الّذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفّظ آخر والله القويّ العزيز. المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة وهما من الأمور الخلافيّة ومن شارات الملك الإسلاميّ ولم يعرف في غير دول الإسلام. فأمّا البيت المقصورة من المسجد لصلاة السّلطان فيتّخذ سياجا على المحراب فيحوزه وما يليه فأوّل من اتّخذها معاويّة بن أبي سفيان حين طعنه الخارجيّ والقصّة معروفة وقيل أوّل من اتّخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليمانيّ ثمّ اتّخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنّة في تمييز السّلطان عن النّاس في الصّلاة وهي إنّما تحدث عند حصول التّرف في الدّول والاستفحال شأن أحوال الأبّهة كلّها وما زال الشّأن ذلك في الدّول الإسلاميّة كلّها وعند افتراق الدّولة العبّاسيّة وتعدّد الدّول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدّولة الأمويّة وتعدّد ملوك الطّوائف وأمّا المغرب فكان بنو الأغلب يتّخذونها بالقيروان ثمّ الخلفاء العبيديّون ثمّ ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة ثمّ ملك الموحّدين سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك الرّسم على طريقة البداوة الّتي كانت شعارهم ولمّا استفحلت الدّولة وأخذت بحظّها من التّرف وجاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتّخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنّة لملوك المغرب والأندلس وهكذا كان الشّأن في سائر الدّول سنّة الله في عباده. وأمّا الدّعاء على المنابر في الخطبة فكان الشّأن أوّلا عند الخلفاء ولاية الصّلاة بأنفسهم فكانوا يدعون لذلك بعد الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والرّضى عن أصحابه وأوّل من اتّخذ المنبر عمرو بن العاص لمّا بنى جامعه بمصر وأوّل من دعا للخليفة على المنبر ابن عبّاس دعا لعليّ رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها فقال اللَّهمّ انصر عليّا على الحقّ واتّصل العمل على ذلك فيما بعد وبعد أخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطّاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطّاب أمّا بعد فقد بلغني أنّك اتّخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائما والمسلمون تحت عقبيك فعزمت عليك إلّا ما كسرته فلمّا حدثت الأبّهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصّلاة استنابوا فيهما فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويها باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأنّ تلك السّاعة مظنّة للإجابة ولما ثبت عن السّلف في قولهم من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السّلطان وكان الخليفة يفرد بذلك فلمّا جاء الحجر والاستبداد صار المتغلّبون على الدّول كثيرا ما يشاركون الخليفة في ذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه وذهب ذلك بذهاب تلك الدّول وصار الأمر إلى اختصاص السّلطان بالدّعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد أو يسمو إليه وكثيرا ما يغفل المعاهدون من أهل الدّول هذا الرّسم عند ما تكون الدّولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التّغافل والخشونة ويقنعون بالدّعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين ويسمّون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عبّاسيّة يعنون بذلك أنّ الدّعاء على الإجمال إنّما يتناول العبّاسيّ تقليدا في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتّصريح باسمه يحكى أنّ يغمراسن بن زيّان عاهد دولة بني عبد الوادّ لمّا غلبه الأمير أبو زكريّا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثمّ بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا وكذلك يعقوب بن عبد الحقّ عاهد دولة بني مرين حضره رسول المنتصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلّف بعض أيّامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرّسول كراهية لخلوّ الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدّعاء له وكان ذلك سببا لأخذهم بدعوته وهكذا شأن الدّول في بدايتها وتمكّنها في الغضاضة والبداوة فإذا انتبهت عيون سياستهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ونظروا في أعطاف ملكهم واستتمّوا شيات [1] الحضارة ومفاني البذخ والأبّهة انتحلوا جميع هذه السّمات وتفنّنوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلوّ دولتهم من آثارها والعالم بستان والله على كلّ شيء رقيب. الفصل السابع والثلاثون في الحروب ومذاهب الأمم وترتيبها اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليفة منذ براها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصّب لكلّ منها أهل عصبيّته فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطّائفتان إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعيّ في البشر لا تخلو عنه أمّة ولا جيل وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسة. وإمّا عدوان وإمّا غضب للَّه ولدينه وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده فالأوّل أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة والثّاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشيّة السّاكنين بالقفر كالعرب والتّرك والتّركمان والأكراد وأشباههم لأنّهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنّما همّهم ونصب أعينهم غلب النّاس على ما في أيديهم والثّالث هو المسمّى في الشّريعة بالجهاد والرّابع هو حروب الدّول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب الصّنفان الأوّلان منها حروب بغي وفتنة والصّنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليقة منذ أوّل وجودهم على نوعين نوع بالزّحف   [1] ألوان الحضارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 صفوفا ونوع بالكرّ والفرّ أمّا الّذي بالزّحف فهو قتال العجم كلّهم على تعاقب أجيالهم وأمّا الّذي بالكرّ والفرّ فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب وقتال الزّحف أوثق وأشدّ من قتال الكرّ والفرّ وذلك لأنّ قتال الزّحف ترتّب فيه الصّفوف وتسوّى كما تسوّى القداح أو صفوف الصّلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدوّ قدما، فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدوّ. لأنّه كالحائط الممتدّ والقصر المشيد لا يطمع في إزالته وفي التّنزيل «إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 61: 4» أي يشدّ بعضهم بعضا بالثّبات وفي الحديث الكريم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثّبات وتحريم التّولّي في الزّحف فإنّ المقصود من الصّفّ في القتال حفظ النّظام كما قلناه فمن ولّى العدوّ ظهره فقد أخلّ بالمصافّ وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنّه جرّها على المسلمين وأمكن منهم عدوّهم فعظم الذّنب لعموم المفسدة وتعدّيها إلى الدّين بخرق سياجه فعدّ من الكبائر ويظهر من هذه الأدلّة أنّ قتال الزّحف أشدّ عند الشّارع وأمّا قتال الكرّ والفرّ فليس فيه من الشّدّة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزّحف إلّا أنّهم قد يتّخذون وراءهم في القتال مصافّا ثابتا يلجئون إليه في الكرّ والفرّ ويقوم لهم مقام قتال الزّحف كما نذكره بعد. ثمّ إنّ الدّول القديمة الكثيرة الجنود المتّسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساما يسمّونها كراديس ويسوّون في كلّ كردوس صفوفه وسبب ذلك أنّه لمّا كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية النّواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضا إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوّهم الطّعن والضّرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النّكراء [1] وجهل بعضهم ببعض فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعا ويضمّون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتّبونها قريبا من التّرتيب الطّبيعيّ في الجهات الأربع ورئيس العساكر   [1] نكراء الدهر: شدّته، النكر بفتح النون وضمها: الدهاء والفطنة. (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كلّها من سلطان أو قائد في القلب ويسمّون هذا التّرتيب التّعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والرّوم والدّولتين وصدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكرا منفردا بصفوفه متميزا بقائده ورايته وشعاره ويسمّونه المقدّمة ثمّ عسكرا آخر ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمّونه الميمنة ثمّ عسكرا آخر من ناحية الشّمال كذلك يسمّونه الميسرة ثمّ عسكرا آخر من وراء العسكر يسمّونه السّاقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمّون موقفه القلب فإذا تمّ لهم هذا التّرتيب المحكم إمّا في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كلّ عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلّة والكثرة فحينئذ يكون الزّحف من بعد هذه التّعبئة وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدّولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلّف عن رحيله لبعد المدى في التّعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعيّن لذلك الحجّاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره وكان في الدّولة الأمويّة بالأندلس أيضا كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنّا إنّما أدركنا دولا قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطّائفتين معا يجمعهم لدينا حلّة [1] أو مدينة ويعرف كلّ واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغنى عن تلك التّعبئة. ومن مذاهب أهل الكرّ والفرّ في الحروب ضرب المصافّ وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتّخذونها ملجأ للخيّالة في كرّهم وفرّهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب وقد يفعله أهل الزّحف أيضا ليزيدهم ثباتا وشدّة فقد كان الفرس وهم أهل الزّحف يتّخذون الفيلة في الحروب ويحمّلون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصّروح مشحونة بالمقاتلة والسّلاح والرّايات ويصفّونها وراءهم في حومة الحرب كأنّها حصون فتقوى بذلك نفوسهم   [1] الحلة: ج حلل وحلال: كل ثوب جديد أو عموما الثوب الساتر لجميع البدن والحلّة: الزنبيل الكبير من القصب. والحلّة من الشيء جهته (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ويزداد وثوقهم وانظر ما وقع من ذلك في القادسيّة وإنّ فارس في اليوم الثّالث اشتدّوا بهم على المسلمين حتّى اشتدّت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسّيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت [1] على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرّابع. وأمّا الرّوم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتّخذون لذلك الأسرّة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحفّ به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرّايات في أركان السّرير ويحدق به سياج آخر من الرّماة والرّجّالة فيعظم هيكل السّرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكرّ والفرّ وجعل ذلك الفرس أيّام القادسيّة وكان رستم [2] جالسا على سرير نصبه لجلوسه حتّى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحوّل عنه إلى الفرات وقتل. وأمّا أهل الكرّ والفرّ من العرب وأكثر الأمم البدويّة الرّحّالة فيصفّون لذلك إبلهم والظهر الّذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمّونها المجبوذة وليس أمّة من الأمم إلّا وهي تفعل في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرّة والهزيمة وهو أمر مشاهد وقد أغفلته الدّول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظّهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف. وكان الحرب أوّل الإسلام كلّه زحفا وكان العرب إنّما يعرفون الكرّ والفرّ لكن حملهم على ذلك أوّل الإسلام أمران أحدهما أنّ أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا فيضطرّون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. والثّاني أنّهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصّبر، ولما رسخ فيهم من الإيمان والزّحف إلى الاستماتة أقرب. وأوّل من أبطل الصّفّ في الحروب وصار إلى التّعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضّحّاك الخارجيّ والجبيريّ بعده قال الطّبريّ لمّا ذكر قتال الجبيريّ «فولّى الخوارج عليهم شيبان بن عبد   [1] أحجمت. [2] هو قائد الجيوش الفارسية في معركة القادسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 العزيز اليشكريّ ويلقّب أبا الذّلفاء قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصّفّ من يومئذ» انتهى. فتنوسي قتال الزّحف بإبطال الصّفّ ثمّ تنوسي الصّفّ وراء المقاتلة بما داخل الدّول من التّرف وذلك أنّها حينما كانت بدويّة وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النّساء والولدان معهم في الأحياء فلمّا حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الإبل والظّعائن وصعب عليهم اتّخاذها فخلّفوا النّساء في الأسفار وحملهم الملك والتّرف على اتّخاذ الفساطيط والأخبيّة فاقتصروا على الظّهر الحامل للأثقال [1] والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب ولا يغني كلّ الغناء لأنّه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال فيخفّ الصّبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات [2] وتخرّم صفوفهم. ولما ذكرناه من ضرب المصافّ وراء العساكر وتأكّده في قتال الكرّ والفرّ صار ملوك المغرب يتّخذون طائفة من الإفرنج في جندهم واختصّوا بذلك لأنّ قتال أهل وطنهم كلّه بالكرّ والفرّ والسّلطان يتأكّد في حقّه ضرب المصافّ ليكون ردءا للمقاتلة أمامه فلا بدّ من أن يكون أهل ذلك الصّفّ من قوم متعوّدين للثّبات في الزّحف وإلّا أجفلوا على طريقة أهل الكرّ والفرّ فانهزم السّلطان والعساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتّخذوا جندا من هذه الأمّة المتعوّدة الثّبات في الزّحف وهم الإفرنج ويرتّبون مصافّهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. وإنّهم استخفّوا ذلك للضّرورة الّتي أريناكها من تخوّف الإجفال على مصافّ السّلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثّبات في ذلك لأنّ عادتهم في القتال الزّحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم مع أنّ الملوك في المغرب إنّما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر وقتالهم على الطّاعة وأمّا في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرا من ممالأتهم على المسلمين هذا هو   [1] قوله للاثقال والأبنية مراده بالأبنية الخيام كما يدل عليه قوله في فصل الخندق الآتي قريبا إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم 1 هـ-. [2] الأصوات المخيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الواقع لهذا العهد وقد أبدينا سببه والله بكلّ شيء عليم. وبلغنا أنّ أمم التّرك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسّهام وأنّ تعبئة الحرب عندهم بالمصافّ وأنّهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفّا وراء صفّ ويترجّلون عن خيولهم ويفرّغون سهامهم بين أيديهم ثمّ يتناضلون جلوسا وكلّ صف ردء للّذي أمامه أن يكبسهم العدوّ إلى أن يتهيّأ النّصر لإحدى الطّائفتين على الأخرى وهي تعبئة محكمة غريبة. وكان من مذاهب الأوّل في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عند ما يتقاربون للزّحف حذرا من معرّة البيات والهجوم على العسكر باللّيل لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النّفوس في الظّلمة سترا من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم [1] ويديرون الحفائر نطاقا عليهم من جميع جهاتهم حرصا أن يخالطهم العدوّ بالبيات فيتخاذلوا. وكانت للدّول في أمثال هذا قوّة وعليه اقتدار باحتشاد الرّجال وجمع الأيدي عليه في كلّ منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك فلمّا خرب العمران وتبعه ضعف الدّول وقلّة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشّأن جملة كأنّه لم يكن والله خير القادرين. وانظر وصيّة علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفّين تجد كثيرا من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: «فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدّموا الدّارع وأخّروا الحاسر وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام والتووا على أطراف الرّماح فإنّه أصون للأسنّة وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب واخفتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل وأولى بالوقار وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم واستعينوا بالصّدق والصّبر فإنّه بقدر الصّبر ينزل النّصر» وقال الأشتر يومئذ يحرّض الأزد: «عضّوا على النّواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدّوا   [1] خيامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 شدّة قوم موتورين يثأرون بآبائهم وإخوانهم حناقا على عدوّهم وقد وطّنوا على الموت أنفسهم لئلّا يسبقوا بوتر ولا يلحقهم في الدّنيا عار» وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصّيرفيّ شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن عليّ بن يوسف ويصف ثباته في حرب شهدها ويذكّره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبّهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها. يا أيّها الملأ الّذي يتقنّع ... من منكم الملك الهمام الأروع ومن الّذي غدر العدوّ به دجى ... فانفضّ كلّ وهو لا يتزعزع تمضي الفوارس والطّعان يصدّها ... عنه ويدمرها الوفاء فترجع واللّيل من وضح التّرائك إنّه ... صبح على هام الجيوش يلمّع أنّى فزعتم يا بني صنهاجة ... وإليكم في الرّوع كان المفزع إنسان عين لم يصبها منكم ... حضن وقلب أسلمته الأضلع وصددتم عن تاشفين وإنّه ... لعقابه لو شاء فيكم موضع ما أنتم إلّا أسود خفيّة ... كلّ لكلّ كريهة مستطلع يا تاشفين أقم لجيشك عذره ... باللّيل والعذر الّذي لا يدفع ومنها في سياسة الحرب أهديك من أدب السّياسة ما به ... كانت ملوك الفرس قبلك تولع لا إنّني أدري بها لكنّها ... ذكرى تحضّ المؤمنين وتنفع والبس من الحلق المضاعفة الّتي ... وصّى بها صنع الصّنائع تبّع والهندوانيّ الرّقيق فإنّه ... أمضى على حدّ الدّلاص وأقطع واركب من الخيل السّوابق عدّة ... حصنا حصينا ليس فيه مدفع خندق عليك إذا ضربت محلّة ... سيّان تتبع ظافرا أو تتبع والواد لا تعبره وانزل عنده ... بين العدوّ وبين جيشك يقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 واجعل مناجزة الجيوش عشيّة ... ووراءك الصّدق الّذي هو أمنع وإذا تضايقت الجيوش بمعرك ... ضنك فأطراف الرّماح توسّع واصدمه أوّل وهلة لا تكترث ... شيئا فإظهار النّكول يضعضع واجعل من الطّلّاع أهل شهامة ... للصّدق فيهم شيمة لا تخدع لا تسمع الكذّاب جاءك مرجفا ... لا رأي للكذّاب فيما يصنع قوله واصدمه أوّل وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه النّاس في أمر الحرب فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثّقفيّ لمّا ولّاه حرب فارس والعراق فقال له اسمع وأطع من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأشركهم في الأمر ولا تجيبنّ مسرعا حتّى تتبيّن فإنّها الحرب ولا يصلح لها الرّجل المكيث [1] الّذي يعرف الفرصة والكفّ وقال له في أخرى: «إنّه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلّا سرعته في الحرب وفي التّسرّع في الحرب إلّا عن بيان ضياع والله لولا ذلك لأمرته لكنّ الحرب لا يصلحها إلّا الرّجل المكيث» هذا كلام عمر وهو شاهد بأنّ التّثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتّى يتبيّن حال تلك الحرب وذلك عكس ما قاله الصّيرفيّ إلّا أن يريد أنّ الصّدم بعد البيان [2] فله وجه والله تعالى أعلم. ولا وثوق في الحرب بالظّفر وإن حصلت أسبابه من العدّة والعديد وإنّما الظّفر فيها والغلب من قبيل البحث والاتّفاق وبيان ذلك أنّ أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشّجعان وترتيب المصافّ ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك ومن أمور خفيّة وهي إمّا من خداع البشر وحيلهم في الإرجاف والتّشانيع الّتي يقع بها التّخذيل وفي التّقدّم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهّم المنخفض لذلك وفي الكمون في الغياض ومطمئنّ الأرض والتّواري بالكدى [3] حول العدوّ حتّى يتداولهم العسكر   [1] المكيث: الرزين المتأني (المنجد) . [2] كلمة البيان ليس لها معنى في هذه الجملة ولعلها محرفة من كلمة بيات كما يقتضيه سياق المعنى. [3] يقال: الحافر بلغ الكدية فلا يمكنه أن يحفر، حفر فأكدى أي بلغ الصلب والكدى الأرض الصلبة. (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 دفعة وقد تورّطوا فيتلفّتون إلى النّجاة وأمثال ذلك وإمّا أن تكون تلك الأسباب الخفيّة أمورا سماويّة لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرّهب عليهم لأجلها فتختلّ مراكزهم فتقع الهزيمة وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفيّة لكثرة ما يعتمل لكلّ واحد من الفريقين فيها حرصا على الغلب فلا بدّ من وقوع التّأثير في ذلك لأحدهما ضرورة ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «الحرب خدعة» ومن أمثال العرب «ربّ حيلة أنفع من قبيلة» فقد تبيّن أنّ وقوع الغلب في الحروب غالبا عن أسباب خفيّة غير ظاهرة ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفيّة هو معنى البخت كما تقرّر في موضعه فاعتبره وتفهّم من وقوع الغلب عن الأمور السّماويّة كما شرحناه معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «نصرت بالرّعب مسيرة شهر» وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإنّ الله سبحانه وتعالى تكفّل لنبيّه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين حتّى يستولي على قلوبهم فينهزموا معجزة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فكان الرّعب في قلوبهم سببا للهزائم في الفتوحات الإسلاميّة كلّها أنّه خفيّ عن العيون. وقد ذكر الطّرطوشيّ: أنّ من أسباب الغلب في الحرب أن تفضّل عدّة الفرسان المشاهير من الشّجعان في أحد الجانبين على عدّتهم في الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشّجعان المشاهير وفي الجانب الآخر ثمانيّة أو ستّة عشر فالجانب الزّائد ولو بواحد يكون له الغلب وأعاد في ذلك وأبدى وهو راجع إلى الأسباب الظّاهرة الّتي قدّمنا وليس بصحيح. وإنّما الصّحيح المعتبر في الغلب حال العصبيّة أن يكون في أحد الجانبين عصبيّة واحدة جامعة لكلّهم وفي الجانب الآخر عصائب متعدّدة لأنّ العصائب إذا كانت متعدّدة يقع بينها من التّخاذل ما يقع في الوحدان المتفرّقين الفاقدين للعصبيّة تنزّل كلّ عصابة منهم منزلة الواحد ويكون الجانب الّذي عصابته متعدّدة لا يقاوم الجانب الّذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهّمه واعلم أنّه أصحّ في الاعتبار ممّا ذهب إليه الطّرطوشيّ ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يحمله على ذلك إلّا نسيان شأن العصبيّة في حلّة وبلدة وأنّهم إنّما يرون ذلك الدّفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة النّاشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبيّة ولا نسبا وقد بيّنّا ذلك أوّل الكتاب مع أنّ هذا وأمثاله على تقدير صحّته إنّما هو من الأسباب الظّاهرة مثل اتّفاق الجيش في العدّة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلا بالغلب ونحن قد قرّرنا لك الآن أنّ شيئا منها لا يعارض الأسباب الخفيّة من الحيل والخداع ولا الأمور السّماويّة من الرّعب والخذلان الإلهيّ فافهمه وتفهّم أحوال الكون «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» . ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأنّ أسبابه خفيّة وغير طبيعيّة حال الشّهرة والصّيت فقلّ أن تصادف موضعها في أحد من طبقات النّاس من الملوك والعلماء والصّالحين والمنتحلين للفضائل على العموم وكثير ممّن اشتهر بالشّرّ وهو بخلافه وكثير ممّن تجاوزت عنه الشّهرة وهو أحقّ بها وأهلها وقد تصادف موضعها وتكون طبقا على صاحبها والسّبب في ذلك أنّ الشّهرة والصّيت إنّما هما بالإخبار والإخبار يدخلها الذّهول عن المقاصد عند التّناقل ويدخلها التّعصّب والتّشييع ويدخلها الأوهام ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتّلبيس والتّصنّع أو لجهل النّاقل ويدخلها التّقرّب لأصحاب التّجلّة والمراتب الدّنيويّة بالثّناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذّكر بذلك والنّفوس مولعة بحبّ الثّناء والنّاس متطاولون إلى الدّنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل ولا منافسين في أهلها وأين مطابقة الحقّ مع هذه كلّها فتختلّ الشّهرة عن أسباب خفيّة من هذه وتكون غير مطابقة وكلّ ما حصل بسبب خفيّ فهو الّذي يعبّر عنه بالبخت كما تقرّر والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها اعلم أنّ الجباية أوّل الدّولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة وآخر الدّولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة والسّبب في ذلك أنّ الدّولة إن كانت على سنن الدّين فليست تقتضي إلّا المغارم الشّرعيّة من الصّدقات والخراج والجزية وهي قليلة الوزائع لأنّ مقدار الزّكاة من المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشّرعيّة وهي حدود لا تتعدّى وإن كانت على سنن التّغلّب والعصبيّة فلا بدّ من البداوة في أوّلها كما تقدّم والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتّجافي عن أموال النّاس والغفلة عن تحصيل ذلك إلّا في النّادر فيقلّ لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة الّتي تجمع الأموال من مجموعها وإذا قلّت الوزائع والوظائف على الرّعايا نشطو للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد لحصول الاغتباط بقلّة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية الّتي هي جملتها فإذا استمرّت الدّولة واتّصلت وتعاقب ملوكها واحدا بعد واحد واتّصفوا بالكيس وذهب سرّ [1] البداوة والسّذاجة وخلقها من الإغضاء والتّجافي وجاء الملك العضوض [2] والحضارة الدّاعية إلى الكيس وتخلّق أهل الدّولة حينئذ بخلق التّحذلق وتكثّرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النّعيم والتّرف فيكثّرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرّعايا والأكرة [3] والفلّاحين وسائر أهل   [1] وفي نسخة أخرى شرّ ولعلها محرفة من كلمة أثر كما يقتضي معنى السياق. [2] ج العضّ: الشديد القوي (المنجد) . [3] الأكرة ج أكار وأكارون: الحراث (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 المغارم ويزيدون في كلّ وظيفة ووزيعة مقدارا عظيما لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد ثمّ تتدرّج الزّيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرّج عوائد الدّولة في التّرف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتّى تثقل المغارم على الرّعايا وتهضمهم وتصير عادة مفروضة لأنّ تلك الزّيادة تدرّجت قليلا قليلا ولم يشعر أحد بمن زادها على التّعيين ولا من هو واضعها إنّما ثبت على الرّعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلّة النّفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها وربّما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النّقص في الجباية ويحسبونه جبرا لما نقص حتى تنتهي كلّ وظيفة ووزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوّة به فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدّولة لأنّ فائدة الاعتمار عائدة إليها وإذا فهمت ذلك علمت أنّ أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النّفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه والله سبحانه وتعالى «مالك الأمور كلها وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ 23: 88» [1] الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة اعلم أنّ الدّولة تكون في أوّلها بدويّة كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات لعدم التّرف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلا فيكون في الجباية حينئذ وفاء   [1] سورة يس من الآية الأخيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بأزيد منها كثير عن حاجاتهم ثمّ لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في التّرف وعوائدها وتجري على نهج الدّول السّابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدّولة ويكثر خراج السّلطان خصوصا كثرة بالغة بنفقته في خاصّته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدّولة إلى الزّيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسّلطان من النّفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أوّلا كما قلناه ثمّ يزيد الخراج والحاجات والتّدريج في عوائد التّرف وفي العطاء للحامية ويدرك الدّولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقلّ الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم فيستحدث صاحب الدّولة أنواعا من الجباية يضربها على البياعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السّلع في أموال المدينة وهو مع هذا مضطرّ لذلك بما دعاه إليه طرق النّاس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية وربّما يزيد ذلك في أواخر الدّولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدّولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ. وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدّولة العبّاسيّة والعبيديّة كثير وفرضت المغارم حتّى على الحاجّ في الموسم وأسقط صلاح الدّين أيّوب تلك الرّسوم جملة وأعاضها بآثار الخير وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطّوائف حتّى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين وكذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقيّة لهذا العهد حين استبدّ بها رؤساؤها والله تعالى أعلم. الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية اعلم أنّ الدّولة إذا ضاقت جبايتها بما قدّمناه من التّرف وكثرة العوائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 والنّفقات وقصّر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرّعايا وأسواقهم كما قدّمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزّيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة بمقاسمة العمّال والجباة وامتكاك [1] عظامهم لما يرون أنّهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث التّجارة والفلاحة للسّلطان على تسمية الجباية لما يرون التّجّار والفلّاحين يحصلون على الفوائد والغلّات مع يسارة [2] أموالهم وأنّ الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان والنّبات لاستغلاله في شراء البضائع والتّعرّض بها لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد وهو غلط عظيم وإدخال الضّرر على الرّعايا من وجوه متعدّدة فأوّلا مضايقة الفلّاحين والتّجّار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإنّ الرّعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السّلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غمّ ونكد ثمّ إنّ السّلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرّض له غضّا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثمّ إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلّها كلّه من زرع أو حرير أو عسل أو سكّر أو غير ذلك من أنواع الغلّات وحصلت بضائع التّجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدّولة فيكلّفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلّاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلّا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناضّ [3] أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضا جامدة ويمكثون عطلا من الإدارة   [1] متك الشيء حطّمه وكسّره والمعنى هنا مجاز. [2] قلة. [3] ناض: الدرهم والدينار ويقال استخلصه منه نضا أي نقدا (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الّتي فيها كسبهم ومعاشهم وربّما تدعوهم الضّرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السّلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربّما يتكرّر ذلك على التاجر والفلّاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدّد ذلك ويتكرّر ويدخل به على الرّعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السّعي في ذلك جملة ويؤدّي إلى فساد الجباية فإنّ معظم الجباية إنّما هي من الفلّاحين والتّجّار ولا سيّما بعد وضع المكوس ونموّ الجباية بها فإذا انقبض الفلّاحون عن الفلاحة وقعد التّجّار عن التّجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النّقص المتفاحش وإذا قايس السّلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنّسبة إلى الجباية أقلّ من القليل ثمّ إنّه ولو كان مفيدا فيذهب له بحظّ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنّه من البعيد أن يوجد فيه من المكس ولو كان غيره في تلك الصّفقات لكان تكسّبها كلّها حاصلا من جهة الجباية ثمّ فيه التّعرّض لأهل عمرانه واختلال الدّولة بفسادهم ونقصهم فإنّ الرّعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتّجارة نقصت وتلاشت بالنّفقات وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك [1] وكان الفرس لا يملّكون عليهم إلّا من أهل بيت المملكة ثمّ يختارونه من أهل الفضل والدّين والأدب والسّخاء والشّجاعة والكرم ثمّ يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتّخذ صنعة فيضرّ بجيرانه ولا يتاجر فيحبّ غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم العبيد فإنّهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة. واعلم أنّ السّلطان لا ينمي ماله ولا يدرّ موجودة إلّا الجباية وإدرارها إنّما يكون بالعدل في أهل الأموال والنّظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية   [1] علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على ذلك في نسخة لجنة البيان العربيّ فيقول: (يتفق ما يراه ابن خلدون في صدد الأضرار المترتبة على دخول الحكومة مشترية في السوق وعلى اشتغالها بالتجارة أو احتكارها لبعض الأصناف واعتبار ذلك ضرائب غير مباشرة على المستهلكين ... يتفق ذلك مع ما يراه كثير من المحدثين من علماء الاقتصاد السياسي. انظر كتابنا في «الاقتصاد السياسي» فصل «المنافسة الحرة» . ص 194- 200 في الطبعة الخامسة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 السّلطان وأمّا غير ذلك من تجارة أو فلج فإنّما هو مضرّة عاجلة للرّعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتّجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلّبين في البلدان أنّهم يتعرّضون لشراء الغلّات والسّلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثّمن ما يشاءون ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرّعايا بما يفرضون من الثّمن وهذه أشدّ من الأولى وأقرب إلى فساد الرّعيّة واختلال أحوالهم وربّما يحمل السّلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التّجّار والفلّاحين لما هي صناعته الّتي نشأ عليها فيحمل السّلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعا ولا سيّما مع ما يحصل له من التّجارة بلا مغرم ولا مكس فإنّها أجدر بنموّ الأموال وأسرع في تثميره ولا يفهم ما يدخل على السّلطان من الضّرر بنقص جبايته فينبغي للسّلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرّة بجبايته وسلطانه والله يلهمنا رشد أنفسنا وينفعنا بصالح الأعمال والله تعالى أعلم. ال فصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة والسّبب في ذلك أنّ الجباية في أوّل الدّولة تتوزّع على أهل القبيل والعصبيّة بمقدار غنائهم وعصبيّتهم ولأنّ الحاجة إليهم في تمهيد الدّولة كما قلناه من قبل فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عمّا يسمون إليه من الاستبداد عليهم فله عليهم عزّة وله إليهم حاجة فلا يطيّر [1] في سهمانه من الجباية إلّا الأقلّ من حاجته فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتّاب والموالي متملّقين في الغالب وجاههم متقلّص لأنّه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيّته   [1] طيّر واطار المال: قسّمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدّولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلّا ما يطير لهم بين النّاس في سهمانهم وتقلّ حظوظهم إذ ذاك لقلّة غنائهم في الدّولة بما انكبح من أعنّتهم وصار الموالي والصّنائع مساهمين لهم في القيام بالدّولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدّولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنّفقات في مهمّات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلئ خزائنه ويتّسع نطاق جاهه ويعتزّ على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطيّ ويتّسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثّلونها [1] . ثمّ إذا أخذت الدّولة في الهرم بتلاشي العصبيّة وفناء القليل المعاهدين للدّولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار لكثرة الخوارج والمنازعين والثّوّار وتوهّم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السّيوف وأهل العصبيّات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمّات الدّولة وقلّت مع ذلك الجباية لما قدّمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقلّ الخراج وتشتدّ حاجة الدّولة إلى المال فيتقلّص ظلّ النّعمة والتّرف عن الخواصّ والحجّاب والكتّاب بتقلّص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدّولة ثمّ تشتدّ حاجة صاحب الدّولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثّله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدّولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة ويرى صاحب الدّولة أنّه أحقّ بتلك الأموال الّتي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئا فشيئا وواحدا بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكّر الدّولة لهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثّروة والنّعمة من بطانتها ويتقوّض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه. وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدّولة العبّاسيّة في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم ثمّ في الدّولة الأمويّة بالأندلس عند   [1] تأثل المال: اكتسبه وثمّره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 انحلالها أيّام الطّوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حدير وبني برد وأمثالهم وكذا في الدّولة الّتي أدركناها لعهدنا سنّة الله الّتي قد خلت في عباده. فصل: ولما يتوقّعه أهل الدّولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرّتب والتّخلّص من ربقة السّلطان بما حصل في أيديهم من مال الدّولة إلى قطر آخر ويرون أنّه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم واعلم أنّ الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإنّ صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكّنه الرّعيّة من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبيّة المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأنّ ربقة الملك يعسر الخلاص منها ولا سيّما عند استفحال الدّولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتّخلّق بالشّرّ وأمّا إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السّلطان وحاشيته وأهل الرّتب في دولته فقلّ أن يخلّى بينه وبين ذلك. أمّا أوّلا فلما يراه الملوك أنّ ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطّلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحلّ ربقته من الخدمة ضنّا بأسرارهم وأحوالهم أن يطّلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم ولقد كان بنو أميّة بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السّفر لفريضة الحجّ لما يتوهّمونه من وقوعهم بأيدي بني العبّاس فلم يحجّ سائر أيّامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الحجّ لأهل الدّول من الأندلس إلّا بعد فراغ شأن الأمويّة ورجوعها إلى الطّوائف وأمّا ثانيا فلأنّهم وإن سمحوا بحلّ ربقته فلا يسمحون بالتّجافي عن ذلك المال لما يرون أنّه جزء من مالهم كما يرون أنّه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلّا بها وفي ظلّ جاهها، فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدّولة ينتفعون به ثمّ إذا توهّمنا أنّه خلّص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النّادر الأقلّ فتمتدّ إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتّخويف تعريضا أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 بالقهر ظاهرا لما يرون أنّه مال الجباية والدّول وأنّه مستحقّ للإنفاق في المصالح وإذا كانت أعينهم تمتدّ إلى أهل الثّروة واليسار المتكسّبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتدّ إلى أموال الجباية والدّول الّتي تجد السّبيل إليه بالشّرع والعادة ولقد حاول السّلطان أبو يحيى زكريّا بن أحمد اللّحيانيّ تاسع أو عاشر ملوك الحفصيّين بإفريقة الخروج عن عهدة الملك واللّحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثّغور الغربيّة لمّا استجمع لغزو تونس فاستعمل اللّحيانيّ الرّحلة إلى ثغر طرابلس يورّي بتمهيده وركب السّفين من هنالك وخلص إلى الإسكندريّة بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصّامت [1] والذّخيرة وباع كلّ ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجوهر حتّى الكتب واحتمل ذلك كلّه إلى مصر ونزل على الملك النّاصر محمّد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثّامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئا فشيئا بالتّعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللّحيانيّ إلّا في جرابته الّتي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الّذي يعتري أهل الدّول لما يتوقّعونه من ملوكهم من المعاطب وإنّما يخلصون إن اتّفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهّمونه من الحاجة فغلط ووهم والّذي حصل لهم من الشّهرة بخدمة الدّول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السّلطانيّة أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التّجارة والفلاحة والدّول أنساب لكن: النّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع والله سبحانه هو الرّزّاق وهو الموفّق بمنّه وفضله والله أعلم.   [1] الأموال النقدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ال فصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية والسّبب في ذلك أنّ الدّولة والسّلطان هي السّوق الأعظم للعالم ومنه مادّة العمران فإذا احتجن السّلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قلّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلّت نفقاتهم جملة وهم معظم السّواد ونفقاتهم أكثر مادّة للأسواق ممّن سواهم فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقلّ الخراج لذلك لأنّ الخراج والجباية إنّما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب النّاس للفوائد والأرباح ووبال ذلك عائد على الدّولة بالنّقص لقلّة أموال السّلطان حينئذ بقلّة الخراج فإنّ الدّولة كما قلناه هي السّوق الأعظم أمّ الأسواق كلّها وأصلها ومادّتها في الدّخل والخرج فإن كسدت وقلّت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشدّ منه وأيضا فالمال إنّما هو متردّد بين الرّعيّة والسّلطان منهم إليه ومنه إليهم فإذا حبسه السّلطان عنده فقدته الرّعيّة سنّة الله في عباده. الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران اعلم أنّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرّعايا عن السّعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عامّا في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي النّاس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال وابذعرّ [1] النّاس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرّزق فيما خرج عن نطاقها فخفّ ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختلّ باختلاله حال الدّولة والسّلطان لما أنّها صورة للعمران تفسد بفساد مادّتها ضرورة وانظر في ذلك ما حكاه المسعوديّ في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عندهم أيّام بهرام بن بهرام وما عرّض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظّلم والغفلة عن عائدته على الدّولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له: «إنّ بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى وإنّها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيّام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيّام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام» . فتنبّه الملك من غفلته وخلا بالموبذان وسأله عن مراده فقال له أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا سبيل إلى المال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك وأنت أيّها الملك عمدت إلى الضّياع فانتزعتها من أربابها   [1] بمعنى تفرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وعمّارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنّظر في العواقب وما يصلح الضّياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمّار الضّياع فانجلوا عن ضياعهم وخلّوا ديارهم وأووا إلى ما تعذّر من الضّياع فسكنوها فقلّت العمارة وخربت الضّياع وقلّت الأموال وهلكت الجنود والرّعيّة وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع الموادّ الّتي لا تستقيم دعائم الملك إلّا بها. فلمّا سمع الملك ذلك أقبل على النّظر في ملكه وانتزعت الضّياع من أيدي الخاصّة وردّت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت موادّ الأعداء وشحنت الثّغور وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيّامه وانتظم ملكه فتفهّم من هذه الحكاية أنّ الظّلم مخرّب للعمران وأنّ عائدة الخراب في العمران على الدّولة بالفساد والانتقاض. ولا تنظر في ذلك إلى أنّ الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدّول الّتي بها ولم يقع فيها خراب واعلم أنّ ذلك إنّما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر فلمّا كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة بما لا ينحصر كان وقوع النّقص فيه بالاعتداء والظّلم يسيرا لأنّ النّقص إنّما يقع بالتّدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال واتّساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلّا بعد حين وقد تذهب تلك الدّولة المعتدية من أصلها قبل خراب وتجيء الدّولة الأخرى فترفعه بجدّتها وتجبر النّقص الّذي كان خفيّا فيه فلا يكاد يشعر به إلّا أنّ ذلك في الأقلّ النّادر والمراد من هذا أنّ حصول النّقص في العمران عن الظّلم والعدوان أمر واقع لا بدّ منه لما قدّمناه ووباله عائد على الدّول. ولا تحسبنّ الظّلم إنّما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظّلم أعمّ من ذلك وكلّ من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حقّ أو فرض عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 حقّا لم يفرضه الشّرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقّها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق النّاس ظلمة وخصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كلّه عائد على الدّولة بخراب العمران الّذي هو مادّتها لإذهابه الآمال من أهله واعلم أنّ هذه هي الحكمة المقصودة للشّارع في تحريم الظّلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النّوع البشريّ وهي الحكمة العامّة المراعية للشّرع في جميع مقاصده الضّروريّة الخمسة من حفظ الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال. فلمّا كان الظّلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النّوع لما أدّى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهمّا، وأدلّته من القرآن والسّنّة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضّبط والحصر. ولو كان كلّ واحد قادرا على الظّلم لوضع بإزائه من العقوبات الزّاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنّوع الّتي يقدر كلّ أحد على اقترافها من الزّنا والقتل والسّكر إلّا أنّ الظّلم لا يقدر عليه إلّا من يقدر عليه لأنّه إنّما يقع من أهل القدرة والسّلطان فبولغ في ذمّه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 41: 46» ولا تقولنّ إنّ العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشّرع وهي من ظلم القادر لأنّ المحارب زمن حرابته قادر فإنّ في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنّما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته وأمّا نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطّريق الثّاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنّا إنّما نعني بقدرة الظّالم اليد المبسوطة الّتي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب وأمّا قدرة المحارب فإنّما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال والمدافعة عنها بيد الكلّ موجودة شرعا وسياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب والله قادر على ما يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فصل: ومن أشدّ الظّلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرّعايا بغير حقّ وذلك أنّ الأعمال من قبيل المتموّلات كما سنبيّن في باب الرّزق لأنّ الرّزق والكسب إنّما هو قيّم أعمال أهل العمران. فإذا مساعيهم وأعمالهم كلّها متموّلات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإنّ الرّعيّة المعتملين في العمارة إنّما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك فإذا كلّفوا العمل في غير شأنهم واتّخذوا سخريّا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متموّلهم فدخل عليهم الضّرر وذهب لهم حظّ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة وإن تكرّر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السّعي فيها جملة فأدّى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق الاحتكار: وأعظم من ذلك في الظّلم وإفساد العمران والدّولة التّسلّط على أموال النّاس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثمّ فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشّراء والبيع وربّما تفرض عليهم تلك الأثمان على التّواحي والتّعجيل [1] فيتعلّلون في تلك الخسارة الّتي تلحقهم بما تحدّثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع الّتي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصّفقتين على رءوس أموالهم. وقد يعمّ ذلك أصناف التّجّار المقيمين بالمدينة والواردين من الآفاق في البضائع وسائر السّوقة وأهل الدّكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصّنائع فيما يتّخذ من الآلات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطّبقات وتتوالى على السّاعات وتجحف برءوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلّا القعود عن الأسواق لذهاب رءوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرّعايا لأنّ عامّته من البيع والشّراء وإذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم وتنقص جباية   [1] وفي بعض النسخ: التراخي والتأجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 السّلطان أو تفسد لأنّ معظمها من أوسط الدّولة وما بعدها إنّما هو من المكوس على البياعات كما قدّمناه ويؤول ذلك إلى تلاشي الدّولة وفساد عمران المدينة ويتطرّق هذا الخلل على التّدريج ولا يشعر به. هذا ما كان بأمثال هذه الذّرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأمّا أخذها مجّانا والعدوان على النّاس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدّولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض ومن أجل هذه المفاسد حظر الشّرع ذلك كلّه وشرع المكايسة في البيع والشّراء وحظر أكل أموال النّاس بالباطل سدّا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أنّ الدّاعي لذلك كلّه إنّما هو حاجة الدّولة والسّلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من التّرف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدّخل على القوانين المعتادة يستحدثون ألقابا ووجوها يوسّعون بها الجباية ليفي لهم الدّخل بالخرج ثمّ لا يزال التّرف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال النّاس تشتدّ ونطاق الدّولة بذلك يزيد إلى أن تمحّي دائرتها ويذهب برسمها ويغلبها طالبها والله أعلم. الفصل الرابع والأربعون في أن الحجاب كيف يقع في الدول وفي أنه يعظم عند الهرم اعلم أنّ الدّولة في أوّل أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدّمناه لأنّه لا بدّ لها من العصبيّة الّتي بها يتمّ أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبيّة والدّولة إن كان قيامها بالدّين فإنّه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعزّ الغلب فقط فالبداوة الّتي بها يحصل الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك ومذاهبه فإذا كانت الدّولة في أوّل أمرها بدويّة كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من النّاس وسهولة الإذن فإذا رسخ عزّه وصار إلى الانفراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 بنفسه عن النّاس للحديث مع أوليائه في خواصّ شئونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامّة ما استطاع ويتّخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتّخذ حاجبا له عن النّاس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثمّ إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعة استحالت أخلاق صاحب الدّولة إلى أخلاق الملك وهي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها وربّما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا وصاروا إلى حالة الانتقام منه فانفرد بمعرفة هذه الآداب الخواصّ من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصّة عن لقائهم في كلّ وقت حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على النّاس من التّعرّض لعقابهم فصار حجاب آخر أخصّ من الحجاب الأوّل يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة [1] . والحجاب الثّاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة [1] . والحجاب الأوّل يكون في أوّل الدّولة كما ذكرنا كما حدث لأيّام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أميّة وكان القائم على ذلك الحجاب يسمّى عندهم الحاجب جريا على مذهب الاشتقاق الصّحيح. ثمّ لمّا جاءت دولة بني العبّاس وجدت الدّولة من التّرف والعزّ ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثّاني وصار اسم الحاجب أخصّ به وصار بباب الخلفاء داران للعبّاسيّة: دار الخاصّة ودار العامّة كما هو مسطور في أخبارهم. ثمّ حدث في الدّول حجاب ثالث أخصّ من الأوّلين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدّولة وذلك أنّ أهل الدّولة وخواصّ الملك إذا نصبوا الأبناء من   [1] علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذه العبارة في نسخة لجنة البيان العربيّ» فقال: (هكذا وردت العبارة في جميع النسخ ولا بد أن يكون قد حدث فيها حذف وتكرار والوضع الصحيح للعبارة هو ما يلي «فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من الخاصة والعامة، بينما كان الحجاب الأول يفضي إليهم منه الخاصة ويحجب دونه من سواهم من العامة والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا ... » ) وقد سهّل هذا السقط وهذه الزيادة وجود كلمة «سواهم» في الجملتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأوّل ما يبدأ به ذلك المستبدّ أن يحجب عنه بطانة ابنه وخواصّ أوليائه يوهمه أنّ في مباشرتهم إيّاه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوّده ملابسة أخلاقه هو حتّى لا يتبدّل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلّا أواخر الدّولة كما قدّمناه في الحجر ويكون دليلا على هرم الدّولة ونفاد قوّتها وهو ممّا يخشاه أهل الدّول على أنفسهم لأنّ القائمين بالدّولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدّولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركّب في النّفوس من محبّة الاستبداد بالملك وخصوصا مع التّرشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه. الفصل الخامس والأربعون في انقسام الدولة الواحدة بدولتين اعلم أن أوّل ما يقع من آثار الهرم في الدّولة انقسامها وذلك أنّ الملك عند ما يستفحل ويبلغ من أحوال التّرف والنّعيم إلى غايتها ويستبدّ صاحب الدّولة بالمجد وينفرد به ويأنف حينئذ عن المشاركة يصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشّحين لمنصبه فربّما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاعتزار والاسترابة ويكون نطاق الدّولة قد أخذ في التّضايق ورجع عن القاصية فيستبدّ ذلك النّازع من القرابة فيها ولا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدّولة حتّى يقاسم الدّولة أو يكاد وانظر ذلك في الدّولة الإسلاميّة العربيّة حين كان أمرها حريزا مجتمعا ونطاقا ممتدّا في الاتّساع وعصبيّة بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر ينبض عرق من الخلافة سائر أيّامه إلّا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتمّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أمرهم لمزاحمتهم العصبيّة القويّة ثمّ لمّا خرج الأمر من بني أميّة واستقلّ بنو العبّاس بالأمر. وكانت الدّولة العربيّة قد بلغت الغاية من الغلب والتّرف وآذنت بالتّقلّص عن القاصية نزع عبد الرّحمن الدّاخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكا واقتطعها عن دولتهم وصيّر الدّولة دولتين ثمّ نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربّة ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين ثمّ ازدادت الدّولة تقلّصا فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم ثمّ خرج الشّيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثمّ مصر والشّام والحجاز وغلبوا على الأدارسة وقسموا الدّولة دولتين أخريين وصارت الدّولة العربيّة ثلاث دول: دولة بني العبّاس مركز العرب وأصلهم ومادّتهم الإسلام، ودولة بني أميّة المجدّدين بالأندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق، ودولة العبيديّين بإفريقيّة ومصر والشّام والحجاز ولم تزل هذه الدّولة إلى أن أصبح انقراضها متقاربا أو جميعا وكذلك انقسمت دولة بني العبّاس بدول أخرى وكان بالقاصية بنو ساسان فيما وراء النّهر وخراسان والعلويّة في الدّيلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الدّيلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء ثمّ جاء السّلجوقيّة فملكوا جميع ذلك ثمّ انقسمت دولتهم أيضا بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية لمّا بلغت إلى غايتها أيّام باديس بن المنصور، خرج عليه عمّه حمّاد واقتطع ممالك العرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملويّة واختطّ القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطرى واستحدث ملكا آخر قسيما لملك آل باديس وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعا. وكذلك دولة الموحّدين، لمّا تقلّص ظلّها ثار بإفريقيّة بنو أبي حفص فاستقلّوا بها واستحدثوا ملكا لأعقابهم بنواحيها ثمّ لمّا استفحل أمرهم واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربيّة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 أعقابهم الأمير أبو زكريّا يحيى ابن السّلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكا بجباية وقسنطينة وما إليها، أورثه بنيه وقسموا به الدّولة قسمين ثمّ استولوا على كرسيّ الحضرة بتونس ثمّ انقسم ما بين أعقابهم ثمّ عاد الاستيلاء فيهم وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطّوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة بإفريقيّة فقد كان لآخر دولتهم في كلّ حصن من حصون إفريقية ثائر مستقلّ بأمره كما تقدّم ذكره وكذا حال الجريد والزّاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره وهكذا شأن كلّ دولة لا بدّ وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالتّرف والدّعة وتقلّص ظلّ الغلب فينقسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر ويتعدّد فيها الدّول والله وارث الأرض ومن عليها. الفصل السادس والأربعون في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع قد قدّمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحدا بعد واحد وبيّنّا أنّها تحدث للدّولة بالطّبع وأنّها كلّها أمور طبيعيّة لها وإذا كان الهرم طبيعيّا في الدّولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطّبيعيّة كما يحدث الهرم في المزاج الحيوانيّ والهرم من الأمراض المزمنة الّتي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنّه طبيعيّ والأمور الطّبيعيّة لا تتبدّل وقد يتنبّه كثير من أهل الدّول ممّن له يقظة في السّياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظنّ أنّه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدّولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنّه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدّولة وغفلتهم وليس كذلك فإنّها أمور طبيعيّة للدّولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها والعوائد منزلة طبيعيّة أخرى فإنّ من أدرك مثلا أباه وأكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أهل بيته يلبسون الحرير والدّيباج ويتحلّون بالذّهب في السّلاح والمراكب ويحتجبون عن النّاس في المجالس والصّلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللّباس والزّيّ والاختلاط بالنّاس إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبّح عليه مرتكبه ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التّأييد الإلهيّ والنّصر السّماويّ وربّما تكون العصبيّة قد ذهبت فتكون الأبّهة تعوّض عن موقعها من النّفوس فإذا أزيلت تلك الأبّهة مع ضعف العصبيّة تجاسرت الرّعايا على الدّولة بذهاب أوهام الأبّهة فتتدرّع الدّولة بتلك الأبّهة ما أمكنها حتّى ينقضي الأمر وربّما يحدث عند آخر الدّولة قوّة توهم أنّ الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذّبال المشتعل فإنّه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنّها اشتعال وهي انطفاء فاعتبر ذلك ولا تغفل سرّ الله تعالى وحكمته في اطّراد وجوده على ما قدّر فيه «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 13: 38» . الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة اعلم أنّ مبنى الملك على أساسين لا بدّ منهما فالأوّل الشّوكة والعصبيّة وهو المعبّر عنه بالجند والثّاني المال الّذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدّولة طرقها في هذين الأساسين فلنذكر أوّلا طروق الخلل في الشّوكة والعصبيّة ثمّ نرجع إلى طروقه في المال والجباية. واعلم أنّ تمهيد الدّولة وتأسيسها كما قلناه إنّما يكون بالعصبيّة وأنّه لا بدّ من عصبيّة كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبيّة صاحب الدّولة الخاصّة من عشيرة وقبيلة فإذا جاءت الدّولة طبيعة الملك من التّرف وجدع أنوف أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 العصبيّة كان [1] أوّل ما يجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبدّ في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم لمكانهم من الملك والعزّ والغلب فيحيط بهم هادمان وهما التّرف والقهر ثمّ يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النّعمة والتّرف الّذي تعوّدوا الكثير منه فيهلكون ويقلّون وتفسد عصبيّة صاحب الدّولة منهم وهي العصبيّة الكبرى الّتي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحلّ عروتها وتضعف شكيمتها وتستبدل عنها بالبطانة من موالي النّعمة وصنائع الإحسان وتتّخذ منهم عصبيّة إلّا أنّها ليست مثل تلك الشّدّة الشّكيميّة لفقدان الرّحم والقرابة منها وقد كنّا قدّمنا أنّ شأن العصبيّة وقوّتها إنّما هي بالقرابة والرّحم لما جعل الله في ذلك فينفرد صاحب الدّولة عن العشير والأنصار الطّبيعيّة ويحسّ بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسرا طبيعيّا فيهلكهم صاحب الدّولة ويتبعهم بالقتل واحدا بعد واحد ويقلّد الآخر من أهل الدّولة في ذلك، الأوّل مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة التّرف الّذي قدّمنا فيستولي عليهم الهلاك بالتّرف والقتل حتّى يخرجوا عن صبغة تلك العصبيّة ويفشوا بعزّتها وثورتها ويصيروا أوجز على الحماية ويقلّون لذلك فتقلّ الحماية الّتي تنزل بالأطراف والثّغور فتتجاسر الرّعايا على بعض الدّعوة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدّولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم ولا يزال ذلك يتدرّج ونطاق الدّولة يتضايق حتّى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدّولة وربّما انقسمت الدّولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوّتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل عصبيّتها لكن إذعانا لأهل عصبيّتها ولغلبهم المعهود واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام كيف انتهت أوّلا إلى الأندلس والهند والصّين   [1] أي صاحب الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وكان أمر بني أميّة نافذا في جميع العرب بعصبيّة بني عبد مناف حتّى لقد أمر سليمان بن عبد الملك بدمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يردّ أمره. ثمّ تلاشت عصبيّة بني أميّة بما أصابهم من التّرف فانقرضوا. وجاء بنو العبّاس فغضّوا من أعنّة بني هاشم وقتلوا الطّالبيّين وشرّدوهم فانحلّت عصبيّة عبد مناف وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبدّ عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقيّة وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدّولة ثمّ خرج بنو إدريس بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعانا للعصبيّة الّتي لهم وأمنا أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدّولة. فإذا خرج الدّعاة آخرا فيتغلّبون على الأطراف والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدّولة وربّما يزيد ذلك متى زادت الدّولة تقلّصا إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها التّرف فتهلك وتضمحلّ وتضعف الدّولة المنقسمة كلّها وربّما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبيّة بما حصل لها من الصّبغة في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتّسليم منذ السّنين الطّويلة الّتي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوّليّتها فلا يعقلون إلّا التّسليم لصاحب الدّولة فيستغني بذلك عن قوّة العصائب ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جنديّ ومرتزق ويعضد ذلك ما وقع في النّفوس عامّة من التّسليم فلا يكاد أحد يتصوّر عصيانا أو خروجا إلّا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التّصدّي لذلك ولو جهد جهده وربّما كانت الدّولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التّسليم والانقياد لهم فلا تكاد النّفوس تحدّث سرّها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطّاعة فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الّذي يحدث من العصائب والعشائر ثمّ لا يزال أمر الدّولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزيّة في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور ولكلّ أجل كتاب ولكلّ دولة أمد والله يقدّر اللّيل والنّهار وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الواحد القهّار. وأمّا الخلل الّذي يتطرّق من جهة المال فاعلم أنّ الدّولة في أوّلها تكون بدويّة كما مرّ فيكون خلق الرّفق بالرّعايا والقصد في النّفقات والتّعفّف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية والتّحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمّال ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النّفقة فلا تحتاج الدّولة إلى كثرة المال ثمّ يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى التّرف ويكثر الإنفاق بسببه فتعظم نفقات السّلطان وأهل الدّولة على العموم بل يتعدّى ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزّيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدّولة ثمّ يعظم التّرف فيكثر الإسراف في النّفقات وينتشر ذلك في الرّعيّة لأنّ النّاس على دين ملوكها وعوائدها ويحتاج السّلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشّاهد عليهم بالرّفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده ثمّ تزيد عوائد التّرف فلا تفي بها المكوس وتكون الدّولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرّعايا فتمتدّ أيديهم إلى جمع المال من أموال الرّعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة ويكون الجند في ذلك الطّور قد تجاسر على الدّولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبيّة فتتوقّع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة وتكون جباة الأموال في الدّولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطّور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتّسع لذلك من جاههم فيتوجّه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السّعاية فيهم، بعضهم من بعض للمنافسة والحقد فتعمّهم النّكبات والمصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدّولة من الأبّهة والجمال بهم وإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدّولة إلى أهل الثّروة من الرّعايا سواهم ويكون الوهن في هذا الطّور قد لحق الشّوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدّولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 السّيف لقلّة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النّفقات وأرزاق الجند ولا يغنى فيما يريد ويعظم الهرم بالدّولة ويتجاسر عليها أهل النّواحي والدّولة تنحلّ عراها في كلّ طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعوّض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلّا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحلّ كالذّبال في السّراج إذا فني زيته وطفئ والله مالك الأمور ومدبّر الأكوان لا إله إلّا هو. الفصل الثامن والأربعين فصل في اتساع الدولة أولا إلى نهايته ثم تضايقه طورا بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها [1] قد كان تقدّم لنا في فصل الخلافة والملك، وهو الثّالث من هذه المقدّمة أنّ كلّ دولة لها حصّة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها. واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدّولة على حماية أقطارها وجهاتها. فحيث نفد عددهم فالطّرف الّذي انتهى عنده هو الثّغر، ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق. وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى، وقد تكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. وهذا كلّه عند ما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة البأس. فإذا استفحل العزّ والغلب وتوفّرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر التّرف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقّت   [1] تمّ نقل هذا الفصل عن نسخة (لجنة البيان العربيّ) وقد علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذا الفصل بقوله: «هذا الفصل هو أحد الفصول التي تزيد بها طبعة باريس عن الطبعات المتداولة في العالم العربيّ. وقد وضع هذا الفصل في طبعة باريس بعد الفصل السابع والأربعين من هذا الباب» وقد نقلنا هذا الفصل حرصا على أن لا نترك من المقدمة فصلا لم يذكر برمته، فيحرم قراؤنا من فائدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 حواشيهم، وعاد من ذلك إلى نفوسهم هينات الجبن والكسل، بما يعانونه من ضنث الحضارة المؤدّي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجوليّة بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العزّ بالتطاول إلى الرئاسة والتّنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم ببعض، ويكبحهم السّلطان عن ذلك بما يؤدّي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء والكبراء، وتكثر التّابع والمرءوس، فيقلّ ذلك من حدّ الدولة، ويكسر من شوكتها. ويقع الخلل الأوّل في الدّولة، وهو الّذي من جهة الجند والحامية كما تقدّم. ويساوق ذلك السّرف في النّفقات بما يعتريهم من أبّهة العزّ، وتجاوز الحدود بالبذخ. بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السّلاح وارتباط الخيول، فيقصر دخل الدّولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثّاني في الدّولة وهو الّذي من جهة المال والجباية. ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين. وربّما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربّما اعتزّ أهل الثّغور والأطراف بما يحسبون من ضعف الدّولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستغلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات، ويعجز صاحب الدّولة عن حملهم على الجادّة فيضيق نطاق الدّولة عمّا كانت انتهت إليه في أوّلها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النّطاق الثّاني ما حدث في الأوّل بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلّة الأموال والجباية. فيذهب القائم بالدّولة إلى تغيير القوانين الّتي كانت عليها سياسة الدّولة من قبل الجند والمال والولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدّخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأوّل الدّولة في سائر الأحوال. والمفاسد مع ذلك متوقّعة من كلّ جهة. فيحدث في هذا الطّور من بعد ما حدث في الأوّل من قبل، ويعتبر صاحب الدّولة ما اعتبره الأوّل، ويقايس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 بالوزان [1] الأوّل أحوالها الثّانية، يروم دفع مفاسد الخلل الّذي يتجدّد في كل طور ويأخذ من كلّ طرف حتّى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأوّل. فكلّ واحد من هؤلاء المغيّرين للقوانين قبلهم كأنّهم منشئون دولة أخرى، ومجدّدون ملكا. حتّى تنقرض الدّولة، وتتطاول الأمم حولها إلى التّغلّب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدّر الله وقوعه. واعتبر ذلك في الدّولة الإسلاميّة كيف اتّسع نطاقها بالفتوحات والتّغلّب على الأمم، ثمّ تزايد الحامية وتكاثر عددهم ممّا تخوّلوه من النّعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أميّة وغلب بنو العبّاس. ثمّ تزايد التّرف، ونشأت الحضارة وطرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدّولة الأمويّة المروانيّة والعلويّة، واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلويّة من كلّ جانب، وتمهّدت لهم دول، ثمّ قتل المتوكّل، واستبدّ الأحرار على الخلفاء وحجروهم، واستقلّ الولاة بالعمالات في الأطراف. وانقطع الخراج منها، وتزايد التّرف. وجاء المعتضد فغيّر قوانين الدّولة إلى قانون آخر من السّياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصّغار السّند وفارس، وبني طولون مصر، وبني الأغلب إفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبدّ بنو بويه والدّيلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النّهر، وتطاول الفاطميّون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه. ثمّ قامت الدولة السّلجوقيّة من التّرك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. واستبدّ الخلفاء منذ عهد النّاصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين. وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن   [1] قايس بين الأمرين: قدّر وازنه: عادله وقابله (قاموس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 طولي بن دوشي خان ملك التّتر والمغل حين غلبوا السلجوقيّة وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. وهكذا يتضايق نطاق كلّ دولة على نسبة نطاقها الأوّل. ولا يزال طورا بعد طور إلى أن تنقرض الدولة. واعتبر ذلك في كلّ دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنّة الله في الدّول إلى أن يأتي ما قدّر الله من الغناء على خلقه. و «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ 28: 88» [1] .   [1] من آية 88 من سورة القصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الفصل التاسع والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع اعلم أنّ نشأة الدّول وبداءتها إذا أخذت الدّولة المستقرّة في الهرم والانتقاص تكون على نوعين إمّا بأن يستبدّ ولاة الأعمال في الدّولة بالقاصية عند ما يتقلّص ظلّها عنهم فيكون لكلّ واحد منهم دولة يستجدّها لقومه وما يستقرّ في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه ويستفحل لهم الملك بالتّدريج وربّما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه ويتنازعون في الاستئثار به ويغلب منهم من يكون له فضل قوّة على صاحبه وينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العبّاس حين أخذت دولتهم في الهرم وتقلّص ظلّها عن القاصية واستبدّ بنو ساسان بما وراء النّهر وبنو حمدان بالموصل والشّام وبنو طولون بمصر وكما وقع بالدّولة الأمويّة بالأندلس وافترق ملكها في الطّوائف الّذين كانوا ولاتها في الأعمال وانقسمت دولا وملوكا أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم وهذا النّوع لا يكون بينهم وبين الدّولة المستقرّة حربا لأنّهم مستقرّون في رئاستهم ولا يطمعون في الاستيلاء على الدّولة المستقرّة بحرب وإنّما الدّولة أدركها الهرم وتقلّص ظلّها عن القاصية وعجزت عن الوصول إليها والنّوع الثّاني بأن يخرج على الدّولة خارج ممّن يجاورها من الأمم والقبائل إمّا بدعوة يحمل النّاس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة وعصبيّة كبيرا في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك وقد حدّثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدّولة المستقرّة وما نزل بها من الهرم فيتعيّن له ولقومه الاستيلاء عليها ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون [1] كما تبين والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] قوله ويزنون وفي نسخة ويرفون من الرفو بالراء والفاء. أهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الفصل الخمسون في ان الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة قد ذكرنا أنّ الدّول الحادثة المتجدّدة نوعان نوع من ولاية الأطراف إذا تقلّص ظلّ الدّولة عنهم وانحسر تيّارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة للدّولة في الأكثر كما قدّمناه لأنّ قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوّتهم والنّوع الثّاني نوع الدّعاة والخوارج على الدّولة وهؤلاء لا بدّ لهم من المطالبة لأنّ قوّتهم وافية بها فإنّ ذلك إنّما يكون في نصاب يكون له من العصبيّة والاعتزاز ما هو كفاء [1] ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدّولة المستقرّة حروب سجال تتكوّر وتتّصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظّفر بالمطلوب ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة والسّبب في ذلك أنّ الظّفر في الحروب إنّما يقع كما قدّمناه بأمور نفسانيّة وهمية وإن كان العدد والسّلاح وصدق القتال كفيلا به لكنّه قاصر مع تلك الأمور الوهميّة كما مرّ ولذلك كان الخداع من أرفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظّفر به وفي الحديث الحرب خدعة والدّولة المستقرّة قد صيّرت العوائد المألوفة طاعتها ضروريّة واجبة كما تقدّم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدّولة المستجدّة ويكثر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون   [1] الأصح كفء أو كفيء أو كفؤ وقد ورد في لسان العرب: «وتقول: الأكفاء له، بالكسر، وهو في الأصل مصدر، أي لا نظير له» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلّا أنّ الآخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التّسليم للدّولة المستقرّة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدّولة المستقرّة يرجع إلى الصّبر والمطاولة حتّى يتّضح هرم الدّولة المستقرّة فتضمحلّ عقائد التّسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظّفر والاستيلاء وأيضا فالدّولة المستقرّة كثيرة الرّزق [1] بما استحكم لهم من الملك وتوسّع من النّعيم واللّذّات واختصّوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة وتعظم فيهم الأبّهة الملكيّة ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارا واضطرارا فيرهبون بذلك كلّه عدوّهم وأهل الدّولة المستجدّة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة [2] فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرّعب بما يبلغهم من أحوال الدّولة المستقرّة ويحرمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتّى تأخذ المستقرّة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبيّة والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدّولة المستجدّة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة سنّة الله في عباده وأيضا فأهل الدّولة المستجدّة كلّهم مباينون للدّولة المستقرّة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثمّ هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليه فتتمكّن المباعدة بين أهل الدّولتين سرّا وجهرا ولا يصل إلى أهل الدّولة المستجدّة خبر عن أهل الدّولة المستقرّة يصيبون منه غرّة [3] باطنا وظاهرا لانقطاع المداخلة بين الدّولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون [4] عن المناجزة حتّى يأذن الله بزوال الدّولة المستقرّة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها واتّضح لأهل الدّولة المستجدّة مع ما كان يخفى منهم من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوّتهم بما اقتطعوه من   [1] في بعض النسخ «كثيرة الترف» . [2] الفقر وسوء الحال [3] قوله غرة بكسر الغين أي غفلة. [4] يجبنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أعمالها ونقّصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يدا واحدة للمناجزة ويذهب ما كان بثّ في عزائمهم من التّوهّمات وتنتهي المطاولة إلى حدّها ويقع الاستيلاء آخرا بالمعاجلة واعتبر ذلك في دولة بني العبّاس حين ظهورها حين قام الشّيعة بخراسان بعد انعقاد الدّعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد وحينئذ تمّ لهم الظّفر واستولوا على الدّولة الأمويّة وكذا العلويّة بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الدّيلم كيف كانت مطاولتهم حتّى استولوا على تلك النّاحية ثمّ لمّا انقضى أمر العلويّة وسما الدّيلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتّى اقتطعوا أصبهان ثمّ استولوا على الخليفة ببغداد. وكذا العبيديّون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشّيعيّ ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد تطاول بني الأغلب بإفريقيّة حتّى ظفر بهم واستولوا على المغرب كلّه وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين [1] سنة أو نحوها في طلبها يجهّزون إليها العساكر والأساطيل في كلّ وقت ويجيء المدد لمدافعتهم برّا وبحرا من بغداد والشّام وملكوا الإسكندريّة والفيّوم والصّعيد وتخطّت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين ثمّ نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختطّ القاهرة فجاء الخليفة بعد المعزّ لدين الله فنزلها لستّين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندريّة وكذا السّلجوقيّة ملوك التّرك لمّا استولوا على بني ساسان وأجازوا من وراء النّهر مكثوا نحوا من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتّى استولوا على دولته. ثمّ زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيّام من الدّهر. وكذا التّتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبعة عشر وستّمائة فلم يتمّ لهم الاستيلاء إلّا بعد أربعين سنة. وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثمّ استولوا عليه. ثمّ خرج الموحّدون بدعوتهم   [1] كذا في الأصل والواضح من المراجع التاريخية ومنها تاريخ ابن خلدون نفسه ان المدة هي ستون سنة وان ثلاثين خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 على لمتونة فمكثوا نحوا من ثلاثين سنة يحاربونهم حتّى استولوا على كرسيّهم بمرّاكش وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحّدين فمكثوا يطاولونهم نحوا من ثلاثين سنة واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملوكهم ثمّ أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتّى استولوا على كرسيّهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كلّه في تواريخ هذه الدّول فهكذا حال الدّول المستجدّة مع المستقرّة في المطالبة والمطاولة سنّة الله في عباده ولن تجد لسنّة الله تبديلا. ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلاميّة وكيف كان استيلاؤهم على فارس والرّوم لثلاث أو أربع من وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واعلم أنّ ذلك إنّما كان معجزة من معجزات نبيّنا سرّها استماتة المسلمين في جهاد عدوّهم استبعادا بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرّعب والتّخاذل فكان ذلك كلّه خارقا للعادة المقرّرة في مطاولة الدّول المستجدّة للمستقرّة وإذا كان ذلك خارقا فهو من معجزات نبيّنا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملّة الإسلاميّة والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العاديّة ولا يعترض بها والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل الحادي والخمسون في وفور العمران اخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات اعلم أنّه قد تقرّر لك فيما سلف أنّ الدّولة في أوّل أمرها لا بدّ لها من الرّفق في ملكتها [1] والاعتدال في إيالتها إمّا من الدّين إن كانت الدّعوة دينيّة أو من المكارمة والمحاسنة الّتي تقتضيها البداوة الطّبيعيّة للدّول وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرّعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفّر ويكثر التّناسل وإذا كان ذلك كلّه بالتّدريج فإنّما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقلّ وفي   [1] بمعنى ملكها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 انقضاء الجيلين تشرف الدّولة على نهاية عمرها الطّبيعيّ فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنّماء ولا تقولنّ إنّه قد مرّ لك أنّ أواخر الدّولة يكون فيها الإجحاف بالرّعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأنّ الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلّت الجبايات فإنّما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التّدريج في الأمور الطّبيعيّة ثمّ إنّ المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدّول والسّبب فيه: إمّا المجاعات فلقبض النّاس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدّولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرّعايا وكثرة الخوارج لهرم الدّولة فيقلّ احتكار الزّرع غالبا وليس صلاح الزّرع وثمرته بمستمرّ الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلّتها مختلفة والمطر يقوى ويضعف ويقلّ ويكثر والزّرع والثّمار والضّرع على نسبته إلّا أنّ النّاس واثقون في أقواتهم بالاحتكار فإذا فقد الاحتكار عظم توقّع النّاس للمجاعات فغلا الزّرع وعجز عنه أولو الخصاصة [1] فهلكوا وكان بعض السّنوات الاحتكار مفقودا فشمل النّاس الجوع وأمّا كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدّولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرّطوبات الفاسدة وإذا فسد الهواء وهو غذاء الرّوح الحيوانيّ وملابسه دائما فيسري الفساد إلى مزاجه فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرّئة وهذه هي الطّواعين وأمراضها مخصوصة بالرّئة وإن كان الفساد دون القويّ والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميّات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرّطوبات الفاسدة في هذا كلّه كثرة العمران ووفوره آخر الدّولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلّة المغرم وهو ظاهر ولهذا تبيّن في موضعه من الحكمة أنّ تخلّل الخلاء والقفر بين العمران ضروريّ ليكون تموّج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات   [1] الفقر وسوء الحال (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ويأتي بالهواء الصّحيح ولهذا أيضا فإنّ الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب والله يقدّر ما يشاء [1] الفصل الثاني والخمسون في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره اعلم أنّه قد تقدّم لنا في غير موضع أنّ الاجتماع للبشر ضروريّ وهو معنى العمران الّذي نتكلّم فيه وأنّه لا بدّ لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثّواب والعقاب عليه الّذي جاء به مبلّغه وتارة إلى سياسة عقليّة يوجب انقيادهم إليها ما يتوقّعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدّنيا والآخرة لعلم الشّارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة والثّانية إنّما يحصل نفعها في الدّنيا فقط وما تسمعه من السّياسة المدنيّة فليس من هذا الباب وإنّما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كلّ واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتّى يستغنوا عن الحكّام رأسا ويسمّون المجتمع الّذي يحصل فيه ما يسمّى من ذلك «بالمدينة الفاضلة» ، والقوانين المراعاة في ذلك «بالسّياسة المدنيّة» وليس مرادهم السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامّة فإنّ هذه غير تلك وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنّما يتكلّمون عليها على جهة الفرض والتّقدير ثمّ إنّ السّياسة العقليّة الّتي قدّمناها تكون على وجهين أحدهما يراعى   [1] بعد الدراسات الحديثة المتعلقة بحياة الإنسان في المدينة والريف، حيث أن متوسط عمر الإنسان في الريف يزيد عن مثله في المدينة كثيرا، وهذا يؤكد نظرية ابن خلدون من هذه الناحية، لان مناخ المدينة المشبع بدخان المصانع والمعامل والسيارات وغيرها غير مناخ الريف النظيف النقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فيها المصالح على العموم ومصالح السّلطان في استقامة ملكه على الخصوص وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملّة ولعهد الخلافة لأنّ الأحكام الشّرعيّة مغنية عنها في المصالح العامّة والخاصّة وأحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثّاني أن يراعى فيها مصلحة السّلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامّة في هذه تبعا وهذه السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع الّتي لسائر الملوك في العالم من مسلم وغيره إلّا أنّ ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشّريعة الإسلاميّة بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعيّة وآداب خلقيّة وقوانين في الاجتماع طبيعيّة، وأشياء من مراعاة الشّوكة والعصبيّة ضروريّة والاقتداء فيها بالشّرع أوّلا ثمّ الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لمّا ولّاه المأمون الرّقّة ومصر وما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصّاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدّينيّة والخلقيّة والسّياسة الشّرعيّة والملوكيّة، وحثّه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة. ونصّ الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمّا بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ ومزايلة [1] سخطه واحفظ رعيّتك في اللّيل والنّهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذّكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه، والعمل في ذلك كلّه بما يعصمك الله عزّ وجلّ وينجّيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإنّ الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرّأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقّه وحدوده عليهم والذبّ عنهم والدّفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الرّاحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدّمت وأخّرت ففرّغ لذلك فهمك   [1] مزايلة: بمعنى الابتعاد عن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل، وإنّه رأس أمرك وملاك [1] شأنك وأوّل ما يوقفك الله عليه وليكن أوّل ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزّ وجلّ عليك من الصّلوات الخمس والجماعة عليها بالنّاس قبلك وتوابعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزّ وجلّ فيها ورتّل في قراءتك وتمكّن في ركوعك وسجودك وتشهّدك ولتصرف فيه رأيك ونيّتك واحضض عليه جماعة ممّن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنّها كما قال الله عزّ وجلّ تنهى عن الفحشاء والمنكر ثمّ اتّبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السّلف الصّالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عزّ وجلّ وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عزّ وجلّ في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قم فيه بالحقّ للَّه عزّ وجلّ ولا تميلنّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من النّاس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله والدّين وحملته وكتاب الله عزّ وجلّ والعاملين به [2] فإنّ أفضل ما يتزيّن به المرء الفقه في الدّين والطّلب له والحثّ عليه والمعرفة بما يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ فإنّه الدّليل على الخير كلّه والقائد إليه والآمر والنّاهي عن المعاصي والموبقات كلّها ومع توفيق الله عزّ وجلّ يزداد المرء معرفة وإجلالا له ودركا [3] للدّرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للنّاس من التّوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثّقة بعدلك وعليك بالاقتصاد في الأمور كلّها فليس شيء أبين نفعا ولا أخصّ أمنا ولا أجمع فضلا منه. والقصد داعية إلى الرّشد والرّشد دليل على التّوفيق والتّوفيق قائد إلى السّعادة وقوام الدّين والسّنن الهادية بالاقتصاد وكذا في دنياك كلّها. ولا تقصّر في طلب   [1] ملاك: ملاك الأمر: قوامه (المنجد) . [2] صحيح العبارة ومقتضى سياق الجملة: «وآثر الفقه وأهله. والدين والعاملين به، وكتاب الله عز وجل وحملته» . [3] وصولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الآخرة والأجر والأعمال الصّالحة والسّنن المعروفة ومعالم الرّشد والإعانة والاستكثار من البرّ والسّعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته أما تعلم أنّ القصد في شأن الدّنيا يورث العزّ ويمحّص من الذّنوب وأنّك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتمّ أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامّتك وخاصّتك وأحسن ظنّك باللَّه عزّ وجلّ تستقم لك رعيّتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلّها تستدم به النّعمة عليك ولا تتهمنّ أحدا من النّاس فيما تولّيه من عملك قبل أن تكشف أمره فإنّ إيقاع التّهم بالبراء والظّنون السّيئة بهم آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظّنّ بأصحابك واطرد عنك سوء الظّنّ بهم، وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا يجدنّ عدوّ الله الشّيطان في أمرك مغمزا [1] فإنّه يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغمّ بسوء الظّنّ بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنّك تجد بحسن الظّنّ قوّة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به النّاس إلى محبّتك والاستقامة في الأمور كلّها ولا يمنعك حسن الظّنّ بأصحابك والرّأفة برعيّتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرّعيّة والنّظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم أيسر عندك ممّا سوى ذلك فإنّه أقوم للدّين وأحيا للسّنّة. وأخلص نيّتك في جميع هذا وتفرّد بتقويم نفسك تفرّد من يعلم أنّه مسئول عمّا صنع ومجزيّ بما أحسن ومؤاخذ بما أساء فإنّ الله عزّ وجلّ جعل الدّين حرزا وعزّا ورفع من اتّبعه وعزّزه واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدّين وطريقة الهدى [2] . وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقّوه ولا تعطّل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخّر عقوبة أهل العقوبة فإنّ في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنّك واعتزم على أمرك في ذلك بالسّنن المعروفة وجانب البدع والشّبهات يسلم لك دينك وتقم   [1] وفي بعض النسخ وردت هذه العبارة: «ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمدا» . [2] وفي بعض النسخ طريقه الأهدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدا فأوف به وإذا وعدت خيرا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كلّ ذي عيب من رعيّتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزّور، وأبغض أهل النّميمة، فإنّ أوّل فساد أمورك في عاجلها وآجلها، تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، لأنّ الكذب رأس المآثم، والزّور والنّميمة خاتمتها، لأنّ النّميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل الصّلاح. والصّدق، وأعزّ الأشراف بالحقّ، وآس [1] الضّعفاء، وصل الرّحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدّار الآخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيّتك وأنعم بالعدل في سياستهم [2] وقم بالحقّ فيهم، وبالمعرفة الّتي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. وأملك نفسك عند الغضب، وآثر الحلم والوقار، وإيّاك والحدّة والطّيش والغرور فيما أنت بسبيله. وإيّاك أن تقول أنا مسلّط أفعل ما أشاء فإنّ ذلك سريع إلى نقص الرّأي وقلّة اليقين باللَّه [3] عزّ وجلّ وأخلص للَّه وحده النّيّة فيه واليقين به. واعلم أنّ الملك للَّه سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممّن يشاء. ولن تجد تغيّر النّعمة وحلول النّقمة على أحد أسرع منه إلى حملة [4] النّعمة من أصحاب السّلطان والمبسوط لهم في الدّولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عزّ وجلّ من فضله. ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك الّتي تدّخر وتكنز البرّ والتّقوى واستصلاح الرّعيّة وعمارة بلادهم والتّفقّد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أنّ الأموال إذا اكتنزت وادّخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرّعيّة وإعطاء حقوقهم وكفّ الأذيّة عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامّة وترتّبت بها الولاية وطاب بها الزّمان واعتقد فيها العزّ والمنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق   [1] وفي بعض النسخ وأعن الضعفاء. [2] وفي بعض النسخ وأنعم بالعدل سياستهم. [3] وفي بعض النسخ وقلة اليقين للَّه. [4] وفي بعض النسخ جهلة النعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفّر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهّد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنّك إذا فعلت ذلك قرّت النّعمة عليك [1] واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيّتك وعملك أقدر [2] وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب أنفسا بكلّ ما أردت [3] وأجهد نفسك فيما حدّدت لك في هذا الباب وليعظم حقّك فيه وإنّما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله واعرف للشّاكرين حقّهم وأثبهم عليه وإيّاك أن تنسيك الدّنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحقّ عليك فإنّ التّهاون يورث التّفريط والتّفريط يورث البوار. وليكن عملك للَّه عزّ وجلّ وارج الثّواب فيه [4] فإنّ الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا فإنّ الله عزّ وجلّ يثيب بقدر شكر الشّاكرين وإحسان المحسنين. ولا تحقّرنّ ذنبا ولا تمالئنّ حاسدا ولا ترحمنّ فاجرا ولا تصلنّ كفورا ولا تداهننّ عدوا ولا تصدّقنّ نمّاما ولا تأمننّ غدّارا ولا توالينّ فاسقا ولا تتّبعنّ غاويا ولا تحمدنّ مرائيا ولا تحقّرنّ إنسانا ولا تردّنّ سائلا فقيرا ولا تحسننّ باطلا ولا تلاحظنّ مضحكا ولا تخلفنّ وعدا ولا تزهونّ فخرا ولا تظهرنّ غضبا ولا تبايننّ رجاء ولا تمشينّ مرحا ولا تفرطنّ في طلب الآخرة ولا ترفع [5] للنّمام عينا ولا تغمضنّ عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبنّ ثواب الآخرة في الدّنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التّجارب وذوي العقل والرّأي والحكمة. ولا تدخلنّ في مشورتك أهل الرّفه والبخل ولا تسمعنّ لهم قولا فإنّ ضررهم أكثر من نفعهم وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيّتك من الشّحّ. واعلم أنّك إذا كنت حريصا كنت   [1] وفي بعض النسخ قرت النعمة بك. [2] وفي نسخة أخرى: وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر. [3] وفي نسخة أخرى: وطب نفسا بكل ما أردت. [4] وفي نسخة أخرى منه. [5] وفي نسخة أخرى ترفض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 كثير الأخذ قليل العطيّة وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك [1] إلّا قليلا فإنّ رعيّتك إنّما تعقد على محبّتك بالكفّ عن أموالهم وترك الجور عليهم. وابتدئ [2] من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطيّة لهم. واجتنب الشّحّ واعلم أنّه أوّل ما عصى الإنسان به ربّه وإنّ العاصي بمنزلة خزي [3] وهو قول الله عزّ وجلّ «وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 59: 9» [4] فسهّل طريق الجود بالحقّ واجعل للمسلمين كلّهم من فيئك [5] حظّا ونصيبا وأيقن أنّ الجود أفضل أعمال العباد فأعدّه لنفسك خلقا وارض به عملا ومذهبا. وتفقّد الجند في دواوينهم ومكانتهم [6] وأدرّ عليهم أرزاقهم ووسّع عليهم في معايشهم يذهب الله عزّ وجلّ بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا. وحسب ذي السّلطان من السّعادة أن يكون على جنده ورعيّته ذا رحمة في عدله وحيطته [7] وإنصافه وعنايته وشفقته وبرّه وتوسعته فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة [8] الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا وفلاحا. واعلم أنّ القضاء من الله تعالى بالمكان الّذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنّه ميزان الله الّذي تعدّل عليه أحوال النّاس في الأرض. وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرّعيّة وتأمن السّبل وينتصف المظلوم وتأخذ النّاس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدّى حقّ الطّاعة ويرزق الله العافية والسّلامة ويقيم الدّين ويجري السّنن والشّرائع في مجاريها. واشتدّ في أمر الله عزّ   [1] وفي نسخة أخرى لم يستقم أمرك. [2] وفي نسخة أخرى ووال. [3] وفي نسخة أخرى الخزي. [4] آخر آية 16 من سورة التغابن. [5] وفي نسخة أخرى «في فيئك» . [6] وفي نسخة أخرى مكاتبهم [7] وفي نسخة أخرى وعطيته. [8] وفي نسخة أخرى فضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وجلّ وتورّع عن النّطف [1] وامض لإقامة الحدود. وأقلّ [2] العجلة وأبعد عن الضّجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشّبهة وأبلغ في الحجّة ولا يأخذك في أحد من رعيّتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبّت وتأنّ وراقب وانظر وتنكّر وتدبّر واعتبر وتواضع لربّك وارفق بجميع الرّعيّة وسلّط الحقّ على نفسك ولا تسرعنّ إلى سفك دم، فإنّ الدّماء من الله عزّ وجلّ بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقّها. وانظر هذا الخراج الّذي استقامت عليه الرّعيّة وجعله الله للإسلام عزّا ورفعة ولأهله توسعة ومنعة ولعدوّه وعدوّهم [3] كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معاديهم ذلّا وصغارا فوزّعه بين أصحابه بالحقّ والعدل والتّسوية والعموم ولا تدفعنّ شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصّتك ولا حاشيتك ولا تأخذنّ منه فوق الاحتمال له. ولا تكلّف أمرا فيه شطط. واحمل النّاس كلّهم على أمر الحقّ فإنّ ذلك أجمع لأنفسهم [4] وألزم لرضاء العامّة. واعلم أنّك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإنّما سمّي أهل عملك رعيّتك لأنّك راعيهم وقيّمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفّذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. واستعمل عليهم أولي الرّأي والتّدبير والتّجربة والخبرة بالعلم والعمل [5] بالسياسة والعفاف. ووسّع عليهم في الرّزق فإنّ ذلك من الحقوق اللّازمة لك فيما تقلّدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنّك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النّعمة من ربّك وحسن الأحدوثة في عملك واجتررت به المحبّة من رعيّتك وأعنت على الصّلاح فدرّت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفّرت   [1] النطف: التلطخ بالعيب. [2] وفي نسخة أخرى «وأقلل» . [3] في بعض النسخ لم ترد هذه الكلمة. [4] في بعض النسخ «لألفتهم» . [5] في بعض النسخ «والعدل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامّة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السّياسة مرضيّ العدل في ذلك عند عدوّك وكنت في أمورك كلّها ذا عدل وآلة وقوّة وعدّة. فنافس [1] في ذلك ولا تقدّم عليه شيئا تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى. واجعل في كلّ كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار [2] عمّالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتّى كأنّك مع كلّ عامل في عمله معاين لأموره كلّها. فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السّلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدّفاع والصّنع فأمضه وإلّا فتوقّف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثمّ خذ فيه عدّته فإنّه ربّما نظر الرّجل في أمره وقدّره وأتاه على ما يهوى [3] فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقص عليه أمره. فاستعمل الحزم في كلّ ما أردت وباشره بعد عون الله عزّ وجلّ بالقوّة. وأكثر من استخارة ربّك في جميع أمورك. وافرغ من يومك ولا تؤخّره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإنّ للغد [4] أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الّذي أخّرت. واعلم أنّ اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخّرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيثقلك [5] ذلك حتّى تمرض منه. وإذا أمضيت لكلّ يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك وانظر أحرار النّاس وذوي الفضل منهم ممّن بلوت صفاء طويّتهم وشهدتّ مودّتهم لك ومظاهرتهم بالنّصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممّن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مئونتهم وأصلح حالهم حتّى لا يجدوا لخلّتهم مسّا [6] وأفرد نفسك للنّظر [7] في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك   [1] في بعض النسخ «فتنافس» . [2] في بعض النسخ «خبر» . [3] في بعض النسخ «وقدّره وأثاه على ما يهوى» . [4] في بعض النسخ «الغير» . [5] في بعض النسخ «فيشغلك» . [6] في بعض النسخ «منافرا» بمعنى مفاخرا. [7] في بعض النسخ «بالنظر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والمحتقر الّذي لا علم له بطلب حقّه فسل عنه أحفى مسألة ووكّل بأمثاله أهل الصّلاح من رعيّتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم [1] إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم [2] وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزّه الله تعالى في العطف عليهم والصّلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضرّاء من بيت المال وقدّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقوّاما يرفقون بهم وأطبّاء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدّ ذلك إلى إسراف [3] في بيت المال. واعلم أنّ النّاس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيّهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزّيادة وفضل الرّفق منهم [4] . وربّما تبرّم المتصفّح لأمور النّاس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه فيها [5] ما يناله به من مئونة ومشقّة. وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالّذي يستقبل ما يقرّبه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته [6] وأكثر الإذن للنّاس عليك وأبرز لهم [7] وجهك وسكّن لهم حواسّك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنّطق واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصّنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإنّ العطيّة على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدّنيا ومن مضى قبلك من أهل السّلطان والرّئاسة في القرون الخالية والأمم   [1] في بعض النسخ «وخلالهم» . [2] في بعض النسخ «ويتماهم» . [3] في بعض النسخ «مسرف» . [4] في بعض النسخ «بهم» . [5] في بعض النسخ «ويشغل ذكره وفكره منها» . [6] في بعض النسخ «يستقل ما يقرّبه من الله تعالى، وتلتمس به رحمته. [7] في بعض النسخ «وأرهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 البائدة. ثمّ اعتصم في أحوالك كلّها باللَّه سبحانه وتعالى والوقوف عند محبّته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عزّ وجلّ. واعرف ما يجمع عمّالك من الأموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتّباع السّنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصّتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرّك وإعلانك [1] بما فيه من النّقص فإنّ أولئك أنصح أوليائك ومظاهرون لك [2] . وانظر عمّالك الّذين بحضرتك وكتّابك فوقّت لكلّ رجل منهم في كلّ يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج عمّالك وأمور الدّولة ورعيّتك ثمّ فرّغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرّر النّظر فيه والتّدبّر له فما كان موافقا للحقّ والحزم فأمضه واستخر الله عزّ وجلّ فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتّثبّت منه ولا تمننّ على رعيّتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلّا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير [3] المسلمين ولا تضعنّ المعروف إلّا على ذلك. وتفهّم كتابي إليك وأنعم النّظر فيه والعمل به واستعن باللَّه على جميع أمورك واستخره فإنّ الله عزّ وجلّ مع الصّلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان للَّه عزّ وجلّ رضى ولدينه نظاما ولأهله عزّا وتمكينا وللملّة والذّمّة [4] عدلا وصلاحا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسّلام. وحدّث الأخباريّون أنّ هذا الكتاب لمّا ظهر وشاع أمره أعجب به النّاس واتّصل بالمأمون فلمّا قرئ عليه قال ما أبقى أبو الطّيّب يعني طاهرا شيئا من أمور الدّنيا والدّين والتّدبير والرّأي والسّياسة وصلاح الملك والرّعيّة وحفظ   [1] في بعض النسخ «في ستر، وإعلامك ... » [2] في بعض النسخ «ومظاهريك» . [3] لم ترد هذه الكلمة في بعض النسخ. [4] الملة: الإسلام، وأهل الذمة: أهل الكتاب من يهود ونصارى وقد دخلوا في ذمة الإسلام وحمايتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 السّلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلّا وقد أحكمه وأوصى به ثمّ أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمّال في النّواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السّياسة والله أعلم. الفصل الثالث والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك اعلم أنّ في المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار أنّه لا بدّ في آخر الزّمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدّين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلاميّة ويسمّى بالمهديّ ويكون خروج الدّجّال وما بعده من أشراط [1] السّاعة الثّابتة في الصّحيح على أثره وأنّ عيسى ينزل من بعده فيقتل الدّجّال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتمّ بالمهديّ في صلاته ويحتجّون في الشّأن بأحاديث خرّجها الأئمّة وتكلّم فيها المنكرون لذلك وربّما عارضوها ببعض الأخبار وللمتصوّفة المتأخّرين في أمر هذا الفاطميّ طريقة أخرى ونوع من الاستدلال وربّما يعتمدون في ذلك على الكشف الّذي هو أصل طرائقهم. ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشّأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثمّ نتبعه بذكر كلام المتصوّفة ورأيهم ليتبيّن لك الصّحيح من ذلك إن شاء الله تعالى فنقول إنّ جماعة من الأئمّة خرّجوا أحاديث المهديّ منهم التّرمذيّ وأبو داود والبزّاز وابن ماجة والحاكم والطّبرانيّ وأبو يعلى الموصليّ وأسندوها إلى جماعة من الصّحابة مثل عليّ وابن عبّاس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدريّ وأمّ حبيبة وأمّ سلمة وثوبان وقرّة بن إياس وعليّ الهلاليّ وعبد الله بن الحارث بن   [1] علامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 جزء بأسانيد ربّما يعرّض لها المنكرون كما نذكره إلّا أنّ المعروف عند أهل الحديث أنّ الجرح مقدّم على التّعديل فإذا وجدنا طعنا في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرّق ذلك إلى صحّة الحديث وأوهن منها ولا تقولنّ مثل ذلك ربّما يتطرّق إلى رجال الصّحيحين فإنّ الإجماع قد اتّصل في الأمّة على تلقّيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعا وليس غير الصّحيحين بمثابتهما في ذلك فقد تجد مجالا للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمّة الحديث في ذلك. ولقد توغّل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيليّ عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهديّ فقال ومن أغربها إسنادا ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مستندا إلى مالك بن أنس عن محمّد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كذّب بالمهديّ فقد كفر ومن كذّب بالدّجال فقد كذب [1] وقال في طلوع الشّمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب وحسبك هذا غلوّا. والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس على أنّ أبا بكر الإسكاف عندهم متّهم وضّاع. وأمّا التّرمذيّ فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عبّاس من طريق عاصم بن أبي النّجود أحد القرّاء السّبعة إلى زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو لم يبق من الدّنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله فيه رجلا منّي أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. هذا لفظ أبي داود وسكت عليه وقال في رسالته المشهورة إنّ ما سكت عليه في كتابه فهو صالح ولفظ التّرمذيّ لا تذهب الدّنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وفي لفظ آخر حتّى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح ورواه أيضا من طريق موقوفا على أبي هريرة وقال   [1] في بعض النسخ «فقد كفر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الحاكم رواه الثّوريّ وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمّة المسلمين عن عاصم قال: وطرق عاصم عن زرّ عن عبد الله كلّها صحيحة على ما أصّلته من الاحتجاج بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمّة المسلمين (انتهى) إلّا أنّ عاصما قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلا صالحا قارئا للقرآن خيّرا ثقة والأعمش أحفظ منه وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث وقال العجليّ كان يختلف عليه في زرّ وأبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما وقال محمّد بن سعد كان ثقة إلّا أنّه كثير الخطإ في حديثه وقال يعقوب بن سفيان في حديثه اضطراب وقال عبد الرّحمن بن أبي حاتم قلت لأبي إنّ أبا زرعة يقول عاصم ثقة فقال ليس محلّه هذا وقد تكلّم فيه ابن عليّة فقال كلّ من اسمه عاصم سيّئ الحفظ وقال أبو حاتم محلّه عندي محلّ الصّدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ واختلف فيه قول النّسائيّ وقال ابن حرّاش في حديثه نكرة وقال أبو جعفر العقيليّ لم يكن فيه إلّا سوء الحفظ وقال الدّارقطنيّ في حفظه شيء وقال يحيى القطّان ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلّا وجدته رديء الحفظ وقال أيضا سمعت شعبة يقول حدّثنا عاصم بن أبي النّجود وفي النّاس ما فيها وقال الذّهبيّ ثبت في القراءة وهو حسن الحديث. وإن احتجّ أحد بأنّ الشّيخين أخرجا له فنقول أخرجا له مقرونا بغيره لا أصلا والله أعلم. وخرّج أبو داود في الباب عن عليّ رضي الله عنه من رواية قطن بن خليفة عن القاسم بن أبي مرّة عن أبي الطّفيل عن عليّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو لم يبق من الدّهر إلّا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا» وقطن [1] بن خليفة وإن وثقه أحمد ويحيى بن القطّان وابن معين والنّسائيّ وغيرهم إلّا أنّ العجليّ قال: حسن الحديث وفيه تشيّع قليل: وقال ابن معين مرّة: ثقة شيعيّ. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنّا نمرّ على قطن وهو مطروح لا نكتب عنه. وقال مرّة: كنت أمرّ به وأدعه مثل الكلب. وقال   [1] وفي نسخ نسخة أخرى فطر بن خليفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الدّارقطنيّ: لا يحتجّ به. وقال أبو بكر بن عيّاش: ما تركت الرّواية عنه إلّا لسوء مذهبه. وقال الجرجانيّ: زائغ غير ثقة انتهى. وخرّج أبو داود أيضا بسنده إلى عليّ رضي الله عنه عن مروان بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق النّسفيّ قال: قال عليّ ونظر إلى ابنه الحسن إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيخرج من صلبه رجل يسمّى باسم نبيّكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلا وقال هارون حدّثنا عمر بن أبي قيس عن مطرّف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر سمعت عليّا يقول: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «يخرج رجل من وراء النّهر يقال له الحارث على مقدّمته رجل يقال له منصور يوطّئ أو يمكن لآل محمّد كما مكّنت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجب على كلّ مؤمن نصره أو قال إجابته» سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في هارون: هو من ولد الشّيعة. وقال السّليمانيّ: فيه نظر. وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس في حديثه خطأ. وقال الذّهبي: صدق له أوهام. وأمّا أبو إسحاق الشّيعيّ وإن خرّج عنه في الصّحيحين فقد ثبت أنّه اختلط آخر عمره وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة. وأمّا السّند الثّاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلّا من رواية مطرّف بن طريف عنه انتهى. وخرّج أبو داود أيضا عن أمّ سلمة قالت سمعت في المستدرك [1] من طريق عليّ بن نفيل عن سعيد بن المسيّب عن أمّ سلمة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المهديّ من ولد فاطمة» ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر المهديّ فقال: «نعم هو حقّ وهو من بني فاطمة» ولم يتكلّم عليه بالصّحيح ولا غيره وقد ضعّفه أبو جعفر العقيليّ وقال: لا يتابع عليّ بن نفيل عليه ولا يعرف إلّا به. وخرّج أبو داود أيضا عن أمّ سلمة من رواية صالح   [1] وردت هذه الجملة في نسخة أخرى كما يلي: «وخرّج أبو داود أيضا عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك ... » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أبي الخليل [1] عن صاحب له عن أمّ سلمة قال: يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكّة فيأتيه ناس من أهل مكّة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الرّكن والمقام فيبعث إليه بعث من الشّام فيخسف بهم بالبيداء بين مكّة والمدينة فإذا رأى النّاس ذلك أتاه أبدال [2] أهل الشّام وعصائب أهل العراق فيبايعونه ثمّ ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال ويعمل في النّاس بسنّة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين وقال بعضهم تسع سنين ثمّ رواه أبو داود من رواية أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أمّ سلمة فتبيّن بذلك المبهم في الإسناد الأوّل ورجاله رجال الصّحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز وقد يقال إنّه من رواية قتادة عن أبي الخليل وقتادة مدلّس وقد عنعنه والمدلّس لا يقبل من حديثه إلّا ما صرّح فيه بالسّماع، مع أنّ الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه. وخرّج أبو داود أيضا وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المهديّ منّي أجلى الجبهة اقنى [3] الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يملك سبع سنين» هذا لفظ أبي داود وسكت عليه ولفظ الحاكم: «المهديّ منّا أهل البيت أشمّ الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يعيش هكذا ويبسط يساره وإصبعين من يمينه السّبّابة والإبهام وعقد ثلاث [4] » قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه. 1 هـ-. وعمران القطّان مختلف في الاحتجاج به إنّما أخرج له البخاريّ استشهادا لا أصلا وكان يحيى القطّان لا يحدّث عنه وقال يحيى بن معين: ليس بالقويّ وقال مرّة: ليس بشيء. وقال أحمد بن حنبل   [1] وفي نسخة أخرى صالح بن الخليل. [2] الابدال: الأولياء. [3] اجلى الجبهة: واسع الجبهة. اقنى الأنف: مرتفع أعلاه. محدوب في الوسط. [4] وفي نسخة أخرى: «وعقد ثلاثة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أرجو أن يكون صالح الحديث وقال يزيد بن زريع كان حروريّا [1] وكان يرى السّيف على أهل القبلة وقال النّسائيّ ضعيف وقال أبو عبيد الآجريّ: سألت أبا داود عنه، فقال من أصحاب الحسن وما سمعت إلّا خيرا. وسمعته مرّة أخرى ذكره فقال: ضعيف أفتى في إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدّماء. وخرّج التّرمذيّ وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدريّ من طريق زيد العميّ عن أبي صديق النّاجيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ في أمّتي المهديّ يخرج ويعيش خمسا أو سبعا أو تسعا» زيد الشّاكّ قال قلنا: وما ذاك؟ قال سنين! قال: «فيجيء إليه الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني» قال: «فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله» لفظ التّرمذيّ وقال: هذا حديث حسن وقد روى من غير وجه عن أبي سعيد عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولفظ ابن ماجة والحاكم: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر فسبع وإلّا فتسع فتنعم أمّتي فيه نعمة لم يسمعوا بمثلها قطّ تؤتى الأرض أكلها ولا يدّخر منه شيء والمال يومئذ كدوس فيقوم الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني فيقول خذ.» انتهى. وزيد العميّ وإن قال فيه الدّارقطنيّ وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنّه صالح وزاد أحمد إنّه فوق يزيد الرّقاشيّ وفضل بن عيسى إلّا أنّه قال فيه أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال يحيى بن معين في رواية أخرى: لا شيء. وقال مرّة يكتب حديثه وهو ضعيف. وقال الجرجانيّ: متماسك وقال أبو زرعة ليس: بقويّ واهي الحديث ضعيفا وقال أبو حاتم ليس بذاك وقد حدّث عنه شعبة. وقال النّسائيّ: ضعيف وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه ومن يروى عنهم ضعفاء على أنّ شعبة قد روى عنه ولعلّ شعبة لم يرو عن أضعف منه. وقد يقال إنّ حديث التّرمذيّ وقع تفسيرا لما رواه مسلم في صحيحه من   [1] نسبة إلى حروراء بلدة قرب الكوفة والحرورية فرقة من الخوارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 حديث جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يكون في آخر أمّتي خليفة يحثو المال حثوا لا يعدّه عدّا» ومن حديث أبي سعيد قال: «من خلفائكم خليفة يحثو المال حثوا» ومن طريق أخرى عنهما قال: «يكون في آخر الزّمان خليفة يقسم المال ولا يعدّه» انتهى. وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهديّ ولا دليل يقوم على أنّه المراد منها. ورواه الحاكم أيضا من طريق عوف الأعرابيّ عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم السّاعة حتّى تملأ الأرض جورا وظلما وعدوانا ثمّ يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا» وقال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه. ورواه الحاكم أيضا عن طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج في آخر أمّتي المهديّ يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمّة يعيش سبعا أو ثمانيا» يعني حججا وقال فيه حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. مع أنّ سليمان بن عبيد لم يخرّج له أحد من السّتّة لكن ذكره ابن حبّان في الثّقات ولم يرد أنّ أحدا تكلّم فيه ثمّ رواه الحاكم أيضا من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الورّاق وأبي هارون العبديّ عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تملأ الأرض جورا وظلما فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعا أو تسعا فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما» وقال الحاكم فيه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم لأنّه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الورّاق. وأمّا شيخه الآخر وهو أبو هارون العبديّ فلم يخرّج له. وهو ضعيف جدّا متّهم بالكذب ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمّة في تضعيفه. وأمّا الرّاوي له عن حماد بن سلمة فهو أسد بن موسى يلقّب أسد السّنّة وإن قال البخاريّ: مشهور الحديث واستشهد به في صحيحه. واحتجّ به أبو داود والنّسائيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 إلّا أنّه قال مرّة أخرى: ثقة لو لم يصنّف كان خيرا له. وقال فيه محمّد بن حزم: منكر الحديث. ورواه الطّبرانيّ في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصّدّيق النّاجي عن الحسن بن يزيد السعديّ أحد بني بهذلة عن أبي سعيد الخدريّ قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يخرج رجل من أمّتي يقول بسنّتي ينزل الله عزّ وجلّ له القطر من السّماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض منه قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يعمل على هذه الأمّة سبع سنين وينزل على بيت المقدس» وقال الطّبرانيّ: فيه رواه جماعة عن أبي الصّدّيق ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحدا إلّا أبا الواصل فإنّه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد انتهى. وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرّفه بأكثر ممّا في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد ورواية أبي الصّدّيق عنه وقال الذّهبيّ في الميزان: إنّه مجهول. لكن ذكره ابن حبّان في الثّقات وأمّا أبو الواصل الّذي رواه عن أبي الصّدّيق فلم يخرّج له أحد من السّتّة. وذكره ابن حبّان في الثّقات في الطّبقة الثّانية وقال فيه: يروى عن أنس روى عنه شعبة وعتاب بن بشر وخرّج ابن ماجة في كتاب السّنن عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أقبل فتية من بني هاشم فلمّا رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذرفت عيناه وتغيّر لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه فقال: «إنّا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا حتّى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخبر فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتّى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤها جورا فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثّلج» انتهى. وهذا الحديث يعرف عند المحدّثين بحديث الرّايات. ويزيد بن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 زياد راويه قال فيه شعبة: كان رفّاعا يعني يرفع الأحاديث الّتي لا تعرف مرفوعة. وقال محمّد بن الفضيل: من كبار أئمّة الشّيعة. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ وقال مرّة: حديثه ليس بذلك. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال العجليّ: جائز الحديث، وكان بآخره يلقّن. وقال أبو زرعة: ليّن يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ. وقال الجرجانيّ: سمعتهم يضعّفون حديثه. وقال أبو داود: لا أعلم أحدا ترك حديثه وغيره أحبّ إليّ منه. وقال ابن عديّ هو من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه. وروى له مسلم لكن مقرونا بغيره. وبالجملة فالأكثرون على ضعفه. وقد صرّح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الّذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وهو حديث الرّايات. وقال وكيع بن الجرّاح فيه: ليس بشيء. وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال أبو قدامة سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرّايات لو حلف عندي خمسين يمينا أسامة [1] ما صدّقته أهذا مذهب إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ وأورد العقيليّ هذا الحديث في الضّعفاء وقال الذّهبيّ ليس بصحيح. وخرّج ابن ماجة عن عليّ رضي الله عنه من رواية ياسين العجليّ عن إبراهيم بن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه عن جدّه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المهديّ منّا أهل البيت يصلح الله به في ليلة» . وياسين العجليّ وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاريّ فيه نظر. وهذه اللّفظة من اصطلاحه قويّة في التّضعيف جدّا. وأورد له ابن عديّ في الكامل والذّهبيّ في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له وقال هو معروف به. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أمنّا المهديّ أم من غيرنا يا رسول الله؟» فقال: «بل منّا بنا يختم الله كما بنا فتح وبنا يستنقذون من الشّرك وبنا يؤلّف الله قلوبهم بعد   [1] في نسخة أخرى: قسامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 عداوة بيّنة كما بنا ألّف بين قلوبهم بعد عداوة الشّرك» . قال عليّ: «أمؤمنون أم كافرون؟» قال: «مفتون وكافر» . انتهى. وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. وفيه عمر بن جابر الحضرميّ وهو أضعف منه. قال أحمد بن حنبل: روي عن جابر مناكير وبلغني أنّه كان يكذب وقال النّسائيّ: ليس بثقة وقال كان ابن لهيعة شيخا أحمق ضعيف العقل وكان يقول: «عليّ في السّحاب» وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: «هذا عليّ قد مرّ في السّحاب» وخرّج الطّبرانيّ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في آخر الزّمان فتنة يحصل النّاس فيها كما يحصل الذّهب في المعدن فلا تسبّوا أهل الشّام ولكن سبّوا أشرارهم فإنّ فيهم الابدال [1] يوشك أن يرسل على أهل الشّام صيّب من السّماء فيفرّق جماعتهم حتّى لو قاتلتهم الثّعالب غلبتهم فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول بهم خمسة عشر ألفا والمقلّ يقول بهم اثنا عشر ألفا وأمارتهم «أمت أمت» [2] يلقون سبع رايات تحت كلّ راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعا ويردّ الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورأيهم [3] هـ-. وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرّجاه في روايته ثمّ يظهر الهاشميّ فيردّ الله النّاس إلى ألفتهم إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما ذكر. وخرّج الحاكم في المستدرك عن عليّ رضي الله عنه من رواية أبي الطّفيل عن محمّد بن الحنفيّة قال: «كنّا عند عليّ رضي الله عنه فسأله رجل عن المهديّ فقال له: هيهات ثمّ عقد بيده سبعا فقال ذلك يخرج في آخر الزّمان إذا قال الرّجل الله الله قتل ويجمع الله له قوما قزعا [4] كقزع السّحاب يؤلّف الله بين قلوبهم فلا   [1] الأولياء. [2] هذه الكلمة كانت كلمة السر بين أفراد المسلمين في غزوة بدر. [3] في نسخة أخرى: «رايتهم» . [4] أي أفواجا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد دخل فيهم عدّتهم على عدّة أهل بدر لم يسبقهم الأوّلون ولا يدركهم الآخرون وعلى عدد أصحاب طالوت الّذين جاوزوا معه النّهر. قال أبو الطّفيل قال ابن الحنفيّة: أتريده؟ قلت: نعم. قال: فإنّه يخرج من بين هذين الأخشبين [1] قلت لا جرم والله ولا أدعها حتّى أموت» ومات بها يعني مكّة قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين» . وإنّما هو على شرط مسلم فقط فإنّ فيه عمّارا الذّهبيّ [2] ويونس بن أبي إسحاق ولم يخرّج لهما البخاريّ وفيه عمرو بن محمّد العبقريّ ولم يخرّج له البخاريّ احتجاجا بل استشهادا مع ما ينضمّ إلى ذلك من تشيّع عمّار الذّهبيّ وهو وإن وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم النسائيّ وغيرهم فقد قال عليّ بن المدنيّ [3] عن سفيان أنّ بشر بن مروان قطع عرقوبيه قلت في أيّ شيء؟ قال: في التّشيّع. وخرّج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن عليّ بن زياد اليماميّ عن عكرمة بن عمّار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نحن ولد عبد المطّلب سادات أهل الجنّة أنا وحمزة وعليّ وجعفر والحسن والحسين والمهديّ» . انتهى. وعكرمة بن عمّار وإن أخرج له مسلم فإنّما أخرج له متابعة. وقد ضعّفه بعض ووثّقه آخرون وقال أبو حاتم الرّازيّ: هو مدلّس فلا يقبل إلى أن يصرّح بالسّماع عليّ بن زياد. قال الذّهبيّ في الميزان: لا ندري من هو، ثمّ قال الصّواب فيه: عبد الله بن زياد وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس فقد تكلّم فيه الثّوريّ قالوا لأنّه رآه يفتي في مسائل ويخطئ فيها. وقال ابن حبّان: كان ممّن فحش عطاؤه فلا يحتجّ فيه. وقال أحمد بن حنبل: سعيد [4] بن عبد الحميد يدّعي أنّه سمع عرض   [1] «الجبلان المطيفان بمكة وهما: أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقان» . [2] وفي نسخة أخرى «عمّارا الدّهني» . [3] وفي نسخة أخرى «علي بن المديني» . [4] وفي نسخة أخرى «سعد بن عبد الحميد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 كتب مالك والنّاس ينكرون عليه ذلك وهو هاهنا ببغداد لم يحتجّ [1] فكيف سمعها؟ وجعله الذّهبيّ ممّن لم يقدح فيه كلام من تكلّم فيه وخرّج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عبّاس موقوفا عليه قال مجاهد قال لي ابن عبّاس: لو لم أسمع أنّك مثل أهل البيت ما حدّثتك بهذا الحديث قال فقال مجاهد: فإنّه في ستر لا أذكره لمن يكره قال فقال ابن عبّاس: «منّا أهل البيت أربعة منّا السّفّاح ومنّا المنذر ومنّا المنصور ومنّا المهديّ» قال فقال مجاهد: بيّن لي هؤلاء الأربعة. فقال ابن عبّاس: «أمّا السّفّاح فربّما قتل أنصاره وعفا عن عدوّه، وأمّا المنذر أراه قال فإنّه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه ويمسك القليل من حقّه وأمّا المنصور فإنّه يعطى النّصر على عدوّه الشّطر ممّا كان يعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرهب منه عدوّه على مسيرة شهرين والمنصور يرهب منه عدوّه على مسيرة شهر وأمّا المهديّ الّذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وتأمن البهائم السّباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» . قال: «قلت وما أفلاذ كبدها؟» قال: «أمثال الأسطوانة من الذّهب والفضّة» . وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه وإن خرّج له مسلّم فالأكثرون على تضعيفه. وخرّج ابن ماجة عن ثوبان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقتتل عند كبركم [2] ثلاثة كلّهم ابن خليفة ثمّ لا يصير إلى واحد منهم ثمّ تطلع الرّايات السّود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلا لم يقتله قوم» ثمّ ذكر شيئا لا أحفظه قال: «فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثّلج فإنّه خليفة الله المهديّ» . 1 هـ-. ورجاله رجال الصّحيحين إلّا أنّ فيه أبا قلابة الجرميّ وذكر الذّهبيّ وغيره أنّه مدلس وفيه سفيان الثّوريّ وهو مشهور بالتّدليس وكلّ واحد منهما عنعن ولم يصرّح بالسّماع فلا يقبل وفيه عبد الرّزاق بن همّام وكان مشهورا بالتّشيّع وعمي   [1] وفي نسخة أخرى «لم يحجّ» . [2] وفي نسخة أخرى «كنزكم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 في آخر وقته فخلّط قال ابن عديّ: «حدّث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد» ونسبوه إلى التّشيّع. انتهى. وخرّج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزّيديّ من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرميّ عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يخرج ناس من المشرق فيوطّئون للمهديّ» . يعني سلطانه. قال الطّبرانيّ: تفرّد به ابن لهيعة وقد تقدّم لنا في حديث عليّ الّذي خرّجه الطّبراني في معجمه الأوسط أنّ ابن لهيعة ضعيف وأنّ شيخه عمر بن جابر أضعف منه وخرّج البزّار في مسندة والطّبرانيّ في معجمه الأوسط واللّفظ للطّبرانيّ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر فسبع وإلّا فثمان وإلّا فتسع تنعم فيها أمّتي نعمة لم ينعموا بمثلها ترسل السّماء عليهم مدرارا ولا تدّخر الأرض شيئا من النّبات والمال كدوس يقوم الرّجل يقول يا مهديّ أعطني فيقول خذ» . قال الطّبرانيّ والبزّار تفرّد به محمّد بن مروان العجليّ زاد البزّار: ولا نعلم أنّه تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبّان أيضا بما ذكره في الثّقات وقال فيه يحيى بن معين صالح وقال مرّة ليس به بأس فقد اختلفوا فيه وقال أبو زرعة: ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت محمّد بن مروان العجليّ حدّث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها تركتها على عمد وكتب بعض أصحابنا عنه كأنّه ضعّفه. وخرّجه أبو يعلى الموصليّ في مسندة عن أبي هريرة وقال: «حدّثني خليلي أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تقوم السّاعة حتّى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتّى يرجعوا إلى الحقّ قال قلت: وكم يملك؟ قال: خمسا واثنتين قال قلت وما خمسا واثنتين قال لا أدري» . وهذا السّند غير محتجّ به وإن قال فيه بشير بن نهيك وقال فيه أبو حاتم لا يحتجّ به فقد احتجّ به الشّيخان ووثقه النّاس ولم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتجّ به إلّا أنّه قال فيه رجاء [1] ابن أبي رجاء اليشكريّ وهو مختلف فيه قال   [1] وفي نسخة أخرى: «إلا أن فيه رجاء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أبو زرعة ثقة وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرّة: صالح. وعلّق له البخاريّ في صحيحه حديثا واحدا. وخرّج أبو بكر البزّار في مسندة والطّبرانيّ في معجمه الكبير والأوسط عن قرّة بن إياس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لتملأنّ الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما بعث الله رجلا من أمّتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما فلا تمنع السّماء من قطرها شيئا ولا تدّخر الأرض من نباتها يلبث فيكم سبعا أو ثمانيا أو تسعا» . يعني سنين. 1 هـ-. وفيه داود بن المحبّي بن المحرم [1] عن أبيه وهما ضعيفان جدّا. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المهاجرين والأنصار وعليّ بن أبي طالب عن يساره والعبّاس عن يمينه إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار فأغلظ الأنصاريّ للعبّاس فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيد العبّاس وبيد عليّ» وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورا وظلما وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التّميميّ فإنّه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهديّ» . انتهى. وفيه عبد الله بن عمر وعبد الله بن لهيعة وهما ضعيفان. 1 هـ-. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستكون فتنة لا يسكن منها جانب إلّا تشاجر جانب حتّى ينادي مناد من السّماء إنّ أميركم فلان. 1 هـ-. وفيه المثنّى بن الصّباح وهو ضعيف جدّا. وليس في الحديث تصريح بذكر المهديّ وإنّما ذكروه في أبوابه وترجمته استئناسا. فهذه جملة الأحاديث الّتي خرّجها الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزّمان. وهي كما رأيت لم يخلص منها من النّقد إلّا القليل والأقلّ منه. وربّما تمسّك المنكرون لشأنه بما رواه محمّد بن خالد الجنديّ عن أبان بن صالح بن أبي عيّاش عن الحسن البصريّ عن أنس بن مالك عن   [1] وفي نسخة أخرى: داود بن المجبّر بن قحدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا مهديّ إلّا عيسى بن مريم» وقال يحيى بن معين في محمّد بن خالد الجندي: إنّه ثقة. وقال البيهقيّ: تفرّد به محمّد بن خالد. وقال الحاكم فيه: إنّه رجل مجهول واختلف عليه في إسناده فمرّة يروونه [1] كما تقدّم وينسب ذلك لمحمّد بن إدريس الشّافعيّ ومرّة يروونه [1] عن محمّد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. قال البيهقيّ: فرجع إلى رواية محمّد بن خالد وهو مجهول عن أبان بن أبي عيّاش وهو متروك عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو منقطع وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب. وقد قيل «أن لا مهديّ إلّا عيسى» أي لا يتكلّم في المهد إلّا عيسى يحاولون بهذا التّأويل ردّ الاحتجاج به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريج ومثله من الخوارق. وأمّا المتصوّفة فلم يكن المتقدّمون منهم يخوضون في شيء من هذا وإنّما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج المواجد والأحوال وكان كلام الإماميّة والرافضة من الشّيعة في تفضيل عليّ رضي الله عنه والقول بإمامته وادّعاء الوصيّة له بذلك من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والتّبرّي من الشّيخين كما ذكرناه في مذاهبهم ثمّ حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم وكثرت التّآليف في مذاهبهم. وجاء الإسماعيليّة منهم يدّعون الوهيّة الإمام بنوع من الحلول وآخرون يدّعون رجعة من مات من الأئمّة بنوع التّناسخ، وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلّين على ذلك بما قدّمناه من الأحاديث في المهديّ وغيرها. ثمّ حدث أيضا عند المتأخّرين من الصّوفيّة الكلام في الكشف وفيما وراء الحسّ وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة فشاركوا فيها الإماميّة والرّافضة لقولهم بألوهيّة الأئمّة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم أيضا القول بالقطب والإبدال وكأنّه يحاكي مذهب الرّافضة في   [1] وفي نسخة أخرى: يروى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الإمام والنّقباء. وأشربوا أقوال الشّيعة وتوغّلوا في الدّيانة بمذاهبهم، حتّى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أنّ عليّا رضي الله عنه ألبسها الحسن البصريّ وأخذ عليه العهد بالتزام الطّريقة. واتّصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولا يعلم هذا عن عليّ من وجه صحيح. ولم تكن هذه الطّريقة خاصّة بعليّ كرّم الله وجهه بل الصّحابة كلّهم أسوة في طريق الهدى وفي تخصيص هذا بعليّ دونهم رائحة من التّشيّع قويّة يفهم منها ومن غيرها من القوم دخلهم [1] في التّشيّع وانخراطهم في سلكه. وظهر منهم أيضا القول بالقطب وامتلأت كتب الإسماعيليّة من الرّافضة وكتب المتأخرين من المتصوّفة بمثل ذلك في الفاطميّ المنتظر. وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقّنه بعضهم عن بعض وكأنّه مبنيّ على أصول واهية من الفريقين وربّما يستدلّ بعضهم بكلام المنجّمين في القرانات وهو من نوع الكلام في الملاحم ويأتي الكلام عليها في الباب الّذي يلي هذا. وأكثر من تكلّم من هؤلاء المتصوّفة المتأخّرين في شأن الفاطميّ، ابن العربيّ، الحاتميّ في كتاب (عنقاء مغرب) وابن قسيّ في كتاب (خلع النّعلين) وعبد الحقّ بن سبعين وابن أبي واصل [2] تلميذه في شرحه لكتاب (خلع النّعلين) . وأكثر كلماتهم في شأنه ألغاز وأمثال وربّما يصرّحون في الأقلّ أو يصرّح مفسّرو كلامهم. وحاصل مذهبهم فيه على ما ذكر ابن أبي واصل أنّ النّبوة بها ظهر الحقّ والهدى بعد الضّلال والعمى وأنّها تعقبها الخلافة ثمّ يعقب الخلافة الملك ثمّ يعود تجبّرا وتكبّرا وباطلا. قالوا: ولمّا كان في المعهود من سنّة الله رجوع الأمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النّبوة والحقّ بالولاية ثمّ بخلافتها ثمّ يعقبها الدّجل مكان الملك والتّسلّط ثمّ يعود الكفر بحاله. يشيرون بهذا لما وقع من شأن النّبوة والخلافة بعدها والملك بعد الخلافة. هذه ثلاث مراتب. وكذلك الولاية الّتي هي لهذا الفاطميّ والدّجل بعدها كناية عن خروج الدّجّال على أثره والكفر من بعد ذلك. فهي ثلاث   [1] وفي نسخة أخرى: يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم. [2] وفي نسخة أخرى: ابن أبي واطيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 مراتب على نسبة الثّلاث المراتب الأولى. قالوا: ولمّا كان أمر الخلافة لقريش حكما شرعيّا بالإجماع الّذي لا يوهنه إنكار من يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخصّ من قريش بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إمّا ظاهرا كبني عبد المطّلب وإمّا باطنا ممّن كان من حقيقة الآل، والآل من إذا حضر لم يلقّب [1] من هو آله. وابن العربيّ الحاتميّ سمّاه في كتابه «عنقاء مغرب» من تأليفه: خاتم الأولياء وكنى عنه بلبنة الفضّة إشارة إلى حديث البخاريّ في باب خاتم النّبيّين قال صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتا وأكمله حتّى إذا لم يبق منه إلّا موضع لبنة فأنا تلك اللّبنة» فيفسّرون خاتم النّبيّين باللّبنة حتّى أكملت البنيان ومعناه النّبيّ الّذي حصلت له النّبوة الكاملة. ويمثّلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنّبوءة ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرّتبة الّتي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزا للمرتبة التي هي خاتمة النّبوة. فكنى الشّارح [2] عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور. وهما على نسبة واحدة فيهما. فهي لبنة واحدة في التّمثيل. ففي النّبوة لبنة ذهب وفي الولاية لبنة فضّة للتّفاوت بين الرّتبتين كما بين الذّهب والفضّة. فيجعلون لبنة الذّهب كناية عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولبنة الفضّة كناية عن هذا الوليّ الفاطميّ المنتظر وذلك خاتم الأنبياء وهذا خاتم الأولياء. وقال ابن العربيّ فيما نقل ابن أبي واصل عنه وهذا الإمام المنتظر هو من أهل البيت من ولد فاطمة وظهوره يكون من بعد مضيّ (خ ف ج) من الهجرة ورسم حروفا ثلاثة يريد عددها بحساب الجمّل وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستّمائة والفاء أخت القاف بثمانين والجيم المعجمة بواحدة من أسفل ثلاثة وذلك ستّمائة وثلاث وثمانون سنة وهي آخر القرن السّابع ولمّا انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك   [1] وفي نسخة أخرى: لم يغب. [2] وفي نسخة أخرى: الشارع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 بعض المقلّدين لهم على أنّ المراد بتلك المدّة مولده وعبّر بظهوره عن مولده وأنّ خروجه يكون بعد العشر السبعمائة فإنّه الإمام النّاجم من ناحية المغرب. قال: «وإذا كان مولده كما زعم ابن العربيّ سنة ثلاث وثمانين وستّمائة فيكون عمره عند خروجه ستّا وعشرين سنة» قال وزعموا أنّ خروج الدّجّال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمّديّ وابتداء اليوم المحمّديّ عندهم من يوم وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تمام ألف سنة» قال ابن أبيّ واصل في شرحه كتاب (خلع النّعلين) الوليّ المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمّد المهديّ وخاتم الأولياء وليس هو بنبيّ وإنّما هو وليّ ابتعثه روحه وحبيبه. قال صلّى الله عليه وسلّم: «العالم في قومه كالنّبيّ في أمّته» . وقال: «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل ولم تزل البشرى تتابع به من أوّل اليوم المحمّديّ إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم وتأكّدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته وازدلاف زمانه منذ انقضت إلى هلمّ جرّا» قال وذكر الكنديّ: «أنّ هذا الوليّ هو الّذي يصلّي بالنّاس صلاة الظّهر ويجدّد الإسلام ويظهر العدل ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه ويفتح القسطنطينيّة ويصير له ملك الأرض فيتقوّى المسلمون ويعلو الإسلام ويطّهّر دين الحنفيّة فإنّ من صلاة الظّهر إلى صلاة العصر وقت صلاة» قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما بين هذين وقت» وقال الكنديّ أيضا: «الحروف العربيّة غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة وثلاث وأربعون وسبع دجّاليّة [1] ثمّ ينزل عيسى في وقت صلاة العصر فيصلح الدّنيا وتمشي الشّاة مع الذّئب ثمّ مبلغ [2] ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستّون عاما عدد حروف المعجم وهي (ق ي ن) دولة العدل منها أربعون عاما قال ابن أبي واصل وما ورد من قوله لا مهديّ إلّا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته وقيل لا يتكلّم في المهد إلّا عيسى وهذا   [1] نسبة إلى دجال. [2] وفي نسخة أخرى: ثم يبقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 مدفوع بحديث جريج وغيره. وقد جاء في الصّحيح أنّه قال: «لا يزال هذا الأمر قائما حتّى تقوم السّاعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشيّا» . وقد أعطى الوجود أنّ منهم من كان في أوّل الإسلام ومنهم من سيكون في آخره. وقال: «الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستّ وثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن وأوّل أمر معاوية فيكون أوّل أمر معاوية خلافة أخذا بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء وأمّا سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز. والباقون خمسة من أهل البيت من ذرّيّة عليّ يؤيّده قوله: «إنّك لذو قرنيها» يريد الأمّة أي إنّك لخليفة في أوّلها وذرّيّتك في آخرها. وربّما استدلّ بهذا الحديث القائلون بالرّجعة، فالأوّل هو المشار إليه عندهم بطلوع الشّمس من مغربها. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والّذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله وقد أنفق عمر بن الخطّاب كنوز كسرى في سبيل الله والّذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حين يفتح القسطنطينيّة: فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش. كذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومدّة حكمه بضع» والبضع من ثلاث إلى تسع وقيل إلى عشر وجاء ذكر أربعين وفي بعض الرّوايات سبعين. وأمّا الأربعون فإنّها مدّته ومدّة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده على جميعهم السّلام قال وذكر أصحاب النّجوم والقرانات أنّ مدّة بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاما فيكون الأمر على هذا جاريا على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين ثمّ تختلف الأحوال فتكون ملكا» انتهى كلام ابن أبي واصل. وقال في موضع آخر: «نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمّديّ حين تمضي ثلاثة أرباعه» قال وذكر الكنديّ يعقوب بن إسحاق في كتاب الجفر الّذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ذكر فيه القرانات: «أنّه إذا وصل القرآن إلى الثّور على رأس ضحّ بحرفين الضّاد [1] المعجمة والحاء المهملة» يريد ثمانية وتسعين وستّمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى قال وقد ورد في الحديث أنّ عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلّتين مزعفرتين صفراوين ممصّرتين واضعا كفّيه على أجنحة الملكين له لمّة كأنّما خرج من ديماس إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللّؤلؤ كثير خيلان الوجه وفي حديث آخر مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة. وفي آخر: أنّه يتزوّج في الغرب. والغرب دلو البادية يريد أنّه يتزوّج منها وتلد زوجته. وذكر وفاته بعد أربعين عاما. وجاء أنّ عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب عمر بن الخطّاب. وجاء أنّ أبا بكر وعمر يحشران بين نبيّين قال ابن أبي واطيل: «والشّيعة تقول إنّه هو المسيح مسيح المسائح من آل محمّد قلت وعليه حمل بعض المتصوّفة حديث لا مهديّ إلّا عيسى أي لا يكون مهديّ إلّا المهديّ الّذي نسبته إلى الشّريعة المحمّديّة نسبة عيسى إلى الشّريعة الموسويّة في الاتباع وعدم النّسخ إلى كلام من أمثال هذا يعيّنون فيه الوقت والرّجل والمكان بأدلّة واهية وتحكّمات مختلفة فينقضي الزّمان ولا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات لغويّة وأشياء تخييليّة وأحكام نجوميّة في هذا انقضت أعمار الأوّل منهم والآخر. وأمّا المتصوّفة الّذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدّد لأحكام الملّة ومراسم الحقّ ويتحيّنون ظهوره لما قرب من عصرنا فبعضهم يقول من ولد فاطمة وبعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسيّ كبير الأولياء بالمغرب كان في أوّل هذه المائة الثّامنة وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريّا عن أبيه أبي محمّد عبد الله عن أبيه الوليّ أبي   [1] الضاد عند المغاربة بتسعين والصاد بستين. 1 هـ-. قاله نصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 يعقوب المذكور هذا آخر ما اطّلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوّفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهديّ قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا والحقّ الّذي ينبغي أن يتقرّر لديك أنّه لا تتمّ دعوة من الدّين والملك إلّا بوجود شوكة عصبيّة تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتّى يتمّ أمر الله فيه. وقد قرّرنا ذلك من قبل بالبراهين القطعيّة الّتي أريناك هناك وعصبيّة الفاطميّين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيّتهم على عصبيّة قريش إلّا ما بقي بالحجاز في مكّة وينبع بالمدينة من الطّالبين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر وهم منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب بدويّة متفرّقون في مواطنهم وإماراتهم يبلغون آلافا من الكثرة فإن صحّ ظهور هذا المهديّ فلا وجه لظهور دعوته إلّا بأن يكون منهم ويؤلّف الله بين قلوبهم في اتّباعه حتّى تتمّ له شوكة وعصبيّة وافية بإظهار كلمته وحمل النّاس عليها وأمّا على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطميّ منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبيّة ولا شوكة إلّا مجرّد نسبة في أهل البيت فلا يتمّ ذلك ولا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصّحيحة. وأمّا ما تدّعيه العامّة والأغمار من الدّهماء ممّن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يفيده فيجيبون [1] ذلك على غير نسبة وفي غير مكان، تقليدا لما اشتهر من ظهور فاطمي ولا يعلمون حقيقة الأمر كما بيّنّاه وأكثر ما يجيبون [2] في ذلك القاصية من الممالك وأطراف العمران مثل الزّاب بإفريقيّة والسّوس من المغرب. ونجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطا بماسة لما كان ذلك الرّباط بالمغرب من الملثّمين من كدالة واعتقادهم أنّه منهم أو قائمون بدعوته زعما لا مستند لهم إلّا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثرة أو قلّة أو ضعف أو قوّة ولبعد القاصية عن منال الدّولة وخروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن ربقة   [1] وفي نسخة أخرى: ولا علم يقيده، فيتحينون. [2] وفي نسخة أخرى: يتحينون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الدّولة ومنال الأحكام والقهر ولا محصول لديهم في ذلك إلّا هذا. وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتّلبيس بدعوة يمييه [1] تمامها وسواسا وحمقا، وقتل كثير منهم. اخبرني شيخنا محمّد بن إبراهيم الأبلّيّ قال خرج برباط ماسة لأوّل المائة الثّامنة وعصر السّلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التّصوّف يعرف بالتّويزريّ نسبة إلى توزر مصغّرا وادّعى أنّه الفاطميّ المنتظر واتّبعه الكثير من أهل السّوس من ضالّة وكزولة وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدسّ عليه السّكسيويّ من قتله بياتا وانحلّ أمره. وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السّابعة وعشر التّسعين منها رجل يعرف بالعبّاس وادّعى أنّه الفاطميّ واتّبعه الدّهماء من غمارة ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتمّ أمره. وكثير من هذا النّمط. وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا وهو أنّه صحب في حجّة في رباط العباد وهو مدفن الشّيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطلّ عليها رجلا من أهل البيت من سكّان كربلاء كان متبوعا معظّما كثير التّلميذ والخادم. قال وكان الرّجال من موطنه يتلقّونه بالنّفقات في أكثر البلدان. قال وتأكّدت الصّحبة بيننا في ذلك الطّريق فانكشف لي أمرهم وأنّهم إنّما جاءوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر وانتحال دعوة الفاطميّ بالمغرب. فلمّا عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل تلمسان قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا. ويدلّ هذا القول من هذا الرّجل على أنّه مستبصر في أنّ الأمر لا يتمّ إلّا بالعصبيّة المكافئة لأهل الوقت فلمّا علم أنّه غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له وأنّ عصبيّة بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان ورجع إلى الحقّ وأقصر عن مطامعه. وبقي عليه أن يستيقن أنّ عصبيّة الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيّما في المغرب إلّا أنّ التّعصّب لشأنه لم   [1] كذا في جميع النسخ وهو تحريف ولا معنى لكلمة يميه، ومقتضى السياق أن تكون العبارة: «بدعوة يكون تمامها وسواسا وحمقا» وفي نسخة لجنة البيان العربيّ «بدعوة تمنيه النفس تمامها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 يتركه لهذا القول والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدّعاة إلى الحقّ والقيام بالسّنّة لا ينتحلون فيها دعوة فاطميّ ولا غيره وإنّما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السّنّة وتغيير المنكر ويعني بذلك ويكثر تابعه. وأكثر ما يعنون بإصلاح السّابلة لما أنّ أكثر فساد الأعراب فيها لما قدّمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا إلّا أنّ الصبغة الدّينيّة فيهم لم تستحكم لما أنّ توبة العرب ورجوعهم إلى الدّين إنّما يقصدون بها الإقصار عن الغارة والنّهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الدّيانة غير ذلك لأنّها المعصية الّتي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم، فتجد ذلك المنتحل للدّعوة والقائم بزعمه بالسّنّة غير متعمّقين في فروع الاقتداء والاتّباع إنّما دينهم الإعراض عن النّهب والبغي وإفساد السّابلة ثمّ الإقبال على طلب الدّنيا والمعاش بأقصى جهدهم. وشتّان بين طلب هذا الأجر من إصلاح الخلق ومن طلب الدّنيا فاتّفاقهما ممتنع لا تستحكم له صبغة في الدّين ولا يكمل له نزوع عن الباطل على الجملة ولا يكثرون. ويختلف حال صاحب الدّعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعه فإذا هلك انحلّ أمرهم وتلاشت عصبيّتهم وقد وقع ذلك بإفريقيّة لرجل من كعب من سليم يسمّى قاسم بن مرّة بن أحمد في المائة السّابعة ثمّ من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلّم وكان يسمّى سعادة وكان أشدّ دينا من الأوّل وأقوم طريقة في نفسه ومع ذلك فلم يستتبّ أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدّعوة يتشبّهون بمثل ذلك ويلبّسون فيها وينتحلون اسم السّنّة وليسوا عليها إلّا الأقلّ فلا يتمّ لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الفصل الرابع والخمسون في ابتداء الدول والأمم وفي الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر اعلم أنّ من خواصّ النّفوس البشريّة التّشوّق إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشرّ سيّما الحوادث العامّة كمعرفة ما بقي من الدّنيا ومعرفة مدد الدّول أو تفاوتها والتّطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها ولذلك تجد الكثير من النّاس يتشوّقون إلى الوقوف على ذلك في المنام والأخبار من الكهّان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسّوقة معروفة ولقد نجد في المدن صنفا من النّاس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص النّاس عليه فينتصبون لهم في الطّرقات والدّكاكين يتعرّضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خطّ في الرّمل ويسمّونه المنجّم وطرق بالحصى والحبوب ويسمّونه الحاسب ونظر في المرايا والمياه ويسمّونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرّر في الشّريعة من ذمّ ذلك وإنّ البشر محجوبون عن الغيب إلّا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية. وأكثر ما يعتني [1] بذلك ويتطلّع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه وكلّ أمّة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجّم أو وليّ في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدّثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدّة بقاء الدّولة وعدد الملوك فيها والتّعرّض لأسمائهم ويسمّى مثل ذلك الحدثان وكان في العرب الكهّان   [1] الأصح أن يقول: وأكثر من يعتني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والعرّافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدّولة كما وقع لشقّ وسطيح في تاويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثمّ رجوعها إليهم ثمّ ظهر الملك والدّولة للعرب من بعد ذلك وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حيث بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح وأخبرهم بظهور دولة العرب. وكذا كان في جيل البربر كهّان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن ويقال من غمرة له كلمات حدثانيّة على طريقة الشّعر برطانتهم وفيها حدثان كثير ومعظمه فيما يكون. لزناتة من الملك والدّولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل وهم يزعمون تارة أنّه وليّ وتارة أنّه كاهن وقد يزعم بعض مزاعمهم أنّه كان نبيّا لأنّ تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير والله أعلم. وقد يستند الجيل إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإنّ أنبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عند ما يعنونهم في السّؤال عنه. وأمّا في الدّولة الإسلاميّة فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدّنيا ومدّتها على العموم وفيما يرجع إلى الدّولة وأعمارها على الخصوص وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام لآثار منقولة عن الصّحابة وخصوصا مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأخبار ووهب بن منبّه وأمثالهما وربّما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة وتأويلات محتملة. ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه والله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ فيكم محدّثين» فهم أولى النّاس بهذه الرّتب الشّريفة والكرامات الموهوبة. وأمّا بعد صدر الملّة وحين علق النّاس على العلوم والاصطلاحات وترجمت كتب الحكماء إلى اللّسان العربيّ. فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجّمين في الملك والدّول وسائر الأمور العامّة من القرانات وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصّة من الطّوالع لها وهي شكل الفلك عند حدوثها فلنذكر الآن ما وقع لأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الأثر في ذلك ثمّ نرجع إلى كلام المنجّمين. أمّا أهل الأثر فلهم في مدّة الملل وبقاء الدّنيا على ما وقع في كتاب السّهيليّ فإنّه نقل عن الطّبريّ ما يقتضي أنّ مدّة بقاء الدّنيا منذ الملّة خمسمائة سنة ونقض ذلك بظهور كذبه ومستند الطّبريّ في ذلك أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّ الدّنيا جمعة من جمع الآخرة ولم يذكر لذلك دليلا. وسرّه والله أعلم تقدير الدّنيا بأيّام خلق السّماوات والأرض وهي سبعة ثمّ اليوم بألف سنة لقوله: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» 22: 47 وقد ثبت في الصّحيحين: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشّمس» وقال: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وأشار بالسّبّابة والوسطى وقدّر ما بين صلاة العصر وغروب الشّمس حين صيرورة ظلّ كلّ شيء مثليه يكون على التّقريب نصف سبع، وكذلك وصل الوسطى على السّبّابة فتكون هذه المدّة نصف سبع الجمعة كلّها وهو خمسمائة سنة ويؤيّده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يعجز الله أن يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم» فدلّ ذلك على أنّ مدّة الدّنيا قبل الملّة خمسة آلاف وخمسمائة سنة وعن وهب بن منبّه أنّها خمسة آلاف وستّمائة سنة أعني الماضي وعن كعب أنّ مدّة الدّنيا كلّها ستّة آلاف سنة قال السّهيليّ: «وليس في الحديثين ما يشهد لشيء ممّا ذكره مع وقوع الوجود بخلافه» . فأمّا قوله: «لن يعجز الله ان يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم» فلا يقتضي نفي الزّيادة على النّصف وأمّا قوله: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» فإنّما فيه الإشارة إلى القرب وأنّه ليس بينه وبين السّاعة نبيّ غيره ولا شرع غير شرعه ثمّ رجع السّهيليّ إلى تعيين أمد الملّة من مدرك آخر لو ساعده التّحقيق وهو أنّه جمع الحروف المقطّعة في أوائل السّور بعد حذف المكرّر قال وهي أربعة عشر حرفا يجمعها قولك (ألم يسطع نص حق كره) فأخذ عددها بحساب الجمّل فكان سبعمائة وثلاثة [1] أضافه إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثته فهذه هي مدّة   [1] هذا العدد غير مطابق كما أن المترجم التركي لم يطابق في قوله 930 وإنما المطابق للحروف المذكورة 692 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الملّة قال ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها قلت: وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التّعويل عليه. والّذي حمل السّهيليّ على ذلك إنّما هو ما وقع في كتاب السّير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أخبار اليهود وهما أبو ياسر وأخوه حيّ حين سمعا من الأحرف المقطّعة (الم 2: 1) وتأوّلاها على بيان المدّة بهذا الحساب فبلغت إحدى وسبعين فاستقلّا المدّة وجاء حيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله: هل مع هذا غيره؟ فقال (المصّ) ثمّ استزاد (الرّثم) ثمّ استزاد (المرّ) فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدّة وقال: قد لبّس علينا أمرك يا محمّد حتّى لا ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثمّ ذهبوا عنه وقال لهم أبو ياسر ما يدريكم لعلّه أعطى عددها كلّها تسعمائة وأربع سنين قال ابن إسحاق فنزل قوله تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» 3: 7. 1 هـ-. ولا يقوم من القصّة دليل على تقدير الملّة بهذا العدد لأنّ دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعيّة ولا عقليّة وإنّما هي بالتّواضع والاصطلاح الّذي يسمّونه حساب الجمّل نعم إنّه قديم مشهور وقدم الاصطلاح لا يصير حجّة وليس أبو ياسر وأخوه حيّ ممّن يؤخذ رأيه في ذلك دليلا ولا من علماء اليهود لأنّهم كانوا بادية بالحجاز غفلا عن الصّنائع والعلوم حتّى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملّتهم وإنّما يتلقّفون مثل هذا الحساب كما تتلقّفه العوامّ في كلّ ملّة فلا ينهض للسّهيليّ دليل على ما ادّعاه من ذلك. ووقع في الملّة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجماليّ في حديث خرّجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه محمّد بن يحيى الذّهبيّ عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد اللّيثيّ عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال قال حذيفة بن اليمان: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قائد فئة إلى أن تنقضي الدّنيا لا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلّا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته وسكت عليه أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 داود وقد تقدّم أنّه قال في رسالته ما سكت عليه في كتابه فهو صالح وهذا الحديث إذا كان صحيحا فهو مجمل ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجوّد أسانيدها. وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السّنن على غير هذا الوجه فوقع في الصّحيحين من حديث حذيفة أيضا قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فما ترك شيئا يكون في مقامه ذاك إلى قيام السّاعة إلّا حدّث عنه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علّمه أصحابه هؤلاء. 1 هـ-. ولفظ البخاريّ: ما ترك شيئا إلى قيام السّاعة إلّا ذكره وفي كتاب التّرمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ قال صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما صلاة العصر بنهار ثمّ قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام السّاعة إلّا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه 1 هـ- وهذه الأحاديث كلّها محمولة على ما ثبت في الصّحيحين من أحاديث الفتن والاشتراط لا غير لأنّه المعهود من الشّارع صلوات الله وسلامه عليه في أمثال هذه العمومات وهذه الزّيادة الّتي تفرّد بها أبو داود في هذه الطّريق شاذّة منكرة مع أنّ الأئمّة اختلفوا في رجاله فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثه مناكير. وقال البخاريّ يعرف منه وينكر وقال ابن عديّ أحاديثه غير محفوظة وأسامة بن زيد وإن خرّج له في الصّحيحين ووثّقه ابن معين فإنّما خرّج له البخاريّ استشهادا وضعّفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل وقال ابن حاتم يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وأبو قبيصة ابن ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزّيادة الّتي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مرّ. وقد يستندون في حدثان الدّول على الخصوص إلى كتاب الجفر ويزعمون أنّ فيه علم ذلك كلّه من طريق الآثار والنّجوم لا يزيدون على ذلك ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده واعلم أنّ كتاب الجفر كان أصله أنّ هارون بن سعيد العجليّ وهو رأس الزّيديّة كان له كتاب يرويه عن جعفر الصّادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر ونظائره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الّذي يقع لمثلهم من الأولياء وكان مكتوبا عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارون العجليّ وكتبه وسمّاه الجفر باسم الجلد الّذي كتب فيه لأنّ الجفر في اللّغة هو الصّغير وصار هذا الاسم علما على هذا الكتاب عندهم وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مرويّة عن جعفر الصّادق. وهذا الكتاب لم تتّصل روايته ولا عرف عينه وإنّما يظهر منه شواذّ من الكلمات لا يصحبها دليل ولو صحّ السّند إلى جعفر الصّادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات وقد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول وقد حذّر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف. وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك بهم علما ودينا وآثارا من النّبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطّيّبة وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد وفي أخبار دولة العبيديّين كثير منه وانظر ما حكاه ابن الرّقيق في لقاء أبي عبد الله الشّيعيّ لعبيد الله المهديّ مع ابنه محمّد الحبيب وما حدّثاه به وكيف بعثاه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب وبثّ الدّعوة فيه على علم لقّنه أنّ دعوته تتمّ هناك وأنّ عبيد الله لمّا بنى المهديّة بعد استفحال دولتهم بإفريقيّة قال: «بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار» وأراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالهديّة وكان يسأل عن منتهى موقفه حتّى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الّذي عيّنه جدّه أبو عبيد الله فأيقن بالظّفر وبرز من البلد فهزمه واتّبعه إلى ناحية الزّاب فظفر به وقتله ومثل هذه الأخبار كثيرة. وأمّا المنجّمون فيستندون في حدثان الدّول إلى الأحكام النّجوميّة أمّا في الأمور العامّة مثل الملك والدّول فمن القرانات وخصوصا بين العلويّين وذلك أنّ العلويّين زحل والمشتري يقترنان في كلّ عشرين سنة مرّة ثمّ يعود القران إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 برج آخر في تلك المثلّثة من التّثليث الأيمن ثمّ بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرّر في المثلّثة الواحدة اثنتي عشرة مرّة تستوي بروجه الثّلاثة في ستّين سنة ثمّ يعود فيستوي بها في ستين سنة ثمّ يعود ثالثة ثمّ رابعة فيستوي في المثلّثة باثنتي عشرة مرّة وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة ويكون انتقاله في كلّ برج على التّثليث الأيمن وينتقل من المثلّثة إلى المثلّثة الّتي تليها أعني البرج الّذي يلي البرج الأخير من القران الّذي قبله في المثلّثة وهذا القران الّذي هو قران العلويّين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط فالكبير هو اجتماع العلويّين في درجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستّين سنة مرّة واحدة والوسط هو اقتران العلويّين في كلّ مثلّثة اثنتي عشرة مرّة وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلّثة أخرى والصّغير هو اقتران العلويّين في درجة برج وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخر على تثليثه الأيمن في مثل درجة أو دقائقه مثال ذلك وقع القران يكون أوّل دقيقة من الحمل وبعد عشرين يكون في أوّل دقيقة من الأسد وهذه كلها ناريّة وهذا كلّه قران صغير ثمّ يعود إلى أوّل الحمل بعد ستّين سنة ويسمّى دور القران وعود القران وبعد مائتين وأربعين ينتقل من النّاريّة إلى التّرابيّة لأنّها بعدها وهذا قران وسط ثمّ ينتقل إلى الهوائيّة ثمّ المائيّة ثمّ يرجع إلى أوّل الحمل في تسعمائة وستّين سنة وهو الكبير والقران الكبير يدلّ على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدّولة وانتقال الملك من قوم إلى قوم والوسط على ظهور المتغلّبين والطّالبين للملك والصّغير على ظهور الخوارج والدّعاة وخراب المدن أو عمرانها ويقع في أثناء هذه القرانات قران النّحسين في برج السّرطان في كلّ ثلاثين سنة مرّة ويسمّى الرّابع وبرج السّرطان هو طالع العالم وفيه وبال زحل وهبوط المرّيخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب وسفك الدّماء وظهور الخوارج وحركة العساكر وعصيان الجند والوباء والقحط ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السّعادة والنّحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدّليل فيه. قال جراس بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 أحمد الحاسب في الكتاب الّذي ألّفه لنظام الملك ورجوع المرّيخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملّة الإسلاميّة لأنّه كان دليلها فالمولد النّبويّ كان عند قران العلويّين ببرج العقرب فلمّا رجع هنالك حدث التّشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدّين ونقصت أحوالهم وربّما انهدم بعض بيوت العبادة وقد يقال إنّه كان عند قتل عليّ رضي الله عنه ومروان من بني أميّة والمتوكّل من بني العبّاس فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام وذكر شاذان البلخيّ: أنّ الملّة تنتهي إلى ثلاثمائة وعشرين. وقد ظهر كذب هذا القول. وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين منها اختلاف كثير ولم يصحّ ذلك. وقال خراش: رأيت في كتب القدماء أنّ المنجّمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النّبوة فيهم. وأنّ دليلهم الزّهرة وكانت في شرفها فيبقى الملك فيهم أربعين سنة وقال أبو معشر في كتاب القرانات القسمة إذا انتهت إلى السّابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزّهرة ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبيّ ويكون قوّة ملكه ومدّته على ما بقي من درجات شرف الزّهرة وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت ومدّة ذلك ستّمائة وعشر سنين وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزّهرة ووقوع القسمة أوّل الحمل وصاحب الجدّ المشتري. وقال يعقوب بن إسحاق الكنديّ إنّ مدّة الملّة تنتهي إلى ستّمائة وثلاث وتسعين سنة. قال: لأنّ الزّهرة كانت عند قران الملّة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة من الحوت فالباقي إحدى عشرة درجة وثمان عشرة دقيقة ودقائقها ستّون فيكون ستّمائة وثلاثا وتسعين سنة. قال: وهذه مدّة الملّة باتّفاق الحكماء ويعضده الحروف الواقعة في أوّل السّور بحذف المكرّر واعتباره بحساب الجمّل. قلت وهذا هو الّذي ذكره السّهيليّ والغالب أنّ الأوّل هو مستند السّهيليّ فيما نقلناه عنه. قال خراش [1] :   [1] وفي نسخة أخرى: جراس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 «سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدّة أردشير وولده ملوك السّاسانيّة» فقال: «دليل ملكه المشتري» وكان في شرفه فيعطى أطول السّنين وأجودها أربعمائة وسبعا وعشرين سنة ثمّ تزيد الزّهرة وتكون في شرفها وهي دليل العرب فيملكون لأنّ طالع القران الميزان وصاحبه الزّهرة وكانت عند القران في شرفها فدلّ أنّهم يملكون ألف سنة وستّين سنة. وسأل كسرى أنوشروان وزيره بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره: أنّ القائم منهم يولد لخمس وأربعين من دولته ويملك المشرق والمغرب والمشتري يغوص إلى الزّهرة وينتقل القران من الهوائيّة إلى العقرب وهو مائيّ وهو دليل العرب فهذه الأدلّة تفضي للملّة بمدة دور الزّهرة وهي ألف وستّون سنة. وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزرجمهر. وقال توفيل الرّوميّ المنجّم في أيّام بني أميّة: إنّ ملّة الإسلام تبقى مدّة القران الكبير تسعمائة وستّين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملّة وتغيّر وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملّة فحينئذ إمّا أن يفتر العمل به أو يتجدّد من الأحكام ما يوجب خلاف الظّنّ. قال خراش: واتّفقوا على أنّ خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنّار حتّى تهلك سائر المكوّنات وذلك عند ما يقطع قلب الأسد أربعا وعشرين درجة وهي حدّ المرّيخ، وذلك بعد مضيّ تسعمائة وستّين سنة. وذكر خراش: أنّ ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هديّة وأنّه تصرّف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه وبعقد اللّواء لطاهر وأنّ المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدّة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتّصاله في ولد أخيه وأنّ العجم يتغلّبون على الخلافة من الدّيلم في دولة سنة خمسين ويكون ما يريده الله ثمّ يسوء حالهم ثمّ تظهر الترك من شمال المشرق فيملكون إلى الشّام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الرّوم ويكون ما يريده الله فقال له المأمون: من أين لك هذا؟ فقال: من كتب الحكماء ومن أحكام صصّة بن داهر الهنديّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الّذي وضع الشّطرنج. قلت والتّرك الّذين أشار إلى ظهورهم بعد الدّيلم هم السّلجوقيّة وقد انقضت دولتهم أوّل القرن السّابع. قال خراش: وانتقال القران إلى المثلّثة المائيّة من برج الحوت يكون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ليزدجرد وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملّة سنة ثلاث وخمسين. قال: والّذي في الحوت هو أوّل الانتقال والّذي في العقرب يستخرج منه دلائل الملّة. قال: وتحويل السّنة الأولى من القران الأوّل في المثلّثات المائيّة في ثاني رجب سنة ثمان وستّين وثمانمائة ولم يستوف الكلام على ذلك. وأمّا مستند المنجّمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه لأنّ له دلالة عندهم على حدوث الدّولة وجهاتها من العمران والقائمين بها من الأمم وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات وقد توجد هذه الدّلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالّا عليه فمن يوجد الكلام في الدّول وقد كان يعقوب بن إسحاق الكنديّ منجّم الرّشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملّة كتابا سمّاه الشّيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصّادق وذكر فيه فيما يقال حدثان: دولة بني العبّاس وأنّها نهايته وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنّها تقع في انتصاف المائة السّابعة وأنّه بانقراضها يكون انقراض الملّة ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولا رأينا من وقف عليه ولعلّه غرق في كتبهم الّتي طرحها هلاكو ملك التّتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمّونه الجفر الصّغير والظّاهر أنّه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأوّلين من ملوك الموحّدين فيه على التّفصيل ومطابقة من تقدّم عن ذلك من حدثانه وكذّب ما بعده وكان في دولة بني العبّاس من بعد الكنديّ منجّمون وكتب في الحدثان وانظر ما نقله الطّبريّ في أخبار المهديّ عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدّولة قال بعث إليّ الرّبيع والحسن في غزاتهما مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الرّشيد أيّام أبيه فجئتهما جوف اللّيل فإذا عندهما كتاب من كتب الدّولة يعني الحدثان وإذا مدّة المهديّ فيه عشر سنين فقلت: هذا الكتاب لا يخفى على المهديّ وقد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه. قالا: فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الورّاق مولى آل بديل وقلت له انسخ هذه الورقة واكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشكّ أنّها هي ثمّ كتب النّاس من بعد ذلك في حدثان الدّول منظوما ومنثورا ورجزا ما شاء الله أن يكتبوه وبأيدي النّاس متفرّقة كثير منها وتسمّى الملاحم. وبعضها في حدثان الملّة على العموم وبعضها في دولة على الخصوص وكلّها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة وليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرّانة من بحر الطّويل على رويّ الرّاء وهي متداولة بين النّاس وتحسب العامّة أنّها من الحدثان العامّ فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل والّذي سمعناه من شيوخنا أنّها مخصوصة بدولة لمتونة لأنّ الرّجل كان قبيل دولتهم وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمّود وملكهم لعدوة الأندلس ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضا قصيدة تسمّى التّبعيّة أوّلها: طربت وما ذاك منّي طرب ... وقد يطرب الطّائر المغتصب وما ذاك منّي للهو أراه ... ولكن لتذكار بعض السّبب قريبا من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال ذكر فيها كثيرا من دولة الموحّدين وأشار فيها إلى الفاطميّ وغيره والظّاهر أنّها مصنوعة ومن الملاحم بالمغرب أيضا ملعّبة من الشّعر الزّجليّ منسوبة لبعض اليهود ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويّين والنّحسين وغيرهما وذكر ميتته قتيلا بفاس وكان كذلك فيما زعموه وأوّله: في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا ... فافهموا يا قوم هذي الاشارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 نجم زحل أخبر بذي العلاما ... وبدّل الشكلا وهي سلاما شاشية زرقا بدل العماما ... وشاش أزرق بدل الغرارا يقول في آخره قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي ... يصلب في بلدة فاس في يوم عيد حتى يجيه الناس من البوادي ... وقتله يا قوم على الفراد وأبياته نحو الخمسمائة وهي في القرانات الّتي دلّت على دولة الموحّدين ومن ملاحم المغرب أيضا قصيدة من عروض المتقارب على رويّ الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحّدين منسوبة لابن الأبّار. وقال لي قاضي قسنطينيّة الخطيب الكبير أبو عليّ بن باديس وكان بصيرا بما يقوله وله قدم في التّنجيم فقال لي: إنّ هذا ابن الأبّار ليس هو الحافظ الأندلسيّ الكاتب مقتول المستنصر وإنّما هو رجل خيّاط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها: عذيري من زمن قلّب ... يغرّ ببارقه الأشنب ومنها. ويبعث من جيشه قائدا ... ويبقى هناك على مرقب فتأتي إلى الشّيخ أخباره ... فيقبل كالجمل الأجرب ويظهر من عدله سيرة ... وتلك سياسة مستجلب ومنها في ذكر أحوال تونس على العموم. فإمّا [1] رأيت الرّسوم امّحت ... ولم يرع حقّ لذي منصب   [1] قوله فإما رأيت أصله فان رأيت زيدت ما وأدغمت في إن الشرطية المحذوف نونها خطأ وفي نسخة فلما رأيت والأولى هي الموجودة في النسخة التونسية. 1 هـ-. قاله نصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فخذ في التّرحّل عن تونس ... وودّع معالمها واذهب فسوف تكون بها فتنة ... تضيف البريء إلى المذنب ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس فيها بعد السّلطان أبي يحيى الشّهير عاشر ملوكهم ذكر محمّد أخيه من بعده يقول فيها: وبعد أبي عبد الإله شقيقه ... ويعرف بالوثّاب في نسخة الأصل إلّا أنّ هذا الرّجل لم يملكها بعد أخيه وكان يمنيّ بذلك نفسه إلى أن هلك ومن الملاحم في المغرب أيضا الملعّبة المنسوبة إلى الهوثنيّ [1] على لغة العامّة في عروض البلد: دعني بدمعي الهتان ... فترت الأمطار ولم تفتر واستقت كلها الويدان ... وانى تملى وتغدر البلاد كلّها تروي ... فأولى بها ميل ما تدري ما بين الصيف والشتوي ... والعام والربيع تجري قال حين صحّت الدعوى: ... دعني نبكي ومن عذر أنادي من ذي الأزمان ... ذا القرن اشتد وتمري وهي طويلة ومحفوظة بين عامّة المغرب الأقصى والغالب عليها الوضع لأنّه لم يصحّ منها قول إلّا على تأويل تحرّفه العامّة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصّة ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربيّ الحاتميّ في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلّا الله لتحلّله إلى أوفاق عدديّة ورموز ملغوزة وأشكال حيوانات تامّة ورءوس مقطّعة وتماثيل من حيوانات غريبة. وفي آخرها قصيدة على رويّ اللّام والغالب أنّها كلّها غير صحيحة لأنّها لم تنشأ عن أصل علميّ   [1] وفي نسخة أخرى الهوشنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 من نجامة ولا غيرها وسمعت أيضا أنّ هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سيناء وابن عقاب وليس في شيء منها دليل على الصّحّة لأنّ ذلك إنّما يؤخذ من القرانات ووقفت بالمشرق أيضا على ملحمة من حدثان دولة التّرك منسوبة إلى رجل من الصّوفيّة يسمّى الباجربقيّ وكلّها إلغاز بالحروف أوّلها. إن شئت تكسف سرّ الجفر يا سائلي ... من علم جفر وصيّ والد الحسن فافهم وكن واعيا حرفا وجملته ... والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن أمّا الّذي قبل عصري لست أذكره ... لكنّني أذكر الآتي من الزّمن بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها ... بحاء ميم بطيش نام في الكنن شين له أثر من تحت سرّته ... له القضاء قضى أي ذلك المنن فمصر والشّام مع أرض العراق له ... وأذربيجان في ملك إلى اليمن ومنها: وآل بوران لما نال طاهرهم ... الفاتك الباتك المعنيّ بالسمن لخلع سين ضعيف السّن سين أتى ... لا لوفاق ونوت ذي قرن قوم شجاع له عقل ومشورة ... يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن ومنها: من بعد باء من الأعوام قتلته ... يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن ومنها: هذا هو الأعرج الكلبيّ فأعن به ... في عصره فتن ناهيك من فتن يأتي من الشرق في جيش يقدّمهم ... عار عن القاف قاف جدّ بالفتن بقتل دال ومثل الشام أجمعها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من ... الزلزال ما زال حاء غير مقتطن طاء وظاء وعين كلّهم حبسوا ... هلكا وينفق أموالا بلا ثمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 يسير القاف قافا عند جمعهم هوّن به إنّ ذاك الحصن في سكن وينصبون أخاه وهو صالحهم لا سلّم الألف سين لذاك بني تمّت ولايتهم بالحاء لا أحد من السنين يداني الملك في الزمن ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر: يأتي إليه أبوه بعد هجرته ... وطول غيبته والشّظف والرزن وأبياتها كثيرة والغالب أنّها موضوعة ومثل صنعتها كان في القديم كثير ومعروف الانتحال. حكى المؤرّخون لأخبار بغداد أنّه كان بها أيّام المقتدر ورّاق ذكيّ يعرف بالدّاناليّ [1] يبلّ الأوراق ويكتب فيها بخطّ عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدّولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرّفعة والجاه كأنّها ملاحم ويحصل على ما يريده منهم من الدّنيا وإنّه وضع في بعض دفاتره ميما مكرّرة ثلاث مرّات وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر. فقال له: هذا كناية عنك وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدّولة ونصب لذلك علامات يموّه بها عليه فبذل له ما أغناه به ثمّ وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولا فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها وأنّه يلي الوزارة للثّاني عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدّنيا في أيّامه وأوقف مفلحا هذا على الأوراق وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النّوع ممّا وقع وممّا لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح. ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب وكان ذلك سببا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز والظّاهر أنّ هذه الملحمة الّتي ينسبونها إلى   [1] وفي نسخة أخرى: الدنيالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الباجربقيّ من هذا النّوع. ولقد سألت أكمل الدّين ابن شيخ الحنفيّة من العجم بالدّيار المصريّة عن هذه الملحمة وعن هذا الرّجل الّذي تنسب إليه من الصّوفيّة وهو الباجربقيّ وكان عارفا بطرائقهم فقال كان من القلندريّة المبتدعة في حلق اللّحية وكان يتحدّث عمّا يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معيّنين عنده ويلغز عليهم بحروف يعيّنها في ضمنها لمن يراه منهم وربّما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع النّاس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخرّاصون من ذلك الجنس في كلّ عصر وشغل العامّة بفكّ رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرّمز إنّما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأمّا مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النّظم لا يتجاوزوه فرأيت من كلام هذا الرّجل الفاضل شفاء لما كان في النّفس من أمر هذه الملحمة «وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق الفصل الأول في أن الدول من المدن والأمصار وأنها إنما توجد ثانية عن الملك وبيانه أنّ البناء واختطاط المنازل إنّما من منازع الحضارة الّتي يدعو إليها التّرف والدّعة كما قدّمناه وذلك متأخّر عن البداوة ومنازعها وأيضا فالمدن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التّعاون وليست من الأمور الضّروريّة للنّاس الّتي تعمّ بها البلوى حتّى يكون نزوعهم إليها اضطرارا بل لا بدّ من إكراههم على ذلك وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغّبين في الثّواب والأجر الّذي لا يفي بكثرته إلّا الملك والدّولة. فلا بدّ في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدّولة والملك. ثمّ إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيّدها وبما اقتضته الأحوال السّماويّة والأرضيّة فيها فعمر الدّولة حينئذ عمر لها فإن كان عمر الدّولة قصيرا وقف الحل فيها عند انتهاء الدّولة وتراجع عمرانها وخربت وإن كان أمد الدّولة طويلا ومدّتها منفسحة فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرّحيبة تكثر وتتعدّد ونطاق الأسواق يتباعد وينفسح إلى أن تتّسع الخطّة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها. ذكر الخطيب في تأريخه أنّ الحمّامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستّين ألف حمّام وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران وكذا حال القيروان وقرطبة والمهديّة في الملّة الإسلاميّة وحال مصر القاهرة بعدها فيما بلغنا لهذا العهد وأمّا بعد انقراض الدّولة المشيّدة للمدينة فإمّا أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدّها العمران دائما فيكون ذلك حافظا لوجودها ويستمرّ عمرها بعد الدّولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأنّ أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرّفه والكسب تدعو إلى الدّعة والسّكون الّذي في طبيعة البشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهّلون وأمّا إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسّسة مادّة تفيدها العمران بترادف السّاكن من بدوها فيكون انقراض الدّولة خرقا لسياجها فيزول حفظها ويتناقص عمرانها شيئا فشيئا إلى أن يبذعرّ [1]   [1] يتفرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ساكنها وتخرب كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق والقيروان والمهديّة وقلعة بني حمّاد بالمغرب وأمثالها فتفهّمه وربّما ينزل المدينة بعد انقراض مختطّيها الأوّلين ملك آخر ودولة ثانية يتّخذها قرارا وكرسيّا يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها فتحفظ تلك الدّولة سياجها وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد أحوال الدّولة الثّانية وترفها وتستجدّ بعمرانها عمرا آخر كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار وذلك أن القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطرّوا للاستيلاء على الأمصار لأمرين أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدّعة والرّاحة وحطّ الأثقال واستكمال ما كان ناقصا من أمور العمران في البدو والثّاني دفع ما يتوقّع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين لأنّ المصر الّذي يكون في نواحيهم ربّما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم والخروج عليهم وانتزاع ذلك الملك الّذي سموا إليه من أيديهم فيعتصم بذلك المصر ويغالبهم ومغالبة المصر على نهاية من الصّعوبة والمشقّة والمصر يقوم مقام العساكر المتعدّدة لما فيه من الامتناع ونكاية [1] الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة لأنّ الشّوكة والعصابة إنّما احتيج إليهما في الحرب للثّبات لما يقع من بعد كرّة القوم بعضهم على بعض عند الجولة وثبات هؤلاء بالجدران فلا يضطرّون إلى كبير عصابة ولا عدد فيكون حال هذا الحصن ومن يعتصم به من المنازعين ممّا يفتّ في عضد [2] الأمّة الّتي تروم الاستيلاء ويخضد شوكة استيلائها فإذا كانت بين   [1] نكيت في العدو: أي هزمته وغلبته (لسان العرب) . [2] فت في عضده: كسر قوته وفرق عنه أعدائه (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن من مثل هذا الانخرام وإن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أوّلا وحطّ أثقالهم وليكون شجا في حلق من يروم العزّة والامتناع عليهم من طوائفهم وعصائبهم فتعيّن أنّ الملك يدعو إلى نزول الأمصار والاستيلاء عليها والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه. الفصل الثالث في أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير قد قدّمنا ذلك في آثار الدّولة من المباني وغيرها وأنّها تكون على نسبتها وذلك أنّ تشييد المدن إنّما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم فإذا كانت الدّولة عظيمة متّسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها وجمعت أيديهم على عملها وربّما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الّذي يضاعف القويّ والقدر في حمل أثقال البناء لعجز القوّة البشريّة وضعفها عن ذلك كالمخّال [1] وغيره وربّما يتوهّم كثير من النّاس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلّقة وشرشال بالمغرب إنّما كانت بقدرهم متفرّقين أو مجتمعين فيتخيّل لهم أجساما تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر الّتي صدرت تلك المباني عنها ويغفل عن شأن الهندام والمخّال وما اقتضته في ذلك الصّناعة الهندسيّة وكثير من المتغلّبين في البلاد يعاين في شأن البناء واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدّولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عيانا وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسمّيها   [1] لم نعثر على هذه الكلمة في القاموس ولا في لسان العرب. والمعروف المخل وهو آلة حديدية تستعمل لرفع الحجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 العامّة عاديّة نسبة إلى قوم عاد لتوهّمهم أنّ مباني عاد ومصانعهم إنّما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم. وليس كذلك، فقد نجد آثارا كثيرة من آثار الّذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى ومباني العبيديّين من الشّيعة بإفريقيّة والصّنهاجيّين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حمّاد وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان وبناء الموحّدين في رباط الفتح ورباط السّلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان وكذلك الحنايا الّتي جلب إليها أهل قرطاجنّة الماء في القناة الرّاكبة عليها ماثلة لهذا العهد وغير ذلك من المباني والهياكل الّتي نقلت إلينا أخبار أهلها قريبا وبعيدا وتيقّنا أنّهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم وإنّما هذا رأي ولع به القصّاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة. ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد وقد ثبت في الحديث الصّحيح أنّها بيوتهم يمرّ بها الرّكب الحجازيّ أكثر السّنين ويشاهدونها لا تزيد في جوّها ومساحتها وسمكها على المتعاهد وإنّهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك حتّى إنّهم ليزعمون أنّ عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السّمك من البحر طريئا فيشويه في الشّمس يزعمون بذلك أنّ الشّمس حارّة فيما قرب منها ولا يعلمون أنّ الحرّ فيما لدينا هو الضّوء لانعكاس الشّعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء وأمّا الشّمس في نفسها فغير حارّة ولا باردة وإنّما هي كوكب مضيء لا مزاج له وقد تقدّم شيء من هذا في الفصل الثّاني حيث ذكرنا أنّ آثار الدّولة على نسبة قوّتها في أصلها. والله يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الفصل الرابع في أن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة والسّبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التّعاون ومضاعفة القدر البشريّة وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتمّ. فيبتدئ الأوّل منهم بالبناء، ويعقبه الثّاني والثّالث، وكلّ واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي حتّى يتمّ القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلا للعيان يظنّه من يراه من الآخرين أنّه بناء دولة واحدة. وانظر في ذلك ما نقله المؤرّخون في بناء سدّ مأرب وأنّ الّذي بناه سبأ بن يشجب وساق إليه سبعين واديا وعاقه الموت عن إتمامه فأتمّه ملوك حمير من بعده ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنّة وقناتها الرّاكبة على الحنايا العاديّة وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها ويشهد لذلك أنّ المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها وتأسيسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها. ويشهد لذلك أيضا أنّا نجد آثارا كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدّول عن هدمها وتخريبها مع أنّ الهدم أيسر من البناء بكثير لأنّ الهدم رجوع إلى الأصل الّذي هو العدم والبناء على خلاف الأصل. فإذا وجدنا بناء تضعف قوّتنا البشريّة عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أنّ القدرة الّتي أسّسته مفرطة القوّة وأنّها ليست أثر دولة واحدة وهذا مثل ما وقع للعرب في إيوان كسرى لمّا اعتزم الرّشيد على هدمه وبعث إلى يحيى بن خالد وهو في محبسه يستشيره في ذلك فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل واتركه ماثلا يستدلّ به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 على عظم ملك آبائك الّذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتّهمه في النّصيحة وقال أخذته النّعرة للعجم والله لأصرعنّه وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه واتّخذ له الفؤوس وحماه بالنّار وصبّ عليه الخلّ حتّى إذا أدركه العجز بعد ذلك كلّه وخاف الفضيحة بعث إلى يحيى يستشيره ثانيا في التّجافي عن الهدم فقال لا تفعل واستمرّ على ذلك لئلّا يقال عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فعرفها الرّشيد وأقصر عن هدمه وكذلك اتّفق للمأمون في هدم الأهرام الّتي بمصر وجمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جوّ بين الحائط والظّاهر وما بعده من الحيطان وهنالك كان منتهى هدمهم وهو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر ويزعم الزّاعمون أنّه وجد ركازا بين تلك الحيطان والله أعلم. وكذلك حنايا المعلّقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم وتستجيد الصّنّاع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيّام العديدة ولا يسقط الصّغير من جدرانها إلّا بعد عصب الرّيق وتجتمع له المحافل المشهورة شهدت منها في أيّام صباي كثيرا «وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 37: 96» . الفصل الخامس فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن المراعاة اعلم أنّ المدن قرار يتّخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من التّرف ودواعيه فتؤثر الدّعة والسّكون وتتوجّه إلى اتّخاذ المنازل للقرار ولمّا كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضارّ بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها فأمّا الحماية من المضارّ فيراعى لها أن يدار على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 منازلها جميعا سياج الأسوار وأن يكون وضع ذلك في متمنّع من الأمكنة إمّا على هضبة متوعّرة من الجبل وإمّا باستدارة بحر أو نهر بها حتّى لا يوصل إليها إلّا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدوّ ويتضاعف امتناعها وحصنها. وممّا يراعى في ذلك للحماية من الآفات السّماويّة طيب الهواء للسّلامة من الأمراض. فإنّ الهواء إذا كان راكدا خبيثا أو مجاورا للمياه الفاسدة أو منافع [1] متعفّنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة وهذا مشاهد. والمدن الّتي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقيّة فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمّى العفن بوجه. ولقد يقال إنّ ذلك حادث فيها ولم تكن كذلك من قبل ونقل البكريّ في سبب حدوثه أنّه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرّصاص. فلمّا فضّ ختامه صعد منه دخان إلى الجوّ وانقطع. وكان ذلك مبدأ أمراض الحميّات فيه وأراد بذلك أنّ الإناء كان مشتملا على بعض أعمال الطّلسمات لوبائه وأنّه ذهب سرّه بذهابه فرجع إليها العفن والوباء. وهذه الحكاية من مذاهب العامّة ومباحثهم الرّكيكة والبكريّ لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبيّن خرفه فنقله كما سمعه. والّذي يكشف لك الحقّ في ذلك أنّ هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيّئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميّات ركودها. فإذا تخلّلتها الرّيح وتفشّت وذهبت بها يمينا وشمالا خفّ شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات. والبلد إذا كان كثير السّاكن وكثرت حركات أهله فيتموّج الهواء ضرورة وتحدث الرّيح المتخلّلة للهواء الرّاكد ويكون ذلك معينا له على الحركة والتّموّج وإذا خفّ السّاكن لم يجد الهواء معينا على حركته وتموّجه وبقي ساكنا راكدا وعظم عفنه وكثر ضرره. وبلد قابس هذه كانت عند ما كانت إفريقية   [1] جمع منقع: موضع منخفض قليلا تتجمع فيه المياه فتتحول إلى مستنقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 مستجدّة العمران كثيرة السّاكن تموج بأهلها موجا فكان ذلك معينا على تموّج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض وعند ما خفّ ساكنها ركد هواؤها المتعفّن بفساد مياهها فكثير العفن والمرض. فهذا وجهه لا غير. وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت ولم يراع فيها طيب الهواء وكانت أوّلا قليلة السّاكن فكانت أمراضها كثيرة فلمّا كثر سكّانها انتقل حالها عن ذلك وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمّى بالبلد الجديد وكثير من ذلك في العالم فتفهّمه تجد ما قلته لك. وأمّا جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرّة فإنّ وجود الماء قريبا من البلد يسهّل على السّاكن حاجة الماء وهي ضروريّة فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامّة. وممّا يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كلّ قرار لا بدّ له من دواجن الحيوان للنّتاج والضّرع والرّكوب ولا بدّ لها من المرعى فإذا كان قريبا طيّبا كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقّة في بعده وممّا يراعى أيضا المزارع فإنّ الزّروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتّخاذه وأقرب في تحصيله ومن ذلك الشّجر للحطب والبناء فإنّ الحطب ممّا تعمّ البلوى في اتّخاذه لوقود النّيران للاصطلاء والطّبخ. والخشب أيضا ضروريّ لسقفهم وكثير ممّا يستعمل فيه الخشب من ضروريّاتهم وقد يراعى أيضا قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النّائية إلّا أنّ ذلك ليس بمثابة الأوّل وهذه كلّها متفاوتة بتفاوت الحاجات وما تدعو إليه ضرورة السّاكن. وقد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطّبيعيّ أو إنّما يراعي ما هو أهمّ على نفسه وقومه، ولا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأوّل الإسلام في المدن الّتي اختطّوها بالعراق وإفريقية فإنّهم لم يراعوا فيها إلّا الأهمّ عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشّجر والماء الملح ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السّائمة من ذوات الظّلف ولا غير ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 كالقيروان والكوفة والبصرة وأمثالها ولهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطّبيعيّة. وممّا يراعى في البلاد السّاحليّة الّتي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمّة من الأمم موفورة العدد تكون صريخا للمدينة متى طرقها طارق من العدوّ والسّبب في ذلك أنّ المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيّات ولا موضعها متوعّر من الجبل كانت في غرّة للبيات وسهل طروقها في الأساطيل البحريّة على عدوّها وتحيّفه لها لما يأمن من وجود الصّريخ لها. وأنّ الحضر المتعوّدين للدّعة قد صاروا عيالا وخرجوا عن حكم المقاتلة. وهذه كالإسكندريّة من المشرق وطرابلس من المغرب وبونة وسلا. ومتى كانت القبائل والعصائب موطّنين بقربها بحيث يبلغهم الصّريخ والنّعير وكانت متوعّرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدوّ ويئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها وما يتوقّعونه من إجابة صريخها كما في سبتة وبجاية وبلد القلّ على صغرها فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الإسكندريّة باسم الثّغر من لدن الدّولة العبّاسيّة مع أنّ الدّعوة من ورائها ببرقة وإفريقية. وإنّما اعتبر في ذلك المخافة المتوقّعة فيها من البحر لسهولة وضعها ولذلك والله أعلم كان طروق العدوّ للاسكندريّة وطرابلس في الملّة مرّات متعدّدة والله تعالى أعلم. الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى فضّل من الأرض بقاعا اختصّها بتشريفه وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثّواب وينمو بها الأجور وأخبرنا بذلك على ألسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 رسله وأنبيائه لطفا بعباده وتسهيلا لطرق السّعادة لهم. وكانت المساجد الثّلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصّحيحين وهي مكّة والمدينة وبيت المقدس. أمّا البيت الحرام الّذي بمكّة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. أمره الله ببنائه وأن يؤذن في النّاس بالحجّ إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصّه القرآن وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر [1] منه. وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السّلام. أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق عليه السّلام حواليه. والمدينة مهاجر نبيّنا محمّد صلوات الله وسلامه عليه أمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها وكان ملحده الشّريف في تربتها فهذه المساجد الثّلاثة قرّة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم وفي الآثار من فضلها ومضاعفة الثّواب في مجاورتها والصّلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أوّليّة هذه المساجد الثّلاثة وكيف تدرّجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم. فأمّا مكّة فأوّليّتها فيما يقال أنّ آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثمّ هدمها الطّوفان بعد ذلك وليس فيه خبر صحيح يعوّل عليه. وإنّما اقتبسوه من محمل الآية في قوله «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ من الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ 2: 127» ثمّ بعث الله إبراهيم وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ما هو معروف وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمّه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما وكيف جعل الله لهما من اللّطف في نبع ماء زمزم ومرور الرّفقة من جرهم بها حتّى احتملوهما وسكنوا إليهما ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فاتّخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتا يأوي إليه وأدار عليه سياجا من الرّدم وجعله زربا [2] لغنمه وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مرارا لزيارته من الشّام   [1] الكعبة. وقال ابن الأثير لمن الحجر هو الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي. [2] زريبة المواشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزّرب فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل ودعا النّاس إلى حجّه وبقي إسماعيل ساكنا به ولمّا قبضت أمّه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثمّ العماليق من بعدهم واستمرّ الحال على ذلك والنّاس يهرعون إليها من كلّ أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممّن دنا أو نأى فقد نقل أنّ التّبابعة كانت تحجّ البيت وتعظّمه وأنّ تبّعا كساها الملاء والوصائل وأمر بتطهيرها وجعل لها مفتاحا. ونقل أيضا أنّ الفرس كانت تحجّه وتقرّب إليه وأنّ غزالي الذّهب اللّذين وجدهما عبد المطّلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم. ولم يزلّ لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتّى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله. ثمّ كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعّبوا إلى كنانة ثمّ كنانة إلى قريش وغيرهم وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره وأخرجوهم من البيت وملّكوا عليهم يومئذ قصيّ بن كلاب فبنى البيت وسقفه بخشب الدّوم وجريد النّخل وقال الأعشى: خلفت بثوبي راهب الدّور والّتي ... بناها قصيّ والمضاض بن جرهم ثمّ أصاب البيت سيل ويقال حريق وتهدّم وأعادوا بناءه وجمعوا النّفقة لذلك من أموالهم وانكسرت سفينة بساحل جدّة فاشتروا خشبها للسّقف وكانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثماني عشرة ذراعا وكان الباب لاصقا بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلّا تدخله السّيول وقصّرت بهم النّفقة عن إتمامه فقصّروا عن قواعده وتركوا منه ستّ أذرع وشبرا أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه وهو الحجر وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصّن ابن الزّبير بمكّة حين دعا لنفسه وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السّكونيّ. ورمى البيت سنة أربع وستّين فأصابه حريق، يقال من النّفط الّذي رموا به على ابن الزّبير فتصدّعت حيطانه فهدمه ابن الزّبير فأعاد بناءه أحسن ممّا كان بعد أن اختلفت عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الصّحابة في بنائه. واحتجّ عليهم بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين شرقيّا وغربيّا» فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السّلام وجمع الوجوه والأكابر حتّى عاينوه وأشار عليه ابن عبّاس بالتّحري في حفظ القبلة على النّاس فأدار على الأساس الخشب ونصب من فوقها الأستار [1] حفظا للقبلة وبعث إلى صنعاء في الفضّة [2] والكلس فحملها. وسأل عن مقطع الحجارة الأوّل فجمع منها ما احتاج إليه ثمّ شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السّلام ورفع جدرانها سبعا وعشرين ذراعا وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه وجعل فرشها وإزرها بالرّخام وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذّهب. ثمّ جاء الحجّاج لحصاره أيّام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدّعت حيطانها. ثمّ لمّا ظفر بابن الزّبير شاور عبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه وردّ البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. ويقال: إنّه ندم على ذلك حين علم صحّة رواية ابن الزّبير لحديث عائشة، وقال: «وددت أنّي كنت حمّلت أبا حبيب في أمر البيت وبنائه ما تحمّل» فهدم الحجّاج منها ستّ أذرع وشبرا مكان الحجر وبناها على أساس قريش وسدّ الباب الغربيّ وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشّرقيّ. وترك سائرها لم يغيّر منه شيئا فكلّ البناء الّذي فيه اليوم بناء ابن الزّبير وبناء الحجّاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البناءين. والبناء متميّز عن البناء بمقدار إصبع شبه الصّدع وقد لحم. ويعرض هاهنا إشكال قويّ لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطّواف ويحذّر الطّائف أن يميل على الشّاذروان الدّائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أنّ الجدر إنّما قامت على بعض الأساس وترك بعضه وهو مكان الشّاذروان وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود لا بدّ من رجوع الطّائف من   [1] في النسخة الباريسية: الستور. [2] وفي النسخة الباريسية: القصّة ومعناها الجصة وهو الأصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 التّقبيل حتّى يستوي قائما لئلّا يقع بعض طوافه داخل البيت وإذا كانت الجدران كلّها من بناء ابن الزّبير وهو إنّما بني على أساس إبراهيم فكيف يقع هذا الّذي قالوه ولا مخلص من هذا إلّا بأحد أمرين أحدهما أن يكون الحجّاج هدم جميعه وأعاده وقد نقل ذلك جماعة إلّا أنّ العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشّقّين من أعلاه على الآخر في الصّناعة يردّ ذلك وإمّا أن يكون ابن الزّبير لم يردّ البيت على أساس إبراهيم مع جميع جهاته وإنّما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزّبير ليست على قواعد إبراهيم وهذا بعيد ولا محيص من هذين والله تعالى أعلم. ثمّ إنّ مساحة البيت وهو المسجد كان فضاء للطّائفين ولم يكن عليه جدر أيّام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر من بعده. ثمّ كثر النّاس فاشترى عمر رضي الله عنه دورا هدمها وزادها في المسجد وأدار عليها جدارا دون القامة وفعل مثل ذلك عثمان ثمّ ابن الزّبير ثمّ الوليد بن عبد الملك وبناه بعمد الرّخام ثمّ زاد فيه المنصور وابنه المهديّ من بعده ووقفت الزّيادة واستقرّت على ذلك لعهدنا. وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر [1] من أن يحاط به وكفى بذلك أن جعله مهبطا للوحي والملائكة ومكانا للعبادة وفرض شرائع الحجّ ومناسكه وأوجب لحرمة من سائر نواحيه من حقوق التّعظيم والحقّ ما لم يوجبه لغيره فمنع كلّ من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم وأوجب على داخله أن يتجرّد من المخيط إلّا إزارا يستره وحمى العائذ به والرّاتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر. وحدّ الحرم الّذي يختصّ بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التّنعيم [2] ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثّنيّة من جبل المنقطع ومن طريق الطّائف سبعة أميال إلى بطن نمرة ومن طريق جدّة سبعة أميال إلى منقطع العشائر. هذا شأن مكّة   [1] وفي النسخة الباريسية: أعظم. [2] التنعيم: مكان بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل أربعة. وبه مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكيون بالعمرة (معجم البلدان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وخبرها وتسمّى أمّ القرى وتسمّى الكعبة لعلوّها من اسم الكعب. ويقال لها أيضا بكّة قال الأصمعيّ: لأنّ النّاس يبكّ بعضهم بعضا إليها أي يدفع وقال مجاهد باء بكّة أبدلوها ميما كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين. وقال النّخعيّ بالباء وبالميم البلد وقال الزّهريّ بالباء للمسجد كلّه وبالميم للحرم وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهليّة تعظّمه والملوك تبعث إليه بالأموال والذّخائر مثل كسرى وغيره وقصّة الأسياف وغزالي الذّهب اللّذين وجدهما عبد المطّلب حين احتفر زمزم معروفة وقد وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح مكّة في الجبّ الّذي كان فيها سبعين ألف أوقيّة من الذّهب ممّا كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكرّرة مرّتين بمائتي قنطار وزنا وقال له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك» فلم يفعل. ثمّ ذكر لأبي بكر فلم يحرّكه. هكذا قال الأزرقيّ. وفي البخاريّ يسنده إلى أبي وائل قال: جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إليّ عمر بن الخطّاب فقال: «هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلّا قسمتها بين المسلمين» قلت: ما أنت بفاعل؟ قال: ولم؟ قلت: فلم يفعله صاحباك فقال هما اللّذان يقتدى بهما. وخرّجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين [1] بن عليّ بن عليّ زين العابدين سنة تسع وتسعين ومائة حين غلب مكّة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها وقال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعا فيها لا ينتفع به نحن أحقّ به نستعين به على حربنا وأخرجه وتصرّف فيه وبطلت الذّخيرة من الكعبة من يومئذ. (وأما بيت المقدس) وهو المسجد الأقصى فكان أوّل أمره أيّام الصّابئة موضع الزّهرة وكانوا يقرّبون إليه الزّيت فيما يقرّبونه يصبّونه على الصّخرة الّتي هناك ثمّ دثر ذلك الهيكل واتّخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. وذلك أنّ موسى صلوات الله عليه لمّا خرج   [1] وفي النسخة الباريسية: الحسين بن الحسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم [1] بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله وأقاموا بأرض التّيه أمره الله باتّخاذ قبّة من خشب السّنط عيّن بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وأن يكون فيها التّابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وأن يصنع مذبحا للقربان وصف ذلك كلّه في التّوراة أكمل وصف فصنع القبّة ووضع فيها تابوت العهد وهو التّابوت الّذي فيه الألواح المصنوعة عوضا عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لمّا تكسّرت ووضع المذبح عندها. وعهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان ونصبوا تلك القبّة بين خيامهم في التّيه يصلّون إليها ويتقرّبون في المذبح أمامها ويتعرّضون [2] للوحي عندها. ولمّا ملكوا أرض الشام أنزلوها (بكلكال) من بلاد الأرض المقدّسة ما بين قسم بني يامين وبني أفراييم. وبقيت هنالك أربع عشرة سنة: سبعا مدّة الحرب، وسبعا بعد الفتح أيّام قسمة البلاد. ولمّا توفي يوشع عليه السّلام نقلوها إلى بلد شيلو قريبا من كلكال، وأداروا عليها الحيطان. وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مرّ، وتغلبوا عليهم. ثمّ ردّوا عليهم القبّة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثمّ نقلت أيام طالوت إلى كنعون في بلاد بني يامين. ولمّا ملك داود عليه السّلام نقل القبة والتّابوت إلى بيت المقدس وجعل عليها خباء خاصّا ووضعها على الصّخرة ... وبقيت تلك القبّة قبلتهم ووضعوها على الصّخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السّلام بناء مسجده على الصّخرة مكانها فلم يتمّ له ذلك وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السّلام. واتّخذ عمده من الصّفر وجعل به صرح الزّجاج وغشّى أبوابه وحيطانه بالذّهب   [1] وفي النسخة الباريسية: ليملكهم. [2] وفي النسخة الباريسية: ويقربون في المذبح أمامها ويتوجهون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذّهب وجعل في ظهره قبرا ليضع [1] فيه تابوت العهد وهو التّابوت الّذي فيه الألواح وجاء به من صهيون بلد أبيه داود نقله إليها أيّام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتيّة حتّى وضعه في القبر ووضعت القبّة والأوعية والمذبح كلّ واحد حيث أعدّ له من المسجد. وأقام كذلك ما شاء الله. ثمّ خرّبه بخت نصّر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التّوراة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الأحجار. ثمّ لمّا أعادهم ملوك الفرس بناه عزيز نبيّ بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الّذي كانت الولادة [2] لبني إسرائيل عليه من سبي بخت نصّر وحدّ لهم في بنيانه حدودا دون بناء سليمان بن داود عليهما السّلام فلم يتجاوزوها. وأمّا الأواوين الّتي تحت المسجد، يركب بعضها بعضا، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. ويتوهّم كثير من النّاس أنّها إصطبلات سليمان عليه السّلام، وليس كذلك. وإنّما بناها تنزيها للبيت المقدّس عمّا يتوهّم من النّجاسة، لأنّ النّجاسات في شريعتهم وإن كانت في باطن الأرض، وكان ما بينها وبين ظاهر الأرض محشوا بالتراب، بحيث يصل ما بينها وبين الظّاهر خطّ مستقيم ينجّس ذلك الظّاهر بالتّوهّم. والمتوهّم عندهم كالمحقق، فبنوا هذه الأواوين على هذه الصّورة بعمود الأواوين السّفليّة تنتهي إلى أقواسها وينقطع خطّه، فلا تتّصل النّجاسة بالأعلى على خط مستقيم. وتنزّه البيت عن هذه النّجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطّهارة والتّقديس. ثمّ تداونتهم ملوك يونان والفرس والرّوم واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدّة ثمّ لبني حشمناي من كهنتهم ثمّ لصهرهم هيرودس ولبنيه من بعده. وبنى هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السّلام وتأنّق فيه حتّى   [1] وفي النسخة الباريسية: ليودع. [2] وفي نسخة أخرى: الولاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 أكمله في ستّ سنين فلمّا جاء طيطش من ملوك الرّوم وغلبهم وملك أمرهم خرّب بيت المقدّس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانه ثمّ أخذ الرّوم بدين المسيح عليه السّلام ودانوا بتعظيمه ثمّ اختلف حال ملوك الرّوم في الأخذ بدين النّصارى تارة وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصّرت أمّه هيلانة وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة الّتي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنّه رمى بخشبته على الأرض وألقى عليها القمامات والقاذورات فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة [1] كأنّها على قبره بزعمهم وهرّبت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزّبل والقمامات على الصّخرة حتّى غطّاها وخفي مكانها جزاء بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثمّ بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الّذي ولد فيه عيسى عليه السّلام وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصّخرة فأري مكانها وقد علاها الزّبل والتّراب فكشف عنها وبنى عليها مسجدا على طريق البداوة وعظّم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أمّ الكتاب في فضله حسبما ثبت ثمّ احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وفي مسجد دمشق وكانت العرب تسمّيه بلاط الوليد وألزم ملك الرّوم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمّقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتمّ بناؤها على ما اقترحه. ثمّ لمّا ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديّين خلفاء القاهر من الشّيعة واختلّ أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامّة ثغور الشّام وبنوا على الصّخرة المقدّسة منه كنيسة كانوا يعظّمونها ويفتخرون ببنائها حتّى إذا استقلّ صلاح الدّين بن أيّوب الكرديّ بملك مصر والشّام ومحا أثر العبيديّين وبدعهم زحف إلى الشّام   [1] كذا في جميع النسخ وكذا أوردها ابن الأثير والطبري وتعرف اليوم بكنيسة القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وجاهد من كان به من الفرنجة حتّى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشّام وذلك لنحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصّخرة وبنى المسجد على النّحو الّذي هو عليه اليوم لهذا العهد. ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصّحيح أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أوّل بيت وضع فقال: «بين مكّة وبين بناء بيت المقدس» قيل فكم بينهما؟ قال: «أربعون سنة» فإنّ المدّة بين بناء مكّة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان لأنّ سليمان بإنية وهو ينيف على الألف بكثير. واعلم أنّ المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنّما المراد أوّل بيت عيّن للعبادة ولا يبعد أن يكون بيت المقدس عيّن للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدّة وقد نقل أنّ الصّابئة بنوا على الصّخرة هيكل الزّهرة فلعلّ ذلك أنّها كانت مكانا للعبادة كما كانت الجاهليّة تضع الأصنام والتّماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها والصّابئة الّذين بنوا هيكل الزّهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السّلام فلا تبعد مدّة الأربعين سنة بين وضع مكّة للعبادة ووضع بيت المقدس وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف وأنّ أوّل من بنى بيت المقدس سليمان عليه السّلام فتفهّمه ففيه حلّ هذا الإشكال. وأمّا المدينة وهي المسمّاة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائيل من العمالقة وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ثمّ جاورهم بنو قيلة من غسّان وغلبوهم عليها وعلى حصونها. ثمّ أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الّذي كان الله قد أعدّه لذلك وشرّفه في سابق أزله وأواه أبناء قيلة ونصروه فلذلك سمّوا الأنصار وتمّت كلمة الإسلام من المدينة حتّى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكّة وملكها وظنّ الأنصار أنّه يتحوّل عنهم إلى بلده فأهمّهم ذلك فخاطبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبرهم أنّه غير متحوّل حتّى إذا قبض صلّى الله عليه وسلّم كان ملحده الشّريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 بها وجاء في فضلها من الأحاديث الصّحيحة ما لا خفاء به ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكّة وبه قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النّصّ الصّريح عن رفيع بن مخدج أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال المدينة خير من مكّة نقل ذلك أبو الوهّاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدلّ بظاهرها على ذلك وخالف أبو حنيفة والشّافعيّ. وأصبحت على كلّ حال ثانية المسجد الحرام وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كلّ أوب فانظر كيف تدرّجت الفضيلة في هذه المساجد المعظّمة لما سبق من عناية الله لها وتفهّم سرّ الله في الكون وتدريجه على ترتيب محكم في أمور الدّين والدّنيا. وأمّا غير هذه المساجد الثّلاثة فلا نعلمه في الأرض إلّا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السّلام بسرنديب من جزائر الهند لكنّه لم يثبت فيه شيء يعوّل عليه وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظّمونها على جهة الدّيانة بزعمهم منها بيوت النّار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز الّتي أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهدمها في غزواته وقد ذكر المسعوديّ منها بيوتا لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق دينيّ ولا يلتفت إليها ولا إلى الخبر عنها ويكفي في ذلك ما وقع في التّواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها والله يهدي من يشاء سبحانه . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة والسّبب في ذلك أنّ هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف من السّنين قبل الإسلام وكان عمرانها كلّه بدويّا ولم تستمرّ فيهم الحضارة حتّى تستكمل أحوالها والدّول الّتي ملكتهم من الإفرنجة والعرب لم يطل أمد ملكهم فيهم حتّى ترسخ الحضارة منها فلم تزل عوائد البداوة وشئونها فكانوا إليها أقرب فلم تكثر مبانيهم وأيضا فالصّنائع بعيدة عن البربر لأنّهم أعرق في البدو والصّنائع من توابع الحضارة وإنّما تتمّ المباني بها فلا بدّ من الحذق في تعلّمها فلمّا لم يكن للبربر انتحال لها لم يكن لهم تشوّق [1] إلى المباني فضلا عن المدن. وأيضا فهم أهل عصبيّات وأنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم والأنساب والعصبيّة أجنح إلى البدو وإنّما يدعو إلى المدن الدّعة والسكون ويصير ساكنها عيالا على حاميتها فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها فلا يدعو إلى ذلك إلّا التّرف والغنى وقليل ما هو في النّاس فلذلك كان عمران إفريقية والمغرب كلّه أو أكثره بدويّا أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال وكان عمران بلاد العجم كلّه أو أكثره قرى وأمصارا ورساتيق من بلاد الأندلس والشّام ومصر وعراق العجم وأمثالها لأنّ العجم ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها ويتباهون في صراحتها والتحامها إلّا في الأقلّ وأكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب لأنّ لحمة النّسب أقرب وأشدّ فتكون عصبيّته كذلك وتنزع بصاحبها إلى سكنى البدو والتّجافي عن المصر الّذي يذهب بالبسالة ويصيّره عيالا على غيره فافهمه وقس عليه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.   [1] وفي نسخة أخرى تشوف. وتشوف إلى الشيء: تطلع إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الفصل الثامن في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول والسّبب في ذلك ما ذكرنا مثله في البربر بعينه إذ العرب أيضا أعرق في البدو وأبعد عن الصّنائع وأيضا فكانوا أجانب من الممالك الّتي استولوا عليها قبل الإسلام ولمّا تملّكوها لم ينفسح الأمد حتّى تستوفي رسوم الحضارة مع أنّهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم وأيضا فكان الدّين أوّل الأمر مانعا من المغالاة أو البنيان والإسراف فيه في غير القصد كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة وقد وقع الحريق في القصب الّذي كانوا بنوا به من قبل فقال افعلوا ولا يزيدنّ أحد على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان والزموا السّنّة تلزمكم الدّولة وعهد إلى الوفد وتقدّم إلى النّاس أن لا يرفعوا بنيانا فوق القدر قالوا: وما القدر؟ قال: «لا يقرّبكم من السّرف ولا يخرجكم عن القصد» . فلمّا بعد العهد بالدّين والتّحرّج في أمثال هذه المقاصد وغلبت طبيعة الملك والتّرف واستخدم العرب أمّة الفرس وأخذوا عنهم الصّنائع والمباني ودعتهم إليها أحوال الدّعة والتّرف فحينئذ شيّدوا المباني والمصانع وكان عهد ذلك قريبا بانقراض الدّولة ولم ينفسح الأمد لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلّا قليلا وليس كذلك غيرهم من الأمم فالفرس طالت مدّتهم آلافا من السّنين وكذلك القبط والنّبط والرّوم وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتّبابعة طالت آمادهم ورسخت الصّنائع فيهم فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عددا وأبقى على الأيّام أثرا واستبصر في هذا تجده كما قلت والله وارث الأرض ومن عليها . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل والسّبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصّنائع كما قدّمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها وله والله أعلم وجه آخر وهو أمسّ به وذلك قلّة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه في المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنّه بالتّفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطّبيعيّ والعرب بمعزل عن هذا وإنّما يراعون مراعي إبلهم خاصّة لا يبالون بالماء طاب أو خبث ولا قلّ أو كثر ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض ونقلهم الحبوب من البلد البعيد وأمّا الرّياح فالقفر مختلف للمهابّ كلّها والظّعن كفيل لهم بطيبها لأنّ الرّياح إنّما تخبث مع القرار والسّكنى وكثرة الفضلات وانظر لمّا اختطّوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلّا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظّعن فكانت بعيدة عن الوضع الطّبيعيّ للمدن ولم تكن لها مادّة تمدّ عمرانها من بعدهم كما قدّمنا أنّه يحتاج إليه في العمران فقد كانت مواطنها غير طبيعيّة للقرار ولم تكن في وسط الأمم فيعمّرها النّاس فلأوّل وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيّتهم الّتي كانت سياجا لها أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن. «وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 الفصل العاشر في مبادي الخراب في الأمصار اعلم أنّ الأمصار إذا اختطّت أوّلا تكون قليلة المساكن وقليلة آلات البناء من الحجر والجير وغيرهما ممّا يعالى على الحيطان عند التّأنّق كالزّلج [1] والرّخام والرّبج [2] والزّجاج والفسيفساء والصّدف فيكون بناؤها يومئذ بدويّا وآلاتها فاسدة فإذا عظم عمران المدينة وكثر ساكنها كثرت الآلات بكثرة الأعمال حينئذ وكثرت الصّنّاع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها فإذا تراجع عمرانها وخفّ ساكنها قلّت الصّنائع لأجل ذلك وفقدت الإجادة في البناء والإحكام والمعالاة عليه بالتّنميق ثمّ تقلّ الأعمال لعدم السّاكن فيقلّ جلب الآلات من الحجر والرّخام وغيرهما فتفقد ويصير بناؤهم وتشييدهم من الآلات الّتي في مبانيهم فينقلونها من مصنع إلى مصنع لأجل خلاء أكثر المصانع والقصور والمنازل بقلّة العمران وقصوره عمّا كان أوّلا ثمّ لا تزال تنقل من قصر إلى قصر ومن دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة فيعودون إلى البداوة في البناء واتّخاذ الطّوب عوضا عن الحجارة والقصور عن التّنميق بالكلّيّة فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى والمدر وتظهر عليها سيماء البداوة ثمّ تمرّ في التّناقص إلى غايتها من الخراب إن قدّر لها به سنّة الله في خلقه.   [1] الزلج: الصخور الملس (لسان العرب) . [2] الربج: الدرهم الصغير (لسان العرب) وفي النسخة الباريسية السبج: الخرز الأسود (لسان العرب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الفصل الحادي عشر في ان تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة والسّبب في ذلك أنّه قد عرف وثبت أنّ الواحد من البشر غير مستقلّ بتحصيل حاجاته في معاشه وأنّهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك والحاجة الّتي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتدّ ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا. فالقوت من الحنطة مثلا لا يستقلّ الواحد بتحصيل حصّته منه. وإذا انتدب لتحصيله السّتّة أو العشرة من حدّاد ونجّار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السّنبل وسائر مؤن الفلح وتوزّعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنّه حينئذ قوت لأضعافهم مرّات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. فأهل مدينة أو مصر إذا وزّعت أعمالهم كلّها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقلّ من تلك الأعمال وبقيت الأعمال كلّها زائدة على الضّرورات فتصرف في حالات التّرف وعوائده وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه فيكون لهم بذلك حظّ من الغنى وقد تبيّن لك في الفصل الخامس في باب الكسب والرّزق أنّ المكاسب إنّما هي قيم الأعمال فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة ودعتهم أحوال الرّفه والغنى إلى التّرف وحاجاته من التّأنق في المساكن والملابس واستجادة الآنية والماعون واتّخاذ الخدم والمراكب وهذه كلّها أعمال تستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها فتنفق أسواق الأعمال والصّنائع ويكثر دخل المصر وخرجه ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية ثمّ زاد التّرف تابعا للكسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وزادت عوائده وحاجاته. واستنبطت الصّنائع لتحصيلها فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأوّل. وكذا في الزّيادة الثّانية والثّالثة لأنّ الأعمال الزّائدة كلّها تختصّ بالتّرف والغنى بخلاف الأعمال الأصليّة الّتي تختصّ بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه بعوائد من التّرف لا توجد في الآخر فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في التّرف أبلغ من حال المصر الّذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف. القاضي مع القاضي والتّاجر مع التّاجر والصّانع مع الصّانع والسّوقيّ مع السّوقيّ والأمير مع الأمير والشّرطيّ مع الشّرطيّ. واعتبر ذلك في المغرب مثلا بحال فاس مع غيرها من أمصاره مثل بجاية وتلمسان وسبتة تجد بينهما بونا كثيرا على الجملة. ثمّ على الخصوصيّات فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان وهكذا كلّ صنف مع صنف أهله. وكذا أيضا حال تلمسان مع وهران أو الجزائر وحال وهران والجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر [1] الّذين اعتمالهم في ضروريّات [2] معاشهم فقط ويقصّرون عنها. وما ذلك إلّا لتفاوت الأعمال فيها فكأنّها كلّها أسواق للأعمال. والخرج في كلّ سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه وكذا القاضي بتلمسان وحيث الدّخل والخرج أكثر تكون الأحوال أعظم وهما بفاس أكثر لنفاق سوق [3] الأعمال بما يدعو إليه التّرف فالأحوال أضخم. ثمّ هكذا حال وهران وقسنطينيّة والجزائر وبسكرة حتّى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار الّتي لا توفّي [4] أعمالها بضروراتها ولا تعدّ في الأمصار إذ هي من قبيل القرى والمدر. فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصّغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة لما أنّ أعمالهم لا تفي   [1] وفي النسخة الباريسية: المداثر [2] وفي النسخة الباريسية: ضرورات. [3] وفي النسخة الباريسية: سائر الأعمال. [4] وفي النسخة الباريسية: تفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 بضروراتهم ولا يفضل ما يتأثّلونه كسبا فلا تنمو مكاسبهم. وهم لذلك مساكين محاويج إلّا في الأقلّ النّادر. واعتبر ذلك حتّى في أحوال الفقراء والسّؤّال فإنّ السّائل بفاس أحسن حالا من السّائل بتلمسان أو وهران. ولقد شاهدت بفاس السّؤّال يسألون أيّام الأضاحي أثمان ضحاياهم ورأيتهم يسألون كثيرا من أحوال التّرف واقتراح المآكل مثل سؤال اللحم والسّمن وعلاج الطّبخ والملابس والماعون كالغربال والآنية. ولو سأل سائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر وعنّف وزجر. ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من التّرف والغنى في عوائدهم ما يقضى [1] منه العجب حتّى أنّ كثيرا من الفقراء بالمغرب ينزعون من الثّقلة إلى مصر لذلك ولما يبلغهم من شأن الرّفه بمصر أعظم من غيرها. ويعتقد العامّة من النّاس أنّ ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم أو أموال مختزنة لديهم [2] . وأنّهم أكثر صدقة وإيثارا من جميع أهل الأمصار وليس كذلك وإنّما هو لما تعرفه من أنّ عمران مصر والقاهرة أكثر من عمران هذه الأمصار الّتي لديك فعظمت لذلك أحوالهم. وأمّا حال الدّخل والخرج فمتكافئ في جميع الأمصار ومتى عظم الدّخل عظم الخرج وبالعكس ومتى عظم الدّخل والخرج اتّسعت أحوال السّاكن ووسع المصر. كلّ شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره واعتبره بكثرة العمران وما يكون عنه من كثرة المكاسبة الّتي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه ومثّله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة وكيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها فإنّ بيوت أهل النّعم والثّروة والموائد الخصبة [3] منها تكثر بساحتها وأقنيتها بنثر الحبوب وسواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النّمل والخشاش ويلحق فوقها عصائب الطّيور حتّى تروح بطانا وتمتلئ شبعا وريّا وبيوت أهل الخصاصة والفقراء الكاسدة أرزاقهم   [1] وفي نسخة أخرى: ما نقضي. [2] وفي النسخة الباريسية: لطموا الأموال في تلك الآفاق، وإن الأموال مختزنة لديهم. [3] وفي النسخة الباريسية: الخصيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلّق بجوّها طائر ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فارة ولا هرّة [1] كما قال الشّاعر: تسقط الطّير حيث تلتقط الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء [2] فتأمّل سرّ الله تعالى في ذلك واعتبر غاشية الأناسيّ بغاشية العجم من الحيوانات وفتات الموائد بفضلات الرّزق والتّرف وسهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم واعلم أنّ اتّساع الأحوال وكثرة النّعم في العمران تابع لكثرته والله سبحانه وتعالى أعلم وهو غنيّ عن العالمين الفصل الثاني عشر في أسعار المدن اعلم أنّ الأسواق كلّها تشتمل على حاجات النّاس فمنها الضّروريّ وهي الأقوات من الحنطة وما معناها كالباقلاء والبصل والثّوم وأشباهه ومنها الحاجيّ والكماليّ مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضّروريّ من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكماليّ من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قلّ ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. والسّبب في ذلك أنّ الحبوب من ضرورات القوت فتتوفّر الدّواعي على اتّخاذها إذ كلّ أحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعمّ اتّخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بدّ من ذلك. وكلّ متّخذ لقوته فتفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كبيرة تسدّ خلّة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل   [1] وفي النسخة الباريسية وردت هذه العبارة: «يأوي إلى أسراب بيوتها فأرة ولا هر» . [2] وفي النسخة الباريسية: يسقط الطير حيث يلتقط الحب ويغشى منازل الكرماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلّا ما يصيبها في بعض السّنين من الآفات السّماويّة ولولا احتكار النّاس لها لما يتوقّع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران. وأمّا سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها لا تعمّ بها البلوى ولا يستغرق اتّخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم ثمّ إنّ المصر إذا كان مستبحرا موفور العمران كثير حاجات التّرف توفّرت حينئذ الدّواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كلّ بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصورا بالغا ويكثر المستامون لها وهي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهل الرّفه والتّرف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. وأمّا الصّنائع والأعمال أيضا في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة: الأوّل كثرة الحاجة لمكان التّرف في المصر بكثرة عمرانه، والثّاني اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم [1] وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، والثّالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم وإلى استعمال الصّنّاع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها فيعتزّ العمّال والصّنّاع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك. وأمّا الأمصار الصّغيرة والقليلة السّاكن فأقواتهم قليلة لقلّة العمل فيها وما يتوقّعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسّكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه فيعزّ وجوده لديهم ويغلو ثمنه على مستامه. وأمّا مرافقهم فلا تدعو إليها أيضا حاجة بقلّة [2] السّاكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختصّ بالرّخص في سعره. وقد يدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض [3] عليها من المكوس والمغارم للسّلطان في الأسواق وباب الحفر والحياة في منافع وصولها   [1] وفي نسخة أخرى بخدمتهم. [2] وفي نسخة أخرى: لقلة. [3] وفي نسخة أخرى: يفرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 عن البيوعات لما يمسّهم [1] . وبذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. وكثرتها [2] في الأنصار لا سيّما في آخر الدّولة وقد تدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. وذلك أنّهم لمّا ألجأهم النّصارى إلى سيف البحر وبلاده المتوعّرة الخبيثة الزّارعة النّكدة النّبات وملكوا عليهم الأرض الزّاكية والبلد الطّيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم وموادّ من الزّبل وغيره لها مؤنة وصارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم. واختصّ قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرّهم النّصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. ويحسب النّاس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنّها لقلّة الأقوات والحبوب في أرضهم وليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحا فيما علمناه وأقومهم عليه وقلّ أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدّان أو مزرعة أو فلح إلّا قليلا من أهل الصّناعات والمهن أو الطّراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. ولهذا يختصّهم السّلطان في عطائهم بالعولة وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزّرع. وإنّما السّبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. ولمّا كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومته [3] فصار ذلك سببا لرخص الأقوات ببلدهم «والله مقدّر اللّيل والنّهار وهو الواحد القهّار لا ربّ سواه» .   [1] وفي نسخة أخرى: وأبواب أخرى: وأبواب المصر وللجباه في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم. [2] وفي نسخة أخرى: وبالعكس كثيرة. [3] وفي نسخة أخرى: عمومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران والسّبب في ذلك أنّ المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدّمناه وتكثر حاجات ساكنه من أجل التّرف. وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات وتصير فيه الأعمال كلّها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية بازدحام الأعراض عليها من أجل التّرف وبالمغارم السّلطانيّة الّتي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأوقات [1] والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. ويعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنّفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مئونتهم [2] . والبدويّ لم يكن دخله كثيرا ساكنا بمكان كاسد الأسواق في الأعمال الّتي هي سبب الكسب فلم يتأثّل كسبا ولا مالا فيتعذّر عليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه وعزّة حاجاته. وهو في بدوه يسدّ خلّته بأقلّ الأعمال لأنّه قليل عوائد التّرف في معاشه وسائر مئونته [2] فلا يضطرّ إلى المال وكلّ من يتشوّف إلى المصر وسكناه من البادية [3] فسريعا ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه إلّا من يقدّم [4] منهم تأثّل المال ويحصل له منه فوق الحاجة ويجري إلى الغاية الطّبيعيّة لأهل العمران من الدّعة والتّرف فحينئذ ينتقل إلى المصر وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم. وهكذا شأن بداءة عمران الأمصار. والله بكلّ شيء محيط.   [1] وفي نسخة أخرى: الأقوات. [2] وفي نسخة أخرى: مؤنهم. [3] وفي نسخة أخرى: من أهل البادية. [4] وفي نسخة أخرى: تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار اعلم أنّ ما توفّر عمرانه من الأقطار وتعدّدت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتّسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسّبب في ذلك كلّه ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما سيأتي ذكره من أنّها سبب للثّروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضّروريّات في حاجات السّاكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على النّاس كسبا يتأثّلونه حسبما نذكر ذلك في فضل المعاش وبيان الرّزق والكسب فيتزيّد الرّفه لذلك وتتّسع الأحوال ويجيء التّرف والغنى وتكثر الجباية للدّولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها ويشمخ سلطانها وتتفنّن في اتّخاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن وتشييد الأمصار. واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشّام وعراق العجم والهند والصّين وناحية الشّمال كلّها وأقطارها وراء البحر الرّوميّ لمّا كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم [1] وتعدّدت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالّذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجّار الأمم النّصرانيّة الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتّساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. وكذا تجّار أهل المشرق وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصّين فإنّه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرّفه غرائب تسير الرّكبان بحديثها وربّما تتلقّى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب من يسمعها من العامّة أنّ ذلك لزيادة في أموالهم أو لأنّ المعادن الذّهبيّة والفضّيّة أكثر بأرضهم أو لأنّ ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك فمعدن الذّهب   [1] وفي بعض النسخ: دولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الّذي نعرفه في هذه الأقطار إنّما هو من بلاد [1] السّودان وهي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنّما يجلبونه إلى غير بلادهم للتّجارة. فلو كان المال عتيدا موفورا لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال ولا استغنوا [2] عن أموال النّاس بالجملة. ولقد ذهب المنجّمون لمّا رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتّساعها ووفور أموالها فقالوا بأنّ عطايا الكواكب والسّهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصا في مواليد أهل المغرب وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النّجوميّة والأحوال الأرضيّة كما قلناه وهم إنّما أعطوا في ذلك السّبب النّجوميّ وبقي عليهم أن يعطوا السّبب الأرضيّ وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال الّتي هي سببه فلذلك اختصّ المشرق بالرّفه من بين الآفاق لا إنّ ذلك لمجرّد الأثر النّجوميّ. فقد فهمت ممّا أشرنا لك أوّلا أنّه لا يستقبل بذلك وأنّ المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمر لا بدّ منه. واعتبر حال هذا الرّفه من العمران في قطر إفريقية وبرقة لمّا خفّ سكنها [3] وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة. وضعفت جباياتها فقلّت أموال دولها بعد أن كانت دول الشّيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرّفه وكثرة الجبايات واتّساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم. حتّى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته وكانت أموال الدّولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعدّ بها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة. وقطر المغرب وإن كان في القديم دون إفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك وكانت أحواله في دول الموحّدين متّسعة وجباياته موفورة وهو لهذا العهد   [1] وفي بعض النسخ: ببلاد. [2] وفي بعض النسخ: ولاستغنوا. [3] وفي بعض النسخ: ساكنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه وتناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره ونقص عن معهوده نقصا ظاهرا محسوسا، وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال إفريقية بعد أن كان عمرانه متّصلا من البحر الرّوميّ إلى بلاد السّودان في طول ما بين السّوس الأقصى وبرقة. وهي اليوم كلّها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى إلّا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التّلول والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. الفصل الخامس عشر في تأثل العقار والضياع في الأمصار وحال فوائدها ومستغلاتها اعلم أنّ تأثّل العقار والضّياع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن لا يكون دفعة واحدة ولا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثّروة ما يملك به الأملاك الّتي تخرج قيمتها عن الحدّ ولو بلغت أحوالهم في الرّفه ما عسى أن تبلغ. وإنّما يكون ملكهم وتأثّلهم لها تدريجا إمّا بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتّى تتأدّى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر لذلك [1] أو أن يكون بحوالة الأسواق فإنّ العقار في آخر الدّولة وأوّل الأخرى عند فناء الحامية وخرق السّياج وتداعي المصر إلى الخراب تقلّ الغبطة به لقلّة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخص قيمها وتتملّك بالأثمان اليسيرة وتتخطّى بالميراث إلى ملك آخر وقد استجدّ المصر شبابه باستفحال الدّولة الثانية وانتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها ويكون لها خطر لم يكن في الأوّل. وهذا معنى الحوالة فيها ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر وليس ذلك بسعيه واكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك. وأمّا فوائد   [1] وفي نسخة أخرى: كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 العقار والضّياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بعوائد التّرف وأسبابه وإنّما هي في الغالب لسدّ الخلّة وضرورة المعاش. والّذي سمعناه من مشيخة البلدان أنّ القصد باقتناء الملك من العقار والضّياع إنّما هو الخشية على من يترك خلفه من الذّرّيّة الضّعفاء [1] ليكون مرباهم به ورزقه فيه ونشؤهم بفائدته ما داموا عاجزين عن الاكتساب فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم وربّما يكون من الولد من يعجز عن التّكسّب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشيّ فيكون ذلك العقار قواما لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. وأمّا التّموّل منه وإجراء أحوال المترفين فلا. وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النّادر بحوالة الأسواق وحصول الكثرة البالغة منه والعالي [2] في جنسه وقيمته في المصر إلّا أنّ ذلك إذا حصل ربّما امتدّت إليه أعين الأمراء والولاة واغتصبوه في الغالب أو أرادوه على بيعه منهم ونالت أصحابه منه مضارّ ومعاطب والله غالب على أمره وهو ربّ العرش العظيم. الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة وذلك أنّ الحضريّ إذا عظم تموّله وكثر للعقار والضّياع تأثّله وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك وانفسحت أحواله في التّرف والعوائد زاحم عليها الأمراء والملوك وغصّوا به. ولما في طباع البشر من العدوان تمتدّ أعينهم إلى تملّك ما بيده وينافسونه فيه ويتحيّلون على ذلك بكلّ ممكن حتّى يحصّلوه [3] في ربقة حكم سلطانيّ وسبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله وأكثر الأحكام   [1] وفي النسخة الباريسية: الضعاف. [2] وفي النسخة الباريسية: والتغالي. وفي نسخة أخرى المغالي. [3] وفي النسخة الباريسية: حتى بحصوله وفي بعض النسخ: حتى يحصلونها- وحتى محصولة والربقة: العروة في الحبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 السّلطانيّة جائزة في الغالب إذ العدل المحض إنّما هو في الخلافة الشّرعيّة وهي قليلة اللّبث قال صلّى الله عليه وسلّم: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تعود ملكا عضوضا» . فلا بدّ حينئذ لصاحب المال والثّروة الشّهيرة في العمران من حامية تذود عنه وجاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبيّة يتحاماها السّلطان فيستظلّ هو بظلّها ويرتع في أمنها من طوارق التّعدّي. وإن لم يكن له ذلك أصبح نهبا بوجوه التّخيّلات وأسباب الحكّام [1] . وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41. الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها والسّبب في ذلك أنّ الحضارة هي أحوال عاديّة زائدة على الضّروريّ من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرّفه وتفاوت الأمم [2] في القلّة والكثرة تفاوتا غير منحصر وتقع فيها عند كثرة التّفنّن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصّنائع ويحتاج كلّ صنف منها إلى القومة عليه والمهرة فيه وبقدر ما يتزيّد من أصنافها تتزيّد أهل صناعتها ويتلوّن ذلك الجيل بها ومتى اتّصلت الأيّام وتعاقبت تلك الصّناعات [3] حذق أولئك الصّنّاع في صناعتهم ومهروا في معرفتها والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرير أمثالها تزيدها استحكاما ورسوخا وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجار العمران وكثرة الرّفه في أهلها. وذلك كلّه إنّما يجيء من قبل الدّولة لأنّ الدّولة تجمع أموال الرّعيّة وتنفقها في بطانتها ورجالها وتتّسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتّساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرّعايا وخرجها في   [1] وفي النسخة الباريسية: الحكم. [2] وفي النسخة الباريسية: تفاوت الأمر. [3] وفي النسخة الباريسية: الصبغات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 أهل الدّولة ثمّ في من تعلّق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيّد عوائد التّرف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصّنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة. ولهذا تجد الأمصار الّتي في القاصية ولو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسّطة في الأقطار الّتي هي مركز الدّولة ومقرّها وما ذاك إلّا لمجاورة السّلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يخضرّ ما قرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد وقد قدّمنا أنّ السّلطان والدّولة سوق للعالم. فالبضائع كلّها موجودة في السّوق وما قرب منه وإذا أبعدت عن السّوق افتقدت البضائع جملة ثمّ إنّه إذا اتّصلت تلك الدّولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واعتبر ذلك في اليهود لمّا طال ملكهم بالشّام نحوا من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتّفنّن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل حتّى إنّها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضا وعوائدها في الشّام منهم ومن دولة الرّوم بعدهم ستّمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. وكذلك أيضا القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السّنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والرّوم ثمّ ملك الإسلام النّاسخ للكلّ. فلم تزل عوائد الحضارة بها متّصلة وكذلك أيضا رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتّصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتّبابعة آلافا من السّنين وأعقبهم ملك مصر. وكذلك الحضارة بالعراق لاتّصال دولة النّبط والفرس بها من لدن الكلدانيّين والكيانيّة [1] والكسرويّة والعرب بعدهم آلافا من السّنين فلم يكن على   [1] وفي نسخة أخرى: الكينية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وجه الأرض لهذا العهد أحضر [1] من أهل الشّام والعراق ومصر. وكذا أيضا رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس لاتّصال الدّولة العظيمة فيها للقوط ثمّ ما أعقبها من ملك بني أميّة آلافا من السّنين وكلتا الدّولتين عظيمة فاتّصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت. وأمّا إفريقية والمغرب فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم إنّما قطع الإفرنجة إلى إفريقية البحر وملكوا السّاحل وكانت طاعة البربر أهل الضّاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة وأوفاز [2] وأهل المغرب لم تجاورهم دولة وإنّما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر ولمّا جاء الله بالإسلام وملك العرب إفريقية والمغرب لم يلبث فيهم ملك العرب إلّا قليلا أوّل الإسلام وكانوا لذلك العهد في طور البداوة ومن استقرّ منهم بإفريقيّة والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلّد فيه من سلفه إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة ثمّ انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على ميسرة المطغريّ أيّام هشام بن عبد الملك ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلّوا بأمر أنفسهم وإن بايعوا لإدريس فلا تعدّ دولته فيهم عربيّة لأنّ البرابر هم الّذين تولّوها ولم يكن من العرب فيها كثير عدد وبقيت إفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشّيء بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه وكثرة عمران القيروان وورث ذلك عنهم كتامة ثمّ صنهاجة من بعدهم وذلك كلّه قليل لم يبلغ أربعمائة سنة وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة وتغلّب بدو العرب الهلاليّين عليها وخرّبوها وبقي أثر خفيّ من حضارة العمران فيها وإلى هذا العهد يونس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهديّة سلف فتجد له من الحضارة في شئون منزله وعوائد أحواله آثارا ملتبسة بغيرها يميّزها الحضريّ البصير بها وكذا في أكثر أمصار إفريقية وليس كذلك في   [1] الأصح أن يقول: أكثر حضارة. [2] في النسخة الباريسية: وأوفاز. وفي نسخة أخرى: قلعة وافان وفي نسخة غيرها: قلعة واوفار. وفاز جمع فازة: بناء من خرق وغيرها تبنى في العساكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 المغرب وأمصاره لرسوخ الدّولة بإفريقيّة أكثر أمدا منذ عهد الأغالبة والشّيعة وصنهاجة وأمّا المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحّدين من الأندلس حظّ كبير من الحضارة واستحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعا وكرها وكانت من اتّساع النّطاق ما علمت فكان فيها حظّ صالح من الحضارة واستحكامها ومعظمها من أهل الأندلس ثمّ انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النّصارى إلى إفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثارا ومعظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وإفريقية حظّ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء ورجع إلى أعقابه وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة وعلى كلّ حال فآثار الحضارة بإفريقيّة أكثر منها بالمغرب وأمصاره لما تداول فيها من الدّول السّالفة أكثر من المغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المتردّدين بينهم. فتفطّن لهذا السّرّ فإنّه خفيّ عن النّاس. واعلم أنّها أمور متناسبة وهي حال الدّولة في القوّة والضّعف وكثرة الأمّة أو الجيل وعظم المدينة أو المصر وكثرة النّعمة واليسار وذلك أنّ الدّولة والملك صورة الخليقة والعمران وكلها مادّة لها من الرّعايا والأمصار وسائر الأحوال وأموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم ومتاجرهم وإذا أفاض السّلطان عطاءه وأمواله في أهلها انبثّت فيهم ورجعت إليه ثمّ إليهم منه فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدّولة يكون يسار الرّعايا وعلى يسار الرّعايا وكثرتهم يكون مال الدّولة وأصله كلّه العمران وكثرته فاعتبره وتأمّله في الدّول تجده والله يحكم ولا معقّب لحكمه . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وانها مؤذنة بفساده قد بيّنّا لك فيما سلف أنّ الملك والدّولة غاية للعصبيّة وأنّ الحضارة غاية للبداوة وأنّ العمران كلّه من بداوة وحضارة وملك وسوقة [1] له عمر محسوس كما أنّ للشّخص الواحد من أشخاص المكوّنات عمرا محسوسا وتبيّن في المعقول والمنقول أنّ الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموّها وأنّه إذا بلغ سنّ الأربعين وقفت الطّبيعة عن أثر النشوء والنّموّ برهة ثمّ تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أنّ الحضارة في العمران أيضا كذلك لأنّه غاية لا مزيد وراءها وذلك أنّ التّرف والنّعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتّخلّق بعوائدها والحضارة كما علمت هي التّفنّن في التّرف واستجادة أحواله والكلف بالصّنائع الّتي تؤنّق من أصنافه وسائر فنونه من الصّنائع المهيّئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل. وللتّأنّق في كلّ واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التّأنّق فيها. وإذا بلغ التّأنّق في هذه الأحوال المنزليّة الغاية تبعه طاعة الشّهوات فتتلوّن النّفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أمّا دينها فلاستحكام صبغة العوائد الّتي يعسر نزعها وأمّا دنياها فلكثرة الحاجات والمؤنات الّتي تطالب بها العوائد ويعجز وينكّب [2] عن الوفاء بها. وبيانه أنّ المصر بالتّفنّن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنّا قدّمنا أنّ المصر الكثير العمران يختصّ بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته. ثمّ تزيدها المكوس غلاء لأنّ الحضارة إنّما تكون عند انتهاء الدّولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدّول لكثرة   [1] الرعية. [2] وفي نسخة اخرى: الكسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 خرجها حينئذ كما تقدّم. والمكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأنّ السّوقة والتّجّار كلّهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه حتّى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلا في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلّها في النّفقات ويتتابعون [1] في الإملاق والخاصّة [2] ويغلب عليهم الفقر ويقلّ المستامون للمبايع [3] فتكسد الأسواق ويفسد حال المدينة وداعية ذلك كلّه إفراط الحضارة والتّرف. وهذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق والعمران. وأمّا فساد أهلها في ذاتهم واحدا واحدا على الخصوص فمن الكدّ والتّعب في حاجات العوائد والتّلوّن بألوان الشّرّ في تحصيلها وما يعود على النّفس من الضّرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشّرّ والسّفسفة والتّحيّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النّفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغشّ والخلابة والسّرقة والفجور في الأيمان والرّبا في البياعات ثمّ تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ النّاشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبداوعيه واطّراح الحشمة في الخوض فيه حتّى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الّذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضا أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر وما يتوقّعونه من العقاب على تلك القبائح حتّى يصير ذلك عادة وخلقا لأكثرهم إلّا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسّفلة من أهل الأخلاق الذّميمة ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدّولة وولدانهم ممّن أهمل عن التّأديب وأهملته الدولة من عدادها وغلب عليه خلق   [1] وفي نسخة أخرى: ويتبالغون. [2] وفي نسخة أخرى: الخصاصة. [3] وفي نسخة أخرى: البضائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الجوار وإن كانوا أهل أنساب وبيوتات [1] وذلك أنّ النّاس بشر متماثلون وإنّما تفاضلوا وتميّزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرّذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرّذيلة بأيّ وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته. ولهذا تجد كثيرا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدّول منطرحين في الغمار [2] منتحلين للحرف الدّنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلوّنوا به من صبغة الشّرّ والسّفسفة وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمّة تأذّن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 17: 16» [3] . ووجهه حينئذ إنّ مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النّفس بها فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحدا واحدا اختلّ نظام المدينة وخربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص [4] أنّ المدينة إذا كثر فيها غرس النّارنج تأذّنت بالخراب حتّى أنّ كثيرا من العامّة يتحامى غرس النّارنج بالدّور تطيرا به. وليس المراد ذلك ولا أنّه خاصّيّة [5] في النّارنج وإنّما معناه أنّ البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثمّ إنّ النّارنج واللّيّة [6] والسّرو وأمثال ذلك ممّا لا طعم فيه ولا منفعة هو من غاية [7] الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلّا أشكالها فقط ولا تغرس إلّا بعد التّفنّن في مذاهب التّرف. وهذا هو الطّور الّذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدّفلى وهو من هذا الباب إذ الدّفلى لا يقصد بها إلّا تلوّن البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب التّرف. ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشّهوات والاسترسال   [1] وفي النسخة الباريسية: وأبواب. [2] جماعة من الناس. [3] سورة الإسراء الآية 16. [4] وفي نسخة أخرى: أهل الحواضر. [5] وفي نسخة أخرى: خاصة. وفي النسخة الباريسية: طيرة. [6] وفي نسخة أخرى: اللّيم. [7] وفي نسخة أخرى: غايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فيها لكثرة التّرف فيقع التّفنّن في شهوات البطن من المآكل والملاذّ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التّفنّن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزّنا واللّواط، فيفضي ذلك إلى فساد النّوع. إمّا بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزّنا، فيجهل كلّ واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأنّ المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشّفقة الطّبيعيّة على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدّي ذلك إلى انقطاع النّوع، أو يكون فساد النّوع بغير واسطة، كما في اللّواط المؤدّي إلى عدم النسل رأسا وهو أشدّ في فساد النّوع. والزّنا يؤدّي إلى عدم ما يوجد منه. ولذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللّواط أظهر من مذهب غيره، ودلّ على أنّه أبصر بمقاصد الشّريعة واعتبارها للمصالح. فافهم ذلك واعتبر به أنّ غاية العمران هي الحضارة والتّرف وأنّه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطّبيعيّة للحيوانات. بل نقول إنّ الأخلاق الحاصلة من الحضارة والتّرف هي عين الفساد لأنّ الإنسان إنّما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضارّه واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ لا يقدر على مباشرته حاجاته إمّا عجزا لما حصل له من الدّعة أو ترفّعا لما حصل من المربى في النّعيم والتّرف وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضارّ واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ بما قد فقد من خلق الإنسان بالتّرف والنّعيم [1] في قهر التّأديب والتعلم فهو بذلك عيال على الحامية الّتي تدافع عنه. ثمّ هو فاسد أيضا غالبا بما فسدت [2] منه العوائد وطاعتها وما تلوّنت به النّفس من مكانتها [3] كما قرّرناه إلّا في الأقلّ النّادر. وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيّته وصار مسخا على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الّذين يتقرّبون من جند السّلطان إلى البداوة والخشونة أنفع من الّذين   [1] وفي نسخة أخرى: بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى. [2] وفي نسخة أخرى: أفسدت. [3] وفي نسخة أخرى: وملكاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 يتربّون على الحضارة وخلقها. موجودون [1] في كلّ دولة. فقد تبيّن أنّ الحضارة هي سنّ الوقوف لعمر العالم في العمران والدّولة [2] والله سبحانه وتعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ 55: 29 لا يشغله شأن عن شأن. الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها قد استقرينا في العمران أنّ الدّولة إذا اختلّت وانتقضت فإنّ المصر الّذي يكون كرسيّا لسلطانها ينتقض عمرانه وربّما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب ولا يكاد ذلك يتخلّف. والسّبب فيه أمور: الأوّل أنّ الدّولة لا بدّ في أوّلها من البداوة المقتضية للتّجافي عن أموال النّاس والبعد عن التّحذلق. ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم الّتي منها مادّة الدّولة فتقلّ النّفقات ويقل [3] التّرف فإذا صار المصر الّذي كان كرسيّا للملك في ملكة هذه الدّولة المتجدّدة ونقصت أحوال التّرف فيها نقص التّرف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأنّ الرّعايا تبع للدّولة فيرجعون إلى خلق الدّولة إمّا طوعا لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرها لما يدعو إليه خلق الدّولة من الانقباض عن التّرف في جميع الأحوال وقلّة الفوائد الّتي هي مادّة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر ويذهب منه كثير من عوائد التّرف. وهو معنى ما نقول في خراب المصر. الأمر الثّاني أنّ الدّولة إنّما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب، وإنّما يكون بعد العداوة والحروب. والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدّولتين، وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الآخر فتكون أحوال الدّولة   [1] وفي نسخة أخرى: وهذا موجود. [2] وفي نسخة أخرى: من العمران والدول. [3] وفي نسخة أخرى: يقصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 السّابقة منكرة عند أهل الدّولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة. وخصوصا أحوال التّرف فتفقد في عرفهم بنكير الدّولة لها حتّى تنشأ لهم بالتّدريج عوائد أخرى من التّرف فتكون عنها حضارة مستأنفة. وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصها وهو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثّالث أنّ كلّ أمّة لا بدّ لهم من وطن وهو منشأهم ومنه أوّليّة ملكهم. وإذا ملكوا ملكا آخر صار تبعا للأوّل وأمصاره تابعة لأمصار الأوّل. واتّسع نطاق الملك عليهم. ولا بدّ من توسّط الكرسيّ بين تخوم الممالك الّتي للدّولة لأنّه شبه المركز للنّطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسيّ الأوّل وتهوى أفئدة النّاس من أجل الدّولة والسّلطان فينتقل إليه العمران ويخفّ من مصر الكرسيّ الأوّل. والحضارة إنّما هي توفّر [1] العمران كما قدّمناه فتنقص حضارته وتمدّنه وهو معنى اختلاله. وهذا كما وقع للسّلجوقيّة في عدولهم بكرسيّهم عن بغداد إلى أصبهان وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة، ولبني العبّاس في العدول عن دمشق إلى بغداد ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مرّاكش إلى فاس. وبالجملة فاتّخاذ الدّولة الكرسيّ في مصر يخلّ بعمران الكرسيّ الأوّل. الأمر الرّابع أنّ الدّولة الثّانية لا بدّ فيها من تبع [2] أهل الدّولة السّابقة وأشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر يؤمن فيه غائلتهم على الدّولة وأكثر أهل المصر الكرسيّ أشياع الدّولة. إمّا من الحامية الّذين نزلوا به أوّل الدّولة أو أعيان المصر لأنّ لهم في الغالب مخالطة للدّولة على طبقاتهم وتنوّع أصنافهم. بل أكثرهم ناشئ في الدّولة فهم شيعة لها. وإن لم يكونوا بالشّوكة والعصبيّة فهم بالميل والمحبّة والعقيدة. وطبيعة الدّولة المتجدّدة محو آثار الدّولة السّابقة فينقلهم من مصر الكرسيّ إلى وطنها المتمكّن في ملكتها. فبعضهم على نوع التّغريب والحبس وبعضهم على نوع الكرامة والتّلطّف بحيث لا يؤدّي إلى النّفرة حتّى لا يبقى في مصر الكرسيّ إلّا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة   [1] وفي نسخة أخرى: بوفور. [2] وفي نسخة أخرى: تتبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وسواد العامّة وينزل مكانهم حاميتها وأشياعها من يشتدّ به المصر وإذا ذهب من المصر أعيانهم على طبقاتهم نقص ساكنه وهو معنى اختلال عمرانه. ثمّ لا بدّ من أن يستجدّ عمران آخر في ظلّ الدّولة الجديدة وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدّولة. وإنّما ذلك بمثابة (من له بيت على أوصاف مخصوصة فأظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصاف) [1] وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرّب ذلك البيت ثمّ يعيد بناءه ثانيا. وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار الّتي هي كراسيّ للملك وشاهدناه وعلمناه «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» . والسّبب الطّبيعيّ الأوّل في ذلك على الجملة أنّ الدّولة والملك للعمران بمثابة الصّورة للمادّة وهو الشّكل الحافظ بنوعه لوجودها. وقد تقرّر في علوم الحكمة أنّه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدّولة دون العمران لا تتصوّر والعمران دون الدّولة والملك متعذّر لما في طباع البشر من العدوان [2] الدّاعي إلى الوازع فتتعيّن السّياسة لذلك إمّا الشّرعيّة أو الملكيّة وهو معنى الدّولة وإذا كانا لا ينفكّان فاختلال أحدهما مؤثّر في اختلال الآخر كما أنّ عدمه مؤثّر في عدمه والخلل العظيم إنّما يكون من خلل الدّولة الكلّيّة مثل دولة الرّوم أو الفرس أو العرب على العموم أو بني أميّة أو بني العبّاس كذلك. وأمّا الدّولة الشّخصيّة مثل دولة أنوشروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرّشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران حافظة لوجوده وبقائه وقريبة الشّبه بعضها من بعض فلا تؤثّر كثير اختلال لأنّ الدّولة بالحقيقة الفاعلة في مادّة العمران إنّما هي العصبيّة والشّوكة وهي مستمرّة على أشخاص الدّولة فإذا ذهبت تلك العصبيّة ودفعتها عصبيّة أخرى مؤثّرة في العمران ذهبت أهل الشّوكة بأجمعهم وعظم الخلل كما قرّرناه أوّلا «والله سبحانه وتعالى أعلم» [3]   [1] وفي نسخة أخرى وردت الجملة كما يلي: «من يملك بيتا داخلة البلى. والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحة وله قدرة على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع» . [2] وفي النسخة الباريسية (من التعاون [3] وفي نسخة أخرى: والله قادر على ما يشاء. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ 14: 19- 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الفصل العشرون في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض وذلك أنّه من البيّن أنّ أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضا لما في طبيعة العمران من التّعاون وما يستدعي من الأعمال يختصّ ببعض أهل المصر فيقومون عليه ويستبصرون في صناعته ويختصّون بوظيفته ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه. وما لا تستدعي في المصر يكون غفلا إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به. وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش فيوجد في كلّ مصر كالخيّاط والحدّاد والنّجّار وأمثالها وما يستدعي لعوائد التّرف وأحواله فإنّما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة الآخذة في عوائد التّرف والحضارة مثل الزّجّاج والصّائغ والدّهّان والطّبّاخ والصّفّار والسّفّاج والفرّاش والذّبّاح وأمثال هذه وهي متفاوتة. وبقدر ما تزيد الحضارة وتستدعي أحوال التّرف تحدث صنائع لذلك النّوع فتوجد بذلك المصر دون غيره ومن هذا الباب الحمّامات لأنّها إنّما توجد في الأمصار المستحضرة المستبحرة العمران لما يدعو إليه التّرف والغنى من التّنعّم ولذلك لا تكون في المدن المتوسّطة. وإن نزع بعض الملوك والرّؤساء إليها فيختطّها ويجري أحوالها. إلّا أنّها إذا لم تكن لها داعية من كافّة النّاس فسرعان ما تهجر وتخرب وتفرّ عنها القومة لقلّة فائدتهم ومعاشهم منها. والله يقبض ويبسط. الفصل الحادي والعشرون في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم على بعض من البيّن أنّ الالتحام والاتّصال موجود في طباع البشر وإن لم يكونوا أهل نسب واحد إلّا أنّه كما قدّمناه أضعف ممّا يكون بالنّسب وأنّه تحصل به العصبيّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 بعضا ممّا تحصل بالنّسب. وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصّهر يجذب بعضهم بعضا إلى أن يكونوا لحما لحما وقرابة قرابة وتجد بينهم من العداوة والصّداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعا [1] وعصائب فإذا نزل الهرم بالدّولة وتقلّص ظلّ الدّولة [2] عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنّظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشّورى وتميّز العلية عن السّفلة والنّفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب والرّئاسة فتطمح المشيخة لخلاء الجوّ من السّلطان والدّولة القاهرة إلى الاستبداد وينازع كلّ صاحبه ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشّيع والأحلاف ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب فيعصوصب كلّ لصاحبه ويتعيّن الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليقصّ من أعنّتهم ويتتبّعهم بالقتل أو التّغريب حتّى يخضد منهم الشّوكات النّافذة ويقلّم الأظفار الخادشة ويستبدّ بمصره أجمع ويرى أنّه قد استحدث ملكا يورثه عقبه فيحدث في ذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأعظم من عوارض الجدّة والهرم وربّما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر والعصبيّات والزّحوف والحروب والأقطار والممالك فينتحلون بها من الجلوس على السّرير واتّخاذ الآلة وإعداد المواكب للسّير في أقطار البلد والتّختّم والتّحيّة والخطاب بالتّهويل ما يسخر منه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك الّتي ليسوا لها بأهل. إنّما دفعهم إلى ذلك تقلّص الدّولة والتحام بعض القرابات حتّى صارت عصبيّة. وقد يتنزّه بعضهم عن ذلك ويجري على مذهب [3] السّذاجة فرارا من التّعريض بنفسه للسّخريّة والعبث. وقد وقع هذا بإفريقيّة لهذا العهد في آخر الدّولة الحفصيّة لأهل بلاد الجريد من طرابلس وقابس وتؤزّر ونفطة وقفصة وبسكرة والزّاب وما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند   [1] وفي النسخة الباريسية: شعبا. [2] وفي النسخة الباريسية: وتقلص الملك عن القاصية. [3] وفي نسخة أخرى: مذاهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 تقلّص ظلّ الدّولة عنهم منذ عقود من السّنين فاستغلبوا على أمصارهم واستبدّوا بأمرها على الدّولة في الأحكام والجباية. وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرّضة وأقطعوها جانبا من الملاينة والملاطفة والانقياد وهم بمعزل عنه. وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. وحدث في خلفهم [1] من الغلظة والتّجبّر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم ونظّموا أنفسهم في عداد السّلاطين على قرب عهدهم بالسّوقة حتّى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العبّاس وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكره في أخبار الدّولة. وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدّولة الصّنهاجيّة واستقلّ بأمصار الجريد أهلها واستبدّوا على الدّولة حتّى انتزع ذلك منهم شيخ الموحّدين وملكهم عبد المؤمن بن عليّ ونقلهم من إماراتهم بها إلى المغرب ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن. وهذا التّغلّب يكون غالبا في أهل السّروات والبيوتات المرشّحين للمشيخة والرّئاسة في المصر، وقد يحدث التّغلّب لبعض السّفلة من الغوغاء والدّهماء. وإذا حصلت له العصبيّة والالتحام بالأوغاد لأسباب يجرّها له المقدار فيتغلّب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة والله سبحانه وتعالى غالب على أمره. الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار اعلم أنّ لغات أهل الأمصار إنّما تكون بلسان الأمّة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطّين لها ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلاميّة كلّها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربيّة وإن كان اللّسان العربيّ المضريّ قد فسدت ملكته وتغيّر إعرابه والسّبب في ذلك ما وقع للدّولة الإسلاميّة من الغلب على الأمم والدّين والملّة صورة   [1] وفي نسخة أخرى: خلقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 للوجود وللملك. وكلّها موادّ له والصّورة مقدّمة على المادّة والدّين إنّما يستفاد من الشّريعة وهي بلسان العرب لما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عربيّ فوجب هجر ما سوى اللّسان العربيّ من الألسن في جميع ممالكها. واعتبر ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بطانة [1] الأعاجم وقال إنّها خبّ. أي مكر وخديعة. فلمّا هجر الدّين اللّغات الأعجميّة وكان لسان القائمين بالدّولة الإسلاميّة عربيّا هجرت كلّها في جميع ممالكها لأنّ النّاس تبع للسّلطان وعلى دينه فصار استعمال اللّسان العربيّ من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللّسان العربيّ لسانهم حتّى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم وصارت الألسنة العجميّة دخيلة فيها وغريبة. ثمّ فسد اللّسان العربيّ بمخالطتها في بعض أحكامه وتغيّر أواخره وإن كان بقي في الدّلالات على أصله وسمّي لسانا حضريّا في جميع أمصار الإسلام. وأيضا فأكثر أهل الأمصار في الملّة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها، الهالكين في ترفها بما كثّروا العجم الّذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم. واللّغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئا فشيئا. وسمّيت لغتهم حضريّة منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنّها كانت أعرق في العروبيّة ولمّا تملّك العجم من الدّيلم والسّلجوقيّة بعدهم بالمشرق، وزناتة والبربر بالمغرب، وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلاميّة فسد اللّسان العربيّ لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسّنّة اللّذين بهما حفظ الدّين وسار ذلك مرجّحا لبقاء اللّغة العربيّة المضريّة من الشّعر والكلام إلّا قليلا بالأمصار فلمّا ملك التّتر والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجّح وفسدت اللّغة العربيّة على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلاميّة بالعراق وخراسان   [1] وفي نسخة أخرى: رطانة (وهي الأصح مع مقتضى سياق الجملة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وبلاد فارس وأرض الهند والسّند وما وراء النّهر وبلاد الشّمال وبلاد الرّوم وذهبت أساليب اللّغة العربيّة من الشّعر والكلام إلّا قليلا يقع تعليمه صناعيّا بالقوانين المتدارسة من كلام [1] العرب وحفظ كلامهم لمن يسّره الله تعالى لذلك. وربّما بقيت اللّغة العربيّة المضريّة بمصر والشّام والأندلس وبالمغرب لبقاء الدّين طلبا لها فانحفظت ببعض الشّيء وأمّا في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين حتّى إنّ كتب العلوم صارت تكتب باللّسان العجميّ وكذا تدريسه في المجالس والله أعلم بالصّواب. والله مقدّر اللّيل والنّهار. صلى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدّين والحمد للَّه ربّ العالمين. الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وان الكسب هو قيمة الأعمال البشرية اعلم أنّ الإنسان مفتقر بالطّبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوءه إلى أشدّه إلى كبره «وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ 47: 38» والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتنّ به عليه في غير ما آية من كتابه فقال:   [1] وفي نسخة: علوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ 45: 13» [1] وسخّر لكم البحر وسخّر لكم الفلك وسخّر لكم الأنعام. وكثير من شواهده. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك. وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلّا بعوض. فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضّعف سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: «فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ 29: 17» وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزّراعة وأمثاله. إلّا أنّها إنّما تكون معينة ولا بدّ من سعيه معها كما يأتي فتكون له تلك المكاسب معاشا إن كانت بمقدار الضّرورة والحاجة ورياشا ومتموّلا إن زادت على ذلك. ثمّ إنّ ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمّي ذلك رزقا. قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت» وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمّى بالنّسبة إلى المالك رزقا والمتملّك منه حينئذ بسعي العبد وقدرته يسمّى كسبا. وهذا مثل التّراث فإنّه يسمّى بالنّسبة إلى الهالك كسبا ولا يسمّى رزقا إذ لم يحصل به منتفع وبالنّسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمّى رزقا. هذا حقيقة مسمّى الرّزق عند أهل السّنّة وقد اشترط المعتزل في تسميته رزقا أن يكون بحيث يصحّ تملّكه وما لا يتملّك عندهم لا يسمّى رزقا وأخرجوا الغصوبات [2] والحرام كلّه عن أن يسمّى شيء منها رزقا والله تعالى يرزق الغاصب والظّالم والمؤمن والكافر برحمته وهدايته من يشاء. ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها. ثمّ اعلم أنّ الكسب إنّما يكون بالسّعي في الاقتناء والقصد إلى التّحصيل فلا بدّ في الرّزق من سعي وعمل ولو في   [1] من الآية 13 من سورة الجاثية. [2] في النسخة الباريسية: الغصوبات. ولم ترد بلسان العرب الغصوبات. لذلك من الأصح أن يقول المغصوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: «فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ 29: 17» والسّعي إليه إنّما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكلّ من عند الله. فلا بدّ من الأعمال الإنسانيّة في كلّ مكسوب ومتموّل. لأنّه إن كان عملا بنفسه مثل الصّنائع فظاهر وإن كان مقتنى من الحيوان والنّبات والمعدن فلا بدّ فيه من العمل الإنسانيّ كما تراه وإلّا لم يحصل ولم يقع به انتفاع. ثمّ إنّ الله تعالى خلق الحجرين المعدنيّين من الذّهب والفضّة قيمة لكلّ متموّل، وهما الذّخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنّما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق الّتي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذّخيرة. وإذا تقرّر هذا كلّه فاعلم أنّ ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتموّلات إن كان من الصّنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هناك إلّا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصّنائع في بعضها غيرها مثل التّجارة والحياكة معهما الخشب والغزل إلّا أنّ العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر وإن كان من غير الصّنائع فلا بدّ من قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الّذي حصلت به إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصّة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين النّاس فإنّ اعتبار الأعمال والنّفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدّمناه لكنّه خفيّ في الأقطار الّتي علاج الفلح فيها ومؤنته يسيرة فلا يشعر به إلّا القليل من أهل الفلح. فقد تبيّن أنّ المفادات والمكتسبات كلّها أو أكثرها إنّما هي قيم الأعمال الإنسانيّة وتبيّن مسمّى الرّزق وأنّه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب والرّزق وشرح مسمّاهما. واعلم أنّه إذا فقدت الأعمال أو قلّت بانتقاص العمران تأذّن الله برفع الكسب أترى إلى الأمصار القليلة السّاكن كيف يقلّ الرّزق والكسب فيها أو يفقد لقلّة الأعمال الإنسانيّة وكذلك الأمصار الّتي يكون عمرانها [1] أكثر يكون أهلها أوسع أحوالا   [1] وفي النسخة الباريسية: تكون اعمالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وأشدّ رفاهية كما قدّمناه قبل ومن هذا الباب تقول العامّة في البلاد إذا تناقص عمرانها إنّها قد ذهب رزقها حتّى أنّ الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر لما أنّ فور العيون إنّما يكون بالأنباط والامتراء الّذي هو بالعمل الإنسانيّ كالحال في ضروع الأنعام فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة كما يجفّ الضّرع إذا ترك امتراؤه. وأنظره في البلاد الّتي تعهد فيها العيون لأيّام عمرانها ثمّ يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنّها لم تكن «وَالله مُقَدِّرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار» . الفصل الثاني في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه اعلم أنّ المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرّزق والسّعي في تحصيله وهو مغفل من العيش. كأنّه لمّا كان العيش الّذي هو الحياة لا يحصل إلّا بهذه جعلت موضعا له على طريق المبالغة ثمّ إنّ تحصيل الرّزق وكسبه: إمّا أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمّى مغرما وجباية وإمّا أن يكون من الحيوان الوحشيّ بافتراسه [1] وأخذه برميه من البرّ أو البحر ويسمّى اصطيادا وإمّا أن يكون من الحيوان الدّاجن باستخراج فضوله المنصرفة بين النّاس في منافعهم كاللّبن من الأنعام والحرير من دوده والعسل من نحلة أو يكون من النّبات في الزّرع والشّجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته ويسمّى هذا كلّه فلحا وإمّا أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانيّة إمّا في موادّ معيّنة وتسمّى الصّنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسيّة وأمثال ذلك أو في موادّ غير معيّنة وهي جميع الامتهانات والتّصرّفات وإمّا أن يكون الكسب من البضائع   [1] وفي نسخة أخرى: باقتناصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وإعدادها للأعواض إمّا بالتّغلّب بها في البلاد واحتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها. ويسمّى هذا تجارة. فهذه وجوه المعاش وأصنافه وهي معنى ما ذكره المحقّقون من أهل الأدب والحكمة كالحريريّ وغيره فإنّهم قالوا: «المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة» . فأمّا الإمارة فليست بمذهب طبيعيّ للمعاش فلا حاجة بنا إلى ذكرها وقد تقدّم شيء من أحوال الجبايات السّلطانيّة وأهلها في الفصل الثّاني. وأمّا الفلاحة والصّناعة والتّجارة فهي وجوه طبيعيّة للمعاش أمّا الفلاحة فهي متقدّمة عليها كلّها بالذّات إذ هي بسيطة وطبيعيّة فطريّة لا تحتاج إلى نظر ولا علم ولهذا تنسب في الخليقة إلى آدم أبي البشر وأنّه معلّمها والقائم عليها إشارة إلى أنّها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطّبيعة. وأمّا الصّنائع فهي ثانيتها ومتأخّرة عنها لأنّها مركّبة وعلميّة تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا يوجد غالبا إلّا في أهل الحضر الّذي هو متأخّر عن البدو وثان عنه. ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثّاني للخليقة فإنّه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. وأمّا التّجارة وإن كانت طبيعة في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها إنّما هي تحيّلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشّراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ولذلك أباح الشّرع فيه المكاسبة [1] لما أنّه من باب المقامرة إلّا أنّه ليس أخذ المال الغير مجّانا فلهذا اختصّ بالمشروعيّة. والله أعلم. الفصل الثالث في أن الخدمة ليست من الطبيعي اعلم أنّ السّلطان لا بدّ له من اتّخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الّذي هو بسبيله من الجنديّ والشّرطيّ والكاتب. ويستكفي في كلّ باب بمن   [1] وفي النسخة الباريسية: المكايسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 المضيّع ولو كان مأمونا فضرره بالتّضييع أكثر من نفعه. فاعلم ذلك واتّخذه قانونا في الاستكفاء بالخدمة. والله سبحانه وتعالى قادر على كلّ شيء. الفصل الرابع في ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي اعلم أنّ كثيرا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك. ويعتقدون أنّ أموال الأمم السّالفة مختزنة كلّها تحت الأرض مختوم عليها كلّها بطلاسم سحريّة، لا يفضّ ختامها ذلك إلّا من عثر على علمه واستحضر ما يحلّه من البخور والدّعاء والقربان. فأهل الأمصار بإفريقيّة يرون أنّ الإفرنجة الّذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك وأودعوها في الصّحف بالكتاب إلى أن يجدوا السّبيل إلى استخراجها. وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والرّوم والفرس. ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة من انتهاء بعض الطّالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممّن لم يعرف طلّسمه ولا خبره فيجدونه خاليا أو معمورا بالدّيدان. أو يشاهد الأموال والجواهر موضوعة والحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الأرض حتّى يظنّه خسفا أو مثل ذلك من الهذر. ونجد كثيرا من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطّبيعيّ وأسبابه يتقرّبون إلى أهل الدّنيا بالأوراق المتخرّمة [1] الحواشي إمّا بخطوط عجميّة أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدّفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرّزق منهم بما يبعثونه على الحفر والطّلب ويموّهون عليهم بأنّهم إنّما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكّام والعقوبات. وربّما تكون عند   [1] وفي النسخة الباريسية: المخترمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 يعلم غناءه فيه ويتكفّل بأرزاقهم من بيت ماله. وهذا كلّه مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلّهم ينسحب [1] عليهم حكم الإمارة والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. وأمّا ما دون ذلك من الخدمة فسببها أنّ أكثر المترفين يترفّع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزا عنها لما ربّي عليه من خلق التّنعّم والتّرف فيتّخذ من يتولّى ذلك له ويقطعه عليه أجرا من ماله. وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرّجوليّة الطّبيعيّة للإنسان إذ الثّقة بكلّ أحد عجز، ولأنّها تزيد في الوظائف والخرج وتدلّ على العجز والخنث الّذي ينبغي في مذاهب الرّجوليّة التّنزّه عنهما. إلّا أنّ العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. ومع ذلك فالخديم الّذي يستكفى به ويوثق بغنائه كالمفقود إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: إمّا مضطلع بأمره ولا موثوق فيما يحصل بيده وإمّا بالعكس فيهما، وهو أن يكون غير مضطلع بأمره ولا موثوق فيها يحصل بيده وإمّا بالعكس في إحداهما فقط مثل أن يكون مضطلعا غير موثوق أو موثوقا غير مضطلع. فأمّا الأوّل وهو المضطلع الموثوق فلا يمكن أحدا استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه وثقته غنيّ عن أهل الرّتب الدّنيئة ومحتقر لمثال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك فلا يستعمله إلّا الأمراء أهل الجاه العريض لعموم الحاجة إلى الجاه. وأمّا الصّنف الثّاني وهو ممّن ليس بمضطلع ولا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله لأنّه يحجف بمخدومه في الأمرين معا فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة ويذهب ماله بالخيانة أخرى فهو على كلّ حال كلّ على مولاه. فهذان الصّنفان لا يطمع أحد في استعمالهما. ولم يبق إلّا استعمال الصّنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع ومضطلع غير موثوق وللنّاس في التّرجيح بينهما مذهبان، ولكلّ من التّرجيحين وجه. إلّا أنّ المضطلع ولو كان غير موثوق أرجح لأنّه يؤمن من تضييعه ويحاول على التّحرّز من خيانته جهد الاستطاعة وأمّا   [1] بمعنى ينطبق عليهم. وقد استعملت على المجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السّحريّة يموّه بها على تصديق ما بقي من دعواه وهو بمعزل عن السّحر وطرقه فتولّع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار والتّستّر فيه بظلمات اللّيل مخافة الرّقباء وعيون أهل الدّول، فإذا لم يعثروا على شيء ردّوا ذلك إلى الجهل بالطّلّسم الّذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. والّذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنّما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطّبيعيّة للكسب من التّجارة والفلح والصّناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى [1] الطّبيعيّ من هذا وأمثاله عجزا عن السّعي في المكاسب وركونا إلى تناول الرّزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه ولا يعلمون أنّهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصب ومتاعب وجهد شديد أشدّ من الأوّل ويعرّضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات. وربّما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة التّرف وعوائده وخروجها عن حدّ النّهاية حتّى تقصّر عنها وجوه الكسب ومذاهبه ولا تفي بمطالبها. فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطّبيعيّ لم يجد وليجة في نفسه إلّا التّمنّي لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة ليفي له ذلك بالعوائد الّتي حصل في أسرها فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده ولهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدّولة ومن سكّان الأمصار الكثيرة التّرف المتّسعة الأحوال مثل مصر وما في معناها فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله ومساءلة الرّكبان عن شواذّه كما يحرصون على الكيمياء. هكذا بلغني [2] عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلّهم يعثرون منه على دفين أو كنز ويزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أنّ غالب هذه الأموال الدّفينة كلّها في مجاري النّيل وأنّه أعظم ما يستر دفينا أو مختزنا في تلك الآفاق ويموّه عليهم أصحاب تلك الدّفاتر المفتعلة   [1] وفي النسخة الباريسية: الوجه. [2] وفي نسخة أخرى: يبلغنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النّيل تستّرا بذلك من الكذب حتّى يحصل على معاشه فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السّحريّة لتحصيل مبتغاه من هذه كلفا بشأن السّحر متوارثا في ذلك القطر عن أوّليه فعلومهم السّحريّة وآثارها باقية بأرضهم في البراري [1] وغيرها. وقصّة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك وقد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق تعطى فيها كيفيّة العمل بالتّغوير بصناعة سحريّة حسبما تراه فيها وهي هذه: يا طالبا للسّرّ في التّغوير ... اسمع كلام الصّدق من خبير دع عنك ما قد صنّفوا في كتبهم ... من قول بهتان ولفظ غرور واسمع لصدق مقالتي ونصيحتي ... إن كنت ممّن لا يرى بالزّور فإذا أردت تغوّر البئر الّتي ... حارت لها الأوهام في التّدبير صوّر كصورتك الّتي أوقفتها ... والرّأس رأس الشّبل في التّقوير ويداه ماسكتان للحبل الّذي ... في الدّلو ينشل من قرار البير وبصدره هاء كما عاينتها ... عدد الطّلاق احذر من التّكرير ويطا على الطّاءات غير ملامس ... مشي اللّبيب الكيّس النّحرير ويكون حول الكلّ [2] خطّ دائر ... تربيعه أولى من التّكوير واذبح عليه الطّير والطخه به ... واقصده عقب [3] الذّبح بالتّبخير بالسّندروس وباللّبان وميعة ... والقسط وألبسه بثوب حرير من أحمر أو أصفر لا [4] أزرق ... لا أخضر فيه ولا تكدير ويشدّه خيطان صوف أبيض ... أو أحمر من خالص التّحمير   [1] وفي النسخة الباريسية: البرابي. [2] ونسخة أخرى: والشكل. [3] وفي النسخة الباريسية: واقصد عقب. [4] وفي النسخة الباريسية: أصفر أو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 والطّالع الأسد الّذي قد بيّنوا ... ويكون بدء [1] الشّهر غير منير والبدر متّصل بسعد عطارد ... في يوم سبت ساعة التّدبير يعني أن تكون الطّاءات بين قدميه كأنّه يمشي عليها وعندي أنّ هذه القصيدة من تمويهات المتخرّفين [2] فلهم في ذلك أحوال غريبة واصطلاحات عجيبة وتنتهي التّخرفة [3] والكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة والدّور المعروفة لمثل هذه ويحتفرون الحفر ويضعون المطابق فيها والشّواهد الّتي يكتبونها في صحائف كذبهم ثمّ يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصّحائف (ويعثون على كبراء) [4] ذلك المنزل وسكناه ويوهمون أنّ به دفينا من المال لا يعبّر عن كثرته ويطالبون بالمال لاشتراء العقاقير والبخورات لحلّ الطّلاسم ويعدونه بظهور الشّواهد الّتي قد أعدّوها هنالك بأنفسهم ومن فعلهم فينبعث لما يراه من ذلك وهو قد خدع ولبس عليه من حيث لا يشعر وبينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم يلبّسون به عليهم ليخفى عند محاورتهم فيما يتلونه [5] من حفر وبخور وذبح حيوان وأمثال ذلك. وأمّا الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم ولا خبر واعلم أنّ الكنوز وإن كانت توجد لكنّها في حكم النّادر وعلى وجه الاتّفاق لا على وجه القصد إليها. وليس ذلك بأمر تعمّ به البلوى حتّى يدّخر النّاس أموالهم تحت الأرض ويختمون عليها بالطّلاسم لا في القديم ولا في الحديث. والرّكاز الّذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء وهو دفين الجاهليّة إنّما يوجد بالعثور والاتّفاق لا بالقصد والطّلب وأيضا فمن اختزن ماله وختم عليه بالأعمال السّحريّة فقد بالغ في إخفائه فكيف ينصب عليه الأدلّة والأمارات لمن يبتغيه. ويكتب ذلك في الصّحائف حتّى يطّلع على ذخيرته أهل الأمصار   [1] وفي النسخة الباريسية: بدر. [2] وفي النسخة الباريسية: المخرفين. [3] وفي النسخة الباريسية: المخرفة. [4] وفي نسخة أخرى: ويبعثونه على اكتراء. [5] وفي نسخة أخرى: يتناولونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 والآفاق؟ هذا يناقض قصد الإخفاء. وأيضا فأفعال العقلاء لا بدّ وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع. ومن اختزن المال فإنّه يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره. وأمّا أن يقصد إخفاءه بالكليّة عن كلّ أحد وإنّما هو للبلاء والهلاك أو لمن لا يعرفه بالكليّة ممّن سيأتي من الأمم فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه. وأمّا قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا وما علم فيها من الكثرة والوفور؟ فاعلم أنّ الأموال من الذّهب والفضّة والجواهر والأمتعة إنّما هي معادن ومكاسب مثل الحديد والنّحاس والرّصاص وسائر العقارات والمعادن. والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانيّة ويزيد فيها أو ينقصها وما يوجد منها بأيدي النّاس فهو متناقل متوارث وربّما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى أخرى بحسب أغراضه [1] . والعمران الّذي يستدعي له فإن نقص المال في المغرب وإفريقية فلم ينقص ببلاد الصّقالبة والإفرنج وإن نقص في مصر والشّام فلم ينقص في الهند والصّين. وإنّما هي الآلات والمكاسب والعمران يوفّرها أو ينقصها، مع أنّ المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات ويسرع إلى اللّؤلؤ والجوهر أعظم ممّا يسرع إلى غيره. وكذا الذّهب والفضّة والنّحاس والحديد والرّصاص والقصدير ينالها من البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت. وأمّا ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز فسببه أنّ مصر في ملكة القبط منذ آلاف [2] أو يزيد من السّنين وكان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذّهب والفضّة والجواهر واللّئالئ على مذهب من تقدّم من أهل الدّول فلمّا انقضت دولة القبط وملك الفرس بلادهم نقّروا على ذلك في قبورهم فكشفوا عنه فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف: كالأهرام من قبور الملوك وغيرها. وكذا فعل اليونانيّون من بعدهم وصارت قبورهم مظنّة لذلك لهذا العهد. ويعثر على الدّفين فيها كثيرا من الأوقات. أمّا ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرّمون به موتاهم في الدّفن من أوعية وتوابيت من   [1] وفي النسخة الباريسية: أعواضه. [2] وفي النسخة الباريسية: منذ ألفين اثنين وفي نسخة أخرى منذ ألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الذّهب والفضّة معدّة لذلك فصارت قبور القبط منذ آلاف من السّنين مظنّة لوجود ذلك فيها. فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها واستخراجها. حتّى إنّهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدّولة ضربت على أهل المطالب. وصدرت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمهوّسين فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذّريعة إلى الكشف عنه والذّرع [1] باستخراجه وما حصلوا إلّا على الخيبة في جميع مساعيهم نعوذ باللَّه من الخسران فيحتاج من وقع له شيء [2] من هذا الوسواس وابتلي به أن يتعوّذ باللَّه من العجز والكسل في طلب معاشه كما تعوّذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وينصرف عن طرق الشّيطان ووسواسه ولا يشغل بالمحالات والمكاذب من الحكايات «وَالله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 2: 212» . الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال وذلك أنّا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يسارا وثروة من فاقد الجاه. والسّبب في ذلك أنّ صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرّب بها إليه في سبيل التّزلّف والحاجة إلى جاهه فالنّاس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروريّ أو حاجيّ أو كماليّ فتحصل قيم تلك الأعمال كلّها من كسبه وجميع معاشاته أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها النّاس من غير عوض فتتوفّر قيم تلك الأعمال عليه. فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضّرورة إلى إخراجها فتتوفّر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد مع الأيّام يسارا وثروة. ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدّمناه وفاقد الجاه بالكلّيّة ولو كان صاحب مال فلا   [1] وفي النسخة الباريسية: والزعم. [2] وفي النسخة الباريسية: من دفع إلى شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 يكون يساره إلّا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه وهؤلاء هم أكثر التّجّار. ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير. وممّا يشهد لذلك أنّا نجد كثيرا من الفقهاء وأهل الدّين والعبادة إذا اشتهروا حسن الظّنّ بهم واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم فأخلص النّاس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم وأسرعت إليهم الثّروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى إلّا ما يحصل لهم من قيم الأعمال الّتي وقعت المعونة بها من النّاس لهم. رأينا من ذلك أعدادا في الأمصار والمدن. وفي البدو يسعى لهم النّاس في الفلح والتّجر وكلّ هو قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه فينمو ماله ويعظم كسبه ويتأثّل الغنيّ من غير سعي ويعجب من لا يفطن لهذا السّرّ في حال ثروته وأسباب غناه ويساره والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب. الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالبا لأهل الخضوع والتملق وان هذا الخلق من أسباب السعادة قد سلف لنا فيما سبق أنّ الكسب الّذي يستفيده البشر إنّما هو قيم أعمالهم ولو قدّر أحد عطل [1] عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلّيّة. وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة النّاس إليه يكون قدر قيمته. وعلى نسبة ذلك نموّ كسبه أو نقصانه. وقد بيّنا آنفا أنّ الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرّب النّاس إليه بأعمالهم وأموالهم في دفع المضارّ وجلب المنافع. وكان ما يتقرّبون به من عمل أو مال عوضا عمّا يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض [2] في صالح أو طالح. وتصير تلك الأعمال في كسبه وقيمها أموال وثروة له فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت. ثمّ إنّ الجاه متوزّع في النّاس ومترتّب فيهم طبقة بعد طبقة   [1] وفي النسخة الباريسية: عاطل. [2] وفي النسخة الباريسية: من كثير الاعراض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ينتهي في العلوّ إلى الملوك الّذين ليس فوقهم يد عالية [1] وفي السّفل إلى من لا يملك ضرّا ولا نفعا بين أبناء جنسه وبين ذلك طبقات متعدّدة حكمة الله في خلقه بما ينتظم معاشهم وتتيسّر مصالحهم ويتمّ بقاؤهم لأنّ النّوع الإنسانيّ لا يتمّ وجوده وبقاؤه إلّا بالتّعاون بين أبنائه على مصالحهم، لأنّه قد تقرّر أنّ الواحد منهم لا يتمّ وجوده وإنّه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصحّ بقاؤه. ثمّ إنّ هذا التّعاون لا يحصل إلّا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النّوع ولما جعل لهم من الاختيار وأنّ أفعالهم إنّما تصدر بالفكر والرّويّة لا بالطّبع. وقد يمتنع من المعاونة فيتعيّن حمله عليها فلا بدّ من حامل يكره أبناء النّوع على مصالحهم لتتمّ الحكمة الإلهيّة في بقاء هذا النّوع. وهذا معنى قوله تعالى «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 43: 32» فقد تبيّن أنّ الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التّصرّف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتّسلّط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارّهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسّياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك ولكنّ الأوّل مقصود في العناية الرّبّانيّة بالذّات والثّاني داخل فيها بالعرض كسائر الشّرور الدّاخلة في القضاء الإلهيّ، لأنّه قد لا يتمّ وجود الخير الكثير إلّا بوجود شرّ يسير من أجل الموادّ فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشّرّ اليسير. وهذا معنى وقوع الظّلم في الخليقة فتفهّم. ثمّ إنّ كلّ طبقة من طباق [2] أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطّباق وكلّ واحدة من الطّبقة السّفلى يستمدّ بذي الجاه من أهل الطّبقة الّتي فوقه ويزداد كسبه تصرّفا فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه والجاه على ذلك داخل على النّاس في جميع أبواب المعاش ويتّسع ويضيق بحسب الطّبقة والطّور   [1] وفي النسخة الباريسية: غالبة. [2] ورد في لسان العرب: «السماوات طباق بعضها على بعض. وكل واحد من الطباق طبقة. والطبق والطبقة: الفقرة حيث كانت. قيل: هي ما بين الفقرتين وجمعها طباق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الّذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متّسعا كان الكسب النّاشئ عنه كذلك وإن كان ضيّقا قليلا فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلّا بمقدار عمله أو ماله ونسبة سعيه ذاهبا وآئبا في تنميته كأكثر التّجّار وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصّنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنّهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة وإنّما يرمّقون العيش ترميقا ويدافعون [1] ضرورة الفقر مدافعة. وإذا تقرّر ذلك وأنّ الجاه متفرّع [2] وأنّ السّعادة والخير مقترنان بحصوله علمت أنّ بذله وإفادته من أعظم النّعم وأجلّها وأنّ باذله من أجلّ المنعمين وإنّما يبذله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية وعزّة فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملّق كما يسأل أهل العزّ والملوك وإلّا فيتعذّر حصوله. فلذلك قلنا إنّ الخضوع والتّملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصّل للسّعادة والكسب وإنّ أكثر أهل الثّروة والسّعادة بهذا التّملّق ولهذا نجد الكثير ممّن يتخلّق بالتّرفّع والشّمم لا يحصل لهم غرض الجاه فيقتصرون في التّكسّب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. واعلم أنّ هذا الكبر والتّرفّع من الأخلاق المذمومة إنّما يحصل من توهّم الكمال وأنّ النّاس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبحّر في علمه والكاتب المجيد في كتابته أو الشّاعر البليغ في شعره وكلّ محسن في صناعته يتوهّم أنّ النّاس محتاجون لما بيده فيحدث له ترفّع عليهم بذلك وكذا يتوهّم أهل الأنساب ممّن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبّرون [3] به بما رأوه أو سمعوه من رجال آبائهم في المدينة ويتوهّمون أنّهم استحقّوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسّكون في الحاضر بالأمر المعدوم وكذلك أهل الحيلة والبصر والتّجارب بالأمور [4] قد يتوهّم بعضهم كمالا في نفسه بذلك واحتياجا إليه. وتجد هؤلاء   [1] وفي نسخة أخرى: يدفعون. [2] وفي النسخة الباريسية: متوزع. [3] وفي النسخة الباريسية: يغترون. وفي نسخة أخرى يعثرون [4] وفي النسخة الباريسية: أهل الحنكة والتجارب والبصر بالأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الأصناف كلّهم مترفّعين لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملّقون لمن هو أعلى منهم ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على النّاس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك ويعدّه مذلّة وهوانا وسفها. ويحاسب النّاس في معاملتهم إيّاه بمقدار ما يتوهّم في نفسه ويحقد على من قصّر له في شيء ممّا يتوهّمه من ذلك. وربّما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه ويستمرّ في عناء عظيم من إيجاب الحقّ لنفسه أو إباية النّاس له من ذلك. ويحصل له المقت من النّاس لما في طباع البشر من التّألّه، وقلّ أن يسلّم أحد منهم لأحد في الكمال والتّرفّع عليه إلّا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كلّه في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبيّن لك مقته النّاس بهذا التّرفّع ولم يحصل له حظّ من إحسانهم وفقد الجاه لذلك من أهل الطّبقة الّتي هي أعلى منه لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود عن تعاهدهم وغشيان [1] منازلهم ففسد معاشه وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأمّا الثّروة فلا تحصل له أصلا. ومن هذا اشتهر بين النّاس أنّ الكامل في المعرفة محروم من الحظّ وأنّه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظّ وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسّر له. والله المقدّر لا ربّ سواه. ولقد يقع في الدّول أضراب في المراتب من أهل [2] الخلق ويرتفع فيها كثير من السّلفة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك وذلك أنّ الدّول إذا بلغت نهايتها [3] من التّغلّب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك وإنّما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السّلطان وكأنّهم خول له. فإذا استمرّت الدّولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السّلطان كلّ من انتمى إلى خدمته وتقرّب إليه بنصيحة واصطنعه السّلطان لغنائه في كثير من مهمّاته.   [1] غشي المكان: أتاه. [2] وفي النسخة الباريسية: من أجل. [3] وفي النسخة الباريسية: غايتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 فتجد كثيرا من السّوقة يسعى في التّقرّب من السّلطان بجدّه ونصحه ويتزلّف إليه بوجوه خدمته ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتّملّق له ولحاشيته وأهل نسبه، حتّى يرسّخ قدمه معهم وينظّمه السّلطان في جملته فيحصل له بذلك حظّ عظيم من السّعادة وينتظم في عدد أهل الدّولة وناشئة الدّولة حينئذ من أبناء قومها الّذين ذلّلوا أضغانهم [1] ومهّدوا أكنافهم مغترّين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار لم تسمح [2] به نفوسهم على السّلطان ويعتدّون بآثاره ويجرون في مضمار الدّولة بسببه فيمقتهم السّلطان لذلك ويباعدهم. ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الّذين لا يعتدّون بقديم ولا يذهبون إلى دالّة ولا ترفّع. إنّما دأبهم الخضوع له والتّملّق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتّسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر [3] بما يحصل لهم من قبل [4] السّلطان والمكانة عنده ويبقى ناشئة الدّولة [5] فيما هم فيه من التّرفّع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلّا بعدا من السّلطان ومقتا وإيثارا لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدّولة. وهذا أمر طبيعيّ في الدّولة ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه. الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب والسّبب لذلك أنّ الكسب كما قدّمناه قيمة الأعمال وأنّها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضروريّة في العمران عامّة البلوى به كانت قيمتها أعظم   [1] وفي نسخة أخرى: صعابها. [2] وفي نسخة أخرى: تشمخ. [3] وفي نسخة أخرى: الخواص. [4] وفي نسخة أخرى: من ميل. [5] وفي النسخة الباريسية: ناشئة السلطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وكانت الحاجة إليها أشدّ. وأهل هذه الصّنائع الدّينيّة لا تضطرّ إليهم عامّة الخلق وإنّما يحتاج إلى ما عندهم الخواصّ ممّن أقبل على دينه. وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار والعموم فيقع الاستغناء عن هؤلاء في الأكثر. وإنّما يهتمّ بإقامة مراسمهم صاحب الدّولة بما ناله [1] من النّظر في المصالح فيقسم لهم حظّا من الرّزق على نسبة الحاجة إليهم على النّحو الّذي قرّرناه. لا يساويهم بأهل الشّوكة ولا بأهل الصّنائع من حيث الدّين والمراسم الشّرعيّة لكنّه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران فلا يصحّ في قسمهم [2] إلّا القليل. وهم أيضا لشرف بضائعهم أعزّة على الخلق وعند نفوسهم فلا يخضعون لأهل الجاه حتّى ينالوا منه حظّا يستدرّون به الرّزق بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشّغل بهذه البضائع [3] الشّريفة المشتملة على إعمال الفكر والبدن [4] . بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدّنيا لشرف بضائعهم فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك عليّ فوقع بيدي أوراق مخرّقة من حسابات [5] الدّواوين بدار المأمون تشتمل على كثير من الدّخل والخرج وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمّة والمؤذّنين فوقفته عليه وعلم منه صحّة ما قلته ورجع إليه وقضينا العجب من أسرار الله في خلقه وحكمته في عوالمه والله الخالق القادر لا ربّ سواه. الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المتضعين وأهل العافية من البدو وذلك لأنّه أصيل [6] في الطّبيعة وبسيط في منحاه ولذلك لا تجده ينتحله أحد   [1] وفي نسخة أخرى: بما له. [2] وفي نسخة أخرى: قسمتهم. [3] وفي نسخة أخرى: الصنائع. [4] وفي نسخة أخرى: التدبير. [5] وفي النسخة الباريسية: حسبانات. [6] وفي النسخة الباريسية: أصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 من أهل الحضر في الغالب ولا من المترفين. ويختصّ منتحله بالمذلّة قال صلّى الله عليه وسلّم وقد رأى السّكّة ببعض دور الأنصار: «ما دخلت هذه دار قوم إلّا دخله الذّلّ» وحمله البخاريّ على الاستكثار منه. وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزّرع أو تجاوز الحدّ الّذي أمر به. والسّبب فيه والله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التّحكّم واليد العالية [1] فيكون الغارم ذليلا بائسا بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم السّاعة حتّى تعود الزّكاة مغرما» إشارة إلى الملك العضوض القاهر للنّاس الّذي معه التّسلّط والجور ونسيان حقوق الله تعالى في المتموّلات واعتبار الحقوق كلّها مغرم للملوك والدّول. والله قادر على ما يشاء. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل التاسع في معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها اعلم أنّ التّجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السّلع بالرّخص وبيعها بالغلاء أيّام كانت السّلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. وذلك القدر النّامي يسمّى ربحا. فالمحاول لذلك الرّبح إمّا أن يختزن السّلعة ويتحيّن بها حوالة الأسواق من الرّخص إلى الغلاء فيعظم ربحه وإمّا بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السّلعة أكثر من بلده الّذي اشتراها فيه فيعظم ربحه. ولذلك قال بعض الشّيوخ من التّجّار لطلب الكشف عن حقيقة التّجارة أنا أعلّمها لك في كلمتين: اشتراء الرّخيص وبيع الغالي. فقد حصلت التّجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الّذي قرّرناه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.   [1] وفي النسخة الباريسية: الغالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الفصل العاشر في أي أصناف الناس يحترف بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها قد قدّمنا [1] أنّ معنى التّجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأغلى من ثمن الشّراء إمّا بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال. وهذا الرّبح بالنّسبة إلى أصل المال يسير إلّا أنّ المال إذا كان كثيرا عظم الرّبح لأنّ القليل في الكثير كثير. ثمّ لا بدّ في محاولة هذه التّنمية الّذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع وبيعها، ومعاملتهم في تقاضي أثمانها. وأهل النّصفة قليل، فلا بدّ من الغشّ والتّطفيف المجحف بالبضائع ومن المطل في الأثمان المجحف بالرّبح. كتعطيل المحاولة في تلك المدّة وبها نماؤه. ومن الجحود والإنكار المسحت لرأس المال إن لم يتقيّد بالكتاب والشّهادة، وغنى الحكّام في ذلك قليل لأنّ الحكم إنّما هو على الظّاهر، فيعاني التّاجر من ذلك أحوالا صعبة. ولا يكاد يحصل على ذلك التّافه من الرّبح إلّا بعظم العناء والمشقّة، أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله. فإن كان جريئا على الخصومة بصيرا بالحسبان شديد المماحكة مقداما على الحكّام كان ذلك أقرب له إلى النّصفة بجراءته منهم ومماحكته وإلّا فلا بدّ له من جاه يدّرع به، يوقع له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكّام على إنصافه من معامليه [2] فيحصل له بذلك النّصفة في ماله طوعا [3] في الأوّل وكرها في الثّاني وأمّا من كان فاقدا للجراءة والإقدام من نفسه فاقد الجاه من الحكّام فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتّجارة لأنّه يعرّض ماله للضّياع والذّهاب ويصير مأكلة للباعة ولا يكاد ينتصف منهم (لأنّ الغالب في النّاس   [1] وفي نسخة أخرى: قد تقدم لنا. [2] وفي نسخة أخرى: غرمائه. [3] وفي نسخة أخرى: واستخلاص ماله منهم طوعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 وخصوصا الرّعاع والباعة شرهون إلى ما في أيدي النّاس سواهم متوثّبون عليه. ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال النّاس نهبا) [1] «وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 2: 251» . الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك وذلك أنّ التّجّار في غالب أحوالهم إنّما يعانون البيع والشّراء ولا بدّ فيه من المكايسة ضرورة فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعني خلق المكايسة بعيدة عن المروءة الّتي تتخلّق بها الملوك والأشراف. وأمّا إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطّبقة السّفلى منهم من المماحكة والغشّ والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان ردّا وقبولا فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلّة لما هو معروف. ولذلك تجد أهل الرّئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا الخلق. وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه لشرف نفسه وكرم جلاله إلّا أنّه في النّادر بين الوجود والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه وهو ربّ الأوّلين والآخرين. الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع التّاجر البصير بالتّجارة لا ينقل من السّلع إلّا ما تعمّ الحاجة إليه من الغنيّ والفقير والسّلطان والسّوقة إذ في ذلك نفاق سلعته. وأمّا إذا اختصّ نقله بما يحتاج   [1] وفي النسخة الباريسية: «لأن الناس في الغالب متطلعون إلى ما في أيدي الناس. ولولا وازع أحكام ما سلم لأحد شيء مما في يده. خصوصا الباعة وسفلة الناس ورعاعهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 إليه البعض فقط فقد يتعذّر نفاق سلعته حينئذ بإعواز الشّراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه وتفسد أرباحه. وكذلك إذا نقل السّلعة المحتاج إليها فإنّما ينقل الوسط من صنفها فإنّ العالي من كلّ صنف من السّلع إنّما يختصّ به أهل الثّروة وحاشية الدّولة وهم الأقلّ. وإنّما يكون النّاس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كلّ صنف فليتحرّ ذلك جهده ففيه نفاق سلعة [1] أو كسادها وكذلك نقل السّلع من البلد البعيد المسافة أو في شدّة الخطر في الطّرقات يكون أكثر فائدة للتّجّار وأعظم أرباحا وأكفل بحوالة الأسواق لأنّ السّلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدّة الغرر في طريقها فيقلّ حاملوها ويعزّ وجودها وإذا قلّت وعزّت غلت أثمانها. وأمّا إذا كان البلد قريب المسافة والطّريق سابل بالأمن فإنّه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر وترخص أثمانها ولهذا تجد التّجّار الّذين يولعون بالدّخول إلى بلاد السّودان أرفه النّاس وأكثرهم أموالا لبعد طريقهم ومشقّته واعتراض المفازة الصّعبة المخطرة بالخوف والعطش. لا يوجد فيها الماء إلّا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلّاء الرّكبان فلا يرتكب خطر هذا الطّريق وبعده إلّا الأقلّ من النّاس فتجد سلع بلاد السّودان قليلة لدينا فتختصّ بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التّجّار من تناقلها ويسرع إليهم الغنى والثّروة من أجل ذلك. وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشّقّة أيضا. وأمّا المتردّدون في أفق واحد ما بين أمصاره وبلدانه ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة لكثرة السّلع وكثرة ناقليها «وَالله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» الفصل الثالث عشر في الاحتكار وممّا اشتهر عند ذوي البصر والتّجربة في الأمصار أنّ احتكار الزّرع لتحيّن أوقات الغلاء مشئوم. وأنّه يعود على فائدته بالتّلف والخسران. وسببه والله أعلم   [1] وفي نسخة أخرى: سلعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 أنّ النّاس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرّون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطرارا فتبقى النّفوس متعلّقة به وفي تعلّق النّفوس بما لها سرّ [1] كبير في وباله على من يأخذه مجّانا ولعلّه الّذي اعتبره الشّارع في أخذ أموال النّاس بالباطل وهذا وإن لم يكن مجّانا فالنّفوس متعلّقة به لإعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعات لا اضطرار للنّاس إليها وإنّما يبعثهم عليها التّفنّن في الشّهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلّا باختيار وحرص. ولا يبقى لهم تعلّق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النّفسانيّة على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه. والله تعالى أعلم. وسمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الأبليّ قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السّلطان أبي سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليليّ وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنيّة لجرايته قال فأطرق مليّا ثمّ قال: من مكس الخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت الجبايات كلّها حراما فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه والخمر قلّ أن يبذل فيها أحد ماله إلّا وهو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه ولا متعلّقة به نفسه وهذه ملاحظة غريبة والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكنّ الصّدور. الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخص وذلك أنّ الكسب والمعاش كما قدّمناه إنّما هو بالصّنائع أو التّجارة. والتّجارة هي شراء البضائع والسّلع وادّخارها. يتحيّن بها حوالة الأسواق بالزّيادة   [1] وفي النسخة الباريسية: شر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 في أثمانها ويسمّى ربحا. ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتّجارة دائما فإذا استديم الرّخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متموّل على الجملة ولم يحصل للتّاجر حوالة الأسواق فسد الرّبح والنماء بطول تلك المدّة وكسدت سوق ذلك الصّنف ولم يحصل التّاجر إلّا على العناء فقعد التّجّار عن السّعي فيها وفسدت رءوس أموالهم. واعتبر ذلك أوّلا بالزّرع فإنّه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين [1] بسائر أطواره من الفلح والزّراعة لقلّة الرّبح فيه وندارته [2] أو فقده. فيفقدون النّماء في أموالهم أو يجدونه على قلّة ويعودون بالإنفاق على رءوس أموالهم وتفسد أحوالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضا بالطّحن والخبز وسائر ما يتعلّق بالزّراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولا. وكذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السّلطان على [3] أهل الفلح زرعا فإنّها تقلّ جبايتهم من ذلك ويعجزون عن إقامة الجنديّة الّتي (هي بسببها ومطالبون بها ومنقطعون لها) [4] فتفسد أحوالهم وكذا إذا استديم الرّخص في السّكّر أو العسل فسد جميع ما يتعلّق به وقعد المحترفون عن التّجارة فيه وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرّخص أيضا فإذا الرّخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصّنف الرّخيص وكذا الغلاء المفرط أيضا. وإنّما معاش النّاس وكسبهم في التّوسّط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقرّرة بين أهل العمران. وإنّما يحمد الرّخص في الزّرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه واضطرار النّاس إلى الأقوات من بين الغنيّ والفقير. والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعمّ الرّفق بذلك ويرجّح جانب القوت على جانب التّجارة في هذا الصّنف الخاصّ «وَالله الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» والله سبحانه وتعالى ربّ العرش العظيم.   [1] وفي نسخة أخرى: فإذا استديم رخصه كيف تفسر أحوال المحترفين به. [2] وفي نسخة أخرى: ونزارته. [3] وفي نسخة أخرى: عند. [4] وفي نسخة أخرى: هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها ويقطع عنهم الرزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 الفصل الخامس عشر في أن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة قد قدّمنا في الفصل قبله أنّ التّاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشّراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بدّ في ذلك من المكايسة والمماحكة والتّحذلق وممارسة الخصومات واللّجاج وهي عوارض هذه الحرفة. وهذه الأوصاف نقص [1] من الذّكاء والمروءة وتجرّح [2] فيها لأنّ الأفعال لا بدّ من عود آثارها على النّفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذّكاء وأفعال الشّرّ والسّفسفة تعود بضدّ ذلك فتتمكّن وترسخ إن سبقت وتكرّرت وتنقص خلال الخير إن تأخّرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النّفس شأن الملكات النّاشئة عن الأفعال. وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التّجّار في أطوارهم فمن كان منهم سافل الطّور محالفا لأشرار الباعة أهل الغشّ والخلابة والخديعة والفجور في الأثمان [3] إقرارا وإنكارا، كانت رداءة تلك الخلق عنه أشدّ وغلبت عليه السّفسفة وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة. وإلّا فلا بدّ له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته، وفقدان ذلك منهم في الجملة. ووجود الصّنف الثّانيّ منهم الّذي قدّمناه في الفصل قبله أنّهم يدّرعون بالجاه ويعوّض لهم من مباشرة ذلك، فهم [4] نادر وأقلّ من النّادر. وذلك أن يكون المال قد يوجد [5] عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتّصال بأهل الدّولة وتكسبه ظهورا وشهرة بين أهل عصره فيرتفع عن مباشرة ذلك بنفسه ويدفعه إلى من يقوم له به من وكلائه وحشمه. ويسهّل له الحكّام النّصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من برّه   [1] وفي نسخة أخرى: تفضّ. [2] وفي نسخة أخرى: تخدج. [3] وفي نسخة أخرى: الإيمان. [4] وفي نسخة أخرى: فيهم. [5] وفي نسخة أخرى: توفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وإتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مرّ. فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن تلك المحاجاة [1] إلّا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنّهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ورفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك إلّا أنّه قليل ولا يكاد يظهر أثره «وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 37: 96» . الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم [2] اعلم أنّ الصّناعة هي ملكة في أمر عمليّ فكريّ وبكونه عمليّا هو جسمانيّ محسوس. والأحوال الجسمانيّة المحسوسة فنقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل، لأنّ المباشرة في الأحوال الجسمانيّة المحسوسة أتمّ فائدة والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرّره مرّة بعد أخرى حتّى ترسخ صورته. وعلى نسبة الأصل تكون الملكة. ونقل المعاينة أوعب وأتمّ من نقل الخبر والعلم. فالملكة الحاصلة عن الخبر. وعلى قدر جودة التّعليم وملكة المعلّم يكون حذق المتعلّم في الصّناعة وحصول ملكته. ثمّ إنّ الصّنائع منها البسيط ومنها المركّب. والبسيط هو الّذي يختصّ بالضّروريّات والمركّب هو الّذي يكون للكماليّات. والمتقدّم منها في التّعليم هو البسيط لبساطته أوّلا، ولأنّه مختصّ بالضّروريّ الّذي تتوفّر الدّواعي على نقله فيكون سابقا في التّعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصا. ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركّباتها من القوّة إلى الفعل بالاستنباط شيئا فشيئا على التّدريج حتّى تكمل. ولا يحصل ذلك دفعة وإنّما يحصل في أزمان وأجيال إذ خروج الأشياء من القوّة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيّما في الأمور الصّناعيّة فلا بدّ له إذن من زمان. ولهذا تجد الصّنائع في الأمصار الصّغيرة ناقصة ولا يوجد منها   [1] وفي نسخة أخرى: المحرجات. [2] وفي النسخة الباريسية: المعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 إلّا البسيط فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور التّرف فيها إلى استعمال الصّنائع خرجت من القوّة إلى الفعل. وتنقسم الصّنائع أيضا إلى ما يختصّ بأمر المعاش ضروريّا كان أو غير ضروريّ وإلى ما يختصّ بالأفكار الّتي هي خاصيّة الإنسان من العلوم والصّنائع والسّياسة. ومن الأوّل الحياكة والجزارة والنّجارة والحدادة وأمثالها. ومن الثّاني الوراقة وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتّجليد والغناء والشّعر وتعليم العلم وأمثال ذلك. ومن الثّالث الجنديّة وأمثالها. والله أعلم. الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته والسّبب في ذلك أنّ النّاس ما لم يستوف العمران الحضريّ وتتمدّن المدينة إنّما همّهم في الضّروريّ من المعاش وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدّنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضّروريّ وزادت عليه صرف الزّائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش. ثمّ إنّ الصّنائع والعلوم إنّما هي للإنسان من حيث فكره الّذي يتميّز به عن الحيوانات والقوت له من حيث الحيوانيّة والغذائيّة فهو مقدّم لضروريّته على العلوم والصّنائع وهي متأخّرة عن الضّروريّ. وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصّنائع للتّأنّق فيها حينئذ واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفّر دواعي التّرف والثّروة. وأمّا العمران البدويّ أو القليل فلا يحتاج من الصّنائع إلّا البسيط خاصّة المستعمل في الضّروريّات من نجّار أو حدّاد أو خيّاط أو حائك أو جزّار. وإذا وجدت هذه بعد فلا توجد فيه كاملة ولا مستجادة وإنّما يوجد منها بمقدار الضّرورة إذ هي كلّها وسائل إلى غيرها وليست مقصودة لذاتها. وإذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات كان من جملتها التّأنّق في الصّنائع واستجادتها فكملت بجميع متمّماتها وتزايدت صنائع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 أخرى معها ممّا تدعو إليه عوائد التّرف وأحواله من جزّار ودبّاغ وخرّاز وصائغ وأمثال ذلك. وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات والتّأنّق فيها في الغاية وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها. بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه التّرف في المدينة مثل الدّهّان والصّفّار والحمّاميّ والطّبّاخ والشّمّاع [1] والهرّاس ومعلّم الغناء والرّقص وقرع الطّبول على التّوقيع. ومثل الورّاقين الّذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها فإنّ هذه الصّناعة إنّما يدعو إليها التّرف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكريّة وأمثال ذلك. وقد تخرج عن الحدّ إذا كان العمران خارجا عن الحدّ كما بلغنا عن أهل مصر أنّ فيهم من يعلّم الطّيور العجم والحمر الإنسيّة ويتخيّل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرّقص والمشي على الخيوط في الهواء ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة وغير ذلك من الصّنائع الّتي لا توجد عندنا بالمغرب. لأنّ عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة. أدام الله عمرانها بالمسلمين. والله الحكيم العليم. الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمده والسّبب في ذلك ظاهر وهو أنّ هذه كلّها عوائد للعمران والأوان [2] . والعوائد إنّما ترسخ بكثرة التّكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال. وإذا استحكمت الصّبغة عسر نزعها. ولهذا نجد في الأمصار الّتي كانت استبحرت في الحضارة لمّا تراجع عمرانها وتناقص بقيت فيها آثار من هذه الصّنائع ليست في   [1] وفي نسخة أخرى: السفاح. [2] وفي نسخة أخرى: الوأم أي البيت الدافئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 غيرها من الأمصار المستحدثة العمران ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة وما ذاك إلّا لأنّ أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكرّرها وهذه لم تبلغ الغاية بعد. وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنّا نجد فيها رسوم الصّنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطّبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرّقص وتنضيد الفرش في القصور، وحسن التّرتيب والأوضاع في البناء وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وإقامة الولائم والأعراس وسائر الصّنائع الّتي يدعو إليها التّرف وعوائده. فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها. ونجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصّة موفورة من ذلك وحظّ متميّز بين جميع الأمصار. وإن كان عمرانها قد تناقص. والكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة. وما ذاك إلّا لما قدّمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدّولة الأمويّة وما قبلها من دولة القوط وما بعدها من دولة الطّوائف وهلمّ جرّا. فبلغت الحضارة فيها مبلغا لم تبلغه في قطر إلّا ما ينقل عن العراق والشّام ومصر أيضا لطول آماد الدّول فيها فاستحكمت فيها الصّنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتّنميق. وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلّيّة حال الصّبغ إذا رسخ في الثّوب. وكذا أيضا حال تونس فيما حصل فيها بالحضارة من الدّول الصّنهاجيّة والموحّدين من بعدهم وما استكمل لها في ذلك من الصّنائع في سائر الأحوال وإن كان ذلك دون الأندلس. إلّا أنّه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما وتردّد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كلّ سنة وربّما سكن أهلها هناك عصورا فينقلون من عوائد ترفهم ومحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه ومن أحوال الأندلس لما أنّ أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السّابعة. ورسخ فيها من ذلك أحوال وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد. إلّا أنّ الصّبغة إذا استحكمت فقليلا ما تحول إلّا بزوال محلّها. وكذا نجد بالقيروان ومرّاكش وقلعة ابن حمّاد أثرا باقيا من ذلك وإن كانت هذه كلّها اليوم خرابا أو في حكم الخراب. ولا يتفطّن لها إلّا البصير من النّاس فيجد من هذه الصّنائع آثارا تدلّه على ما كان بها كأثر الخطّ الممحوّ في الكتاب «وَالله الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» . الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها والسّبب في ذلك ظاهر وهو أنّ الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجّانا لأنّه كسبه ومنه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء ممّا سواه فلا يصرفه إلّا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنّفع. وإن كانت الصّناعة مطلوبة وتوجّه إليها النّفاق كانت حينئذ الصّناعة بمثابة السّلعة الّتي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد النّاس في المدينة لتعلّم تلك الصّناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصّناعة مطلوبة لم تنفق سوقها ولا يوجّه قصد إلى تعلّمها، فاختصّت بالتّرك وفقدت للإهمال. ولهذا يقال عن عليّ رضي الله عنه: «قيمة كلّ امرئ ما يحسن» بمعنى أنّ صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الّذي هو معاشه. وأيضا فهنا سرّ آخر وهو أنّ الصّنائع وإجادتها إنّما تطلبها الدّولة فهي الّتي تنفق سوقها وتوجّه الطّالبات إليها. وما لم تطلبه الدّولة وإنّما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأنّ الدّولة هي السّوق الأعظم وفيها نفاق كلّ شيء والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق منها كان أكثريّا ضرورة. والسّوقة وإن طلبوا الصّناعة فليس طلبهم بعامّ ولا سوقهم بنافقة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقضت منها الصنائع وذلك لما بيّنّا أنّ الصّنائع إنّما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها. وإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلّة ساكنه تناقص فيه التّرف ورجعوا إلى الاقتصار على الضّروريّ من أحوالهم فتقلّ الصّنائع الّتي كانت من توابع التّرف لأنّ صاحبها حينئذ لا يصحّ له بها معاشه فيفرّ إلى غيرها، أو يموت ولا يكون خلف منه، فيذهب رسم تلك الصّنائع جملة، كما يذهب النّقّاشون والصّوّاغ [1] والكتّاب والنّسّاخ وأمثالهم من الصّنائع [2] لحاجات التّرف. ولا تزال الصّناعات في التّناقص إلى أن تضمحلّ. والله الخلّاق العليم وسبحانه وتعالى. الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع والسّبب في ذلك أنّهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضريّ، وما يدعو إليه من الصّنائع وغيرها. والعجم من أهل المشرق وأمم النّصرانيّة عدوة البحر الرّوميّ أقوم النّاس عليها، لأنّهم أعرق في العمران الحضريّ وأبعد عن البدو وعمرانه. حتّى إنّ الإبل الّتي أعانت العرب على التّوحّش في القفر، والإعراق في البدو، مفقودة لديهم بالجملة، ومفقودة مراعيها، والرّمال المهيّئة لنتاجها. ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصّنائع بالجملة، حتّى تجلب إليه من قطر آخر. وانظر بلاد العجم من الصّين والهند وأرض التّرك وأمم   [1] وفي نسخة الصواغون. [2] وفي نسخة أخرى: الصنّاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 النّصرانيّة، كيف استكثرت فيهم الصّنائع واستجلبها الأمم من عندهم. وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. ويشهد لك بذلك قلّة الأمصار بقطرهم كما قدّمناه. فالصّنائع بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة الأماكن [1] من صناعة الصّوف من نسجه، والجلد في خرزه ودبغه. فإنّهم لمّا استحضروا بلغوا فيها المبالغ لعموم البلوى بها وكون هذين أغلب السّلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. وأمّا المشرق فقد رسخت الصّنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين من الفرس والنّبط والقبط وبني إسرائيل ويونان والرّوم أحقابا متطاولة، فرسخت فيهم أحوال الحضارة، ومن جملتها الصّنائع كما قدّمناه، فلم يمح رسمها. وأمّا اليمن والبحرين وعمان والجزيرة وإن ملكه العرب إلّا أنّهم تداولوا ملكه آلافا من السّنين في أمم كثيرين [2] منهم. واختطّوا أمصاره ومدنه وبلغوا الغاية من الحضارة والتّرف مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم. والتّبابعة والأذواء فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفّرت الصّنائع ورسخت، فلم تبل ببلى الدّولة كما قدّمناه. فبقيت مستجدّة حتّى الآن. واختصّت بذلك للوطن، كصناعة الوشي والعصب وما يستجاد من حوك الثّياب والحرير فيها والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. الفصل الثاني والعشرون فيمن حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعد في ملكة أخرى ومثال ذلك الخيّاط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه فلا يجيد من بعدها ملكة النّجارة أو البناء إلّا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسّبب في ذلك أنّ الملكات صفات للنّفس وألوان فلا تزدحم   [1] وفي نسخة أخرى: إلّا ما كان. [2] وفي نسخة أخرى: في أمم كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 دفعة. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعدادا لحصولها. فإذا تلوّنت النّفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللّون الحاصل من هذه الملكة فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف. وهذا بيّن يشهد له الوجود. فقلّ أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثمّ يحكم من بعدها أخرى ويكون فيهما معا على رتبة واحدة من الإجادة. حتّى أنّ أهل العلم الّذين ملكتهم فكريّة فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية فقلّ أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته بل يكون مقصّرا فيه إن طلبه إلّا في الأقلّ النّادر من الأحوال. ومبنيّ سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينه بلون الملكة الحاصلة في النّفس. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه. الفصل الثالث والعشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع اعلم أنّ الصّنائع في النّوع الإنسانيّ كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذّ عن الحصر ولا يأخذها العدّ. إلّا أنّ منها ما هو ضروريّ في العمران أو شريف بالموضع [1] فنخصّها بالذّكر ونترك ما سواها. فأمّا الضّروريّ فالفلاحة والبناء والخياطة والنّجارة والحياكة، وأمّا الشّريفة بالموضع [1] فكالتّوليد والكتابة والوراقة والغناء والطّبّ. فأمّا التّوليد فإنّها ضروريّة في العمران وعامّة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود وتتمّ غالبا. وموضوعها مع ذلك المولودون وأمّهاتهم. وأمّا الطّبّ فهو حفظ الصّحّة للإنسان ودفع المرض عنه ويتفرّع عن علم الطّبيعة، وموضوعة مع ذلك بدن الإنسان. وأمّا الكتابة وما يتبعها من الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته ومقيّدة لها   [1] وفي نسخة أخرى: الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 عن النّسيان ومبلغة ضمائر النّفس إلى البعيد الغائب ومخلّدة نتائج الأفكار والعلوم في الصّحف ورافعة رتب الوجود للمعاني. وأمّا الغناء فهو نسب الأصوات ومظهر جمالها للأسماع. وكلّ هذه الصّنائع الثّلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم ومجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها. وما سوى ذلك من الصّنائع فتابعة وممتهنة في الغالب. وقد يختلف ذلك باختلاف الأغراض والدّواعي، والله أعلم بالصّواب. الفصل الرابع والعشرون في صناعة الفلاحة هذه الصّناعة ثمرتها اتّخاذ الأقوات والحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها ازدراعها وعلاج نباتها وتعهّده بالسّقي والتّنمية إلى بلوغ غايته ثمّ حصاد سنبله واستخراج حبّه من غلافه وإحكام الأعمال لذلك، وتحصيل أسبابه ودواعيه. وهي أقدم الصّنائع لما أنّها محصّلة للقوت المكمّل لحياة الإنسان غالبا إذ يمكن وجوده من دون القوت. ولهذا اختصّت هذه الصّناعة بالبدو. إذ قدّمنا أنّه أقدم من الحضر وسابق عليه فكانت هذه الصّناعة لذلك بدويّة لا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها لأنّ أحوالهم كلّها ثانية على البداوة فصنائعهم ثانية عن صنائعها وتابعة لها. والله سبحانه وتعالى مقيم العباد فيما أراد. الفصل الخامس والعشرون في صناعة البناء هذه الصّناعة أوّل صنائع العمران الحضريّ وأقدمها وهي معرفة العمل في اتّخاذ البيوت والمنازل للكنّ [1] والمأوى للأبدان في المدن. وذلك أنّ الإنسان لما   [1] وفي النسخة الباريسية: للسكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله، لا بدّ أن يفكّر فيما يدفع عنه الأذى من الحرّ والبرد كاتّخاذ البيوت المكتنفة بالسّقف والحيطان من سائر جهاتها [1] والبشر مختلف في هذه الجبلّة الفكريّة فمنهم المعتدلون فيها فيتّخذون ذلك باعتدال أهالي [2] الثّاني والثّالث والرّابع والخامس والسّادس وأمّا أهل البدو فيبعدون عن اتّخاذ ذلك لقصور أفكارهم عن إدراك الصّنائع البشريّة فيبادرون للغيران والكهوف المعدّة من غير علاج [3] . ثمّ المعتدلون والمتّخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون في البسيط الواحد بحيث يتناكرون ولا يتعارفون فيخشون طرق [4] بعضهم بعضا بياتا فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة ماء أو أسوار تحوطهم [5] ويصير جميعا مدينة واحدة ومصرا واحدا ويحوطهم الحكم من داخل يدفع [6] بعضهم عن بعض وقد يحتاجون إلى الانتصاف [7] ويتّخذون المعاقل والحصون لهم ولمن تحت أيديهم وهؤلاء مثل الملوك ومن في معناهم من الأمراء وكبار القبائل. ثمّ تختلف أحوال البناء في المدن كلّ مدينة على ما يتعارفون ويصطلحون عليه ويناسب مزاج هوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر. وكذا حال أهل المدينة الواحدة فمنهم من يتّخذ القصور والمصانع العظيمة السّاحة المشتملة على عدّة الدّور والبيوت والغرف الكبيرة لكثرة ولده وحشمه وعياله وتابعه ويؤسّس جدرانها بالحجارة ويلحم بينها بالكلس ويعالي عليها بالأصبغة والجصّ ويبالغ في كلّ ذلك بالتّنجيد والتّنميق إظهارا للبسطة بالعناية في شأن   [1] وفي النسخة الباريسية: «لا بد له أن يفكر في موانع أذية الحر والبرد عنه باتخاذ البيوت ذوات الحيطان والسقف الماثلة دونه من جهاتها» . [2] وفي نسخة أخرى: «والبشر مختلفون في هذه الجبلّة الفكرية التي هي معنى الإنسانية. فالمقيّدون فيها. ولو على التفاوت. يتخذون ذلك باعتدال كأهل الإقليم ... » . [3] وفي النسخة الباريسية: «وأما أهل الأول والسابع فيبعدون عن اتخاذ ذلك لانحرافهم وقصور أفكارهم عن كيفية العمل في الصنائع الإنسانية. فيأوون إلى الغيران والكهوف. كما يتناولون الأغذية من غير علاج ولا نضج» . [4] وفي نسخة أخرى: ويخشى من طروق. [5] وفي نسخة أخرى: بإدارة سياج الأسوار التي تحيطهم. [6] وفي نسخة أخرى: يحوطهم فيها الحكام بدفاع ... [7] وفي نسخة أخرى: إلى الاعتصام من العدو ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 المأوى. ويهيّئ مع ذلك الأسراب والمطامير للاختزان لأقواته والإسطبلات لربط مقرّباته إذا كان من أهل الجنود وكثرة التّابع والحاشية [1] كالأمراء ومن في معناهم ومنهم من يبني الدّويرة والبيوت [2] لنفسه وسكنه وولده لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه واقتصاره على الكنّ [3] الطّبيعيّ للبشر وبين ذلك مراتب غير منحصرة وقد يحتاج لهذه الصّناعة أيضا عند تأسيس الملوك وأهل الدّول المدن العظيمة والهياكل المرتفعة ويبالغون في إتقان الأوضاع وعلوّ الأجرام مع الإحكام بتبلغ الصّناعة مبالغها. وهذه الصّناعة هي الّتي تحصّل الدّواعي لذلك كلّه وأكثر ما تكون هذه الصّناعة في الأقاليم المعتدلة من الرّابع وما حواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها. وإنّما يتّخذون البيوت حظائر من القصب والطّين أو يأوون إلى الكهوف والغيران. وأهل هذه الصّناعة القائمون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر ومنهم القاصر. ثمّ هي تتنوّع أنواعا كثيرة فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقا بعضها إلى بعض بالطّين والكلس الّذي يعقد معها ويلتحم كأنّها جسم واحد ومنها البناء بالتّراب خاصّة تقام منه حيطان يتّخذ لها لوحان من الخشب مقدّران طولا وعرضا باختلاف العادات في التّقدير. وأوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس وقد يوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدر [4] . ويسدّ الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثمّ يوضع فيه التّراب مخلّطا [5] بالكلس ويركز بالمراكز المعدّة حتّى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه بالكلس ثمّ   [1] وفي النسخة الباريسية: والغاشية. [2] وفي النسخة الباريسية: والبويت. [3] الكنّ: وقاء كل شيء وستره. [4] وفي نسخة أخرى: الجدل. [5] وفي نسخة أخرى: مختلطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 يزاد التّراب ثانيا وثالثا إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللّوحين وقد تداخلت أجزاء الكلس والتّراب وصارت جسما واحدا. ثمّ يعاد نصب اللّوحين على صورة [1] ويركز كذلك إلى أن يتمّ وينظّم الألواح كلّها سطرا من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كلّه ملتحما كأنّه قطعة واحدة ويسمّى الطّابية وصانعه الطّوّاب. ومن صنائع البناء أيضا أن تجلّل الحيطان بالكلس بعد أن يحلّ بالماء ويخمّر أسبوعا أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النّاريّة المفسدة للإلحام. فإذا تمّ له ما يرضاه من ذلك علاه [2] من فوق الحائط وذلك إلى أن يلتحم. ومن صنائع البناء عمل السّقف بأن يمدّ الخشب المحكمة النّجارة أو السّاذجة على حائطي البيت ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدّسائر ويصبّ عليها التّراب والكلس ويبسط [3] بالمراكز حتّى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط. ومن صناعة البناء ما يرجع إلى التّنميق والتّزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسّمة من الجصّ يخمّر بالماء ثمّ يرجع جسدا [4] وفيه بقيّة البلل، فيشكّل على التّناسب تخريما بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق ورواء. وربّما عولي على الحيطان أيضا بقطع الرّخام أو الآجرّ أو الخزف أو بالصّدف أو السّبج يفصّل أجزاء متجانسة أو مختلفة وتوضع في الكلس على نسب وأوضاع مقدّرة عندهم يبدو به الحائط للعيان، كأنّه قطع الرّياض المنمنمة. إلى غير ذلك من بناء الجباب والصّهاريج لسفح [5] الماء بعد أن تعدّ في البيوت قصاع الرّخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصّهريج يجلب إليه من خارج القنوات المفضية إلى البيوت وأمثال ذلك من أنواع البناء. وتختلف الصّنّاع في جميع ذلك باختلاف الحذق والبصر ويعظم عمران   [1] وفي نسخة أخرى: على الصورة الأولى. [2] وفي نسخة أخرى: عالاه. [3] وفي نسخة أخرى: ويبلط. [4] وفي النسخة الباريسية: ثم يرفع مجسدا. [5] وفي نسخة أخرى: لسبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 المدينة ويتّسع فيكثرون. وربّما يرجع الحكّام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء. وذلك أنّ النّاس في المدن لكثرة [1] الازدحام والعمران يتشاحّون حتّى في الفضاء والهواء الأعلى والأسفل ومن الانتفاع بظاهر البناء ممّا يتوقّع معه حصول الضّرر في الحيطان. فيمنع جاره من ذلك إلّا ما كان له فيه حقّ. ويختلفون أيضا في استحقاق الطّرق والمنافذ للمياه الجارية والفضلات المسربة في القنوات وربّما يدّعي بعضهم حقّ بعض في حائطه أو علوّه أو قناته لتضايق الجوار أو يدّعي بعضهم على جاره اختلال [2] حائطه خشية سقوطه ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرضة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدّار ولا إهمال لمنفعتها. وأمثال ذلك. ويخفى جميع ذلك إلّا على أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله المستدلّين عليها بالمعاقد والقمط ومراكز الخشب وميل الحيطان واعتدالها وقسم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة بحيث لا تضرّ بما مرّت عليه من البيوت والحيطان وغير ذلك. فلهم بهذا كلّه البصر والخبرة الّتي ليست لغيرهم. وهم مع ذلك يختلفون بالجودة والقصور في الأجيال باعتبار الدّول وقوّتها. فإنّا قدّمنا أنّ الصّنائع وكمالها، إنّما هو بكمال الحضارة وكثرتها بكثرة الطّالب لها. فلذلك عند ما تكون الدّولة بدويّة في أوّل أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقع للوليد بن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة والقدس ومسجده بالشّام. فبعث إلى ملك الرّوم بالقسطنطينيّة في الفعلة المهرة في البناء فبعث إليه منهم من حصّل [3] له غرضه من تلك المساجد وقد يعرف صاحب هذه الصّناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الارتفاع   [1] وفي نسخة أخرى: الكثيرة. [2] وفي نسخة أخرى: اعتلال. [3] وفي النسخة الباريسية: بمن كمل له غرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وأمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله. وكذلك في جرّ الأثقال بالهندام فإنّ الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدّر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط فيتحيّل لذلك بمضاعفة قوّة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدّرة على نسب هندسيّة تصيّر الثّقيل عند معاناة الرّفع خفيفا فيتمّ المراد من ذلك بغير كلفة وهذا إنّما يتمّ بأصول هندسيّة معروفة متداولة بين البشر وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد الّتي يحسب أنّها من بناء الجاهليّة. وأنّ أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسمانيّ وليس كذلك وإنّما تمّ لهم ذلك بالحيل الهندسيّة كما ذكرناه. فتفهّم ذلك. والله يخلق ما يشاء سبحانه. الفصل السادس والعشرون في صناعة النجارة هذه الصّناعة من ضروريّات العمران ومادّتها الخشب وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى جعل للآدميّ في كلّ مكوّن من المكوّنات منافع تكمل بها ضروراته وكان منها الشّجر فإنّ له فيه من المنافع ما لا ينحصر ممّا هو معروف لكلّ أحد. ومن منافعها اتّخاذها خشبا إذا يبست وأوّل منافعه أن يكون وقودا للنّيران في معاشهم وعصيّا للاتكاء والذّود وغيرهما من ضروريّاتهم ودعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثمّ بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو والحضر فأمّا أهل البدو فيتّخذون منها العمد والأوتاد لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرّماح والقسيّ والسّهام لسلاحهم وأمّا أهل الحضر فالسّقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسيّ لجلوسهم. وكلّ واحدة من هذه فالخشبة مادّة لها ولا تصير إلى الصّورة الخاصّة بها إلّا بالصّناعة. والصّناعة المتكفّلة بذلك المحصّلة لكلّ واحد من صورها هي النّجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أوّلا: إمّا بخشب أصغر منه أو ألواح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ثمّ تركّب تلك الفضائل بحسب الصّور المطلوبة. وهو في كلّ ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصير أعضاء لذلك الشّكل المخصوص. والقائم على هذه الصّناعة هو النّجّار وهو ضروريّ في العمران. ثمّ إذا عظمت الحضارة وجاء التّرف وتأنّق النّاس فيما يتّخذونه من كلّ صنف من سقف أو باب أو كرسيّ أو ماعون، حدث التّأنّق في صناعة ذلك واستجادته بغرائب من الصّناعة كماليّة ليست من الضّروريّ في شيء مثل التّخطيط في الأبواب والكراسيّ ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها ثمّ تؤلّف على نسب مقدّرة وتلحم بالدّسائر فتبدو لرأي [1] العين ملتحمة وقد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كلّ شيء يتّخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. وكذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتّخذة من الخشب من أيّ نوع كان. وكذلك قد يحتاج إلى هذه الصّناعة في إنشاء المراكب البحريّة ذات الألواح والدّسر وهي أجرام هندسيّة صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله ليكون ذلك الشّكل أعون لها في مصادمة الماء وجعل لها عوض الحركة الحيوانيّة الّتي للسّمك تحريك الرّياح. وربّما أعينت بحركة المقاذيف كما في الأساطيل. وهذه الصّناعة من أصلها محتاجة إلى أصل [2] كبير من الهندسة في جميع أصنافها لأنّ إخراج الصّور من القوّة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة التّناسب في المقادير إمّا عموما أو خصوصا وتناسب المقادير لا بدّ فيه من الرّجوع إلى المهندس. ولهذا كانت أئمّة الهندسة اليونانيّون كلّهم أئمّة في هذه الصّناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجّارا وبها كان يعرف. وكذلك أبلّونيوس صاحب كتاب المخروطات وميلاوش وغيرهم. وفيما يقال: أنّ معلّم هذه الصّناعة في الخليقة هو نوح عليه السّلام وبها أنشأ سفينة النّجاة الّتي كانت بها معجزته عند الطّوفان. وهذا الخبر وإن كان   [1] وفي نسخة أخرى: بالدساتر فتبدو لمرأى. [2] وفي نسخة أخرى: جزء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 ممكنا أعني كونه نجّارا إلّا أنّ كونه أوّل من علّمها أو تعلّمها لا يقوم دليل من النّقل عليه لبعد الآماد. وإنّما معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النّجارة لأنّه لم يصحّ حكاية عنها قبل خبر نوح عليه السّلام فجعل كأنّه أوّل من تعلّمها. فتفهّم أسرار الصّنائع في الخليقة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل السابع والعشرون في صناعة الحياكة والخياطة اعلم أنّ المعتدلين من البشر في معنى الإنسانيّة لا بدّ لهم من الفكر في الدّفء كالفكر في الكنّ. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحرّ والبرد. ولا بدّ لذلك من إلحام الغزل حتّى يصير ثوبا واحدا، وهو النّسج والحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، وإن قالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعا يقدّرون منها ثوبا على البدن بشكله وتعدّد أعضائه واختلاف نواحيها. ثمّ يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتّى تصير ثوبا واحدا على البدن ويلبسونها. والصّناعة المحصّلة لهذه الملاءمة هي الخياطة. هاتان الصّناعتان ضروريّتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرّفه [1] فالأولى لنسج الغزل من الصّوف والكتّان والقطن إسداء في الطّول وإلحاما في العرض وإحكاما لذلك النّسج بالالتحام الشّديد، فيتمّ منها قطع مقدّرة: فمنها الأكسية من الصّوف للاشتمال، ومنها الثّياب من القطن والكتّان للباس. والصّناعة الثّانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال والعوائد، تفصّل بالمقراض قطعا مناسبة للأعضاء البدنيّة ثمّ تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلا أو تنبيتا أو تفسّحا [2] على حسب نوع الصّناعة. وهذه الصّناعة مختصّة   [1] وفي النسخة الباريسية: من الدفء. [2] وفي نسخة أخرى: أو تفتيحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 بالعمران الحضريّ لما أنّ أهل البدو يستغنون عنها وإنّما يشتملون الأثواب اشتمالا. وإنّما تفصيل الثّياب وتقديرها وإلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة وفنونها. وتفهّم هذه في سرّ تحريم المخيط في الحجّ لما أنّ مشروعيّة الحجّ مشتملة على نبذ العلائق الدّنيويّة كلّها والرّجوع إلى الله تعالى «كما خلقنا أوّل مرّة، حتّى لا يعلّق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيبا ولا نساء ولا مخيطا ولا خفّا، ولا يتعرّض لصيد ولا لشيء من عوائده الّتي تلوّنت [1] بها نفسه وخلقه، مع أنّه يفقدها بالموت ضرورة. وإنّما يجيء كأنّه وارد إلى المحشر ضارعا بقلبه مخلصا لربّه. وكان جزاؤه إن تمّ له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. سبحانك ما أرفقك بعبادك وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك. وهاتان الصّنعتان قديمتان في الخليقة لما أنّ الدّفء ضروريّ للبشر في العمران المعتدل. وأمّا المنحرف إلى الحرّ فلا يحتاج أهله إلى دفء. ولهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأوّل من السّودان أنّهم عراة في الغالب. ولقدم هذه الصّنائع ينسبها العامّة إلى إدريس عليه السّلام وهو أقدم الأنبياء. وربّما ينسبونها إلى هرمس وقد يقال إنّ هرمس هو إدريس. والله سبحانه وتعالى هو الخلّاق العليم. الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدميّ من بطن أمّه من الرّفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك. ثمّ ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. وهي مختصّة بالنّساء في غالب الأمر لما أنّهنّ الظّاهرات بعضهنّ على عورات بعض. وتسمّى القائمة على ذلك منهنّ القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء   [1] وفي نسخة أخرى: تكونت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 والقبول كأنّ النّفساء تعطيها الجنين وكأنّها تقبله. وذلك أنّ الجنين إذا استكمل خلقه في الرّحم وأطواره وبلغ إلى غايته والمدّة الّتي قدّرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النّزوع لذلك ويضيق عليه المنفذ فيعسر. وربّما مزّق بعض جوانب الفرج بالضّغط وربّما انقطع بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرّحم. وهذه كلّها آلام يشتدّ لها الوجع وهو معنى الطّلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشّيء بغمز الظّهر والوركين وما يحاذي الرّحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدّافعة في إخراج الجنين وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها وعلى ما تهتدي إلى معرفة عسرة. ثمّ إن أخرج الجنين بقيت بينه وبين الرّحم الوصلة حيث كان يتغذّى منها متّصلة من سرّته بمعاه. وتلك الوصلة عضو فضليّ لتغذية المولود خاصّة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدّى مكان الفضلة ولا تضرّ بمعاه ولا برحم أمّه ثمّ تدمل مكان الجراحة منه بالكيّ أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثمّ إنّ الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضّيق وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء فربّما تتغيّر أشكال أعضائه وأوضاعها لقرب التّكوين ورطوبة الموادّ فتتناوله القابلة بالغمز والإصلاح حتّى يرجع كلّ عضو إلى شكله الطّبيعيّ ووضعه المقدّر له ويرتدّ خلقه سويّا. ثمّ بعد ذلك تراجع النّفساء وتحاذيها بالغمز والملاينة لخروج أغشية الجنين لأنّها ربّما تتأخّر عن خروجه قليلا. ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطّبيعيّة قبل استكمال خروج الأغشية وهي فضلات فتتعفّن ويسري عفنها إلى الرّحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا وتحاول في إعانة الدّفع إلى أن تخرج تلك الأغشية الّتي كانت قد تأخّرت ثمّ ترجع إلى المولود فتمرّخ [1] أعضاءه بالأدهان والذّرورات [2] القابضة لتشدّه وتجفّف رطوبات الرّحم وتحنّكه لرفع لهاته وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه وتغرغره باللّعوق لدفع السّدد من معاه وتجويفها عن   [1] تمرّخ: تدهن (قاموس) . [2] الذرورات: ج اذرة وهو ما يذر في العين أو الجرح من دواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 الالتصاق. ثمّ تداوي النّفساء بعد ذلك من الوهن الّذي أصابها بالطّلق وما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود إن لم يكن عضوا طبيعيّا فحالة التّكوين في الرّحم صيّرته بالالتحام كالعضو المتّصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. وتداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التّمزيق عند الضّغط في الخروج. وهذه كلّها أدواء نجد هؤلاء القوابل أبصر بدوائها. وكذلك ما يعرض للمولود مدّة الرّضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهنّ أبصر بها من الطّبيب الماهر. وما ذاك إلّا لأنّ بدن الإنسان في تلك الحالة إنّما هو بدن إنسانيّ بالقوّة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدنا إنسانيّا بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطّبيب أشدّ. فهذه الصّناعة كما تراه ضروريّة في العمران للنّوع الإنسانيّ، لا يتمّ كون أشخاصه في الغالب دونها. وقد يعرض لبعض أشخاص النّوع الاستغناء عن هذه الصّناعة، إمّا بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقا للعادة كما في حقّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أو بإلهام وهداية يلهم لها المولود ويفطر عليها فيتمّ وجودهم من دون هذه الصّناعة. فأمّا شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيرا. ومنه ما روي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولد مسرورا مختونا واضعا يديه على الأرض شاخصا ببصره إلى السّماء. وكذلك شأن عيسى في المهد وغير ذلك. وأمّا شأن الإلهام فلا ينكر. وإذا كانت الحيوانات العجم تختصّ بغرائب الإلهامات كالنّحل وغيرها فما ظنّك بالإنسان المفضّل عليها. وخصوصا بمن اختصّ بكرامة الله. ثمّ الإلهام العامّ للمولودين في الإقبال على الثّدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العامّ لهم. فشأن العناية الإلهيّة أعظم من أن يحاط به. ومن هنا يفهم بطلان رأي الفارابيّ وحكماء الأندلس فيما احتجّوا به لعدم انقراض الأنواع واستحالة انقطاع المكوّنات. وخصوصا في النّوع الإنسانيّ، وقالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقّفه على وجود هذه الصّناعة الّتي لا يتمّ كون الإنسان إلّا بها. إذ لو قدّرنا مولودا دون هذه الصّناعة وكفالتها إلى حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 الفصال [1] لم يتمّ بقاؤه أصلا. ووجود الصّنائع دون الفكر ممتنع لأنّها ثمرته وتابعة له. وتكلّف ابن سينا في الرّدّ على هذا الرّأي لمخالفته إيّاه وذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع وخراب عالم التّكوين ثمّ عوده ثانيا لاقتضاءات فلكيّة وأوضاع غريبة تنذر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة فيتمّ كونه إنسانا ثمّ يقيّض له حيوان يخلق فيه إلهاما لتربيته والحنوّ عليه إلى أن يتمّ وجوده وفصاله. وأطنب في بيان ذلك في الرّسالة الّتي سمّاها رسالة حيّ بن يقظان. وهذا الاستدلال غير صحيح وإن كنّا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدلّ به. فإنّ دليله مبنيّ على إسناد الأفعال إلى العلّة الموجبة. ودليل القول بالفاعل المختار يردّ عليه ولا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال والقدرة القديمة ولا حاجة إلى هذا التّكلّف. ثمّ لو سلّمناه جدلا فغاية ما يبنى عليه اطّراد وجود هذا الشّخص بخلق الإلهام لترتيبه في الحيوان الأعجم. وما الضّرورة الدّاعية لذلك؟ وإذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسه كما قرّرناه أوّلا. وخلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قرّرته لك والله تعالى أعلم. الفصل التاسع والعشرون في صناعة الطب وانها محتاج إليها في الحواضر والأمصار دون البادية هذه الصّناعة ضروريّة في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها فإنّ ثمرتها حفظ الصّحّة للأصحّاء ودفع المرض عن المرضى بالمداواة حتّى يحصل لهم البرء من أمراضهم. واعلم أنّ أصل الأمراض كلّها إنّما هو من الأغذية كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الجامع للطّبّ وهو قوله: «المعدة بيت الدّاء والحمية   [1] وفي النسخة الباريسية: الانفصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 رأس الدّواء وأصل كلّ داء البردة» فأمّا قوله المعدة بيت الدّاء فهو ظاهر وأمّا قوله الحمية راس الدّواء فالحمية الجوع وهو الاحتماء من الطّعام. والمعنى أنّ الجوع هو الدّواء العظيم الّذي هو أصل الأدوية وأمّا قوله أصل كلّ داء البردة [1] » فمعنى البردة إدخال الطّعام على الطّعام في المعدة قبل أن يتمّ هضم الأوّل. وشرح هذا أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وحفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل وينفذ فيه القوى الهاضمة والغاذية إلى أن يصير دما ملائما لأجزاء البدن من اللّحم والعظم، ثمّ تأخذه النّامية فينقلب لحما وعظما. ومعنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزيّة طورا بعد طور حتّى يصير جزءا بالفعل من البدن وتفسيره أنّ الغذاء إذا حصل في الفم ولاكته الأشداق أثّرت فيه حرارة الفم طبخا يسيرا وقلبت مزاجه بعض الشّيء، كما تراه في اللّقمة إذا تناولتها طعاما ثمّ أجدتها مضغا فترى مزاجها غير مزاج الطّعام ثمّ يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموسا وهو صفو ذلك المطبوخ وترسله إلى الكبد وترسل ما رسب منه في المعى ثقلا ينفذ إلى المخرجين. ثمّ تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دما عبيطا [2] وتطفو عليه رغوة من الطّبخ هي الصّفراء. وترسب منه أجزاء يابسة هي السّوداء ويقصر الحارّ الغريزيّ بعض الشّيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثمّ ترسلها الكبد كلّها في العروق والجداول، ويأخذها طبخ الحال [3] الغريزيّ هناك فيكون عن الدّم الخالص بخار حارّ رطب يمدّ الرّوح الحيوانيّ وتأخذ النّامية مأخذها في الدّم فيكون لحما ثمّ غليظة عظاما. ثمّ يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق واللّعاب والمخاط والدّمع. هذه صورة الغذاء وخروجه من القوّة إلى الفعل لحما. ثمّ إنّ أصل الأمراض ومعظمها هي الحميّات. وسببها أنّ الحارّ الغريزيّ قد يضعف عن تمام [4] النّضج في طبخه في كلّ طور من   [1] التخمة. [2] الخالص الطري (قاموس) . [3] وفي نسخة أخرى: الحار. [4] وفي نسخة أخرى: إتمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج، وسببه غالبا كثرة الغذاء في المعدة حتّى يكون أغلب على الحارّ الغريزيّ أو إدخال الطّعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأوّل فيستقلّ [1] به الحارّ الغريزيّ ويترك الأوّل بحالة أو يتوزّع عليهما فيقصر عن تمام الطّبخ والنّضج. وترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضا على إنضاجه. وربّما بقي في الكبد من الغذاء الأوّل فضلة غير ناضجة. وترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق والدّمع واللّعاب إن اقتدر على ذلك. وربّما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق والكبد والمعدة وتتزايد مع الأيّام. وكلّ ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطّبخ والنّضج يعفّن فيتعفّن ذلك الغذاء غير النّاضج وهو المسمّى بالخلط. وكلّ متعفّن ففيه حرارة غريبة وتلك هي المسمّاة في بدن الإنسان بالحمّى. واختبر [2] ذلك بالطّعام إذا ترك حتّى يتعفّن وفي الزّبل إذا تعفّن أيضا، كيف تنبعث فيه الحرارة وتأخذ مأخذها. فهذا معنى الحمّيات في الأبدان وهي رأس الأمراض وأصلها كما وقع في الحديث. وهذه الحميّات علاجها [3] بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثمّ يتناول [4] الأغذية الملائمة حتّى يتمّ برؤه. وذلك في حال الصّحّة له علاج في التّحفّظ من هذا المرض وغيره وأصله كما وقع في الحديث وقد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولّد عنه مرض في ذلك العضو ويحدث جراحات في البدن: إمّا في الأعضاء الرّئيسيّة أو في غيرها. وقد يمرض العضو ويحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلّها جمّاع الأمراض، وأصلها في الغالب من الأغذية وهذا كلّه مرفوع إلى الطّبيب. ووقوع هذه الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر، لخصب عيشهم وكثرة مأكلهم وقلّة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية وعدم توقيتهم   [1] وفي نسخة أخرى: فيشتغل. [2] وفي نسخة أخرى: واعتبر. [3] وفي نسخة أخرى: علاجات. [4] وفي نسخة أخرى: ثم تناوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 لتناولها. وكثيرا ما يخلطون بالأغذية من التّوابل والبقول والفواكه، رطبا ويابسا في سبيل العلاج بالطّبخ ولا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربّما عدّدنا في اليوم [1] الواحد من ألوان الطّبخ أربعين نوعا من النّبات والحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. وربّما يكون غريبا [2] عن ملاءمة البدن وأجزائه. ثمّ إنّ الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات. والأهوية منشّطة للأرواح ومقوّية بنشاطها الأثر الحارّ الغريزيّ في الهضم. ثمّ الرّياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرّياضة شيئا ولا تؤثّر فيهم أثرا، فكان وقوع الأمراض كثيرا في المدن والأمصار وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصّناعة. وأمّا أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب والجوع أغلب عليهم لقلّة الحبوب حتّى صار لهم ذلك عادة. وربّما يظنّ أنّها جبلّة لاستمرارها. ثمّ الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة. وعلاج الطّبخ بالتّوابل والفواكه إنّما يدعو إلى ترف الحضارة الّذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عمّا يخالطها ويقرّب مزاجها من ملاءمة البدن. وأمّا أهويتهم فقليلة العفن لقلّة الرّطوبات والعفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن. ثمّ إنّ الرّياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصّيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كلّه الهضم ويجود ويفقد إدخال الطّعام على الطّعام فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد من الأمراض فتقلّ حاجتهم إلى الطّبّ. ولهذا لا يوجد الطّبيب في البادية بوجه. وما ذاك إلّا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد، لأنّه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه «سنة الله في عباده وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا 33: 62» .   [1] وفي نسخة أخرى: اللوث. [2] وفي نسخة أخرى: بعيدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الفصل الثلاثون في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية وهو رسوم وأشكال حرفيّة تدلّ على الكلمات المسموعة الدّالّة على ما في النّفس. فهو ثاني رتبة من الدّلالة اللّغويّة وهو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواصّ الإنسان الّتي يميّز بها عن الحيوان. وأيضا فهي تطلع على ما في الضّمائر وتتأدّى بها الأغراض إلى البلاد [1] البعيدة فتقضي الحاجات وقد دفعت مؤنة المباشرة لها ويطّلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأوّلين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع. وخروجها في الإنسان من القوّة إلى الفعل إنّما يكون بالتّعليم وعلى قدر الاجتماع والعمران والتّناغي في الكمالات والطّلب لذلك تكون جودة الخطّ في المدينة إذ هو من جملة الصّنائع. وقد قدّمنا أنّ هذا شأنها وأنّها تابعة للعمران ولهذا نجد أكثر البدو أمّيّين لا يكتبون ولا يقرءون ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطّه قاصرا أو قراءته غير نافذة. ونجد تعليم الخطّ في الأمصار الخارج عمرانها عن الحدّ أبلغ وأحسن وأسهل طريقا لاستحكام الصّنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد وأنّ بها معلّمين منتصبين لتعليم الخطّ يلقون على المتعلّم قوانين وأحكاما في وضع كلّ حرف ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم والحسّ في التّعليم وتأتي ملكته على أتمّ الوجوه. وإنّما أتى هذا من كمال الصّنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال وقد كان الخطّ العربيّ بالغا مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التّبابعة لما بلغت من الحضارة والتّرف وهو المسمّى بالخطّ الحميريّ. وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التّبابعة في العصبيّة والمجدّدين لملك العرب بأرض العراق. ولم يكن الخطّ   [1] وفي نسخة أخرى: البلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 عندهم من الإجادة كما كان عند التّبابعة لقصور ما بين الدّولتين. وكانت الحضارة وتوابعها من الصّنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطّائف وقريش فيما ذكر. ويقال إنّ الّذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أميّة ويقال حرب بن أميّة وأخذها من أسلم بن سدرة. وهو قول ممكن وأقرب ممّن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم: قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعا والخطّ والقلم وهو قول بعيد لأنّ إيادا وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. والخط من الصّنائع الحضريّة. وإنّما معنى قول الشّاعر أنّهم أقرب إلى الخطّ والقلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها فالقول بأنّ أهل الحجاز إنّما لقّنوها من الحيرة ولقّنها أهل الحيرة من التّبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال ورأيت في كتاب التّكملة لابن الأبّار عند التعريف بابن فرّوخ الفيرواني القاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه واسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عبّاس: يا معشر قريش، خبّروني عن هذا الكتاب العربيّ، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم تجمعون منه ما أجتمع وتفرّقون منه ما افترق مثل الألف واللام والميم والنّون؟ قال: نعم. قلت: وممّن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أميّة. قلت! وممّن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان. قلت: وممّن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار. قلت: وممّن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ طرأ عليه من أهل اليمن. قلت وممّن أخذه ذلك لطارئ؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبيّ عليه السّلام. وهو الّذي يقول: أفي كلّ عام سنّة تحدثونها ... ورأي على غير الطّريق يعبّر والموت خير من حياة تسبّنا ... بها جرهم فيمن يسبّ وحمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التّكملة. وزاد في آخره: حدّثني بذلك أبو بكر بن أبي حميره في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلعنكي بن أبي عبد الله بن مفرح. ومن خطّه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمّد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمّد بن حشيش بن عمر بن أيوب المغافري التّونسي عن بهلول بن عبيدة الحمّي عن عبد الله بن فرّوخ. انتهى. وكان لحمير كتابة تسمّى المسند حروفها منفصلة وكانوا يمنعون من تعلّمها إلّا بإذنهم. ومن حمير تعلّمت مضر الكتابة العربيّة إلّا أنّهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصّنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتّنميق لبون ما بين البدو والصّناعة واستغناء البدو عنها في الأكثر. وكانت كتابة العرب بدويّة مثل كتابتهم أو قريبا من كتابتهم لهذا العهد أو نقول إنّ كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأنّ هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدّول. وأمّا مضر فكانوا أعرق في البدو وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشّام ومصر فكان الخطّ العربيّ لأوّل الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التّوسّط لمكان العرب من البداوة والتوحّش وبعدهم عن الصّنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصّحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخطّ عند أهلها. ثمّ اقتفى التّابعون من السّلف رسمهم فيها تبرّكا بما رسمه أصحاب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وخير الخلق من بعده المتلقّون لوحيه من كتاب الله وكلامه. كما يقتفي لهذا العهد خطّ وليّ أو عالم تبرّكا ويتبع رسمه خطأ أو صوابا. وأين نسبة ذلك من الصّحابة فيما كتبوه فاتّبع ذلك وأثبت رسما ونبّه العلماء بالرّسم على مواضعه. ولا تلتفتنّ في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفّلين من أنّهم كانوا محكمين لصناعة الخطّ وأنّ ما يتخيّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 من مخالفة خطوطهم لأصول الرّسم ليس كما يتخيّل بل لكلّها وجه. يقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنّه: إنّه تنبيه على أنّ الذّبح لم يقع وفي زيادة الياء في بأييد إنّه تنبيه على كمال القدرة الرّبّانيّة وأمثال ذلك ممّا لا أصل له إلّا التّحكّم المحض. وما حملهم على ذلك إلّا اعتقادهم أنّ في ذلك تنزيها للصّحابة عن توهّم النّقص في قلّة إجادة الخطّ. وحسبوا أنّ الخطّ كمال فنزّهوهم عن نقصه ونسبوا إليهم الكمال بإجادته وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح. واعلم أنّ الخطّ ليس بكمال في حقّهم إذ الخطّ من جملة الصّنائع المدنيّة المعاشيّة كما رأيته فيما مرّ. والكمال في الصّنائع إضافيّ وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذّات في الدّين ولا في الخلال وإنّما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتّعاون عليه لأجل دلالته على ما في النّفوس. وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أمّيّا وكان ذلك كمالا في حقّه وبالنّسبة إلى مقامه لشرفه وتنزّهه عن الصّنائع العمليّة الّتي هي أسباب المعاش والعمران كلّها. وليست الأمّيّة كمالا في حقّنا نحن إذ هو منقطع إلى ربّه ونحن متعاونون على الحياة الدّنيا شأن الصّنائع كلّها حتّى العلوم الاصطلاحيّة فإنّ الكمال في حقّه هو تنزّهه عنها جملة بخلافنا. ثمّ لمّا جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة واحتاجت الدّولة إلى الكتابة استعملوا الخطّ وطلبوا صناعته وتعلّموه وتداولوه فترقّت الإجادة فيه واستحكم وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان إلّا أنّها كانت دون الغاية. والخطّ الكوفيّ معروف الرّسم لهذا العهد. ثمّ انتشر العرب في الأقطار والممالك وافتتحوا إفريقية والأندلس واختطّ بنو العبّاس بغداد وترقّت الخطوط فيها إلى الغاية لمّا استبحرت في العمران وكانت دار الإسلام ومركز الدّولة العربيّة وخالفت أوضاع الخطّ ببغداد أوضاعه بالكوفة، في الميل إلى إجادة الرسوم وجمال الرّونق وحسن الرواء. واستحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها ببغداد عليّ بن مقلة الوزير. ثمّ تلاه في ذلك عليّ بن هلال، الكاتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 الشهير بابن البوّاب. ووقف سند تعليمها عليه في المائة الثالثة وما بعدها. وبعدت رسوم الخطّ البغداديّ وأوضاعه عن الكوفة، حتّى انتهى إلى المباينة. ثمّ ازدادت المخالفة بعد تلك القصور بتفنّن الجهابذة في إحكام رسومه وأوضاعه، حتّى انتهت إلى المتأخّرين مثل ياقوت والوليّ عليّ العجمي. ووقف سند تعليم الخطّ عليهم وانتقل ذلك إلى مصر، وخالفت طريقة العراق بعض الشّيء ولقّنها العجم لك، وظهرت مخالفة لخطّ أهل مصر أو مباينة. وكان الخطّ البغداديّ معروف الرّسم وتبعه الإفريقيّ المعروف رسمه القديم لهذا العهد. ويقرب من أوضاع الخطّ المشرقيّ وتحيّز [1] ملك الأندلس بالأمويّين فتميّزوا بأحوالهم من الحضارة والصّنائع والخطوط فتميّز صنف خطّهم الأندلسيّ كما هو معروف الرّسم لهذا العهد. وطما بحر العمران والحضارة في الدّول الإسلاميّة في كلّ قطر. وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها [2] وملئت بها القصور والخزائن الملوكيّة بما لا كفاء له وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه. ثمّ لمّا انحلّ نظام الدّولة الإسلاميّة وتناقص ذلك أجمع ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخطّ والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد وله [3] بها معلّمون يرسمون لتعليم [4] الحروف بقوانين في وضعها وأشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلّم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع وقد لقّنها حسنا وحذق فيها دربة وكتابا وأخذها قوانين علميّة [5] فتجيء أحسن ما يكون. وأمّا أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر، وتغلّبت عليهم أمم النّصرانيّة فانتشروا في عدوة المغرب   [1] وفي نسخة أخرى: وتميز. [2] وفي نسخة أخرى: تخليدها. [3] وفي نسخة أخرى: للخط. [4] وفي نسخة أخرى: للمتعلم. [5] وفي نسخة أخرى: عملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وإفريقية من لدن الدّولة اللّمتونيّة إلى هذا العهد. وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصّنائع وتعلّقوا بأذيال الدّولة فغلب خطّهم على الخطّ الإفريقيّ وعفى عليه ونسي خطّ القيروان والمهديّة بنسيان عوائدهما وصنائعهما. وصارت خطوط أهل إفريقية كلّها على الرّسم الأندلسيّ بتونس وما إليها لتوفّر أهل الأندلس بها عند الحالية من شرق الأندلس. وبقي منه رسم ببلاد الجريد الّذين لم يخالطوا كتّاب الأندلس ولا تمرّسوا بجوارهم. إنّما كانوا يغدون على دار الملك بتونس فصار خطّ أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتّى إذا تقلّص ظلّ الدّولة الموحّديّة بعض الشّيء وتراجع أمر الحضارة والتّرف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخطّ وفسدت رسومه وجهل فيه وجه التّعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران. وبقيت فيه آثار الخطّ الأندلسيّ تشهد بما كان لهم من ذلك لما قدّمناه من أنّ الصّنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخطّ الأندلسيّ لقرب جرارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريبا واستعمالهم إيّاهم سائر الدّولة. ونسي عهد الخطّ فيما بعد عن سدّة الملك وداره. كأنّه لم يعرف. فصارت الخطوط بإفريقيّة والمغربيّين مائلة إلى الرّداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفّحها منها إلّا العناء والمشقّة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتّصحيف وتغيير الأشكال الخطّيّة عن الجودة حتّى لا تكاد تقرأ إلّا بعد عسر ووقع فيه ما وقع في سائر الصّنائع بنقص الحضارة وفساد الدّول والله يحكم لا معقّب لحكمه. وللأستاذ أبي الحسن عليّ بن هلال الكاتب البغداديّ الشّهير بابن البوّاب قصيدة من بحر البسيط [1] على رويّ الرّاء يذكر فيها صناعة الخطّ وقواعدها من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلّم هذه الصّناعة. وأوّلها:   [1] هذه القصيدة من بحر الكامل وليس من بحر البسيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 يا من يريد إجادة التّحرير ... ويروم حسن الخطّ والتّصوير إن كان عزمك في الكتابة صادقا ... فارغب إلى مولاك في التّيسير أعدد من الأقلام كلّ مثقّف ... صلب يصوغ صناعة التحبير وإذا عمدت لبرية فتوخّه ... عند القياس بأوسط التّقدير انظر إلى طرفيه فاجعل بريه ... من جانب التّدقيق والتّحضير واجعل لجلفته قواما عادلا ... خلوا عن التّطويل والتّقصير والشّق وسطه ليبقى بريه ... من جانبيه مشاكل التقدير حتّى إذا أيقنت ذلك كله ... فالقطّ فيه جملة التدبير لا تطمعن في أن أبوح بسرّه ... إني أضنّ بسرّه المستور لكنّ جملة ما أقول بأنّه ... ما بين تحريف إلى تدوير وألق دواتك بالدّخان مدبّرا ... بالخلّ أو بالحصرم المعصور وأضف إليه قفرة قد صوّلت ... مع أصغر الزّرنيخ والكافور حتّى إذا ما خمرت فاعمد إلى ... الورق النّقيّ الناعم المخبور فاكسبه بعد القطع بالمعصار كي ... ينأى عن التّشعيث والتّغيير ثمّ اجعل التمثيل دأبك صابرا ... ما أدرك المأمول مثل صبور ابدأ به في اللّوح منتفيا له ... غرما تجرّده عن التشمير لا تخجلنّ من الردى تختطّه ... في أوّل التمثيل والشطير فالأمر يصعب ثمّ يرجع هيّنا ... ولربّ سهل جاء بعد عسير حتّى إذا أدركت ما أمّلته ... أضحيت ربّ مسرّة وحبور فاشكر إلهك واتّبع رضوانه ... إنّ الإله يجيب كلّ شكور وارغب لكفّك أن تخطّ بنانها ... خيّرا يخلّفه بدار غرور فجميع فعل المرء يلقاه غدا ... عند الشّقاء كتابه المنشور واعلم بأنّ الخطّ بيان عن القول والكلام، كما أنّ القول والكلام بيان عمّا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 النّفس والضّمير من المعاني، فلا بدّ لكل منهما أن يكون واضح الدّلالة. قال الله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ 55: 3- 4» [1] وهو يشتمل بيان الأدلّة كلّها. فالخطّ المجوّد كماله أن تكون دلالته واضحة، بإبانة حروفه المتواضعة وإجادة وضعها ورسمها كلّ واحد على حدة متميّز عن الآخر. إلّا ما اصطلح عليه الكتّاب من إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض. سوى حروف اصطلحوا على قطعها، مثل الألف المتقدّمة في الكلمة، وكذا الراء والزاي والدال والذال وغيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة، وهكذا إلى آخرها. ثمّ إنّ المتأخرين من الكتّاب اصطلحوا على وصل كلمات، بعضها ببعض، وحذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلّا أهل مصطلحهم فتستعجم على غيرهم وهؤلاء كتّاب دواوين السّلطان وسجلّات القضاة، كأنّهم انفردوا بهذا الاصطلاح عن غيرهم، لكثرة موارد الكتابة عليهم، وشهرة كتابتهم وإحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم فإن كتبوا ذلك لمن لا خبرة له بمصطلحهم فينبغي أن يعدلوا عن ذلك إلى البيان ما استطاعوه، وإلّا كان بمثابة الخطّ الأعجميّ، لأنّهما بمنزلة واحدة من عدم التواضع عليه. وليس بعذر في هذا القدر، إلّا كتاب الأعمال السّلطانيّة في الأموال والجيوش، لأنّهم مطلوبون بكتمان ذلك عن النّاس فإنّه من الأسرار السّلطانيّة الّتي يجب إخفاؤها، فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم، ويصير بمثابة المعمّى. وهو الاصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب والفواكه والطّيور والأزاهير، ووضع أشكال أخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون لتأدية ما في ضمائرهم بالكتابة. وربّما وضع الكتاب للعثور على ذلك، وإن لم يضعوه أوّلا، قوانين بمقاييس استخرجوها لذلك بمداركهم يسمّونها فكّ المعمّى. وللنّاس في ذلك دواوين مشهورة. والله العليم الحكيم.   [1] آية 3 و 4 من سورة الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 الفصل الحادي والثلاثون في صناعة الوراقة كانت العناية قديما بالدّواوين العلميّة والسّجلّات في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرّواية والضّبط. وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدّولة وتوابع الحضارة. وقد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدّولة وتناقص العمران بعد أن كان منه في الملّة الإسلاميّة بحر زاخر بالعراق والأندلس إذ هو كله من توابع العمران واتّساع نطاق الدّولة ونفاق أسواق ذلك لديهما. فكثرت التّآليف العلميّة والدّواوين وحرص النّاس على تناقلهما في الآفاق والأعصار فانتسخت وجلّدت. وجاءت صناعة الورّاقين المعانين للانتساخ والتّصحيح والتّجليد وسائر الأمور الكتبيّة والدّواوين واختصّت بالأمصار العظيمة العمران. وكانت السّجلّات أوّلا: لانتساخ العلوم وكتب الرّسائل السّلطانيّة والإقطاعات، والصّكوك في الرّقوق المهيّأة بالصّناعة من الجلد لكثرة الرّفه وقلّة التّآليف صدر الملّة كما نذكره، وقلّة الرّسائل السّلطانيّة والصّكوك مع ذلك فاقتصروا على الكتاب في الرّقّ تشريفا للمكتوبات وميلا بها إلى الصّحّة والإتقان. ثمّ طما بحر التّآليف والتّدوين وكثر ترسيل السّلطان وصكوكه وضاق الرّقّ عن ذلك. فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد وصنعه وكتب فيه رسائل السّلطان وصكوكه. واتّخذه النّاس من بعده صحفا لمكتوباتهم السّلطانيّة والعلميّة. وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت. ثمّ وقفت عناية أهل العلوم وهمم أهل الدّول على ضبط الدّواوين العلميّة وتصحيحها بالرّواية المسندة إلى مؤلّفيها وواضعيها لأنّه الشّأن الأهمّ من التّصحيح والضّبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها والفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها. وما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدوّنها فلا يصحّ إسناد قول لهم ولا فتيا. وهكذا كان شأن أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 حتّى لقد قصرت فائدة الصّناعة الحديثيّة في الرّواية على هذه فقط إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث وحسنها ومسندها ومرسلها ومقطوعها وموقوفها من موضوعها قد ذهبت وتمخّضت زبدة في ذلك [1] الأمّهات المتلقّاة بالقبول عند الأمّة. وصار القصد إلى ذلك لغوا من العمل. ولم تبق ثمرة الرّواية والاشتغال بها إلّا في تصحيح تلك الأمّهات الحديثيّة وسواها من كتب الفقه للفتيا، وغير ذلك من الدّواوين والتّآليف العلميّة، واتّصال سندها بمؤلّفيها ليصحّ النّقل عنهم، والإسناد إليهم. وكانت هذه الرّسوم بالمشرق والأندلس معبّدة الطّرق واضحة المسالك. ولهذا نجد الدّواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان والإحكام والصّحّة. ومنها لهذا العهد بأيدي النّاس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك. وأهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن ويشدّون عليها يد الضّنانة ولقد ذهبت هذه الرّسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله لانقطاع صناعة الخطّ والضّبط والرّواية منه بانتقاص عمرانه وبداوة أهله وصارت الأمّهات والدّواوين تنسخ بالخطوط اليدويّة تنسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخطّ وكثرة الفساد والتّصحيف فتستغلق على متصفّحها ولا يحصل منها فائدة إلّا في الأقلّ النّادر. وأيضا فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فإنّ غالب الأقوال المعزوّة غير مرويّة عن أئمّة المذهب وإنّما تتلقّى من تلك الدّواوين على ما هي عليه. وتبع ذلك أيضا ما يتصدّى إليه بعض أئمّتهم من التّآليف لقلّة بصرهم بصناعته وعدم الصّنائع الوافية بمقاصده. ولم يبق من هذا الرّسم بالأندلس إلّا إثارة خفيّة بالامّحاء [2] وهي الاضمحلال فقد كاد العلم ينقطع بالكلّيّة من المغرب. والله غالب على أمره. ويبلغنا لهذا العهد أنّ صناعة الرّواية قائمة بالمشرق وتصحيح الدّواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه لنفاق أسواق العلوم والصّنائع كما نذكره بعد. إلّا أنّ الخطّ الّذي بقي من الإجادة   [1] وفي نسخة أخرى: تلك. [2] وفي نسخة أخرى: الأنحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 في الانتساخ هنالك إنّما هو للعجم وفي خطوطهم. وأمّا النّسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشدّ. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء هذه الصّناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع كلّ صوت منها توقيعا عند قطعه فيكون نغمة. ثمّ تؤلّف تلك النّغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذّ سماعها لأجل ذلك التّناسب وما يحدث عنه من الكيفيّة في تلك الأصوات. وذلك أنّه تبيّن في علم الموسيقى أنّ الأصوات تتناسب، فيكون صوت نصف صوت وربع آخر وخمس آخر وجزء من أحد عشر من آخر واختلاف هذه النّسب عند تأديتها إلى السّمع بخروجها [1] من البساطة إلى التّركيب وليس كلّ تركيب منها ملذوذا عند السّماع بل للملذوذ تراكيب خاصّة وهي الّتي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلّموا عليها كما هو مذكور في موضعه وقد يساوق ذلك التّلحين في النّغمات الغنائيّة بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إمّا بالقرع أو بالنّفخ في الآلات تتّخذ لذلك فترى لها [2] لذّة عند السّماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف منها المزمار ويسمّونه الشّبّابة وهي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوّت. فيخرج الصّوت من جوفها على سداده من تلك الأبخاش ويقطّع الصّوت بوضع الأصابع من اليدين جميعا على تلك الأبخاش وضعا متعارفا حتّى تحدث النّسب بين الأصوات فيه وتتّصل كذلك متناسبة فيلتذّ السّمع بإدراكها للتّناسب الّذي   [1] وفي نسخة أخرى: يخرجها. [2] وفي نسخة أخرى: فتزيدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 ذكرناه. ومن جنس هذه الآلة المزمار الّذي يسمّى الزّلاميّ وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين [1] كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النّفخ بواسطتها إليها وتصوّت بنغمة حادّة يجرى فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشّبّابة. ومن أحسن آلات الزّمر لهذا العهد البوق وهو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذّراع يتّسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكفّ في شكل بري القلم. وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدّي الرّيح من الفم إليه فيخرج الصّوت ثخينا دويّا وفيه أبخاش أيضا معدودة. وتقطّع نغمة منها كذلك بالأصابع على التّناسب فيكون ملذوذا. ومنها آلات الأوتار وهي جوفاء كلّها إمّا على شكل قطعة من الكرة مثل المربط [2] والرّباب أو على شكل مربّع كالقانون توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليأتي شدّ الأوتار ورخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثمّ تقرع الأوتار إمّا بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمرّ عليها بعد أن يطلى بالشّمع والكندر. ويقطّع الصّوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر. واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقّع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحكّ بالوتر فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة. وقد يكون القرع في الطّسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع مناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع. ولنبيّن لك السّبب في اللّذّة النّاشئة عن الغناء. وذلك أنّ اللّذّة كما تقرّر في موضعه هي إدراك الملائم والمحسوس إنّما تدرك منه كيفيّة. فإذا كانت مناسبة للمدرك وملاءمة كانت ملذوذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة. فالملائم من الطّعوم ما ناسبت كيفيّته حاسّة الذّوق في مزاجها وكذا الملائم من الملموسات وفي الرّوائح ما ناسب مزاج الرّوح القلبيّ البخاريّ لأنّه   [1] وفي نسخة أخرى: متفوذتين. [2] وفي نسخة أخرى: البربط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 المدرك وإليه تؤدّيه الحاسّة. ولهذا كانت الرّياحين والأزهار العطريّات أحسن رائحة وأشدّ ملاءمة للرّوح لغلبة الحرارة فيها الّتي هي مزاج الرّوح القلبيّ. وأمّا المرئيّات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفيّاتها فهو أنسب عند النّفس وأشدّ ملاءمة لها. فإذا كان المرئيّ متناسبا في أشكاله وتخاطيطه الّتي له بحسب مادّته بحيث لا يخرج عمّا تقتضيه مادّته الخاصّة من كمال المناسبة والوضع وذلك هو معنى الجمال والحسن في كلّ مدرك، كان ذلك حينئذ مناسبا للنّفس المدركة فتلتذّ بإدراك ملائمها، ولهذا تجد العاشقين المستهترين [1] في المحبّة يعبّرون عن غاية محبّتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. وفي هذا شرّ تفهمه إن كنت من أهله وهو اتّحاد المبدإ وإن كان ما سواك إذا نظرته وتأمّلته رأيت بينك وبينه اتّحادا في البداءة. يشهد لك به اتّحاد كما في الكون ومعناه من وجه آخر أنّ الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء. فتودّ أن يمتزج بمشاهدات [2] فيه الكمال لتتّحد به، بل تروم النّفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة الّتي هي اتّحاد المبدإ والكون. ولمّا كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى أن يدرك [3] الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنسانيّ فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك الّتي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كلّ إنسان بالحسن من المرئيّ أو المسموع بمقتضى الفطرة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. وذلك أنّ الأصوات لها كيفيّات من الهمس والجهر والرّخاوة والشّدّة والقلقلة والضّغط وغير ذلك. والتّناسب فيها هو الّذي يوجب لها الحسن. فأوّلا: أن لا يخرج من الصّوت إلى مدّه دفعة بل بتدريج، ثمّ يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل، بل لا بدّ من توسّط المغاير بين الصّوتين. وتأمّل هذا من   [1] وفي نسخة أخرى: المشتهرين. [2] وفي نسخة أخرى: بما شاهدت. [3] وفي نسخة أخرى: مدرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 افتتاح [1] أهل اللّسان التّراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنّه من بابه. وثانيا: تناسبها في الأجزاء كما مرّ أوّل الباب فيخرج من الصّوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه، على حسب ما يكون التّنقّل متناسبا على ما حصره أهل الصّناعة [2] . فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيّات كما ذكره أهل تلك الصّناعة كانت ملاءمة ملذوذة. ومن هذا التّناسب ما يكون بسيطا ويكون الكثير من النّاس مطبوعا عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة كما نجد المطبوعين على الموازين الشّعريّة وتوقيع الرّقص وأمثال ذلك. وتسمّي العامّة هذه القابليّة بالمضمار. وكثير من القرّاء بهذه المثابة يقرءون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنّها المزامير فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم. ومن هذا التّناسب ما يحدث بالتّركيب وليس كلّ النّاس يستوي في معرفته ولا كلّ الطّباع [3] توافق صاحبها في العمل به إذا علم. وهذا هو التّلحين الّذي يتكفّل به علم الموسيقى كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم. وقد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتّلحين وأجازها الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه. وليس المراد تلحين الموسيقى الصّناعيّ فإنّه لا ينبغي أن يختلف في حظره إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكلّ وجه لأنّ القراءة والأداء تحتاج إلى مقدار من الصّوت لتعيّن أداء الحروف لا من حيث اتّباع الحركات في مواضعها ومقدار المدّ عند من يطلقه أو يقصّره، وأمثال ذلك. والتّلحين أيضا يتعيّن له مقدار من الصّوت لا تتمّ إلّا به من أجل التّناسب الّذي قلناه في حقيقة التّلحين. واعتبار أحدهما قد يخلّ بالآخر إذا تعارضا. وتقديم الرّواية [4] متعيّن فرارا من تغيير الرّواية المنقولة في القرآن، فلا يمكن اجتماع التّلحين والأداء المعتبر في القرآن   [1] وفي نسخة أخرى: استقباح. [2] أي أهل صناعة الموسيقى. [3] وفي نسخة أخرى: الطبائع. [4] وفي نسخة أخرى: التلاوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 بوجه وإنّما مرادهم التّلحين البسيط الّذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدّمناه فيردّد أصواته ترديدا على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره ولا ينبغي ذلك بوجه وإنّما المراد من اختلافهم التّلحين البسيط الّذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدّمناه، فيردّد أصواته ترديدا على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره، ولا ينبغي ذلك بوجه كما قاله مالك. هذا هو محلّ الخلاف. والظّاهر تنزيه القرآن عن هذا كلّه كما ذهب إليه الإمام رحمه الله تعالى لأنّ القرآن محلّ خشوع بذكر الموت وما بعده وليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات. وهكذا كانت قراءة الصّحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم. وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود» فليس المراد به التّرديد والتّلحين إنّما معناه حسن الصّوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنّطق بها. وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنّه يحدث في العمران إذا توفّر وتجاوز حدّ الضّروريّ إلى الحاجيّ، ثمّ إلى الكماليّ، وتفنّنوا فيه، فتحدث هذه الصّناعة، لأنّه لا يستدعيها إلّا من فرغ من جميع حاجاته الضّروريّة والمهمّة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلّا الفارغون عن سائر أحوالهم تفنّنا في مذاهب الملذوذات. وكان في سلطان العجم قبل الملّة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم. وكان ملوكهم يتّخذون ذلك ويولعون به، حتّى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصّناعة، ولهم مكان في دولتهم، وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنّون فيها. وهذا شأن العجم لهذا العهد في كلّ أفق من آفاقهم، ومملكة من ممالكهم. وأمّا العرب فكان لهم أوّلا فنّ الشّعر يؤلّفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدّة حروفها المتحرّكة والسّاكنة. ويفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كلّ جزء منها مستقلا بالإفادة، لا ينعطف على الآخر. ويسمّونه البيت. فتلائم الطّبع بالتّجزئة أوّلا، ثمّ يتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثمّ بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها. فلهجوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 به فامتاز من بين كلامهم بخطّ من الشّرف ليس لغيره لأجل اختصاصه. بهذا التّناسب. وجعلوه ديوانا لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. واستمرّوا على ذلك. وهذا التّناسب الّذي من أجل الأجزاء والمتحرّك والسّاكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلّا أنّهم لم يشعروا بما سواه لأنّهم حينئذ لم ينتحلوا علما ولا عرفوا صناعة. وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثمّ تغنّى الحداة منهم في حداء إبلهم والفتيان في فضاء خلواتهم فرجّعوا الأصوات وترنّموا. وكانوا يسمّون التّرنّم إذا كان بالشّعر غناء وإذا كان بالتّهليل أو نوع القراءة تغييرا بالغين المعجمة والباء الموحّدة. وعلّلها أبو إسحاق الزّجّاج بأنّها تذكر بالغابر وهو الباقي أي بأحوال الآخرة. وربّما ناسبوا في غنائهم بين النّغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره. وكانوا يسمّونه السّناد. وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الّذي يرقص عليه ويمشى بالدّفّ والمزمار فيضطرب ويستخفّ الحلوم. وكانوا يسمّون هذا الهزج وهذا البسيط كلّه من التّلاحين هو من أوائلها ولا يبعد أن تتفطّن له الطّباع من غير تعليم شأن البسائط كلّها من الصّنائع. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليّتهم. فلمّا جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدّنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال الّتي عرفت لهم مع غضارة الدّين وشدّته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئا ما. ولم يكن الملذوذ عندهم إلّا ترجيع القراءة [1] والتّرنّم بالشّعر الّذي هو ديدنهم ومذهبهم. فلمّا جاءهم التّرف وغلب عليهم الرّفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقّة الحاشية واستحلاء الفراغ. وافترق المغنّون من الفرس والرّوم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنّوا جميعا بالعيدان والطّنابير   [1] وفي نسخة أخرى: ترجيع القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحّنوا عليها أشعارهم. وظهر بالمدينة نشيط الفارسيّ وطويس وسائب بن جابر [1] مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحّنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر. ثمّ أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح [2] وأنظاره. وما زالت صناعة الغناء تتدرّج إلى أن كملت أيّام بني العبّاس عند إبراهيم بن المهديّ وإبراهيم الموصليّ وابنه إسحاق وابنه حمّاد. وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد وأمعنوا في اللهو واللّعب واتّخذت آلات الرّقص في الملبس والقضبان والأشعار الّتي يترنّم بها عليه. وجعل صنفا وحده واتّخذت آلات أخرى للرّقص تسمّى بالكرج [3] وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلّقة بأطراف أقبية يلبسها النّسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرّون ويفرّون ويتثاقفون [4] وأمثال ذلك من اللّعب المعدّ للولائم والأعراس وأيّام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو. وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها. وكان للموصليّين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرّحمن الدّاخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات وأحلّه من دولته وندمائه بمكان. فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطّوائف. وطما منها بأشبيليّة بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقيّة والمغرب. وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصّناعة آخر ما يحصل في العمران من الصّنائع لأنّها كماليّة في غير وظيفة من الوظائف إلّا وظيفة الفراغ والفرح. وهو أيضا أوّل ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه. والله أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: سائب وحائر. وفي النسخة الباريسية خاثر مولى عبد الله بن جعفر. [2] وفي نسخة أخرى: ابن سريج. [3] وفي نسخة أخرى: الكرح. [4] أي يلعبون بالسلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب قد ذكرنا في الكتاب أنّ النّفس النّاطقة للإنسان إنّما توجد فيه بالقوّة. وأنّ خروجها من القوّة إلى الفعل إنّما هو بتجدّد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أوّلا، ثمّ ما يكتسب بعدها بالقوّة النّظريّة إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فتكون ذاتا روحانيّة ويستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كلّ نوع من العلم والنّظر يفيدها عقلا فريدا [1] والصّنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علميّ مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التّجربة تفيد عقلا والحضارة الكاملة تفيد عقلا لأنّها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس وتحصيل الآداب في مخالطتهم ثمّ القيام بأمور الدّين واعتبار آدابها وشرائطها. وهذه كلّها قوانين تنتظم علوما فيحصل منها زيادة عقل. والكتابة من بين الصّنائع أكثر إفادة لذلك لأنّها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصّنائع. وبيانه أنّ في الكتابة انتقالا من الحروف الخطّيّة إلى الكلمات اللّفظيّة في الخيال ومن الكلمات اللّفظيّة في الخيال إلى المعاني الّتي في النّفس فهو ينتقل أبدا من دليل إلى دليل، ما دام ملتبسا بالكتابة وتتعوّد النّفس ذلك دائما. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلّة إلى المدلولات وهو معنى النّظر العقليّ الّذي يكسب [2] العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التّعقّل تكون زيادة عقل ويحصل به قوّة [3] فطنة وكيس في الأمور لما تعوّدوه من ذلك الانتقال. ولذلك قال كسرى في كتابه لمّا رآهم بتلك الفطنة والكيس فقال: «ديوانه أي شياطين وجنون. قالوا: وذلك أصل اشتقاق الدّيوان لأهل الكتابة   [1] وفي النسخة الباريسية: عقلا مزيدا. [2] وفي نسخة أخرى: يكتب به. [3] وفي نسخة أخرى: مزيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ويلحق بذلك الحسّاب فإنّ في صناعة الحسّاب نوع تصرّف في العدد بالضّمّ والتّفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعوّدا للاستدلال والنّظر وهو معنى العقل. وَالله أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 16: 78. الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق فالمقدّمة في الفكر الإنسانيّ، الّذي تميّز به البشر عن الحيوانات واهتدى به لتحصيل معاشه والتّعاون عليه بأبناء جنسه والنّظر في معبوده، وما جاءت به الرسل من عنده، فصار جميع الحيوانات في طاعته وملك قدرته وفضله به على كثير خلقه. الفصل الأول في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري وذلك أنّ الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيّته من الحسّ والحركة والغذاء والكنّ وغير ذلك. وإنّما تميّز عنها بالفكر الّذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتّعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيّء لذلك التّعاون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتّباع صلاح أخراه. فهو منكّر في ذلك كلّه دائما لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر. وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدّمناه من الصّنائع. ثمّ لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطّباع فيكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممّن تقدّمه من الأنبياء الّذين يبلّغونه لمن تلقّاه فيلقّن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه. ثمّ إنّ فكره ونظره يتوجّه إلى واحد واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد آخر ويتمرّن على ذلك حتّى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا. وتتشوّف نفوس أهل الجيل النّاشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التّعليم من هذا. فقد تبيّن بذلك أنّ العلم والتّعليم طبيعيّ في البشر. والله أعلم. الفصل الثاني في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع وذلك أنّ الحذق في العلم والتّفنّن فيه والاستيلاء عليه إنّما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفنّ المتناول حاصلا. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنّا نجد فهم المسألة الواحدة من الفنّ الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفنّ وبين من هو مبتدئ فيه وبين العاميّ الّذي لم يعرف [1] علما وبين العالم النّحرير. والملكة إنّما هي للعالم أو الشّادي في الفنون دون من سواهما فدلّ على أنّ هذه الملكة غير الفهم والوعي. والملكات   [1] وفي نسخة أخرى: يحصّل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 كلّها جسمانيّة سواء كانت في البدن أو في الدّماغ من الفكر وغيره كالحساب. والجسمانيّات كلّها محسوسة فتفتقر إلى التّعليم. ولهذا كان السّند في التّعليم في كلّ علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلّمين فيها معتبرا عند كلّ أهل أفق وجيل. ويدلّ أيضا على أنّ تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكلّ إمام من الأئمّة المشاهير اصطلاح في التّعليم يختصّ به شأن الصّنائع كلّها فدلّ على أنّ ذلك الاصطلاح ليس من العلم، وإذ لو كان من العلم لكان واحدا عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدّمين والمتأخّرين وكذا أصول الفقه وكذا العربيّة وكذا كلّ علم يتوجّه [1] إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدلّ على أنّها صناعات في التّعليم. والعلم واحد في نفسه. وإذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدّول فيه. وما يحدث عن ذلك من نقص الصّنائع وفقدانها كما مرّ. وذلك أنّ القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصّنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التّعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة. فلمّا خربتا انقطع التّعليم من [2] المغرب إلّا قليلا كان في دولة الموحّدين بمراكش مستفادا منها. ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدّولة الموحّديّة في أوّلها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتّصل أحوال الحضارة فيها إلّا في الأقلّ. وبعد انقراض الدّولة بمرّاكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السّابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقّن تعليمهم. وحذق في العقليّات والنّقليّات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن. وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدّكّاليّ. كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقرّ بها وكان تعليمه مفيدا فأخذ عنهما   [1] وفي النسخة الباريسية: يحتاج. [2] وفي النسخة الباريسية: عن المغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 أهل تونس. واتّصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلا بعد جيل حتّى انتهى إلى القاضي محمّد بن عبد السّلام. شارح بن الحاجب وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه. فإنّه قرأ مع ابن عبد السّلام على مشيخة واحدة في مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السّلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلّا أنّهم من القلّة بحيث يخشى انقطاع سندهم. ثمّ ارتحل من زواوة في آخر المائة السّابعة أبو عليّ ناصر الدّين المشداليّ وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقّن تعليمهم. وقرأ مع شهاب الدّين القرافيّ في مجالس واحدة وحذق في العقليّات والنّقليّات. ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد. ونزل ببجاية واتّصل سند تعليمه في طلبتها. وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشداليّ [1] من تلميذه وأوطنها وبثّ طريقته فيها. وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقلّ من القليل. وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التّعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتّصل سند التّعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة فتق [2] اللّسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميّة فهو الّذي يقرّب شأنها ويحصّل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التّصرّف في العلم والتّعليم. ثمّ بعد تحصيل من يرى منهم أنّه قد حصّل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علّم وما أتاهم القصور إلّا من قبل التّعليم وانقطاع سنده. وإلّا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدّة عنايتهم به، وظنّهم أنّه المقصود من الملكة العلميّة وليس كذلك. وممّا يشهد بذلك في المغرب أنّ المدّة المعيّنة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ستّ عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين. وهذه المدّة بالمدارس على المتعارف   [1] وفي نسخة أخرى: المشدّالي وهو تحريف والمشدالي نسبة إلى مشدالة من قبائل زواوة في المغرب. [2] وفي نسخة أخرى: قوّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 هي أقلّ ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلميّة أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدّة لأجل عسرها من قلّة الجودة في التّعليم خاصّة لا ممّا سوى ذلك. وأمّا أهل الأندلس فذهب رسم التّعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السّنين. ولم يبق من رسم العلم فيهم إلّا فنّ العربيّة والأدب. اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. وأمّا الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عين. وأمّا العقليّات فلا أثر ولا عين. وما ذاك إلّا لانقطاع سند التّعليم فيها بتناقص العمران وتغلّب العدوّ على عامّتها إلّا قليلا بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها. والله غالب على أمره. وأمّا المشرق فلم ينقطع سند التّعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتّصال العمران الموفور واتّصال السّند فيه. وإن كانت الأمصار العظيمة الّتي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلّا أنّ الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك. وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، وما وراء النّهر من المشرق، ثمّ إلى القاهرة وما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة وعمرانها متّصلا وسند التّعليم بها قائما. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل وفي سائر الصّنائع. حتّى إنّه ليظنّ كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أنّ عقولهم [1] على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب وأنّهم أشدّ نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى. وأنّ نفوسهم النّاطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. ويعتقدون التّفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانيّة ويتشيّعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصّنائع وليس كذلك. وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الّذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللَّهمّ إلّا الأقاليم المنحرفة مثل الأوّل والسّابع فإنّ الأمزجة فيها منحرفة والنّفوس على نسبتها كما مرّ وإنّما الّذي فضل به أهل   [1] أي عقول أهل المشرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النّفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدّم في الصّنائع، ونزيده الآن شرحا وتحقيقا. وذلك أنّ الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدّين والدّنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرّفاتهم. فلهم في ذلك كلّه آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبّسون [1] به من أخذ وترك حتّى كأنّها حدود لا تتعدّى. وهي مع ذلك صنائع يتلقّاها الآخر عن الأوّل منهم. ولا شكّ أنّ كلّ صناعة مرتّبة يرجع منها إلى النّفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعدّ به لقبول صناعة أخرى ويتهيّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. ولقد بلغنا في تعليم الصّنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنّهم يعلّمون الحمر الإنسيّة والحيوانات العجم من الماشي والطّائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها فضلا عن تعليمها وحسن الملكات في التّعليم والصّنائع وسائر الأحوال العاديّة يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنّفس. إذ قدّمنا أنّ النّفس إنّما تنشأ بالإدراكات. وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النّفس من الآثار العلميّة فيظنّه العاميّ تفاوتا في الحقيقة الإنسانيّة وليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضريّ متحلّيا بالذّكاء ممتلئا من الكيس حتّى إنّ البدويّ ليظنّه أنّه قد فاته في حقيقة إنسانيّته وعقله وليس كذلك. وما ذاك إلّا لإجادته في ملكات الصّنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضريّة ما لا يعرفه البدويّ. فلمّا امتلأ الحضريّ من الصّنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظنّ كلّ من قصّر عن تلك الملكات أنّها لكمال في عقله وأنّ نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلّتها عن فطرته وليس كذلك. فإنّا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنّما الّذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق   [1] وفي نسخة أخرى يتكسبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 الصّنائع والتّعليم فإنّ لهما آثارا ترجع إلى النّفس كما قدّمناه. وكذا أهل المشرق لمّا كانوا في التّعليم والصّنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدّمناه في الفصل قبل هذا ظنّ المغفّلون في بادئ الرّأي أنّه لكمال في حقيقة الإنسانيّة اختصّوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهّمه والله يزيد في الخلق ما يشاء وهو إله السّماوات والأرض. الفصل الثالث في ان العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة والسّبب في ذلك أنّ تعليم العلم كما قدّمناه من جملة الصّنائع. وقد كنّا قدّمنا أنّ الصّنائع إنّما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلّة والحضارة والتّرف تكون نسبة الصّنائع في الجودة والكثرة لأنّه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التّصرّف في خاصيّة الإنسان وهي العلوم والصّنائع. ومن تشوّف بفطرته إلى العلم ممّن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدّنة فلا يجد فيها التّعليم الّذي هو صناعيّ لفقدان الصّنائع في أهل البدو. كما قدّمناه ولا بدّ له من الرّحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصّنائع كلّها. واعتبر ما قرّرناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لمّا كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم وتفنّنوا في اصطلاحات التّعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتّى أربوا على المتقدّمين وفاتوا المتأخّرين. ولمّا تناقص عمرانها وابذعرّ سكّانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتّعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أنّ العلم والتّعليم إنّما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أنّ عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السّنين، فاستحكمت فيها الصّنائع وتفنّنت ومن جملتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 تعليم العلم. وأكّد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السّنين في دولة التّرك من أيّام صلاح الدّين بن أيّوب وهلمّ جرّا. وذلك أنّ أمراء التّرك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلّفونه من ذرّيّتهم لما له عليهم من الرّقّ أو الولاء ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته. فاستكثروا من بناء المدارس والزّوايا والرّبط [1] ووقفوا عليها الأوقاف المغلّة يجعلون فيها شركا [2] لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت الغلّات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلّمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها النّاس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها. والله يخلق ما يشاء. الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد اعلم أنّ العلوم الّتي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا وتعليما هي على صنفين: صنف طبيعيّ للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقليّ يأخذه عمّن وضعه. والأوّل هي العلوم الحكميّة الفلسفيّة وهي الّتي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشريّة إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتّى يقفه [3] نظره ويحثّه [4] على الصّواب من الخطإ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النّقليّة الوضعيّة وهي كلّها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشّرعيّ. ولا مجال فيها للعقل   [1] جمع رباط: الحصن أو المكان الّذي يرابط فيه الجيش، والأنسب كلمة رباطات وهي المعاهد المبنية والموقوفة للفقراء. [2] الشرك: الحصة. [3] قوله: حتى يقفه نظره. يستعمل وقف متعديا فتقول: وقفته على كذا أي اطلعته عليه. قاله نصر. [4] وفي نسخة أخرى: بحثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 إلّا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأنّ الجزئيّات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النّقل الكلّيّ بمجرّد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسيّ. إلّا أنّ هذا القياس يتفرّع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقليّ فرجع هذا القياس إلى النّقل لتفرّعه عنه. وأصل هذه العلوم النّقلية كلّها هي الشّرعيّات من الكتاب والسّنّة الّتي هي مشروعة لنا من الله ورسوله وما يتعلّق بذلك من العلوم الّتي تهيّئوها للإفادة. ثمّ يستتبع ذلك علوم اللّسان العربيّ الّذي هو لسان الملّة وبه نزّل القرآن. وأصناف هذه العلوم النّقليّة كثيرة لأنّ المكلّف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه وهي مأخوذة من الكتاب والسّنّة بالنّصّ أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بدّ من النّظر بالكتاب ببيان ألفاظه أوّلا وهذا هو علم التّفسير ثمّ بإسناد نقله وروايته إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي جاء به من عند الله واختلاف روايات القرّاء في قراءته وهذا هو علم القراءات ثمّ بإسناد السّنّة إلى صاحبها والكلام في الرّواة النّاقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم [1] ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، وهذه هي علوم الحديث. ثمّ لا بدّ في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانونيّ يفيد العلم بكيفيّة هذا الاستنباط وهذا هو أصول الفقه. وبعد هذا تحصل الثّمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلّفين وهذا هو الفقه. ثمّ إنّ التّكاليف منها بدنيّ، ومنها قلبي، وهو المختصّ بالإيمان وما يجب أن يعتقد ممّا لا يعتقد. وهذه هي العقائد الإيمانيّة في الذّات والصّفات وأمور الحشر والنّعيم والعذاب والقدر. والحجاج عن هذه بالأدلّة العقليّة هو علم الكلام. ثمّ النّظر في القرآن والحديث لا بدّ أن تتقدّمه العلوم اللّسانيّة لأنّه متوقّف عليها وهي أصناف. فمنها علم اللّغة وعلم النّحو وعلم البيان وعلم الآداب حسبما نتكلّم عليها. وهذه العلوم النّقليّة كلّها مختصّة بالملّة الإسلاميّة وأهلها وإن كانت كلّ ملّة على الجملة لا بدّ   [1] وفي نسخة أخرى: ويعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث إنّها العلوم الشّرعيّة [1] المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشّرعية المبلغ لها. وأمّا على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنّها ناسخة لها. وكلّ ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنّظر فيها محظور. فقد نهى الشّرع عن النّظر في الكتب المنزلة غير القرآن. قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالّذي أنزل علينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد» ورأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التّوراة فغضب حتّى تبيّن الغضب في وجهه ثمّ قال: «ألم آتكم بها بيضاء نقيّة؟ والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا أتباعي. ثمّ إنّ هذه العلوم الشّرعيّة قد نفقت أسواقها في هذه الملّة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك النّاظرين إلى الغاية الّتي لا شيء فوقها وهذّبت الاصطلاحات ورتّبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتّنميق. وكان لكلّ فنّ رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التّعليم. واختصّ المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. وقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه وانقطاع سند العلم والتّعليم كما قدّمناه في الفصل قبله. وما أدري ما فعل الله بالمشرق والظّنّ به نفاق العلم فيه واتّصال التّعليم في العلوم وفي سائر الصّنائع الضّروريّة والكماليّة لكثرة عمرانه والحضارة ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف الّتي اتّسعت بها أرزاقهم. والله سبحانه وتعالى هو الفعّال لما يريد وبيده التّوفيق والإعانة. الفصل الخامس في علوم القرآن من التفسير والقراءات القرآن هو كلام الله المنزل على نبيّه المكتوب بين دفّتي المصحف. وهو متواتر بين الأمّة إلّا أنّ الصّحابة رووه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على طرق مختلفة في   [1] وفي نسخة أخرى: علوم الشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 بعض ألفاظه وكيفيّات الحروف في أدائها. وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرّت منها سبع طرق معيّنة تواتر نقلها أيضا بأدائها واختصّت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجمّ الغفير فصارت هذه القراءات السّبع أصولا للقراءة. وربّما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسّبع إلّا أنّها عند أئمة القراءة لا تقوى قوّتها في النّقل. وهذه القراءات السّبع معروفة في كتبها. وقد خالف بعض النّاس في تواتر طرقها لأنّها عندهم كيفيّات للأداء وهو غير منضبط. وليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. وأباه الأكثر وقالوا بتواترها وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمدّ والتّسهيل [1] لعدم الوقوف على كيفيّته بالسّمع وهو الصّحيح. ولم يزل القرّاء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كتبت العلوم ودوّنت فكتبت فيما كتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلما منفردا وتناقله النّاس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريّين وكان معتنيا بهذا الفنّ من بين فنون القرآن لمّا أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمّة القرّاء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافرا. واختصّ مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشّرقيّة فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمّتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموما وبالقراءات خصوصا. فظهر لعهده أبو عمرو الدّانيّ وبلغ الغاية فيها ووقفت عليه معرفتها. وانتهت إلى روايته أسانيدها وتعدّدت تآليفه فيها. وعوّل النّاس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من بينها كتاب التّيسير له. ثمّ ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم بن فيرّه [2] من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دوّنه أبو عمرو وتلخيصه فنظم ذلك كلّه في قصيدة لغز فيها أسماء القرّاء بحروف (أب ج د) ترتيبا أحكمه ليتيسّر   [1] وفي نسخة أخرى: والتمهيل. [2] ورد ذكره في كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي وهو القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعينيّ أبو محمد الشاطبي إمام القراء وكان ضريرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 عليه ما قصده من الاختصار وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفنّ استيعابا حسنا وعني النّاس بحفظها وتلقينها للولدان [1] المتعلّمين وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس. وربّما أضيف إلى فنّ القراءات فنّ الرّسم أيضا وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطّيّة لأنّ فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخطّ كزيادة الياء في بأييد وزيادة الألف في لا أذبحنّه ولا أوضعوا والواو في جزاء الظّالمين وحذف الألفات في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التّاءات ممدودا، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك وقد مرّ تعليل هذا الرّسم المصحفيّ عند الكلام في الخطّ. فلمّا جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخطّ وقانونه احتيج إلى حصرها، فكتب النّاس فيها أيضا عند كتبهم في العلوم. وانتهت بالمغرب إلى أبي عمر الدّانيّ المذكور فكتب فيها كتبا من أشهرها: كتاب المقنع وأخذ به النّاس وعوّلوا عليه. ونظمه أبو القاسم الشّاطبيّ في قصيدته المشهورة على رويّ الرّاء وولع النّاس بحفظها. ثمّ كثر الخلاف في الرّسم في كلمات وحروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في كتبه وهو من تلاميذ [2] أبي عمرو الدّانيّ والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه ثمّ نقل بعده خلاف آخر فنظم الخرّاز من المتأخّرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافا كثيرا، وعزاه لناقليه، واشتهرت بالمغرب، واقتصر النّاس على حفظها. وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو والشّاطبيّ في الرّسم. وأمّا التفسير. فاعلم أنّ القرآن نزّل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزّل جملا جملا وآيات آيات لبيان التّوحيد والفروض الدّينيّة بحسب الوقائع. ومنها ما هو   [1] وفي النسخة الباريسية: للولد. [2] وفي النسخة الباريسية: وهو تلميذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 في العقائد الإيمانيّة، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدّم ومنها ما يتأخّر ويكون ناسخا له. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المبيّن لذلك كما قال تعالى: «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ 16: 44» [1] فكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبيّن المجمل ويميّز النّاسخ من المنسوخ ويعرّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه. كما علم من قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ 110: 1» إنّها نعي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك التّابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم. ولم يزل متناقلا بين الصّدر الأوّل والسّلف حتّى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصّحابة والتّابعين وانتهى ذلك إلى الطّبريّ والواقديّ والثّعالبيّ وأمثال ذلك من المفسّرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثمّ صارت علوم اللّسان صناعيّة [2] من الكلام في موضوعات اللّغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التّراكيب فوضعت الدّواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقّى من كتب أهل اللّسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنّه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التّفسير على صنفين: تفسير نقليّ مسند إلى الآثار المنقولة عن السّلف وهي معرفة النّاسخ والمنسوخ وأسباب النّزول ومقاصد الآي. وكلّ ذلك لا يعرف إلّا بالنّقل عن الصّحابة والتّابعين. وقد جمع المتقدّمون في ذلك وأوعوا، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسّمين والمقبول والمردود. والسّبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأمّيّة. وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النّفوس البشريّة [3] في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التّوراة من اليهود ومن تبع دينهم   [1] سورة النحل (من الآية 44) . [2] وفي نسخة أخرى: صناعة. [3] وفي النسخة الباريسية: النفوس الإنسانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 من النّصارى. وأهل التّوراة الّذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الّذين أخذوا بدين اليهوديّة. فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشّرعيّة الّتي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التّفاسير من المنقولات عندهم [1] في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست ممّا يرجع إلى الأحكام فيتحرّى في الصّحّة الّتي يجب بها العمل. وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملئوا كتب التّفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلناه عن أهل التّوراة الّذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلّا أنّهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدّين والملّة، فتلقّيت بالقبول من يومئذ. فلمّا رجع النّاس إلى التّحقيق والتّمحيص وجاء أبو محمّد بن عطيّة من المتأخرين بالمغرب فلخّص تلك التّفاسير كلّها وتحرّى ما هو أقرب إلى الصّحّة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبيّ في تلك الطّريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق. والصّنف الآخر من التّفسير وهو ما يرجع إلى اللّسان من معرفة اللّغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا الصّنف من التّفسير قلّ أن ينفرد عن الأوّل إذ الأوّل هو المقصود بالذّات. وإنّما جاء هذا بعد أن صار اللّسان وعلومه صناعة [2] . نعم قد يكون في بعض التّفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفنّ من التّفاسير كتاب الكشّاف للزّمخشريّ [3] من أهل خوارزم العراق إلّا أنّ مؤلّفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على   [1] وفي النسخة الباريسية: من المنقولات عنهم. [2] وفي نسخة أخرى: صناعات. [3] (ورد في معجم البلدان: خوارزم ليس اسما للمدينة إنما هو اسم للناحية بجملتها وورد في كتاب الأعلام للزركلي، الزمخشريّ ولد في زمخشر من قرى خوارزم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة. فصار ذلك للمحقّقين من أهل السّنّة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلّق باللّسان والبلاغة وإذا كان النّاظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السّنّيّة محسنا للحجاج عنها فلا جرم إنّه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللّسان. ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيّين وهو شرف الدّين الطّيبيّ من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزّمخشريّ هذا وتتبّع ألفاظه وتعرّض لمذاهبه في الاعتزال بأدلّة تزيّفها [1] ويبيّن أنّ البلاغة إنّما تقع في الآية على ما يراه أهل السّنّة لا على ما يراه [2] المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 12: 76. الفصل السادس في علوم الحديث وأمّا علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوّعة لأنّ منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النّسخ ووقوعه لطفا من الله بعباده وتخفيفا عنهم باعتبار مصالحهم الّتي تكفّل الله لهم بها. قال تعالى: «ما نَنْسَخْ من آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها 2: 106» [3] (ومعرفة الناسخ والمنسوخ وإن كان عاقا للقرآن والحديث إلّا أنّ الّذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره وبقي ما كان خاصّا بالحديث راجعا إلى علومه. فإذا تعارض الخبران بالنّفي والإثبات وتعذّر الجمع بينهما ببعض التّأويل وعلم تقدّم أحدهما تعيّن أنّ المتأخّر ناسخ) . ومعرفة النّاسخ والمنسوخ من أهمّ علوم الحديث وأصعبها. قال الزّهريّ: «أعيا   [1] وفي النسخة الباريسية: وأدلته يزيفها. [2] وفي النسخة الباريسية: لا على مذهب المعتزلة. [3] سورة البقرة الآية 106 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منسوخه» . وكان للشّافعيّ رضي الله عنه فيه قدم راسخة. (ومن علوم الأحاديث [1] النّظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السّند الكامل الشّروط لأنّ العمل إنّما وجب بما يغلب على الظّنّ صدقه من أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيجتهد في الطّريق الّتي تحصّل ذلك الظّنّ وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضّبط. وإنّما يثبت ذلك بالنّقل عن أعلام الدّين لتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة ويكون لنا ذلك دليلا على القبول أو التّرك. وكذلك مراتب هؤلاء النّقلة من الصّحابة والتّابعين وتفاوتهم في ذلك وتميّزهم فيه واحدا واحدا. وكذلك الأسانيد تتفاوت باتّصالها وانقطاعها بأن يكون الرّاوي لم يلق الرّاوي الّذي نقل عنه وبسلامتها من العلل الموهنة لها وتنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم [2] بقبول الأعلى وردّ الأسفل. ويختلف في المتوسّط بحسب المنقول عن أئمّة الشّأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتّبة. مثل الصّحيح والحسن والضّعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشّاذّ والغريب، وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. وبوّبوا على كلّ واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمّة اللّسان أو الوفاق. ثمّ النّظر في كيفيّة أخذ الرّواية [3] بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرّدّ. ثمّ اتّبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف وما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبة وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السّلف من الصّحابة والتّابعين معروفة عند أهل بلده فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشّام ومصر والجميع معروفون مشهورون في   [1] وفي نسخة أخرى: الحديث. [2] وفي النسخة الباريسية: إلى طريقتين يحكم.. [3] وفي نسخة أخرى: الرواة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 أعصارهم وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممّن سواهم وأمتن في الصّحّة لاستبدادهم [1] في شروط النّقل من العدالة والضّبط وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك) [2] وسند [3] الطّريقة الحجازيّة بعد السّلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه ثمّ أصحابه مثل الإمام محمّد بن إدريس الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه، وابن وهب وابن بكير والقضبي ومحمّد بن الحسن ومن بعدهم الإمام أحمد بن حنبل وفي آخرين من أمثالهم. وكان علم الشّريعة في مبدإ هذا الأمر نقلا صرفا شمّر لها السّلف وتحرّوا الصّحيح حتّى أكملوها. وكتب مالك رحمه الله كتاب الموطّإ أودعه أصول الأحكام من الصّحيح المتّفق عليه ورتّبه على أبواب الفقه. ثمّ عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث   [1] وفي نسخة أخرى: لاشتدادهم. [2] إن المحصور بين () ورد في النسخة الباريسية على شكلين: ورد في الشرح كما في نسختنا هذه. وورد في المتن على الوجه التالي: ومن علوم الحديث معرفة القوانين التي وضعها أئمة المحدثين لمعرفة الأسانيد والرواة وأسمائهم وكيفية أخذ بعضهم عن بعض وأحوالهم وطبقاتهم واختلاف اصطلاحاتهم. وتحصيل ذلك ان الإجماع واقع على وجود العمل بالخير الثابت عن رسول الله وذلك بشرط أن يغلب على الظن صدقه. فيجب على المجتهد تحقيق الطرق التي تحصل ذلك الظن. وذلك بالنظر في أسانيد الحديث بمعرفة رواته بالعدالة والضبط والإتقان والبراءة من السهو والغفلة. بوصف عدول الأمة لهم بذلك. ثم تفاوت مراتبهم فيه. ثم كيفية رواية بعضهم عن بعض. بسماع الراويّ من الشيخ أو قراءته عليه أو سماعه يقرأ عليه. وكتابة الشيخ له أو مناولته أو أجازته في الصحة والقبول منقول عنهم. وأعلى مراتب المقبول عندهم الصحيح ثم الحسن. وأدون مراتبها الضعيف. وتشتمل على المرسل والمنقطع والفصل والعلل والشاذ والغريب والمنكر: فمنها ما اختلفوا في رده ومنها ما اجتمعوا عليه. وذلك شأنهم في الصحيح: فمنه ما اجتمعوا على قبوله وصحته. ومنه ما اختلفوا فيه. وبينهم في تفسير هذه الألقاب اختلاف كثير ثم اتبعوا ذلك بالكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق. ووضعوا لهذه الفصول كلها قانونا كفيلا ببيان تلك المراتب والألقاب وسلامة الطرق عن دخول النقص فيها. وأول من وضع في هذا القانون من فحول أئمة الحديث أبو عبد الله الحاكم وهو الّذي هذبه وأظهر محاسنه. وتواليفه فيه مشهورة. ثم كتب أئمتهم فيه من بعده. واشتهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمر بن الصلاح. كان في أوائل المائة السابعة وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة حتى يتعين قبولها أو ردها. واعلم أن رواة السنة من الصحابة والتابعين معروفون في أوصار الإسلام. منهم بالحجاز وبالكوفة والبصرة ثم بالشام ومصر. والجميع معروفون ومشهورون في أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة. لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط. بتجافيهم عن قبول المستورين المجهولة أحوالهم. [3] وفي نسخة أخرى: وسيّد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وأسانيدها المختلفة. وربّما يقع إسناد الحديث من طرق متعدّدة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضا في أبواب متعدّدة باختلاف المعاني الّتي اشتمل عليها. وجاء محمّد بن إسماعيل البخاريّ إمام المحدّثين في عصره فخرّج أحاديث السّنّة على أبوابها في مسندة الصّحيح بجميع الطّرق الّتي للحجازيّين والعراقيّين والشّاميّين. واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرّر الأحاديث يسوقها في كلّ باب بمعنى ذلك الباب الّذي تضمّنه الحديث فتكرّرت لذلك أحاديثه حتّى يقال: إنّه اشتمل على تسعة [1] آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكرّرة وفرق الطّرق والأسانيد عليها مختلفة في كلّ باب. ثمّ جاء الإمام مسلم بن الحجّاج القشيريّ رحمه الله تعالى فألّف مسندة الصّحيح. حذا فيه حذو البخاريّ في نقل المجمع عليه وحذف المتكرّر منها وجمع الطّرق والأسانيد وبوّبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصّحيح كلّه. وقد استدرك النّاس عليهما في ذلك. ثمّ كتب أبو داود السّجستانيّ وأبو عيسى التّرمذيّ وأبو عبد الرّحمن النّسائيّ في السّنن بأوسع من الصّحيح وقصدوا ما توفّرت فيه شروط العمل إمّا من الرّتبة العالية في الأسانيد وهو الصّحيح كما هو معرف وإمّا من الّذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماما للسّنّة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملّة وهي أمّهات كتب الحديث في السّنّة فإنّها وإن تعدّدت ترجع إلى هذه في الأغلب. ومعرفة هذه الشّروط والاصطلاحات كلّها هي علم الحديث وربّما يفرد عنها النّاسخ والمنسوخ فيجعل فنّا برأسه وكذا الغريب. وللنّاس فيه تآليف مشهورة ثمّ المؤتلف والمختلف. وقد ألّف النّاس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمّتهم أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الّذي هذّبه وأظهر محاسنه. وأشهر كتاب للمتأخّرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصّلاح كان لعهد أوائل المائة السّابعة وتلاه   [1] قوله تسعة الّذي في النووي على مسلم انها سبعة بتقديم السين فحرره نصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 محيي الدّين النّوويّ بمثل ذلك. والفنّ شريف في مغزاه لأنّه معرفة ما يحفظ به السّنن المنقولة عن صاحب الشّريعة. وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدّمين إذ العادة تشهد بأنّ هؤلاء الأئمّة على تعدّدهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئا من السّنّة أو يتركوه حتّى يعثر عليه المتأخّر، هذا بعيد عنهم وإنّما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمّهات المكتوبة وضبطها بالرّواية عن مصنّفيها والنّظر في أسانيدها إلى مؤلّفها وعرض ذلك على ما تقرّر في علم الحديث من الشّروط والأحكام لتتّصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمّهات الخمس إلّا في القليل. فأمّا البخاريّ وهو أعلاها رتبة فاستصعب النّاس شرحه واستغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطّرق المتعدّدة ورجالها من أهل الحجاز والشّام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف النّاس فيهم. ولذلك يحتاج إلى إمعان النّظر في التّفقه في تراجمه لأنّه يترجم التّرجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق ثمّ يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمّنه من المعنى الّذي ترجم به الباب. وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرّر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فلم يوفّ حقّ الشّرح كابن بطّال وابن المهلّب وابن التّين ونحوهم. ولقد سمعت كثيرا من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاريّ دين على الأمّة يعنون أنّ أحدا من علماء الأمّة لم يوفّ ما يجب له من الشّرح بهذا الاعتبار. وأمّا صحيح مسلّم فكثرت عناية علماء المغرب به وأكبّوا عليه وأجمعوا على تفصيله على كتاب البخاريّ من غير الصّحيح ممّا لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له في التّراجم. وأملى الإمام المارزيّ من فقهاء المالكيّة عليه شرحا وسمّاه (المعلّم بفوائد مسلم) اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه ثمّ أكمله القاضي عيّاض من بعده وتمّمه وسمّاه إكمال المعلّم وتلاهما محيي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 الدّين النّوويّ بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء شرحا وافيا. وأمّا كتب السّنن الأخرى وفيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلّا ما يختصّ بعلم الحديث فكتب النّاس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاتها والأسانيد الّتي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السّنّة. واعلم أنّ الأحاديث قد تميّزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزّلها أئمّة الحديث وجهابذته وعرّفوها. ولم يبق طريق في تصحيح ما يصحّ من قبل. ولقد كان الأئمّة في الحديث يعرّفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنّه قلب عن وضعه ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمّد بن إسماعيل البخاريّ حين ورد على بغداد وقصد المحدّثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: «لا أعرف هذه ولكن حدّثني فلان» . ثمّ أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصّحيح وردّ كلّ متن إلى سنده وأقرّوا له بالإمامة. واعلم أيضا أنّ الأئمّة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصّناعة والإقلال فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها ومالك رحمه الله إنّما صحّ عنده ما في كتاب الموطّإ [1] وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها. وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسندة خمسون ألف حديث ولكلّ ما أدّاه إليه اجتهاده في ذلك. وقد تقوّل بعض المبغضين المتعسّفين إلى أنّ منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلّت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمّة لأنّ الشّريعة إنّما تؤخذ من الكتاب والسّنّة. ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعيّن عليه طلبه وروايته والجدّ والتّشمير في ذلك ليأخذ الدّين عن أصول صحيحة ويتلقّى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنّما قلّل منهم من قلّل   [1] الّذي في شرح الزرقاني على الموطأ حكاية أقوال خمسة في عدة أحاديثه أولها 500 ثانيها 700 ثالثها ألف ونيف رابعها 1720 خامسها 666 وليس فيه قول بما في هذه النسخة قاله نصر الهوريني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 الرّواية لأجل المطاعن الّتي تعترضه فيها والعلل الّتي تعرض في طرقها سيّما والجرح مقدّم عند الأكثر فيؤدّيه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد ويكثر ذلك فتقلّ روايته لضعف في الطّرق. هذا مع أنّ أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأنّ المدينة دار الهجرة ومأوى الصّحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر. والإمام أبو حنيفة إنّما قلّت روايته لما شدّد في شروط الرّواية والتّحمّل وضعف رواية الحديث اليقينيّ إذا عارضها الفعل النّفسيّ. وقلّت من أجلها رواية فقلّ حديثه. لأنّه ترك رواية الحديث متعمّدا فحاشاه من ذلك. ويدلّ على أنّه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتّعويل عليه واعتباره ردّا وقبولا. وأمّا غيره من المحدّثين وهم الجمهور فتوسّعوا في الشّروط وكثر حديثهم والكلّ عن اجتهاد وقد توسّع أصحابه من بعده في الشّروط وكثرت روايتهم. وروى الطّحطاوي [1] فأكثر وكتب مسندة وهو جليل القدر إلّا أنّه لا يعدل الصّحيحين لأنّ الشّروط الّتي اعتمدها البخاريّ ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمّة كما قالوه. وشروط الطّحطاويّ غير متّفق عليها كالرّواية عن المستور الحال وغيره فلهذا قدّم الصّحيحان بل وكتب السّنن المعروفة عليه لتأخّر شروطه عن شروطهم. ومن أجل هذا قيل في الصّحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحّة ما فيهما من الشّروط المتّفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحقّ النّاس بالظّنّ الجميل بهم والتماس المخارج الصّحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الأمور.   [1] وفي نسخة أخرى: الطحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من الفرائض الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلّفين بالوجوب والحذر [1] والنّدب والكراهة والإباحة وهي متلقّاة من الكتاب والسّنّة وما نصبه الشّارع لمعرفتها من الأدلّة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلّة قيل لها فقه. وكان السّلف يستخرجونها من تلك الأدلّة على اختلاف فيما بينهم. ولا بدّ من وقوعه ضرورة. فإنّ الأدلّة غالبها من النّصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها وخصوصا الأحكام الشرعيّة اختلاف بينهم معروف. وأيضا فالسّنّة مختلفة الطّرق في الثّبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى التّرجيح وهو مختلف أيضا. فالأدلّة من غير النّصوص مختلف فيها وأيضا فالوقائع المتجدّدة لا توفّى بها النّصوص. وما كان منها غير ظاهر في المنصوص [2] فيحمل على المنصوص لمشابهة بينهما وهذه كلّها إشارات [3] للخلاف ضروريّة الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمّة من بعدهم. ثمّ إنّ الصّحابة كلّهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدّين يؤخذ عن جميعهم. وإنّما كان ذلك مختصّا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقّوه من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو ممّن سمعه منهم ومن عليتهم. وكانوا يسمّون لذلك القرّاء أي الّذين يقرءون الكتاب لأنّ العرب كانوا أمّة أمّيّة، فاختصّ من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر الملّة. ثمّ عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمّيّة من العرب بممارسة الكتاب وتمكّن الاستنباط   [1] وفي نسخة أخرى: والحظر. [2] وفي نسخة أخرى: النصوص. [3] وفي نسخة أخرى: مثارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلما فبدّلوا باسم الفقهاء والعلماء من القرّاء. وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرّأي والقياس وهم أهل العراق وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلا في أهل العراق لما قدّمناه فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرّأي. ومقدّم جماعتهم الّذي استقرّ المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشّافعيّ من بعده. ثمّ أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به وهم الظّاهريّة. وجعلوا المدارك [1] كلّها منحصرة في النّصوص والإجماع وردّوا القياس الجليّ والعلّة المنصوصة إلى النّصّ، لأنّ النّصّ على العلّة نصّ على الحكم في جميع محالّها. وكان إمام هذا المذهب داود بن عليّ وابنه وأصحابهما. وكانت هذه المذاهب الثّلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمّة. وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصّحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمّة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلّها أصول واهية وشذّ بمثل ذلك الخوارج ولم يحتفل [2] الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح. فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منها إلّا في مواطنهم. فكتب الشّيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم [3] قائمة في المغرب والمشرق واليمن والخوارج كذلك. ولكلّ منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة. ثمّ درس مذهب أهل الظّاهر اليوم بدروس أئمّته وإنكار الجمهور على منتحله ولم يبق إلّا في الكتب المجلّدة [4] وربّما يعكف كثير من الطّالبين ممّن تكلّف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم فلا يخلو بطائل ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه وربّما عدّ بهذه النّحلة من أهل   [1] وفي نسخة أخرى: مدارك الشرع. [2] وفي نسخة أخرى: ولم يحفل. [3] وفي نسخة أخرى: دولهم. [4] وفي النسخة الباريسية: في الكتب المخلدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 البدع بنقله [1] العلم من الكتب من غير مفتاح المعلّمين. وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علوّ رتبته في حفظ الحديث وصار إلى مذهب أهل الظّاهر ومهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم. وخالف إمامهم داود وتعرّض للكثير من الأئمّة المسلمين فنقم النّاس ذلك عليه وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا، وتلقّوا كتبه بالإغفال والتّرك حتّى إنّها ليحصر بيعها بالأسواق وربّما تمزّق في بعض الأحيان. ولم يبق إلا مذهب أهل الرّأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز. فأمّا أهل العراق فإمامهم الّذي استقرّت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النّعمان بن ثابت ومقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلدته وخصوصا مالك والشّافعيّ. وأمّا أهل الحجاز فكان إمامهم مالك ابن أنس الأصبحيّ إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى واختصّ بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة لأنّه رأى أنّهم فيما ينفسون [2] عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم واقتدائهم، وهكذا إلى الجبل المباشرين لفعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الآخذين ذلك عنه. وصار ذلك عنده من أصول الأدلّة الشّرعيّة. وظنّ كثير أنّ ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأنّ دليل الإجماع لا يخصّ أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمّة. واعلم أنّ الإجماع إنّما هو الاتّفاق على الأمر الدّينيّ عن اجتهاد. ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى وإنّما اعتبره من حيث اتّباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشّارع صلوات الله وسلامه عليه. وضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعمّ الملّة [3] ذكرت في باب الإجماع والأبواب بها من حيث ما فيها من الاتّفاق الجامع بينها وبين الإجماع. إلّا أنّ اتّفاق أهل   [1] وفي نسخة أخرى: بتلقيه. [2] وفي نسخة أخرى: يتفقون. [3] وفي النسخة الباريسية: (تعين ذلك نعم المسألة) وهو تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلّة واتّفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. ولو ذكرت المسألة في باب فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتقريره أو مع الأدلّة المختلف فيها مثل مذهب الصّحابيّ وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها ثمّ كان من بعد مالك بن أنس محمّد بن إدريس المطّلبيّ الشّافعيّ رحمهما الله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختصّ بمذهب، وخالف مالكا رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. وكان من علية المحدّثين وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصّوا بمذهب آخر. ووقف التّقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودرس المقلّدون لمن سواهم. وسدّ النّاس باب الخلاف وطرقه لمّا كثر تشعّب الاصطلاحات في العلوم. ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ولمّا خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه فصرّحوا بالعجز والإعواز وردّوا النّاس إلى تقليد هؤلاء كلّ من اختصّ به من المقلّدين. وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التّلاعب ولم يبق إلّا نقل مذاهبهم. وعمل كلّ مقلّد بمذهب من قلّده منهم بعد تصحيح الأصول واتّصال سندها بالرّواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدّعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمّة الأربعة. فأمّا أحمد بن حنبل فمقلّده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرّواية وللأخبار بعضها ببعض. وأكثرهم بالشّام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر النّاس حفظا للسّنّة ورواية الحديث وميلا بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن. وكان لهم ببغداد صولة وكثرة حتّى كانوا يتواقعون مع الشّيعة في نواحيها. وعظمت الفتنة من أجل ذلك ثمّ انقطع ذلك عند استيلاء التّتر عليها. ولم يراجع وصارت كثرتهم بالشّام. وأمّا أبو حنيفة فقلّده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصّين وما وراء النّهر وبلاد العجم كلّها. ولمّا كان مذهبه أخصّ بالعراق ودار السّلام وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العبّاس فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشّافعيّة وحسنت مباحثهم في الخلافيّات، وجاءوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي النّاس. وبالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي بن العربيّ وأبو الوليد الباجيّ في رحلتهما. وأمّا الشّافعيّ فمقلّدوه بمصر أكثر ممّا سواها وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النّهر وقاسموا الحنفيّة في الفتوى والتّدريس في جميع الأمصار. وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيّات بأنواع استدلالاتهم. ثمّ درس ذلك كلّه بدروس المشرق وأقطاره. وكان الإمام محمّد بن إدريس الشّافعيّ لمّا نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم. وكان من تلميذه بها: البويطيّ والمزنيّ وغيرهم، وكان بها من المالكيّة جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم ثمّ الحارس بن مسكين وبنوه ثمّ القاضي أبو إسحاق بن شعبان وأولاده. ثمّ انقرض فقه أهل السّنّة من مصر بظهور دولة الرّافضة وتداول بها فقه أهل البيت وتلاشى من سواهم [1] وارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد، آخر المائة الرابعة على ما أعلم، من الحاجة والتقليب في المعاش. فتأذّن خلفاء العبيديّين بإكرامه، وإظهار فضله نعيا على بني العبّاس في اطّراح مثل هذا الإمام، والاغتباط به. فنفقت سوق المالكيّة بمصر قليلا، إلى أن ذهبت دولة العبيديّين من الرّافضة على يد صلاح الدّين يوسف بن أيّوب فذهب منها فقه أهل البيت وعاد فقه الجماعة إلى الظّهور بينهم ورجع إليهم فقه الشّافعيّ وأصحابه من أهل العراق والشّام فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه واشتهر منهم محيي الدّين النّوويّ من الحلبة الّتي ربيت في ظلّ الدّولة الأيّوبيّة بالشّام وعزّ الدّين بن عبد السّلام أيضا. ثمّ ابن   [1] وفي نسخة أخرى: وكاد من سواهم يتلاشوا ويذهبوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 الرّقعة بمصر وتقيّ الدّين بن دقيق العيد ثمّ تقيّ الدّين السّبكيّ بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد وهو سراج الدّين البلقينيّ فهو اليوم أكبر الشّافعيّة بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر [1] . وأمّا مالك رحمه الله تعالى فاختصّ بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وإن كان يوجد في غيرهم إلّا أنّهم لم يقلّدوا غيره إلّا في القليل لما أنّ رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق ولم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة. وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلّدوه دون غيره ممّن لم تصل إليهم طريقته. وأيضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة الّتي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكيّ غضّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. ولمّا صار مذهب كلّ إمام علما مخصوصا عند أهل مذهبه ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقرّرة من مذاهب إمامهم. وصار ذلك كلّه يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النّوع من التّنظير أو التّفرقة واتّباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. وأهل المغرب جميعا مقلّدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق، فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويز منداد وابن اللّبّان [2] والقاضي وأبي بكر الأبهريّ والقاضي أبي حسين [3] بن القصّار والقاضي عبد الوهّاب ومن بعدهم. وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم   [1] وفي نسخة أخرى: فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا بل كبير العلماء من أهل العصر. [2] وفي النسخة الباريسية: ابن المنتاب. [3] وفي النسخة الباريسية: أبو الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 والحارث بن مسكين وطبقتهم ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى اللّيثي، ولقي مالكا. وروى عنه كتاب الموطأ، وكان من جملة أصحابه. ورحل بعده عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم وطبقته وبثّ مذهب مالك في الأندلس ودوّن فيه كتاب الواضحة. ثمّ دوّن العتبيّ من تلامذته كتاب العتبيّة. ورحل من إفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أوّلا، ثمّ انتقل إلى مذهب مالك. وكتب على ابن القاسم [1] في سائر أبواب الفقه وجاء إلى القيروان بكتابه وسمّي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثمّ ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه وعارضه بمسائل الأسديّة فرجع عن كثير منها. وكتب سحنون مسائلها ودوّنها وأثبت ما رجع عنه منها وكتب لأسد [2] وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك النّاس كتابه واتّبعوا مدوّنة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمّى المدوّنة والمختلطة. وعكف أهل القيروان على هذه المدوّنة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبيّة. ثمّ اختصر ابن أبي زيد المدوّنة والمختلطة في كتابه المسمّى بالمختصر ولخّصه أيضا أبو سعيد البرادعيّ من فقهاء القيروان في كتابه المسمّى بالتّهذيب وأعتمده المشيخة من أهل إفريقية وأخذوا به وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبيّة وهجروا الواضحة وما سواها. ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمّهات بالشّرح والإيضاح والجمع فكتب أهل إفريقية على المدوّنة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللّخميّ وابن محرز التّونسيّ وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبيّة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمّهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النّوادر فاشتمل على جميع أقوال المذاهب وفرّع الأمّهات كلّها في   [1] وفي النسخة الباريسية: وكتب عن ابن القاسم. [2] وفي نسخة أخرى: وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما رجع عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 هذا الكتاب ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدوّنة وزخرت بحار المذهب المالكيّ في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان. ثمّ تمسّك بهما أهل المغرب بعد ذلك (إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخّص فيه طرق أهل المذهب في كلّ باب وتعديد أقوالهم في كلّ مسألة فجاء كالبرنامج للمذهب. وكانت الطّريقة المالكيّة بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشّر وابن اللهيث وابن الرّشيق وابن شاس. وكانت بالإسكندريّة في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله. ولم أدر عمّن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنّه جاء بعد انقراض دولة العبيديّين وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السّنّة من الشّافعيّة والمالكيّة ولمّا جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السّابعة) [1] عكف عليه الكثير من طلبة المغرب وخصوصا أهل بجاية لما كان   [1] الموجود بين القوسين ورد في النسخة الباريسية كما يلي: وتميزت للمذهب المالكي ثلاث طرق: للقرويين وكبيرهم سحنون الآخذ عن أبي القاسم، وللقرطبيين وكبيرهم ابن حبيب. الآخذ عن مالك ومطرف وابن الماجشون وأصبغ. وللعراقيين وكبيرهم القاضي إسماعيل وأصحابه. وكانت طريقة المصريين تابعة العراقيين وان القاضي عبد الوهاب انتقل إليها من بغداد آخر المائة الرابعة وأخذ أهلها عنه، وكانت للطريقة المالكية بمصر من لدن الحارث بن مسكين وابن ميسر وابن اللهيب وابن رشيق وكانت خافية بسبب ظهور الرافضة وفقه أهل البيت. وأما طريقة العراقيين. فكانت مهجورة عند أهل القيروان والأندلس لبعدها وخفاء مدركها وقلة اطلاعهم على مآخذهم فيها. والقوم أهل اجتهاد. وان كان خاصا. لا يرون التقليد ولا يرضونه طريقا. وكذلك نجد أهل المغرب والأندلس لا يأخذون برأي العراقيين فيما لا يجدون فيه رواية عن الإمام أو أحد من أصحابه. ثم امتزجت الطرق بعد ذلك ورحل أبو بكر الطرطوشي من الأندلس في المائة السادسة. ونزل البيت المقدس وأوطنه. وأخذ عنه أهل مصر والإسكندرية ومزجوا طريقة الأندلسية بطريقتهم المصرية. وكان من جملة أصحابه الفقيه سند صاحب الطراز وأصحابه. وأخذ عنهم جماعة. كان منهم بنو عوف وأصحابه. وأخذ عنهم أبو عمر بن الحاجب وبعده شهاب الدين القرافي. واتصل ذلك في تلك الأمصار. وكان فقه الشافعية أيضا قد انقرض بمصر منذ دولة العبيديين من أهل البيت. فظهر بعدهم في الفقهاء الذين جددوه: الرافعي فقيه خراسان منهم. وظهر بالشام محيي الدين النووي من تلك الحلبة ثم امتزجت طريقة المغاربة من المالكية أيضا بطريقة العراقيين، من لدن الشرمساحي. كان بالإسكندرية ظاهرا في الطريقة المغربية والمصرية. فبنى المستنصر العباسي أبو المعتصم وابن الظاهر مدرسته ببغداد واستدعاه لها من خلفاء العبيديين الذين كانوا يومئذ بالقاهرة فأذنوا له في الرحيل إليه. فلما قدم بغداد ولاه تدريس المستنصرية، وأقام هنالك إلى أن استولى هولاكو على بغداد سنة ست وخمسين من المائة السابعة. وخلص من تيار تلك النكبة وخلا سبيله. فعاش لك إلى أن مات في أيام ابنه أحمد ابغا. وتلخصت طرق هؤلاء المصريين ممتزجة بطرق المغاربة كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 كبير مشيختهم أبو عليّ ناصر الدّين الزّواويّ هو الّذي جلبه إلى المغرب. فإنّه كان قرأ على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلميذه، ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربيّة وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه لما يؤثر عن الشّيخ ناصر الدّين من التّرغيب فيه. وقد شرحه جماعة من شيوخهم: كابن عبد السّلام وابن رشد [1] وابن هارون وكلّهم من مشيخة أهل تونس وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السّلام وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التّهذيب في دروسهم. وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213. الفصل الثامن في علم الفرائض وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة ممّا تصحّ باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها. وذلك إذا هلك أحد الورثة وانكسرت سهامه على فروض ورثته فإنّه حينئذ يحتاج إلى حسب تصحيح [2] الفريضة الأولى حتّى يصل أهل الفروض جميعا في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد واثنين وتتعدّد لذلك بعدد أكثر. وبقدر ما تحتاج إلى الحسبان وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقرّ بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحّح على الوجهين حينئذ. وينظر مبلغ السّهام ثمّ تقسم التّركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. وكلّ ذلك يحتاج إلى الحسبان وكان   [ () ] ذكرناه في مختصر أبي عمر ماجب، بذكر فقه الباب في مسائل المتفرقة، وبذكر الأقوال في كل مسألة على تعدادها فجاء كالبرنامج للمذهب. ولما ظهر بالمغرب آخر المائة السابعة. [1] وفي النسخة الباريسية: ابن راشد. [2] وفي نسخة أخرى: حسبان يصحّح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 غالبا فيه وجعلوه فنّا مفردا. وللنّاس فيه تآليف كثيرة أشهر ما عند المالكيّة من متأخّري الأندلس كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفيّ ثمّ الجعديّ ومن متأخّري إفريقية ابن النّمر [1] الطّرابلسيّ وأمثالهم. وأمّا الشّافعيّة والحنفيّة والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتّساع الباع في الفقه والحساب وخصوصا أبا المعالي رضي الله تعالى عنه وأمثاله من أهل المذاهب وهو فنّ شريف لجمعه بين المعقول والمنقول والوصول به إلى الحقوق في الوراثات بوجوه صحيحة يقينيّة عند ما تجهل الحظوظ وتشكل على القاسمين. وللعلماء من أهل الأمصار بها عناية. ومن المصنّفين من يحتاج فيها إلى الغلوّ في الحساب وفرض المسائل الّتي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب كالجبر والمقابلة والتّصرّف في الجذور وأمثال ذلك فيملئون بها تآليفهم. وهو وإن لم يكن متداولا بين النّاس ولا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته وقلّة وقوعه فهو يفيد المران وتحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه. وقد يحتجّ الأكثر من أهل هذا الفنّ على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ الفرائض ثلث العلم وأنّها أوّل ما ينسى وفي رواية نصف العلم خرّجه أبو نعيم الحافظ واحتجّ به أهل الفرائض بناء على أنّ المراد بالفرائض فروض الوراثة. والّذي يظهر أنّ هذا المحلّ [2] بعيد وأنّ المراد بالفرائض إنّما هي الفرائض التّكليفيّة في العبادات والعادات والمواريث وغيرها. وبهذا المعنى يصحّ فيها النّصفيّة والثّلثيّة. وأمّا فروض الوراثة فهي أقلّ من ذلك كلّه بالنّسبة إلى علم [3] الشّريعة كلّها يعني هذا المراد أنّ حمل لفظ الفرائض على هذا الفنّ المخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة إنّما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن المنمر. [2] وفي نسخة أخرى: المحمل [3] وفي نسخة أخرى: علوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 عند حدوث الفنون والاصطلاحات. ولم يكن صدر الإسلام يطلق على هذا إلّا على عمومه مشتقّا من الفرض الّذي هو لغة التّقدير أو القطع. وما كان المراد به في إطلاقه إلّا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشّرعيّة فلا ينبغي أن يحمل إلّا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل التاسع في أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات اعلم أنّ أصول الفقه من أعظم العلوم الشّرعيّة وأجلّها قدرا وأكثرها فائدة وهو النّظر في الأدلّة الشّرعيّة من حيث تؤخذ منها الأحكام والتّآليف [1] . وأصول الأدلّة الشّرعيّة هي الكتاب الّذي هو القرآن ثمّ السّنّة المبنيّة له. فعلى عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانت الأحكام تتلقّى منه بما يوحى إليه من القرآن ويبيّنه بقوله وفعله بخطاب شفاهيّ لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذّر الخطاب الشّفاهيّ وانحفظ القرآن بالتّواتر. وأمّا السّنّة فأجمع الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولا أو فعلا بالنّقل الصّحيح الّذي يغلب على الظّنّ صدقه. وتعيّنت دلالة الشّرع في الكتاب والسّنّة بهذا الاعتبار ثمّ ينزّل الإجماع منزلتهما لإجماع الصّحابة على النّكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلّا عن مستند لأنّ مثلهم لا يتّفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلّة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشّرعيّات. ثمّ نظرنا في طرق استدلال الصّحابة والسّلف بالكتاب والسّنّة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم،   [1] وفي نسخة أخرى: التكاليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإنّ كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النّصوص الثّابتة فقاسوها بما ثبت وألحقوها بما نصّ عليه بشروط في ذلك الإلحاق، تصحّح تلك المساواة بين الشّبيهين أو المثلين. حتّى يغلب على الظّنّ أنّ حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه، وهو القياس وهو رابع الأدلّة. واتّفق جمهور العلماء على أنّ هذه هي أصول الأدلّة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلّا أنّه شذوذ. وألحق بعضهم بهذه الأدلّة الأربعة أدلّة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. فكان من أوّل مباحث هذا الفنّ النّظر في كون هذه أدلّة. فأمّا الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه والتّواتر في نقله، فلم يبق فيه مجال للاحتمال. وأمّا السّنّة وما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصحّ منها كما قلناه، معتضدا بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه من إنفاذ الكتب والرّسل إلى النّواحي بالأحكام والشّرائع آمرا وناهيا. وأمّا الإجماع فلاتّفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثّابتة للأمّة. وأمّا القياس فبإجماع الصّحابة رضي الله عنهم عليه كما قدّمناه. هذه أصول الأدلّة. ثمّ إنّ المنقول من السّنّة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنّظر في طرق النّقل وعدالة النّاقلين لتتميّز الحالة المحصّلة للظّنّ بصدقة الّذي هو مناط وجوب العمل بالخير. وهذه أيضا من قواعد الفنّ. ويلحق بذلك عند التّعارض بين الخبرين وطلب المتقدّم منها معرفة النّاسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضا وأبوابه. ثمّ بعد ذلك يتعيّن النّظر في دلالة [1] الألفاظ وذلك أنّ استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقّف على معرفة الدّلالات الوضعيّة مفردة ومركّبة. والقوانين اللّسانيّة في ذلك هي علوم النّحو والتّصريف والبيان. وحين   [1] وفي نسخة أخرى: دلالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 كان الكلام [1] ملكة لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنّها جبلّة وملكة. فلمّا فسدت الملكة في لسان العرب قيّدها الجهابذة المتجرّدون لذلك بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثمّ إنّ هناك استفادات أخرى خاصّة من تراكيب الكلام وهي استفادة الأحكام الشّرعيّة بين المعاني من أدلّتها الخاصّة من تراكيب الكلام وهو الفقه. ولا يكفي فيه معرفة الدّلالات الوضعيّة على الأطلاق بل لا بدّ من معرفة أمور أخرى تتوقّف عليها تلك الدّلالات الخاصّة وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصّل أهل الشّرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أنّ اللّغة لا تثبت قياسا والمشترك لا يراد به معناه معا والواو لا تقتضي التّرتيب والعامّ إذا أخرجت أفراد الخاصّ منه هل يبقى حجّة فيما عداها؟ والأمر للوجوب أو النّدب وللفور أو التّراخي والنّهي يقتضي الفساد أو الصّحّة والمطلق هل يحمل على المقيّد؟ والنّصّ على العلّة كاف في التّعدّد أم لا [2] ؟ وأمثال هذه. فكانت كلّها من قواعد هذا الفنّ. ولكونها من مباحث الدّلالة كانت لغويّة. ثمّ إنّ النّظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفنّ لأنّ فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح [3] الوصف الّذي يغلب على الظّنّ أنّ الحكم علق به في الأصل من تبيّن أوصاف ذلك المحلّ أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلّها قواعد لهذا الفنّ. (واعلم) أنّ هذا الفنّ من الفنون المستحدثة في الملّة وكان السّلف في غنية عنه بما أنّ استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد ممّا عندهم من الملكة اللّسانيّة. وأمّا القوانين الّتي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها. وأمّا الأسانيد فلم يكونوا   [1] وفي النسخة الباريسية: اللسان. [2] وفي النسخة الباريسية: في التعدي أو لا. [3] وفي نسخة أخرى: وتنقيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 يحتاجون إلى النّظر فيها لقرب العصر وممارسة النّقلة وخبرتهم بهم. فلمّا انقرض السّلف وذهب الصّدر الأوّل وانقلبت العلوم كلّها صناعة كما قرّرناه من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلّة فكتبوها فنا قائما برأسه سمّوه أصول الفقه. وكان أوّل من كتب فيه الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلّم فيها في الأوامر والنّواهي والبيان والخبر والنّسخ وحكم العلّة المنصوصة من القياس. ثمّ كتب فقهاء الحنفيّة فيه وحقّقوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلّمون أيضا كذلك إلّا أنّ كتابة الفقهاء فيها أمسّ بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشّواهد وبناء المسائل فيها على النّكت الفقهيّة. والمتكلّمون يجرّدون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقليّ ما أمكن لأنّه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفيّة فيها اليد الطولى من الغوص على النّكت الفقهيّة والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. وجاء أبو زيد الدّبّوسيّ من أئمّتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمّم الأبحاث والشّروط الّتي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذّبت مسائله وتمهّدت قواعده وعني النّاس بطريقة المتكلّمين فيه. وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلّمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزاليّ وهما من الأشعريّة وكتاب العهد [1] لعبد الجبّار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصريّ وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة قواعد هذا الفنّ وأركانه. ثمّ لخّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلّمين المتأخّرين وهما الإمام فخر الدّين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدّين الآمديّ في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفنّ بين التّحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلّة والاحتجاج والآمديّ مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأمّا كتاب   [1] وفي النسخة الباريسية: كتاب العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدّين الأرمويّ في كتاب التّحصيل وتاج الدّين الأرمويّ في كتاب الحاصل واقتطف شهاب الدّين القرافيّ منهما مقدّمات وقواعد في كتاب صغير سمّاه التّنقيحات. وكذلك فعل البيضاويّ في كتاب المنهاج. وعني المبتدءون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من النّاس. وأمّا كتاب الإحكام للآمديّ وهو أكثر تحقيقا في المسائل فلخّصه أبو عمر بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير. ثمّ اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه وحصلت زبدة طريقة المتكلّمين في هذا الفنّ في هذه المختصرات. وأمّا طريقة الحنفيّة فكتبوا فيها كثيرا وكان من أحسن كتابة فيها، للمتقدّمين تأليف أبي زيد الدّبّوسيّ وأحسن كتابة المتأخّرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمّتهم وهو مستوعب وجاء ابن السّاعاتيّ من فقهاء الحنفيّة فجمع بين كتاب الإحكام وكتاب البزدويّ في الطّريقتين وسمّي كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها وأئمّة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا. وأولع كثير من علماء العجم بشرحه. والحال على ذلك لهذا العهد. هذه حقيقة هذا الفنّ وتعيين موضوعاته وتعديد التّآليف المشهورة لهذا العهد فيه. والله ينفعنا بالعلم ويجعلنا من أهله بمنّه وكرمه إنّه على كلّ شيء قدير. وأما الخلافات. فاعلم أنّ هذا الفقه المستنبط من الأدلّة الشّرعيّة كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لا بدّ من وقوعه لما قدّمناه. واتّسع ذلك في الملّة اتّساعا عظيما وكان للمقلّدين أن يقلّدوا من شاءوا منهم ثمّ لمّا انتهى ذلك إلى الأئمّة الأربعة من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظّنّ بهم اقتصر النّاس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعّب العلوم الّتي هي موادّه باتّصال الزّمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فأقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 وأجري الخلاف بين المتمسّكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النّصوص الشّرعيّة والأصول الفقهيّة. وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كلّ منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتجّ بها كلّ على صحّة مذهبه الّذي قلّده وتمسّك به وأجريت في مسائل الشّريعة كلّها وفي كلّ باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشّافعيّ ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما وتارة بين مالك وأبي حنيفة والشّافعيّ يوافق أحدهما وتارة بين الشّافعيّ وأبي حنيفة ومالك يوافق أحدهما وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمّة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. كان هذا الصّنف من العلم يسمّى بالخلافيّات. ولا بدّ لصاحبه من معرفة القواعد الّتي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلّا أنّ المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيّات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلّته. وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمّة وأدلّتهم ومران [1] المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه. وتآليف الحنفيّة والشّافعيّة فيه أكثر من تآليف المالكيّة لأنّ القياس عند الحنفيّة أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النّظر والبحث. وأمّا المالكيّة فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر وأيضا فأكثرهم أهل الغرب وهم بادية غفل من الصّنائع إلّا في الأقلّ. وللغزاليّ رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ ولأبي بكر العربيّ من المالكيّة كتاب التّلخيص جلبه من المشرق. ولأبي زيد الدّبّوسيّ كتاب التّعليقة ولابن القصّار من شيوخ المالكيّة عيون الأدلّة وقد جمع ابن السّاعاتيّ في مختصره في أصول الفقه جميع ما يبنى عليها من الفقه الخلافيّ مدرجا في كلّ مسألة ما يبنى عليها من الخلافيّات. وأما الجدال وهو معرفة آداب المناظرة الّتي تجري بين أهل المذاهب   [1] وفي النسخة الباريسية: وميزات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 الفقهيّة وغيرهم فإنّه لمّا كان باب المناظرة في الرّدّ والقبول متّسعا وكلّ واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمّة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرّدّ والقبول وكيف يكون حال المستدلّ والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا وكيف يكون مخصوصا [1] منقطعا ومحلّ اعتراضه أو معارضته وأين يجب عليه السّكوت ولخصمه الكلام والاستدلال. ولذلك قيل فيه إنّه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال الّتي يتوصّل بها إلى حفظ رأي وهدمه سواء كان ذلك الرّأي من الفقه أو غيره. وهي طريقتان طريقة البزدويّ وهي خاصّة بالأدلّة الشّرعيّة من النّصّ والإجماع والاستدلال وطريقة العميديّ وهي عامّة في كلّ دليل يستدلّ به من أيّ علم كان وأكثره استدلال. وهو من المناحي الحسنة والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. وإذا اعتبرنا النّظر المنطقيّ كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطيّ والسّوفسطائيّ. إلّا أنّ صور الأدلّة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرّى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. وهذا العميديّ هو أوّل من كتب فيها ونسبت الطّريقة إليه. وضع الكتاب المسمّى بالإرشاد مختصرا وتبعه من بعده من المتأخّرين كالنّسفيّ وغيره جاءوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطّريقة التّآليف. وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتّعليم في الأمصار الإسلاميّة. وهي مع ذلك كماليّة وليست ضروريّة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.   [1] وفي نسخة أخرى: مخصوصا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 الفصل العاشر في علم الكلام هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة. وسرّ هذه العقائد الإيمانيّة هو التّوحيد. فلنقدّم هنا لطيفة في برهان عقليّ يكشف لنا عن التّوحيد على أقرب الطّرق والمآخذ ثمّ نرجع إلى تحقيق علمه [1] وفيما ينظر ويشير إلى حدوثه في الملّة وما دعا إلى وضعه فنقول: اعلم أنّ الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذّوات أو من الأفعال البشريّة أو الحيوانيّة فلا بدّ لها من أسباب متقدّمة عليها بها تقع في مستقرّ العادة وعنها يتمّ كونه. وكلّ واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلا بدّ له من أسباب أخرى ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتّى تنتهي إلى مسبّب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلّا هو. وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسّح وتتضاعف [2] طولا وعرضا ويحار العقل في إدراكها وتعديدها. فإذا لا يحصرها إلّا العلم المحيط سيّما الأفعال البشريّة والحيوانيّة فإنّ من جملة أسبابها في الشّاهد القصود والإرادات إذ لا يتمّ كون الفعل إلّا بإرادته والقصد إليه. والقصود والإرادات أمور نفسانيّة ناشئة في الغالب عن تصوّرات سابقة يتلو بعضها بعضا. وتلك التّصوّرات هي أسباب قصد الفعل وقد تكون أسباب تلك التّصوّرات تصوّرات أخرى وكلّ ما يقع في النّفس من التّصوّرات مجهول سببه، إذ لا يطّلع أحد على مبادئ الأمور النّفسانيّة ولا على ترتيبها. إنّما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها. وإنّما يحيط علما في الغالب بالأسباب الّتي هي طبيعة ظاهرة   [1] أي علم الكلام. [2] وفي نسخة أخرى: تتضاعف فتنفسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 ويقع في مداركها على نظام وترتيب لأنّ الطّبيعة محصورة للنّفس وتحت طورها. وأمّا التّصوّرات فنطاقها أوسع من النّفس لأنّها للعقل الّذي هو فوق طور النّفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة. وتأمّل من ذلك حكمة الشّارع في نهيه عن النّظر إلى الأسباب والوقوف معها فإنّه واد يهيم فيه الفكر ولا يحلو [1] منه بطائل ولا يظفر بحقيقة. قال الله: «ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 6: 91» . وربّما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلّت قدمه وأصبح من الضّالين الهالكين نعوذ باللَّه من الحرمان والخسران المبين. ولا تحسبنّ أنّ هذا الوقوف أو الرّجوع عنه في قدرتك واختيارك بل هو لون يحصل للنّفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحرّزنا منها. فلنتحرّز من ذلك بقطع النّظر عنها جملة. وأيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبّباتها مجهول لأنّها إنّما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشّاهد بالاستناد إلى الظّاهر. وحقيقة التّأثير وكيفيّته مجهولة، «وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85» . فلذلك أمرنا بقطع النّظر عنها وإلغائها جملة والتّوجّه إلى مسبّب الأسباب كلّها وفاعلها وموجدها لترسخ صفة التّوحيد في النّفس على ما علّمنا الشّارع الّذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا لاطّلاعه على ما وراء الحسّ. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من مات يشهد أن لا إله إلّا الله دخل الجنّة» . فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقّت عليه كلمة الكفر وأن سبح في بحر النّظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فأنا الضّامن له أن لا يعود إلّا بالخيبة. فلذلك نهانا الشّارع عن النّظر في الأسباب وأمرنا بالتّوحيد المطلق «قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 1- 4» [2] ولا تثقنّ بما يزعم لك الفكر من أنّه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كلّه   [1] لم يحل بطائل: أي لم يظفر ولم يستفد منه (لسان العرب) [2] سورة الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وسفه رأيه في ذلك. واعلم أنّ الوجود عند كلّ مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحقّ من ورائه. ألا ترى الأصمّ كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيّات ولولا ما يردّهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافّة لما أقرّوا به لكنّهم يتّبعون الكافّة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات وساقطة لديه بالكلّيّة فإذا علمت هذا فلعلّ هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأنّ إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من خلق النّاس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط. فاتّهم إدراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشّارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنّه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينيّة لا كذب فيها. غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التّوحيد والآخرة وحقيقة النّبوة وحقائق الصّفات الإلهيّة وكلّ ما وراء طوره فإنّ ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الّذي يوزن به الذّهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك. على أنّ الميزان في أحكامه غير صادق لكنّ العقل قد يقف عنده ولا يتعدّى طوره حتّى يكون له أن يحيط باللَّه وبصفاته فإنّه ذرّة من ذرّات الوجود الحاصل منه. وتفطّن في هذا الغلط ومن يقدّم العقل على السّمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبيّن لك الحقّ من ذلك وإذ تبيّن ذلك فلعلّ الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضلّ العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع. فإذا التّوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيّات تأثيرها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 إذ لا فاعل غيره وكلّها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنّما هو من حيث صدورنا عنه لا غير وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصّدّيقين: «العجز عن الإدراك إدراك» . ثمّ إنّ المعتبر في هذا التّوحيد ليس هو الإيمان فقط الّذي هو تصديق حكميّ فإنّ ذلك من حديث النّفس وإنّما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيّف بها النّفس كما أنّ المطلوب من الأعمال والعبادات أيضا حصول ملكة الطّاعة والانقياد وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتّى ينقلب المريد السّالك ربّانيّا. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتّصاف. وشرحه أنّ كثيرا من النّاس يعلم أنّ رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشّريعة وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرّ عنه واستنكف أن يباشره فضلا عن التّمسّح عليه للرّحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنوّ والصّدقة. فهذا إنّما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم ولم يحصل له مقام الحال والاتّصاف. ومن النّاس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأنّ رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأوّل وهو الاتّصاف بالرّحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه ومسح عليه والتمس الثّواب في الشّفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دفع عنه. ثمّ يتصدّق عليه بما حضره من ذات يده وكذا علمك بالتّوحيد مع اتّصافك به والعلم حاصل عن الاتّصاف ضرورة وهو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتّصاف. وليس الاتّصاف بحاصل عن مجرّد العلم حتّى يقع العمل ويتكرّر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتّصاف والتّحقيق ويجيء العلم الثّاني النّافع في الآخرة. فإنّ العلم الأوّل المجرّد عن الاتّصاف قليل الجدوى والنّفع وهذا علم أكثر النّظّار والمطلوب إنّما هو العلم الحاليّ النّاشئ عن العادة. واعلم أنّ الكمال عند الشّارع في كلّ ما كلف به إنّما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثّاني الحاصل عن الاتّصاف وما طلب عمله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 العبادات فالكمال فيها في حصول الاتّصاف والتّحقّق بها. ثمّ إنّ الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصّل لهذه الثّمرة الشّريفة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «في رأس العبادات جعلت قرّة عيني في الصّلاة» فإنّ الصّلاة صارت له صفة وحالا يجد فيها منتهى لذّاته وقرّة عينه وأين هذا من صلاة النّاس ومن لهم بها؟ «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ 107: 4- 5» [1] اللَّهمّ وفّقنا «واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 1: 6- 7» [2] فقد تبيّن لك من جميع ما قرّرناه أنّ المطلوب في التّكاليف كلّها حصول ملكة راسخة في النّفس يحصل [3] عنها علم اضطراريّ للنّفس هو التّوحيد وهو العقيدة الإيمانيّة وهو الّذي تحصّل به السّعادة وأنّ ذلك سواء في التّكاليف القلبيّة والبدنيّة. ويتفهّم منه أنّ الإيمان الّذي هو أصل التّكاليف وينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب. أوّلها التّصديق القلبيّ الموافق للسان وأعلاها حصول كيفيّة من ذلك الاعتقاد القلبيّ وما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح. وتندرج في طاعتها جميع التّصرّفات حتّى تنخرط الأفعال كلّها في طاعة ذلك التّصديق الإيمانيّ. وهذا أرفع مراتب الإيمان وهو الإيمان الكامل الّذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» وفي حديث هرقل لمّا سأل أبا سفيان بن حرب عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأحواله فقال في أصحابه: «هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا! قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه أنّ ملكة الإيمان إذا استقرّت عسر على النّفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرّت فإنّها تحصل بمثابة الجبلّة والفطرة وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان وهي في المرتبة الثّانية من العصمة.   [1] سورة الماعون: الآية 4 و 5. [2] سورة الفاتحة: الآية 5 و 6. [3] وفي نسخة أخرى: ينشأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 لأنّ العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا وهذه حاصلة للمؤمنيّة حصولا تابعا لأعمالهم وتصديقهم. وبهذه الملكة ورسوخها يقع التّفاوت في الإيمان كالّذي يتلى عليك من أقاويل السّلف. وفي تراجم البخاريّ رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه. مثل أنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وأنّ الصّلاة والصّيام من الإيمان وأنّ تطوّع رمضان من الإيمان والحياء من الإيمان. والمراد بهذا كلّه الإيمان الكامل الّذي أشرنا إليه وإلى ملكته وهو فعليّ. وأمّا التّصديق الّذي هو أوّل مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء وحمله على التّصديق منع من التّفاوت كما قال أئمّة المتكلّمين ومن اعتبر أواخر الأسماء وحمله على هذه الملكة الّتي هي الإيمان الكامل ظهر له التّفاوت. وليس ذلك بقادح في اتّحاد حقيقته الأولى الّتي هي التّصديق إذ التّصديق موجود في جميع رتبه لأنّه أقلّ ما يطلق عليه اسم الإيمان وهو المخلّص من عهدة الكفر والفيصل [1] بين الكافر والمسلم فلا يجزي أقلّ منه. وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت وإنّما التّفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. واعلم أنّ الشّارع وصف لنا هذا الإيمان الّذي في المرتبة الأولى الّذي هو تصديق وعيّن أمورا مخصوصة كلّفنا التّصديق بها بقلوبنا واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا وهي العقائد الّتي تقرّرت في الدّين. قال صلّى الله عليه وسلّم حين سئل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» وهذه هي العقائد الإيمانيّة المقرّرة في علم الكلام. ولنشر إليها مجملة لتتبيّن لك حقيقة هذا الفنّ وكيفيّة حدوثه فنقول. اعلم أنّ الشّارع لمّا أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الّذي ردّ الأفعال كلّها إليه وأفرده به كما قدّمناه وعرفنا أنّ في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرّفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود وهو إذ ذاك متعذّر على إدراكنا ومن فوق طورنا. فكلّفنا أوّلا: اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة   [1] وفي النسخة الباريسية: الفاصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 المخلوقين وإلّا لما صحّ أنّه خالق لهم لعدم الفارق على هذا التّقدير ثمّ تنزيهه عن صفات النّقص وإلّا لشابه المخلوقين ثمّ توحيده بالاتّحاد وإلّا لم يتمّ الخلق للتّمانع ثمّ اعتقاد أنّه عالم قادر فبذلك تتمّ الأفعال شاهد قضيّته لكمال الاتّحاد [1] والخلق ومريد وإلّا لم يخصص شيء من المخلوقات ومقدّر لكلّ كائن وإلّا فالإرادة حادثة. وأنّه يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته بالإيجاد ولو كان لأمر فإن [2] كان عبثا فهو للبقاء السّرمديّ بعد الموت. ثمّ اعتقاد بعثة الرّسل للنّجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحواله بالشّقاء والسّعادة وعدم معرفتنا بذلك وتمام لطفه بنا في الإيتاء [3] بذلك وبيان الطّريقين. وأنّ الجنّة للنّعيم وجهنّم للعذاب. هذه أمّهات العقائد الإيمانيّة معلّلة بأدلّتها العقليّة وأدلّتها من الكتاب والسّنّة كثيرة. وعن تلك الأدلّة أخذها السّلف وأرشد إليها العلماء وحقّقها الأئمّة إلّا أنّه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام والتّناظر والاستدلال بالعقل وزيادة إلى النّقل. فحدث بذلك علم الكلام. ولنبيّن لك تفصيل هذا المجمل. وذلك أنّ القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتّنزيه المطلق الظّاهر الدّلالة من غير تأويل في آي كثيرة وهي سلوب [4] كلّها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها. ووقع في كلام الشّارع صلوات الله عليه وكلام الصّحابة والتّابعين تفسيرها على ظاهرها. ثمّ وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التّشبيه مرّة في الذات وأخرى في الصّفات. فأمّا السلف فغلبوا أدلّة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأنّ الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرّضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول   [1] وفي نسخة أخرى: الإيجاد. [2] وفي نسخة أخرى: ولو كان للغناء الصرف. [3] وفي نسخة أخرى: الإنباء. [4] السلوب من النوق: التي القت ولدها لغير تمام. وظبيه سلوب وسلب أي سلبت ولدها (لسان العرب) وهنا بمعنى ينقصها التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 الكثير منهم: اقرءوها كما جاءت أي آمنوا بأنّها من عند الله. ولا تتعرّضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. وشذّ لعصرهم مبتدعة اتّبعوا ما تشابه من الآيات وتوغّلوا في التّشبيه. ففريق أشبهوا [1] في الذّات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التّجسيم الصّريح ومخالفة آي التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة لأنّ معقوليّة الجسم تقتضي النّقص والافتقار. وتغليب آيات السّلوب في التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التّعلّق بظواهر هذه الّتي لنا عنها غنية وجمع بين الدّليلين بتأويلها ثمّ يفرّون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك بدافع عنهم لأنّه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كانا بالمعقوليّة واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقوليّة المتعارفة فقد وافقونا في التّنزيه ولم يبق إلّا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه. ويتوقّف مثله على الأذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التّشبيه في الصّفات كإثبات الجهة والاستواء والنّزول والصّوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التّجسيم فنزعوا مثل الأوّلين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنّزول يعنون من الأجسام. واندفع ذلك بما اندفع به الأوّل، ولم يبق في هذه الظّواهر إلّا اعتقادات السّلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلّا يكرّ [2] النّفي على معانيها بنفيها مع أنّها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرّسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له وفي كتاب الحافظ ابن عبد البرّ وغيرهم فإنّهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدّالّة على ذلك في غضون كلامهم. ثمّ لمّا كثرت العلوم والصّنائع وولع النّاس بالتّدوين والبحث في سائر الأنحاء وألّف المتكلّمون في التّنزيه حدثت بدعة المعتزلة في   [1] وفي نسخة أخرى: شبّهوا. [2] يعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 تعميم هذا التّنزيه في آي السّلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدّد القديم بزعمهم وهو مردود بأنّ الصّفات ليست عين الذّات ولا غيرها وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأنّ معناه سبق الإرادة للكائنات وقضوا بنفي السّمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام. وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللّفظ وإنّما هو إدراك المسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السّمع والبصر ولم يعقلوا صفة الكلام الّتي تقوم بالنّفس فقضوا بأنّ القرآن مخلوق وذلك بدعة صرّح السّلف بخلافها. وعظم ضرر هذه البدعة ولقّنها بعض الخلفاء عن أئمّتهم فحمل النّاس عليها وخالفهم أئمّة السّلف فاستحلّ لخلافهم إيسار [1] كثير منهم ودماؤهم، وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السّنّة بالأدلّة العقليّة على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع وقام بذلك الشّيخ أبو الحسن الأشعريّ إمام المتكلّمين فتوسّط بين الطّرق ونفى التّشبيه وأثبت الصّفات المعنويّة وقصر التّنزيه على ما قصره عليه السّلف. وشهدت له الأدلّة المخصّصة لعمومه فأثبت الصّفات الأربع المعنويّة والسّمع والبصر والكلام القائم بالنّفس بطريق النّقل والعقل. وردّ على المبتدعة في ذلك كلّه وتكلّم معهم فيما مهّدوه لهذه البدع من القول بالصّلاح والأصلح والتّحسين والتّقبيح وكمّل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنّار والثّواب والعقاب. وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإماميّة من قولهم إنّها من عقائد الإيمان [2] وإنّه يجب على النّبيّ تعيينها والخروج   [1] بمعنى أموال وفي نسخة أخرى ابشار. [2] وفي كتاب الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي (أصل الشيعة وأصولها) ما يلي: الإمامة: قد أنبأناك ان هذا هو الأصل الّذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين. وهو فرق جوهري أصلي. وما عداه من الفروق فرعية عرضية. كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعيّ وغيرهما. وعرفت أن مرادهم بالإمامة كونها منصبا إلهيا يختاره الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي. ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمرهم باتباعه. ويعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علي وينصبه علما للناس من بعده. وكان النبي يعلم أن الناس ذلك اليوم وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 عن العهدة في ذلك لمن هي له، وكذلك على الأمّة. وقصارى أمر الإمامة أنّها قضيّة مصلحيّة إجماعيّة ولا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفنّ وسمّوا مجموعه علم الكلام: إمّا لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل، وإمّا لأنّ سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النّفسيّ. وكثر أتباع الشّيخ أبي الحسن الأشعريّ واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلانيّ فتصدّر للإمامة في طريقتهم وهذّبها ووضع المقدّمات العقليّة الّتي تتوقّف عليها الأدلّة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء. وأنّ العرض لا يقوم بالعرض وأنّه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك ممّا تتوقّف عليه أدلّتهم. وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانيّة في وجوب اعتقادها لتوقّف تلك الأدلّة عليها وأنّ بطلان الدّليل يؤذن ببطلان المدلول. وجملت [1] هذه الطّريقة وجاءت من أحسن الفنون النّظريّة والعلوم الدّينيّة. إلّا أنّ صور الأدلّة فيها بعض الأحيان، على غير الوجه الصّناعيّ لسذاجة القوم ولأنّ صناعة المنطق الّتي تسير بها الأدلّة وتعتبر بها الأقيسة ولم تكن حينئذ ظاهرة في الملّة، ولو ظهر منها بعض الشّيء فلم يأخذ به المتكلّمون لملابستها للعلوم الفلسفيّة المباينة للعقائد الشّرعيّة بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثمّ جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلّانيّ من أئمّة الأشعريّة إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطّريقة كتاب الشّامل وأوسع القول فيه. ثمّ لخّصه في كتاب الإرشاد واتّخذه النّاس إماما لعقائدهم. ثمّ انتشرت من بعد ذلك   [ () ] من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والعرض. ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فأوحى إليه، «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ 5: 67» . فلم بدا من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غديرهم فنادى وجلهم يسمعون: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا اللَّهمّ نعم» فقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» إلى آخر ما قال. ثم أكّد ذلك في مواطن أخرى تلويحا وتصريحا، واشارة ونصحا حتى أدى الوظيفة وبلغ عند الله المعذرة (ص 107- 108) (طبعة دار البحار- بيروت) . [1] وفي نسخة أخرى: كملت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 علوم [1] المنطق في الملّة وقرأه النّاس وفرّقوا بينه وبين العلوم الفلسفيّة بأنّه قانون ومعيار للأدلّة فقط يسبر به الأدلّة منها كما يسبر من سواها. ثمّ نظروا في تلك القواعد والمقدّمات في فنّ الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين الّتي أدلّت إلى ذلك وربّما أنّ كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطّبيعيّات والإلهيّات. فلمّا سبروها بمعيار المنطق ردّهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطّريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمّى طريقة المتأخّرين وربّما أدخلوا فيها الرّدّ على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانيّة وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأوّل من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزاليّ رحمه الله وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم ثمّ توغّل المتأخّرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما. واعلم أنّ المتكلّمين لمّا كانوا يستدلّون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود البارئ وصفاته وهو نوع استدلالهم غالبا. والجسم الطّبيعيّ الّذي ينظر فيه الفيلسوف في الطّبيعيّات وهو بعض من هذه الكائنات. إلّا أنّ نظره فيها مخالف لنظر المتكلّم وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرّك ويسكن والمتكلّم ينظر فيه من حيث يدلّ على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيّات إنّما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته ونظر المتكلّم في الوجود من حيث إنّه يدلّ على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنّما هو العقائد الإيمانيّة بعد فرضها صحيحة من الشّرع من حيث يمكن أن يستدلّ عليها بالأدلّة العقليّة فترفع البدع وتزول الشّكوك والشّبيه [2] عن تلك العقائد وإذا تأمّلت   [1] وفي نسخة أخرى: علم. [2] وفي نسخة أخرى: الشبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 حال الفنّ في حدوثه وكيف تدرّج كلام النّاس فيه صدرا بعد صدر وكلّهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلّة علمت حينئذ ما قرّرناه لك في موضوع الفنّ وأنّه لا يعدوه. ولقد اختلطت الطّريقتان عند هؤلاء المتأخّرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميّز أحد الفنّين من الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاويّ في الطّوالع ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلّا أنّ هذه الطّريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطّلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. وأمّا محاذاة طريقة السّلف بعقائد علم الكلام فإنّما هو في الطّريقة القديمة للمتكلّمين وأصلها كتاب الإرشاد وما حذا حذوه. ومن أراد إدخال الرّدّ على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزاليّ والإمام ابن الخطيب فإنّها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخّرين من بعدهم وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أنّ هذا العلم الّذي هو علم الكلام غير ضروريّ لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمّة، من أهل السّنّة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودوّنوا والأدلّة العقليّة إنّما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأمّا الآن فلم يبق منها إلّا كلام تنزّه البارئ عن كثير إيهاماته وإطلاقه ولقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مرّ بهم بعض المتكلّمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزّهون الله بالأدلّة عن صفات الحدوث وسمات النّقص. فقال: «نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب» لكنّ فائدته في آحاد النّاس وطلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السّنّة الجهل بالحجج النّظريّة على عقائدها. والله وليّ المؤمنين . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر [1] اعلم أنّ عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر وآثارها والمكوّنات الثّلاثة عنها، الّتي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلّها متعلّقات القدرة الإلهيّة وعلى أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلّقة بالقدرة الّتي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتّب، وهي الأفعال البشريّة، ومنها غير منتظم ولا مرتّب، وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطّبع أو بالوضع، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بدّ من التفطّن بسببه أو علّته أو شرطه، وهي على الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلّا ثانيا عنها ولا يمكن إيقاع المتقدّم متأخّرا ولا المتأخر متقدّما. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلّا متأخّرا عنه، وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادئ في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، وشرع في العمل الّذي يوجد به ذلك الشّيء بدأ بالمبدإ الأخير الّذي انتهى إليه الفكر، فكان أوّل عمله. ثمّ تابع ما بعده إلى آخر المسبّبات الّتي كانت أوّل فكرته. مثلا: لو فكّر في إيجاد سقف يكنّه انتقل بذهنه إلى الحائط الّذي يدعمه، ثمّ إلى الأساس الّذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر. ثمّ يبدأ في العمل بالأساس، ثمّ بالحائط، ثمّ بالسّقف. وهو آخر العمل. وهذا معنى قولهم: (أوّل العمل آخر الفكرة، وأوّل الفكرة آخر العمل) ، فلا يتمّ فعل الإنسان في الخارج إلّا بالفكر في هذه المرتّبات لتوقّف بعضها على   [1] هذا الفصل غير موجود في طبعة بولاق وبعض الطبعات الأخرى. نقلناه عن الطبعة الباريسية تحقيق وردت بعد: «فصل في الفكر الإنساني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 بعض. ثمّ يشرع في فعلها. وأوّل هذا الفكر هو المسبّب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأوّلها في العمل هو المسبّب الأوّل وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الانتظام في الأفعال البشريّة. وأمّا الأفعال الحيوانيّة لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الّذي يعثر به الفاعل على التّرتيب فيما يفعل، إذ الحيوانات إنّما تدرك بالحواسّ ومدركاتها متفرّقة خليّة من الرّبط لأنّه لا يكون إلّا بالفكر. ولمّا كانت الحواسّ المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، وغير المنتظمة إنّما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخّرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كلّه في طاعته وتسخّره. وهذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30 [1] » فهذا الفكر هو الخاصّة البشريّة الّتي تميّز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسبّبات في الفكر مرتّبة تكون إنسانيّته. فمن النّاس من تتوالى له السببيّة في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيّته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشّطرنج: فإنّ في اللاعبين من يتصوّر الثّلاث حركات والخمس الّذي ترتيبها وضعيّ، ومنهم من يقصّر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأنّ لعب الشّطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسبّبات بالطبع، لكنّه مثال يحتذي به الناظر في تعقّل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا.   [1] من آية (30) من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه [1] إنّك تسمع في كتب الحكماء قولهم أنّ الإنسان هو مدنيّ الطبع، يذكرونه في إثبات النّبوّات وغيرها. والنسبة فيه إلى المدينة، وهي عندهم كناية عن الاجتماع البشريّ. ومعنى هذا القول، أنّه لا تمكّن حياة المنفرد من البشر، ولا يتمّ وجوده إلّا مع أبناء جنسه. وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه. وتلك المعاونة لا بدّ فيها من المفاوضة أوّلا، ثمّ المشاركة وما بعدها. وربّما تفضي المعاملة عند اتّحاد الأعراض إلى المنازعة والمشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤالفة، والصداقة والعداوة. ويؤول إلى الحرب والسّلم بين الأمم والقبائل. وليس ذلك على أيّ وجه اتّفق، كما بين الهمل من الحيوانات، بل للبشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر، كما تقدّم. جعل منتظما فيهم، ويسرّهم لإيقاعه على وجوه سياسيّة وقوانين حكميّة، ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، وعن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميّزوا القبائح والمفسدة، بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة، وعوائد معروفة بينهم: فيفارقون الهمل من الحيوان، وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد. هذه المعاني الّتي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحسّ كلّ البعد ولا يتعمّق فيها الناظر، بل كلّها تدرك بالتجربة وبها يستفاد، لأنّها معان جزئيّة تتعلّق بالمحسوسات وصدقها وكذبها، يظهر قريبا في الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. ويستفيد كلّ واحد من البشر القدر الّذي يسّر له منها مقتنصا له بالتّجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه، حتّى يتعيّن له ما يجب   [1] نقل هذا الفصل أيضا عن الطبعة الباريسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 وينبغي، فعلا وتركا. وتحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. ومن تتبّع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كلّ قضيّة. ولا بدّ بما تسعه التجربة من الزّمن. وقد يسهّل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلّد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولقّن عنهم ووعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعانات في تتبّع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه واتّباعه، طال عناؤه في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف ويدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه ومعاملاته سيّئة الأوضاع بادية الخلل، ويفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. وهذا معنى القول المشهور: «من لم يؤدّبه والده أدّبه الزّمان» . أي من لم يلقّن الآداب في معاملة البشر من والديه- وفي معناهما المشيخة والأكابر- ويتعلّم ذلك منهم، رجع إلى تعلّمه بالطّبع من الواقعات على توالي الأيّام، فيكون الزمان معلّمه ومؤدّبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة الّتي في طبعه. وهذا هو العقل التجريبيّ، وهو يحصل بعد العقل التمييزيّ الّذي تقع به الأفعال كما بيّناه. وبعد هذين مرتبة العقل النظريّ الّذي تكفّل بتفسيره أهل العلوم، فلا يحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. والله جعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون. الفصل الثالث عشر في علوم البشر وعلوم الملائكة إنّا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصّحيح وجود ثلاثة عوالم: أوّلها: عالم الحسّ، ونعتبره بمدارك الحسّ الّذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك، ثمّ نعتبر الفكر الّذي اختصّ به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانيّة علما ضروريّا بما بين جنبينا من مدارك العلميّة الّتي هي فوق مدارك الحسّ، فتراه عالما آخر فوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 عالم الحسّ. ثمّ نستدلّ على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره الّتي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات، نحو الحركات الفعليّة، فنعلم أنّ هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربّما يستدلّ على هذا العالم الأعلى الروحانيّ وذواته بالرّؤيا وما نجد في النوم، ويلقى إلينا فيه من الأمور الّتي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصّحيحة منها، فنعلم أنّها حقّ ومن عالم الحقّ. وأمّا أضغاث الأحلام فصور خياليّة يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحسّ. ولا نجد على هذا العالم الروحانيّ برهانا أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلا. وما يزعمه الحكماء الإلهيّون في تفصيل ذواته وترتيبها، المسمّاة عندهم بالعقول، فليس شيء من ذلك بيقينيّ لاختلال شرط البرهان النّظريّ فيه، كما هو مقرّر في كلامهم في المنطق. لأنّ من شرطه أن تكون قضاياه أوّليّة ذاتيّة. وهذه الذوات الروحانيّة مجهولة الذاتيّات، فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلّا ما نقتبسه من الشّرعيّات الّتي يوضحها الإيمان ويحكمها. وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنّه وجدانيّ مشهود في مداركنا الجسمانيّة والروحانيّة. ويشترك في عالم الحسّ مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الّذين ذواتهم من جنس ذواته، وهي ذوات مجرّدة عن الجسمانيّة والمادّة، وعقل صرف يتّحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنّه ذات حقيقتها الإدراك والعقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتّة. وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كلّه مكتسب، والذات الّتي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادّة هيولانيّة تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا شيئا، حتّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 تستكمل، ويصحّ وجودها بالموت في مادّتها وصورتها. فالمطلوبات فيها متردّدة بين النفي والإثبات دائما، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطّرفين. فإذا حصل وصار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة، وربّما أوضحها البرهان الصّناعيّ، لكنّه من وراء الحجاب. وليس كالمعاينة الّتي في علوم الملائكة. وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكيّ. فقد تبيّن أنّ البشر جاهل بالطبع للتردّد في علمه، وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعيّة. وكشف الحجاب الّذي أشرنا إليه إنّما هو بالرّياضة بالأذكار الّتي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء والمنكر، وبالتنزّه عن المتناولات المهمّة ورأسها الصوم، وبالوجهة إلى الله بجميع قواه. والله علّم الإنسان ما لم يعلم. الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنّا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهيّة خارجة عن منازع البشر وأحوالهم فتغلب الوجهة الربانيّة فيهم على البشريّة في القوى الإدراكيّة والنزوعيّة من الشهوة والغضب وسائر الأحوال البدنيّة، فتجدهم متنزّهين عن الأحوال الربّانيّة، من العبادة والذكر للَّه بما يقتضي معرفتهم به، مخبرين عنه بما يوحى إليهم في تلك الحالة، من هداية الأمّة على طريقة واحدة وسنن معهود منهم لا يتبدّل فيهم كأنّه جبلّة فطرهم الله عليها. وقد تقدّم لنا الكلام في الوحي أوّل الكتاب في فصل المدركين للغيب. وبيّنّا لك أنّ الوجود كلّه في عوالمه البسيطة والمركّبة على تركيب طبيعي من أعلاها وأسفلها متّصلة كلّها اتّصالا لا ينخرم. وأنّ الذوات الّتي في آخر كلّ أفق من العوالم مستعدّة لأن تنقلب إلى الذات الّتي تجاوزها من الأسفل والأعلى، استعدادا طبيعيا، كما في العناصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 الجسمانيّة البسيطة، وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان وكما في القردة الّتي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والرويّة. وهذا الاستعداد الّذي في جانبي كلّ أفق من العوالم هو معنى الاتّصال فيها. وفوق العالم البشريّ عالم روحانيّ، شهدت لنا به الآثار الّتي فينا منه، بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقّل محض، وهو عالم الملائكة، فوجب من ذلك كلّه أن يكون للنفس الإنسانيّة استعداد للانسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات، وفي لمحة من اللّمحات. ثمّ تراجع بشريّتها وقد تلقّت في عالم الملكيّة ما كلّفت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر. وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة. والأنبياء كلّهم مفطورون عليه، كأنّه جبلّة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدّة والغطيط ما هو معروف عنهم. وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان، لا يلحقه الخطأ والزلل، ولا يقع فيه الغلط والوهم، بل المطابقة فيه ذاتيّة لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشريّة، لا يفارق علمهم الوضوح، استصحابا له من تلك الحالة الأولى، ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها، يتردّد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمّة الّتي بعثوا لها، كما في قوله تعالى: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ 41: 6» . فافهم ذلك وراجع ما قدّمناه لك أوّل الكتاب، في أصناف المدركين للغيب، يتّضح لك شرحه وبيانه، فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا. والله الموفّق . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب قد بيّنا أوّل هذه الفصول أنّ الإنسان من جنس الحيوانات، وأنّ الله تعالى ميّزه عنها بالفكر الّذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزيّ أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه، وهو العقل التجريبيّ، أو يحصل به في تصوّر الموجودات غائبا وشاهدا، على ما هي عليه، وهو العقل النظريّ. وهذا الفكر إنّما يحصل له بعد كمال الحيوانيّة فيه، ويبدأ من التمييز، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة، معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه في التكوين، من النطفة والعلقة والمضغة. وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحسّ والأفئدة الّتي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ 16: 78» فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولى فقط، لجهله بجميع المعارف. ثمّ تستكمل صورته بالعلم الّذي يكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانيّة في وجودها. وانظر إلى قوله تعالى مبدإ الوحي على نبيّه «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ من عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5» أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أن كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتيّ والعلم الكسبيّ وأشارت إليه الآية الكريمة تقرّر فيه الامتنان عليه بأوّل مراتب وجوده، وهي الإنسانيّة. وحالتاه الفطريّة والكسبيّة في أوّل التنزيل ومبدإ الوحي. وكان الله عليما حكيما . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنّية والمبتدعة في الاعتقادات اعلم أنّ الله سبحانه بعث إلينا نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم يدعونا إلى النجاة والفوز بالنّعيم، وأنزل عليه الكتاب الكريم باللّسان العربيّ المبين، يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب، ومن ضروراته، ذكر صفاته سبحانه وأسمائه، ليعرّفنا بذاته، وذكر الروح المتعلّقة بنا، وذكر الوحي والملائكة، الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعيّن لنا الوقت في شيء منه. وثبّت في هذا القرآن الكريم حروفا من الهجاء مقطّعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. وسمّى هذه الأنواع كلّها من الكتاب متشابها. وذمّ على اتباعها فقال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله، وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 3: 7 [1] » وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أنّ المحكمات هي المبيّنات الثابتة الأحكام. ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم: المحكم المتّضح المعنى. وأمّا المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي الّتي تفتقر إلى نظر وتفسير يصحّح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها وتشتبه. وعلى هذا قال ابن عبّاس: «المتشابه يؤمن به ولا يعمل به» وقال مجاهد وعكرمة: «كلّما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه»   [1] الآية من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين. وقال الثّوريّ والشّعبيّ وجماعة من علماء السلف: «المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط السّاعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السّور، وقوله في الآية «هذه أم الكتاب» أي معظمه وغالبة والمتشابه أقلّه، وقد يردّ إلى المحكم. ثمّ ذمّ المتّبعين للمتشابه بالتّأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الّذي خوطبنا به. وسمّاهم أهل زيغ، أي ميل عن الحقّ من الكفّار والزّنادقة وجهلة أهل البدع. وأنّ فعلهم ذلك قصد الفتنة الّتي هي الشّرك أو اللّبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم. ثمّ أخبر سبحانه بأنّه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلّا هو فقال: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله 3: 7. ثمّ أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط. فقال: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به. ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفا، ورجّحوه على العطف لأنّ الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء ومع عطفه إنّما يكون إيمانا بالشاهد، لأنّهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيبا. ويعضد ذلك قوله: «كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنا 3: 7» ويدلّ على أنّ التأويل فيها غير معلوم للبشر. إنّ الألفاظ اللغويّة إنّما يفهم. منها المعاني الّتي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ، وإن جاءنا من عند الله فوّضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه، فلا سبيل لنا إلى ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «إذا رأيتم الّذين يجادلون في القرآن، فهم الّذين عنى الله» ، فاحذروهم. هذا مذهب السّلف في الآيات المتشابهة. وجاء في السّنّة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأنّ المنبع واحد. وإذا تقرّرت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها. فأمّا ما يرجع منها على ما ذكروه إلى السّاعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا والله أعلم من المتشابه، لأنّه لم يرد فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 لفظ مجمل ولا غيره وإنّما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصّه [1] في كتابه وعلى لسان نبيّه. وقال: «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ الله 7: 187» . والعجب ممّن عدّدا من المتشابه. وأمّا الحروف المقطّعة في أوائل السّور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة. وقد قال الزمخشريّ: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأنّ القرآن المنزل مؤلّف منها، والبشر فيها سواء، والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الّذي يتضمّن الدلالة على الحقيقة فإنّما يكون بنقل صحيح، كقولهم في طه، إنّه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك. والنقل الصّحيح متعذّر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. وأمّا الوحي والملائكة والرّوح والجنّ، فاشتباهها من حاء دلالتها الحقيقيّة لأنّها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد ألحق بعض الناس بها كلّ ما في معناها من أحوال القيامة والجنّة والدّجّال والفتن والشروط، وما هو بخلاف العوائد المألوفة، وهو غير بعيد، إلّا أنّ الجمهور لا يوافقونهم عليه. وسيّما المتكلّمون فقد عيّنوا محاملها على ما تراه في كتبهم، ولم يبق من المتشابه إلّا الصفات الّتي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيّه، ممّا يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا. وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السّلف الّذين قرّرنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرّقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصّحيح منه على الفاسد فنقول، «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ 11: 88» : اعلم أنّ الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنّه عالم، قادر، مريد، حيّ، سميع، بصير، متكلّم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم. وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقدم واللّسان، إلى غير ذلك من الصّفات: فمنها ما يقتضي صحّة ألوهيّة، مثل العلم والقدرة والإرادة، ثمّ الحياة الّتي هي شرط جميعها، ومنها ما هي صفة كمال، كالسمع والبصر والكلام، ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء،   [1] كذا. وفي نسخة. بنعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 وكالوجه واليدين والعينين الّتي هي صفات المحدثات. ثمّ أخبر الشارع أنّا نرى ربّنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصّحيح. فأمّا السّلف من الصحابة والتابعين فأثبتوا له صفات الألوهيّة والكمال وفوّضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله. ثمّ اختلف الناس من بعدهم، وجاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنيّة مجرّدة، ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته، وسمّوا ذلك توحيدا، وجعلوا الإنسان خالقا لأفعاله، ولا تتعلّق بها قدرة الله تعالى، سيّما الشرور والمعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها. وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسمّوا ذلك عدلا، بعد أن كانوا أوّلا يقولون بنفي القدر، وأنّ الأمر كلّه مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك، كما ورد في الصّحيح. وأنّ عبد الله بن عمر تبرّأ من معبد الجهنيّ وأصحابه القائلين بذلك. وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي، منهم، تلميذ الحسن البصريّ، لعهد عبد الملك بن مروان. ثمّ آخرا إلى معمّر السّلميّ، ورجعوا عن القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلّاف، وهو شيخ المعتزلة. أخذ الطّريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من نفات القدر، واتّبع رأي الفلاسفة في نفي الصّفات الوجوديّة لظهور مذاهبهم يومئذ. ثمّ جاء إبراهيم النظّام، وقال بالقدر، واتّبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدّد في نفي الصّفات وقرّر قواعد الاعتزال. ثمّ جاء الجاحظ والكعبيّ والجبائيّ، وكانت طريقتهم تسمّى علم الكلام: إمّا لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الّذي يسمّى كلاما، وإمّا أنّ أصل طريقتهم نفي صفة الكلام. فلهذا كان الشافعيّ يقول: حقّهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم. وقرّر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردّوا، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعريّ وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح، فرفض طريقتهم، وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العبّاس القلانسيّ والحرث ابن أسد المحاسبيّ من أتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 السلف وعلى طريقة السّنّة. فأيّد مقالاتهم بالحجج الكلاميّة وأثبت الصّفات لي قائمة بذات الله تعالى، من العلم والقدرة والإرادة الّتي يتم بها دليل التمانع وتصحّ المعجزات للأنبياء. وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسّمع والبصر لأنّها وإن أوهم ظاهرا النقص بالصوت والحرف الجسمانيّين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت، وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأوّل، فأثبتوها للَّه تعالى وانتفى إيهام النقص. وأثبتوا هذه الصّفة قديمة عامّة التعلّق بشأن الصّفات الأخرى. وصار القرآن اسما مشتركا بين القديم بذات الله تعالى، وهو الكلام النفسيّ والمحدث الّذي هو الحروف المؤلّفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم، فالمراد الأوّل، وإذا قيل مقروء، مسموع، فلدلالة القراءة والكتابة عليه. وتورّع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنّه لم يسمع من السّلف قبله: لا إنّه يقول أنّ المصاحف المكتوبة قديمة، ولا أنّ القراءة الجارية على السنّة قديمة، وهو شاهدها محدثة. وإنّما منعه من ذلك الورع الّذي كان عليه. وأمّا غير ذلك فإنكار للضروريّات، وحاشاه منه. وأمّا السّمع والبصر، وإن كان يوهم إدراك الجارحة، فهو يدلّ أيضا لغة على إدراك المسموع والبصر، وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنّه حقيقة لغويّة فيهما. وأمّا لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللّغويّة لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذّر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى: «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» وأمثاله، طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة. وحملهم على هذا التأويل، وإن كان مخالفا لمذهب السّلف في التّفويض أنّ جماعة من أتباع السّلف وهم المحدّثون والمتأخّرون من الحنابلة ارتكبوا [1] في محمل هذه الصّفات فحملوها على صفات ثابتة للَّه تعالى، مجهولة الكيفيّة. فيقولون في   [1] كذا. ومقتضى سياق العبارة: ارتبكوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 «اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ 7: 54» تثبت له استواء، بحيث مدلول اللّفظة، فرارا من تعطيله. ولا نقول بكيفيّته فرارا من القول بالتشبيه الّذي تنفيه آيات السلوب، من قوله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11، سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ 23: 91، تعالى الله عما يقول الظالمون، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 112: 3» ولا يعلمون مع ذلك أنّهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، والاستواء عند أهل اللّغة إنّما موضوعة الاستقرار والتمكّن، وهو جسمانيّ. وأمّا التعطيل الّذي يشنّعون بإلزامه، وهو تعطيل اللّفظ، فلا محذور فيه. وإنّما المحذور في تعطيل الآلة. وكذلك يشنّعون بإلزام التكليف بما لا يطاق، وهو تمويه. لأنّ التشابه لم يقع في التكاليف. ثمّ يدّعون أنّ هذا مذهب السّلف، وحاشا للَّه من ذلك. وإنّما مذهب السّلف ما قرّرناه أوّلا من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها. وقد يحتجّون لإثبات الاستواء للَّه بقول مالك: «إنّ الاستواء معلوم الثبوت للَّه» وحاشاه من ذلك، لأنّه يعلم مدلول الاستواء. وإنّما أراد أنّ الاستواء معلوم من اللّغة، وهو الجسمانيّ، وكيفيّته أي حقيقته. لأنّ حقائق الصّفات كلّها كيفيّات، وهي مجهولة الثبوت للَّه. وكذلك يحتجّون على إثبات المكان بحديث السوداء، وأنّها لمّا قال لها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. أين الله؟ وقالت في السّماء، فقال أعتقها فإنّها مؤمنة. 53 قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان للَّه، بل لأنّها آمنت بما جاء به من ظواهر، أنّ الله في السّماء، فدخلت في جملة الراسخين الّذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النّافي للافتقار. ومن أدلّة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11» وأشباهه. ومن قوله: «وَهُوَ الله في السَّماواتِ وَفي الْأَرْضِ 6: 3» ، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعا، والمراد غيره. ثمّ طردوا ذلك المحمل الّذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين، والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعمّ من الجسمانيّة وينزّهونه عن مدلول الجسمانيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 منها. وهذا شيء لا يعرف في اللّغة. وقد درج على ذلك الأوّل والآخر منهم ونافرهم أهل السنّة من المتكلّمين الأشعريّة والحنفيّة. ورفضوا عقائدهم في ذلك، ووقع بين متكلّمي الحنفيّة ببخارى وبين الإمام محمّد بن إسماعيل البخاريّ ما هو معروف. وأمّا المجسّمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسميّة، وأنّها لا كالأجسام. ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيّات. وإنّما جرّأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغّلوا وأثبتوا الجسميّة، يزعمون فيها مثل ذلك وينزّهونه بقول متناقض سفساف، وهو قولهم: «جسم لا كالأجسام» . والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التّفسير من أنّه القائم بالذات أو المركّب من الجواهر وغير ذلك، فاصطلاحات للمتكلّمين يريدون بها غير المدلول اللّغويّ. فلهذا كان المجسّمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا للَّه وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه، ولا كلام نبيّه. فقد تبيّن لك الفرق بين مذاهب السّلف والمتكلّمين السنّية والمحدّثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسّمة بما أطلعناك عليه. وفي المحدّثين غلاة يسمّون المشبّه لتصريحهم بالتشبيه، حتّى إنّه يحكى عن بعضهم أنّه قال: اعفوني من اللّحية والفرج وسلوا عمّا بدا لكم من سواهما. وإن لم يتأوّل ذلك لهم، بأنّهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة، وحملها على ذلك المحمل الّذي لأئمّتهم، وإلّا فهو كفر صريح والعياذ باللَّه. وكتب أهل السنّة مشحونة بالحجاج على هذه البدع، وبسط الردّ عليهم بالأدلّة الصّحيحة. وإنّما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميّز به فصول المقالات وجملها. «والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» . وأمّا الظواهر الخفيّة الأدلّة والدّلالة، كالوحي والملائكة والرّوح والجنّ والبرزخ وأحوال القيامة والدجّال والفتن والشروط، وسائر ما هو متعذّر على الفهم أو مخالف للعادات، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعريّة في تفاصيله، وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 أهل السنّة، فلا تشابه، وإن قلنا فيه بالتشابه، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: اعلم أنّ العالم البشريّ أشرف العوالم من الموجودات، وأرفعها. وهو وإن اتّحدت حقيقة الإنسانيّة فيه فله أطوار يخالف كلّ واحد منها الآخر بأحوال تختصّ به حتّى كأنّ الحقائق فيها مختلفة. فالطّور الأوّل: عالمه الجسمانيّ بحسّه الظاهر وفكره المعاشيّ وسائر تصرّفاته الّتي أعطاه إيّاها وجوده الحاضر. الطّور الثاني: عالم النوم، وهو تصوّر الخيال بإنفاذ تصوّراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسّه الظاهرة مجرّدة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانيّة، ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه. ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقّب من مسرّاته الدنيويّة والأخرويّة، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه. وهذان الطوران عامّان في جميع أشخاص البشر، وهما مختلفان في المدارك كما تراه. الطور الثالث: طور النبوّة، وهو خاص بإشراف صنف البشر بما خصّهم الله به من معرفته وتوحيده، وتنزّل ملائكته عليهم بوحيه، وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلّها مغايرة للأحوال البشريّة الظاهرة. الطور الرابع: طور الموت الّذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمّى البرزخ يتنعّمون فيه ويعذّبون على حسب أعمالهم ثمّ يفضون إلى يوم القيامة الكبرى، وهي دار الجزاء الأكبر نعيما وعذابا في الجنّة أو في النار. والطوران الأوّلان شاهدهما وجدانيّ، والطور الثالث النبويّ شاهده المعجزة والأحوال المختصّة بالأنبياء، والطور الرابع شاهده ما تنزّل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة، مع أنّ العقل يقتضي به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 كما نبّهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. ومن أوضح الدلالة على صحّتها أنّ أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقّى فيه أحوالا تليق به، لكان إيجاده الأوّل عبثا. إذ الموت إذا كان عدما كان مال الشخص إلى العدم، فلا يكون لوجوده الأوّل حكمة. والعبث على الحكيم محال. وإذا تقرّرت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بيّنا يكشف لك غور المتشابه. فأمّا مداركه في الطور الأوّل فواضحة جليّة. قال الله تعالى: «وَالله أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ 16: 78 [1] » . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانيّة ويوفي حقّ العبادة المفضية به إلى النّجاة. وأمّا مداركه في الطور الثاني، وهو طور النوم، فهي المدارك الّتي في الحسّ الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكنّ الرأي يتيقّن كلّ شيء أدركه في نومه لا يشكّ فيه ولا يرتاب، مع خلوّ الجوارح عن الاستعمال العاديّ لها. والناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، ويزعمون أنّ الصور الخياليّة يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحسّ المشترك الّذي هو الفصل المشترك بين الحسّ الظاهر والحسّ الباطن، فتصوّر محسوسه بالظاهر في الحواسّ كلّها. ويشكّل عليهم هذا بأنّ المرائي الصادقة الّتي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخياليّة الشيطانيّة، مع أنّ الخيال فيها على ما قرّروه واحد. الفريق الثاني: المتكلّمون، أجملوا فيها القول، وقالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسّة فيقع كما يقع في اليقظة، وهذا أليق، وإن كنّا لا نتصوّر كيفيّته.   [1] آية 78 من سورة النحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وهذا الإدراك النوميّ أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسيّة في الأطوار. وأمّا الطور الثالث، وهو طور الأنبياء، فالمدارك الحسيّة فيها مجهولة الكيفيّة عند وجدانيّته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النّبيّ الله والملائكة، ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة، ويرى الجنّة والنار، والعرش والكرسيّ، ويخترق السّماوات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها، ويلقى النّبيّين لك، ويصلّي بهم، ويدرك أنواع المدارك الحسيّة، كما يدرك في طوره الجسمانيّ والنوميّ، بعلم ضروريّ يخلقه الله له، لا بالإدراك العاديّ للبشر في الجوارح، ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النّبوّة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحسّ المشترك. فإنّ الكلام عليهم هنا أشدّ من الكلام في النوم، لأنّ هذا التّنزيل طبيعة واحدة كما قرّرناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي والرّؤيا من النّبيّ واحدة في يقينها وحقيقتها، وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الوحي ستة أشهر وأنّها كانت بمدّة الوحي ومقدّمته، ويشعر ذلك بأنّه رؤية [1] في الحقيقة. وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدّة كما هي في الصّحيح، حتّى كان القرآن يتنزّل عليه آيات مقطّعات. وبعد ذلك نزل عليه (براءة) [2] في غزوة (تبوك) جملة واحدة، وهو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزّل الفكر إلى الخيال فقط، ومن الخيال إلى الحسّ المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. وأمّا الطور الرابع، وهو طور الأموات في برزخهم الّذي أوّله القبر. وهم مجرّدون عن البدن، أو في بعثتهم عند ما يرجعون إلى الأجسام، فمداركهم الحسيّة موجودة، فيرى الميت في قبره المكان يسائلانه، ويرى مقعده من الجنّة أو النار بعيني رأسه،   [1] كذا. وفي نسخة: دونه. [2] هي السورة التاسعة من القرآن الكريم. وهي سورة (التوبة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه، ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، وغير ذلك. وفي الصّحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على قليب بدر [1] ، وفيه قتلى المشركين من قريش، وناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله! أتكلّم هؤلاء الجيف؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول. ثمّ في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم- كما كانوا يعاينون في الحياة- من نعيم الجنّة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه، ويرون الملائكة ويرون ربّهم، كما ورد في الصحيح: إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدّنيا وهي حسيّة مثلها، وتقع في الجوارح بالعلم الضّروريّ الّذي يخلقه الله كما قلناه. وسرّ هذا أن تعلم أنّ النّفس الإنسانيّة هي تنشأ بالبدن وبمداركه، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النّبيّ حالة الوحي من المدارك البشريّة إلى المدارك الملكيّة، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشريّة مجرّدة عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أيّ إدراك شاءت منها، أرفع من إدراكها، وهي في الجسد. قاله الغزاليّ رحمه الله، وزاد على ذلك أنّ النفس الإنسانيّة صورة تبقى لها، ب عد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالا لها، كان في البدن وصورا. وأنا أقول: إنّما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطّنت لهذا كلّه علمت أنّ هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة، لكن ليس على ما كانت في الحياة الدّنيا، وإنّما هي تختلف بالقوّة والضّعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. ويشير المتكلّمون إلى ذلك إشارة مجملة بأنّ الله يخلق فيها علما ضروريّا بتلك المدارك، أيّ   [1] كان ذلك أثر انتهاء وقعة بدر الكبرى التي أظهر الله بها دين الإسلام على المشركين. انظر ابن خلدون ط دار الكتاب اللبناني- بيروت م 2 ص 744- 746. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 مدرك كان، ويعنون به هذا القدر الّذي أوضحناه. وهذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه. ولو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه. فلنفزع إلى الله سبحانه في الهداية والفهم عن أنبيائه وكتابه، بما يحصل به الحقّ في توحيدنا، والظفر بنجاتنا وَالله يَهْدِي من يَشاءُ 2: 213. الفصل السابع عشر في علم التصوّف هذا العلم من العلوم الشّرعيّة الحادثة في الملّة وأصله أنّ طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمّة وكبارها من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم طريقة الحقّ والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدّنيا وزينتها، والزّهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عامّا في الصّحابة والسّلف. فلمّا فشا الإقبال على الدّنيا في القرن الثّاني وما بعده وجنح النّاس إلى مخالطة الدّنيا اختصّ المقبلون على العبادة باسم الصّوفيّة والمتصوّفة. وقال القشيريّ رحمه الله: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربيّة ولا قياس. والظّاهر أنّه لقب. ومن قال اشتقاقه من الصّفاء أو من الصّفة فبعيد من جهة القياس اللّغويّ، قال: وكذلك من الصّوف لأنّهم لم يختصّوا بلبسه. قلت: والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنّه من الصّوف وهم في الغالب مختصّون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة النّاس في لبس فاخر الثّياب إلى لبس الصّوف فلمّا اختصّ هؤلاء بمذهب الزّهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصّوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أنّ الإنسان بما هو إنسان إنّما يتميّز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظّنّ والشّكّ والوهم وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 والبسط والرّضى والغضب والصّبر والشّكر وأمثال ذلك. فالرّوح العاقل والمتصرّف في البدن تنشأ [1] من إدراكات وإرادات وأحوال وهي الّتي يميّز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلّة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذّذ به والنشاط عن الحمّام والكسل عن الإعياء. وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بدّ وأن ينشأ له عن كلّ مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحال إمّا أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد وإمّا أن لا تكون عبادة وإنّما تكون صفة حاصلة للنّفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقّى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التّوحيد والمعرفة الّتي هي الغاية المطلوبة للسّعادة. قال صلّى الله عليه وسلّم «من مات يشهد أنّ لا إله إلّا الله دخل الجنّة» فالمريد لا بدّ له من التّرقّي في هذه الأطوار وأصلها كلّها الطّاعة والإخلاص ويتقدّمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصّفات نتائج وثمرات. ثمّ تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التّوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير في النّتيجة أو خلل فنعلم أنّه إنّما أتى من قبل التّقصير في الّذي قبله. وكذلك في الخواطر النّفسانيّة والواردات القلبيّة. فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأنّ حصول النّتائج عن الأعمال ضروريّ وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم في ذلك إلّا القليل من النّاس لأنّ الغفلة عن هذا كأنّها شاملة. وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النّوع أنّهم يأتون بالطّاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطّلعوا على أنّها خالصة من التّقصير أو لا، فظهر أنّ أصل طريقتهم كلّها محاسبة النّفس على الأفعال والتّروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد الّتي تحصل عن المجاهدات ثمّ تستقرّ للمريد مقاما يترقّى منها   [1] وفي النسخة الباريسية: فالمعنى العاقل والمتصرف في البدن ينشأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 إلى غيرها ثمّ لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللّغويّة إنّما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التّعبير عنه بلفظ يتيسّر فهمه منه. فلهذا اختصّ هؤلاء بهذا النّوع من العلم الّذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشّريعة الكلام فيه. وصار علم الشّريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامّة في العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النّفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفيّة التّرقّي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات الّتي تدور بينهم في ذلك. فلمّا كتبت العلوم ودوّنت وألّف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتّفسير وغير ذلك. كتب رجال من أهل هذه الطّرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النّفس على الاقتداء في الأخذ والتّرك كما فعله القشيريّ في كتاب الرّسالة والسّهرورديّ في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزاليّ رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدوّن فيه أحكام الورع والاقتداء ثمّ بيّن آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم وصار علم التّصوّف في الملّة علما مدوّنا بعد أن كانت الطّريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنّما تتلقّى من صدور الرّجال كما وقع في سائر العلوم الّتي دوّنت بالكتاب من التّفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك. ثمّ إنّ هذه المجاهدة والخلوة والذّكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحسّ والاطّلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحسّ إدراك شيء منها. والرّوح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أنّ الرّوح إذا رجع عن الحسّ الظّاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحسّ وقويت أحوال الرّوح وغلب سلطانه وتجدّد نشؤه وأعان على ذلك الذّكر فإنّه كالغذاء لتنمية الرّوح ولا يزال في نموّ وتزيّد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما، ويكشف حجاب الحسّ، ويتمّ وجود النّفس الّذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرّض حينئذ للمواهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 الرّبّانيّة والعلوم اللّدنّيّة والفتح الإلهيّ وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها ويتصرّفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السّفليّة وتصير طوع إرادتهم. فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرّفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتّكلّم فيه بل يعدّون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوّذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصّحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظّهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنّهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها. وتبعهم في ذلك أهل الطّريقة ممّن اشتملت رسالة القشيريّ على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم. ثمّ إنّ قوما من المتأخّرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك الّتي وراءه واختلفت طرق الرّياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسّيّة وتغذية الرّوح العاقل بالذّكر حتّى يحصل للنّفس إدراكها الّذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أنّ الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنّهم كشفوا ذوات الوجود وتصوّروا حقائقها كلّها من العرش إلى الطّشّ. هكذا قال الغزاليّ رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرّياضة. ثمّ إنّ هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلّا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأنّ الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم يكن هناك استقامة كالسّحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلّا الكشف النّاشئ عن الاستقامة ومثاله أنّ المرآة الصّقيلة إذا كانت محدّبة أو مقعّرة وحوذي بها جهة المرئي فإنّه يتشكّل فيه معوجّا على غير صورته. وإن كانت مسطّحة تشكّل فيها المرئيّ صحيحا. فالاستقامة للنّفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال. ولمّا عنّي المتأخّرون بهذا النّوع من الكشف تكلّموا في حقائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 الموجودات العلويّة والسّفليّة وحقائق الملك والرّوح والعرش والكرسيّ وأمثال ذلك. وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك. وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلّم لهم. وليس البرهان والدّليل بنافع في هذا الطّريق ردّا وقبولا إذ هي من قبيل الوجدانيّات. تفصيل وتحقيق: يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أنّ الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلّمين أنّه لا مباين ولا متّصل. ويقع للفلاسفة أنّه لا داخل العالم ولا خارجة. ويقع للمتأخّرين من المتصوّفة أنّه متّحد بالمخلوقات: إمّا بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى إنّه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلا. فلنبيّن تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كلّ واحد منها، حتّى تتّضح معانيها فنقول، إنّ المباينة تقال لمعنيين: أحدهما المباينة في الحيّز والجهة، ويقابله الاتّصال. ونشعر هذه المقابلة على هذه التّقيّد بالمكان إمّا صريحا وهو تجسيم، أو لزوما وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التّصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. ومن أجل ذلك أنكر المتكلّمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارئ أنّه مباين مخلوقاته، ولا متّصل بها، لأنّ ذلك إنّما يكون للمتحيّزات. وما يقال من أنّ المحلّ لا يخلو عن الاتّصاف بالمعنى وضدّه، فهو مشروط بصحّة الاتّصاف أوّلا، وأمّا مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلوّ عن المعنى وضدّه، كما يقال في الجماد، لا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمّي. وصحّة الاتّصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرّر من مدلولها. والبارئ سبحانه منزّه عن ذلك. ذكره ابن التّلمسانيّ في شرح اللّمع لإمام الحرمين وقال: «ولا يقال في البارئ مباين للعالم ولا متّصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنّه لا داخل العالم ولا خارجة، بناء على وجود الجواهر غير المتحيّزة. وأنكرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 المتكلّمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخصّ الصّفات، وهو مبسوط في علم الكلام. وأمّا المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة والمخالفة فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته وهويّته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتّحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هي مذهب أهل الحقّ كلّهم من جمهور السّلف وعلماء الشّرائع والمتكلّمين والمتصوّفة الأقدمين كأهل الرّسالة ومن نحا منحاهم. وذهب جماعة من المتصوّفة المتأخّرين الّذين صيّروا المدارك الوجدانيّة علميّة نظريّة، إلى أنّ البارئ تعالى متّحد بمخلوقاته في هويّته ووجوده وصفاته. وربّما زعموا أنّه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون وسقراط، وهو الّذي يقيّنه المتكلّمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوّفة ويحاولون الردّ عليه لأنّه ذاتان، تنتفي إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء، فإنّ تلك مغايرة صريحة، ولا يقولون بذلك. وهذا الاتّحاد هو الحلول الّذي تدّعيه النصارى في المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنّه حلول قديم في محدث أو اتّحاده به. وهو أيضا عين ما تقوله الإماميّة من الشيعة في الأئمّة. وتقرير هذا الاتّحاد في كلامهم على طريقين: الأولى: أنّ ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها، متّحدة بها في المتصوّرين، وهي كلّها مظاهر له، وهو القائم عليها، أي المقدّم لوجودها، بمعنى لولاه كانت عدما وهو رأي أهل الحلول. الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنّهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيريّة المنافيّة لمعقول الاتّحاد، فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصّفات. وغالطوا في غيريّة المظاهر المدركة بالحسّ والعقل بأنّ ذلك من المدارك البشريّة، وهي أوهام. ولا يريدون الوهم الّذي هو قسيم العلم والظّنّ والشكّ، إنّما يريدون أنّها كلّها عدم في الحقيقة، ووجود في المدرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 البشريّ فقط. ولا وجود بالحقيقة إلّا للقديم، لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرّره بعد، بحسب الإمكان. والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال، كما في المدارك البشريّة، غير مفيد، لأنّ ذلك إنّما ينقل من المدارك الملكيّة، وإنّما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلميّة ضلال. وربّما قصد بعض المصنّفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض. وربّما قصد بعض المصنّفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنّسبة إلى أهل النّظر والاصطلاحات والعلوم كما فعل الفرغانيّ شارح قصيدة ابن الفارض في الدّيباجة الّتي كتبها في صدر ذلك الشّرح فإنّه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أنّ الوجود كلّه صادر عن صفة الوحدانيّة الّتي هي مظهر [1] الأحديّة وهما معا صادران عن الذّات الكريمة الّتي هي عين الوحدة لا غير. ويسمّون هذا الصّدور بالتّجلّي. وأوّل مراتب التّجليّات عندهم تجلّي الذّات على نفسه وهو يتضمّن الكمال بإفاضة الإيجاد والظّهور لقوله في الحديث الّذي يتناقلونه: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني» وهذا الكمال في الإيجاد المتنزّل [2] في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكماليّة [3] والحقيقة المحمّديّة وفيها حقائق الصّفات واللّوح والقلم وحقائق الأنبياء والرّسل أجمعين والكمّل من أهل الملّة المحمّديّة. وهذا كلّه تفصيل الحقيقة المحمّديّة. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائيّة وهي مرتبة المثال ثمّ عنها العرش ثمّ الكرسيّ ثمّ الأفلاك، ثمّ عالم العناصر، ثمّ عالم التّركيب. هذا في عالم الرّتق فإذا تجلّت فهي   [1] وفي النسخة الباريسية: مصدر. [2] وفي نسخة أخرى: المشترك. [3] وفي نسخة أخرى: والحضرة العماديّة وفي النسخة الباريسية: والحضرة العمائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 في عالم الفتق. ويسمّى هذا المذهب مذهب أهل التّجلّي والمظاهر والحضرات وهو كلام لا يقتدر [1] أهل النّظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة [2] والوجدان وصاحب الدّليل. وربّما أنكر بظاهر الشّرع. هذا التّرتيب وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأوّل في تعقّله وتفاريعه، يزعمون فيه أنّ الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادّها. والعناصر إنّما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادّتها لها في نفسها قوّة بها كان وجودها. ثمّ إنّ المركّبات فيها تلك القوى متضمّنة في القوّة الّتي كان بها التّركيب، كالقوّة المعدنيّة فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوّة المعدنيّة ثمّ القوّة الحيوانيّة تتضمّن القوّة المعدنيّة وزيادة قوّتها في نفسها وكذا القوّة الإنسانيّة مع الحيوانيّة ثمّ الفلك يتضمّن القوّة الإنسانيّة وزيادة. وكذا الذّوات الرّوحانيّة والقوّة الجامعة للكلّ من غير تفصيل هي القوّة الإلهيّة الّتي انبثّت في جميع الموجودات كلّيّة وجزئيّة وجمعتها وأحاطت بها من كلّ وجه، لا من جهة الظّهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصّورة ولا من جهة المادّة فالكلّ واحد وهو نفس الذّات الإلهيّة وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفصّل لها كالإنسانيّة مع الحيوانيّة. ألا ترى أنّها مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارة يمثّلونها بالجنس مع النّوع، في كلّ موجود كما ذكرناه وتارة بالكلّ مع الجزء على طريقة المثال. وهم في هذا كلّه يفرّون من التّركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنّما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والّذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أنّ حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أنّ وجودها مشروط بالضّوء فإذا عدم الضّوء لم تكن الألوان موجودة بوجه. وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلّها مشروطة بوجود المدرك الحسيّ، بل والموجودات   [1] وفي نسخة أخرى: يقدر. [2] وفي النسخة الباريسية: صاحب المشاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 المعقولة والمتوهّمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقليّ فإذا الوجود المفصّل كلّه مشروط بوجود المدرك البشريّ. فلو فرضنا عدم المدرك البشريّ جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحرّ والبرد والصّلابة واللّين بل والأرض والماء والنّار والسّماء والكواكب، إنّما وجدت لوجود الحواسّ المدركة لها لما جعل في المدرك من التّفصيل الّذي ليس في الموجود وإنّما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصّلة فلا تفصيل إنّما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النّائم فإنّه إذا نام وفقد الحسّ الظّاهر فقد كلّ محسوس وهو في تلك الحالة إلّا ما يفصّله له الخيال. قالوا: فكذا اليقظان إنّما يعتبر تلك المدركات كلّها على التّفصيل بنوع مدركة البشريّ ولو قدّر فقد مدركة فقد التّفصيل وهذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الّذي هو من جملة المدارك البشريّة. هذا ملخّص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السّقوط لأنّا نقطع بوجود البلد الّذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن أعيننا وبوجود السّماء المظلّة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنّا. والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أنّ المحقّقين من المتصوّفة المتأخّرين يقولون إنّ المريد عند الكشف ربّما يعرض له توهّم هذه الوحدة ويسمّى ذلك عندهم مقام الجمع ثمّ يترقّى عنه إلى التّمييز بين الموجودات ويعبّرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقّق ولا بدّ للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنّه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبيّنت مراتب أهل هذه الطّريقة ثمّ إنّ هؤلاء المتأخّرين من المتصوّفة المتكلّمين في الكشف وفيما وراء الحسّ توغّلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملئوا الصّحف منه مثل الهرويّ في كتاب المقامات له وغيره. وتبعهم ابن العربيّ وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنّجم الإسرائيليّ في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيليّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 المتأخّرين من الرّافضة الدّائنين أيضا بالحلول وإلهيّة الأئمّة مذهبا لم يعرف لأوّلهم فأشرب كلّ واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر في كلام المتصوّفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنّه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتّى يقبضه الله. ثمّ يورّث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التّصوّف منها فقال: «جلّ جناب الحقّ أن يكون شرعة لكلّ وارد أو يطّلع عليه إلّا الواحد بعد الواحد» . وهذا كلام لا تقوم عليه حجّة عقليّة. ولا دليل شرعيّ وإنّما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرّافضة ودانوا به. ثمّ قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشّيعة في النّقباء. حتّى إنّهم لمّا أسندوا لباس خرقة التّصوّف ليجعلوه أصلا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى عليّ رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا. وإلّا فعليّ رضي الله عنه لم يختصّ من بين الصّحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد النّاس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأكثرهم عبادة. ولم يختصّ أحد منهم في الدّين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصّحابة كلّهم أسوة في الدّين والزّهد والمجاهدة. تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم، نعم إنّ الشيعة يخيّلون بما ينعلون من ذلك اختصاص عليّ (رضي الله عنه) بالفضائل دون من سواه من الصّحابة ذهابا مع عقائد التّشيّع المعروفة لهم. والّذي يظهر أنّ المتصوّفة بالعراق، لمّا ظهرت الإسماعيليّة من الشيعة، وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرّر في الشّرع. ثمّ جعلوا القطب لتعليم المعرفة باللَّه لأنّه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزانه في الباطن وسمّوه قطبا لمدار المعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمّل ذلك. يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوّفة في أمر الفاطميّ وما شحنوا كتبهم في ذلك ممّا ليس لسلف المتصوّفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنّما هو مأخوذ من كلام الشّيعة والرّافضة ومذاهبهم في كتبهم. والله يهدي إلى الحقّ. تذييل: وقد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيّات كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهرويّ الّتي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرّح بها وهي قوله: ما وحّد الواحد من واحد ... إذ كلّ من وحّده جاحد توحيد من ينطق عن نعته ... تثنية أبطلها الواحد توحيده إيّاه توحيده ... ونعت من ينعته لأحد فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: «استشكل النّاس إطلاق لفظ الجمود على كلّ من وحّد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفّوه. ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أنّ معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأنّ الوجود كلّه حقيقة واحدة وانية واحدة. وقد قال أبو سعيد الجزّار من كبار القوم: الحقّ عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أنّ وقوع التعدّد في تلك الحقيقة وجود الاثنينيّة. وهم باعتبار حضرات الحسّ بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأنّ كلّ ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: كان الله، ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان عندهم. ومعنى قول كبير الّذي صدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «ألا كلّ شيء، ما خلا الله باطل» . قالوا: فمن وحّد ونعت، فقد قال بموجد محدث، هو نفسه، وتوحيد محدث هو فعله، موجود قديم، هو معبود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وقد تقدّم معنى التّوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث، الآن ثابتة بل متعدّدة، والتوحيد مجحود والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معا في بيت واحد: ليس في البيت غيرك، فيقول الآخر بلسان حاله: لا يصحّ هذا إلّا لو عدمت أنت! وقد قال بعض المحقّقين في قولهم: «خلق الله الزمان» هذه ألفاظ تناقض أصولها لأنّ خلق الزمان متقدّم على الزمان وهو فعل لا بدّ من وقوعه في الزمان، وإنّما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللّغات عن تأدية الحقّ فيها وبها. فإذا تحقّق أنّ الموحّد هو الموحّد، وعدم ما سواه جملة، صحّ التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم «لا يعرف الله إلّا الله» ولا حرج على من وحّد الحقّ مع بقاء الرسوم والآثار، وإنّما هو من باب: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» . لأنّ ذلك لازم التقييد والعبوديّة والشفعيّة. ومن ترقّى إلى مقام الجمع كان في حقّه نقصا، مع علمه بمرتبته، وأنّه تلبيس تستلزمه العبوديّة ويرمعه الشهود ويطهّر من دنس حدوثه عين الجمع. وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكلّ اعتبار على الانتهاء إلى الواحد، وإنّما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعيّة ويحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا. وعبارة: فمن سلّم استراح ومن نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه وبصره. وإذا عرفت المعاني لا مشاحّة في الألفاظ. والّذي يفيده هذا كلّه تحقّق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتّعمّق في مثل هذا حجاب، وهو الّذي أوقع في المقالات المعروفة. انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيّات، ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الّذي ألّفه في المحبّة، وسمّاه التّعريف بالحبّ الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبي مهدي مرارا، إلّا أنّي رأيت رسوم الكتاب أوعى له، لطول عهدي به. والله الموفّق. ثمّ إنّ كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرّدّ على هؤلاء المتأخّرين في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 المقالات وأمثالها وشملوا بالنّكير سائر ما وقع لهم في الطّريقة. والحقّ أنّ كلامهم معهم فيه تفصيل فإنّ كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النّفس على الأعمال لتحصّل تلك الأذواق الّتي تصير مقاما ويترقّى منه إلى غيره كما قلناه، وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصّفات الرّبّانيّة والعرش والكرسيّ والملائكة والوحي والنّبوة والرّوح وحقائق كلّ موجود غائب أو شاهد وتركيب الألوان في صدورها عن موجودها وتكوّنها كما مرّ، وثالثها التّصرّفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، ورابعها ألفاظ موهمة الظّاهر صدرت من الكثير من أئمّة القوم يعبّرون عنها في اصطلاحهم بالشّطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأوّل. فأمّا الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النّفس على التّقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتّحقّق بها هو عين السّعادة. وأمّا الكلام في كرامات القوم وأخبارهم بالمغيّبات وتصرّفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحقّ. وما احتجّ به الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ من أئمّة الأشعريّة على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرّق المحقّقون من أهل السّنّة بينهما بالتّحدّي وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثمّ إنّ وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأنّ دلالة المعجزة على الصّدق عقليّة فإنّ صفة نفسها التّصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدّلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أنّ الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابرة. وقد وقع للصّحابة وأكابر السّلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور. وأمّا الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويّات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنّه وجدانيّ عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللّغات لا تعطى له دلالة على مرادهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 منه لأنّها لم توضع إلّا للمتعارف وأكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرّض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشّريعة فأكرم بها سعادة. وأمّا الألفاظ الموهمة الّتي يعبّرون عنها بالشّطحات ويؤاخذهم بها أهل الشّرع فاعلم أنّ الإنصاف في شأن القوم أنّهم أهل غيبة عن الحسّ والواردات تملكهم حتّى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور. فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله وأنّ العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطاميّ وأمثاله. ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبيّن لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأمّا من تكلّم بمثلها وهو حاضر في حسّه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضا. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوّفة بقتل الحلّاج لأنّه تكلّم في حضور وهو مالك لحاله. والله أعلم. وسلف المتصوّفة من أهل الرّسالة أعلام الملّة الّذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النّوع من الإدراك إنّما همّهم الاتّباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به بل يفرّون منه ويرون أنّه من العوائق والمحن وأنّه إدراك من إدراكات النّفس مخلوق حادث وأنّ الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء ممّا يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحسّ قبل الكشف من الاتّباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد والله الموفّق للصّواب . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 الفصل الثامن عشر في علم تعبير الرؤيا هذا العلم من العلوم الشّرعيّة وهو حادث في الملّة عند ما صارت العلوم صنائع وكتب النّاس فيها. وأمّا الرّؤيا والتّعبير لها فقد كان موجودا في السّلف كما هو في الخلف. وربّما كان في الملوك [1] والأمم من قبل إلّا أنّه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبّرين من أهل الإسلام. وإلّا فالرّؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بدّ من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصّدّيق صلوات الله عليه يعبّر الرّؤيا كما وقع في القرآن. وكذلك ثبت عن الصّحيح عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن أبي بكر رضي الله عنه والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الرّؤيا الصّالحة جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوة» . وقال: «لم يبق من المبشّرات إلّا الرّؤيا الصّالحة يراها الرّجل الصّالح أو ترى له» . وأوّل ما بدأ به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا انفتل [2] من صلاة الغداة يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم اللّيلة رؤيا؟ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك ممّا فيه ظهور الدّين وإعزازه. وأمّا السّبب في كون الرّؤيا مدركا للغيب فهو أنّ الرّوح القلبيّ وهو البخار اللّطيف المنبعث من تجويف القلب اللّحميّ ينتشر في الشّريانات ومع الدّم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانيّة وإحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التّصرّف في الإحساس بالحواسّ الخمس وتصريف القوى الظّاهرة وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد اللّيل انحبس الرّوح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبيّ فيستجمّ بذلك لمعاودة فعله فتعطّلت الحواسّ الظّاهرة كلّها   [1] وفي النسخة الباريسية: في الملل والأمم. [2] وفي نسخة أخرى: انتقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 وذلك هو معنى النّوم كما تقدّم في أوّل الكتاب. ثمّ إنّ هذا الرّوح القلبيّ هو مطيّة للرّوح العاقل من الإنسان والرّوح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك. وإنّما يمنع من تعلّقه [1] للمدارك الغيبيّة ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسّه. فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرّد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كلّ مدرك. فإذا تجرّد عن بعضها خفّت شواغله فلا بدّ له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرّد له وهو في هذه الحالة قد خفّت شواغل الحسّ الظّاهر كلّها وهي الشّاغل الأعظم فاستعدّ لقبول ما لك من المدارك اللّائقة من عالمه. وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسمانيّ لا يمكنه التّصرّف إلّا بالمدارك الجسمانيّة. والمدارك الجسمانيّة للعلم إنّما هي الدّماغيّة والمتصرّف منها هو الخيال. فإنّه ينتزع من الصّور المحسوسة صورا خياليّة ثمّ يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النّظر والاستدلال. وكذلك تجرّد النّفس منها صورا أخرى نفسانيّة عقليّة فيترقّى التّجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما. ولذلك إذا أدركت النّفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوّره بالصّورة المناسبة له ويدفعه إلى الحسّ المشترك فيراه النّائم كأنّه محسوس فيتنزّل المدرك من الرّوح العقليّ إلى الحسّيّ. والخيال أيضا واسطة. هذه حقيقة الرّؤيا. ومن هذا التّقرير يظهر لك الفرق بين الرّؤيا الصّالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنّها كلّها صور في الخيال حالة النّوم. ولكن إن كانت تلك الصّور متنزّلة من الرّوح العقليّ المدرك فهو رؤيا. وإن كانت مأخوذة من الصّور الّتي في الحافظة الّتي كان الخيال أودعها إيّاها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام. واعلم أنّ للرّؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحّتها فيستشعر   [1] وفي نسخة أخرى: تعقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 الرائي البشارة من الله ممّا ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عند ما يدرك الرّؤيا، كأنّه يعاجل الرجوع إلى الحسّ باليقظة ولو كان مستغرقا في نومه، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفرّ من تلك الحالة إلى حالة الحسّ الّتي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه، ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرّؤيا بتفاصيلها في حفظه، فلا يتخلّلها سهو ولا نسيان. ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكير، بل تبقى متصوّرة في ذهنه إذا انتبه. ولا يغرب عنه شيء منها، لأنّ الإدراك النفسانيّ ليس بزمانيّ ولا يلحقه ترتيب، بل يدركه دفعة في زمن فرد. وأضغاث الأحلام زمانيّة، لأنّها في القوى الدماغيّة يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحسّ المشترك كما قلناه. وأفعال البدن كلّها زمانيّة فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدّم والمتأخّر. ويعرض النسيان العارض للقوى الدّماغيّة. وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانيّة، ولا ترتيب فيها. وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. وقد تبقى الرّؤيا بعد الانتباه حاضرة في الحفظ أيّاما من العمر، لا تشذّ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأوّل قويا، وإذا كان إنّما يتذكّر الرّؤيا بعد الانتباه من النّوم بإعمال الفكر والوجهة إليها، وينسى الكثير من تفاصيلها حتّى يتذكّرها فليست الرّؤيا بصادقة، وإنّما هي من أضغاث الأحلام. وهذه العلامات من خواصّ الوحي. قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم «لا تُحَرِّكْ به لِسانَكَ لِتَعْجَلَ به، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ 75: 16- 19» والرّؤيا لها نسبة من النّبوّة والوحي كما في الصّحيح. قال صلّى الله عليه وسلّم «الرؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوّة» فلخواصّها أيضا نسبة إلى خواصّ النّبوّة، بذلك القدر، فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحقّ. والله الخالق لما يشاء. وأمّا معنى التّعبير فاعلم أنّ الرّوح العقليّ إذا أدرك مدركة وألقاه إلى الخيال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 فصوّره فإنّما يصوّره في الصّور المناسبة لذلك المعنى بعض الشّيء كما يدرك معنى السّلطان الأعظم فيصوّره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصوّرها الخيال في صورة الحيّة. فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلّا أنّه رأى البحر أو الحيّة فينظر المعبّر بقوّة التّشبيه بعد أن يتيقّن أنّ البحر صورة محسوسة وأنّ المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعيّن له المدرك فيقول مثلا: هو السّلطان لأنّ البحر خلق عظيم يناسب أن يشبّه بها السّلطان وكذلك الحيّة يناسب أن تشبّه بالعدوّ لعظم ضررها وكذا الأواني تشبّه بالنّساء لأنّهنّ أوعيّة وأمثال ذلك. ومن المرئيّ ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب الشّبه [1] فيها بين المدرك وشبهه. ولهذا وقع في الصّحيح الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشّيطان. فالرّؤيا الّتي من الله هي الصّريحة الّتي لا تفتقر إلى تأويل والّتي من الملك هي الرّؤيا الصّادقة تفتقر إلى التّعبير [2] والرّؤيا الّتي من الشّيطان هي الأضغاث. واعلم أنّ الخيال إذا ألقى إليه الرّوح مدركة. فإنّما يصوّره في القوالب المعتادة للحسّ وما لم يكن الحسّ أدركه قطّ من القوالب فلا يصوّر فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصوّر له السّلطان بالبحر ولا العدوّ بالحيّة ولا النّساء بالأواني لأنّه لم يدرك شيئا من هذه وإنّما يصوّر له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه الّتي هي المسموعات والمشمومات. وليتحفّظ المعبّر من مثل هذا فربّما اختلط به التّعبير وفسد قانونه. ثمّ إنّ علم التّعبير علم بقوانين كلّيّة يبني عليها المعبّر عبارة ما يقصّ عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدلّ على السّلطان، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدلّ على الغيظ، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدلّ على الهمّ والأمر الفادح. ومثل ما يقولون: الحيّة تدلّ على العدوّ، وفي موضع آخر   [1] وفي نسخة أخرى: النسبة. [2] وفي النسخة الباريسية: إلى تأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 يقولون: هي كاتم سرّ، وفي موضع آخر يقولون: تدلّ على الحياة وأمثال ذلك. فيحفظ المعبّر هذه القوانين الكلّيّة، ويعبّر في كلّ موضع بما تقتضيه القرائن الّتي تعيّن من هذه القوانين ما هو أليق بالرّؤيا. وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النّوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبّر بالخاصّيّة الّتي خلقت فيه وكلّ ميسّر لما خلق له. ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السّلف. وكان محمّد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها النّاس لهذا العهد. وألّف الكرمانيّ فيه من بعده. ثمّ ألّف المتكلّمون المتأخّرون وأكثروا. والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيروانيّ من علماء القيروان مثل الممتّع وغيره وكتاب الإشارة للسّالميّ من أنفع الكتب فيه وأحضرها. وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. وهو علم مضيء بنور النّبوة للمناسبة الّتي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصّحيح والله علّام الغيوب. الفصل التاسع عشر في العلوم العقلية وأصنافها وأمّا العلوم العقليّة الّتي هي طبيعيّة للإنسان من حيث إنّه ذو فكر فهي غير مختصّة بملّة بل بوجه النّظر [1] فيها إلى أهل الملل كلّهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النّوع الإنسانيّ منذ كان عمران الخليقة. وتسمّى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم: الأوّل علم المنطق وهو علم يعصم الذّهن عن الخطإ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطإ من الصّواب. فيما يلتمسه النّاظر في   [1] وفي نسخة أخرى: يوجد النظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 (الموجودات وعوارضها) [1] ليقف على تحقيق الحقّ في الكائنات نفيا وثبوتا بمنتهى فكره. ثمّ النّظر بعد ذلك عندهم إمّا في المحسوسات من الأجسام العنصريّة والمكوّنة عنها من المعدن والنّبات والحيوان والأجسام الفلكيّة والحركات الطّبيعيّة. والنّفس الّتي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك. ويسمّى هذا الفنّ بالعلم الطّبيعيّ وهو العلم الثّاني منها. وإمّا أن يكون النّظر في الأمور الّتي وراء الطّبيعة من الرّوحانيّات ويسمّونه العلم الإلهيّ وهو الثّالث منها. والعلم الرّابع وهو النّاظر في المقادير ويشتمل على أربعة علوم وتسمّى التّعاليم. أوّلها: علم الهندسة وهو النّظر في المقادير على الإطلاق. إمّا المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتّصلة وهي إمّا ذو بعد واحد وهو الخطّ أو ذو بعدين وهو السّطح، أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التّعليميّ. ينظر في هذه المقادير وما يعرض لها إمّا من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. وثانيها علم الأرتماطيقي وهو معرفة ما يعرض للكمّ المنفصل الّذي هو العدد ويؤخذ له من الخواصّ والعوارض اللّاحقة. وثالثها علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنّغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد وثمرته معرفة تلاحين الغناء. ورابعها علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعدّدها لكلّ كوكب من السّيّارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السّماويّة المشاهدة الموجودة لكلّ واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها. فهذه أصول العلوم الفلسفيّة وهي سبعة: المنطق وهو المقدّم منها وبعده التّعاليم فالأرتماطيقي أوّلا ثمّ الهندسة ثمّ الهيئة ثمّ الموسيقى ثمّ الطّبيعيّات ثمّ الإلهيّات ولكلّ واحد منها فروع تتفرّع عنه. فمن فروع الطّبيعيّات الطّبّ ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج وهي قوانين لحساب [2] حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك (ومن فروعها النّظر في   [1] وفي النسخة الباريسية: في التصورات والتصديقات الذاتية والعرضية. [2] وفي نسخة أخرى: حسبانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 النّجوم على الأحكام النّجوميّة) [1] ونحن نتكلّم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها. واعلم أنّ أكثر من عني بها في الأجيال الّذين عرفنا أخبارهم الأمّتان العظيمتان في الدّولة قبل الإسلام وهما فارس والرّوم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدّولة والسّلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيّين ومن قبلهم من السّريانيّين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسّحر والنّجامة وما يتبعها من الطّلاسم [2] وأخذ ذلك عنهم الأمم من فارس ويونان فاختصّ بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلوّ من خبر هاروت وماروت وشأن السّحرة وما نقله أهل العلم من شأن البراريّ [3] بصعيد مصر. ثمّ تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلّا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصّنائع. والله أعلم بصحّتها. مع أنّ سيوف الشّرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. وأمّا الفرس فكان شأن هذه العلوم العقليّة عندهم عظيما ونطاقها متّسعا لما كانت عليه دولتهم من الضّخامة واتّصال الملك. ولقد يقال إنّ هذه العلوم إنّما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينيّة فاستولى على كتبهم وعلومهم. إلّا أنّ المسلمين لمّا افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم ممّا لا يأخذه الحصر ولمّا فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقّاص إلى عمر بن الخطّاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النّار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. وأمّا الرّوم فكانت الدّولة منهم ليونان أوّلا وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل   [1] وفي نسخة أخرى: ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية. [2] وفي النسخة الباريسية: من التأثيرات والطلسمات. [3] وفي نسخة أخرى: البرابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 أساطين الحكمة وغيرهم. واختصّ فيها المشّاءون منهم أصحاب الرّواق بطريقة حسنة في التّعليم كانوا يقرءون في رواق يظلّهم من الشّمس والبرد على ما زعموا. واتّصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدّنّ، ثمّ إلى تلميذه أفلاطون ثمّ إلى تلميذه أرسطو ثمّ إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسيّ، وتامسطيون وغيرهم. وكان أرسطو معلّما للإسكندر ملكهم الّذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم. وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيه صيتا وشهرة. وكان يسمّى المعلّم الأوّل فطار له في العالم ذكر. ولمّا انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النّصرانيّة هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشّرائع فيها. وبقيت في صحفها ودواوينها مخلّدة باقية في خزائنهم ثمّ ملكوا الشّام وكتب هذه العلوم باقية فيهم. ثمّ جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظّهور الّذي لا كفاء له وابتزّوا الرّوم ملكهم فيما ابتزّوه للأمم. وابتدأ أمرهم بالسّذاجة والغفلة عن الصّنائع حتّى إذا تبحبح [1] من السّلطان والدّولة وأخذ الحضارة [2] بالحظّ الّذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفنّنوا في الصّنائع والعلوم. تشوّقوا إلى الاطّلاع على هذه العلوم الحكميّة بما سمعوا من الأساقفة والاقسّة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها. فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الرّوم أنّ يبعث إليه بكتب التّعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطّبيعيّات. فقرأها المسلمون واطّلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظّفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرّسل على ملوك الرّوم في استخراج علوم اليونانيّين وانتساخها بالخطّ العربيّ وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب. وعكف عليها النّظّار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. وخالفوا كثيرا من آراء المعلّم   [1] وفي النسخة الباريسية: انتجع. [2] وفي نسخة أخرى: وأخذوا من الحضارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 الأوّل واختصّوه بالرّدّ والقبول لوقوف الشّهرة عنده. ودوّنوا في ذلك الدّواوين وأربوا على من تقدّمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملّة أبو نصر الفارابيّ وأبو عليّ بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصّائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختصّ هؤلاء بالشّهرة والذّكر واقتصر كثيرون على انتحال التّعاليم وما ينضاف إليها من علوم النّجامة والسّحر والطّلسمات. ووقفت الشّهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيّان من أهل المشرق ومسلمة بن أحمد المجريطيّ من أهل الأندلس وتلميذه. ودخل على الملّة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من النّاس بما جنحوا إليها وقلّدوا آراءها والذّنب في ذلك لمن ارتكبه. ولو شاء الله ما فعلوه. ثمّ إنّ المغرب والأندلس لمّا ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحلّ ذلك منهما إلّا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من النّاس وتحت رقبة من علماء السّنّة. ويبلغنا عن أهل المشرق أنّ بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النّهر وأنّهم على بحّ [1] من العلوم العقليّة لتوفّر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعدّدة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدّين التّفتازانيّ منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأنّ له ملكة راسخة في هذه العلوم. وفي أثنائها ما يدلّ على أنّ له اطّلاعا على العلوم الحكميّة وقدما عالية في سائر الفنون العقليّة والله يؤيّد بنصره من يشاء. كذلك بلغنا لهذا العهد أنّ هذه العلوم الفلسفيّة ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشّماليّة نافقة الأسواق وأنّ رسومها هناك متجدّدة ومجالس تعليمها متعدّدة ودواوينها جامعة متوفّرة وطلبتها متكثّرة [2] والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار.   [1] وفي النسخة الباريسية: على نهج. وفي نسخة أخرى: على ثبج. [2] وفي نسخة أخرى: ودواوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها متكثرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 الفصل العشرون في العلوم العددية وأوّلها الأرتماطيقيّ وهو معرفة خواصّ الأعداد من حيث التّأليف إمّا على التّوالي أو بالتّضعيف مثل أنّ الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإنّ جمع الطّرفين منها مساو لجمع كلّ عددين بعدهما من الطّرفين بعد واحد ومثل ضعف الواسطة إن كانت عدّة تلك الأعداد فردا مثل الأفراد [1] على تواليها والأزواج على تواليها ومثل أنّ الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أوّلها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها إلخ، أو يكون أوّلها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها إلخ، فإنّ ضرب الطّرفين أحدهما في الآخر كضرب كلّ عددين بعدهما من الطّرفين بعد واحد أحدهما في الآخر. ومثل مربّع الواسطة إن كانت العدّة فردا وذلك مثل أعداد زوج الزّوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستّة عشر ومثل ما يحدث من الخواصّ العدديّة في وضع المثلّثات العدديّة والمربّعات والمخمّسات والمسدّسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن يجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلّثة. وتتوالى المثلّثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثمّ تزيد على كلّ مثلّث ثلث الضّلع الّذي قبله فتكون مربّعة. وتزيد على كلّ مربّع مثلّث [2] الضّلع الّذي قبله فتكون مخمّسة وهلمّ جرّا. وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها ثمّ المثلّثات على تواليها ثمّ المربّعات ثمّ المخمّسات إلخ وفي طوله كلّ عدد وأشكاله بالغا ما بلغ وتحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعض طولا وعرضا خواصّ غريبة استقريت منها وتقرّرت في دواوينهم مسائلها كذلك ما يحدث للزّوج والفرد وزوج الزّوج وزوج   [1] وفي نسخة أخرى: الاعداد. [2] وفي النسخة الباريسية: مثل الضلع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 الفرد وزوج الزّوج والفرد فإنّ لكل منها خواصّ مختصّة به تضمّنها هذا الفنّ وليست في غيره. وهذا الفنّ أوّل أجزاء التّعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدّمين والمتأخّرين فيه تآليف، وأكثرهم يدرجونه في التّعاليم ولا يفردونه بالتّآليف. فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشّفاء والنّجاة وغيره من المتقدّمين. وأمّا المتأخّرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول ومنفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابيّة كما فعله ابن البنّاء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم. ومن فروع علم العدد صناعة الحساب. وهي صناعة علميّة في حساب الأعداد بالضمّ والتّفريق. فالضّمّ يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع. وبالتّضعيف تضاعف عددا بآحاد عدد آخر وهذا هو الضّرب والتّفريق أيضا يكون في الأعداد إمّا بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطّرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدّتها محصّلة وهو القسمة. وسواء كان هذا الضّمّ والتّفريق في الصّحيح من العدد أو الكسر. ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد وتلك النّسبة تسمّى كسرا. وكذلك يكون بالضّمّ والتّفريق في الجذور ومعناها العدد الّذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربّع. فإنّ تلك الجذور أيضا يدخلها الضّمّ والتّفريق وهذه الصّناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات وألّف النّاس فيها كثيرا وتداولوها في الأمصار بالتّعليم للولدان. ومن أحسن التّعليم عندهم الابتداء بها لأنّها معارف متّضحة وبراهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصّواب. وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أوّل أمره إنّه يغلب عليه الصّدق لما في الحساب من صحّة المباني ومناقشة النّفس فيصير ذلك خلقا ويتعوّد الصّدق ويلازمه مذهبا. ومن أحسن التّآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصّغير. ولابن البناء المرّاكشيّ فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثمّ شرحه بكتاب سمّاه رفع الحجاب وهو مستغلق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظّمه وهو كتاب جدير بذلك. وساوق فيه المؤلّف رحمه الله كتاب فقه الحساب، لابن منعم والكامل للأحدب، ولخّص براهينها وغيّرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنويّة ظاهرة، هي سرّ الإشارة بالحروف وزبدتها. وهي كلّها مستغلقة، وإنّما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان [1] علوم التّعاليم لأنّ مسائلها وأعمالها واضحة كلّها. وإذا قصد شرحها فإنّما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمّله. والله يهدي بنوره من يشاء وهو القويّ المتين . ومن فروعه الجبر والمقابلة. وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التّضعيف بالضّرب. أوّلها العدد لأنّه به يتعيّن المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه وثانيها الشّيء لأنّ كلّ مجهول فهو من جهة إبهامه شيء وهو أيضا جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثّانية وثالثها المال وهو أمر مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأسّ في المضروبين. ثمّ يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض ويجبرون ما فيها من الكسر حتّى يصير صحيحا. ويحطّون المراتب إلى أقلّ الأسوس إن أمكن حتّى يصير إلى الثّلاثة الّتي عليها مدار الجبر عندهم وهي العدد والشّيء والمال. فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعيّن فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعيّن. والمال وإن عادل الجذور فيتعيّن بعدّتها. وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسيّ من طريق تفصيل الضّرب في الاثنين وهي مبهمة فيعيّنها ذلك الضّرب المفصّل. ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين. وأكثر ما انتهت   [1] وفي نسخة أخرى: شأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 المعادلة بينهم إلى ستّ مسائل لأنّ المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركّبة تجيء ستّة. وأوّل من كتب في هذا الفنّ أبو عبد الله الخوارزميّ وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم، وجاء النّاس على أثره فيه. وكتابه في مسائله السّتّ من أحسن الكتب الموضوعة فيه. وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا ومن أحسن شروحاته كتاب القرشيّ. وقد بلغنا أنّ بعض أئمّة التّعاليم من أهل المشرق أنهى المعاملات [1] إلى أكثر من هذه السّتّة الأجناس، وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلّها أعمالا وأتبعه ببراهين هندسيّة. والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى . ومن فروعه أيضا المعاملات. وهو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزّكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات يصرّف في صناعتنا ذلك الحساب [2] في المجهول والمعلوم والكسر والصّحيح والجذور وغيرها. والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدّربة بتكرار العمل حتّى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. ولأهل الصّناعة الحسابيّة من أهل الأندلس تآليف فيها متعدّدة من أشهرها معاملات الزّهراويّ وابن السّمح وأبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطيّ وأمثالهم . ومن فروعه أيضا الفرائض. وهي صناعة حسابيّة في تصحيح السّهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعدّدت وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كلّه أو كان في الفريضة إقرار وإنكار من بعض الورثة فتحتاج في ذلك كلّه إلى عمل يعيّن به سهام الفريضة من كم تصحّ وسهام الورثة من كلّ بطن مصحّحا حتّى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسره وجذره [3] ومعلومه ومجهوله وترتّب على ترتيب   [1] وفي نسخة أخرى: المعادلات. [2] وفي نسخة أخرى: تصرف في ذلك صناعتا الحساب. [3] وفي نسخة أخرى: كسوره وجذوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 أبواب الفرائض الفقهيّة ومسائلها. فتشتمل حينئذ هذه الصّناعة على جزء من الفقه وهو أحكام الوراثة [1] من الفروض والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتّدبير وغير ذلك من مسائلها وعلى جزء من الحساب وهو تصحيح السّهمان باعتبار الحكم الفقهيّ وهي من أجلّ العلوم. وقد يورد أهلها أحاديث نبويّة تشهد بفضلها مثل الفرائض ثلث العلم وأنّها أوّل ما يرفع من العلوم وغير ذلك. وعندي أنّ ظواهر تلك الأحاديث كلّها إنّما هي في الفرائض العينيّة كما تقدّم لا فرائض الوراثات فإنّها أقلّ من أن تكون في كمّيّتها ثلث العلم. وأمّا الفرائض العينيّة فكثيرة وقد ألّف النّاس في هذا الفنّ قديما وحديثا وأوعبوا ومن أحسن التّآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفيّ وكتاب ابن المنمّر والجعديّ والصّرديّ [2] وغيرهم. لكنّ الفضل للحوفيّ فكتابه مقدّم على جميعها. وقد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمّد بن سليمان الشّطّيّ كبير مشيخة فاس فأوضح وأوعب. ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشّافعيّ تشهد باتّساع باعه في العلوم، ورسوخ قدمه، وكذا للحنفيّة والحنابلة. ومقامات النّاس في العلوم مختلفة. والله يهدي من يشاء بمنّه وكرمه لا ربّ سواه.   [1] وفي نسخة أخرى: الوراثات. [2] وفي النسخة الباريسية: والضودبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 الفصل الحادي والعشرون في العلوم الهندسية هذا العلم هو النّظر في المقادير إمّا المتّصلة كالخطّ والسّطح والجسم وإمّا المنفصلة كالأعداد وفيما يعرض لها من العوارض الذّاتيّة. مثل أنّ كلّ مثلّث فزواياه مثل قائمتين. ومثل أنّ كلّ خطّين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية. ومثل أنّ كلّ خطّين متقاطعين فالزّاويتان المتقابلتان منهما متساويتان. ومثل أنّ الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأوّل منها في الثّالث كضرب الثّاني في الرّابع وأمثال ذلك. والكتاب المترجم لليونانيّين في هذه الصّناعة كتاب أوقليدس ويسمّى كتاب الأصول وكتاب الأركان وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلّمين وأوّل ما ترجم من كتاب اليونانيّين في الملّة أيّام أبي جعفر المنصور ونسخه مختلفة باختلاف المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرّة وليوسف بن الحجّاج ويشتمل على خمس عشرة مقالة، أربع في السّطوح وواحدة في الأقدار المتناسبة وأخرى في نسب السّطوح بعضها إلى بعض وثلاث في العدد والعاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الجذور وخمس في المجسّمات. وقد اختصره النّاس اختصارات [1] كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشّفاء. أفرد له جزءا منها اختصّه به. وكذلك ابن الصّلت في كتاب الاقتصار وغيرهم. وشرحه آخرون شروحا كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسيّة بإطلاق. واعلم أنّ الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأنّ براهينها كلّها بيّنة الانتظام جليّة التّرتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطإ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع وقد زعموا أنّه كان مكتوبا على باب أفلاطون: «من لم يكن مهندسا   [1] وفي نسخة أخرى: مختصرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 فلا يدخلنّ منزلنا» وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: «ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصّابون للثّوب الّذي يغسل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران» . وإنّما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه. ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية والمخروطات. أمّا الأشكال الكرويّة ففيها كتابان من كتب اليونانيّين لثاوذوسيوس وميلاوش في سطوحها وقطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدّم في التّعليم على كتاب ميلاوش لتوقّف كثير من براهينه عليه. ولا بدّ منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأنّ براهينها متوقّفة عليه. فالكلام في الهيئة كلّه كلام في الكرات السّماويّة وما يعرض فيها من القطوع والدّوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقّف على معرفة أحكام الأشكال الكرويّة سطوحها وقطوعها. وأمّا المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضا. وهو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسيّة متوقّفة على التّعليم الأوّل. وفائدتها تظهر في الصّنائع العمليّة الّتي موادّها الأجسام مثل النّجارة والبناء وكيف تصنع التّماثيل الغريبة والهياكل النّادرة وكيف يتخيّل على جرّ الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والميخال وأمثال ذلك. وقد أفرد بعض المؤلّفين في هذا الفنّ كتابا في الحيل العلميّة يتضمّن من الصّناعات الغريبة والحيل المستظرفة كلّ عجيبة. وربّما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسيّة وهو موجود بأيدي النّاس ينسبونه إلى بني شاكر. والله تعالى أعلم . ومن فروع الهندسة المساحة وهو فنّ يحتاج إليه في مسح الأرض ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما ونسبة أرض من أرض إذ قويست بمثل ذلك. ويحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشّركاء أو الورثة وأمثال ذلك. وللنّاس فيها موضوعات حسنة وكثيرة والله الموفّق للصّواب بمنّه وكرمه . المناظرة من فروع الهندسة وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 علم يتبيّن به أسباب الغلط في الإدراك البصريّ بمعرفة كيفيّة وقوعها بناء على أنّ إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر وقاعدته المرئيّ. ثمّ يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا والبعيد صغيرا. وكذا رؤية الأشباح الصّغيرة تحت الماء ووراء الأجسام الشّفّافة كبيرة ورؤية النّقطة النّازلة من المطر خطّا مستقيما والسّلقة [1] دائرة وأمثال ذلك. فيتبيّن في هذا العلم أسباب ذلك وكيفيّاته بالبراهين الهندسيّة ويتبيّن به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض [2] الّذي يبنى عليه معرفة رؤية الأهلّة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا. وقد ألّف في هذا الفنّ كثير من اليونانيّين. وأشهر من ألّف فيه من الإسلاميّين ابن الهيثم. ولغيره أيضا تآليف وهو من هذه الرّياضة وتفاريعها. الفصل الثاني والعشرون في علم الهيئة وهو علم ينظر في حركات الكواكب الثّابتة والمحرّكة والمتحيرة. ويستدلّ بكيفيّات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسيّة. كما يبرهن على أنّ مركز الأرض مباين لمركز فلك الشّمس بوجود حركة الإقبال والإدبار وكما يستدلّ بالرّجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلال صغيرة حاملة لها متحرّكة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثّامن بحركة الكواكب الثّابتة وكما يبرهن على تعدّد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له وأمثال ذلك. وإدراك الموجود من الحركات وكيفيّاتها وأجناسها إنّما هو بالرّصد فإنّا إنّما علمنا حركة الإقبال   [1] ورد في لسان العرب: «ابن شميل: السلق القاع المطمئن المستوي لا شجر فيه. ولم ترد في لسان العرب كلمة سلقة ولعلها محرفة عن السلق. وفي النسخة الباريسية: والشعلة. [2] هي خطوط العرض بخلاف خطوط الطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 والإدبار به. وكذا تركيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرّجوع والاستقامة وأمثال ذلك. وكان اليونانيّون يعتنون بالرّصد كثيرا ويتّخذون له الآلات الّتي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعيّن. وكانت تسمّى عندهم ذات الحلق وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي النّاس. وأمّا في الإسلام فلم تقع به عناية إلّا في القليل. وكان في أيّام المأمون شيء منه وصنع هذه الآلة المعروفة للرّصد المسمّاة ذات الحلق. وشرع في ذلك فلم يتمّ. ولمّا مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنيّة لاختلاف الحركات باتّصال الأحقاب. وأنّ مطابقة حركة الآلة للرّصد بحركة الأفلاك والكواكب إنّما هو بالتّقريب. وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور أنّها تعطي صورة السّماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنّما تعطي أنّ هذه الصّور والهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. وأنت تعلم أنّه لا يبعد أن يكون الشّيء الواحد لازما لمختلفين وإن قلنا إنّ الحركات لازمة فهو استدلال باللّازم على وجود الملزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنّه علم جليل وهو أحد أركان التّعاليم. ومن أحسن التّآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس. وليس من ملوك اليونان الّذين أسماؤهم بطليموس على ما حقّقه شرّاح الكتاب. وقد اختصره الأئمّة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشّفاء. ولخّصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس وابن السّمح وابن أبي الصّلت في كتاب الاقتصار. ولابن الفرغانيّ هيئة ملخّصة قرّبها وحذف براهينها الهندسيّة. والله علّمّ الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلّا هو ربّ العالمين. ومن فروعه علم الأزياج [1] . وهي صناعة حسابيّة على قوانين عدديّة فيما يخصّ كلّ كوكب من طريق حركته وما أدّى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع   [1] وفي النسخة الباريسية: حساب الأزياج. وفي نسخة أخرى حساب الزيج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 الكواكب في أفلاكها لأيّ وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. ولهذه الصّناعة قوانين كالمقدّمات والأصول لها في معرفة الشّهور والأيّام والتّواريخ الماضية وأصول متقرّرة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جدول مرتّبة تسهيلا على المتعلّمين وتسمّى الأزياج، ويسمّى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصّناعة تعديلا وتقويما. وللنّاس فيه تآليف كثيرة للمتقدّمين والمتأخّرين مثل البتّانيّ [1] وابن الكمّاد. وقد عوّل المتأخّرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجّمي تونس في أوّل المائة السّابعة. ويزعمون أنّ ابن إسحاق عوّل فيه على الرّصد. وأنّ يهوديّا كان بصقلّيّة ماهرا في الهيئة والتّعاليم وكان قد عني بالرّصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك [2] من أحوال الكواكب وحركاتها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. ولخّصه ابن البنّاء في آخر سمّاه المنهاج فولع به النّاس لما سهل من الأعمال فيه وإنّما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبتني عليها الأحكام النّجوميّة وهو معرفة الآثار الّتي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدّول والمواليد البشريّة والكوائن الحادثة كما نبيّنه بعد ونوضح فيه أدلّتهم إن شاء الله تعالى. والله الموفّق لما يحبّه ويرضاه لا معبود سواه.   [1] قوله البتاني بفتح الموحدة وتشديد المثناة كما ضبطه ابن خلكان في ترجمته قبيل آخر المحمدين. [2] وفي النسخة الباريسية: بما يصح له من ذلك.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 الفصل الثالث والعشرون في علم المنطق وهو قوانين يعرف بها الصّحيح من الفاسد في الحدود المعرّفة [1] للماهيّات والحجج المفيدة للتّصديقات وذلك لأنّ الأصل في الإدراك إنّما هو المحسوسات بالحواسّ الخمس. وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من النّاطق وغيره وإنّما يتميّز الإنسان عنها بإدراك الكلّيّات وهي مجرّدة من المحسوسات. وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتّفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة وهي الكلّيّ. ثمّ ينظر الذّهن بين تلك الأشخاص المتّفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتّفقا فيه. ولا يزال يرتقي في التّجريد إلى الكلّ الّذي لا يجد كلّيّا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. وهذا مثل ما يجرّد من أشخاص الإنسان صورة النّوع المنطبقة عليها. ثمّ ينظر بينه وبين الحيوان ويجرّد صورة الجنس المنطبقة عليهما. ثمّ ينظر بينهما وبين النّبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كلّيّا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التّجريد. ثمّ إنّ الإنسان لمّا خلق الله له الفكر الّذي به يدرك العلوم والصّنائع وكان العلم: إمّا تصوّرا للماهيّات ويعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه وإمّا تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إمّا بأن تجمع تلك الكلّيّات بعضها إلى بعض على جهة التّأليف فتحصل صورة في الذّهن كلّيّة منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصّورة الذّهنيّة مفيدة لمعرفة ماهيّة تلك الأشخاص وإمّا بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقا. وغايته في الحقيقة راجعة إلى التّصوّر لأنّ فائدة ذلك إذا حصل إنّما هي معرفة حقائق   [1] وفي نسخة أخرى: المعروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 الأشياء الّتي هي مقتضى العلم الحكميّ. وهذا السّعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطّريق الّذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلميّة ليتميّز الصّحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. وتكلّم فيه المتقدّمون أوّل ما تكلّموا به جملا جملا ومفترقا مفترقا. ولم تهذّب طرقه ولم تجمع مسائله حتّى ظهر في يونان أرسطو فهذّب مباحثه [1] ورتّب مسائله وفصوله وجعله أوّل العلوم الحكميّة وفاتحتها. ولذلك يسمّى بالمعلّم الأوّل وكتابه المخصوص بالمنطق يسمّى النّصّ وهو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صورة القياس وأربعة [2] في مادّته. وذلك أنّ المطالب التّصديقيّة على أنحاء. فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه ومنها ما يكون المطلوب فيه الظّنّ وهو على مراتب فينظر في القياس من حيث المطلوب الّذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدّماته بذلك الاعتبار ومن أيّ جنس يكون من العلم أو من الظّنّ. وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصّة. ويقال للنّظر الأوّل إنّه من حيث المادّة ونعني به المادّة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظنّ ويقال للنّظر الثّاني إنّه من حيث الصّورة وإنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانيّة: الأوّل في الأجناس العالية الّتي ينتهي إليها تجريد المحسوسات وهي الّتي ليس فوقها جنس ويسمّى كتاب المقولات. والثّاني في القضايا التّصديقيّة وأصنافها ويسمّى كتاب العبارة. والثّالث في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمّى كتاب القياس وهذا آخر النّظر من حيث الصّورة. ثمّ الرّابع كتاب البرهان وهو النّظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدّماته يقينيّة. ويختصّ بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتيّة وأوّليّة وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المعرّفات والحدود إذ المطلوب فيها إنّما هو اليقين لوجوب   [1] وفي النسخة الباريسية: مناحيه. [2] وفي النسخة الباريسية: وخمسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 المطابقة بين الحدّ والمحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصّت عند المتقدّمين بهذا الكتاب. والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختصّ أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض وهي مذكورة هناك. وفي هذا الكتاب يذكر المواضع الّتي يستنبط منها صاحب القياس قياسه وفيه عكوس القضايا. والسّادس: كتاب السّفسطة وهو القياس الّذي يفيد خلاف الحقّ ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد وهذا إنّما كتب ليعرف به القياس المغالطيّ فيحذر منه. والسّابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. والثّامن: كتاب الشّعر وهو القياس الّذي يفيد التّمثيل والتّشبيه خاصّة للإقبال على الشّيء أو النّفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التّخيّليّة. هذه هي كتب المنطق الثّمانية عند المتقدّمين. ثمّ إنّ حكماء اليونانيّين بعد أن تهذّبت الصّناعة ورتّبت رأوا أنّه لا بدّ من الكلام في الكلّيّات الخمس المفيدة للتّصوّر المطابق للماهيّات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاصّ والعرض العام، فاستدركوا فيها مقالة تختصّ بها مقدّمة بين يدي الفنّ فصارت تسعا وترجمت كلّها في الملّة الإسلاميّة. وكتبها وتداولها [1] فلاسفة الإسلام بالشّرح والتّلخيص كما فعله الفارابيّ وابن سينا ثمّ ابن رشد من فلاسفة الأندلس. ولابن سينا كتاب الشّفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السّبعة كلّها. ثمّ جاء المتأخّرون فغيّروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنّظر في الكلّيّات الخمس ثمرته وهي الكلام في الحدود والرّسوم نقلوها من كتاب البرهان. وحذفوا كتاب المقولات لأنّ نظر المنطقيّ فيه بالعرض لا بالذّات. وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس [2] . وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدّمين لكنّه من   [1] وفي نسخة أخرى: تناولها. [2] فن الموضوعات المنطقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثمّ تكلّموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادّة وحدّقوا النّظر فيه بحسب المادّة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشّعر والسّفسطة. وربّما يلمّ بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن هي المهمّ المعتمد في الفنّ. ثمّ تكلّموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا ونظروا فيه من حيث إنّه فنّ برأسه لا من حيث إنّه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتّسع. وأوّل من فعل ذلك الإمام فخر الدّين بن الخطيب ومن بعده أفضل الدّين الخونجيّ وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصّناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التّعليم ثمّ مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفنّ وأصوله فتداوله المتعلّمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدّمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه. والله الهادي للصّواب. اعلم أنّ هذا الفنّ قد اشتدّ النكير على انتحاله من متقدّمي السلف والمتكلّمين، وبالغوا في الطعن عليه والتّحذير منه، وحظّروا تعلّمه وتعليمه. وجاء المتأخّرون من بعدهم من لدن الغزاليّ والإمام ابن الخطيب، فسامحوا في ذلك بعض الشّيء. وأكبّ النّاس على انتحاله من يومئذ إلّا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدّمين، فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبيّن لك نكتة القبول والردّ في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، وذلك أنّ المتكلّمين لمّا وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانيّة بالحجج العقليّة، كانت طريقتهم في ذلك بأدلّة خاصّة وذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأعراض وحدوثها، وامتناع خلوّ الأجسام عنها، وما لا يخلو عن الحوادث حادث. وكإثبات التوحيد بدليل التمانع، وإثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد، وغير ذلك من أدلّتهم المذكورة في كتبهم. ثمّ مرّروا تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 الادلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدّمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الأجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقليّ للماهيّات. وأنّ العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال وهي صفة لموجود، لا موجودة ولا معدمة وغير ذلك من قواعدهم الّتي بنوا عليها أدلّتهم الخاصّة. ثمّ ذهب الشيخ أبو الحسن، والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق إلّا أنّ أدلّة العقائد منعكسة بمعنى أنّها إذا بطلت بطل مدلولها. ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنّها بمثابة العقائد والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. وإذا تأمّلت المنطق وجدته كلّه يدور على التركيب العقليّ، وإثبات الكلّي الطّبيعيّ في الخارج لينطبق عليه الكلّيّ الذهنيّ المنقسم إلى الكلّيّات الخمس، الّتي هي الجنس والنّوع والفصل والخاصّة والعرض العامّ، وهذا باطل عند المتكلّمين. والكلّي والذاتي عندهم إنّما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه، أو حال عند من يقول بها فتبطل الكلّيّات الخمس والتّعريف المبنيّ عليها. والمقولات العشر، ويبطل العرض الذاتيّ، فتبطل ببطلانه القضايا الضروريّة الذاتيّة المشروطة في البرهان وتبطل المواضع الّتي هي لباب كتاب الجدل. وهي الّتي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطّرفين في القياس، ولا يبقى إلّا القياس الصّوريّ، ومن التعريفات المساوئ في الصادقيّة على أفراد المحمود، لا يكون أعمّ منها، فيدخل غيرها، ولا أخصّ فيخرج بعضها، وهو الّذي يعبّر عنه النحاة بالجمع والمنع والمتكلّمون بالطرد والعكس، وتنهدم أركان المنطق جملة. وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدّمات المتكلّمين فيؤدّي إلى إبطال أدلّتهم على العقائد كما مرّ. فلهذا بالغ المتقدّمون من المتكلّمين في النكير على انتحال المنطق وعدّه بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الّذي يبطل. والمتأخّرون من لدن الغزاليّ لما أنكروا انعكاس الأدلّة، ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، وصحّ عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقليّ ووجود الماهيات الطبيعيّة وكلّياتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 في الخارج، قضوا بأنّ المنطق غير مناف للعقائد الإيمانيّة، وإن كان منافيا لبعض أدلّتها، بل قد يستدلّون على إبطال كثير من تلك المقدّمات الكلاميّة، كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها، ويستبدلون من أدلّة المتكلّمين على العقائد بأدلّة أخرى يصحّحونها بالنظر والقياس العقليّ. ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنيّة بوجه. وهذا رأي الإمام والغزاليّ وتابعهما لهذا العهد، فتأمّل ذلك واعرف مدارك العلماء ومآخذهم فيما يذهبون إليه. والله الهادي والموفّق للصواب. الفصل الرابع والعشرون في الطبيعيات وهو علم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسّكون فينظر في الأجسام السّماويّة والعنصريّة وما يتولّد عنها من حيوان وإنسان ونبات ومعدن وما يتكوّن في الأرض من العيون والزّلازل وفي الجوّ من السّحاب والبخار والرّعد والبرق والصّواعق وغير ذلك. وفي مبدإ الحركة للأجسام وهو النفس على تنوّعها في الإنسان والحيوان والنّبات. وكتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي النّاس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيّام المأمون وألّف النّاس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح وأوعب من ألّف في ذلك ابن سينا في كتاب الشّفاء جمع فيه العلوم السّبعة للفلاسفة كما قدّمنا ثمّ لخّصه في كتاب النّجا وفي كتاب الإشارات وكأنّه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها ويقول برأيه فيها. وأمّا ابن رشد فلخّص كتب أرسطو وشرحها متّبعا له غير مخالف. وألّف النّاس في ذلك كثيرا لكنّ هذه هي المشهورة لهذا العهد والمعتبرة في الصّناعة. ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا وللإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن وكذا الآمديّ وشرحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 أيضا نصير الدّين الطّوسيّ المعروف بخواجه من أهل المشرق [1] وبحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره وبحوثه وفوق كلّ ذي علم عليم وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213. الفصل الخامس والعشرون في علم الطب ومن فروع الطّبيعيّات صناعة الطّبّ وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصحّ فيحاول صاحبها حفظ الصّحّة وبرء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبيّن المرض الّذي يخصّ كلّ عضو من أعضاء البدن وأسباب تلك الأمراض الّتي تنشأ عنها وما لكلّ مرض من الأدوية مستدلّين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها وعلى المرض بالعلامات المؤذن بنضجه وقبوله الدّواء أوّلا: في السّجيّة والفضلات والنّبض محاذين لذلك قوّة الطّبيعة فإنّها المدبّرة في حالتي الصّحّة والمرض. وإنّما الطّبيب يحاذيها ويعينها بعض الشّيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادّة والفصل والسّنّ ويسمّى العلم الجامع لهذا كلّه علم الطّبّ. وربّما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علما خاصّا، كالعين وعللها وأكحالها. وكذلك ألحقوا بالفن من منافع الأعضاء ومعناها المنفعة الّتي لأجلها خلق كلّ عضو من أعضاء البدن الحيوانيّ. وإن لم يكن ذلك من موضوع علم الطّبّ إلّا أنّهم جعلوه من لواحقه وتوابعه. وإمام هذه الصّناعة الّتي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس يقال إنّه كان معاصرا لعيسى عليه السّلام ويقال إنّه مات بصقلّيّة في سبيل تغلّب [2] ومطاوعة اغتراب. وتآليفه فيها هي الأمّهات الّتي   [1] وفي النسخة الباريسية: من أهل العراق. ومقتضى السياق: المعروف بين أهل العراق بخواجه والذكور ولد بطوس من اعمال إيران وتوفي في بغداد (كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي) جح [2] وفي النسخة الباريسية: تقلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 اقتدى بها جميع الأطبّاء بعده. وكان في الإسلام في هذه الصّناعة أئمّة جاءوا من وراء الغاية مثل الرّازي والمجوسيّ وابن سينا ومن أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم ابن زهر. وهي لهذا العهد في المدن الإسلاميّة كأنّها نقصت لوقوف العمران وتناقصه وهي من الصّنائع الّتي لا تستدعيها إلّا الحضارة والتّرف كما نبيّنه بعد. وللبادية من أهل العمران طبّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحيّ وعجائزه، وربّما يصحّ منه البعض إلّا أنّه ليس على قانون طبيعيّ ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطّبّ كثير وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره. والطّبّ المنقول في الشّرعيّات [1] من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء وإنّما هو أمر كان عاديّا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من نوع ذكر أحواله الّتي هي عادة وجبلّة لا من جهة أنّ ذلك مشروع على ذلك النّحو من العمل. فإنّه صلّى الله عليه وسلّم إنّما بعث ليعلّمنا الشّرائع ولم يبعث لتعريف الطّبّ ولا غيره من العاديّات. وقد وقع له في شأن تلقيح النّخل ما وقع فقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» . فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطّبّ الّذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنّه مشروع فليس هناك ما يدلّ عليه اللَّهمّ إلّا إذا استعمل على جهة التّبرّك وصدق العقد الإيمانيّ فيكون له أثر عظيم في النّفع. وليس ذلك في الطّبّ المزاجيّ وإنّما هو من آثار الكلمة الإيمانيّة كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه والله الهادي إلى الصّواب لا ربّ سواه.   [1] وفي النسخة الباريسية: في النبوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 الفصل السادس والعشرون في الفلاحة هذه الصّناعة من فروع الطّبيعيّات وهي النّظر في النّبات من حيث تنميته ونشؤه بالسّقي والعلاج وتعهّده بمثل ذلك [1] وكان للمتقدّمين بها عناية كثيرة وكان النّظر فيها عندهم عامّا في النّبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصّه وروحانيّته ومشاكلتها لروحانيّات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كلّه في باب السّحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. وترجم من كتب اليونانيّين كتاب الفلاحة النّبطيّة منسوبة لعلماء النّبط مشتملة من ذلك على علم كبير. ولمّا نظر أهل الملّة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب وكان باب السّحر مسدودا والنّظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النّبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك وحذفوا الكلام في الفنّ الآخر منه جملة. واختصر ابن العوّام كتاب الفلاحة النّبطيّة على هذا المنهاج وبقي الفنّ الآخر منه مغفلا، نقل منه مسلمة في كتبه السّحريّة أمّهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السّحر إن شاء الله تعالى. وكتب المتأخّرين في الفلاحة كثيرة ولا يعدّون فيها الكلام في الغراس والعلاج وحفظ النّبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كلّه وهي موجودة.   [1] وفي نسخة أخرى: بالسقي والعلاج واستجادة النبت وصلاحية الفصل وتعاهده بما يصلحه ويتمه من ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 الفصل السابع والعشرون في علم الإلهيات وهو علم ينظر في الوجود المطلق فأوّلا في الأمور العامّة للجسمانيّات والرّوحانيّات من الماهيّات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك ثمّ ينظر في مبادئ الموجودات وأنّها روحانيّات ثمّ في كيفيّة صدور الموجودات عنها ومراتبها [1] ثمّ في أحوال النّفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدإ. وهو عندهم علم شريف يزعمون أنّه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وأنّ ذلك عين السّعادة في زعمهم. وسيأتي الرّدّ عليهم بعد. وهو تال للطّبيعيّات في ترتيبهم ولذلك يسمّونه علم ما وراء الطّبيعة. وكتب المعلّم الأوّل فيه موجودة بين أيدي النّاس. ولخّصه [2] ابن سينا في كتاب الشّفاء والنّجاة وكذلك لخّصه [3] ابن رشد من حكماء الأندلس ولمّا وضع المتأخّرون في علوم القوم ودوّنوا فيها وردّ عليهم الغزاليّ ما ردّ منها ثمّ خلط المتأخّرون من المتكلّمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث، وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيّات ومسائله بمسائلها فصارت كأنّها فنّ واحد ثمّ غيّروا ترتيب الحكماء في مسائل الطّبيعيّات والإلهيّات وخلطوهما فنّا واحدا قدّموا الكلام في الأمور العامّة ثمّ أتبعوه بالجسمانيّات وتوابعها ثمّ بالرّوحانيّات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقيّة وجميع من بعده من علماء الكلام. وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوّة بها كأنّ الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد. والتبس ذلك على النّاس وهو صواب لأنّ مسائل علم الكلام إنّما هي عقائد متلقّاة من الشّريعة كما نقلها السّلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا   [1] وفي النسخة الباريسية: وترتيبها. [2] وفي النسخة الباريسية: ولخصها (والضمير يعود إلى الكتب) . [3] الضمير يعود إلى كتب المعلم الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 تعويل عليه بمعنى أنّها لا تثبت إلّا به فإنّ العقل معزول عن الشّرع وأنظاره وما تحدّث فيه المتكلّمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحقّ فيها فالتّعليل [1] بالدّليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنّما هو التماس حجّة عقليّة تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السّلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الّذين زعموا أنّ مداركهم فيها عقليّة. وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلّة النّقليّة كما تلقّاها السّلف واعتقدوها وكثير ما بين المقامين. وذلك أنّ مدارك صاحب الشّريعة أوسع لاتّساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقليّة فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهيّة فلا تدخل تحت قانون النّظر الضّعيف والمدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشّارع إلى مدرك فينبغي أن نقدّمه على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما ونسكت عمّا لم نفهم من ذلك ونفوّضه إلى الشّارع ونعزل العقل عنه. والمتكلّمون إنّما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السّلفيّة بالبدع النّظريّة فاحتاجوا إلى الرّدّ عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النّظريّة ومحاذاة العقائد السّلفيّة بها وأمّا النّظر في مسائل الطّبيعيّات والإلهيّات بالتّصحيح والبطلان فليس من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلّمين. فاعلم ذلك لتميّز به بين الفنّين فإنّهما مختلطان عند المتأخّرين في الوضع والتّأليف والحقّ مغايرة كلّ منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل وإنّما جاء الالتباس من اتّحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنّه إنشاء لطلب الاعتداد بالدّليل وليس كذلك بل إنّما هو ردّ على الملحدين والمطلوب مفروض الصّدق معلومه. وكذا جاء المتأخّرون من غلاة المتصوّفة المتكلّمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنّين بفنّهم وجعلوا الكلام واحدا فيها كلّها مثل كلامهم في النّبوءات والاتّحاد والحلول والوحدة وغير ذلك. والمدارك في هذه   [1] وفي نسخة أخرى: ليعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 الفنون الثّلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوّفة لأنّهم يدّعون فيها الوجدان ويفرّون عن الدّليل والوجدان بعيد عن المدارك العلميّة وأبحاثها [1] وتوابعها كما بيّنّاه ونبيّنه. والله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم والله أعلم بالصّواب. الفصل الثامن والعشرون في علوم السحر والطلسمات وهي علوم بكيفيّة استعدادات تقتدر النّفوس البشريّة بها على التّأثيرات في عالم العناصر إمّا بغير معين أو بمعين من الأمور السّماويّة والأوّل هو السّحر والثّاني هو الطّلسمات ولمّا كانت هذه العلوم مهجورة عند الشّرائع لما فيها من الضّرر ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره كانت كتبها كالمفقودة بين النّاس. إلّا ما وجد في كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السّلام مثل النّبط والكلدانيّين فإنّ جميع من تقدّمه من الأنبياء لم يشرعوا الشّرائع ولا جاءوا بالأحكام إنّما كانت كتبهم مواعظ وتوحيدا للَّه وتذكيرا بالجنّة والنّار وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السّريانيّين والكلدانيّين وفي أهل مصر من القبط وغيرهم. وكان لهم فيها التّآليف والآثار ولم يترجم لنا من كتبهم فيها إلّا القليل مثل الفلاحة النّبطيّة من أوضاع أهل بابل فأخذ النّاس منها هذا العلم وتفنّنوا فيه ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السّبعة وكتاب طمطم الهنديّ في صور الدّرج والكواكب وغيرها. ثمّ ظهر بالمشرق جابر بن حيّان كبير السّحرة في هذه الملّة فتصفّح كتب القوم واستخرج الصّناعة وغاص في زبدتها واستخرجها ووضع فيها غيرها من التّآليف وأكثر الكلام فيها وفي صناعة   [1] وفي النسخة الباريسية: وأنحائها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 السّيمياء [1] لأنّها من توابعها لأنّ إحالة الأجسام النّوعيّة من صورة إلى أخرى إنّما يكون بالقوّة النّفسيّة لا بالصّناعة العمليّة فهو من قبيل السّحر كما نذكره في موضعه. ثمّ جاء مسلمة بن أحمد المجريطيّ إمام أهل الأندلس في التّعاليم والسّحريّات فلخّص جميع تلك الكتب وهذّبها وجمع طرقها في كتابه الّذي سمّاه غاية الحكيم ولم يكتب أحد في هذا العلم بعده. ولتقدّم هنا مقدّمة يتبيّن بها حقيقة السّحر وذلك أنّ النّفوس البشريّة وإن كانت واحدة بالنّوع فهي مختلفة بالخواصّ وهي أصناف كلّ صنف مختصّ بخاصيّة واحدة بالنّوع لا توجد في الصّنف الآخر. وصارت تلك الخواصّ فطرة وجبلّة لصنفها فنفوس الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام لها خاصيّة تستعدّ بها للانسلاخ من الروحانيّة البشريّة إلى الروحانيّة الملكيّة حتّى يصير ملكا في تلك اللمحة الّتي انسلخت فيها، وهذا هو معنى الوحي كما مرّ في موضعه، وهي في تلك الحالة محصلة للمعرفة الرّبّانيّة ومخاطبة الملائكة عليهم السّلام عن الله سبحانه وتعالى كما مرّ. وما يتّسع [2] في ذلك من التّأثير في الأكوان ونفوس السّحرة لها خاصة التّأثير في الأكوان واستجلاب روحانيّة الكواكب للتّصرّف فيها والتّأثير بقوّة نفسانيّة أو شيطانيّة. فأمّا تأثير الأنبياء فمدد إلهيّ وخاصّيّة ربّانيّة ونفوس الكهنة لها خاصيّة الاطّلاع على المغيّبات بقوى شيطانيّة. وهكذا كلّ صنف مختصّ بخاصّيّة لا توجد في الآخر. والنّفوس السّاحرة على مراتب ثلاث يأتي شرحها فأوّلها المؤثّرة بالهمّة فقط من غير آلة ولا معين وهذا هو الّذي تسمّيه الفلاسفة السّحر والثّاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواصّ الأعداد ويسمّونه الطّلسمات وهو أضعف رتبة من الأوّل والثّالث تأثير في القوى المتخيّلة. يعمد صاحب هذا التّأثير إلى القوى المتخيّلة فيتصرّف فيها بنوع من التّصرّف ويلقي فيها أنواعا من الخيالات   [1] وفي النسخة الباريسية: الكيمياء. [2] وفي نسخة أخرى: يتبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 والمحاكاة وضورا ممّا يقصده من ذلك ثمّ ينزلها إلى الحسّ من الرّائين بقوّة نفسه المؤثّرة فيه فينظر الرّاءون كأنّها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك، كما يحكى عن بعضهم أنّه يري البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك ويسمّى هذا عند الفلاسفة الشّعوذة أو الشّعبذة. هذا تفصيل مراتبه ثمّ هذه الخاصّيّة تكون في السّاحر بالقوّة شأن القوى البشريّة كلّها وإنّما تخرج إلى الفعل بالرّياضة ورياضة السّحر كلّها إنّما تكون بالتّوجّه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلويّة والشّياطين بأنواع التّعظيم والعبادة والخضوع والتّذلّل فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود له. والوجهة إلى غير الله كفر فلهذا كان السّحر كفرا والكفر من موادّه وأسبابه كما رأيت. ولهذا اختلف الفقهاء في قتل السّاحر هل هو لكفره السّابق على فعله أو لتصرّفه بالإفساد وما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان والكلّ حاصل منه. ولمّا كانت المرتبتان الأوليان من السّحر لها حقيقة في الخارج والمرتبة الأخيرة الثّالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السّحر هل هو حقيقة أو إنّما هو تخييل فالقائلون بأنّ له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين والقائلون بأن لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثّالثة الأخيرة. فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر بل إنّما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب والله أعلم. واعلم أنّ وجود السّحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التّأثير الّذي ذكرناه وقد نطق به القرآن. قال الله تعالى: «وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ من أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ به بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ به من أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله 2: 102» [1] . وسحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعله وجعل سحره في مشط ومشاقة وجفّ طلعة ودفن في بئر ذروان فأنزل الله عزّ وجلّ عليه في المعوّذتين: «وَمن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في الْعُقَدِ 113: 4» [2] قالت عائشة رضي الله عنها: «كان   [1] سورة البقرة من الآية 102 [2] سورة الفلق الآية الرابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 لا يقرأ على عقدة من تلك العقد الّتي سحر فيها إلّا انحلّت. وأمّا وجود السّحر في أهل بابل وهم الكلدانيّون من النّبط والسّريانيّين فكثير ونطق به القرآن وجاءت به الأخبار وكان للسّحر في بابل ومصر أزمان بعثة موسى عليه السّلام أسواق نافقة. ولهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدّعون ويتاناغون فيه وبقي من آثار ذلك في البراريّ [1] بصعيد مصر شواهد دالّة على ذلك ورأينا بالعيان من يصوّر صورة الشّخص المسحور بخواصّ أشياء مقابلة لما نواه وحاوله موجودة بالمسحور وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التّأليف والتّفريق. ثمّ يتكلّم على تلك الصّورة الّتي أقامها مقام الشّخص المسحور عينا أو معنى ثمّ ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السّوء ويعقد على ذلك المعنى في سبب أعدّه لذلك تفاؤلا بالعقد واللّزام وأخذ العهد على من أشرك به من الجنّ في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة بالعزم. ولتلك البنية والأسماء السّيّئة روح خبيثة تخرج منه مع النّفخ متعلّقة بريقه الخارج من فيه بالنّفث فتنزل عنها أرواح خبيثة ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله السّاحر. وشاهدنا أيضا من المنتحلين للسّحر وعمله من يشير إلى كساء أو جلد ويتكلّم عليه في سرّه فإذا هو مقطوع متخرّق. ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض. وسمعنا أنّ بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتّت [2] قلبه ويقع ميتا وينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه ويشير إلى الرّمانة وتفتح فلا يوجد من حبوبها شيء. وكذلك سمعنا أنّ بأرض السّودان وأرض التّرك من يسحر السّحاب فيمطر الأرض المخصوصة. وكذلك رأينا من عمل الطّلسمات عجائب في الأعداد المتحابّة وهي ر ك ر ف د أحد العددين مائتان وعشرون والآخر مائتان وأربعة وثمانون ومعنى المتحابّة أنّ   [1] وفي نسخة أخرى: البرابي. [2] وفي النسخة الباريسية: فينخب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 أجزاء كلّ واحد الّتي فيه من نصف وثلث وربع وسدس وخمس وأمثالها إذا جمع كان متساويا للعدد الآخر صاحبه فتسمّى لأجل ذلك المتحابّة. ونقل أصحاب الطّلسمات أنّ لتلك الأعداد أثرا في الألفة بين المتحابّين واجتماعهما إذا وضع لهما مثالان [1] أحدهما بطالع الزّهرة وهي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودّة وقبول ويجعل طالع الثّاني سابع الأوّل ويضع على أحد التّمثالين أحد العددين والآخر على الآخر. ويقصد بالأكثر الّذي يراد ائتلافه أعني المحبوب ما أدري الأكثر كميّة أو الأكثر أجزاء فيكون لذلك من التّألّف العظيم بين المتحابّين ما لا يكاد ينفكّ أحدهما عن الآخر. قاله صاحب الغاية وغيره من أئمّة هذا الشّأن وشهدت له التّجربة. وكذا طابع الأسد ويسمّى أيضا طابع الحصى وهو أن يرسم في قالب (هند إصبع) صورة أسد شائلا ذنبه عاضّا على حصاة قد قسمها بنصفين وبين يديه صورة حيّة منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها فيه وعلى ظهره صورة عقرب تدبّ. ويتحيّن برسمه حلول الشّمس بالوجه الأوّل أو الثّالث من الأسد بشرط صلاح النّيّرين وسلامتهما من النّحوس. فإذا وجد ذلك وعثر عليه طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذّهب وغمس بعد في الزّعفران محلولا بماء الورد ورفع في خرقة حرير صفراء فإنّهم يزعمون أنّ لممسكه من العزّ على السّلاطين في مباشرتهم وخدمتهم وتسخيرهم له ما لا يعبّر عنه. وكذلك للسّلاطين فيه من القوّة والعزّ على من تحت أيديهم. ذكر ذلك أيضا أهل هذا الشّأن في الغاية وغيرها وشهدت له التّجربة. وكذلك وفق المسدّس المختصّ بالشّمس ذكروا أنّه يوضع عند حلول الشّمس في شرفها وسلامتها من النّحوس وسلامة القمر بطالع ملوكيّ يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطّالع نظر مودّة وقبول ويصلح فيه ما يكون من مواليد الملوك من الأدلّة الشّريفة ويرفع في خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطّيب. فزعموا أنّ   [1] وفي نسخة أخرى: تمثالان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 له أثرا في صحابة الملوك وخدمتهم ومعاشرتهم. وأمثال ذلك كثير. وكتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطيّ هو مدوّنة هذه الصّناعة وفيه استيفاؤها وكمال مسائلها وذكر لنا أنّ الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتابا في ذلك وسمّاه بالسّرّ المكتوم وأنّه بالمشرق يتداوله أهله ونحن لم نقف عليه. والإمام لم يكن من أئمّة هذا الشّأن فيما نظنّ ولعلّ الأمر بخلاف ذلك. وبالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السّحريّة يعرفون بالبعّاجين وهم الّذين ذكرت أوّلا أنّهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرّق ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فتنبعج. ويسمّى أحدهم لهذا العهد باسم البعّاج لأنّ أكثر ما ينتحل من السّحر بعج الأنعام يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم مستترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكّام، لقيت منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك وأخبروني أنّ لهم وجهة ورياضة خاصّة بدعوات كفريّة وإشراك لرّوحانيّات الجنّ والكواكب، سطّرت فيها صحيفة عندهم تسمّى الخزيريّة [1] يتدارسونها وأنّهم بهذه الرّياضة والوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم وأنّ التّأثير الّذي لهم إنّما هو فيما سوى الإنسان الحرّ [2] من المتاع والحيوان والرّفيق ويعبّرون عن ذلك بقولهم إنّما نفعل فيما تمشي فيه الدّراهم أي ما يملك ويباع ويشترى من سائر المتملّكات هذا ما زعموه. وسألت بعضهم فأخبرني به وأمّا أفعالهم فظاهرة موجودة وقفنا على الكثير منها وعاينتها من غير ريبة في ذلك. هذا شأن السّحر والطّلسمات وأثارهما في العالم فأمّا الفلاسفة ففرقوا بين السّحر والطّلسمات بعد أن أثبتوا أنّهما جميعا أثر للنّفس الإنسانيّة واستدلّوا على وجود الأثر للنّفس الإنسانيّة بأنّ لها آثارا في بدنها على غير المجرى الطّبيعيّ وأسبابه الجسمانيّة بل آثار عارضة من كيفيّات الأرواح تارة كالسّخونة الحادثة عن الفرح والسّرور ومن   [1] وفي النسخة الباريسية: الخنزيرية. [2] وفي النسخة الباريسية: الإنسان والجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 جهة التّصوّرات النّفسانيّة أخرى كالّذي يقع من قبل التّوهّم. فإنّ الماشي على حرف حائط أو حبل منتصب إذا قوي عنده توهّم السّقوط سقط بلا شكّ. ولهذا تجد كثيرا من النّاس يعوّدون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتّى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب ولا يخافون السّقوط. فثبت أنّ ذلك من آثار النّفس الإنسانيّة وتصوّرها للسّقوط من أجل الوهم. وإذا كان ذلك أثرا للنّفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانيّة الطّبيعيّة فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النّوع من التّأثير واحدة لأنّها غير حالّة في البدن ولا منطبعة فيه فثبت أنّها مؤثّرة في سائر الأجسام. وأمّا التّفرقة عندهم بين السّحر والطّلسمات فهو أنّ السّحر لا يحتاج السّاحر فيه إلى معين وصاحب الطّلسمات يستعين بروحانيّات الكواكب وأسرار الأعداد وخواصّ الموجودات وأوضاع الفلك المؤثّرة في عالم العناصر كما يقوله المنجّمون ويقولون: السّحر اتّحاد روح بروح والطّلسم اتّحاد روح بجسم ومعناه عندهم ربط الطّبائع العلويّة السّماويّة بالطّبائع السّفليّة، والطّبائع العلويّة هي روحانيّات الكواكب ولذلك يستعين صاحبه في غالب الأمر بالنّجامة. والسّاحر عندهم غير مكتسب لسحره بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلّة المختصّة بذلك النّوع من التّأثير. والفرق عندهم بين المعجزة والسّحر أنّ المعجزة قوّة إلهيّة تبعث على النّفس ذلك التّأثير فهو مؤيّد بروح الله على فعله ذلك. والسّاحر إنّما يفعل ذلك من لدن نفسه وبقوّته النّفسانيّة وبإمداد الشّياطين في بعض الأحوال فبينهما الفرق في المعقوليّة والحقيقة والذّات في نفس الأمر وإنّما نستدلّ نحن على التّفرقة بالعلامات الظّاهرة وهي وجود المعجزة لصاحب الخير وفي مقاصد الخير وللنّفوس المتمحّصة [1] للخير والتّحدّي بها على دعوى النّبوة. والسّحر إنّما يوجد لصاحب الشّرّ وفي أفعال الشّرّ في الغالب من التّفريق بين الزّوجين وضرر الأعداء   [1] وفي النسخة الباريسية: المتمحضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 وأمثال ذلك. وللنّفوس المتمحّصة للشّرّ. هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيّين: وقد يوجد لبعض المتصوّفة وأصحاب الكرامات تأثير أيضا في أحوال العالم وليس معدودا من جنس السّحر وإنّما هو بالإمداد الإلهي لأنّ طريقتهم ونحلتهم من آثار النّبوة وتوابعها ولهم في المدد الإلهيّ حفظ على قدر حالهم وإيمانهم وتمسّكهم بكلمة الله [1] وإذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشّرّ لا يأتيها لأنّه متقيّد فيما يأتيه يذره للأمر الإلهيّ. فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه ومن أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحقّ وربّما سلب حاله. ولمّا كانت المعجزة بإمداد روح الله والقوى الإلهيّة فلذلك لا يعارضها شيء من السّحر. وانظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقّفت ما كانوا به يأفكون وذهب سحرهم واضمحلّ كأن لم يكن. وكذلك لمّا أنزل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المعوّذتين وَمن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في الْعُقَدِ. 113: 4 قالت عائشة رضي الله عنها: «فكان لا يقرأها على عقدة من العقد الّتي سحر فيها إلّا انحلّت» . فالسّحر لا يثبت مع اسم الله وذكره بالهمّة الإيمانيّة وقد نقل المؤرّخون أنّ زركش [2] كاويان وهي راية كسرى كان فيها الوفق المئينيّ العدديّ منسوجا بالذّهب في أوضاع [3] فلكيّة رصدت لذلك الوفق. ووجدت الرّاية يوم قتل رستم بالقادسيّة واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس وشتاتهم. وهو فيما تزعم أهل الطّلسمات والأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب وأنّ الرّاية الّتي يكون فيها أو معها لا تنهزم أصلا. إلّا أنّ هذه عارضها المدد الإلهيّ من إيمان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتمسّكهم بكلمة الله فانحلّ معها كلّ عقد سحريّ ولم يثبت ويطل ما كانوا يعملون. وأمّا الشّريعة فلم تفرق بين السّحر والطّلسمات وجعلته كلّه بابا واحدا محظورا. لأنّ الأفعال إنّما أباح لنا الشّارع منها ما يهمّنا في ديننا   [1] وفي النسخة الباريسية: بكلمة التوحيد. [2] وفي النسخة الباريسية: درفش [3] وفي النسخة الباريسية: طوالع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 الّذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الّذي فيه صلاح دنيانا وما لا يهمّنا في شيء منهما فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسّحر الحاصل ضرره بالوقوع ويلحق به الطّلسمات لأنّ أثرهما واحد وكالنّجامة الّتي فيها نوع ضرر باعتقاد التّأثير فتفسد العقيدة الإيمانيّة بردّ الأمور إلى غير الله فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضّرر. وإن لم يكن مهمّا علينا ولا فيه ضرر فلا أقلّ من تركه قربة إلى الله فإنّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فجعلت الشّريعة باب السّحر والطّلسمات والشّعوذة بابا واحدا لما فيها من الضّرر وخصّته بالحظر والتّحريم. وأمّا الفرق عندهم بين المعجزة والسّحر فالّذي ذكره المتكلّمون أنّه راجع إلى التّحدّي وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادّعاه. قالوا: والسّاحر مصروف عن مثل هذا التّحدّي فلا يقع منه. ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأنّ دلالة المعجزة على الصّدق عقليّة لأنّ صفة نفسها التّصديق فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصّادق كاذبا وهو محال فإذا لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق. وأمّا الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه فرق ما بين الخير والشّرّ في نهاية الطّرفين. فالسّاحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل في أسباب الخير وصاحب المعجزة لا يصدر منه الشّرّ ولا يستعمل في أسباب الشّرّ وكأنّهما على طرفي النّقيض في أصل فطرتهما. والله يهدي من يشاء وهو القويّ العزيز لا ربّ سواه ومن قبيل هذه التّأثيرات النّفسيّة الإصابة بالعين وهو تأثير من نفس المعيان عند ما يستحسن بعينه مدركا من الذّوات أو الأحوال ويفرط في استحسانه وينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشّيء عمّن اتّصف به فيؤثّر فساده. وهو جبلّة فطريّة أعني هذه الإصابة بالعين. والفرق بينها وبين التّأثيرات النفسانيّة أنّ صدوره فطريّ جبلي لا يتخلّف ولا يرجع اختيار صاحبه ولا يكتسبه. وسائر التّأثيرات وإن كان منها ما لا يكتسب فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها والفطريّ منها قوّة صدورها ولهذا قالوا: القاتل بالسّحر أو بالكرامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 يقتل والقاتل بالعين لا يقتل. وما ذلك إلّا أنّه ليس ممّا يريده ويقصده أو يتركه وإنّما هو مجبور في صدوره عنه. والله أعلم بما في الغيوب ومطّلع على ما في السّرائر. الفصل التاسع والعشرون علم أسرار الحروف وهو المسمّى لهذا العهد بالسيمياء. نقل وضعه من الطّلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرّف من المتصوّفة، فاستعمل استعمال العامّ في الخاصّ. وحدث هذا العلم في الملّة بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوّفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحسّ، وظهور الخوارق على أيديهم والتّصرّفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزّل الوجود عن الواحد وترتيبه. وزعموا أنّ الكمال الأسمائيّ مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأنّ طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام. والأكوان من لدن الإبداع الأوّل تتنقّل في أطواره وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعة ولا تحاط بالعدد مسائله. تعدّدت فيه تآليف البونيّ وابن العربيّ وغيرهما ممّن اتّبع آثارهما. وحاصله عندهم وثمرته تصرّف النّفوس الربّانيّة في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهيّة الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السّارية في الأكوان. ثمّ اختلفوا في سرّ التصرّف الّذي في الحروف [1] بما هو: فمنهم من جعله   [1] علق الهوريني على هذه العبارة بقوله: ترتيب طبائع الحروف عند المغاربة غير ترتيب المشارقة. ومنهم الغزالي. كما أن الجمل عندهم مخالف في ستة أحرف. فان الصاد عندهم بستين والضاد بتسعين والسين المهملة بثلاثمائة والظاء بثمانمائة والغين بتسعمائة والشين بألف. 1 هـ-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 للمزاج الّذي فيه، وقسّم الحروف بقسمة الطّبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر. واختصّت كلّ طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرّف في طبيعتها فعلا وانفعالا بذلك الصنف: فتنوّعت الحروف بقانون صناعيّ يسمّونه التكسير إلى ناريّة وهوائيّة ومائيّة وترابيّة على حسب تنوّع العناصر، فالألف للنار والباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب. ثمّ ترجع كذلك على التوالي من الحروف والعناصر إلى أن تنفذ. فتعيّن لعنصر النار حروف سبعة: الألف والهاء والطاء والميم والفاء والسين والذال، وتعيّن لعنصر الهواء سبعة أيضا: الباء والواو والياء والنون والضاد والتاء والظاء، وتعيّن لعنصر الماء أيضا سبعة: الجيم والزاي والكاف والصاد والقاف والثاء والغين، وتعيّن لعنصر التراب أيضا سبعة: الدال والحاء واللّام والعين والراء والخاء والشّين. والحروف الناريّة لدفع الأمراض الباردة ولمضاعفة قوّة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها، إمّا حسّا أو حكما، كما في تضعيف قوى المرّيخ في الحروب والقتل والفتك. والمائيّة أيضا لدفع الأمراض الحارّة من حمّيات وغيرها، ولتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حسّا أو حكما، كتضعيف قوى القمر وأمثال ذلك. ومنهم من جعل سرّ التصرّف الّذي في الحروف للنسبة العدديّة: فإنّ حروف أبجد دالّة على أعدادها المتعارفة وضعا وطبعا فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضا، كما بين الباء والكاف والراء لدلالتها كلّها على الاثنين كلّ في مرتبته، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد، والكاف على اثنين في مرتبة العشرات، والرّاء على اثنين في مرتبة المئين. وكالّذي بينها وبين الدال والميم والتاء لدلالتها على الأربعة، وبين الأربعة والاثنين نسبة الضّعف. وخرّج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختصّ كلّ صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الّذي يناسبه من حيث عدد الشّكل أو عدد الحروف، وامتزج التصرّف من السرّ الحرفيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 والسرّ العدديّ لأجل التناسب الّذي بينهما. فأمّا سرّ التناسب الّذي بين هذه الحروف وأمزجة الطبائع، أو بين الحروف والأعداد، فأمر عسير على الفهم، إذ ليس من قبيل العلوم والقياسات، وإنّما مستندهم فيه الذّوق والكشف. قال البونيّ: ولا تظنّ أنّ سرّ الحروف ممّا يتوصّل إليه بالقياس العقليّ، وإنّما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهيّ. وأمّا التصرّف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المركّبة فيها وتأثّر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواترا. وقد يظنّ أنّ تصرّف هؤلاء وتصرّف أصحاب الطّلسمات واحد، وليس كذلك، فإنّ حقيقة الطّلسم وتأثيره على ما حقّقه أهله أنّه قوى روحانيّة من جوهر القهر، تفعل فيما له ركّب فعل غلبة وقهر، بأسرار فلكيّة ونسب عدديّة وبخورات جالبات لروحانيّة ذلك الطّلسم، مشدودة فيه بالهمّة، فائدتها ربط الطبائع العلويّة بالطبائع السّفليّة، وهو عندهم كالخميرة المركّبة من هوائيّة وأرضيّة ومائيّة وناريّة حاصلة في جملتها، تخيّل وتصرّف ما حصلت فيه إلى ذاتها وتقلبه إلى صورتها. وكذلك الإكسير للأجسام المعدنيّة، كالخميرة تقلب المعدن الّذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة. ولذلك يقولون: موضوع الكيمياء جسد في جسد لأنّ الإكسير أجزاؤه كلّها جسدانيّة. ويقولون: موضوع الطّلسم روح في جسد لأنّه ربط الطبائع العلويّة بالطّبائع السّفليّة. والطبائع السّفليّة جسد والطبائع العلويّة روحانيّة. وتحقيق الفرق بين تصرّف أهل الطّلسمات وأهل الأسماء، بعد أن تعلم أنّ التصرّف في عالم الطبيعة كلّه إنّما هو للنفس الإنسانيّة والهمم البشريّة أنّ النفس الإنسانيّة محيطة بالطبيعة وحاكمة عليها بالذات، إلّا أنّ تصرّف أهل الطّلسمات إنّما هو في استنزال روحانيّة الأفلاك وربطها بالصّور أو بالنسب العدديّة، حتّى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة والقلب بطبيعته، فعل الخميرة فيما حصلت فيه. وتصرّف أصحاب الأسماء إنّما هو بما حصل لهم بالمجاهدة والكشف من النّور الإلهيّ والإمداد الربّانيّ، فيسخّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية، ولا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكيّة ولا غيرها، لأنّ مدده أعلى منها. ويحتاج أهل الطّلسمات إلى قليل من الرّياضة تفيد النفس قوّة على استنزال روحانيّة الأفلاك. وأهون بها وجهة ورياضة. بخلاف أهل الأسماء فإنّ رياضتهم هي الرياضة الكبرى، وليست لقصد التصرّف في الأكوان إذ هو حجاب. وإنّما التصرّف حاصل لهم بالعرض، كرامة من كرامات الله لهم. فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله وحقائق الملكوت، الّذي هو نتيجة المشاهدة والكشف، واقتصر على مناسبات الأسماء وطبائع الحروف والكلمات، وتصرّف بها من هذه الحيثيّة وهؤلاء هم أهل السيمياء في المشهور- كأنّ إذا لا فرق بينه وبين صاحب الطّلسمات، بل صاحب الطّلسمات أوثق منه لأنّه يرجع إلى أصول طبيعيّة علميّة وقوانين مرتّبة. وأمّا صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الّذي يطّلع به على حقائق الكلمات وآثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة، وليس له في العلوم الاصطلاحيّة قانون برهانيّ يعوّل عليه يكون حاله أضعف رتبة. وقد يمزج صاحب الأسماء قوى الكلمات والأسماء بقوى الكواكب، فيعيّن لذكر الأسماء الحسنى، أو ما يرسم من أوفاقها، بل ولسائر الأسماء، أوقاتا تكون من حظوظ الكواكب الّذي يناسب ذلك الاسم، كما فعله البونيّ في كتابه الّذي سمّاه الأنماط. وهذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائيّة. وهي برزخيّة الكمال الأسمائيّ، وإنّما تنزّل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة. وإثبات هذه المناسبة عندهم إنّما هو بحكم المشاهدة. فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة، وتلقّى تلك المناسبة تقليدا، كأنّ عمله بمثابة عمل صاحب الطّلسم، بل هو أوثق منه كما قلناه. وكذلك قد يمزج أيضا صاحب الطّلسمات عمله وقوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلّفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات والكواكب، إلّا أنّ مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 الأسماء من الاطّلاع في حال المشاهدة، وإنّما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السّحريّة، من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكوّنات، من جواهر وأعراض وذوات ومعان، والحروف. والأسماء من جملة ما فيه. فلكلّ واحد من الكواكب قسم منها يخصّه، ويبنون على ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سور القرآن وآيه على هذا النحو، كما فعله مسلمة المجريطيّ في الغاية. والظّاهر من حال البونيّ في أنماطه أنّه اعتبر طريقتهم. فإنّ تلك الأنماط إذا تصفّحتها، وتصفّحت الدّعوات الّتي تضمّنتها، وتقسيمها على ساعات الكواكب السّبعة، ثمّ وقفت على الغاية، وتصفّحت قيامات الكواكب الّتي فيها، وهي الدّعوات الّتي تختصّ بكلّ كوكب، ويسمّونها قيامات الكواكب، أي الدعوة الّتي يقام له بها، شهد له ذلك: إمّا بأنّه من مادّتها، أو بأنّ التناسب الّذي كان في أصل الإبداع وبرزخ العلم قضى بذلك كلّه. «وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85» . وليس كلّ ما حرّمه الشّارع من العلوم بمنكر الثبوت، فقد ثبت أنّ السحر حقّ مع حظره. لكنّ حسبنا من العلم ما علمنا. ومن فروع علم السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة، بارتباطات ش بين الكلمات- حرفيّة، يوهمون أنّها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقباليّة، وإنّما هي شبه المعاياة والمسائل السّيالة. ولهم في ذلك كلام كثير من أدعيّة وأوراد. وأعجبه زايرجة العالم للسّبتيّ، وقد تقدّم ذكرها. ونبيّن هنا ما ذكروه في كيفيّة العمل بتلك الزايرجة بدائرتها وجدولها المكتوب حولها، ثمّ نكشف عن الحقّ فيها وأنّها ليست من الغيب، وإنّما هي مطابقة بين مسألة وجوابها في الإفادة فقط، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. وليس عندنا رواية يعوّل عليها في صحّة هذه القصيدة إلّا أنّنا تحرّينا أصحّ النّسخ منها في ظاهر الأمر. والله الموفّق بمنّه. وهي هذه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 يقول سبيتيّ ويحمد ربّه ... مصلّ على هاد إلى النّاس أرسلا محمّد المبعوث خاتم الأنبيا ... ويرضى عن الصّحب ومن لهم تلا ألا هذه زايرجة العالم الّذي ... تراه بحيّكم وبالعقل قد حلا فمن أحكم الوضع فيحكم جسمه ... ويدرك أحكاما تدبّرها العلا ومن أحكم الرّبط فيدرك قوّة ... ويدرك للتّقوى وللكلّ حصّلا ومن أحكم التصريف يحكم سرّه ... ويعقل نفسه وصحّ له الولا وفي عالم الأمر تراه محقّقا ... وهذا مقام من بالأذكار كملا فهذي سرائر عليكم بكتمها ... أقمها دوائر وللحاء عدّلا فطاء لها عرش وفيظ نقوشنا ... بنظم ونثر قد تراه مجدولا ونسب دوائر كنسبة فلكها ... وارسم كواكبا لأدراجها العلا وأخرج لأوتار وارسم حروفها ... وكوّر بمثله على حدّ من خلا أقم شكل زيرهم وسوّ بيوته ... وحقّق بهامهم ونورهم جلا وحصّل علوما للطّباع مهندسا ... وعلما لموسيقى والأرباع مثّلا وسوّ لموسيقى وعلم حروفهم ... وعلم بآلات فحقّق وحصّلا وسوّ دوائرها ونسب حروفها ... وعالمها أطلق والإقليم جدولا أمير لنا فهو نهاية دولة ... زناتية آبت وحكم لها خلا وقطر لأندلس فابن لهودهم ... وجاء بنو نصر وظفرهم تلا ملوك وفرسان وأهل لحكمة ... فإن شئت نصّبهم وقطرهم حلا ومهديّ توحيد بتونس حكمهم ... ملوك وبالشّرق بالأوفاق نزّلا واقسم على القطر وكن متفقّدا ... فإن شئت للرّوم فبالحرّ شكّلا ففنش وبرشنون الرّاء حرفهم ... وإفرنسهم دال وبالطّاء كمّلا ملوك كناوة دلوا لقافهم ... وإعراب قومنا بترقيق أعملا فهند حباشيّ وسند فهرمس ... وفرس ططاري وما بعدهم طلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 فقيصرهم جاء ويزدجردهم ... لكاف وقبطيهم بلامه طوّلا وعبّاس كلّهم شريف معظّم ... ولكنّ تركي بذا الفعل عطّلا فإن شئت تدقيق الملوك وكلّهم ... فختّم بيوتا ثمّ نسب وجدولا على حكم قانون الحروف وعلمها ... وعلم طبائعها وكلّه مثّلا فمن علم العلوم تعلّم علمنا ... ويعلم أسرار الوجود وأكملا فيرسخ علمه ويعرف ربّه ... وعلم ملاحيم بحاميم فصّلا وحيث أتى اسم والعروض يشقّه ... فحكم الحكيم فيه قطعا ليقتلا وتأتيك أحرف فسوّ لضربها ... وأحرف سيبويه تأتيك فيصلا فمكّن بتنكير وقابل وعوّضن ... بترنيمك الغالي للأجزاء خلخلا وفي العقد والمجزور يعرف غالبا ... وزد لمح وصفيه في العقل فعّلا واختر لمطلع وسوّيه رتبة ... واعكس بجذريه وبالدور عدّلا؟ ويدركها المرء فيبلغ قصده ... وتعطي حروفها وفي نظمها انجلا إذا كان سعد والكواكب أسعدت ... فحسبك في الملك ونيل اسمه العلا وإيقاع دالهم بمرموز ثمّمة ... فنسب دنادينا تجد فيه منهلا وأوتار زيرهم فللحاء بمّهم ... ومثناهم المثلّث بجيمه قد جلا وأدخل بأفلاك وعدّل بجدول ... وأرسم أبا جاد وباقيه جملا وجوّز شذوذ النو تجري ومثله ... أتى في عروض الشّعر عن جملة ملا فأصل لديننا وأصل لفقهنا ... وعلم لنحونا فاحفظ وحصّلا فادخل لفسطاط على الوفق جذره ... وسبّح باسمه وكبّر وهلّلا فتخرج أبياتا وفي كلّ مطلب ... بنظم طبيعيّ وسرّ من العلا وتفنى بحصرها كذا حكم عدّهم ... فعلم الفواتيح ترى فيه منهلا فتخرج أبياتا وعشرون ضعّفت ... من الألف طبعيا فيا صاح جدولا تريك صنائعا من الضرب أكملت ... فصح لك المنى وصح لك العلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وسجّع بزيرهم وأثنى بنقرة ... أقمها دوائر الزير وحصّلا أقمها بأوفاق وأصل لعدّها ... من أسرار أحرفهم فعذبه سلسلا 43 ك 1 ك وك ح وأ هـ عم له ر لا سع كط 1 ل م ن ح ع ف ول الكلام على استخراج نسبة الأوزان وكيفياتها ومقادير المقابل منها وقوة الدرجة المتميزة بالنسبة إلى موضع المعلق من امتزاج طبائع وعلم طب أو صناعة الكيميا أيا طالبا للطبّ مع علم جابر ... وعالم مقدار المقادير بالولا إذا شئت علم الطّبّ لا بدّ نسبة ... لأحكام ميزان تصادف منهلا فيشفى عليلكم والإكسير محكم ... وأمزاج وضعكم بتصحيح انجلى الطب الروحاني ّ وشئت إيلاوش 565 هـ ودهنه بحلا ... لبهرام برجيس وسبعة أكملا لتحليل أوجاع البوارد صححوا ... كذلك والتركيب حيث تنقلا كد منع مهم 355 وهح 6 صح لهاى ولمح 1 آ 1 وهح وى سكره لال ح مههت مههه ع ع مى مر ح ح 2242 ل ك عا عر. مطاريح الشعاعات في مواليد الملوك وبنيهم وعلم مطاريح الشّعاعات مشكل ... وضلع قسيها بمنطقة جلا ولكن في حج مقام إمامنا ... ويبدو إذا عرض الكواكب عدّلا بدال مراكز بين طول وعرضها ... فمن أدرك المعنى علا ثمّ فوضلا مواقع تربيع وسه مسقط ... لتسديسهم تثليث بيت الّتي تلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 يزاد لتربيع وهذا قياسه ... يقينا وجذّره وبالعين أعملا ومن نسبة الربعين ركب شعاعك ... بصاد وضعفه وتربيعه انجلى اختص صح صح ع 8 سع وى هذا العمل هنا للملوك والقانون مطرد عمله ولم ير أعجب منه. مقامات الملوك المقام الأوّل 5 المقام الثاني ع ع والمقام الرابع للح المقام الخامس لاى المقام السادس بير المقام السابع عره خط الاتصال والانفصال خط الاتصال خط الانفصال الوتر للجميع وتابع الجرر التام الاتصال والانفصال الواجب التام في الاتصالات إقامة الأنوار الجزر المجيب في العمل إقامة السوال عن الملوك مقام الأولا نورعه ي مقام بها هـ حج لا الانفعال الروحانيّ والانقياد الرباني أيا طالب السرّ لتهليل ربه ... لدى أسمائه الحسنى تصادف منهلا تطيعك أخيار الأنام بقلبهم ... كذلك ريسهم وفي الشمس أعملا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 ترى عامة النّاس إليك تقيّدوا ... وما قلته حقا وفي الغير أهملا طريقك هذا السيل والسبل الّذي ... أقوله غيركم ونصركموا اجتلى إذا شئت تحيا في الوجود مع التقى ... ودينا متينا أو تكن متوصّلا كذي النون والجنيد مع سرّ صنعة ... وفي سرّ بسطام أراك مسر بلا وفي العالم العلويّ تكون محدّثا ... كذا قالت الهند وصوفيّة الملا طريق رسول الله بالحقّ ساطع ... وما حكم صنع مثل جبريل أنزلا فبطشك تهليل وقوسك مطلع ... ويوم الخميس البدء والأحد انجلى وفي جمعة أيضا بالأسماء مثله ... وفي اثنين للحسنى تكون مكمّلا وفي طائه سرّ في هائه إذا ... أراك بها مع نسبة الكلّ أعطلا وساعة سعد شرطهم في نقوشها ... وعود ومصطكى بخور تحصّلا وتتلو عليها آخر الحشر دعوة ... والإخلاص والسبع المثاني مرتّلا (اتصال أنوار الكواكب) بلعاني لا هي ... ى لا ظ غ لدسع ق صح م ف وى وفي يدك اليمنى حديد وخاتم ... وكل برأسك وفي دعوة فلا وآية حشر فاجعل القلب وجهها ... واتلو إذا نام الأنام ورتّلا هي السرّ في الأكوان لا شيء غيرها ... هي الآية العظمى فحقّق وحصّلا تكون بها قطبا إذا جدت خدمة ... وتدرك أسرارا من العالم العلا سري بها ناجي ومعروف قبله ... وباح بها الحلّاج جهرا فأعقلا؟ وكان بها الشّبليّ يدأب دائما ... إلى أن رقى فوق المريدين واعتلى فصفّ من الأدناس قلبك جاهدا ... ولازم لاذكار وصم وتنقّلا فما نال سرّ القوم إلّا محقّق ... عليم بأسرار العلوم محصّلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 مقامات المحبة وميل النفوس والمجاهدة والطاعة والعبادة وحب وتعشق وفناء الفناء وتوجه ومراقبة وخلة وأئمة الانفعال الطبيعيّ لبرجيس في المحبّة الوفق صرّفوا ... بقزدير أو نحاس الخلط أكملا وقيل بفضة صحيحا رأيته ... فجعلك طالعا خطوطه ما علا توخّ به زيادة النور للقمر ... وجعلك للقبول شمسه أصلا ويومه والبخور عود لهندهم ... ووقت لساعة ودعوته ألا ودعوته بغاية فهي أعملت ... وعن طسيمان دعوة ولها جلا وقيل بدعوة حروف لوضعها ... بحرّ هواء أو مطالب أهلا فتنقش أحرفا بدال ولأمها ... وذلك وفق للمربّع حصلا إذا لم يكن يهوى هواك دلالها ... فدال ليبدو واو زينب معطلا فحسن لبائه وبائهم إذا ... هواك وباقيهم قليلة جملا ونقش مشاكل بشرط لوضعهم ... وما زدت أنسبه لفعلك عدّلا ومفتاح مريم ففعلهما سوا ... فبوري وبسطامي بسورتها تلا وجعلك بالقصد وكن متفقّدا ... أدلّة وحشي لقبضة ميلا فاعكس بيوتها بألف ونيّف ... فباطنها سرّ وفي سرّها انجلا فصل في المقامات للنهاية لك الغيب صورة من العالم العلا ... وتوجدها دار أو ملبسها الحلا ويوسف في الحسن وهذا شبيهه ... بنثر وترتيل حقيقة أنزلا وفي يده طول وفي الغيب ناطق ... فيحكي إلى عود يجاوب بلبلا وقد جن بهلول بعشق جمالها ... وعند تجليها لبسطام أخذلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 ومات أجليه وأشرب حبها ... جنيد وبصرى والجسم أهملا فتطلب في التهليل غايته ومن ... بأسمائه الحسنى بلا نسبة خلا ومن صاحب الحسنى له الفوز بالمنى ... ويسهم بالزلفى لدى جيرة العلا وتخبر بالغيب إذا جدت خدمة ... تريك عجائبا بمن كان موئلا فهذا هو الفوز وحسن تناله ... ومنها زيادات لتفسيرها تلا الوصية والتختم والإيمان والإسلام والتحريم والاهلية فهذا قصيدنا وتسعون عده ... وما زاد خطبة وختما وجدولا عجبت لابيات وتسعون عدها ... تولد أبياتا وما حصرها انجلا فمن فهم السرّ فيفهم نفسه ... ويفهم تفسيرا تشابه أشكلا حرام وشرعيّ لإظهار سرّنا ... لناس وان خصوا وكان التأهّلا فان شئت أهليه فغلّظ يمينهم ... وتفهم برحلة ودين تطوّلا لعلك أن تنجو وسامع سرّهم ... من القطع والافشا فترأس بالعلا فنجل لعباس لسره كاتم ... فنال سعادات وتابعه علا وقام رسول الله في الناس خاطبا ... فمن يرأس عرشا فذلك أكملا وقد ركب الأرواح أجساد مظهر ... فآلت لقتلهم بدق تطوّلا إلى العالم العلويّ يفنى فناؤنا ... ويلبس أثواب الوجود على الولا فقد تم نظمأ وصلى إلهنا ... على خاتم الرّسل صلاة بها العلا وصلى إله العرش ذو المجد والعلا ... على سيّد ساد الأنام وكملا محمد الهادي الشفيع إمامنا ... وأصحابه أهل المكارم والعلا [؟] مرتبة ... عن الحله سرح أسع ح ح ... صحيح وتعديل الكواكب عند كل تاريخ مطلوب س ك ل وو هـ لو طرح الأوتاد الكلية 2 4 4 4 أل هـ ح الأول تم 48 س 4 5 4 ح [؟] ح كلمة الزايرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 كيفية العمل في استخراج أجوبة المسائل من زايرجة العالم بحول الله منقولا عمن لقيناه من القائمين عليها السّؤال له ثلاثمائة وستّون جوابا عدّة الدّرج، وتختلف الأجوبة عن سؤال واحد في طالع مخصوص باختلاف الأسئلة المضافة إلى حروف الأوتار، وتناسب العمل من استخراج الأحرف من بيت القصيد. (تنبيه) - تركيب حروف الأوتار والجدول على ثلاثة أصول: حروف عربيّة تنقل على هيئاتها، وحروف برسم الغبار. وهذه تتبدّل: فمنها ما ينقل على هيئته متى لم تزد الأدوار عن أربعة، فإن زادت عن أربعة نقلت إلى المرتبة الثّانية من مرتبة العشرات، وكذلك لمرتبة المئين على حسب العمل كما سنبيّنه، ومنها حروف برسم الزّمام كذلك، غير أنّ رسم الزّمام يعطي نسبة ثانية، فهي بمنزلة واحد ألف وبمنزلة عشرة، ولها نسبة من خمسة بالعربيّ، فاستحقّ البيت من الجدول أن توضع فيه ثلاثة حروف في هذا الرّسم وحرفان في الرّسم، فاختصروا من الجدول بيوتا خالية. فمتى كانت أصول الأدوار زائدة على أربعة حسبت في العدد في طول الجدول، وإن لم تزد على أربعة لم يحسب إلّا العامر منها. والعمل في السّؤال يفتقر إلى سبعة أصول: عدّة حروف الأوّل حساب أدوارها بعد طرحها، اثني عشر اثني عشر، وهي ثمانيّة أحرف في الكامل وستة في الناقص أبدا. ومعرفة درج الطّالع وسلطان البرج، والدور الأكبر الأصليّ، وهو واحد أبدا. وما يخرج من إضافة الطالع للدور الأصليّ، وما يخرج من ضرب الطالع والدور في سلطان البرج. وإضافة سلطان البرج للطالع والعمل جميعه ينتج عن ثلاثة أدوار مضروبة في أربعة، تكون اثني عشر دورا. ونسبة هذه الثّلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 الأدوار الّتي هي كلّ دور من أربعة نشأة ثلاثيّة، كلّ نشأة لها ابتداء. ثمّ إنّها تضرب أدوارا رباعيّة أيضا ثلاثيّة. ثمّ إنّها من ضرب ستّة في اثنين، فكان لها نشأة، يظهر ذلك في العمل. ويتبع هذه الأدوار الاثني عشر نتائج، وهي في الأدوار، إمّا أن تكون نتيجة أو أكثر إلى ستّة. فأوّل ذلك نفرض سؤالا عن الزايرجة، هل هي علم قديم، أو محدث بطالع أوّل درجة من القوس أثناء حروف الأوتار؟ ثمّ حروف السّؤال. فوضعنا حروف وتر رأس القوس ونظيره من رأس الجوزاء. وثالثه وتر رأس الدّلو إلى حدّ المركز، وأضفنا إليه حروف السّؤال، ونظرنا عدّتها وأقلّ ما تكون ثمانيّة وثمانين، وأكثر ما تكون ستّة وتسعين، وهي جملة الدور الصّحيح، فكانت في سؤالنا ثلاثة وتسعين. ويختصر السّؤال إن زاد عن ستة وتسعين، بأن يسقط جميع أدواره الاثني عشريّة، ويحفظ ما خرج منها وما بقي، فكانت في سؤالنا سبعة أدوار، الباقي تسعة، أثبتها في الحروف ما لم يبلغ الطالع اثنتي عشرة درجة، فإن بلغها لم تثبت لها عدّة ولا دور. ثمّ تثبت أعدادها أيضا إن زاد الطّالع عن أربعة وعشرين في الوجه الثالث، ثمّ تثبت الطالع وهو واحد، وسلطان الطّالع وهو أربعة، والدور الأكبر وهو واحد، واجمع ما بين الطّالع والدور وهو اثنان في هذا السّؤال، واضرب ما خرج منهما في سلطان البرج يبلغ ثمانيّة، وأضف السّلطان للطّالع فيكون خمسة، فهذه سبعة أصول. فما خرج من ضرب الطّالع والدّور الأكبر في سلطان القوس، ممّا لم يبلغ اثني عشر فيه تدخل في ضلع ثمانيّة من أسفل الجدول صاعدا، وإن زاد على اثني عشر طرح أدوارا، وتدخل بالباقي في ضلع ثمانية، وتعلّم على منتهى العدد والخمسة المستخرجة من السّلطان والطالع، يكون الطّالع في ضلع السّطح المبسوط الأعلى من الجدول، وتعدّ متواليا خمسات أدوارا، وتحفظها إلى أن يقف العدد على حرف من أربعة، وهي ألف أو باء أو جيم أو زاي. فوقع العدد في عملنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 على حرف الألف وخلف ثلاثة أدوار، فضربنا ثلاثة في ثلاثة كانت تسعة، وهو عدد الدور الأوّل. فأثبته واجمع ما بين الضّلعين: القائم والمبسوط يكن في بيت ثمانية في مقابلة البيوت العامرة بالعدد من الجدول، وإن وقف في مقابلة الخالي من بيوت الجدول على أحدها، فلا يعتبر وتستمرّ على أدوارك. وأدخل بعدد ما في الدور الأوّل، وذلك تسعة في صدر الجدول ممّا يلي البيت الّذي اجتمعا فيه، وهي ثمانية، مارّا إلى جهة اليسار، فوقع على حرف لام ألف ولا يخرج منها أبدا حرف مركّب. وإنّما هو إذن حرف تاء أربعمائة برسم الزّمام، فعلّم عليها بعد نقلها من بيت القصيد، واجمع عدد الدور للسلطان يبلغ ثلاثة عشر، أدخل بها في حروف الأوتار، وأثبت ما وقع عليه العدد وعلّم عليه من بيت القصيد. ومن هذا القانون تدري كم تدور الحروف في النظم الطبيعيّ، وذلك أن تجمع حروف الدور الأوّل وهو تسعة لسلطان البرج وهو أربعة تبلغ ثلاثة عشر، أضعفها بمثلها تكون ستّة وعشرين، أسقط منها درج الطالع وهو واحد في هذا السّؤال الباقي خمسة وعشرون. فعلى ذلك يكون نظم الحروف الأول، ثمّ ثلاثة وعشرون مرّتين، ثمّ اثنان وعشرون مرّتين، على حسب هذا الطرح إلى أن ينتهي للواحد من آخر البيت المنظوم. ولا تقف على أربعة وعشرين لطرح ذلك الواحد أوّلا. ثمّ ضع الدور الثاني وأضف حروف الدور الأوّل إلى ثمانية، الخارجة من ضرب الطالع والدور في السّلطان تكن سبعة عشر الباقي خمسة. فاصعد في ضلع ثمانيّة بخمسة من حيث انتهيت في الدور الأوّل وعلّم عليه، وأدخل في صدر الجدول بسبعة عشر، ثمّ بخمسة. ولا تعدّ الخالي، والدّور عشرون، فوجدنا حرف ثاء خمسمائة، وإنّما هو نون لأنّ دورنا في مرتبة العشرات، فكانت الخمسمائة بخمسين لأنّ دورها سبعة عشر فلو لم تكن سبعة عشر لكانت مئين. فأثبت نونا ثمّ أدخل بخمسة أيضا من أوّله. وانظر ما حاذى ذلك من السّطح تجد واحدا، فقهقر العدد واحدا يقع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 خمسة، أضف لها واحدا لسطح تكن ستّة. أثبت واوا وعلّم عليها من بيت القصيد أربعة، وأضفها للثمانية الخارجة من ضرب الطّالع مع الدور في السلطان تبلغ اثني عشر، أضف لها الباقي من الدور الثاني وهو خمسة تبلغ سبعة عشر، وهو ما للدور الثاني. فدخلنا بسبعة عشر في حروف الأوتار، فوقع العدد على واحد. أثبت الألف وعلّم عليها من بيت القصيد وأسقط من حروف الأوتار ثلاثة حروف عدّة الخارج من الدور الثاني، وضع الدور الثالث وأضف خمسة إلى ثمانية تكن ثلاثة عشر، الباقي واحد. انقل الدور في ضلع ثمانية بواحد وأدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر، وخذ ما وقع عليه العدد وهو (ق) وعلّم عليه. وأدخل بثلاثة عشر في حروف الأوتار وأثبت ما خرج، وهو سين، وعلّم عليه من بيت القصيد، ثمّ أدخل ممّا يلي السين الخارجة بالباقي من دور ثلاثة عشر وهو واحد، فخذ ممّا يلي حرف سين من الأوتار فكان (ب) أثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد. وهذا يقال له: الدور المعطوف، وميزانه صحيح، وهو أن تضعّف ثلاثة عشر بمثلها، وتضيف إليها الواحد الباقي من الدور تبلغ سبعة وعشرين، وهو حرف باء المستخرج من الأوتار من بيت القصيد. وأدخل في صدر الجدول بثلاثة عشر، وانظر ما قابله من السّطح وأضعفه بمثله، وزد عليه الواحد الباقي من ثلاثة عشر، فكان حرف جيم، وكانت للجملة سبعة، فذلك حرف زاي فأثبتناه وعلّمنا عليه من بيت القصيد. وميزانه أن تضعّف السبعة بمثلها وزد عليها الواحد الباقي من ثلاثة عشر يكن خمسة عشر، وهو الخامس عشر من بيت القصيد وهذا آخر أدوار الثلاثيّات، وضع الدور الرابع وله من العدد تسعة بإضافة الباقي من الدور السّابق، فاضرب الطالع مع الدور في السّلطان، وهذا الدور آخر العمل في البيت الأوّل من الرّباعيّات. فاضرب على حرفين من الأوتار واصعد بتسعة في ضلع ثمانية وأدخل بتسعة من دور الحرف الّذي أخذته آخرا من بيت القصيد، فالتّاسع حرف راء، فأثبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 وعلّم عليه. وأدخل في صدر الجدول بتسعة وانظر ما قابلها من السّطح يكون (ج) ، قهقر العدد واحدا يكون ألف وهو الثاني من حرف الراء من بيت القصيد فأثبته وعلّم عليه. وعدّ ممّا يلي الثاني تسعة يكون ألف أيضا أثبته وعلّم عليه وأضرب على حرف من الأوتار، وأضعف تسعة بمثلها تبلغ ثمانية عشر، أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء، أثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين. وأدخل بثمانية عشر في حروف الأوتار تقف على (س) أثبتها وعلّم عليها اثنين، وأضف اثنين إلى تسعة تكون أحد عشر. أدخل في صدر الجدول بأحد عشر تقابلها من السّطح ألف أثبتها وعلّم عليها ستّة، وضع الدور الخامس وعدّته سبعة عشر الباقي خمسة. اصعد بخمسة في ضلع ثمانية واضرب على حرفين من الأوتار وأضعف خمسة بمثلها، وأضفها إلى سبعة عشر عدد دورها الجملة سبعة وعشرون، أدخل بها في حروف الأوتار تقع على (ب) أثبتها وعلّم عليها اثنين وثلاثين واطرح من سبعة عشر اثنين الّتي هي في أسّ اثنين وثلاثين الباقي خمسة عشر. أدخل في حروف الأوتار تقف على (ق) أثبتها وعلّم عليها ستة وعشرين، وأدخل في صدر الجدول بست وعشرين تقف على اثنين بالغبار، وذلك حرف (ب) أثبته وعلّم عليه أربعة وخمسين، وأضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السادس، وعدّته ثلاثة عشر، الباقي منه واحد، فتبين إذ ذاك أنّ دور النظم من خمسة وعشرين، فإنّ الأدوار خمسة وعشرون وسبعة عشر وخمسة وثلاثة عشر وواحد، فاضرب خمسة في خمسة تكن خمسة وعشرين، وهو الدور في نظم البيت، فانقل الدور في ضلع ثمانية بواحد. ولكن لم يدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر كما قدّمناه، لأنّه دور ثان من نشأة تركيبيّة ثانية، بل أضفنا الأربعة الّتي من أربعة وخمسين الخارجة على حروف (ب) من بيت القصيد إلى الواحد تكون خمسة، تضيف خمسة إلى ثلاثة عشر الّتي للدور تبلغ ثمانية عشر، أدخل بها في صدر الجدول وخذ ما قابلها من السّطح وهو ألف، أثبته وعلّم عليه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 بيت القصيد اثني عشر واضرب على حرفين من الأوتار. ومن هذا الجدول تنظر أحرف السّؤال، فما خرج منها زده مع بيت القصيد من آخره وعلّم عليه من حروف السؤال ليكون داخلا في العدد في بيت القصيد، وكذلك تفعل بكلّ حرف بعد ذلك مناسبا لحروف السؤال، فما خرج منها زده إلى بيت القصيد من آخره وعلّم عليه، ثمّ أضف إلى ثمانية عشر ما علّمته على حرف الألف من الآحاد، فكان اثنين تبلغ الجملة عشرين. أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء، أثبته وعلّم عليه من بيت القصيد، ستة وتسعين وهو نهاية الدور في الحرف الوتري. فاضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السّابع، وهو ابتداء لمخترع ثان ينشأ من الاختراعين. ولهذا الدور من العدد تسعة، تضيف لها واحدا تكون عشرة للنّشأة الثانية، وهذا الواحد تزيده بعد إلى اثني عشر دورا، إذا كان من هذه النّسبة، أو تنقصه من الأصل تبلغ الجملة خمسة عشر. فاصعد في ضلع ثمانية وتسعين وأدخل في صدر الجدول بعشرة تقف على خمسمائة، وإنّما هي خمسون، نون مضاعفة بمثلها، وتلك (ق) أثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد اثنين وخمسين، وأسقط من اثنين وخمسين اثنين، وأسقط تسعة الّتي للدور، الباقي واحد وأربعون، فأدخل بها في حروف الأوتار تقف على واحد أثبته. وكذلك أدخل بها في بيت القصيد تجد واحدا، فهذا ميزان هذه النشأة الثانية فعلّم عليه من بيت القصيد علامتين. علامة على الألف الأخير الميزانيّ، وأخرى على الألف الأولى فقط، والثانية أربعة وعشرون واضرب على حرفين من الأوتار، وضع الدور الثامن وعدّته سبعة عشر الباقي خمسة، أدخل في ضلع ثمانية وخمسين وأدخل في بيت القصيد بخمسة تقع على عين بسبعين، أثبتها وعلّم عليها. وأدخل في الجدول بخمسة، وخذ ما قابلها من السطح، وذلك واحد، أثبته وعلّم عليه من البيت ثمانية وأربعين، وأسقط واحدا من ثمانية وأربعين للأس الثاني وأضف إليها خمسة، الدور. الجملة اثنان وخمسون. أدخل بها في صدر الجدول تقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 على حرف (ب) غباريّة وهي مرتّبة مئينيّة لتزايد العدد، فتكون مائتين وهي حرف راء، أثبتها وعلّم عليها من القصيد أربعة وعشرين، فانتقل الأمر من ستّة وتسعين إلى الابتداء وهو أربعة وعشرون، فأضف إلى أربعة وعشرين خمسة، الدور، وأسقط واحدا تكون الجملة ثمانية وعشرين. أدخل بالنصف منها في بيت القصيد تقف على ثمانية، أثبت (2) وعلّم عليها وضع الدور التاسع، وعدده ثلاثة عشر الباقي واحد، اصعد في ضلع ثمانية بواحد. وليست نسبة العمل هنا كنسبتها في الدور السادس لتضاعف العدد، ولأنّه من النشأة الثانية، ولأنّه أوّل الثلث الثالث من مربّعات البروج وآخر الستّة الرابعة من المثلّثات. فاضرب ثلاثة عشر الّتي للدور في أربعة الّتي هي مثلّثات البروج السّابقة، الجملة اثنان وخمسون، أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف اثنين غباريّة، وإنّما هي مئينيّة لتجاوزها في العدد عن مرتبتي الآحاد والعشرات، فأثبته مائتين راء، وعلّم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين، وأضف إلى ثلاثة عشر، الدور، واحد الأسّ، وأدخل بأربعة عشر في بيت القصيد تبلغ ثمانية، فعلّم عليها ثمانية وعشرين، واطرح من أربعة عشر سبعة يبقى سبعة اضرب على حرفين من الأوتار، وأدخل بسبعة تقف على حرف لام، أثبته وعلّم عليه من البيت. وضع الدور العاشر وعدده تسعة، وهذا ابتداء المثلّثة الرابعة، واصعد في ضلع ثمانية بتسعة، تكون خلاء، فاصعد بتسعة ثانية تصير في السابع من الابتداء. اضرب تسعة في أربعة لصعودنا بتسعتين، وإنّما كانت تضرب في اثنين، وأدخل في الجدول بستّة وثلاثين تقف على أربعة زماميّة وهي عشريّة، فأخذناها أحاديّة لقلّة الأدوار، فأثبت حرف دال، وإن أضفت إلى ستة وثلاثين واحد الأسّ كان حدّها من بيت القصيد، فعلّم عليها، ولو دخلت بالتّسعة لا غير من ضرب في صدر الجدول لوقف على ثمانية، فاطرح من ثمانية أربعة الباقي أربعة وهو المقصود. ولو دخلت في صدر الجدول بثمانية عشر الّتي هي تسعة في اثنين لوقف على واحد زماميّ وهو عشريّ، فاطرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 منه اثنين تكرار التسعة، الباقي ثمانية نصفها المطلوب. ولو دخلت في صدر الجدول بسبعة وعشرين بضربها في ثلاثة لوقعت على عشرة زماميّة، والعمل واحد. ثمّ أدخل بتسعة في بيت القصيد وأثبت ما خرج وهو ألف، ثمّ اضرب تسعة في ثلاثة الّتي هي مركّب تسعة الماضية وأسقط واحدا وأدخل في صدر الجدول بستة وعشرين، وأثبت ما خرج وهو مائتان بحرف راء وعلّم عليه من بيت القصيد ستة وتسعين. واضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور الحادي عشر وله سبعة عشر الباقي خمسة، اصعد في ضلع ثمانية بخمسة وتحسب ما تكرّر عليه المشي في الدور الأوّل، وأدخل في صدر الجدول بخمسة تقف على خال، فخذ ما قابله من السّطح وهو واحد، فأدخل بواحد في بيت القصيد تكن سين، أثبته وعلّم عليه أربعة. ولو يكون الوقف في الجدول على بيت عامر لأثبتنا الواحد ثلاثة. وأضعف سبعة عشر بمثلها وأسقط واحدا وأضعفها بمثلها وزدها أربعة تبلغ سبعة وثلاثين، أدخل بها في الأوتار تقف على ستّة أثبتها وعلّم عليها، وأضعف خمسة بمثلها. وأدخل في البيت تقف على لام أثبتها وعلّم عليها عشرين، واضرب على حرفين من الأوتار. وضع الدور الثاني عشر وله ثلاثة عشر الباقي واحد، اصعد في ضلع ثمانية بواحد، وهذا الدور آخر الأدوار وآخر الاختراعين وآخر المربّعات الثلاثيّة وآخر المثلّثات الرباعيّة. والواحد في صدر الجدول يقع على ثمانين زماميّة، وإنّما هي آحاد ثمانية، وليس معنا من الأدوار إلّا واحد، فلو زاد عن أربعة من مربّعات اثني عشر أو ثلاثة من مثلّثات اثني عشر لكانت (ح) ، وإنّما هي (د) ، فأثبتها وعلّم عليها من بيت القصيد أربعة وسبعين، ثمّ انظر ما ناسبها من السّطح تكن خمسة، أضعفها بمثلها للأسّ تبلغ عشرة، أثبت (ى) وعلّم عليها، وانظر في أيّ المراتب وقعت: وجدناها في الرابعة، دخلنا بسبعة في حروف الأوتار، وهذا المدخل يسمّى التوليد الحرفيّ فكانت (ف) ، أثبتها وأضف إلى سبعة واحد الدور، الجملة ثمانية. أدخل بها في الأوتار تبلغ (س) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 أثبتها وعلّم عليها ثمانية، واضرب ثمانية في ثلاثة الزائدة على عشرة الدور، فإنّها آخر مربّعات الأدوار بالمثلّثات تبلغ أربعة وعشرين، أدخل بها في بيت القصيد وعلّم على ما يخرج منها وهو مائتان وعلامتها ستّة وتسعون، وهو نهاية الدور الثاني في الأدوار الحرفيّة، واضرب على حرفين من الأوتار وضع النتيجة الأولى ولها تسعة. وهذا العدد يناسب أبدا الباقي من حروف الأوتار بعد طرحها أدوارا وذلك تسعة، فاضرب تسعة في ثلاثة الّتي هي زائدة على تسعين من حروف الأوتار، وأضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ ثمانية وعشرين، فأدخل بها في حروف الأوتار تبلغ ألفا، أثبته وعلّم عليه ستّة وتسعين. وإن ضربت سبعة الّتي هي أدوار الحروف التسعينيّة في أربعة وهي الثلاثة الزائدة على تسعين، والواحد الباقي من الدور الثاني عشر كان كذلك، واصعد في ضلع ثمانية بتسعة وأدخل في الجدول بتسعة تبلغ اثنين زماميّة. واضرب تسعة فيما ناسب من السّطح، وذلك ثلاثة، وأضف لذلك سبعة، عدد الأوتار الحرفيّة، واطرح واحدا الباقي من دور اثني عشر تبلغ ثلاثة وثلاثين، أدخل بها في البيت تبلغ خمسة، فأثبتها وأضف تسعة بمثلها وأدخل في صدر الجدول بثمانية عشر، وخذ ما في السّطح وهو واحد، أدخل به في حروف الأوتار تبلغ (م) أثبته وعلّم عليه، واضرب على حرفين من الأوتار. وضع النتيجة الثانية ولها سبعة عشر الباقي خمسة، فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة واضرب خمسة في ثلاثة الزائدة على تسعين تبلغ خمسة عشر، أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تكن تسعة، وأدخل بستّة عشر في بيت القصيد تبلغ (ت) أثبته وعلّم عليه أربعة وستّين، وأضف إلى خمسة الثلاثة الزائدة على تسعين، وزد واحدا الباقي من الدور الثاني عشر يكن تسعة، أدخل بها في صدر الجدول تبلغ ثلاثين زماميّة، وانظر ما في السّطح تجد واحدا أثبته وعلّم عليه من بيت القصيد وهو التاسع أيضا من البيت، وأدخل بتسعة في صدر الجدول تقف على ثلاثة وهي عشرات، فأثبت (لام) وعلّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 عليه وضع النتيجة الثالثة وعددها ثلاثة عشر الباقي واحد. فانقل في ضلع ثمانية بواحد وأضف إلى ثلاثة عشر الثلاثة الزائدة على التسعين، وواحد الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ سبعة عشر، وواحد النتيجة تكن ثمانية عشر، أدخل بها في حروف الأوتار تكن لا ما أثبتها فهذا آخر العمل. والمثال في هذا السّؤال السابق: أردنا أن نعلم أنّ هذه الزايرجة علم محدث أو قديم، بطالع أوّل درجة من القوس، أثبتنا حروف الأوتار، ثمّ حروف السّؤال، ثمّ الأصول، وهي عدّة الحروف ثلاثة وتسعون أدوارها سبعة الباقي منها تسعة، الطالع واحد، سلطان القوس أربعة، الدور الأكبر واحد، درج الطالع مع الدور اثنان، ضرب الطالع مع الدور في السلطان ثمانية، إضافة السلطان للطالع خمسة بيت القصيد. سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطه الجد مثلا حروف الأوتار: ص ط هـ ر ث ك هـ م ص ص ون ب هـ س أن ل م ن ص ع ف ص ور س ك ل م ن ص ع ف ض ق ر س ت ث خ ذ ظ غ ش ط ى ع ح ص ر وح ر وح ل ص ك ل م ن ص أب ج د هـ وز ح ط ى. (حروف السؤال) أل ز أى ر ج ة ع ل م م ح د ث أم ق د ى م الدور الأوّل 9 الدور الثاني 17 الباقي 5 الدور الثالث 13 الباقي 1 الدور الرابع 9 الدور الخامس 17 الباقي 5 الدور السادس 13 الباقي 1 الدور السابع 9 الدور الثامن 17 الباقي 5 الدور التاسع 13 الباقي 1 الدور العاشر 13 الدور الحادي عشر 17 الباقي 5 الدور الثاني عشر 13 الباقي 1 النتيجة الأولى 9 النتيجة الثانية 17 الباقي 5 النتيجة الثالثة 13 الباقي 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 ف وز أوس ر ر أأ س أب أر ق أع أر ص ح ر ح ل د أر س أل د ى وس ر أد م ن أل ل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 دورها على خمسة وعشرين ثم على ثلاثة وعشرين مرّتين ثم على واحد وعشرين مرّتين إلى أن تنتهي إلى الواحد من آخر البيت وتنقل الحروف جميعا والله أعلم ن ف ر وح ر وح أل ود س أد ر ر س ر هـ أل د ر ى س وأ ن س د ر وأ ب لا أم ر ب وأ أل ع ل ل. هذا آخر الكلام في استخراج الأجوبة من زايرجة العالم منظومة. وللقوم طرائق أخرى من غير الزايرجة يستخرجون بها أجوبة المسائل غير منظومة. وعندهم أنّ السرّ في استخراج الجواب منظوما من الزايرجة، إنّما هو مزجهم بيت مالك بن وهيب وهو: سؤال عظيم الخلق البيت، ولذلك يخرج الجواب على رويّة. وأمّا الطرق الأخرى فيخرج الجواب غير منظوم. فمن طرائقهم في استخراج الأجوبة ما ننقله عن بعض المحقّقين منهم. 2- فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية اعلم أرشدنا الله وإيّاك أنّ هذه الحروف أصل الأسئلة في كلّ قضيّة، وإنّما تستنتج الأجوبة على تجزئته بالكليّة، وهي ثلاثة وأربعون حرفا كما ترى والله علّام الغيوب أول أع ظ س أل م خ ى د ل ز ق ت أر ذ ص ف ن غ ش أك ك ى ب م ض ب ح ط ل ج هـ د ن ل ث أ. وقد نظّمها بعض الفضلاء في بيت جعل فيه كلّ حرف مشدّد من حرفين وسمّاه القطب فقال: سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شكّ ضبطه الجدّ مثلا فإذا أردت استنتاج المسألة فاحذف ما تكرّر من حروفها وأثبت ما فضّل منه. ثمّ احذف من الأصل وهو القطب لكلّ حرف فضل من المسألة حرفا يماثله، وأثبت ما فضّل منه. ثمّ امزج الفضلين في سطر واحد تبدأ بالأوّل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 فضله، والثاني من فضل المسألة. وهكذا إلى أن يتمّ الفضلان أو ينفد أحدهما قبل الآخر، فتضع البقيّة على ترتيبها. فإذا كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج موافقا لعدد حروف الأصل قبل الحذف فالعمل صحيح، فحينئذ تضيف إليها خمس نونات لتعدّل بها الموازين الموسيقيّة وتكمل الحروف ثمانية وأربعين حرفا، فتعمّر بها جدولا مربّعا يكون آخر ما في السّطر الأوّل أوّل ما في السّطر الثاني، وتنقل البقيّة على حالها، وهكذا إلى أن تتمّ عمارة الجدول. ويعود السطر الأوّل بعينه وتتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة، ثمّ تخرج وتر كلّ حرف بقسمة مربّعة على أعظم جزء يوجد له، وتضع الوتر مقابلا لحرفه، ثمّ تستخرج النسب العنصريّة للحروف الجدوليّة، وتعرف قوّتها الطبيعيّة وموازينها الرّوحانيّة وغرائزها النفسانيّة وأسوسها الأصليّة من الجدول الموضوع لذلك، وهذه صورته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 ثمّ تأخذ وتر كلّ حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة، واحذر ما يلي الأوتاد وكذلك السّواقط لأنّ نسبتها مضطربة. وهذا الخارج هو أوّل رتب السّريان. ثمّ تأخذ مجموع العناصر وتحطّ منها أسوس المولدات، يبقى أسّ عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونيّة، فتحمل عليه بعض المجرّدات عن الموادّ وهي عناصر الأمداد، يخرج أفق النّفس الأوسط، وتطرح أوّل رتب السّريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسّط. وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركّبة. ثمّ تضرب عالم التوسّط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى، فتحمل عليه أوّل رتب السّريان، ثمّ تطرح من الرابع أوّل عناصر الأمداد الأصليّ يبقى ثالث رتبة السّريان، فتضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع مرتبة السّريان، يخرج أوّل عالم التفصيل، والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، والثالث في الثالث يخرج ثالث عالم التفصيل، والرابع في الرابع يخرج رابع عالم التفصيل. فتجمع عوالم التفصيل وتحطّ من عالم الكلّ، تبقى العوالم المجرّدة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأوّل، ويقسم المنكسر على الأفق الأوسط يخرج الجزء الثاني، وما انكسر فهو الثالث، ويتعيّن الرابع هذا في الرّباعيّ. وإن شئت أكثر من الرّباعي فتستكثر من عوالم التّفصيل ومن رتب السّريان ومن الأوفاق بعد الحروف. والله يرشدنا وإياك. وكذلك إذا قسّم عالم التجريد على أوّل رتب السّريان خرج الجزء الأوّل من عالم التركيب، وكذلك إلى نهاية الرتبة الأخيرة من عالم الكون. فافهم وتدبّر والله المرشد المعين. ومن طريقهم أيضا في استخراج الجواب، قال بعض المحقّقين منهم: اعلم أيّدنا الله وإيّاك بروح منه، أنّ علم الحروف جليل يتوصّل العالم به لما لا يتوصّل بغيره من العلوم المتداولة بين العالم، وللعمل به شرائط تلتزم. وقد يستخرج العالم أسرار الخليقة وسرائر الطّبيعة، فيطّلع بذلك على نتيجتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 الفلسفة، أعني السّيميا وأختها، ويرفع له حجاب المجهولات ويطّلع بذلك على مكنون خبايا القلوب. وقد شهدت جماعة بأرض المغرب، ممّن اتّصل بذلك، فأظهر الغرائب وخرق العوائد وتصرّف في الوجود بتأييد الله. واعلم أنّ ملاك كلّ فضيلة الاجتهاد وحسن الملكة مع الصّبر، مفتاح كلّ خير، كما أنّ الخرق والعجلة رأس الحرمان، فأقول: إذا أردت أن تعلم قوّة كلّ حرف من حروف الفابيطوس أعني أبجد إلى آخر العدد، وهذا أوّل مدخل من علم الحروف، فانظر ما لذلك الحرف من الأعداد، فتلك الدرجة الّتي هي مناسبة للحرف هي قوّته في الجسمانيّات. ثمّ اضرب العدد في مثله تخرج لك قوّته في الرّوحانيّات وهي وتره. وهذا في الحروف المنقوطة لا يتمّ بل يتمّ لغير المنقوطة، لأنّ المنقوطة منها مراتب لمعان يأتي عليها البيان فيما بعد. واعلم أنّ لكلّ شكل من أشكال الحروف شكلا في العالم العلويّ أعني الكرسيّ، ومنها المتحرّك والسّاكن والعلويّ والسّفليّ كما هو مرقوم في أماكنه من الجداول الموضوعة في الزيارج. واعلم أنّ قوى الحروف ثلاثة أقسام: الأوّل وهو أقلّها قوّة تظهر بعد كتابتها، فتكون كتابته لعالم روحانيّ مخصوص بذلك الحرف المرسوم، فمتى خرج ذلك الحرف بقوّة نفسانيّة وجمع همّة كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام. الثاني قوّتها في الهيئة الفكريّة وذلك ما يصدر عن تصريف الرّوحانيّات لها، فهي قوّة في الرّوحانيّات العلويّات، وقوّة شكليّة في عالم الجسمانيّات. الثالث وهو يجمع الباطن، أعني القوّة النفسانيّة على تكوينه، فتكون قبل النطق به صورة في النفس، بعد النطق به صورة في الحروف وقوّة في النطق. وأمّا طبائعها فهي الطبيعيّات المنسوبة للمتولّدات في الحروف وهي الحرارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 واليبوسة، والحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة والبرودة والرطوبة، فهذا سرّ العدد اليمانيّ، والحرارة جامعة للهواء والنار وهما: (أهـ ط م ف ش ذ ج ز ك س ق ث ظ) ، والبرودة جامعة للهواء والماء (ب وى ن ص ت ض د ح ل ع ر خ غ) واليبوسة جامعة للنار والأرض (أهـ ط م ف ش ذ ب وى ن ص ت ض) [1] فهذه نسبة حروف الطبائع وتداخل أجزاء بعضها في بعض. وتداخل أجزاء العالم فيها علويّات وسفليّات بأسباب الأمّهات الأوّل، أعني الطبائع الأربع المنفردة، فمتى أردت استخراج مجهول من مسألة ما، فحقّق طالع السائل أو طالع مسألته وأستنطق حروف أوتارها الأربعة: الأوّل والرابع والسابع والعاشر مستوية مرتّبة، واستخرج أعداد القوى والأوتار كما سنبيّن، واحمل وانسب واستنتج الجواب يخرج لك المطلوب، إمّا بصريح اللّفظ أو بالمعنى. وكذلك في كلّ مسألة تقع لك. بيانه: إذا أردت أن تستخرج قوى حروف الطالع، مع اسم السّائل والحاجة، فاجمع أعدادها بالجمّل الكبير، فكان الطالع الحمل رابعه السرطان سابعه الميزان عاشره الجدي، وهو أقوى هذه الأوتاد، فأسقط من كلّ برج حرفي التعريف، وانظر ما يخصّ كلّ برج من الأعداد المنطقة الموضوعة في دائرتها، واحذف أجزاء الكسر في النسب الاستنطاقيّة كلّها وأثبت تحت كلّ حرف ما يخصّه من ذلك، ثمّ أعداد حروف العناصر الأربعة وما يخصّها كالأوّل. وارسم ذلك كلّه أحرفا ورتّب الأوتاد والقوى والقرائن سطرا ممتزجا. وكسّر واضرب ما يضرب لاستخراج الموازين، واجمع واستنتج الجواب يخرج لك الضمير وجوابه. مثاله افرض أنّ الطالع الحمل كما تقدّم، ترسم (ح م ل) : فللحاء من العدد ثمانيّة لها النصف والربع والثمن (د ب أ) الميم لها من العدد أربعون، لها النصف والربع والثمن والعشر ونصف العشر إذا أردت التدقيق (م ك ى هـ د ب) اللّام لها من العدد ثلاثون، لها النصف والثلثان والثلث والخمس والسدس والعشر   [1] علق الهوريني هنا بقوله: لعل هذه عبارة بعض المشارقة. لأن هذا ترتيب المشارقة. لا ترتيب المغاربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 (ك ى وهـ ج) . وهكذا تفعل بسائر حروف المسألة والاسم من كلّ لفظ يقع لك. وأمّا استخراج الأوتار فهو أن تقسم مربّع كلّ حرف على أعظم جزء يوجد له. مثاله: حرف (د) له من الأعداد أربعة مربّعها ستّة عشر، اقسمها على أعظم جزء يوجد لها وهو اثنان يخرج وترا لدال ثمانية. ثمّ تضع كلّ وتر مقابلا لحرفه. ثمّ تستخرج النسب العنصريّة، كما تقدّم في شرح الاستنطاق، ولها قاعدة تطّرد في استخراجها من طبع الحروف وطبع البيت الّذي يحلّ فيه من الجدول كما ذكر الشيخ لمن عرف الاصطلاح. والله أعلم. فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية بالقوانين الحرفية وذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علّته، وما الموافق لبرئه منه، فمر السّائل أن يسمّي ما شاء من الأشياء على اسم العلّة المجهولة، لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك. ثمّ أستنطق الاسم مع اسم الطالع والعناصر والسائل واليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسألة، وإلّا اقتصرت على الاسم الّذي سمّاه السّائل، وفعلت به كما نبيّن. فأقول مثلا: سمّى السائل فرسا فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة. بيانه: أنّ للفاء من العدد ثمانين ولها (م ك ي ح ب) ثمّ الرّاء لها من العدد مائتان (ق ن ك ى) ثمّ السّين لها من العدد ستّون ولها (م ل ك) فالواو عدد تام له (د ج ب) والسّين مثله ولها (م ل ك) . فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين، فاحكم لأكثرهما حروفا بالغلبة على الآخر، ثمّ احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب وحروفه دون بسط، وكذلك اسم الطالب واحكم للأكثر والأقوى بالغلبة. وصفة قوى استخراج العناصر [1] فتكون الغلبة هنا للتراب وطبعه البرودة، واليبوسة طبع السوداء، فتحكم   [1] بياض بالأصل مقدار ثلاثة أسطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 على المريض بالسّوداء. فإذا ألفت من حروف الاستنطاق كلاما على نسبة تقريبيّة خرج موضع الوجع في الحلق، ويوافقه من الأدوية حقنة، ومن الأشربة شراب اللّيمون. هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس وهو مثال تقريبيّ مختصر. وأمّا استخراج قوى العناصر من الأسماء العلميّة فهو أن تسمي مثلا محمّدا، فترسم أحرفه مقطّعة، ثمّ تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك، يخرج لك ما في كلّ عنصر من الحروف والعدد. ومثاله: فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء، لأنّ عدد حروفه عشرون حرفا، فجعلت له الغلبة على بقيّة عناصر الاسم المذكور، وهكذا يفعل بجميع الأسماء. حينئذ تضاف إلى أوتارها، أو للوتر المنسوب للطّالع في الزايرجة، أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب، الّذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة وهو هذا: سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطه الجدّ مثلا وهو وتر مشهور لاستخراج المجهولات، وعليه كان يعتمد ابن الرقّام وأصحابه. وهو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعيّة. وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطّعا ممتزجا بألفاظ السّؤال على قانون صنعة التكسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 وعدّة حروف هذا الوتر أعني البيت ثلاثة وأربعون حرفا، لأنّ كلّ حرف مشدّد من حرفين. ثمّ تحذف ما تكرّر عند المزج من الحروف ومن الأصل، لكلّ حرف فضل من المسألة حرف يماثله، وتثبّت الفضلين سطرا ممتزجا بعضه ببعض الحروف. الأوّل من فضلة القطب والثاني من فضلة السّؤال، حتّى يتمّ الفضلتان جميعا، فتكون ثلاثة وأربعين، فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية وأربعين، لتعدّل بها الموازين الموسيقيّة. ثمّ تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصليّ قبل الحذف فالعمل صحيح، ثمّ عمّر بما مزجت جدولا مربّعا يكون آخر ما في السّطر الأوّل أوّل ما في السّطر الثاني. وعلى هذا النّسق حتى يعود السّطر الأوّل بعينه، وتتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة. ثمّ تخرج وتر كلّ حرف كما تقدّم تضعه مقابلا لحرفه، ثمّ تستخرج النّسب العنصريّة للحروف الجدوليّة، لتعرف قوّتها الطبيعيّة وموازينها الروحانيّة وغرائزها النفسانيّة وأسوسها الأصليّة من الجدول الموضوع لذلك. وصفة استخراج النسب العنصريّة هو أن تنظر الحرف الأوّل من الجدول ما طبيعته وطبيعة البيت الّذي حلّ فيه، فإن اتفقت فحسن، وإلّا فاستخرج بين الحرفين نسبة. ويتّسع هذا القانون في جميع الحروف الجدوليّة. وتحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينه كما هو مقرّر في دوائرها الموسيقيّة. ثمّ تأخذ وتر كلّ حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدّم. واحذر ما يلي الأوتاد. وكذلك السواقط لأنّ نسبتها مضطربة. وهذا الّذي يخرج لك هو أوّل مراتب السريان. ثمّ تأخذ مجموع العناصر وتحطّ منها أسوس المولّدات يبقى أسّ عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونيّة. فتحمل عليه بعض المجرّدات عن الموادّ وهي عناصر الإمداد، يخرج أفق النفس الأوسط. وتطرح أوّل رتب السريان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 مجموع العناصر يبقى عالم التّوسّط. وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركّبة. ثمّ تضرب عالم التوسّط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى، فتحمل عليه أوّل رتب السريان، ثمّ تطرح من الرابع أوّل عناصر الإمداد الأصليّ يبقى ثالث رتبة السريان. ثمّ تضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدأ في رابع رتب السريان يخرج أوّل عالم التفصيل، والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، وكذلك الثالث والرابع، فتجمع عوالم التفصيل وتحطّ من عالم الكلّ، تبقى العوالم المجرّدة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأوّل. ومن هنا يطّرد العمل في التّامة. وله مقامات في كتب ابن وحشيّة والبونيّ وغيرهما. وهذا التدبير يجري على القانون الطبيعيّ الحكميّ في هذا الفنّ وغيره من فنون الحكمة الإلهيّة، وعليه مدار وضع الزيارج الحرفيّة والصّنعة الإلهيّة والنيرجات الفلسفيّة. والله الملهم وبه المستعان وعليه التكلان، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الفصل الثلاثون في علم الكيمياء وهو علم ينظر في المادّة الّتي يتمّ بها كون الذّهب والفضّة بالصّناعة ويشرح العمل الّذي يوصل إلى ذلك فيتصفّحون المكوّنات كلّها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلّهم يعثرون على المادّة المستعدّة لذلك حتّى من العضلات الحيوانيّة كالعظام والرّيش والبيض والعذرات فضلا عن المعادن. ثمّ يشرح الأعمال الّتي تخرج بها تلك المادّة من القوّة إلى الفعل مثل حلّ الأجسام إلى أجزائها الطّبيعيّة بالتّصعيد والتّقطير وجمد الذّائب منها بالتّكليس وإمهاء الصّلب بالقهر والصّلابة وأمثال ذلك. وفي زعمهم أنّه يخرج بهذه الصّناعات كلّها جسم طبيعيّ يسمّونه الإكسير. وأنّه يلقى منه على الجسم المعدنيّ المستعدّ لقبول صورة الذّهب أو الفضّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرّصاص والقصدير والنّحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهبا إبريزا. ويكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا في اصطلاحاتهم بالرّوح وعن الجسم الّذي يلقى عليه بالجسد. فشرح هذه الاصطلاحات وصورة هذا العمل الصّناعيّ الّذي يقلب هذه الأجساد المستعدّة إلى صورة الذّهب والفضّة هو علم الكيمياء. وما زال النّاس يؤلّفون فيها قديما وحديثا. وربّما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها. وإمام المدوّنين فيها جابر بن حيّان حتّى إنّهم يخصّونها به فيسمّونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلّها شبيهة بالألغاز. وزعموا أنّه لا يفتح مقفلها إلّا من أحاط علما بجميع ما فيها. والطّغراءيّ من حكماء المشرق المتأخّرين له فيها دواوين ومناظرات مع أهلها وغيرهم من الحكماء. وكتب فيها مسلمة المجريطيّ من حكماء الأندلس كتابه الّذي سمّاه رتبة الحكيم وجعله قرينا لكتابه الآخر في السّحر والطّلسمات الّذي سمّاه غاية الحكيم. وزعم أنّ هاتين الصّناعتين هما نتيجتان للحكمة وثمرتان للعلوم ومن لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع. وكلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذّر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك. ونحن نذكر سبب عدو لهم إلى هذه الرّموز والألغاز. ولابن المغيربيّ من أئمّة هذا الشّأن كلمات شعريّة على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشّعر ملغوزة كلّها لغز الأحاجي والمعاياة فلا تكاد تفهم. وقد ينسبون للغزاليّ رحمه الله بعض التّآليف فيها وليس بصحيح لأنّ الرّجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطإ ما يذهبون إليه حتّى ينتحله. وربّما نسبوا بعض المذاهب والأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم ومن المعلوم البيّن أنّ خالدا من الجيل العربيّ والبداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم والصّنائع بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنيّة على معرفة طبائع المركّبات وأمزجتها وكتب النّاظرين في ذلك من الطّبيعيّات والطّبّ لم تظهر بعد ولم تترجم اللهمّ إلّا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصّناعيّة تشبّه باسمه فممكن. وأنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السّمح في هذه الصّناعة وكلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدلّ من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقّه من التّأمّل قال ابن بشرون بعد صدر من الرّسالة خارج عن الغرض: «والمقدّمات الّتي لهذه الصّناعة الكريمة قد ذكرها الأوّلون واقتصّ جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن وتخلّق الأحجار والجواهر وطباع البقاع والأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها ولكن أبيّن لك من هذه الصّنعة ما يحتاج إليه فتبدأ بمعرفته فقد قالوا: ينبغي لطلّاب هذا العلم أن يعلموا أوّلا ثلاث خصال: أوّلها هل تكون؟ والثانية من أيّ تكون؟ والثّالثة من أيّ كيف تكون؟ فإذا عرف هذه الثّلاثة وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه وبلغ نهايته من هذا العلم وأمّا البحث عن وجودها والاستدلال عن تكوّنها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير. وأمّا من أيّ شيء تكون فإنّما يريدون بذلك البحث عن الحجر الّذي يمكنه العمل وإن كان العمل موجودا من كلّ شيء بالقوّة لأنّها من الطّبائع الأربع منها تركّبت ابتداء وإليها ترجع انتهاء ولكنّ من الأشياء ما يكون فيه بالقوّة ولا يكون بالفعل وذلك أنّ منها ما يمكن تفصيلها تعالج وتدبّر وهي الّتي تخرج من القوّة إلى الفعل والّتي لا يمكن تفصيلها لا تعالج ولا تدبّر لأنّها فيها بالقوّة فقط وإنّما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض وفضل قوّة الكبير منها على الصّغير. فينبغي لك وفّقك الله أن تعرف أوفق الأحجار المنفضلة الّتي يمكن فيها العمل وجنسه وقوّته وعمله وما يدبّر من الحلّ والعقد والتنقية والتّكليس والتنشيف والتّقليب فإنّ من لم يعرف هذه الأصول الّتي هي عماد هذه الصّنعة لم ينجح ولم يظفر بخير أبدا. وينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أو يكتفى به وحده وهل هو واحد في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التّدبير واحدا فسمّي حجرا. وينبغي لك أن تعلم كيفيّة عمله وكميّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 أوزانه وأزمانه وكيف تركيب الرّوح فيه وإدخال النّفس عليه؟ وهل تقدر النّار على تفصيلها منه بعد تركيبها؟ فإن لم تقدر فلأيّ علّة وما السّبب الموجب لذلك؟ فإنّ هذا هو المطلوب فافهم. واعلم أنّ الفلاسفة كلّها مدحت النّفس وزعمت أنّها المدبّرة للجسد والحاملة له والدّافعة عنه والفاعلة فيه. وذلك أنّ الجسد إذا خرجت النّفس منه مات وبرد فلم يقدر على الحركة والامتناع من غيره لأنّه لا حياة فيه ولا نور. وإنّما ذكرت الجسد والنّفس لأنّ هذه الصّفات شبيهة بجسد الإنسان الّذي تركيبه على الغذاء والعشاء وقوامه وتمامه بالنّفس الحيّة النّورانيّة الّتي بها يفعل العظائم والأشياء المتقابلة الّتي لا يقدر عليها غيرها بالقوّة الحيّة الّتي فيها. وإنّما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه ولو اتّفقت طبائعه لسلمت من الأعراض والتّضادّ ولم تقدر النّفس على الخروج من بدنه ولكان خالدا باقيا. فسبحان مدبّر الأشياء تعالى. واعلم أنّ الطّبائع الّتي يحدث عنها هذا العمل كيفيّة دافعة في الابتداء فيضيّة محتاجة إلى الانتهاء وليس لها إذا صارت في هذا الحدّ أن تستحيل إلى ما منه تركّبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأنّ طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضا وصارت شيئا واحدا شبيها بالنّفس في قوّتها وفعلها وبالجسد في تركيبه ومجسّته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها. فيا عجبا من أفاعيل الطّبائع إنّ القوّة للضّعيف الّذي يقوى على تفصيل الأشياء وتركيبها وتمامها فلذلك قلت قويّ وضعيف. وإنّما وقع التّعبير والفناء في التّركيب الأوّل للاختلاف وعدم ذلك في الثّاني للاتّفاق. وقد قال بعض الأوّلين التّفصيل والتّقطيع في هذا العمل حياة وبقاء والتّركيب موت وفناء. وهذا الكلام دقيق المعنى لأنّ الحكيم أراد بقوله حياة وبقاء خروجه من العدم إلى الوجود لأنّه ما دام على تركيبه الأوّل فهو فان لا محالة فإذا ركّب التّركيب الثّاني عدم الفناء. والتّركيب الثّاني لا يكون إلّا بعد التّفصيل والتّقطيع فإذا التّفصيل والتّقطيع في هذا العمل خاصّة. فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصّورة لأنّه قد صار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 في الجسد بمنزلة النّفس الّتي لا صورة لها وذلك أنّه لا وزن له فيه وسترى ذلك إن شاء الله تعالى وقد ينبغي لك أن تعلم أنّ اختلاط اللّطيف باللّطيف أهون من اختلاط الغليظ وإنّما أريد بذلك التّشاكل في الأرواح والأجساد لأنّ الأشياء تتّصل بأشكالها. وذكرت لك ذلك لتعلم أنّ العمل أوفق وأيسر من الطّبائع اللّطائف الرّوحانيّة منها من الغليظة الجسمانيّة. وقد يتصوّر في العقل أنّ الأحجار أقوى وأصبر على النّار من الأرواح كما ترى أنّ الذّهب والحديد والنّحاس أصبر على النّار من الكبريت والزّئبق وغيرهما من الأرواح فأقول إنّ الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلمّا أصابها حرّ الكيان قلبها أجسادا لزجة غليظة فلم تقدر النّار على أكلها لإفراط غلظها وتلزّجها. فإذا أفرطت النّار عليها صيّرتها أرواحا كما كانت أوّل خلقها. وإنّ تلك الأرواح اللّطيفة إذا أصابتها النّار أبقت ولم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك أن تعلم ما صيّر الأجساد في هذه الحالة وصيّر الأرواح في هذا الحال فهو أجلّ ما تعرفه. أقول إنّما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها ولطافتها. وإنّما اشتعلت لكثرة رطوبتها ولأنّ النّار إذا أحسّت بالرّطوبة تعلّقت بها لأنّها هوائيّة تشاكل النّار ولا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى. وكذلك الأجساد إذا أحسّت بوصول النّار إليها لقلّة تلزّجها وغلظها وإنّما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنّها مركّبة من أرض وماء صابر على النّار فلطيفه متّحد بكثيفه لطول الطّبخ اللّين المازج للأشياء. وذلك أنّ كلّ متلاش إنّما يتلاشى بالنّار لمفارقة لطيفه من كثيفه ودخول بعضه في بعض على غير التّحليل والموافقة فصار ذلك الانضمام والتّداخل مجاورة لا ممازجة فسهل بذلك افتراقهما كالماء والدّهن وما أشبههما. وإنّما وصفت ذلك لتستدلّ به على تركيب الطّبائع وتقابلها فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظّك منها. وينبغي لك أن تعلم أنّ الأخلاط الّتي هي طبائع هذه الصّناعة موافقة بعضها لبعض مفصّلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه ولا في الكلّ كما قال الفيلسوف: إنّك إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 أحكمت تدبير الطّبائع وتآليفها ولم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه وقوامه إذ الطّبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبا فقد زاغ عنها ووقع في الخطإ. واعلم أنّ هذه الطّبيعة إذا حلّ لها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحلّ حتّى يشاكلها في الرّقّة واللّطافة انبسطت فيه وجرت معه حيثما جرى لأنّ الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط ولا تتزاوج وحلّ الأجساد لا يكون بغير الأرواح فافهم هداك الله هذا القول. واعلم هداك الله أنّ هذا الحلّ في جسد الحيوان هو الحقّ الّذي لا يضمحلّ ولا ينقص وهو الّذي يقلب الطّبائع ويمسكها ويظهر لها ألوانا وأزهارا عجيبة. وليس كلّ جسد يحلّ خلاف هذا هو الحلّ التّامّ لأنّه مخالف للحياة، وإنّما حلّه بما يوافقه ويدفع عنه حرق النّار، حتّى يزول عن الغلظ، وتنقلب الطّبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللّطافة والغلظ. فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التّحليل والتّلطيف ظهرت لها لك قوّة تمسك وتغوص وتقلب وتنفذ وكلّ عمل لا يرى له مصداق في أوّله فلا خير فيه. واعلم أنّ البارد من الطّبائع هو ييبّس الأشياء ويعقد رطوبتها والحارّ منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها وإنّما أفردت الحرّ والبرد لأنّهما فاعلان والرّطوبة واليبس منفعلان وعلى انفعال كلّ واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكوّن وإن كان الحرّ أكثر فعلا في ذلك من البرد لأنّ البرد ليس له نقل الأشياء ولا تحرّكها والحرّ هو علّة الحركة. ومتى ضعفت علّة الكون وهو الحرارة لم يتمّ منها شيء أبدا كما أنّه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثمّ برد أحرقته وأهلكته. فمن أجل هذه العلّة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كلّ ضدّ على ضدّه ويدفع عنه حرّ النّار. ولم يحذر الفلاسفة أكبر شيء إلّا من النّيران المحرقة. وأمرت بتطهير الطّبائع والأنفاس وإخراج دنسها ورطوبتها ونفي آفاتها وأوساخها عنها على ذلك استقام رأيهم وتدبيرهم فإنّما عملهم إنّما هو مع النّار أوّلا وإليها يصير أخيرا فلذلك قالوا: إياكم والنّيران المحرقات. وإنّما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 أرادوا بذلك نفي الآفات الّتي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه. وكذلك كلّ شيء إنّما يتلاشى ويفسد من ذاته لتضادّ طبائعه واختلافه فيتوسّط بين شيئين فلم يجد ما يقوّيه ويعينه إلّا قهرته الآفة وأهلكته. واعلم أنّ الحكماء كلّها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها وأقوى على قتال النّار إذا هي باشرتها عند الألفة أعني بذلك النّار العنصريّة فاعلمه. ولنقل الآن على الحجر الّذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه فمنهم من زعم أنّه في الحيوان ومنهم من زعم أنّه في النّبات ومنهم من زعم أنّه في المعادن ومنهم من زعم أنّه في الجميع. وهذه الدّعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها ومناظرة أهلها عليها لأنّ الكلام يطول جدّا وقد قلت فيما تقدّم إنّ العمل يكون في كلّ شيء بالقوّة لأنّ الطّبائع موجودة في كلّ شيء فهو كذلك فنريد أن تعلم من أيّ شيء يكون العمل بالقوّة والفعل فنقصد إلى ما قاله الحرّانيّ إنّ الصّبغ كلّه أحد صبغين: إمّا صبغ جسد كالزّعفران في الثّوب الأبيض حتّى يحول فيه وهو مضمحلّ منتقض التّركيب، والصّبغ الثاني تقليب الجوهر من جوهر نفسه إلى جوهر غيره ولونه كتقليب الشّجر بل التّراب إلى نفسه وقلب الحيوان والنّبات إلى نفسه حتّى يصير التّراب نباتا والنّبات حيوانا ولا يكون إلّا بالرّوح الحيّ والكيان الفاعل الّذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان. فإذا كان هذا هكذا فنقول إنّ العمل لا بدّ أن يكون إمّا في الحيوان وإمّا في النّبات وبرهان ذلك أنّهما مطبوعان على الغذاء وبه قوامهما وتمامهما. فأمّا النّبات فليس فيه ما في الحيوان من اللّطافة والقوّة ولذلك قلّ خوض الحكماء فيه. وأمّا الحيوان فهو آخر الاستحالات الثّلاث ونهايتها وذلك أنّ المعدن يستحيل نباتا والنّبات يستحيل حيوانا والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو الطف منه إلّا أن ينعكس راجعا إلى الغلظ وأنّه أيضا لا يوجد في العالم شيء تتعلّق فيه الرّوح الحيّة غيره والرّوح الطف ما في العالم ولم تتعلّق الرّوح بالحيوان إلّا بمشاكلته إيّاها. فأمّا الرّوح الّتي في النّبات فإنّها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 يسيرة فيها غلظ وكثافة وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها وغلظ جسد النّبات فلم يقدر على الحركة لغلظه وغلظ روحه. والرّوح المتحرّكة ألطف من الرّوح الكامنة كثيرا وذلك أنّ المتحرّكة لها قبول الغذاء والتّنقّل والتّنفّس وليس للكامنة غير قبول الغذاء وحده. ولا تجري إذا قيست بالرّوح الحيّة إلّا كالأرض عند الماء. كذلك النّبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى وأرفع وأهون وأيسر. فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرّب ما كان سهلا ويترك ما يخشى فيه عسرا. واعلم أنّ الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساما من الأمّهات الّتي هي الطّبائع والحديثة الّتي هي المواليد وهذا معروف متيسّر الفهم فلذلك قسمت الحكماء العناصر والمواليد أقساما حيّة وأقساما ميتة فجعلوا كلّ متحرّك فاعلا حيّا وكلّ ساكن مفعولا ميتا. وقسموا ذلك في جميع الأشياء وفي الأجساد الذّائبة وفي العقاقير المعدنيّة فسمّوا كلّ شيء يذوب في النّار ويطير ويشتعل حيّا وما كان على خلاف ذلك سمّوه ميتا فأمّا الحيوان والنّبات فسمّوا كلّ ما انفصل منها طبائع أربعا حيّا وما لم ينفصل سمّوه ميتا ثمّ إنّهم طلبوا جميع الأقسام الحيّة. فلم يجدوا لوفق هذه الصّناعة ممّا ينفصل فصولا أربعة ظاهرة للعيان ولم يجدوا غير الحجر الّذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتّى عرفوه وأخذوه ودبّروه فتكيّف لهم منه الّذي أرادوا. وقد يتكيّف مثل هذا في المعادن والنّبات بعد جمع العقاقير وخلطها ثمّ تفصل بعد ذلك. فأمّا النّبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مثل الأشنان [1] وأمّا المعادن ففيها أجساد وأرواح وأنفاس إذا مزجت ودبّرت كان منها ما له تأثير. وقد دبّرنا كلّ ذلك فكان الحيوان منها أعلى وأرفع وتدبيره أسهل وأيسر. فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان وطريق وجوده. إنّا بيّنّا أنّ الحيوان أرفع المواليد وكذا ما تركّب منه فهو ألطف منه   [1] الأشنان: ما تغسل به الأيدي من الحمض. والأشنة شيء نباتي يتكون على الشجر والصخور (القاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 كالنّبات من الأرض. وإنّما كان النّبات ألطف من الأرض لأنّه إنّما يكون من جوهره الصّافي وجسده اللّطيف فوجب له بذلك اللّطافة والرّقة. وكذا هذا الحجر الحيوانيّ بمنزلة النّبات في التّراب. وبالجملة فإنّه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعا غيره فافهم هذا القول فإنّه لا يكاد يخفى إلّا على جاهل بيّن الجهالة ومن لا عقل له. فقد أخبرتك ماهيّة هذا الحجر وأعلمتك جنسه وأنّا أبيّن لك وجوه تدابيره حتّى يكمل الّذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه» .. (التدبير على بركة الله) خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة والإنبيق وفصّل طبائعه الأربع الّتي هي النّار والهواء والأرض والماء وهي الجسد والصّبغ فإذا عزلت الماء عن التّراب والهواء عن النّار فارفع كلّ واحد في إنائه على حدة وخذ الهابط أسفل الإناء وهو الثّفل [1] فاغسله بالنّار الحارّة حتّى تذهب النّار عنه سواده ويزول غلظه وجفاؤه وبيّضه تبييضا محكما وطيّر عنه فضول الرّطوبات المستجنّة فيه فإنّه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه ولا وسخ ولا تضادّ. ثمّ اعمد إلى تلك الطّبائع الأوّل الصّاعدة منه فطهّرها أيضا من السّواد والتّضادّ وكرّر عليها الغسل والتّصعيد حتّى تلطف وترقّ وتصفو. فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الّذي عليه مدار العمل. وذلك أنّ التّركيب لا يكون إلّا بالتّزويج والتّعفين فأمّا التّزويج فهو اختلاط اللّطيف بالغليظ وأمّا التّعفين فهو التّمشية والسّحق حتّى يختلط بعضه ببعض ويصير شيئا واحدا لا اختلاف فيه ولا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء. فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللّطيف وتقوى الرّوح على مقابلة النّار وتصبر عليها وتقوى النّفس على الغوص في الأجساد والدّبيب فيها. وإنّما وجد ذلك بعد التّركيب لأنّ الجسد المحلول لمّا ازدوج بالرّوح مازجه بجميع أجزائه ودخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئا واحدا   [1] الثفل: ما يستقر في أسفل الشيء من كدرة (القاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 ووجب من ذلك أن يعرض للرّوح من الصّلاح والفساد والبقاء والثّبوت وما يعرض للجسد لموضع الامتزاج. وكذلك النّفس إذا امتزجت بهما ودخلت فيهما بخدمة التّدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الرّوح والجسد وصارت هي وهما شيئا واحدا لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلّيّ الّذي سلمت طبائعه واتّفقت أجزاؤه فإذا ألقى هذا المركّب الجسد المحلول وألحّ عليه النّار وأظهر ما فيه من الرّطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول. ومن شأن الرّطوبة الاشتعال وتعلّق النّار بها فإذا أرادت النّار التّعلّق بها منعها من الاتّحاد بالنّفس ممازجة الماء لها. فإنّ النّار لا تتّحد بالدّهن حتّى يكون خالصا. وكذلك الماء من شأنه النّفور من النّار. فإذا ألحّت عليه النّار وأرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطّيران فكان الجسد علّة لإمساك الماء والماء علّة لبقاء الدّهن والدّهن علّة لثبات الصّبغ والصّبغ علّة لظهور الدّهن وإظهار الدّهنيّة في الأشياء المظلمة الّتي لا نور لها ولا حياة فيها. فهذا هو الجسد المستقيم وهكذا يكون العمل. وهذه التّصفية الّتي سألت عنها وهي الّتي سمّتها الحكماء بيضة وإيّاها يعنون لا بيضة الدّجاج واعلم أنّ الحكماء لم تسمّها بهذا الاسم لغير معنى بل أشبهتها. ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوما وليس عنده غيري فقلت له: أيّها الحكيم الفاضل أخبرني لأيّ شيء سمّت الحكماء مركّب الحيوان بيضة؟ اختيارا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه؟ فقال: بل لمعنى غامض فقلت أيّها الحكيم وما ظهر لهم من ذلك من المنفعة والاستدلال على الصّناعة حتّى شبهوها وسمّوها بيضة؟ فقال: لشبهها وقرابتها من المركّب ففكّر فيه فإنّه سيظهر لك معناه. فبقيت بين يديه مفكّرا لا أقدر على الوصول إلى معناه. فلمّا رأى ما بي من الفكر وأنّ نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي وهزّني هزّة خفيفة وقال لي: يا أبا بكر ذلك للنّسبة الّتي بينهما في كميّة الألوان عند امتزاج الطّبائع وتأليفها. فلمّا قال ذلك انجلت عنّي الظّلمة وأضاء لي نور قلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 وقوي عقلي على فهمه فنهضت شاكرا الله عليه إلى منزلي وأقمت على ذلك شكلا هندسيّا يبرهن به على صحّة ما قاله مسلمة. وأنا واضعه لك في هذا الكتاب. مثال ذلك أنّ المركّب إذا تمّ وكمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركّب من طبيعة النّار إلى ما في البيضة من طبيعة النّار. وكذلك الطّبيعتان الأخريان: الأرض والماء فأقول: إنّ كلّ شيئين متناسبين على هذه الصّفة هما متشابهان. ومثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزوح فإذا أردنا ذلك فإنّا نأخذ أقلّ طبائع المركّب وهي طبيعة اليبوسة ونضيف إليها مثلها من طبيعة الرّطوبة وندبّرهما حتّى تنشّف طبيعة اليبوسة طبيعة الرّطوبة وتقبل قوّتها. وكأنّ في هذا الكلام رمزا ولكنّه لا يخفى عليك. ثمّ تحمّل عليهما جميعا مثليهما من الرّوح وهو الماء فيكون الجميع ستّة أمثال. ثمّ تحمل على الجميع بعد التّدبير مثلا من طبيعة الهواء الّتي هي النّفس وذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوّة. وتجعل تحت كلّ ضلعين من المركّب الّذي طبيعته محيطة بسطح المركّب طبيعتين فتجعل أوّلا الضّلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء وطبيعة الهواء وهما ضلعا (أح د) وسطح (ابجد) وكذلك الضّلعان المحيطان بسطح البيضة اللّذان هما الماء والهواء ضلعا (هزوح) فأقول إنّ سطح (ابجد) يشبه سطح (هزوح) طبيعة الهواء الّتي تسمّى نفسا وكذلك (بج) من سطح المركّب. والحكماء لم تسمّ شيئا باسم شيء إلّا لشبهة به. والكلمات الّتي سألت عن شرحها الأرض المقدّسة وهي المنعقدة من الطّبائع العلويّة والسّفليّة. والنّحاس هو الّذي أخرج سواده وقطّع حتّى صار هباء ثمّ حمّر بالزّاج حتّى صار نحاسيّا والمغنيسيا حجرهم الّذي تجمد فيه الأرواح وتخرجه الطّبيعة العلويّة الّتي تستجنّ فيها الأرواح لتقابل عليها النّار والفرفرة لون أحمر قان يحدثه الكيان. والرّصاص حجر له ثلاث قوى مختلفة الشّخوص ولكنّها متشاكلة ومتجانسة. فالواحدة روحانيّة نيّرة صافية وهي الفاعلة والثّانية نفسانيّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 وهي متحرّكة حسّاسة غير أنّها أغلظ من الأولى ومركزها دون مركز الأولى والثّالثة قوّة أرضيّة حاسّة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها وهي الماسكة الرّوحانيّة والنّفسانيّة جميعا والمحيطة بهما. وأمّا سائر الباقية فمبتدعة ومخترعة، إلباسا على الجاهل، ومن عرف المقدّمات استغنى عن غيرها. فهذا جميع ما سألتني عنه وقد بعثت به إليك مفسّرا ونرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك والسّلام. انتهى كلام ابن بشرون وهو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطيّ شيخ الأندلس في علوم الكيمياء والسّيمياء والسّحر في القرن الثّالث وما بعده. وأنت ترى كيف صرف ألفاظهم كلّها في الصّناعة إلى الرّمز والألغاز الّتي لا تكاد تبين ولا تعرف وذلك دليل على أنّها ليست بصناعة طبيعيّة. والّذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء وهو الحقّ الّذي يعضده الواقع أنّها من جنس آثار النّفوس الرّوحانيّة وتصرّفها في عالم الطّبيعة: إمّا من نوع الكرامة إن كانت النّفوس خيّرة أو من نوع السّحر إن كانت النّفوس شرّيرة فاجرة. فأمّا الكرامة فظاهرة وأمّا السّحر فلأنّ السّاحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان الماديّة بقوّته السّحريّة. ولا بدّ له مع ذلك عندهم من مادّة يقع فعله السّحريّ فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادّة التّراب أو الشّجر والنّبات وبالجملة من غير مادّتها المخصوصة بها، كما وقع لسحرة فرعون في الحبال والعصيّ وكما ينقل عن سحرة السّودان والهنود في قاصية الجنوب والتّرك في قاصية الشّمال أنّهم يسحرون الجوّ للأمطار وغير ذلك. ولمّا كانت هذه تخليقا للذّهب في غير مادّته الخاصّة به كان من قبيل السّحر والمتكلّمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر ومسلمة. ومن كان قبلهم من حكماء الأمم إنّما نحوا هذا المنحى ولهذا كان كلامهم فيه ألغازا حذرا عليها من إنكار الشّرائع على السّحر وأنواعه لا أنّ ذلك يرجع إلى الضّنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التّحقيق في ذلك. وانظر كيف سمّى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم وسمّى كتابه في السّحر والطّلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية وخصوص موضوع هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 لأنّ الغاية أعلى من الرّتبة فكأنّ مسائل الرّتبة بعض من مسائل الغاية وتشاركها في الموضوعات. ومن كلامه في الفنّين يتبيّن ما قلناه ونحن نبيّن فيما بعد غلط من يزعم أنّ مدارك هذا الأمر بالصّناعة الطّبيعيّة. والله العليم الخبير. الفصل الحادي والثلاثون في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها هذا الفصل وما بعده مهمّ لأنّ هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن. وضررها في الدّين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحقّ فيها. وذلك أنّ قوما من عقلاء النّوع الإنسانيّ زعموا أنّ الوجود كلّه الحسّيّ منه وما وراء الحسّيّ تدرك أدواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكريّة والأقيسة العقليّة وأنّ تصحيح العقائد الإيمانيّة من قبل النّظر لا من جهة السّمع فإنّها بعض من مدارك العقل. وهؤلاء يسمّون فلاسفة جمع فيلسوف وهو باللّسان اليونانيّ محبّ الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمّروا له وحوّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التّمييز بين الحقّ والباطل وسمّوه بالمنطق. ومحصّل ذلك أنّ النّظر الّذي يفيد تمييز الحقّ من الباطل إنّما هو للذّهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشّخصيّة فيجرّد منها أوّلا صور منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطّابع على جميع النّقوش الّتي ترسمها في طين أو شمع. وهذه مجرّدة من المحسوسات تسمّى المعقولات الأوائل. ثمّ تجرّد من تلك المعاني الكلّيّة إذا كانت مشتركة مع معان أخرى وقد تميّزت عنها في الذّهن فتجرّد منها معان أخرى وهي الّتي اشتركت بها. ثمّ تجرّد ثانيا إن شاركها غيرها وثالثا إلى أن ينتهي التّجريد إلى المعاني البسيطة الكلّيّة المنطبقة على جميع المعاني والأشخاص ولا يكون منها تجريد بعد هذا وهي الأجناس العالية. وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 المجرّدات كلّها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمّى المعقولات الثّواني. فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجرّدة وطلب تصوّر الوجود. كما هو فلا بدّ للذّهن من إضافة بعضها إلى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقليّ اليقينيّ ليحصل تصوّر الوجود تصوّرا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مرّ. وصنف التّصديق الّذي هو تلك الاضافة والحكم متقدّم عندهم على صنف التّصوّر في النّهاية والتّصوّر متقدّم عليه في البداءة والتّعليم لأنّ التّصوّر التّامّ عندهم هو غاية الطّلب الإدراكيّ وإنّما التّصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المنطقيّين من تقدّم التّصوّر وتوقّف التّصديق عليه فبمعنى الشّعور لا بمعنى العلم التّامّ وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو ثمّ يزعمون أنّ السّعادة في إدراك الموجودات كلّها ما في الحسّ وما وراء الحسّ بهذا النّظر وتلك البراهين. وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه وهو الّذي فرّعوا عليه قضايا أنظارهم أنّهم عثروا أوّلا على الجسم السّفليّ بحكم الشّهود والحسّ ثمّ ترقّى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النّفس من قبل الحركة والحسّ في الحيوانات ثمّ أحسّوا من قوى النّفس بسلطان العقل. ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السّماويّ بنحو من القضاء على أمر الذّات الإنسانيّة. ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان ثمّ أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر، تسع مفصّلة ذواتها جمل وواحد أوّل مفرد وهو العاشر. ويزعمون أنّ السّعادة في إدراك الوجود على هذا النّحو من القضاء مع تهذيب النّفس وتخلّقها بالفضائل وأنّ ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرّذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته وأنّ ذلك إذا حصل للنّفس حصلت لها البهجة واللّذّة وأنّ الجهل بذلك هو الشّقاء السّرمديّ وهذا عندهم هو معنى النّعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف في كلماتهم. وإمام هذه المذاهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 الّذي حصّل مسائلها ودوّن علمها وسطّر حججها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدونيّ من أهل مقدونية من بلاد الرّوم من تلاميذ أفلاطون وهو معلّم الإسكندر ويسمّونه المعلّم الأوّل على الإطلاق يعنون معلّم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذّبة وهو أوّل من رتّب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفّل له بقصدهم في الإلهيّات ثمّ كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتّبع فيها رأيه حذو النّعل بالنّعل إلّا في القليل. وذلك أنّ كتب أولئك المتقدّمين لمّا ترجمها الخلفاء من بني العبّاس من اللّسان اليونانيّ إلى اللّسان العربيّ تصفّحها كثير من أهل الملّة وأخذ من مذاهبهم من أضلّه الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابيّ في المائة الرّابعة لعهد سيف الدّولة وأبو عليّ بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما. واعلم أنّ هذا الرّأي الّذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه. فأمّا إسنادهم الموجودات كلّها إلى العقل الأوّل واكتفاؤهم به في التّرقّي إلى الواجب فهو قصور عمّا وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 16: 8» وكأنّهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عمّا وراءه بمثابة الطّبيعيّين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصّة المعرضين عن النّقل والعقل المعتقدين أنّه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء. وأمّا البراهين الّتي يزعمونها على مدّعياتهم في الموجودات ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض. أمّا ما كان منها في الموجودات الجسمانيّة ويسمّونه العلم الطّبيعيّ فوجه قصوره أنّ المطابقة بين تلك النّتائج الذّهنيّة الّتي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقينيّ لأنّ تلك أحكام ذهنيّة كلّيّة عامّة والموجودات الخارجيّة متشخّصة بموادّها. ولعلّ في الموادّ ما يمنع مطابقة الذّهنيّ الكلّيّ للخارجيّ الشّخصيّ اللَّهمّ إلّا ما لا يشهد له الحسّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الّذي يجدونه فيها؟ وربّما يكون تصرّف الذّهن أيضا في المعقولات الأوّل المطابقة للشّخصيّات بالصّور الخياليّة لا في المعقولات الثّواني الّتي تجريدها في الرّتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيّا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال. الانطباق فيها فنسلّم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك. إلّا أنّه ينبغي لنا الإعراض عن النّظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإنّ مسائل الطّبيعيّات لا تهمّنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها. وأمّا ما كان منها في الموجودات الّتي وراء الحسّ وهي الرّوحانيات ويسمّونه العلم الإلهيّ وعلم ما بعد الطّبيعة فإنّ ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التّوصّل إليها ولا البرهان عليها لأنّ تجريد المعقولات من الموجودات الخارجيّة الشّخصيّة إنّما هو ممكن فيما هو مدرك لنا. ونحن لا ندرك الذّوات الرّوحانيّة حتّى نجرّد منها ماهيّات أخرى بحجاب الحسّ بيننا وبينها فلا يتأتّى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلّا ما نجده بين جنبينا من أمر النّفس الإنسانيّة وأحوال مداركها وخصوصا في الرّؤيا الّتي هي وجدانيّة لكلّ أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه. وقد صرّح بذلك محقّقوهم حيث ذهبوا إلى أنّ مالا مادّة له لا يمكن البرهان عليه لأنّ مقدّمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتيّة. وقال كبيرهم أفلاطون: إنّ الإلهيّات لا يوصل فيها إلى أينين [1] وإنّما يقال فيها بالأخلق [2] والأولى يعني الظّنّ: وإذا كنّا إنّما نحصل بعد التّعب والنّصب على الظّنّ فقط فيكفينا الظّنّ الّذي كان أوّلا فأيّ فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنّما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسّ من الموجودات وهذه هي غاية الأفكار الإنسانيّة عندهم. وأمّا قولهم إنّ السّعادة في إدراك   [1] وفي نسخة أخرى: يقين. [2] وفي نسخة أخرى: بالأحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيّف مردود وتفسيره أنّ الإنسان مركّب من جزءين أحدهما جسمانيّ والآخر روحانيّ ممتزج به ولكلّ واحد من الجزءين مدارك مختصّة به والمدرك فيهما واحد وهو الجزء الرّوحانيّ يدرك تارة مدارك روحانيّة وتارة مدارك جسمانيّة إلّا أنّ المدارك الرّوحانيّة يدركها بذاته بغير واسطة والمدارك الجسمانيّة بواسطة آلات الجسم من الدّماغ والحواسّ. وكلّ مدرك فله ابتهاج بما يدركه. واعتبره بحال الصّبيّ في أوّل مداركه الجسمانيّة الّتي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضّوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شكّ أنّ الابتهاج بالإدراك الّذي للنّفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشدّ وألذّ. فالنّفس الرّوحانيّة إذا شعرت بإدراكها الّذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذّة لا يعبّر عنهما وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم وإنّما يحصل بكشف حجاب الحسّ ونسيان المدارك الجسمانيّة بالجملة. والمتصوّفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنّفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرّياضة إماتة القوى الجسمانيّة ومداركها حتّى الفكر من الدّماغ وليحصل للنّفس إدراكها الّذي لها من ذاتها عند زوال الشّواغب والموانع الجسمانيّة يحصل لهم بهجة ولذّة لا يعبّر عنهما. وهذا الّذي زعموه بتقدير صحّته مسلّم لهم وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم. فأمّا قولهم إنّ البراهين والأدلّة العقليّة محصّلة لهذا النّوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين والأدلّة من جملة المدارك الجسمانيّة لأنّها بالقوى الدّماغيّة من الخيال والفكر والذّكر. ونحن نقول إنّ أوّل شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدّماغيّة كلّها لأنّها منازعة له قادحة فيه وتجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء والإشارات والنّجاء وتلاخيص ابن رشد للقصّ من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثّق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السّعادة فيها ولا يعلم أنّه يستكثر بذلك من الموانع عنها. ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 والفارابيّ وابن سينا أنّ من حصل له إدراك العقل الفعّال واتّصل به في حياته فقد حصّل حظّه من هذه السّعادة. والعقل الفعّال عندهم عبارة عن أوّل رتبة ينكشف عنها الحسّ من رتب الرّوحانيّات ويحملون الاتّصال بالعقل الفعّال على الإدراك العلميّ وقد رأيت فساده وإنّما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتّصال والإدراك إدراك النّفس الّذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلّا بكشف حجاب الحسّ. وأمّا قولهم إنّ البهجة النّاشئة عن هذا الإدراك هي عين السّعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنّا إنّما تبيّن لنا بما قرّروه أنّ وراء الحسّ مدركا آخر للنّفس من غير واسطة وأنّها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا وذلك لا يعيّن لنا أنّه عين السّعادة الأخرويّة ولا بدّ بل هي من جملة الملاذّ الّتي لتلك السّعادة. وأمّا قولهم إنّ السّعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبنيّ على ما كنّا قدّمناه في أصل التّوحيد من الأوهام والأغلاط في أنّ الوجود عند كلّ مدرك منحصر في مداركه وبيّنّا فساد ذلك وإنّ الوجود أوسع من إن يحاط به أو يستوفي إدراكه بجملته روحانيّا أو جسمانيّا. والّذي يحصل من جميع ما قرّرناه من مذاهبهم أنّ الجزء الرّوحانيّ إذا فارق القوى الجسمانيّة أدرك إدراكا ذاتيا له مختصّا بصنف من المدارك وهي الموجودات الّتي أحاط بها علمنا وليس بعامّ الإدراك في الموجودات كلّها إذ لم تنحصر وأنّه يبتهج بذلك النّحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصّبيّ بمداركه الحسيّة في أوّل نشوءه ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السّعادة الّتي وعدنا بها الشّارع إن لم نعمل لها، هيهات هيهات لما توعدون. وأمّا قولهم إنّ الإنسان مستقلّ بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فأمر مبنيّ على أنّ ابتهاج للنّفس بإدراكها الّذي لها من ذاتها هو عين السّعادة الموعود بها لأنّ الرّذائل عائقة للنّفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانيّة وألوانها. وقد بيّنّا أنّ أثر السّعادة والشّقاوة ومن وراء الإدراكات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 الجسمانيّة والرّوحانيّة فهذا التّهذيب الّذي توصّلوا إلى معرفته إنّما نفعه في البهجة النّاشئة عن الإدراك الرّوحانيّ فقط الّذي هو على مقاييس وقوانين. وأمّا ما وراء ذلك من السّعادة الّتي وعدنا بها الشّارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين. وقد تنبّه لذلك زعيمهم أبو عليّ ابن سينا فقال في كتاب المبدإ والمعاد ما معناه: إنّ المعاد الرّوحانيّ وأحواله هو ممّا يتوصّل إليه بالبراهين العقليّة والمقاييس لأنّه على نسبة طبيعيّة محفوظة ووتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة. وأمّا المعاد الجسمانيّ وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنّه ليس على نسبة واحدة وقد بسطته لنا الشّريعة الحقّة المحمّديّة فلينظر فيها وليرجع في أحواله إليها. فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم الّتي حوّموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشّرائع وظواهرها. وليس له فيما علمنا إلّا ثمرة واحدة وهي شحذ الذّهن في ترتيب الأدلّة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصّواب في البراهين. وذلك أنّ نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطيقيّة وقولهم بذلك في علومهم الطّبيعيّة وهم كثيرا ما يستعملونها في علومهم الحكميّة من الطّبيعيّات والتّعاليم وما بعدها فيستولي النّاظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان والصّواب في الحجج والاستدلالات لأنّها وإن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصحّ ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه ثمرة هذه الصّناعة مع الاطّلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارّها ما علمت. فليكن النّاظر فيها متحرّزا جهده معاطبها وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشّرعيّات والاطّلاع على التّفسير والفقه ولا يكبّنّ أحد عليها وهو خلو من علوم الملّة فقلّ أن يسلم لذلك من معاطبها. والله الموفّق للصّواب وللحقّ والهادي إليه. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها هذه الصّناعة يزعم أصحابها أنّهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولّدات العنصرية مفردة ومجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالّة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلّيّة والشّخصيّة. فالمتقدّمون منهم يرون أنّ معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتّجربة وهو أمر تقصّر الأعمار كلّها لو اجتمعت عن تحصيله إذ التّجربة إنّما تحصل في المرّات المتعدّدة بالتّكرار ليحصل عنها العلم أو الظّنّ. وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزّمن فيحتاج تكرّره إلى آماد وأحقاب متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم. وربّما ذهب ضعفاء منهم إلى أنّ معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي وهو رأي فائل وقد كفونا مؤنة إبطاله. ومن أوضح الأدلّة فيه أن تعلم أنّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام أبعد النّاس عن الصّنائع وأنّهم لا يتعرّضون للإخبار عن الغيب إلّا أن يكون عن الله فكيف يدّعون استنباطه بالصّناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق. وأمّا بطليمس ومن تبعه من المتأخّرين فيرون أنّ دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعيّة من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصريّة قال لأنّ فعل النّيّرين وأثرهما في العنصريّات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشّمس في تبدّل الفصول وأمزجتها ونضج الثّمار والزّرع وغير ذلك وفعل القمر في الرّطوبات والماء وإنضاج الموادّ المتعفّنة وفواكه القناء [1] وسائر أفعاله. ثمّ قال: ولنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التّقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمّة الصّناعة إلّا أنّه غير مقنع للنّفس والثّانية الحدس والتّجربة بقياس كلّ واحد منها إلى النّيّر   [1] فواكه القناء: فواكه الأشجار المغروسة في الحفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 الأعظم الّذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوّته ومزاجه فتعرف موافقته له في الطّبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادّته. ثمّ إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركّبة وذلك عند تناظرها بأشكال التّثليث والتّربيع وغيرهما ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النّيّر الأعظم. وإذا عرفنا قوى الكواكب كلّها فهي مؤثرة في الهواء وذلك ظاهر. والمزاج الّذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولّدات وتتخلّق به النّطف والبزر فتصير حالا للبدن المتكوّن عنها وللنّفس المتعلّقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه ولما يتبع النّفس والبدن من الأحوال لأنّ كيفيّات البزرة والنّطفة كيفيّات لما يتولّد عنهما وينشأ منهما. قال: وهو مع ذلك ظنّي وليس من اليقين في شيء وليس هو أيضا من القضاء الإلهيّ يعني القدر إنّما هو من جملة الأسباب الطّبيعيّة للكائن والقضاء الإلهيّ سابق على كلّ شيء. هذا محصّل كلام بطليمس وأصحابه وهو منصوص في كتابه الأربع وغيره. ومنه يتبيّن ضعف مدرك هذه الصّناعة وذلك أنّ العلم الكائن أو الظّنّ به إنّما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل والقابل والصّورة والغاية على ما يتبيّن في موضعه. والقوى النّجوميّة على ما قرّروه إنّما هي فاعلة فقط والجزء العنصريّ هو القابل ثمّ إنّ القوى النّجوميّة ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادّيّ مثل قوّة التّوليد للأب والنّوع الّتي في النّطفة وقوى الخاصّة الّتي تميّز بها صنف من النّوع وغير ذلك. فالقوى النّجوميّة إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنّما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن. ثمّ إنّه يشترط مع العلم بقوى النّجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين وحينئذ يحصل عنده الظّنّ بوقوع الكائن. والحدس والتّخمين قوى للنّاظر في فكره وليس من علل الكائن ولا من أصول الصّناعة فإذا فقد هذا الحدس والتّخمين رجعت أدراجها عن الظّنّ إلى الشّكّ. هذا إذا حصل العلم بالقوى النجوميّة على سداده ولم تعترضه آفة وهذا معوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرّف به أوضاعها ولما أنّ اختصاص كلّ كوكب بقوّة لا دليل عليه. ومدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشّمس مدرك ضعيف لأنّ قوّة الشّمس غالبة لجميع القوى من الكواكب ومستولية عليها فقلّ أن يشعر بالزّيادة فيها أو النّقصان منها عند المقارنة كما قال وهذه كلّها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصّناعة. ثمّ إنّ تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبيّن في باب التّوحيد أنّ لا فاعل إلّا الله بطريق استدلاليّ كما رأيته واحتجّ له أهل علم الكلام بما هو غنيّ عن البيان من أنّ إسناد الأسباب إلى المسبّبات مجهول الكيفيّة والعقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ الرّأي من التّأثير فلعلّ استنادها على غير صورة التّأثير المتعارف. والقدرة الإلهيّة رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علوّا وسفلا سيّما والشّرع يردّ الحوادث كلّها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ ممّا سوى ذلك. والنّبوءات أيضا منكرة لشأن النّجوم وتأثيراتها. واستقراء الشّرعيّات شاهد بذلك في مثل قوله: إنّ الشّمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته وفي قوله أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي. فأمّا من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأمّا من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث الصّحيح. فقد بان لك بطلان هذه الصّناعة من طريق الشّرع وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضارّ في العمران الإنسانيّ بما تبعث من عقائد العوامّ من الفساد إذا اتّفق الصّدق من أحكامها في بعض الأحايين اتّفاقا لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له ويظنّ اطراد الصّدق في سائر أحكامها وليس كذلك. فيقع في ردّ الأشياء إلى غير خالقها. ثمّ ما ينشأ عنها كثيرا في الدّول من توقّع القواطع وما يبعث عليه ذلك التّوقّع من تطاول الأعداء والمتربّصين بالدّولة إلى الفتك والثّورة. وقد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصّناعة على جميع أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 العمران لما ينشأ عنها من المضارّ في الدّين والدّول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيّا للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم. فالخير والشّرّ طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما وإنّما يتعلّق التّكليف بأسباب حصولهما فيتعيّن السّعي في اكتساب الخير بأسبابه ودفع أسباب الشّرّ والمضارّ. هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضارّه. وليعلم من ذلك أنّها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملّة تحصيل علمها ولا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر وظنّ الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر. فإنّ الشّريعة لمّا حظرت النّظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتّحليق لتعليمها وصار المولع بها من النّاس وهم الأقلّ وأقلّ من الأقلّ إنّما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متستّرا عن النّاس وتحت ربقة الجمهور مع تشعّب الصّناعة وكثرة فروعها واعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل؟ ونحن نجد الفقه الّذي عمّ نفعه دينا ودنيا وسهلت مآخذه من الكتاب والسّنّة وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه ثمّ بعد التّحقيق والتّجميع وطول المدارسة وكثرة المجالس وتعدّدها إنّما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال. فكيف يعلم مهجور للشّريعة مضروب دونه سدّ الخطر والتّحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لاصوله وفروعه إلى مزيد حدس وتخمين يكتنفان به من النّاظر فأين التّحصيل والحذق فيه مع هذه كلّها. ومدّعى ذلك من النّاس مردود على عقبه ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفنّ بين أهل الملّة وقلّة حملته فاعتبر ذلك يتبيّن لك صحّة ما ذهبنا إليه. والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. وممّا وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عند ما غلب العرب عساكر السّلطان أبي الحسن وحاصروه بالقيروان وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء وقال في ذلك أبو القاسم الرّوحيّ من شعراء أهل تونس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 أستغفر الله كلّ حين ... قد ذهب العيش والهناء أصبح في تونس وأمسى ... والصّبح للَّه والمساء الخوف والجوع والمنايا ... يحدثها الهرج والوباء والنّاس في مرية وحرب ... وما عسى ينفع المراء فأحمديّ يرى عليّا ... حلّ به الهلك والتّواء وآخر قال سوف يأتي ... به إليكم صبا رخاء والله من فوق ذا وهذا ... يقضي لعبديه ما يشاء يا راصد الخنّس الجواري ... ما فعلت هذه السّماء مطلتمونا وقد زعمتم ... أنّكم اليوم أملياء مرّ خميس على خميس ... وجاء سبت وأربعاء ونصف شهر وعشر ثان ... وثالث ضمّه القضاء ولا نرى غير زور قول ... أذاك جهل أم ازدراء إنّا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء رضيت باللَّه لي إلها ... حسبكم البدر أو ذكاء ما هذه الأنجم السّواري ... إلّا عباديد أو إماء يقضى عليها وليس تقضي ... وما لها في الورى اقتضاء ضلّت عقول ترى قديما ... ما شأنه الجرم والفناء وحكمت في الوجود طبعا ... يحدثه الماء والهواء لم تر حلوا إزاء مرّ ... تغذوهم تربة وماء الله ربّي ولست أدري ... ما الجوهر الفرد والخلاء ولا الهيولى الّتي تنادي ... ما لي عن صورة عراء ولا وجود ولا، انعدام ... ولا ثبوت ولا انتفاء والكسب لم أدر فيه إلّا ... ما جلب البيع والشّراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 وإنّما مذهبي وديني ... ما كان للنّاس أولياء إذ لا فصول ولا أصول ... ولا جدال ولا رياء ما تبع الصّدر واقتفينا ... يا حبّذا كان الاقتفاء كانوا كما يعلمون منهم ... ولم يكن ذلك الهذاء يا أشعريّ الزّمان إنّي ... أشعرني الصّيف والشّتاء لم أجز بالشّرّ غير شرّ ... والخير عن مثله جزاء وإنّني إن أكن مطيعا ... فلست أعصى ولي رجاء وإنّني تحت حكم بار ... أطاعه العرش والثّراء ليس انتصار بكم ولكن ... أتاحه الحكم والقضاء لو حدّث الأشعريّ عمّن ... له إلى رأيه انتماء لقال أخبرهم بأنّي ... ممّا يقولونه براء الفصل الثالث والثلاثون في انكار ثمرة الكيميا واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها اعلم أنّ كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصّنائع ويرون أنّها أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأنّ اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب والمشاقّ ومعاناة الصّعاب وعسف الحكّام وخسارة الأموال في النّفقات زيادة على النّيل من غرضه والعطب آخرا إذا ظهر على خيبة وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. وإنّما أطمعهم في ذلك رؤية أنّ المعادن تستحيل وينقلب بعضها إلى بعض للمادّة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضّة ذهبا والنّحاس والقصدير فضّة ويحسبون أنّها من ممكنات عالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 الطّبيعة ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التّدبير وصورته وفي المادّة الموضوعة عندهم للعلاج المسمّاة عندهم بالحجر المكرّم هل هي العذرة أو الدّم أو الشّعر أو البيض أو كذا أو كذا ممّا سوى ذلك. وجملة التّدبير عندهم بعد تعيّن المادّة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء وبعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها ويؤثّر في انقلابها إلى المعدن المطلوب. ثمّ تجفّف بالشّمس من بعد السّقي أو تطبخ بالنّار أو تصعّد أو تكلّس لاستخراج مائها أو ترابها فإذا رضي بذلك كلّه من علاجها وتمّ تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كلّه تراب أو مائع يسمّونه الإكسير ويزعمون أنّه إذا ألقي على الفضّة المحماة بالنّار عادت ذهبا أو النّحاس المحمي بالنّار عاد فضّة على ما قصد به في عمله. ويزعم المحقّقون منهم أنّ ذلك الإكسير مادّة مركّبة من العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاصّ والتّدبير مزاج ذو قوى طبيعيّة تصرف ما حصلت فيه إليها وتقلبه إلى صورتها ومزاجها وتبثّ فيه ما حصل فيها من الكيفيّات والقوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعا إلى الغذاء. وكذا إكسير الذّهب والفضّة فيما يحصل فيه من المعادن يصرفه إليهما ويقلبه إلى صورتهما. هذا محصّل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرّزق والمعاش فيه ويتناقلون أحكامه وقواعده من كتب لأئمّة الصّناعة من قبلهم يتداولونها بينهم ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمّى. كتآليف جابر بن حيّان في رسائله السّبعين ومسلمة المجريطيّ في كتابه رتبة الحكيم والطّغرائيّ والمغيربيّ في قصائده العريقة في إجادة النّظم وأمثالها ولا يحلون من بعد هذا كلّه بطائل منها. ففاوضت يوما شيخنا أبا البركات التّلفيقيّ [1] كبير مشيخة   [1] وفي نسخة أخرى: التلفيقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض التّآليف فيها فتصفّحه طويلا ثمّ ردّه إليّ وقال لي وأنا الضّامن له أن لا يعود إلى بيته إلّا بالخيبة. ثمّ منهم من يقتصر في ذلك على الدّلسة فقط. إمّا الظّاهرة كتمويه الفضّة بالذّهب أو النّحاس بالفضّة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفيّة كإلقاء الشّبه بين المعادن بالصّناعة مثل تبييض النّحاس وتلبيسه بالزّوق المصعّد فيجيء جسما معدنيّا شبيها بالفضّة ويخفى إلّا على النّقّاد المهرة فيقدّر أصحاب هذه الدّلس مع دلستهم [1] هذه سكّة يسربونها في النّاس ويطبعونها بطابع السّلطان تمويها على الجمهور بالخلاص. وهؤلاء أخسّ النّاس حرفة وأسوأهم عاقبة لتلبّسهم بسرقة أموال النّاس فإنّ صاحب هذه الدّلسة إنّما هو يدفع نحاسا في الفضّة وفضّة في الذّهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق أو شرّ من السّارق. ومعظم هذا الصّنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية ويموّهون على الأغنياء منهم بأنّ بأيديهم صناعة الذّهب والفضّة والنّفوس مولعة بحبّهما والاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش. ثمّ يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرّقبة إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة فيفرّون إلى موضع آخر ويستجدّون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدّنيا بأطماعهم فيما لديهم. ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم وهذا الصّنف لا كلام معهم لأنّهم بلغوا الغاية في الجهل والرّداءة والاحتراف بالسّرقة ولا حاسم لعلّتهم إلّا اشتداد الحكّام عليهم وتناولهم من حيث كانوا وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأنّ فيه إفسادا للسّكّة الّتي تعمّ بها البلوى وهي متموّل النّاس كافّة. والسّلطان مكلّف بإصلاحها والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها. وأمّا من انتحل هذه الصّناعة ولم يرض بحال الدّلسة بل استنكف عنها ونزّه نفسه عن إفساد سكّة المسلمين ونقودهم وإنّما يطلب إحالة الفضّة للذّهب والرّصاص والنّحاس والقصدير إلى   [1] الدلس: (بفتح الدال وسكون اللام) الخديعة والدلسة بضم الدال الظلمة (لسان العرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 الفضّة بذلك النّحو من العلاج وبالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلّم وبحث في مداركهم لذلك. مع أنّا لا نعلم أنّ أحدا من أهل العالم تمّ له هذا الغرض أو حصل منه على بغية إنّما تذهب أعمارهم في التّدبير والفهر [1] والصّلابة والتّصعيد والتّكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها. ويتناقلون في ذلك حكايات وقعت لغيرهم ممّن تمّ له الغرض منها أو وقف على الوصول يقنعون باستماعها والمفاوضات فيها ولا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلّفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه وقالوا إنّما سمعنا ولم نر. هكذا شأنهم في كلّ عصر وجيل واعلم أنّ انتحال هذه الصّنعة قديم في العالم وقد تكلّم النّاس فيها من المتقدّمين والمتأخّرين فلننقل مذاهبهم في ذلك ثمّ نتلوه بما يظهر فيها من التّحقيق الّذي عليه الأمر في نفسه فنقول إنّ مبنى الكلام في هذه الصّناعة عند الحكماء على حال المعادن السّبعة المتطرّقة وهي الذّهب والفضّة والرّصاص والقصدير والنّحاس والحديد والخارصين هل هي مختلفات بالفصول وكلّها أنواع قائمة بأنفسها أو إنّها مختلفة بخواصّ من الكيفيّات وهي كلّها أصناف لنوع واحد؟ فالّذي ذهب إليه أبو النّصر الفارابيّ وتابعه عليه حكماء الأندلس أنّها نوع واحد وأنّ اختلافها إنّما هو بالكيفيّات من الرّطوبة واليبوسة واللّين والصّلابة والألوان من الصّفرة والبياض والسّواد وهي كلّها أصناف لذلك النّوع الواحد والّذي ذهب إليه ابن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنّها مختلفة بالفصول وأنّها أنواع متباينة كلّ واحد منها قائم بنفسه متحقّق بحقيقته له فصل وجنس شان سائر الأنواع. وبنى أبو نصر الفارابيّ على مذهبه في اتّفاقها بالنّوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدّل الأغراض حينئذ وعلاجها بالصّنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء   [1] الفهر: الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه. وقيل هو حجر يملأ الكف (لسان العرب) وهنا تعني الدق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 عنده ممكنة سهلة المأخذ. وبنى أبو عليّ بن سينا على مذهبه في اختلافها بالنّوع إنكار هذه الصّنعة واستحالة وجودها بناء على أنّ الفصل لا سبيل بالصّناعة إليه وإنّما يخلقه خالق الأشياء ومقدّرها وهو الله عزّ وجلّ. والفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتّصوّر فكيف يحاول انقلابها بالصّنعة. وغلّطه الطّغرائيّ من أكابر أهل هذه الصّناعة في هذا القول. وردّ عليه بأنّ التّدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنّما هو في إعداد المادّة لقبوله خاصّة. والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه كما يفيض النّور على الأجسام بالصّقل والإمهاء. ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوّره ومعرفته قال: «وإذا كنّا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التّراب والنّتن ومثل الحيّات المتكوّنة من الشّعر ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النّحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. وتكوين القصب من قرون ذوات الظّلف وتصييره سكّرا بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذّهب والفضّة. فتتّخذ مادّة تضيفها للتّدبير بعد أن يكون فيها استعداد أوّل لقبول صورة الذّهب والفضّة. ثمّ تحاولها بالعلاج إلى أن يتمّ فيها الاستعداد لقبول فصلها» . انتهى كلام الطّغرائيّ بمعناه. وهو الّذي ذكره في الرّدّ على ابن سينا صحيح. لكنّ لنا في الرّدّ على أهل هذه الصّناعة مأخذا آخر يتبيّن منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين لا الطّغرائيّ ولا ابن سينا. وذلك أنّ حاصل علاجهم أنّهم بعد الوقوف على المادّة المستعدّة بالاستعداد الأوّل يجعلونها موضوعا ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطّبيعة في الجسم المعدنيّ حتّى أحالته ذهبا أو فضّة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتمّ في زمان أقصر. لأنّه تبيّن في موضوعة أنّ مضاعفة قوّة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبيّن أنّ الذّهب إنّما يتمّ كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السّنين دورة الشّمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيّات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 ما قلناه أو يتحرّون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجيّة لتلك المادّة تصيّرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته وذلك هو الإكسير على ما تقدّم. واعلم أنّ كلّ متكوّن من المولّدات العنصريّة فلا بدّ فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النّسبة لما تمّ امتزاجها فلا بدّ من الجزء الغالب على الكلّ. ولا بدّ في كلّ ممتزج من المولّدات من حرارة غريزيّة هي الفاعلة لكونه الحافظة لصورته. ثمّ كلّ متكوّن في زمان فلا بدّ من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التّكوين من طور إلى طور حتّى ينتهي إلى غايته. وانظر شأن الإنسان في طور النّطفة ثمّ العلقة ثمّ المضغة ثمّ التّصوير ثمّ الجنين ثمّ المولود ثمّ الرّضيع ثمّ إلى نهايته. ونسب الأجزاء في كلّ طور تختلف في مقاديرها وكيفيّاتها وإلّا لكان الطّور الأوّل بعينه هو الآخر وكذا الحرارة الغريزيّة في كلّ طور مخالفة لها في الطّور الآخر. فانظر إلى الذّهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطّبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتمّ. ومن شرط الصّناعة أبدا تصوّر ما يقصد إليه بالصّنعة فمن الأمثال السّائرة للحكماء أوّل العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أوّل العمل. فلا بدّ من تصوّر هذه الحالات للذّهب في أحواله المتعدّدة ونسبها المتفاوتة في كلّ طور واختلاف الحارّ الغريزيّ عند اختلافها ومقدار الزّمان في كلّ طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة ويقوم مقامه حتّى يحاذي بذلك كلّه فعل الطّبيعة في المعدن أو تعدّ لبعض الموادّ صورة مزاجيّة كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادّة بالمناسبة لقواها ومقاديرها. وهذه كلّها إنّما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشريّة قاصرة عن ذلك وإنّما حال من يدّعي حصوله على الذّهب بهذه الصّنعة بمثابة من يدّعي بالصّنعة تخليق إنسان من المنيّ. ونحن إذا سلّمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفيّة تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 محصّلا بتفاصيله حتّى لا يشذّ منه شيء عن علمه سلّمنا له تحليق هذا الإنسان وأنّى له ذلك. ولنقرّب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول: حاصل صناعة الكيمياء وما يدّعونه بهذا التّدبير أنّه مساوقة الطّبيعية المعدنيّة بالفعل الصّناعيّ ومحاذاتها به إلى أن يتمّ كون الجسم المعدنيّ أو تخليق مادّة بقوى وأفعال وصورة مزاجيّة تفعل في الجسم فعلا طبيعيّا فتصيّره وتقلّبه إلى صورتها. والفعل الصّناعيّ مسبوق بتصوّرات أحوال الطّبيعة المعدنيّة الّتي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادّة ذات القوى فيها تصوّرا مفصّلا واحدة بعد أخرى. وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشريّ عاجز عن الإحاطة بما دونها وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات. هذا محصّل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته ولا من الطّبيعة إنّما هو من تعذّر الإحاطة وقصور البشر عنها. وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك وله وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته. وذلك أنّ حكمة الله في الحجرين وندورهما أنّهما قيم لمكاسب النّاس ومتموّلاتهم. فلو حصل عليهما بالصّنعة لبطلت حكمة الله في ذلك وكثر وجودهما حتّى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. وله وجه آخر من الاستحالة أيضا وهو أنّ الطّبيعة لا تترك أقرب الطّرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد. فلو كان هذا الطّريق الصّناعيّ الّذي يزعمون أنّه صحيح وأنّه أقرب من طريق الطّبيعة في معدنها أو أقلّ زمانا لما تركته الطّبيعة إلى طريقها الّذي سلكته في كون الفضّة والذّهب وتخلّقهما وأمّا تشبيه الطّغراءي هذا التّدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطّبيعة كالعقرب والنّحل والحيّة وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدّى إليه العثور كما زعم. وأمّا الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العالم أنّه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها عشواء إلى هلمّ جرّا ولا يظفرون إلّا بالحكايات الكاذبة. ولو صحّ ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 صحّة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا وإلى غيرنا. وأمّا قولهم إنّ الإكسير بمثابة الخميرة. وإنّه مركّب يحيل ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك فاعلم أنّ الخميرة إنّما تقلب العجين وتعدّه للهضم وهو فساد والفساد في الموادّ سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطّبائع. والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين وصلاح والتّكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة. وتحقيق الأمر في ذلك أنّ الكيمياء إن صحّ وجودها كما تزعم الحكماء المتكلّمون فيها مثل جابر بن حيّان ومسلمة بن أحمد المجريطيّ وأمثالهم فليست من باب الصّنائع الطّبيعيّة ولا تتمّ بأمر صناعيّ. وليس كلامهم فيها من منحى الطّبيعيّات إنّما هو من منحى كلامهم في الأمور السّحريّة وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلّاج وغيره وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك. وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى وهذا كلام جابر في رسائله ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه وبالجملة فأمرها عندهم من كلّيّات الموادّ الخارجة عن حكم الصّنائع فكما لا يتدبّر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبّر ذهب من مادّة الذّهب في يوم ولا شهر ولا يتغيّر طريق عادته إلّا بإرفاد ما وراء عالم الطّبائع وعمل الصّنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيّا ضيّع ماله وعمله ويقال لهذا التّدبير الصّناعيّ التّدبير العقيم لأنّ نيله إن كان صحيحا فهو واقع ممّا وراء الطّبائع والصّنائع كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنّفوذ في كشائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطّير ونحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى: «وَإِذْ تَخْلُقُ من الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي 5: 110» [1] وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربّما أوتيها الصّالح ويؤتيها غيره فتكون عنده   [1] سورة المائدة من الآية 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 معارة. وربّما أوتيها الصّالح ولا يملك إيتاءها فلا تتمّ في يد غيره. ومن هذا الباب يكون عملها سحريّا فقد تبيّن أنّها إنّما تقع بتأثيرات النّفوس وخوارق العادة إمّا معجزة أو كرامة أو سحرا. ولهذا كان كلام الحكماء كلّهم فيها إلغازا لا يظفر بحقيقته إلّا من خاض لجة من علم السّحر واطّلع على تصرّفات النّفس في عالم الطّبيعة. وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها. والله بما يعملون محيط. وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصّناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطّرق الطّبيعيّة للمعاش وابتغاؤه من غير وجوهه الطّبيعيّة كالفلاحة والتّجارة والصّناعة فيستصعب العاجز ابتغاءه من هذه ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعيّة من الكيمياء وغيرها. وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران حتّى في الحكماء المتكلّمين في إنكارها واستحالتها. فإنّ ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء فكان من أهل الغنى والثّروة والفارابيّ القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الّذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه. وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النّفوس المولعة بطرقها وانتحالها. والله الرّازق ذو القوّة المتين لا ربّ سواه. الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل اعلم أنّه ممّا أضرّ بالنّاس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التّآليف واختلاف الاصطلاحات في التّعاليم وتعدّد طرقها ثمّ مطالبة المتعلّم والتّلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلّم له منصب التّحصيل فيحتاج المتعلّم إلى حفظها كلّها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها فيقع القصور ولا بدّ دون رتبة التّحصيل. ويمثّل ذلك من شأن الفقه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 المذهب المالكيّ بالكتب المدوّنة مثلا وما كتب عليها من الشّروحات الفقهيّة مثل كتاب ابن يونس واللّخميّ وابن بشير والتّنبيهات والمقدّمات والبيان والتّحصيل على العتبيّة وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثمّ إنّه يحتاج إلى تمييز الطّريقة القيروانيّة من القرطبيّة والبغداديّة والمصريّة وطرق المتأخّرين عنهم والإحاطة بذلك كلّه وحينئذ يسلّم له منصب الفتيا وهي كلّها متكرّرة والمعنى واحد. والمتعلّم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها. ولو اقتصر المعلّمون بالمتعلّمين على المسائل المذهبيّة فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير وكان التّعليم سهلا ومأخذه قريبا ولكنّه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة الّتي لا يمكن نقلها ولا تحويلها ويمثّل أيضا علم العربيّة من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه وطرق البصريّين والكوفيّين والبغداديّين والأندلسيّين من بعدهم وطرق المتقدّمين والمتأخّرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلّم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه إلّا في القليل النّادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربيّة من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنّه استولى على غاية من ملكة تلك الصّناعة لم تحصل إلّا لسيبويه وابن جنّي وأهل طبقتهما لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفنّ وتفاريعه وحسن تصرّفه فيه. ودلّ على أنّ الفضل ليس منحصرا في المتقدّمين سيّما مع ما قدّمناه من كثرة الشّواغب بتعدّد المذاهب والطّرق والتّآليف ولكنّ فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا نادر من نوادر الوجود وإلّا فالظّاهر أنّ المتعلّم ولو قطع عمره في هذا كلّه فلا يفي له بتحصيل علم العربيّة مثلا الّذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الّذي هو الثّمرة؟ ولكنّ الله يهدي من يشاء . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 الفصل الخامس والثلاثون في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف والغاء ما سواها اعلم أنّ العلوم البشريّة خزانتها النفس الإنسانيّة بما جعل الله فيها من الإدراك الّذي يفيدها ذلك الفكر المحصّل لها ذلك بالتّصوّر للحقائق أوّلا، ثمّ بإثبات العوارض الذاتيّة لها أو نفيها عنها ثانيا، إمّا بغير وسط أو بوسط، حتّى يستنتج الفكر بذلك مطالبه الّتي يعنى بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرّت من ذلك صورة علميّة في الضمير فلا بدّ من بيانها لآخر، إمّا على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. وذلك البيان إنّما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركّب من الألفاظ النطقيّة الّتي خلقها الله في عضو اللّسان مركّبة من الحروف، وهي كيفيّات الأصوات المقطّعة بعضلة اللهاة واللّسان ليتبيّن بها ضمائر المتكلّمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عمّا في الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكلّ ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدى بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعد، أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد تدلّ أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقيّة حروفا بحروف وكلمات بكلمات، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقيّ، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا، فسمّي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها. وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخّر، وهؤلاء هم المؤلّفون. والتآليف بين العوالم البشريّة والأمم الإنسانيّة كثير، ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأخبار عن الأمم والدول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 وأمّا العلوم الفلسفيّة، فلا اختلاف فيها، لأنّها إنّما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكريّة، في تصوّر الموجودات على ما هي عليه، جسمانيّها وروحانيّها وفلكيّها وعنصريّها ومجرّدها ومادّتها. فإنّ هذه العلوم لا تختلف، وإنّما يقع الاختلاف في العلوم الشرعيّة لاختلاف الملل، أو التاريخيّة لاختلاف خارج الخبر. ثمّ الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمّى ذلك قلما وخطّا. فمنها الخطّ الحميريّ، ويسمّى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخّرين من مضر، كما يخالف لغتهم. وإنّ الكلّ عربيّا. إلّا أنّ ملكة هؤلاء في اللّسان والعبارة غير ملكة أولئك. ولكلّ منهما قوانين كلّيّة مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. وربّما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. ومنها الخطّ السّريانيّ، وهو كتابة النّبط والكلدانيّين. وربّما يزعم بعض أهل الجهل أنّه الخطّ الطبيعيّ لقدمه فإنّهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم، ومذهب عامّي. لأنّ الأفعال الاختياريّة كلّها ليس شيء منها بالطبع، وإنّما هو يستمرّ بالقدم والمران حتّى يصير ملكة راسخة، فيظنّها المشاهد طبيعيّة كما هو رأي كثير من البلداء في اللّغة العربيّة، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهم. ومنها الخطّ العبرانيّ الّذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم. ومنها الخطّ اللطينيّ، خطّ اللطينيّين من الروم، ولهم أيضا لسان مختصّ بهم. ولكلّ أمّة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختصّ بها. مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم. وإنّما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى. أمّا السّريانيّ فلقدمه كما ذكرنا، وأمّا العربيّ والعبريّ فلتنزّل القرآن والتوراة بهما بلسانهما. وكان هذان الخطّان بيانا لمتلوّهما، فوقعت العناية بمنظومهما أوّلا وانبسطت قوانين لاطّراد العبارة في تلك اللّغة على أسلوبها لتفهم الشّرائع التكليفيّة من ذلك الكلام الربّانيّ. وأمّا اللطينيّ فكان الروم، وهم أهل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 اللّسان، لما أخذوا بدين النّصرانيّة، وهو كلّه من التوراة، كما سبق في أوّل الكتاب، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليّين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها. وأمّا الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنّما هي لكلّ أمّة بحسب اصطلاحها. ثمّ إنّ الناس حصروا مقاصد التأليف الّتي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدّوها سبعة: أوّلها: استنباط العلم بموضوعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبّع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقّق ويحرص على إيصاله بغيره، لتعمّ المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعلّ المتأخّر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلّم الشافعيّ أوّلا في الأدلّة الشرعيّة اللفظيّة ولخصها، ثمّ جاء الحنفيّة فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن. وثانيها: أن يقف على كلام الأوّلين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممّن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقّها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف. وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطإ في كلام المتقدّمين ممّن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الّذي لا مدخل للشكّ فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذّر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلّف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك. ورابعها: أن يكون الفنّ الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 انقسام موضوعة فيقصد المطّلع على ذلك أن يتمّم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفنّ بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال. وخامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتّبة في أبوابها ولا منتظمة، فيقصد المطّلع على ذلك أن يرتّبها ويهذّبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في المدوّنة من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي العتبيّة من رواية العتبيّ عن أصحاب مالك، فإنّ مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذّب ابن أبي زيد المدوّنة وبقيت العتبيّة غير مهذّبة. فنجد في كلّ باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدوّنة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعيّ من بعده. وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرّقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبّه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفنّ وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فنّ ينظّمه في جملة العلوم الّتي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإنّ عبد القاهر الجرجانيّ وأبا يوسف السّكاكيّ وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تنبّه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولا لفنّ البيان، ولقّنها المتأخّرون فأربوا فيها على كلّ متقدّم. وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف الّتي هي أمّهات للفنون مطوّلا مسهبا فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرّر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروريّ لئلّا يخلّ بمقصد المؤلّف الأوّل. فهذه جماع المقاصد الّتي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها. وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادّة الّتي يتعيّن سلوكها في نظر العقلاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 مثل انتحال ما تقدّم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخّر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفنّ أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدّل الصواب بالخطإ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل والقحّة. ولذا قال أرسطو، لمّا عدّد هذه المقاصد، وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل والقحّة. نعوذ باللَّه من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله يهدي للّتي هي أقوم. الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم ذهب كثير من المتأخّرين إلى اختصار الطّرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدوّنون منها برنامجا مختصرا في كلّ علم يشتمل على حصر مسائله وأدلّتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفنّ. وصار ذلك مخلّا بالبلاغة وعسرا على الفهم. وربّما عمدوا إلى الكتب الأمّهات المطوّلة في الفنون للتّفسير والبيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وابن مالك في العربيّة والخونجيّ في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التّعليم وفيه إخلال بالتّحصيل وذلك لأنّ فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعدّ لقبولها بعد وهو من سوء التّعليم كما سيأتي. ثمّ فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلّم بتتبّع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأنّ ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثمّ بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التّعليم في تلك المختصرات إذا تمّ على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات الّتي تحصل من الموضوعات البسيطة المطوّلة لكثرة ما يقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 في تلك من التّكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التّامّة. وإذا اقتصر على التّكرار قصّرت الملكة لقلّته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلّمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النّافعة وتمكّنها. «ومن يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له» . والله سبحانه وتعالى أعلم. الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدا إذا كان على التّدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب. ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد [1] عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلّا أنّها جزئيّة وضعيفة. وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله. ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية فيرفعه في التّلقين عن تلك الرّتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشّرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ فتجود ملكته. ثمّ يرجع به وقد شدّ فلا يترك عويصا ولا مهمّا ولا مغلقا إلّا وضّحه وفتح له مقفله فيخلص من الفنّ وقد استولى على ملكته هذا وجه التّعليم المفيد وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقلّ من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسّر عليه وقد شاهدنا كثيرا من المعلّمين لهذا العهد الّذي أدركنا يجهلون طرق التّعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلّم في أوّل تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار   [1] وفي نسخة أخرى: يورد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 ذهنه في حلّها ويحسبون ذلك مرانا على التّعليم وصوابا فيه ويكلّفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات [1] الفنون في مبادئها وقبل أن يستعدّ لفهمها فإنّ قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلّم أوّل الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلّا في الأقلّ وعلى سبيل التّقريب والإجمال والأمثال الحسّيّة. ثمّ لا يزال الاستعداد فيه يتدرّج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفنّ وتكرارها عليه والانتقال فيها من التّقريب إلى الاستيعاب الّذي فوقه، حتّى تتمّ الملكة في الاستعداد ثمّ في التّحصيل ويحيط هو بمسائل الفنّ وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كلّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنّما أتى ذلك من سوء التّعليم. ولا ينبغي للمعلّم أن يزيد متعلّمه على فهم كتابه الّذي أكبّ على التّعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتّعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتّى يعيه من أوّله إلى آخره ويحصّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأنّ المتعلّم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعدّ بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنّهوض إلى ما فوق حتّى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التّحصيل وهجر العلم والتّعليم. والله يهدي من يشاء. وكذلك ينبغي لك أن لا تطوّل على المتعلّم في الفنّ الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنّه ذريعة إلى النّسيان وانقطاع مسائل الفنّ بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنّسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأنّ الملكات إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة النّاشئة عنه. والله علّمكم ما لم تكونوا   [1] وفي نسخة أخرى: غرائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 تعلمون. ومن المذاهب الجميلة والطّرق الواجبة في التّعليم أن لا يخلط على المتعلّم علمان معا فإنّه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كلّ واحد منهما إلى تفهّم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرّغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربّما كان ذلك أجدر لتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفّق للصّواب. واعلم أيّها المتعلّم أنّي أتحفك بفائدة في تعلّمك فإن تلقّيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصّناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة وأقدّم لك مقدّمة تعينك في فهمها وذلك أنّ الفكر الإنسانيّ طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو (وجدان حركة للنّفس) [1] في البطن الأوسط من الدّماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانيّة على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجّه إلى المطلوب. وقد يصوّر طرفيه [2] يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الّذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعدّدا ويصير إلى الظّفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطّبيعة الفكريّة الّتي تميّز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثمّ الصّناعة المنطقيّة هي كيفيّة فعل هذه الطّبيعة الفكريّة النّظريّة تصفه لتعلم سداده من خطئه وأنّها وإن كان الصّواب لها ذاتيّا إلّا أنّه قد يعرض لها الخطأ في الأقلّ من تصوّر الطّرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنّتاج فتعين المنطق للتّخلّص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعيّ مساوق للطّبيعة الفكريّة ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمرا صناعيّا استغني عنه في الأكثر. ولذلك تجد كثيرا من فحول النّظّار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق ولا سيّما مع صدق النّيّة والتّعرّض لرحمة الله تعالى فإنّ   [1] وفي النسخة الباريسية: فعل حركة في النفس وقوة. [2] وفي النسخة الباريسية: طريقيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطّبيعة الفكريّة على سدادها فيفضي بالطّبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثمّ من دون هذا الأمر الصّناعيّ الّذي هو المنطق مقدّمة أخرى من التّعلّم وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذّهنيّة تردها [1] من مشافهة الرّسوم بالكتاب ومشافهة اللّسان بالخطاب. فلا بدّ أيّها المتعلّم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأوّلا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفّها [2] ثمّ دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثمّ القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثمّ تلك المعاني مجرّدة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطّبيعة الفكريّة بالتّعرّض لرحمة الله ومواهبه. وليس كلّ أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التّعليم بسهولة، بل ربّما وقف الذّهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلّة بشغب الجدال والشّبهات وقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلّص من تلك الغمرة إلّا قليلا ممّن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك [3] في فهمك أو تشغيب بالشّبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشّبهات واترك الأمر الصّناعيّ جملة وأخلص إلى فضاء الفكر الطّبيعيّ الّذي فطرت عليه. وسرّح نظرك فيه وفرّغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النّظّار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظّفر بمطلوبك وحصل الإمام الوسط الّذي جعله الله من مقتضيات [4] هذا الفكر ونظره عليه كما قلناه وحينئذ فارجع   [1] وفي النسخة الباريسية: تؤديها. [2] وفي النسخة الباريسية: احفظها. [3] وفي النسخة الباريسية: ارتياب. [4] وفي النسخة الباريسية: من مفيضات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 به إلى قوالب الأدلّة وصورها فأفرغه فيها ووفّه حقّه من القانون الصّناعيّ ثمّ اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان. وأمّا إن وقفت عند المناقشة والشّبهة في الأدلّة الصّناعيّة وتمحيص صوابها من خطئها وهذه أمور صناعيّة وضعيّة تستوي جهاتها المتعدّدة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميّز جهة الحقّ منها إذ جهة الحقّ إنّما تستبين [1] إذا كانت بالطّبع فيستمرّ ما حصل من الشّكّ والارتياب وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالنّاظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثرين من النّظّار والمتأخّرين سيّما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه ومن حصل له شغب بالقانون المنطقيّ تعصّب له فاعتقد أنّه الذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلّة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها. والذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع إنّما هو الفكر الطّبيعيّ كما قلناه إذا جرّد عن جميع الأوهام وتعرّض النّاظر فيه إلى رحمة الله تعالى وأمّا المنطق فإنّما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصّواب. والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلّا من عند الله. الفصل الثامن والثلاثون في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل اعلم أنّ العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذّات كالشّرعيّات من التّفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطّبيعيّات والإلهيّات من الفلسفة، وعلوم هي وسيلة آليّة [2] لهذه العلوم كالعربيّة والحساب   [1] وفي النسخة الباريسية: تتميز. [2] وفي النسخة الباريسية: آلة ووسيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 وغيرهما للشّرعيّات كالمنطق للفلسفة. وربّما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخّرين فأمّا العلوم الّتي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلّة والأنظار فإنّ ذلك يزيد طالبها تمكّنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة. وأمّا العلوم الّتي هي آلة لغيرها مثل العربيّة والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلّا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرّع المسائل لأنّ ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلّما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربّما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذّات لطول وسائلها مع أنّ شأنها أهمّ والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصّورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآليّة تضييعا للعمر وشغلا بما لا يغني. وهذا كما فعل المتأخّرون في صناعة النّحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنّهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التّفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيّرها من المقاصد [1] وربّما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللّغو وهي أيضا مضرّة بالمتعلّمين على الإطلاق لأنّ المتعلّمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها [2] فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟ فلهذا يجب على المعلّمين لهذه العلوم الآليّة أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبّهوا المتعلّم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همّته بعد ذلك إلى شيء من التّوغّل ورأى من نفسه قياما بذلك وكفاية به فليرقّ [3] له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا وكلّ ميسّر لما خلق له.   [1] وفي نسخة أخرى: وصيرها مقصودة بذاتها. [2] وفي نسخة أخرى: بهذه الآلات والوسائل. [3] وفي نسخة أخرى: فليختر لنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه اعلم أنّ تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين أخذ به أهل الملّة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التّعليم الّذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات. وسبب ذلك أنّ التّعليم في الصّغر أشدّ رسوخا وهو أصل لما بعده لأنّ السّابق الأوّل للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال من يبنى عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التّعليم من الملكات. فأمّا أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرّسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى [1] البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حدّ البلوغ إلى الشّبيبة. وكذا في الكبير إذا رجّع [2] مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأمّا أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الّذي يراعونه في التّعليم. إلّا أنّه لمّا كان القرآن أصل ذلك وأسّه ومنبع الدّين والعلوم جعلوه أصلا في التّعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشّعر في الغالب والتّرسل وأخذهم بقوانين   [1] وفي النسخة الباريسية: من قراء البربر. [2] وفي نسخة أخرى: راجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 العربيّة وحفظها وتجويد الخطّ والكتاب. ولا تختصّ عنايتهم في التّعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخطّ أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشّبيبة وقد شدا [1] بعض الشّيء في العربيّة والشّعر والبصر بهما وبرّز في الخطّ والكتاب وتعلّق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنّهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التّعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلّا ما حصل من ذلك التّعليم الأوّل. وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلّم. وأمّا أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلّا أنّ عنايتهم بالقرآن واستنظار [2] الولدان إيّاه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر ممّا سواه وعنايتهم بالخطّ تبع لذلك. وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأنّ سند طريقتهم في ذلك متّصل بمشيخة الأندلس الّذين أجازوا عند تغلّب النصارى على شرق الأندلس، واستقرّوا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. وأمّا أهل المشرق فيخلطون في التّعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها. والّذي ينقل لنا أنّ عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشّبيبة ولا يخلطون بتعليم الخطّ بل لتعليم الخطّ عندهم قانون ومعلّمون له على انفراده كما تتعلّم سائر الصّنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصّبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخطّ قاصر عن الإجادة ومن أراد تعلّم الخطّ فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمّة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته. فأمّا أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أنّ القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أنّ البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها. وليس لهم ملكة في غير   [1] شد من المعلم: أخذ.. (قاموس) . [2] وفي نسخة أخرى: استظهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللّسان العربيّ وحظّه الجمود في العبارات وقلّة التّصرّف في الكلام. وربّما كان أهل إفريقية في ذلك أخفّ من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التّصرّف ومحاذاة المثل بالمثل إلّا أنّ ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. وأمّا أهل الأندلس فأفادهم التّفنّن في التّعليم وكثرة رواية الشّعر والتّرسّل ومدارسة العربيّة من أوّل العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللّسان العربيّ. وقصّروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الّذي هو أصل العلوم وأساسها. فكانوا لذلك أهل حظّ وأدب بارع أو مقصّر، على حسب ما يكون التّعليم الثّاني من بعد تعليم الصّبيّ [1] . ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربيّ في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التّعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدّم تعليم العربيّة والشّعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: «لأنّ الشّعر ديوان العرب ويدعو على تقديمه وتعليم [2] العربيّة في التّعليم ضرورة فساد اللّغة ثمّ ينتقل منه إلى الحساب فيتمرّن فيه حتّى يرى القوانين ثمّ ينتقل إلى درس القرآن فإنّه يتيسّر عليك بهذه المقدّمة» . ثمّ قال: «ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصّبيّ بكتاب الله في أوامره [3] يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهمّ ما عليه منه» . ثمّ قال: «ينظر في أصول الدّين ثمّ أصول الفقه ثمّ الجدل ثمّ الحديث وعلومه» ونهى مع ذلك أن يخلط في التّعليم علمان إلّا أن يكون المتعلّم قابلا لذلك بجودة الفهم والنّشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلّا أنّ العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصّت به العوائد من تقدّم دراسة القرآن إيثارا للتّبرّك والثّواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصّبيّ من الآفات والقواطع   [1] وفي نسخة أخرى: الصبا. [2] وفي نسخة أخرى: تقديم. [3] وفي نسخة أخرى: أول عمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 عن العلم فيفوته القرآن، لأنّه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ وانحلّ من ربقة القهر فربّما عصفت به رياح الشّبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن لئلّا يذهب خلوا منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التّعليم لكان هذا المذهب الّذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق. ولكنّ الله يحكم ما يشاء لا معقّب لحكمه. الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم وذلك أنّ إرهاف الحدّ بالتّعليم مضرّ بالمتعلّم سيّما في أصاغر الولد لأنّه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيّق عن النّفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانيّة الّتي له من حيث الاجتماع والتّمرّن [1] وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه ومنزله. وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل السّافلين. وهكذا وقع لكلّ أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كلّ من يملك أمره عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء وأنظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السّوء حتّى إنّهم يوصفون في كلّ أفق. وعصر بالحرج [2] ومعناه في الاصطلاح   [1] وفي نسخة أخرى: التمدن. [2] وفي نسخة أخرى: بالخرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 المشهور التّخابث والكيد وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلّم في متعلّمه والوالد في ولده أن لا يستبدّا [1] عليهما في التّأديب. وقد قال محمّد بن أبي زيد في كتابه الّذي ألّفه في حكم المعلّمين والمتعلّمين: «لا ينبغي لمؤدّب الصّبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا» . ومن كلام عمر رضي الله عنه: «من لم يؤدّبه الشّرع لا أدّبه الله» . حرصا على صون النّفوس عن مذلّة التّأديب وعلما بأنّ المقدار الّذي عيّنه الشّرع لذلك أملك له فإنّه أعلم بمصلحته. ومن أحسن مذاهب التّعليم ما تقدّم به الرّشيد لمعلّم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمّد الأمين فقال: «يا أحمر إنّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصيّر يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروّه الأشعار وعلّمه السّنن وبصّره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضّحك إلّا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القوّاد إذا حضروا مجلسه. ولا تمرّنّ بك ساعة إلّا وأنت مغتنم فائدة تفيده إيّاها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ ويألفه. وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشّدّة والغلظة» . انتهى. الفصل الحادي والأربعون في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم والسّبب في ذلك أنّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل: تارة علما وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. إلّا أنّ حصول الملكات عن المباشرة والتّلقين أشدّ استحكاما وأقوى رسوخا. فعلى   [1] وفي النسخة الباريسية: يشدوا عليهم وفي نسخة أخرى: يستبدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 قدر كثرة الشّيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلّطة على المتعلّم حتّى لقد يظنّ كثير منهم أنّها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلّا مباشرته لاختلاف الطّرق فيها من المعلّمين. فلقاء أهل العلوم وتعدّد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرّد العلم عنها ويعلم أنّها أنحاء تعليم وطرق توصل وتنهض قواه إلى الرّسوخ والاستحكام في المكان [1] وتصحّح معارفه وتميّزها [2] عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتّلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعدّدهم وتنوّعهم. وهذا لمن يسّر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرّحلة لا بدّ منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرّجال. وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213. الفصل الثاني والأربعون في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها والسّبب في ذلك أنّهم معتادون النّظر الفكريّ والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن، أمورا كلّيّة عامّة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادّة ولا شخص ولا جيل ولا أمّة ولا صنف من النّاس. ويطبّقون من بعد ذلك الكلّيّ على الخارجيّات. وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهيّ. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذّهن ولا تصير إلى المطابقة إلّا بعد الفراغ من البحث والنّظر. ولا تصير بالجملة إلى المطابقة وإنّما يتفرّع ما في الخارج عمّا في الذّهن من ذلك كالأحكام الشّرعيّة فإنّها فروع   [1] وفي نسخة أخرى: في الملكات. [2] وفي النسخة الباريسية: وتصحيح معارفها وتمييزها عن سواها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 عمّا في المحفوظ من أدلّة الكتاب والسّنّة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار [1] في العلوم العقليّة الّتي تطلب في صحّتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعوّدون في سائر أنظارهم الأمور الذّهنيّة والأنظار الفكريّة لا يعرفون سواها. والسّياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنّها خفيّة. ولعلّ أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلّيّ الّذي يحاول تطبيقه عليها. ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلّهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعوّدوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السّياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم. ويلحق بهم أهل الذّكاء والكيس من أهل العمران لأنّهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط. والعاميّ السّليم الطّبع المتوسّط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إيّاه يقتصر لكلّ مادّة على حكمها وفي كلّ صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختصّ به ولا يعدّي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره الموادّ المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسّابح لا يفارق البرّ عند الموج. قال الشّاعر: فلا توغلنّ إذا ما سبحت ... فإنّ السّلامة في السّاحل فيكون مأمونا من النّظر في سياسته مستقيم النّظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضارّه باستقامة نظره. وفوق كلّ ذي علم عليم. ومن هنا يتبيّن [2] أنّ صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنّها تنظر في المعقولات الثّواني. ولعلّ الموادّ فيها   [1] الأصح أن يقول كلمة النظر لأنه لا وجود لكلمة انظار في (لسان العرب) . [2] وفي النسخة الباريسية: تعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التّطبيق اليقينيّ. وأمّا النّظر في المعقولات الأول وهي الّتي تجريدها قريب فليس كذلك لأنّها خياليّة وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم من الغريب الواقع أنّ حملة العلم في الملّة الإسلاميّة أكثرهم العجم لا من العلوم الشّرعيّة ولا من العلوم العقليّة إلّا في القليل النّادر. وإن كان منهم العربيّ في نسبته فهو أعجميّ في لغته ومرباه ومشيخته مع أنّ الملّة عربيّة وصاحب شريعتها عربيّ. والسّبب في ذلك أنّ الملّة في أوّلها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السّذاجة والبداوة وإنّما أحكام الشّريعة الّتي هي أوامر الله ونواهيه كان الرّجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسّنّة بما تلقّوه من صاحب الشّرع وأصحابه. والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التّعليم والتّأليف والتّدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة. وجرى الأمر على ذلك زمن الصّحابة والتّابعين وكانوا يسمّون المختصّين بحمل ذلك. ونقله إلى القرّاء أي الّذين يقرءون الكتاب وليسوا أمّيّين لأنّ الأمّيّة يومئذ صفة عامّة في الصّحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قرّاء إشارة إلى هذا. فهم قرّاء لكتاب الله والسّنّة المأثورة عن الله لأنّهم لم يعرفوا الأحكام الشّرعيّة إلّا منه ومن الحديث الّذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح. قال صلّى الله عليه وسلّم: «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّتي» . فلمّا بعد النّقل من لدن دولة الرّشيد فما بعد احتيج إلى وضع التّفاسير القرآنيّة وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثمّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل النّاقلين [1] للتّمييز بين الصّحيح من الأسانيد وما دونه ثمّ كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسّنّة وفسد مع ذلك اللّسان فاحتيج إلى وضع القوانين النّحويّة وصارت العلوم الشّرعيّة كلّها ملكات في الاستنباطات والاستخراج والتّنظير والقياس واحتاجت [2] إلى علوم أخرى وهي الوسائل لها من معرفة قوانين العربيّة وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذّبّ عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم كلّها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التّعليم فاندرجت في جملة الصّنائع. وقد كنّا قدّمنا أنّ الصّنائع من منتحل الحضر وأنّ العرب أبعد النّاس عنها فصارت العلوم لذلك حضريّة وبعد عنها العرب وعن سوقها. والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الّذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصّنائع والحرف لأنّهم أقوم على ذلك للحضارة الرّاسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النّحو سيبويه والفارسيّ من بعده والزّجّاج من بعدهما وكلّهم عجم في أنسابهم. وإنّما ربّوا في اللّسان العربيّ فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيّروه قوانين وفنّا لمن بعدهم. وكذا حملة الحديث الّذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللّغة والمربى لاتّساع الفنّ بالعراق. وكان علماء أصول الفقه كلّهم عجما كما يعرف وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسّرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلّا الأعاجم. وظهر مصداق قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلّق العلم بأكناف السّماء لناله قوم من أهل فارس» . وأمّا العرب الّذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرّئاسة في الدّولة العبّاسيّة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم، والنظر فيه، فإنّهم كانوا أهل الدّولة وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من   [1] وفي النسخة الباريسية: الرواة. [2] وفي النسخة الباريسية: واحتيج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصّنائع. والرّؤساء أبدا يستنكفون عن الصّنائع والمهن وما يجرّ إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولّدين. وما زالوا يرون لهم حقّ القيام به فإنّه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كلّ الاحتقار. حتّى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشّرعيّة غريبة النّسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وأمتهن حملتها بما يرون أنّهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عنهم [1] في الملك والسّياسة كما ذكرناه في نقل [2] المراتب الدّينيّة. فهذا الّذي قرّرناه هو السّبب في أنّ حملة الشّريعة أو عامّتهم من العجم. وأمّا العلوم العقليّة أيضا فلم تظهر في الملّة إلّا بعد أن تميّز حملة العلم ومؤلّفوه. واستقرّ العلم كلّه صناعة فاختصّت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلّا المعرّبون من العجم شأن الصّنائع كما قلناه أوّلا. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلاميّة ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء النّهر. فلمّا خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة الّتي هي سرّ الله في حصول العلم والصّنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة واختصّ العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أمّ العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصّنائع. وبقي بعض الحضارة في ما وراء النّهر لما هناك من الحضارة بالدّولة الّتي فيها فلهم بذلك حصّة من العلوم والصّنائع لا تنكر. وقد دلّنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد وهو سعد الدّين التّفتازانيّ. وأمّا غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدّين الطّوسيّ كلاما يعوّل على نهايته في الإصابة. فاعتبر ذلك وتأمّله تر عجبا في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا شريك له   [1] وفي نسخة أخرى: عليهم. [2] وفي نسخة أخرى: فصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد للَّه. الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي ّ والسّرّ في ذلك أنّ مباحث العلوم كلّها إنّما هي في المعاني الذهنيّة والخياليّة، من بين العلوم الشرعيّة، الّتي هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادّها من الأحكام المتلقّاة من الكتاب والسّنّة ولغاتها المؤدّية لها، وهي كلّها في الخيال، وبين العلوم العقليّة، وهي في الذهن. واللّغات إنّما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤدّيها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتّعليم، وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك. والألفاظ واللّغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام عن المعاني. ولا بدّ في اقتناص تلك المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللّغويّة عليها، وجودة الملكة لناظر فيها، وإلّا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنيّة من الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهيّ والجبلّي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم، أو خفّ، ولم يبق إلّا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كلّه إذا كان التّعليم تلقينا وبالخطاب والعبارة. وأمّا إن احتاج المتعلّم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطيّة من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخطّ ورسومه في الكتاب، وبين الألفاظ المقوّلة في الخيال. لأنّ رسوم الكتابة لها دلالة خاصّة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 الألفاظ المقوّلة. وما لم تعرف تلك الدلالة تعذّرت معرفة العبارة، وإن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلّم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبة، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأوّل. وإذا كانت ملكته في الدّلالة اللّفظيّة والخطيّة مستحكمة ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وصار إنّما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخطّ بالنسبة إلى كلّ لغة. والمتعلّمون لذلك في الصّغر أشدّ استحكاما لملكاتهم. ثمّ إنّ الملّة الإسلاميّة لمّا اتّسع ملكها واندرجت الأمم في طيّها ودرست علوم الأوّلين بنبوّتها وكتابها، وكانت أميّة النزعة والشّعار، فأخذ الملك والعزّة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب، وصيّروا علومهم الشرعيّة صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيهم الملكات، وكثرت الدواوين والتآليف، وتشوّفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالتّرجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجرّدوها من تلك اللّغات الأعجميّة إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر الّتي بلغتهم الأعجميّة نسيا منسيا وطللا مهجورا وهباء منثورا. وأصبحت العلوم كلّها بلغة العرب، ودواوينها المسطّرة بخطّهم، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللّفظيّة والخطيّة في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها وذهاب العناية بها. وقد تقدّم لنا أنّ اللّغة ملكة في اللّسان، وكذا الخطّ صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدّمت في اللّسان ملكة العجمة، صار مقصّرا في اللّغة العربيّة، لما قدّمناه من أنّ الملكة إذا تقدّمت في صناعة بمحلّ، فقلّ أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، وهو ظاهر. وإذا كان مقصّرا في اللّغة العربيّة ودلالاتها اللّفظيّة والخطيّة اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مرّ. إلّا أن تكون ملكة العجمة السّابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربيّة، كأصاغر أبناء العجم الّذين يربّون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون اللّغة العربيّة كأنّها السابقة لهم، ولا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربيّة. وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 أيضا شأن من سبق له تعلّم الخطّ الأعجميّ قبل العربيّ. ولهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخفّفون بذلك عن أنفسهم مئونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. وصاحب الملكة في العبارة والخطّ مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، وإنّه صار له فهم الأقوال من الخطّ، والمعاني من الأقوال، كالجبلّة الراسخة، وارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وربّما يكون الدّؤوب على التعليم والمران على اللّغة، وممارسة الخطّ يفيضان لصاحبهما إلى تمكّن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلّا أنّه في النادر. وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربيّ أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة الّتي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدّم بأنّ علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأنّ المراد بالعجم هنالك عجم النّسب لتداول الحضارة فيهم الّتي قرّرنا أنّها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأمّا عجمة اللّغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضا ممّا كان لليونانيّين في علومهم من رسوخ القدم فإنّهم إنّما تعلّموها من لغتهم السابقة لهم وخطّهم المتعارف بينهم. والأعجميّ المتعلّم للعلم في الملّة الإسلاميّة يأخذ العلم بغير لسانه الّذي سبق إليه، ومن غير خطّه الّذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه. وهذا عامّ في جميع أصناف أهل اللّسان الأعجميّ من الفرس والروم والتّرك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللّسان العربيّ. وفي ذلك آيات للمتوسمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي ّ أركانه أربعة وهي اللّغة والنّحو والبيان والأدب ومعرفتها ضروريّة على أهل الشّريعة إذ مأخذ الأحكام الشّرعيّة كلّها من الكتاب والسّنّة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصّحابة والتّابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغاتهم فلا بدّ من معرفة العلوم المتعلّقة بهذا اللّسان لمن أراد علم الشّريعة. وتتفاوت في التّأكيد بتفاوت مراتبها في التّوفية بمقصود الكلام حسبما يتبيّن في الكلام عليها فنّا فنّا والّذي يتحصّل أنّ الأهمّ المقدّم منها هو النّحو إذ به تتبيّن أصول المقاصد بالدّلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة. وكان من حق ّ علم اللّغة التّقدّم لولا أنّ أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغيّر بخلاف الإعراب الدّالّ على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنّه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان علم النّحو أهمّ من اللّغة إذ في جهله الإخلال بالتّفاهم جملة وليست كذلك اللّغة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. علم النحو اعلم أنّ اللّغة في المتعارف هي عبارة المتكلّم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لسانيّ ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بدّ أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها وهو اللّسان وهو في كلّ أمّة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات الّتي تعيّن الفاعل أي المفعول من المجرور أعني المضاف ومثلي الحروف الّتي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذّوات من غير تكلّف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلّا في لغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 العرب. وأمّا غيرها من اللّغات فكلّ معنى أو حال لا بدّ له من ألفاظ تخصّه بالدّلالة ولذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول ممّا تقدّره بكلام العرب. وهذا هو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . فصار للحروف في لغتهم. والحركات والهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدّلالة على المقصود غير متكلّفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنّما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأوّل كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا. فلمّا جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الّذي كان في أيدي الأمم والدّول وخالطوا العجم تغيّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السّمع من المخالفات الّتي للمستعربين [1] . والسّمع أبو الملكات اللّسانيّة ففسدت بما ألقي إليها ممّا يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السّمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطّردة شبه الكلّيّات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل أنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع. ثمّ رأوا تغيّر الدّلالة بتغيّر حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التّغيّر عاملا وأمثال ذلك. وصارت كلّها اصطلاحات خاصّة بهم فقيّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة. واصطلحوا على تسميتها بعلم النّحو. وأوّل من كتب فيها أبو الأسود الدّؤليّ من بني كنانة، ويقال بإشارة عليّ رضي الله عنه لأنّه رأى تغيّر الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثمّ كتب فيها النّاس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيديّ أيّام الرّشيد وكان النّاس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذّب الصّناعة وكمّل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه فكمّل تفاريعها واستكثر من أدلّتها وشواهدها ووضع   [1] وفي نسخة أخرى: للمتعربين من العجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 فيها كتابه المشهور الّذي صار إماما لكلّ ما كتب فيها من بعده. ثمّ وضع أبو عليّ الفارسيّ وأبو القاسم الزّجّاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثمّ طال الكلام في هذه الصّناعة وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلّة والحجاج بينهم وتباينت الطّرق في التّعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلّمين. وجاء المتأخّرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطّول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التّسهيل وأمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلّمين، كما فعله الزّمخشريّ في المفصّل وابن الحاجب في المقدّمة له. وربّما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصّغرى وابن معطي في الأرجوزة الألفيّة. وبالجملة فالتّآليف في هذا الفنّ أكثر من أن تحصى أو يحاط بها وطرق التّعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدّمين مغايرة لطريقة المتأخّرين. والكوفيّون والبصريّون والبغداديّون والأندلسيّون مختلفة طرقهم كذلك. وقد كادت هذه الصّناعة تؤذن بالذّهاب لما رأينا من النّقص في سائر العلوم والصّنائع بتناقص العمران ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدّين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصّلة. وتكلّم على الحروف والمفردات والجمل وحذف ما في الصّناعة من المتكرّر في أكثر أبوابها وسمّاه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلّها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظم سائرها فوقفنا منه على علم جمّ يشهد بعلوّ قدره في هذه الصّناعة ووفور بضاعته منها وكأنّه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الّذين اقتفوا أثر ابن جنّيّ واتّبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دالّ على قوّة ملكته واطّلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 علم اللغة هذا العلم هو بيان الموضوعات اللّغويّة وذلك أنّه لمّا فسدت ملكة اللّسان العربيّ في الحركات المسمّاة عند أهل النّحو بالإعراب واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثمّ استمرّ ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتّى تأدّى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعة عندهم ميلا مع هجنة [1] المستعربين [2] في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربيّة فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللّغويّة بالكتاب والتّدوين خشية الدّروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث فشمّر كثير من أئمّة اللّسان لذلك وأملوا فيه الدّواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيديّ. ألّف فيها كتاب العين فحصر فيه مركّبات حروف المعجم كلّها من الثّنائيّ والثّلاثيّ والرّباعيّ والخماسيّ وهو غاية ما ينتهي إليه التّركيب في اللّسان العربيّ. وتأتّى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة وذلك أنّ جملة الكلمات الثّنائيّة تخرج من جميع الأعداد على التّوالي من واحد إلى سبعة وعشرين وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأنّ الحرف الواحد منها يؤخذ مع كلّ واحد من السّبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائيّة. ثمّ يؤخذ الثّاني مع السّتّة والعشرين كذلك. ثمّ الثّالث والرّابع. ثمّ يؤخذ السّابع والعشرون مع الثّامن والعشرين فيكون واحدا فتكون كلّها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأوّل مع الأخير وتضرب المجموع في نصف العدّة. ثمّ تضاعف لأجل قلب الثّنائيّ لأنّ التّقديم والتّأخير بين الحروف معتبر في التّركيب فيكون الخارج جملة الثّنائيّات. وتخرج الثّلاثيّات من ضرب عدد الثّنائيّات فيما يجمع من واحد إلى ستّة وعشرين على   [1] الهجنة في الكلام: العيب والقبح (قاموس) . [2] وفي نسخة أخرى: المتعربين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 توالي العدد لأنّ كلّ ثنائيّة يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثيّة. فتكون الثّنائيّة بمنزلة الحرف الواحد مع كلّ واحد من الحروف الباقية وهي ستّة وعشرون حرفا بعد الثّنائيّة فتجمع من واحد إلى ستّة وعشرين على توالي العدد ويضرب فيه جملة الثّنائيّات. ثمّ تضرب الخارج في ستّة، جملة مقلوبات الكلمة الثّلاثيّة فيخرج مجموع تراكيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرّباعيّ والخماسيّ. فانحصرت له التّراكيب بهذا الوجه ورتّب أبوابه على حروف المعجم بالتّرتيب المتعارف. واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثمّ بعده من حروف الحنك ثمّ الأضراس ثمّ الشّفة وجعل حروف العلّة آخرا وهي الحروف الهوائيّة. وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنّه الأقصر [1] منها فلذلك سمّي كتابه بالعين لأنّ المتقدّمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا وهو تسميته بأوّل ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثمّ بيّن المهمل منها من المستعمل وكان المهمل في الرّباعيّ والخماسيّ أكثر لقلّة استعمال العرب له لثقله ولحق به الثنائيّ لقلّة دورانه وكان الاستعمال في الثّلاثيّ أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. وضمّن الخليل ذلك كلّه في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوعاه [2] . وجاء أبو بكر الزّبيديّ وكتب لهشام المؤيّد بالأندلس في المائة الرّابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحذف منه المهمل كلّه وكثيرا من شواهد المستعمل ولخّصه للحفظ أحسن تلخيص. وألّف الجوهريّ من المشارقة كتاب الصّحاح على التّرتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل التّرجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار النّاس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا. ثمّ يأتي بالحروف أوّل الكلمة على ترتيب حروف المعجم أيضا ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللّغة اقتداء بحصر الخليل. ثمّ ألّف   [1] وفي نسخة أخرى: الأقصى. [2] وفي نسخة أخرى: وأوفاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 فيها من الأندلسيّين ابن سيده من أهل دانية في دولة عليّ بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التّعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدّواوين. ولخّصه محمّد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدّولة الحفصيّة بتونس. وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصّحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التّراجم عليها فكانا توأمي رحم وسليلي أبوّة ولكراع من أئمّة اللّغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباريّ كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللّغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصّة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلّها. إلّا أنّ وجه الحصر فيها خفيّ ووجه الحصر في تلك جليّ من قبل التّراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضا في اللّغة كتاب الزّمخشريّ في المجاز سمّاه أساس البلاغة بيّن فيه كلّ ما تجوّزت به العرب من الألفاظ وفيما تجوّزت به من المدلولات وهو كتاب شريف الإفادة. ثمّ لمّا كانت العرب تضع الشّيء على العموم ثمّ تستعمل في الأمور الخاصّة ألفاظا أخرى خاصّة بها فوق ذلك عندنا، وبيّن الوضع والاستعمال واحتاج إلى فقه في اللّغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العامّ لكلّ ما فيه بياض ثمّ اختصّ ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح حتّى صار استعمال الأبيض في هذه كلّها لحنا وخروجا عن لسان العرب. واختصّ بالتّأليف في هذا المنحى الثّعالبيّ وأفرده في كتاب له سمّاه فقه اللّغة وهو من أكد ما يأخذ به اللّغويّ نفسه أن يحرّف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأوّل بكاف في التّرتيب حتّى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فنّي نظمه ونثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللّغويّة في مفرداتها وتراكيبها وهو أشدّ [1] من اللّحن في الإعراب وأفحش. وكذلك ألّف بعض المتأخّرين في الألفاظ   [1] وفي نسخة أخرى: أشرّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 المشتركة وتكفّل بحصرها وإن لم تبلغ إلى النّهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر. وأمّا المختصرات الموجودة في هذا الفنّ المخصوصة بالمتداول من اللّغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطّالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السّكّيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقلّ لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهمّ على الطّالب للحفظ. والله الخلّاق العليم لا ربّ سواه. فصل: واعلم أنّ النقل الّذي تثبت به اللّغة، إنّما هو النقل عن العرب أنّهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنّهم وضعوها لأنّه متعذّر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللّغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأنّ شهادة الاعتبار في باب القياس إنّما يدركها الشّرع الدالّ على صحّة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللّغة إلّا بالعقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمّة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريح وغيرهم. لكنّ القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمنّ أنّ إثبات اللغة في باب الحدود اللّفظيّة، لأنّ الحدّ راجع إلى المعاني، ببيان أنّ مدلول اللفظ المجهول الخفيّ هو مدلول الواضح المشهور، واللّغة إثبات أنّ اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية الظهور. علم البيان هذا العلم حادث في الملّة بعد علم العربيّة واللّغة، وهو من العلوم اللّسانيّة لأنّه متعلّق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدّلالة عليه من المعاني وذلك أنّ الأمور الّتي يقصد المتكلّم بها إفادة السّامع من كلامه هي: إمّا تصوّر مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض، والدّالّة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف وإمّا تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، ويدلّ عليها بتغيّر الحركات من الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلّها هي صناعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 النّحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدّلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدّلالة عليه لأنّه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلّم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإنّ كلامهم واسع ولكلّ مقام عندهم مقال يختصّ به بعد كمال الإعراب والإبانة. ألا ترى أنّ قولهم (زيد جاءني) مغاير لقولهم (جاءني زيد) من قبل أنّ المتقدّم منهما هو الأهمّ عند المتكلّم فمن قال: جاءني زيد أفاد أنّ اهتمامه بالمجيء قبل الشّخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني أفاد أنّ اهتمامه بالشّخص قبل المجيء المسند. وكذا التّعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة. وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم وإنّ زيدا قائم وإنّ زيدا لقائم متغايرة كلّها في الدّلالة وإن استوت من طريق الإعراب فإنّ الأوّل العاري عن التّأكيد إنّما يفيد الخالي الذّهن والثّاني المؤكّد بأنّ يفيد المتردّد والثّالث يفيد المنكر فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرّجل ثمّ تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التّنكير تعظيمه وأنّه رجل لا يعادله أحد من الرّجال. ثمّ الجملة الإسناديّة تكون خبريّة وهي الّتي لها خارج تطابقه أولا، وإنشائيّة وهي الّتي لا خارج لها. كالطّلب وأنواعه. ثمّ قد يتعيّن ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثّانية محلّ من الإعراب: فيشرك [1] بذلك منزلة التّابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعيّن العطف إذا لم يكن للثّانية محلّ من الإعراب: ثمّ يقتضي المحلّ الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثمّ قد يدلّ باللّفظ ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنّما تريد شجاعته اللّازمة وتسندها إلى زيد وتسمّى هذه استعارة. وقد تريد باللّفظ المركّب الدّلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير   [1] وفي نسخة أخرى: ينزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 الرّماد [1] وتريد ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضّيف لأنّ كثرة الرّماد ناشئة عنهما فهي دالّة عليهما. وهذه كلّها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركّب وإنّما هي هيئات وأحوال الواقعات جعلت للدّلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كلّ بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمّى بالبيان على البحث عن هذه الدّلالة الّتي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف: الصّنف الأوّل يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال الّتي تطابق باللّفظ جميع مقتضيات الحال ويسمّى علم البلاغة، والصّنف الثّاني يبحث فيه عن الدّلالة على اللّازم اللّفظيّ وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمّى علم البيان. وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النّظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التّنميق إمّا بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام [2] معنى أخفى منه لاشتراك اللّفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمّى عندهم علم البديع. وأطلق على الأصناف الثّلاثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصّنف الثّاني لأنّ الأقدمين أوّل من تكلّموا فيه، ثمّ تلاحقت مسائل الفنّ واحدة بعد أخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثمّ لم تزل مسائل الفنّ تكمل شيئا فشيئا إلى أن محّص [3] السّكاكيّ زبدته وهذّب مسائله ورتّب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من التّرتيب وألّف كتابه المسمّى بالمفتاح في النّحو والتّصريف والبيان فجعل هذا الفنّ من بعض أجزائه. وأخذه المتأخّرون من كتابه ولخّصوا منه أمّهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السّكاكيّ في كتاب التّبيان [4] وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدّين القزوينيّ في كتاب الإيضاح والتّلخيص وهو أصغر حجما   [1] وفي نسخة أخرى: رماد القدور. [2] وفي نسخة أخرى: بإبهام. [3] وفي نسخة أخرى: مخض. [4] وفي النسخة الباريسية: البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 من الإيضاح والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشّرح والتّعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفنّ أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنّه كماليّ في العلوم اللّسانيّة والصّنائع الكماليّة توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق كتفسير الزّمخشريّ، وهو كلّه مبنيّ على هذا الفنّ، وهو أصله. وإنّما اختصّ بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصّة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشّعريّة، وفرّعوا له ألقابا وعدّدوا أبوابا ونوّعوا أنواعا. وزعموا أنّهم أحصوها من لسان العرب وإنّما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأنّ علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقّة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممّن ألّف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أنّ ثمرة هذا الفنّ إنّما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأنّ إعجازه في وفاء الدّلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختصّ بالألفاظ في انتفائها وجودة رصفها [1] وتركيبها وهذا هو الإعجاز الّذي تقصّر الأفهام عن إدراكه. وإنّما يدرك بعض الشّيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللّسان العربيّ وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الّذين سمعوه من مبلّغه أعلى مقاما في ذلك لأنّهم فرسان الكلام وجها بذته والذّوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحّه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفنّ المفسّرون وأكثر تفاسير المتقدّمين غفل عنه حتّى ظهر جار الله الزّمخشريّ ووضع كتابه في التّفسير وتتبّع آي القرآن بأحكام هذا الفنّ بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التّفاسير لولا أنّه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل   [1] وفي النسخة الباريسية: وضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 السّنّة مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السّنّة وشارك في هذا الفنّ بعض المشاركة حتّى يقتدر على الرّدّ عليه من جنس كلامه أو يعلم أنّه بدعة فيعرض عنها ولا تضرّ في معتقده فإنّه يتعيّن عليه النّظر في هذا الكتاب للظّفر بشيء من الإعجاز مع السّلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السّبيل. علم الأدب هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنّما المقصود منه عند أهل اللّسان ثمرته، وهي الإجادة في فنّي المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطّبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللّغة والنّحو مبثوثة أثناء ذلك، متفرّقة، يستقري منها النّاظر في الغالب معظم قوانين العربيّة، مع ذكر بعض من أيّام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهمّ من الأنساب الشّهيرة والأخبار العامّة. والمقصود بذلك كلّه أن لا يخفى على النّاظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفّحه لأنّه لا تحصل الملكة من حفظه إلّا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقّف عليه فهمه. ثمّ إنّهم إذا أرادوا حدّ هذا الفنّ قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كلّ علم بطرف يريدون من علوم اللّسان أو العلوم الشّرعيّة من حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلّا ما ذهب إليه المتأخّرون عند كلفهم بصناعة البديع من التّورية في أشعارهم وترسّلهم بالاصطلاحات العلميّة فاحتاج صاحب هذا الفنّ حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التّعليم أنّ أصول هذا الفنّ وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكتّاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرّد وكتاب البيان والتّبيين للجاحظ وكتاب النّوادر لأبي عليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 القالي البغداديّ. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة. وكان الغناء في الصّدر الأوّل من أجزاء هذا الفنّ لما هو تابع للشّعر إذ الغناء إنّما هو تلحينه. وكان الكتّاب والفضلاء من الخواصّ في الدّولة العباسيّة يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشّعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة. وقد ألّف القاضي أبو الفرج الأصبهانيّ كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيّامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا الّتي اختارها المغنّون للرّشيد فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه. ولعمري إنّه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن الّتي سلفت لهم في كلّ فن من فنون الشّعر والتّأريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية الّتي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنّى له بها. ونحن الآن نرجع بالتّحقيق على الإجمال فيما تكلّمنا عليه من علوم اللّسان. والله الهادي للصّواب. الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية اعلم أنّ اللّغات كلّها ملكات شبيهة بالصّناعة إذ هي ملكات في اللّسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنّظر إلى المفردات وإنّما هو بالنّظر إلى التّراكيب. فإذا حصلت الملكة التّامّة في تركيب الألفاظ المفردة للتّعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التّأليف الّذي يطبّق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلّم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسّامع وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلّا بتكرار الأفعال لأنّ الفعل يقع أوّلا وتعود منه للذّات صفة ثمّ تتكرّر فتكون حالا. ومعنى الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 أنّها صفة غير راسخة ثمّ يزيد التّكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته [1] اللّغة العربيّة موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصّبيّ استعمال المفردات في معانيها فيلقّنها أوّلا ثمّ يسمع التّراكيب بعدها فيلقّنها كذلك. ثمّ لا يزال سماعهم لذلك يتجدّد في كلّ لحظة ومن كلّ متكلّم واستعماله يتكرّر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيّرت الألسن واللّغات من جيل إلى جيل وتعلّمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى ما تقوله العامّة من أنّ اللّغة للعرب بالطّبع أي بالملكة الأولى الّتي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم. ثمّ إنّه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أنّ النّاشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيّات أخرى غير الكيفيّات الّتي كانت للعرب فيعبّر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيّات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللّسان العربيّ. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللّغات العربيّة وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثمّ من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأمّا من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسّان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والرّوم والحبشة فلم تكن لغتهم تامّة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصّحّة والفساد عند أهل الصّناعة العربيّة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.   [1] الضمير يعود إلى اللغة. وفي النسخة الباريسية ملكة اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير وذلك أنّا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدّلالة على سنن اللّسان المضريّ ولم يفقد منها إلّا دلالة الحركات على تعيّن الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتّقديم والتّأخير وبقرائن تدلّ على خصوصيّات المقاصد. إلّا أنّ البيان والبلاغة في اللّسان المضريّ أكثر وأعرق، لأنّ الألفاظ بأعيانها دالّة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمّى بساط الحال محتاجا إلى ما يدلّ عليه. وكلّ معنى لا بدّ وأن تكتنفه أحوال تخصّه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنّها صفاته وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدلّ عليها بألفاظ تخصّها بالوضع. وأمّا في اللّسان العربيّ فإنّما يدلّ عليها بأحوال وكيفيّات في تراكيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. وقد يدلّ عليها بالحروف غير المستقلّة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللّسان العربيّ بحسب تفاوت الدّلالة على تلك الكيفيّات كما قدّمناه فكان الكلام العربيّ لذلك أوجز وأقلّ ألفاظا وعبارة من جميع الألسن. وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النّحاة: «إنّي أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم وإنّ زيدا قائم وإنّ زيدا لقائم والمعنى واحد» . فقال له: إنّ معانيها مختلفة، فالأوّل: لإفادة الخالي الذّهن من قيام زيد، والثّاني: لمن سمعه فتردّد فيه، والثّالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدّلالة باختلاف الأحوال. وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة النّحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التّحقيق حيث يزعمون أنّ البلاغة لهذا العهد ذهبت وأنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 اللّسان العربيّ فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الّذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسّها التّشيع في طباعهم وألقاها القصور في أفئدتهم وإلّا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتّعبير عن المقاصد والتّعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد وأساليب اللّسان وفنونه من النّظم والنّثر موجودة في مخاطباتهم وفهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم والشّاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذّوق الصّحيح والطّبع السّليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللّسان المدوّن إلّا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الّذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعا معروفا وهو الإعراب. وهو بعض من أحكام اللّسان. وإنّما وقعت العناية بلسان مضر لمّا فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشّام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصّورة الّتي كانت أوّلا فانقلب لغة أخرى. وكان القرآن منزّلا به والحديث النّبويّ منقولا بلغته وهما أصلا الدّين والملّة فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللّسان الّذي نزّلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه. وصار علما ذا فصول وأبواب ومقدّمات ومسائل سمّاه أهله بعلم النّحو وصناعة العربيّة فأصبح فنّا محفوظا وعلما مكتوبا وسلّما إلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وافيا [1] . ولعلّنا لو اعتنينا بهذا اللّسان العربيّ لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابيّة في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصّها. ولعلّها تكون في أواخره على غير المنهاج الأوّل في لغة مضر فليست اللّغات وملكاتها مجّانا. ولقد كان اللّسان المضريّ مع اللّسان الحميريّ بهذه المثابة وتغيّر عند مضر كثير من موضوعات اللّسان الحميريّ وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنّها لغة واحدة ويلتمس إجراء اللّغة الحميريّة على   [1] وفي نسخة أخرى: راقيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 مقاييس اللّغة المضريّة وقوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللّسان الحميريّ أنّه من القول وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر إلّا أنّ العناية بلسان مضر من أجل الشّريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه. وممّا وقع في لغة هذا الجيل العربيّ لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النّطق بالقاف فإنّهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربيّة أنّه من أقصى اللّسان وما فوقه من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسّطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتّى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال مختصّا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتّى إنّ من يريد التّقرّب [1] والانتساب إلى الجيل والدّخول فيه يحاكيهم في النّطق بها. وعندهم أنّه إنّما يتميّز العربيّ الصّريح من الدّخيل في العروبيّة والحضريّ بالنّطق بهذه القاف. ويظهر بذلك أنّها لغة مضر بعينها فإنّ هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقا وغربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم وهم من أعقاب مضر وسائر الجيل معهم من بني كهلان في النّطق بهذه القاف أسوة. وهذه اللّغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ويظهر من ذلك أنّها لغة مضر الأوّلين ولعلّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعينها قد ادّعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أنّ من قرأ في أمّ القرآن «اهدنا إلى الصراط   [1] وفي نسخة أخرى: التعرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 المستقيم» بغير القاف الّتي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاته ولم أدر من أين جاء هذا؟ فإنّ لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها وإنّما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لمّا نزلوا الأمصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلّا أنّهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجّح فيما يوجد من اللّغة لديهم أنّه من لغة سلفهم. هذا مع اتّفاق أهل الجيل كلّهم شرقا وغربا في النّطق بها وأنّها الخاصيّة الّتي يتميّز بها العربيّ من الهجين والحضريّ. والظّاهر أنّ هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الجيل العربيّ البدويّ هو من مخرج القاف عند أوّلهم من أهل اللّغة، وأنّ مخرج القاف متّسع، فأوّله من أعلى الحنك وآخره ممّا يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها ممّا يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدويّ. وبهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أمّ القرآن، فإنّ فقهاء الأمصار كلّهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إنّ الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدويّ لأنّ تواترها فيهم كما قدّمناه، شاهد بأنّها لغة الجيل الأوّل من سلفهم، وأنّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ويرجّح ذلك أيضا إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثمّ إنّ أهل العربيّة قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وهي الّتي ينطق بها أهل الجيل البدويّ من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسّطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنّها حرف مستقلّ، وهو بعيد. والظاهر أنّها من آخر مخرج القاف لاتّساعه كما قلناه. ثمّ إنّهم يصرّحون باستهجانه واستقباحه كأنّهم لم يصحّ عندهم أنّها لغة الجيل الأوّل. وفيما ذكرناه من اتّصال نطقهم بها، لأنّهم إنّما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، وأنّها شعارهم الخاصّ بهم، دليل على أنّها لغة ذلك الجيل الأوّل، ولغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما تقدّم ذلك كلّه. وقد يزعم زاعم أنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، وأنّها إنّما جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنّهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب. ولكنّ الأقيس كما قدّمناه من أنّهما حرف واحد متّسع المخرج. فتفهّم ذلك. والله الهادي المبين. الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر اعلم أنّ عرف التّخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربيّ الّذي لعهدنا وهي عن لغة مضر أبعد. فأمّا إنّها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التّغاير الّذي يعدّ عند صناعة أهل النّحو لحنا. وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشّيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكلّ منهم متوصّل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عمّا في نفسه. وهذا معنى اللّسان واللّغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد. وأمّا إنّها أبعد عن اللّسان الأوّل من لغة هذا الجيل فلأنّ البعد عن اللّسان إنّما هو بمخالطة العجمة [1] . فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللّسان الأصليّ أبعد لأنّ الملكة إنّما تحصل بالتّعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى الّتي كانت للعرب ومن الملكة الثّانية الّتي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق. أمّا إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من   [1] وفي النسخة الباريسية: لمخالطة العجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 العجم بوفور عمرانها بهم ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل فغلبت العجمة فيها على اللّسان العربيّ الّذي كان لهم وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللّسان الأوّل أبعد. وكذا المشرق لمّا غلب العرب على أممه من فارس والتّرك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلّاحين والسّبي الّذين اتّخذوهم خولا ودايات وأظآرا ومراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتّى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلّهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره وكأنّه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدّر. الفصل التاسع والأربعون في تعليم اللسان المضري اعلم أنّ ملكة اللّسان المضريّ لهذا العهد قد ذهبت وفسدت ولغة أهل الجيل كلّهم مغايرة للغة مضر الّتي نزّل بها القرآن وإنّما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها كما قدّمناه. إلّا أنّ اللّغات لمّا كانت ملكات كما مرّ كان تعلّمها ممكنا شأن سائر الملكات. ووجه التّعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السّلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولّدين أيضا في سائر فنونهم حتّى يتنزّل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقّن العبارة عن المقاصد منهم. ثمّ يتصرّف بعد ذلك في التّعبير عمّا في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفظه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 أساليبهم وترتيب ألفاظهم فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوّة ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطّبع والتّفهّم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التّراكيب ومراعاة التّطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال. والذّوق يشهد بذلك وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطّبع السّليم فيهما كما نذكر. وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا. ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر وهو النّاقد البصير بالبلاغة فيها وهكذا ينبغي أن يكون تعلّمها. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه. الفصل الخمسون في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم والسّبب في ذلك أنّ صناعة العربيّة إنّما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصّة. فهو علم بكيفيّة لا نفس كيفيّة. فليست نفس الملكة وإنّما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصّنائع علما ولا يحكمها عملا. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التّعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثمّ يغرزها في لفقي الثّوب مجتمعين ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثمّ يردّها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدّام منفذها الأوّل بمطرح ما بين الثّقبين الأوّلين ثمّ يتمادى على ذلك إلى آخر العمل ويعطي صورة الحبك والتّثبيت [1] والتّفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها. وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا. وكذا لو سئل عالم بالنّجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر   [1] وفي نسخة أخرى: التنبيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرّسة المحدّدة تقطع ما مرّت عليه ذاهبة وجائية إلى أن ينتهي إلى آخر [1] الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإنّ العلم بقوانين الإعراب إنّما هو علم بكيفيّة العمل وليس هو نفس العمل ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النّحاة والمهرة في صناعة العربيّة المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودّته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصّواب وأكثر من اللّحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللّسان العربيّ. وكذا نجد كثيرا ممّن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنّين من المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ولا المرفوع من المجرور ولا شيئا من قوانين صناعة العربيّة. فمن هذا تعلم أنّ تلك الملكة هي غير صناعة العربيّة وأنّها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرا بحال هذه الملكة وهو قليل واتّفاقيّ وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنّه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه والمحصّل له قد حصل على حظّ [2] من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبّه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التّفطّن لهذا فيحصل على علم اللّسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأمّا المخالطون لكتب المتأخّرين العارية عن ذلك إلّا من القوانين النحويّة مجرّدة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلّ ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنّهم قد   [1] وفي النسخة الباريسية: أسفل. [2] وفي نسخة أخرى: على خط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 حصلوا على رتبة في لسان العرب وهم أبعد النّاس عنه. وأهل صناعة العربيّة بالأندلس ومعلّموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم والتّفقّه في الكثير من التّراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التّعليم فتنقطع [1] النّفس لها وتستعدّ إلى تحصيلها وقبولها. وأمّا من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربيّة مجرى العلوم بحثا وقطعوا النّظر عن التّفقّه في تراكيب كلام العرب إلّا إن أعربوا شاهدا أو رجّحوا مذهبا [2] من جهة الاقتضاء الذّهنيّ لا من جهة محامل اللّسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربيّة كأنّها من جملة قوانين المنطق العقليّة أو الجدل وبعدت عن مناحي اللّسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكليّة، وكأنّهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلّا لعدولهم عن البحث في شواهد اللّسان وتراكيبه وتمييز أساليبه وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلّم فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللّسان. وتلك القوانين إنّما هي وسائل للتّعليم لكنّهم أجروها على غير ما قصد بها وأصاروها علما بحتا وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ممّا قرّرناه في هذا الباب أنّ حصول ملكة اللّسان العربيّ إنّما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتّى يرتسم في خياله المنوال الّذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزّل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتّى حصلت له الملكة المستقرّة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدّر الأمور كلّها والله أعلم بالغيب.   [1] وفي نسخة أخرى: فتنطبع. [2] وفي النسخة الباريسية: معنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 الفصل الواحد والخمسون في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم اعلم أنّ لفظة الذّوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة البلاغة للّسان. وقد مرّ تفسير البلاغة وأنّها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواصّ تقع للتّراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلّم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرّى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتّصلت مقاماته [1] بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التّركيب حتّى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة الّتي للعرب وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجّه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلّا بما استفاد من حصول هذه الملكة. فإنّ الملكات إذا استقرّت ورسخت في محالّها ظهرت كأنّها طبيعة وجبلّة لذلك المحلّ. ولذلك يظنّ كثير من المغفّلين ممّن لم يعرف شأن الملكات أنّ الصّواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعيّ. ويقول كانت العرب تنطق بالطّبع وليس كذلك وإنّما هي ملكة لسانيّة في نظم الكلام تمكّنت ورسخت فظهرت في بادئ الرّأي أنّها جبلّة وطبع. وهذه الملكة كما تقدّم إنّما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرّره على السّمع والتّفطّن لخواصّ تراكيبه وليست تحصل بمعرفة القوانين العلميّة في ذلك الّتي استنبطها أهل صناعة اللّسان فإنّ هذه القوانين إنّما تفيد علما بذلك اللّسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلّها وقد مرّ ذلك. وإذا تقرّر ذلك فملكة البلاغة في اللّسان تهدي البليغ إلى وجود النّظم   [1] وفي نسخة أخرى: معاناته لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 وحسن التّركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السّبل المعيّنة والتّراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنّه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الرّاسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجّه وعلم أنّه ليس من كلام العرب الّذين مارس كلامهم. وربّما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النّحويّة والبيانيّة فإنّ ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجدانيّ حاصل بممارسة كلام العرب حتّى يصير كواحد منهم. ومثاله: لو فرضنا صبيّا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فإنّه يتعلّم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها حتّى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانونيّ في شيء وإنّما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث يحصّل الملكة ويصير كواحد ممّن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم [1] . والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة عند ما ترسخ وتستقرّ اسم الذّوق الّذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق وإنّما هو موضوع لإدراك الطّعوم. لكن لمّا كان محلّ هذه الملكة في اللّسان من حيث النّطق بالكلام كما هو محلّ لإدراك الطّعوم استعير لها اسمه. وأيضا فهو وجدانيّ اللّسان كما أنّ الطّعوم محسوسة له فقيل له ذوق. وإذا تبيّن لك ذلك علمت منه أنّ الأعاجم الدّاخلين في اللّسان العربيّ الطّارئين عليه المضطرّين إلى النّطق به لمخالطة أهله كالفرس والرّوم والتّرك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فإنّه لا يحصل لهم هذا الذّوق لقصور حظّهم في هذه الملكة الّتي قرّرنا أمرها لأنّ قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللّسان وهي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركّب لما يضطرّون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها كما تقدّم. وإنّما لهم في   [1] وفي نسخة أخرى: أحيائهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 ذلك ملكة أخرى وليست هي ملكة اللّسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطّرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء. إنّما حصّل أحكامها كما عرفت. وإنّما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتّكرّر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه من أنّ سيبويه والفارسيّ والزّمخشريّ وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أنّ أولئك القوم الّذين تسمع عنهم إنّما كانوا عجما في نسبهم فقط. وأمّا المربى والنّشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلّمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها وكأنّهم في أوّل نشأتهم من العرب الّذين نشئوا في أجيالهم حتّى أدركوا كنه اللّغة وصاروا من أهلها فهم وإن كانوا عجما في النّسب فليسوا بأعجام في اللّغة والكلام لأنّهم أدركوا الملّة في عنفوانها واللّغة في شبابها ولم تذهب آثار الملكة ولا من أهل الأمصار ثمّ عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتّى استولوا على غايته. واليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللّسان العربيّ بالأمصار فأوّل ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللّسان العربيّ ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصّة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللّسان العربيّ. ثمّ إذا فرضنا أنّه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ يستفيد تحصيلها فقلّ أن يحصل له ما قدّمناه من أنّ الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحلّ فلا تحصل إلّا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا أعجميّا في النّسب سلم من مخالطة اللّسان العجميّ بالكلّيّة وذهب إلى تعلّم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة فربّما يحصل له ذلك لكنّه من النّدور بحيث لا يخفى عليك بما تقرّر. وربّما يدّعي كثير ممّن ينظر في هذه القوانين البيانيّة حصول هذا الذّوق له بها وهو غلط أو مغالطة وإنّما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانيّة وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 الفصل الثاني والخمسون في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربيّ كان حصولها له أصعب وأعسر والسّبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلّم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللّسان الحضريّ الّذي أفادته العجمة حتّى نزل بها اللّسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد. ولهذا نجد المعلّمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللّسان للولدان. وتعتقد النحاة أنّ هذه المسابقة بصناعتهم وليس كذلك وإنّما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللّسان وكلام العرب. نعم صناعة النّحو أقرب إلى مخالطة ذلك وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصّر بصاحبه عن تعلّم اللّغة المضريّة وحصول ملكتها لتمكّن المنافاة [1] حينئذ. واعتبر ذلك في أهل الأمصار. فأهل إفريقية والمغرب لمّا كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللّسان الأوّل كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتّعليم. ولقد نقل ابن الرّفيق أنّ بعض كتّاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنّك كنت ذكرت أنّك تكون مع الّذين تأتي وعاقنا اليوم فلم يتهيّأ لنا الخروج. وأمّا أهل المنزل الكلاب [2] من أمر الشّين فقد كذّبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله. وهكذا كانت ملكتهم في اللّسان المضريّ شبيه بما ذكرنا. وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطّبقة ولم تزل كذلك لهذا العهد ولهذا ما كان بإفريقيّة من   [1] وفي النسخة الباريسية: المكافأة. [2] كالب الرجل كلابا: أي عاداه جهارا (قاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 مشاهير الشّعراء إلّا ابن رشيق وابن شرف. وأكثر ما يكون فيها الشّعراء طارئين عليها ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتّى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللّغويّة نظما ونثرا. وكان فيهم ابن حيّان المؤرّخ إمام أهل الصّناعة في هذه الملكة ورافع الرّاية لهم فيها وابن عبد ربّه والقسطليّ وأمثالهم من شعراء ملوك الطّوائف لما زخرت فيها بحار اللّسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السّنين حتّى كان الانفضاض والجلاء أيّام تغلّب النّصرانيّة. وشغلوا عن تعلّم ذلك وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصّنائع كلّها فقصّرت الملكة فيهم عن شأنها حتّى بلغت الحضيض. وكان من آخرهم صالح بن شريف ومالك بن مرحّل من تلاميذ الطّبقة الإشبيليّين بسبتة وكتّاب دولة بني الأحمر في أوّلها. وألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيليّة إلى سبتة ومن شرقيّ الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصّناعة لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربريّة وهي منافية لما قلناه. ثمّ عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت ونجم بها ابن بشرين [1] وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم. ثمّ إبراهيم السّاحليّ الطّريحيّ [2] وطبقته وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه. وكان له في اللّسان ملكة لا تدرك واتّبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر وتعليمها أيسر وأسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدّمناه من معاناة علوم اللّسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأنّ أهل اللّسان العجميّ الّذين تفسد ملكتهم إنّما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلا للغة   [1] وفي نسخة أخرى: ابن سيرين. [2] وفي نسخة أخرى: الطويجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة وهم أهلها ولسانهم لسانها إلّا في الأمصار فقط. وهم منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربريّة فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللّسانيّة بالتّعليم بخلاف أهل الأندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدّولة الأمويّة والعبّاسيّة فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة وإجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلّا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم وكان فحول الشّعراء والكتّاب أوفر لتوفّر العرب وأبنائهم بالمشرق. وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم فإنّ ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم وفيه لغتهم وأخبارهم وأيّامهم وملّتهم العربيّة وسيرتهم [1] وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدّولتين وربّما كانت فيهم أبلغ ممّن سواهم ممّن كان في الجاهليّة كما نذكره بعد. حتّى تلاشى أمر العرب ودرست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلّب لهم. وذلك في دولة الدّيلم والسلجوقيّة. وخالطوا أهل الأمصار وكثّروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتّى بعدوا عن اللّسان العربيّ وملكته وصار متعلّمها منهم مقصّرا عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فنّي المنظوم والمنثور وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار والله سبحانه وتعالى اعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.   [1] وفي نسخة أخرى: وسير نبيهم صلّى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر اعلم أنّ لسان العرب وكلامهم على فنّين في الشّعر المنظوم وهو الكلام الموزون المقفّى ومعناه الّذي تكون أوزانه كلّها على رويّ واحد وهو القافية. وفي النّثر وهو الكلام غير الموزون وكلّ واحد من الفنّين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأمّا الشّعر فمنه المدح والهجاء والرّثاء وأمّا النّثر فمنه السّجع الّذي يؤتى به قطعا ويلتزم في كلّ كلمتين منه قافية واحدة يسمّى سجعا ومنه المرسل وهو الّذي يطلق فيه الكلام إطلاقا ولا يقطّع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدّعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم. وأمّا القرآن وإن كان من المنثور إلّا أنّه خارج عن الوصفين وليس يسمّى مرسلا مطلقا ولا مسجّعا. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذّوق بانتهاء الكلام عندها. ثمّ يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها ويثنّى من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية وهو معنى قوله تعالى: «الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ 39: 23» . وقال: «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ 6: 97» . ويسمّى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السّجع ولا هي أيضا قواف. وأطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلّها على العموم لما ذكرناه واختصّت بأمّ القرآن للغلبة فيها كالنّجم للثّريّا ولهذا سمّيت السّبع المثاني. وانظر هذا مع ما قاله المفسّرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحقّ برجحان ما قلناه. واعلم أنّ لكلّ واحد من هذه الفنون أساليب تختصّ به عند أهله ولا تصلح للفنّ الآخر ولا تستعمل فيه مثل النّسيب المختصّ بالشّعر والحمد والدّعاء المختصّ بالخطب والدّعاء المختصّ بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخّرون أساليب الشّعر وموازينه في المنثور من كثرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 الأسجاع والتزام التّقفية وتقديم النّسب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأمّلته من باب الشّعر وفنّه ولم يفترقا إلّا في الوزن. واستمرّ المتأخّرون من الكتّاب على هذه الطّريقة واستعملوها في المخاطبات السّلطانيّة وقصروا الاستعمال في المنثور كلّه على هذا الفنّ الّذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصا أهل المشرق. وصارت المخاطبات السّلطانيّة لهذا العهد عند الكتّاب الغفّل جارية على هذا الأسلوب الّذي أشرنا إليه وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب. وهذا الفنّ المنثور المقفّى أدخل المتأخّرون فيه أساليب الشّعر فوجب أن تنزّه المخاطبات السّلطانيّة عنه إذ أساليب الشّعر تنافيها اللّوذعيّة وخلط الجدّ بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التّشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. والتزام التّقفية أيضا من اللّوذعة والتّزيين وجلال الملك والسّلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالتّرغيب والتّرهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السّلطانيّة التّرسّل وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلّا في الأقل النّادر. وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلّف له ثمّ إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فإنّ المقامات مختلفة ولكلّ مقام أسلوب يخصّه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية واستعارة. وأمّا إجراء المخاطبات السّلطانيّة على هذا النّحو الّذي هو على أساليب الشّعر فمذموم وما حمل عليه أهل العصر إلّا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه [1] . وولعوا بهذا المسجّع يلفّقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع   [1] وفي نسخة أخرى: خطوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 والألقاب البديعة [1] ويغفلون عمّا سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفنّ وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتّاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد حتّى إنّهم ليخلّون بالإعراب في الكلمات والتّصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجّحون ذلك الصّنف من التّجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التّجنيس. فتأمّل ذلك بما قدّمناه لك تقف على صحّة ما ذكرناه. والله الموفّق للصّواب بمنّه وكرمه والله تعالى أعلم. الفصل الرابع والخمسون في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم والمنثور معا إلا للأقل والسّبب في ذلك أنّه كما بيّنّاه ملكة في اللّسان فإذا تسبّقت [2] إلى محلّه ملكة أخرى قصّرت بالمحلّ عن تمام الملكة اللّاحقة. لأنّ تمام [3] الملكات وحصولها للطّبائع الّتي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر. وإذا تقدّمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادّة [4] القابلة وعائقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة وتعذّر التّمام في الملكة وهذا موجود به في الملكات الصّناعيّة كلّها على الإطلاق. وقد برهنّا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللّغات فإنّها ملكات اللّسان وهي بمنزلة الصّناعة. وانظر من تقدّم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللّسان العربيّ أبدا. فالأعجميّ الّذي سبقت له اللّغة الفارسيّة لا يستولي على ملكة اللّسان العربيّ ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلّمه وعلّمه. وكذا البربريّ والرّوميّ. والإفرنجيّ قلّ أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللّسان   [1] وفي نسخة أخرى: البديعية. [2] وفي نسخة أخرى: سبقت. [3] وفي نسخة أخرى: قبول. [4] وفي نسخة أخرى: في المدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 العربيّ. وما ذلك إلّا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللّسان الآخر حتّى إنّ طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللّسان العربيّ جاء مقصّرا في معارفه عن الغاية والتّحصيل وما أوتي إلّا من قبل اللّسان. وقد تقدّم لك من قبل أنّ الألسن واللّغات شبيهة بالصّنائع. وقد تقدّم لك أنّ الصّنائع وملكاتها لا تزدحم. وأنّ من سبقت له إجادة في صناعة فقلّ أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 37: 96. الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه هذا الفنّ من فنون كلام العرب وهو المسمّى بالشّعر عندهم ويوجد في سائر اللّغات إلّا أنّنا الآن إنّما نتكلّم في الشّعر الّذي للعرب. فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم وإلّا فلكلّ لسان أحكام في البلاغة تخصّه. وهو في لسان العرب غريب النّزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصّل قطعا قطعا متساوية في الوزن متّحدة في الحرف الأخير من كلّ قطعة وتسمّى كلّ قطعة من هذه القطعات عندهم بيتا ويسمّى الحرف الأخير الّذي تتّفق فيه رويّا وقافية ويسمّى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة. وينفرد كلّ بيت منه بإفادته في تراكيبه حتّى كأنّه كلام وحده مستقلّ عمّا قبله وما بعده. وإذا أفرد كان تامّا في بابه في مدح أو تشبيب [1] أو رثاء فيحرص الشّاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقلّ في إفادته. ثمّ يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك ويستطرد للخروج من فنّ إلى فنّ ومن مقصود إلى مقصود بأن يوطّئ المقصود الأوّل ومعانيه إلى أن يناسب المقصود الثّاني ويبعد الكلام عن التّنافر. كما يستطرد من التّشبيب [1] إلى المدح ومن وصف البيداء والطّلول إلى وصف الرّكاب أو الخيل أو   [1] وفي نسخة أخرى: نسيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 الطّيف ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره ومن التّفجّع والعزاء في الرّثاء إلى التّأثّر [1] وأمثال ذلك. ويراعي فيه اتّفاق القصيدة كلّها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطّبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من النّاس ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمّنها علم العروض. وليس كلّ وزن يتّفق في الطّبع استعملته العرب في هذا الفنّ وإنّما هي أوزان مخصوصة تسمّيها أهل تلك الصّناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنّهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطّبيعيّة نظما. واعلم أنّ فنّ الشّعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب. ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلّها. والملكات اللّسانيّة كلّها إنّما تكتسب بالصّناعة والارتياض في كلامهم حتّى يحصل شبه في تلك الملكة. والشّعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصّناعة من المتأخّرين لاستقلال كلّ بيت منه بأنّه كلام تامّ في مقصوده ويصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطّف في تلك الملكة حتّى يفرغ الكلام الشّعريّ في قوالبه الّتي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب ويبرزه مستقلّا بنفسه. ثمّ يأتي ببيت آخر كذلك ثمّ ببيت آخر ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثمّ يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون الّتي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنّه كان محكّا للقرائح في استجادة أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربيّ على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطّف ومحاولة في رعاية الأساليب الّتي اختصّته العرب بها واستعمالها فيه. لنذكر هنا سلوك [2]   [1] وفي نسخة أخرى: التأبين. [2] وفي نسخة أخرى: مدلول لفظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 الأسلوب عند أهل هذه الصّناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنّها عبارة عندهم عن المنوال الّذي ينسج فيه التّراكيب أو القالب الّذي يفرغ به. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل [1] المعنى الّذي هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار إفادته كمال [2] المعنى من خواصّ التّراكيب الّذي هو وظيفة البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الّذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثّلاثة خارجة عن هذه الصّناعة الشّعريّة وإنّما يرجع إلى صورة ذهنيّة للتّراكيب المنتظمة كلّيّة باعتبار انطباقها على تركيب خاصّ. وتلك الصّورة ينتزعها الذّهن من أعيان التّراكيب وأشخاصها ويصيّرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثمّ ينتقي التّراكيب الصّحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصّها فيه رصّا كما يفعله البنّاء في القالب أو النّسّاج في المنوال حتّى يتّسع القالب بحصول التّراكيب الوافية بمقصود الكلام ويقع على الصّورة الصّحيحة باعتبار ملكة اللّسان العربيّ فيه فإنّ لكلّ فنّ من الكلام أساليب تختصّ به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطّلول في الشّعر يكون بخطاب الطّلول كقوله: «يا دار ميّة بالعلياء فالسّند» ويكون باستدعاء الصّحب للوقوف والسّؤال كقوله: «قفا نسأل الدّار الّتي خفّ أهلها» . أو باستبكاء الصّحب على الطلل كقوله: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» . أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معيّن كقوله: «ألم تسأل فتخبرك الرّسوم» . ومثل تحيّة الطّلول بالأمر لمخاطب غير معيّن بتحيّتها كقوله: «حيّ الدّيار بجانب الغزل» [3] . أو بالدّعاء لها بالسّقيا كقوله: أسقى طلولهم أجشّ هزيم ... وغدت عليهم نضرة [4] ونعيم أو سؤاله السّقيا لها من البرق كقوله:   [1] وفي نسخة أخرى: كمال. [2] وفي نسخة أخرى: أصل. [3] وفي النسخة الباريسية: حي الدار بجانب العزل. [4] وفي النسخة الباريسية: روضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 يا برق طالع منزلا بالأبرق ... واحد السّحاب لها حداء الأينق [1] أو مثل التّفجع في الجزع [2] باستدعاء البكاء كقوله: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر أو باستعظام الحادث كقوله: «أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي» . أو بالتّسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله: منابت العشب لا حام ولا راع ... مضى الرّدى بطويل الرّمح والباع أو بالإنكار على من لم يتفجّع له من الجمادات كقول الخارجيّة: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع على ابن طريف أو بتهنئة فريقه [3] بالرّاحة من ثقل وطأته كقوله: ألقى الرّماح ربيعة بن نزار ... أودى الرّدى بفريقك [4] المغوار وأمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام ومذاهبه. وتنتظم التّراكيب فيه بالجمل وغير الجمل إنشائيّة وخبريّة، اسميّة وفعليّة، متّفقة، مفصولة وموصولة، على ما هو شأن التّراكيب في الكلام العربيّ في مكان كلّ كلمة من الأخرى. يعرّفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلّيّ المجرّد في الذّهن من التّراكيب المعيّنة الّتي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإنّ مؤلّف الكلام هو كالبنّاء أو النّسّاج والصّورة الذّهنيّة المنطبقة كالقالب الّذي يبنى فيه أو المنوال الّذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن   [1] وفي نسخة أخرى: الأنيق. [2] وفي نسخة أخرى: الرثاء. [3] وفي نسخة أخرى: قريعة. [4] وفي نسخة أخرى: بقريعك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 المنوال في نسجه كان فاسدا. ولا تقولنّ إنّ معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنّا نقول قوانين البلاغة إنّما هي قواعد علميّة قياسيّة تفيد جواز استعمال التّراكيب على هيئتها الخاصّة بالقياس. وهو قياس علميّ صحيح مطّرد كما هو قياس القوانين الإعرابيّة. وهذه الأساليب الّتي نحن نقرّرها ليست من القياس في شيء إنّما هي هيئة ترسخ في النّفس من تتبّع التّراكيب في شعر العرب لجريانها على اللّسان حتّى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كلّ تركيب من الشّعر كما قدّمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإنّ القوانين العلميّة من العربيّة والبيان لا يفيد تعليمه بوجه. وليس كلّ ما يصحّ في قياس كلام العرب وقوانينه العلميّة استعملوه. وإنّما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطّلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسيّة. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النّحو وبهذه الأساليب الذّهنيّة الّتي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إنّ المحصّل لهذه القوالب في الذّهن إنّما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإنّ العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنّين وجاءوا به مفصّلا في النّوعين. ففي الشّعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيّدة واستقلال الكلام في كلّ قطعة وفي المنثور يعتبرون الموازنة والتّشابه بين القطع غالبا وقد يقيّدونه بالأسجاع. وقد يرسلونه وكلّ واحدة من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها عندهم هو الّذي يبني مؤلّف الكلام عليه تأليفه ولا يعرفه إلّا من حفظ كلامهم حتّى يتجرّد في ذهنه من القوالب المعيّنة الشّخصيّة قالب كلّيّ مطلق يحذو حذوه في التّأليف كما يحذو البنّاء على القالب والنّسّاج على المنوال. فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النّحويّ والبيانيّ والعروضيّ. نعم إنّ مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتمّ بدونها فإذا تحصّلت هذه الصّفات كلّها في الكلام اختصّ بنوع من النّظر لطيف في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 القوالب الّتي يسمّونها أساليب. ولا يفيده إلّا حفظ كلام العرب نظما ونثرا. وإذا تقرّر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدّا أو رسما للشّعر به تفهم [1] حقيقته على صعوبة هذا الغرض. فإنّا لم نقف عليه لأحد من المتقدّمين فيما رأيناه. وقول العروضيّين في حدّه إنّه الكلام الموزون المقفّى ليس بحدّ لهذا الشّعر الّذي نحن بصدده ولا رسم له. وصناعتهم إنّما تنظر في الشّعر من حيث اتّفاق أبياته في عدد المتحرّكات والسواكن على التّوالي، ومماثلة عروض أبيات الشّعر لضربها. وذلك نظر في وزن مجدّد عن الألفاظ ودلالتها. فناسب أن يكون حدّا عندهم، ونحن هنا ننظر في الشّعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصّة. فلا جرم إنّ حدّهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بدّ من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثيّة فنقول: الشّعر هو الكلام البليغ المبنيّ على الاستعارة والأوصاف، المفصّل بأجزاء متّفقة في الوزن والرّويّ مستقلّ كلّ جزء منها في غرضه ومقصده عمّا قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس وقولنا المبنيّ على الاستعارة والأوصاف فصل له عمّا يخلو من هذه فإنّه في الغالب ليس بشعر وقولنا المفصّل بأجزاء متفقة الوزن والرّويّ فصل له عن الكلام المنثور الّذي ليس بشعر عند الكلّ وقولنا مستقلّ كلّ جزء منها في غرضه ومقصده عمّا قبله وبعده بيان للحقيقة لأنّ الشّعر لا تكون أبياته إلّا كذلك ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عمّا لم يجر منه على أساليب العرب [2] المعروفة فإنّه حينئذ لا يكون شعرا إنّما هو كلام منظوم لأنّ الشّعر له أساليب تخصّه لا تكون للمنثور. وكذا أساليب المنثور لا تكون للشّعر فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممّن لقيناه من شيوخنا في هذه الصّناعة الأدبيّة   [1] وفي نسخة أخرى: يفهمنا. [2] وفي نسخة أخرى: الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 يرون أنّ نظم المتنبّي والمعرّي ليس هو من الشّعر في شيء لأنّهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحدّ الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عند ما يرى أنّ الشّعر يوجد للعرب وغيرهم. ومن يرى أنّه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشّعر فلنرجع إلى الكلام في كيفيّة عمله فنقول: اعلم أنّ لعمل الشّعر وإحكام صناعته شروطا أوّلها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتّى تنشأ في النّفس ملكة ينسج على منوالها ويتخيّر المحفوظ من الحرّ النّقيّ الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقلّ ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميّين مثل ابن ربيعة وكثيّر وذي الرّمّة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتريّ والرّضيّ وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني لأنّه جمع شعر أهل الطّبقة الإسلاميّة كلّه والمختار من شعر الجاهليّة. ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرّونق والحلاوة إلّا كثرة المحفوظ. فمن قلّ حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنّما هو نظم ساقط. واجتناب الشّعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثمّ بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنّسج على المنوال يقبل على النّظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربّما يقال إنّ من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفيّة الظّاهرة إذ هي صادرة [1] عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها وقد تكيّفت النّفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنّه منوال يؤخذ بالنّسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة. ثمّ لا بدّ له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذّ السّرور. ثمّ مع هذا كلّه فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الّذي في حفظه. قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند   [1] وفي نسخة أخرى: صادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 الهبوب من النّوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر وفي هؤلاء [1] الجمام. وربّما قالوا إنّ من بواعثه العشق والانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة وهو الكتاب الّذي انفرد بهذه الصّناعة وإعطاء حقّها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كلّه فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على القافية من أوّل صوغه ونسجه بعضها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنّه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلّها. فربّما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الّذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإنّ كلّ بيت مستقلّ بنفسه ولم تبق إلّا المناسبة فليتخيّر فيها كما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتّنقيح والنّقد ولا يضنّ به على التّرك إذا لم يبلغ الإجادة. فإنّ الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلّا الأفصح من التّراكيب. والخالص من الضّرورات اللّسانيّة فليهجرها فإنّها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وقد حظر أئمّة اللّسان المولّد من ارتكاب الضّرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطّريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضا المعقّد من التّراكيب جهده. وإنّما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإنّ فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنّما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا واستعمل [2] الذّهن بالغوص عليها فمنع الذّوق عن استيفاء مدركة من البلاغة. ولا يكون الشّعر سهلا إلّا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذّهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر [3] بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبّي والمعرّي   [1] وفي نسخة أخرى: هواء. [2] وفي نسخة أخرى: اشتغل. [3] قوله أبي بكر وفي نسخة أبي إسحاق إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 بعدم النّسج على الأساليب العربيّة كما مرّ فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشّعر والحاكم بذلك هو الذّوق. وليجتنب الشّاعر أيضا الحوشيّ من الألفاظ والمقصّر [1] وكذلك السّوقيّ المبتذل بالتّداول بالاستعمال فإنّه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإنّ الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النّار حارّة والسّماء فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان. ولهذا كان الشّعر في الرّبّانيّات والنّبويّات قليل الإجادة في الغالب ولا يحذق فيه إلّا الفحول وفي القليل على العشر [2] لأنّ معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذّر الشّعر بعد هذا كلّه فليراوضه ويعاوده فإنّ القريحة مثل الضّرع يدرّ بالامتراء ويجفّ [3] بالتّرك والإهمال. وبالجملة فهذه الصّناعة وتعلّمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. وهذه نبذة كافية والله المعين. وقد نظم النّاس في أمر هذه الصّناعة الشّعريّة ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنّه لابن رشيق: لعن الله صنعة الشّعر ماذا ... من صنوف الجهّال منه لقينا يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلا للسّامعين مبينا ويرون المحال معنى صحيحا ... وخسيس الكلام شيئا ثمينا يجهلون الصّواب منه ولا يدرون ... للجهل أنّهم يجهلونا فهم عند من سوانا يلامون ... وفي الحقّ عندنا يعذرونا إنّما الشّعر ما يناسب في النّظم ... وإن كان في الصّفات فنونا   [1] وفي نسخة أخرى: المقعر. [2] وفي نسخة أخرى: العسر. [3] وفي نسخة أخرى: يغرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 فأتى بعضه يشاكل بعضا ... وأقامت له الصّدور المتونا كلّ معنى أتاك منه على ما ... تتمنّى ولم يكن أن يكونا فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسنا يبين للنّاظرينا فكأنّ الألفاظ منه وجوه ... والمعاني ركّبن فيها عيونا إنّما في المرام حسب الأماني ... يتحلّى بحسنة المنشدونا فإذا ما مدحت بالشّعر حرّا ... رمت فيه مذاهب المشتهينا [1] فجعلت النّسيب سهلا قريبا ... وجعلت المديح صدقا مبينا وتنكّبت ما يهجّن في السّمع ... وإن كان لفظه موزونا وإذا ما عرضته [2] بهجاء ... عبت فيه مذاهب المرقبينا [3] فجعلت التّصريح منه دواء ... وجعلت التّعريض داء دفينا وإذا ما بكيت فيه على ... الغادين يوما للبين والظّاعنينا حلت دون الأسى وذلّلت ما كان ... من الدّمع في العيون مصونا ثمّ إن كنت عاتبا جئت بالوعد ... وعيدا وبالصّعوبة بينا [4] فتركت الّذي عتبت عليه ... حذرا آمنا عزيزا مهينا وأصحّ القريض ما قارب النّظم ... وإن كان واضحا مستبينا فإذا قيل أطمع النّاس طرّا ... وإذا ريم أعجز المعجزينا ومن ذلك أيضا قول بعضهم وهو الناشي: الشّعر ما قوّمت ربع صدوره ... وشددت بالتّهذيب أسّ متونه ورأيت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز عور عيونه   [1] وفي النسخة الباريسية: المسهبينا. [2] وفي نسخة أخرى: قرضته. [3] وفي النسخة الباريسية: المرفتينا. [4] وفي نسخة أخرى: لينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 وجمعت بين قريبه وبعيده ... وجمعت بين مجمّه ومعينة وإذا مدحت به جوادا ماجدا ... وقضيته بالشّكر حقّ ديونه أصفيته (بتفتّش ورضيته) [1] ... وخصصته بخطيره وثمينه فيكون جزلا في مساق صنوفه ... ويكون سهلا في اتّفاق فنونه وإذا بكيت به الدّيار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شئونه [2] وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... بثبوته [3] وظنونه بيقينه وإذا عتبت على أخ في زلّة ... أدمجت شدّته له في لينه فتركته مستأنسا بدماثة ... مستأمنا لوعوثه وحزونه. وإذا نبذت إلى الّذي علقتها ... إذ صارمتك بفاتنات شئونه تيّمتها بلطيفه ورفيقه ... وشغفتها بخبيّه وكمنه وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها ... وأشكت بين مخيله ومبينه فيحول ذنبك عند من يعتدّه ... عتبا عليه مطالبا بيمينه الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني اعلم أنّ صناعة الكلام نظما ونثرا إنّما هي في الألفاظ لا في المعاني وإنّما المعاني تبع لها وهي أصل. فالصّانع الّذي يحاول ملكة الكلام في النّظم والنّثر   [1] وفي نسخة أخرى: بنفيسة ورصينه. [2] مجاري الدمع. [3] وفي نسخة أخرى: بثنائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 إنّما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله وجريه على لسانه حتّى تستقرّ له الملكة في لسان مضر ويتخلّص من العجمة الّتي ربّي عليها في جيله ويفرض نفسه مثل وليد نشأ في جيل العرب ويلقّن لغتهم كما يلقّنها الصّبيّ حتّى يصير كأنّه واحد منهم في لسانهم. وذلك أنّا قدّمنا أنّ للّسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللّسان حتّى تحصل شأن الملكات والّذي في اللّسان والنّطق إنّما هو الألفاظ وأمّا المعاني فهي في الضّمائر. وأيضا فالمعاني موجودة عند كلّ واحد وفي طوع كلّ فكر منها ما يشاء ويرضى فلا يحتاج إلى تكلّف صناعة في تأليفها وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصّناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعانيّ. فكما أنّ الأواني الّتي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذّهب والفضّة والصّدف والزّجاج والخزف والماء واحد في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللّغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها وإنّما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللّسان إذا حاول العبارة عن مقصوده ولم يحسن بمثابة المقعد الّذي يروم النّهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه. والله يعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ قد قدّمنا أنّه لا بدّ من كثرة الحفظ لمن يروم تعلّم اللّسان العربيّ وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلّته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميّين شعر حبيب أو العتابيّ أو ابن المعتزّ أو ابن هانئ أو الشّريف الرّضيّ أو رسائل ابن المقفّع أو سهل ابن هارون أو ابن الزّيّات أو البديع أو الصّابيء تكون ملكته أجود وأعلى مقاما ورتبة في البلاغة ممّن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخّرين أو ابن النّبيه أو ترسّل البيسانيّ أو العماد الأصبهانيّ لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير النّاقد صاحب الذّوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثمّ إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأنّ الطّبع إنّما ينسج على منوالها وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أنّ النّفس وإن كانت في جبلّتها واحدة بالنّوع فهي تختلف في البشر بالقوّة والضعف في الإدراكات. واختلافها إنّما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان الّتي تكيّفها من خارج. فبهذه يتمّ وجودها وتخرج من القوّة إلى الفعل صورتها والملكات الّتي تحصل لها إنّما تحصل على التّدريج كما قدّمناه. فالملكة الشّعريّة تنشأ بحفظ الشّعر وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والتّرسيل، والعلميّة بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهيّة بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتّصوّفيّة الرّبّانيّة بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواسّ الظّاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع حتّى تحصل له ملكة الرّجوع إلى حسّه الباطن وروحه وينقلب ربّانيّا وكذا سائرها. وللنّفس في كلّ واحد منها لون تتكيّف به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطّبقة في جنسها إنّما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلّهم قاصرين في البلاغة وما ذلك إلّا لما يسبق إلى محفوظهم ويمتلئ به من القوانين العلميّة والعبارات الفقهيّة الخارجة عن أسلوب البلاغة والنّازلة عن الطّبقة لأنّ العبارات عن القوانين والعلوم لا حظّ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلوّنت به النّفس جاءت الملكة النّاشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنّحاة والمتكلّمين والنّظّار وغيرهم ممّن لم يمتلئ من حفظ النّقيّ الحرّ من كلام العرب. أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدّولة المرينيّة قال: ذكرت يوما صاحبنا أبا العبّاس بن شعيب كاتب السّلطان أبي الحسن وكان المقدّم في البصر باللّسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النّحويّ ولم أنسبها له وهو هذا: لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك، فقال: من قوله ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: للَّه أبوك إنّه ابن النّحويّ. وأمّا الكتّاب والشعراء فليسوا كذلك لتخيّرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في التّرسّل وانتقائهم لهم الجيّد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصّدر المقدّم في الشّعر والكتابة فقلت له: أجد استصعابا عليّ في نظم الشّعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيّد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلا. وإنّما أتيت والله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلميّة والقوانين التّألفيّة. فإنّي حفظت قصيدتي الشاطبيّ الكبرى والصّغرى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 القراءات في الرسم واستظهرتهما وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجيّ في المنطق وبعض كتاب التّسهيل وكثيرا من قوانين التّعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة الّتي استعددت [1] لها بالمحفوظ الجيّد من القرآن والحديث وكلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إليّ ساعة معجبا [2] ثمّ قال: للَّه أنت وهل يقول هذا إلّا مثلك؟ ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرّر فيه سرّ آخر وهو إعطاء السّبب في أنّ كلام الإسلاميّين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليّة في منثورهم ومنظومهم. فإنّا نجد شعر حسّان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيّب وغيلان ذي الرّمّة والأحوص وبشّار ثمّ كلام السّلف من العرب في الدّولة الأمويّة وصدرا من الدّولة العبّاسيّة في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النّابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهليّة في منثورهم ومحاوراتهم والطّبع السّليم والذّوق الصّحيح شاهدان بذلك للنّاقد البصير بالبلاغة. والسّبب في ذلك أنّ هؤلاء الّذين أدركوا الإسلام سمعوا الطّبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللّذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهليّة ممّن لم يسمع هذه الطّبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطّبقة. وتأمّل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذّوق والبصر بالبلاغة. ولقد سألت يوما شيخنا الشّريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا وكان شيخ هذه الصّناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من   [1] وفي نسخة أخرى: استدعيت. [2] وفي نسخة أخرى: متعجبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 تلاميذ الشّلوبين واستبحر في علم اللّسان وجاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميّين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليّين؟ ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثمّ قال لي: والله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعلّه السّبب فيه. وذكرت له هذا الّذي كتبت فسكت معجبا ثمّ قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقّه أن يكتب بالذّهب. وكان من بعدها يؤثر محلّي ويصيخ في مجالس التّعليم إلى قولي ويشهد لي بالنّباهة في العلوم، والله خلق الإنسان وعلّمه البيان. الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوره اعلم أنّ الكلام الّذي هو العبارة والخطاب، إنّما سرّه وروحه في إفادة المعنى. وأمّا إذا كان مهملا فهو كالموات الّذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدّها عند أهل البيان لأنّهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشّروط والأحكام الّتي بها تطابق التراكيب اللّفظيّة مقتضى الحال، هو فنّ البلاغة. وتلك الشّروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام هي جلّ قوانين العربيّة. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفنّ، يسمّونه علم المعاني من فنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 البلاغة. فتندرج قوانين العربيّة لذلك في قوانين علم المعاني لأنّ إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصّر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الّذي هو في عداد الموات. ثمّ يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأنّ التركيب يدلّ بالوضع على معنى، ثمّ ينتقل الذّهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إمّا باستعارة أو كناية كما هو مقرّر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذّة كما تحصل في الإفادة وأشدّ. لأنّ في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظّفر من أسباب اللّذّة كما علمت. ثمّ لهذه الانتقالات أيضا شروط وأحكام كالقوانين صيّروها صناعة، وسمّوها بالبيان. وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنّها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. واللّفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصّر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربيا، لأنّ العربيّ هو الّذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربيّ وسجيّته وروحه وطبيعته. ثمّ اعلم أنّهم إذا قالوا: «الكلام المطبوع» فإنّهم يعنون به الكلام الّذي كملت طبيعته وسجيّته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنّه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلّم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامّة، ويدلّ به عليه دلالة وثيقة. ثمّ يتبع تراكيب الكلام في هذه السجيّة الّتي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنّها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللّفظ المشترك عن الخفيّ من معانيه، والمطابقة بين المتضادّات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، فيحصل للكلام رونق ولذّة في الأسماع وحلاوة وجمال كلّها زائدة على الإفادة. وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعدّدة مثل: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى 92: 1- 2» ، ومثل: «فَأَمَّا من أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى 92: 5- 6» ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: «فَأَمَّا من طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا 79: 37- 38» إلى آخر الآية. وكذا: «هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 18: 104» . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهليّة منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمّد. ويقال إنّه وقع في شعر زهير. وأمّا الإسلاميّون فوقع لهم عفوا وقصدا، وأتوا منه بالعجائب. وأوّل من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتريّ ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولّعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل انّ أوّل من ذهب إلى معاناتها بشّار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يستشهد بشعره في اللّسان العربيّ. ثمّ اتّبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميريّ ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثارهم حبيب والبحتريّ. ثمّ ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصّناعة أجمع. ولنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصّناعة، مثل قول قيس بن ذريح: وأخرج من بين البيوت لعلّني ... أحدّث عنك النّفس في السرّ خاليا وقول كثيّر: وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت عما بيننا وتخلّت لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّها ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 فتأمّل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا. وأمّا المصنوع فكثير من لدن بشّار، ثمّ حبيب وطبقتهما، ثمّ ابن المعتزّ خاتم الصنعة الّذي جرى المتأخّرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم. وقد تعدّدت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنّها غير داخلة في الإفادة، وأنّها هي تعطي التحسين والرّونق. وأمّا المتقدّمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبيّة الّتي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا، منها أن تقع من غير تكلّف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأمّا العفو فلا كلام فيه لأنّها إذا برئت من التكلّف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأنّ تكلّفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصليّة للكلام، فتخلّ بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأسا. ولا يبقى في الكلام إلّا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. وأصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدّون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقيّ، وكان من أهل البصر في اللّسان والقريحة في ذوقه يقول: إنّ من أشهى ما تقترحه عليّ نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشدّ العقوبة، ونودي عليه، يحذّر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلّفون بها، ويتناسون البلاغة. ثمّ من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السّبتيّ منفق اللّسان العربيّ بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعيّة إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنّها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 محسّنات الكلام ومزيّناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهليّة والإسلام. كان أوّلا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتّى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتّقفية وأتى بذلك بالعجب. وعاب النّاس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانيّة. وإنّما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثمّ انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخّرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيّات والإخوانيّات والعربيّات بالسوقيّات. واختلط المرعيّ بالهمل. وهذا كلّه يدلّك على أنّ الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلّة الاكتراث فيه بأصل البلاغة، والحاكم في ذلك الذّوق. والله خلقكم وعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون. الفصل التاسع والخمسون في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر اعلم أنّ الشّعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب منافسين [1] فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كلّ واحد منهم ديباجته على فحول الشّأن وأهل البصر لتمييز حوله. حتّى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجّهم وبيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر والنّابغة الذّبيانيّ وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شدّاد وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلّقات السّبع [2] . فإنّه إنّما كان يتوصّل إلى تعليق الشّعر بها من كان له قدرة   [1] وفي نسخة أخرى: متنافسين. [2] وفي النسخة الباريسية: التسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 على ذلك بقومه وعصبيّته ومكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلّقات. ثمّ انصرف العرب عن ذلك أوّل الإسلام بما شغلهم من أمر الدّين والنّبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النّظم والنّثر زمانا. ثمّ استقرّ ذلك وأونس الرّشد من الملّة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشّعر وحظره وسمعه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عبّاس فيقف لاستماعه معجبا به. ثمّ جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدّولة العزيزة وتقرّب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم ويحرصون على استهداء أشعارهم يطّلعون منها على الآثار والأخبار واللّغة وشرف اللّسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل هذا الشّأن أيّام بني أميّة وصدرا من دولة بني العبّاس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرّشيد للأصمعيّ في باب الشّعر والشّعراء تجد ما كان عليه الرّشيد من المعرفة بذلك والرّسوخ فيه والعناية بانتحاله والتّبصّر بجيّد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثمّ جاء خلق من بعدهم لم يكن اللّسان لسانهم من أجل العجمة وتقصيرها باللّسان وإنّما تعلّموه صناعة ثمّ مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الّذين ليس اللّسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب والبحتريّ والمتنبّي وابن هانئ ومن بعدهم وهلمّ جرّا. فصار غرض الشّعر في الغالب إنّما هو الكذب [1] والاستجداء لذهاب المنافع الّتي كانت فيه للأوّلين كما ذكرناه آنفا. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخّرين وتغيّر الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرّئاسة ومذمّة لأهل المناصب الكبيرة. والله مقلّب اللّيل والنّهار.   [1] وفي نسخة أخرى: للكدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 الفصل الستون في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد اعلم أنّ الشّعر لا يختصّ باللّسان العربيّ فقط بل هو موجود في كلّ لغة سواء كانت عربيّة أو عجميّة وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أو ميروس الشّاعر وأثنى عليه. وكان في حمير أيضا شعراء متقدّمون. ولمّا فسد لسان مضر ولغتهم الّتي دوّنت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللّغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت تحيل [1] العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللّغويّة وبناء الكلمات. وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتّصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد. واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشّرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره. ثمّ لمّا كان الشّعر موجودا بالطّبع في أهل كلّ لسان لأنّ الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحرّكات والسّواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشّعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الّذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كلّ جيل وأهل كلّ لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم. فأمّا العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشّعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطوّلات مشتملة   [1] وفي نسخة أخرى: لجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 على مذاهب الشّعر وأغراضه من النّسيب والمدح والرّثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فنّ إلى فنّ في الكلام. وربّما هجموا على المقصود لأوّل كلامهم وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشّاعر ثمّ بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمّون هذه القصائد بالأصمعيّات نسبة إلى الأصمعيّ راوية العرب في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمّون هذا النّوع من الشّعر بالبدويّ والحورانيّ والقيسيّ. وربّما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصّناعة الموسيقيّة. ثمّ يغنّون به ويسمّون الغناء به باسم الحورانيّ نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشّام وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد. ولهم فنّ آخر كثير التّداول في نظمهم يجيئون به معصّبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثّلاثة في رويّه ويلتزمون القافية الرّابعة في كلّ بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربّع والمخمّس الّذي أحدثه المتأخّرون من المولّدين. ولهؤلاء العرب في هذا الشّعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخّرون والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد وخصوصا علم اللّسان يستنكر صاحبها هذه الفنون الّتي لهم إذا سمعها ويمجّ نظمهم إذا أنشد ويعتقد أنّ ذوقه إنّما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها. وهذا إنّما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته ونظره وإلّا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنّما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرّفع دالّا على الفاعل والنّصب دالّا على المفعول أو بالعكس وإنّما يدلّ على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه. فالدّلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحّة الدّلالة وإذا طابقت تلك الدّلالة المقصود ومقتضى الحال صحّت البلاغة ولا عبرة بقوانين النّحاة في ذلك. وأساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر. ويتميّز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب. فمن أشعارهم على لسان الشّريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان، ويذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب: قال الشريف ابن هاشم علي ... ترى كبدي حرّى شكت من زفيرها يغزّ للإعلام أين ما رأت خاطري ... يردّ غلام البدو يلوي عصيرها وماذا شكاة الروح مما طرا لها ... عداة وزائغ تلف الله خبيرها يحسّ إن قطاع عامر ضميرها ... طوى وهند جافي ذكيرها وعادت كما خوارة في يد غاسل ... على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها تجابذوها اثنين والنزع بينهم ... على شوك لعه والبقايا جريرها وباتت دموع العين ذارفات لشأنها ... شبيه دوّار السواني يديرها تدارك منها النجم حذرا وزادها ... مرون يجي متراكبا من صبيرها يصبّ من القيعان من جانب الصّفا ... عيون ولجاز البرق في غزيرها هذا الغنى حتى تسابيت غزوة ... ناضت من بغداد حتى فقيرها ونادى المنادي بالرحيل وشدّوا ... وعرج عاريها على مستعيرها وشدّ لها الأدهم دياب بن غانم ... على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها وقال لهم حسن بن سرحان غرّبوا ... وسوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها ويركض وبيده شهامه بالتسامح ... وباليمين لا يجدوا في مغيرها غدرني زيان السيح من عابس ... وما كان يرضى زين حمير وميرها غدرني وهو زعما صديقي وصاحبي ... وأناليه ما من درقتي ما يديرها ورجع يقول لهم بلال بن هاشم ... بحر البلاد العطشى ما بخيرها حرام علي باب بغداد وأرضها ... داخل ولا عائد ركيزه من نعيرها تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم ... على الشمس أو حول الغظامن هجيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 وباتت نيران العذارى قوادح ... بلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بإفريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكّم: تقول فتاة الحيّ [1] سعدى وهاضها ... لها في ظعون الباكرين عويل أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفة ... خذ النعت مني لا تكون هبيل تراه يعالي وادي ران وفوقه ... من الربط عيساوي بناه طويل أراه يميل النور من شارع النقا ... به الواد شرقا واليراع دليل أيا لهف كبدي على الزناتي خليفة ... قد كان لأعقاب الجياد سليل قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم ... جراحة كأفواه المزاد تسيل أيا جائزا مات الزناتي خليفة ... لا ترحل إلا أن يريد رحيل ألا واش رحّلنا ثلاثين مرة ... وعشرا وستا في النهار قليل ومن قولهم على لسان الشّريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه وبين ماضي بن مقرب: تبدّى ماضي الجبار وقال لي ... أشكر ما نحنا عليك رضاش أشكر أعد ما بقي ودّ بيننا ... ورانا عريب عربا لابسين نماش نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا ... كما صادفت طعم الزباد طشاش أشكر أعد إلى يزيد ملامه ... ليحدو ومن عمر بلاده عاش ان كان نبت الشوك يلقح بأرضكم ... هنا العرب ما زدنا لهن صياش ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه: وأيّ جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم ... وأي رجال ضاع قبلي جميلها   [1] كذا. وفي ب: نقاة الخلد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا ... عناني بحجة ما غباني دليلها وعدت كأني شارب من مدامة ... من الخمر فهو ما قدر من يميلها أو مثل شمطامات مظنون كبدها ... غريبا وهي مدوّخه عن قبيلها أتاها زمان السوء حتى تدوّحت ... وهي بين عربا غافلا عن نزيلها كذلك أنا مما لحاني من الوجى ... شاكي بكبد باديتها زعيلها وأمرت قومي بالرحيل وبكّروا ... وقوّوا وشدّاد الحوايا حميلها قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا ... والبدو ما ترفع عمود يقيلها نظلّ على حداب الثنايا نوازي ... يظل الجرى فوق النضا ونصيلها ومن شعر سلطان بن مظفّر بن يحيى من الزواودة [1] أحد بطون رياح وأهل الرئاسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهديّة في سجن الأمير أبي زكريّا بن أبي حفص أوّل ملوك إفريقية من الموحّدين: يقول وفي بوح الدجا بعد وهنة ... حرام على أجفان عيني منامها يا من لقلب حالف الوجد والأسى ... وروح هيامي طال ما في سقامها حجازية بدوية عربية ... عداوية ولها بعيد مرامها مولعة بالبدو لا تألف القرى ... سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها غيات ومشتاها بها كل شتوة ... ممحونة بيها وبيها صحيح غرامها ومر باها عشب الأراضي من الحيا ... يواتي من الخور الخلايا جسامها تشوق شوق العين مما تداركت ... عليها من السحب السواري عمامها وماذا بكت بالما وماذا تناحطت ... عيون غرار المزن عذبا حمامها كأنّ عروس البكر لاحت ثيابها ... عليها ومن نور الأقاحي خزامها فلاة ودهنا واتساع ومنة ... ومرعى سوى ما في مراعي نعامها ومشروبها من مخض ألبان شولها ... غنيم ومن لحم الجوازي طعامها   [1] كذا. وفي نسخة: الدواودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 تفانت عن الأبواب والموقف الّذي ... يشيب الفتى مما يقاسي زحامها سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا ... وبلا ويحيى ما بلي من رمامها فكافأتها بالودّ مني وليتني ... ظفرت بأيام مضت في ركامها ليالي أقواس الصبا في سواعدي ... إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها وفرسي عديد تحت سرجي مشاقة ... زمان الصبا سرجا وبيدي لجامها وكم من رداح أسهرتني ولم أرى ... من الخلق أبهى من نظام ابتسامها وكم غيرها من كاعب مرجحنة ... مطرّزة الأجفان باهي وشامها وصفقت من وجدي عليها طريجة ... بكفي ولم ينسى جداها ذمامها ونار بخطب الوجد توهج في الحشا ... وتوهج لا يطفأ من الماء ضرامها أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى ... فني العمر في دار عماني ظلامها ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة ... ويغمى عليها ثم يبدأ غيامها بنود ورايات من السعد أقبلت ... إلينا بعون الله يهفو علامها أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ... ورمحي على كتفي وسيري أمامها بجرعا عتاق النوق من فوق شامس ... أحب بلاد الله عندي حشامها إلى منزل بالجعفرية للّوى ... مقيم بها ما لذ عندي مقامها ونلقى سراة من هلال بن عامر ... يزيل الصدا والغل عني سلامها بهم تضرب الأمثال شرقا ومغربا ... إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها عليهم ومن هو في حمامهم تحية ... مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها فدع ذا ولا تأسف على سالف مضى ... فذي الدنيا ما دامت لأحد دوامها ومن أشعار المتأخّرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر، شيخ الكعوب، من أولاد أبي اللّيل، يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل، عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه: يقول وذا قول المصاب الّذي نشا ... قوارع قيعان يعاني صعابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من إنشاد القوافي عذابها محيرة مختارة من نشادها تحدّى بها تام الوشا ملتهابها مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دأبي ودأبها وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل وهذي جوابها اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها فخرت ولم تقصر ولا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها لقولك في أمّ المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى وغلاق دأبها شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق وهل ريت من جا للوغى واصطلى بها سواها طفاها أضرمت بعد طفيه وأثنى طفاها جاسرا لا يهابها وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها وبان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار وهي عن كبر الاسنة تهابها كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الّذي يتقى بها ومنها في العتاب: وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني ... غنيت بمعلاق الثنا واغتصابها عليّ ونا ندفع بها كل مبضع ... بأسياف ننتاش العدا من رقابها فإن كانت الأملاك بغت عرائس ... علينا بأطراف القنا اختضابها ولا بعدها الارهاف وذبل ... وزرق كالسنة الحناش انسلابها بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه ... تسير السبايا والمطايا ركابها وهي عالما بأنّ المنايا تنيلها ... بلا شك والدنيا سريع انقلابها ومنها في وصف الظعائن: قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا ... فتوق بحوبات مخوف جنابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 ترى العين فيها قل لشبل عرائف ... وكلّ مهاة محتظيها ربابها ترى أهلها غبّ الصباح ان يفلها ... بكل حلوب الجوف ما سدّ بابها لها كل يوم في الأرامي قتائل ... ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها ومن قولهم في الأمثال الحكميّة وطلبك في الممنوع منك سفاهة ... وصدّك عمن صدّ عنك صواب إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ... ظهور المطايا يفتح الله باب ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم: لشيب وشبان من أولاد برجم ... جميع البرايا تشتكي من ضهادها ومن قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحّدين أبي محمّد بن تافراكين المستبدّ بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا: يقول بلا جهل فتى الجود خالد ... مقالة قوّال وقال صواب مقالة حبر ذات ذهن ولم يكن ... هريجا ولا فيما يقول ذهاب تهجست معنا نابها لا لحاجة ... ولا هرج ينقاد منه معاب وكنت بها كبدي وهي نعم صابة ... حزينة فكر والحزين يصاب تفوّهت بادي شرحها عن مآرب ... جرت من رجال في القبيل قراب بني كعب أدنى الأقربين لدّمنا ... بني عمّ منهم شائب وشباب جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم ... مصافاة ودّ واتّساع جناب وبعضهم ملنا له عن خصيمه ... كما يعلموا قولي يقينه صواب وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا ... جزاعا وفي جوّ الضمير كتاب وبعضهمو جانا جريحا تسمحت ... خواطر منها للنزيل وهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 وبعضهمو نظار فينا بسوّة ... نقهناه حتى ما عنا به ساب رجع ينتهي مما سفهنا قبيحه ... مرارا وفي بعض المرار يهاب وبعضهمو شاكي من أوغاد قادر ... غلق عنه في أحكام السقائف باب فصمناه عنه واقتضي منه مورد ... على كره مولى البالقي ودياب ونحن على دافي المدى نطلب العلا ... لهم ما حططنا للفجور نقاب وحزنا حمى وطن بترشيش بعد ما ... نفقنا عليها سبقا ورقاب ومهد من الأملاك ما كان خارجا ... على أحكام والي أمرها له ناب بردع قروم من قروم قبيلنا ... بني كعب لاواها الغريم. وطاب جرينا بهم عن كل تأليف في العدا ... وقمنا لهم عن كل قيد مناب إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ... ربيها وخيراته عليه نصاب وركبوا السّبايا المثمنات من أهلها ... ولبسوا من أنواع الحرير ثياب وساقوا المطايا يا لشرا لا نسوا له ... جماهير ما يغلو بها بجلاب وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر ... ضخام لحزات الزمان تصاب وعادوا نظير البرمكيين قبل ذا ... وإلا هلالا في زمان دياب وكانوا لنا درعا لكل مهمة ... إلى أن بان من نار العدوّ شهاب وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقوا ... ملامه ولا دار الكرام عتاب كسوا الحي جلباب البهيم لستره ... وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب كذلك منهم حانس ما دار النبا ... ذهل حلمي ان كان عقله غاب يظنّ ظنونا ليس نحن بأهلها ... تمنى يكن له في السماح شعاب خطا هو ومن واتاه في سوء ظنه ... بالاثبات من ظنّ القبائح عاب فوا عزوتي ان الفتى بو محمد ... وهوب لآلاف بغير حساب وبرحت الأوغاد منه ويحسبوا ... بروحه ما يحيى بروح سحاب جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع ... لقوا كل ما يستاملوه سراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 وهو لو عطى ما كان للرأي عارف ... ولا كان في قلة عطاه صواب وان نحن ما نستاملوا عنه راحة ... وانه باسهام التلاف مصاب وان ما وطا ترشيش يضياق وسعها ... عليه ويمشي بالفزوع لزاب وانه منها عن قريب مفاصل ... خنوج عناز هوالها وقباب وعن فاتنات الطرف بيض غوانج ... ربوا خلف استار وخلف حجاب يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا ... بحسن قوانين وصوت رباب يضلوه عن عدم اليمين وربّما ... يطارح حتى ما كأنّه شاب بهم حازله زمّه وطوع أوامر ... ولذة مأكول وطيب شراب حرام على ابن تافركين ما مضى ... من الودّ إلّا ما بدل بحراب وان كان له عقل رجيح وفطنة ... يلجج في اليم الغريق غراب وأما البدا لا بدّها من فياعل ... كبار إلى أن تبقى الرجال كباب ويحمي بها سوق علينا سلاعه ... ويحمار موصوف القنا وجعاب ويمسي غلام طالب ريح ملكنا ... ندوما ولا يمسي صحيح بناب أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه ... غلطتوا أدمتوا في السموم لباب ومن شعر عليّ بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمّه المتطاولين إلى رياسته: محبرة كالدرّ في يد صانع ... إذا كان في سلك الحرير نظام أباحها منها فيه أسباب ما مضى ... وشاء تبارك والضعون تسام غدامنه لام الحيّ حيين وانشطت ... عصاها ولا صبنا عليه حكام ولكن ضميري يوم بان بهم إلينا ... تبرّم على شوك القتاد برام وإلا كأبراص التهامي قوادح ... وبين عواج الكانفات ضرام والا لكان القلب في يد قابض ... أتاهم بمنشار القطيع غشام لما قلت سما من شقا البين زارني ... إذا كان ينادي بالفراق وخام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 ألا يا ربوع كان بالأمس عامر ... بيحيى وحله والقطين لمام وغيد تداني للخطأ في ملاعب ... دجى الليل فيهم ساهر ونيام ونعم يشوف الناظرين التحامها ... لنا ما بدا من مهرق وكظام وعرود باسمها ليدعو لسربها ... واطلاق من شرب المها ونعام واليوم ما فيها سوى البوم حولها ... ينوح على اطلال لها وخيام وقفنا بها طورا طويلا نسألها ... بعين سخينا والدموع سجام ولا صحّ لي منها سوى وحش خاطري ... وسقمي من أسباب إن عرفت أوهام ومن بعد ذاتدّى لمنصور بو علي ... سلام ومن بعد السلام سلام وقولوا له يا بو ألوفا كلح رأيكم ... دخلتم بحور غامقات دهام زواخر ما تنقاس بالعود إنما ... لها سيلات على الفضا وإكام ولا قستمو فيها قياسا يدلكم ... وليس البحور الطاميات تعام وعانوا على هلكاتكم في ورودها ... من الناس عدمان العقول لئام أيا غزوة ركبوا الضلالة ولا لهم ... قرار ولا دنيا لهن دوام الا غناهمو لو ترى كيف زايهم ... مثل سراب فلاة ما لهن تمام خلو القنا يبغون في مرقب العلا ... مواضع ما هيا لهم بمقام وحق النبي والبيت وأركانه العلى ... ومن زارها في كل دهر وعام لبرّ الليالي فيه ان طالت الحيا ... يذوقون من خمط الكساع مدام ولا برها تبقى البوادي عواكف ... بكل رديني مطرب وحسام وكل مسافة كالسد إياه عابر ... عليها من أولاد الكرام غلام وكل كميت يكتعص عض نابه ... يظل يصارع في العنان لجام وتحمل بنا الأرض العقيمة مدة ... وتولدنا من كل ضيق كظام بالأبطال والقود الهجان وبالقنا ... لها وقت وجنات البدور زحام أتجحدني وأنا عقيد نقودها ... وفي سن رمحي للحروب علام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 ونحن كأضراس الموافي بنجعكم ... حتى يقاضوا من ديون غرام متى كان يوم القحط يا مير أبو علي ... يلقى سعايا صائرين قدّام كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته ... وخلى الجياد العاليات تسام وخلّ رجالا لا يرى الضيم جارهم ... ولا يجمعوا بدهى العدو زفام ألا يقيموها وعقد بؤسهم ... وهم عذر عنه دائما ودوام وكم ثار طعنها على البدو سابق ... ما بين صحاصيح وما بين حسام فتى ثار قطار الصوى يومنا على ... لنا أرض ترك الظاعنين زمام وكم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة ... حليف الثنا قشاع كل غيام وإن جاء خافوه الملوك ووسعوا ... غدا طبعه يجدي عليه قيام عليكم سلام الله من لسن فاهم ... ما غنت الورقا وناح حمام ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول: تقول فتاة الحيّ أمّ سلامه ... بعين أراع الله من لا رثى لها تبيت بطول الليل ما تألف الكرى ... موجعة كان الشقا في مجالها على ما جرى في دارها وبو عيالها ... بلحظة عين البين غير حالها فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم ... ونمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرّني ... ويبرد من نيران قلبي ذبالها أيا حين تسريح الذوائب واللحى ... وبيض العذارى ما حميتو جمالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 (الموشحات والأزجال للأندلس) وأمّا أهل الأندلس فلمّا كثر الشّعر في قطرهم وتهذّبت مناحيه وفنونه وبلغ التّنميق فيه الغاية استحدث المتأخّرون منهم فنّا منه سمّوه بالموشّح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضها المختلفة. ويسمّون المتعدّد منها بيتا واحدا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. ويشتمل كلّ بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه النّاس جملة الخاصّة والكافّة لسهولة تناوله وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معافر الفريريّ [1] من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المروانيّ. وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربّه صاحب كتاب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخّرين ذكر وكسدت موشّحاتهما. فكان أوّل من برع في هذا الشّأن عبادة القزّاز شاعر المعتصم ابن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسيّ أنّه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كلّ الوشّاحين عيال على عبّادة القزّاز فيما اتّفق له من قوله: [2] بدر تمّ. شمس ضحا ... غصن نقا. مسك شمّ ما أتمّ. ما أوضحا ... ما أورقا ما أنمّ لا جرم. من لمحا ... قد عشقا. قد حرم وزعموا أنّه لم يسبقه وشّاح من معاصريه الّذين كانوا في زمن الطّوائف. وذكر غير واحد من المشايخ أنّ أهل هذا الشّأن بالأندلس يذكرون أنّ   [1] وفي نسخة أخرى: القبريري. [2] الضمير يعود إلى عبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 جماعة من الوشّاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيليّة وكان كلّ واحد منهم اصطنع موشّحة وتأنّق فيها فتقدّم الأعمى الطّليطليّ للإنشاد فلمّا افتتح موشّحته المشهورة بقوله: ضاحك عن جمان. سافر عن درّ [1] ... ضاق عنه الزّمان. وحواه صدري صرف [2] ابن بقيّ موشّحته وتبعه الباقون. وذكر الأعلم البطليوسيّ أنّه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قطّ وشّاحا على قول إلّا ابن بقيّ حين وقع له: أما ترى أحمد. في مجده العالي لا يلحق ... أطلعه الغرب. فأرنا مثله يا مشرق وكان في عصرهما من الموشّحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. وكان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التّلاحين المعروفة ومن الحكايات المشهورة أنّه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشّحته الّتي أوّلها: جرّر الذّيل أيما جرّ ... وصل الشّكر منك بالشّكر فطرب الممدوح لذلك لمّا ختمها بقوله: عقد الله راية النّصر ... لأمير العلا أبي بكر فلمّا طرق ذلك التّلحين سمع ابن تيفلويت صاح: وا طرباه: وشقّ ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وختمت وحلف بالأيمان المغلّظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلّا على الذّهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله ومشى عليه. وذكر أبو الخطّاب بن زهر أنّه جرى في مجلس أبي بكر بن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشّاح المتقدّم الذّكر فغصّ منه بعض الحاضرين فقال كيف تغصّ ممّن يقول:   [1] وفي نسخة أخرى: بدر. [2] وفي نسخة أخرى: حرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 ما لذّ لي شراب راح «على رياض الأقاح ... لولا هضيم الوشاح» إذا أسا [1] في الصّباح أو في الأصيل «أضحى يقول: ... ما للشمول» لطمت خدّي؟ وللشّمال «هبّت فمال ... غصن اعتدال» ضمّه بردي ممّا أباد القلوبا «يمشي لنا مستريبا ... يا لحظه ردّ نوبا» ويا لماه الشّنيبا برّد غليل «صبّ عليل ... لا يستحيل» فيه عن عهدي ولا يزال «في كلّ حال ... يرجو الوصال» وهو في الصّدّ واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحّدين محمّد بن أبي الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح: شمس قاربت بدرا ... راح ونديم وابن بهرودس الّذي له: يا ليلة الوصل والسعود ... باللَّه عودي وابن مؤهّل الّذي له: ما العيد في حلّة وطاق. وشمّ وطيب. ... وإنّما العيد في التّلاقي. مع الحبيب. وأبو إسحاق الرّوينيّ [2] قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنّه دخل على ابن زهير [3] وقد أسنّ وعليه زيّ البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة [4] فلم يعرفه فجلس حيث انتهى به المجلس. وجرت المحاضرة فأنشد لنفسه موشّحة وقع فيها: كحل الدّجى يجري «من مقلة ... الفجر» على الصّباح ومعصم النّهر «في حلل ... خضر» من البطاح   [1] وفي نسخة أخرى: إذ أتى.. وفي نسخة ثانية إذا انثنى. [2] وفي نسخة أخرى: الرديني. [3] وفي نسخة أخرى: ابن زهر. [4] وفي نسخة أخرى: حصن أستبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 فتحرّك ابن زهير وقال أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون؟ فعرّفه، فقال: ارتفع فو الله ما عرفتك، قال ابن سعيد وسابق الحلبة الّذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير وقد شرّقت موشّحاته وغرّبت، قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع وأرفع ما وقع لك في التّوشيح قال كنت أقول: ما للمولّه من سكره لا يفيق. يا له سكران. من غير خمر. ما للكئيب المشوق. يندب الأوطان. هل تستعاد. أيامنا ... بالخليج. وليالينا أو نستفاد. من النسيم ... الأريج. مسك دارينا أو هل يكاد. حسن المكان ... البهيج. أن يحيّينا؟ روض أظلّه. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. والماء يجري. وعائم وغريق. من جنى الرّيحان. واشتهر بعده ابن حيّون الّذي له من الزّجل المشهور قوله: يفوّق سهمه كلّ حين ... بما شئت من يد وعين وينشد في القصيد: خلقت مليح علمت رامي ... فليس تخلّ ساع من قتال وتعمل بذي العينين متاعي ... ما تعمل يديّ بالنبال واشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، ولمّا سمع ابن زهر قوله: للَّه ما كان من يوم بهيج ... بنهر حمص على تلك المروج ثمّ انعطفنا على فمّ الخليج ... نفضّ في حانه مسك الختام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 عن عسجد زانه صافي المدام ورداء الأصيل ضمّه كف الظلام قال ابن زهر: أين كنّا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرّف. أخبر ابن سعيد عن والده أنّ مطرّفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه، فقال: لا تفعل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول: قلوب تصاب بألحاظ تصيب ... فقل كيف تبقى بلا وجد وبعد هذا ابن حزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أنّ يحيى الخزرجيّ دخل عليه في مجلسه فأنشده موشّحة لنفسه فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشّح بموشّح حتّى يكون عاريا عن التّكلّف، قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي: يا هاجري هل إلى الوصال ... منك سبيل أو هل ترى عن هواك سالي ... قلب العليل وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله: إنّ سيل الصباح في الشرق ... عاد بحرا في أجمع الأفق فتداعت نوادب الورق أتراها خافت من الغرق ... فبكت سحرة على الورق واشتهر بأشبيليّة لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول له: يا ابن الفضل لك على الوشّاحين الفضل بقولك: وا حسرتا لزمان مضى ... عشيّة بأنّ الهوى وانقضى وأفردت بالرغم لا بالرضى ... وبتّ على جمرات الغضى أعانق بالفكر تلك الطّلول ... وألثم بالوهم تلك الرّسوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 قال وسمعت أبا بكر بن الصابونيّ ينشد الأستاذ أبا الحسن الدّباج موشّحاته غير ما مرّة، فما سمعته يقول له للَّه درّك، إلّا في قوله: قسما بالهوى لذي حجر ... ما للّيل المشوّق من فجر جمد الصّبح ليس يطرد ما للّيليّ فيما أظنّ غد اصح يا ليل إنّك الأبد أو قفصت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري ومن محاسن موشّحات ابن الصابوني قوله: ما حال صبّ ذي ضنى واكتئاب ... أمرضه يا ويلتاه الطبيب عامله محبوبه باجتناب ... ثمّ اقتدى فيه الكرى بالحبيب جفا جفوني النوم لكنني ... لم أبكه الا لفقد الخيال وذا الوصال اليوم قد غرّني ... منه كما شاء وشاء الوصال فلست باللائم من صدّني ... بصورة الحقّ ولا بالمحال واشتهر ببرّ أهل العدوة ابن خلف الجزائريّ صاحب الموشّحة المشهورة: الإصباح قدحت زناد ... الأنوار في مجامز الزهر وابن خرز البجائيّ وله من موشّحة: ثغر الزمان موافق ... حباك منه بابتسام ومن محاسن الموشّحات للمتأخّرين موشّحة ابن سهل شاعر إشبيليّة وسبتة من بعدها فمنها قوله: هل دري ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبّ حلّه عن مكنس فهو في نار وخفق مثل ما ... لعبت ريح الصّبا بالقبس وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره وقد مرّ ذكره فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 جادك الغيث إذا الغيث همي ... يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلّا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس إذ يقود الدّهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم زمرا بين فرادى وثنا ... مثل ما يدعو الوفود [1] الموسم والحيا قد جلّل الرّوض سنى ... فثغور الزّهر [2] فيه تبسم وروى النّعمان عن ماء السّما ... كيف يروي مالك عن أنس؟ فكساه الحسن ثوبا معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس في ليال كتمت سرّ الهوى ... بالدّجى لولا شموس الغرر [3] مال نجم الكأس فيها وهوى ... مستقيم السّير سعد الأثر وطر ما فيه من عيب سوى ... أنّه مرّ كلمح البصر حين لذّ النّوم منّا [4] أو كما ... هجم الصّبح هجوم [4] الحرس غارت الشّهب بنا أو ربّما ... أثّرت فينا عيون النّرجس أيّ شيء لامرئ قد خلصا ... فيكون الرّوض قد مكّن فيه تنهب الأزهار فيه الفرصا ... أمنت من مكره ما تتّقيه فإذا الماء يناجي والحصا ... وخلا كلّ خليل بأخيه تبصر الورد غيورا برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي وترى الآس لبيبا فهما ... يسرق الدّمع بأذني فرس يا أهيل الحيّ من وادي الغضا ... وبقلبي مسكن أنتم به ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربة   [1] وفي نسخة أخرى: الحجيج. [2] وفي نسخة أخرى: الأزهار. [3] وفي نسخة أخرى: القدر. [4] وفي نسخة أخرى: شيئا. نجوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تنقذوا عانيكم من كربه [1] واتّقوا الله وأحيوا مغرما ... يتلاشى نفسا في نفس حبس القلب عليكم كرما ... أفترضون خراب الحبس [2] وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغري به وهو سعيد قد تساوى محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد ووعيد ساحر [3] المقلة معسول اللّمى ... جال في النّفس مجال النّفس سدّد السّهم فأصمى إذ رمى ... بفؤادي نبلة المفترس [4] إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصّبّ بالشّوق يذوب فهو للنّفس حبيب أوّل ... ليس في الحبّ لمحبوب ذنوب أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب حكم اللّحظ بها فاحتكما ... لم يراقب [5] في ضعاف الأنفس ينصف المظلوم ممّن ظلما ... ويجازي البرّ منها والمسي ما لقلبي كلّما هبّت صبا ... عاده عيد من الشّوق جديد؟ كان في اللّوح له مكتتبا ... قوله إنّ عذابي لشديد جلب الهمّ له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس لم يدع من مهجتي إلّا الدّما [6] ... كبقاء الصّبح بعد الغلس   [1] وفي نسخة أخرى: تنقذوا عائذكم.. إلخ وفي النسخة الباريسية: تعتقوا عانيكم من كربه. [2] وفي النسخة الباريسية: أفترضون عفاء الحبس. [3] وفي نسخة أخرى: احور المقلة. [4] وفي نسخة أخرى: سدد السهم وسمى ورمى ... ففؤادي نهبة المفترس [5] لم يراقب: أي لم يحاذر الله. [6] وفي نسخة أخرى: ذما والذماء: بقية الروح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 سلّمي يا نفس في حكم القضا ... واعبري الوقت برجعى ومتاب واتركي [1] ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبى قد تقضّت وعتاب واصرفي القول إلى المولى الرّضى ... ملهم التّوفيق في أمّ الكتاب الكريم المنتهى والمنتمي ... أسد السّرج وبدر المجلس ينزل النّصر عليه مثلما ... ينزل الوحي بروح القدس وأمّا المشارقة فالتّكلّف ظاهر على ما عانوه من الموشّحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشّحة ابن سناء الملك الّتي اشتهرت شرقا وغربا وأوّلها: حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار تنظر المسك على كافور ... في جلنار كلّلي يا سحب تيجان الربى ... بالحلى واجعلي سوارها منعطف الجدول ولمّا شاع فنّ التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامّة من أهل الأمصار على منواله، ونظّموا في طريقته بلغتهم الحضريّة من غير أن يلتزموا فيها إعرابا. واستحدثوا فنّا سمّوه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتّسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأوّل من أبدع في هذه الطّريقة. الزجليّة أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلّا في زمانه. وكان لعهد الملّثمين، وهو إمام الزجّالين على الإطلاق. قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مرويّة ببغداد أكثر ممّا رأيتها بحواضر المغرب. قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الإشبيليّ، إمام الزجّالين في عصرنا يقول:   [1] وفي نسخة أخرى: ودعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 ما وقع لأحد من أئمّة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصبّ الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرّجة فقال: وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق وأسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق وفتح فمه بحال إنسان ... بيه الفراق وانطلق من ثم على الصفاح ... وألقى الصياح وكان ابن قزمان، مع أنّه قرطبيّ الدار، كثيرا ما يتردّد إلى إشبيليّة ونيتاب نهرها، فاتّفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. وقد ركبوا في النّهر للنزهة، ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم. وكانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال، وبدأ منهم عيسى البليديّ فقال: يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتو ... وقد ضمني عشقو لشهماتو تراه قد حصل مسكين محلاتو ... يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو توحش الجفون الكحل إن غابو ... وذيك الجفون الكحل أبلاتو ثمّ قال أبو عمرو بن الزاهر الإشبيليّ: نشب والهوى من لج فيه ينشب ... ترى ايش دعاه يشقى ويتعذب مع العشق قام في بألوان يلعب ... وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا ثمّ قال أبو الحسن المقرّيّ الدانيّ: نهار مليح يعجبن أوصافو ... شراب وملاح من حولي قد طافوا والمقلين يقول من فوق صفصافو ... والبوري أخرى فقلاتو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 ثمّ قال أبو بكر بن مرتين: الحق تريد حديث بقالي عاد ... في الواد النزيه والبوري والصياد لسنا حيتان ذيك الّذي يصطاد ... قلوب الورى هي في شبيكاتو ثمّ قال أبو بكر بن قزمان: إذا شمر كمامو يرميها ... ترى البوري يرشق لذاك الجيها وليس مرادو أن يقع فيها ... إلا أن يقبل بدياتو وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود، وله محاسن من الزّجل منها قوله: قد كنت منشوب واختشيت النشب ... وردّني ذا العشق لأمر صعب حتى تنظر الخدّ الشريق البهي ... تنتهي في الخمر ألما تنتهي يا طالب الكيميا في عينيّ هي ... تنظر بها الفضة وترجع ذهب وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور: ورذاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهب والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب وتريد تجي إلينا ... ثم تستحي وتهرب ومن محاسن أزجاله قوله: لاح الضيا والنجوم حيارى ... فقم بنا ننزع الكسل شربت ممزوج من قراعا ... أحلى هي عندي من العسل يا من يلمني كما تقلد ... قلدك الله بما تقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 يقول بان الذنوب تولد ... وأنّه يفسد العقول لارض الحجاز موريكن لك أرشد ... ايش ما ساقك معي في ذا الفضول مر أنت للحج والزيارا ... ودعني في الشرب منهمل من ليس لو قدره ولا استطاع ... النية أبلغ من العمل وظهر بعد هؤلاء بأشبيليّة ابن جحدر الّذي فضل على الزّجالين في فتح ميورقة بالزّجل الّذي أوّله هذا: من عاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا بري ممن يعاند الحق قال ابن سعيد لقيته ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزّجل المشهور الّذي أوّله: يا ليتني ان رأيت حبيبي ... أفتل اذنو بالرسيلا ليش أخذ عنق الغزيل ... وسرق فم الحجيلا ثمّ جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب، ثمّ من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملّة الإسلاميّة غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة: امزج الأكواس واملالي تجدّد ... ما خلق المال إلا أن يبدّد ومن قوله على طريقة الصوفيّة وينحو منحى الشّشتريّ منهم: بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول ومضى من لم يكن ... وبقي من لم يزول ومن محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى: البعد عنك يا بني أعظم مصائبي ... وحين حصل لي قربك سببت قاربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمّد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، وكان إماما في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله: لاح الضياء والنجوم حيارى بقوله: حل المجون يا أهل الشطارا ... مذحلت الشمس في الحمل تجدّدوا كل يوم خلاعا ... لا تجعلوا بينها ثمل إليها يتخلعوا في شنبل ... على خضورة ذاك النبات وحل بغداد واجتياز النيل ... أحسن عندي من ذيك الجهات وطاقتها أصلح من أربعين ميل ... ان مرت الريح عليه وجات لم تلتق الغبار امارا ... ولا بمقدار ما يكتحل وكيف ولاش فيه موضع رقاعا ... إلا ونسرّح فيه النحل وهذه الطريقة الزجليّة لهذا العهد هي فنّ العامّة بالأندلس من الشّعر، وفيها نظمهم حتّى أنّهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العاميّة ويسمّونه الشّعر الزجليّ مثل قول شاعرهم: دهر لي نعشق جفونك وسنين ... وأنت لا شفقة ولا قلب يلين حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع ... صنعة السكة بين الحدادين الدموع ترشرش والنار تلتهب ... والمطارق من شمال ومن يمين خلق الله النصارى للغزو ... وأنت تغزو قلوب العاشقين وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأوّل هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللّوشيّ وله فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر: طل الصباح قم يا نديمي نشربو ... ونضحكو من بعد ما نطربو سبيكة الفجر أحكت شفق ... في ميلق الليل فقم قلبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 ترى عيارها خالص أبيض نقي ... فضة هو لكن الشفق ذهبو فتنتفق سكتوا عند البشر ... نور الجفون من نورها يكسبو فهو النهار يا صاحبي للمعاش ... عيش الغني فيه باللَّه ما أطيبوا والليل أيضا للقبل والعناق ... على سرير الوصل يتقلبو جاد الزمان من بعد ما كان بخيل ... ولش ليفلت من يديه عقربو كما جرع مرو فما قد مضى ... يشرب بيننو ويأكل طيبو قال الرقيب يا أدبا أيش ذا ... في الشرب والعشق ترى ننجبو وتعجبوا عذالي من ذا الخبر ... فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا نعشق مليح الا رقيق الطباع ... علاش تكفروا باللَّه أو تكتبوا ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب ... يفض بكرا ويدع ثيبو أما الكاس فحرام نعم هو حرام ... على الّذي ما يدري كيف يشربو ويد الّذي يحسن حسابه ولم ... يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا وأهل العقل والفكر والمجون ... يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا ظبي بهي فيها يطفي الجمر ... وقلبي في جمر الغضى يلهبو غزال بهي ينظر قلوب الأسود ... وبالوهم قبل النظر يذهبوا ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا ... ويفرحوا من بعد ما يندبوا فميم كالخاتم وثغر نقي ... خطيب الأمّة للقبل يخطبو جوهر ومرجان أي عقد يا فلان ... قد صففه الناظم ولم يثقبو وشارب أخضر يريد لاش يريد ... من شبهه بالمسك قد عيبو يسبل دلال مثل جناح الغراب ... ليالي هجري منه يستغربوا على بدن أبيض بلون الحليب ... ما قط راعي للغنم يحلبوا وزوج هندات ما علمت قبلها ... ديك الصلا يا ريت ما أصلبوا تحت العكاكن منها خصر رقيق ... من رقتو يخفي إذا تطلبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبوا أي دين بقا لي معاك وأي عقل من يتبعك من ذا وذا تسلبوا تحمل ارداف ثقال كالرقيب حين ينظر العاشق وحين يرقبو ان لم ينفس غدر أو ينقشع في طرف ديسا والبشر تطلبوا يصير إليك المكان حين تجي وحين تغيب ترجع في عيني تبو محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الّذي يحسبو عماد الأمصار وفصيح العرب من فصاحة لفظه يتقرّبو بحمل العلم انفرد والعمل ومع بديع الشعر ما أكتبوا ففي الصدور بالرمح ما أطعنه وفي الرقاب بالسيف ما أضربوا من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعدّ قلبي أو يحسبو الشمس نورو والقمر همتو الغيث جودو والنجوم منصبو يركب جواد الجود ويطلق عنان الاغنيا والجند حين يركبوا من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد ووارد قط ما خيبوا قد أظهر الحق وكان في حجاب لاش يقدر الباطل بعد ما يحجبو وقد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو يلقى الحروب ضاحكا وهي عابسة غلاب هو لا شيء في الدنيا يغلبو إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو وهو سميّ المصطفى والإله للسلطنة اختار واستنخبو تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو ويزين موكبو لذي الإمارة تخضع الرءوس نعم وفي تقبيل يديه يرغبوا ببيته بقي بدور الزمان يطلعوا في المجد ولا يغربوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 وفي المعالي والشرف يبعدوا وفي التواضع والحيا يقربوا والله يبقيهم ما دار الفلك وأشرقت شمسه ولاح كوكبو وما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر ما لها مغربو ثمّ استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشّعر، في أعاريض مزدوجة كالموشّح، نظموا فيه بلغتهم الحضريّة أيضا وسمّوه عروض البلد، وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشّح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلّا قليلا مطلعها: أبكاني بشاطئ النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح وكف السحر يمحو مداد الظلام ... وماء الندى يجري بثغر الاقاح باكرت الرياض والطل فيها افتراق ... كثير الجواهر في نحور الجوار ودمع النواعير ينهرق انهراق ... يحاكي ثعابين حلقت بالثمار لووا بالغصون خلخال على كل ساق ... ودار الجميع بالروض دور السوار وأيدي الندى تخرق جيوب الكمام ... ويحمل نسيم المسك عنها رياح وعاج الصبا يطلى بمسك الغمام ... وجرّ النسيم ذيلو عليها وفاح رأيت الحمام بين الورق في القضيب ... قد ابتلت ارياشو بقطر الندى تنوح مثل ذاك المستهام الغريب ... قد التف من توبو الجديد في ردا ولكن بما أحمر وساقو خضيب ... ينظم سلوك جوهر ويتقلدا جلس بين الأغصان جلسة المستهام ... جناحا توسد والتوى في جناح وصار يشتكي ما في الفؤاد من غرام ... منها ضمّ منقاره لصدره وصاح قلت يا حمام أحرمت عيني الهجوع ... أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ... بلا دمع نبقي طول حياتي ننوح على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ... ألفت البكا والحزن من عهد نوح كذا هو ألوفا وكذا هو الزمام ... انظر جفون صارت بحال الجراح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 وأنتم من بكى منكم إذا تم عام ... يقول عناني ذا البكا والنواح قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى ... كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون ولو كان بقلبك ما بقلبي أنا ... ما كان يصير تحتك فروع الغصون اليوم نقاسي الهجر كم من سنا ... حتى لا سبيل جمله تراني العيون ومما كسا جسمي النحول والسقام ... أخفاني نحولي عن عيون اللواح لو جتنى المنايا كان يموت في المقام ... ومن مات بعد يا قوم لقد استراح قال لي لو رقدت لا وراق الرياض ... من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد وتخضبت من دمعي وذاك البياض ... طوق العهد في عنقي ليوم التناد أمّا طرف منقاري حديثو استفاض ... بأطراف البلد والجسم صار في الرماد فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الّذي ليس من شأنهم، وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوّعوه أصنافا إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل. واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهو من أهل تازا: المال زينة الدنيا وعز النفوس ... يبهي وجوها ليس هي باهيا فها كل من هو كثير الفلوس ... ولوه الكلام والرتبة العاليا يكبر من كثر ما لو ولو كان صغير ... ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغير ... وكاد ينفقع لولا الرجوع للقدر حتى يلتجي من هو في قومو كبير ... لمن لا أصل عند وو لا لو خطر لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ... ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا اللي صارت الاذناب أمام الرءوس ... وصار يستفيد الواد من الساقيا ضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ... ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب اللي صار فلان يصبح بو فلان ... ولو رأيت كيف يردّ الجواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 عشنا والسلام حتى رأينا عيان ... أنفاس السلاطين في جلود الكلاب كبار النفوس جدّا ضعاف الاسوس ... هم ناحيا والمجد في ناحيا يرو أنهم والناس يروهم تيوس ... وجوه البلد والعمدة الراسيا ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته: تعب من تبع ذا الزمان ... أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك ما منهم مليح عاهد الا وخان ... قليل من عليه تحبس ويحبس عليك يهبوا على العشاق ويتمنعوا ... ويستعمدوا تقطيع قلوب الرجال وان واصلوا من حينهم يقطعوا ... وان عاهدوا خانوا على كل حال مليح كان هويتو وشت قلبي معو ... وصيرت من خدّي لقدمو نعال ومهدت لو من وسط قلبي مكان ... وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك وهوّن عليك ما يعتريك من هوان ... فلا بدّ من هول الهوى يعتريك حكمتوا علي وارتضيت بو أمير ... فلو كان يرى حالي إذا يبصرو يرجع مثل در حولي بوجه الغدير ... مرديه ويتعطس بحال انحرو وتعلمت من ساعا بسبق الضمير ... ويفهم مرادو قبل أن يذكرو ويحتل في مطلو لو أن كان ... عصر في الربيع أو في الليالي يريك ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان ... وايش ما يقل يحتاج لو يجيك حتّى أتى على آخرها. وكان منهم عليّ بن المؤذّن بتلمسان، وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفنّ. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزّيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيّبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 يقول في مفتحها، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمّى براعة الاستهلال: سبحان مالك خواطر الأمرا ... ونواصيها في كل حين وزمان ان طعناه أعظم لنا نصرا ... وان عصيناه عاقب بكل هوان إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلّص: كن مرعى قل ولا تكن راعي ... فالراعي عن رعيته مسئول واستفتح بالصلاة على الداعي ... للإسلام والرضا السني المكمول على الخلفاء الراشدين والاتباع ... واذكر بعدهم إذا تحب وقول أحجاجا تخللوا الصحرا ... ودّوا سرح البلاد مع السكان عسكر فاس المنيرة الغرّا ... وين سارت بو عزايم السلطان أحجاج بالنبيّ الّذي زرتم ... وقطعتم لو كلاكل البيدا عن جيش الغرب حين يسألكم ... المتلوف في افريقيا السودا ومن كان بالعطايا يزوّدكم ... ويدع برية الحجاز رغدا قام قل للسد صادف الجزرا ... ويعجز شوط بعد ما يخفان ويزف كر دوم تهب في الغبرا ... أي ما زاد غزالهم سبحان لو كان ما بين تونس الغربا ... وبلاد الغرب سدّ السكندر مبنى من شرقها إلى غربا ... طبقا بحديد أو ثانيا بصفر لا بد الطير أن تجيب نبا ... أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر ما أعوصها من أمور وما شرا ... لو تقرأ كل يوم على الديوان لجرت بالدم وانصدع حجرا ... وهوت الخراب وخافت الغزلان أدر لي بعقلك الفحاص ... وتفكر لي بخاطرك جمعا ان كان تعلم حمام ولا رقاص ... عن السلطان شهر وقبله سبعا تظهر عند المهيمن القصاص ... وعلامات تنشر على الصمعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 الا قوم عاريين فلا سترا ... مجهولين لا مكان ولا إمكان ما يدروا كيف يصوروا كسرا ... وكيف دخلوا مدينة القيروان أمولاي أبو الحسن خطينا الباب ... قضية سيرنا إلى تونس فقنا كنا على الجريد والزاب ... واش لك في أعراب افريقيا القوبس ما بلغك من عمر فتى الخطاب ... الفاروق فاتح القرى المولس ملك الشام والحجاز وتاج كسرى ... وفتح من افريقيا وكان ردّ ولدت لو كرّه ذكرى ... ونقل فيها تفرّق الاخوان هذا الفاروق مردي الأعوان ... صرح في افريقيا بذا التصريح وبقت حمى إلى زمن عثمان ... وفتحها ابن الزبير عن تصحيح لمن دخلت غنائمها الديوان ... مات عثمان وانقلب علينا الريح وافترق الناس على ثلاثة أمرا ... وبقي ما هو للسكوت عنوان إذا كان ذا في مدّة البرارا ... اش نعمل في أواخر الأزمان وأصحاب الحضر في مكناساتا ... وفي تاريخ كأنا وكيوانا تذكر في صحتها أبياتا ... شق وسطيح وابن مرانا ان مرين إذا تكف براياتا ... لجدّا وتونس قد سقط بنيانا قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ... عيسى بن الحسن الرفيع الشان قال لي رأيت وأنا بذا أدري ... لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان ويقول لك ما دهى المرينيا ... من حضرة فاس إلى عرب دياب أراد المولى بموت ابن يحيى ... سلطان تونس وصاحب الأبواب ثمّ أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه، إلى آخر رحلته ومنتهى أمره، مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكلّ غريبة من الإبداع. وأمّا أهل تونس فاستحدثوا فنّ الملعبة أيضا على لغتهم الحضريّة، إلّا أنّ أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 الموشحات والأزجال في المشرق وكان لعامّة بغداد أيضا فنّ من الشعر يسمّونه المواليا، وتحته فنون كثيرة يسمّون منها القوما، وكان وكان، ومنه مفرد ومنه في بيتين، ويسمّونه دو بيت على الاختلاف المعتبرة عندهم في كلّ واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان. وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب، وتبحّروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضريّة، فجاءوا بالعجائب، ورأيت في ديوان الصفيّ الحلّي من كلامه «أنّ المواليا من بحر البسيط، وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف، ويسمّى صوتا وبيتين. وأنّه من مخترعات أهل واسط، وأنّ كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأوّل من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلّا مردفة بحرف العلّة وأنّه من مخترعات البغداديّين. وأنشد فيه لنا: بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو، وأمّ الأخرس تعرف بلغة الخرسان» . انتهى كلام الصفيّ. ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم: هذي جراحي طريا ... والدما تنضح وقاتلي يا أخيا ... في الفلا يمرح قالوا ونأخذ بثأرك ... قلت ذا أقبح إلى جرحتي يداويني ... يكون أصلح ولغيره: طرقت باب الخبا قالت من الطارق ... فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران في بحر أدمعي غارق ولغيره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 عهدي بها وهي لا تأمن علي البين ... وان شكوت الهوى قالت فدتك العين لمن يعاين لها غيري غلام الزين ... ذكرتها العهد قالت لك على دين ولغيره في وصف الحشيش: دي خمر صرف التي عهدي بها باقي ... تغني عن الخمر والخمار والساقي قحبا ومن قحبها تعمل على احراقي ... خبيتها في الحشى طلت من احداقي ولغيره: يا من وصالو لأطفال المحبة بح ... كم توجع القلب بالهجران أوّه أح أودعت قلبي حوحو والتصبر بح ... كل الورى كخ في عيني وشخصك دح ولغيره: ناديتها ومسيبي قد طواني طيّ ... جودي عليّ بقبلة في الهوى يا مي قالت وقد كوت داخل فؤادي كيّ ... ما ظن ذا القطن يغشى فمّ من هو حيّ ولغيره: رآني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ... ماط اللثام تبدي بدر في شرقه اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه ... رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه ولغيره: يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر ... وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر وصيح في حيهم يا من يريد الأجر ... ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر ولغيره: عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ... ترعى النجوم وبالتسهيد اقتاتت وأسهم البين صابتني ولا فاتت ... وسلوتي عظم الله أجركم ماتت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 ولغيره: هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر ... غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر ... وان تهلل فما للبدر عند وذكر ومن الّذي يسمّونه دو بيت: قد أقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الأسحار يا نار أشواقي به فاتقدي ... ليلا فعساه يهتدي بالنار واعلم أنّ الأذواق كلّها في معرفة البلاغة إنّما تحصل لمن خالط تلك اللّغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتّى يحصّل ملكتها كما قلناه في اللّغة العربيّة. فلا يشعر الأندلسيّ بالبلاغة الّتي في شعر أهل المغرب ولا المغربيّ بالبلاغة الّتي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرقيّ بالبلاغة الّتي في شعر الأندلس والمغرب. لأنّ اللّسان الحضريّ وتراكيبه مختلفة فيهم. وكلّ واحد منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق لمحاسن الشّعر من أهل جلدته وفي خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين وقد كدنا نخرج عن الغرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 وجاء مصلّيا خلفه منهم ابن رافع، رأس [1] شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة. قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشّحته الّتي طارت له حيث يقول: العود قد ترنّم بأبدع تلحين ... وسقت المذانب رياض البساتين وفي انتهائه حيث يقول: تخطّر ولا [2] تسلم عساك المأمون ... مروّع الكتائب يحيى بن ذي النون ثمّ جاءت الحلبة الّتي كانت في دولة الملثّمين، فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطليّ [3] ، ثمّ يحيى بن بقيّ، وللطليطليّ من الموشوحات المهذّبة قوله: كيف السبيل إلى ... صبري وفي العالم أشجان والركب وسط الفلا ... بالخرّد النواعم قد بان خاتمة ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأوّل الّذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية له. ولعلّ من يأتي بعدنا ممّن يؤيّده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص من مسائله على أكثر ممّا كتبنا فليس على مستنبط الفنّ إحصاء مسائله وإنّما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلّم فيه والمتأخّرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل. وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2: 216. قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع والتأليف قبل التنقيح والتهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته. وما العلم الا من عند الله العزيز الحكيم.   [1] وفي النسخة الباريسية: منهم ابن ارفع رأسه شاعر المأمون. [2] وفي النسخة الباريسية: وليست. [3] وفي النسخة الباريسية: التطيلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 [ المجلد الثاني ] بسم الله الرحمن الرحيم الكتاب الثاني ويشتمل: أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة الى هذا العهد وفيه ذكر معاصريهم من الأمم المشاهير، مثل السريانيين والنبط والكلدانيين والفرس والقبط وبني إسرائيل وبني يونان والروم، والإمام بأخبار دولهم. ويتقدّم الكلام في ذلك مقدمتان: إحداهما في أمم العالم وأنسابهم على الجملة. الثانية في كيفية أوضاع الأنساب في هذا الكتاب. المقدّمة الاولى في أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام على الجملة في أنسابهم اعلم أن الله سبحانه وتعالى اعتمر هذا العالم بخلقه وكرّم بني آدم باستخلافهم في أرضه، وبثهم في نواحيها لتمام حكمته، وخالف بين أممهم وأجيالهم إظهارا لآياته، فيتعارفون الأنساب، ويختلفون باللغات والألوان، ويتمايزون بالسير والمذاهب والأخلاق، ويفترقون بالنحل والأديان والأقاليم والجهات. فمنهم العرب والفرس والروم وبنو إسرائيل والبربر، ومنهم الصقالبة والحبش والزنج، ومنهم أهل الهند وأهل بابل وأهل الصين وأهل اليمن وأهل مصر وأهل المغرب. ومنهم المسلمون والنصارى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 واليهود والصابئة والمجوس، ومنهم أهل الوبر وهم أصحاب الخيام والحلل وأهل المدر وهم أصحاب المجاشر والقرى والأطم، ومنهم البدو الظواهر والحضر الأهلون. ومنهم العرب أهل البيان والفصاحة والعجم وأهل الرطانة بالعبرانية والفارسية والإغريقية واللطينية والبربرية. خالف أجناسهم وأحوالهم وألسنتهم وألوانهم ليتم أمر الله في اعتمار أرضه بما يتوزعونه من وظائف الرزق وحاجات المعاش بحسب خصوصياتهم ونحلهم فتظهر آثار القدرة وعجائب الصنعة وآيات الوحدانية إنّ في ذلك لآيات للعالمين. واعلم أنّ الامتياز بالنسب أضعف المميزات لهذه الأجيال والأمم لخفائه واندراسه بدروس الزمان وذهابه. ولهذا كان الاختلاف كثيرا ما يقع في نسب الجيل الواحد أو الأمّة الواحدة إذا اتصلت مع الأيام وتشعّبت بطونها على الأحقاب كما وقع في نسب كثير من أهل العالم مثل اليونانيين والفرس والبربر وقحطان من العرب. اختلفت الأنساب واختلفت فيها المذاهب وتباينت الدعاوي استظهر كل ناسب على صحّة ما ادّعاه بشواهد الأحوال والمتعارف من المقارنات في الزمان والمكان وما يرجع الى ذلك من خصائص القبائل وسمات الشعوب والفرق التي تكون فيهم منتقلة متعاقبة في بنيهم. وسئل مالك رحمه الله تعالى عن الرجل يرفع نسبه الى آدم فكره ذلك وقال من أين يعلم ذلك؟ فقيل له فإلى إسماعيل فأنكر ذلك وقال من يخبره به؟ وعلى هذا درج كثير من علماء السلف وكره أيضا أن يرفع في أنساب الأنبياء مثل أن يقال إبراهيم بن فلان بن فلان وقال من يخبره به. وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى: «وَالَّذِينَ من بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا الله 14: 9» قال: كذب النسابون. واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس أنّه صلى الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الكريم الى عدنان قال من هاهنا كذب النسابون. واحتجوا أيضا بما ثبت فيه أنه علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ إلى غير ذلك من الاستدلالات. وذهب كثير من أئمة المحدّثين والفقهاء مثل ابن إسحاق والطبري والبخاري الى جواز الرفع في الأنساب ولم يكرهوه، محتجين بعمل السلف فقد كان أبو بكر رضي الله عنه أنسب قريش لقريش ومضر بل ولسائر العرب وكذا ابن عباس وجبير بن مطعم وعقيل بن أبي طالب وكان من بعدهم ابن شهاب والزهري وابن سيرين وكثير من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 التابعين. قالوا وتدعو الحاجة اليه في كثير من المسائل الشرعية مثل تعصيب الوراثة وولاية النكاح والعاقلة في الديات والعلم بنسب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنه القرشيّ الهاشمي الّذي كان بمكة وهاجر الى المدينة فانّ هذا من فروض الايمان ولا يعذر الجاهل به. وكذا الخلافة عند من يشترط النسب فيها. وكذا من يفرّق في الحرّيّة والاسترقاق بين العرب والعجم. فهذا كله يدعو الى معرفة الأنساب ويؤكد فضل هذا العلم وشرفه فلا ينبغي أن يكون ممنوعا. وأمّا حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الى عدنان قال من هاهنا كذب النسّابون يعني من عدنان. فقد أنكر السهيليّ روايته من طريق ابن عبّاس مرفوعا وقال الأصح انه موقوف على ابن مسعود. وخرّج السهيليّ عن أمّ سلمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: معدّ بن عدنان بن أدد بن زيد بن البرّي بن أعراق الثري. قال وفسرت أم سلمة زيدا بأنه الهميسع والبرّي بأنه نبت أو نابت واعراق الثري بأنه إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم وإبراهيم لم تأكله النار كما لا تأكل الثرى. وردّ السهيليّ تفسير أمّ سلمة وهو الصحيح، وقال إنما معناه معنى قوله صلى الله عليه وسلم كلكم بنو آدم وآدم من تراب لا يريد أنّ الهميسع ومن دونه ابن لإسماعيل لصلبه وعضد ذلك باتفاق الأخبار على بعد المدّة بين عدنان وإسماعيل التي تستحيل في العادة أن يكون فيها بينهما أربعة آباء أو سبعة أو عشرة أو عشرون لأن المدّة أطول من هذا كله كما نذكره في نسب عدنان فلم يبق في الحديث متمسّك لأحد من الفريقين. وأما ما رووه من أنّ النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ فقد ضعّف الأئمة رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل الجرجاني وأبي محمد بن حزم وأبي عمر بن عبد البرّ. وألحق في الباب أنّ كل واحد من المذهبين ليس على إطلاقه فانّ الأنساب القريبة التي يمكن التوصّل إلى معرفتها لا يضرّ الاشتغال بها لدعوى الحاجة اليها في الأمور الشرعية من التعصيب والولاية والعاقلة وفرض الايمان بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسب الخلافة والتفرقة بين العرب والعجم في الحريّة والاسترقاق عند من يشترط ذلك كما مرّ كله وفي الأمور العادية أيضا تثبت به اللّحمة الطبيعية التي تكون بها المدافعة والمطالبة. ومنفعة ذلك في اقامة الملك والدين ظاهرة. وقد كان صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 الله عليه وسلم وأصحابه ينسبون الى مضر ويتساءلون عن ذلك. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم. وهذا كله ظاهر في النسب القريب، وأمّا الأنساب البعيدة العسرة المدرك التي لا يوقف عليها إلا بالشواهد والمقارنات لبعد الزمان وطول الأحقاب أو لا يوقف عليها رأسا لدروس الأجيال فهذا قد ينبغي أن يكون له وجه في الكراهة كما ذهب اليه من ذهب من أهل العلم مثل مالك وغيره لأنه شغل الإنسان بما لا يعنيه. وهذا وجه قوله صلى الله عليه وسلم فيما بعد عدنان من هاهنا كذب النسّابون لأنها أحقاب متطاولة ومعالم دارسة لا تثلج الصدور باليقين في شيء منها مع أنّ علمها لا ينفع وجهلها لا يضرّ كما نقل والله الهادي الى الصواب. ولنأخذ الآن في الكلام في أنساب العالم على الجملة ونترك تفصيل كل واحد منها الى مكانه فنقول: إنّ النسّابين كلّهم اتفقوا على أنّ الأب الأوّل للخليقة هو آدم عليه السلام كما وقع في التنزيل إلا ما يذكره ضعفاء الأخباريين من أن الجنّ والطمّ أمّتان كانتا فيما زعموا من قبل آدم، وهو ضعيف متروك وليس لدينا من أخبار آدم وذرّيته إلّا ما وقع في المصحف الكريم وهو معروف بين الأئمّة. واتفقوا على أنّ الأرض عمرت بنسله أحقابا وأجيالا بعد أجيال إلى عصر نوح عليه السلام وأنه كان فيهم أنبياء مثل شيث وإدريس وملوك في تلك الأجيال معدودون وطوائف مشهورون بالنحل مثل الكلدانيين ومعناه الموحّدون، ومثل السريانيين وهم المشركون. وزعموا أنّ أمم الصابئة منهم وأنهم من ولد صابئ بن لمك بن أخنوخ، وكان نحلتهم في الكواكب والقيام لها كلها واستنزال روحانيّتها وأنّ من حزبهم الكلدانيين أي الموحّدين. وقد ألّف أبو إسحاق الصابي الكاتب مقالة في أنسابهم ونحلتهم. وذكر أخبارهم أيضا داهر مؤرّخ السريانيين والبابا الصابي الحرّاني وذكروا استيلاءهم على العالم وجملا من نواميسهم. وقد اندرسوا وانقطع أثرهم. وقد يقال أنّ السريانيين من أهل تلك الأجيال، وكذلك النمروذ والازدهاق وهو المسمى بالضّحاك من ملوك الفرس وليس ذلك بصحيح عند المحقّقين. واتفقوا على أنّ الطوفان الّذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع بما كان من خراب المعمور ومهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا فصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 أهل الأرض كلّهم من نسله وعاد أبا ثانيا للخليقة وهو نوح بن لامك ويقال لمك بن متوشلخ بفتح اللام وسكونها ابن خنوخ، ويقال أخنوخ، ويقال أشنخ، ويقال أخنخ وهو إدريس النبيّ فيما قاله ابن إسحاق ابن بيرد ويقال بيرد بن مهلائيل ويقال ماهلايل بن قاين ويقال قينن بن أنوش ويقال يانش بن شيث بن آدم، ومعنى شيث عطيّة الله هكذا نسبه ابن إسحاق وغيره من الأئمة وكذا وقع في التوراة نسبه وليس فيه اختلاف بين الأئمة. ونقل ابن إسحاق أنّ خنوخ الواقع اسمه في هذا النسب هو إدريس النبيّ صلوات الله عليه وهو خلاف ما عليه الأكثر من النسّابين فإنّ إدريس عندهم ليس بجدّ لنوح ولا في عمود نسبه وقد زعم الحكماء الأقدمون أيضا أنّ إدريس هو هرمس المشهور بالإمامة في الحكمة عندهم. وكذلك يقال: أنّ الصابئة من ولد صابئ بن لامك وهو أخو نوح عليه السلام. وقيل أنّ صابئ متوشلخ جدّه. واعلم أنّ الخلاف الّذي في ضبط هذه الأسماء إنّما عرض في مخارج الحروف فإنّ هذه الأسماء إنّما أخذها العرب من أهل التوراة ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب، فإذا وقع الحرف متواسطا بين حرفين من لغة العرب، فتردّه العرب تارة الى هذا وتارة الى هذا. وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن هاهنا اختلف الضبط في هذه الأسماء. واعلم أنّ الفرس والهند لا يعرفون الطوفان وبعض الفرس يقولون كان ببابل فقط. واعلم أنّ آدم هو كيومرث وهو نهاية نسبهم فيما يزعمون، وأنّ أفريدون الملك في آبائهم هو نوح، وأنّه بعث لازدهاق وهو الضحّاك فلبسه الملك وقبله كما يذكر بعد في أخبارهم. وقد تترجّح صحة هذه الأنساب من التوراة وكذلك قصص الأنبياء الأقدمين إذ أخذت عن مسلمي يهودا ومن نسخ صحيحة من التوراة يغلب على الظن صحتها وقد وقعت العناية في التوراة بنسب موسى عليه السلام وإسرائيل وشعوب الأسباط ونسب ما بينهم وبين آدم صلوات الله عليه. والنسب والقصص أمر لا يدخله النسخ فلم يبق إلا تحرّي النسخ الصحيحة والنقل المعتبر. وأمّا ما يقال من أن علماءهم بدّلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم. فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه: انّ ذلك بعيد، وقال معاذ الله ان تعمد أمّة الأمم الى كتابها المنزل على نبيّها فتبدّله أو ما في معناه، وقال وإنّما بدّلوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وحرّفوه بالتأويل ويشهد لذلك قوله تعالى: «وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ الله 5: 43» ولو بدّلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم فإنّما المعنيّ به التأويل اللَّهمّ إلّا أن يطرقها التبديل في الكلمات على طريق الغفلة وعدم الضبط. وتحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها فذلك يمكن في العادة لا سيما وملكهم قد ذهب، وجماعتهم انتشرت في الآفاق واستوى الضابط منهم وغير الضابط، والعالم والجاهل، ولم يكن وازع يحفظ لهم ذلك لذهاب القدرة بذهاب الملك فتطرّق من أجل ذلك الى صحف التوراة في الغالب تبديل وتحريف غير متعمد من علمائهم وأحبارهم. ويمكن مع ذلك الوقوف على الصحيح منها إذ تحرّى القاصد لذلك بالبحث عنه. ثم اتفق النسابون ونقلت المفسرين على أنّ ولد نوح الذين تفرّعت الأمم منهم ثلاثة: سام وحام ويافث وقد وقع ذكرهم في التوراة، وأنّ يافث أكبرهم وحام الأصغر وسام الأوسط، وخرّج الطبري في الباب أحاديث مرفوعة بمثل ذلك وأنّ سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش والزنج وفي بعضها السودان. وفي بعضها سام أبو العرب وفارس والروم، ويافث أبو التّرك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وحام أبو القبط والسودان والبربر، ومثله عن ابن المسيّب ووهب بن منبّه. وهذه الأحاديث وإن صحّت فإنّما الأنساب فيها مجملة ولا بدّ من نقل ما ذكره المحققون في تفريع أنساب الأمم من هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وكذلك نقل الطبريّ إنه كان لنوح ولد اسمه كنعان وهو الّذي هلك في الطوفان، قال وتسميه العرب يام، وآخر مات قبل الطوفان اسمه عابر. وقال هشام كان له ولد اسمه بوناطر والعقب إنّما هو من الثلاثة على ما أجمع عليه الناس وصحت به الأخبار، فأمّا سام فمن ولده العرب على اختلافهم وإبراهيم وبنوه صلوات الله عليهم باتفاق النسابين. والخلاف بينهم إنّما هو في تفاريع ذلك أو في نسب غير العرب الى سام. فالذي نقله ابن إسحاق: أنّ سام بن نوح كان له من الولد خمسة وهم: أرفخشذ ولاوذ وإرم وأشوذ وغليم. وكذا وقع ذكر هذه الخمسة في التوراة وأنّ بني أشوذ هم أهل الموصل، وبني غليم أهل خوزستان ومنها الأهواز. ولم يذكر في التوراة ولد لاوذ. وقال ابن إسحاق: وكان للاوذ أربعة من الولد: وهم طسم وعمليق وجرجان وفارس قال: ومن العماليق أمّة جاسم فمنهم بنو لفّ وبنو هزّان وبنو مطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وبنو الأزرق ومنهم بديل وراحل وظفّار، ومنهم الكنعانيّون وبرابرة الشام وفراعنة مصر. وعن غير ابن إسحاق أنّ عبد بن ضخم وأميم من ولد لاوذ. قال ابن إسحاق: وكانت طسم والعماليق وأميم وجاسم يتكلّمون بالعربية وفارس يجاورونهم إلى المشرق ويتكلّمون بالفارسية. قال وولد إرم: عوص وكاثر وعبيل ومن ولد عوص عاد ومنزلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت. ومن ولد كاثر ثمود وجديس ومنزل ثمود بالحجر بين الشام والحجاز. وقال هشام بن الكلبي: عبيل بن عوص أخو عاد. وقال ابن حزم عن قدماء النسّابين: انّ لاوذ هو ابن إرم بن سام أخو عوص وكاثر. قال: فعلى هذا يكون جديس وثمود أخوين، وطسم وعملاق أخوين أبناء عمّ لحام وكلهم بنو عم عاد. قال: ويذكرون أنّ عبد بن ضخم بن إرم وأنّ أميم بن لاوذ بن إرم. قال الطبري: وفهّم الله لسان العربيّة عادا وثمود وعبيل وطسم وجديس وأميم وعمليق وهم العرب العاربة. وربما يقال: إنّ من العرب العاربة يقطن أيضا، ويسمون أيضا العرب البائدة ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد. قال: وكان يقال عاد إرم فلمّا هلكوا قيل ثمود إرم ثمّ هلكوا فقيل لسائر ولد إرم أرمان وهو النبط. وقال هشام بن محمد الكلبيّ: إنّ النبط بنو نبيط بن ماش بن إرم والسريان بنو سريان بن نبط. وذكر أيضا أنّ فارس من ولد أشوذ بن سام وقال فيه فارس بن طبراش بن أشوذ، وقيل أنهم من أميم بن لاوذ وقيل ابن غليم وفي التوراة: ذكر ملك الأهواز واسمه كردلا عمرو من بني غليم والأهواز متصلة ببلاد فارس. فلعل هذا القائل ظنّ أنّ أهل أهواز هم فارس والصحيح أنهم من ولد يافث كما يذكر. وقال أيضا إنّ البربر من ولد عمليق بن لاوذ وأنهم بنو تميلة من مأرب بن قاران بن عمر بن عمليق والصحيح أنهم من كنعان بن حام كما يذكر. وذكر في التوراة ولد إرم أربعة عوص وكاثر وماش ويقال مشح والرابع حول. ولم يقع عند بني إسرائيل في تفسير هذا شيء إلّا أنّ الجرامقة من ولد كاثر. وقد قيل إنّ الكرد والدّيلم من العرب. وهو قول مرغوب عنه. وقال ابن سعيد كان لأشوذ أربعة من الولد إيران ونبيط وجرموق وباسل فمن إيران الفرس والكرد والخزر، ومن نبيط النبط والسريان، ومن جرموق الجرامقة وأهل الموصل، ومن باسل الديلم وأهل الجبل. قال الطبري: ومن ولد أرفخشذ العبرانيون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وبنو عابر بن شالخ بن أرفخشذ وهكذا نسبه في التوراة. وفي غيره أن شالخ بن قينن بن أرفخشذ وإنما لم يذكر قينن في التوراة لأنه كان ساحرا وادّعى الألوهية. وعند بعضهم أنّ النمروذ من ولد ارفخشذ وهو ضعيف وفي التوراة أن عابر ولد اثنين من الولد هما فالغ ويقطن، وعند المحققين من النسّابة أن يقطن هو قحطان عربته العرب هكذا. ومن فالغ إبراهيم عليه السلام وشعوبه ويأتي ذكرهم. ومن يقطن شعوب كثيرة ففي التوراة ذكر ثلاثة من الولد له وهم: المرذاذ ومعربه ومضاض وهم جرهم وإرم وهم حضور وسالف وهم أهل السلفات وسبا وهم أهل اليمن من حمير والتبابعة وكهلان وهدرماوت وهم حضرموت. وهؤلاء خمسة، وثمانية أخرى ننقل أسماءهم وهي عبرانية ولم نقف على تفسير شيء منها ولا يعلم من أي البطون هم، وهم: بباراح وأوزال ودفلا وعوثال وأفيمايل وأيوفير وحويلا ويوفاف، وعند النسابين أن جرهم من ولد يقطن فلا أدري من أيهم، وقال هشام بن الكلبيّ: إن الهند والسند من نوفير بن يقطن والله أعلم. وأما يافث فمن ولده الترك والصين والصقالبة ويأجوج ومأجوج باتفاق من النسابين. وفي آخرين خلاف كما يذكر. وكان له من الولد على ما وقع في التوراة سبعة. وهم كومر وياوان وماذاي وماغوغ وقطوبال وماشخ وطيراش وعدّهم ابن إسحاق هكذا وحذف ماذاي ولم يذكر كومر وتوغرما وأشبان وريغاث هكذا في نص التوراة. ووقع في الإسرائيليات أن توغرما هم الخزر، وأن أشبان هم الصقالبة، وأن ريغاث هم الإفرنج ويقال لهم برنسوس، والخزر هم التركمان وشعوب الترك كلهم من بني كومر ولم يذكروا من أي الثلاثة هم. والظاهر أنهم من توغرما ونسبهم ابن سعيد الى الترك ابن عامور بن سويل بن يافث، والظاهر أنه غلط وأن عامور هو كومر صحف عليه. وهم أجناس كثيرة منهم الطغرغر وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طغماج والخزلقية والغز الذين كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين كان منهم الخلج، ويقال للهياطلة الصغد أيضا. ومن أجناس الترك الغور والخزر والقفجاق، ويقال الخفشاخ، ومنهم يمك والعلّان، ويقال الأز، ومنهم الشركس وأزكش. ومن ماغوغ عند الإسرائيليين يأجوج ومأجوج، وقال ابن إسحاق: إنّهم من كومر ومن ماذاي الديلم ويسمون في اللسان العبراني ماهان. ومنهم أيضا همذان وجعلهم بعض الإسرائيليين من بني همذان بن يافث وعد همذان ثامناً للسبعة المذكورين من ولده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وأمّا ياوان واسمه يونان فعند الإسرائيليين أنّه كان له من الولد أربعة وهم: داود بن واليشا وكيتم وترشيش، وأن كيتم من هؤلاء الأربعة هو أبو الروم والباقي يونان، وأن ترشيش أهل طرسوس. وأما قطوبال فهم أهل الصين من المشرق والليمان من المغرب. ويقال أنّ أهل افريقية قبل البربر منهم وأن الإفرنج أيضا منهم. ويقال أيضا أنّ أهل الأندلس قديما منهم. وأما ماشخ فكان ولده عند الإسرائيليين بخراسان وقد انقرضوا لهذا العهد فيما يظهر وعند بعض النسابين أنّ الأشبان منهم. وأما طيراش فهم الفرس عند الإسرائيليين وربما قال غيرهم إنهم من كومر وأن الخزر والترك من طيراش وأن الصقالبة وبرجان والأشبان من ياوران وأن يأجوج ومأجوج من كومر وهي كلها مزاعم بعيدة عن الصواب. وقال اهروشيوش مؤرّخ الروم أن القوط واللطين من ماغوغ. وهذا آخر الكلام في أنساب يافث. وأمّا حام فمن ولده: السودان والهند والسند والقبط وكنعان باتفاق. وفي آخرين خلاف نذكره وكان له على ما وقع في التوراة أربعة من الولد وهم مصر ويقول بعضهم مصرايم وكنعان وكوش وقوط. فمن ولد مصر عند الإسرائيليين فتروسيم وكسلوحيم ووقع في التوراة فلشنين منهما معا. ولم يتعيّن من أحدهما وبنو فلشنين الذين كان منهم جالوت. ومن ولد مصر عندهم كفتورع ويقولون هم أهل دمياط ووقع الانقلوس ابن أخت قيطش الّذي خرب القدس في الجلوة الكبرى على اليهود. قال إن كفتورع هو قبطقاي ويظهر من هذه الصيغة أنهم القبط لما بين الاسمين من الشبه. ومن ولد مصر عناميم وكان لهم نواحي إسكندرية وهم أيضا بفتوحيم ولوديم ولهابيم. ولم يقع إلينا تفسير هذه الأسماء. وأما كنعان بن حام فذكر من ولده في التوراة أحد عشر منهم صيدون ولهم ناحية صيدا وإيموري وكرساش، وكانوا بالشام وانتقلوا عند ما غلبهم عليه يوشع إلى إفريقية فأقاموا بها. ومن كنعان أيضا يبوسا وكانوا ببيت المقدس وهربوا أمام داود عليه السلام حين غلبهم عليه إلى إفريقية والمغرب وأقاموا بها. والظاهر أنّ البربر من هؤلاء المنتقلين أوّلا وآخرا إلا أنّ المحققين من نسابتهم على أنهم من ولد مازيغ بن كنعان فلعل مازيغ ينتسب إلى هؤلاء. ومن كنعان أيضا حيث الذين كان ملكهم عوج بن عناق. ومنهم عرفان وأروادى وخوي ولهم نابلس وسبا ولهم طرابلس وضمارى ولهم حمص وحما ولهم أنطاكية وكانت تسمى حما باسمهم وأما كوش بن حام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 فذكر له في التوراة خمسة من الولد وهم سفنا وسبا وجويلا ورعما وسفخا ومن ولد رعما شاو وهم السند ودادان وهم الهند. وفيها أن النمروذ من ولد كوش ولم يعينه وفي تفاسيرها أن جويلا زويلة وهم أهل برقة. وأما أهل اليمن من ولد سبا. وأما قوط فعند أكثر الإسرائيليين أن القبط منهم. ونقل الطبري عن ابن إسحاق أن الهند والسند والحبشة من بني السودان من ولد كوش. وأن النوبة وفزان وزغاوة والزنج منهم من كنعان. وقال ابن سعيد أجناس السودان كلهم من ولد حام ونسب ثلاثة منهم الى ثلاثة سماهم من ولده غير هؤلاء الحبشة الى حبش، والنوبة الى نوابة أو نوى، والزنج الى زنج، ولم يسم أحدا من آباء الأجناس الباقية وهؤلاء الثلاثة الذين ذكروا لم يعرفوا من ولد حام فلعلّهم من أعقابهم، أو لعلها أسماء أجناس. وقال هشام بن محمد الكلبي إن النمروذ هو ابن كوش بن كنعان. وقال أهروشيوش مؤرخ الروم: إن سبا وأهل افريقية يعني البربر من جويلا بن كوش ويسمى يضول وهذا والله أعلم غلط لأنه مرّ أن يضول في التوراة من ولد يافث ولذلك ذكر أن حبشة المغرب من دادان ابن رعما من ولد مصر بن حام بنو قبط بن لأب بن مصرا هـ الكلام في بني حام. وهذا آخر الكلام في أنساب أمم العالم على الجملة والخلاف الّذي في تفاصيلها يذكر في أماكنه والله وليّ العون والتوفيق . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 المقدّمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم اعلم أن الأنساب تتشعب دائما وذلك أن الرجل قد يكون له من الولد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويكون لكل واحد منهم كذلك، وكل واحد منهم فرع ناشئ عن أصل أو فرع أو عن فرع فرع فصارت بمثابة الأغصان للشجرة تكون قائمة على ساق واحدة هي أصلها والفروع عن جانبها، ولكل واحد من الفروع فروع أخرى الى أن تنتهي إلى الغاية. فلذلك اخترنا بعد الكلام على الأنساب للأمّة وشعوبها أن نضع ذلك على شكل شجرة نجعل أصلها وعمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب ومن له التقدم عليهم فيجعل عمود نسبه أصلا لها وتفرع الشعوب الأخرى عن جانبه من كل جهة، كأنها فروع لتلك الشجرة حتى تتصل تلك الأنساب عمودا وفروعا بأصلها الجامع لها ظاهرة للعيان في صفحة واحدة، فترسم في الخيال دفعة ويكون ذلك أعون على تصوّر الأنساب وتشعبها. فإن الصور الحسيّة أقرب إلى الارتسام في الخيال من المعاني المتعلقة. ثم لما كانت هذه الأمم كلها لها دول وسلطان، اعتمدنا بالقصد الأوّل ذكر الملوك منهم في تلك الشجرات متصلة أنسابهم الى الجد الّذي يجمعهم، بعد أن نرسم على كل واحد منهم رتبته في تعاقبهم واحدا بعد واحد بحروف أب ج د فالألف للأوّل والباء للثاني والجيم للثالث والدال للرابع والهاء للخامس وهلم جرّا. ونهاية الأجداد لأهل تلك الدولة في الآخر منهم، ويكون للأول غصون وفروع في كل جهة عنه فإذا نظرت في الشجرة علمت أنساب الملوك في كل دولة وترتبهم بتلك الحروف واحدا بعد واحد والله أعلم بالصواب. القول في أجيال العرب وأوّليتها واختلاف طبقاتهم وتعاقبها وأنساب كل طبقة منها (1) اعلم أن العرب منهم الأمة الراحلة الناجعة، أهل الخيام لسكناهم والخيل لركوبهم، والأنعام لكسبهم، يقومون عليها، ويقتاتون من ألبانها، ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها، ويحملون أثقالهم على ظهورها. يتنازلون حللا متفرقة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص، ويختطف الناس من السبل، ويتقلبون دائما في المجالات فرارا من حمارّة القيظ تارة، وصبارة البرد أخرى، وانتجاعا لمراعي غنمهم، وارتيادا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم، وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم، فاختصوا لذلك بسكنى الإقليم الثالث ما بين البحر المحيط من المغرب الى أقصى اليمن وحدود الهند من المشرق. فعمروا اليمن والحجاز ونجدا وتهامة وما وراء ذلك مما دخلوا إليه في المائة الخامسة كما ذكروه من مصر وصحاري برقة وتلولها وقسنطينة وإفريقية وزاغا والمغرب الأقصى والسوس، لاختصاص هذه البلاد بالرمال والقفار المحيطة بالأرياف والتلول والأرياف الآهلة بمن سواهم من الأمم في فصل الربيع وزخرف الأرض لرعي الكلإ والعشب في منابتها، والتنقل في نواحيها الى فصل الصيف لمدّة الأقوات في سنتهم من حبوبها. وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من أضرارهم بإفساد السابلة، ورعي الزرع مخضرّا، وانتهابه قائما وحصيدا إلا ما حاطته الدولة، وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها. ثم ينحدرون في فصل الخريف الى القفار لرعي شجرها، ونتاج إبلهم في رمالها، وما أحاط به عملهم من مصالحها، وفرارا بأنفسهم وظعائنهم من أذى البرد الى دفء مشاتيها. فلا يزالون في كل عام مترددين بين الريف والصحراء ما بين الإقليم الثالث والرابع صاعدين ومنحدرين على ممر الأيام، شعارهم لبس المخيط في الغالب، ولبس العمائم تيجانا على رءوسهم يرسلون من أطرافها عذبات يتلثم قوم منهم بفضلها وهم عرب المشرق، وقوم يلفون منها الليث والأخدع قبل لبسها ثم يتلثمون بما تحت أذقانهم من فضلها وهم عرب المغرب حاكوا بها عمائم زناتة من أمم البربر قبلهم. وكذلك لقنوا منهم في حمل السلاح اعتقال الرماح الخطية، وهجروا تنكب القسي. وكان المعروف لأولهم ومن بالمشرق لهذا العهد منهم استعمال الأمرين. ثم إنّ العرب لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام والفصاحة في المنطق والذلاقة في اللسان ولذلك سموا بهذا الاسم فإنه مشتق من الابانة لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الثيب تعرب عن نفسها» . والبيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا. وانظر قصة كسرى لما طلب من خليفته على العرب النعمان بن المنذر أن يوفد عليه من كبرائهم وخطبائهم من رضي لذلك، فاختار منهم وفد أوفده عليه وكان من خبره واستغراب ما جاءوا به من البيان ما هو معروف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 فهذه كلها شعائرهم وسماتهم وأغلبها عليهم اتخاذ الإبل والقيام على نتاجها وطلب الانتجاع بها الارتياد مراعيها ومفاحص توليدها بما كان معاشهم منها. فالعرب أهل هذه الشعار من أجيال الآدميين. كما أن الشاوية أهل القيام على الشاة والبقر لما كان معاشهم فيها فلهذا لا يختصون بنسب واحد بعينه الا بالعرض ولذلك كان النسب في بعضهم مجهولا عند الأكثر وفي بعضهم خفيّا على الجمهور. وربما تكون هذه السمات والشعائر في أهل نسب آخر فيدعون باسم العرب إلا أنهم في الغالب يكونون أقرب الى الأولين من غيرهم. وهذا الانتقال لا يكون إلّا في أزمنة متطاولة وأحقاب متداولة. ولذلك يعرض في الأنساب ما يعرض من الجهل والخفاء. واعلم أنّ جيل العرب بعد الطوفان وعصر نوح عليه السلام كان في عاد الأولى وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت ومن ينتمي إليهم من العرب العاربة من أبناء سام بن نوح. ثم لما انقرضت تلك العصور وذهب أولئك الأمم وأبادهم الله بما شاء من قدرته وصار هذا الجيل في آخرين ممن قرب من نسبهم من حمير وكهلان وأعقابهم من التبابعة ومن إليهم من العرب المستعربة من أبناء عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. ثم لما تطاولت تلك العصور وتعاقبت وكان بنو فالغ بن عابر أعالم من بين ولده واختص الله بالنّبوّة منهم إبراهيم بن تارخ [1] وهو آزر بن ناحور بن ساروخ بن أرغو بن فالغ وكان من شأنه مع نمروذ ما قصّه القرآن. ثم كان من هجرته الى الحجاز ما هو مذكور، وتخلف ابنه إسماعيل مع أمه هاجر بالحجر قربانا للَّه، ومرّت بها رفقة من جرهم في تلك المفازة فخالطوها ونشأ إسماعيل بينهم، وربّي في أحيائهم، وتعلم لغتهم العربية بعد أن كان أبوه أعجميا. ثم كان بناء البيت كما قصه القرآن، ثم بعثه الله الى جرهم والعمالقة الذين كانوا بالحجاز فآمن كثير منهم واتبعوه. ثم عظم نسله وكثر وصار بالجيل آخر من ربيعة ومضر ومن إليهم من إياد وعك وشعوب نزار وعدنان وسائر ولد إسماعيل وهم العرب التابعة للعرب. ثم انقرض أولئك الشعوب في أحقاب طويلة وانقرض ما كان لهم من الدولة في الإسلام وخالطوا العجم بما كان لهم من التغلب عليهم ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة وبقي خلفهم أحياء بادين في القفار والرمال والخلاء من الأرض تارة والعمران تارة. وقبائل بالمشرق والمغرب والحجاز واليمن وبلاد الصعيد والنوبة والحبشة وبلاد الشام والعراق   [1] تارخ أو تارح كما في التوراة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 والبحرين وبلاد فارس والسند وكرمان وخراسان، أمم لا يأخذها الحصر والضبط، قد كاثروا أمم الأرض لهذا العهد شرقا وغربا، واعتزوا عليهم فهم اليوم أكثر أهل العالم وأملك لأمرهم من جميع الأمم. ولما كانت لغتهم مستعجمة على اللسان المضري الّذي نزل به القرآن، وهو لسان سلفهم، سميناهم لذلك العرب المستعجمة فهذه أجيال العرب منذ مبدإ الخليفة ولهذا العهد في أربع طبقات متعاقبة، كان لكل طبقة منها عصور وأجيال ودول وأحياء وقعت العناية بها دون من سواهم من الأمم لكثرة أجيالهم واتساع النطاق من ملكهم. فلنذكر لكل طبقة أحوال جيلها وبعض أيامهم ودولهم، ومن كان عهدهم من ملوك الأمم ودولهم، ليتبين لك بذلك مراتب الأجيال في الخليقة كيف تعاقبت والله سبحانه وتعالى وليّ العون. برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع على ترتيبها والدول المعاصرين من العجم في كل طبقة منها فنبدأ أوّلًا بذكر الطبقة الأولى وهم العرب العاربة ونذكر أنسابهم ومواطنهم وما كان لهم من الملك والدولة. ثم الطبقة الثانية وهم العرب المستعربة من بني حمير بن سبا ونذكر أنسابهم وما كان لهم من الملك باليمن في التبابعة وأعقابهم. ثم نرجع إلى ذكر معاصرهم من العجم وهم ملوك بابل من السريانيّين ثم ملوك الموصل ونينوى من الجرامقة ثم القبط وملوكهم بمصر، ثم بني إسرائيل ودولهم ببيت المقدس قبل تخريب بخت نصّر وبعده وبالصابئة، ثم الفرس ودولهم الأولى والثانية، ثم يونان ودولهم الإسكندر وقومه، ثم الروم ودولهم في القياصرة وغيرهم. ثم نرجع إلى ذكر الطبقة الثالثة وهم العرب التابعة للعرب من قضاعة وقحطان وعدنان وشعبيها العظيمين ربيعة ومضر. فنبدأ بقضاعة وأنسابهم وما كان لهم من الملك البدوي في آل النعمان بالحيرة والعراق ومن زاحمهم فيها من ملوك كندة بني حجر آكل المرار. ثم ما كان لهم أيضا من الملك البدوي بالشام في بني جفنة بالبلقاء والأوس والخزرج بالمدينة النبويّة. ثم عدنان وأنسابهم وما كان لهم من الملك بمكة في قريش ثم ما شرفهم الله به وجيل الآدميين أجمع من النبوّة، وذكر الهجرة والسير النبويّة، ثم نذكر ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك فنترجم للخلفاء الأربعة وما كان على عصرهم من الردّة والفتوحات والفتن. ثم نذكر خلفاء الإسلام من بني أمية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وما كان لعهدهم من أمر الخوارج. ثم نذكر خلفاء الشيعة وما كان لهم من الدول في الإسلام. فالأولى الدولة العظيمة لبني العبّاس التي انتشرت في أكثر ممالك الإسلام، ثم دولة العلوية المزاحمين لها بعد صدر منها وهي دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، ثم دولة العبيدية من الإسماعيلية بالقيروان ومصر، ثم القرامطة بالبحرين، ثم دعاة طبرستان والديلم ثم ما كان من هؤلاء العلوية بالحجاز ثم نذكر بني أمية المنازعين لبني العبّاس بالأندلس وما كان لهم من الدولة هنالك والطوائف من بعدهم، ثم نرجع الى ذكر المستبدين بالدعوة العباسية بالمغرب والنواحي وهم بنو الأغلب بإفريقية وبنو حمدان بالشام وبنو المقلد بالموصل وبنو صالح بن كلاب بحلب وبنو مروان بديار بكر وبنو أسد بالحلة وبنو زياد باليمن وبنو هود بالأندلس. ثم نرجع إلى القائمين بالدعوة العبيدية بالنواحي وهم الصليحيون [1] باليمن وبنو أبي الحسن الكلبي بصقيلة وصنهاجة بالمغرب. ثم نرجع الى المستبدين بالدعوة العباسية من العجم في النواحي وهم بنو طولون بمصر، ومن بعدهم بنو طغج وبنو الصفار بفارس وسجستان، وبنو سامان فيما وراء النهر، وبنو سبكتكين في غزنة وخراسان، وغورية في غزنة والهند، وبنو حسنويه من الكرد في خراسان. ثم نرجع إلى ذكر المستبدين على الخلفاء ببغداد من العجم وهم أهل الدولتين العظيمتين القائمتين بملك الإسلام من بعد العرب وهم بنو بويه من الديلم والسلجوقية من الترك. ثم نرجع إلى ملوك السلجوقية المستبدين بالنواحي وهم بنو طغتكين بالشام، وبنو قطلمش ببلاد الروم، وبنو خوارزم شاه ببلاد العجم وما وراء النهر، وبنو سقمان بخلاط وأرمينية، وبنو أرتق بماردين، وبنو زنكي بالشام، وبنو أيوب بمصر والشام. ثم الترك الذين ورثوا ملكهم هنالك، وبنو رسول باليمن ثم نرجع الى ذكر التتر من الترك القائمين على دولة الإسلام والماحين للخلافة العبّاسية ثم ما كان من دخولهم في دين الإسلام وقيامهم بالملك بالنواحي وهم بنو هولاكو بالعراق، وبنو دوشي خان بالشمال، وبنو أربنا ببلاد الروم، ومن بعد بني هولاكو بنو الشيخ حسن ببغداد وتوريز، وبنو المظفر بأصبهان وشيراز وكرمان، وبعد بني أرتنا ملوك بني عثمان من التركمان ببلاد الروم وما وراءها.   [1] وفي نسخة اخرى: الصلحيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ثم نرجع إلى الطبقة الرابعة من المغرب وهم المستعجمة ومن له ملك بدوي منهم بالمغرب والمشرق. ثم نخرج بعد ذكر ذلك الى ذكر البربر ودولهم بالمغرب لأنهم كانوا من شرط كتابنا. وهنالك نذكر برنامج دولهم والله سبحانه أعلم. الطبقة الاولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإمام بملكهم ودولهم على الجملة هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح، وأعظمهم قدرة، وأشدّهم قوة وآثارا في الأرض، وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه. لأن أخبار القرون الماضية من قبلهم، يمتنع اطلاعنا عليها التطاول الأحقاب ودروسها إلا ما يقصه علينا الكتاب ويؤثر عن الأنبياء بوحي الله إليهم، وما سوى ذلك من الأخبار الأزلية فمنقطع الاسناد. ولذلك كان المعتمد عند الإثبات في أخبارهم، ما تنطق به آية القرآن في قصص الأنبياء الأقدمين، أو ما ينقله زعماء المفسرين في تفسيرها من أخبارهم وذكر دولهم وحروبهم ينقلون ذلك عن السلف من التابعين الذين أخذوا عن الصحابة أو سمعوه ممن هاجر إلى الإسلام من أحبار اليهود وعلمائهم أهل التوراة أقدم الصحف المنزلة فيما علمناه، وما سوى ذلك من حطام المفسرين وأساطير القصص وكتب بدء الخليقة فلا نعوّل على شيء منه. وإن وجد لمشاهير العلماء تأليف مثل كتاب الياقوتية للطبريّ، والبدء للكسائي، فإنما نحوا فيها منحى القصاص، وجروا على أساليبهم، ولم يلتزموا فيها الصحة، ولا ضمنوا لنا الوثوق بها فلا ينبغي التعويل عليها، وتترك وشأنها. وأخبار هذا الجيل من العرب وان لم يقع لها ذكر في التوراة، إلا أن بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصرا، وأوعى لأخبارهم، فلذلك يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل، ثم إن هذه الأمم على ما نقل كان لهم ملوك ودول. فملوك جزيرة العرب وهي الأرض التي أحاط بها بحر الهند من جنوبها، وخليج الحبشة من غربها، وخليج فارس من شرقها، وفيها اليمن والحجاز والشحر وحضرموت، وامتد ملكهم فيها الى الشام ومصر في شعوب منهم على ما يذكر. ويقال: انهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام، فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور حسبما نذكره، إلى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان. وهؤلاء العرب العاربة شعوب كثيرة. وهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وعبد ضخم وجرهم وحضرموت وحضورا والسلفات. وسمي أهل هذا الجيل العرب العاربة، إما بمعنى الرساخة في العروبية كما يقال: ليل أليل، وصوم صائم. أو بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها بما كانت أول أجيالها وقد تسمى البائدة أيضا بمعنى الهالكة، لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم. فأما عاد وهم بنو عاد بن عوص بن إرم بن سام فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان الى حضرموت والشحر. وكان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب، وطال عمره وكثر ولده، وفي التواريخ ولد له أربعة آلاف ولد ذكر لصلبه، وتزوج ألف امرأة وعاش ألف سنة ومائتي سنة. وقال البيهقي: إنه عاش ثلاثمائة سنة، وملك بعده بنوه الثلاثة شديد وبعده شداد وبعده إرم. وذكر المسعودي: إن الّذي ملك من بعد عاد وشدّاد منهم هو الّذي سار في المالك واستولى على كثير من بلاد الشام والهند والعراق. وقال الزمخشريّ: إن شدّاد هو الّذي بنى مدينة إرم في صحارى عدن، وشيدها بصخور الذهب وأساطين الياقوت والزبرجد، يحاكي بها الجنة لما سمع وصفها طغيانا منه وعتوّا. ويقال: إن باني إرم هذه هو إرم بن عاد. وذكر ابن سعيد عن البيهقيّ: أن باني ارم هو ارم بن شداد بن عاد الأكبر، والصحيح أنه ليس هناك مدينة اسمها إرم وإنما هذا من خرافات القصاص وإنما ينقله ضعفاء المفسرين. وإرم المذكورة في قوله تعالى: «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 89: 7» القبيلة لا البلد. وذكر المسعودي أنّ ملك عوص كان ثلاثمائة وأن الّذي ملك من بعده ابنه عاد بن عوص، وان جيرون بن سعد بن عاد كان من ملوكهم، وأنه الّذي اختط مدينة دمشق ومصرها، وجمع عمد الرخام والمرمر إليها وسماها إرم. ومن أبواب مدينة دمشق الى هذا العهد باب جيرون، وذكره الشعراء في معاهدها قال الشاعر: النخل فالقصر فالحماء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون وهذا البيت في الصوت الأوّل من كتاب الأغاني. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق جيرون ويزيد أخوان هما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وبهما عرف باب جيرون ونهر يزيد. والصحيح أن باب جيرون إنما سمي باسم مولى من موالي سليمان عليه السلام في دولة بني إسرائيل، جيرون كان ظاهرا في دولتهم. وذكر ابن سعيد في أخبار القبط: أن شدّاد بن بداد بن هداد بن شدّاد بن عاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 حارب بعضا من القبط، وغلب على أسافل مصر ونزل الإسكندرية وبنى بها حينئذ مدينة مذكورة في التوراة يقال لها أون، ثم هلك في حروبهم، وجمع القبط إخوتهم من البربر والسودان وأخرجوا العرب من ملك مصر. ثم لما اتصل ملك عاد وعظم طغيانهم وعتوّهم انتحلوا عبادة الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب ويقال: انّ ذلك لانتحالهم دين الصابئة، فبعث الله إليهم أخاهم هودا، وهو فيما ذكر المسعودي والطبريّ هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد، وفي كتاب البدء لابن حبيب رباح بن حرب بن عاد، وبعضهم يقول هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ. فوعظهم وكان ملوكهم لعهده: الخلجان، ولقمان بن عاد بن عاديا بن صدا بن عادفا، آمن به لقمان وقومه، وكفر الخلجان، وامتنع هود بعشيرته من عاد. وحبس الله عنهم المطر ثلاث سنين وبعثوا الوفود من قومهم إلى مكة يستسقون لهم، كان في الوفد على ما قاله الطبري نعيم بن هزال بن هزيل بن عبيل بن صدا بن عاد. وقيل ابن عنز منهم، وحلقمة بن الخسري، ومرثد بن سعد بن عنز. وكان ممن آمن يهود واتبعه وكان بمكة من عاد هؤلاء: معاوية بن بكر وقومه، وكانت هزيلة أخت معاوية عند نعيم بن هزال وولدت له عبيدا وعمرا وعامرا، فلما وصل الوفد الى مكة مرّوا بمعاوية بن بكر وابنه بكر ونزل الوفد عليه. ثم تبعهم لقمان بن عاد، وأقاموا عند معاوية وقومه شهرا لما بينهم من الخئولة، ومكثوا يشربون وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر وابنه بكر. ثم غنتاهم شعرا تذكرهم بأمرهم فانبعثوا ومضوا إلى الاستسقاء، وتخلف عنهم لقمان بن عاد ومرثد بن سعد، فدعوا في استسقائهم وتضرعوا وأنشأ الله السحب ونودي بهم ان اختاروا فاختاروا سوداء من السحب، وأنذروا بعذابها فمضت إلى قومهم وهلكوا كما قصّه القرآن. وفي خبر الطبري أن الوفد لما رجعوا إلى معاوية بن بكر، لقيهم خبر مهلك قومهم هنالك، وأن هودا بساحل البحر، وأن الخلجان ملكهم قد هلك بالريح فيمن هلك، وأن الريح كانت تدخل تحت الرجل فتحمله حتى تقطعوا في الجبال وتقلع الشجر وترفع البيوت، حتى هلكوا أجمعون انتهى كلام الطبري. ثم ملك لقمان ورهطه من قوم عاد واتصل لهم الملك فيما يقال ألف سنة أو يزيد وانتقل ملكه الى ولده لقمان، وذكر البخاري في تاريخه أن الّذي كان يأخذ كل سفينة غصبا هو هدد بن بدد بن الخلجان بن عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر، وأن المدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 بساحل برقة انتهى ولم يزل ملكهم متصلا إلى أن غلبهم عليه يعرب بن قحطان، واعتصموا بجبال حضرموت إلى أن انقرضوا. وقال صاحب زجار أن ملكهم عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر هو الّذي حارب يعرب بن قحطان، وكان كافرا يعبد القمر، وأنه كان على عهد نوح، وهذا بعيد لأن بعثة هود كانت عند استفحال دولتهم أو عند مبتدئها، وغلب يعرب كان عند انقراضها، وكذلك هدد الّذي ذكر البخاري أنه ملك برقة إنما هو حافر الخلجان الّذي اعتصم آخرهم بجبل حضرموت، وخبر البخاري مقدم. وقال علي بن العزيز الجرجاني: وكان من ملوك عاد يعمر بن شداد، وعبد أبهر بن معديكرب بن شمد بن شداد بن عاد، وحناد بن مياد بن شمد بن شداد، وملوك آخرون أبادهم الله والبقاء للَّه وحده. فأما عبيل وهم إخوان عاد بن عوص فيما قاله الكلبي، وإخوان عوص بن إرم فيما قاله الطبريّ، وكانت ديارهم بالجحفة بين مكة والمدينة وأهلكهم السيل. وكان الّذي اختط يثرب منهم هكذا قال المسعودي، وقال هو يثرب بن ابائلة بن مهلهل بن عبيل. وقال السهيليّ إن الّذي اختط يثرب من العماليق، وهو يثرب بن ابائلة بن مهلهل بن عبيل. وقال السهيليّ إن الّذي اختط يثرب من العماليق، وهو يثرب بن مهلايل بن عوص بن عمليق. وأما عبد ضخم بن إرم فقال الطبري كانوا يسكنون الطائف وهلكوا فيمن هلك من ذلك الجيل. وقال غيره إنهم أوّل من كتب بالخط العربيّ. وأمّا ثمود وهم بنو ثمود بن كاثر بن إرم فكانت ديارهم بالحجر ووادي القرى فيما بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال، ويقال لأنّ أعمارهم كان تطول فيأتي البلاء والخراب على بيوتهم، فنحتوها لذلك في الصخر، وهي لهذا العهد، وقد مرّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ونهى عن دخولها كما في الصحيح، وفيه إشارة إلى أنّها بيوت ثمود أهل ذلك الجيل. ويشهد ذلك ببطلان ما يذهب إليه القصّاص، ووقع مثله للمسعوديّ من أنّ أهل تلك الأجيال كانت أجسامهم مفرطة في الطول والعظم، وهذه البيوت المشاهدة المنسوبة إليهم بكلام الصادق صلوات الله عليه، يشهد بأنّهم في طولهم وعظم حجراتهم مثلنا سواء فلا أقدم من عاد وأهل أجيالهم فيما بلغنا. ويقال إنّ أوّل ملوكهم كان عابر بن إرم بن ثمود ملك عليهم مائتي سنة. ثم كان من بعده جندع بن عمرو بن الدبيل بن إرم بن ثمود. ويقال ملك نحوا من ثلاثمائة سنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وفي أيامه كانت بعثة صالح عليه السلام، وهو صالح بن عبيل بن أسف بن شالخ بن عبيل بن كاثر بن ثمود، وكانوا أهل كفر وبغي وعبادة أوثان، فدعاهم صالح إلى الدين والتوحيد. قال الطبريّ: فلمّا جاءهم بذلك كفروا وطلبوا الآيات، فخرج بهم إلى هضبة من الأرض، فتمخّضت عن الناقة ونهاهم أن يتعرضوا لها بعقر أو هلكة، وأخبرهم مع ذلك أنهم عاقروها ولا بدّ، ورأس عليهم قدار بن سالف، وكان صالح وصف لهم عاقر الناقة بصفة قدار هذا. ولما طال النذير عليهم من صالح سئموه وهمّوا بقتله، وكان يأوي إلى مسجد خارج ملئهم، فكمن له رهط منهم تحت صخرة في طريقه ليقتلوه فانطبقت عليهم وهلكوا. وحنقوا ومضوا الى الناقة ورماها قدار بسهم في ضرعها وقتلها، ولجأ فصيلها إلى الجبل فلم يدركوه، وأقبل صالح وقد تخوف عليهم العذاب، فلمّا رآه الفصيل أقبل إليه ورغا ثلاث رغاءات، فأنذرهم صالح ثلاثا، وفي صبح الرابعة صعقوا بصيحة من السماء تقطّعت بها قلوبهم فأصبحوا جاثمين، وهلك جميعهم حيث كانوا من الأرض، إلّا رجلا كان في الحرم منعه الله من العذاب. قيل من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال. ويقال إنّ صالحا أقام عشرين سنة ينذرهم وتوفي ابن ثمان وخمسين سنة. وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ في غزوة تبوك بقرى ثمود فنهى عن استعمال مياههم وقال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلّا وأنتم باكون أن يصيبكم ما أصابهم. أهـ كلام الطبري. وقال الجرجاني: كان من ملوكهم دوبان بن يمنع ملك الإسكندرية، وموهب بن مرّة بن رحيب وكان عظيم الملك وأخوه هوبيل بن مرّة كذلك. وفيما ذكره المفسرون أنّهم أوّل من نحت الجبال والصخور، وأنّهم بنو ألفا وسبعمائة مدينة وفي هذا ما فيه. ثم ذهبوا بما كسبوا ودرجوا في الغابرين وهلكوا. ويقال إنّ من بقاياهم أهل الرسّ الذين كان نبيّهم حنظلة بن صفوان، وليس ذلك بصحيح. وأهل الرسّ هم حضور ويأتي ذكرهم في بني فالغ بن عابر، وكذلك يزعم بعض النسّابة أن ثقيفا من بقايا ثمود هؤلاء وهو مردود. وكان الحجّاج بن يوسف إذا سمع ذلك يقول كذبوا. وقال والله جلّ من قائل يقول وثمود فما ابقى أي أهلكهم فما أبقى أحدا منهم. وأهل التوراة لا يعرفون شيئا من أخبار عاد ولا ثمود لأنهم لم يقع لهم ذكر في التوراة، ولا لهود ولا لصالح عليهما السلام، بل ولا لأحد من العرب العاربة، لان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 سياق الأخبار في التوراة عن أولئك الأمم انما هو لمن كان في عمود النسب ما بين موسى وآدم صلوات الله عليهم، وليس لأحد من آباء هؤلاء الأجيال ذكر في عمود ذلك النسب فلم يذكروا فيها. وأما جديس وطسم فعند ابن الكلبي أنّ جديسا لإرم بن سام وديارهم اليمامة وهم أخوان لثمود بن كاثر، ولذلك ذكرهم بعدهم وان طسما للاوذ بن سام وديارهم بالبحرين. وعند الطبريّ أنهما معا للاوذ وديارهم باليمامة. ولهذين الاثنين خبر مشهور ينبغي سياقه عند ذكرهم. قال الطبريّ عن هشام بن محمد الكلبي بسنده إلى ابن إسحاق وغيره من علماء العرب: أنّ طسما وجديسا كانوا من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها، وأكثرها خيرا وثمارا وحدائق وقصورا، وكان ملك طسم غشوما لا ينهاه شيء عن هواه، ويقال له: عملوق وكان مضرّا لجديس مستذلا لهم، حتى كانت البكر من جديس لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها. وكان السبب في ذلك أنّ امرأة منهم كان اسمها هزيلة طلّقها زوجها وأخذ ولده منها، فأمر عملوق ببيعها وأخذ زوجها الخمس من ثمنها، فقالت شعرا تتظلّم منه، فامر ان لا تزوّج منهم امرأة حتى يفترعها فقالوا كذلك حتى تزوّجت الشموس، وهي عفيرة ابنة غفّار بن جديس أخت الأسود، فافتضّها عملوق، فقال الأسود بن غفّار لرؤساء جديس: قد ترون ما نحن فيه من الذل والعار الّذي ينبغي للكلاب أن تعافه فأطيعوني أدعوكم إلى عزّ الدهر، فقالوا وما ذاك، قال: أصنع للملك وقومه دعوة فإذا جاءوا، يعني طسما، نهضنا إليهم بأسيافنا فنقتلهم. فأجمعوا على ذلك ودفنوا سيوفهم في الرمل، ودعوا عملوقا وقومه فلما حضروا قتلوهم، فأفنوهم، وقتل الأسود عملوقا، وأفلت رباح بن مرّة بن طسم فأتى حسان بن تبّع مستغيثا، فنهض حسّان في حمير لإغاثته حتى كان من اليمامة على ثلاث مراحل. قال لهم رباح إنّ لي أختا مزوّجة في جديس اسمها اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها وانها لتبصر الراكب على ثلاث مراحل، وأخاف أن تنظر القوم. فأمر كل رجل أن يقلع شجرة فيجعلها في يديه ويسير كأنه خلفها، ففعلوا وبصرت بهم اليمامة فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حمير وإني أرى رجلا من وراء شجرة بيده كتف يتعرقها، أو نعل يخصفها، فاستبعدوا ذلك ولم يحفلوا به. وصبحهم حسّان وجنوده من حمير فأبادهم وخرّب حصونهم وبلادهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وهرب الأسود بن غفّار الى جبلي طيِّئ، فأقام بهما، ودعا تبّع باليمامة أخت رباح التي أبصرتهم فقلع عينها. ويقال إنه وجد بها عروقا سودا زعمت أنّ ذلك من اكتحالها بالإثمد، وكانت تلك البلد تسمى جو فسمّيت باليمامة اسم تلك المرأة. قال أبو الفرج الأصبهاني: وكانت طيِّئ تسكن الجرف من أرض اليمن وهي اليوم محلة مراد وهمدان، وسيدهم يومئذ سامة بن لؤيّ بن الغوث بن طيِّئ، وكان الوادي مسبعة وهم قليل عددهم، وكان يجتاز بهم بعير في زمن الخريف ويذهب ثم يجيئ من قابل ولا يعرفون مقرّه، وكانت الأزد قد خرجت أيام سيل العرم واستوحشت طيِّئ فظعنوا على أثرهم، وقالوا لسامة هذا البعير إنما يأتي من الريف والخصب لان في بعرة النوى، فلما جاءهم زمن الخريف اتّبعوه يسيرون لسيرة حتى هبط عن الجبلين، وهجموا على النخل في الشعاب وعلى المواشي وإذا هم بالأسود بن غفّار، في بعض تلك الشعاب فهالهم خلقه وتخوّفوه، ونزلوا ناحية ونفضوا الطريق فلم يروا أحدا، فأمر سامة ابنه الغوث بقتل الأسود، فجاء إليه فعجب من صغر خلقه، وقال: من أين أقبلتم؟ قال: من اليمن وأخبره خبر البعير ثم رماه فقتله وأقامت طيِّئ بالجبلين بعده. وذكر الطبريّ عن غير ابن إسحاق أنّ تبّع الّذي أوقع بجديس هو والد حسّان هذا، وهو ثبات أسعد أبو كرب بن ملكي كرب ويأتي ذكره في ملوك اليمن إن شاء الله تعالى انتهى كلام الطبريّ. وقال غيره إنّ حسّان بن تبّع لما سار بحمير الى طسم بعث على مقدمته إليهم عبد كلال بن منوب بن حجر بن ذي رعين من أقيال حمير فسلك بهم رباح بن مرّة الرمل وكانت الزرقاء أخت رباح ناكحاً في طسم وتسمّى عنزة واليمامة، وكانت تبصر على البعد فأنذرتهم فلم يقبلوا وصبح عبد بن كلال جديسا إلى آخر القصّة، وبقيت اليمامة بعد طسم يبابا لا يأكل ثمرها إلا عوافي الطير والسباع حتى نزلها بنو حنيفة، وكانوا بعثوا رائدهم عبيد بن ثعلبة الحنفي يرتاد لهم في البلاد، فلما أكل من ذلك الثمر قال إنّ هذا الطعام! وحجر بعصاه على موضع قصبة اليمامة، فسميت حجرا واستوطنها بنو حنيفة وبها صبحهم الإسلام كما يأتي في أخبارهم إنّ شاء الله تعالى. وأما العمالقة فهم بنو عمليق بن لاوذ وبهم يضرب المثل في الطول والجثمان. قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الطبريّ: عمليق أبو العمالقة كلهم أمم تفرّقت في البلاد، فكان أهل المشرق وأهل عمان والبحرين وأهل الحجاز منهم، وكانت الفراعنة بمصر منهم، وكانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيّون منهم. وكان الذين بالبحرين وعمان والمدينة يسمّون جاسم، وكان بالمدينة من جاسم هؤلاء بنو لفّ وبنو سعد بن هزال وبنو مطر وبنو الأزرق، وكان بالمدينة من جاسم هؤلاء بنو لفّ وبنو سعد بن هزال وبنو مطر وبنو الأزرق، وكان بنجد منهم بديل وراحل وغفّار وبالحجاز منهم إلى تيماء بنو الأرقم ويسكنون مع ذلك نجدا وكان ملكهم يسمّى الأرقم، قال: وكان بالطائف بنو عبد ضخم بن عاد الأول انتهى. وقال ابن سعيد فيما نقله عن كتب التواريخ التي اطلع عليها في خزانة الكتب بدار الخلافة من بغداد قال: كانت مواطن العمالقة تهامة من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النماردة من بني حام، ولم يزالوا كذلك إلى أن جاء إسماعيل صلوات الله عليه وآمن به من آمن منهم. وتطرّد لهم الملك إلى أن كان منهم السميدع بن لاوذ بن عمليق وفي أيامه خرجت العمالقة من الحرم، أخرجتهم جرهم من قبائل قحطان فتفرقوا ونزل بمكان المدينة منهم بنو عبيل بن مهلايل بن عوص بن عمليق فعرفت به، ونزل أرض أيلة ابن هومر بن عمليق، واتصل ملكها في ولده وكان السميدع سمة لمن ملك منهم إلى أن كان آخرهم السميدع بن هومر الّذي قتله يوشع لما زحف بنو إسرائيل إلى الشام بعد موسى صلوات الله عليه، فكان معظم حروبهم مع هؤلاء العمالقة هنالك، فغلبه يوشع وأسره وملك أريحا قاعدة الشام وهي قرب بيت المقدس ومكانها معروف لهذا العهد. ثمّ بعث من بني إسرائيل بعثا إلى الحجاز فملكوه وانتزعوه من أيدي العمالقة ملوكه ونزعوا يثرب وبلادها وخيبر. ومن بقاياهم يهود قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع وسائر يهود الحجاز على ما نذكره. ثمّ كان لهم ملك بعد ذلك في دولة الروم وملّكوا أذينة بن السميدع على مشارف الشام والجزيرة من ثغورهم وأنزلوهم في التخوم ما بينهم وبين فارس، وهذا الملك أذينة ابن السميدع هو الّذي ذكره الشاعر في قوله: أزال أذينة عن ملكه ... وأخرج عن أهله ذا يزن وكان من بعده حسّان بن أذينة، ومن بعده طرف بن حسّان بن يدياه نسبة إلى امه، وبعده عمرو بن طرف، وكان بينه وبين جذيمة الأبرش حروب، وقتله جذيمة واستولى على ملكهم وكان آخرا من العمالقة كما نذكر ذلك في موضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 ومن هؤلاء العمالقة فيما يزعمون عمالقة مصر وأنّ بعض ملوك القبط استنصر بملك العمالقة بالشام لعهده واسمه الوليد بن دومغ، ويقال ثوران بن أراشة بن فادان بن عمرو بن عملاق فجاء معه ملك مصر واستعبد القبط. قال الجرجاني ومن ثم ملك العماليق مصر ويقال أنّ منهم فرعون إبراهيم وهو سنان بن الأشل بن عبيد بن عولج بن عمليق، وفرعون يوسف أيضا منهم وهو الريّان بن الوليد بن فوران، وفرعون موسى كذلك وهو الوليد بن مصعب بن أبي أهون بن الهلوان، ويقال أنّه قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران، وكان الّذي ملك مصر بعد الريان بن الوليد طاشم بن معدان أهـ كلام الجرجانيّ وقال غيره: الريان فرعون يوسف وهو الّذي تسميه القبط نقراوش وأنّ وزيره كان أطفير وهو العزيز وأنّه آمن بيوسف، وأنّ أرض الفيّوم كانت مغايض للماء فدبّرها يوسف بالوحي والحكمة حتى صارت أعزّ الدّيار المصرية وملك بعده ابنه دارم بن الريان، وبعده ابنه معدانوس فاستبعد بني إسرائيل. قال الكلبي: ويذكر القبط أنّه فرعون موسى، وذكر أهل الأثر أنّه الوليد بن مصعب وأنه كان نجارا من غير بيت الملك فاستولى إلى أن ولي جرس السلطان ثم غلب عليه ثم استبدّ بعده وعليه انقرض أمر العمالقة. ولما غرق في اتباع موسى صلوات الله عليه رجع الملك إلى القبط فولّوا من بيت ملكهم دلوكة العجوز كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى، وأما بنو إسرائيل فليس عندهم ذكر لعمالقة الحجاز وعندهم أنّ عمالقة الشام من ولد عملاق بن أليفاز- بتفخيم الفاء- ابن عيصو أو عيصاب أو العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وفراعنة مصر منهم على الرأيين وأمّا الكنعانيون الذين ذكر الطبري أنّهم من العمالقة، فهم عند الإسرائيليين من كنعان ابن حام، وكانوا قد انتشروا ببلاد الشام وملكوها، وكان معهم فيها بنو عيصوا المذكورون ويقال لهم بنو يدوم، ومن أيديهم جميعا ابتزها بنو إسرائيل عند المجيء أيام يوشع بن نون، ولذلك تزعم زناتة المغرب أنّهم من هؤلاء العمالقة وليس بصحيح. وأمّا أميم فهم إخوان عملاق بن لاوذ قال السهيليّ: يقال بفتح الهمزة وكسر الميم. وبضم الهمزة وفتح الميم وهو أكثر ووجدت بخط بعض المشاهير أمّيم بتشديد الميم. ويذكر أنّهم أوّل من بنى البنيان، واتخذ البيوت والآطام من الحجارة، وسقفوا بالخشب وكان ديارهم فيما يقال أرض فارس، ولذلك زعم بعض نسّابة الفرس أنّهم من أميم، وأنّ كيومرث الذين ينسبون إليه هو ابن أميم بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 لاوذ وليس بصحيح وكان من شعوبهم وبار بن أميم نزلوا رمل عالج بين اليمامة والشحر وسالت عليهم الريح فهلكوا. وأما العرب البائدة من بني أرفخشذ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ فهم جرهم وحضورا وحضرموت والسلف. فأما حضورا فكانت ديارهم بالرسّ، وكانوا أهل كفر وعبادة أوثان، وبعث إليهم نبيّ منهم اسمه شعيب بن ذي مهرع فكذبوه وهلكوا كما هلك غيرهم من الأمم وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية، وقال البيهقي: إنّ يعرب بن قحطان لما غلب عادا على اليمن وملكه من أيديهم ولى إخوته على الأقاليم، وولّى جرهم على الحجاز، وولى بلاد عاد الأولى وهي الشحر، عاد بن قحطان، فعرفت به، وولى عمان يقطن بن قحطان انتهى كلام البيهقي، وقيل إنما نزلت جرهم الحجاز، ثم بنى قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن، فلم يزالوا بمكة إلى أن كان شأن إسماعيل عليه السلام ونبوّته فآمنوا به وقاموا بأمره وورثوا ولاية البيت عنه حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة فخرجت جرهم من مكة، ورجعوا إلى ديارهم باليمن إلى أن هلكوا. وأما حضرموت فمعدودون في العرب العاربة لقرب أزمانهم وليسوا من العرب البائدة لأنهم باقون في الأجيال المتأخرة، إلّا أن يقال ان جمهورهم قد ذهب من بعد عصورهم الأولى واندرجوا في كندة، وصاروا من عدادهم، فهم بهذا الاعتبار قد هلكوا وبادوا والله أعلم. وقال عليّ بن عبد العزيز إنه كان فيهم ملوك التبابعة في علو الصيت ونهاية الذكر. قال وذكر جماعة من العلماء أن أول من انبسط ملكه منهم، وارتفع ذكره عمرو الأشنب بن ربيعة بن يرام بن حضرموت ثم خلفه ابنه نمر الأزج، فملك مائة سنة وقاتل العمالقة، ثم ملك كريب ذو كراب، ثم نمر الأزج مائة وثلاثا وثلاثين سنة، وهلك إخوته في ملكه. ثم ملك مرثد ذو مروان بن كريب مائة وأربعين سنة وكان يسكن مأرب ثم تحوّل إلى حضرموت، ثم ملك علقمة ذو قيعان ابن مرثد ذي مروان بحضرموت ثلاثين سنة، ثم ملك ذو عيل بن ذي قيعان عشر سنين وسكن صنعاء وغزا الصين فقتل ملكها وأخذ سيفه ذا النور، ثم ملك ذو عيل بن ذي عيل بحضرموت عشر سنين، ولما شخص سنان ذو ألم لغزو الصين تحوّل ذو عيل الى صنعاء واشتدت وطأته، وكان أوّل من غزا الروم من ملوك اليمن، وأوّل من أدخل الحرير والديباج الى اليمن. ثم ملك بدعات بن ذي عيل بحضرموت أربع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 سنين، ثم ملك بدعيل بن بدعات وبني حصونا وخلّف آثارا، ثم ملك بديع ذو عيل، ثم ملك حماد بن بدعيل بحضرموت فأنشأ حصنه المعقرب وغزا فارس في عهد سابور ذي الأكتاف وخرّب وسبى ودام ملكه ثمانين سنة وكان أوّل من اتخذ الحجاب من ملوكهم. ثم ملك يشرح ذو الملك بن ودب بن ذي حمّاد بن عاد من بلاد حضرموت مائة سنة وكان أول من رتب الرواتب وأقام الحرس والروابط. ثم ملك منعم بن ذي الملك دثّار بن جذيمة بن منعم، ثم يشرح بن جذيمة بن منعم، ثم نمر بن بشرح، ثم ساجن المسمى ابن نمر وفي أيامه تغلبت الحبشة على اليمن. هذه قبائل هذا الجيل من العرب العاربة وما كانوا عليه من الكثرة والملك إلى أن انقرضوا وأزال الله من أمرهم بالقحطانيّة كما نحن ذاكروه. ولم نغفل منهم إلّا من لم يصلنا ذكره من خيره والله وارث الأرض ومن عليها. وأما جرهم فقال ابن سعيد: إنهم أمّتان أمّة على عهد عاد وأمّة من ولد جرهم بن قحطان، ولما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز. ثم ملك من بعده ابنه عبد يا ليل، ثم بعده ابنه عبد المدان بن جرهم، ثم ابنه نفيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن نفيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه الحرس. ثم ملك من بعده جرهم بن عبد ياليل، ثم بعده ابنه عمرو بن الحرث، ثم أخوه بشير بن الحرث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض. قال وهذه الأمّة الثانية هم الذين بعث إليهم إسماعيل عليه السلام وتزوج فيهم، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وأما بنو سبا بن يقطن فلم يبيدوا، وكان لهم بعد تلك الأجيال البائدة أجيال باليمن منهم حمير وكهلان وملوك التبابعة وهم أهل الطبقة الثانية. وفي مسند الإمام أحمد: أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل هو فروة بن مسيك المرادي عن سبا أرجل هو أو امرأة أم أرض؟ فقال بل رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة والشام أربعة. فأمّا اليمانيّون فمذ حج وكندة والأزد والأشعر وأنمار وحمير. وأما الشاميّون فلخم وجذام وعاملة وغسّان. وثبت أن أباهم قحطان كان يتكلم بالعربية ولقنها عن الأجيال قبله فكانت لغة بنيه ولذلك سمّوا العرب المستعربة ولم يكن في آباء قحطان من لدى نوح عليه السلام إليه من يتكلم بالعربية، وكذلك كان أخوه فالغ، وبنوه إنما يتكلمون بالعجمية، إلى أن جاء إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما فتعلم العربية من جرهم فكانت لغة بنيه وهم أهل الطبقة الثالثة المسمّون بالعرب التابعة للعرب. فلنذكر هذا النسب لينتظم أجياله مع الأجيال السابقة واللاحقة ونستوفي أنساب الأمم منها. الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم ولنذكر الآن أهل هذا النسب ما بين إسماعيل ونوح عليهما السلام ومن كان منهم، أو من إخوانهم أو أبنائهم من الأنبياء والشعوب والملوك وما كان لإسماعيل صلوات الله عليه من الولد. ونختم هذه الطبقة الأولى بذكرهم، وإن كانوا عجما في لغاتهم، إلّا أنهم أصون الخليقة في أنسابهم، وكل البشر على بعض الآراء من أعقابهم، وهم مع ذلك معاصرون لهذه الطبقة، فيتسق الكلام فيهم على شرط كتابنا، ويتميز بذكر أخبارهم أحوال الطبقات التي بعدهم على الوفاء والكمال. فنبدأ أولا بذكر عمود هذا النسب على التوالي، ثم نرجع إلى أخبارهم. وإسماعيل صلوات الله عليه هو ابن إبراهيم بن آزر وهو تارح وآزر اسم لصنمه لقّب به ابن ناحور بن ساروخ بالخاء أو بالغين ابن عابر أو عنبر بن شالح أو شليخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وهذه الأسماء الأعجميّة كلها منقولة من التوراة، ولغتها عبرانية، ومخارج حروفها في الغالب مغايرة لمخارج الحروف العربية. وقد يجيء الحرف منها بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 حرفين من العربيّة، فترده العرب الى أحد ذينك الحرفين وفي مخرجه، فيتغير عن أصله، ولذلك تكون فيها إمالة متسوطة أو محضة، فيصير الى حرف العلّة الّذي بعده من ياء أو واو، فلذلك تنقل الكلمة منها على اختلاف، وإلا فشأن الأعلام أن لا تختلف. وقال الطبريّ: إن بين شالخ وأرفخشذ أبا آخر اسمه قينن، وسقط ذكره من التوراة لأنه كان ساحرا وادّعى الألوهية. وقال ابن حزم: في كتب النصارى أنّ بين فالغ وعابر أبا آخر اسمه ملكيصدق وهو أبو فالغ. واعلم أن نوحا صلوات الله عليه بلغ عمره يوم الطوفان ستمائة سنة، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فكانت جملة ذلك تسعمائة وخمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين وهذا نص المصحف الكريم، وكذا وقع في التوراة بعينه. ومن الغريب الواقع في التوراة أنّ عمر إبراهيم كان يوم وفاة نوح ثلاثا وخمسين سنة، لأنه قال إنّ أرفخشذ ولد لسام بعد سنتين من الطوفان، ولما بلغ خمسا وثلاثين سنة ولد له ابنه شالخ، وبعد ثلاثين سنة ولد ابنه عابر، وبلغ عابر أربعا وثلاثين سنة فولد ابنه فالغ، وبلغ فالغ ثلاثين سنة فولد له أرغو، وبلغ أرغو اثنتين وثلاثين سنة فولد شاروغ، وبلغ شاروغ ثلاثين سنة فولد ناحور، وبلغ ناحور تسعا وعشرين سنة فولد تارح، وبلغ تارح خمسا وسبعين سنة فولد إبراهيم، وجملة هذه السنين من الطوفان إلى ولادة إبراهيم مائتان وسبع وتسعون سنة، وعمر نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسون سنة، فيكون إبراهيم بعد وفاة نوح ابن ثلاث وخمسين سنة، فيكون لقي نوحا صلوات الله عليهما وخالطه وأخذ عنه، وهو على رأي بعضهم أب لجميع الشعوب من بعده، فلذلك كان الأب الثالث للخليقة من بعد آدم ونوح صلوات الله عليهم أجمعين أهـ. وفي كتاب البدء ونقله ابن سعيد: أنّ أوّل من ملك الأرض من ولد نوح، كنعان بن كوش بن حام، فسار من أرض كنعان بالشام الى أرض بابل، فبنى مدينة بابل اثني عشر فرسخا في مثلها، وورث ملكه ابنه النمرود بن كنعان، وعظم سلطانه في الأرض، وطال عمره، وغلب على أكثر المعمور، وأخذ بدين الصابئة، وخالفه الكلدانيون منهم في التوحيد وأسمائه، ومال معهم بنو سام، وكان سام قد نزل بشرقيّ الدجلة، وكان وصيّ أبيه في الدين والتوحيد، وورث ذلك ابنه أرفخشذ، ومعنى أرفخشذ مصباح مضيء، فاشتغل بالعبادة ودعاه الكلدانيون الى القيام بالتوحيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فامتنع. ثم قام من بعده ابنه شالخ وعاش طويلا وقام من بعده بأمره ابنه عابر كذلك وخرج مع الكلدانيين على النمروذ منكرا لعبادة الهياكل، فغلبه نمروذ وأخرجه من كوثا، فلحق هو ومن معه من الحلفاء بالجزيرة وهي مدينة المجدل بين الفرات ودجلة. وعابر هذا هو أبو العبرانيّين الذين تكلموا بالعبرانية، واستفحل ملكه بالمجدل. قال ابن سعيد وورث من بعده ابنه فالغ وهو الّذي قسّم الأرض بين ولد نوح، وفي زمانه بنى النمرود الصرح ببابل [1] وكان من أمره ما نصّه القرآن، وقام بأمر فالغ من بعده ابنه ملكان فيما زعموا وغلبه الجرامقة والنبط على ملكه، وقام بالمجدل في ملكهم إلى أن هلك وخلف ابنه أتيا ويقال له الخضر. وأما أرغو بن فالغ فعبر الى كلواذا ودخل في دين النبط، وهي بدعة الصابئة وولد له منهم ابنه شاروخ، ثم بعده ناحور بن شاروخ، ثم بعد تارح بن ناحور الّذي سمّي آزر، واستخلص النمروذ آزر وقدمه على بيت الأصنام، والنمروذ من ملوك الجرامقة واسمه هاصد بن كوش، انتهى كلام ابن سعيد. وولد لتارخ وهو آزر على ما وقع في التوراة ثلاثة من الولد إبراهيم وناحور وهاران، ومات هاران في حياة أبيه تارح، وترك ابنه لوطا فهو ابن أخي إبراهيم. قال الطبريّ: ولد إبراهيم الخليل قيل بناحية كوثا من السواد وهو قول ابن إسحاق، وقيل بحران، وقيل ببابل. وعامة السلف انه ولد على عهد نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام. وكان الكهان يتحدّثون بولادة رجل يخالف الدين، ويكسر الأصنام والأوثان، فأمر بذبح الولدان، فولدته أمه وتركته بمغارة في فلاة من الأرض حتى كبر وشب، ورأى في الكواكب ما رآه، وكملت نبوّته، فأحضرته إلى أبيه ودعاه إلى التوحيد، فامتنع وكسر إبراهيم الأصنام، وأحضر عند نمروذ وقذفه في النار، فصارت بردا وسلاما، وخرج منها ولم تعد عليه كما نصّ ذلك القرآن. ثم تدبر النمروذ في أمره، وطلب من إبراهيم أن يقرّب قربانا يفتدي مما دعاه إليه، فقال له إبراهيم: لن يقبل منك إلا الإيمان، فقال: لا أستطيع، وترك إبراهيم وشأنه. ثم أمر الله إبراهيم بالخروج من أرض الكلدانيين ببابل فخرج به أبوه تارح ومعهما على ما في التوراة ابنه ناحور بن تارح، وزوجته ملكا بنت أخيه هاران، وحافده لوط بن   [1] يقال ان الصرح سبعة الاف درجة ويقال ثلاثة الاف وشيء وجعل يرمي في السماء فيرجع نبله اليه مختضبا ... (البدء والتاريخ ج 3 ص 56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 هاران، قال في التوراة وكنته سارة يعني زوج إبراهيم، فقيل انها أخت ملكا بنت هاران بن تارح، وقيل بنت ملك حران، طعنت على قومها في الدين، فتزوجها إبراهيم على أن لا يضرها. ويردّ هذا ما في التوراة انها خرجت معهم من أرض الكلدانيين إلى حرّان، فتزوجها، وقيل انها بنت هاران بن ناحور وهاران عم إبراهيم، قاله السهيليّ، فأقاموا بحرّان ومات بها أبوه تارح وعمره مائتا سنة وخمس سنين، ثم أمر بالخروج إلى أرض الكنعانيين، ووعده الله بأن تكون أثرا لبنيه، وأنهم يكثرون مثل حصى الأرض. فنزل بمكان بيت المقدس وهو ابن خمس وسبعين سنة، ثم أصاب بلد الكنعانيين مجاعة، فخرج إبراهيم في أهل بيته وقدم مصر، ووصف لفرعون ملك القبط جمال امرأته سارة فأحضرها عنده، ولما همّ بها يبست يده على صدره، فطلب منها الإقالة فدعت له الله فانطلقت يده. ويقال عاود ذلك ثلاثا يصاب في كلها وتدعو له فردّها إلى إبراهيم، واستخدمها هاجر. [1] قال الطبريّ والملك الّذي أراد سارة هو سنان بن علوان وهو أخو الضحاك، والظاهر أنه من ملوك القبط. ثم ساروا إلى أرض كنعان بالشام، ويقال أنّ هاجر أهداها ملك الأردن لسارة، وكان اسمه فيما قال الضبيّ صلاوق، وأنه انتزع سارة من إبراهيم، ولما همّ بها صرع مكانه وسألها في الدعاء، فدعت له فأفاق فردّها إلى إبراهيم، وأخدمها هاجر أمة كانت لبعض ملوك القبط. ولما عاد إبراهيم إلى أرض كنعان، نزل جيرون وهو مدفنه المسمى بالخليل، وكانت معظمة تعظمها الصابئة، وتسكب عليها الزيت للقربان، وتزعم أنها هيكل المشتري والزهرة، فسمّاها العبرانيون إيليا ومعناه بيت الله. ثم أنّ لوطا فارق إبراهيم عليه السلام لكثرة مواشيهما وتابعهما وضيق المرعى، فنزل المؤتفكة بناحية فلسطين وهي بلاد العدور المعروف بعدور صقر، وكانت هناك على ما   [1] ويروي الطبري هذه الحادثة في ج 1 ص 135: (وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال فكانت لا تعصي إبراهيم شيئا وبذلك أكرمها الله عزّ وجل فلما وصف لفرعون ووصف له حسنها وجمالها أرسل الى إبراهيم فقال: ما هذه المرأة التي معك؟ قال: هي أختي وتخوف إبراهيم ان قال هي امرأتي أن يقتله عنها. فقال لإبراهيم: زينها ثم أرسلها اليّ حتى انظر اليها، فرجع إبراهيم الى سارة وأمرها فتهيأت ثم أرسلها اليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت اليه تناولها بيده فيبست الى صدره. فلما رأى ذلك فرعون أعظم أمرها وقال: ادعي الله ان يطلق عني فو الله لا أريك مكروها ولأحسنن إليك. فقالت: اللَّهمّ إن كان صادقا فأطلق يده، فردها الى إبراهيم ووهب لها هاجر جارية كانت له قبطية) . وفي كتاب البدء والتاريخ ج 3- ص 52 ما شابه ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 نقله المحقّقون خمس قرى سدوم. ووجدهم على ارتكاب الفواحش، فدعاهم الى الدين، ونهاهم عن المخالفة، فكذّبوه وعتوا، وأقام فيهم داعيا إلى الله إلى أن هلكوا كما قصّة القرآن. وخرج لوط مع عساكر كنعان وفلسطين للقاء ملوك الشرق حين زحفوا إلى أرض الشام، وكانوا أربعة ملوك ملك الأهواز من بني غليم بن سام واسمه كرزلّا عامر، وملك بابل واسمه في التوراة شنعا واسمه أمّراقيل ويقال هو نمروذ، وملك الأستار وما أدري معنى هذه اللفظة واسمه أريوح، وملك كوتم ومعناه ملك أمم أو جماعة واسمه تزعال. وكان ملوك كنعان الذين خرجوا إليهم خمسة على عدد القرى الخمسة، وذلك أن ملك الأهواز كان استعبدهم اثنتي عشرة سنة، ثم عصوا فزحف إليهم واستجاش بالملوك المذكورين معه، فأصابوا من أهل جبال يسعين إلى فاران التي في البرية وكان بها يومئذ الجويون من شعوب كنعان أيضا. وخرج ملك سدوم وأصحابه لمدافعتهم فانهزم هو والملوك الذين معه من أهل سدوم، وسباهم ملك الأهواز ومن معه من الملوك، وأسروا لوطا وسبوا أهله وغنموا ماشيته. وبلغ الخبر إبراهيم عليه السلام فاتّبعهم في ولده ومواليه نحوا من ثلاثمائة وثمانية عشر، ولحقهم بظاهر دمشق فدهمهم، فانفضوا وخلص لوطا في تلك الواقعة، وجاء بأهله ومواشيه وتلقاهم ملك سدوم واستعظم فعلتهم. ثم أوحى الله إلى إبراهيم أنّ هذه الأرض أرض الكنعانيّين التي أنت بها، ملّكتها لك ولذرّيتك وأكثرهم مثل حصى الأرض، وأن ذريتك يسكنون في أرض ليست لهم أربعمائة سنة ويرجع الحقب الرابع الى هنا. ثم إن سارة وهبت مملوكتها هاجر القبطية لإبراهيم عليه السلام لعشر سنين من مجيئهم من مصر، وقالت لعل الله يرزقك منها ولدا. وكان إبراهيم قد سأل الله أن يهب له ولدا فوعده به. وكانت سارة قد كبرت وعقمت عن الولد، فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل عليهما السلام لست وثمانين من عمره، وأوحى الله إليه أني قد باركت عليه وكثرته ويولد له اثنا عشر ولدا، ويكون رئيسا لشعب عظيم. وأدركت سارة الغيرة من هاجر وطلبت منه إخراجها، وأمره الله أن يطيع سارة في أمرها، فهاجر بها إلى مكة ووضعها وابنها بمكان زمزم عند دوحة هنالك وانطلق. فقالت له هاجر: آللَّه أمرك؟ قال: نعم. فقالت: إذا لا يضيعنا. وانطلق إبراهيم وعطش إسماعيل بعد ذلك عطشا شديدا، وأقامت هاجر تتردّد بين الصفا والمروة، إلى أن صعدت عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 سبع مرات لعلها تجد شيئا، ثم أتته وهو يفحص برجليه فنبعت زمزم. وعن السدّي، أنه تركه في مكان الحجر، واتخذ فيه عريشا، وأن جبريل هو الّذي همز له الماء بعقبه، وأخبر هاجر أنها عين يشرب بها ضيفان الله، وأنّ أبا هذا الغلام سيجيء ويبنيان بيتا للَّه هذا مكانه. ثم مرّت رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم أقبلوا من كداء، ونزلوا أسفل مكة، فرأوا الطير حائمة، فقالوا: لا نعلم بهذا الوادي ماء، ثم أشرفوا فرأوا المرأة ونزلوا معها هنالك. وعن ابن عبّاس: كانت أحياؤها قريبا من ذلك المكان، فلما رأوا الطير تحوم عليه، أقبلوا اليه فوجدوهما، فنزلوا معهما حتى كان بها أهل أبيات منهم، وشبّ إسماعيل بينهم، وتعلم اللغة العربية منهم، وأعجبهم وزوّجوه امرأة منهم، وماتت أمه هاجر فدفنها في الحجر. ولما رجع إبراهيم وأقام في أهله بالشام، وبالغ أهل المؤتفكة في العصيان والفاحشة، ودعاهم لوط فكذّبوه وأقام على ذلك. قال الطبريّ: فأرسل الله رسولا من الملائكة لا هلاكهم، ومرّوا بإبراهيم فأضافهم وخدمهم، وكان من ضحك سارة وبشارة الملائكة لها بإسحاق وابنه يعقوب ما قصّه القرآن، وكانت البشارة بإسحاق وإبراهيم ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين. وفي التوراة إنه أمر أن يحرّر ولده إسماعيل لثلاث عشرة سنة من عمره، وكل من في بيته من الأحرار فكان ذلك لتسع وتسعين من عمر إبراهيم، وقال له ذلك عهد بيني وبينك وذريتك. ثم أهلك الله المؤتفكة ونجى لوطا إلى أرض الشام، فكان بها مع عمه إبراهيم صلوات الله عليهما. وولدت سارة إسحاق، وأمر الله إبراهيم بعد ولادة إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يعبد فيه ويذكر، ولم يعرف مكانه فجعل له علامة تسير معه حتى وقفت به على الموضع، يقال انها ريح لينة لها رأسان تسير معه حتى تكون بالموضع، ويقال بل بعث معه جبرئيل لذلك حتى أراه الموضع. وكان إبراهيم يعتاد إسماعيل لزيارته، ويقال انه كان يستأذن سارة في ذلك، وأنها شرطت عليه أن لا يقيم عندهم، وأنّ إبراهيم وجد امرأة لإسماعيل في غيبة منه وكانت من العماليق، وهي عمارة بنت سعيد بن أسامة بن أكيل، فرآها فظة غليظة فأوصاها لإسماعيل بان يحوّل عتبة بابه، فلما قصت عليه الخبر والوصيّة قال ذلك أبي يأمرني أن أطلقك فطلقها. وتزوّج بعدها السيدة بنت مضّاق بن عمرو الجرهميّ، وخالفه إبراهيم إلى بيته فتسهلت له بالإذن وأحسنت التحية وقرّبت الوضوء والطعام، فأوصاها لإسماعيل بأني قد رضيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 عتبة بابك، ولما قصّت عليه الوصية قال ذلك أبي يأمرني بإمساكك فأمسكها. ثم جاء إبراهيم مرة ثالثة وقد أمره الله ببناء البيت وأمر إسماعيل بإعانته، فرفعوها من القواعد وتمّ بناؤها، وأذن في الناس بالحج. ثم زوّج لوط ابنته من مدين بن إبراهيم عليهما السلام، وجعل الله في نسلها البركة، فكان منه أهل مدين الأمّة المعروفة. ثم ابتلى الله إبراهيم بذبح ابنه في رؤيا رآها وهي وحي، وكانت الفدية ونجّى الله ذلك الولد كما قصّ في القرآن. واختلف في ذلك الذبيح من ولديه فقيل إسماعيل وقيل إسحاق، وذهب إلى كلا القولين جماعة من الصحابة والتابعين، فالقول بإسماعيل لابن عبّاس وابن عمر والشعبي ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب القرظي وقد يحتجون له بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن الذبيحين» ، ولا تقوى الحجة به لأنّ عمّ الرجل قد يجعل أباه يضرب من التجوز لا سيما في مثل هذا الفخر. ويحتجّون أيضا بقوله تعالى: «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمن وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ 11: 71» ، ولو كان ذبيحا في زمن الصبا، لم تصح البشارة بابن يكون له لأنّ الذبح في الصبا ينافي وجود الولد، ولا تقوم من ذلك حجة، لأنّ البشارة انما وقعت على وفق العلم بأنه لا يذبح وإنّما كان ابتلاء لإبراهيم، والقول بإسحاق للعبّاس وعمرو وعليّ وابن مسعود وكعب الأحبار وزيد بن أسلم ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطا والزهري ومكحول والسدّي وقتادة. وقال الطبريّ: والراجح أنه إسحاق لأن نصّ القرآن يقتضي أن الذبيح هو المبشّر به، ولم يبشّر إبراهيم بولد إلا من زوجته سارة، مع أنّ البشارة وقعت إجابة لدعائه عند مهاجره من أرض بابل. وقوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ 37: 99، ثم قال عقبة: رَبِّ هَبْ لِي من الصَّالِحِينَ 37: 100، ثم قال عقبة فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ 37: 101. وذلك كله كان قبل هاجر، لأن هاجر إنما ملكتها سارة بمضر، وملّكتها لإبراهيم بعد ذلك بعشر سنين، فالمبشّر به قبل ذلك كله إنّما هو ابن سارة، فهو الذبيح بهذه الدلالة القاطعة. وبشارة الملائكة لسارة بعد ذلك حين كانوا ضيوفا عند إبراهيم في مسيرهم لإهلاك سدوم، إنّما كان تجديدا لبشارة المتقدّمة انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ثم توفيت سارة لمائة وسبع وعشرين من عمرها، وذلك في قرية جيرون [1] من بلاد بني حبيب الكنعانيين، فطلب إبراهيم منهم مقبرة لها، فوهبه عفرون بن صخر مغارة كانت في مزرعته، فامتنع من قبولها إلا بالثمن، فأجاب إلى ذلك، وأعطاه إبراهيم أربعمائة مثقال فضة ودفن فيها سارة. وتزوّج إبراهيم من بعدها قطورا بنت يقطان من الكنعانيين. وقال السهيليّ قنطورا بزيادة نون بين القاف والطاء، وهذا الاسم أعجمي وطاؤه قريبة من التاء، فولدت له كما هو مذكور في التوراة ستة من الولد وهم: زمران يقشان مدان مدين أشبق شوخ. ثم وقع في التوراة ذكر أولادهم فولد يقشان سبا ودذّان، وولد دذّان أشوثم ولطوسيح ولاميم. وولد مدين عيفا وعيفين وحنوخ وأفيداع وألزاعا هذا آخر ولده من قنطورا في التوراة. وقال السهيليّ: كان لإبراهيم عليه السلام أولاد آخرون خمسة من امرأة اسمها حجين أو حجّون بنت أهيب، وهم كبسان وفرّوخ وأميم ولوطان ونافس. ولما ذكر الطبري بني قنطورا الستة وسمّى منهم يقشان، قال بعده: وسائرهم من الأخرى وهي رعوة. ثم قال: ومن يقشان جيل البربر أهـ. فولد إبراهيم على هذا ثلاثة عشر: فإسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، وستة من قنطورا كما ذكر في التوراة، والخمسة بنو حجين عند السهيليّ، أو رعوة عند الطبريّ. وكان إبراهيم عليه السلام قد عهد لابنه إسحاق أن لا يتزوّج في الكنعانيين، وأكّد العهد والوصيّة بذلك لمولاه القائم على أموره، ثم بعثه إلى حرّان مهاجرهم الأول، فخطب من ابن أخيه بتويل بن ناحور بن آزر بنته رفقا فزوّجها أبوها واحتملها ومن معها من الجواري وجاء بها إلى إسحاق في حياة أبيه وعمره يومئذ أربعون سنة فتزوّجها، وولدت له يعقوب وعيصو توأمين وسنذكر خبرهما. ثم قبض الله نبيّه إبراهيم صلوات الله عليه بمكان هجرته من أرض كنعان وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، ودفن مع سارة في مغارة عفرون الحبيبى، وعرف بالخليل لهذا العهد، ثم جعل الله في ذريته النبوّة والكتاب آخر الدهر.   [1] جيرون: بالفتح، قال ابن الفقيه: ومن بنائهم جيرون عند باب دمشق من بناء سليمان بن داود عليه السلام. ويقال إنّ الشياطين بنته، وهي سقيفة مستطيلة على عمد وسقائف وحولها مدينة تطيف بها، قال: واسم الشيطان الّذي بناه جيرون فسمّي به ... (معجم البلدان) وربما المقصود جبرون كما في التوراة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 فإسماعيل سكن مع جرهم بمكة وتزوّج فيهم وتعلم لغتهم وتكلم بها وصار أبا لمن بعده من أجيال العرب، وبعثه الله إلى جرهم والعمالقة الذين كانوا بمكة، وإلى أهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض. ثم قبضه الله إليه وخلّف ولده بين جرهم، وكانوا على ما ذكر في التوراة اثنتي عشر أكبرهم بنايوت وهو الّذي تقوله العرب نابت ونبت، ثم قيذار وأدبيل وبسام ومشمع وذوما ومسار وحرّاه وقيما وبطور ونافس وقدما. قال ابن إسحاق: وعاش فيما ذكر مائة وثلاثين سنة، ودفن في الحجر مع أمه هاجر، ويقال آجر. وفي التوراة أنّه قبض ابن مائة وسبع وثلاثين سنة، وأنّ شيعته سكنوا من حويلا إلى شور قبالة مصر من مدخل أثور، وسكنوا على حذر شيع اخوته. وحويلا عند أهل التوراة هي جنوب برقة والواو منها قريبة من الياء، وشور هي أرض الحجاز، وأثور بلاد الموصل والجزيرة. ثم ولي أمر البيت من بعد إسماعيل ابنه نابت، وأقام ولده بمكة مع أخوالهم جرهم حتى تشعبوا وكثر نسلهم وتعدّدت بطونهم من عدنان في عداد معدّ، ثم بطون معدّ في ربيعة ومضر وإياد وأنمار بني نزار بن معد، فضاقت بهم مكة، على ما نذكره عند ذكر قريش وأخبار ملكهم بمكة، فكانت بطون عدنان هذه كلها من ولد إسماعيل لابنه نابت، وقيل لقيذار، ولم يذكر النسّابون نسلا من ولده الآخرين، وتشعبت من إسماعيل أيضا عند جماعة من أهل العلم بالنسب بطون قحطان كلها فيكون على هذا أبا لجميع العرب بعده. وأمّا إسحاق فأقام بمكانه من فلسطين، وعمّر وعمي بعد الكثير من عمره وبارك على ولده يعقوب فغضب بذلك أخوه عيصو، وهمّ بقتله فأشارت عليه رفقا بنت بتويل بالسير الى حرّان عند خاله لا بان بن بتويل، فأقام عنده وزوّجه بنتيه، فزوجه أولا الكبرى واسمها ليّا وأخدمها جاريتها زلفة، ثم من بعدها أختها الصغير واسمها راحيل وأخدمها جاريتها بلها. وأوّل من ولد منهنّ ليّا ولدت له روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي، ثم يهوذا. وكانت راحيل لا تحبل فوهبت جاريتها بلها ليعقوب لتلد منه، فولدت له دان ثم نفتالي. ولما فعلت ذلك راحيل وهبت أختها ليا ليعقوب عليه السلام جاريتها زلفة فولدت له كادو وآشر، ثم ولدت ليّا من بعد ذلك يساخر، ثم زبولون، فكمل له بذلك عشرة من الولد. ثم دعت راحيل الله عزّ وجل أن يهب لها ولدا من يعقوب فولدت يوسف، وقد كملت له بحرّان عشرون سنة، ثم أمر بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها. فارتحل وخرج لابان في اتباعه وعزم له في المقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 عنده، فأبى فودّعه وانصرف إلى حران وسار يعقوب لوجهه حتى إذا قرب من بلد عيصو، وهو جبل يسعين بأرض الكرك والشوبك لهذا العهد، اعترضه عيصوا لتلقّيه وكرامته، فأهدى إليه يعقوب من ماشيته هديّة احتلف فيها وتودّد إليه بالخضوع والتضرّع، فذهب ما كان عند عيصو وأوحى الله إليه بأن يكون اسمه إسرائيل، ومرّ على أورشاليم وهي بيت المقدس فاشترى لك مزرعة ضرب فيها فسطاطه وأمر ببناء مرجح سماه إيل في مكان الصخرة. ثم حملت راحيل هنالك فولدت له بنيامين، وماتت من نفاسة ودفنها في بيت لحم. ثم جاء إلى أبيه إسحاق بقرية جيرون من أرض كنعان فأقام عنده. ومات إسحاق عليه السلام لمائة وثمانين سنة من عمره ودفن مع أبيه في المغارة، وأقام يعقوب بمكانه وولده عنده، وشب يوسف عليه السلام على غير حالهم من كرامة الله به، وقصّ عليهم رؤياه التي بشّر الله فيها بأمره فغصوا به وخرجوا معه الى الصيد، فألقوه في الجبّ واستخرجه السيّارة الذين مرّوا به بعد ذلك وباعوه للعرب بعشرين مثقالا، ويقال إنّ الّذي تولّى بيعه هو مالك بن دعر بن واين بن عيفا بن مدين. واشتراه من العرب عزيز مصر وهو وزيرها أو صاحب شرطتها. قال ابن إسحاق واسمه أطفير بن رجيب وقيل قوطفير. وكان ملكها يومئذ من العماليق، والريّان بن الوليد بن دومغ، وربي يوسف عليه السلام في بيت العزيز فكان من شأنه مع امرأته زليخا، ومكثه في السجن، وتعبيره الرؤيا للمحبوسين من أصحاب الملك ما هو مذكور في الكتاب الكريم. ثم استعمله ملك مصر عند ما خشي السّنة [1] والغلاء على خزائن الزرع في سائر مملكته يقدر جمعها وتصريف الأرزاق منها وأطلق يده بذلك في جميع أعماله، وألبسه خاتمه وحمله على مركبه، ويوسف لذلك العهد ابن ثلاثين سنة. فقيل عزل أطفير العزيز وولاه، وقيل بل مات أطفير فتزوّج زليخا وتولّى عمله وكان ذلك سببا لانتظام شمله بأبيه واخوته لما أصابتهم السنة بأرض كنعان وجاء بعضهم للميرة، وكال لهم يوسف عليه السلام، وردّ عليهم بضاعتهم وطالبهم بحضور أخيهم فكان ذلك كله سببا لاجتماعه بأبيه يعقوب بعد أن كبر وعمي. قال ابن إسحاق: كان ذلك لعشرين سنة من مغيبه، ولما وصل يعقوب إلى بلبيس قريبا من مصر، خرج يوسف ليلقاه، ويقال خرج فرعون معه، وأطلق لهم أرض   [1] سنت الأرض: صارت سنينا أي اكل نباتها (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 بلبيس يسكنون بها وينتفعون. وكان وصول يعقوب صلوات الله عليه في سبعين راكبا من بينه، ومعه أيوب [1] النبيّ من بني عيصو، وهو أيوب من برحما بن زبرج بن رعويل بن عيصو، واستقرّوا جميعا بمصر ثم قبض يعقوب صلوات الله عليه لسبع عشرة سنة من مقدمه ولمائة وأربعين من عمره، وحمله يوسف صلوات الله عليه إلى أرض فلسطين، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها بإذن من فرعون. واعترضهم بعض الكنعانيّين في طريقهم، فأوقعوا بهم، وانتهوا إلى مدفن إبراهيم وإسحاق عليهما السلام فدفنوه في المغارة عندهما، وانتقلوا الى مصر، وأقام يوسف صلوات الله عليه بعد موت أبيه ومعه إخوته إلى أن أدركته الوفاة فقبض لمائة وعشرين سنة من عمره، وأدرج في تابوت وختم عليه، ودفن في بعض مجاري النيل. وكان يوسف أوصى أن يجمل عند خروج بني إسرائيل إلى أرض اليفاع، فيدفن هنالك ولم تزل وصيته محفوظة عندهم إلى أن حمله موسى صلوات الله عليه عند خروجه ببني إسرائيل من مصر. ولما قبض يوسف صلوات الله عليه، وبقي من بقي من الأسباط اخوته وبنيه تحت سلطان الفراعنة بمصر، تشعّب نسلهم، وتعدّدوا إلى أن كاثروا أهل الدولة وارتابوا بهم فاستعبدوهم. قال المسعودي: دخل يعقوب إلى مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف في سبعين راكبا، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى صلوات الله عليه نحوا من مائتين وعشر سنين، فتداولهم ملوك القبط والعمالقة بمصر، ثم أحصاهم موسى في التيه، وعدّ من يطيق حمل السلاح من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف ويزيدون. وقد ذكرنا ما في هذا العدد من الوهم والغلوّ في مقدّمة الكتاب، فلا نطوّل به. ووقوعه في نصّ التوراة لا يقضي بتحقيق هذا العدد لأنّ المقام للمبالغة، فلا تكون اعداده نصوصا. وكان ليوسف صلوات الله عليه من الولد كثير، إلّا أنّ المعروف منهم اثنان أفراثيم ومنشى [2] وهما معدودان في الأسباط، لأنّ يعقوب صلوات الله عليه أدركهما وبارك عليهما وجعلهما من جملة ولده، وقد يزعم بعض من لا تحقيق عنده أنّ يوسف صلوات الله عليه استقلّ آخر بملك مصر. وينسب لبعض ضعفة المفسّرين ومعتمدهم في ذلك قول   [1] هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص، كذا في كتب التفسير، قاله نصر. [2] ورد ذكره في التوراة: منس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 يوسف عليه السلام في دعائه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي من الْمُلْكِ 12: 101. ولا دليل لهم في ذلك لأنّ كل من ملك شيئا ولو في خاصة نفسه فاستيلاؤه يسمى ملكا حتى البيت والفرس والخادم، فكيف من ملك التصرّف ولو كان في شعب واحد منها فهو ملك وقد كان العرب يسمّون أهل القرى والمدائن ملوكا، مثل هجر ومعان ودومة الجندل، فما ظنك بوزير مصر لذلك العهد وفي تلك الدولة، وقد كان في الخلافة العباسيّة تسمّى ولاة الأطراف وعمالها ملوكا، فلا استدلال لهم في هذه الصيغة. وأخرى أيضا فيما يستدلون به من قوله تعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الْأَرْضِ 12: 56» أن لا يكون لهم فيه مستند لأنّ التمكين يكون بغير الملك. ونص القرآن إنّما هو بولايته على أمور الزرع في جمعه وتفريقه كما قال تعالى: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ 12: 55» . ومساق القصة كلها أنه مرءوس في تلك الدولة بقرائن الحال كلها لا ما يتوهم من تلك اللفظة الواقعة في دعائه، فلا نعدل عن النص المحفوف بالقرائن إلى هذا المتوهم الضعيف. وأيضا فالقصّة في التوراة قد وقعت صريحة في أنه لم يكن ملكا ولا صار اليه ملك. وأيضا فالأمر الطبيعي من الشوكة والقطامة له يدفع أن يكون حصل له ملك، لأنه إنما كان في تلك الدولة قبل أن يأتي إليه إخوته منفردا لا يملك إلا نفسه ولا يتأتى الملك في هذا الحال وقد تقدّم ذلك في مقدمة الكتاب والله أعلم. وأما عيصو بن إسحاق فسكن جبال بني يسعين من بني جوي، إحدى شعوب كنعان، وهي جبال الشراة بين تبوك وفلسطين وتعرف اليوم ببلاد كرك والشوبك، وكان من شعوبهم هناك على ما في التوراة بنو لوطان وبنو شوبال وبنو صمقون وبنو عنا وبنو ديشوق وبنو يصد وبنو ديسان سبعة شعوب. ومن بني ديشون الأشبان، فسكن عيصو بينهم بتلك البلاد، وتزوّج منهم من بنات عنا بن يسعين من جوى، وهي أهليقاما، وتزوّج أيضا من بنات حي من الكنعانيين عاذا بنت أيلول، وباسمت بنت إسماعيل عليه السلام. وكان له من الولد خمسة مذكورون في التوراة وأكبرهم أليفاز، بالفاء المفخمة وإشباع حركتها وزاي معجمة من بعدها، من عاذا بنت أيلول، ثم رعويل من باسمت بنت إسماعيل، ثم يعوض ويعلام وقورح من أهليقاما بنت عنا. وولد أليفاز ستة من الولد ثيمال وأومار وصفو وكعتام وقتال وعمالق السادس، لسرّية اسمها تمتاع وهي شقيقة لوطان بن يسعين. وولد رعويل بن عيصو أربعة من الولد، ناحة وزيدم وشتما ومرّا. هكذا وقع ذكر ولد العيص وولدهم في التوراة، وفيها أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 العيص اسمه أروم [1] ، فلذلك قيل لهم بنو أروم، ولبعض الإسرائيليين أنّ أروم اسم لذلك الجبل ومعناه بالعبرانية الجبل الأحمر الّذي لا نبات به. وقد يقع لبعض المؤرّخين أن القياصرة ملوك الروم من ولد عيصو، وقال الطبريّ: أنّ الروم وفارس من ولد رعويل ابن باسمت. وليس ذلك كله بصحيح ورأيته في كتاب يوسف بن كرمون مؤرخ العمارة الثانية ببيت المقدس قبيل الجلوة الكبرى، وكان من كهنونية اليهود وهو قريب من الغلط. قال ابن حزم في كتاب الجمهرة: وكأن لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب اسمه عيصاب أو عيصو، كان بنوه يسكنون جبال الشراة بين الشام والحجاز، وقد بادوا جملة، إلا أنّ قوما يذكرون أنّ الروم من ولده وهذا خطأ. وإنما وقع لهم هذا الغلط لأن موضعهم كان يقال له أروم فظنوا أنّ الروم من ذلك الموضع، وليس كذلك لأنّ الروم إنما نسبوا الى رومس باني رومة، فإن ظنّ ظان أنّ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للحرّ بن قيس هل لك في بلاد بني الأصفر العام، وذلك في غزوة تبوك، يدل على أنّ الروم من بني الأصفر وهو عيصاب المذكور فليس كما ظنّ. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حق، وإنما عنى عليه السلام بني عيصاب على الحقيقة لا الروم، لأن مغزاه عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة كان إلى ناحية الشراة مسكن القوم المذكورين أهـ كلام ابن حزم. وزعم أهروشيوش مؤرّخ الروم أنّ أم الفينان وهاءوا وعالوم وقدوح الأربعة من بنات كاتيم بن ياوان ابن يافث، والأوّل أصح لأنه نص التوراة. ثم كثر نسل بني عيصو بأرض يسعين وغلبوا الجويّين على تلك البلاد وغلبوا بني مدين أيضا على بلادهم إلى أيلة. وتداول فيهم ملوك وعظماء كان منهم فالغ بن ساعور، وبعده يودب بن زيدح، ثم كان منهم هداد بن مدّاد الّذي أخرج بني مدين عن مواطنهم، ثم كان فيهم بعده ملوك إلى أن زحف يوشع الى الشام وفتح أريحاء وما بعدها وانتزع الملك من جميع الأمم الذين كانوا هنالك، ثم استلحمهم بخت نصّر عند ما ملك أرض القدس، ولحق بعضهم بأرض يونان، وبعضهم بإفريقية. وأما عمالق بن أليفاز فمن عقبه عند الإسرائيليين عمالقة الشام، وفي قول فراعنة مصر من القبط ونسّاب العرب، يأبون   [1] وفي نسخة اخرى: أدوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 من ذلك ونسبوهم إلى عملاق بن لاوذ كما مرّ. ثم بنو يروم وكنعان ولم يبق منهم عين تطرف والله الباقي بعد فناء خلقه. وأمّا مدين بن إبراهيم فتزوّج بابنة لوط وجعل الله في نسلها البركة، وكان له من الولد خمسة عيّفا وعيفين وخنوخ وأنيداغ وألزاعا. وقد تقدّم ذكرهم في ولد إبراهيم من قنطورا، فكان منهم مدين أمّة كبيرة ذات بطون وشعوب، وكانوا من أكبر قبائل الشام وأكثرهم عددا، وكانت مواطنهم تجاور أرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط، وكان لهم تغلب بتلك الأرض، فعتوا وبغوا وعبدوا الآلهة، وكانوا يقطعون السبل ويبخسون في المكيال. وبعث الله فيهم شعيبا نبيا منهم، وهو ابن نويل بن رعويل بن عيا بن مدين. قال المسعوديّ: مدين هؤلاء من ولد المحضر بن جندل بن يعصب بن مدين، وأنّ شعيبا أخوهم في النسب، وكانوا ملوكا عدة يسمون بكلمات أبجد إلى آخرها وفيه نظر. وقال ابن حبيب في كتاب البدء: هو شعيب بن نويب بن أحزم بن مدين. وقال السهيليّ: شعيب بن عيفا، ويقال ابن صيفون، وشعيب هذا هو شعيب موسى الّذي هاجر إليه من مصر أيام القبط واستأجره على إنكاح ابنته إياه على أنّ يخدمه ثماني سنين، وأخذ عنه آداب الكتاب والنبوّة حسبما يأتي عند ذكر موسى صلوات الله عليهما وأخبار بني إسرائيل. وقال الصيمري الّذي استأجر موسى وزوّجه: هو بثر بن رعويل، ووقع في التوراة أنّ اسمه يبثر وأنّ رعويل أباه أو عمّه هو الّذي تولى عقد النكاح. وكان لمدين هؤلاء مع بني إسرائيل حروب بالشام، ثم تغلب عليهم بنو إسرائيل وانقرضوا جميعا. وأما لوط بن هاران أخي إبراهيم عليهما السلام فقد تقدّم من خبره مع قومه ما ذكرناه هنالك، ولما نجا بعد هلاكهم لحق بأرض فلسطين، فكان بها مع إبراهيم إلى أن قبضة الله، وكان له من الولد على ما ذكر في التوراة عمّون بتشديد الميم واشباع حركتها بالضمّ ونون بعدها، وموآيي بإشباع ضمة الميم واشباع فتحة الهمزة بعدها وياء تحتية وبعدها ياء ساكنة هوائية، وجعل الله في نسلهما البركة، حتى كانوا من أكثر قبائل الشام، وكانت مساكنهم بأرض البقاء ومدائنها في بلد موآيي ومعان وما والاهما، وكانت لهم مع بني إسرائيل حروب نذكرها في أخبارهم، وكان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي، وقصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى صلوات الله عليه وأنّ دعاءه صرف إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الكنعانيّين، مذكورة في التوراة ونوردها في موضعها. وأمّا ناحور أخو إبراهيم عليه السلام فقد تقدّم ذكره أنه هاجر مع إبراهيم عليه السلام من بابل الى حرّان، ثم إلى الأرض المقدّسة، فكان معه هنالك، وكانت زوجته ملكا بنت أخيه هاران، وملكا هذه هي أخت سارة زوج إبراهيم عليه السلام وأم إسحاق، وكان لناحور من ملكا على ما وقع في نص التوراة ثمانية من الولد عوص وبوص وقمويل وهو أبو الأرمن، وكاس ومنه الكلدانيّون الذين كان منه بخت نصّر وملوك بابل، وحذو وبلداس وبلداف ويثويل. وكان له من سرّيّة اسمها أدوما أربعة من الولد وهم طالج وكاحم وتاخش وماعخا. هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم كلهم مذكورون في التوراة وهم اثنا عشر ولدا، وهؤلاء كلهم بادوا وانقرضوا، ولم يبق منهم إلّا الأرمن من قمويل بن ناحورا أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر وهم لهذا العهد على دين النصرانية ومواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطنيّة، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من العرب ومن عاصرهم من الأمم، ولنرجع إلى أهل الطبقة الثانية وهم العرب المستعربة، والله سبحانه وتعالى الكفيل بالإعانة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الطبقة الثانية من العرب وهم العرب المستعربة وذكر أنسابهم وأيامهم وملوكهم والإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم وإنّما سمّي أهل هذه الطبقة بهذا الاسم لأنّ السمات والشعائر العربية لما انتقلت إليهم ممن قبلهم، اعتبرت فيها الصيرورة، بمعنى أنهم صاروا إلى حال لم يكن عليها أهل نسبهم، وهي اللغة العربية التي تكلموا بها، فهو من استفعل بمعنى الصيرورة من قولهم: استنوق الجمل، واستحجر الطين. وأهل الطبقة الأولى لما كانوا أقدم الأمم فيما يعلم جيلا، كانت اللغة العربية لهم بالأصالة وقيل العاربة. واعلم أنّ أهل هذا الجيل من العرب يعرفون باليمنية والسبائيّة، وقد تقدم أنّ نسّابة بني إسرائيل يزعمون أنّ أباهم سبا من ولد كوش بن كنعان، ونسّابة العرب يأبون ذلك ويدفعونه، والصحيح الّذي عليه كافتهم أنهم من قحطان، وأنّ سبا هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقال ابن إسحاق يعرب بن يشجب فقدم وأخر. وقال ابن ماكولا على ما نقل عنه السهيليّ اسم قحطان مهزم. وبين النسّابة خلاف في نسب قحطان فقيل هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام أخو فالغ، ويقطن ولم يقع له ذكر في التوراة، وإنّما ذكر فالغ ويقطن. وقيل هو معرّب يقطن لأنّه اسم أعجمي والعرب تتصرّف في الأسماء الأعجمية بتبديل حروفها وتغييرها وتقديم بعضها على بعض. وقيل إنّ قحطان بن يمن بن قيدار، وقيل إنّ قحطان من ولد إسماعيل. وأصح ما قيل في هذا إنّه قحطان بن يمن بن قيدر، ويقال الهميسع بن يمن بن قيدار، وأنّ يمن هذا سميت به اليمن. وقال ابن هشام أن يعرب ابن قحطان كان يسمى يمنا وبه سميت اليمن. فعلى القول بأن قحطان من ولد إسماعيل تكون العرب كلهم من ولده لأن عدنان وقحطان يستوعبان شعوب العرب كلها. وقد احتج لذلك من ذهب إليه بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرماة الأنصار: «ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا» . والأنصار من ولد سبا وهو ابن قحطان، وقيل إنّما قال ذلك لقوم من أسلم من أقصى إخوة خزاعة بن حارثة بناء على أنّ نسبهم في سبا. وقال السهيليّ ولا حجة في شيء منهما لأنه إذا كانت العرب كلها من ولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 إسماعيل، فهذا من السهيليّ جنوح إلى القول بمفهوم اللقب وهو ضعيف. ثم قال: والصحيح أنّ هذا القول إنّما كان منه صلى الله عليه وسلم لأسلم كما قدّمناه وإنّما أراد أنّ خزاعة من معدّ بن إلياس بن مضر وليسوا من سبا، ولا من قحطان كما هو الصحيح في نسبهم على ما يأتي. واحتجوا أيضا لذلك بأنّ قحطان لم يقع له ذكر في التوراة كما تقدم، فدلّ على أنه ليس من ولد عابر فترجّح القول بأنّه من إسماعيل، وهذا مردود بما تقدم أنّ قحطان معرب يقطن وهو الصحيح، وليس بين الناس خلاف في أنّ قحطان أبو اليمن كلهم. ويقال إنه أوّل من تلكم بالعربية ومعناه من أهل هذا الجيل الذين هم العرب المستعربة من اليمنية، وإلّا فقد كان للعرب جيل آخر وهم العرب العاربة، ومنهم تعلم قحطان تلك اللغة العربية ضرورة ولا يمكن أن يتكلم بها من ذات نفسه. وكان بنو قحطان هؤلاء معاصرين لإخوانهم من العرب العاربة ومظاهرين لهم على أمورهم، ولم يزالوا مجتمعين في مجالات البادية مبعدين عن رتبة الملك وترفه الّذي كان لأولئك فأصبحوا بمنجاة من الهرم الّذي يسوق إليه الترف والنضارة، فتشعبت في أرض الفضا فصائلهم، وتعدّد في جوّ القفر أفخاذهم وعشائرهم ونما عددهم، وكثر إخوانهم من العمالقة في آخر ذلك الجيل، وزاحموهم بمناكبهم، واستجدوا خلق الدولة بما استأنفوه من عزهم. وكانت الدولة لبني قحطان متصلة فيهم، وكان يعرب بن قحطان من أعاظم ملوك العرب. يقال إنه أول من حيّاه قومه بتحية الملك. قال ابن سعيد: وهو الّذي ملك بلاد اليمن وغلب عليها قوم عاد، وغلب العمالقة على الحجاز، وولى إخوته على جميع أعمالهم، فولّى جرهما على الحجاز، وعاد بن قحطان على الشحر، وحضرموت بن قحطان على جبال الشحر، وعمان بن قحطان على بلاد عمان هكذا ذكر البيهقي. وقال ابن حزم: وعدّ لقحطان عشرة من الولد وأنه لم يعقب منهم أحد، ثم ذكر ابنين منهم دخلوا في حمير، ثم ذكر الحرث بن قحطان، وقال فولد فيما يقال له لا سور، وهم رهط حنظلة بن صفوان نبي الرسّ، والرسّ ما بين نجران إلى اليمن ومن حضرموت إلى اليمامة، ثم ذكر يعرب بن قحطان وقال فيهم الحميريّة والعدّاد انتهى. قال ابن سعيد وملك بعد يعرب ابنه يشجب وقيل اسمه يمن واستبدّ أعمامه بما في أيديهم من الممالك، وملك بعده ابنه عبد شمس وقيل عابر ويسمى سبا لأنه قيل إنه أوّل من سنّ السبي، وبنى مدينة سبا وسد مأرب. وقال صاحب التيجان إنه غزا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الأقطار وبنى مدينة عين شمس باقليم مصر وولّى عليها ابنه بابليون. وكان لسبإ من الولد كثير وأشهرهم حمير وكهلان اللذان منهما الامتان العظيمتان من اليمنيّة أهل الكثرة والملك والعزّ وملك حمير منهم أعظمه. وكان منهم التبابعة كما يذكر في أخبارهم، وعدّ ابن حزم في ولده زيدان وابنه نجران بن زيدان وبه سميت البلد. ولما هلك سبا قام بالملك بعده ابنه حمير ويعرف بالعرنجج، وقيل هو أول من تتوج بالذهب ويقال إنه ملك خمسين سنة، وكان له من الولد ستة فيما قال السهيليّ: واثل ومالك وزيد وعامر وعوف وسعد. وقال أبو محمد بن حزم الهميسع: ومالك وزيد وواثل ومشروح ومعديكرب وأوس ومرّة. وعاش فيما قال السهيليّ ثلاثمائة سنة، وملك بعده ابنه واثل وتغلب أخوه مالك بن حمير على عمان، فكانت بينهما حروب. وقال ابن سعيد: إنّ الّذي ملك بعد حمير أخوه كهلان، ومن بعده واثل بن حمير، ثم من بعد واثل السكسك بن واثل، وكان مالك بن حمير قد هلك وغلب على عمان بعده ابنه قضاعة فحاربه السكسك وأخرجه عنها، وملك بعده ابنه يعفر بن السكسك، وخرجت عليه الخوارج، وحاربه مالك بن الحاف بن قضاعة، وطالت الفتنة بينهما، وهلك يعفر وخلف ابنه النعمان حملا ويعرف بالمعافر، واستبد عليه من بني حمير ماران بن عوف بن حمير ويعرف بذي رياش وكان صاحب البحرين، فنزل نجران واشتغل بحرب مالك بن الحاف بن قضاعة. ولما كبر النعمان حبس ذا رياش واستبدّ بأمره وطال عمره وملك بعده ابنه أسجم بن المعافر، فاضطربت أحوال حمير، وصار ملكهم طوائف إلى أن استقر في الرائش وبنيه التبابعة كما نذكره. ويقال انّ بني كهلان تداولوا الملك مع حمير هؤلاء، وملك منهم جبّار بن غالب بن كهلان، وملك أيضا من شعوب قحطان نجران بن زيد بن يعرب بن قحطان، وملك من حمير هؤلاء ثم من بني الهميسع بن حمير أبين بن زهير بن الغوث بن أبين بن الهميسع، واليه نسب عرب أبين من بلاد اليمن، وملك منهم أيضا عبد شمس بن واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حمير، ثم ملك من أعقابه شداد بن الملطاط بن عمرو بن ذي هرم بن الصوّان بن عبد شمس، وبعده أخوه لقمان، ثم أخوهما ذو شدد وهدّاد ومداثر، وبعده ابنه الصعب ويقال انه ذو القرنين، وبعده أخوه الحرث بن ذي شدد، وهو الرائش جدّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 الملوك التبابعة. وملك في حمير أيضا من بني الهميسع من بني عبد شمس هؤلاء حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. قال أبو المنذر هشام بن الكلبي في كتاب الأنساب ونقلته من أصل عتيق بخط القاضي المحدّث أبي القاسم بن عبد الرحمن بن حبيش قال: ذكر الكلبي عن رجل من حمير من ذي الكلاع قال: أقبل قيس يحرق موضعا باليمن، فأبدى عن أزج، فدخل فيه، فوجد سريرا عليه رجل ميت وعليه جباب وشي مذهّبة، في رأسه تاج، وبين يديه مجحن من ذهب، وفي رأسه ياقوتة حمراء، وإذا لوح مكتوب فيه: بسم الله ربّ حمير أنا حسان بن عمرو القيل مات في زمان هيد وماهيد هلك فيها اثنا عشر ألف قبيل فكنت آخرهم قبيلا فابتنيت ذا شعبين ليجرني من الموت فاخفرني أهـ كلامه. وقال الطبريّ: وقيل أن أوّل من ملك اليمن من حمير شمر بن الأملوك كان لعهد موسى عليه السلام وبني طفّار وأخرج منها العمالقة، ويقال كان من عمال الفرس على اليمن. انتهى الكلام في أخبار حمير الأوّل والله سبحانه وتعالى وليّ العون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم هؤلاء الملوك من ولد عبد شمس بن واثل بن الغوث باتفاق من النسّابين، وقد مرّ نسبه إلى حمير، وكانت مدائن ملكهم صنعاء، ومأرب على ثلاث مراحل منها، وكان بها السدّ، ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم سدّا ما بين جبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم، وهو الّذي يسمى العرم والسكر وهو جمع لا واحد له من لفظه قال الجعديّ: من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما أي السدّ ويقال انّ الّذي بنى السدّ هو حمير أبو القبائل اليمنية كلها قال الأعشى: ففي ذلك للمؤتسى اسوة ... مأرب غطى عليه العرم رخام بناه لهم حمير ... إذا جاءه من رامه لم يرم وقيل بناه لقمان الأكبر ابن عاد كما قاله المسعودي، وقال: جعله فرسخا في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعبا. وقيل وهو الأليق والأصوب أنه من بناء سبا بن يشجب، وأنّه ساق إليه سبعين واديا، ومات قبل إتمامه، فأتمّه ملوك حمير من بعده. وإنّما رجّحناه لأنّ المباني العظيمة، والهياكل الشامخة، لا يستقل بها الواحد كما قدّمنا في الكتاب الأوّل، فأقاموا في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن. ودولتهم يومئذ أوفر ما كانت، وأترف وأبذخ وأعلى يدا وأظهر، فلمّا طغوا وأعرضوا سلّط الله عليهم الخلد، وهو الجرذ فنقبه من أسفله فأجحفهم السيل، وأغرق جناتهم، وخربت أرضهم، وتمزّق ملكهم، وصاروا أحاديث. وكان هؤلاء التبابعة ملوكا عدّة في عصور متعاقبة، وأحقاب متطاولة، لم يضبطهم الحصر، ولا تقيدت منهم الشوارد. وربّما كانوا يتجاوزون ملك اليمن إلى ما بعد عنهم من العراق والهند والمغرب تارة، ويقتصرون على يمنهم أخرى، فاختلفت أحوالهم واتفقت أسماء كثيرة من ملوكهم، ووقع اللبس في نقل أيامهم ودولهم، فلنأت بما صحّ منها متحرّيا جهد الإستطاعة عن طموس من الفكر، واقتفاء التقاييد المرجوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 اليها والأصول المعتمد على نقلها، وعدم الوقوف على أخبارهم مدونة في كتاب واحد والله المستعان. قال السهيليّ: معنى تبّع الملك المتبع. وقال صاحب المحكم: التبابعة ملوك اليمن وأحدهم تبّع لأنّهم يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته، وزادوا الباء في التبابعة لارادة النسب. قال الزمخشريّ: قيل لملوك اليمن التبابعة لأنّهم يتبعون، كما قيل الأقيال لأنهم يتقيلون. قال المسعودي: ولم يكونوا يسمون الملك منهم تبّعا حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس، ومن لم يكن له شيء من الأمرين فيسمى ملكا ولا يقال له تبّع. وأول ملوك التبابعة باتفاق من المؤرّخين، الحرث الرائش، وإنّما سمّي الرائش لأنه راش الناس بالعطاء أو اختلف الناس في نسبه بعد اتفاقهم على أنه من ولد واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حمير فقال ابن إسحاق وأبو المنذر بن الكلبي: انّ قيسا بن معاوية بن جشم. فابن إسحاق يقول في نسبه إلى سبا الحرث بن عديّ بن صيفي، وابن الكلبيّ يقول الحرث بن قيس بن صيفي. وقال السهيليّ هو الحرث بن همال بن ذي سدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن واثل وجشم جدّ سبا هو بن عبد شمس، هذا عند المسعودي. وعند بعضهم أنه أخوه وأنهما معا ابنا واثل. وذكر المسعودي عن عبيد بن شرية الجرهميّ، وقد سأله معاوية عن ملوك اليمن في خبر طويل ونسب الحرث منهم، فقال: هو الحرث بن شدد بن الملطاط بن عمرو بن أمّا الطبري فاختلف نسبه في نسب الحرث، فمرّة قال: وبيت ملك التبابعة في سبا الأصغر ونسبه كما مرّ. وقال في موضع آخر والحرث بن ذي شدد هو الرائش جدّ الملوك التبابعة، فجعله إلى شدد ولم ينسبه إلى قيس ولا عديّ من ولد سبا. وكذلك اضطرب أبو محمد بن حزم في نسبه في الجمهرة مرّة إلى الملطاط ومرّة إلى سبا الأصغر، والظاهر أنه تبع في ذلك الطبريّ والله أعلم. وملك الحرث الرائش فيما قالوا مائة وخمسا وعشرين سنة، وكان يسمّى تبعا، وكان مؤمنا فيما قال السهيليّ. ثم ملك بعده ابنه أبرهة ذو المنار مائة وثمانين سنة. قال المسعوديّ، وقال ابن هشام: أبرهة ذو المنار هو ابن الصعب بن ذي مداثر بن الملطاط، وسمّي ذا المنار لأنه رفع المنار ليهتدي به. ثم ملك من بعده أفريقش بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 أبرهة مائة وستين سنة. وقال ابن حزم هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحرث الرائش، وهو الّذي ذهب بقبائل العرب إلى افريقية، وبه سميت. وساق البربر إليها من أرض كنعان، مرّ بها عند ما غلبهم يوشع وقتلهم، فاحتمل الفل منهم، وساقهم إلى إفريقية، فأنزلهم بها، وقتل ملكها جرجير. ويقال إنّه الّذي سمّى البرابرة بهذا الاسم لأنه لما افتتح المغرب، وسمع رطانتهم قال: ما أكثر بربرتهم فسموا البرابرة. والبربرة في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة، ومنه بربرة الأسد. ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى الآن بها، وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعوديّ وابن الكلبي والسهيليّ وجميع النسّابين. ثم ملك من بعد أفريقش أخوه العبد بن أبرهة، وهو ذو الأذعار عند المسعودي قال: سمّي بذلك لكثرة ذعر الناس من جوره. وملك خمسا وعشرين سنة، وكان على عهد سليمان بن داود وقبله بقليل، وغزا ديار المغرب، وسار إليه كيقاوس بن كنعان ملك فارس فبارزه وانهزم كيقاوس وأسره ذو الأذعار، حتى استنقذه بعد حين من يده وزيره رستم زحف إليه بجموع فارس إلى اليمن وحارب ذا الأذعار فغلبه واستخلص كيقاوس من أسره كما نذكره في أخبار ملوك فارس. وقال الطبري إنّ ذا الأذعار اسمه عمرو بن ابرهة ذي المنار بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر انتهى. وكان مهلك ذي الأذعار فيما ذكر ابن هشام مسموما على يد الملكة بلقيس. وملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الأذعار وهو ذو الصرح، وملك ستا أو عشرا فيما قال المسعودي. وملكت بعده ابنته بلقيس سبع سنين. وقال الطبري: إنّ اسم بلقيس يلقمة بنت اليشرح بن الحرث بن قيس انتهى. ثم غلبهم سليمان عليه السلام على اليمن كما وقع في القرآن فيقال تزوجها، ويقال بل عزلها في التأيم، فتزوجت سدد بن زرعة بن سبا، وأقاموا في ملك سليمان وابنه أربعا وعشرين سنة. ثم قام بملكهم ناشر بن عمرو ذي الأذعار، ويعرف بناشر النعم، لفظين مركبين جعلا اسما واحدا كذا ضبطه الجرجاني. وقال السهيليّ ناشر بن عمرو، ثم قال ويقال ناشر النعم. وفي كتاب المسعودي نافس بن عمرو، ولعله تصحيف ونسبه إلى عمرو ذي الأذعار وليس يتحقق في هذه الأنساب كلها أنها للصلب فإنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الآماد، طويلة والأحقاب بعيدة، وقد يكون بين اثنين منهما عدد من الآباء، وقد يكون ملصقا به. وقال هشام بن الكلبي انّ ملك اليمن صار بعد بلقيس إلى ناشر بن عمرو بن يعفر الّذي يقال له ياسر أنعم، لانعامه عليهم بما جمع من أمرهم وقوي من ملكهم. وزعم أهل اليمن أنه سار غازيا إلى المغرب، فبلغ وادي الرمل ولم يبلغه أحد ولم يجد فيه مجازا لكثرة الرمل، وعبر بعض أصحابه، فلم يرجعوا فأمر بصنم من نحاس نصب على شفير الوادي، وكتب في صدره بالخط المسند هذا الصنم لياسر أنعم الحميري ليس وراءه مذهب فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب انتهى. ثم ملك بعد ياسر هذا ابنه شمر مرعش، سمي بذلك لارتعاش كان به. ويقال انه وطئ أرض العراق وفارس وخراسان وافتتح مدائنها وخرّب مدينة الصغد وراء جيحون، فقالت العجم «شمر كنداي» شمر خرّب. وبنى مدينة هنالك فسميت باسمه هذا، وعربته العرب فصار سمرقند. ويقال انه الّذي قاتل قباذ ملك الفرس وأسره، وأنه الّذي حير الحيرة. وكان ملكة مائة وستين سنة، وذكر بعض الأخباريّين أنه ملك بلاد الروم، وأنه الّذي استعمل عليهم ماهان قيصر فهلك، وملك بعده ابنه دقيوس. وقال السهيليّ في شمر مرعش الّذي سميت به سمرقند انه شمر بن مالك ومالك هو الأملوك الّذي قيل فيه: فنقب عن الأملوك واهتف بذكره ... وعش دار عز لا يغالبه الدهر وهذا غلط من السهيليّ فإنّهم مجمعون على أنّ الأملوك كان لعهد موسى صلوات الله عليه وشمر من أعقاب ذي الأذعار الّذي كان على عهد سليمان، فلا يصح ذلك إلا أن يكون شمر ابرهة، ويكون أوّل دولة التبابعة. ثم ملك على التبابعة بعد شمر مرعش تبّع الأقرن واسمه زيد. (قال السهيليّ) وهو ابن شمر مرعش وقال الطبريّ انه ابن عمرو ذي الأذعار. وقال السهيليّ إنما سمّي الأقرن لشامة كانت في قرنه، وملك ثلاثا وخمسين سنة. وقال المسعودي ثلاثا وستين. ثم ملك من بعده ابنه ملكيكرب وكان مضعّفا ولم يغزقط إلى أن مات. وملك بعده ابنه تبان أسعد أبو كرب، ويقال هو تبّع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وعند الطبريّ أنّ الّذي بعد ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار تبع الأقرن أخوه، ثم بعد تبع الأقرن شمر مرعش بن ياسر ينعم، ثم من بعده تبع الأصغر وهو تبان أسعد أبو كرب هذا هو تبع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وقال الطبريّ: ويقال له الرائد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وكان على عهد يستاسب وحافده أردشير يمن ابن ابنه أسفنديار من ملوك الفرس وأنه شخص من اليمن غازيا ومرّ بالحيرة فتحيّر عسكره هنالك فسمّيت الحيرة. وخلف قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة فأقاموا هنالك وبنو الإطام، واجتمع إليهم ناس من طيرة وكلب والسكون وأياد والحرث بن كعب. ثم توجه إلى الأنبار ثم الموصل ثم أذربيجان، ولقي الترك فهزمهم وقتل وسبى، ثم رجع إلى اليمن، وهابته الملوك وهادنه ملوك الهند. ثم رجع لغزو الترك، وبعث ابنه حسّان إلى الصغد، وابنه يعفر إلى الروم، وابن أخيه شمر ذي الجناح إلى الفرس. وان شمر لقي كيقباذ ملك الفرس فهزمه، وملك سمرقند وقتله، وجاز إلى الصين فوجد أخاه حسّان قد سبقه إليها، فأثخنا في القتل والسبي، وانصرفا بما معهما من الغنائم إلى أبيهما. وبعث ابنه يعفر إلى القسطنطينيّة فتلقوه بالجزية، والإتاوة فسار إلى رومة، وحصرها ووقع الطاعون في عسكره، فاستضعفهم الروم ووثبوا عليهم فقتلوهم، ولم يفلت منهم أحد. ثم رجع إلى اليمن، ويقال أنه ترك ببلاد الصين قوما من حمير وأنهم بها لهذا العهد، وأنه ترك ضعفاء الناس بظاهر الكوفة فتحيروا لك وأقاموا معهم من كل قبائل العرب. وقال ابن إسحاق إنّ الّذي سار إلى المشرق من التبابعة تبّع الآخر، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو ذي الأذعار، وتبان أسعد هو حسّان تبّع وهو فيما يقال أوّل من كسا الكعبة، وذكر ابن إسحاق الملأ والوصائل، وأوصى ولاته من جرهم بتطهيرها وجعل لها بابا ومفتاحا، وذكر ابن إسحاق أنه أخذ بدين اليهودية، وذكر في سبب تهوّده أنه لما غزا إلى المشرق مرّ بالمدينة يثرب فملكها، وخلف ابنه فيهم، فعدوا عليه وقتلوه غيلة ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلّة من بني النجّار. فلما أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة مجمعا على خرابها فجمع هذا الحيّ من أبناء قيلة لقتاله فقاتلهم، وبينما هم على ذلك جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة، وقالا له: لا تفعل فإنك لن تقدر وأنّها مهاجر نبيّ قرشي يخرج آخر الزمان فتكون قرارا له. وانه أعجب بهما واتبعهما على دينهما، ثم مضى لوجهه. ولقيه دون مكة نفر من هذيل، وأغروه بمال الكعبة وما فيها من الجواهر والكنوز، فنهاه الحبران عن ذلك وقالا له إنما أراد هؤلاء هلاكك. فقتل النفر من الهذليّين وقدم مكة فأمره الحبران بالطواف بها والخضوع، ثم كساها كما تقدّم، وأمر ولاتها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 جرهم بتطهيرها من الدماء والحيض وسائر النجاسات، وجعل لها بابا ومفتاحا، ثم سار إلى اليمن. وقد ذكر قومه ما أخذ به من دين اليهودية، وكانوا يعبدون الأوثان، فتعرضوا لمنعه ثم حاكموه إلى النار التي كانوا يحاكمون إليها، فتأكل الظالم وتدع المظلوم، وجاءوا بأوثانهم. وخرج الحبران متقلدان المصاحف، ودخل الحميريّون فأكلتهم وأوثانهم، وخرج الحبران منها ترشح وجوههم وجباههم عرقا، فآمنت حمير عند ذلك، وأجمعوا على اتباع اليهودية. ونقل السهيليّ عن ابن قتيبة في هذه الحكاية انّ غزاة تبع هذه، إنما هي استصراخة أبناء قيلة على اليهود، فإنهم كانوا نزلوا مع اليهود حين أخرجوهم من اليمن على شروط، فنقضت عليهم اليهود فاستغاثوا بتبّع فعند ذلك قدمها وقد قيل: ان الّذي استصرخه أبناء قيلة على اليهود إنما هو أبو جبلة من ملوك غسان بالشام، جاء به مالك بن عجلان، فقتل اليهود بالمدينة، وكان من الخزرج كما نذكر بعد. ويعضد هذا أنّ مالك بن عجلان بعيد عن عهد تبع بكثير، يقال إنه كان قبل الإسلام بسبعمائة سنة ذكره ابن قتيبة. وحكى المسعودي في أخبار تبع هذا أنّ أسعد أبا كرب سار في الأرض، ووطأ الممالك وذلّلها ووطئ أرض العراق في ملك الطوائف، وعميد الطوائف يومئذ خرّداد بن سابور، فلقي ملكا من ملوك الطوائف اسمه قبّاذ، وليس قبّاذ بن فيروز، فانهزم قباذ وملك أبو كرب العراق والشام والحجاز وفي ذلك يقول تبّع أبو كرب: إذ حسينا جيادنا من دماء ... ثم سرنا بها مسيرا بعيدا واستبحنا بالخيل خيل قبّاذ ... وابن إقليد جاءنا مصفودا وكسونا البيت الّذي حرّم ... الله ملاء منضدا وبرودا وأقمنا به من الشهر عشرا ... وجعلنا لبابة اقليدا (وقال أيضا) لست بالتبع اليماني ان لم ... تركض الخيل في سواد العراق أو تؤدّي ربيعة الخرج قسرا ... لم يعقها عوائق العوّاق وقد كانت لكندة معه وقائع وحروب، حتى غلبهم حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة من ملوك كهلان، فدانوا له ورجع أبو كرب إلى اليمن، فقتله حمير وكان ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 ثم ملك من بعد أبي كرب هذا فيما قال ابن إسحاق ربيعة بن نصر بن الحرث بن نمارة بن لخم ولخم أخو جذام. وقال ابن هشام ويقال ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر. كان أبو حارثة تخلف باليمن بعد خروج أبيه، وأقام ربيعة بن نصر ملكا على اليمن بعد هؤلاء التبابعة الذين تقدّم ذكرهم، ووقع له شأن الرؤيا المشهورة. قال الطبريّ عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أنّ ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته وفظع بها، وبعث في أهل مملكته في الكهنة والسحرة والمنجّمين وأهل العيافة، فأشاروا عليه باستحضار الكاهنين المشهورين لذلك العهد في إياد وغسّان، وهما شقّ وسطيح. قال الطبريّ شقّ هو أبو صعب شكر بن وهب بن أمول بن يزيد بن قيّس عبقر بن أنمار، وسطيح هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذيب بن عديّ بن مازن بن غسّان، ولوقوع اسم ذيب في نسبه كان يعرف بالذيبيّ. فأحضرهما وقص عليهما رؤياه وأخبراه بتأويلها، أنّ الحبشة يملكون بلاد اليمن من بعد ربيعة وقحطان بسبعين سنة، ثم يخرج عليهم ابن ذي يزن من عدن فيخرجهم، ويملك عليهم اليمن، ثم تكون النبوّة في قريش في بني غالب بن فهر. ووقع في نفس ربيعة أنّ الّذي حدّثه الكاهنان من أمر الحبشة كائن، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرّداذ فأسكنهم الحيرة. ومن بيت ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن عمرو بن عديّ بن ربيعة بن نصر. قال ابن إسحاق ولما هلك ربيعة بن نصر اجتمع ملك اليمن لحسّان بن تبان أسعد أبي كرب. قال السهيليّ وهو الّذي استباح طسما كما ذكرناه، وبعث على المقدّمة عبد كهلان بن يثرب بن ذي حرب بن حارث بن ملك بن عبدان بن حجر بن ذي رعين. واسم ذي رعين يريم وهو ابن زيد الجمهور، وقد مرّ نسبه إلى سبا الأصغر. وقال السهيليّ في أيام حسّان تبّع كان خروج عمرو بن مزيقياء من اليمن بالأزد، وهو غلط من السهيليّ لأنّ أبا كرب أباه إنما غزا المدينة فيما قال هو صريخا للأوس والخزرج على اليهود وهو من غسّان ونسبه إلى مزيقياء، فعلى هذا يكون الّذي استصرخه الأوس والخزرج على اليهود إنما هو من ملوك غسّان كما يأتي في أخبارهم. قال ابن إسحاق: ولما ملك حسّان بن تبّع بن تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة تفعل، فكرهت حمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجوع إلى بلادهم، فكلموا أخا له كان معهم في العسكر يقال له عمرو، وقالوا له اقتل أخاك نملكك وترجع بنا إلى بلادنا. فتابعهم على ذلك وخالفه ذو رعين في ذلك ونهى عمرا عن ذلك، فلم يقبل وكتب في صحيفة وأودعها عنده: ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين فأمّا حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين ثم قتل عمرو أخاه بعرصة لخم، وهي رحبة مالك بن طوق، ورجع حمير إلى اليمن فمنع النوم عليه السهر، وأجهده ذلك فشكى إلى الأطباء عدم نومه والكهّان والعرّافين، فقالوا ما قتل رجل أخاه إلا سلّط عليه السهر. فجعل يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه ولم يغنه ذلك شيئا، وهمّ بذي رعين فذكره شعره فكانت فيه معذرته ونجاته. وكان عمرو هذا يسمّى موثبان، قال الطبريّ: لوثوبه على أخيه، وقال ابن قتيبة لقلّة غزوة ولزومه الوثب على الفراش. وهلك عمرو هذا لثلاث وستين سنة من ملكه. قال الجرجاني والطبريّ: ثم مرج أمر [1] حمير من بعده وتفرقوا، وكان ولد حسّان تبّع صغارا لا يصلحون للملك وكان أكبرهم قد استهوته الجنّ، فوثب على ملك التبابعة عبد كلال موثبا فملك عليهم أربعا وتسعين سنة، وكان يدين بالنصرانية، ثم رجع ابن حسّان تبّع من استهواء الجن فملك على التبابعة. قال الجرجاني ملك ثلاثا وسبعين سنة وهو تبع الأصغر ذو المغازي والآثار البعيدة. قال الطبريّ: وكان أبوه حسان تبع قد زوج بنته من عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية من ملوك كندة، فولدت له ابنه الحرث بن عمرو، فكان ابن تبع بن حسّان هذا، فبعثه على بلاد معدّ، وملك على العرب بالحيرة مكان آل نصر بن ربيعة. قال وانعقد الصلح بينه وبين كيقباد ملك فارس على أن يكون الفرات حدّا بينهم، ثم أغارت العرب بشرقي الفرات، فعاتبه على ذلك، فقال لا أقدر على ضبط العرب الا بالمال والجند، فأقطعه بلادا من السواد، وكتب الحرث إلى تبع يغريه بملك الفرس، وتضعيف أمر كيقباد، فغزاهم. وقيل إنّ الّذي فعل ذلك هو عمرو بن حجر أبوه الّذي ولاه تبع أبو كرب، وأنه أغراه بالفرس واستقدمه إلى الحيرة، فبعث عساكره مع ولده الثلاثة إلى الصغد والصين والروم، وقد تقدّم ذكر ذلك.   [1] مرج الأمر: ضيّعه ولم يحكمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 قال الجرجاني: ثم ملك بعد تبع بن حسّان تبّع أخوه لأمه وهو مدّثر بن عبد كلال، فملك احدى وأربعين سنة. ثم ملك من بعده ابنه وليعة بن مدّثر وثلاثين سنة. ثم ملك من بعده أبرهة بن الصبّاح بن لهيعة بن شيبة بن مدّثر قيلف بن يعلق بن معديكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح الحرث بن مالك، أخو ذي رعين، وكعب أبو سبا الأصغر. قال الجرجاني: وبعض الناس يزعم أنّ أبرهة بن الصبّاح إنما ملك تهامة فقط. قال: ثم ملك من بعده حسان بن عمرو بن تبع بن ملكيكرب سبعا وخمسين سنة، ثم ملك لخيتعة [2] ولم يكن من أهل بيت المملكة. قال ابن إسحاق ولما ملك لخيتعة غلب عليهم، وقتل خيارهم، وعبث برجالات بيوت المملكة منهم، قيل إنه كان ينكح ولدان حمير، يريد بذلك أن لا يملكوا عليهم، وكانوا لا يملكون عليهم من نكح، نقله ابن إسحاق. وقال أقام عليهم مملكا سبعا وعشرين سنة، ثم وثب عليه ذو نواس زرعة تبع بن تبان أسعد أبي كرب، وهو حسّان أبي ذي معاهر فيما قال ابن إسحاق، وكان صبيا حين قتل حسان ثم شب غلاما جميلا ذا هيئة وفضل ووضاءة ففتك بالختيعة [1] في خلوة اراده فيها على مثل فعلاته القبيحة، وعلمت به حمير وقبائل اليمن فملكوه واجتمعوا عليه، وجدّد ملك التبابعة، وتسمّى يوسف وتعصب لدين اليهودية، وكانت مدّته فيما قال ابن إسحاق ثمانية وستين سنة، الى هنا أهـ ترتيب ابى الحسن الجرجاني. ثم قال: وقال آخرون ملك بعد أفريقش بن أبرهة قيس بن صيفي، وبعده الحرث بن قيس بن مياس، ثم ماء السماء بن ممروه ثم شرحبيل وهو يصحب بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن علي بن الهمّال، ثم ياسر بن الحرث بن عمرو بن يعفر، ثم زهير بن عبد شمس أحد بني صيفي بن سبا الأصغر وكان فاسقا مجرما يفتض أبكار حمير حتى نشأت بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي فقتلته غيلة، ثم ملكت. ولما أخذها سليمان ملك لمك بن شرحبيل، ثم ملك ذو وداغ فقتله ملكيكرب بن تبع بن الأقرن وهو أبو ملك، ثم هلك. فملك أسعد بن   [2] قوله لخيتعه وقيل اسمه لخيعة بن ينوف وهو هكذا في القاموس قاله نصر. وقد ذكره ابن الأثير في كتاب الكامل باسم لختيعه. [1] في نسخة اخرى وفي مكان آخر: لخيتعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا، وهو أبو كرب، ثم ملك حسّان ابنه فقتله عمرو أخوه ووقع الاختلاف في حمير، ووثب على عمرو الختيعة ينوف ذو الشناتر وملك. ثم قتله ذو نواس بن تبع وملك. أهـ كلام الجرجاني. وزعم ابن سعيد ونقله من كتب مؤرخي المشرق أنّ الحرث الرائش هو ابن ذي شدد ويعرف بذي مداثر، وأنّ الّذي ملك بعده ابنه الصعب وهو ذو القرنين، ثم ابنه أبرهة بن الصعب وهو ذو المنار، ثم العبد ذو الأشفار ابن أبرهة بن عمرو ذي الأذعار ابن أبرهة، ثم قتلته بلقيس. قال في التيجان: إنّ حمير خلعوه، وملكوا شرحبيل ابن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل وكان بمأرب، فجاز به ذو الأذعار وحارب ابنه الهدهاد بن شرحبيل من بعده، وابنته بلقيس بنت الهدهاد الملكة من بعده، فصالحته على التزويج وقتلته، وغلبها سليمان عليه السلام على اليمن إلى أن هلك وابنه رحبعم من بعده. واجتمعت حمير من بعده على مالك بن عمرو ابن يعفر بن عمرو بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير، وملك بعده ابنه شمر يرعش وهو الّذي خرّب سمرقند، وملك بعده ابنه صيفي بن شمر على اليمن، وسار أخوه أفريقش بن شمر إلى إفريقية بالبربر وكنعان فملكها. ثم انتقل الملك إلى كهلان وقام به عمران بن عامر ماء السماء بن حارثة امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وكان كاهنا، ولما احتضر عهد إلى أخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا وأعلمه بخراب سد مأرب وهلاك اليمن بالسيل، فخرج من اليمن بقومه وأصحاب اليمن سيل العرم فلم ينتظم لبني قحطان بيعته، واستولى على قصر مأرب من بعده ربيعة بن نصر. ثم رأى رؤيا ونذر بملك الحبشة وبعث ولده إلى العراق وكتب إلى سابور الأشعاني فأسكنهم الحيرة وكثرت الخوارج باليمن. فاجتمعت حمير على أن تكون لأبي كرب أسعد بن عدي بن صيفي فخرج من ظفّار وغلب ملوك الطوائف باليمن، ودوّخ جزيرة العرب، وحاصر الأوس والخزرج بالمدينة، وحمل حمير على اليهودية، وطالت مدّته وقتلته حمير. وملك بعده ابنه حسّان الّذي أباد طسما، ثم قتله أخوه عمرو بمداخلة حمير، وهلك عمرو. فملك بعده أخوه لأبيه عبد كلال بن منوب، وفي أيامه خلع سابور أكتاف العرب. وملك بعده تبع بن حسّان وهو الّذي بعث ابن أخيه الحرث بن عمرو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الكندي إلى أرض بني معدّ بن عدنان بالحجاز فملك عليهم. وملك بعده مرثد بن عبد كلال. ثم ابنه وليعة وكثرت الخوارج عليه، وغلب أبرهة بن الصبّاح على تهامة اليمن، وكان في ظفّار دار التبابعة حسّان بن عمرو بن أبي كرب، ثم وثب بعده على ظفّار ذو شناتر، وقتله ذو نواس كما مرّ، هذا ترتيب ابن سعيد في ملوكهم. وعند المسعودي: أنّه لما هلك كليكرب بن تبّع المعروف بالأقرن، قال وهو الّذي سار قومه نحو خراسان والصغد والصين، وولي بعده حسان بن تبّع، فاستقام له الأمر خمسا وعشرين سنة، ثم قتله أخوه عمرو بن تبع، وملك أربعا وستين سنة، ثم تبع أبو كرب وهو الّذي غزا يثرب وكسا الكعبة بعد أن أراد هدمها، ومنعه الحبران من اليهود، وتهوّد وملك مائة سنة. ثم بعده عمرو بن تبّع أبي كرب، وخلع وملكوا مرثد بن عبد كلال، واتصلت الفتن باليمن أربعين سنة. ومن بعده وليعة بن مرثد تسعا وثلاثين سنة. ومن بعده أبرهة بن الصبّاح بن وليعة بن مرثد، ويدعى شيبة الحمد ثلاثا وتسعين سنة، وكانت له سير وقصص. ومن بعده عمرو ذو قيفان تسع عشرة سنة. ومن بعده لخيتعة ذو شناتر ومن بعده ذو نواس. وأمّا ابن الكلبيّ والطبريّ وابن حزم فعندهم أن تبّع أسعد أبي كرب هو ابن كليكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو بن ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر. وقال السهيليّ انه أسقط أسماء كثيرة وملوكا. وقال ابن الكلبيّ وابن حزم: ومن ملوك التبابعة أفريقش بن صيفي، ومنهم شمر يرعش ابن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، ومنهم بلقيس ابنه اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي. ثم قال ابن حزم بعد ذكر هؤلاء من التبابعة: وفي أنسابهم اختلاف وتخليط وتقديم وتأخير ونقصان وزيادة، ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم إلّا طرف يسير لاختلاف رواتهم وبعد العهد أهـ. وقال الطبريّ لم يكن لملوك اليمن نظام وإنما كان الرئيس منهم يكون ملكا على مخلافه لا يتجاوزه، وان تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير أن يرث ذلك الملك عن آبائه ولا يرثه أبناؤه عنه إنما هو شأن شدّاد المتلصّصة يغيرون على النواحي باستغفال أهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات، وكذلك كان أمر ملوك اليمن يخرج أحدهم من مخلافه بعض الأحيان ويبعد في الغزو والإغارة فيصيب ما يمر به، ثم يتشمّر عند خوف الطلب زاحفا إلى مكانه من غير أن يدين له أحد من غير مخلافه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 بالطاعة أو يؤدّي إليه خراجا أهـ. وأمّا الخبر عن ذي نواس وما بعده فاتفق أهل الأخبار كلهم أنّ ذا نواس هو ابن تبان أسعد واسمه زرعة، وأنه لما تغلب على ملك آبائه التبابعة، تسمى يوسف وتعصب لدين اليهودية، وحمل عليه قبائل اليمن، وأراد أهل نجران عليها، وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية ولهم فضل في الدين واستقامة. وكان رئيسهم في ذلك يسمّى عبد الله بن الثامر، وكان هذا الدين وقع اليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين من رجل سقط لهم من ملك التبعيّة يقال له ميمون نزل فيهم، وكان مجتهدا في العبادة، مجاب الدعوة، وظهرت على يده الكرامات في شفاء المرضى، وكان يطلب الخفاء عن الناس جهده، وتبعه على دينه رجل من أهل الشام اسمه صالح، وخرجا فارّين بأنفسهما، فلما وطئا بلاد العرب اختطفتهما سيارة فباعوهما بنجران، وهم يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم، ويعلقون عليها في الأعياد من حليهم وثيابهم، ويعكفون عليها أياما. وافترقا في الدير على رجلين من أهل نجران، وأعجب سيد ميمون صلاته ودينه وسأله عن شأنه، فدعاه إلى الدين وعبادة الله، وأنّ عبادة النخلة باطل، وأنه لو دعا معبوده عليها هلكت. فقال له سيده إن فعلت دخلنا في دينك. فدعا ميمون فأرسل الله ريحا فجعفت النخلة من أصلها، وأطبق أهل نجران على أتباع دين عيسى صلوات الله عليه. ومن رواية ابن إسحاق أنّ ميمون نزل بقرية من قرى نجران، وكان يمرّ به غلمان أهل نجران، يتعلمون من ساحر كان بتلك القرية، وفي أولئك الغلمان عبد الله بن الثامر، فكان يجلس إلى ميمون، ويسمع منه فآمن به واتبعه، وحصل على معرفة اسم الله الأعظم، فكان مجاب الدعوة لذلك، واتبعه الناس على دينه، وأنكر عليه ملك نجران وهمّ بقتله. فقال له: لن تطيق حتى تؤمن وتوحد فآمن ثم قتله، فهلك ذلك الملك مكانه [1] . واجتمع أهل نجران   [1] العبارة هنا غير واضحة تماما وهي أوضح عند الطبري في كتابه تاريخ الملوك والأمم الجزء 2 ص 105: « ... لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثّلن بك، قال: لا تقدر على ذلك. فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض ليس به بأس فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك ان فعلت ذلك سلطت عليّ فقتلتني، فوحد الله ذلك الملك وشهد بشهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه ... » الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 على دين عبد الله بن الثامر، وأقام أهل نجران على دين عيسى صلوات الله عليه، حتى دخلت عليهم في دينهم الأحداث. ودعاهم ذو نواس إلى دين اليهودية، فأبوا. فسار إليهم في أهل اليمن وعرض عليهم القتل فلم يزدهم إلّا جماحا، فخدّد لهم الأخاديد، وقتل وحرق حتى أهلك منهم فيما قال ابن إسحاق عشرين ألفا أو يزيدون، وأفلت منهم رجل من سبا يقال له دوس ذو ثعلبان فسلك الرمل على فرسه وأعجزهم. ملك الحبشة اليمن قال هشام بن محمد الكلبيّ في سبب غزو ذي نواس أهل نجران أنّ يهوديا كان بنجران فعدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلما، فرفع أمره إلى ذي نواس، وتوسل له باليهودية واستنصره على أهل نجران وهم نصارى، فحمي له ولدينه وغزاهم. ولما أفلت دوس ذو ثعلبان فقدم على قيصر صاحب الروم يستنصره على ذي نواس، وأعلمه بما ركب منهم وأراه الإنجيل قد احترق بعضه بالنار، فكتب له إلى النجاشيّ يأمره بنصره، وطلب بثأره، وبعث معه النجاشيّ سبعين ألفا من الحبشة. وقيل إنّ صريخ دوس كان أولا للنجاشيّ، وإنه اعتذر اليه بقلّة السفن لركوب البحر، وكتب إلى قيصر وبعث إليه بالإنجيل المحرق، فجاءته السفن وأجاز فيها العساكر من الحبشة، وأمّر عليهم أرباطا رجلا منهم، وعهد إليه بقتلهم وسبيهم وخراب بلادهم فخرج أرباط لذلك ومعه أبرهة الأشرم فركبوا البحر، ونزلوا ساحل اليمن. وجمع ذو نواس حمير ومن أطاعه من أهل اليمن على افتراق واختلاف في الأهواء، فلم يكن كبير حرب وانهزموا. فلمّا رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه بفرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه وخاض ضحضاح البحر، ثم أفضى به إلى غمرة فأقحمه فيه، فكان آخر العهد به، ووطئ أرباط اليمن بالحبشة، وبعث إلى النجاشيّ بثلث السبي كما عهد له، ثم أقام بها فضبطها وأذل رجالات حمير، وهدم حصون الملك بها مثل سلجيق وسون وغمدان، وقال ذو يزن يرثي حمير وقصور الملك باليمن: هوّنك ليس يردّ الدّمع ما فاتا ... لا تهلكن أسفا في إثر من ماتا أبعد سون فلا عين ولا أثر ... وبعد سلجيق يبني الناس أبياتا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وفي رواية هشام بن محمد الكلبيّ أنّ السفن قدمت على النجاشيّ من قيصر، فحمل فيها الحبش ونزلوا بساحل اليمن، واستجاش ذو نواس بأقيال حمير فامتنعوا من صريخه وقالوا: كل أحد يقاتل عن ناحيته. فألقى ذو نواس باليد ولم يكن قتال. وأنه سار بهم إلى صنعاء، وبعث عماله في النواحي لقبض الأموال، وعهد بقتلهم في كل ناحية، فقتلوا. وبلغ ذلك النجاشيّ فجهز إلى اليمن سبعين ألفا، وعليهم أبرهة فبلغوا صنعاء، وهرب ذو نواس واعترض البحر فكان آخر العهد به. وملك أبرهة اليمن ولم يبعث إلى النجاشيّ بشيء وذكر له أنه خلع طاعته فوجه جيشا من أصحابه عليهم أرباط. ولما حلّ بساحته دعاه إلى النصفة والنزال فتبارزا وخدعه أبرهة، وأكمن عبدا له في موضع المبارزة، فلما التقيا ضربه أرباط فشرم أنفه، وسمّي الأشرم وخالفه العبد من الكمين فضرب أرباطا فأنفذه، وبلغ النجاشيّ خبر أرباط فحلف ليريقنّ دمه [1] . ثم كتب إليه أبرهة واسترضاه فرضي عليه وأقره على عمله. وقال ابن إسحاق إنّ أرباط هو الّذي قدم اليمن أوّلا وملكه وانتقض عليه أبرهة من بعد ذلك، فكان ما ذكرنا من الحرب بينهما وقتل أرباط، وغضب النجاشي لذلك ثم أرضاه واستبدّ أبرهة بملك اليمن. ويقال إنّ الحبشة لمّا ملكوا اليمن أمّر أبرهة بن الصبّاح، وأقاموا في خدمته. قاله ابن سلام: وقيل إنّ ملك حمير لما انقرض أمر التبابعة صار متفرقا في الأذواء من ولد زيد الجمهور. وقام بملك اليمن منهم ذو يزن من ولد مالك بن زيد. قال ابن حزم: واسمه علس بن زيد بن الحرث بن زيد الجمهور. وقال ابن الكلبيّ وأبو الفرج الأصبهاني: هو علس بن الحرث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد الجمهور. قالوا كلهم: ولما ملك ذو يزن بعد مهلك ذي نواس واستبدّ أمر الحبشة على أهل اليمن، طالبوهم بدم النصارى الذين في أهل نجران، فساروا إليه وعليهم أرباط، ولقيهم فيمن معه فانهزم واعترض البحر، فأقحم فرسه وغرق فهلك بعد ذي نواس، وولي ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه، وهو الّذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد وكان من عقب ذي يزن أيضا، من هؤلاء الأذواء علقمة ذو قيفال بن شراحيل بن ذي يزن، وملك مدينة الهون فقتله أهلها من همدان أهـ. ولما استقرّ أبرهة في ملك اليمن أساء السير في حمير، ورؤسائهم وبعث في ريحانة بنت علقمة بن   [1] الضمير يعود إلى أبرهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 مالك بن زيد بن كهلان فانتزعها من زوجها أبي مرّة بن ذي يزن، وقد كانت ولدت منه ابنه معديكرب، وهرب أبو مرّة، ولحق بأطراف اليمن واصطفى أبرهة ريحانة فولدت له مسروق بن أبرهة وأخته بسباسة. وكان لأبرهة غلام يسمّى عمددة، وكان قد ولّاه الكثير من أمره، فكان يفعل الأفاعيل حتى عدا عليه رجل من حمير أو خثعم فقتله وكان حليما فأهدر دمه. غزو الحبشة الكعبة ثم إنّ أبرهة بنى كنيسة بصنعاء تسمّى القليس لم ير مثلها وكتب إلى النجاشيّ بذلك، وإلى قيصر في الصنّاع والرخام والفسيفساء، وقال لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. وتحدّث العرب بذلك فغضب رجل من السادة، أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك، وخرج حتى أتى القليس فقعد فيها، ولحق بأرضه. وبلغ أبرهة وقيل له الرجل من البيت الّذي يحج إليه العرب، فحلف ليسيرنّ إليه يهدمه. ثم بعث في الناس يدعوهم إلى حج القليس، فضرب الداعي في بلاد كنانة بسهم فقتل وأجمع أبرهة على غزو البيت وهدمه، فخرج سائرا بالحبشة ومعه الفيل. فلقيه ذو نفر الحميريّ وقاتله فهزمه وأسره، واستبقاه دليلا في أرض العرب. قال ابن إسحاق: ولما مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فأتوه بالطاعة وبعثوا معه أبا رغال دليلا، فأنزله المغمس بين الطائف ومكة فهلك هنالك ورجمت العرب قبره من بعد ذلك قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال ثم بعث أبرهة خيلا من الحبشة، فانتهوا إلى مكة، واستاقوا أموال أهلها، وفيها مائتا بعير لعبد المطلب وهو يومئذ سيد قريش، فهمّوا بقتاله ثم علموا أنّ لا طاقة لهم به فاقصروا. وبعث أبرهة حناطة الحميريّ إلى مكة يعلمهم بمقصده من هدم البيت، ويؤذنهم بالحرب إن اعترضوا دون ذلك، وأخبر عبد المطلب بذلك عن أبرهة، فقال له: والله ما نريد حربه، وهذا بيت الله فان يمنعه فهو بيته وان يخلي عنه فما لنا نحن من دافع. ثم انطلق به إلى أبرهة، ومرّ بذي نفر وهو أسير، فبعث معه إلى سائس الفيل، وكان صديقا لذي نفر، فاستأذن له على أبرهة، فلما رآه جلّه ونزل عن سريره، فجلس معه على بساطه. وسأله عبد المطلب في الإبل. فقال له أبرهة هلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 سألت في البيت الّذي هو دينك ودين آبائك وتركت البعير. فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل وللبيت ربّ سيمنعه. فردّ عليه إبله. قال الطبريّ: وكان فيما زعموا قد ذهب مع عبد المطلب عمرو بن لعابة بن عدي بن الرمل سيّد كنانة، وخويلد بن واثلة سيّد هذيل، وعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ويرجع عن هدم البيت، فأبى عليهم، فانصرفوا. وجاء عبد المطلب وأمر قريشا بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب للتحرّز فيها، ثم قام عند الكعبة ممسكا بحلقة الباب ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه، وعبد المطلب ينشد ويقول: لا همّ إنّ العبد ... يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك في أبيات معروفة. ثم أرسل الله عليهم الطير الأبابيل من البحر، ترميهم بالحجارة فلا تصيب أحدا منهم إلّا هلك مكانه، وأصابه في موضع الحجر من جسده كالجدري والحصبة فهلك، وأصيب أبرهة في جسده بمثل ذلك، وسقطت أعضاؤه عضوا عضوا، وبعثوا بالفيل ليقدم على مكة فربض ولم يتحرك فنجا. وأقدم فيل آخر فحصب [1] وبعث الله سيلا مجحفا فذهب بهم، وألقاهم في البحر. ورجع أبرهة إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فانصدع صدره عن قلبه ومات. ولمّا هلك أبرهة ملك مكانه ابنه يكسوم وبه كان يكنى واستفحل ملكه وأذل حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة، فقتلوا رجالهم ونكحوا نساءهم واستخدموا أبناءهم. ثم هلك يكسوم بن أبرهة فملك مكانه أخوه مسروق، وساءت سيرته وكثر عسف الحبشة باليمن، فخرج ابن ذي يزن واستجاش عليهم بكسرى، وقدم اليمن بعساكر الفرس، وقتل مسروقا وذهب أمر الحبشة بعد أن توارث ملك اليمن منهم أربعة في اثنتين وسبعين سنة أوّلهم أرباط، ثم أبرهة، ثم ابنه يكسوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة.   [1] أي ضرب بالحصباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن ولما طال البلاء من الحبشة على أهل اليمن، خرج سيف بن ذي يزن الحميريّ من الأذواء بقية ذلك السلف، وعقب أولئك الملوك، وديال الدولة المفوض للخمود. وقد كان أبرهة انتزع منه زوجته ريحانة بعد أن ولدت منه ابنه معديكرب كما مرّ. ونسبه فيما قال الكلبيّ سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور، هكذا نسبه ابن الكلبيّ، ومالك بن زيد هو أبو الأذواء. فخرج سيف وقدم على قيصر ملك الروم وشكى إليه أمر الحبشة، وطلب أن يخرجهم ويبعث على اليمن من شاء من الروم، فلم يسعفه عن الحبشة، وقال الحبشة على دين النصارى. فرجع إلى كسرى وقدم الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة وما يليها من أرض العرب، فشكى إليه، واستمهله النعمان إلى حين وفادته على كسرى، وأوفد معه وسأله النصر على الحبشة وأن يكون ملك اليمن له. فقال: بعدت أرضك عن أرضنا، أو هي قليلة الخير إنما هي شاء وبعير ولا حاجة لنا بذلك. ثم كساه وأجازه، فنثر دنانير الاجازة ونهبها الناس يوهم الغنى عنها بما في أرضه. فأنكر عليه كسرى ذلك. فقال: جبال أرضي ذهب وفضة، وإنما جئت لتمنعني من الظلم. فرغب كسرى في ذلك، وأمهله للنظر في أمره، وشاور أهل دولته، فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه فإن هلكوا كان الّذي أردت بهم، وإن ملكوا كان ملكا ازددته إلى ملكك. وأحصوا ثمانمائة وقدم عليهم أفضلهم وأعظمهم بيتا وأكبرهم نسبا وكان وهزر الديلميّ. وعند المسعودي وهشام بن محمد والسهيليّ أنّ كسرى وعده بالنصر ولم ينصره وشغل بحرب الروم، وهلك سيف بن ذي يزن عنده، وكبر ابنه ابن ريحانة وهو معديكرب وعرّفته أمّه بأبيه، فخرج ووفد على كسرى يستنجزه في النصرة التي وعد بها أباه، وقال له: أنا ابن الشيخ اليمني الّذي وعدته. فوهبه الدنانير ونثرها إلى آخر القصة. وقيل إنّ الّذي وفد على كسرى وأباد الحبشة هو النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن ذي يزن. قالوا ولما كتبت الفرس مع وهزر وكانوا ثمانمائة، وقال ابن قتيبة كانوا سبعة آلاف وخمسمائة، وقال ابن حزم كان وهزر من عقب جاماسب عمّ أنوشروان، فأمّره على أصحابه وركبوا البحر ثمان سفائن فغرقت منها سفينتان وخلصت ست إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 ساحل عدن. فلما نزلوا بأرض اليمن، قال وهزر لسيف: ما عندك؟ قال: ما شئت من قوس عربي ورجلي مع رجلك حتى نظفر أو نموت. قال أنصفت. وجمع ابن ذي يزن من استطاع من قومه، وسار إليه مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة وأوباش اليمن، فتواقفوا للحرب، وأمر وهزر ابنه أن يناوشهم القتال فقتلوه، وأحفظه ذلك. وقال: أروني ملكهم. فأروه إياه على الفيل عليه تاجه وبين عينيه ياقوتة حمراء ثم نزل عن الفيل إلى الفرس، ثم إلى البغلة. فقال وهزر، ركب بنت الحمار، ذلّ وذلّ ملكه. ثم رماه بسهم فصكّ الياقوتة بين عينيه، وتغلغل في دماغه، وتنكّس عن دابته وداروا به، فحمل القوم عليهم وانهزم الحبشة في كل وجه، وأقبل وهزر إلى صنعاء، ولما أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكوسة. فهدم الباب، ودخل ناصبا رايته فملك اليمن ونفى عنها الحبشة وكتب بذلك إلى كسرى وبعث إليه بالأموال. فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن على فريضة يؤدّيها كل عام ففعل، وانصرف وهزر إلى كسرى. وملك سيف اليمن وكان أبوه من ملوكها وخلف وهزر نائبا على اليمن في جماعة من الفرس ضمهم إليه وجعله لنظر ابن ذي يزن وأنزله بصنعاء. وانفرد ابن ذي يزن بسلطانه، ونزل قصر الملك وهو رأس غمدان، يقال إنّ الضحّاك بناه على اسم الزهرة وهو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب وروحانيتها، خرب في خلافة عثمان قاله المسعودي. وقال السهيليّ: كانت صنعاء تسمى أوال، وصنعاء اسم بانيها صنعاء بن أوال بن عمير بن عابر بن شالخ. ولمّا استقل ابن ذي يزن بملك اليمن وفدت العرب عليه يهنوه [1] بالملك، ولما رجع من سلطان قومه وأباد من عدوّهم، وكان فيمن وفد عليه مشيخة قريش وعظماء العرب لعهدهم من أبناء إسماعيل وأهل بيتهم المنصوب لحجهم، فوفدوا في عشرة من رؤسائهم فيهم عبد المطلب، فأعظمهم سيف وأجلهم وأوجب لهم حقهم ووفر من ذلك قسم عبد المطلب من بينهم. وسأله عن بنيه حتى ذكر له شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وكفالته إياه بعد موت عبد الله أبيه عاشر ولد عبد المطلب، فأوصاه به وحضه على الإبلاغ في القيام عليه، والتحفظ به.   [1] الصحيح ان يقول: «وفدت العرب عليه يهنونه أو «تهنيه» لان الفعل من الأفعال الخمسة ولم يتقدم عليه ما يوجب حذف النون.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 من اليهود وغيرهم، وأسرّ إليه البشرى بنبوّته وظهور قريش قومهم على جميع العرب. وأسنى جوائز هذا الوفد بما يدل على شرف الدولة وعظمها لبعد غايتها في الهمة، وعلو نظرها في كرامة الوفد، وبقاء آثار الترف في الصبابة شاهد لشرافة الحال في الأوّل. ذكر صاحب الأعلام وغيره أنه أجاز سائر الوفد بمائة من الإبل وعشرة أعبد وعشرة وصائف وعشرة أرطال من الورق والذهب وكرش مليء من العنبر وأضعاف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب. قال ابن إسحاق: ولما انصرف وهزر إلى كسرى غزا سيف على الحبشة وجعل يقتل ويبقر بطون النساء، حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولا واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالحراب، وعظم خوفهم منه. فخرج يوما وهم يسعون بين يديه، فلما توسطهم وقد انفردوا به عن الناس، رموه بالحراب فقتلوه، ووثب رجل منهم على الملك. وقيل ركب خليفة وهزر فيمن معه من المسلحة، واستلحم الحبشة وبلغ ذلك كسرى، فبعث وهزر في أربعة آلاف من الفرس وأمره بقتل كل أسود أو منتسب إلى أسود ولو جعدا قططا ففعل، وقتل الحبشة حيث كانوا، وكتب بذلك إلى كسرى، فأمّره على اليمن فكان بجبيه له حتى هلك. واستضافت حشّابة ملك الحميريّين بعد مهلك ابن ذي يزن وأهل بيته إلى الفرس، وورثوا ملك العرب وسلطان حمير باليمن بعد أن كانوا يزاحمونهم بالمناكب في عراقهم، ويجسونهم بالغزو خلال ديارهم. ولم يبق للعرب في الملك رسم ولا طلل إلا أقيالا من حمير وقحطان رؤساء في أحيائهم بالبدو لا تعرف لهم طاعة، ولا ينفذ لهم في غير ذاتهم أمر، إلا ما كان لكهلان إخوتهم بأرض العرب من ملك آل المنذر من لخم على الحيرة والعراق بتولية فارس، وملك آل جفنة من غسان على الشام بتولية آل قيصر كما يأتي في أخبارهم. وقال الطبريّ: لما كانت اليمن لكسرى بعث إلى سرنديب من الهند قائدا من قواده، ركب إليها البحر في جند كثيف، فقتل ملكها واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة وجواهر. وكان وهزر يبعث العير إلى كسرى بالأموال والطيوب، فتمرّ على طريق البحرين تارة وعلى أرض الحجاز أخرى. وعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين، فكتب إلى عامله بالانتقام منهم، فقتل منهم خلقا كما يأتي في أخبار كسرى. وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرّت بهم، وكان في جوار رجل من أشراف العرب من قيس، فكانت حرب الفجّار بين قيس وكنانة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 بسبب ذلك وشهدها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان ينبل فيها على أعمامه أي يجمع لهم النبل. قال الطبريّ: ولما هلك وهزر أمّر كسرى من بعده على اليمن ابنه المرزبان، ثم هلك فأمّر حافده خرخسرو بن التيجان بن المرزبان، ثم سخط عليه وحمل إليه مقيدا، ثم أجاره ابن كسرى وخلّى سبيله، فعزله كسرى وولى باذان فلم يزل إلى أن كانت البعثة وأسلم باذان وفشا الإسلام باليمن كما نذكره عند ذكر الهجرة وأخبار الإسلام باليمن. هذا آخر الخبر عن ملوك التبابعة من اليمن ومن ملك بعدهم من الفرس، وكان عدد ملوكهم فيما قال المسعودي سبعة وثلاثين ملكا في مدّة ثلاثة آلاف ومائتي سنة إلّا عشرا، وقيل أقل من ذلك. فكانوا ينزلون مدينة ظفّار. قال السهيليّ زمار وظفّار اسمان لمدينة واحدة، يقال بناها مالك بن أبرهة وهو الأملوك ويسمى مالك وهو ابن ذي المنار، وكان على بابها مكتوب بالقلم الأوّل في حجر أسود: يوم شيدت ظفار فقيل لمن ... أنت فقالت لخير الأخيار ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي احابش الأشرار ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لفارس الأحرار ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لقريش النجّار ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لخير سنجار وقليلا ما يلبث القوم فيها ... غير تشييدها لحامي البوار من أسود يلقيهم البحر فيها ... تشعل النار في أعالي الجدار ولم تزل مدينة ظفّار هذه منزلا للملوك، وكذلك في الإسلام صدر الدولتين، وكانت اليمن من أرفع الولايات عندهم، بما كانت منازل العرب العاربة، ودارا لملوك العظماء من التبابعة والأقيال والعباهلة. ولما انقضى الكلام في أخبار حمير وملوكهم باليمن من العرب، استدعى الكلام ذكر معاصريهم من العجم على شرط كتابنا لنستوعب أخبار الخليقة، ونميّز حال هذا الجيل العربيّ من جميع جهاته، والأمم المشاهير من العجم الذين كانت لهم الدول العظيمة لعهد الطبقة الأولى والثانية من العرب وهم النبط والسريانيّون أهل بابل، ثم الجرامقة أهل الموصل، ثم القبط، ثم بنو إسرائيل والفرس ويونان والروم، فلنأت الآن بما كان لهم من الملك والدولة وبعض أخبارهم على اختصار، والله ولي العون والتوفيق، لا رب غير ولا مأمول إلّا خيره . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 الخبر عن ملوك بابل من النبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة قد تقدم لنا أنّ ملك الأرض من بعد نوح عليه السلام كان لكنعان بن كوش بن حام، ثم لابنه النمروذ من بعده، وانه كان على بدعة الصابئة، وأنّ بني سام كانوا حنفاء ينتحلون التوحيد الّذي عليه الكلدانيون من قبلهم. قال ابن سعيد: ومعنى الكلدانيين الموحدين. ووقع ذكر النمروذ في التوراة منسوبا إلى كوش بن حام، ولم يقع فيها ذكر لكنعان بن كوش، فاللَّه أعلم بذلك. وقال ابن سعيد أيضا: وخرج عابر بن شالخ بن أرفخشذ فغلبه، وسار من كوثا إلى أرض الجزيرة والموصل فبنى مدينة مجدل لك، وأقام بها إلى أن هلك، وورث أمره ابنه فالغ من بعده، وأصاب النمروذ وقومه على عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ما أصابهم في الصرح وكانت البلبلة وهي المشهورة. وقد وقع ذكرها في التوراة ولا أدري معناها. والقول بأن الناس أجمعين كانوا على لغة واحدة فباتوا عليها، ثم أصبحوا وقد افترقت لغاتهم، قول بعيد في العادة، إلّا أن يكون من خوارق الأنبياء فهو معجزة حينئذ ولم ينقلوه كذلك. والّذي يظهر أنه اشارة إلى التقدير الإلهي في خرق العادة وافتراقها وكونها من آياته كما وقع في القرآن الكريم، ولا يعقل في أمر البلبلة غير ذلك. وقال ابن سعيد سوريان بن نبيط ولاه فالغ على بابل، فانتقض عليه وحاربه، ولما هلك فالغ قام بأمره بعده ابنه ملكان، فغلبه سوريان على الجزيرة، وملكها هؤلاء الجرامقة إخوانه في النسب بنو جرموق بن أشوذ بن سام، وكانت مواطنهم بالجزيرة وكان ابن أخت سوريان منهم الموصل بن جرموق، فولّاه سوريان على الجزيرة وأخرج بني عابر منها، ولحق ملكان منها بالجبال فأقام هناك، ويقال إن الخضر من عقبه، واستبد الموصل على خاله سوريان بن نبيط ملك بابل، وامتازت مملكة الجرامقة من مملكة النبط. وملك بعد الموصل ابنه راتق وكانت له حروب مع النبط، وملك من بعده ابنه أثور وبقي ملكها في عقبه وهو مذكور في التوراة، وملك بعده ابنه نينوى وبنى المدينة المقابلة للموصل من عدوة دجلة المعروفة باسمه، ثم كان من عقبه سنجاريف بن أثور بن نينوى بن أثور وهو الّذي بنى مدينة سنجار وغزا بني إسرائيل فصلبوه على بيت المقدس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وقال البيهقيّ: إنّ الجزيرة ملكها بعد مقتل سنجاريف أخوه ساطرون، وهو الّذي بنى مدينة الخضر في برية سنجار على نهر الترتار لتولعه بصيد الأسود في غيضاتها. وملك من بعده ابنه زان وكان يدين بالصابئة، ويقال إن يونس بن متى بعث إليه ويونس من الجرامقة من سبط بنيامين بن إسرائيل من ابنه، فآمن به زان بن ساطرون بعد الّذي قصّه القرآن من شأنه معهم، ثم انّ بخت نصّر لما غلب على بابل زحف إليه ودعاه إلى دين الصابئة، وشرط له أن يبقيه في ملكه فأجاب. ولم يزل على الجزيرة حتى زحف إليه جيوش الفرس مع أرتاق، فضمن القيام بالمجوسية على أن يبقوه في ملكه، وكتب بذلك أرتاق إلى بهمن فيضمن له، فأجابه بأن هذا رجل متلاعب بالأديان فأقتله، فقتله أرتاق وانقرض ملكه بعد ألف وثلاثمائة سنة فيما قال البيهقي. وفي أربعين ملكا منهم، وصارت الجزيرة لملوك الفرس، والّذي عند الإسرائيليين سنجاريف من ملوك نينوى وهم أولاد موصل بن أشوذ بن سام. وأنه كان قبله بالموصل ملوك منهم وهم فول وتلفات وبلناص، وأنهم ملكوا بلد الأسباط العشرة، وهي شمورون المعروفة بالسامرة، وأنه غرّب الأسباط الذين كانوا فيها إلى نواحي أصبهان وخراسان، وأسكن أهل كومة وهي الكوفة في شمورون هذه، فسلط الله عليهم السباع يفترسونهم في كلّ ناحية. فشكوا ذلك إلى سنجاريف وسألوه أن يخبرهم عن بلد شمورون في قسمة أي كوكب هي كي يتوجهوا إليه، ويستنزلوا روحانيته على طريق الصابئة، فأعرض عن ذلك وبعث كاهنان إليهم من اليهود فعلموهم دين اليهودية، وأخذوا به. وهؤلاء عند اليهود هم الشمرة نسبة الى شمرة وهي شمورون، وليس الشمرة عندهم من بني إسرائيل، ولان دينهم صحيح في اليهودية. وزحف سنجاريف عندهم إلى بيت المقدس بعد استيلائه على شمورون فحاصرها، وداخله العجب بكثرة عساكره، فقال لبني إسرائيل من الّذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم إلهكم، وفزع ملك بني إسرائيل إلى نبيّهم مدليلا، وسأله الدعاء فدعا له وأمنه من شرّ سنجاريف، ونزلت بعسكره في بعض لياليهم آفة سماوية، فأصبحوا كلهم قتلى. يقال أحصى قتلاهم فكانوا مائة وخمسة وثمانين ألفا، ورجع سنجاريف إلى نينوى، ثم قتله أولاده في سجوده لمعبوده من الكواكب، وولي ابنه أيسر حدّون، ثم استولى عليهم بعد ذلك بخت نصّر كما سنذكره في خبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وأما ملوك بابل فهم النبط بنو نبيط بن أشوذ بن سام. وقال المسعودي: نبيط بن ماش بن إرم، وكانوا موطنين بأرض بابل وملك منهم سوريان بن نبيط، وقال المسعوديّ: هو أحد نبيط بن ماش ملك أرض بابل بولاية من فالغ، فلما مات فالغ أظهر بدعة الصابئة، وانتحلها بعده ابنه كنعان ويلقب بالنمروذ. وملك بعده ابنه كوش وهو نمروذ إبراهيم عليه السلام، وهو الّذي قدم أباه آزر فاصطفاه هاجر على بيت الأصنام لأن أرغو بن فالغ لما هلك أبوه فالغ وكان على دين التوحيد الّذي دعاه إليه أبوه عابر، رجع حينئذ أرغو إلى كوثا، ودخل مع النماردة في دين الصابئة، وتوارثها بنوه إلى آزر بن ناحور، فاصطفاه هاجر بن كوش وقدّمه على بيت الأصنام، وولد له إبراهيم عليه السلام، وكان من أمره ما ذكرنا فيما نصه التنزيل ونقله الثقات. ثم توالت ملوك النماردة ببابل وكان منهم بخت نصّر على ما ذهب إليه بعضهم، ويقال إنّ الجرامقة وهم أهل نينوى غلبوا على بابل وملكها سنجاريف منهم واستعمل فيها بخت نصّر من ملوكها، ثم انتقض عليه بالجزاء والطاعة، وغزا بني إسرائيل ببيت المقدس، فاقتحمها عليهم بعد الحصار، وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وقتل ملكهم وخرب مسجدهم وتجاوزهم إلى مصر فملكها. ولما هلك بخت نصّر ملك من بعده فيما ذكروه ابنه نشبت نصّر، ثم من بعده بنيصّر وغزاه أرتاق مرزبان كسرى من ملوك الكينية فقتله وملك بابل وأعمالها وصار النبط والجرامقة رعية للفرس، وانقرضت دولة النماردة ببابل، هكذا ذكر ابن سعيد ونقله عن داهر مؤرخ دولة الفرس، وجعل السريانيين والنبط أمة واحدة، وهما دولة واحدة. وأما المسعودي فجعلهما دولتين. وأما السريانيون فقال هم أول ملوك الأرض بعد الطوفان، وسمّى من ملوكهم تسعة متعاقبين في مائة سنة أو فوقها بأسماء أعجمية لا فائدة في نقلها لقلة الوثوق بالأصول التي بأيدينا من كتبه وكثرة التغيير في الأسماء الأعجمية. نعم ذكر أن شوشان بشينين معجمتين، وأنه أول من وضع التاج على رأسه. والرابع منهم انه الّذي كوّر الكور ومدّن المدن وأنّ ملك الهند لعهده كان اسمه رتبيل وأنه على ملكه واستولى على السريانيين، وأن بعض ملوك المغرب ظاهرهم عليه وانتزع لهم ملكهم منه ورده عليهم. وسمّى الثامن منهم ماروت وأشار في آخر كلامه إلى أنهم كانوا مستولين على بابل وعلى الموصل، وأن ملوك اليمن ربما غلبوهم على أمرهم بعض الأحيان. وذكر في التاسع أنه كان غير مستقل بأمره، وانّ أخاه كان مقاسمة في سلطانه، وأنّ أوّل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 اتخذ الخمر فلان وأوّل من ملك فلان، وأوّل من لعب بالصقور والشطرنج فلان، مزاعم كلها بعيدة من الصحة. إنما وجهه أن السريانيين لما كانوا أقدم في الخليقة نسب اليهم كل قديم من الأشياء، أو طبيعي كالخط واللغة والسحر والله أعلم. وأمّا النبط فعند المسعودي أنهم من أهل بابل لقوله في ترجمتهم ذكر ملوك بابل والنبط وغيرهم المعروفين بالكلدانيين، وذكر أنّ أولهم نمروذ الجبار ونسبه الى ماش بن إرم بن سام، وذكر أنه الّذي بنى الصرح ببابل، واحتفر نهر الكوفة. ونسب النمروذ في موضع آخر الى كوش بن حام لا أدري هو أو غيره. ثم عدّ ملوكهم بعد النمروذ ستا وأربعين أو نحوها في ألف وأربعمائة من السنين بأسماء أعجمية متعذر ضبطها فتركت نقلها. إلّا أنه ذكر في الموفى منهم عدد العشرين وبعد التسعمائة من سنيهم انه الّذي غزت فارس لعهدة مدينة بابل. وذكر في الموفى عدد ثلاثة وثلاثين منهم عند الألف والأربعمائة من سنيهم انه سنجاريف الّذي حارب بني إسرائيل حاصرهم ببيت المقدس حتى أخذ الجزية منهم. وأن آخر ملوكهم دارينوش، وهو دار الّذي قتله الإسكندر لما ملك بابل. هذا ما ذكره المسعودي ولم يذكر منهم نمروذ الخليل عليه السلام. وذكر ان مدينتهم بابل وأن الّذي اختطها اسمه نير واسم امرأته شمرام ملوك السريانيين اسمان أعجميان لا وثوق لنا بضبطهما. وقال الطبري نمروذ بن كوش بن كنعان بن حام صاحب إبراهيم الخليل عليه السلام. وكان يقال عاد إرم، فلما هلكوا قيل ثمود إرم، فلما هلكوا قيل نمروذ إرم، فلما هلك قيل لسائر ولد إرم أرمان فهم النبط، وكانوا على الإسلام ببابل حتى ملكهم نمروذ فدعاهم إلى عبادة الأوثان فعبدوها انتهى كلام الطبري. وقال هروشيوش مؤرخ الروم: إنه نمروذ الجسيم، وإن بابل كانت مربعة الشكل، وكان سورها في دور ثمانين ميلا، وارتفاعه مائتا ذراع وعرضه خمسون ذراعا، وهو كله مبني بالآجرّ والرصاص، وفيه مائة باب من النحاس، وفي أعلاه مساكن الحرّاس والمقاتلة تبيت على الجانبين في سائر دورة الطريق بينهما. وحول هذا السور خندق بعيد المهوى، أجري فيه الماء، وأن الفرس هدموه، ولما تغلبوا على ملك بابل تولى ذلك منهم جيرش وهو كسرى الأوّل انتهى كلام هروشيوش. ويظهر من كلام هؤلاء ان اسم النمروذ سمت لكل من ملك بابل لوقوعه في أهل أنساب مختلفة مرّة إلى سام ومرة إلى حام. وزعم بعض المؤرّخين أنّ نمروذ الخليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 عليه السلام هو النمروذ بن كنعان بن سنجاريف بن النمروذ الأكبر، وأنّ بخت نصّر من عقبه وهو ابن برزاد بن سنجاريف بن النمرود [1] ، وأنّ الفرس الكينية غلبوا بخت نصّر على بابل، ثم أبقوه واستعملوه عليها، وأنّ كسرى الأوّل من بني ساسان خرب مدينة بابل. وعند الإسرائيليين وينقلونه عن كتاب دانيال وأرميا من أنبيائهم وضبط هذا الاسم يرميا انّ بخت نصّر من عقب كاسد بن حاور وهو أخو إبراهيم الخليل، وبنو كاسد هؤلاء من ملوك بابل ويعرفون بالكسدانييّن نسبة إليه، وانّ بخت نصّر منهم ملك أكثر المعمور، وغلب على بني إسرائيل، وأزال دولتهم، وخرّب بيت المقدس، وانتهى ملكه إلى مصر وما وراءها، وكان ملكه خمسا وأربعين. وملك بعده ابنه أويل مرود ثلاثا وعشرين سنة، وبعده ابنه بلينصر ثلاث سنين ثم زحف إليه دارا من ملوك الفرس وصهره كورش فحاصروه بمدينة بابل، وقال بعض الإسرائيليين ان بخت نصّر وملوك بابل من كسديم، وكسديم من عيلام بن سام وهو أخو أشوذ، ومن أشوذ ملوك الموصل انتهى الكلام في ملوك الموصل وملوك بابل. وهذا غاية ما أدى اليه البحث من أخبارهم وأنسابهم، وكان من هؤلاء والكلدانيين دين الصابئة وهو عبادة الكواكب واستجلاب روحانيتها. ويذكر أنهم كانوا لذلك أهل عناية بأرصاد الكواكب، ومعرفة طبائها، وخلاص المولدات، وما يشابه ذلك من علوم النجوم والطلسمات والسحر، وأنهم نهجوا ذلك لأهل الربع الغربي من الأرض. وقد يشهد لذلك قراءة من قرأ: وما أنزل على الملكين بكسر اللام، مشيرا إلى أن هاروت وماروت من ملوك السريانيين، وهم أول ملوك بابل، وعلى القراءة المشهور وأنهما من الملائكة، فيكون اختصاص هذه الفتنة، والابتلاء ببابل من بين أقطار الأرض، دليلا على وفور قسطهما من صناعة السحر الّذي وقع الابتلاء به، ومما يشهد لانتحالهم السحر وفنونه من النجوم وغيرها، أنّ هذه العلوم وجدناها من منتحل أهل مصر المجاورين لهم، وكان لملوكها عناية شديدة بذلك، حتى كان من مباهاتهم موسى بذلك وحشر السحرة له ما كان، وبقايا الآثار السحريّة في برابي اخميم من صعيد مصر ما يشهد لذلك أيضا والله أعلم.   [1] ورد هذا الاسم بالدال وهو الأصح وفي أماكن اخرى كثيرة بالذال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 الخبر عن القبط وأوّلية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمّة أقدم أمم العالم وأطولهم أمدا في الملك، واختصوا بملك مصر وما اليها، ملوكها من لدن الخليقة إلى أن صبحهم الإسلام بها، فانتزعها المسلمون من أيديهم. ولعهدهم كان الفتح، وربما غلب عليهم جميع من عاصرهم من الأمم حين يستفحل أمرهم مثل العمالقة والفرس والروم واليونان، فيستولون على مصر من أيديهم، ثم يتقلّص ظلهم، فراجع القبط ملكهم هكذا إلى أن انقرضوا في مملكة الإسلام. وكانوا يسمون الفراعنة سمة لملوك مصر في اللغة القديمة، ثم تغيرت اللغة وبقي هذا الاسم مجهول المعنى، كما تغيرت الحميريّة الى المضريّة، والسريانيّة إلى الروميّة. ونسبهم في المشهور إلى حام بن نوح، وعند المسعودي إلى بنصر بن حام، وليس في التوراة ذكر لبنصر بن حام وإنما ذكر مصرايم وكوش وكنعان وقوط. وقال السهيليّ إنهم من ولد كنعان بن حام لأنه لما نسب مصر، قال فيه: مصر بن النبيط أو ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان. وقال أهروشيوش: إنّ القبط من ولد قبط ابن لايق بن مصر. وعند الإسرائيليين أنهم من قوط بن حام. وعند بعضهم أنهم من كفتوريم قبطقايين ومعناه القبط. وقال المسعودي اختص بنصر بن حام أيام النمروذ ابن أخيه كنعان بولاية أرض مصر، واستبدّ بها وأوصى بالملك لابنه مصر، فاستفحل ملكه ما بين أسوان واليمن والعريش وأيلية وفرسيسة [1] ، فسميت كلها أرض مصر نسبة إليه، وفي قبليها النوبة وفي شرقيها الشام وفي شمالها بحر الزقاق وفي غربها برقة والنيل من دونها. وطال عمر مصر وكبر ولده وأوصى بالملك لأكبرهم وهو قبط بن مصر أبو الأقباط، فطال أمد ملكه وكان له بنون أربع: قبط بن مصر وأنّ مصر هو الّذي قسّم الأرض وعهد إلى أكبرهم بالملك وهو قبط، فغلب عليهم فأضيفوا إليه لمكان الملك والسنّ، وملك بعد قبط بن مصر أشمون بن مصر، ثمّ من بعده صا ثمّ أخوهما أتريب، ثم عدّ ملوكا بأسماء   [1] وفي نسخة أخرى: فرسية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أعجمية بعيدة عن الضبط لعجمتها وفساد الأصول التي بين أيدينا من كتبته، ثم لما ذكر ستة منهم بعد أتريب قال: فكثر ولد بنصر بن حام وتشاغبوا وملك عليهم النساء، فسار إليهم ملك الشام من العمالقة الوليد بن دومع فملكهم وانقادوا إليه. وأما ابن سعيد فيما نقل من كتب المشارقة فقال: ملك مصر ابنه قبط، ثم من بعده أخوه أتريب. قال: وفي أيام قبط زحف شدّاد بن مدّاد بن شدّاد بن عاد إلى مصر، وغلب على أسافلها، ومات قبط في حروبه، ثم جمع أتريب قومه واستظهر بالبربر والسودان على العرب حتى أخرجهم إلى الشام، واستبدّ اتريب بملك مصر وبنى المدينة المنسوبة إليه، ومدينة عين شمس. وملك بعده ابن أخيه البودشير بن قبط وهو الّذي بعث هرمسا المصري إلى جبل القمر حتى ركب جرية النيل من لك، وعدل البطيحة الكبرى التي تنصب إليها عيون النيل، وعمر بلاد الواحات وحول إليها جمعا من أهل بيته. ثم ملك من بعده عديم بن البودشير، ثم ابنه شدّات بن عديم، ثم ابنه منذوش بن شدّات وجدّد مدينة عين شمس. وكان لهم في السحر آثار عجيبة. ثم ملك بعده ابنه مقلاوش بن مقناوش وعبد البقر وصوّرها من الذهب، ثم هلك وخلف ابنه مرقيش فغلب عليه عمه أشمون بن قبط، وبنى مدينة الأشمون. وملك بعده ابنه أشاد بن أشمون، ثم من بعده عمه صا بن قبط وبنى مدينة باسمه، وملك بعده ابنه ندراس وكان حكيما وهو الّذي بنى هيكل الزهرة الّذي هدمه بخت نصّر. وملك بعده ابنه ماليق بن ندراس فرفض الصابئة ودان بالتوحيد، ودوّخ بلاد البربر والأندلس، وحارب الإفرنج. وملك بعده ابنه حربيا بن ماليق فرجع عن التوحيد إلى الصابئة، وغزا بلاد الهند والسودان والشام. وملك بعده ابنه كلكي بن حربيا، وهو الّذي تسميه القبط حكيم الملوك، واتخذ هيكل زحل وعهد إلى أخيه ماليا بن حربيا، واشتغل باللهو فقتله ابنه خرطيش وكان سفّاكا للدماء، والقبط تزعم أنه فرعون الخليل عليه السلام، وأنه أول الفراعنة. ولما تعدّى بالقتل إلى أقاربه سمّته ابنته حوريّا، وملكت القبط من بعده فنازعها أبراحس من ولد عمها أتريب، وحاربته فكان لها الغلب، وانهزم أبراحس إلى الشام، فاستظهر بالكنعانيين وبعث ملكهم قائده جيرون فلما قرب مصر استقبلته حوريا وأطمعته في زواجها على أن يقتل أبراحس ويبني مدينة الاسكندرية ففعل، ثم قتلته آخرا مسموما واستقام لها الأمر، وبنت منارة الاسكندرية، وعهدت بأمرها لدليقية ابنة عمها باقوم، فخرج عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 أيمين من نسل أتريب طالبا بثأر قريبه ابراحس، ولحق بملك العمالقة يومئذ وهو الوليد ابن دومع الّذي ذكرناه عند ذكر العمالقة فاستنصر به وجاء معه وملك ديار مصر. واستبدّ بالقبط نقراوس فاشتغل باللذّات، واستكفى من بنيه أطفير وهو العزيز فكفاه، وقام بأمره ودبّر له يوسف الفيوم بالوحي والهندسة، وكانت أرضها مغايض للماء فأخرجه وعمّر القرى مكانه على عدد أيام السنة، فجعله على خزائنه. وملك بعده دارم بن الريّان وسمّته القبط ويموص. وكان يوسف مدبّر أمره بوصية أبيه، ومات لعهده فأساء السيرة وهلك غريقا في النيل. وملك بعده ابنه معد انوس بن دارم فترهّب واستخلف ابنه كاشم فاستعبد بني إسرائيل للقبط، وقتله حاجبه ونصب بعده ابنه لاطش، فاشتغل باللهو فخلعه، ونصب آخر من نسل ندراس اسمه لهوب فتجبّر، وتذكر القبط انه فرعون موسى عليه السلام. وأهل الأثر يقولون: إنّه الوليد بن مصعب وأنه نجارا تقلب حاله الى عرافة الحرس، ثم تطور إلى الوزارة، ثم إلى الاستبداد. وهذا بعيد لما قدّمناه في الكتاب الأوّل. وقال المسعودي: بل كان فرعون موسى من الأقباط. ثم هلك فرعون موسى، وخشي القبط من ملوك الشام، فملّكوا عليهم دلوكة من بيت الملك وهي التي بنت الحائط على أرض مصر، ويعرف بحائط العجوز لأنها طال عمرها حتى كبرت واتخذت البرابي ومقاييس النيل. ثم سمّى المسعودي من بعد دلوكة ثمانية من ملوكهم على ذلك النحو من عجمة الأسماء، وقال في الثامن إنه فرعون الأعرج الّذي اعتصم به بنو إسرائيل من بخت نصّر، فدخل عليه مصر وقتله وهدم هياكل الصابئة ووضع بيوت النيران له ولولده. وذكر في تواريخهم قال: قال ابن عبد الحكم: وهذه العجوز دلوكة هي التي جدّدت البرابي بمصر، أرسلت إلى امرأة ساحرة كانت لعهدها اسمها ترورة، وكانت السحرة تعظّمها، فعملت بربي من حجارة وسط مدينة منف، وصوّرت فيها صور الحيوانات من ناطق وأعجم، فلا يقع شيء بتلك الصورة إلّا وقع بمثالها في الخارج. وكان لهم بذلك امتناع ممن يقصدهم من الأمم لأنهم كانوا أعلم الناس بالسحر، وأقامت عليهم عشرين سنة حتى بلغ صبي من أبنائهم اسمه دركون بطلوس فملكوه، وأقامت معه على ذلك أربعمائة سنة [1] ، ثم مات فولوا ابنه يرديس بن دركون، ومن بعده أخاه نقاس بن نقراس، ومن بعده   [1] لعل المدة أربعين سنة وربما يكون الخطأ حصل في النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 مرينا بن مرينوس، ثم ابنه استمارس بن مرينا فطغى عليهم وخلعوه وقتلوه، وولوا عليهم من أشرافهم بلوطيس بن مناكيل أربعين سنة، ثم استخلف مالوس بن بلوطيس ومات، فاستخلف أخاه مناكيل بن بلوطيس ثم توفي، فاستخلف ابنه بركة ابن مناكيل فملكهم مائة وعشرين سنة، وهو فرعون الأعرج الّذي سبى أهل بيت المقدس، ويقال أنه خلع. وقال ابن عبد الحكم: وولي من بعده ابنه مرينوس بن بركة، فاستخلف ابنه فرقون بن مرينوس فملكهم ستين سنة ثم هلك، واستخلف أخاه نقاس بن مرينوس. وكانت البرابي كلها إذا فسد منها شيء لا يصلحه إلّا رجل من ذرية تلك العجوز الساحرة التي وضعتها، ثم انقطعت ذريتها ففسدت البرابي أيام نقاس هذا، وتجاسر الناس على طلب الملك الّذي في أيديهم، وهلك نقاس، واستخلف ابنه قومس بن نقاس، فملكهم دهرا ثم ملك بخت نصّر بيت المقدس، واستلحم بني إسرائيل وفرّقهم وقتل وخرّب ولحقوا بمصر، فأجارهم قومس ملكها وبعث فيهم بخت نصّر فمنعهم وزحف إليه وغلب عليه وقتله وخرب مدينة منف. وبقيت مصر أربعين سنة خرابا. وسكنها أرمياء مدّة ثم بعث إليه بخت نصّر فلحق به ثم ردّ أهل مصر إلى موضعهم، وأقاموا كذلك ما شاء الله إلى أن غلب الفرس والروم على سائر الأمم، وقاتل الروم أهل مصر إلى أن وضعوا عليهم الجزى، ثم تقاسمها فارس والروم، ثم تداولوا ملكها فتوالت عليها نواب الفرس. ثم ملكها الإسكندر اليوناني وجدّد الإسكندرية، والآثار التي خارجها مثل عمود السواري ورواق الحكمة. ثم غلب الروم على مصر والشام وأبقوا القبط في ملكها وصرفوهم في الولاية بمصر إلى أن جاء الله بالإسلام، وصاحب القبط بمصر والإسكندرية المقوقس، واسمه جريج بن مينا فيما نقله السهيليّ. فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، وجبرا مولى أبي رهم الغفاريّ، فقارب الإسلام وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته المعروفة ذكرها أهل السيركان، فيها البغلة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يركبها وتسمى دلدل، والحمار الّذي يسمّى يعفور، ومارية القبطيّة أم ولده إبراهيم وأمّها وأختها سيرين وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن، وقدح من قوارير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب فيه، وعسل استظرفه له من بنها احدى قرى مصر معروفة بالعسل الطيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ويقال إنّ هرقل لما بلغه شأن هذه الهدية اتهمه بالميل الى الإسلام فعزله عن رياسة القبط. وخرّج مسلم في صحيحه من رواية أبي ذرّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا افتتحتم مصر أو إنكم مستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإنّ لهم ذمّة ورحما أو صهرا.» ورواه ابن إسحاق عن الزهريّ وقال: قلت للزهري ما الرحم التي ذكر؟ قال: كانت هاجر أم إسماعيل منهم. ولبعض رواة الحديث في تفسير الصهر أنّ مارية أم إبراهيم منهم، أهداها له المقوقس، وكانت من كورة حفن من عمل أنصنا. وقال الطبريّ إنّ عمرو بن العاص لما ملك مصر أخبرهم بوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم، فقال: هذا نسب لا يحفظ حقه إلّا نبيّ لأنه نسب بعيد وذكروا له أنّ هاجر كانت امرأة لملك من ملوكنا ووقعت بيننا وبين أهل عين شمس حروب كانت لهم في بعضها دولة فقتلوا الملك وسبوها، ومن لك تسيرت الى أبيكم إبراهيم. ولما كمل فتح مصر والإسكندرية وارتحل الروم الى القسطنطنية، أقام المقوقس والقبط على الصلح الّذي عقده لهم عمرو بن العاص وعلى الجزى، وأبقوه على رياسة قومه، وكانوا يشاورونه فيما ينزل من المهمات إلى أن هلك، وكان ينزل الإسكندرية وفي بعض الأوقات ينزل منف من أعمال مصر. واختط عمرو بن العاص الفسطاط بموضع خيامه التي كان يحاصر مصر منها، فنزل بها المسلمون وهجروا المدينة التي كان بها المقوقس، الى أن خربت. وكان في خرابها ومهلك المقوقس انقراض أمرهم. وبقي أعقابهم الى هذا الزمان يستعملهم أهل الدول الإسلامية في حسابات الخراج، وجبايات الأموال لقيامهم عليها، وغنائهم فيها، وكفايتهم في ضبطها وتنميتها. وقد يهاجر بعضهم إلى الإسلام فترفع رتبتهم عند السلطان في الوظائف المالية التي أعلاها في الديار المصرية رتبة الوزارة، فيقلدونهم إياها ليحصل لهم بذلك قرب من السلطان وحظ عظيم في الدولة وبسطة يد في الجاه، تعدّدت منهم في ذلك رجال، وتعينت لهم بيوت قصر السلطان نظره على الاختيار منها لهذا العهد. وعامتهم يقيم على دين النصرانية الذين كانوا عليها لهذا العهد، وأكثرهم بنواحي الصعيد وسائر الأعمال متحرّفون بالفلح وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21. وأمّا إقليم مصر فكان في أيام القبط والفراعنة جسورا كله بتقدير وتدبير يحبسونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ويرسلونه كيف شاءوا، والجنات حفاف النيل من أعلاه إلى أسفله ما بين أسوان ورشيد، وكانت مدينة منف وعين شمس، يجري الماء تحت منازلها وأفنيتها بتقدير معلوم، ذكر ذلك كله عبد الرحمن بن شماسة، وهو من خيار التابعين، يرويه عن أشياخ مصر قالوا: ومدينة عين شمس كانت هيكل الشمس، وكان فيها من الأبنية والأعمدة والملاعب ما ليس في بلد. قلت: وفي مكانها لهذا العهد ضيعة متصلة بالقاهرة يسكنها نصارى من القبط وتسمى المطريّة. قالوا: ومدينة منف مدينة الملوك قبل الفراعنة وبعدهم إلى أن خرّبها بخت نصّر كما تقدّم في دولة قومس بن نقاس، وكان فرعون ينزل مدينة منف، وكان لها سبعون بابا وبنى حيطانها بالحديد والصفر [1] ، وكانت أربعة أنهار تجري تحت سريره ذكره أبو القاسم بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك قال: وكان طولها اثني عشر ميلا، وكانت جباية مصر تسعين ألف ألف دينار مكرّرة مرتين بالدينار الفرعونيّ وهو ثلاثة مثاقيل. وانما سميت مصر بمصر بن بيصر بن حام، ويقال انه كان مع نوح في السفينة فدعا له فأسكنه الله هذه الأرض الطيبة، وجعل البركة في ولده. وحدّها طولا من برقة إلى أيلة، وعرضا من أسوان إلى رشيد. وكان أهلها صابئة، ثم حملهم الروم لما ملكوها بعد قسطنطين على النصرانية، عند ما حملوا على الأمم المجاورة لهم من الجلالقة والصقالبة وبرجان والروس والقبط والحبشة والنوبة، فدانوا كلهم بذلك ورجعوا عن دين الصابئة في تعظيم الهياكل وعبادة الأوثان، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.   [1] ربما يعنى النحاس الأصفر أو الذهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال قد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله وسلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحاق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط، وفي التوراة أنّ الله سماه إسرائيل. وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد وما قبلها من أسماء الله عز وجل وصفاته والمضاف أبدا متأخر في لسان المعجم، فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة وهو المضاف. ثم قبض الله نبيّه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين سنة من عمره، وأوصى أن يدفن عند أبيه، فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه لذلك، فأذن له. وأمر أهل دولته بالانطلاق معه، فانطلقوا وحملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه، وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين. ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي لمائة وعشرين سنة من عمره، ودفن بمصر وأوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد، وهي الأرض المقدّسة. وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم واستعبدوهم، وفي التوراة أنّ ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه، فاسترقّ بني إسرائيل واستعبدهم. ثم تحدّث الكهّان من أهل دولتهم بأنّ نبوة تظهر في بني إسرائيل، وأنّ ملكك كائن لهم مع ما كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك، فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم. فلم يزالوا على ذلك مدّة من الزمان حتى ولد موسى. وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وأمّه يوحانذ بنت لاوى عمة عمران وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر وولد هارون لثلاث وسبعين من عمره، وموسى لثمانين، فجعلته أمّه في تابوت وألقته في ضحضاح [1] اليمّ، وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه. فجاءت ابنة فرعون الى البحر مع جواريها فرأته   [1] في التوراة: أخذت له سفطا من البردي، وطلته بالحمر والزفت، ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 واستخرجته من التابوت فرحمته. وقالت: هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر [1] ترضعه. فقالت لها أخته أنا آتيكم بها. وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون، إلى أن فصل. فأتت به إلى ابنة فرعون وسمّته موسى وأسلمته لها. ونشأ عندها ثم شب، وخرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع فهم لذلك أخواله، فرأى عبرانيا يضربه مصريّ فقتل المصري الّذي ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره، فقال له ومن جعل لك هذا؟ أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس. ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه، وهرب موسى إلى أرض مدين [2] عند عقبة أيلة. وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك وكان ذلك لأربعين سنة من عمره، فلقى عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم فسقى لهما، وجاءتا به الى أبيهما فزوّجه بإحداهما، كما وقع في القرآن الكريم، وأكثر المفسّرين على أنه شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ: الّذي استأجر موسى وزوّجه بنته رعويل [3] وهو بيتر حبر مدين، أي عالمهم، وأن رعويل هو الّذي زوّجه البنت وأنّ اسمه يبتر. وعن الحسن البصريّ انه شعيب رئيس بني مدين. وقيل انه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه. فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربّه، إلى أن جاءه الوحي وهو ابن ثمانين سنة، وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من مملكة القبط، وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فخرجا إليه وبلّغا بني إسرائيل الرسالة فآمنوا به واتبعوه، ثم حضرا إلى فرعون وبلّغاه أمر الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل وأراه موسى عليه السلام معجزة العصا، فكان من تكذيبه وامتناعه واحضار السحرة لما رأى موسى في معجزته ثم إسلامهم ما نصّه القرآن العظيم. ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته، واشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم   [1] الظئر: ج أظؤر وأظآر: المرضعة لولد غيرها (قاموس) [2] وفي التوراة: مديان. [3] وفي التوراة: رعوئيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها، ويتضرع الى موسى في الدعاء بانجلائها، إلى أن أوحى الله الى موسى بخروج بني إسرائيل من مصر. ففي التوراة انهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم ان كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم ان كان أكثر، وان ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة، وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه، ومعناه لا يكسرون منه عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده، وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم، وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه [1] بالنار، وشرع هذا عيدا لهم ولا عقابهم ويسمّى عيد الفصح. وفي التوراة أيضا انه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل. وأنّهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون. وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الّذي كان به بإلهام من الله تعالى، وساروا لوجههم حتى انتهوا الى ساحل البحر بجانب الطور. وأدركهم فرعون وجنوده، وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، فضربه فانفلق طرقا. وسار فيها بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه، فهلكوا، ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور، وسبّحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم وهو: نسبّح الرب البهي، الّذي قهر الجنود، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود الى آخره. قالوا: وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي ترتّل لهنّ التسبيح سبحان الرب القهّار الّذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو معنى الأوّل. ثم كانت المناجاة على جبل الطور وكلام الله لموسى والمعجزات المتتابعة، ونزول الألواح، ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشرة وهي: كلمة التوحيد، والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه، وبرّ الوالدين ليطول العمر، والنهي   [1] الأصح ان يقول يحرقونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 عن القتل، والزنا، والسرقة، وشهادة الزور، ولا تمتدّ عين إلى بيت صاحبه، أو امرأته، أو لشيء من متاعه. هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح. وكان سبب نزول الألواح أن بني إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سينا صعد موسى إلى الجبل، فكلمه ربّه وأمره أن يذكّر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام، ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد، ففعلوا وظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق ورعود ففزعوا، وقاموا في سفح الجبل دهشين، ثم غشي الجبل دخان في وسطه عمود نور وتزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة، واشتدّ صوت الرعد الّذي كانوا يسمعونه، وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرّب بني إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف، قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون وتكون العلماء غير بعيد ففعل، وجاءهم بالألواح. ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة، فكلمه ربه وسأله الرؤية، فمنعها فكان الصعق وساخ الجبل، وتلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ والتحليل والتحريم. وكان حين سار الى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، واستبطئوا موسى، وكان هارون قد أخبرهم بأنّ الحلي الّذي أخذوه للقبط محرّم عليهم، فأرادوا حرقة وأوقدوا عليه النار. وجاء السامريّ في شيعة له من بني إسرائيل، وألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول، فصار عجلا وقيل عجلا حيوانا، وعبده بنو إسرائيل، وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم. وجاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته، فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح، ويقال كسرها، وأبدل غيرها من الحجارة، وعند بني إسرائيل انهما اثنان، وظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين، ثم أخذ برأس أخيه ووبّخه واعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل، وقيل برده بالمبرد وألقاه في البحر. وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل الى الطور بلغ خبره الى بيثر [1] صهره من بني مدين، فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوّجها به أبوها رعويل كما تقدّم، ومعها ابناها من موسى وهما جرشون وعازر، فتلقّاها موسى صلوات الله عليه بالبرّ والكرامة وعظمه بنو إسرائيل، ورأى كثرة الخصومات   [1] وفي التوراة: يثرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 على موسى، فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كلّ مائة أو خمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس، وتفصل أنت فيما أهم وأشكل، ففعل ذلك. ثم أمر الله موسى ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشمشاد، ويقال هو السنط وجلود الأنعام وشعر الأغنام، وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ والذهب والفضّة على أركانها صوّر منها صور الملائكة الكروبيّين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله، ولها عشر سرادقات مقدّرة الطول والعرض، وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ، وفيها دفوف وصفائح من ذهب وفضة، وفي كلّ زاوية بابان وأبواب وستور من حرير، وغير ذلك مما هو مشروح في التوراة. وبعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين ونصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف مصفّحا بالذهب الخالص من داخل وخارج، وله أربع حلق في أربع زوايا، وعلى حافته كروبيّان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة ويكونان متقابلين، وان يصنع ذلك كله فلان شخص معروف من بني إسرائيل. وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف بطناب ذهب، وإكليل ذهب، بحافة مرتفعة باكليل ذهب، وأربع حلق ذهب في أربع نواحيها مغروزة في مثل الرّمانة من خشب ملبّس ذهبا، وصحافا ومصافي وقصاعا على المائدة كلها من ذهب. وان يعمل منارة من ذهب، بست قصبات من كلّ جانب ثلاث وعلى كل قصبة ثلاث سرج، وليكن في المنارة أربعة قناديل، ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب. وأن يعمل مذبحا للقربان، ووصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف. ونصبت هذه القبّة أول يوم من فصل الربيع ونصب فيها تابوت الشهادة وتضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع في القربان والنحور وأحوال هذه القبّة كثيرا وفيها: أنّ قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل العجل، وأنها كانت كالكعبة يصلّون إليها وفيها، ويتقرّبون عندها، وأنّ أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك، وأنّ موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجّدا للَّه عز وجل، ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الّذي هو نور ويخاطبه ويناجيه وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيّين. فإذا فصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء، يجيء إلى قبّة القربان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الخصومة. ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر، وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أنّ تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم بمسيرهم إليها، وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وضرب عليهم الغزو ورتب المصاف والميمنة والميسرة، وعين مكان كل سبط في التعبية وجعل فيه التابوت والمذبح في القلب، وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم، وأسقط عنهم القتال لخدمة القبّة، وسار على التعبية سالكا على برية فاران، وبعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين. كان منهم كالب بن يوفنّا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب، ويوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، فاستطابوا البلاد واستعظمو العدوّ من الكنعانيين والعمالقة، ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر وخذلوهم، إلا يوشع وكالب فقالا لهم ما قالا وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. وخامر بنو إسرائيل عن اللقاء، وأبوا من السير الى عدوّهم، والأرض التي ملكهم الله، إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم. فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدّسة أحد من ذلك الجيل إلا كالبا ويوشع. وإنما يدخلها أبناؤهم والجيل الّذي بعدهم، فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران، يتردّدون حوالي جبال الشراة، وأرض ساعير، وأرض بلاد الكرك والشوبك، وموسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه، وشكوا الجوع، فبعث الله لهم المنّ حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة، فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز لأكلهم. ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر، وهو طير السماني، فيأكلون منه، ويدّخرون ثم طلبوا الماء، فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 يصهر بن قاهث، وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث، فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى، واعتمدوا مناصبته فاصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض وأصبحوا عبرة للمعتبرين. واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدوّ، ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقتلوهم في كل وجه. فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم، فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدّسة فمنعهم، وحال دون ذلك. ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره، ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر، وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم، وقام بأمره الّذي كان يقوم به ابنه العيزار [1] ، ثم زحف بنو إسرائيل الى بعض ملوك كنعان، فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا معهم، وبعثوا الى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدّسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية، فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده الى حدّ بني عمّون، ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب. وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان وهو المشهور بعوج بن عوق، وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه، وورثوا أرضهم الى الأردن بناحية أريحا. وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل، واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم، ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمّون وبني مؤاب، وكان مجاب الدعوة معبّرا للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه، وأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء، وألحّ عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة، وأراه معسكر بني إسرائيل منها، فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وانهم يملكون الى الموصل. ثم تخرج أمّة من أرض الروم فيغلبون عليهم، فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلاده. وفشا في بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين فأصابهم الموتان، فهلك منهم أربعة وعشرون ألفا. ودخل فنحاص بن لعزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل، فطعنها برمحه وانتظمها وارتفع الموتان عن بني إسرائيل. ثم أمر الله موسى وألعازر بن هارون بإحصاء بني   [1] وفي التوراة اسمه: اليعازر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 إسرائيل بعد فناء الجيل الّذي أحصاهم موسى وهارون ببرية سينا، وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض، وان يبعث بعثا من بني إسرائيل الى مدين الذين أعانوا بني مؤاب، فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل وعليهم فنحاص بن العيزر بن العزر بن هارون، فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم وملكوا أموالهم، وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه للَّه، وكان فيمن قتل بلعام بن باعورا. ثم قسّم الأرض التي ملك من بني مدين والعموريين وبني عمّون وبني مؤاب، ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطئ الأردن، وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم. ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمّون وعن أرضهم. وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام، وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره، بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة ليسكنوها، ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها، ودفن بالوادي في أرض مؤاب ولم يعرف قبره لهذا العهد. وقال الطبريّ: مدّة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة، منها في أيام أفريدون عشرون، ومنها في أيام منوجهر مائة. قال: ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا، فهزم الجبارين ودخلها عليهم. وقال السدّي: إنّ يوشع تنبّأ بعد موسى، وسار إلى أريحا فهزم الجبّارين، ودخلها عليهم، وأن بلعام بن باعورا كان مع الجبارين يدعو على يوشع، فلم يستجب له، وصرف دعاؤه على الجبّارين. وكان بلعام من قرى البلقاء، وكان عنده الاسم الأعظم، فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع، وألحّوا عليه فأجاب، ودعا فصرف دعاؤه، وكان قيامه للدّعاء على جبل حسّان مطلا على عسكر بني إسرائيل، هذا خبر السدّي في أنّ دعاء بلعام كان لعهد يوشع. والّذي في التوراة أنّه كان لعهد موسى، وأنّ بلعام قتل لعهد موسى كما مرّ في خبر الطبريّ. وقال السدّي: إنّ يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر، فسار ومعه التابوت تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن، وقاتل الكنعانيين فهزمهم، وأنّ الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم ودعا الله يوشع فوقفت الشمس [1] حتى تمت عليهم   [1] وفي الطبري ج 1 ص 228: فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتى أمسوا وغربت الشمس ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: انك في طاعة الله وانا في طاعة الله اللَّهمّ اردد عليّ الشمس فردّت عليه الشمس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الهزيمة، ثم نازل أريحاء ستة أشهر [1] ، وفي السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فاستباحوها وأحرقوها. وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله. هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه وبني إسرائيل أيام حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا. وفي كتب الأخباريين أن العمالقة الذين كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم وقتل آخر ملوكهم وهو السميدع بن هوبر بن مالك. وكان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهميّ: ألم تر أنّ العلقميّ بن هوبر ... بأيلة أمسى لحمه قد تمزّعا ترامت عليه من يهود جحافل ... ثمانون ألفا حاسرين ودرعا ذكره المسعودي وقد تقدّم لنا خلاف النسّابة في هؤلاء العمالقة وأنهم لعمليق بن لاوذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني، لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب. وأما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد، فأكثرهم لبني كنعان. وقد تقدّمت شعوبهم، وبنو أروم أبناء عمّون، وبنو مؤاب أبناء لوط، وثلاثتهم أهل يستعير [2] وجبال الشراة وهي بلاد الكرك والشوبك والبلقاء، ثم بنو فلسطين من بني حام ويسمى ملكهم جالوت وهو من الكنعانيين منهم، ثم بنو مدين ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثا، وأما غيرها فلم يكن لهم فيها إلّا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها. وفي كتب الأخباريين أنّ بني إسرائيل بعد ملكهم الشام، بعثوا بعوثهم إلى الحجاز، ولك يومئذ أمّة من العمالقة يسمّون جاسم، وكان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم، وكان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم. فلما ظهروا على العمالقة وقتلوا   [1] يتفق ابن خلدون مع الطبري وابن الأثير حول المدة التي حاصر يوشع مدينة أريحا ففي الطبري ج 1 ص 228 «فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة» وفي الكامل ج 1 ص 202 وقيل بل حصرها ستة أشهر فلما كان السابع تقدموا الى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور» . اما ابو الفداء فيذكر ان مدة حصار أريحا كانت ستة أيام ويوافق ذلك ما ذكر في التوراة، الاصحاح السادس من سفر يوشع: «ان الحصار كان ستة أيام وفي اليوم السابع سقط السور» . [2] وفي نسخة اخرى: يسعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الأرقم، استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل لوضاءته. ولما رجعوا من بعد الفتح، وبّخهم إخوانهم ومنعوهم دخول الشام وأرجعوهم إلى الحجاز، وما تملكوا من أرض يثرب، فنزلوها واستتم لهم فتح في نواحيها، ومن بقاياهم يهود خيبر وقريظة والنضير. قال ابن إسحاق قريظة والنضير والتحام وعمرو هو هزل من الخزرج. وقال ابن الصريح: ابن التومان بن السبط بن أليسع بن سعد ابن لاوى بن النّمام بن يتحوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام، واليهود لا يعرفون هذه القصة وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت والله أعلم. الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع الى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت ولما قبض يوشع صلوات الله عليه بعد استكمال الفتح، وتمهيد الأمر، ضيّع بنو إسرائيل الشريعة، وما أوصاهم به وحذرهم من خلافه، فاستطالت عليهم الأمم الذين كانوا بالشام، وطمعوا فيهم من كل ناحية. وكان أمرهم شورى فيختارون للحكم في عامتهم من شاءوا، ويدفعون للحرب من يقوم بها من أسباطهم، ولهم الخيار مع ذلك على من يلي شيئا من أمرهم، وتارة يكون نبيا يدبرهم بالوحي، وأقاموا على ذلك نحوا من ثلاثمائة سنة لم يكن لهم فيها ملك مستفحل، والملوك تناوشهم من كل جهة، إلى أن طلبوا من نبيهم شمويل أن يبعث عليهم ملكا، فكان طالوت، ومن بعده داود، فاستفحل ملكهم يومئذ وقهروا أعداءهم، على ما يأتي ذكره بعد. وتسمّى هذه المدة بين يوشع وطالوت مدّة الحكّام ومدّة الشيوخ. وأنا الآن أذكر من كان فيها من الحكّام على التتابع معتمدا على الصحيح منه، على ما وقع في كتاب الطبريّ والمسعودي، ومقابلا به ما نقله صاحب حماة [1] من بني أيوب في تاريخه عن سفر الحكام والملوك من الإسرائيليات، وما نقله أيضا هروشيوش مؤرّخ الروم في كتابه الّذي ترجمه للحكم المستنصر من بني أمية قاضي النصارى وترجمانهم بقرطبة وقاسم بن أصبغ. قالوا كلهم: لما فتح يوشع مدينة أريحاء سار إلى نابلس فملكها ودفن هنالك شلو [2] يوسف عليه السلام، وكانوا حملوه معهم   [1] يعني أبي الفداء [2] يعني وفاة يوسف عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 عند خروجهم من مصر. وقد ذكرنا انه كان أوصى بذلك عند موته. وقال الطبريّ: إنّه بعد فتح أريحاء نهض الى بلد عاي من ملوك كنعان، فقتل الملك وأحرق المدينة، وتلقاه خيقون ملك عمّان، وبارق ملك أورشليم بالجزي واستذمّوا [3] بأمانه فأمنهم. وزحف إلى خيقون ملك الأرمانيّين من نواحي دمشق فاستنجد بيوشع، فهزم يوشع ملك الأرمن إلى حوران واستلحمهم وصلب ملوكهم، وتتبع سائر الملوك بالشام فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا. وملك قيساريّة، وقسم الأرض التي ملكها بين بني إسرائيل، وأعطى جبل المقدس لكالب ابن يوفنّا فسكن مدينة أورشليم، وأقام مع بني يهودا، ووضع القبّة التي فيها تابوت العهد والمذبح والمائدة والمنارة على الصخرة التي في بيت المقدس. وأما بنو أفرايم فكانوا يأخذون الجزية من الكنعانيين، ثم قبض يوشع وفي سفر الحكّام أنه قبض لثمان وعشرين سنة من ملكه، وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقال الطبريّ: ابن مائة وستة وعشرين سنة. والأول أصح. قال: وكان تدبير يوشع لبني إسرائيل في زمن منوشهر عشرين سنة، وفي زمن أفراسياب سبع سنين. وقال أيضا: إنّ ملك اليمن شمر بن الأملوك من حمير كان لعهد موسى وبني ظفّار وأخرج منها العمالقة. ويقال أيضا: كان من عمّال الفرس على اليمن. وزعم هشام بن محمد الكلبي أن الفلّ من الكنعانيين بعد يوشع احتملهم أفريقش بن قيس بن صيفي من سواحل الشام، في غزاته الى المغرب التي قتل فيها جرجيس الملك، وأنه أنزلهم بإفريقية، فمنهم البربر وترك معهم صنهاجة وكتامة من قبائل حمير انتهى. وقام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنّا بن حصرون بن بارص بن يهودا وقد مرّ نسبه، وكان فنحاص بن العيزر بن هارون كوهنا، يتولى أمر صلاتهم وقربانهم، ثم تنبأ وتنبّأ أبوه العيزر وكان كالب مضعفا فأقاما كذلك سبع عشرة سنة. وقال الطبريّ كان مع كالف في تدبيرهم حزقيل بن يودي، ويقال له ولد العجوز لأنه ولد بعد أن كبرت أمّه وعقمت. وحدث عن وهب بن منبّه أنّ حزقيل هذا دبّرهم بعد كالب ولم يقع لهذا ذكر في سفر الحكّام. ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا وبنو شمعون لحرب الكنعانيين، فغلبوهم وقتلوهم، وفتحوا أورشليم وقتلوا ملكها، ثم فتحوا غزّة وعسقلان وملكوا الجبل كله، ولم يقتلوا الغور. وأما سبط بنيامين فكان في قسمهم   [3] اي دخلوا في ذمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 بلد اليونانيين في أرضهم، وأخذوا منهم الخراج واختلطوا بهم، وعبدوا آلهتهم فسلّط الله عليهم ملك الجزيرة واسمه كوشان شقنائم، ومعناه أظلم الظالمين. ويقال إنه ملك الأرمن في الجزيرة ودمشق وملك حوران وصيدا وحرّان ويقال والبحرين ويقال انه من أدوم. وقال الطبريّ: من نسل لوط فاستعبد بني إسرائيل ثمان سنين بعد وفاة كالب بن يوفنّا، ثم ولي الحكم فيهم عثينئال ابن أخيه قنّاز ابن يوفنّا فحاربهم كوشان هذا، وأزال ملكته عن بني إسرائيل، ثم حاربه فقتله وكان له بعد ذلك حروب سائر أيامه مع بني مؤاب وبني عمّون أسباط لوط ومع العماليق إلى أن هلك لأربعين سنة من دولته. ثم عبد بنو إسرائيل الأوثان من بعده فسلّط الله عليهم ملك بني مؤاب واسمه عفلون، بعين مهملة ومعجمة ساكنة ولام مضمومة تجلب واوا ساكنة ونون بعدها، فاستعبدهم ثماني عشرة سنة. ثم قام بتدبيرهم أيهوذ بن كارا من سبط أفرايم، وقال ابن حزم: من بنيامين، وضبطه بهمزة ممالة تجلب ياء ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم ذال معجمة فأنقذهم من يد بني مؤاب وقتل ملكهم عفلون بحيلة تمت لهم في ذلك. وهو أنه جاءه رسولا عن بني إسرائيل متنكرا بهدايا وتحف منهم حتى إذا خلا به طعنه فأنفذه ولحق بمكانه من جبل أفرايم، ثم اجتمعوا ونزلوا فقتلوا من الحرس نحوا من عشرة آلاف، وغلب ببني إسرائيل بني مؤاب واستلحمهم وهلك لثمانين سنة من دولته. وقام بتدبيرهم بعده شمكار بن عناث من سبط كاد، وضبطه بفتح الشين المثلثة بعدها ميم ساكنة وكاف تقرب من مخرج الجيم ويجلب فتحها الفا وبعدها راء مهملة، ومات لسنة من ولايته وبنو إسرائيل على حيالهم من المخالفة، فسلّط الله عليهم ملك كنعان واسمه يافين، بفاء شفوية تقرب من الباء، فسرّح إليهم قائده سميرا فملك عليهم أمرهم واستعبدهم عشرين سنة. وكانت فيهم كوهنة امرأة متنبّئة اسمها دافورا بفاء هوائية تقرب من الباء، وهي من سبط نفطالي، وقيل من سبط أفرايم، وقيل كان زوجها بارق ابن أبي نوعم من سبط نفطالي واسمه البيدوق، فدعته إلى حرب سميرا فأبى إلّا أن تكون معه فخرجت ببني إسرائيل، وهزموا الكنعانيين، وقتل قائدهم سميرا وقامت بتدبيرهم أربعين سنة يرادفها زوجها بارق بن أبي نوعم. قال هروشيوش: وعلى عهدها كان أول ملوك الروم الطينيين بأنطاكيّة بنقش بن شطونش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وهو أبو القياصرة. ثم توفيت دافورا وبقي بنو إسرائيل فوضى وعادوا إلى كفرهم فسلّط الله عليهم أهل مدين والعمالقة. قال الطبريّ: وبنو لوط الذين بتخوم الحجاز قهروهم سبع سنين، ثم تنبأ فيهم من سبط منشى بن يوسف كدعون بن يواش، وضبطه بفتح الكاف القريبة من الجيم وسكون الدال المهملة بعدها وعين مهملة مضمومة تجلب واوا وبعدها نون، فقام بتدبيرهم. وقد كان لمدين ملكان أحدهما اسمه رابح والآخر صلمناع، فبعث إلى بني إسرائيل عساكره مع قائدين عوديب وزديف، وأهمّ بني إسرائيل شأنهم، فخرج بهم كدعون فهزموا بني مدين، وغنموا منهم أموالا جمة، ومكثوا أيام كدعون هذا على استقامة في دينهم، وغلب لأعدائهم أربعين سنة، وكان له من الولد سبعون ولدا، وعلى عهده بنيت مدينة طرسوس. وقال جرجيس بن العميد: وملطية أيضا. ولما هلك قام بتدبيرهم ولده أبو مليخ، وكانت أمّه من بني شخام [1] ابن منشى بن يوسف من أهل نابلس، فانجدوه بالمال وقتل بني أبيب كلهم ثم نازعوه بنو شخام أخواله الأمر، وطالت حروبه معهم، وهلك محاصرا لبعض حصونهم بحجر طرحته عليه امرأة من السور فشدخه. فقال لصاحب سلاحه أجهز عليّ لئلا يقال قتلته امرأة. وذلك لثلاث سنين من ولايته. ثم دبّر أمرهم بعده طولاع بن فوا بن داود من سبط يساخر، وضبطه بطاء قريبة من التاء تجلب ضمتها واوا ثم لام ألف ثم عين. وقال الطبريّ هو ابن خال أبي مليخ وابن عمه. (قلت) : والظاهر أنه ابن خاله لأن سبط هذا غير سبط ذاك. وقال ابن العميد: هو من سبط يساخر إلا أنه كان نازلا في سائر من جبل أفراييم. فمن هنا والله أعلم وقع اللبس في نسبه، ودبّرهم ثلاثا وعشرين سنة. قال هروشيوش: وعلى عهده كان بمدينة طرونيّة من ملوك الروم اللطينيين برمامش بن بنقش. وملك ثلاثين سنة وقد مضى ذكره. ولما هلك طولاع قام بتدبيرهم بعده يائير بن كلعاد من سبط منشى بن يوسف وضبطه بياء مثناة تحتية مفتوحة وألف ثم همزة مكسورة بعدها ياء أخرى ثم راء مهملة، وقام في تدبيرهم اثنتين وعشرين سنة، ونصب أولاده كلهم حكّاما في بني إسرائيل وكانوا نحوا من ثلاثين، فلما هلك طغوا وعبدوا الأصنام،   [1] وفي نسخة اخرى: سخام. (1) وفي التوراة نفتالي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فسلّط الله عليهم بني فلسطين وبني عمّون فقهروهم ثماني عشرة سنة. وقام بتدبيرهم يفتاح من سبط منشى، وضبطه بياء مثنّاة تحتانية وفاء ساكنة وتاء مثناة من فوق بفتحة تجلب ألفا ثم حاء مهملة، فلما قام بأمرهم طلب ضريبة النحل من بني عمّون فامتنعوا من إعطائها وكانوا ملوكا منذ ثلاثمائة سنة، فقاتلهم وغلبهم عليها وعلى اثنتين وعشرين قرية معها، ثم حارب سبط أفراييم وكانوا مستبدين وحدهم عن بني إسرائيل، فارادهم على اتفاق الكلمة والدخول في الجماعة حتى استقاموا على ذلك، وأقام في تدبيرهم ست سنين. وعلى عهده أصابت بلاد يونان المجاعة العظيمة التي هلك فيها أكثرهم. ولما هلك قام بتدبيرهم أبصان من سبط يهودا من بيت لحم، وضبطه بهمزة مفتوحة وباء موحدة ساكنة وصاد مهملة بفتحة تجلب ألفا وبعدها نون، ويقال أنه جدّ داود عليه السلام، بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناذاب بن رمّ بن حصرون بن بارص بن يهودا. وحصرون هذا هو جدّ كالب بن يوفنّا الّذي دبرهم بعد يوشع. ونحشون كان سيّد بني يهود العهد خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام، وهلك في التيه. ودخل ابنه سلمون أريحا مع يوشع ونزل بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس. قال هروشيوش: في أيام أبصان هذا كان انقراض ملك السريانيين، وخروج القوط وحروبهم مع النبط. وأقام أبصان في تدبير بني إسرائيل سبع سنين ثم ملك. فقام بتدبيرهم إيلون من سبط زبولون وضبطه بهمزة مكسورة تجلب ياء ثم لام مضمومة تجلب واوا ثم نون، فدبّرهم عشر سنين ثم هلك. فدبّرهم عبدون بن هلال من سبط أفراييم ثمان سنين. وقال ابن العميد اسمه عكرون بن هليان وكان له أربعون ابنا وثلاثون حافدا. قال هروشيوش: وفي أيامه خربت مدينة طرونة قاعدة الروم اللطينيين خربها الروم الغريقيون [1] في فتنة بينهم. ولما هلك عبدون دفن بأرض أفراييم في جبال العمالقة واختلف بنو إسرائيل بعده وعبدوا الأصنام وسلّط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة، ثم تخلصهم [2] من أيديهم شمشون بن مانوح من سبط دان، ويعرف بشمشون القوي لفضل قوّة كانت في يده ويعرف أيضا بالجبّار   [1] يعني الروم الاغريقيين. [2] الأصح أن يقول «خلّصهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وكان عظيم سبطه، ودبّر بني إسرائيل عشر سنين بل عشرين سنة، وكثرت حروبه مع بني فلسطين، وأثخن فيهم وأتيح لهم عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه وحبسوه. واستدعاه ملكهم بعض الأيام الى بيت آلهتهم ليكلمه فامسك عمود البيت، وهزه بيده فسقط البيت على من فيه وماتوا جميعا. ولما هلك اضطربت بنو إسرائيل وافترقت كلمتهم وانفرد كل سبط بحاكم يولونه منهم، والكهنونية فيهم جميعا في عقب العيزار بن هارون من لدن وفاة هارون عليه السلام بتوليته موسى صلوات الله عليه بالوحي، ومعنى الكهنونية إقامة القرابين من الذبح والبخور على شروطها وأحكامها الشرعية عندهم. وقال ابن العميد: إنه ولي تدبيرهم بعد شمشون حاكم آخر اسمه ميخائيل بن راعيل، دبرهم ثمان سنين، ولم تكن طاعته فيهم مستحكمة، وأنّ الفتنة وقعت بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم. ثم سكنت الفتنة وكان الكوهن فيهم لذلك العهد عالي بن بيطات بن حاصاب بن إليان بن فنحاص بن العيزار بن هارون، وقيل من ولد ايتامار بن هارون، وضبطه بعين مهملة مفتوحة تجلب ألفا ثم لام مكسورة تجلب ياء تحتانية. فلما سكنت الفتنة كانوا يجرعون إليه في أحكامهم وحروبهم. وكان له ابنان عاصيان، فدفعهما إلى ذلك، وكثر لعهده قتال بني فلسطين، وفشا المنكر من ولديه، وأمر بدفعهم عن ذلك فلم يزدادوا إلّا عتوا وطغيانا، وأنذر الأنبياء بذهاب الأمر عنه وعن ولده، ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم وأصابوا منهم، فتذامر بنو إسرائيل، واحتشدوا وحملوا معهم تابوت العهد، ولقيهم بنو فلسطين، فانهزم بنو إسرائيل أمامهم وقتلوا ابنا عالي كوهن كما أنذر به أبو هما وشمويل. وبلغ أبا هما الكوهن خبر مقتلهما فمات أسفا لأربعين سنة من دولته، وغنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه، واحتملوه إلى بلادهم بعسقلان وغزّة، وضربوا الجزية على بني إسرائيل، ولما مضى القوم بالتابوت فيما حكى الطبريّ، وضعوه عند آلهتهم فقلاها مرارا فأخرجوه إلى ناحية من القرية، فأصيبوا فتبادروا بإخراجه وحملوه على بقرتين لهما تبيعان ووضعتاه عند أرض بني إسرائيل، ورجعتا إلى ولديهما وأقبل إليه بنو إسرائيل فكان لا يدنوا منه أحد إلا مات حتى أذن شمويل لرجلين منهم حملاه إلى بيت أمهما وهي أرملة فكان لك حتى ملك طالوت أهـ. وكان ردّهم التابوت لسبعة أشهر من يوم حملوه، وكان عالي الكوهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 قد كفل ابن عمه شمويل بن الكنا بن يوام بن إلياهد بن ياو بن سوف. وسوف هو أخو حاصاب بن البلى بن يحاص. وقيل إن شمويل من عقب فورح وهو قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوى. ونسبه إليه شمويل بن الفنا بن يروحام بن اليهوذ بن يوحا بن صوب بن ألقافا بن يويل بن عزير ابن صنعينا بن ثاحت بن أسر بن القانا بن النشاسات بن قارون. وكانت أمه نذرت أن تجعله خادما في المسجد، وألقته لك فكفله عالي وأوصى له بالكهونية، ثم أكرمه الله بالنّبوّة، وولاه بنو إسرائيل أحكامهم فدبرهم عشر سنين. وقال جرجيس بن العميد: عشرين سنة ونهاهم عن عبادة الأوثان فانتهوا وحاربوا أهل فلسطين واستردّوا ما كانوا أخذوا لهم من القرى والبلاد، واستقام أمرهم ثم دفع الأمر الى ابنيه يؤال وأبيا، وكانت سيرتهما سيئة. فاجتمع بنو إسرائيل الى شمويل، وطلبوه أن يسأل الله في ولاية ملك عليهم، فجاء الوحي بولاية طالوت. فولاه وصار أمر بني إسرائيل ملكا بعد أن كان مشيخة، والله معقب الأمر بحكمته لا رب غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افتراق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا وبنيامين بالقدس الى انقراضها لما نقم بنو إسرائيل على يؤال وأبيا ابني شمويل ما نقموا من أمورهم، واجتمعوا إلى شمويل، وسألوه من الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم ويجمع نشرهم ويدفع الذل عنهم، فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت ويدهنه بدهن القدس، فأبوا بعد أن أمر شمويل بأن يستهموا عليه، فاستهموا على بني آبائهم، فخرج السهم على طالوت وكان أعظمهم جسما فولوه، واسمه عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل، بالفاء الهوائية القريبة من الباء، ابن صاروا بن نحورت بن أفياح، فقام بملكهم، واستوزر أفنين ابن عمه نير بن أفيل. وكان لطالوت من الولد يهوناتان وملكيشوع وتشبهات وأنبياداف. وقام طالوت بملك بني إسرائيل، وحارب أعداءهم من بني فلسطين وعمون ومؤاب والعمالقة ومدين فغلب جميعهم، ونصر بنو إسرائيل نصرا لا كفاء له. وأوّل من زحف إليهم ملك بني عمّون ونازل قرية بلقاء فهجم عليهم طالوت، وهو في ثلاثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم، ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل الى فلسطين فنال منهم، واجتمعوا لحرب بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت وشمويل فانهزموا واستلحمهم بنو إسرائيل، وأمر شمويل أن يسير إلى العمالقة وأن يقتلهم ودوابهم ففعل، واستبقى ملكهم أعّاع مع بعض الأنام، فجاء الوحي الى شمويل بأنّ الله قد سخطه وسلبه الملك فخبره بذلك، وهجره شمويل فلم يره بعد. وأمر شمويل أن يقدس داود، وبعث له بعلامته فسار إلى بني يهوذا في بيت لحم، وجاء به أبوه أيشا فمسحه شمويل، وسلب طالوت روح الجسد، وحزن لذلك ثم قبض شمويل وزحف جالوت وبنو فلسطين الى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت في العساكر وفيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا، وكان صغيرا يرعى الغنم لأبيه، وكان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطىء. قال الطبريّ: وكان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت، وأعطاه علامة قاتلة، فاعترض بني إسرائيل حتى رأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 العلامة فيه فسلمه وأقام في المصاف. وقد احتمل الحجارة في مخلاته، فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكّه في رأسه ومات، وانهزم بنو فلسطين، وحصل النصر. فاستخلص طالوت حينئذ داود وزوّجه ابنته، وجعله صاحب سلاحه، ثم ولاه على الحروب فاستكفى به. وكان عمره حينئذ فيما قال الطبريّ ثلاثين سنة. وأحبه بنو إسرائيل، واشتملوا عليه، وابتلي طالوت وبنوه بالغيرة منه، وهمّ بقتله ونفذ لذلك مرارا، ثم حمل ابنه يهونتان على قتله، فلم يفعل لخلة ومصافاة كانت بينهما ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه، فلحق بفلسطين وأقام فيهم أياما، ثم إلى بني مؤاب كذلك، ثم رجع الى سبطه يهوذا بنواحي بيت المقدس، فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم، حتى إذا شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه اليه، فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه عنهم، ولحق ببني فلسطين وقاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه، واتبعوه وأولاده يقاتلون دونه حتى قتل يهونتان ومشوى وملكيشوع وبنو فلسطين في اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه. وذلك فيما قال الطبريّ لأربعين سنة من ملكه. ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم، وهو داود بن إيشا بن عوفذ، بالفاء الهوائية، ابن بوغر واسمه أفصان بالفاء، الهوائية والصاد المشمة. وقد قدّمنا ذكره في حكّام بني إسرائيل بن سلمون الّذي نزل بيت لحم لأوّل الفتح ابن نحشون سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر ابن عميناذاب بن إرم بن حصرون بن بارص بن يهوذا، هكذا نسبه في كتاب اليهود والنصارى، وأنكره ابن حزم قال: لأن نحشون مات بالتيه وإنما دخل القدس ابنه سلمون، وبين خروج بني إسرائيل من مصر وملك داود ستمائة سنة باتفاق منهم، والّذي بين داود ونحشون أربعة آباء، فإذا قسمت الستمائة عليهم يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة والثلاثين سنة وهو بعيد. ولما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية، وهي قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد، واجتمع الأسباق كلهم إلى يشوشات بن طالوت، فملكه في أورشليم وقام بأمره وزير أبيه أفيند وقد مرّ نسبه. وفي كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات أنّ رجلا جاء الداود بعد وفاة طالوت، فأخبره بمهلكه ومهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين، وأمر هذا الرجل أن يقتله لما أدركوه، فقتله وجاء بتاجه ودملجه إلى داود، وانتسب الى العمالقة، فقتله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 داود بقتله، وبكى على طالوت، وذهب الى سبط يهوذا بأرض حفرون بالفاء القريبة من الباء، وهي قرية الخليل لهذا العهد، وأقام شيوشيات [1] بن طالوت في أورشليم، والأسباط كلهم مجتمعون عليه، وأقامت الحرب بينهم وبين داود أكثر من سنتين، ثم وقع الصلح بينهم والمهادنة، وأذعن الأسباط الى داود وتركوه، ثم اغتاله بعض قواده وجاء برأسه الى داود فقتله به. وأظهر عليه الحزن والأسف وكفل أخواته وبنيه أحسن كفالة. واستبدّ داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره وقاتل بني كنعان فغلبهم، ثم طالت حروبه مع بني فلسطين، واستولى على كثير من بلادهم، ورتب عليهم الخراج. ثم حارب أهل مؤاب وعمّون وأهل أدوم وظفر بهم وضرب عليهم الجزية، ثم خرّب بلادهم بعد ذلك، وضرب الجزية على الأرمن بدمشق وحلب، وبعث العمّال لقبضها. وصانعه ملك انطاكية بالهدايا والتحف، واختط مدينة صهيون وسكنها واعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليها. فأوحى الله الى دانيال نبيّ على عهده أنّ داود لا يبني وانما يبنيه ابنه ويدوم ملكه فسرّ داود بذلك. ثم انتقض عليه ابنه ابشلوم، وقتل أخاه أمون غيرة منه على شقيقه بأمان وهرب. ثم استماله داود ورده، وأهدر دم أخيه وصيّر له الحكم بين الناس. ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط، ولحق داود بأطراف الشام وقيل لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز، ثم تراجع للحرب فهزمه داود وأدركه يؤاب وزير داود وقد تعلق بشجرة فقتله، وقتل في الهزيمة عشرون ألف من بني إسرائيل، وسيق رأس قشلوط لوليّ أبيه داود فبكى عليه وحزن طويلا، واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه. ثم أحصى بني إسرائيل فكانوا ألف ألف ومائة ألف، وسبط يهوذا أزيد من أربعمائة ألف. وعوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير اذن، وأخبره بذلك بعض الأنبياء لعهده. وأقام داود صلوات الله عليه في ملكه والوحي يتتابع عليه، وسور الزبور تنزل. وكان يسبح بالأوتار والمزامير، وأكثر المزامير المنسوبة إليه في ذكر التسبيح وشأنه. وفرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبح بالمزامير قدّام تابوت العهد اثني عشر كوهنا لكلّ   [1] وهكذا بالأصل. وفي مكان آخر يشوشات وفي الشجرة: أشوشان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 ساعة. ثم عهد عند تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان صلوات الله عليهما، ومسحه مابان النبي وصادوق الخبر مسحة التقديس، وأوصى ببناء بيت المقدس. ثم قبض صلوات الله عليه ودفن في بيت لحم، وكان لعهده من الأنبياء نامان وكاد وآصاف. وكان الكهنون الأعظم افيثار بن أحيلج من عقب عالي الكوهن الّذي ذكرناه في الحكام، وكان من بعده صادوق. ثم قام بالملك من بعده من بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، فاستفحل ملكه وغالب الأمم، وضرب الجزية على جميع ملوك الشام مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب وأدوم والأرمن، وأصهر إليه لملوك من كل ناحية ببناتهم، وكان ممن تزوّج بنت فرعون مصر. وكان وزيره يؤاب بن نيثرا وهو ابن أخت داود اسمها صوريا، وكان وزيرا لداود فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته ثم قتله بعد ذلك، واستوزر يشوع بن شيداح [1] ، ولأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك، فلم يزل إلى آخر دولته بعد ان هدم مدينة انطاكية وبنى مدينة تدمر في البرية وبعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان، وأجرى على الفعلة فيه في كل عام عشرين ألف كرّ [2] من الطعام ومثلها من الزيت ومثلها من الخمر. وكان الفعلة في لبنان سبعين ألفا ولنحت الحجارة ثمانين ألفا وخدمة المناولة سبعون ألفا، وكان الوكلاء والعرفاء على ذلك العمل ثلاثة آلاف وثلاثمائة رجل. ثم بنى الهيكل وجعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين وعرض عشرين. وجعل بدائرة كله أروقة وفوقها مناظر، وجعل بدائر البيت ابريدا من خارج، ونمقه وجعل الظهر مقوّرا ليودع فيه تابوت العهد. وصفّح البيت من داخله وسقفه بالذهب، وصنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب وهما تمثالان للملائكة الكروبيين، وجعل للبيت أبوابا من خشب الصنوبر، ونقش عليها تماثيل من الكروبيين والنرجس والنخل والسوسن وغشاها كلها بالذهب. وأتمّ بناء الهيكل في سبع سنين، وجعل لها بابا من ذهب، ثم بنى بيتا لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر في كل صف خمسة عشر عمودا، ووضع فيه مائتي   [1] وفي التوراة: يشوع بن شيراخ. [2] الكرّ: مكيال قيل انه أربعون اردبا (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 ترس من الذهب، في كل ترس ستمائة من حجر الجوهر والزمرد، وثلاثمائة درقة من الذهب، في كل درقة ثلاثمائة من حجر الياقوت، وسمى هذا البيت غيضة لبنان. وصنع منبرا لجلوسه تحت رواق وكراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من الذهب. ثم بنى من فوق هذا البناء بيتا لابنة فرعون التي تزوج بها، وصنع بها أوعية النحاس لسائر ما يحتاج إليه بالبيت، واسترضى الصناع لذلك من مدينة صور. وعمل مذبح القربان بالبيت من الذهب، ومائدة الخبز الوجوه من الذهب، وخمس منابر عن بمين الهيكل، وخمسا عن يساره بجميع آلاتها من الذهب، ومجامر من الذهب. وأحضر موروث أبيه من الذهب والفضة والأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت، وبعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الّذي بناه له، فحمله رؤساء الأسباط والكهنونية على كواهلهم حتى وضعوه تحت أجنحة التمثالين للكروبيين بالمسجد. وكان في التابوت اللوحان من الحجارة اللذين صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة، وحملوا مع تابوت العهد قبة القربان وأوعيتها إلى المسجد. وأقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود، اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح فيها اثنتين وعشرين ألفا من البقر، ثم كان يقرّب ثلاث مرات من السنة قرابين وذبائح كاملة، ويبخر البخور وجميع الأوعية لذلك كلها ذهب. وكانت جبايته في كل سنة ستمائة قنطار وستة وستون قنطارا من الذهب، غير الهدايا والقربان إلى بيت المقدس. وكانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب والفضة والبضائع والفيلة والقرود والطواويس، وكانت له خيل كثيرة مرتبة تجلب من مصر وغيرها تبلغ الفا وستمائة فرس معدة كلها للحرب. وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة وسرية منها ثلاثمائة سرية. وفي الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج فوافى الحرم واقام به ما شاء الله، وكان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم سما إلى ملك اليمن وسار إليه فوافى صنعاء من يومه، وطلب الهدهد لالتماس الوضوء، وكانت قناقنه أي ملتمس الوضوء له في الأرض فافتقده، ورجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن. ودافعته بالهدية فلم يقبلها، فلاذت بطاعته ودخلت في دينه وطاعته، وملكته أمرها ووافته بملك اليمن، وأمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك فقال لا بدّ في الدين من ذلك. فقالت زوّجني ذا تبّع ملك همدان فزوّجها إياه وملكه على اليمن واستعملها فيه ورجع إلى الشام. وقيل تزوّجها وأمر الجنّ فبنوا لها سليمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وغمدان. وكان يزورها في الشهر مرّة يقيم عندها ثلاثا، وعلماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز واليمن، وإنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبإ، وانها وفدت عليه في أورشليم، وأهدت إليه مائة وعشرين قنطارا من الذهب، ولؤلؤا وجوهرا وأصنافا من الطيب والمسك والعنبر فأجازها وأحسن إليها. وانصرفت، هكذا في كتاب الأنساب من كتبهم. ثم انتقض على سليمان آخر أيامه هدرور ملك الأرمن بدمشق، وهداد ملك أدوم، وكان قد ولى على ضواحي بيت المقدس وجميع أعماله يربعان بن نباط من سبط أفرايم، واستكفى به في ذلك، وكان جبارا فعوتب بالوحي على لسان أخيا النبي في توليته فأراد قتله، وشعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر، فأنكحه فرعون ابنته وولدت له ابنه ناباط وأقام بمصر. وقبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه، وقيل اثنتين وخمسين، ودفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما. وافترق ملك بني إسرائيل من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الخبر عن افتراق بنى إسرائيل منهم ببيت المقدس على سبط يهوذا وبنيامين الى انقراضه لما قبض سليمان صلوات الله عليه وسلامه، ولي ابنه رحبعم [1] ، وضبطه براء مهملة وحاء مهملة مضمومتين وباء موّحدة ساكنة وعين مهملة مضمومة وميم، فقام بأمره وزاد في عمارة بيت لحم وغزّة وصور وأيلة، واشتدّ على بني إسرائيل وطلبوا منه تخفيف الضرائب، فامتنع وطالبهم بالوظائف، وأخذ فيهم برأي الغواة من بطانته، فنقموا عليه ذلك وانتقضوا. وجاءهم يربعم بن نباط من مصر، فبايعوه وولّوه عليهم، واجتمع عليه سائر الأسباط العشرة من بني إسرائيل، ما عدا سبط يهوذا وبنيامين، وتزاحفوا للحرب. ثم دعاهم بعض أنبيائهم للصلح فتواضعوا واصطلحوا. وفي السنة الخامسة من ملك رحبعم زحف شيشاق ملك مصر إلى بيت المقدس، فهرب رحبعم، واستباحها شيشاق ورجع وضرب عليهم الجزية، ثم دفعوه ومنعوه. فأقام بنو داود في سلطانهم على بني يهوذا وبنيامين ببيت المقدس وعسقلان وغزة ودمشق وحلب وحمص وحماة وما إلى ذلك من أرض الحجاز، وملك الأسباط العشرة بنواحي نابلس وفلسطين، ثم نزلوا مدينة شومرون وهي شمرة وسامرة في الناحية الشرقية الشمالية من الشام مما يلي الفرات والجزيرة، واتخذوها كرسيّا لملكهم ذلك، وأقاموا على هذا الافتراق إلى حين انقراض أمرهم، ووقعوا في الجلاء الّذي كتب الله عليهم كما نذكره. ثم هلك رحبعم لسبع عشرة سنة من دولته، وولي بعده على سبط يهوذا وبنيامين بأرض القدس ابنه أفيا [2] ، وضبطه بهمزة مفتوحة ومتوسطة بين الفاء والذال من لغتهم وياء مثناة من تحت مشدّدة وألف، وكان على مثل سيرة أبيه. وكان عابدا صوّاما، وكانت أيامه كلها حربا مع يربعم بن نباط وبني إسرائيل، وهلك لثلاث سنين. وولى بعده ابنه أسا [3] ، بضم الهمزة وفتح السين المهملة وألف   [1] وفي التوراة: ورد اسمه رحبعام. [2] وفي نسخة اخرى: أبيّا. [3] وفي نسخة أخرى: آسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 بعدها، ابن أفيا. وطال أمد ملكه، وكان رجلا صالحا، وكان على مثل سيرة جدّه داود صلوات الله عليه، وتعدّدت الأنبياء في بني إسرائيل على عهده، ومات يربعم بن نباط لسنتين من ملكه، وملك بعده ابنه ناداب وقتله يعشا بن أحيا كما نذكر في أخبارهم. ثم وقعت بينه وبين أسا حروب، واستمد اسا بملك دمشق فزحف معه، وكان يعشا ملك السامرة في ناحية يثرب لبنائها، فهرب وترك آلات البناء، فنقلها أسا ملك القدس وبنى بها الحصون. ثم خرج عليهم زادح ملك الكوش في ألف ألف مقاتل، ولقيهم أسا فهزمهم وأثخن فيهم. ولم تزل الحرب قائمة بين أسا وبين الأسباط بالسامرة سائر أيامه، وعلى عهده اختطت السامرة كما نذكر بعد. ثم هلك أسا بن أفيا لإحدى وأربعين سنة من ملكه، وولي بعده ابنه يهوشاظ [1] ، بياء مفتوحة مثناة تحتانية وهاء مضمومة وواو ساكنة وشين معجمة بعدها ألف ثم ظاء بين الذال والظاء المعجمتين، فكان على مثل سيرة أبيه، وكانت أيامه مع أهل السامرة وملوكهم سلما. واجتمع ملوك العمالقة، ويقال أروم [2] ، وخرج لحربهم فهزمهم وغنم أموالهم. وكان لعهده من الأنبياء إلياس بن شوياق، واليسع بن شوبوات. وقال ابن العميد: إيليا ومنحيا وعبوديا. وكانت له سفن في البحر يجلب له فيها بضائع الهند فأصابها قاصف الريح فتكسرت وغرقت. ثم هلك لخمسة وعشرين سنة من ملكه، وولي ابنه يهورام [3] ، بفتح المثناة التحتية ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم راء مفتوحة تجلب ألفا وبعدها ميم، وانتقض عليه أروم، وولوا عليهم ملكا منهم، فزحف إليهم [4] ووقع بهم في سفيرا أوسط بلادهم، وأثخن فيهم بالسبي والقتل. ثم رجع عنهم، وأقاموا في عصيانهم. وعلى عهده زحف ملك الموصل إلى الأسباط بالسامرة، فكانت بينه وبينهم حروب كما نذكر. وقال ابن العميد: كانت على بني مؤاب جزية مضروبة لبني يهوذا، مائتان من الغنم كل سنة، فمنعوها، واجتمع ملوك القدس والسامرة لحربهم وحاصروهم سبعة أيام، وفقدوا الماء فاستسقى لهم اليسع وجرى الوادي. فخرج أهل مؤاب فظنوه ماء،   [1] وفي نسخة أخرى: يهوشافاط. [2] وفي نسخة اخرى: أدوم. [3] وفي التوراة: يورام. [4] وفي نسخة أخرى: زحف فيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 فقتلهم بنو إسرائيل وأثخنوا فيهم. وفي أيام يهورام رفع إيليا النبي وانتقل سره الى اليسع، وكان على عهده من الأنبياء أيضا عبوديا. ثم هلك يورام لثمان سنين من ملكه، ودفن عند جدّ داود، وولي بعده ابنه أحزياهو [1] ، بهمزة مفتوحة وحاء مهملة مضمومة وزاي معجمة ساكنة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا، وأمّه غثليا بنت عمري أخت أجاب [2] وسار سيرة خاله، وملك سنة واحدة، وقيل سنتين، وخرج لقتال ملك الجزيرة والموصل واستنفر معه صاحب السامرة يورام ابن خاله أجاب، فاقتتلوا معه ثم انصرفوا وابن خاله جريح. وجاءه أحزياهو في بعض الأيام يعوده وكان [3] ابن يهوشافاض بن منشي من سبط منشا بن يوسف يترصد قتل يورام بن أجاب ملك السامرة، فأصاب فرصة في ذلك الوقت فقتلهما جميعا. وقال ابن العميد انّ يورام بن أجاب ملك السامرة خرج لحرب أروم، في رواية كلعاد وخرج معه أحزياهو فقتلا في تلك الحرب. قال: وقيل ان ياهوعشّا رمى بسهم فأصاب يورام بن أجاب. وكان لعصره من الأنبياء اليسع وعامور وفنحاء. ثم ملك بعد أحزيا أمه عثليا بنت عمري كذا وقع اسمها في كتاب الطبري، وفي كتاب الإسرائيليات اسمها أضالية. ويقال كانت من جواري سليمان، ثم استفحل ملكها بالقدس وقتلت بني داود كلهم، وأغفلت ابنا رضيعا من ولد أبيها أحزياهو اسمه يؤاش، بضم الياء المثناة التحتية ثم همزة مفتوحة تجلب ألفا ثم شين معجمة، أخفته عمته يهوشيع بنت يهورام في بعض زوايا القدس، وعلم بمكانه زوجها يهود يادع [4] وهو يومئذ الكوهن الأعظم. حتى إذا كملت له سبع سنين، ونقم بنو يهوذا سيرة عثليا، اجتمعوا إلى يهود يادع الكوهن فاخرج لهم يؤاش بن أحزياهو من مكانه، واستحلفهم فبايعوا له وقتلوا جدّته عثليا ومن معها لسبع سنين من ملكها.   [1] وفي التوراة: أحزيا. [2] وفي نسخة أخرى أخاب. [3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 1 ص 254 ثم ملك بعد آسا ابنه سافاط وفي شرحه: هو يهوشافاط ولم يذكر شيئا عن ابن يهوشافاط، اوسافاط، أو يهوشافاض هذا. والّذي في التوراة: يهورام بن يهوشافاط- الاصحاح الثامن من سفر الملوك الثاني. [4] وفي نسخة أخرى: يهوياداع وكذلك في التوراة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وقام يؤاش بملكه في تدبير يهوديادع الكوهن، ثم أراد عبادة الأصنام، فمنعه زكريا النبيّ فقتله. وكان لعهده من الأنبياء اليسع وعوفريا وزكريا بن يهوديادع. وهلك يهوديادع لثلاث وعشرين سنة من ملك يؤاش بعد أن جدّد يؤاش بيت المقدس، ولثمان وثلاثين من ملكه قبض اليسع النبي صلوات الله عليه، وعلى عهده زحف شريال ملك الكلدانيين ببابل إلى بيت المقدس، ويقال ملك نينوى والموصل. وقال ابن العميد: ملك الشام فأعطاهم جميع ما في خزائن الملك وبيت المقدس من الأموال، ودخل في طاعتهم إلى أن قتله وزراؤه وأهل دولته لأربعين سنة من ملكه. وولّوا مكانه ابنه أمصيا هو، بفتح الهمزة والميم وسكون الصاد المشمة بالزاي بعدها ياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا، واستبدّوا عليه ثم ثار عليهم بأمه وقتلهم أجمعين. وسار إلى أروم فظفر بهم، وقتل منهم نحوا من عشرين ألفا، ثم زحف إليه ملك الأسباط بالسامرة [1] ولقيه فهزمه وحصل في أسره. وسار الى بيت المقدس فحاصرها، وهدم من سورها نحوا من أربعمائة ذراع، واقتحمها فغنم ما في خزائن بيت السلطان، وبيت الهيكل من الأموال والأواني والذخائر ورجع إلى السامرة، فأطلق أمصيا هو ملك القدس، فرجع إلى قومه ورمّ ما تثلّم من سورها. ولم يزل مملكا حتى نقموا عليه أفعاله فقتلوه لسبع وعشرين سنة من ملكه. وكان لعهده من الأنبياء يونان وناحوم، وتنبأ لعصره عاموص. ولما قتلوا أمصيا هو ولّوا ابنه عزيا هو [2] ، بعين مهملة مضمومة وزاي معجمة مكسورة مشدّدة وياء مثناة تحتانية تجلب ألفا وهاء تجلب واوا، وطالت مدّته ثلاثا وخمسين سنة، واختلفت فيها أحواله. قال ابن العميد: ولخمس من ملكه كان ابتداء وضع سنيّ الكبس [3] التي هي سنة بعد أربع تزيد يوما على الماضية بحساب ربع يوم في كل سنة الّذي اقتضاه حساب مسير الشمس عندهم. قال: ولست من ملكه انقرض ملك الأرمانيين من الموصل وصارت إلى بابل، لاثنتين وعشرين من ملكه غزا ملك بابل واسمه فول مدينة السامرة فاقتحمها، وأعطاه ملكها بدرة من المال فرجع عنه. قال: ولعهده ملك على بابل رينوس ويلقب قطب الملك، ولعهده ملك على   [1] كذا بياض بالأصل وفي التوراة يوآش بن يوآحاز بن ياهو. [2] وفي التوراة: عزريا هو. [3] وهي السنة الكبيسة اي 2/ 365 يوما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 اليونانيين ملكهم الأول من مدينة أنقياس لثلاث وعشرين سنة من تملك عزيا هو. قال: ولإحدى وخمسين من ملكه ملك ببابل بخت نصّر الأول. قال: ولعهده أيضا كان الملك الأوّل من الروم المقدويس ويسمى فروس. ولعهده كان من الأنبياء يوشع وغوزيا وأموص وأشعيا ويونس بن متى. قال ابن العميد وانتهت عساكر عزيا هو إلى ثلاثمائة ألف، وأصابه البرص بدعاء الكوهن لما أراد أن يخالف التوراة في استعمال البخور وهو محرم على سبط لاوى، فبرص ولزم بيته سنة وصار ابنه يؤام ينظر في أمر الملك إلى أن تغلب على أبيه. قال هروشيوش: وعلى عهده أيضا قتل شرديال آخر ملوك بابل من الكلدانيّين على يد قائده أرباط بن المادس، واستبدّ بملك بابل وأصاره إلى قومه بعد حروب طويلة، ثم زحف إلى القوط والعرب من قضاعة فحاربهم طويلا وانصرف عنهم. ثم هلك عزيا هو لثلاث وخمسين سنة من ملكه، وملك بعده ابنه يؤاب وكان صالحا تقيا، وكان لعهده من الأنبياء هوشيع [1] وأشعيا ويويل [2] وعوفد. وفي أيامه ابتدأ غلب ملك الجزيرة على اليهود وكانوا يعرفون بالسوريانيين. ثم هلك يوآب لست عشرة من ملكه، وملك ابنه أحاز، بهمزة مفتوحة ممالة وحاء مهملة تجلب ألفا وزاي معجمة، فخالف سنة آبائه، وعبد بنو إسرائيل الأوثان في أيامه، وحارب الأرمن واستجاش عليهم بملك الموصل، فزحف معه وحاصر دمشق وملكها منهم واستباحها، ورجع إلى بلاده. ثم خرج أحاز لحربهم فهزموه وقتلوا من اليهود مائة وعشرين ألفا ونحوها، وارجعوا أحاز الى دمشق أسيرا. قال هروشيوش: وعلى عهد أحاز كان انقراض ملك الماريس على يد كيرش ملك الفرس، ورجعت أعمالهم إليه. ويقال: انّ آخر ملوكهم هو اشتانيش، وكان جد كيرش لامّه، وكفله صغيرا فلما شب وملك حارب جدّه فقتله وانتزع ملكه. وقال ابن العميد عن المسبحي: ولذلك العهد ملك على الروم الفرنجة غير اليونان، الاخوان روملس ورومانس، واختط مدينة رومة. وقال هروشيوش: ولعهده ملك على الروم اللطينيين بأرض أنطاكية روملس، ثم مركة وبنى مدينة رومة.   [1] وفي نسخة اخرى: هو سيع. [2] وفي نسخة اخرى: يوئيل كما في التوراة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ثم هلك أحاز لست عشرة من ملكه، وولى ابنه حزقيا هو، بحاء مهملة مكسورة وزاي معجمة ساكنة وقاف مكسورة وياء مثناة تحتانية مشددة تجلب ألفا وهاء مضمومة تجلب واوا، فقطع عبادة الأوثان وسار سيرة جدّه داود، ولم يكن في ملوك بني يهوذا مثله. وعصى على ملك الموصل وبابل وكوريش [1] وهزم فلسطين وخرّب قراهم. وفي أيامه وأيام أبيه سار شليشار ملك الجزيرة والموصل إلى الأسباط بالسامرة، فضرب عليهم الجزية. ثم سار في أيامه فأزال ملكهم. ولأربع من ملكه زحف إليه رضين ملك دمشق ورجع عنه من غير قتال. ولا ربع عشرة من ملكه زحف إليه سنجاريف [2] ملك الموصل بعد فتح السامرة، فافتتح أكثر مدائن يهوذا وحاصرهم ببيت المقدس. وصانعه حزقيا هو بثلاثمائة قنطار من الفضة وثلاثين من الذهب أخرج فيها ما كان في الهيكل، وبيت الملك من المال ونثر الذهب من أبواب المسجد، دفع ذلك له ورجع عنه. ثم فسد ما بينهما وزحف إليه سنجاريف ثانيا وحاصره وامتنع من قبول مصانعته، وقال: من ذا الّذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم أنتم إلهكم. فخافوا منه وفزعوا إلى النبي شعيا في الدعاء فأمنهم منه ودعا عليه فوقع الطاعون في عسكره، ثم تواقعوا في بعض الليالي، فبلغ قتلاهم مائة وعشرين ألفا ورجع سنجاريف إلى نينوى والموصل، فقتله أبناؤه وهربوا إلى بيت المقدس وملك ابنه السرمعون. وقال الطبري إنّ ملك بني إسرائيل أسر سنجاريف وأوحى الله الى شعيا أن يطلقه فأطلقه. قال: وقيل إنّ الّذي سار إليه سنجاريف من ملوك بني إسرائيل كان أعرج، وأنّ سنجاريف لعهد ملك أذربيجان، وكان يدعى سليمان الأعسر، فلما نزل بيت المقدس صار بينهما أحقاد كامنة، فتواقعوا وهلك عامّة عسكرهما، وصار ما معهما غنيمة لبني إسرائيل، وبعث ملك بابل إلى حزقيا ملك الفرس بالهدايا والتحف، فأعظم موصلها، وبالغ في كرامة الوفد وفخر عليهم بخزانته وطوفهم عليها، فنكر ذلك عليه شعيا النبي وأنذره بان ملوك بابل يغنمون جميع هذه الخزائن، ويكون من أبنائك خصيان في قصرهم. ثم هلك حزقيا هو لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي ابنه منشا، بميم مكسورة ونون   [1] وفي نسخة اخرى توريش. [2] وفي التوراة: سنحاريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مفتوحة وشين معجمة مشدّدة وألف، وكان عاصيا قبيح السيرة، وكانت آثاره في الدين شنيعة، وأنكر عليه شعيا النبي أفعاله، فقتله نشرا بالمناشير من رأسه إلى مغرق ساقيه، وقتل جماعة من الصالحين معه. وفي التاسعة والثلاثين من ملكه، ملك سنجاريف الصغير مملكة الموصل قاله ابن العميد وفي الثانية والخمسين بنيت بوزنطية بناها بورس الملك، وهي التي جددها قسطنطين وسمّاها باسمه. وفي أيامه ملك برومة قنوقرسوس الملك، وفي الحادية والخمسين من ملكه زحف سنجاريف ملك الموصل إلى القدس فحاصرها ثلاث سنين، وافتتحها في الرابعة والخمسين من ملكه. وولي بعده ابنه أمون، بهمزة قريبة من العين والميم مضمومة تجلب واوا ثم نون، وكانت حاله مثل حال أبيه فملك سنتين، وقيل اثنتي عشرة، ثم اغتاله عبيده فقتلوه، واجتمع بنو يهوذا فقتلوا أولئك العبيد، وأقاموا ابنه يوشيا مكانه، وضبطه بياء مثناة تحتية مضمومة تجلب واوا بعدها شين معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا. فلما ملك أحسن السيرة وهدم الأوثان وكان صالح الطريقة مستقيم الدين، وقتل كهنة الأصنام وهدم البيوت والمذابح التي بناها يربعام بن نباط بالبرابرة. وكان في أيامه من الأنبياء صفونا [1] وكلدي امرأة شالوم وناحوم. وتنبأ لعهده أرمياء بن ألحيا [2] من نسل هارون، وأخبرهم بالجلاء إلى بابل سبعين سنة، فأخذ يوشيا قبة القربان وتابوت العهد وأطبق عليهما في مغارة فلم يعرف مكانهما من بعد ذلك. وفي أيامه ملك المجوس بابل. ولإحدى وثلاثين من دولته ملك فرعون الأعرج مصر وزحف لقتال مسيح بالفرات، فخرج يوشيا لحربه وانهزم يوشيا فهلك بسهم أصابه لاثنتين وثلاثين من دولته. وولى بعده ابنه يوآش، ويقال اسمه يهوياحاز فعطل أحكام التوراة، وأساء السيرة، فزحف إليه فرعون الأعرج، وأخذه ورجع به إلى مصر فمات لك. وضرب على أرضهم الخراج مائة قنطار فضة وعشرة ذهبا، وكانت ولايته ثلاثة أشهر. وولّوا مكانه أخاه ألياقيم بن يوشيا، بهمزة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتانية يجلب فتحها ألفا وقاف مكسورة تجلب ياء ثم ميم، وكان عاصيا كافرا، وكان يأخذ الخراج لفرعون من بني يهوذا على قدر أحوالهم. ثم زحف إليه بخت نصّر ملك بابل لسبع من ولاية ألياقيم،   [1] وفي التوراة: صفنيا بن كوشي- نبوّة صفنيا- الفصل الاولى. [2] وفي التوراة: إرميا بن خلقيا- نبوّة ارميا، الفصل الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 فملك الجزيرة وسار إلى بيت المقدس فضرب عليهم الجزية أولا، ودخل ألياقيم في طاعته ثلاث سنين، وسلط الله عليه أروم وعمون ومؤاب والكلدانيين، ثم انتقض عليه فسرح الجيوش اليه، فقبضوا عليه واحتملوه الى بابل، فهلك في طريقه لإحدى عشرة سنة من ملكه. وولى بخت نصّر مكانه ابنه يخنيو، بفتح الياء المثناة التحتانية بعدها خاء معجمة مضمومة ثم نون ساكنة وبعدها ياء تحتانية تجلب ضمتها واوا، فأقام ثلاثة أشهر، ثم زحف إليه وحاصره، وأخرج إليه أمّه وأشراف مملكته فأشخصهم الى بلده. وجمع أهله ورجال دولته وسائر بني إسرائيل نحوا من عشرة آلاف، واحتملهم أسارى إلى بابل، وغنم جميع ما كان في الهيكل والخزائن من الأموال وجميع الأواني التي صنعها سليمان للمسجد، ولم يترك بمدينة القدس إلا الفقراء والضعفاء وبقي يخنيو ملك بني إسرائيل محبوسا سبعا وثلاثين سنة. وقال ابن العميد: إنّ بخت نصّر سار إلى القدس في الثالثة من مملكة ألياقيم، وسبى طائفة منها، وانتهب جميع ما في بيت الهيكل. وكان في سنة دانيال وخانيا وعزاريا وميصائل. وانّ في السنة الخامسة من ملكه قاتل بخت نصّر فرعون الأعرج ملك مصر، وفي الثانية من ملك الياقيم غزا بخت نصّر القدس ووضع عليهم الخراج وأبقى الياقيم في ملكه وهلك لثلاث سنين بعد ذلك وملك ابنه يخنيو. وكان لعهده من الأنبياء ارميا وأوريا بن شعيا وموري والد حزقيا. وفي أيامه تنبأ دانيال، ثم سار بخت نصّر ليخنيو فأشخصه الى بابل كما مرّ. وقال الطبري ووافقه نقل هروشيوش: إنّ بخت نصّر ولّى مكان يخنيو بن الياقيم عمه متنيا، بميم مفتوحة وتاء مثناة فوقانية مفتوحة مشدّدة ونون ساكنة وياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا، ويسمّى صدقيا هو، وكان عاصيا قبيح السيرة، ولتسع سنين من ولايته انتقض على بخت نصّر، فزحف إليه في العساكر وحاصر بيت المقدس وبنى عليها المدر للحصار، وأقام ثلاث سنين واشتدّ الحصار بهم، فخرجوا هاربين منها إلى الصحراء واتبعهم العساكر من الكلدانيين وأدركوهم في أريحا، فقبض على ملكهم صدقيا هو وأتى به أسيرا فسمل عينيه. وقال الطبري: وذبح ولده بمرأى منه، ثم اعتقله ببابل إلى أن مات. ولحق بعض من بني إسرائيل بالحجاز فأقاموا مع العرب، وكان لعهده من الأنبياء ارميا وحبقون وباروح. وبعث بخت نصّر قائده نبو زراذون، بنون مفتوحة وباء موحدة مضمومة تجلب واوا بعدها زاي وراء مفتوحة تجلب ألفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وذال مضمومة تجلب واوا بعدها نون، بعثه إلى مدينة القدس، وكانوا يدعونها مدينة يروشالم [1] ، فخرّبها وخرّب الهيكل وكسر عمد الصفر التي نصبها سليمان في المسجد طول كل عمود منها ثمانية عشر ذراعا وطول رءوسها ثلاثة أذرع، وكسر صرح الزجاج وسائر ما كان بها من آثار الدين والملك، واحتمل بقية الأواني وما كان وجده من المتاع، وسبى الكوهن سارية والحبر منشا وخدمة الهيكل إلى بابل. قال هروشيوش: وأبقى صدقيا هو محبوسا ببابل إلى أن أطلقه بزداق قائد بهمن ملك الفرس حين غلبوا على بابل فأطلقه ووصله وأقطعه. وقال مؤرخ حماة [2] ووافقه المسعودي: انّ بخت نصّر بعد تخريب القدس هرب منه بعض ملوك بني إسرائيل إلى مصر وبها فرعون الأعرج، وطلبه بخت نصّر فأجاره فرعون وسار إليه بخت نصّر فقتله وملك مصر. وافتتح من المغرب مدائن وبث فيها دعاته، وكان إرمياء نبي بني إسرائيل من سبط لاوى، ويقال اسمه إرمياء بن خلقيا، وكان على عهده صدقيا هو ووجده بخت نصّر في محبسهم فأطلقه واحتمله معه في السبي الى بابل، وقيل انه مات في محبسه ولم يدركه بخت نصّر. وكذلك احتمل معهم دانيال بن حزقيل من أنبيائهم. وقال ابن العميد: وولي جدليا بن أحان على من بقي من ضعفاء اليهود بالقدس، ولسبعة أشهر من ولايته قام إسماعيل بن متنيا بن إسماعيل من بيت الملك فقتل جدليا واليهود والكلدانيين الذين معهم، ثم هرب إلى مصر وهرب معه ارميا، وهرب حبقون إلى الحجاز فمات وكان قيما ولحقهم بمصر. وتنبأ ارمياء في مصر وبابل وأورشليم وصور وصيدا وعمون ثمانية وثلاثين سنة، ورجمه أهل الحجاز فمات. وكان فيما أخبرهم به مسير بخت نصّر الى مصر وتخريبه هياكلها وقتله أهلها. ولما دخل بخت نصّر مصر نقل جسده الى الإسكندرية ودفنه بها، وقيل دفن بالقدس لوصيته. وأمّا حزقيا هو فقتله اليهود في السبي. قال الطبري: وافترقت جالية بني إسرائيل في نواحي العراق الى ان ردّهم ملوك الفرس الى القدس فعمروه وبنوا مسجده. وكان لهم فيه ملك في دولتين متصلتين الى أن وقع بهم الخراب الثاني والجلوة الكبرى على يد طيطش من ملوك القياصرة كما نذكر بعد.   [1] أو أورشليم. [2] يعني أبي الفداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 ولنذكر هنا ما وقع من الخلاف في نسب بخت نصّر هذا، والى من يرجع من الأمم: فقد ذهب قوم الى أنه من عقب سنجاريف ملك الموصل الّذي كان يقاتل بني إسرائيل والسامرة بالقدس. قال هشام بن محمد الكلبي فيما نقل الطبري: هو بخت نصّر بن نبوزراذون بن سنجاريف، ثم نسب سنجاريف إلى نمروذ بن كوش بن حام الّذي وقع ذكره في التوراة في ولدكوش وعدّ بين سنجاريف والنمروذ ستة عشر أبا أو نحوها أوّلهم داريوش بن فالغ وعصا [1] بن نمروذ، أسماء غير مضبوطة يغلب على الظنّ تصحيفها لعدم دراية الأصول وقلّة الوثوق بضبطها. وقيل إنّ بخت نصّر من نسل أشوذ [2] بن سام، ولم يقع إلينا رفع هذا النسب ولعله أصح من الأوّل لأنه قد تقدّم نسب سنجاريف في الجرامقة ثم في الموصل منهم وهم من ولد أشوذ باتفاق من أهل فارس، نقله أيضا الطبري عن ابن الكلبي، وان اسمه بختمرسه فسمي بخت نصّر، وكان يملك ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة أيام هراسب ويستاسب وبهمن من ملوك الفرس، وانه افتتح ما يليه من بلاد بابل والشام ثم سار الى القدس فافتتحها كما تقدّم، وقيل ان بهمن بعث رسله إلى القدس في طلب الطاعة منهم فقتلوه، فبعث بهمن أصبهبذا للناحية القريبة من مملكته، وبعث معه داريوش [3] من ملوك مارى بن نابت، وكيرش بن كيكوس من ملوك بنى غليم بن سام، وأحشوارش بن كيرش بن جاماهن من قرابته. وسار معهم بخت نصّر بن نبوزراذون بن سنجاريف صاحب الموصل الّذي لقومه البراءات في أهل المقدس فكان ما وقع من الفتح. وقيل كان بخت نصّر صاحب الموصل في مقدّمتهم وكان الفتح على يده. وأما بنو إسرائيل فيزعمون أنّ بخت نصّر من الكلدانيين، وهم ولد ناحور بن آزر أبي إبراهيم عليه السلام، وكان لهم الملك ببابل وكان بخت نصّر هذا من أعقابهم، وكان مدّة دولته خمسا وأربعين سنة، وكان فتحه المقدس لثمانية عشر من دولته. وملك بعده أويل مروماخ ثلاثا وعشرين سنة، ثم بعده ابنه فيلسنصر بن أويل ثلاث سنين، ثم غلب عليهم كورش وأزال ملكهم وهو الّذي ردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس فعمروه وجدّدوا به ملكا كما نذكره.   [1] وفي التوراة: عوص. [2] وفي التوراة: اشور. [3] وفي نسخة اخرى: داريوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وفد اختلف في كيرش الّذي ردّ بني إسرائيل الى القدس من هو بعد اتفاقهم على أنه من الفرس، فقيل هو يستاسب ولم يكن ملكا وإنما كان مملكا على خوزستان وأعمالها من قبل كيقوس وبنجسون بن سياوش ولهراسب من بعدهما، وكان عظيم الشأن ولم يكن ملكا. وقيل إنّ كيرش هو ابن احشوارش بن جاماسب بن لهراسب، وأبوه أحشوارش هذا الّذي بعثه بهمن. ولما رجع من ذلك الفتح بعثه الى ناحية الهند والسند وانصرف الى حصن الأبر فولاه بابل وتزوج من سبي بني إسرائيل ابنة أبي حاويل الرّحا وأخت مردخاي من الرضاع، وهو من أنبياء بني إسرائيل. فتزعم النصارى انها ولدت عند حيرا حوارس إلى بابل ابنه كيرش هذا فحضنه مردخاي ولقنه دين اليهودية، ولزم سائر أنبيائهم مثل متنيا وعازريا وميثائل وعزيز. وولي دانيال احكام دولته، وجعل إليه أمره وأذن له أن يخرج ما في الخزائن من السبي والذخائر والآنية ويردّه إلى مكانه ويقوم في بناء القدس فعمره. وراجعه بنو إسرائيل وسأله هؤلاء الأنبياء أن يرجعوا إلى بيت المقدس فمنعهم اغتباطا بمكانهم. وقيل إنّ كيرش هو كيرش بن كيكو بن غليم بن سام، وهو الّذي كنا قدمنا أن بهمن بعثه مع قائده بخت نصّر الى فتح بيت المقدس، وأنّ بختمرس ملكه بهمن على بابل، وكان يسمى بختمرسي كما ذكرنا، فملكها وملك ابنه من بعده ثلاثا وعشرين سنة، ثم ابنه بلتنصر سنة واحدة، ثم بلغ بهمن سوء سيرته فعزله وولّى على بابل داريوش ألماذة بن ماداي، ثم عزله وولى كيرش بن كيكو، وكتب إليه بهمن بان يرفق ببني إسرائيل ويحسن ملكتهم وأن يردهم إلى أرضهم ويولي عليهم من يختارونه، ففعل، فاختاروا دانيال من أنبيائهم فولّاه. وقيل وهو لعلماء بني إسرائيل انّ بلتنصر حافد بخت نصّر وهو ملك بابل والكلدانيين، وأنّ دارا ويسمى داريوش ملك ماري، وكورش وهو كيرش ملك فارس، كان في طاعته فانتقضا عليه، وخرج إليهم في العساكر فانهزم أوّلا، ثم بعث عساكره وقواده إليهم فهزمهم ثم قتله خادمه على فراشه. ولحق بداريوش وكورش وزحفا إلى بابل فغلبا الكلدانيين عليها، واختص دارا وقومه مادي وأظنهم الديلم ببابل ونواحيها. واختص كورش وقومه فارس بسائر الأعمال والكور، وكان كورش نذر ببناء بيت المقدس واطلاق الجالية ورد الآنية، ثم هلك دارا وانفرد كورش بالملك على فارس ومادي ووفى بنذره هذا محصل الخلاف في بخت نصّر وكيرش والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الواقع ان الأسماء محرّفة ومحوّرة عن الأصل حتى في الصفحة الواحدة يرد الاسم مختلفا، وهذا ما جعلنا نعود الى التوراة وبعض المراجع القديمة ومقابلتها لضبط هذه الأسماء قدر الإمكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم الى حين انقراض أمرهم قد تقدّم لنا في دولة سليمان عليه السلام انّ يربعام بن نباط من سبط افرائيم كان واليا لسليمان على جميع نواحي يورشليم [1] وهي بيت المقدس، وقيل إنّما كان واليا على عمل بني يوسف بنابلس وما إليها، وكان جبارا وان سليمان عوتب على ولايته من الله وانتقض ولحق بمصر، فلما قبض سليمان وولي ابنه رحبعم واختلف عليه بنو إسرائيل بما بلوا من سوء ملكته والزيادة في الضرائب عليهم، واجتمع الأسباط العشرة ما عدا يهوذا وبنيامين فاستقدموا يربعام بن نباط من مصر فبايعوا له وولوه الملك عليهم وحاربوا رحبعم ومن في طاعته وهم سبط يهوذا وبنيامين، فامتنعوا عليهم بمدينة يروشليم، ثم انحازوا إلى جهة فلسطين في عمل بني يوسف. ونزل يربعم مدينة نابلس بملك الأسباط العشرة ومنعهم من الدخول إلى بيت المقدس والقربان فيه، وكان عاصيا مسخوط السيرة. ولم يزل الحرب بينه وبين رحبعم بن سليمان وابنه أبيا من بعده واثنين من ملك أسا بن أبيا، وكان أبيّا ظاهرا عليه في حروبه، ثم هلك يربعام بن نباط لسنتين من ملك أبيّا ولثلاث وعشرين من ملكه، فولي مكانه على الأسباط يوناذاب وكان على مثل سيرة أبيه من الجور وعبادة الأصنام، فسلط الله عليه بعشا بن أحيا فقتله وجميع أهل بيته لسنتين من ملكه. وقام بملك الأسباط فلم يزل يحارب أسا بن أبيّا وأهل القدس سائر أيامه. وكان أسا يستمدّ عليه بملك دمشق من الأرمن. وسار معه إليه مرّة، وكان أعشا بن أحيا نبي يثرب، فأجفل أمامهم وترك الآلات فأخذها أسا وبنى بها الحصون وهلك أعشا بن أحيا لأربع وعشرين سنة من ملكه ودفن في برصا مدينة ملكهم بعد أن أنذره بالهلاك نبيهم فاهو. ولما هلك ولي بعده ابنه إيليا، ويقال إيلهوا في السادسة والعشرين من ملك أسا فأقام سنين ثم بعث عساكر بني إسرائيل إلى محاصرة بعض المدن بفلسطين، فوثب عليه سبط من الأسباط من عقب كان يعرف زمري صاحب المراكب، ويقال ابن اليافا، فقتله وجميع أهل بيته وقام   [1] هي أورشليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 بالملك ومكث أياما يسيرة خلال ما بلغ الخبر لبني إسرائيل بمكانهم من حصار فلسطين، فلم يرضوه وملكوا عليهم صيّ بن كسّات من سبطه ورجعوا الى زمري المتوثب على الملك فحاصروه، فلما أحيط به دخل مجلس الملك وأوقد نارا لتحرقه فاحترق فيه لسبعة أيام من فورتهم. وكان عمري بن ناداب من سبط أفراييم ويلقب صاحب الحربة يرادف صيّ في الملك فقتله واستبدّ، وذلك في الحادية والثلاثين من ملك أسا. ثم اختلف عليه بنو إسرائيل ونصف بعضهم بنيامين فنال من سبط يساخر، وحاربهم عمري فغلبهم. وكان ينزل مدينة برصا، ولست سنين من ملكه اختط مدينة السامرية ابتاع لها جبل شمران [1] من رجل اسمه سامر بقنطار فضة، وبنى فيه قصوره وسميت سبسطية، ثم غلبت عليها النسبة إلى البائع. ويقال إنّ الاسم كان شومرون فعرب سامرة وأهملت شينها المثلثة، وكانت هذه المدينة مدينة ملكهم الى انقراض أمرهم. ثم هلك عمري لاثنتي عشرة سنة من ولايته ودفن في نابلس، وقام بملك الأسباط من بعده ابنه أحاب [2] ، وكان على مذهبه ومذهب سلفه منهم من الكفر والعصيان، وتزوّج بنت ملك صيدا، وبنى هيكلا بسامرة وجعل فيه صنما يسجد له وأفحش في قتل الأنبياء، وبنى قرية أريحاء ودعا عليه إيليا النبيّ فقحطوا ثلاث سنين خرج فيها إيليا الى البرية فسكنها، ثم رجع فدعا وأنزل الله المطر وذبح الذين حملوا أحاب على عبادة الأصنام هكذا قال ابن العميد. والّذي قاله الطبري إنّ هذا النبي الّذي دعا عليهم هو الياس بن سين، وقيل ابن ياسين من نسل فنحاص بن العازار. وكان بعث الى أهل بعلبكّ والى أحاب وقومه. وقال الطبريّ: فكذبوه فأصابهم القحط ثلاثا، ففزعوا إليه في الدعاء وبأهلهم في أصنامهم فلم تغن شيئا، فدعا لهم فمطروا، ثم انهم أقاموا على ما كانوا عليه من الكفر والعصيان. وكان أحاب شديدا عليه ودعا عليه الياس ثم طلب من الله أن يتوفاه بعد أن أنذر الناس بهلاكه وهلاك قومه بل عقبه. وتنبأ بعده اليسع بن أخطوب من سبط أفرائيم، وقيل ابن عم الياس. وقال ابن عساكر: اسمه أسباط بن عدي بن شوليم   [1] وفي التوراة «واشترى جبل السامرة من شامر بوزنتين من الفضة. [2] وفي التوراة: اخآب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 بن افرائيم. قال الطبريّ: كان مستخفيا مع الياس بجبل قاسيون من ملك بعلبكّ، ثم خلفه في قريته انتهى كلام الطبري. وقال ابن العميد: في أيام أحاب أوحى الله إلى إيليا أن يبارك على إلياس بن بغسا ففعل ذلك، وان يبارك على أدوم بدمشق، وعلى يا هو ملكا على بني إسرائيل ففعل ذلك. وهو أيضا على عهد أحاب فجاء سنداب ملك سورية فحاصر أحاب بن عمري والأسباط العشرة في السامرة، وخرجوا إليه فهزموه واستلحموا عامة عسكره، ثم رجع إليهم من العام القابل فخرجوا إليه وهزموه ثانيا وقتلوا من عسكره نحوا من مائة ألف، ومروا في اتباعهم، وامتنع سنداب في بعض حصونه وأحاطوا به فخرج إليهم ملقيا بنفسه على ملكهم أحاب، فعفا عنه ورده الى ملكه، وسخط ذلك النبيّ من فعله وأنذره بعذاب يصيب ولده عقوبة من الله تعالى على إبقائه عليهم. ثم خرج أحاب من ملك الأسباط مع يهوشافاظ ملك يهوذا المقدس لمحاربة ملك سورية، فأصابه سهم هلك فيه ودفن بسامرة لاثنتين وعشرين سنة من ملكه. قال ابن العميد: وقيل لثمان عشرة. وقال إنّما خرج لحرب كلعاد ملك أدوم فانهزم وقتل. ولما هلك ملك من بعده ابنه أحزيّا ويقال أمشيا وكان عاصيا سيء السيرة قتل عاموص النبيّ وعبد بعلا الصنم وهلك لسنتين، فملك أخوه يوآم وقيل انه لتسع عشرة من ملك يهوشافاظ ملك الفرس، فملك يوآم على الأسباط اثنتي عشرة سنة زحف فيها أوّلا إلى مؤاب لما منعوه الجزية التي كانت عليهم للأسباط مائتين من الغنم في كلّ سنة، واستنجد ملك يهوذا لحربهم فحاصرهم سبعة أيام وفقدوا الماء، فاستسقى لهم اليسع وجرى الوادي وخرج أهل مؤاب يظنونه دما، فقتلهم بنو إسرائيل. وجمع هدّاد ملك أدوم لحصار سامرة ونازلها ثلاث سنين، ثم دعا عليهم اليسع فاجفلوا ورجعوا إلى بلادهم. وفي الثانية عشر من ملك يؤام ملك الأسباط ثار عليه يهوشافاظ بن يشا من سبط منشا بن يوسف، وذلك عند منصرفه من محاربة ملوك الجزيرة وأروم مع أحزيّا بن يهورام ملك القدس، وكان جريحا فعاده أحزيا وكان هذا الفتى يا هو يترصد قتل يؤام فأمكنته الفرصة فيه تلك الساعة فقتله وقتل معه أحزيا ملك القدس وبني يهوذا وملك على الأسباط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وقال ابن العميد: خرج يؤام بن أحاب ملك الأسباط لحرب أدوم ومعه أحزيّا ملك القدس فقتلا جميعا في تلك الحرب. وقيل إنّ ياهو بن منشا رمى بسهم فأصاب يؤام بن أحاب فمات. ولما ملك يا هو على الأسباط قتل بني أحاب كلهم كما أمره اليسع، وهلك لخمس وثلاثين من ملكه وولي ابنه يوآص، وقيل يهوذا، ولثمان وعشرين من دولة يوآص بن أحزيّا ملك يهوذا القدس وكان قبيح السيرة عبّادا للأصنام وعمل مذبحا بسامرة وهلك لسبع عشرة من ملكه، وولي بعده ابنه يوآش لسبع وثلاثين من دولة يوآص بالقدس وزحف إلى القدس فملكها من يد أمصيّا ملك يهوذا، وهدم من سورها أربعمائة ذراع، وسبى أهل المقدس وسبى بني عزريّا الكوهن، وأخذ جميع ما في المسجد ورجع إلى سامرة. ومرض اليسع فعاده يوآش فوعده بأنه يهلك أدوم ويظفر بهم. ثلاث مرات، فكان كذلك، وهلك لثلاث عشرة سنة من ملكه. وولي من بعده ابنه يربعام وكان سيّئ السيرة وزحف إلى أمصيا ملك يهوذا، وقيل إنّ الّذي زحف إلى أمصيّا إنّما هو يؤاش أبوه، فهزمه وأخذه أسيرا وسار به إلى القدس فاقتحمها عنوة وغنم جميع ما في خزانتها وسبى بني عزريّا الكوهن، ورجع إلى السامرة فأطلق أمصيّا. ثم لإحدى وأربعين سنة من ملكه، ولسبع وعشرين من ملك عزيّا هو بن أمصيّا ملك القدس. قال ابن العميد: وبقي بنو إسرائيل بالسامرة فوضى أحدى عشرة سنة، ثم ملكوا ابنه زكريّا في الثامنة والثامنة والثلاثين من ملك عزيّا هو فملك ستة أشهر، وقال ابن العميد شهرا، ثم وثب به مناخيم بن كاد من سبط زبلون من أهل برصا فقتله، وملك مكانه اثنتي عشرة سنة. وقال ابن العميد عشر سنين. قال وفي التاسعة والثلاثين من ملك عزيّا هو خرج إلى مدينة برصا ففتحها عنوة واستباحها، وزحف إليه فول ملك الموصل فصانعه بألف قنطار من الفضّة ورجع عنه، وكانت سيرته رديئة، ولما هلك مناخيم ملك ابنه بقحيّا لأربعين من دولة عزيّا ملك القدس فأقام فيهم اثنتي عشرة سنة، وقال ابن العميد سنتين، ثم ثار عليه من عماله باقح بن رصليّا [1] وكان على طريقة من تقدّمه في الضلال فأقام ملكا على الأسباط بالسامرة عشر سنين، وهلك لدولته عزيّا بن أمصيّا ملك يهوذا بالقدس، وأقام باقح بن رصليّا على سوء السيرة   [1] وفي نسخة اخرى: رسليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وعبادة الأصنام إلى أن قتله هويشيع بن إيليا من سبط كاد في الثالثة من ملك يؤاب ملك القدس وبقي الأسباط بعده فوضى عشر سنين، ثم ملكوا قاتله هويشيع بن إيليا المذكور، فأقام مملكا عليهم سبع سنين وفي أيامه زحف إليه ملك أثور [1] والموصل فصير الأسباط في دولته وأدّوا إليه الخراج، ثم ان هويشيع راسل ملك مصر في الاستعانة به والرجوع إلى طاعته، فلما بلغ ذلك إلى ملك الموصل زحف إليه وحاصره في مدينة السامرة ثلاث سنين واقتحمها في الرابعة. وتقبّض على هويشيع لتسع سنين من ملكه ونقله مع الأسباط كلهم إلى الموصل، ثم بعثهم إلى قرى أصبهان وأنزلهم بها، وقطع ملك بني إسرائيل من السامرة وبقي ملك يهوذا وبنيامين بالقدس، وكان ذلك لعهد احزيّا بن آخاز من ملوكهم لسنة من دولته. وتعاقبت ملوكهم بعد ذلك بالقدس إلى أن انقرضوا. وجمع ملك الموصل من كورة غارا وحماة وصفرارام، ويقال ومركتا وأسكنهم بالسامرة. وقال ابن العميد وتفسيرها حفيظة ويوآطر. قالوا وسلّط الله عليهم السباع يفترسونهم فبعثوا إلى ملك الموصل أن يعرفهم بصاحب قسمة السامريّة من الكواكب ليتوجهوا إليه بما يناسبه على طريقة الصابئة، فقيل إنّ العشرية التي رسخت فيها وهي دين اليهودية تمنع من ذلك ومن ظهور أثره. فبعث إليهم كوهنين من عامّة اليهود يعلمانهم اليهودية فتلقوها عنهما، فهذا أصل السامرة في فرق اليهود وليسوا منهم عند أهل ملّتهم لا في نسبهم ولا في دينهم، والله مالك الأمور لا رب غيره ولا معبود سواه سبحانه وتعالى.   [1] وفي التوراة: اشور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس والملك الّذي كان لهم في العمارة بعد جلاء بخت نصّر وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة، لم يكتب فيها أحد من الأئمة ولا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها واتساعها على ما يلمّ بشيء من ذلك. ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر في أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بخت نصّر الأوّل وخراب طيطش [1] الثاني الّذي كانت عنده الجلوة الكبرى، استوفى فيه أخبار تلك المدّة بزعمه ومؤلف الكتاب يسمّى يوسف بن كريّون وزعم أنه كان من عظماء اليهود وقوّادهم عند زحف الروم إليهم، وأنه كان على صولة [2] ، فحاصره أسبيانوس أبو طيطش واقتحمها عليه عنوة، وفرّ يوسف إلى بعض الشعاب وكمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك، واستبقاه ومن عليه وبقي في جملته. وكانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عند ما أجلى بني إسرائيل عن البيت فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره. هذا هو التعريف بالمؤلف. وأمّا الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدّة وأخبار الدولتين اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود، وما حدث في ذلك من الأحداث فلخصتها هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه، والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدّم عليها. وكما قال صلى الله عليه وسلم: لا تصدّقوا أهل الكتاب. فقد قال ولا تكذبوهم. مع أنّ ذلك إنّما هو راجع إلى أخبار اليهود وقصص الأنبياء التي كان فيها التنزيل من عند الله، لقوله بعد ذلك: «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ 29: 46» . وأمّا الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحس فخبر الواحد كاف فيه إذا غلب على الظنّ صحته، فينبغي أن نلحق هذه الأخبار بما تقدّم   [1] وفي نسخة اخرى: طيطس. [2] قوله على صولة: بلد قريب من المقدس كما في التوراة ولعلها المسماة اليوم بصفد (بخط العطار) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أوّل أمرهم إلى آخره والله أعلم. ولم التزم صدقه من كذبه والله المستعان. قال الطبريّ وغيره من الأئمة: كان يرميا ويقال أرميا بن خلقيّا من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوى، وكان لعهد صدقيّا هو آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس، ولما توغلوا في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بخت نصّر وسأله عنه وأطلقه واحتمله معه في السبي، وكان فيما يقوله أرميا إنّهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة يملك فيها بخت نصّر وابنه وابن ابنه ويهلكون، وإذا فرغت مملكة الكلدانيّين بعد السبعين يفتقدكم. يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص آخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس. وكان شعيا بن أمصيّا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت المقدس على يد كورش من ملوك الفرس، ولم يكن وجد لذلك العهد، فلما استولى كورش على بابل وأزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في الرجوع إلى بيت المقدس وعمارة مسجدها، ونادى في الناس أنّ الله أوصاني أن أبني بيتا فمن كان للَّه وسعيه للَّه فليمض إلى بنائه. فمضى بنو إسرائيل في اثنين وأربعين ألفا وعليهم زيريافيل، بالفاء الهوائية، بن شالتهيل بن يوخنيّا آخر ملوكهم بالقدس الّذي حبسه بخت نصّر وقد مرّ ذكره. وقد مضى معهم عزير النبي من عقب أشيوع بن فنحاص ابن العازر بن هارون وبينه وبين أشيوع ستة آباء، لم أثق بنقلها لغلبة الظنّ بأنها مصحّفة، وردّ عليهم كورش الأواني وكانت لا يعبر عنها من الكثرة. قال ابن العميد: كانت خمسة آلاف وأربعمائة قصعة ذهبا وفضة. فمضوا إلى بيت المقدس وشرعوا في العمارة وشرع كورش وسعى عليهم في إبطال ذلك بعض أعدائهم من السامرة، ولم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى لأنّ الخراب كان لثمان عشرة من ملك بخت نصّر وكانت دولته خمسة وأربعين ومدّة ابنه وابن ابنه خمس وعشرون، فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفدت من ملك بخت نصّر قبل الخراب، فمنعوا من العمارة بسعاية السامريّة إلى أن انقضت الثمان عشرة. وجاءت دولة دارا من ملوك الفرس فأذن لهم في العمارة وعاد السامرة لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا، فأخبره أهل دولته أنّ كورش أذن لهم في ذلك فخلّى سبيلهم وعمّروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأوّل، وهو أرفخشد والكوهن يومئذ عزيز، وجدّد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم إلى البيت. ثم هلك زيريافيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 وخلفه فيهم بهشمياس، وقبض العزير وخلفه شمعون الصفا من بني هارون أيضا. وقال يوسف بن كريون: إنّ بخت نصّر لما رجع إلى بابل أقام ملكا سبعا وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بلتنصّر ثلاث سنين، وانتقض عليه داريوش ملك ماذي، وأظنهم الديلم وكيرش ملك فارس، وهزمتهم عساكره كما مرّ، فعمل في بعض أيامه صنيعا لقواده سرورا بالواقع، وسقاهم في أواني بيت المقدس التي احتملها جدّه من الهيكل، فسخط الله لذلك ورأى تلك الساعة كأنّ يدا خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني والكلمات عبرانية، وهي أحصى وزن نفذ، فارتاع لذلك هو والحاضرون وفزع إلى دانيال النبي في تفسيرها. قال وهب بن منيّه وهو من أعقاب حزقيل الأصغر وكان خلفا من دانيال الأكبر، فقال له دانيال: هذه الكلمات تنذر بزوال ملكك ومعناها أنّ الله أحصى مدّة ملكك، ووزن أعمالك، ونفذ قضاؤه بزوال ملكك عنك وعن قومك. وقتل في تلك الليلة بلتنصّر، وكان ما قدّمناه من استقلال كورش وقومه فارس بالملك ورد الجالية إلى بيت المقدس، وأطلق لهم المال لعمارتها شكرا على الظفر بالكلدانيين ومضى بنو إسرائيل ومعهم عزرا الكاهن ونجميّا ومردخاي وجميع رؤساء الجالية يبنون البيت والمذبح على حدودها وقرّبوا القرابين. وكان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة والزيت والبقر والغنم والخمر ما يحتاجون اليه في خدمة البيت ويطلق لهم جراية واسعة. وجرى ملوك الفرس بعده على سنة في ذلك إلا قليلا في أيام أخشويروش [1] منهم، كان وزيره هامان وكان من العمالقة، وكان طالوت قد استخلفهم بأمر الله، فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم وحمله على قتلهم. وكان مردخاي من رؤسائهم قد زوّج أخته من الرضاع لأخشويروش، فدس إليها مردخاي أن تشفع إلى الملك في قومها فقبلها وعطف عليهم وأعادهم إلى أن انقرضت دولة الفرس بمهلك دارا، واستولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس. وملك الإسكندر بن فيلفوس [2] ودوّخ الأرض، وفتح سواحل الشام، وسار إلى بيت المقدس لأنها من طاعة دارا، وخاف الكهنة من وصوله إليهم، ورأى في بعض   [1] وفي التوراة سفر استير الفصل السادس: احشوروش وفي كتب التاريخ احشويروش. [2] هو الإسكندر المقدوني ابن فيلبس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 تمثال [1] رجلا فقال: أنا رجل أرسلت لمعونتك. ونهاه عن أذية المقدس، وأوصاه بامتثال اشارتهم. فلما وصل إلى البيت لقيه الكوهن، فبالغ في تعظيمه ودخل معه إلى الهيكل، وبارك عليه، ورغب إليه الإسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب اليذكر به، فقال: هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين ويجعل لك من الذكر دعاؤهم لك، وأن يسمي كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالإسكندر، فرضي الإسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكوهن، وسأله أن يستخير الله في حرب دارا، فقال له: امض والله مظفرك. وحض دانيال وقص عليه الإسكندر رؤيا رآها فأوّلها له بأنه يظفر بدارا. ثم انصرف الإسكندر وسار في نواحي بيت المقدس، ومرّ بنابلس ولقيه سنبلاط السامريّ وكان أهل المقدس أخرجوه عنهم، فأضافه وأهدى له أموالا وأمتعة واستأذنه في بناء هيكل في طول بريد فأذن له، فبناه وأقام صهره منشا كوهنا فيه، وزعم أنه المراد بقوله في التوراة اجعل البركة على جيل كريدم. فقصده اليهود في الأعياد، وحملوا اليه القرابين وعظم أمره، وغص بشأنه أهل بيت المقدس، إلى أنّ خربه هرمايوس بن شمعون أوّل ملوك بني حشمناى كما يأتي ذكره. ثم هلك الإسكندر ببابل بعد استيفاء مدّته لاثنتين وثلاثين من ملكه وقد كان قسم ملكه بين عظماء دولته، فكان سلياقوس بعد الإسكندر وكان عظيم أصحابه، فأكرم اليهود وحمل المال إلى فقراء البيت ثم سعى عنده بأن في الهيكل أموالا وذخائر نفيسة ورغبوه في ذلك، فبعث عظيما من قوّاده اسمه أبردوس ليقبض ذلك المال فحضر بالبيت، وأنكر الكاهن حنّيان [2] أن يكون بالبيت إلّا بقية الصدقات من فارس ويونان وما أعطاهم سلياقوس آنفا، فلم يقبل، ووكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء. وجاء أدروس ليقبض المال فصدع في طريقه، وجاء أصحابه إلى الكوهن حنينا وجماعة الكهنة يسألون الاقالة والدعاء لأردوس، فدعوا له وعوفي وارتحل. وازداد الملك سلياقوس إعظاما للبيت وحمل ما كان يحمل إليهم مضاعفا.   [1] العبارة هنا مشوشة ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا على ما يصحح هذه العبارة. ومقتضى السياق: ورأى امام تمثال رجلا فقال ... [2] ورد اسمه في التوراة حناني (سفر تحميا- الفصل الأول) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 قال ابن كريّون: ثم ترجمت التوراة لليونانيين وكان من خبرها أنّ تلماي [1] ملك مصر من اليونانيين بعد الإسكندر، وكان من أهل مقدونية، وكان محبا للعلوم ومشغوفا بالحكمة والكتب الإلهية. وذكرت له كتب اليهود الأربعة والعشرون سفرا فتاقت نفسه للوقوف عليها، وكتب إلى كهنون القدس في ذلك وأهدى له، فاختار سبعين من أحبار اليهود وعلمائهم وفيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر، وبعثهم إليه ومعهم الأسفار فتلقاهم بالكرامة وأوسع لهم النزول ورتب مع كل واحد كاتبا يملي عليه ما يترجم له، حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية، وصحّحها وأجاز الأحبار وأطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحوا من مائة ألف، وصنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض مصر والنيل ورصعها بالجواهر والفصوص وبعث بها إلى القدس فأودعت في الهيكل. ثم ملك تلماي صاحب مصر، واستولى بعده أنطيخوس صاحب مقدونية على أنطاكية ثم على مصر، وأطاعه ملوك الطوائف بأرض العراق، واستفحل ملكه وعظم طغيانه، وأمر الأمم بعبادة الأصنام. وعمل أصناما على صورته، فامتنع اليهود من قبولها وسعى بهم عنده بعض شرارهم، وكانوا أهل نجدة وشوكة، فسار انطيخوس إليهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي، وفروا إلى الجبال والبراري، فرجع واستخلف على بيت المقدس قائدة فليلقوس، وأمره أن يحملهم على السجود لأصنامه وعلى أكل الخنزير وترك السبت والختان، ويقتل من يخالفه. ففعل ذلك أشدّ ما يكون، وبسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار الساعين، وقتل العازر الكوهن الّذي ترجم لهم التوراة لمّا امتنع من السجود لصنمه وأكل قربانه. وكان فيمن هرب إلى الجبال والبراري متيتيّا بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي بن حونيّا من بني نوذاب من نسل هارون عليه السلام، وكان رجلا صالحا خيّرا شجاعا، وأقام بالبرية وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد انطيخوس الرحلة عن القدس، بعث متيتيّا إلى اليهود يعرفهم بمكانه، وينمعض لهم ويحرّضهم على الثورة على اليونانيين، فأجابوه وتراسلوا في ذلك، وبلغ الخبر فليلقوس قائد أنطيخوس، فسار في عسكره إلى البريّة طالبا متيتيا وأصحابه، فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره.   [1] هو بطليموس مؤسس دوله البطالسة في مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وقوي اليهود على الخلاف، وهلك متيتيّا خلال ذلك وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليلقوس ثانية. وشغل أنطيخوس بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية، واستخلف عليهم ابنه أفظر، وضمّ إليه عظيما من قومه اسمه ليشاوش، وأمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود، فبعثوا ثلاثة من قوادهم وهم نيقانور وتلمياس وصردوس، وعهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا فسارت العساكر، واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق وحلب، وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متيتيّا مقدّم اليهود للقائم بعد أن تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به، ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه، واثخنوا فيه بالقتل، وغنموا ما معهم، ثم لقيهم عسكر القائد ابن تلمياس وصردوس ثانيا فهزموهما كذلك، وقبضوا على فليلقوس القائد الأوّل لأنطيخوس فأحرقوه بالنار، ورجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها وخبّر ليشاوش وأفظر ابن الملك بالهزيمة، فجزعوا لها. ثم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس، ثم وصل إلى مقدونية واشتدّ غيظه على اليهود، وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده، ودفن في طريقه. وملك أفظر وسموه أنطيخوس باسم أبيه. ورجع يهوذا بن متيتيّا إلى القدس، فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من المذابح، وأزال ما نصبه من الأصنام، وطهّر المسجد، وبنى مذبحا جديدا للقربان، فوضع فيه الحطب ودعا الله أن يريهم آية في اشتغاله من غير نار، فاشتعل كذلك ولم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة، واتخذوا ذلك اليوم عيدا سمّوه عيد العساكر. ونازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتيّا في عسكر اليهود وثبت عسكر ليشاوش فانهزموا، ولجأ إلى بعض الحصون وطلب النزول على الأمان على أن لا يعود إلى حربهم، فأجابه يهوذا على أن يدخل أفظر معه في العقد وكان ذلك. وتم الصلح وعاهد أفظر اليهود على أن لا يسير إليهم، وشغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه. قال ابن كريّون: وكان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم وهم الروم، وكانوا برومية وكان أمرهم شورى بين ثلاثمائة وعشرين رئيسا، ورئيس واحد عليهم يسمونه الشيخ يدبّر أمرهم، ويدفعون للحروب من يثقون بغنائه وكفايته منهم أو من سواهم. هكذا كان شأنهم لذلك العهد، وكانوا قد غلبوا اليونانيين واستولوا على ملكهم، وأجازوا البحر إلى إفريقية فملكوها كما يأتي في أخبارهم، فأجمعوا السير إلى أنطيخوس أفظر وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بأنطاكيّة، وكاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنطيخوس واليونانيين فأجابوهم إلى ذلك، وبلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم وسار إلى حربهم فهزموه ونالوا منه. ثمة راسلهم في الصلح وأن يقيموا على عهدهم معه وتحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال، وأن يقتل من عنده من شرار اليهود الساعين عليهم، فتم العهد بينهم على ذلك وقتل شملاوش من الساعين على اليهود، ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس [1] بن سلياقوس إلى أنطاكية، ولقيه أنطيخوس أفظر فانهزم أنطيخوس وقتل هو وابن عمه ليشاوش، وملك الروم أنطاكية. ونزلها قائدهم دمترياس وكان ألقيموس الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس، فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى عنده في اليهود ورغبه في ملك القدس والاستيلاء على أمواله، فبعث قائده نيقانور لذلك وخرج يهوذا ملك القدس لتلقيه وطاعته، وقدم بين يديه الهدايا والتحف، فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود وحسن رأيه وأكد بينه وبينهم العهد. ورجع وبادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس وأخبره بميل قائده نيقانور إلى اليهود، وزاد في إغرائه فبعث إلى قائده ينكر عليه ويستحثه لإنفاذ أمره، وأن يحمل يهوذا مقيّدا. وبلغ ذلك يهوذا فلحق بمدينة السامرة صبصطية، واتبعه نيقانور في العساكر فكرّ عليه يهوذا وهزمه وقتل أكثر عساكر الروم الذين معه. ثم ظفر به فصلبه على الهيكل ببيت المقدس، واتخذ اليهود ذلك اليوم عيدا وهو ثالث عشر آذار. ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل قائده الآخر يعتروس في ثلاثين ألفا من الروم لمحاربة اليهود، وخرجت عساكرهم من المقدس، وفرّوا عن ملكهم يهوذا وافترقوا في الشعاب، وأقام معه منهم فلّ قليل، واتبعهم يعتروس فلقيه يهوذا وأكمن له فانهزم اليهود، وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولايته ودفن إلى جانب أبيه متيتيّا. ولحق أخوه يوناثال فيمن بقي من اليهود، بنواحي الأردن وتحصنوا ببئر سبع، فحاصرهم يعتروس هنالك أياما، ثم بيتوه فهزموه وخرج يوناثال واليهود في اتباعه فتقبضوا عليه، ثم أطلقوه على مسالمة اليهود وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثال إثر ذلك وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون، فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية وعظمت عساكره، وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم، وزحف   [1] هو القائد الروماني الشهير ميتريدات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 إليه دمترياس قائد الروم بأنطاكية فهزمه شمعون وقتل غالب عسكره. ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون. وثب عليه صهره تلماي زوج أخته فقتله وتقبض على بنيه وامرأته، وهرب ابنه الأكبر قانوس بن شمعون إلى غزة فامتنع بها، وكان اسمه يوحان وكان شجاعا قتل في بعض الحروب شجاعا اسمه هرقانوس فسمّاه أبوه باسمه. ثم اجتمع عليه اليهود وملكوه وسار إلى بيت المقدس، وفرّ تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن داخون، فامتنع به وسار هرقانوس إلى محاربته وضيق عليه، وأشرف تلماي في بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس وأخته يتهدّده بقتلهما، فكف عن الحرب، وانصرف لحضور عيد المظال ببيت المقدس فقتل تلماي أخته وأمّه وفرّ من الحصن. قال ابن كريّون: ثم زحف دمترياس بن سلياقوس قائد الروم إلى القدس وحاصر اليهود فامتنعوا، وثلم السور، وراسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء عيدهم، ففعل على أن يكون له نصيب في القربان. ووقعت في نفسه صاغية اليهم، وأهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم، وراسلوه في الصلح على المسالمة والمظاهرة لبعض فأجاب. وخرج إليه هرقانوس ملك اليهود وأعطاه ثلاثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور بني داود. ورحل عنهم الروم، وشغل هرقانوس في رمّ ما ثلم [1] من السور، وحدثت خلال ذلك فتنة بين الفرس والروم فسار إليهم دمترياس في جموع الروم، وبينما أبطأ هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأنّ الفرس هزموا دمترياس، فنهز الفرصة وزحف إلى أعدائه من أهل الشام وفتح نابلس وحصون أروم التي بجبل الشراة، وقتل منهم خلقا ووضع عليهم الجزية وأخذهم بالختان والتزام أحكام التوراة، وخرب الهيكل الّذي بناه سنبلاط السامري في طول بريد بإذن الإسكندر، وقهر جميع الأمم المجاورين لهم، ثم بعث وجوه اليهود وأعيانهم إلى الأشياخ والمدبّرين برومة يسأل تجديد العهد، وأن يردّوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس ويونان من بلادهم التي صارت في مملكة الروم، فأجابوا وكتبوا له العهد بذلك وخاطبوه بملك اليهود. وإنما كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن فسمى نفسه من يومئذ بالملك، وجمع بين منزلة الكهنونة ومنزلة الملك، وكان أوّل ملوك بني حشمناي. ثم سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها وخرّبها وقتل أهلها.   [1] أي ترميم ما تهدّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 قال ابن كريّون: وكان اليهود في دينهم يومئذ ثلاث فرق. فرقة الفقهاء وأهل القياس [1] ويسمّونهم الفروشيم وهم الربّانيّون، وفرقة الظاهريّة المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم ويسمونهم الصدوقيّة وهم القرّاءون، وفرقة العبّاد المنقطعين إلى العبادة والتسبيح والزهاد فيما سوى ذلك ويسمونهم الحيسيد. وكان هرقانوس وآباؤه من الربانيين، ففارق مذهبهم إلى القراءين لأنه جمع اليهود يوما عند ما تمهّد أمره، وأخذ بمذاهب الملك، وألقى به في صنيع احتفل فيه وألان لهم جانبه وخضع في قوله وقال:، أريد منكم النصيحة. فطمع بعض الربانيين فيه وقال: إنّ النصيحة أن تنزل عن الكهنونة وتقتصر على الملك وقد فاتك شرطها لأنّ أمك كانت سبية من أيام أنطيخوس. فغضب لذلك وقال للربانيين: قد حكمتكم في صاحبكم فأخذوا في تأديبه بالضرب فتنكر لهم من أجل ذلك، وفارق مذهبهم إلى مذهب القراءين، وقتل من الربانيين خلقا كثيرا، ونشأت الفتنة بين هاتين الطائفتين من اليهود، واتصلت بينهم الحرب إلى هذا العهد. وهلك هرقانوس لإحدى وثلاثين سنة من دولته، وملك بعده ابنه أرستبلوس وكان كبيرهم، وكان له ولدان آخران وهم أنطقنوس ويحبّ الملك له ويبغض الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل، فلما ملك أرستبلوس أخذ من اخوته بمذهب أبيهم وقبض على الإسكندر وأمه واستخلص أنطقنوس وقدّمه على العساكر، واكتفى به في الحروب، وترفع عن تاج الكهنونة ولبس تاج الملك. وخرج أنطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم فردّهم إلى الطاعة، وكثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة وأغروه به، فلما قدم أنطقنوس من مغيبه وافق عيد المظال، وكان أخوه ملتزما بيته لمرض طرقه، فعدل أنطقنوس عن بيته إلى الهيكل للتبرك، فأوهموا الملك أنّه إنما فعل ذلك لاستمالة الكهنونية والعامة وأنّه يروم قتل أخيه، وعلامة ذلك أنّه جاء بسلاحه، فعهد أرستبلوس إلى حشمانه وغلمان قصه إن جاء متسلحا أن يقتلوه. وكان ذلك وتمت حيلة البطانة وسعايتهم عليه وعلم أرستبلوس أن قد خدع في أخيه، فندم واغتمّ ولطم صدره حتى قذف الدم من فيه، وأقام عليلا بعده حولا كاملا ثم هلك. فأفرجوا على أخيه الإسكندر من محبسه، وبايعوا له بالملك واستقام له الأمر، ثم انتقض عليه أهل عكّا وأهل صيدا وأهل غزة بعثوا إلى قبرص، وسار   [1] وفي نسخة اخرى: أهل القيافة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الإسكندر إلى عكّا فحاصرها وكانت كلوبطرة ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها واسمه ألظيرو وأجاز البحر إلى جزيرة قبرص فملكها، فبعث أهل عكّا أنّهم يملكونه وأجاز إليهم في ثلاثين ألف مقاتل، حتى إذا أفرج الإسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم ومنعوا ألظيرو، وامن الدخول إليهم، فسار في بلاد الإسكندر ونزل على جبل الخليل فقتل منه خلقا، ونزل على الأردن. وفي خلال ذلك زحف الإسكندر إلى صيدا ففتحها عنوة واستباحها، وعاد إلى القدس وقد أطاعته البلاد وحسم داء المنتقضين عليه. ثم تجدّدت الفتنة بين اليهود بالقدس وذلك أنّهم اجتمعوا في عيد المظال بالمسجد، وحضر الإسكندر معهم فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من مشوم ومأكول، وأصاب الإسكندر رمية من الربّانيين فغضب لها، وشاتمهم القراءون بما كانوا من شيعته، فشتموا الإسكندر وقتلوا الشاتم وأصحابه فلم يغن عنهم، وعظم فيهم الفتك وانفض الجمع، وعهد الإسكندر ان يستدّ المذبح والكهنة بحائط عن الناس، ونفذ أمره بذلك، واتصلت الفتنة بين اليهود ست سنين قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفا، والإسكندر يعين القراءين عليهم، وبعثوا إلى دمتريوس المسمّى أنطيخوس، وبذلوا له المال فسار معهم إلى نابلس ولقي الإسكندر فهزمه وقتل عامّة أصحابه ورجع. فخرج الإسكندر إلى الربّانيين وأثخن فيهم وظفر منهم بجماعة تزيد على ثلاثمائة فقتلهم صبرا وقهر سائر اليهود. وسار إلى دمتريوس ففتح الكثير من بلاده، وخرج فظفر به الإسكندر وقتله. وعاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة الربّانيين ودمتريوس، فاستقام أمره وعظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلا ثلاثا آخرين، وخرج بعدها لحصار بعض الحصون وانتقضوا عليه فمات هنالك، وأوصى امرأته الإسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن وتسير بشلوه [1] إلى القدس فتدفنه فيه، وتصانع الربّانيين على ولدها فتملكه، لأن العامّة إليهم أميل. ففعلت ذلك واستدعت من كان نافرا من الربّانيين، وجمعتهم وقدّمتهم للشورى، واستبدت بالملك. وكان لها ابنان من الإسكندر بن هرقانوس، اسم الأكبر منهما هرقانوس، والآخر أرستبلوس، وكانا صغيرين عند موت أبيهما فلما كبرا عينت هرقانوس للكهنونة وقدّمت أرستبلوس على   [1] ج أشلاء وهنا تعني جثته أو رفاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 العساكر والحروب، وضمّت إليه الربّانيين، وأخذت الرهن من جميع الأمم وسألها الربّانيون في الأخذ بثأرهم من القرّاءين خلقا كثيرا. وجاء القراءون إلى ابنها الكهنون ينكرون ذلك وأنّه إذا فعل بهم ذلك، وقد كانوا شيعا لأبيه الإسكندر، فقد تحدث النفرة من سائر الناس. وسألوه أن يلتمس لهم اذنها في الخروج عن القدس والبعد عن الربانيين، فأذنت لهم رغبة في انقطاع الفتنة، وخرج معهم وجوه العسكر. ثم ماتت خلال ذلك لتسع سنين من دولتها، ويقال إنّ ظهور عيسى صلوات الله عليه كان في أيامها. وكان ابنها أرستبلوس قائد العسكر لما شعر بموتها خرج إلى القراءين يستدعيهم إلى نصرته فأجازوه، وتقبضت هي على ابنيه وامرأته، واجتمعت عليه العساكر من النواحي وضرب البوق وزحف لحرب أخيه هرقانوس والربانيين، وحاصرهم أرستبلوس ببيت المقدس، وعزم على هدم الحصن فخرج إليه أعيان اليهود والكهنونية ساعين في الصلح بينهما، وأجاب على أن يكون ملكا ويبقى هرقانوس على الكهنونيّة، فتم ذلك واستقر عليه أمره. ابتداء أمر انظفتر [1] أبو هيردوس ثم سعى في الفتنة بينهما انظفتر أبو هيردوس، وكان من عظماء بني إسرائيل من الذين جمعوا مع العزير من بابل، وكان ذا شجاعة وبأس، وله يسار وقنية من الضياع والمواشي. وكان الإسكندر قد ولّاه على بلاد أروم [2] وهي جبال الشراة، فأقام في ولايتها سنين، وكثر ماله وأنكحوه منهم، فكان له منها أربعة من الأبناء وهم فسيلو وهيردوس وفرودا ويوسف، وبنت اسمها سلومث. وقيل أنّ أنظفتر لم يكن من بني إسرائيل، وإنّما كان من أروم وربي في جملة بني خشمناي وبيوتهم. فلما مات الإسكندر وملكت زوجته الاسكندرة عزلته عن جبال الشراة، فأقام بالقدس. حتى إذا استبد بالأمر أرستبلوس، وكان بين هرقانوس وأنظفتر مودّة وصحبة، فغصّ أرستبلوس بمكانه من أخيه لما يعلم من مكر أنظفتر وهمّ بقتله، فانفض عنه وأخذ في التدبير على أرستبلوس. وفشا في الناس تبغضه إليهم وينكر تغلبه، ويذكر لهم أن هرقانوس أحق بالملك منه، ثم حذر هرقانوس من أخيه وخيّل إليه أنه يريد قتله،   [1] وهو معروف في التاريخ باسم انتيباتر. [2] وفي نسخة ثانية أدوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وبعث لشيعة هرقانوس المال على تخويفه من ذلك حتى تمكن منه الخوف، ثم أشار عليه بالخروج الى ملك العرب هرثمة، وكان يحب هرقانوس، فعقد معه عهدا على ذلك، ولحق هرقانوس بهرثمة ومعه أنظفتر، ثم دعوا هرثمة الى حرب أرستبلوس فأجابهم بعد مراوغة، وتزاحفوا ونزع الكثير من عسكر أرستبلوس إلى هرقانوس، فرجع هاربا الى القدس، ونازلهم هرقانوس وهرثمة واتصلت الحرب وطال الحصار. وحضر عيد الفطير وافتقد اليهود القرابين فبعثوا إلى أصحاب هرقانوس فيها، فاشتطوا في الثمن، ثم أخذوه ولم يعطوهم شيئا، وقتلوا بعض النساك طلبوه في الدعاء على أرستبلوس وأصحابه، وامتنع فقتلوه، ووقع فيهم الوباء فمات منهم أمم. قال ابن كريون: وكان الأرمن ببلاد دمشق وحمص وحلب، وكانوا في طاعة الروم، فانتقضوا عليهم في هذه المدّة وحدثت عندهم صاغية إلى الفرس، فبعث الروم قائدهم فمقيوس [1] فخرج لذلك من رومية، وقدم بين يديه قائده سكانوس فطوّع الأرمن ولحق دمشق، ثم لحقه فمقيوس ونزل بها. وتوجهت إليه وجوه اليهود في أثرهم، وبعث إليه أرستبلوس من القدس وهرقانوس من مكان حصاره، كل واحد منهما يستنجده على أخيه، وبعثوا إليه بالأموال والهدايا فأعرض عنها، وبعث إلى هرثمة ينهاه عن الدخول بينهما فرحل عن القدس، ورحل معه هرقانوس وأنظفتر، وأعاد أرستبلوس رسله وهداياه من بيت المقدس، وألحّ في الطلب وجاء أنظفتر الى فمقيوس بغير مال ولا هدية، فنكث عنه فمقيوس، فرجع إلى رغبته ومسح أعطافه وضمن له طاعة هرقانوس الّذي هو الكهنوت الأعظم. ويحصل بعد ذلك إضعاف أرستبلوس فأجابه فمقيوس على أن يتحيّل له في الباطن ويكون ظاهره مع أرستبلوس حتى يتم الأمر، وعلى أن يحملوا الخراج عند حصول أمرهم، فضمن أنظفتر ذلك. وحضر هرقانوس وأرستبلوس عند فمقيوس القائد يتظلم كل واحد من صاحبه، فوعدهم بالنظر بينهم إذا حل بالقدس. وبعث أنظفتر في جميع الرعايا فجاءوا شاكين من أرستبلوس، فأمره فمقيوس من إنصافهم فغضب لذلك واستوحش وهرب من معسكر فمقيوس وتحصن في القدس، وسار فمقيوس في أثره فنزل أريحا ثم القدس وخرج أرستبلوس واستقال، فأقاله وبذل له الأموال على أن يعينه على أخيه ويحمل له ما في الهيكل من الأموال والجواهر،   [1] هو القائد الروماني المعروف بمبيوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وبعث معه قائدة لذلك، فمنعهم الكهنونية وثارت بهم العامّة وقتلوا بعض أصحاب القائد وأخرجوه. فغضب فمقيوس وتقبض لحينه على أرستبلوس، وركب ليقتحم البلد فامتنعت عليه، وقتل جماعة من أصحابه فرجع، وأقام عليهم. ووقعت الحرب بالمدينة بين شيع أرستبلوس وهرقانوس، وفتح بعض اليهود الباب لفمقيوس فدخل البلد وملك القصر وامتنع الهيكل عليه، فأقام يحاصره أياما، وصنع آلة الحصار فهدم بعض أبراجه واقتحمه عنوة، ووجد الكهنونية على عبادتهم وقربانهم مع تلك الحرب، ووقف على الهيكل فاستعظمه ولم يمد يده إلى شيء من ذخائره، وملك عليهم هرقانوس، وضرب عليهم الخراج يحمله كل سنة. ورفع يد اليهود عن جميع الأمم الذين كانوا في طاعتهم، ورد عليهم البلدان التي ملكها بنو حشمناي، ورجع الى رومة. واستخلف هرقانوس وأنظفتر على المقدس وأنزل معهما قائده سكانوس الّذي قدّمه لفتح دمشق وبلاد الأرمن عند ما خرج من روميّة، وحمل أرستبلوس وابنيه مقيدين معه، وهرب الثالث من بنيه وكان يسمّى الإسكندر ولحقه فلم يظفر به. ولما بعد فمقيوس عن الشام ذاهبا إلى مكانه خرج هرقانوس وأنظفتر إلى العرب ليحملوهم على طاعة الروم، فخالفهم الإسكندر بن أرستبلوس إلى المقدس وكان متغيبا بتلك النواحي منذ مغيب أبيه لم يبرح، فدخل إلى المقدس وملّكه اليهود عليهم وبنى ما هدمه فمقيوس من سور الهيكل، واجتمع إليه خلق كثير. ورجع هرقانوس وأنظفتر فسار إليهم الإسكندر وهزمهم وأثخن في عساكرهم. وكان قائد الروم كينانوس قد جاء إلى بلاد الأرمن من بعد فمقيوس، فلحق به واستنصره على الإسكندر فسار معه إلى القدس، وخرج إليهم الإسكندر فهزموه، ومضى إلى حصن له يسمى الإسكندرونة واعتصم به. وسار هرقانوس إلى القدس فاستولى على ملكه، وسار كينانوس قائد الروم إلى الإسكندر فحاصره بحصنه واستأمن اليه فقبله وعفا عنه وأحسن إليه. وفي أثناء ذلك هرب أرستبلوس أخو هرقانوس من محبسه بروميّة، وابنه أنطقنوس واجتمع إليه، فحاربه كينانوس وهزمه وحصل في أسره فرده إلى محبسه بروميّة، ولم يزل هنالك إلى أن تغلب قيصر على روميّة، واستحدث الملك في الروم. وخرج فمقيوس من روميّة إلى نواحي عمله وجمع العساكر لمحاربة قيصر، فأطلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ارستبلوس من محبسه، وأطلق معه قائدين في اثني عشر ألف مقاتل، وسرّحهم إلى الأرمن واليهود ليردوهم عن طاعة فمقيوس، وكتب فمقيوس إلى أنظفتر ببيت المقدس أن يكفيه أمر أرستبلوس، فبعث قوما من اليهود لقوة في بلاد الأرمن ودسّوا له سما في بعض شرابه كان فيه حتفه. وقد كان كينانوس كاتب الشيخ صاحب روميّة في إطلاق من بقي من ولد أرستبلوس فأطلقهم. قال ابن كريون: وكان أهل مصر لذلك العهد انتقضوا على ملكهم تلماي وطردوه وامتنعوا من حمل الخراج إلى الروم، فسار إليهم واستنفر معه أنظفتر فغلبهم وقتلهم، وردّ تلماي إلى ملكه واستقام أمر مصر. ورجع كينانوس إلى بيت المقدس فجدّد الملك لهرقانوس، وقدّم أنظفتر مدبّر المملكة وسار إلى روميّة. قال ابن كريون: ثم غضبت الفرس على الروم فندبوا إلى ذلك قائدا منهم يسمى عرنبوس، وبعثوه لحربهم، فمرّ بالقدس ودخل إلى الهيكل وطالب الكهنون بما فيه من المال، وكان يسمّى ألعازر من صلحاء اليهود وفضلائهم، فقال له: إن كينانوس وفمقيوس لم يفعلوا ذلك بتلك. فاشتدّ عليه. فقال: أعطيك ثلاثمائة من الذهب وتتجافى عن الهيكل. ودفع إليه سبيكة ذهب على صورة خشبة كانت تلقى عليها الصور التي تنزل من الهيكل الّذي تجدّد، وكان وزنها ثلاثمائة فأخذها ونقض القول وتعدّ على الهيكل، وأخذ جميع ما فيه منذ عمارتها من الهدايا والغنائم وقربانات الملوك والأمم وجميع آلات القدس، وسار إلى لقاء الفرس فحاربوه وهزموه وأخذوا جميع ما كان معه وقتل. واستولت الفرس على بلاد الأرمن من دمشق وحمص وحلب وما إليها، وبلغ الخبر الى الروم فجهزوا قائدا عظيما في عساكر جمة اسمه كسنا و، فدخل بلاد الأرمن الذين كانوا غلبوا عليها. وساروا إلى القدس فوجد اليهود يحاربون هرقانوس وأنظفتر فأعانهما حتى استقام ملك هرقانوس ثم سار إلى الفرس في عساكره فغلبهم وحملهم على طاعة الروم، ورد الملوك الذين كانوا عصوا عليهم إلى الطاعة، وكانوا اثنين وعشرين ملكا من الفرس كان فمقيوس قائد الروم هزمهم، فلما سار عنهم انتقضوا. قال ابن كريون: ثم ابتدأ أمر القياصرة وملك على الروم يولياس ولقبه قيصر لأنّ أمّه ماتت حاملا به عند مخاضها فشق بطنها عنه فلذلك سمّي قيصر، ومعناه بلغتهم القاطع. ويسمّى أيضا يولياس باسم الشهر الّذي ولد فيه وهو يوليه خامس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 شهورهم [1] ومعنى هذه اللفظة عندهم الخامس، وكان الثلاثمائة والعشرون المدبّرون أمر الروم والشيخ الّذي عليهم قد أحكموا أمرهم مع جماعة الروم على أن لا يقدّموا عليهم ملكا، وأنهم يعينون للحروب في الجهات قائدا بعد آخر. هذا ما اتفقوا عليه النقلة في الحكاية عن أمر الروم وابتداء ملك القياصرة. قالوا ولما رأى قيصر هذا الشيخ الّذي كان لذلك العهد كبر وشب على غاية من الشجاعة والاقدام، فكانوا يبعثونه قائدا على العساكر إلى النواحي، فأخرجوه مرّة إلى المغرب فدوّخ البلاد، ورجع فسمت نفسه إلى الملك فامتنعوا له وأخبروه أنّ هذا سنّة آبائهم منذ أحقاب، وحدّثوه بالسبب الّذي فعلوا ذلك لأجله، وهو أمر كيوس وأنه عهد لأوّلهم لا ينقض، وقد دوّخ فمقيوس الشرق، وطوّع اليهود ولم يطمع في هذا فوثب عليهم قيصر وقتلهم واستولى على ملك الروم منفردا به وسمّى قيصر، وسار الى فمقيوس بمصر فظفر به وقتله، ورجع فوجد بتلك الجهات قواد فمقيوس فسار إليهم يولياس قيصر ومرّ ببلاد الأرمن فأطاعوه، وكان عليهم ملك اسمه مترداث فبعثه قيصر إلى حربهم. فسار في الأرمن ولقيه هرقانوس ملك اليهود بعسقلان ونفر معه إلى مصر هو وأنظفتر ليمحوا بعض ما عرف منهم من موالاة فمقيوس، وساروا جميعا إلى مضر ولقيتهم عساكرها واشتدّ الحرب فحصر بلادهم، وكادت الأرمن أن ينهزموا، فثبت أنظفتر وعساكر اليهود وكان لهم الظفر واستولوا على مصر، وبلغ الخبر الى قيصر فشكر لأنظفتر حسن بلائه واستدعاه فسار إليه مع ملك الأرمن مترداث فقبله وأحسن وعده. وكان أنطقنوس بن أرستبلوس قد اتصل بقيصر وشكى بأنّ هرقانوس قتل أباه حين بعثه أهل رومة لحرب فمقيوس، وفتحيّل عليه هرقانوس وأنظفتر وقتلاه مسموما، فأحسن أنظفتر العذر لقيصر بأنه إنما فعل ذلك في خدمة من ملك علينا من الروم، وإنما كنت ناصحا لقائدهم فمقيوس بالأمس، وأنا اليوم أيها الملك لك أنصح وأحب، فحسن موقع كلامه من قيصر ورفع منزلته وقدّمه على عساكره لحرب الفرس، فسار اليه أنظفتر وأبلى في تلك الحروب ومناصحة قيصر، فلما انقلبوا من بلاد الفرس أعادهم قيصر الى ملك بيت المقدس على ما كانوا عليه. واستقام الملك لهرقانوس وكان خيرا، إلّا أنه كان ضعيفا عن لقاء الحروب فتغلّب   [1] يوليه: هو شهر تموز وهو الشهر السابع كما في تقويمنا الحالي، ولكن السنة عندهم كانت تبدأ بشهر آذار أو «مارت» فيكون شهر يوليه هو الخامس كما ذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 عليه أنظفتر، واستبد على الدولة، وقدّم ابنه فسيّلو ناظرا في بيت المقدس، وابنه هيردوس عاملا على جبل الخليل، وكان كما بلغ الحلم واحتازوا الملك من أطرافه وامتلأ أهل الدولة منهم حسدا وكثرت السعاية فيهم، وكان في أطراف عملهم ثائر من اليهود يسمّى حزقيّا وكان شجاعا صعلوكا واجتمع إليه أمثاله فكانوا يغيرون على الأرمن وينالون منهم. وعظمت نكايتهم فيهم فشكى عامل بلاد الأرمن وهو سفيوس ابن عمّ قيصر الى هيردوس وهو بجبل الخليل ما فعله حزقيّا وأصحابه في بلادهم، فبعث هيردوس إليه سريّة فكبسوهم، وقتل حزقيّا وغيره منهم، وكتب بذلك إلى سفيوس فشكره وأهدى إليه اليهود. ونكر اليهود ذلك من فعل هيردوس وتظلموا منه عند هرقانوس وطلبوه في القصاص منه، فأحضروه في مجلس الأحكام وأحضر السبعين شيخا من اليهود، وجاء هيردوس متسلحا ودافع عن نفسه، وعلم هرقانوس بغرض الأشياخ، ففصلوا المجلس فنكروا ذلك على هرقانوس، ولحق هيردوس ببلاد الأرمن فقدّمه سفيوس على عمله. ثم أرسل هرقانوس إلى قيصر يسأل تجديد عهود الروم لهم، فكتب له بذلك، وأمر بأن يحمل أهل الساحل خراجهم إلى بيت المقدس ما بين صيدا وغزّة، ويحمل أهل صيدا إليها في كل سنة عشرين ألف وسق من القمح، وأن يرد على اليهود سائر ما كان بأيديهم إلى الفرات واللاذقية وأعمالها وما كان بنو حشمناي فتحوه عنوة من عدوات الفرات، لأن فمقيوس كان يتعدّى عليهم في ذلك، وكتب العهد بذلك في ألواح من نحاس بلسان الروم ويونان، وعلقت في أسوار صور وصيدا واستقام أمر هرقانوس. قال ابن كريّون: ثم قتل قيصر ملك الروم. وأنظفتر وزير هرقانوس المستبد عليه. أما قيصر فوثب عليه كيساوس من قواد فمقيوس فقتله، وملك وجمع العساكر وعبر البحر إلى بلاد أشيّت ففتحها، ثم سار إلى القدس وطالبهم بسبعين بدرة من الذهب، فجمع له أنظفتر وبنوه من اليهود، ثم رجع كيساوس إلى مقدونية فأقام بها. وأما أنظفتر فإن اليهود داخلوا القائد ملكيّا الّذي كان بين أظهرهم من قبل كيساوس في قتل أنظفتر وزير هرقانوس، فأجابهم الى ذلك، فدسّوا إلى ساقيه سمّا فقتله، وجاء ابنه هيردوس إلى القدس مجمعا قتل هرقانوس، فكفّه فسيّلوا عن ذلك، وجاء كيساوس من مقدونية إلى صور، ولقي هرقانوس وهيردوس وشكوا إليه ما فعله قائده ملكيا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 مداخلة اليهود في قتل أنظفتر، فأذن لهم في قتله فقتلوه. ثم زحف كينانوس بن أخي قيصر وقائده أنطيوس [1] في العساكر لحرب كيساوس المتوثب على عمه قيصر، فلقيهم قريبا من مقدونية فظفرا به وقتلاه، وملك كينانوس مكان عمه وسمى أوغسطس قيصر باسم عمه. فأرسل إليه هرقانوس ملك اليهود بهدية وفيها تاج من الذهب مرصع بالجواهر وسأل تجديد العهد لهم، وأن يطلق السبيّ [2] الّذي سبي منهم أيام كيساوس، وأن يرد اليهود إلى بلاد يونان وأثينة، وأن يجري لهم ما كان رسم به عمه قيصر، فأجابه إلى ذلك كله. وسار أنطيانوس وأوغسطس قيصر إلى بلاد الأرمن بدمشق وحمص، فلقته هنالك كلبطرة ملكة مصر وكانت ساحرة، فاستأمنته وتزوّجها وحضر عنده هرقانوس ملك اليهود. وجاء جماعة من اليهود فشكوا من هيردوس وأخيه فسيّلو وتظلموا منهما، وأكذبهم ملكهم هرقانوس وأبى عليها، وأمر انطيانوس بالقبض على أولئك الشاكين وقتل منهم، ورجع هيردوس وأخوه فسارا إلى مكانهما ومكان أبيهما من تدبير مملكة هرقانوس، وسار أنطيانوس إلى بلاد الفرس فدوّخها وعاث في نواحيها وقهر ملوكهم وقفل الى رومة. قال ابن كريّون: وفي خلال ذلك لحق أنطقنوس وجماعة من اليهود بالفرس، وضمنوا لملكهم أن يحملوا إليه بدرة من الذهب وثمانمائة جارية من بنات اليهود ورؤسائهم يسبيهنّ له، على أن يملكه مكان عمه هرقانوس ويسلمه إليه، ويقتل هيردوس وأخاه فسيّلو، فأجابهم ملك الفرس إلى ذلك، وسار في العساكر وفتح بلاد الأرمن وقتل من وجد بها من قواد الروم ومقاتلتهم، وبعث قائده بعسكر من القدس مع أنطقنوس موريا بالصلاة في بيت المقدس والتبرك بالهيكل، حتى إذا توسط المدينة ثار بها وأفحش في القتل، وبادر هيردوس إلى قصر هرقانوس ليحفظه، ومضى فسيلو إلى الحصن يضبطه. وتورّط من كان بالمدينة من الفرس قتلهم اليهود عن آخرهم، وامتنعوا على القائد، وفسد ما كان دبره في أمر أنطقنوس فرجع إلى استمالة هرقانوس وهيردوس، وطلب الطاعة منهم للفرس وأنه يتلطف لهم عند الملك   [1] وفي نسخة ثانية: انطونيوس. [2] السبي: بضم السين ج (سبّي) ويطلق في الأغلب على النساء، أما الرجال فيعبر عنهم في مثل هذا الحال بالأسرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 في إصلاح حالهم، فصغى هرقانوس وفسيّلو إلى قوله وخرجوا إليه. وارتاب هيردوس وامتنع فارتحل بهما قائد الفرس حتى إذا بلغ الملك ببلاد الأرمن تقبض عليهما فمات فسيّلو من ليلته، وقيد هرقانوس واحتمله إلى بلاده، وأشار أنطقنوس بقطع أذنه ليمنعه من الكهنونة. ولما وصل ملك الفرس إلى بلاده أطلق هرقانوس من الاعتقال، وأحسن إليه إلى أن استدعاه هيردوس، كما يأتي بعد، وبعث ملك الفرس قائده إلى اليهود مع أنطقنوس ليملك، فخرج هيردوس عن القدس إلى جبل الشّراة فترك عياله بالحصن عند أخيه يوسف، وسار إلى مصر يريد قيصر. فأكرمته كلبطرة ملكة مصر، وأركبته السفن إلى رومية، فدخل بها انطيانوس إلى أوغسطس قيصر، وخبره الخبر عن الفرس والقدس، فملكه أوغسطس وألبسه التّاج وأركبه في رومية في زي الملك، والهاتف بين يديه بأن أوغسطس ملّكه. واحتفل انطيانوس في صنيع له حضره الملك أوغسطس قيصر وشيوخ رومية، وكتبوا له العهد في ألواح من نحاس، ووضعوا ذلك اليوم التاريخ، وهو أول ملك هيردوس. وسار أنطيانوس بالعسكر إلى الفرس ومعه هيردوس، وفارقه من أنطاكية وركب البحر إلى القدس لحرب أنطقنوس، فخرج أنطقنوس إلى جبال الشّرارة للاستيلاء على عيال هيردوس، وأقام على حصار الحصن، وجاء هيردوس فحاربه وخرج يوسف من الحصن من ورائه، فانهزم أنطقنوس إلى القدس، وهلك أكثر عسكره. وحاصره هيردوس وبعث انطقنوس بالأموال إلى قواد العسكر من الروم فلم يجيبوه، وأقام هيردوس على حصاره حتى جاء الخبر عن أنطيانوس قائد قيصر أنه ظفر بملك الفرس وقتله ودوّخ بلادهم، وأنه عاد ونزل الفرات. فترك هيردوس أخاه يوسف على حصار القدس مع قائد الروم سيساو، ومن تبعهم من الأرمن، وسار للقاء أنطيانوس، وبلغه وهو بدمشق أنّ أخاه يوسف قتل في حصار القدس على يد قائده أنطقنوس، وأنّ العساكر انفضت ورجعوا إلى دمشق، وجاء سيساو منهزما قائد أنطيانوس بالعساكر. وتقدّم هيردوس وقد خرج أنطقنوس للقائه فهزمه، وقتل عامّة عسكره واتبعه إلى القدس. ووافاه سيساو قائد الروم فحاصروا القدس أياما، ثم اقتحموا البلد وتسللوا صاعدين إلى السور، وقتلوا الحرس وملكوا المدينة، وأفحش سيساو في قتل اليهود، فرغب إليه هيردوس في الإبقاء. وقال له: إذا قتلت قومي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 فعلى من تملكني؟ فرفع القتل عنهم وردّ ما نهب وقرّب إلى البيت تاجا من الذهب وضعت فيه، وحمل إليه هيردوس أموالا. ثم عثروا على أنطقنوس مختفيا بالمدينة، فقيده سيساو القائد، وسار به إلى أنطيانوس، وقد كان سار من الشام إلى مصر، فجاءه بأنطقنوس هنالك، ولحق بهم هيردوس وسأل من أنطيانوس قتل أنطقنوس فقتله. واستبد هيردوس بملك اليهود وانقرض ملك بني حشمناي والبقاء للَّه وحده. انقراض ملك بني حشمناي وابتداء ملك هيردوس وبنيه وكان أوّل ما افتتح به ملكه أن بعث إلى هرقانوس الّذي احتمله الفرس وقطعوا أذنه يستقدمه ليأمن على ملكه من ناحيته، ورغّبه في الكهنونية التي كان عليها، فرغب وحذّره ملك الفرس من هيردوس، وعزله اليهود الذين معه، وأراه أنّها خديعة وأنه العيب الّذي به يمنع الكهنونية، فلم يقبل شيئا من ذلك. وصغى إلى هيردوس وحسن ظنّه به وسار إليه وتلقّاه بالكرامة والإعطاء وكان يخاطبه بأبي في الجمع والخلوة. وكانت الإسكندرة بنت هرقانوس تحت الإسكندر وابن أخيه أرستبلوس، وكانت بنتها منه مريم تحت هيردوس، فاطلعتا على ضمير هيردوس من محاولة قتله، فخبرتاه بذلك واشارتا عليه باللحاق بملك العرب ليكون في جواره، فخاطبه هرقانوس في ذلك وأن يبعث إليه من رجالاتهم من يخرج به إلى أحيائهم، وكان حامل الكتاب من اليهود مضطغنا على هرقانوس لأنه قتل أخاه وسلب ماله، فوضع الكتاب في يد هيردوس، فلما قرأه ردّه إليه وقال: أبلغه إلى ملك العرب وأرجع الجواب إليّ. فجاءه بالجواب من ملك العرب إلى هرقانوس، وأنه أسعف وبعث الرجال فالقهم بوصولك إليّ. فبعث هيردوس من يقبض على الرجال بالمكان الّذي عينه، وأحضرهم وأحضر حكام البلاد اليهود والسبعين شيخا. وأحضر هرقانوس وقرأ عليه الكتاب بخطه، فلم يحر جوابا وقامت عليه الحجة، وقتله هيردوس لوقته لثمانين سنة من عمره وأربعين من ملكه، وهو آخر ملوك بني حشمناي. وكان للإسكندر بن أرستبلوس، ابن يسمّى أرستبلوس، وكان من أجمل الناس صورة، وكان في كفالة أمه الإسكندرة، وأخته يومئذ تحت هيردوس كما قلناه. وكان هيردوس يغص به وكانت أخته وأمهما يؤمّلان أن يكون كوهنا بالبيت مكان جدّه هرقانوس، وهيردوس يريد نقل الكهنونة عن بني حشمناي، وقدّم لها رجلا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 عوام الكهنونية، وجعله كبير الكهنونية، فشق ذلك على الاسكندرة بنت هرقانوس وبنتها مريم زوج هيردوس. وكان بين الإسكندرة وكلوبطرة ملكة مصر مواصلة ومهاداة، وطلبت منها أن تشفع زوجها انطيانوس في ذلك إلى هيردوس، فاعتذر له هيردوس بأنّ الكواهن لا تعزل، ولو أردنا ذلك فلا يمكّننا أهل الدين من عزله، فبعث بذلك إلى الإسكندرة. ودست الإسكندرة إلى الرسول الّذي جاء من عند أنطيانوس، وأتحفته بمال فضمن لهم أنّ انطيانوس يعزم على هيردوس في بعث أرستبلوس إليه، ورجع إلى أنطيانوس فرغبه في ذلك ووصف له من جماله وأغراه باستقدامه، فبعث فيه أنطيانوس إلى هيردوس وهدّده بالوحشة إن منعه، فعلم أنه يريد منه القبيح، فقدّمه كهنونا وعزل الأول، واعتذر لأنطيانوس بأنّ الكوهن لا يمكن سفره، واليهود تنكر ذلك. فأغفل أنطيانوس الأمر ولم يعاود فيه. ووكل هيردوس بالإسكندرة بنت هرقانوس عهدته من يراعي أفعالها، فاطلع على كتبها إلى كلوبطرة أن تبعث إليها السفن والرجال يوصلنها إليها، وأنّ السفن وصلت إلى ساحل يافا، وأن الإسكندرة صنعت تابوتين لتخرج فيهما هي وابنتها على هيئة الموتى. فأرصد هيردوس من جاء بهما من المقابر في تابوتيهما فوبخهما ثم عفا عنهما. ثم بلغه أنّ أرستبلوس حضر في عيد المظال، فصعد على المذبح وقد لبس ثياب القدس وازدحم الناس عليه وظهر من ميلهم إليه ومحبتهم ما لا يعبر عنه، فغص بذلك واعمل التدبير في قتله. فخرج في منتزه له بأريحاء في نيسان، واستدعى أصحابه وأحضر أرستبلوس، فطعموا ولعبوا وانغمسوا في البرك يسبحون وعمد غلمان هيردوس إلى أرستبلوس فغمسوه في الماء حتى شرق وفاض، فاغتم الناس لموته وبكى عليه هيردوس ودفنه، وكان موته لسبع عشرة سنة من عمره. وتأكدت البغضاء بين الإسكندرة وابنتها مريم زوج هيردوس أخت هذا الغريق، وبين أمّ هيردوس وأخته، وكثرت شكواهما إليه فلم يشكهما لمكان زوجته مريم وأمّها منه. قال ابن كريّون: ثم انتقض أنطيانوس على أوغسطس قيصر وذلك انه تزوّج كلوبطرة وملك مصر، وكانت ساحرة فسحرته واستمالته، وحملته على قتل ملوك كانوا في طاعة الروم، وأخذ بلادهم وأموالهم، وسبي نسائهم وأموالهم وأولادهم. وكان من جملته هيردوس وتوقف فيه خشية من أوغسطس قيصر، لأنه كان يكرمه بسبب ما صنع في الآخرين، فحمله على الانتقاض والعصيان، ففعل وجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 العسكر واستدعى هيردوس فجاءه وبعثه إلى قتال العرب، وكانوا خالفوا عليه، فمضى هيردوس لذلك ومعه أنيثاون قائد كلوبطرة، وقد دست له أن يجرّ الهزيمة على هيردوس ليقتل ففعل. وثبت هيردوس وتخلص من المعترك بعد حروب صعبة هلك فيها بين الفريقين خلق كثير. ورجع هيردوس إلى بيت المقدس فصالح جميع الملوك والأمم المجاورين له، وامتنع العرب من ذلك فسار إليهم وحاربهم، ثم استباحهم بعد أيام ومواقف بذلوا وجمعوا له الأموال وفرض عليهم الخراج في كل سنة ورجع. وكان أنطيانوس لما بعثه إلى العرب سار هو إلى رومة وكانت بينه وبين أغسطس قيصر حروب هزمه قيصر في آخرها وقتله، وسار إلى مصر فخافه هيردوس على نفسه لما كان منه في طاعة أنطيانوس وموالاته، ولم يمكنه التخلف عن لقائه. فأخرج خدمه من القدس فبعث بأمّه وأخته إلى قلعة الشّراة لنظر أخيه فرودا، وبعث بزوجه مريم وأمها الإسكندرة إلى حصن الإسكندرونة لنظر زوج أخته يوسف ورجل آخر من خالصته من أهل صور اسمه سوما وعهد إليهما بقتل زوجته وأمّها إن قتله قيصر. ثم حمل معه الهدايا وسار الى أوغسطس قيصر وكان تحقد له صحبة أنطيانوس، فلما حضر بين يديه عنّفه وأزاح التاج عن رأسه وهمّ بعقابه، فتلطف هيردوس في الاعتذار، وأنّ موالاته لأنطيانوس إنما كان لما أولى من الجميل في السعاية عند الملك وهي أعظم أياديه عندي، ولم تكن موالاتي له في عداوتك ولا في حربك ولو كان ذلك وأهلكت نفسي دونه كنت غير ملوم، فإن الوفاء شأن الكرام. فإن أزلت عني التاج فما أزلت عقلي ولا نظري، وإن أبقيتني فأنا محل الصنيعة والشكر. فانبسط أوغسطس لكلامه وتوّجه كما كان، وبعثه على مقدّمته إلى مصر، فلما ملك مصر وقتل كلوبطرة وهب لهيردوس جميع ما كان أنطيانوس أعطاها إياه ونفل. فأعاد هيردوس إلى ملكه ببيت المقدس وسار إلى رومية. قال ابن كريّون: ولما عاد هيردوس الى بيت المقدس أعاد حرمه من أماكنهنّ، فعادت زوجته مريم وأمّها من حصن الإسكندرونة وفي خدمتها يوسف زوج أخته وسوما الصوري وقد كانا حدّثا المرأة وأمّها بما أسر إليهما هيردوس، وقد كان سلف منه قتل هرقانوس وأرستبلوس فشكرتا له. وبينما هو آخذ في استمالة زوجته إذ رمتها أخته بالفاحشة مع سوما الصوري في ملاحاة جرت بينهما، ولم يصدّق ذلك هيردوس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 للعداوة والثقة بعفة الزوجة. ثم جرى منها في بعض الأيام وهو في سبيل استمالتها عتاب فيما أسرّ إلى سوما وزوج أخته، فقويت عنده الظّنّة بهم جميعا وأن مثل هذا السرّ لم يكن إلّا لأمر مريب، وأخذ في إخفائها وإقصائها ودسّت عليه أخته بعض النساء تحدّثه بأنّ زوجته داخلته في أن تستحضر السّمّ وأحضره فجرّب وصح وقتل للحين صهره يوسف وصاحبه سوما، واعتقل زوجته ثم قتلها وندم على ذلك، ثم بلغه عن أمّها الاسكندرة مثل ذلك فقتلها. وولّى على أروم مكان صهره رجلا منهم اسمه كرسّوس وزوجته أخته، فسار إلى عمله وانحرف عن دين التوراة والإحسان الّذي حملهم عليه هرقانوس، وأباح لهم عبادة صنمهم وأجمع الخلاف، وطلق أخت هيردوس فسعت به إلى أخيها وخبرته بأحواله وأنه آوى جماعة من بني حشمناي المرشحين للملك منذ اثني عشر سنة. فقام هيردوس في ركائبه، وبحث عنه فحضر وطالبه ببني حشمناي الّذي عنده، فأحضرهم فقتله وقتلهم، وأرهف حدّه وقتل جماعة من كبار اليهود ومقدميهم، أتمهم بالإنكار عليه. فأذعن له الناس واستفحل ملكه وأهمل المراعاة لوصايا التوراة وعمل في بيت المقدس سورا واتخذ منتزه لعب، وأطلق فيه السباع ويحمل بعض الجهلة على مقابلتها فتفترسهم، فنكر الناس ذلك وأعمل أهل الدولة الحيلة في قتله فلم تتم لهم، وكان يمشي متنكرا للتجسس على أحوال الناس، فعظمت هيبته في النفوس. وكان أعظم طوائف اليهود عنده الربّانيون بما تقدّم لهم في ولايته، وكان لطائفة العبّاد من اليهود المسمى بالحيسيد مكانة عنده أيضا، كان شيخهم مناحيم لذلك العهد محدثا وكان حدثه وهو غلام بمصير الملك له، وأخبره وهو ملك بطول مدّته في الملك فدعا له ولقومه. وكان كلفا ببناء المدن والحصون، ومدينة قيسارية من بنائه. ولما حدثت في أيامه المجاعة شمّر لها وأخرج الزرع للناس وبثه فيهم بيعا وهبة وصدقة، وأرسل في الميرة من سائر النواحي، وأمر قيصر في سائر تخومه وفي مصر ورومة أن يحملوا الميرة إلى بيت المقدس، فوصلت السفن بالزرع إلى ساحلها من كل جهة. وأجرى على الشيوخ والأيتام والأرامل والمنقطعين كفايتهم من الخبز، وعلى الفقراء والمساكين كفايتهم من الحنطة، وفرّق على خمسين ألفا قصدوه من غير ملّته، فرفعت المجاعة وارتفع له الذكر والثناء الجميل. قال ابن كريّون: ولما استفحل ملكه وعظم سلطانه أراد بناء البيت على ما بناه سليمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 بن داود، لأنهم لما رجعوا إلى القدس باذن كورش عين لهم مقدار البيت لا يتجاوزونه، فلم يتمّ على حدود سليمان، ولما اعتزم على ذلك ابتدأ أولا بإحضار الآلات مستوفيات خشية أن يحصل الهدم وتطول المدّة وتعرض القواطع والموانع. فأعدّ الآلات وأكمل جمعها في ست سنين، ثم جمع الصنّاع للبناء وما يتعلق به فكانوا عشرة آلاف، وعين ألفا من الكهنة يتولّون القدس الأقدس الّذي لا يدخله غيرهم. ولما تمّ له ذلك شرع في الهدم فحصل لا قرب وقت، ثم بنى البيت على حدوده وهيئته أيام سليمان وزاد في بعض المواضع على ما اختاره ووقف عليه نظره، فكمل في ثمان سنين. ثم شرع في الشكر للَّه تعالى على ما هيّأ له من ذلك فقرّب القربان واحتفل في الولائم وإطعام الطعام، وتبعه الناس في ذلك أياما فكانت من محاسن دولته. قال ابن كريّون: ثم ابتلاه الله بقتل أولاده وكان له ولدان من مريم بنت الإسكندرة قتيلة السم، أحدهما الإسكندر والآخر ارستبلوس، وكانا عند قتل أمهما غائبين برومة يتعلمان خط الروم، فلما وصلا وقد قتل أمّهما حصلت بينه وبينهما الوحشة، وكان له ولد آخر اسمه انظفتر على اسم جدّه، وكان قد أبعد أمّه راسيس لمكان مريم، فلما هلكت واستوحش من ولدها لطلب محل راسيس منه، قدم ابنها أنظفتر وجعله وليّ عهده، وأخذ في السعاية على اخوته خشية منهما بأنهما يرومان قتل أبيهما فانحرف عنهما. واتفق أن سار الى أوغسطس قيصر ومعه ابنه إسكندر، فشكاه عنده وتبرأ الإسكندر وحلف على براءته، فأصلح بينهما قيصر ورجع إلى القدس. وقسم القدس بين ولده الثلاثة، ووصاهم ووصى الناس بهم، وعهد أن لا يخالطوهم خشية مما يحدث عن ذلك، وأنظفتر مع ذلك متماد على سعايته بهما وقد داخل في ذلك عمه قدودا وعمته سلومنت، فأغروا أباه بأخويه المذكورين حتى اعتقلهما. وبلغ الخبر أرسلاوش ملك كفتور، وكانت بنته تحت الإسكندر، منهما فجاء إلى هيردوس مظهرا السخط على الإسكندر والانحراف عنه وتحيّل في إظهار جراءتهما، وأطلعه على جلية الحال وسعاية أخيه وأخته، فانكشف له الأمر وصدّقه وغضب على أخيه قدودا، فجاء إلى أرسلاوش وأحضره عند هيردوس حتى أخبره بمصدوقيّة الحال، ثم شفعه فيه وأطلق ولديه ورضي عنهما، وشكر لأرسلاوش من تلطفه في تلافي هذا الأمر وانصرف إلى بلده. ولم ينف ذلك أنظفتر عن تدبيره عليهما، وما زال يغري أباه ويدسّ له من يغريه حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 أسخطه عليهما ثانية واعتقلهما، وأمضى بهما في بعض أسفاره مقيّدين. ونكر ذلك بعض أهل الدولة فدس أنظفتر إلى أبيه المنكر عليّ من المدبّرين عليك، وقد ضمن لحجامك الإسكندر مالا على قتلك. فأنزل هيردوس بهما العقاب ليتكشف الخبر، ونمي بأنّ ذلك الرجل معه ولذعه العقاب وأقرّ على نفسه وقتل هو وأبوه والحجّام، ثم قتل هيردوس ولديه وصلبهما على مصطبة. وكان لابنه الإسكندر ولدان من بنت أرسلاوش ملك كفتور وهما كوبان والإسكندر، ولابنه أرستبلوس ثلاثة من الولد: أعرباس وهيردوس وأستروبلوس. ثم ندم هيردوس على قتل ولديه، وعطف على أولادهما فزوّج كوبان بن الإسكندر بابنة أخيه قدودا وزوّج ابنة ابنه أرستبلوس من ابن ابنه أنظفتر، وأمر أخاه قدودا وابنه أنظفتر بكفالتهما والإحسان اليهم، فكرها ذلك واتفقا على فسخه وقتل هيردوس متى أمكن. وبعث هيردوس ابنه أنظفتر إلى أوغسطس قيصر، ونما الخبر إليه بأنّ أخاه قدودا يريد قتله، فسخطه وأبعده وألزمه بيته. ثم مرض قدودا واستبدّ أخاه هيردوس ليعوده فعاده ثم مات، فحزن عليه ثم حزن باستكشاف ما نمي إليه، فعاقب جواريه، فأقرّت إحداهما بأن أنظفتر وقدودا كانا يجتمعان عند رسيس أمّ أنظفتر يدبّران على قتل هيردوس على يد خازن أنظفتر، فأقرّ بمثل ذلك وأنه بعث على السم من مصر وهو عند امرأة قدودا، فأحضرت فأقرت بأنّ قدودا أمرها عند موته بإراقته، وأنها أبقت منه قليلا يشهد لها إن سئلت. فكتب هيردوس الى ابنه أنظفتر بالقدوم، فقدم مستريبا بعد أن أجمع على الهروب، فمنعه خدم أبيه. ولما حضر جمع له الناس في مشهد وحضر رسول أغسطس وقدم كاتبه نيقالوس. وكان يحب أولاد هيردوس المقتولين ويميل إليهما عن أنظفتر، فدفع يخاصمه حتى قامت عليه الحجة وأحضر بقية السمّ وجرّب في بعض الحيوانات فصدق فعله، فحبس هيردوس ابنه أنظفتر حتى مرض وأشرف على الموت، وأسف على ما كان منه لأولاده فهمّ بقتل نفسه، فمنعه جلساؤه وأهله، وسمع من القصر البكاء والصراخ لذلك، فهمّ أنظفتر بالخروج من محبسه ومنع، وأخبر هيردوس بذلك وأمر بقتله في الوقت فقتل. ثم هلك بعده لخمسة أيام ولسبعين سنة من عمره وخمس وثلاثين من ملكه. وعهد بالملك لابنه أركلاوش وخرج كاتبه نيقالوس فجمع الناس وقرأ عليهم العهد وأراهم خاتم هيردوس عليه، فبايعوا له وحمل أباه إلى قبره على سرير من الذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 مرصع بالجوهر والياقوت وعليه ستور الديباج منسوجة بالذهب، وأجلس مسندا ظهره إلى الأرائك والناس أمامه من الاشراف والرؤساء، ومن خلفه الخدم والغلمان، وحواليه الجواري بأنواع الطيب إلى أن اندرج في قبره. وقام أركلاوش بملكه وتقرّب إلى الناس بإطلاق المسجونين، فاستقام أمره وانطلقت الألسنة بذمّ هيردوس والطعن عليه. ثم انتقضوا على أركلاوش بملكه بما وقع منه من القتل فيهم، فساروا إلى قيصر شاكين بذلك وعابوه عنده بأنه ولي من غير أمره، وحضر أركلاوش وكاتبه نيقالوس بخصمهم ودفع دعاويهم، وأشار عظماء الروم بإبقائه فملكه قيصر وأعاده الى القدس. وأساء السيرة في اليهود وتزوّج امرأة أخيه الإسكندر وكان له أولاد منها فماتت لوقتها. ووصلت شكاية اليهود بذلك كله إلى قيصر فبعث قائدا من الروم الى المقدس، فقيد أركلاوش وحمله إلى رومة لسبع سنين من دولته، وولى عليه اليهود بالقدس أخاه أنطيفس، وكان شرّا منه واغتصب امرأة أخيه فيلقوس [1] وله منها ولدان، ونكر ذلك عليه علماء اليهود والكهنونية. وكان لذلك العهد يوحنا بن زكريا فقتله في جماعة منهم، وهذا هو المعروف عند النصارى بالمعمدان الّذي عمد عيسى أي طهره بماء المعمودية بزعمهم. وفي دولة أنطيفس هذا مات أوغسطس قيصر، فملك بعده طبريانوس وكان قبيح السيرة، وبعث قائده بعيلاس بصنم من ذهب على صورته ليسجد له اليهود فامتنعوا، فقتل منهم جماعة، فأذنوا بحربة وقاتلوه وهزموه. وبعث طبريانوس العساكر مع قائده إلى القدس فقبض على أنطيفس وحمله مقيدا. ثم عزله طبريانوس إلى الأندلس فمات بها وملك بعده على اليهود أغرباس ابن أخيه أرستبلوس المقتول، وهلك في أيامه طبريانوس قيصر وملك نيروش [2] وكان أشرّ من جميع من تقدّمه، وأمر أن يسمّى إلا هو، وبنى المذبح للقربان وقرّب وأطاعته الناس إلّا اليهود، وبعثوا إليه في ذلك أفيلو الحكيم في جماعة فشتمهم وحبسهم وسخط اليهود. ثم قبحت أحواله وساءت أفعاله وثارت عليه دولته فقتلوه، ورموا شلوه في الطريق فأكلته الكلاب. ثم ملك بعده قلديوس قيصر وأطلق أفيلو والذين معه إلى بيت المقدس، وهدم المذابح التي كان نيروش بناها.   [1] وهو معروف باسم فيلبس. [2] وفي نسخة ثانية نيرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وكان أغرباس حسن السيرة معظما عند القياصرة وهلك لثلاث وعشرين سنة من دولته. وملك بعده ابنه أغرباس بأمر اليهود وملك عشرين سنة، وكثرت الحروب والفتن في أيامه في بلاد اليهود والأرمن، وظهرت الخوارج والمتغلبون، وانقطعت السبل وكثر الهرج داخل المدينة في القدس. وكان الناس يقتل بعضهم بعضا في الطرقات يحملون سكاكين صغار محدّين لها فإذا ازدحم مع صاحبه في الطريق طعنه فأهواه حتى صاروا يلبسون الدروع لذلك، وخرج كثير من الناس عن المدينة فرارا من القتل. وهلك ولد طبريانوس قيصر ونيروش من بعده، وملك على الروم فيلقوس قيصر فسعى بعض الشرار عنده بأنّ هؤلاء الذين خرجوا من القدس يذمّون على الروم، فبعث إليهم من قتلهم وأسرهم. واشتدّ البلاء على اليهود وطالت الفتن فيهم، وكان الكهنون الكبير فيهم لذلك العهد عنّاني، وكان له ابن اسمه العازار وكان ممن خرج من القدس وكان فاتكا مصعلكا، وانضم إليه جماعة من الأشرار، وأقاموا يغيرون على بلاد اليهود والأرمن وينهبون ويقتلون، وشكتهم الأرمن إلى فيلقوس قيصر، فبعث من قيده وحمله وأصحابه إلى رومة، فلم يرجع الى القدس إلّا بعد حين. واشتدّ قائد الروم ببيت المقدس على اليهود وكثر ظلمه فيهم، فأخرجوه عنهم بعد أن قتلوا جماعة من أصحابه، ولحق بمصر فلقي هنالك أغرباس ملك اليهود راجعا من روميّة ومعه قائدان من الروم، فشكى إليه فيلقوس بما وقع من اليهود، ومضى إلى بيت المقدس فشكى إليه اليهود بما فعل فيلقوس وأنهم عازمون على الخلاف، وتلطف لهم في الإمساك عن ذلك حتى تبلغ شكيتهم إلى قيصر ويعتذر منه، فامتنع العازار بن عنّاني وأبى إلا المخالفة، وأخرج القربان الّذي كان بعثه معه نيروش قيصر من البيت، ثم عمد إلى الروم الذين جاءوا مع أغرباس فقتلهم حيث وجدوا، وقتل القائدين. ونكر ذلك أشياخ اليهود واجتمعوا لحرب العازر وبعثوا إلى أغرباس، وكان خارج القدس، فبعث إليهم بثلاثة آلاف مقاتل، فكانت الحرب بينهم وبين العازار سجالا، ثم هزمهم وأخرجهم من المدينة، وعاث في البلد وخرّب قصور الملك ونهبها وأموالها وذخائرها، وبقي أغرباس والكهنونة والعلماء والشيوخ خارج المقدس. وبلغهم أنّ الأرمن قتلوا من وجدوه من اليهود بدمشق ونواحيها وبقيساريّة، فساروا إلى بلادهم وقتلوا من وجدوه بنواحي دمشق من الأرمن. ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 سار أغرباس إلى قيرش قيصر وخبّره الخبر فامتعض لذلك، وبعث إلى كسنينا وقائده على الأرمن، وقد كان مضى إلى حرب الفرس فدوّخها وقهرهم، وعاد إلى بلاد الأرمن فنزل دمشق فجاءه عهد قيصر بالمسير مع أغرباس ملك اليهود إلى القدس، فجمع العساكر وسار وخرّب كل ما مرّ عليه. ولقيه العازار الثائر بالقدس فانهزم ورجع، ونزل كسنينا وقائد الروم فأثخن فيهم، وارتحل كسنينا إلى قيساريّة، وخرج اليهود في اتباعهم فهزموهم، ولحق كسنينا وأغرباس بقيصر قيرش، فوافقوا وصول قائده الأعظم اسبنانوس [1] عن بلاد الغرب، وقد فتح الأندلس ودوّخ أقطارها فعهد إليه قيرش قيصر بالمسير إلى بلاد اليهود وأمره أن يستأصلهم ويهدم حصونهم. فسار ومعه ابنه طيطوش وأغرباس ملك اليهود، وانتهوا إلى أنطاكية، وتأهب اليهود لحربهم، وانقسموا ثلاث فرق في ثلاث نواحي مع كل فرقة كهنون، فكان عناني الكهنون الأعظم في دمشق ونواحيها، وكان ابنه العازر كهنون بلاد أروم وما يليها إلى أيلة، وكان يوسف بن كريّون كهنون طبريّة وجبل الخليل وما يتصل به، وجعلوا فيما بقي من البلاد من الأغوار الى حدود مصر من يحفظها من بقية الكهنونيّة. وعمّر كل منهم أسوار حصونه ورتب مقاتلته. وسار اسبنانوس بالعساكر من أنطاكية فتوسط في بلاد الأرمن وأقام، وخرج يوسف بن كريّون من طبرية فحاصر بعض الحصون بناحية الأغرباس ففتحه واستولى عليه، وبعث أهل طبريّة من ورائه إلى الروم فاستأمنوا إليهم، فزحف يوسف مبادرا وقتل من وجد فيها من الروم، وقبل معذرة أهل طبرية، وبلغه مثل ذلك عن جبل الخليل فسار إليهم وفعل فيهم فعله في طبرية. فزحف اليه اسبنانوس من عكّا في أربعين ألف مقاتل من الروم ومعه أغرباس ملك اليهود وسارت معهم الأمم من الأرمن وغيرهم، إلا أروم فإنّهم كانوا حلفاء لليهود منذ أيام هرقانوس. ونزل أسبنانوس بعساكره على يوسف بن كريّون ومن معه بطبريّة فدعاهم الى الصلح، فسألوا الإمهال إلى مشاورة الجماعة بالقدس، ثم امتنعوا وقاتلهم أسبنانوس بظاهر الحصن، فاستلمهم حتى قل عددهم، وأغلقوا الحصن فقطع عنهم الماء خمسين ليلة، ثم بيّتهم الروم فاقتحموا عليهم الحصن فاستلحموهم، وأفلت يوسف بن كريّون ومن معه من الفل فامتنعوا ببطن الأعراب، وأعطاهم أسبنانوس الأمان، فمال إليه يوسف وأبى القوم إلّا أن   [1] وفي نسخة اخرى: أسبيانوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 يقتلوا أنفسهم وهموا بقتله، فوافقهم على رأيهم إلى أن قتل بعضهم بعضا ولم يبق من يخشاه، فخرج إلى أسبنانوس مطارحا عليه، وحرّضه اليهود على قتله فأبى واعتقله وخرّب أعمال طبرية وقتل أهلها ورجع إلى قيساريّة. قال ابن كريّون: وفي خلال ذلك حدثت الفتنة في القدس بين اليهود داخل المدينة، وذلك أنه كان في جبل الخليل بمدينة كوشالة يهودي اسمه يوحنّان، وكان مرتكبا للعظائم واجتمع إليه أشرار منهم فقوي بهم على قطع السابلة والنهب والقتل، فلما استولى الروم على كوشالة لحق بالقدس وتألّف عليه أشرار اليهود من فل البلاد التي أخذها الروم، فتحكم على أهل المقدس وأخذ الأموال وزاحم عنّاني الكهنون الأعظم، ثم عزله واستبدل به رجلا من غواتهم وحمل الشيوخ على طاعته، فامتنعوا فتغلب عليهم فقتلهم. فاجتمع اليهود إلى عنّاني الكهنون وحاربهم يوحنان وتحصنوا في القدس، وراسله عنّاني في الصلح فأبى، وبعث إلى أروم يشتجيشهم فبعثوا إليه بعشرين ألفا منهم، فأغلق عنّاني أبواب المدينة دونهم، وحاط بهم من الأسوار، ثم استغفلوه وكبسوا المدينة، واجتمع معهم يوحنان فقتلوا من وجوه اليهود نحوا من خمسة آلاف وصادروا أهل النعم على أموالهم، وبعثوا يوحنان إلى المدن الذين استأمنوا إلى الروم فغنم أموالهم وقتل من وجد منهم. وبعث أهل القدس في استدعاء أسبنانوس وعساكره فزحف من قيساريّة حتى إذا توسّط الطريق خرج يوحنّان من القدس وامتنع ببعض الشعاب، فمال إليه أسبنانوس بالعسكر وظفر بالكثير منهم فقتلوهم. ثم سار إلى بلاد أروم ففتحها، وسبسطية بلاد السامرة ففتحها أيضا، وعمّر جميع ما فتح من البلاد، ورجع إلى قيسارية ليزيح علله ويسير الى القدس. ورجع يوحنّان أثناء ذلك من الشعاب، فغلب على المدينة، وعاث فيهم بالقتل، وتحكم في أموالهم، وأفسد حريمهم. قال ابن كريّون: وقد كان ثار بالمدينة في مغيب يوحنّان ثائرا آخر اسمه شمعون، واجتمع إليه اللصوص والشرار حتى كثر جمعه وبلغوا نحوا من عشرين ألفا، وبعث إليه أهل أروم عسكرا فهزمهم واستولى على الضياع ونهب الغلال، وبعث إلى امرأته من المدينة فردّها يوحنّان من طريقها وقطع من وجد معها، ثم أسعفوه بامرأته وسار إلى أروم فحاربهم وهزمهم، وعاد إلى القدس فحاصرها وعظم الضرر على أهلها من شمعون خارج المدينة ويوحنّان داخلها، ولجئوا إلى الهيكل وحاربوا يوحنّان فغلبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وقتل منهم خلقا، فاستدعوا شمعون لينصرهم من يوحنان فدخل ونقض العهد وفعل أشرّ من يوحنّان. قال ابن كريّون: ثم ورد الخبر إلى أسبنانوس وهو بمكانه من قيساريّة بموت قيروش قيصر وأنّ الروم ملكوا عليهم مضعفا اسمه نطاوس فغضب البطارقة الذين مع أسبنانوس وملكوه، وسار الى رومة وخلف نصف العسكر مع ابنه طيطش، وقدّم بين يديه قائدين إلى رومة لمحاربة نطاوس الّذي ملكه الروم فهزم وقتل، وسار أسبنانوس إلى اسكندرية وركب البحر منها، ورجع طيطش الى قيساريّة إلى أن ينسلخ فصل الشتاء ويزيح العلل. وعظمت الفتن والحروب بين اليهود داخل القدس وكثر القتل حتى سالت الدماء في الطرقات، وقتل الكهنونية على المذبح وهم لا يقربون الصلاة في المسجد لكثرة الدماء، وتعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي ومواقد النيران بالليل، وكان يوحنّان أخبث القوم وأشرّهم. ولما انسلخ الشتاء زحف طيطش في عساكر الروم إلى أنّ نزل على القدس وركب إلى باب البلد يتخيّر المكان لمعسكره ويدعوهم إلى السلم، فصموا عنه وأكمنوا له بعض الخوارج في الطريق فقاتلوه، وخلص منهم بشدّته، فعبى عسكره من الغد ونزل بجبل الزيتون شرقي المدينة ورتّب العساكر والآلات للحصار. واتفق اليهود داخل المدينة ورفعوا الحرب بينهم، وبرزوا إلى الروم فانهزموا، ثم عاودوا فظهروا، ثم انتقضوا بينهم وتحاربوا ودخل يوحنّان الى القدس يوم الفطر فقتل جماعة من الكهنونة وقتل جماعة أخرى خارج المسجد. وزحف طيطش وبرزوا إليه فردّوه إلى قرب معسكره، وبعث إليهم قائده نيقانور في الصلح فأصابه سهم فقتله، فغضب طيطش وصنع كبشا وأبراجا من الحديد توازي السور وشحنها بالمقاتلة، فأحرق اليهود تلك الآلات ودفنوها وعادوا إلى الحرب بينهم. وكان يوحنّان قد ملك القدس ومعه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة، ومع شمعون عشرة الاف من اليهود وخمسة آلاف من أروم، وبقية اليهود بالمدينة مع العازر وأعاط طيطش الزحف بالآلات وثلم السور الأوّل وملكه إلى الثاني، فاصطلح اليهود بينهم وتذامروا [1] واشتدّ الحرب، وباشرها طيطش بنفسه ثم زحف بالآلات إلى   [1] تذامروا: بمعنى تلاوموا ربما عنى المؤرخ تذمّروا بمعنى تحاضّوا على القتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 السور الثاني فثلمه، وتذامر اليهود فمنعوهم عنه ومكثوا كذلك أربعة أيام. وجاء المدد من الجهات إلى طيطش ولاذ اليهود بالأسوار وأغلقوا الأبواب، ورفع طيطش الحرب ودعاهم إلى المسالمة، فامتنعوا. فجاء بنفسه في اليوم الخامس وخاطبهم ودعاهم وجاء معه يوسف بن كريّون فوعظهم ورغبهم في أمنة الروم ووعدهم، وأطلق طيطش أسراهم فجنح الكثير من اليهود إلى المسالمة، ومنعهم هؤلاء لرؤساء الخوارج، وقتلوا من يروم الخروج إلى الروم، ولم يبق من المدينة ما يعصمهم إلّا السور الثالث. وطال الحصار واشتدّ الجوع عليهم والقتل، ومن وجد خارج المدينة لرعي العشب قتله الروم وصلبوه، حتى رحمهم طيطش ورفع القتل عمن يخرج في ابتغاء العشب. ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربع جهاته ونصب الآلات، وصبر اليهود على الحرب وتذامر اليهود وصعب الحرب وبلغ الجوع في الشدّة غايته، واستأمن متاي الكوهن إلى الروم وهو الّذي خرج في استدعاء شمعون، فقتله شمعون وقتل بنيه وقتل جماعة من الكهنونيّة والعلماء والأئمة ممن حذر منه أن يستأمن. ونكر ذلك العازر بن عنّاني ولم يقدر على أكثر من الخروج من بيت المقدس. وعظمت المجاعة فمات أكثر اليهود، وأكلوا الجلود والخشاش [1] والميتة، ثم أكل بعضهم بعضا، وعثر على امرأة تأكل ابنها، فأصابت رؤساؤهم لذلك رحمة، وأذنوا في الناس بالخروج، فخرجت منهم أمم وهلك أكثرهم حين أكلوا الطعام، وابتلع بعضهم في خروجه ما كان له من ذهب أو جوهر ضنة به، وشعر بهم الروم فكانوا يقتلونهم ويشقون عنها بطونهم، وشاع ذلك في توابع العسكر من العرب والأرمن فطردهم طيطش. وطمع الروم في فتح المدينة وزحفوا إلى سورها الثالث بالآلات ولم يكن لليهود طاقة بدفعها وإحراقها فثلموا السور، وبنى اليهود خلف الثلمة فأصبحت منسدة، وصدمها الروم بالكبش فسقطت من الحدة، واستماتوا في تلك الحال إلى الليل. ثم بيت الروم المدينة وملكوا الأسوار عليهم وقاتلوهم من الغد فانهزموا الى المسجد، وقاتلوا في الحصن، وهدم طيطش البناء ما بين الأسوار إلى المسجد ليتسع المجال. ووقف ابن كريّون يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا، وخرج جماعة من الكهنونية فأمنهم ومنع   [1] حشرات الأرض- حية الجبل (قاموس) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الرؤساء بقيتهم، ثم باكرهم طيطش بالقتال من الغد فانهزموا الأقداس [2] وملك الروم المسجد وصحنه. واتصلت الحرب أياما وهدمت الأسوار كلها وثلم سور الهيكل، وأحاط العساكر بالمدينة حتى مات أكثرهم وفرّ كثير. ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه ونصب الأصنام في الهيكل ومنع من تخريبه. ونكر رؤساء الروم ذلك ودسّوا من اضرم النار في أبوابه وسقفه، وألقى الكهنونة أنفسهم جزعا على دينهم وحزنوا، واختفى شمعون ويوحنّان في جبل صهيون، وبعث إليهم طيطش بالأمان فامتنعوا وطرقوا القدس في بعض الليالي، فقتلوا قائدا من قواد العسكر ورجعوا إلى مكان اختفائهم. ثم هرب عنهم أتباعهم وجاء يوحنّان ملقيا بيده إلى طيطش فقيده، وخرج إليه يوشع الكوهن بآلات من الذهب الخالص من آلات المسجد فيها منارتان ومائدتان، ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل، فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير ودراهم وطيبا فامتلأت يده منها، ورحل عن بيت المقدس بالغنائم والأموال والأسرى، وأحصى الموتى في هذه الوقعة. قال ابن كريّون: فكان عدد الموتى الذين خرجوا على الباب للدفن بأخبار مناحيم الموكل به مائة ألف وخمسة وعشرون ألفا وثمانمائة. وقال غير مناحيم كانت عدّتهم ستمائة ألف دون من ألقي في الآبار، أو طرح إلى خارج الحصن وقتل في الطرقات ولم يدفن. وقال غيره كان الّذي أحصي من الموتى والقتلى ألف ألف ومائة ألف والسبي والأسارى مائة ألف، كان طيطش في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع إلى أن فرغوا. وكان فيمن هلك شمعون أحد الخوارج الثلاثة. وأمّا الفرّار بن عفّان فقد كان خرج من القدس عند ما قتل شمعون أمتاي الكوهن كما ذكرنا، فلما رحل طيطش عن القدس نزل في بعض القرى وحصّنها واجتمع إليه فل اليهود، واتصل الخبر بطيطش وهو في انطاكية، فبعث إليه عسكرا من الروم مع قائده سلياس فحاصرهم أياما، ثم نهض الكهنونة وأولادهم وخرجوا إلى الروم مستميتين، فقاتلوا إلى أن قتلوا عن آخرهم. وأما يوسف بن كريّون فافتقد أهله وولده في هذه الوقائع ولم يقف لهم بعدها على خبر وأراده طيطش على السكنى عنده برومة، فتضرّع اليه في البقاء بأرض القدس، فأجابه إلى ذلك وتركه. وانقرضت دولة اليهود أجمع، والبقاء للَّه وحده سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه..   [2] الأصح ان يقول: فانهزم الاقداس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الخبر عن شأن عيسى بن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الاقسة على تدوين شريعته كان بنو ماثان من ولد داود صلوات الله عليه كهنونية بيت المقدس، وهو ماثان بن ألعازر بن اليهود بن أخس بن رادوق بن عازور بن ألياقيم بن أيود بن زروقابل بن سالات بن يوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني إسرائيل بن أمون بن عمون ابن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يواش بن أحزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن رحبعم بن سليمان ابن داود صلوات الله عليهما. ويوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني سليمان ولد في جلاء بابل وهذا النسب نقلته من إنجيل متى [1] . وكانت الكهنونية العظمى من بعد بني حشمناي لهم، وكان كبيرهم قبل عصر هيردوس عمران أبو مريم، ونسبه ابن إسحاق إلى أمون بن منشا الخامس عشر من ملوك بيت المقدس من لدن سليمان أبيهم، وقال فيه عمران بن ياشم بن أمون. وهذا بعيد لأن الزمان بين عمون وعمران أبعد من أن يكون بينهما أب واحد، فإنّ أمون كان قبيل الخراب الأوّل وعمران كان في دولة هيردوس قبيل الخراب الثاني، وبينهما قريب من أربعمائة سنة. ونقل ابن عساكر، والظنّ أنّه ينقل عن مستند، أنه من ولد زريافيل الّذي ولي على بني إسرائيل عند رجوعهم إلى بيت المقدس، وهو ابن يخنيا آخر ملوكهم الّذي حبسه بخت نصّر وولّى عمه صدقيا هو بعده كما مرّ. وقال فيه: عمران بن ماثان بن فلان بن فلان إلى زريافيل، وعدّ نحوا من ثمانية آباء بأسماء   [1] بعد مقارنة الأسماء في إنجيل متى ظهر تباين في بعض الأسماء وهذه هي الأسماء: إبراهيم ولد إسحاق وإسحاق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا واخوته ويهوذا ولد فارص وزارح من تامار وفارص ولد حصرون وحصرون ولد آرام وآرام ولد عميناب وعميناب ولد نحشون ونحشون ولد سلمون وسلمون ولد بوعز من ارحاب وبوعز ولد عوبير من راعوث وعوبير ولد يسى ويسى ولد داود الملك، وداود الملك ولد سليمان من التي كانت لأوباء، وسليمان ولد رحبعام ورحبعام ولد أبيّا وأبيّا ولد آسا وآسا ولد يوشافاط ويوشافاط ولد يورام ويورام ولد عزيا وعزيا ولد يوثام ويوثام ولد آحاز ولد حزقيا ولد منسي ومنسي ولد آمون وآمون ولد يوشيا ويوشيا ولد يكنيا واخوته في جلاء بابل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 عبرانية لا وثوق بضبطها، وهو أقرب من الأول وفيه ذكر ماثان الّذي هو شهرتهم، ولم يذكره ابن إسحاق. وكان عمران أبو مريم كهنونا في عصره، وكانت تحته حنّة بنت فاقود بن فيل وكانت من العابدات، وكانت أختها إيشاع ويقال خالتها تحت زكريّا بن يوحنّا، ونسبه ابن عساكر الى يهوشافاظ خامس ملوك القدس من عهد سليمان أبيهم وعد ما بينه وبين يهوشافاظ اثني عشر أبا أوّلهم يوحنا بأسماء عبرانية، كما فعل في نسب عمران، ثم قال وهو أبو يحيى صلوات الله عليهما، ويقال بالمدّ والقصر من غير ألف، وكان نبيا من بني إسرائيل صلوات الله عليهم أهـ. ونقلت من كتاب يعقوب بن يوسف النجّار مثان يعني ماثان من سبط داود، وكان له ولدان يعقوب ويؤاقيم، ومات فتزوّج أمّهما بعده مطنان، ومطنان بن لاوي من سبط سليمان بن داود وسمي ماثان فولدت هالي من مطنان. ثم تزوّج ومات ولم يعقب فتزوّج امرأته أخوه لأمه يعقوب بن ماثان فولدت منه يوسف خطيب مريم ونسب إلى هالي، لأنّ من أحكام التوراة إن مات من غير عقب فامرأته لأخيه وأوّل ولد منها ينسب إلى الأوّل، فلهذا قيل فيه يوسف بن هالي بن مطنان، وإنّما هو يوسف بن يعقوب بن ماثان وهو ابن عمّ مريم لحا [1] . وكان ليوسف من البنين خمسة بنين وبنت وهم يعقوب ويوشا وبيلوت وشمعون ويهوذا وأختهم مريم، كانوا يسكنون بيت لحم. فارتحل بأهله ونزل ناصرة وسكن بها وتعلم النجارة حتى صار يلقّب بالنجار. وتزوّج يؤاقيم حنّة أخت إيشاع العاقر امرأة زكريّا بن يوحنا المعمدان، وأقامت ثلاثين سنة لا يولد لها، فدعوا الله وولد لها مريم فهي بنت يؤاقيم موثان وهو مثان. وولدت إيشاع العاقر من زكريا ابنه يحيى. قلت في التنزيل مريم ابنة عمران فليعلم أن معنى عمران بالعبرانية يؤاقيم وكان له اسمان أهـ. وعن الطبري وكانت حنة أم مريم لا تحبل، فنذرت للَّه إن حملت لتجعلن ولدها حبيسا ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في نذر مثله، فلما حملت ووضعتها لفتها في خرقتها وجاءت بها إلى المسجد فدفعتها إلى عباده وهي ابنة امامهم وكهنونهم، فتنازعوا في كفالتها، وأراد زكريّا أن يستبدّ بها لأنّ زوجه إيشاع خالتها، ونازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامهم، فاقترعوا فخرجت قرعة زكريّا عليها فكفلها ووضعها في   [1] لحّا: بفتح اللام وشد الحاء المهملة قاله نصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها وهو المحراب فيما قيل. والظاهر أنّها دفعتها إليهم بعد مدّة إرضاعها. فأقامت في المسجد تعبد الله وتقوم بسدانة البيت في نوبتها حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها، وظهرت عليها الأحوال الشريفة والكرامات كما قصّه القرآن. وكانت خالتها إيشاع زوج زكريا أيضا عاقرا، وطلب زكريّا من الله ولدا، فبشره بيحيى نبيا كما طلب، لأنه قال يرثني ويرث من آل يعقوب وهم أنبياء فكان كذلك. وكان حاله في نشوه وصباه عجبا وولد في دولة هيردوس ملك بني إسرائيل، وكان يسكن القفار ويقتات الجراد ويلبس الصوف من وبر الإبل، وولّاه اليهود الكهنونية ببيت المقدس، ثم أكرمه الله بالنّبوّة كما قصه القرآن. وكان لعهده على اليهود بالقدس أنطيفس بن هيردوس وكان يسمى هيردوس [2] باسم أبيه، وكان شريرا فاسقا واغتصب امرأة أخيه وتزوّجها ولها ولدان منه، ولم يكن ذلك في شعرهم مباحا، فنكر ذلك عليه العلماء والكهنونية وفيهم يحيى بن زكريا، المعروف بيوحنان ويعرّفه النصارى بالمعمدان، فقتل جميع من نكر عليه ذلك وقتل فيهم يحيى صلوات الله عليه. وقد ذكر في قتله أسباب كثيرة وهذا أقربها إلى الصحة. وقد اختلف الناس هل كان أبوه حيّا عند قتله فقيل إنه لما قتل يحيى طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه، ففرّ أمامهم ودخل في بطن شجرة كرامة له فدلهم عليه طرف ردائه خارجا منها، فشقوها بالمنشار وشق زكريا فيها نصفين. وقيل بل مات زكريا قبل هذا والمشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي وقد مرّ ذكره. وكذلك اختلف في دفنه فقيل دفن ببيت المقدس وهو الصحيح. وقال ابو عبيد بسنده إلى سعيد بن المسيب أنّ بخت نصّر لما قدم دمشق وجد دم يحيى بن زكريّا يغلي، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن دمه. ويشكل أنّ يحيى كان مع المسيح في عصر واحد باتفاق وأنّ ذلك كان بعد بخت نصّر بأحقاب متطاولة وفي هذا ما فيه. وفي الإسرائيليات من تأليف يعقوب بن يوسف النجّار أنّ هيردوس قتل زكريا عند ما جاء المجوس للبحث عن إيشوع والإنذار به، وأنه طلب ابنه يوحنّا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم، فهربت به أمّه إلى الشقراء واختلفت. فطالب به أباه زكريّا وهو كهنون في الهيكل، فقال لا   [2] وفي الإنجيل: هيردوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 علم لي هو مع أمّه فتهدّده وقتله. ثم قال بعد قتل زكريا بسنة تولى الكهنونية يعقوب بن يوسف إلى أن مات هيرودوس. وأما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أن أكرمها الله بالولاية وبين الناس في نبوّتها خلاف من أجل خطاب الملائكة لها. وعند أهل السنة أنّ النبوّة مختصة بالرجل، قاله أبو الحسن الأشعري وغيره وأدلة الفريقين في أماكنها. وبشرت الملائكة مريم باصطفاء الله لها، وأنها تلد ولدا من غير أب يكون نبيّا، فعجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أنّ الله قادر على ما يشاء، فاستكانت وعلمت أنها محنة بما تلقاه من كلام الناس فاحتسبت. وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجّار أنّ أمّها حنّة توفيت لثمان سنين من عمر مريم، وكان من سنتهم أنّها إن لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل، فأوحى الله إليه أن يجمع أولاد هارون ويردّها إليهم، فمن ظهرت في عصاه آية تدفعها إليه تكون له شبه زوجة ولا يقربها، وحضر الجمع يوسف النجار فخرج من عصاه حمامة بيضاء ووقفت على رأسه، فقال له زكريّا هذه عزراء الرب تكون لك شبه زوجة ولا تردها. فاحتملها متكرّها بنت اثنتي عشرة سنة إلى ناصرة فأقامت معه، إلى أن خرجت يوما تستسقي من العين فعرض لها الملك [1] أوّلا وكلّمها ثم عاودها وبشّرها بولادة عيسى كما نصّ القرآن. فحملت وذهبت إلى زكريا ببيت المقدس فوجدته على الموت وهو يجود بنفسه، فرجعت الى ناصرة، ورأى يوسف الحمل فلطم وجهه وخشي الفضيحة مع الكهنونية فيما شرطوا عليه، فأخبرته بقول الملك، فلم يصدّق وعرض له الملك في نومه وأخبره أنّ الّذي بها من روح القدس، فاستيقظ وجاء إلى مريم فسجد لها وردّها إلى بيتها. ويقال إنّ زكريا حضر لذلك وأقام فيهما سنة اللعان الّذي أوصى به موسى، فلم يصبهما شيء وبرّأهما الله. ووقع في إنجيل متّى أنّ يوسف خطب مريم ووجدها حاملا قبل أن يجتمعا، فعزم على فراقها خوفا من الفضيحة، فأمر في نومه أن يقبلها وأخبره الملك بأن المولود من روح القدس، وكان يوسف صديقا وولد على فراشه إيشوع انتهى. وقال الطبريّ: كانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها، وفي رواية عنه أنه ابن خالها، وكانوا سدنة في بيت المقدس لا يخرجان منه إلّا لحاجة الإنسان، وإذا نفد   [1] وفي نسخة اخرى: الملاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 ماؤهما فيملآن من أقرب المياه. فمضت مريم يوما وتخلف عنها يوسف، ودخلت المغارة التي كانت تعهد أنها للورد، فتمثّل لها جبريل بشرا، فذهبت لتجزع، فقال لها «إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا 19: 19» فاستسقاها. وعن وهب بن منبه أنه نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى الرحم، فاشتملت على عيسى، فكان معها ذو قرابة يسمى يوسف النجّار، وكان في مسجد بجبل صهيون، وكان لخدمته عندهم فضل، وكانا يجمرانه ويقمانه. وكانا صالحين مجتهدين في العبادة، ولما رأى ما بها من الحمل استعظمه وعجب منه لما يعلم من صلاحها وأنها لم تغب قط عنه، ثم سألها فردّت الأمر إلى قدرة الله، فسكت وقام بما ينو بها من الخدمة. فلما بان حملها أفضت بذلك إلى خالتها إيشاع، وكانت أيضا حبلى بيحيى، فقالت لها اني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. ثم أمرت بالخروج من بلدها خشية أن يعيرها قومها ويقتلوا ما في بطنها، فاحتملها يوسف إلى مصر وأخذها المخاض في طريقها، فوضعته كما قصّة القرآن، واحتملته على الحمار، وأقامت تكتم أمرها من الناس وتتحفظ به، حتى بلغ اثنتي عشرة سنة وظهرت عليه الكرامات، وشاع خبره، فأمرت أن ترجع به إلى إيلياء فرجعت. وتتابعت عنه المعجزات وانثال الناس عليه يستشفون ويسألون عن الغيوب. قال الطبريّ: وفي خبر السدّي أنّها إنّما خرجت من المسجد لحيض أصابها، فكان نفخ الملك، وأنّ إيشاع خالتها التي سألتها عن الجمل وناظرتها فيه فحجتها بالقدرة، وأنّ الوضع كان في شرقي بيت لحم قريبا من بيت المقدس وهو الّذي بنى عليه بعض ملوك الروم البناء الهائل لهذا العهد. قال ابن العميد مؤرخ النصارى: ولد لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا، ولإحدى وثلاثين من دولة هيردوس الكبر، ولاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس قيصر. وفي الإنجيل أنّ يوسف تزوّجها ومضى بها ليكتم أمرها في بيت لحم، فوضعته هنالك ووضعته في مذود لأنها لم يكن لها موضع نزل. وأنّ جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم؟ وجاءوا الى هيردوس يسألونه وقالوا جئنا لنسجد له، وحدّثوه بما أخبر الكهان وعلماء النجوم من شأن ظهوره، وأنه يولد ببيت لحم من ابن سنتين فما دونها. وسمع اوغسطس قيصر بخبر المجوس فكتب إلى هيردوس يسأله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فكتب له بمصدوقية خبره وأنه قتل فيمن قتل من الصبيان. وكان يوسف النّجار قد أمر أن يخرج به الى مصر، فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة، وظهرت عليه الكرامات، وهلك هيرودوس الّذي كان يطلبه وأمروا بالرجوع إلى إيليا، فرجعوا. وظهر صدق شعيا النبيّ في قوله عنه من مصر دعوتك. وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجّار حذرا من أن يكتب كما أمر أوغسطس في بعض أيامه فأجاءها المخاض وهي في طريقها على حمار، فصابرته إلى قرية بيت لحم وولدت في غار وسماه إيشوع، وأنه لما بلغ سنتين، وكان من أمر المجوس ما قدّمناه، حذر هيرودوس من شأنه وأمر أن يقتل الصبيان ببيت لحم، فخرج يوسف به وبأمّه إلى مصر، أمر بذلك في نومه، وأقام بمصر سنتين حتى مات هيرودوس، ثم أمر بالرجوع فرجع الى ناصرة، وظهرت عليه الخوارق من احياء الموتى وإبراء المعتوهين وخلق الطير وغير ذلك من خوارقه، حتى إذا بلغ ثماني سنين كفّ عن ذلك. ثم جاء يوحنان [1] المعمدان من البرية، وهو يحيى بن زكريا، ونادى بالتوبة والدعاء إلى الدين، وقد كان شعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح، وجاء المسيح من الناصرة ولقيه بالأردن فعمده يوحنان وهو ابن ثلاثين سنة، ثم خرج الى البرية واجتهد في العبادة والصلاة والرهبانية واختار تلامذته الاثني عشر: سمعان بطرس وأخوه أندراوس ويعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا وفيليبس وبرتولوماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفا وتداوس وسمعان القناني [2] ويهوذا الأسخريوطي. وشرع في إظهار المعجزات. ثم قبض هيرودوس الصغير على يوحنان وهو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه، فقتله ودفن بنابلس. ثم شرّع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات، وحلّل وحرّم وأنزل عليه الإنجيل، وظهرت على يديه الخوارق والعجائب، وشاع ذكره في النواحي، واتبعه الكثير من بني إسرائيل، وخافه رؤساء اليهود على دينهم، وتأمروا في قتله. وجمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليلتين يطعمهم ويبالغ في خدمتهم بما استعظموه، قال وإنما فعلته لتتأسوا به، وقال يعظهم ليكفرنّ بي بعضكم قبل أن يصيح الديك ثلاثا ويبيعني أحدكم بثمن بخس وتأكلوا ثمني، ثم افترقوا. وكان اليهود قد بعثوا العيون   [1] وفي الإنجيل يوحنا. [2] وفي إنجيل متى: سمعان الغيور أو سمعان القناني أو القانوني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 عليهم، فأخذوا شمعون من الحواريين فتبرّأ منهم وتركوه، وجاء يهوذا الأسخريوطي وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهما، وأراهم مكانه الّذي كان يبيت فيه، وأصبحوا به إلى فلاطش النبطي [1] قائد قيصر على اليهود. وحضر جماعة الكهنونية وقالوا هذا يفسد ديننا ويحل نواميسنا ويدّعي الملك فأقتله. وتوقف فصاحوا به وتوعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر فأمر بقتله. وكان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه فقتل ذلك الشبه وصلب، وأقام سبعا. وجاءت أمّه تبكي عند الخشبة فجاءها عيسى وقال: مالك تبكي؟ قالت: عليك. قال: إنّ الله رفعني ولم يصبني إلّا خير وهذا شيء شبه لهم، وقولي للحواريين يلقوني بمكان كذا. فانطلقوا إليه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي، كما عين لهم من قبل. وعند علماء النصارى أن الّذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس ومعه بولس من الأتباع ولم يكن حواريا، وإلى أرض السودان والحبشة ويعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس متّى العشار، وأندراوس إلى أرض بابل، والمشرق توماس، وإلى أرض إفريقية فيلبس، وإلى أفسوس قرية أصحاب الكهف يوحناس، وإلى أورشليم وهي بيت المقدس يوحنا، وإلى أرض العرب والحجاز برتلوماوس، وإلى أرض برقة والبربر شمعون القناني. قال ابن إسحاق: ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم ويفتنونهم، وسمع قيصر بذلك وكتب إليه فلاطش النبطي قائده بأخباره ومعجزاته وبغي اليهود عليه وعلى يوحنان قبله، فأمرهم بالكف عن ذلك. ويقال قتل بعضهم. وانطلق الحواريّون إلى الجهات التي بعثهم إليها عيسى فآمن به بعض وكذب بعض. ودخل يعقوب أخو يوحنان إلى رومة فقتله غاليوس قيصر وحبس شمعون، ثم خلص وسار إلى أنطاكية ثم رجع إلى رومة أيام قلوديش قيصر بعد غاليوس، واتبعه كثير من الناس وآمن به بعض نساء القياصرة وأخبرها بخبر الصليب، فدخلت إلى القدس وأخرجته من تحت الزبل والقمامات بمكان الصلب وغشته بالحرير والذهب وجاءت به إلى رومة. وأما بطرس كبير الحواريين وبولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية، ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه، وكتب متّى انجيله بالعبرانية في بيت المقدس ونقله من بعد ذلك   [1] وفي الإنجيل بيلاطس البنطي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 يوحنّان بن زيدي إلى رومة، وكتب لوقا انجيله بالرومية وبعثه الى بعض أكابر الروم، وكتب يوحنّا بن زيدي انجيله برومة. ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس، وكتبوا فيها عدّ الكتب التي يجب قبولها، فمن القديمة: التوراة خمسة أسفار، وكتاب يوشع بن نون، وكتاب القضاة، وكتاب راعوث، وكتاب يهوذا، وأسفار الملوك أربعة كتب، وسفر بنيامين، وسفر المقباسين [1] ثلاثة كتب، وكتاب عزرا الامام، وكتاب أشير، وكتاب قصة هامان، وكتاب أيّوب الصديق، ومزامير داود النبي، وكتب ولده سليمان خمسة، ونبوّات الأنبياء الصغار والكبار ستة عشر كتابا، وكتاب يشوع بن شارخ [2] . ومن الحديثة: كتب الإنجيل الأربعة، وكتب القتاليقون سبع رسائل، وكتاب بولس أربع عشرة رسالة، والإيركسيس وهو قصص الرسل ويسمى أفليمد ثمانية كتب تشتمل على كلام الرسل وما أمروا به ونهوا عنه. وكتاب النصارى الكبار إلى أساقفتهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة يعلمون بها دين النصرانية فكان: برومة بطرس الرسول الّذي بعثه عيسى صلوات الله عليه، وكان بيت المقدس يعقوب النجّار، وكان بالإسكندرية، مرقص تلميذ بطرس، وكان ببيزنطية وهي قسطنطينية أندرواس [3] الشيخ، وكان بأنطاكية [4] . وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك وهو رئيس الملّة وخليفة المسيح فيهم، ويبعث نوّابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية ويسمّونه الأسقف أي نائب البطرك، ويسمّون القرّاء بالقسيس، وصاحب الصلاة بالجاثليق، وقومة المسجد بالشمامسة، والمنقطع الّذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب، والقاضي بالمطران. ولم يكن بمصر لذلك العهد أسقف الى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة اسكندرية وكان بطرك أساقفة بمصر. وكان الأساقفة يسمون البطرك أبا، والقسوس يسمون الأساقفة أبا، فوقع الاشتراك في اسم الأب، فاخترع اسم   [1] وهو سفر المكتابيين وهو كتابان: الأول والثاني، كما في التوراة. [2] وفي التوراة: يشوع بن سيراخ. [3] وفي الإنجيل اندراوس. [4] بياض بالأصل وفي الإنجيل: وكان في الكنيسة التي بأنطاكية أنبياء ومعلمون منهم برنابا وسمعان الملقب بالأسود ولوقيوس القيرواني ومناين الّذي تربى مع هيردوس رئيس الربع وشارل (اعمال الرسل الفصل 13) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 البابا لبطرك الاسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس، ومعناه أبو الاباء فاشتهر هذا الاسم. ثم انتقل الى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح، وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا. ثم جاء بعد قلوديش قيصر نيرون قيصر فقتل بطرس كبير الحواريين وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه الى رومة، وجعل مكان بطرس أرنوس برومة. وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس وكان بالإسكندرية يدعو الى الدين سبع سنين ويبعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب وقتله نيرون، وولى بعده حنينا وهو أوّل البطاركة عليها بعد الحواريين. وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس وهو يعقوب النجّار وهدموا البيعة ودفنوا الصليب الى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد، وجعل نيرون مكان يعقوب النجّار ابن عمه شمعون بن كيافا. ثم اختلفت حال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين وتركه كما يأتي في أخبارهم، الى أن جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة، وكانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية. وكانت أمه هيلانة صالحة فأخذت بدين المسيح لاثنتين وعشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها، وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمت وسألت عن الخشبة التي صلب عليهما بزعمهم، فأخبرت بما فعل اليهود فيها وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحا للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات، فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم، وقيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته، فطهرتها وطيبتها وغشتها بالذهب والحرير، ورفعتها عندها للتبرك بها، وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة [1] . وخربت مسجد بني إسرائيل وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود، إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند فتح بيت المقدس كما نذكره هنالك. وكان من ميلاد المسيح إلى وجود الصليب ثلاثمائة وثمان وعشرون سنة، وأقام هؤلاء النصرانية بطاركتهم وأساقفتهم على إقامة دين المسيح على ما وضعه الحواريون من القوانين والعقائد والأحكام. ثم حدث بينهم اختلاف في العقائد وسائر ما ذهبوا إليه   [1] كان اسمها قيامه فحرفوها قمامه. كذا في الخطط قاله نصر. أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 من الإيمان باللَّه وصفاته، وحاش للَّه وللمسيح وللحواريّين أن يذهبوا إليه، وهو معتقدهم التثليث. وإنما حملهم عليه ظواهر من كلام المسيح في الإنجيل لم يهتدوا إلى تأويلها، ولا وقفوا على فهم معانيها، مثل قول المسيح حين صلب بزعمهم: أذهب إلى أبي وأبيكم. وقال: افعلوا كذا وكذا من البر لتكونوا أبناء أبيكم في السماء وتكونوا تامّين، كما أنّ أباكم الّذي في السماء تامّ. وقال له في الإنجيل إنّك أنت الابن الوحيد. وقال له شمعون الصفا إنك ابن الله حقا. فلما أثبتوا هذه الأبوة من ظاهر هذا اللفظ زعموا أنّ عيسى ابن مريم من أب قديم، وكان اتصاله بمريم تجسد كلمة منه مازجت جسد المسيح وتدرعت به، فكان مجموع الكلمة والجسد ابنا، وهو ناسوت كلي قديم أزلي، وولدت مريم إلها أزليا والقتل والصلب وقع على الجسد والكلمة، ويعبرون عنهما بالناسوت واللاهوت. وأقاموا على هذه العقيدة ووقع بينهم فيها اختلاف، وظهرت مبتدعة من النصرانية اختلفت أقوالهم الكفرية، كان من أشدّهم ابن دنصان، ودافعهم هؤلاء الأساقفة والبطاركة عن معتقدهم الذين كانوا يزعمونه حقّا، وظهر يونس الشميصانيّ بطرك انطاكية بعد حين أيام افلوديس قيصر، فقال بالوحدانية ونفى الكلمة والروح، وتبعه جماعة على ذلك. ثم مات فردّ الأساقفة مقالته وهجروها ولم يزالوا على ذلك إلى أيام قسطنطين بن قسطنطين، فتنصّر ودخل في دينهم. وكان باسكندرية أسكندروس البطرك وكان لعهده أريوش [1] من الأساقفة، وكان يذهب الى حدوث الابن وأنه إنما خلق الخلق بتفويض الأب إليه في ذلك، فمنعه إسكندروس الدخول إلى الكنيسة وأعلم أن إيمانه فاسد، وكتب بذلك إلى سائر الأساقفة والبطاركة في النواحي. وفعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي أريوش، فدفعوا أمرهم إلى قسطنطين وأحضرهم جميعا لتسع عشرة من دولته، وتناظروا. ولما قال أريوش: إنّ الابن حادث وأنّ الأب فوّض إليه بالخلق. وقال الإسكندروس: بالخلق استحق الألوهية، فاستحسن قسطنطين قوله وأذن له أن يشيد بكفر أريوش. وطلب الإسكندروس باجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني، فجمعهم قسطنطين وكانوا ألفين وثلاثمائة وأربعين أسقفا وذلك في مدينة نيقية، فسمي المجتمع مجتمع نيقية، وكان رئيسهم الإسكندروس بطرك إسكندرية، وأسطانس بطرك أنطاكية،   [1] وفي نسخة اخرى أريوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ومقاريوس أسقف بيت المقدس. وبعث سلطوس بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه، فتفاوضوا وتناظروا واتفقوا عنهم، بعد الاختلاف الكثير، على ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد، فصار قسطنطين إلى قولهم، وأعطى سيفه وخاتمه وباركوا عليه ووضعوا له قوانين الدين والملك، ونفى أريوش وأشيد بكفره وكتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع، ونصّها عندهم على ما نقله ابن العميد من مؤرخيهم والشهرستاني في كتاب الملل والنحل وهو: «نؤمن باللَّه الواحد الأحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الوحيد إيشوع المسيح [2] ابن الله ذكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من جوهر أبيه الّذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بعث العوالم وكل شيء الّذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام فيلا طوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعدّ للمجيء تارة أخرى بالقضاء بين الاحياء والأموات ونؤمن بروح الواحد روح الحق الّذي يخرج من أبيه بمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا بالحياة الدائمة أبد الآبدين انتهى» . هذا هو اتفاق المجمع الأوّل الّذي هو مجمع نيقية وفيه إشارة إلى حشر الأبدان ولا يتفق النصارى عليه، وإنما يتفقون على حشر الأرواح ويسمون هذه العقيدة الأمانة، ووضعوا معها قوانين الشرائع ويسمونها الهيمايون: وتوفي الإسكندروس البطرك بعد هذا المجمع بخمسة أشهر، ولما عمرت هلانة أم قسطنطين الكنائس وأحب الملك أن يقدسها ويجمع الأساقفة لذلك، وبعث أوسانيوس بطرك القسطنطينية وحضر معهم أثناس بطرك الإسكندرية، واجتمعوا في صور وكان أوسانيوس الّذي أخرجه إسكندروس مع أريوس من كنيسة إسكندرية. وكان بسبب ذلك مجمع نيقية وكتاب الأمانة. ونفي أريوس حينئذ وأوسانيوس وصاحبهما ولعنوا. جاء أوسانيوس من بعد ذلك وأظهر البراءة من أريوس ومن مقالته فقبله قسطنطين وجعله بطركا بالقسطنطينية، فلما اجتمعوا في صور وكان فيهم أومانيوس على رأي أريوس، فأشار أوسانيوس بطرك القسطنطينية بأن يظاهر أثناس بطرك الاسكندرية عن مقالة أريوس. فقال أومانيوس: إنّ أريوس لم يقل إنّ المسيح   [2] وهو يسوع المسيح كما في الإنجيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 خلق العالم وإنما قال هو كلمة الله التي بها خلق كما وقع في الإنجيل. فقال أثناس بطرك الاسكندرية: وهذا الكلام أيضا يقتضي أنّ الابن مخلوق وأنه خلق المخلوقات دون الأب لأنه إذا كان يخلق به فالأب لم يخلق شيئا لأنه مستعين بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى ذلك المتمّم فهو في ذاته الخالق والله سبحانه منزّه عن ذلك وإن زعم أريوس ان الأب يريد الشيء والابن يكونه فقد جعل فعل الابن أتمّ لأنّ الأب إنما له الارادة فقط وللابن الاختراع فهو أتم. فلما ظهر بطلان مقالة أريوس وثبوا على أومانيوس المناظر عن مقالة أريوس وضربوه ضربا وجيعا، وخلصه ابن أخت الملك، ثم قدّسوا الكنائس، وانفضّ الجمع وبلغ الخبر إلى قسطنطين فندم على بطركية أوسانيوس بالقسطنطينية وغضب عليه ومات لسنتين من رياسته، واجتمع بعد ذلك أصحاب أريوس إلى قسطنطين فحسنوا له تلك المقالة، وأنّ جماعة نيقية ظلموا أريوس وبغوا عليه وصدّوا عن الحق في قولهم إنّ الأب مساو للابن في الجوهرية وكاد الملك أن يقبل منهم. فكتب إليه كيراش أسقف بيت المقدس يحذره من مقالة أريوس فقبل ورجع. واختلف حال ملوك القياصرة بعد قسطنطين في الأخذ بالأمانة أو بمقالة أريوس، وظهور إحدى الطائفتين متى كان الملك على دينهم. وأفحش بعض ملوك القياصرة في الحق على مخالفه، فقال له بعض العلماء والحكماء: لا تنكر المخالفة فالحنفاء يختلفون أيضا وإنما هم الخلق يحمدون الله ويصفونه بالصفات الكثيرة والله يحب ذلك. فسكن بعض الشيء وكان بعضهم يعرض عن الطائفتين ويخلي كل أحد ودينه. ثم كان المجمع الثاني بقسطنطينية بعد مجمع نيقية بمائتين وخمسين سنة اجتمعوا للنظر في مقالة مقدونيوس وسليوس، بأن جسد المسيح بغيرنا موت وأنّ اللاهوت أغناه عنها، مستدلين بما وقع في الإنجيل أنّ الكلمة صار لحما ولم يقل صار إنسانا، وجعلا من الإله عظيما وأعظم منه والأب أفضل عظما. وقال: إن الأب غير محدود في القوّة وفي الجوهر. فأبطلوا هذه المقالة ولعنوهما وأشادوا بكفرهما وزادوا في الأمانة التي قرّرها جماعة نيقية ما نصه: «ونؤمن بروح القدس المنتقى من الأب» . ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلمة الأمانة أو ينقص منها. ثم كان لهم بعد ذلك بأربعين سنة المجمع الثالث على نسطوريوس البطرك بالقسطنطينية لأنه كان يقول: إنّ مريم لم تلد إلها وإنما ولدت إنسانا، وإنما اتحد به في المشيئة لا في الذات وليس هو إلها حقيقية بل بالموهبة والكرامة. ويقول بجوهرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وأقنومين: وهذا الرأي الّذي أظهره نسطوريوس كان رأي تاودوس وديودوس الأسقفين، وكان من مقالتهما أنّ المولود من مريم هو المسيح والمولود من الأب هو الابن الأزلي والابن الأزلي حلّ في المسيح المحدث فسمي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة، وإنّما الاتحاد بالمشيئة والارادة. فأثبتوا للَّه ولدين أحدهما بالجوهر والثاني بالنعمة. وبلغت مقالة نسطوريوس إلى كرلس بطرك اسكندرية، فكتب الى بطرك رومة وهو أكليمس، وإلى يوحنا وهو بطرك أنطاكية، وإلى يونالوس أسقف بيت المقدس. فكتبوا إلى نسطوريوس ليدفعوه عن ذلك بالحجة فلم يرجع ولا التفت إلى قولهم. فاجتمعوا في مدينة أفسيس [1] في مائتين أسقفا للنظر في مقالته، فقرّروا إبطالها ولعنوه وأشاروا بكفره، ووجد عليهم يوحنّا بطرك أنطاكية حيث لم ينتظروا حضوره فخالفهم ووافق نسطوريوس، ثم أصلح بينهم باوداسوس من بعد مدّة واتفقوا على نسطوريوس. وكتب أساقفة المشارقة أمانتهم وبعثوا بها إلى كرلّس فقبلها ونفى نسطوريوس إلى صعيد مصر، فنزل أخميم ومات بها لسبع سنين من نزولها، وظهرت مقالته في نصارى المشرق وبفارس والعراق والجزيرة والموصل الى الفرات. وكان بعد ذلك بإحدى وعشرين سنة المجمع الرابع بمدينة خلقدونية، اجتمع فيه ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفا من فتيان قيصر للنظر في مقالة ديسقورس بطرك الاسكندرية لأنه كان يقول: المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين وطبيعة من طبيعتين ومشيئة من مشيئتين. وكانت الأساقفة والبطاركة لذلك العهد يقولون بجوهرين وطبيعتين ومشيئتين وأقنوم واحد، فخالفهم ديسقورس في بعض الأساقفة وكتب خطه بذلك ولعن من يخالفه. فأراد مرقيان قيصر قتله، فأشارت البطارقة بإحضاره وجمع الأساقفة لمناظرته، فحضر بمجلس مرقيان قيصر وافتضح في مخاطبتهم ومناظرتهم. وخاطبته زوج الملك فأساء الردّ فلطمته بيدها، وتناوله الحاضرون بالضرب، وكتب مرقيان قيصر إلى أهل مملكته في جميع النواحي بأنّ مجمع خلقدونية هو الحق ومن لا يقبله يقتل. ومرّ ديسقورس بالقدس وأرض فلسطين وهو مضروب منفي فاتبعوا رأيه، وكذلك اتبعه أهل مصر والإسكندرية، وولّى وهو في النفي أساقفة كثيرة كلهم يعقوبية. قال ابن العميد: وإنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأنّ اسمه كان في الغلمانية   [1] وهي مدينة أفسس كما في الإنجيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 يعقوب، وكان يكتب إلى المؤمنين من المسكين المنفي يعقوب. وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه. وقيل بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقورس وكان له تلميذ اسمه يعقوب، فكان شاويرش يبعث يعقوب إلى المؤمنين ليثبتوا على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه. قال: ومن جمع خلقدونية افترقت الكنائس والأساقفة إلى يعقوبية وملكية ونسطورية، فاليعقوبية أهل مذهب ديسقورس الّذي قرّرناه آنفا، والملكية أهل الأمانة التي قرّرها جماعة نيقية وجماعة خلقدونية بعدهم وعليها جمهور النصرانية، والنسطورية أهل المجمع الثالث وأكثرهم بالمشرق. وبقي الملكية واليعقوبية يتعاقبون في الرئاسة على الكراسي بحسب من يريدهم من القياصرة وما يختارونه من المذهبين. ثم كان بعد ذلك بمائة وثلاثين سنة أو ثلاث وستين سنة المجمع الخامس بقسطنطينية في أيام يوسيطانوس قيصر، للنظر في مقالة أقفسح لأنه نقل عنه أنه يقول: بالتناسخ وينكر البعث. ونقل عن أساقفة أنقرا والمصيصة والرها أنهم يقولون أنّ جسد المسيح فنطايسا [1] . فأحضر قيصر جمعهم بالقسطنطينية ليناظرهم البطرك بها، فقال البطرك: إن كان جسد المسيح فني فقوله وفعله كذلك. وقال الأسقف أقفسح: إنما قام المسيح من بين الأموات فأشادوا بكفره وأوجبوا لعنتهم ولعنة من يقول بقولهم. واستقرّت فرق النصارى على هذه الثلاثة. الخبر عن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم الى تمامه وانقراضه هذه الأمّة من أقدم أمم العالم وأشدهم قوة وآثارا في الأرض، وكانت لهم في العالم دولتان عظيمتان طويلتان: الأولى منهما الكينية، ويظهر أنّ مبتدأها ومبتدأ دولة التبابعة وبني إسرائيل واحد وأنّ الثلاثة متعاصرة. ودولة الكينية هذه هي التي غلب عليها الإسكندر والساسانية الكسروية، ويظهر أنها معاصرة لدولة الروم بالشام، وهي التي غلب عليها المسلمون. وأما ما قبل هاتين الدولتين فبعيد، وأخباره متعارضة   [1] الواضح ان هذه الكلمة محرّفة ومقتضى السياق: فني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 ونحن ذاكرون ما اشتهر من ذلك. وأما أنسابهم فلا خلاف بين المحققين أنهم من ولد سام بن نوح وأن جدّهم الأعلى الّذي ينتمون إليه هو فرس، والمشهور أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح. وأرض إيران هي بلاد الفرس، ولما عربت قيل لها إعراق، هذا عند المحققين. وقيل إنهم منسوبون إلى إيران بن إيران بن أشوذ، وقيل إلى غليم بن سام. ووقع في التوراة ذكر ملك الأهواز كردامر من بني غليم، فهذا أصل هذا القول والله أعلم، لأنّ الأهواز من ممالك بلاد فارس. وقيل: إلى لاوذ بن إرم بن سام، وقيل إلى أميم بن لاوذ، وقيل إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق. ويقال إنّ الساسانيّة فقط من ولد إسحاق وأنه يسمى عندهم وترك، وأنّ جدّهم منوشهر بن منشحر بن فرهس بن وترك، هكذا نقل المسعودي هذه الأسماء وهي كما تراه غير مضبوطة. وفيما قيل: إنّ الفرس كلهم من ولد إيران بن أفريدون الآتي ذكره، وأنّ من قبله لا يسمون بالفرس والله أعلم. وكان أوّل ما ملك إيران أرض فارس فتوارث أعقابه الملك ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة، ثم اتسعت مملكتهم إلى الإسكندرية غربا وباب الأبواب شمالا. وفي الكتب أنّ أرض إيران هي أرض الترك، وعند الإسرائيليين أنهم من ولد طيراش بن يافث وإخوتهم بنو مادي بن يافث وكانوا مملكة واحدة. فأما علماء الفرس ونسّابتهم فيأبون من هذا كله وينسبون الفرس إلى كيومرث ولا يرفعون نسبه إلى ما فوقه، ومعنى هذا الاسم عندهم ابن الطين وهو عندهم أوّل النسب، هذا رأيهم. وأما مواطن الفرس فكانت أوّل أمرهم بأرض فارس وبهم سميت، ويجاورهم إخوانهم في نسب أشوذ بن سام وهم فيما قال البيهقي: الكرد والديلم والخزر والنبط والجرامقة. ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة وسائر هؤلاء الأمم، ثم اتسعت ممالكهم إلى الإسكندرية. وفي هذا الجيل على ما اتفق عليه المؤرخون أربع طبقات: الطبقة الأولى تسمى البيشدانية، والطبقة الثانية تسمى الكينية، والطبقة الثالثة تسمى الاشكانية، والطبقة الرابعة تسمى الساسانية، ومدة ملكهم في العالم على ما نقل ابن سعيد عن كتاب تاريخ الأمم لعليّ بن حمزة الأصبهاني، وذلك من زمن كيومرث أبيهم إلى مهلك يزدجرد أيام عثمان أربعة آلاف سنة ومائتا سنة ونحو إحدى وثمانين سنة. وكيومرث عندهم هو أوّل ملك نصب في الأرض ويزعمون، فيما قال المسعودي، أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 عاش ألف سنة، وضبطه بكاف أوّل الاسم قبل الياء المثناة من أسفل، والسهيليّ ضبطه، بجيم مكان الكاف والظاهر أنّ الحرف بين الجيم والكاف كما قدّمناه. الطبقة الاولى من الفرس وذكر ملوكهم وما صار اليه في الخليقة أحوالهم الفرس كلهم متفقون على أنّ كيومرت هو آدم الّذي هو أوّل الخليقة، وكان له ابن اسمه منشا ولمنشا سيامك ولسيامك أفروال ومعه أربعة بنين وأربع بنات، ومن أفروال كان نسل كيومرت، والباقون انقرضوا فلا يعرف لهم عقب. قالوا: وولد لأفروال أوشهنك بيشداد، فاللفظة الأولى حرفها الأخير بين الكاف والقاف والجيم واللفظة الأخرى معناها بلغتهم النور، قاله السهيليّ. وقال الطبري: أوّل حاكم بالعدل، وكان أفروال وارث ملك كيومرت وملك الأقاليم السبعة. قال الطبري عن ابن الكلبي: إنه أوشهنك بن عابر بن شالخ، قال: والفرس تدعيه وتزعم أنه بعد آدم بمائتي سنة، قال وإنما كان نوح بعد آدم بمائتي سنة فصيره بعد آدم. وأنكره الطبري لأنّ شهرة اوشهنك تمنع من مثل هذا الغلط فيه، ويزعم بعض الفرس أنّ أوشهنك بيشداد هو مهلايل وأنّ أباه أفروال هو قينن وأنّ سيامك هو أنوش وأنّ منشا هو شيث وأنّ كيومرت هو آدم. قال وزعمت الفرس أنّ ملك أوشهنك كان أربعين سنة فلا يبعد أن يكون بعد آدم بمائتي سنة. وقال بعض علماء الفرس: أنّ كيومرت هو كومر بن يافث بن نوح، وأنه كان معمرا ونزل جبل دنباوند من جبال طبرستان وملكها، ثم ملك فارس وعظم أمره وأمر بنيه حتى ملكوا بابل. وأنّ كيومرت هو الّذي بنى المدن والحصون واتخذ الخيل وتسمى بآدم وحمل الناس على دعائه بذلك، وأنّ الفرس من عقب ولده ماداي، ولم يزل الملك في عقبهم في الكينية والكسرويّة إلى آخر أيامهم. وتقول الفرس أنّ أوشهنك وهو مهلايل ملك الهند، قالوا وملك بعد أوشهنك طهمورث بن أنوجهان بن أنكهد بن أسكهد بن أوشهنك. وقيل مكان أسكهد فيشداد، وكلّها أسماء أعجمية لا عهدة علينا في نقلها لعجمتها وانقطاع الرواية في الأصول التي نقلت منها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 قال ابن الكلبي: إنّ طهمورث أوّل ملوك بابل وأنه ملك الأقاليم كلها وكان محمودا في ملكه وفي أوّل سنة من ملكه ظهر بيوراسب ودعا إلى ملة الصابئة. وقال علماء الفرس: ملك بعد طهمورث جمشيد ومعناه الشعاع لجمالة وهو جمّ بن نوجهان أخو طهمورث، وملك الأرض واستقام أمره، ثم بطر النعمة وساءت أحواله فخرج عليه قبل موته بسنة بيوراسب وظفر به فنشره بمنشار وأكله وشرط أمعاءه. وقيل إنه ادّعى الربوبية فخرج عليه أوّلا أخوه أستوير فاختفى. ثم خرج بيوراسب فانتزع الأمر من يده وملك سبعمائة سنة. وقال ابن الكلبي مثل ذلك. قال الطبري: بيوراسب هو الازدهاك والعرب تسميه الضحاك، وهو بصاد بين السين والزاي وجاء قريب من الهاء وكاف قريبة من القاف وهو الّذي عني أبو نواس بقوله: وكان منّا الضحاك تعبده ... الجامل [1] والجن في محاربها لأنّ اليمن تدعيه. قال: وتقول العجم إنّ جمشيد زوّج أخته من بعض أهل بيته وملك على اليمن فولدت الضحاك. وتقول أهل اليمن في نسبه الضحاك بن علوان بن عبيدة بن عويج، وأنه بعث على مصر أخاه سنان بن علوان ملكا وهو فرعون إبراهيم، قاله ابن الكلبيّ. وأما الفرس فينسبونه هكذا: بيوراسب بن رتيكان بن ويدوشتك بن فارس بن أفروال، ومنهم من خالف في هذا. ويزعمون أنه ملك الأقاليم كلّها، وكان ساحرا كافرا وقتل أباه، وكان أكثر إقامة ببابل. وقال هشام: ملك الضحاك وهو نمرود الخليل بعد جمشيد وأنّه التاسع منهم، وكان مولده بدنباوند، وأنّ الضحاك سار إلى الهند فخالفه أفريدون إلى بلاده فملكها، ورجع الضحاك فظفر به أفريدون وحبسه بجبال دنباوند، واتخذ يوم ظفر به عيدا. وعند الفرس أنّ الملك إنّما كان للبيت الّذي وطنه أوشهنك وجمشيد وأن الضحاك هو بيوراسب خرج عليهم وبنى بابل، وجعل النبط جنده، وغلب أهل الأرض بسحره، وخرج عليه رجل من عامّة أصبهان اسمه عالي، وبيده عصا علّق فيها جرابا واتخذها راية، ودعا الناس إلى حربه، فأجابوا وغلبه فلم يدع الملك وأشار بتولية بني جمشيد لأنّه من عقب أوشهنك ملكهم الأوّل ابن أفروال، فاستخرجوا أفريدون من مكان اختفائه فملكوه واتبع الضحاك فقتله، وقيل أسره بدنباوند. ويقال كان على   [1] الجامل: قطيع الإبل مع رعاته وأربابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 عهد نوح وإليه بعث. ولهذا يقال إنّ أفريدون هو نوح، والتحقيق عند نسابة الفرس على ما نقل هشام بن الكلبيّ أنّ أفريدون من ولد جمشيد بينهما تسعة آباء. وملك مائتي سنة وردّ غصوب الضحاك ومظالمه. وكان له ثلاثة بنين الأكبر سرم والثاني طوج والثالث إيرج، وأنه قسّم الأرض بينهم، فكانت الروم وناحية المغرب لسرم، والترك والصين والعراق لإيرج وآثره بالتاج والسرير، ولما مات قتله أخواه واقتسما الأرض بينهما ثلاثمائة سنة. ويزعمون أنّ أفريدون وآباءه العشرة يلقّبون كلهم أشكيان، وقيل في قسمته الأرض بين ولده غير هذا، وأنّ بابل كانت لإيرج الأصغر وكان يسمّى خيارث ويقال كان لإيرج ابنان: وندان وأسطوبة وبنت اسمها خورك، وقتل الابنان مع أبيهما بعد مهلك أفريدون، وأنّ أفريدون ملك خمسمائة سنة وأنّه الّذي محا آثار ثمود من النبط بالسواد، وأنه أوّل من تسمّى بكي، فقيل كي أفريدون ومعناه التنزيه أي مخلص متصل بالروحانيات. وقيل معناه البهاء لأنه يغشاه نور من يوم قتل الضحاك، وقيل معناه مدرك الثأر. وكان منوشهر الملك ابن منشحر بن إيرج من نسل أفريدون، وكانت أمّه من ولد إسحاق عليه السلام فكفلته حتى كبر، فملك وثأر بأبيه إيرج من عمه بعد حروب كانت له معهما، ثم استبدّ ونزل بابل وحمل الفرس على دين إبراهيم عليه السلام، وثار عليه فراسياب [1] ملك الترك فغلبه على بابل وملكها. ثم اتبعه إلى غياض طبرستان فجهّز العساكر لحصاره وسار إلى العراق فملكه. ويقال فراسياب هذا من عقب طوج بن أفريدون، ولحق ببلاد الترك عند ما قتل منوشهر جدّ طوج فنشأ عندهم وظهر من بلادهم فلهذا نسب إليهم. وقال الطبري: لما هلك منوشهر بن منشحور، غلب أفراسياب بن أشك بن رستم بن ترك على خيارات، وهي بابل، وأفسد مملكة فارس وحيّرها، فثار عليه زومر بن طهمارست، ويقال راسب بن طهمارست. وينسب إلى منوشهر في تسعة آباء، وأن منوشهر غضب على طهمارست وكانوا يحاربون أفراسياب فهمّ بقتله وشفع فيه أهل الدولة فنفاه إلى بلاد الترك، وتزوّج منهم ثم عاد إلى أبيه وأعمل الحيلة في إخراج امرأته من بلاد الترك وكانت ابنة وامن ملك الترك، فولدت له زومر ابنه. وقام بالملك بعد منوشهر وطرد أفراسياب عن مملكة فارس وقتل جدّه وامن في حروبه   [1] وفي نسخة اخرى: أفراسياب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 مع الترك، ولحق أفراسياب بتركستان واتخذ يوم ذلك الغلب عيدا ومهر جانا وكان ثالث أعيادهم. وكان غلبه على بلاد فارس لاثنتي عشرة سنة من وفاة منوشهر جدّه، وكان زومر بن طهمارست هذا محمودا في سيرته وأصلح ما أفسد أفراسياب بن خيارت من مملكة بابل، وهو الّذي حفر نهر الزاب بالسواد، وبنى على حافته المدينة العتيقة وسمّاها الزواهي، وعمل فيها البساتين وحمل إليها بزور الأشجار والرياحين. وكان معه في الملك كرشاسب من ولد طوج بن أفريدون وقيل من ولد منوشهر، ويقال إنما كان رديفا له وكان عظيم الشأن في أهل فارس، ولم يملك وإنما كان الملك لزومر بن طهمارست، وهلك لثلاث سنين من دولته. وفي أيامه خرج بنو إسرائيل من التيه وفتح يوشع مدينة أريحاء ودال الملك من بعده للكينية حسبما يذكر وأولهم كيقباذ. ويقال إنّ مدّة الملك لهذه الطبقة كانت ألفين وأربعمائة وسبعين سنة فيما قال البيهقي والأصبهاني، ولم يذكر من ملوكهم إلّا هؤلاء التسعة الذين ذكرهم الطبري والله وارث الأرض ومن عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 الطبقة الثانية من الفرس وهم الكينية وذكر ملوكهم وأيامهم إلى حين انقراضهم هذه الطبقة الثانية من الفرس وملوكهم يعرفون بالكينيّة لأنّ اسم كل واحد مضاف إلى كي وقد تقدّم معناه، والمضاف عند العجم متأخر عن المضاف إليه وأوّلهم فيما قالوا كيقباذ من عقب منوشهر بينهما أربعة آباء، وكان متزوجا بامرأة من رءوس الترك ولدت له خمسة من البنين: كي وافيا وكيكاوس وكي أرش وكي نية وكي فاسمن، وهؤلاء هم الجبابرة وآباء الجبابرة. قال الطبريّ: وقيل إنّ الملوك الكينية وأولادهم من نسله جرت بينه وبين الترك حروب، وكان مقيما بنهر بلخ يمانع الترك من طروق بلاده وملك مائة سنة وانتهى. وملك بعده ابنه كيكاوس بن كينية وطالت حروبه مع فراسيات ملك الترك، وهلك فيها ابنه سياوخش، ويقال كان على عهد داود، وأنّ عمرا ذا الأذعار من ملوك التبابعة غزاه في بلاده فظفر به وحبسه عنده باليمن، وسار وزيره رستم بن دستان بجنود فارس إلى غزو ذي الأذعار فقتله وتخلص كيكاوس الى ملكه. وقال الطبري كان كيكاوس عظيم السلطان والحماية، وولد له ابنه سياوخش فدفعه إلى رستم الشديد ابن دستان، وكان أصهر بسجستان حتى إذا كملت تربيته وفصاله ردّه الى أبيه، فرضيه وكفلت به امرأة أبيه فسخطه، وبعثه لحراب فراسيات [1] وأمره بالمناهضة، فراوده فراسيات في الصلح، وامتنع أبوه كيكاوس فخشي منه على نفسه، ولحق بفراسيات فزوّجه بنته أم كي خسرو، ثم خشيه فراسيات على نفسه وأشار على ابنته بقتله فقتلته. وترك ابنة فراسيات حاملا بخسرو وولدته هنالك، وأعمل كيكاوس الحيلة في إخراجه فلحق به. ويقال إنه لما بلغه قتل ابنه، بعث عساكره مع قواده فوطئوا بلاد الترك وأثخنوا فيها وقتلوا بني فراسيات فيمن قتلوه. قال الطبري وإنه غزا بلاد اليمن ولقيه ذو الأذعار في حمير وقحطان، فظفر به وأسره وحبسه في بئر وأطبق عليه. وإن رستم سار من سجستان فحارب ذا الأذعار ثم اصطلحا على أن يسلم إليه كيكاوس فأخذه ورجع إلى   [1] وفي نسخة أخرى: افراسيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 بابل، وكافأه كيكاوس على ذلك بالعتق من عبودية الملك، ونصب لجلوسه سريرا من فضة بقوائم من ذهب وتوّجه بالذهب، وأقطعه سجستان وأباستان، وهلك لمائه وخمسين من دولته، وملك بعده فيما قال الطبري والمسعودي والبيهقي وجماعة من المؤرخين، حافده كي خسروا وابن ابنه سباوخش. وقال السهيليّ: إنه ملك كي خسرو وبعد ثلاثة آخرين بينه وبينه كيكاوس فأوّلهم بعده ابنه كي كينة، ثم من بعده ابنه اجو بن كي كينة، ثم عمّه سباوخش بن كيكاوس، ثم بعد الثلاثة كي خسرو بن سباوخش أهـ. وهو غريب فإنهم متفقون على أنّ سباوخش مات في حياة أبيه في حروب الترك. قال الطبري: وقد كان كيكاوس بن كي كينة بن كيقباذ ملّك كي خسرو حين جاءه من بلاد الترك مع أمّه وأسفاقدين بنت فراسيات. قالوا ولما ملك بعث العساكر مع أجو إلى أصبهان لحرب فراسيات ملك الترك للطلب بثأر أبيه سباوخش، فزحفوا إلى الترك وكانت بينهم حروب شديدة انهزمت فيها عساكر الفرس، فنهض كي خسرو بنفسه إلى بلخ وقدم عساكره وقوّاده فقصدوا بلاد الترك من سائر النواحي وهزموا عساكرهم وقتلوا قوادهم. وكان قاتل سباوخش بن كي خسرو فيمن قتل منهم، وبعث فراسيات ابنه وكان ساحرا الى كيخسرو ويستميله، فعمد إلى القواد بمنعه وقتاله، وقاتل فقتل، وزحف فراسيات فلقيه كي خسرو وكانت بينهما حروب شديدة انجلت عن هزيمة فراسيات والترك، واتبعه كي خسرو فظفر به في أذربيجان فذبحه وانصرف ظافرا. وكان فيمن حضر معه لهذا الفتح ملك فارس وهو كي أوجن بن حينوش بن كيكاوس بن كي كينة بن كيقباذ، وهو عند الطبري أبو كيهراسف الّذي ملك بعد كيخسرو على ما نذكر. وملك على الترك بعد فراسيات جوراسف ابن أخيه شراشف. ثم أن كي خسرو ترهب وتزهد في الملك واستخلف مكانه كيهراسف بن كي أوجن الّذي قدّمنا انه أبوه عند الطبري ولد كيخسرو فقيل غاب في البرية، وقيل مات، وذلك لستين سنة من ملكه. ولما ملك كيهراسف اشتدّت شوكة الترك فسكّن لقتالهم مدينة بلخ على نهر جيحون، وأقام في حروبهم عامّة أيامه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة في أيام بخت نرسي المشتهر ببختنصّر، وأضاف إليه كهراسف ملكا عند ما سار إليه وأذن له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 في فتح ما يليه، وسار إلى الشام مع ملوك الفرس وبخت نصّر ملك الموصل وله سنجاريف ففتح بيت المقدس، وكان له الظهور على اليهود واستأصلهم كما مرّ في أخبارهم، وبخت نصّر هذا الّذي غزا العرب وقاتلهم واستباحهم، ويقال إنّ ذلك كان في أيام كي بهمن حافد كيستاسب بن كيهراسف. قال هشام بن محمد: أوحى الله إلى أرميا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان حافد زريافيل الّذي رجّع بني إسرائيل إلى بيت المقدس، بأمر بخت نصّر أن يفرّق العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويستبيحهم بالقتل ويعلمهم بكفرهم بالرسل واتخاذهم الآلهة. وفي كتاب الإسرائيليين والوحي بذلك كان إلى يرميا بن خلقيّا وقد مرّ ذكره، وأنه أمر أن يستخرج معدّ بن عدنان من بينهم ويكفله إلى انقضاء أمر الله فيهم انتهى. قال: فوثب بخت نصّر على من وجده ببلاده من العرب للميرة، فحبسهم ونادى بالغزو وجاءت منهم طوائف مستسلمين فقبلهم وأنزلهم بالأنبار والحيرة. وقال غير هشام إنّ بخت نصّر غزا العرب بالجزيرة وما بين أيلة والأبلّة، وملأها عليهم خيلا ورجالا ولقيه بنو عدنان فهزمهم إلى حضّورا واستلحمهم أجمعين. وأنّ الله أوحى إلى أرميا ويوحنّا أن يستخرجا معدّ بن عدنان الّذي من ولده محمد أختم به النبيّين آخر الزمان، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وردفه يوحنا على البراق وجاء به إلى حرّان، وربى بين أنبياء بني إسرائيل. ورجع بخت نصّر إلى بابل وأنزل السبي بالأنبار فقيل أنبار العرب وسميت بهم، وخالطهم النبط بعد ذلك. ولما هلك بخت نصّر خرج معدّ بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل إلى الحج فحجّوا، وبقي هنالك مع قومه وتزوج بعانة بنت الحارث بن مضاض الجرهميّ، فولدت له نزار بن معدّ. وأما كيهراسف فكان يحارب الترك عامّة أيامه، وهلك في حروبهم لمائة وعشرين سنة من ملكه، وكان محمود السيرة، وكانت الملوك شرقا وغربا يحملون إليه الإتاوة ويعظمونه، وقيل إنه ولّى ابنه كيستاسب على الملك وانقطع للعبادة. ولما ملك ابنه كيستاسب شغل بقتال الترك عامة أيامه، ودفع لحروبهم ابنه أسفنديار فعظم عناؤه فيهم. وظهر في أيامه زرادشت الّذي يزعم المجوس نبوّته، وكان فيما زعم أهل الكتاب من أهل فلسطين خادما لبعض تلامذة أرميا النبي خالصة عنده، فخانه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 بعض أموره فدعا الله عليه فبرص ولحق بأذربيجان وشرّع بها دين المجوسية. وتوجّه إلى كيستاسب فعرض عليه دينه فأعجبه وحمل الناس على الدخول فيه، وقتل من امتنع. وعند علماء الفرس أنّ زرادشت من نسل منوشهر الملك، وأنّ نبيّا من بني إسرائيل بعث إلى كيستاسب وهو ببلخ، فكان زرادشت وجاماسب العالم، وهو من نسل منوشهر أيضا، يكتبان بالفارسية ما يقول ذلك النبيّ بالعبرانية، وكان جاماسب يعرف اللسان العربيّ ويترجمه لزرادشت، وأنّ ذلك كان لثلاثين سنة من دولة كيهراسف. وقال علماء الفرس: إن زرادشت جاء بكتاب ادّعاه وحيا، كتب في اثني عشر ألف بعده نقشا بالذهب، وأن كيستاسب وضع ذلك في هيكل بإصطخر ووكّل به الهرابذة ومنع من تعليمه العامّة. قال المسعودي: ويسمى ذلك الكتاب نسناه وهو كتاب الزمزمة، ويدور على ستين حرفا من حروف المعجم. وفسّره زرادشت وسمّى تفسيره زند، ثم فسّر التفسير ثانيا وسمّاه زنديّه، وهذه اللفظة هي التي عربتها العرب زنديق. وأقسام هذا الكتاب عندهم ثلاثة: قسم في أخبار الأمم الماضية، وقسم في حدثان المستقبل، وقسم في نواميسهم وشرائعهم مثل أنّ المشرق قبلة وأن الصلوات في الطلوع والزوال والغروب وأنها ذات سجدات ودعوات. وجدّد لهم زرادشت بيوت النيران التي كان منوشهر أخمدها، ورتب لهم عيدين: النيروز في الاعتدال الربيعيّ والمهرجان في الاعتدال الخريفي، وأمثال ذلك من نواميسهم. ولما انقرض ملك الفرس الأول أحرق الإسكندر هذه الكتب، ولما جاء أردشير جمع الفرس على قراءة سورة منها تسمّى أسبا. قال المسعودي: وأخذ كيستاسب بدين المجوسية من زرادشت لخمس وثلاثين سنة من نبوّته فيما زعموا، ونصّب كيستاسب مكانه جاماسب العالم من أهل أذربيجان، وهو أوّل موبذان كان في الفرس انتهى. قال الطبري: وكان كيستاسب مهادنا أرجاماسب ملك الترك وقد اشترط عليه أن تكون دابة كيستاسب موقفة على بابه بمنزلة دواب الرؤساء عند أبواب الملوك، فمنعه من ذلك زرادشت وأشار عليه بفتنة الترك، فبعث إلى الدابة والموكل بها وصرفهما إليه. وبلغ الخبر الى ملك الترك فبعث إليه بالعتاب والتهديد وأن يبعث بزرداشت إليه وإلا فيعزّره. وأغلظ كيستاسب في الجواب وآذنه بالحرب، وسار بعضهما إلى بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 واقتتلوا وقتل رزين بن كيستاسب وانهزم الترك وأثخن فيهم الفرس، وقتل ساحر الترك قيدوشق ورجع كيستاسب إلى بلخ. ثم سعى عنده بابنه أسفنديار فحبسه وقيده وسار إلى جبل بناحية كرمان وسجستان فانقطع به للعبادة ودراسة الدين. وخلّف أباه كهراسف في بلخ شيخا قد أبطله الكبر وترك خزائنه وأمواله فيها مع امرأته، فغزاهم بخاخدراسف وقدّم أخا جورا في جموع الترك وكان مرشحا للملك فأثخن واستباح واستولى على بلخ، وقتل كهراسف أباهم وغنموا الأموال وهدموا بيوت النيران وسبوا حمّايي بنت كستاسب وأختها، وكان فيما غنموه العلم الأكبر الّذي كانوا يسمونه زركش كاويان وهي راية الحدّاد الّذي خرج على الضحّاك وقتله. وولّى أفريدون فسمّوا بتلك الراية ورصعوها بالجواهر ووضعوها في ذخائرهم يبسطوها [1] في الحروب العظام، وكان لها ذكر في دولتهم وغنمها المسلمون يوم القادسية. ثم مضى خدراسف ملك الترك في جموعه إلى كيستاسب وهو بجبال سجستان متعبدا فتحصن منه وبعث إلى ابنه أسفنديار مع جاماسب العالم وهو في الجبل فقلّده الملك ومحاربة الترك، فسار إليهم وأبلى في حروبهم فانهزموا، وغنم ما معهم واسترد ما كانوا غنموه والراية زركش كاويان في جملته. ثم دخل أسفنديار إلى بلادهم في اتباعهم وفتح مدينتهم عنوة، وقتل ملكهم خدراسف وإخوته، واستلحم مقاتلته واستباح أمواله ونساءه، ودخل مدينة فراسيات ودوّخ البلاد، وانتهى إلى بلاد صول والتبت، وولّى على كل ناحية من الترك، وفرض الخراج، وانصرف إلى بلخ وقد غصّ به أبوه. قال هشام بن محمد: فبعثه إلى رستم ملك سجستان الّذي كان يستنفره كيقباذ جدّهم من ملوك اليمن، وأقطعه تلك الممالك جزاء لفعله. فسار إليه أسفنديار وقاتله رستم وهلك كيستاسب لمائة وعشرين سنة. ويقال إنه الّذي ردّ بني إسرائيل إلى بلادهم وأنّ أمّه كانت من بني طالوت. ويقال إنّ ذلك هو حافد بهمن. وقيل إن الّذي ردهم هو كورش من ملوك بابل أيام بهمن بأمره. ثم ملك بعد كيستاسب حافده كي بهمن ويقال أردشير بهمن. قال الطبري: ويعرف بالطويل الباع لاستيلائه على الممالك والأقاليم. قال هشام بن محمد: ولمّا ملك سار إلى سجستان طالبا بثأر أبيه فكانت بينهما حروب فقتل فيها رستم بن دستان وأبوه   [1] الأصح ان يقول: يبسطونها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وإخوته وأبناؤه. ثم غزا الروم وفرض عليهم الإتاوة وكان من أعظم ملوك الفرس، وبنى مدنا بالسواد، وكانت أمّه من نسل طالوت لأربعة آباء من لدنه وكانت له أمّ ولد من سبي بني إسرائيل اسمها راسف وهي أخت زريافيل الّذي ملكه على اليهود ببيت المقدس وجعل له رياسة الجالوت وملك الشام، وملك ثمانين سنة، فملكت حمايي ملّكها الفرس لجمالها ولحسن أدبها وكمال معرفتها وفروسيتها، وكانت بلغت شهرا أزاد. وقيل إنما ملوكها لأنها لما حملت من أبيها بدار الأكبر سألته أن يعقد له التاج في بطنها ففعل ذلك. وكان ابنه ساسان مرشّحا للملك فغضب، ولحق بجبال إصطخر زاده يتولى ماشيته بنفسه، فلما مات أبوه فقدوا ذكرا من أولاده فولوا حمايي هذه وكانت مظفرة على الأعداء. ولما بلغ ابنها دارا الأشد، سلّمت إليه الملك وسارت إلى فارس واختطت مدينة دارابجرد، وردت الغزو إلى بلاد الروم، وأعطيت الظفر فكثر سبيهم عندها، وملكت ثلاثين سنة. ولما ملك ابنها دار نزل بابل وضبط ملكه وغزا الملوك وأدّوا الخراج إليه، ويقال إنه الّذي رتّب دواب البرد. وكان معجبا بابنه دارا حتى سمّاه باسمه وولّاه عهده وهلك لاثنتي عشرة سنة. وملك بعده ابنه دارا بهمن، وكان له مربّي اسمه بيدلي قتله أبوه دارا بسعاية وزيره أرشيش محمود، وندم على قتله. فلمّا ولي دارا جعل على كتابته أخا بيدلي ثم استوزره رعيا لمرباه مع أخيه، فاستفسده على أرشيش وزيره ووزير أبيه وعلى سائر أهل الدولة استوحشوا منه. وقال هشام بن محمد: وملك دارا بن دارا أربع عشرة سنة فأساء السيرة وقتل الرؤساء وأهلك الرعية وغزاه الإسكندر بن فيلبس ملك بني يونان. وقد كانوا يسمّونه [1] فوثب عليه بعضهم وقتله، ولحق بالإسكندر وتقرّب بذلك إليه فقتله الإسكندر وقال هذا جزاء من اجترأ على سلطانه، وتزوّج بنته روشنك كما نذكره في أخبار الإسكندر. وقال الطبري: قال بعض أهل العلم بأخبار الماضين كان لدارا من الولد يوم قتل أربع بنين أسسك وبنودار وأردشير وبنت اسمها روشنك وهي التي تزوجها الإسكندر. قال: وملك أربع عشرة سنة، هذه هي الأخبار المشهورة للفرس الأولى إلى ملكهم الأخير دارا.   [1] لم نجد في كتب التاريخ لقبا لدارا بن دارا، ولكن ابن الأثير ذكر ان دارا بن بهمن بن إسفنديار كان يلقب: جهرازاد اي كريم الطبع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 قال هروشيوش مؤرّخ الروم في مبدإ دولة الفرس هؤلاء إنما كانت بعد دخول بني إسرائيل إلى الشام، وعلى عهد عثنيئال بن قنّاز بن يوفّنا، وهو ابن أخي كالب بن يوفنّا الّذي دبّر أمر بني إسرائيل بعد يوشع. قال: وفي ذلك الزمان خرج أبو الفرس من أرض الروم الغريقيين من بلاد آسيا واسمه بالعربية فارس باليونانية يرشور وبالفارسية يرشيرش، فنزل بأهل بيته في ناحية وتغلب على أهل ذلك الموضع فنسبت إليه تلك الأمّة، واشتق اسمها من اسمه، وما زال أمرهم ينمو إلى دولة كيرش الّذي يقال فيه أنه كسرى الأوّل، فغلب على القضاعيّين، ثم زحف إلى مدينة بابل وعرض له دونها النهر الثاني بعد الفرات وهو نهر دجلة، فاحتفر له الجداول وقسّمه فيها، ثم زحف إلى المدينة وتغلب عليها وهدمها، ثم حارب السريانيين فهلك في حروبهم ببلاد شيت. وولى ابنه قنبيشاش بن كيرش فثأر منهم بأبيه، وتخطاهم إلى أرض مصر فهدم أوثانهم ونقض شرائعهم، فقتله السحرة وذلك لألف سنة من ابتداء دولتهم فولي أمر الفرس دارا وقتل السحرة بمصر وردّ عمالة [1] السريانيين إليهم، ورجع بني إسرائيل إلى الشام في الثانية من أيامه، وزحف إلى بلاد الروم الغريقيين طالبا ثأر كيرش، فلم يزل في حروبهم إلى أن هلك لثلاث وعشرين من دولته نار عليه أحد قواده فقتله، وولّى بعده ابنه أرتشخار أربعين سنة، وولي بعده ابنه دارا أنوطو سبع عشرة سنة. ثم ولي بعده ابنه أرتشخار بعد أن نازعه كيرش بن نوطو فقتله أرتشخار واستولى على لأمر وسالم الروم الغريقيين، ثم انتقضوا عليه واستعانوا بأهل مصر، فطالت الحرب ثم اصطلحوا ووقعت الهدنة، وهلك أرتشخار وذلك على عهد الإسكندر ملك اليونانيين وهو خال الإسكندر الأعظم، وهلك لعهده، فولي أبو الإسكندر الأعظم ببلد مقدونية وهو ملك فيلبش. وهلك أرتشخار أوقش لست وعشرين من دولته وولي من بعده ابنه شخشار أربع سنين، وفي أيامه ولي على مقدونية واليونانيين وسائر الروم الغريقيين الإسكندر بن فيلبّس. ثم ولي بعده شخاردارا وعلى عهده تغلب الإسكندر على يهود بيت المقدس وعلى جميع الروم الغريقيين، ثم حدثت الفتنة بينه وبين دارا وتزاحفوا مرات انهزم في كلها، وكان لاسكندر الظهور عليه، ومضى إلى الشام ومصر فملكهما وبنى   [1] بكسر العين:، تولى إيالة، وبفتحها: عمل الناقة، وبضمّها: أجر العامل ورزقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الإسكندرية، وانصرف فلقيه دارا أنطوس فهزمه وغلب على ممالك الفرس واستولى على مدينتهم وخرج في اتباع دارا فوجده في بعض طريقه جريحا، ولم يلبث أن هلك من تلك الجراحة، فأظهر الإسكندر الحزن عليه وأمر بدفنه في مقابر الملوك، وذلك لألف سنة ونحو من ثمانين سنة منذ ابتداء دولتهم كما قلناه انتهى كلام هروشيوش. وقال السهيليّ: وجده مثخنا في المعركة فوضع رأسه على فخذه وقال: يا سيد الناس لم أرد قتلك ولا رضيته فهل من حاجة؟ فقال تتزوّج ابنتي وتقتل قاتلي ففعل الإسكندر ذلك. وانقرض أمر هذه الطبقة الثانية والبقاء للَّه وحده سبحانه وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 قال ابن العميد: في ترتيب هؤلاء الملوك الفرس من بعد كيرش إلى دارا. آخرهم يقال: إنه ملك من بعد كورش ابنه قمبوسيوس ثمانيا وقيل تسعا وقيل اثنتين وعشرين سنة، وقيل إنه غزا مصر واستولى عليها وتسمّى بخت نصّر الثاني، وملك بعد أريوش بن كستاسب خمسا وعشرين سنة وهو أوّل الملوك الأربعة الذين عناهم دانيال بقوله ثلاث ملوك يقومون بفارس والرابع يكثر ماله ويعظم على من قبله. فأوّلهم دارا بن كستاسب وهو مذكور في المجسطي، والثاني دارا ابن الأمة، والثالث الّذي قتله الإسكندر، وقيل بل هو الرابع الّذي عناه دانيال لأنه جعل أوّل الأربعة داريوش وأخشورش العادي وسركورش ورديفه في الملك، ثم عد الثلاثة بعده. وفي الثانية من ملكة داريوش بن كيستاسب لبابل تمت سبعون سنة لخراب القدس، وفي الثالثة كمل بناء البيت، ثم ملك بعد داريوش بن كيستاسب هذا أسمرديوس المجوسي سنة واحدة وقيل ثلاث عشرة سنة وسمى مجوسيا لظهور زرادشت بدين المجوسية في أيامه. ثم ملك أخشويرش بن داريوش عشرين سنة وكان وزيره همان العمليقيّ، وقد مرّت قصته مع الجارية من بني إسرائيل. ثم ملك من بعده ابنه ارطحشاشت بن أخشويرش ويلقب بطويل اليدين، وكانت أمّه من اليهود بنت أخت مردخاي، وكانت خطيّة عند أبيه، وعلى يدها تخلّص اليهود من سعاية وزيره فيهم عنده، وكان العزيّر في خدمته، ولعشرين من دولته أمر بهدم أسوار القدس ثم رغب إليه العزيّر في تجديدها فبناها في اثنتي عشرة سنة. قال ابن العميد عن المجسطي إنّ العزير هذا ويسمّى عزراء هو الرابع عشر من الكهنونة من لدن هارون عليه السلام، وأنه كتب لبني إسرائيل التوراة وكتب الأنبياء من حفظه بعد عودهم من الجلاء الأوّل، لأن بخت نصّر كان أحرقها، وقيل أنّ الّذي كتب لهم ذلك هو يشوع بن أبو صادوق. ثم ملك من بعده أرطحشاشت الثاني خمس سنين وقيل إحدى وثلاثين وقيل ست عشرة وقيل شهرين، ورجّح ابن العميد الخمس لموافقتها سياقة التواريخ، وكان لعهده أبقراط وسقراط في مدينة أشياش، ولعهده كتب النواميس الاثني عشر. ثم ملك بعده صغريتوس ثلاث سنين وقيل سنة واحدة وقيل سبعة أشهر، ولم يزل محنقا لمرض كان به إلى أن هلك. ثم ملك من بعده دارا ابن الأمة ويلقّب الناكيش، وقيل داريوش ألياريوس، ملك سبع عشر سنة وكان على عهده من حكماء يونان سقراط وفيثاغورس وأقليوس، وفي الخامسة من دولته انتقض أهل مصر على يونان واستبدوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 بملكهم بعد مائة وأربع وعشرين سنة، كانوا فيها في ملكتهم، ثم ملك من بعده أرطحشاشت ابن أخي كورش داريوش إحدى عشرة سنة وقيل اثنتين وعشرين سنة وقيل أربعين وقيل إحدى وعشرين، وكان لعهده ألياقم الكوهن الّذي داهن الكهنونية ستا وأربعين سنة. ثم ملك من بعده أرطحشاشت وتسمّى أخوش، ويقال أوغش، عشرين سنة وقيل خمسا وعشرين وقيل تسعا وعشرين، وزحف إلى مصر فملكها وهرب منها فرعون ساناق إلى مقدونيّة واسمه قصطرا، وبنى أرطحشاشت قصر الشمع وجعل فيه هيكلا وهو الّذي حاصره عمرو بن العاص وملكه. ثم ملك من بعده ابنا أرشيش بن أرطحشاشت، وقيل اسمه فارس، أربع سنين وقيل إحدى عشرة، وكان لعهده من حكماء يونان بقراط وأفلاطون ودمقراطس، ولعهده قتل بقراط على القول بالتناسخ وقيل لم يكن مذهبه وإنما ألزمه بعض تلامذته ثم شهدوا عليه وقتل مسموما قتله القضاة بمدينة أثينا. ثم ملك من بعده ابنه دارا بن أرشيش عشرين سنة وقيل ست عشرة. وقال ابن العميد عن أبي الراهب: إنّه دارا الرابع الّذي أشار إليه دانيال كما مرّ، وكان هذا الملك عظيما فيهم وتغلب على يونان، وألزمهم الوظائف التي كانت عليهم لآبائه وملكهم يومئذ الإسكندر بن فيلبس وكان عمره ست عشرة سنة، فطمع فيه دارا وطلب الضريبة فمنع وأجاب بالاغلاظ وزحف إليه فقاتله وقتله واستولى الإسكندر على ملك فارس وما وراءه انتهى كلام ابن العميد. الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية ملوك الطوائف وذكر دولهم ومصاير أمورهم الى نهايتها هذه الطبقة من ملوك الفرس يعرفون بالأشكانيّة، وكافها أقرب إلى الغين، من ولد أشكان بن دارا الأكبر، وقد مرّ ذكره، وكانوا من أعظم ملوك الطوائف عند افتراق أمر الفرس، وذلك أنّ الإسكندر لما قتل دارا الأصغر استشار معلّمه أرسطو في أمر الفرس، فأشار عليه أن يفرّق رياستهم في أهل البيوت منهم فتفترق كلمتهم ويخلص لك أمرهم، فولّى الإسكندر عظماء النواحي من الفرس والعرب والنبط والجرامقة كلّا على عمله واستبدّ كلّ بناحية واستقام له ملك فارس والمشرق. ولما مات الإسكندر قسم ملكه بين أربعة من أمرائه: فكان ملك مقدونية وأنطاكية وما إليها من ممالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 الروم لفيلبّس من قواده، وكانت الإسكندرية ومصر والمغرب لفيلادفس ولقبه بطليموس، وكان الشام وبيت المقدس وما إلى ذلك لدمطوس، وكان السواد إلى الجبال والأهواز وفارس ليلاقش سيلقس ولقبه أنطيخس وأقام السواد في ملكته أربعا وخمسين سنة. قال الطبريّ: وكان أشك بن دارا الأكبر خلفه أبوه بالريّ فنشأ بها فلما كبر وهلك الإسكندر جمع العساكر وسار يريد أنطيخس، والتقيا بالموصل فانهزم أنطيخس وقتل، وغلب أشك على السواد من الموصل إلى الريّ وأصبهان، وعظّمه سائر ملوك الطوائف لشرفه ونسبه وأهدوا إليه من غير أن يكون له عليهم إيالة في عزل ولا تولية، بل إنّما كانوا يعظّمونه ويبدءون باسمه في المخاطبات وهم مع ذلك متعادون، تختلف حالاتهم بعضهم مع بعض في الحرب والمهادنة. وقال بعضهم: كان رجلا من نسل الملوك من فارس مملكا على الجبال وأصبهان والسواد لفوات الإسكندر. ثم غلب بعد ذلك ولده على السواد وجمعه إلى الجبال وأصبهان وصار كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، ولذلك قصر ذكر هؤلاء الملوك دون غيرهم من الطوائف، فمنهم من قال: إنه أشك بن دارا، كما قدّمنا، وهو قول الفرس. وقيل هو أشك عقب أسفنديار بن كستاسب بينهما ستة آباء. وقيل هو أشك بن أشكان الأكبر من ولد كينيّة بن كيقباذ، ويقال: إنه كان أعظم الأشكانية وقهر ملوك الطوائف وعلى إصطخر لاتصالها بأصبهان وتخطّاها إلى ما يتاخمها من بلاد فارس فغلب عليه واتصل ملكه عشرين سنة. وملك بعده جور بن أشك وغزا بني إسرائيل بسبب قتلهم يحيى بن زكريا. وقال المسعودي: ملك أشك بن أشك بن دارا بن أشكان الأول منهم عشر سنين، ثم سابور ابنه ستين سنة وغزا بني إسرائيل بالشام ونهب أموالهم، ولإحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى صلوات الله عليه بأرض فلسطين. ثم ملك عمّه جور عشر سنين، ثم نيرو بن سابور إحدى وعشرين سنة وفي أيامه غلب طيطش قيصر على بيت المقدس وخرّبها وأجلى منها اليهود كما مرّ. ثم جور بن نيرو تسع عشرة سنة، ثم جرسي أخوه أربعين سنة، ثم هرمز أخوهما أربعين سنة، ثم ابنه أردوان بن هرمز خمس عشرة سنة، ثم ابنه كسرى بن أردوان أربعين سنة. ثم ابنه يلاوش بن كسرى أربعا وعشرين سنة، وفي أيامه غزت الروم السواد مع قيصر يطلبون بثأر أنطيخش ملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 أنطاكية من اليونان الّذي قتله أشك جدّ يلاوش هذا، فجمع يلاوش العساكر واستنفر ملوك الطوائف بفارس والعراق فوجهوا له بالمدد واجتمع له أربعمائة ألف من المقاتلة، وولّى عليهم صاحب الحضر وكان من ملوك الطوائف على السواد، فزحف إلى قيصر فقتله واستباح عسكر الروم وقتل وفتح أنطاكية وانتهى إلى الخليج. وولّى من بعد يلاش ابنه أردوان بن يلاوش ثلاث عشرة سنة. ثم خرج عليه أردشير بن بابك بن ساسان وجمع ملك فارس من أيدي ملوك الطوائف وجدّد الدولة الساسانية كما نذكر في أخبارهم. قال الطبريّ: وفي أيام الطوائف كانت ولادة عيسى صلوات الله عليه لخمس وستين من غلب الإسكندر على بابل ولإحدى وخمسين من ملك الأشكانية، والنصارى يزعمون أن ذلك كان لمضي ثلاثمائة وثلاث وستين من غلب الإسكندر على بابل. قال الطبريّ: وجميع سني الطوائف من لدن الإسكندر إلى ظهور أردشير بن بابك واستوائه على الأمر مائتان وستون سنة، وبعضهم يقول خمسمائة وثلاث وعشرون سنة. وقال بعضهم: ملك في هذه المدّة منهم تسعون ملكا على تسعين طائفة كلهم يعظّم ملوك المدائن منهم وهم الأشكانيّون. يا ى ط ح ز جرسى د ب أردوان بن يلاوش بن كسرى بن أردوان بن هرمز بن فيروز بن سابور بن أشك بن أشك بن دارا الأكبر جور ج جور الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي هذه الدولة كانت من أعظم الدول في الخليقة وأشدّها قوة وهي إحدى الدولتين اللتين صبحهما الإسلام في العالم وهما دولة فارس والروم. وكان مبدأ أمرها من توثب أردشير ابن بابك شاه ملك مرو، وهو ساسان الأصغر ابن بابك بن سامان بن بابك بن هرمز بن ساسان الأكبر بن كي بهمن. وقد تقدّم ذكر كي بهمن وأنّ ابنه ساسان غضب لما توج للملك أخوه دارا وهو في بطن أمّه، ولحق بجبال إصطخر فأقام هنالك وتناسل ولده بها إلى أن كان ساسان الأصغر منهم، فكان قيّما على بيت النار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 لاصطخر، وكان شجاعا، وكانت امرأته من بيت ملك فولدت له ابنه بابك، وولد لبابك أردشير وضبطه الدار الدّارقطنيّ: بالراء المهملة. وكان على إصطخر يومئذ ملك من ملوك الطوائف وله عامل على دارابجرد خصيّ اسمه سرّي، فلما أتت لأردشير سبع سنين جاء به جدّه ساسان إلى ملك إصطخر وسأله أن يضمه إلى عامل دارابجرد الخصيّ يكفله إلى أن تتمّ تربيته، ولما هلك عامل دارابجرد أقام بأمره فيها أردشير هذا وملكها، وكان له علم من المنجّمين بأنّ الملك سيصير إليه، فوثب على كثير من ملوك الطوائف بأرض فارس فاستولى عليهم، وكتب إلى أبيه بذلك، ثم وثب على عامل إصطخر فغلبه على ما بيده وملك إصطخر وكثيرا من أعمال فارس. وكان زعيم الطوائف يومئذ أردوان ملك الأشكانيّين فكتب إليه يسأله أن يتوّجه فعنّفه، وكتب إليه بالشخوص فامتنع، وخرج بالعساكر من إصطخر وقدم موبذان رورين فتوّجه ثم فتح كرمان وبها ملك من ملوك الطوائف، وولّى عليها ابنه، وكتب إليه أردوان يتهدّده وأمر ملك الأهواز من الطوائف أن يسير إليه فرجع مغلوبا. ثم سار أردشير إلى أصبهان فقتل ملكها واستولى عليها، ثم إلى الأهواز فقتل ملكها كذلك، ثم زحف إليه أردوان عميد الطوائف فهزمه أردشير وقتله وملك همذان والجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ثم السودان. وبنى مدينة على شاطئ، دجلة شرقي المدائن. ثم رجع إلى إصطخر ففتح سجستان ثم جرجان ثم مرو وبلخ وخوارزم إلى تخوم خراسان، وبعث بكثير من الرءوس إلى بيت النيران، ثم رجع إلى فارس ونزل صول وأطاعه ملك كوشان ومكران ثم ملك البحرين بعد أن حاصرها مدّة، وألقى ملكها بنفسه في البحر. ثم رجع فنزل المدائن وتوجه ابنه سابور، ولم يزل مظفرا وقهر الملوك حوله وأثخن في الأرض، ومدّن المدن واستكثر العمارة وهلك لأربع عشرة سنة من ملكه بإصطخر بعد مقتل أردوان. وقال هشام بن الكلبي: قام أردشير في أهل فارس يريد الملك الّذي كان لآبائه قبل الطوائف وأن يجمعه لملك واحد، وكان أردوان ملكا على الاردوانيين وهم أنباط السواد، وكان بابا ملكا على الأرمانيّين وهم أنباط الشام، وبينهما حرب وفتنة فاجتمعا على قتال أردشير فحارباه مناوبة. ثم بعث أردشير إلى بابا في الصلح على أن يدعه في الملك ويخلّي بابا بينه وبين أردوان، فلم يلبث أن قتل أردوان واستولى على السواد فأعطاه بابا الطاعة بالشام ودانت له سائر الملوك وقهرهم. ثم رجع إلى أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 العرب وكانت بيوتهم على ريف العراق ينزلون الحيرة، وكانوا ثلاث فرق: الأولى تنوخ ومنهم قضاعة الذين كنا قدّمنا أنهم كانوا اقتتلوا مع ملك من التبابعة وأتى بهم وكانوا يسكنون بيوت الشعر والوبر ويضعونها غربي الفرات بين الأنبار والحيرة وما فوقها فأنفوا من الإقامة في مملكة أردشير وخرجوا إلى البرية، والثانية العبّاد الذين كانوا يسكنون الحيرة وأوطنوها، والثالثة الأحلاف الذين نزلوا بهم من غير نسبهم ولم يكونوا من تنوخ الناكثين عن طاعة الفرس ولا من العبّاد الذين دانوا بهم. فملك هؤلاء الأحلاف الحيرة والأنبار وكان منهم عمرو بن عديّ وقومه، فعمّروا الحيرة والأنبار ونزلوا وخربوها وكانتا من بناء العرب أيام بخت نصّر، ثم عمرها بنو عمرو بن عديّ لما أصاروها نزلا [1] لملكهم إلى أن صبحهم الإسلام، واختط العرب الإسلاميون مدينة الكوفة فدثرت الحيرة. وكان أردشير لمّا ملك أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم لوصية جدّه، ووجد بقصر أردوان جارية استملحها ودفعت عن نفسها القتل بإنكار نسبها فيهم، فقالت أنا مولاة وبكر، فواقعها وحملت وظنّت الأمن على نفسها، فأخبرته بنسبها فتنكّر ودفعها إلى بعض مرازبته ليقتلها، فاستبقاها ذلك المرزبان إلى أن شكى إليه أردشير قلّة الولد والخوف على ملكه من الانقطاع وندم على ما سلف منه من قتل الجارية وإتلاف الحمل، فأخبره بحياتها وأنها ولدت ولدا ذكرا وأنه سمّاه سابور وأنه قد كملت خصاله وآدابه، فاستحضره أردشير واختبره فرضيه وعقد له التاج. ثم هلك أردشير فملك سابور من بعده فأفاض العطاء في أهل الدولة وتخيّر العمّال، ثم شخص إلى خراسان فمهد أمورها، ثم رجع فشخص إلى نصّيبين فملكها عنوة فقتل وسبى، وافتتح من الشام مدنا وحاصر أنطاكية وبها من الملوك أريانوس فاقتحمها عليه وأسره وحمله إلى جنديسابور فحبسه بها إلى أن فاداه على أموال عظيمة ويقال على بناء شاذروان تستر ويقال جدع أنفه وأطلقه ويقال بل قتله، وكان بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر وبها ملك من الجرامقة يقال له الساطرون من ملوك الطوائف وهو الّذي يقول فيه الشاعر: وأرى الموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون ولقد كان آمنا للدّواهي ... ذا ثراء وجوهر مكنون   [1] بضم النون والزاي: المنزل، بكسر فسكون: المجتمع، وبفتح وكسر المكان الّذي ينزل فيه (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وقال المسعودي: وهو الساطرون بن إستطرون من ملوك السريانيين. قال الطبريّ: وتسمّيه العرب الضيزن. وقال هشام بن محمد الكلبي: من قضاعة وهو الضيزن بن معاوية بن العميد بن الأجدم بن عمرو بن النخع بن سليم، وسنذكر نسب سليم في قضاعة. وكان بأرض الجزيرة وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى وكان ملكه قد بلغ الشام، فخلف سابور في غزاته إلى خراسان وعاث في أرض السواد، فشخص إليه سابور عند انقضاء غزاته حتى أناخ على حصنه وحاصره أربع سنين قال الأعشى: ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمة وهل خالد من نعم أقام به سابور الجنود ... حولين يضرب فيه القمم ثم إنّ ابنة ساطرون واسمها النضيرة خرجت إلى ربض [1] المدينة وكانت من أجمل النساء، وسابور كان جميلا، فأشرفت عليه فشغفت به شغف بها، وداخلته في أمر الحصن ودلّته على عورته فدخله عنوة وقتل الضيزن وأباد قضاعة الذين كانوا معه وأكثرهم بنو حلوان فانقرضوا، وخرّب حصن الحضر. وقال عديّ بن زيد في رثائه: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلّله كلسا ... فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريح المنون فباد ... الملك عنه فبابه مهجور ثم أعرس بالنضيرة بعين النمر وباتت ليلها تتضور في فراشها وكان من الحرير محشوّ بالقز والقسيّ فإذا ورقة آس بينها وبين الفراش تؤذيها، فقال: ويحك ما كان أبوك يغذيك؟ قالت الزبد والمخّ والشهد وصفو الخمر، فقال: وأبيك لأنا أحدث عهدا وأبعد ودّا من أبيك الّذي غذاك بمثل هذا. وأمر رجلا ركب فرسا جموحا وعصب غدائرها بذنبه ولم يزل يركضه حتى تقطعت أوصالها. وعند ابن إسحاق أنّ الّذي فتح حصن الحضر وخرّبه وقتل الساطرون هو سابور ذو الأكتاف. وقال السهيليّ: لا يصح لأنّ الساطرون من ملوك الطوائف والّذي أزال ملكهم هو أردشير وابنه سابور، وسابور ذو الأكتاف بعدهم بكثير هو التاسع من ملوك أردشير. قال السهيليّ وأوّل من ملك الحيرة من ملوك الساسانية سابور بن   [1] الربض: ما حول المدينة من بيوت ومساكن، سور المدينة أو الضاحية (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 أردشير، والحيرة وسط بلاد السواد وحاضرة العرب، ولم يكن لأحد قبله من آل ساسان حتى استقام العرب على طاعته، وولّى عليهم عمرو بن عديّ جدّ آل المنذر بعده وأنزله الحيرة، فجبى خراجهم وإتاوتهم واستعبدهم لسلطانه وقبض أيديهم عن الفساد باقطار ملكه وما كانوا يرومونه بسواد العراق من نواحي مملكته. وولّى بعده ابنه امرأ القيس بن عمرو بن عديّ وصار ذلك ملكا لآل المنذر بالحيرة توارثوه حسبما نذكر بعد. وهلك سابور لثلاثين سنة من ملكه وولي بعده ابنه هرمز ويعرف بالبطل فملك سنة واحدة، وولي بعده ابنه بهرام بن هرمز وكان عامله على مذحج من ربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز أمرؤ القيس بن عمرو بن عديّ وهو أوّل من تنصّر من ملوك الحيرة وطال أمد ملكه. قال هشام بن الكلبي: ملك مائة وأربع عشرة سنة من لدن أيام سابور أهـ. وكان بهرام بن هرمز حليما وقورا وأحسن السيرة واقتدى بآبائه، وكان ماني الثنويّ الزنديق صاحب القول بالنور والظلمة قد ظهر في أيام جدّه سابور فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه، ولمّا ولي بهرام بن هرمز جمع الناس لامتحانه، فأشادوا بكفره وقتله وقالوا زنديق. قال المسعودي: ومعناه أنّ من عدل عن ظاهر إلى تأويله ينسبونه إلى تفسير كتاب زرادشت الّذي قدّمنا أنّ اسمه زندة فيقولون زنديه فعرّبته العرب فقالوا زنديق، ودخل فيه كل من خالف الظاهر إلى الباطن المنكر، ثم اختص في عرف الشرع بمن يظهر الإسلام ويبطن الكفر. ثم هلك بهرام بن هرمز لثلاث سنين وثلاثة أشهر من دولته، وولي ابنه بهرام ثماني عشرة سنة عكف أوّلها على اللذات، وامتدّت أيدي بطانته إلى الرعايا بالجور والظلم فخربت الضياع والقرى حتى نبّه الموبذان لذلك بمثل ضربه له، وذلك أنّه سامره في ليلة فمرّ راجعا من الصيد فسمعا بومين يتحدّثان في خراب، فقال بهرام ليت شعري هل أحد فهم لغات الطير؟ فقال له الموبذان: نعم إنّا نعرف ذلك أيها الملك وإنهما يتحاوران في عقد نكاح وإنّ الأنثى اشترطت عليه إقطاع عشرين ضيعة من الخراب فقبل الذكر وقال: إذا دامت أيام بهرام أقطعتك ألفا. فتفطّن بهرام لذلك وأفاق من غفلته وأشرف على أحوال ملكه مباشرا بنفسه وقابضا أيدي البطانة عن الرعية وحسنت أيامه إلى أن هلك. وولي بعده بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاثة أسماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 متشابهة وتلقّب شاه، وكان مملّكا على سجستان وهلك لأربع سنين من دولته. وملك بعده أخوه قرسين بن بهرام تسع سنين أخرى، وكان عادلا حسن السيرة. وملك بعده ابنه هرمز بن قرسين فوجل منه الناس لفظاظته، ثم أبدل من خلقه الشر بالخير وسار فيهم بالعدل والرّفق والعمارة وهلك لسبع سنين من ولايته. وكان هؤلاء كلهم ينزلون جنديسابور من خراسان. ولما هلك ولم يترك ولدا شق ذلك على أهل مملكته لميلهم إليه ووجدوا ببعض نسائه حملا فتوّجوه وانتظروا إتمامه، وقيل بل كان هرمز أبوه أوصى بالملك لذلك الحمل فقام أهل الدولة بتدبير الملك ينتظرون تمام الولد. وشاع في أطراف المملكة أنهم يتلومون [1] صبيّا في المهد فطمع فيهم الترك والروم، وكانت بلاد العرب أدنى إلى بلادهم وهم أحوج إلى تناول الحبوب من البلاد لحاجتهم إليها بما هم فيه من الشظف وسوء العيش، فسار منهم جمع من ناحية البحرين وبلاد القيس ووحاظة فأناخوا على بلاد فارس من ناحيتهم وغلبوا أهلها على الماشية والحرث والمعايش، وأكثر الفساد ومكثوا في ذلك حينا ولم يغزهم أحد من فارس ولا دافعوهم لصغر الملك، حتى إذا كبر وعرضوا عليه الأمور فأحسن فيها الفصل وبلغ ست عشرة سنة من عمره [2] ، ثم أطاق حمل السلاح نهض حينئذ للاستبداد بملكه. وكان أوّل شيء ابتدأ به شأن العرب، فجهّز إليهم العساكر وعهد إليهم أن لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم، ثم شخص بنفسه إليهم وغزاهم وهم غازون ببلاد فارس فقتلهم وأبرح القتل، وهربوا أمامه وأجاز البحر في طلبهم إلى الخطّ وتعدّى إلى بلاد البحرين قتلا وتخريبا. ثم غزا بعدها رءوس العرب من تميم وبكر وعبد القيس فأثخن فيهم وأباد عبد القيس ولحق فلّهم بالرمال ثم أتى اليمامة فقتل وأسر وخرّب ثم عطف إلى بلاد بكر وتغلب، ما بين مملكة فارس ومناظر الروم بالشام، فقتل من وجد هنالك من العرب وطمّ مياههم وأسكن من رجع إليه من بني تغلب دارين [3] من البحرين والخطّو من بني تميم هجروا من بكر بن وائل كرمان ويدعون بكر إياد ومن بني حنظلة الأهواز، وبنى مدينة الأنبار والكرخ والسوس. وفيما قاله غيره إنّ إيادا كان تشتو بالجزيرة وتصيّف بالعراق وتشن الغارة. وكانت   [1] لا معنى لهذه الكلمة حسب سياق الجملة وربما تكون محرفة عن: يولون. [2] الأصح ان يقول: لمّا أطاق حمل السلاح. [3] بمعنى البلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 تسمى طمّا [1] لانطباقها على البلاد، وسابور يومئذ صغير حتى إذا بلغ القيام على ملكه شرع في غزوهم ورئيسهم يومئذ الحرث بن الأغرّ الأيادي، وكتب إليهم بالنذر بذلك رجل [2] من إياد كان بين ظهرانيّ الفرس، فلم يقبلوا حتى واقعتهم العساكر فاستلحمهم وخرجوا إلى أرض الجزيرة والموصل إجلاء ولم يعاودوا العراق. ولمّا كان الفتح طلبهم المسلمون بالجزيرة مع تغلب وغيرهم فأنفوا ولحقوا بأرض الروم. وقال السهيليّ: عند ذكر سابور بن هرمز إنّه كان يخلع أكتاف العرب ولذلك لقّبه العرب ذو الأكتاف، وأنه أخذ عمرو بن تميم بأرضهم بالبحرين وله يومئذ ثلاثمائة سنة وإنه قال: إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أنّ لكم دولة. فقال له عمرو بن تميم: ليس هذا من الحزم أيها الملك فإن يكن حقا فليس قتلك إياهم بدافعه وتكون قد اتخذت يدا عندهم ينتفع بها ولدك وأعقاب قومك. فيقال إنه استبقاه ورحم كبره. ثم غزا سابور بلاد الروم وتوغّل فيها ونازل حصونهم، وكان ملوك الروم على عصره قسطنطين وهو أوّل من تنصّر من ملوكهم وهلك قسطنطين وملك بعده إليانوس من أهل بيته وانحرف عن دين النصرانية وقتل الأساقفة وهدم البيع وجمع الروم وانحدر لقتال سابور. واجتمعت العرب معهم لثأرهم عند سابور بمن قتل منهم وسار قائد إليانوس واسمه يوسانوس في مائة وسبعين ألفا من المقاتلة، حتى دخل أرض فارس، وبلغ خبره وكثرة جموعه إلى سابور فأحجم عن اللقاء وأجفل وصحبه العرب، ففضّوا جموعه وهرب في فلّ من عسكره، واحتوى إليانوس على خزائنه وأمواله واستولى على مدينة طبسون من مدائن ملكه. ثم استنفر أهل النواحي واجتمعت إليه فارس وارتجع مدينة طبسون وأقاما متظاهرين، وهلك إليانوس بسهم أصابه، فبقي الروم فوضى وفزعوا إلى يوسانوس القائد أن يملّكوه، فشرط عليهم الرجوع إلى دين النصرانية كما كان قسطنطين فقبلوا. وبعث إليه سابور في القدوم عليه، فسار إليه في ثمانين من أشراف الروم، وتلقّاه سابور وعانقه وبالغ في إكرامه وعقد معه الصلح على   [1] الطمّ: البحر، العدد الكثير (قاموس) [2] ربما كان يقصد به لقيطا بن يعمر الأيادي، وكان كاتبا في البلاط الفارسيّ ومن قصيدته المنذرة: يا ايها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادا ومنتجعا لا تلهكم إبل ليست لكم إبل ... إن العدو بعظم منكم قرعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 أن يعطي الروم قيمة ما أفسدوه من بلاد فارس وأعطوا بدلا عن ذلك نصيبين فرضي بها أهل فارس، وكانت ممّا أخذه الروم من أيديهم فملكها سابور وشرّد عنها أهلها خوفا من سطوته، فنقل إليها من أهل إصطخر وأصبهان وغيرهما. وانصرف يوسانوس بالروم وهلك عن قرب ورجع سابور إلى بلاده. وفيما نقله بعض الأخباريّين إنّ سابور دخل بلاد الروم متنكرا وعثر عليه فأخذ وحبس في جلد ثور وزحف ملك الروم بعساكره إلى جنديسابور فحاصرها، وإن سابور هرب من حبسه ودخل جنديسابور المدينة ثم خرج إلى الروم فهزمهم وأسر ملكهم قيصر، وأخذه بعمارة ما خرّب من بلاده ونقل التراب والغروس إليها ثم قطع أنفه وبعث به على حمار إلى قومه، وهي قصة واهية تشهد العادة بكذبها. ثم هلك سابور لاثنتين وسبعين سنة من ملكه وهو الّذي بنى مدينة نيسابور وسجستان وبنى الإيوان المشهور لمقعد ملوكهم، وملك لعهده أمرؤ القيس بن عديّ، وأوصى بالملك لأخيه أردشير بن هرمز، وفتك في أشراف فارس وعظمائهم فخلعوه لأربعين سنة من دولته. وملكوا سابور بن ذي الأكتاف فاستبشر الناس برجوع ملك أبيه إليه، وأحسن السيرة ورفق بالرعية وحمل على ذلك العمّال والوزراء والحاشية ولم يزل عادلا، وخضع له عمه أردشير المخلوع، وكانت له حروب مع إياد وفي ذلك يقول شاعرهم: على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل والنعم وقيل إنّ هذا الشعر إنما قيل في سابور ذي الأكتاف. ثم هلك سابور لخمس سنين من دولته، وملك أخوه بهرام ويلقب كرمان شاه وكان حسن السياسة وملك لإحدى عشرة سنة من دولته رماه بعض الرماة بسهم في القتال فقتله. وملك بعده ابنه يزدجرد الأثيم، وبعض نسّابة الفرس يقول إنّه أخوه ولي ابنه وإنّما هو ابن ذي الأكتاف. وقال هشام بن محمد: كان فظّا غليظا كثير المكر والخديعة يفرغ في ذلك عقله وقوّة معرفته وكان معجبا برأيه سيّئ الخلق كثير الحدّة يستعظم الزلّة الصغيرة ويردّ الشفاعة من أهل بطانته متهما للناس قليل المكافأة. وبالجملة فهو سيّئ الأحوال مذمومها واستوزر، لأول ولايته برسيّ الحكيم ويسمّى فهر برشي ومهر مرسة، وكان متقدّما في الحكمة والفضائل وأمّل أهل المملكة أن تهرب من يزدجرد الأثيم، فلم يكن ذلك واشتدّ أمره على الأشراف بالإهانة وعلى من دونهم بالقتل. وبينما هو جالس في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 مجلسه يوما إذا بفرس [1] عابر لم يطق أحد إمساكه قد وقف ببابه، فقام إليه ليتولى إمساكه بنفسه فرمحه فمات لوقته لإحدى وعشرين سنة من ملكه. وملك بعده ابنه بهرام بن يزدجرد ويلقب ببهرام جور، وكان نشوؤه ببلاد الحيرة مع العرب أسلمه أبوه إليهم فربّي بينهم وتكلّم بلغتهم ولما مات أبوه قدّم أهل فارس رجلا من نسل أردشير، ثم زحف بهرام جور بالعرب فاستولى على ملكه نذكر في أخبار آل المنذر. وفي. يام بهرام جور سار خاقان ملك الترك إلى بلاد الصغد من ممالكه فهزمه بهرام وقتله، ثم غزا الهند وتزوّج ابنة ملكهم فهابته ملوك الأرض، وحمل إليه الروم الأموال على سبيل المهادنة، وهلك لتسع وعشرين من دولته. وملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور واستوزر مهر برسي الحكيم الّذي كان أبوه استوزره، وجرى في ملكه بأحسن سيرة من العدل والإحسان، وهو الّذي شرع في بناء الحائط بناحية الباب والأبواب، وجعل جبل الفتح سدا بين بلاده وما وراءها من أمم الأعاجم، وهلك لعشرين سنة من دولته. وملك من بعده ابنه هرمز وكان ملكا على سجستان فغلب على الدولة ولحق أخوه فيروز بملك الصغد بمروالروذ. وهذه الأمم هم المعروفون قديما بالهياطلة وكانوا بين خوارزم وفرغانة، فأمر فيروز بالعساكر وقاتل أخاه هرمز فغلبه وحبسه. وكانت الروم قد امتنعت من حمل الخراج فحمل إليهم العساكر مع وزيره مهر برسي، فأثخن في بلادهم حتى حملوا ما كان يحملونه واستقام أمره وأظهر العدل. وأصابهم القحط في دولته سبع سنين فأحسن تدبير الناس فيها وكفّ عن الجباية وقسّم الأموال، ولم يهلك في تلك السنين أحد إتلافا. وقيل أنه استسقى لرعيته من ذلك القحط فسقوا وعادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه. وكان لأول ما ملك أحسن إلى الهياطلة جزاء بما أعانوه على أمره، فقوي ملكهم أمره وزحفوا إلى أطراف ملكه وملكوا طخارستان وكثيرا من بلاد خراسان وزحف هو إلى قتالهم فهزموه وقتلوه وأربعة بنين له وأربعة إخوة واستولوا على خراسان بأسرها. وسار إليهم رجل من عظماء الفرس من أهل شيراز فغلبهم على خراسان وأخرجهم منها حتى ألقوا بجميع ما أخذوه من عسكر فيروز من الأسرى والسبي، وكان مهلكه لسبع وعشرين من ملكه. وبنى المدن بالري   [1] وردت هذه القصة في كتاب التاج للجاحظ ص 274: « ... وقالت الفرس، هذا ملك من الملائكة جعله الله في صورة فرس، فبعثه لقتل يزدجرد لما ظلم الرعية وعاث في الأرض» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وجرجان وأذربيجان. وقال بعضهم: إنّ ملك الهياطلة الّذي سار إلى فيروز اسمه خشتوا [1] ، والرجل الّذي استرجع خراسان من يده هو خرسوس من نسل منوشهر، وإن فيروز استخلفه لما سار إلى خشتوا والهياطلة على مدينتي الملك وهما طبسون ونهرشير، فكان من أمره مع الهياطلة بعد فيروز ما تقدّم. وملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه يلاوش بن فيروز ونازعه أخوه قبّاذ الملك فغلبه يلاوش ولحق قبّاذ بخاقان ملك الترك يستنجده. وأحسن يلاوش الولاية والعدل وحمل أهل المدن على عمارة ما خرّب من مدنهم، وبنى ميدنة ساباط بقرب المدائن، وهلك لأربع سنين من دولته. وملك من بعده أخوه قبّاذ بن فيروز وكان قد سار بعساكر الترك أمده بها خاقان، فبلغه الخبر بمهلك أخيه وهو بنيسابور من طريقه، وقد لقي بها ابنا كان له هنالك حملت به أمّه منه عند مروره ذلك الى خاقان، فلما أحل بنيسابور ومعه العساكر سأل عن المرأة، فأحضرت ومعها الخبر وجاء الخبر هنالك بمهلك أخيه يلاوش فتيمّن بالمولود وسار إلى سرحد الّذي كان أبوه فيروز استخلفه على المدائن، ومال الناس إليه دون قبّاذ واستبدّ عليه. فلما كبر وبلغ سن الاستبداد بأمره أنف من استبداد سرحد عليه، فبعث إلى أصبهبذ البلاد وهو سابور مهران فقدم عليه وقبض على سرحد وحبسه ثم قتله ولعشرين من دولته حبس وخلع. ثم عاد إلى الملك وصورة الخبر عن ذلك أنّ مزدك الزنديق كان إباحيا، وكان يقول باستباحة أموال الناس وأنها فيء، وأنه ليس لأحد ملك شيء ولا حجره، والأشياء كلها ملك للَّه مشاع بين الناس لا يختص به أحد دون أحد وهو لمن اختاره، فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد واجتمع أهل الدولة فخلعوه وحبسوه، وملكوا جاماسات أخاه. وخرج رزمهر شاكيا داعيا لقباذ ويقرّب إلى الناس بقتل المزدكية، وأعاد قباذ إلى ملكه، ثم سعت المزدكية عنده في رزمهر بإنكار ما أتى قبلهم فقبله، واتهمه الناس برأي مزدك فانتقضت الأطراف وفسد الملك وخلعوه وحبسوه وأعادوا جاماسات. وفرّ قباذ من محبسه ولحق قباذ بالهياطلة وهم الصغد مستجيشا لهم، ومرّ في طريقه بأبو شهر فتزوج بنت ملكها وولدت له أنوشروان، ثم أمدّه ملك الهياطلة، فزحف إلى   [1] وفي الكامل: أخشنوار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 المدائن لست سنين من مغيبه وغلب أخاه جاماسات واستولى على الملك. ثم غزا بلاد الروم وفتح آمد وسبى أهلها وطالت مدّته وابتنى المدن العظيمة منها مدينة أرّجان بين الأهواز وفارس، ثم هلك لثلاث وأربعين سنة من ملكه في الكرة الأولى. وملك ابنه أنوشروان بن قبّاذ بن فيروز بن يزدجرد، وكان يلي الأصبهبذ وهي الرئاسة على الجنود، ولما ملك فرّق أصبهبذ البلاد على أربعة فجعل: أصبهبذ المشرق بخراسان والمغرب بأذربيجان وبلاد الخزر واستردّ البلاد التي تغلب عليها جيران الأطراف من الملوك مثل السند وبست الرخّج وزابلستان وطخارستان ودهستان. وأثخن في أمّة البازر وأجلى بقيتهم، ثم أدهنوا واستعان بهم في حروبه. وأثخن في أمّة صول واستلحمهم، وكذلك الجرامقة وبلنجر واللان وكانوا يجاورون أرمينية ويتملأون على غزوها فبعث إليهم العساكر واستلحموهم وأنزل بقيتهم أذربيجان. وأحكم بناء الحصون التي كان بناها قبّاذ وفيروز بناحية صول واللان لتحصين البلاد، وأكمل بناء الأبواب والسور الّذي بناه جدّه بجبل الفتح، بنوه على الأزماق المنفوخة تغوص في الماء كلما ارتفع البناء إلى أن استقرّت بقعر البحر وشقت بالخناجر فتمكن الحائط من الأرض ثم وصل السور في البر ما بين جبل الفتح والبحر، وفتحت فيه الأبواب ثم وصلوه في شعاب الجبل وبقي فيه إلى أن كمل. قال المسعودي: إنه كان باقيا لعصره. والظنّ أن التتر خرّبوه بعد لمّا استولوا على ممالك الإسلام في المائة السابعة، ومكانه اليوم في مملكة بني ذو شيخان ملوك الشمال منهم. وكان لكسرى أنوشروان في بنائه خبر مع ملوك الخزر. ثم استفحل ملك الترك زحف خاقان سيحور وقتل ملك الهياطلة واستولى على بلادهم وأطاعه أهل بلنجر وزحف إلى بلاد صول في عشرة آلاف مقاتل، وبعث الى أنوشروان يطلب منه ما أعطاه أهل بلنجر في الفداء، وضبط أنوشروان أرمينية بالعساكر، وامتنعت صول بملكها أنوشروان والناحية الأخرى بسور الأبواب، فرجع خاقان خائبا. وأخذ أنوشروان في إصلاح السّابلة والأخذ بالعدل وتفقّد أهل المملكة وتخيّر الولاة والعمّال مقتديا بسيرة أردشير بن بابك جدّه. ثم سار إلى بلاد الروم وافتتح حلب وقبرص وحمص وانطاكية ومدينة هرقل ثم الاسكندرية، وضرب الجزية على ملوك القبط، وحمل إليه ملك الروم الفدية، وملك الصين والتبت الهدايا. ثم غزا بلاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الخزر وأدرك فيهم بثأره وما فعلوه ببلاده. ثم وفد عليه ابن ذي يزن من نسل الملوك التبابعة يستجيشه على الحبشة فبعث معه قائدا من قوّاده في جند من الديلم فقتلوا مسروقا ملك الحبشة باليمن وملكوها، وملك عليهم سيف بن ذي يزن. وأمره أن يبعث عساكره إلى الهند فبعث إلى سرنديب قائدا من قوّاده فقتل ملكها واستولى عليها وحمل إلى كسرى أموالا جمة. وملك على العرب في مدينة الحيرة. ثم سار نحو الهياطلة مطالبا بثأر جدّه فيروز فقتل ملكهم واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل عساكره فرغانة وأثخن في بلاد الروم وضرب عليهم الجزى. وكان مكرما للعلماء محبا للعلم وفي أيامه ترجم كتاب كليلة وترجمه من لسان اليهود [1] وحله بضرب الأمثال ويحتاج إلى فهم دقيق. وعلى عهده ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتين وأربعين سنة من ملكه وذلك عام الفيل. وكذلك ولد أبوه عبد الله بن عبد المطلب لأربع وعشرين من ملكه. قال الطبريّ: وفي أيامه رأى الموبذان الإبل الصعاب تقود الخيل العراب وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فأفزعه ذلك، وقصّ الرؤيا على من يعبّرها، فقال: حادث يكون من العرب. فكتب كسرى إلى النعمان أن يبعث إليه بمن يسأله عما يريده فبعث إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حسّان بن نفيلة الغسّاني وقصّ عليه الرؤيا فدلّه على سطيح، وقال له: ائته أنت فسار إليه وقصّ عليه الرؤيا فأخبره بتأويلها وأنّ ملك العرب سيظهر والقصة معروفة. وكان فيما قاله سطيح إنّه يملك من آل كسرى أربعة عشر ملكا فاستطال كسرى المدّة وملكوا كلهم في عشرين سنة أو نحوها. وبعث عامل اليمن وهرز بهديّة وأموال وطرف من اليمن إلى كسرى، فأغار عليها بنو يربوع من تميم وأخذوها، وجاء أصحاب العير الى هوذة بن عليّ ملك اليمامة من بني حنيفة، فسار معهم إلى كسرى فأكرمه وتوّجه بعقد من لؤلؤ ومن ثمّ قيل له ذو التاج، وكتب إلى عامله بالبحرين في شأنهم، وكان كثيرا ما يوقع ببني تميم ويقطعهم حتى سمّوه المكفّر فتحيل عليهم بالميرة، ونادى مناديه في أحيائهم: إنّ الأمير يقسم فيكم بحصن المشعر ميرة، فتسايلوا [2] إليه ودخلوا الحصن، فقتل الرجال وخصى   [1] ترجم الكتاب من اللغة الهندية. وفي مقدمة هذا الكتاب عرض وافي لكيفية الحصول عليه من المكتبة الهندية. [2] اي قدموا من كل جهة كالسيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 الصبيان. وجاءت هدية أخرى من اليمن على أرض الحجاز أجازها رجل من بني كنانة فعدت عليه قيس وقتلوه وأخذوا الهدية، فنشأت الفتنة بين كنانة وقيس لأجل ذلك وكانت بينهما حرب الفجّار عشرين سنة وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرا كان ينبل على أعمامه. ثم هلك أنوشروان لثمان وأربعين من دولته وملك ابنه هرمز. قال هشام: وكان عادلا حتى لقد أنصف من نفسه خصيّا كان له، وكانت له خؤلة في الترك وكان مع ذلك يقتل الأشراف والعلماء، وزحف إليه ملك الترك شبّابة في ثلاثمائة ألف مقاتل، فسار هرمز إلى هراة وباذغيس لحربهم، وخالفه ملك الروم إلى ضواحي العراق، وملك الخزر الى الباب والأبواب، وجموع العرب إلى شاطئ الفرات. فعاثوا في البلاد ونهبوا واكتنفته الأعداء من كل جانب، وبعث قائده بهرام صاحب الريّ إلى لقاء الترك، وأقام هو بمكانه من خراسان بيت هراة وباذغيس، وقاتل بهرام الترك وقتل ملكهم شبّابة بسهم أصابه واستباح معسكره وأقام بمكانه. فزحف إليه برمومة بن شبّابة بالترك فهزمه بهرام وحاصره في بعض الحصون حتى استسلم وبعث به الى هرمز أسيرا، وبعث معه بالأموال والجواهر والآنية والسلاح وسائر الأمتعة يقال في مائتين وخمسين ألفا من الأحمال، فوقع ذلك من هرمز أحسن المواقع. وغصّ أهل الدولة ببهرام وفعله فأكثروا فيه السعاية وبلغ الخبر إلى بهرام فخشيه على نفسه فداخل من كان معه من المرازبة وخلعوا هرمز، ودعوا لابنه أبرويز وداخلهم في ذلك أهل الدولة، فلحق أبرويز بأذربيجان خائفا على نفسه، واجتمع إليه المرازبة والأصبهبذيّون فملكوه. ووثب بالمدائن الأشراف والعظماء ونفدويه وبسطام خال أبرويز فخلعوا هرمز وحبسوه تحرّزا من قتله. وأقبل أبرويز بمن معه إلى المدائن فاستولى على الملك، ثم نظر في أمر بهرام وتحرّز منه وسار إليه وتوافقا بشط النهروان [1] ، ودعاه أبرويز إلى الدخول في أمره ويشترط ما أحب، فلم يقبل ذلك وناجزه الحرب فهزمه. ثم عاود الحرب مرارا وأحس أبرويز بالقتل من أصحابه فرجع إلى المدائن منهزما، وعرض على النعمان أن يركبه فرسه فنجا عليها. وكان أبوه محبوسا بطبسون فأخبره الخبر وشاوره فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم يستجيشه، فمضى لذلك ونزل المدائن لاثنتي عشرة سنة من ملكه.   [1] ثلاث قرى بين واسط وبغداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وفي بعض من طرق هذا الخبر أنّ أبرويز لمّا استوحش من أبيه هرمز لحق بأذربيجان واجتمع عليه من اجتمع ولم يحدث شيئا. وبعث هرمز لمحاربة بهرام قائدا من مرازبته فانهزم وقتل ورجع فلّهم إلى المدائن وبهرام في اتّباعهم، واضطرب هرمز وكتبت إليه أخت المرزبان المهزوم من بهرام تستحثه للملك فسار إلى المدائن وملك، وأتاه أبوه فتواضع له أبرويز وتبرأ له من فعل الناس وأنه إنّما حمله على ذلك الخوف، وسأله أن ينتقم له ممن فعل به ذلك وأن يؤنسه بثلاثة من أهل النسب والحكمة يحادثهم كل يوم فأجابه، واستأذنه في قتل بهرام جوبين فأشار به. وأقبل بهرام حثيثا وبعث خاليه نفدويه وبسطام يستدعيانه للطاعة فردّ أسوأ ردّ وقاتل أبرويز واشتدّت الحرب بينهما، ولما رأى أبرويز فشل أصحابه شاور أباه ولحق بملك الروم، وقال له خالاه عند وصولهم من المدائن: نخشى أن يدخل بهرام المدائن ويملّك أباك ويبعث فينا إلى ملك الروم. وانطلقوا إلى المدائن فقتلوا هرمز ثم ساروا مع أبرويز وقطعوا الفرات، واتبعتهم عساكر بهرام وقد وصلوا إلى تخوم الروم وقاتلوهم وأسروا نفدويه خال أبرويز ورجعوا عنهم. ولحق أبرويز ومن معه بأنطاكيّة وبعث إلى قيصر موريق يستنجده فأجابه وأكرمه وزوّجه ابنته مريم، وبعث إليه أخاه بناطوس بستين ألف مقاتل وقائدهم، واشترط عليه الإتاوة التي كان الروم يحملونها، فقبل وسار بالعساكر إلى أذربيجان ووافاه هنالك خاله نفدويه هاربا من الأسر الّذي كانوا أسروه. ثم بعث العساكر من أذربيجان مع أصبهبذ الناحية، فانهزم بهرام جوبين ولحق بالترك وسار أبرويز إلى المدائن فدخلها وفرّق في الروم عشرين ألف ألف دينار وأطلقهم إلى قيصر. وأقام بهرام عند ملك الترك وصانع أبرويز عليه ملك الترك وزوجته حتى دست عليه من قتله، واغتمّ لذلك ملك الترك وطلّقها من أجله، وبعث إلى أخت بهرام أن يتزوّجها فامتنعت، ثم أخذ أبرويز في مهاداة قيصر موريق وألطافه، وخلعه الروم وقتلوه وملّكوا عليهم ملكا اسمه قوفا قيصر، ولحق ابنه بأبرويز فبعث العساكر على ثلاثة من القواد وسار أحدهم ودوّخوا الشام إلى فلسطين، ووصلوا إلى بيت المقدس فأخذوا أسقفتها ومن كان بها من الأقسّة وطالبوهم بخشبة الصليب فاستخرجوها من الدفن وبعثوا بها إلى كسرى، وسار منهم قائد آخر إلى مصر واسكندرية وبلاد النوبة فملكوا ذلك كلّه، وقصد الثالث قسطنطينيّة وخيّم على الخليج وعاث في ممالك الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 ولم يجب أحد إلى طاعة ابن موريق وقتل الروم قوفا الّذي كانوا ملّكوه لما ظهر من فجوره، وملّكوا عليهم هرقل فافتتح أمره بغزو بلاد كسرى وبلغ نصيبين، فبعث كسرى قائدا من أساورته فبلغ الموصل وأقام عليها يمنع الروم المجاوزة، وجاز هرقل من مكان آخر إلى جند فارس، فأمر كسرى قائده بقتاله فانهزم وقتل وظفر هرقل بحصن كسرى وبالمدائن، ووصل هرقل قريبا منها ثم رجع. وأولع كسرى العقوبة بالجند المنهزمين، وكتب إلى سخراب بالقدوم من خراسان وبعثه بالعساكر، وبعث هرقل عساكره والتقيا بأذرعات وبصرى [1] فغلبتهم عساكر فارس، وسار سخراب في أرض الروم يخرّب ويقتل ويسبي حتى بلغ القسطنطينيّة، ورجع وعزله أبرويز عن خراسان وولّى أخاه. وفي مناوبة هذا الغلب بين فارس والروم نزلت الآيات من أوّل سورة الروم. (قال الطبري) ، وأدنى الأرض التي أشارت إليها الآية هي أذرعات وبصرى التي كانت بها هذه الحروب. ثم غلبت الروم لسبع سنين من ذلك العهد وأخبر المسلمون بذلك الوعد الكريم لما أهمّهم من غلب فارس الروم، لأن قريشا كانوا يتشيّعون لفارس لأنهم غير دائنين بكتاب، والمسلمون يودّون غلب الروم لأنهم أهل كتاب، وفي كتب التفسير بسط ما وقع في ذلك بينهم. وأبرويز هذا هو الّذي قتل النعمان بن المنذر ملك العرب وعامله على الحيرة سخّطه بسعاية عديّ بن زيد العباديّ وزير النعمان، وكان قد قتل أباه وبعثه إلى كسرى ليكون عنده ترجمانا للعرب كما كان أبوه قد فعل بسعايته في النعمان وحمله على أن يخطب إليه ابنته، وبعث إليه رسوله بذلك عديّ بن زيد فترجم له عنه في ذلك مقالة قبيحة أحفظت كسرى أبرويز مع ما كان تقدّم له في منعه الفرس يوم بهرام كما تقدّم، فاستدعاه أبرويز وحبسه بساباط، ثم أمر به فطرح للفيلة [2] ، وولّى على العرب بعده إياس بن قبيصة الطائيّ جزاء بوفاء ابن عمه حسّان يوم بهرام كما تقدّم.   [1] بلد في الشام مشهورة بصناعة السيوف. [2] أ (المعروف في كتب الأدب ان النعمان زوج ابنة عدي، وان بني مرينا- وهي اسرة تكره بني أيوب: أسرة عدي- قد احفظها هذا الزواج الّذي أدى الى ملكية النعمان لأنها كانت تريد ان يتولى الملك ولد آخر من أولاد المنذر الرابع فأخذت تتقرب إلى النعمان وتدس الدسائس على عدي- فغضب عليه النعمان وسجنه فشفع به كسرى فأخفقت الشفاعة ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد النعمان على ذلك فقتل عديا فغضب زيد ابنه ودبّر مكيدة دفعت كسرى لقتل النعمان) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 ثم كان على عهده وقعة ذي قار لبكر بن وائل ومن معهم من عبس وتميم على الباهوت مسلحة كسرى بالحيرة ومن معه من طيِّئ، وكان سببها أنّ النعمان بن المنذر أودع سلاحه عند هانئ بن مسعود الشيبانيّ وكانت شكّة ألف فارس، وطلبها كسرى منه، فأبى إلّا أن يردّها إلى بيته، فآذنه كسرى بالحرب وآذنوه بها. وبعث كسرى إلى إياس أن يزحف إليه بالمسالح التي كانت ببلاد العرب بأن يوافوا إياسا، واقتتلوا بذي قار وانهزمت الفرس ومن معهم. وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليوم انتصف العرب من العجم وبي نصروا أوحى إليه بذلك أو نفث في روعه، قيل إنّ ذلك كان بمكّة وقيل بالمدينة بعد وقعة بدر بأشهر. وفي أيام أبرويز كانت البعثة لعشرين من ملكه وقيل لاثنتين وثلاثين حكاه الطبريّ، وبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوه إلى الإسلام، كما تقدّم في أخبار اليمن وكما يأتي في أخبار الهجرة. ولما طال ملك أبرويز بطر وأشر وخسر الناس في أموالهم وولّى عليهم الظّلمة وضيّق عليهم المعاش وبغّض عليهم ملكه. وقال هشام: جمع أبرويز من المال ما لم يجمعه أحد، وبلغت عساكره القسطنطينية وإفريقية، وكان يشتو بالمدائن ويصيّف بهمدان، وكان له اثنتا عشرة ألف امرأة، وألف فيل وخمسون ألف دابة. وبنى بيوت النيران وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ وأحصى جبايته لثمان عشرة سنة من ملكه فكان أربعمائة ألف ألف مكرّرة مرتين وعشرون ألف ألف مثلها فحمل إلى بيت المال بمدينة طبسون، وكانت هنالك أموال أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد منها اثنا عشر ألف بدرة في كل بدرة من الورق مصارفة أربعة آلاف مثقال فتكون جملتها ثمانية وأربعين ألف ألف مثقال مكرّرة مرتين في صنوف من الجواهر والطيوب والأمتعة والآنية لا يحصيها إلا الله تعالى. ثم بلغ من عتوّه واستخفافه بالناس أنه أمر بقتل المقيدين في سجونه وكانوا ستة وثلاثين ألفا، فنقم ذلك عليه أهل الدولة وأطلقوا ابنه شيرويه واسمه قبّاذ وكان محبوسا مع أولاده كلهم لإنذار بعض المنجمين له بأن بعض ولده يغتاله فحبسهم، وأطلق أهل الدولة شيرويه وجمعوا إليه المقيدين الذين أمر بقتلهم، ونهض إلى قصور الملك بمدينة نهر شير فملكها وحبس أبرويز وبعث إلى ابنه شيرويه يعنّفه، فلم يرض ذلك أهل الدولة وحملوه على قتله، وقتل لثمان وثلاثين سنة من ملكه، وجاءته أختاه بوران وأزرميدخت فأسمعتاه وأغلظتا له فيما فعل فبكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 ورمى التاج عن رأسه، وهلك لثمانية أشهر من مقتل أبيه في طاعون وهلك فيه نصف الناس أو ثلثهم، وكان مهلكه لسبع من الهجرة فيما قال السهيليّ. ثم ولي ملك الفرس من بعده ابنه أردشير طفلا ابن سبع سنين لم يجدوا من بين الملك سواه لأن أبرويز كان قتل المرشّحين كلهم من بينه وبني أبيه، فملّك عظماء فارس هذا الطفل أردشير وكفله بها در خشنش صاحب المائدة في الدولة، فأحسن سياسة ملكه وكان شهريران بتخوم الروم في جند ضمّهم إليه أبرويز وحموهم هنالك وصاحب الشورى في دولتهم، ولما لم يشاوروه في ذلك غضب وبسط يده في القتل، وطمع في الملك وأطاعه من كان معه من العساكر. وأقبل الى المدائن وتحصّن بهادر خشنش بمدينة طبسون دار الملك، ونقل إليها الأموال والذخائر وأبناء الملوك، وحاصرها شهريران فامتنعت، ثم داخل بعض العسس ففتحوا له الباب فاقتحمها وقتل العظماء واستصفى الأموال وفضح النساء. وبعث أردشير الطفل الملك من قتله لسنة ونصف من ملكه، وملك شهريران على التخت ولم يكن من بيت الملك، وامتعض لقتل أردشير جماعة من عظماء الدولة وفيهم زادان فرّوخ وشهريران ووهب مؤدّب الأساورة، وأجمعوا على قتل شهريران. وداخلوا في ذلك بعض حرس الملك فتعاقدوا على قتله، وكانوا يعملون قدام الملك في الأيام والمشاهد سماطين، ومرّ بهم شهريران بعض أيام بين السماطين وهم مسلحون فلما حاذاهم طعنوه فقتلوه وقتلوا العظماء بعد قتل أردشير الطفل. ثم ملّكوا بوران بنت أبرويز ودفعت أمير الدولة إلى [1] قبائل شهريران من حرس الملك وهو فرّوخ بن ماخد شيراز من أهل إصطخر، ورفعت رتبته، وأسقطت الخراج عن الناس، وأمرت برم القناطير والجسور وضرب الورق، وردّت خشبة الصليب على الجاثليق ملك الروم، وهلكت لسنة وأربعة أشهر. وملّكوا بعدها خشنشده من عمومة أبرويز عشرين يوما فملك أقل من شهر. ثم ملك أزرميدخت بنت أبرويز وكانت من أجلّ نسائهم، وكان عظيم فارس يومئذ فرّوخ هرمز أصبهبذ خراسان فأرسل إليها في التزويج، فقالت هو حرام على الملكة ودعته ليلة كذا، فجاء وقد عهدت إلى صاحب حرسها أن يقتله ففعل، فأصبح بدار الملك قتيلا وأخفي أثره. وكان لما سار إلى أزرميدخت استخلف على خراسان ابنه رستم، فلما سمع بخبر أبيه   [1] الواضح من سياق الجملة ان كلمة سقطت أثناء النسخ فتكون الجملة (الى رجل من قبائل شهريران) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 أقبل في جند عظيم حتى نزل المدائن وملكها، وسمل أزرميدخت وقتلها، وقيل سمّها فماتت وذلك لستة أشهر من ملكها، وملكوا بعدها رجلا من نسل أردشير بن بابك وقتل لأيام قلائل، وقيل بل هو من ولد أبرويز اسمه فرّوخ زاذ بن خسرو وجدوه بحصن الحجارة قريب نصيبين، فجاءوا به إلى المدائن وملّكوه ثم عصوا عليه فقتلوه. وقيل لمّا قتل كسرى بن مهرخشنش طلب عظماء فارس من يولّونه الملك ولو من قبل النساء، فأتى برجل وجد بميسان اسمه فيروز بن مهرخشنش ويسمى أيضا خشنشدة أمّه صهاربخت بنت يراد قرّار بن أنوشروان فملّكوه كرها، ثم قتلوه بعد أيام قلائل. ثم شخص رجل من عظماء الموالي وهو رئيس الخول إلى ناحية الغرب، فاستخرج من حصن الحجارة قرب نصيبين ابنا لكسرى كان لجأ إلى طبسون فملّكوه، ثم خلعوه وقتلوه لستة أشهر من ملكه. وقال بعضهم: كان أهل إصطخر قد ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز فلما بلغهم أن أهل المدائن عصوا على ابن خسرو فرّوخ زاذ أتوا بيزدجرد من بيت النار الّذي عندهم ويدعى أردشير، فملّكوه بإصطخر وأقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا فرّوخ زاذ خسرو لسنة من ملكه. واستقلّ يزدجرد بالملك وكان أعظم وزرائه رئيس الموالي الّذي جاء بفرّخزاد خسرو من حصن الحجارة. وضعفت مملكة فارس، وتغلب الأعداء على الأطراف من كل جانب، فزحف إليهم العرب المسلمون بعد سنتين من ملكه، وقيل بعد أربع، فكانت أخبار دولته كلها هي أخبار الفتح نذكرها هنالك إلى أن قتل بمرو بعد نيف وعشرين سنة من ملكه. هذه هي سياقة الخبر عن دولة هؤلاء الأكاسرة الساسانية عند الطبري. ثم قال آخرها: فجميع سني العالم من آدم إلى الهجرة على ما يزعمه اليهود أربعة آلاف سنة وستمائة واثنان وأربعون سنة، وعلى ما يدّعيه النصارى في توراة اليونانيين ستة آلاف سنة غير ثمان سنين، وعلى ما يقوله الفرس إلى مقتل يزدجرد أربعة آلاف ومائة وثمانون سنة ومقتل يزدجرد عندهم لثلاثين من الهجرة، وأمّا عند أهل الإسلام فبين آدم ونوح عشرة قرون والقرن مائة سنة وبين نوح وإبراهيم كذلك وبين إبراهيم وموسى كذلك ونقله الطبري عن ابن عبّاس وعن محمد بن عمرو بن واقد الإسلامي عن جماعة من أهل العلم وقال: إنّ الفترة بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة ورواه عن سلمان الفارسيّ وكعب الأحبار والله أعلم بالحق في ذلك والبقاء للَّه الواحد القهّار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 الخبر عن دولة يونان والروم وأنسابهم ومصايرهم كان هؤلاء الأمم من أعظم أمم العالم وأوسعهم ملكا وسلطانا، وكانت لهم الدولتان العظيمتان للإسكندر والقياصرة من بعده الذين صبحهم الإسلام وهم ملوك بالشام، ونسبهم جميعا إلى يافث باتفاق من المحقّقين، إلا ما ينقل عن الكندي في نسب يونان إلى عابر بن فالغ وأنه خرج من اليمن بأهله وولده مغاضبا لأخيه قحطان فنزل ما بين الافرنجة والروم فاختلط نسبه بهم، وقد ردّ عليه أبو العبّاس الناشيء في ذلك بقوله: تخلط يونان بقحطان ضلّة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدّا ولذلك يقال إنّ الإسكندر من تبّع، وليس شيء من ذلك بصحيح، وإنما الصحيح نسبهم إلى يافث، ثم إنّ المحقّقين ينسبون الروم جميعا إلى يونان الإغريقيون منهم والطينيون. ويونان معدود في التوراة من ولد يافث لصلبه، واسمه فيها يافان بفاء تقرب من الواو، فعرّبته العرب الى يونان. وأمّا هروشيوش فجعل الغريقيين خمس طوائف منتسبين إلى خمسة من أبناء يونان وهم: كيتم وحجيلة وترشوش ودودانم وإيشاي، وجعل من شعوب إيشاي سجينيّة وأثناش وشمالا وطشّال ولجدمون. ونسب الروم اللطينيين فيهم ولم يعين نسبهم في أحد من الخمسة، ونسب الافرنج إلى غطرما بن عومر بن يافث، وقال: إن الصقالبة إخوانهم في نسبه، وقال: إنّ الملك كان في هذه الطوائف لبني أشكان بن غومر والملوك منهم هؤلاء الغريقيون قبل يونان وغيرهم. ونسب القوط الى ماداي بن يافث وجعل من إخوانهم الأرمن، ثم نسب القوط مرّة أخرى إلى ماغوغ بن يافث وجعل اللطينيين من إخوانهم في ذلك النسب. ونسب القاللّين منهم إلى رفنّا بن غومار، ونسب إلى طوبال بن يافث الأندلس والإيطاليين والأركاديّين، ونسب إلى طبراش بن يافث أجناس الترك. واسم الغريقيين عنده يشمل أبناء يونان كلهم كما ذكره، وينوّع الروم إلى الغريقيين واللطينيين. وقال ابن سعيد فيما نقله من تواريخ المشرق عن البيهقي وغيره: إنّ يونان هو ابن علجان بن يافث، قال: ولذلك يقال لهم العلوج ويشركهم في هذا النسب سائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 أهل الشمال من غير الترك، وإنّ الشعوب الثلاثة من ولد يونان، فالإغريقيون من ولد أغر يقش بن يونان والروم من ولد رومي بن يونان واللطينيون من ولد لطين بن يونان، وإنّ الإسكندر من الروم منهم والله أعلم. ونحن الآن نذكر أخبار الدولتين الشهيرتين منهم مبلغ علمنا والله الموفق للصواب سبحانه وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان الى انقراض أمرهم هؤلاء اليونانيون المتشعّبون إلى الغريقيين واللطينيين- كما قلناه- اختصوا بسكنى الناحية الشمالية من المعمور مع إخوانهم من سائر بني يافث كلهم كالصقالبة والترك والافرنجة من ورائهم وغيرهم من شعوب يافث، ولهم منها الوسط ما بين جزيرة الأندلس إلى بلاد الترك بالمشرق طولا وما بين البحر المحيط والبحر الرومي عرضا، فمواطن اللطينيين منهم في الجانب الغربي ومواطن الغريقيين منهم في الجانب الشرقي والبحر بينهما خليج القسطنطينية. وكان لكل واحد من شعبي الغريقيين واللطينيين منهم دولة عظيمة مشهورة في العالم. واختص الغريقيون باسم اليونانيين، وكان منهم الإسكندر المشهور الذكر أحد ملوك العالم، وكانت ديارهم كما قلناه بالناحية الشرقية من خليج القسطنطينية بين بلاد الترك ودروب الشام، ثم استولى على ما وراء ذلك من بلاد الترك والعراق والهند، ثم جال أرمينية وما وراءها من بلاد الشام وبلاد مقدونية ومصر والاسكندرية، وكان ملوكهم يعرفون بملوك مقدونية. وذكر هروشيوش مؤرّخ الروم من شعوب هؤلاء الغريقيين بنو لجدمون وبنو أنتناش، قال: وإليهم ينسب الحكماء الأنتاشيون وهم ينسبون لمدينتهم أجدة أنتاش، قال: ومن شعوبهم أيضا بنو طمّان ولجدمون كلهم بنو شمالا بن إيشاي، وقال في موضع آخر: لجدمون أخو شمالا. وكانت شعوب هذه الأمّة قبل الفرس والقبط وبني إسرائيل متفرّقة بافتراق شعوبها، وكان بينهم وبين إخوانهم اللطينيين فتن وحروب، ولما استفحل ملك فارس لعهد الكينيّة أرادوهم على الطاعة لهم، فامتنعوا وغزتهم فارس، فاستصرخوا عليهم بالقبط فسالموهم إلى محاربة الغريقيين حتى أذلّوهم وأخذوا الجزى منهم وولّوا عليهم. ويقال: إنّ أفريدون ولّى عليهم ابنه، وأنّ جدّه الإسكندر لأبيه من أعقابه. ويقال: أن بخت نصّر لما ملك مصر والمغرب أنفوه بالطاعة وكانوا يحملون خراجهم إلى ملك فارس عددا من كرات الذهب أمثال البيض ضريبة معلومة عليهم في كل سنة، ولما فرغوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 من شأن أهل فارس وأنفوا ملكهم بالجزى والطاعة صرفوا وجوههم إلى حرب اللطينيين، ثم استفحل أمر الإيشاءيّين من الغريقيّين ولم يكن قوامهم إلا الجرمونيّون، فغلبوهم وغلبوا بعدهم اللطينيين والفرناسيين والأركاديين، واجتمع إليهم سائر شعوب الغريقيين واعتز سلطانهم وصار لهم الملك والدولة. وقال ابن سعيد: إنّ الملك استقرّ بعد يونان في ابنه أغريقش في الجانب الشرقي من خليج قسطنطينية، وتوالى الملك في ولده وقهروا اللطينيين والروم ودال ملكهم في أرمينية، وكان من أعظمهم هرقل الجبّار بن ملكان بن سلقوس بن أغريقش، يقال: إنه ضرب الإتاوة على الأقاليم السبعة. وملك بعده ابنه يلاق وإليه تنسب الأمّة اليلاقيّة وهي الآن باقية على بحر سودان. واتصل الملك في عقب يلاق إلى أن ظهر إخوانهم الروم واستبدّوا بالملك، وكان أولهم هردوس بن منطرون بن رومي بن يونان فملك الأمم الثلاثة وصار اسمه لقبا لكل من ملك بعده، وسمّت به يهود الشام كل من قام بأمرها منهم. ثم ملك بعده ابنه هرمس، فكانت له حروب مع الفرس إلى أن قهروه وضربوا عليه الإتاوة، فاضطرب حينئذ أمر اليونانيين وصاروا دولا وممالك. وانفرد الاغريقيون برئيس لهم، وصنع مثل ذلك اللطينيون، إلّا أنّ اللقب بملك الملوك كان لملك الروم، ثم ملك بعده ابنه مطريوش فحمل الإتاوة لملك الفرس لاشتغاله بحرب اللطينيين والإغريقيين. وملك بعده ابنه فيلفوش [1] وكانت أمّه من ولد سرم من ولد أفريدون الّذي ملّكه أبوه على اليونان، فظهر وهدم مدينة إغريقيّة وبنى مدينة مقدونية في وسط الممالك بالجانب الغربي من الخليج. وكان محبّا للحكمة فلذلك كثر الحكماء في دولته. ثم ملك من بعده ابنه الإسكندر وكان معلمه من الحكماء أرسطو. وقال هروشيوش: إنّ أباه فيلفوش إنما ملك بعد الإسكندر بن تراوش أحد ملوكهم العظماء، وكان فيلفوش صهرا له على أخته لينبادة بنت تراوش، وكان له منها الإسكندر الأعظم. قال: وكان ملك الإسكندر بن تراوش لعهد أربعة آلاف وثمانمائة من عهد الخليقة ولعهد أربعمائة أو نحوها من بناء رومة، وهلك وهو محاصر لرومة قتله اللطينيون عليها لسبع سنين من دولته. فولي أمر الغريقيين والروم من بعده صهره على أخته لينبادة فيلفوش ابن آمنة بن هركلش، واختلفوا عليه فافترق أمرهم   [1] هو فيلبس المقدوني والد الإسكندر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وحاربهم إلى أن انقادوا وغلبهم على سائر أوطانهم. وأراد بناء القسطنطينية فمنعه الجرمانيّون بما كانت لهم، فقاتلهم حتى استلحمهم، واجتمع إليه سائر الروم والغريقيين من بني يونان، وملك ما بين ألمانية وجبال ارمينية. وكان الفرس لذلك العهد قد استولوا على الشام ومصر فاعتزم فيلفوش على غزو الشام، فاغتاله في طريقه بعض اللطينيين وقتله بثأر كان له عنده. ووليّ من بعده ابنه الإسكندر فاستمرّ على مطالبة بلاد الشام، وبعث إليه ملوك فارس في الخراج على الرسم الّذي كان لعهد أبيه فيلفوش، فبعث إليه الإسكندر إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض الذهب وأكلتها. ثم زحف إلى بلاد الشام واستولى عليها وفتح بيت المقدس وقرّب فيه القربان وذلك لعهد مائتين وخمسين من فتح بخت نصّر إيّاها، وامتعض أهل فارس لانتزاعه إياها من ملكتهم، فزحف إليه دارا في ستين ألفا من الفرس ولقيه الإسكندر في ستمائة ألف من قومه فغلبهم وفتح كثيرا من مدن الشام ورجع إلى طرسوس، فزحف إليه دارا ولقيه عليها فهزمه الإسكندر وافتتح طرسوس. ومضى وبنى الإسكندرية. ثم تزاحف مع دارا وهزمه وقتله وتخطي إلى فارس فملك بلادها وهدم مدينة الملك بها وسبى أهلها، وأشار عليه معلمه أرسطو بأن يجعل الملك في أسافلهم لتتفرق كلمتهم ويخلص إليه أمرهم، فكاتب الإسكندر ملوك كل ناحية من الفرس والنبط والعرب وملّك على كل ناحية وتوجه فصاروا طوائف في ملكهم، واستبدّ كل واحد منهم بجهة كان ملكها لعقبه ومعلمه أرسطو هذا من اليونانيين وكان مسكنه أثينا وكان كبير حكماء الخليقة غير منازع، أخذ الحكمة عن أفلاطون اليوناني، كان يعلم الحكمة وهو ماش تحت الرّواق المظلّل له من حرّ الشمس فسمى تلاميذه بالمشّاءين. وأخذ أفلاطون عن سقراط ويعرف بسقراط الدّنّ بسكناه في دنّ من الخزف اتخذه لرهبانيّته، وقتله قومه أهل يونان مسموما لمّا نهاهم عن عبادة الأوثان، وكان هو أخذ الحكمة عن فيثاغورس منهم، ويقال: إنّ فيثاغورس أخذ عن تاليس حكيم ملطية، وأخذ تاليس عن لقمان. ومن حكماء اليونانيين دميقراطيس، وأنكيثاغورس كان مع حكمته مبرزا في علم الطب وبعث فيه بهمن ملك الفرس إلى يونان فامتنع من إيفاده عليه ضمانة به، وكان من تلامذته جالينوس لعهد عيسى عليه السلام ومات بصقليّة ودفن بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ولما استولى الإسكندر على بلاد فارس تخطّاها إلى بلاد السند فملكها وبنى بها مدينة سمّاها الإسكندرية، ثم زحف إلى بلاد الهند فغلب على أكثرها وحاربه فور ملك الهند فانهزم وأخذه الإسكندر أسيرا بعد حروب طويلة، وغلب على جميع طوائف الهنود وملك بلاد الصين والسند وذللت إليه الملوك وحملت إليه الهدايا والخراج من كل ناحية، وراسله ملوك الأرض من إفريقية والمغرب والافرنجة والصقالبة والسودان. ثم ملك بلاد خراسان والترك، واختط مدينة الإسكندرية عند مصب النيل في البحر الرومي، واستولى على الملوك يقال: على خمسة وثلاثين ملكا. وعاد إلى بابل فمات بها، يقال مسموما سمّه عامله على مقدونية لأنّ أمّه شكته إلى الإسكندر فتوعده فأهدى له سمّا وتناوله فمات لاثنتين وأربعين سنة من عمره، بعد أن ملك اثنتي عشرة سنة، سبعا منها قبل مقتل دارا وخمسا بعده. قال الطبري: ولما مات عرض الملك على ابنه إسكندروس فاختار الرهبانية، فملّك يونان عليهم لوغوس من بيت الملك ولقبه بطليموس. قال المسعودي: ثم سارت هذه التسمية لكل من يملك منهم ومدينتهم مقدونية وينزلون الاسكندرية، وملك منهم أربعة عشر ملكا في ثلاثمائة سنة. وقال ابن العميد: كان قسّم الملك في حياته بين أربعة من أمرائه بطليموس فليادا [1] كان على الاسكندرية ومصر والمغرب، وفيلفوس بمقدونية وما إليها من ممالك الروم وهو الّذي سمّ الإسكندر، ودمطرس بالشام، وسلقنوس [2] بفارس والمشرق. فلما مات استبدّ كلّ واحد بناحيته. وكتب أرسطو شرح كتاب هرمس وترجمه من اللسان المصري إلى اليوناني، وشرح ما فيه من العلوم والحكمة والطلسمات. وكتاب الأسطماخيس يحتوي على عبادة الأول، وذكر فيه أنّ أهل الأقاليم السبعة كانوا يعبدون الكواكب السيّارة. كل إقليم لكوكب، ويسجدون له ويبخّرون ويقرّبون ويذبحون، وروحانية ذلك الكوكب تدبرهم بزعمهم. وكتاب الأستماطس يحتوي على فتح المدن والحصون بالطلسمات والحكم، ومنها طلسمات لا نزال المطر وجلب المياه. وكتب الأشطرطاش في الاختيارات على سرى القمر في المنازل والاتصالات، وكتب أخرى في منافع   [1] وفي نسخة اخرى: بطليموس فلدلغوس. [2] وفي نسخة اخرى سلقوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وخواص الأعضاء الحيوانيات والأحجار والأشجار والحشائش. وقال هروشيوش: إنّ الّذي ملك بعد الإسكندر صاحب عسكره بطليموس بن لاوي، فقام بأمرهم ونزل الاسكندرية واتخذها دارا لملكهم. ونهض كلمش بن الإسكندر وأمّه بنت دارا ولينبادة أمّ الإسكندر وساروا إلى صاحب أنطاكية واسمه فمشاندر فقتلهم. واختلف الغريقيون على بطليموس وافترق أمره وحارب كل واحد منهم ناحيته، إلى أن غلبهم جميعا واستقام أمره، ثم زحف إلى فلسطين وتغلب على اليهود وأثخن فيهم بالقتل والسبي والأسر، ونقل رؤساءهم إلى مصر، ثم هلك لأربعين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه فلديغيش، وأطلق أسرى اليهود من مصر، وردّ الأواني إلى البيت وحباهم بآنية من الذهب وأمرهم بتعليقها في مسجد القدس، وجمع سبعين من أحبار اليهود ترجموا له التوراة من اللسان العبراني الى اللسان الرومي واللطيني، ثم هلك فلديغيش لثمان وثلاثين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه أنطريس ويلقب أيضا بطليموس لقبهم المخصوص بهم الى آخر دولتهم، فانعقدت السلم بينه وبين أهل إفريقية على مدعيون ملك قرطاجنّة، ووفد عليه وعقد معه الصلح عن قومه، وزحف قوّاد رومة إلى الغريقيين ونالوا منهم. ثم هلك أنطريس لست وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده أخوه فلوباذي فزحف إليه قواد رومة فهزمهم وجال في ممالكهم، ثم كانت حروبه معهم بعدها سجالا. وزحف إلى اليهود فملك الشام عليهم وولّى الولاة من قبله فيهم وأثخن بالقتل والسبي فيهم، يقال: إنه قتل منهم نحوا من ستين ألفا، وهلك لسبع عشرة سنة من ملكه. ووليّ بعده ابنه إيفانش وعلى عهده كانت فتنة أهل رومة وأهل افريقية التي اتصلت نحوا من عشرين سنة، وافتتح أهل رومة صقلّيّة وأجاز قوّادهم إلى إفريقية وافتتحوا قرطاجنّة، كما نذكر في أخبارهم، وهلك إيفانش لأربع وعشرين سنة من دولته. وولي بعده بالإسكندرية ابنه فلو ماطر فزحف الغريقيون إلى رومة، وكان فيهم صاحب مقدونية وأهل أرمينيّة والعراق وظاهرهم ملك النوبة واجتمعوا لذلك، فغلبهم الرومانيون وأسروا صاحب مقدونية، وهلك فلو ماطر لخمس وثلاثين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه إيرياطش وعلى عهده استفحل ملك أهل رومة واستولوا على الأندلس وأجازوا البحر إلى قرطاجنة بإفريقية فملكوها وقتلوا ملكها أشدريال وخرّبوا مدينتها بعد أن عمرت تسعمائة سنة من بنائها كما نذكر في أخبارها. وزحف أيضا أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 رومة إلى الغريقيين فغلبوهم وملكوا عليهم مدينتهم قرنطة من أعظم مدنهم، يقال: إنها كانت ثانية قرطاجنة. ثم هلك إيرياطش لسبع وعشرين سنة من مدته وولي بعده ابنه شوطار سبع عشرة سنة وعلى عهده استفحل ملك أهل رومة ومهدوا الأندلس، وملك بعده أخوه الإسكندر عشر سنين، ثم ابنه ديونشيس مائة وثلاثين سنة وعلى عهده استولى الرومانيون على بيت المقدس ووضعوا الجزيرة على اليهود، وزحف قيصر يولش [1] من قوادهم إلى الافرنجة ولمياش أيضا من قوادهم إلى الفرس فغلبوهم جميعا وما حولهم إلى أنطاكية واستولوا على ما كان لهم من ذلك. وخرج الترك من بلادهم فأغاروا على مقدونية فردّهم هامس قائد الرومانيين بالمشرق على أعقابهم. وهلك ديونشيس فوليت بعده ابنته كلابطرة سنتين فيما قال هروشيوش لخمسة آلاف ونيف من مبدإ الخليقة ولسبعمائة سنة من بناء رومة، وعلى عهدها استبد قيصر يولش بملك رومة وغلب عليها القواد أجمع ومحا دولتهم منها وذلك بعد مرجعه من حرب الافرنج، ثم سار الى المشرق فملك إلى أرمينية ونازعه مبانش هنالك فهزمه قيصر، وفرّ مبانش الى مصر مستنجدا ملكتها وهي يومئذ كلابطره، فبعثت برأسه الى قيصر خوفا منه، فلم يغنها ذلك وزحف قيصر إليها فملك مصر والإسكندرية من كلابطره هذه وانقرض ملك اليونانيين، وولّى قيصر على مصر والاسكندرية وبيت المقدس من قبله وذلك لسبعمائة أو نحوها من بناء رومة ولخمسة آلاف من مبدإ الخليقة. وذكر البيهقي: إن كلابطره زحفت إلى أرض اللطينيين وقهرتهم، وأرادت العبور إلى الأندلس فحال دونها الجبل الحاجز بين الأندلس والإفرنج فاستعملت في فتحه الحيل [2] والنار حتى نفذت إلى الأندلس، وإنّ مهلكها كان على يد أوغسطس يولش [3] ثاني القياصرة. وكذا ذكر المسعودي وأن ملكت لاثنتين وعشرين سنة، وكان زوجها أنطونيوس مشاركا لها في ملك مقدونية ومصر، وأن قيصر أوغسطس زحف إليهم فهلك زوجها انطونيوس في حروبه، ثم أراد التحكّم في كلابطره ليستولي   [1] وفي نسخة اخرى: قيصر يوليوس. [2] (ورد في تاج العروس: الحول والحيل والحول، كعنب هو الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف) . [3] وفي نسخة أخرى: اوغسطوس يوليوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 على حكمتها إذ كانت بقية الحكماء من آل يونان، فخطبها وتحيّلت في إهلاكه وإهلاك نفسها بعد أن اتخذت بعض الحيّات القاتلة التي بين الشام والحجاز وأطلقتها بمجلسها بين رياحين نصبتها هنالك، ولمست الحيّات فهلكت لحينها وأقامت بمكانها كأنها جالسة، ودخل أوغسطس لا يشعر بذلك حتى تناول من تلك الرياحين ليشمها فأصابته الحيّة وهلك لحينه وتمت حيلتها عليه. وانقرض ملك اليونانيين بهلاكها، وذهبت علومهم إلّا ما بقي بأيدي حكمائهم في كتب خزائنهم حتى بحث عنها المأمون وأمر باستخراجها فترجمت له من هروشيوش. وأمّا ابن العميد فعدّ ملوك مصر والإسكندرية بعد الإسكندر أربعة عشر آخرهم كلابطره كلهم يسمّون بطليموس، كما قال المسعودي. ولم يذكر ملوك المشرق منهم بعد الإسكندر ولا ملوك الشام ولا ملوك مقدونية الذين قسم الملك فيهم كما ذكرناه إلا بذكر ملك أنطاكية من اليونانيين ويسمّيه أنطيوخس كما ذكرناه الآن، وذكر في أسماء ملوك مصر هؤلاء وفي عددهم خلافا كثيرا إلّا أنه سمّى كل واحد منهم بطليموس، فقال في بطليموس الأوّل: إنّه أخو الإسكندر أو مولاه اسمه فلافاذافسد أو أرنداوس أو لوغس أو فيليبس ملك سبعا وقيل أربعين، قال: وفي عصره بنى سلقيوس وأظنه ملك المشرق منهم قمامة وحلب وقنّسرين وسلوقية والاذقية، قال: ومنها كان الكوهن الأعظم بالقدس سمعان بن خونيّا [1] وبعده أخوه ألعازر، قال: وفي التاسعة من ملك لوغش جاء أنطيوخس المعظّم إلى بلد اليهود واستعبدهم، وفي الحادية عشر حارب الروم فغلبوه وأسروه وأخذوا منه ابنه أقفاقس رهينة، وفي الثالثة عشر تزوج أنطيوخس كلابطره بنت لوغش زوّجها له أبوها وأخذ سورية بلاد المقدس في مهرها، وفي التاسعة عشر وثب أهل فارس والمشرق على ملكهم فخلعوه وولّوا ابنه ثم هلك لوغش. قال ابن العميد: بعد مائة وإحدى وثلاثين سنة لليونان ملك بطليموس بن الإسكندروس ويلقّب غالب أثور، وملك مصر والإسكندرية والبلاد الغربية إحدى وعشرين سنة وقيل ثمانيا وثلاثين سنة ويسمّى أيضا فيلادلفوس أي محب أخيه، وهو الّذي استدعى أحبار اليهود وعلماءهم الاثنين وسبعين يترجموا [2] له التوراة وكتب   [1] وفي الإنجيل: سمعان بن يونا. [2] الأصح ان يقول ليترجموا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 الأنبياء من العبرانية إلى اليونانية وقابلوها بنسخهم فصحت، وكان من هؤلاء الأحبار سمعان المذكور أوّلا وعاش الى أن حمل على ذراعيه في الهيكل ومات ابن ثلاثمائة وخمسين، وكان منهم ألعازر الّذي قتله أنطيوخس على امتناعه عن السجود لصنمه وقتله ابن سبعين سنة. ويظهر من هذا أنّ بطليموس هو تلماي وإنّه من ملوك مقدونية وملك مصر لأنّ ابن كريّون قال: وفي ذلك الزمان كان تلماي من أهل مقدونية ملك مصر وكان يحبّ العلوم، فاستدعى من اليهود سبعين من أحبارهم وترجموا له التوراة وكتب الأنبياء، وكان في عصره صادوق الكوهن انتهى. وملك خمسا وأربعين سنة. وملك بعده بطليموس الأرنبا وقيل اسمه رغادي وقيل راكب الأنبر ملك أربعا وعشرين، وقيل سبعا وعشرين، وهو الّذي بنى ملعب الخيل بإسكندرية الّذي أحرق في عصر زينون قيصر. وملك بعده بطليموس محب أخيه ويقال: أوغسطس ويقال فيلادلفس ملك ست عشرة، وكان في عصره أخميم الكوهن. وملك بعده بطليموس الصائغ، ويقال: أخيه [1] ملك خمس سنين وقيل خمسا وعشرين، وعلى عهده كان اليهود الكوهن وكان ضالّا غشوما وقتله بعض خدمه خنقا. وملك بعده بطليموس محب أبيه، وقيل اسمه كلا فاطر [2] ملك سبع عشرة سنة وأخذ الجزية من اليهود. وملك بعده بطليموس المظفّر وقيل الغالب وقيل محب أمّه ملك عشرين وقيل أربعا وعشرين، وفي التاسعة عشرة من ملكه خرج متيتيّا بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي من بني يوناداب من نسل هارون، بعث أنطيخوس ملك انطاكية ابنه ألغايش بالعساكر إلى القدس فاعمل الحيلة في ملكها وقتل العازر والكوهن وحمل بني إسرائيل على السجود لآلهته، فهرب متيتيا في جماعة من اليهود الى الجبال، حتى إذا خرجت عساكر يونان رجع إلى القدس ومرّ بالمذبح فوجد يهوديا يذبح خنزيرا عليه، وثار باليونانيين فقتل قائدهم وأخرجهم واستبدّ بملك القدس كما ذكرناه في أخباره. ثم ملك بطليموس كلاباطر أي محب أبيه خمسا وعشرين سنة وقيل عشرين، وكان في أيامه بالقدس يهود ابن متيتيّا وبعده أخوه يوناداب وبعده أخوه شمعون وبعده   [1] الأصح ان يقول اخوه. [2] وفي نسخة اخرى: فيلوباطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 أخوه هرقانوس واسمه يوحنّان وهو أوّل من تسمّى بالملك من بن حشمناي، وبعث ابنه يوحنّا بالعساكر لقتال قيدونوس قائد أنطيخوس فغلبه، وارتفع عن اليهود الخراج الّذي كانوا يعطونه لملوك سورية من أيام فيلفوس [1] ملك المشرق. وملك بعده بطليموس أرغادي أي الفاضل وقيل بطليموس الصايغ وقيل سانيطر ملك عشرين وقيل ثلاثا وعشرين وقيل ثلاثة عشر، ولعهده جدّد أنطيخوس بناء أنطاكية وسمّاها باسمه، ولعهده كان ملك هرقانوس على القدس وبنيه الثلاثة وخرّب مدينة السامرة سبسطية، ولعهده أيضا زحف أنطيخوس [2] إلى القدس وحاصرها، فصانعه هرقانوس بثلاثمائة كرة من الذهب استخرجها من قبر داود عليه السلام. ثم ملك على مصر والاسكندرية بطليموس المخلص وقيل مقروطون وقيل شعري ملك ثماني عشرة وقيل عشرين وقيل سبعا وعشرين، ولعهده كان الإسكندروس تلماي بن هرقانوس سابع بني حشمناي بالقدس، وكانت فرقة اليهود عندهم ثلاثة: الربّانيون ثم القرّاءون وهم في الإنجيل زنادقة [3] وهم في الإنجيل الكتبة. ثم [4] على مصر بطليموس محب أمّه وقيل الإسكندروس وقيل قيقتس وقيل الإسكندر وقيل ابن المخلص ملك عشر سنين لا غير، ولعهده كانت الإسكندرة ملكة على بيت المقدس، ولعهده بطلت مملكة سورية لمائتين وسبع عشرة سنة من ملك يونان، وقتل بطليموس هذا قتله أهل إهراقية وأحرقوه. ثم ملك على مصر بطليموس فيناس وقيل إيزيس وقيل المنفي، لأنّ كلابطرة الملكة نفته عن الملك وملك ثمان سنين وقيل ثلاثا وعشرين يوما وقيل ثمانية عشر يوما، وبعضهم أسقطه من البطالسة ولم يذكره. ثم ملك على مصر بطليموس يوناشيش إحدى وعشرين سنة وقيل إحدى وثلاثين وقيل ثلاثين، ولعهده كان أرستبلوس وأخوه هرقانوس على القدس. ثم ملك على مصر كلابطره بنت ديوناشيش ومعنى هذا الاسم الساكنة على الصخرة ملكت ثلاثين وقيل اثنتين وعشرين وكانت حاذقة، وفي الثالثة من ملكها حفرت خليج الإسكندرية وجرى فيه الماء وبنت باسكندرية هيكل زحل والعاروص وبنت   [1] وفي نسخة اخرى: فيلبوس. [2] وفي نسخة اخرى: انطيوخوس. [3] بياض بالأصل ومكان البياض (ثم الحيسيد) كما في مكان آخر من الكتاب. [4] الواضح انه سقطت كلمة أثناء النسخ فتصبح الجملة. «ثم ملك على مصر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 مقياسا بأخميم وآخر بمدينة أنصنا، وفي الرابعة من ملكها ملك برومة أغانيوس أوّل القياصرة ملك أربعا ثم يوليوس بعده ثلاثا، ثم أغسطس بن مونوجس فاستولى على الممالك والنواحي وبلغ خبره إليها فحصّنت بلادها وبنت حائطا من الفرماء إلى النوبة شرقي النيل وحائطا آخر من إسكندرية إلى النوبة غربيّ النيل وهو حائط العجوز لهذا العهد. وبعض أوغسطس العساكر إلى مصر مع قائده أنطريوس ومعه مترداب [1] ملك الأرمن، فخادعت كلابطره أنطريوس وأوعدته بتزويجها فقتل رفيقه مترداب وتزوّجها وعصى أوغسطس، فسار أوغسطس إليها وملك مصر وقتل كلا بطرة وولديها وقائده بطريوس [2] الّذي تزوجها. يقال: إنّها وضعت له سمّا في مجلسها وأن أوغسطس تناوله ومات، والله أعلم. وانقرضت مملكة يونان من مصر والاسكندرية والمغرب بملكها وصارت هذه الممالك للروم إلى حين الفتح الإسلامي، انتهى كلام ابن العميد. والخلاف الّذي ينقله عن جماعة مؤرخيهم يذكر منهم سعيد بن بطريق ويوحنّا فم الذهب والمنجّبي وابن الراهب وابو فانيوس. والظاهر أنهم من مؤرخي النصارى والبقاء للَّه الواحد القهّار سبحانه لا إله غيره ولا معبود سواه.   [1] وفي نسخة اخرى: متردات [2] هذا الاسم ورد: أنطريوس وبطريوس في الصفحة ذاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الخبر عن اللطينيين وهم الكيتم المعرفون بالروم من أمم يونان وأشياعهم وشعوبهم وما كان لهم من الملك والغلب وذكر الدولة التي فيهم للقياصرة وأولية ذلك ومصايره هذه الأمّة من أشهر أمم العالم وهي ثانية الغريقيين عند هروشيوش ويجتمعان في نسب يونان، وثالثتهم عند البيهقي ويجتمعون في نسب يونان بن علجان بن يافث، واسم الروم يشملهم ثلاثتهم لما كان الروم أهل المملكة العظمى منهم، ومواطن هؤلاء اللطينيين بالناحية الغربية من خليج القسطنطينية إلى بلاد الافرنجة فيما بين البحر المحيط والبحر الرومي من شماليه. وملك هذه الأمّة قديما [1] كانت لهم مدينة اسمها طروبة، وذكر هروشيوش أنّ أوّل من ملك من اللطينيين ألفنس بن شطرنش بن أيّوب وذلك لعهد دائرة بني إسرائيل وقد مرّ ذكرها في آخر الألف الرابع من مبدإ الخليقة. وملك من بعده ابنه بريامش واتصل الملك في عقب الفنس هذا وإخوته وكان منهم كرمنس بن مرسية بن شيبن بن مزكة الّذي ألف حروف اللسان اللطيني وأثبتها ولم تكن قبله، وذلك على عهد يؤاثير بن كلعاد من حكّام بني إسرائيل بعد أربعة آلاف وخمسين من مبدإ الخليقة. وكان بين هؤلاء اللطينيين وبين الغريقيين إخوانهم فتن طويلة، وعلى يدهم خربت طروبة مدينة اللطينيين لعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين من مبدإ الخليقة أيام عبدون ملك بني إسرائيل وقد مرّ ذكره، وكان ملكهم يومئذ أناش من عقب بريامش بن ألفنس بن شطرنش، وولي بعده ابنه أشكانيش بن أناش وهو الّذي بنى مدينة ألبا. ثم اتصل الملك فيهم إلى أن افترق أمرهم، ثم كان من أعقابهم برقاش أيام انقراض ملك الكلدانيّين، وصار للمازنيّين والقضاعيّين على عهد عزيّاه بن أمصيا من ملوك بني إسرائيل ولعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين سنة من مبدإ الخليقة، فصار الأمر في اللطينيين لبرقاش هذا بتولية ملك المازنيّين ما كان لهم وللسريانيّين قبلهم من الصيت في العالم والتفوّق على الملوك بنسبهم وعصبيتهم. ثم اتصل الملك لابنه ولحافديه روملّوس وأماش [2] وهما اللذان اختطا مدينة رومة وذلك لعهد أربعة آلاف وخمسمائة   [1] الأصح ان يقول قديم. [2] وفي نسخة اخرى: داموس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 سنة من مبدإ الخليقة وعلى عهد حزقيّا بن آحاز ملك بني إسرائيل، ولأربعمائة ونيف من خراب مدينة طروبة. وكان طول مدينة رومة من الشمال إلى الجنوب عشرين ميلا في عرض اثني عشر ميلا، وارتفاع سورها ثمانية وأربعون ذراعا في عرض عشرة أذرع، وكانت من أحفل مدن العالم، ولم تزل دار مملكة اللطينيين والقياصرة منهم حتى صبحهم الإسلام وهي في ملكهم. وكان اللطينيون بعد روملّس وأماش وانقراض عقبهم قد سئموا ولاية الملوك عليهم فعزلوهم وصار أمرهم شورى بين الوزراء وكانوا يسمونهم القنشلش ومعناه الوزراء بلغتهم، وكان عددهم سبعين على ما ذكر هروشيوش. ولم يزل أمرهم على ذلك مدّة سبعمائة سنة إلى أن استبدّ عليهم قيصر بولش [1] بن غايش أوّل ملوك القياصرة كما نذكر بعد. وكانت لهم حروب مع الأمم المجاورة لهم من كل جهة فحاربوا اليونانيّين ثم حاربوا الفرس من بعدهم، واستولوا على الشام ومصر ثم ملكوا جزيرة الأندلس ثم جزيرة صقلّيّة ثم أجازوا إلى إفريقية فملكوها وخرّبوا قرطاجنّة، وأجاز أهل إفريقية إليهم وحاصروا رومة واتصلت الفتن بينهم عشرين سنة أو نحوها على ما نذكر. وذهب جماعة من الأخباريّين إلى أن الروم من ولد عيصو بن إسحاق عليه السلام، قال ابن كريّون: كان لليفاز بن عيصو ولد اسمه صفوا ولما خرج يوسف من مصر ليدفن أباه يعقوب في مدينة الخليل عليه السلام اعترضه بنو عيصو وقاتلوه، فهزمهم وأسر منهم صفوا بن أليفاز وبعثه إلى إفريقية، فصار عند ملكها، واشتهر بالشجاعة. وحدثت الفتنة بين أغنياس وبين الكيتم وراء البحر فأجاز إليهم أغنياس في أهل إفريقية وأثخن فيهم، وظهرت شجاعة صفوا بن أليفاز، ثم هرب صفوا إلى الكيتم وعظم بينهم وحسن أثره في أهل إفريقية وفي الأمم المجاورة لكيتم من أموال وغيرها فزوّجوه وملّكوه عليهم، قال: وهو أوّل من ملك في بلاد أسبانيا، وأقام ملكا خمسا وخمسين سنة. ثم عدّ ابن كريّون بعد ستة عشر ملكا من أعقابه آخرهم روملّس باني رومة، وكان لعهد داود عليه السلام، وخاف منه فوضع مدينة رومة وبنى على جميعها هياكله ونسبت المدينة إليه وسمّيت باسمه وسمّى أهلها الروم نسبة إليها.   [1] وفي نسخة ثانية: قيصر يوليوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 ثم عدّ بعد روملّس خمسة من الملوك اغتصب خامسهم رجلا في زوجه فقتلت نفسها، وقتله زوجها في الهيكل. وأجمع أهل رومة أن لا يولّوا عليهم ملكا وقدّموا شيوخا ثلاثمائة وعشرين يدبّرون ملكهم، فاستقام أمرهم كما يجب، إلى أن تغلّب قيصر وسمّى نفسه ملكا، فصاروا من بعده يسمّون ملوكا انتهى كلام ابن كريون. وهو مناقض لما قاله هروشيوش، فإنه زعم أنّ بناء رومة كان لعهد داود عليه السلام، وهروشيوش قال: إنه كان لعهد حزقيّا رابع عشر ملوك بني يهوذا من لدن داود عليه السلم، وبين المدّتين تفاوت، وخبر هروشيوش مقدّم لأن واضعيه مسلمان كانا يترجمان لخلفاء الإسلام بقرطبة وهما معروفان ووضعا الكتاب. فاللَّه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك. الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل إفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون كان بناء قرطاجنة هذه قبل بناء رومة باثنتين وسبعين سنة، قال هرشيوش: على يدي ديدن بن أليثا من نسل عيصو بن إسحاق. وكان بها أمير يسمّى ملكون وهو الّذي بعث إلى الإسكندر بطاعته عند استيلائه على طرسوس، ثم صار ملك إفريقية إلى أملقا من ملوكهم فافتتح صقلّيّة وهاجت الحرب بينه وبين الرومانيين وأهل الاسكندرية بسبب أهل سردانيّة [1] وذلك لخمسين سنة من بناء رومة، ثم وقعت السلم بينهم وهي السلم التي وفد فيها عتّون من ملوك إفريقية على أنطريطش ملك مقدونية وإسكندرية وهو ملك الروم الأعظم. ثم ولى بقرطاجنّة أملقا ابنه أنبيل فأجاز إلى بلاد الإفرنج وغلبهم على بلادهم، وزحف إليه قواد رومة فوالى عليهم الهزائم وبعث أخاه أشدربال [2] إلى الأندلس فملكها، وخالفه قوّاد الرومانيين إلى إفريقية بعد أن ملكوا من حصون صقلّيّة أربعين أو نحوها، ثم أجازوا إلى إفريقية فملكوها وقتلوا غشّول خليفة أنبيل فيها وافتتحوا مدينة جردا. وخرج آخرون من قوّاد رومة إلى الأندلس فهزموا أشدربال واتّبعوه إلى أن قتلوه. وفّر أخوه أنبيل عن بلادهم بعد ثلاث عشرة   [1] وهي جزيرة سردينية. [2] وفي نسخة اخرى: اشدريال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 سنة من إجازته إليهم، وبعد أن حاصر رومة وأثخن في نواحيها فلحق بإفريقية ولقيه قوّاد أهل رومة الذين أجازوا إلى إفريقية فهزموه وحاصروه بقرطاجنّة، حتى سأل الصلح على أن يغرم لهم ثلاثة آلاف قنطار من الفضّة فأجابوه إليه. وسكنت الحرب بينهم ثم ظاهر بعد ذلك أنبيل صاحب إفريقية ملوك السريانيّين على حرب أهل رومة فهلك في حربهم مسموما. وبعد أن تخلص أهل رومة من تلك الحروب رجعوا إلى الأندلس فملكوها، ثم أجازوا البحر إلى قرطاجنّة ففتحوها وقتلوا ملكها يومئذ أنبيل وخرّبوها لتسعمائة سنة من بنائها وسبعمائة لبناء رومة. ثم دارت الحرب بين أهل رومة وملك النوبة، واستظهر ملك النوبة بالبربر بعد أن هزمه أهل رومة واتبعوه الى قفصة فملكوها واستولوا على ذخيرتها، وهي من بناء أركلش الجبّار ملك الروم، وهزمهم أهل رومة فخافهم ملك البربر من ملوك النوبة إلى أن هلك في أسرهم. وكانت هذه الحروب لعهد بطليموس الإسكندر، بعد أن كان قوّاد رومة اجتمعوا على بناء قرطاجنّة وتجديدها لاثنتين وعشرين سنة من خرابها فعمرت واتصل بها لأهل رومة ملك على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبدإ أمورهم ومصاير أحوالهم لم يزل أمر هؤلاء الكيتم وهم اللطينيون راجعا إلى الوزراء منذ سبعمائة سنة، كما قلناه من عهد بناء رومة أو قبلها بقليل كما قال هروشيوش، تقترع الوزراء في كل سنة فيخرج قائد منهم إلى كل ناحية كما توجبه القرعة فيحاربون أمم الطوائف ويفتحون الممالك. وكانوا أوّلا يعطون إخوانهم من الروم اليونانيين طاعة معروفة بعد الفتن والمحاربة، حتى إذا هلك الإسكندر وافترق أمر اليونانيين والروم وفشلت ريحهم وقعت فتنة هؤلاء اللطينيين وهم الكيتم مع أهل افريقية، واستولوا عليها مرارا وخرّبوا قرطاجنّة ثم بنوها كما ذكرناه. وملكوا الأندلس وملكوا الشام وأرض الحجاز وقهروا العرب بالحجاز وافتتحوا بيت المقدس وأسروا ملكها يومئذ من اليهود وهو أرستبلوس ابن الإسكندر ثامن ملوك بني حشمناي وغرّبوه الى رومة وولّوا قائدهم على الشام، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 حاربوا ألغماس فكانت حربهم سجالا، إلى أن خرج بولس [1] بن غايش ومعه ابن عمه لو جيار بن مدكة إلى جهة الأندلس، وحارب من كان بها من الإفرنج والجلالقة إلى أن ملك برطانية [2] واشبونة [3] ورجع إلى رومة، واستخلف على الأندلس أكتبيان ابن أخيه يونان. فلما وصل إلى رومة وشعر الوزراء أنه يروم الاستبداد عليهم فقتلوه. فزحف اكتبيان ابن أخيه من الأندلس فأخذ بثأره وملك رومة واستولى على أرض قسطنطينية وفارس وإفريقية والأندلس، وعمه يولش [4] هو الّذي تسمّى قيصر فصار سمة لملوكهم من بعده. وأصل هذا الاسم جاشر فعرّبته العرب إلى قيصر، ولفظ جاشر مشترك عندهم فيقال جاشر للشعر وزعموا أنّ يولش ولد شعره نام يبلغ عينيه، ويقال أيضا للمشقوق جاشر، وزعموا أنّ قيصر ماتت أمّه وهي مقرب [5] فبقر بطنها واستخرج يولس، والأوّل أصحّ وأقرب إلى الصواب. وكانت مدّة يولس قيصر خمس سنين، ولما ولّى قيصر أكتبيان [6] ابن أخته انفرد بملك الناحية الشمالية من الأرض، ووفد عليه رسل الملوك بالمشرق يرغبون في ولايته ويضرعون إليه في السلم فاسعفهم، ودانت له أقطار الأرض، وضرب الإتاوة على أهل الآفاق من الصغر. وكان العامل على اليهود بالشام من قبله هيردوس بن أنظفتر، وعلى مصر ابنه غايش. وولد المسيح لاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه. وهلك قيصر أكتبيان لست وخمسين من ملكه بعد سبعمائة وخمسين سنة لبناء رومة وخمسة آلاف ومائتين لمبدإ الخليقة انتهى كلام هروشيوش. وأما ابن العميد مؤرخ النصارى فذكر عن مبدإ هؤلاء القياصرة أنّ أمر رومة كان راجعا إلى الشيوخ الذين يدبّرون أمرهم، وكانوا ثلاثمائة وعشرين رجلا لأنهم كانوا حلفوا أن لا يولّوا عليهم ملكا، فكان تدبيرهم يرجع إلى هؤلاء وكانوا يقدّمون واحدا منهم ويسمّونه الشيخ، وانتهى تدبيرهم في ذلك الزمان إلى أغانيوس فدبّرهم أربع   [1] وفي نسخة اخرى: يوليوس بن غايش. [2] هي بريتانيا مقاطعة فرنسية تقع في الشمال الغربي. [3] وهي لشبونة في الأندلس. [4] وهو يوليوس قيصر. [5] الحامل التي قرب ولادها (قاموس) . [6] هو أوكتاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 سنين، وهو الّذي سمّي قيصر لأن أمّه ماتت وهو جنين في بطنها فبقروا بطنها وأخرجوه، ولما كبر انتهت إليه رياسة هؤلاء الشيوخ برومة أربع سنين، ثم وليّ من بعده يوليوس قيصر ثلاث سنين، ثم وليّ من بعده أوغسطس قيصر بن مرنوخس، قال: ويقال إن أوغسطس قيصر كان أحد قواد الشيخ مدبر رومة، وتوجه بالعساكر لفتح المغرب والأندلس ففتحهما وعاد إلى رومة فملك عليهم، وطرد الشيخ من رياسته بها وتدبيره ووافقته الناس على ذلك. وكان للشيخ نائب بناحية المشرق يقال له فمقيوس، فلما بلغه ذلك زحف بعساكره إلى رومة فخرج إليه أوغسطس فهزمه وقتله واستولى على ناحية المشرق. وسير عساكره إلى فتح مصر مع قائدين من قوّاده هما أنطونيوس ومترداب ملك الأرمن بدمشق، فتوجها إلى مصر وبها يومئذ كلابطره الملكة من بقية البطالسة ملوك يونان بالإسكندرية ومصر، فحصّنت بلادها وبنت بدعوتي النيل حائطين مبدؤهما من النوبة إلى الإسكندرية غربا وإلى الفرما شرقا وهو حائط العجوز لهذا العهد. ثم داخلت القائد أنطونيوس وخادعته بالتزويج فتزوّجها وقتل رفيقه مترداب وعصي على أوغسطس، فزحف إليه وقتله وملك مصر وقتل كلابطره وولديها وكان يسميان الشمس والقمر، وملك مصر والإسكندرية وذلك لاثنتي عشرة سنة من ملكه. قال ولاثنتين وأربعين سنة من ملك أوغسطس ولد المسيح بعد مولد يحيى بثلاثة أشهر. وذلك لتمام خمسة آلاف وخمسمائة سنة من سنيّ العالم ولاثنتين وثلاثين من ملك هيردوس بالقدس، وقيل لخمس وثلاثين من مملكته، والكلّ متفقون على أنها لاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس. قال: وسياقة التاريخ تقتضي أنها خمسة آلاف وخمسمائة شمسية من مبدإ العالم لأن من آدم إلى نوح ألفا وستمائة، ومن نوح إلى الطوفان ستمائة، ومن الطوفان إلى إبراهيم ألفا واثنتين وسبعين سنة، ومن إبراهيم إلى موسى أربعمائة وخمسا وعشرين، ومن موسى إلى داود عليهما السلام سبعمائة وستين، ومن داود إلى الإسكندر سبعمائة وستين سنة، ومن الإسكندر إلى مولد المسيح ثلاثمائة وتسع عشرة سنة. هكذا ذكر ابن العميد وأنها تواريخ النصارى وفيها نظر، ويظهر من كلامه أن قيصر الّذي سمّاه أوغسطس، وذكر أنّ المسيح ولد لاثنتين وأربعين من ملكه هو الّذي سمّاه هيردوس قيصر أكتبيان وجعل مهلكه لخمسة آلاف ومائتين من مبدإ الخليقة. وعند ابن العميد أن ملكه لخمسة آلاف وخمسمائة وخمس عشرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 والله أعلم بالحق من ذلك. ثم ولي من بعد طباريش [1] قيصر وكان وادعا واستولى على النواحي، وعلى عهده كان شأن المسيح وبغى اليهود عليه ورفعه الله من الأرض، وأقام الحواريّون من بعده واليهود يضطهدونهم ويحبسونهم على إظهار أمرهم، وكان بلاطس النبطي الّذي كان قائدا على اليهود يسعى إلى طباريش بأخبار المسيح وبغى اليهود عليه وعلى يوحنا المعمدان، وتبعتهم الحواريّون من بعده بالأذيّة، وأراه [2] انهم على حق فأمر بتخلية سبيلهم، وهمّ بالأخذ بدينهم فمنعه من ذلك قومه. ثم قبض على هيردوس وأحضره إلى رومة ثم نفاه الى الأندلس فمات بها، ثم ولي مكانته أغرباس ابن أخيه، وافترق الحواريون في الآفاق لإقامة الدين وحمل الأمم على عبادة الله. ثم قتل طباريش قيصر أغرباس ملك اليهود الى أشرّ من حالهم وقتلوا أتباع الحواريين من الروم. ومات طباريش لثلاث وعشرين من ملكه بعد أن جدّد مدينة طبرية، فيما قال ابن العميد، واشتقّ اسمها من اسمه وملك من بعده غاينس قيصر. وقال هيروشيوش: هو أخو طباريش وسمّاه غاينس فليفة من أكتبيان، وقال: هو رابع القياصرة وأشدّهم وأراد اليهود على نصب وثنه ببيت المقدس فمنعوه. وقال ابن العميد: ووقعت في أيامه شدّة على النصارى وقتل يعقوب أخاه يوحنّا من الحواريين وحبس بطرس رئيسهم ثم هرب إلى انطاكية فأقام بها، وقدم هراديوس بطركا عليها وهو أوّل البطاركة فيها. ثم توجه إلى رومة لسنتين من ملك غانيس فدبّرها خمسا وعشرين سنة ونصب فيها الأساقفة، وتنصّرت امرأة من بيت الملك فعضدت النصارى، ولقي النصارى الذين بالقدس شدائد من اليهود وكان الأسقف عليهم يومئذ يعقوب بن يوسف الخطيب. وقال ابن العميد عن المسبحي: إن فيلقس [3] ملك مصر غزا اليهود لأوّل سنة من ملك غانيس واستعبدهم سبع سنين، قال وفي الرابعة من ملكه أمر عامله على اليهود بسورية وهي أورشاليم. وهي بيت المقدس- أن ينصب الأصنام في محاريب اليهود، ووثب عليه بعض قوّاده فقتله. وملك من بعده قلوديش قيصر، قال هروشيوش: هو ابن طباريش وعلى عهده   [1] هو طيباريوس. [2] الضمير يعود إلى الله. [3] وفي نسخة ثانية: فيليبس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 كتب متّى الحواريّ إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية، قال ابن العميد، ونقله يوحنّا ابن زبدي إلى الروميّة، قال: وفي أيامه كتب بطرس رأس الحواريّين إنجيله بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه، وكتب لوقا من الحواريين إنجيله بالرومية وبعث به إلى بعض الأكابر من الروم وكان لوقا طبيبا. ثم عظم الفساد بين اليهود ولحق ملكهم أغرباس برومة فبعث معه أقلوديش عساكر الروم فقتلوا من اليهود خلقا، وحملوا إلى أنطاكية ورومة منهم سبيا عظيما وخربت القدس وانجلى أهلها فلم يولّ عليهم القياصرة أحدا لخرابها، وافترقت اليهود على فرق كثيرة أعظمها سبعة. قال ولسبع من ملك أقلوديش دخلت بطريقة من الروم في دين النصارى على يد شمعون الصفا، وسمعت منه بالصليب، فجاءت إلى القدس لإظهاره، ورجعت إلى رومة. وهلك أقلوديش قيصر لأربع عشرة سنة من ملكه وملك من بعده ابنه نيرون. قال هروشيوش: هو سادس القياصرة، وكان غشوما فاسقا، وبلغه أن كثيرا من أهل رومة أخذوا بدين المسيح فنكر ذلك وقتلهم حيث وجدوا، وقتل بطرس رأس الحواريين، وأقام أريوس بطركا برومة مكان بطرس من بعد خمس وعشرين سنة مضت لبطرس في كرسيها وهو رأس الحواريين ورسول المسيح إلى رومة، وقتل مرقص الإنجيليّ بالإسكندرية لاثنتي عشرة من ملكه وكان هنالك منذ سبع سنين بها مساعدا إلى النصرانية بالإسكندرية ومصر وبرقة والمغرب، وولي مكانه حنانيّا [1] ويسمى بالقبطيّة جنبار وهو أول البطارقة بها واتخذ معه الأقسّة الاثني عشر. قال ابن العميد عن المسبحي: وفي الثانية من ملك نيرون عزل بلخس القاضي، كان على اليهود من جهة الروم، وولّى مكانه قسطس القاضي، وقتل بوثار رئيس الكهنونيّة بالمقدس، ومات القاضي قسطس فثار اليهود على من كان بالمقدس من النصارى وقتلوا أسقفهم هنالك وهو يعقوب بن يوسف النجّار، وهدموا البيعة وأخذوا الصليب والخشبتين ودفنوها إلى أن استخرجتها هلانة أم قسطنطين كما نذكر بعد. وولي مكان يعقوب النجّار ابن عمه شمعون بن كنابا، ثم ثار بهم اليهود وأخرجوهم من المقدس لعشر من ملك نيرون فأجازوا الأردن وأقاموا هنالك. وبعث نيرون قائده أسباشيانس، وأمر بقتل اليهود وخراب القدس وتحصّن اليهود منه وبنوا عليهم ثلاثة حصون، وحاصرهم أسباشيانس وخرّب جميع حصونهم وأحرقها وأقام عليهم سنة   [1] وفي الإنجيل: حننيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 كاملة. وقال هروشيوش: إنّ نيرون قيصر انتقض عليه أهل مملكته فخرج عن طاعته أهل برطانية من أرض الجوف، ورجع أهل أرمينية والشام الى طاعة الفرس. فبعث صهره على أخته وهو يشبشيان بن لوجيه فسار إليهم في العساكر وغلبهم على أمرهم. ثم زحف الى اليهود بالشام وكانوا قد انتقضوا فحاصرهم بالقدس، وبينما هو في حصاره إذ بلغه موت نيرون لأربع عشرة سنة من ملكه، ثار به جماعة من قوّاده فقتلوه، وكان قد بعث قائدا الى جهة الجوف والأندلس، فافتتح برطانية ورجع إلى رومة بعد مهلك نيرون قيصر فملكه الروم عليهم، وأنه قتل أخاه يشبشيان فأشار عليه أصحابه بالانصراف إلى رومة. وبشّره رئيس اليهود وكان أسيرا عنده بالملك، ويظهر أنه يوسف بن كريّون الّذي مرّ ذكره، فانطلق إلى رومة وخلّف ابنه طيطش على حصار القدس فافتتحها وخرّب مسجدها وعمرانها كما مرّ ذكره. قال: وقتل منهم نحوا من ستمائة ألف ألف [1] مرتين وهلك في حصارها جوعا نحو هذا العدد، وبيع من سراريهم في الآفاق نحو من تسعين ألفا، وحمل منهم إلى رومة نحوا من مائة ألف استبقاهم لفتيان الروم يتعلمون المقاتلة فيهم ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح. وهي الجلوة الكبرى كانت لليهود بعد ألف ومائة وستين سنة من بناء بيت المقدس ولخمسة آلاف ومائتين وثلاثين من مبدإ الخليقة ولثمانمائة وعشرين من بناء رومة. فكان معه إلى أن افتتحها وكان المستبد بها بعد مهلك نيرون قيصر، وانقطع ملك آل يولس قيصر لمائة وست عشرة سنة من مبدإ دولتهم، واستقام ملك يشبشيان في جميع ممالك الروم وتسمّى قيصر كما كان من قبل أهـ. كلام هروشيوش. وقال ابن العميد: إن أسباشيانس لما بلغه وهو محاصر للقدس أنّ نيرون هلك، ذهب بالعساكر الذين معه، وبشّره يوسف بن كريّون كهنون طبرية من اليهود بأنّ مصير ملك القياصرة إليه، ثم بلغه أنّ الروم بعد مهلك نيرون ملّكوا غليان بن قيصر فأقام عليهم تسعة أشهر، وكان رديء السيرة، وقتله بعض خدمه غيلة، وقدّموا عوضه أنّون ثلاثة أشهر ثم خلعوه، وملّكوا أبطالس ثمانية أشهر، فبعث أسباشيانس وهو   [1] انتقد ابن خلدون في مقدمته لهذا التاريخ اخبار المؤرخين الهواهية البعيدة عن المعقول، وهذا العدد الّذي ذكره ابن خلدون بعيد جدا عن المعقول، لأن الستمائة ألف ألف مكررة يعني انها تساوي 1200 مليون وهذا رقم خيالي وربما تكون كلمة الألف الثانية مكررة من الناسخ فيكون العدد ستمائة ألف مكررة اي حوالي مليون ومائتي ألف. وهو رقم معقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 الّذي سمّاه هروشيوش يشبشيان قائدين إلى رومة فحاربوا أبطانش وقتلوه. وسار أسباشيانس إلى رومة وبعت إليه طيطش المحاصر للقدس بالأموال والغنائم والسبي، قال وكانت عدّة القتلى ألف ألف والسبي تسعمائة ألف، واحتمل الخوارج الذين كانوا في نواحي القدس مع الأسرى، وكان يلقي منهم كل يوم للسباع فرائس إلى أن فنوا. قال: ولما ملك طيطش بيت المقدس رجع النصارى الذين كانوا عبروا إلى الأردن فبنوا كنيسة بالمقدس وسكنوا، وكان الأسقف فيهم سمعان بن كلوبا ابن عمّ يوسف النجّار وهو الثاني من أساقفة المقدس. ثم هلك أسباشيانس وهو يشبشيان لتسع سنين من ملكه وملك بعده ابنه طيطش قيصر سنتين وقيل ثلاثا. قال ابن العميد: لأربعمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش: كان متفنّنا في العلوم ملتزما للخير عارفا باللسان الغريقيّ واللطيني، وولي بعده أخوه دومريان خمس عشرة سنة، قال هروشيوش: وهو ابن أخت نيرون قيصر، قال: وكان غشوما كافرا وأمر بقتل النصارى فعل خاله نيرون، وحبس يوحنا الحواري، وأمر بقتل اليهود من نسل داود حذرا أن يملكوا، وهلك في حروب الإفرنج وسمّاه ابن العميد دانسطيانوس، وقال: ملك ست عشرة سنة وقيل تسعا، وكان شديدا على اليهود وقتل أبناء ملوكهم، وقيل له إنّ النصارى يزعمون أنّ المسيح يأتي ويملك فأمر بقتلهم، وبعث [1] عن أولاد يهوذا بن يوسف من الحواريّين وحملهم إلى رومة مقيّدين، وسألهم عن شأن المسيح، فقالوا إنّما يأتي عند انقضاء العالم فخلّى سبيلهم. وفي الثالثة من دولته طرد بطرك إسكندرية لسبع وثمانين سنة للمسيح، وقدم مكانه ملموا فأقام ثلاث عشرة سنة ومات فولى مكانه كرماهو. قال ابن العميد عن المسبحي: ولعهده كان أمر ليونيوس صاحب الطّلسمات برومة، فنفى ذوسطيالوس جميع الفلاسفة والمنجّمين من رومة وأمر أن لا يغرس بها كرم، ثم هلك ذو سطيالوس، وهو الّذي سمّاه هروشيوش دومريان، وقال: هلك في حروب الإفرنج، وملك بعده برما ابن أخيه طيطش نحوا من سنتين وسمّاه ابن العميد تاوداس، وقال: إنّ المسبحيّ سمّاه قارون، قال: ويسمّى أيضا برسطوس، وقال ملك على الروم سنة أو سنة ونصفا وأحسن السيرة وأمر بردّ من كان منفيّا من النصارى وخلاهم ودينهم ورجع يوحنّا الإنجيلي إلى أفسس بعد ست سنين. وقال هروشيوش:   [1] مقتضى السياق: وبحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 أطلقه من السجن. قال: ولم يكن له ولد فعهد بالملك إلى طريانس من عظماء قوّاده وكان من أهل مالقة فولي بعده وتسمّى قيصر. قال ابن العميد: واسمه أنديانوس، وسمّاه المسبحي طرينوس وملك على الروم باتفاق المؤرخين سبع عشرة سنة، وقتل سمعان بن كلاويّا أسقف بيت المقدس وأغناطيوس بطرك أنطاكية. ولقي النصارى في أيامه شدّة وتتبع أئمتهم بالقتل واستعبد عامّتهم، وهو ثالث القياصرة بعد نيرون في هذه الدولة. ولعهده كتب يوحنّا إنجيله برومة في بعض الجزائر السادسة من ملكه وكان قد رجع اليهود الى بيت المقدس فكثروا بها وعزموا على الانتقاض، فبعث عساكره وقتل منهم خلقا كثيرا. وقال هروشيوش: إنّ الحرب طالت بينه وبين اليهود، فخرّبوا كثيرا من المدن إلى عسقلان ثم إلى مصر والإسكندرية فانهزموا هنالك وقتلوا وزحفوا بعدها إلى الكوفة، فأثخن فيهم بالقتل وخضد من شوكتهم. قال ابن العميد: وفي تاسعة من ملكه مات كوثبانو بطرك الإسكندرية لإحدى عشرة سنة من ولايته، وولي مكانه أمرغو اثنتي عشرة سنة أخرى [1] . وقال بطليموس صاحب كتاب المجسطي: إنّ شيلوش الحكيم رصد برومة في السنة الأولى من ملك طرنيوس وهو أندريانوس [2] لأربعمائة وإحدى وعشرين للإسكندر ولثمانمائة وخمس وأربعين لبخت نصّر. وقال ابن العميد: خرج عليه خارجيّ ببابل فهلك في حروبه لتسع عشرة سنة من ولايته كما قلناه، فولي من بعد أندريانوس إحدى وعشرين سنة، وقال ابن العميد عن ابن بطريق عشرين سنة. وقال هروشيوش: إنّه أثخن في اليهود، ثم بنى مدينة المقدس وسمّاها إيلياء. وقال ابن العميد: كان شديدا على النصارى وقتل منهم خلقا، وأخذ الناس بعبادة الأوثان، وفي ثامنة ملكه خرّب بيت المقدس وقتل عامّة أهلها وبنى على باب المدينة عمودا وعليه لوح نقش فيه مدينة إيلياء. ثم زحف إلى الخارجيّ الّذي خرج على طرنيوس قبله فهزمه إلى مصر وألزم أهل مصر حفر خليج من مجرى النيل إلى مجرى القلزم وأجرى فيه الحلو [3] ، ثم ارتد بعد ذلك، وجاء الفتح والدولة الإسلامية فألزمهم عمرو بن العاص حفره حتى جرى فيه الماء ثم انسد لهذا العهد.   [1] وفي نسخة اخرى: عشر سنوات اخرى. [2] هو أدريانوس. [3] ربما يكون قد سقط من الناسخ كلمة الماء فتصبح الجملة: «واجرى فيه الماء الحلو» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وكان أندريانوس هذا قد بنى مدينة القدس ورجع إليها اليهود وبلغه أنهم يرومون الانتقاض، وأنهم ملكوا عليهم زكريّا من أبناء الملوك، فبعث إليهم العساكر وتتبعهم بالقتل وخرّب المدينة حتى عادت صحراء، وأمر أن لا يسكنها يهودي، وأسكن اليونان بيت المقدس، وكان هذا الخراب لثلاث وخمسين سنة من خراب طيطش الّذي هو الجلوة الكبرى. وامتلأ القدس من اليونان وكانت النصارى يتردّدون إلى موضع القبر والصليب يصلّون فيه، وكانت اليهود يرمون عليه الزبل والكناسات، فمنعهم اليونان من الصلاة فيه وبنوا هنالك هيكلا على اسم الزهرة. وقال ابن العميد عن المسبحي: وفي الرابعة من ملك أندريانوس بطل الملك من الرّها وتداولتها القضاة من قبل الروم، وبنى أندريانوس بمدينة أثينوس [1] بيتا ورتب فيه جماعة من الحكماء لمدارسة العلوم، قال: وفي خامسة ملكه قدم نسطس بطركا على إسكندرية وكان حكيما فاضلا فلبث إحدى عشرة سنة ثم مات، وقدم مكانه أمانيق في سادسة عشر من ملك أندريانوس فلبث إحدى عشرة سنة وهو سابع البطارقة. ثم مات أندريانوس لإحدى وعشرين من ملكه كما مرّ، وولي ابنه أنطونيش. قال هروشيوش: ويسمّى قيصر الرحيم. وقال ابن العميد: ملك اثنتين وعشرين. وقال الصعيديّون إحدى وعشرين. قال: وفي خامسة ملكه قدم مرتيانو بطركا بإسكندرية وهو الثامن منهم، فلبث تسع سنين ومات، وكان فاضل السيرة. وقدم بعده كلوتيانو فلبث أربع عشرة سنة، ومات في سابعة ملكه أوراليانوس بعده وكان محبوبا. وقال بطليموس صاحب المجسطي: إنه رصد الاعتدال الخريفيّ في ثالثة ملك أنطونيوس، فكان لأربعمائة وثلاث وستين بعد الإسكندر. ثم هلك أنطونيوس لاثنتين وعشرين كما مرّ، فملك من بعده أوراليانس. قال هروشيوش: وهو أخو أنطونيوس وسمّاه أورالش وأنطونيوس الأصغر، وقال: كانت له حروب مع أهل فارس وبعد أن غلبوا على أرمينية وسورية من ممالكه فدفعهم عنهما وغلبهم في حروب طويلة، وأصاب الأرض على عهده وباء عظيم، وقحط الناس سنتين، واستسقى لهم النصارى فأمطروا وارتفع الوباء والقحط بعد أن كان اشتدّ على النصارى وقتل منهم خلقا، وهي الشدّة الرابعة من بعدت نيرون. قال ابن العميد: وفي السابعة من ملكه قدم على الإسكندرية البطرك أغريبوس،   [1] هي مدينة أثنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 فلبث اثني عشر سنة ومات في تاسعة عشر من ملك أنطونيوس الأصغر، قال وفي أيامه ظهرت مبتدعة من النصارى واختلفت أقوالهم وكان منهم ابن ديصان وغيره، فجاهدهم أهل الحق من الأساقفة وأبطلوا بدعتهم. وهلك أنطونيوس هذا لتسع عشرة من ملكه. وفي عاشرة ملكه ظهر أردشير بن بابك أوّل ملوك الساسانيّة واستولى على ملك الفرس، وكان صاحب الحضر متملّكا على السواد فغلبه وملك السواد وقتله وقصّته معروفة. وكان لعهده جالينوس المشهور بالطبّ وكان ربي معه، فلما بلغه أنه ملك على الروم قدم عليه من بلاد اليونان وأقام عنده، وكان لعهده أيضا ديمقراطس الحكيم، ولأوّل سنة من ملكه قدم بليانس بطركا على إسكندرية وهو الحادي عشر من بطاركتها فلبث فيهم عشر سنين ومات. وولي مكانه ديمتريوس فلبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة ومات كمودة قيصر لثلاثة عشر كما قلناه. فولي من بعده ورمتيلوس ثلاثة أشهر. قال ابن العميد: وسمّاه ابن بطريق فرطنوش. وقال: وملك ثلاثة أشهر وسمّاه غيره فرطيخوس. وسمّاه الصعيديّون برطانوس ومدّة ملكه باتفاقهم شهران. وقال هروشيوش: اسمه اللبيس بن طيجليس وهو عمّ كمودة قيصر، قال وولي سنة واحدة وقتله بعض قوّاده وأقام في الملك ستة أشهر وقتل. قال ابن العميد: وملك بعده يوليانس قيصر شهرين ومات، ثم ولي سوريانوس قيصر وسمّاه بعضهم سورس [1] وسمّاه هروشيوش طباريش بن أرنت بن أنطونيش، واختلفوا في مدّته، فقال ابن العميد عن ابن بطريق: سبع عشرة سنة، وقال المسبحي: ثمان عشرة، وعن أبي فانيوس ستة عشرة، وعن ابن الراهب ثلاث عشرة، وعن الصعيديين سنتين. قال وملك في رابعة من ملك أردشير واشتدّ على النصارى وفتك فيهم وسار إلى مصر والإسكندرية فقتلهم وهدم كنائسهم وشرّدهم كل مشرّد، وبنى بالإسكندرية هيكلا سمّاه هيكل الآله. قال هروشيوش: وهي الشدّة الخامسة من بعد شدّة نيرون. قال: ثم انتقض عليه اللطينيون ولم يزل محصورا إلى أن هلك. وملك من بعده أقطونيش. قال ابن العميد عن ابن بطريق: ست سنين، وعن المسبحيّ: سبع سنين. وسماه أنطونيش قسطس. قال: وكان ابتداء ملكه عندهم لخمس وعشرين وخمسمائة من ملك   [1] وفي نسخة اخرى: سويرس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 الإسكندر، ولعهده سار أردشير ملك الفرس إلى نصّيبين فحاصرها وبنى عليها حصنا، ثم بلغه أنّ خارجا خرج عليه بخراسان، فاجفل عنهم بعد المصالحة على أن لا يتعرّضوا لحصنه، فلما رحل بنوا من وراء الحصن وأدخلوه في مدينتهم، ورجع أردشير فنازلهم وامتنعوا عليه، فأشار بعض الحكماء بأن يجمع أهل العلم فيدعون الله دعوة رجل واحد، ففعلوا فملك الحصن لوقته. وقال هروشيوش: لمّا ولي أنطونيش ضعف عن مقاومة الفرس فغلبوا على أكثر مدن الشام ونواحي أرمينية وهلك في حروبهم وولي بعده مفريق بن مركة وقتله قوّاد رومة لسنة من ملكه وكذا قال ابن العميد، وسمّاه ابن بطريق بقرونشوش، والمسبحي هرقليانوس. قالوا جميعا: وملك من بعده أنطونيش. قال ابن العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: ثلاث سنين، وعن المسبحيّ والصعيديين: أربع سنين، قال: وفي أوّل سنة من ملكه بنيت مدينة عمّان بأرض فلسطين، وملك سابور بن أردشير مدنا كثيرة من الشام. ومات أنطونيش فملك من بعده إسكندروس لثلاث وعشرين من ملك سابور بن أردشير فملك على الروم ثلاث عشرة سنة وكانت أمّه محبة في النصارى. وقال هروشيوش: ملك عشرين سنة وكانت أمّه نصرانية وكانت النصارى معه في سعة من أمرهم. قال ابن العميد: وفي سابعة ملكه قدم [1] تاوكلّا بطركا بالإسكندرية وهو الثالث عشر من البطاركة فلبث فيهم ست عشر سنة ومات. قال هروشيوش: ولعشر من ملكه غزا فارس فقتل سابور بن أردشير وانصرف ظافرا فثار عليه أهل رومة وقتلوه. وملك من بعده مخشميان بن لوجية ثلاث سنين، ولم يكن من بيت الملك وإنّما ولوه لأجل حرب الإفرنج واشتدّ على النصارى الشّدّة السادسة من بعد نيرون. وأمّا ابن العميد فسماه فقيموس ووافق على الثلاث سنين في مدّته وعلى ما لقي النصارى منه، وأنّه قتل منه سرحبوس في سلمية وواجوس في بالس على الفرات، وقتل بطرك انطاكية فسمع أسقف بيت المقدس بقتله فهرب وترك الكرسي. قال: وفي ثالثة ملكه ملك سابور بن أردشير خلاف ما زعم هروشيوش من أنه قتله. ثم هلك فقيموس أرمشميان وولي من بعده يونيوس ثلاثة أشهر وقتل فيما قال ابن العميد، وقال: سمّاه أبو فانيوس لوكس قيصر وابن بطريق بلينايوس ولم يذكره   [1] بمعنى مضى على وجوده زمن طويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 هروشيوش. ثم ملّك عرديانوس قيصر، قال ابن العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: أربع سنين، وعن المسبحيّ والصعيديّين: ست سنين، وسمّاه أبو فانيوس فودينوس والصعيديّون قرطانوس. قال: وكان ملكه لإحدى وخمسين وخمسمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش: غرديار بن بليسان. قال: وملك سبع سنين وطالت حروبه مع الفرس وكان ظافرا عليهم وقتله أصحابه على نهر الفرات، قال وولي بعده فلفش [1] بن أولياق بن أنطونيش سبع سنين وهو ابن عم الإسكندر الملك قبله وأوّل من تنصّر من ملوك الروم. وقال ابن العميد عن الصعيديّين: ملك ست سنين وقيل تسع سنين، وكان ملكه لخمس وخمسين وخمسمائة من ملك الإسكندر وآمن بالمسيح. وفي أول سنة من ملكه قدم دنوشيوش بطركا بالإسكندرية وهو رابع عشر البطاركة بها فلبث تسع عشرة سنة، ولعهد فيلفش هذا قدم غرديانوس أسقفا على بيت المقدس بعد هروب مركيوس ثم عاد من هروبه فأقام شريكا معه سنة واحدة، ومات غرديانوس فانفرد مركيوش أسقفا ببيت المقدس عشر سنين، قال: وقتل فيلفش قيصر قائد من قواده يقال له دافيس وملك مكانه خمس سنين. وقال عن المسبحيّ وابن الراهب سنة، وعن ابن بطريق سنتين. قال: وكان يعبد الأصنام ولقي النصارى منه شدّة، وكان من أولاد الملوك، وقتل بطرك رومة وأجاز من مدينة قرطاجنّة إلى مدينة أفسس وبنى بها هيكلا وحمل النصارى على السجود له، قال: وفي أيامه كانت قصّة فتية أهل الكهف وظهروا بعده في أيام تاودوسيوس. وأمّا هروشيوش فسماه داجية بن مخشميان، وقال: ملك سنة واحدة، وكانت على النصارى في أيامه الشدّة السابعة، وقتل بطرك رومة منهم. ووليّ من بعده غالش قيصر سنتين واستباح في قتل النصارى وباء عظيم أقفلت له المدن. وقال هروشيوش: هو غالش بن يولياش، وقال ابن بطريق: إنّ يولياش كان شريكا له في ملكه ومات قبله. قال ابن العميد: إحدى عشرة سنة لسبعين وخمسمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش وابن بطريق: ملك خمس عشرة سنة واسمه غاليوش، وقال المسبحيّ: خمس عشرة سنة، وسماه داقيوس وغاليوش ابنه. وقال آخرون: اسمه أورليوش وملك خمس سنين. وقال أبو فانيوس: اسمه غليوس وملك أربع عشرة سنة. وقال الصعيديّون ملك كذلك واسمه أوراليونوس.   [1] وفي نسخة اخرى: فيلبّس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 قال ابن العميد: وكان يعبد الأصنام ولقي النصارى منه شدّة في أوّل سنة من ملكه قدم مكتميوش [2] بطركا بالإسكندرية وهو الخامس عشر من بطاركتها فلبث اثنتي عشرة سنة ومات، وفي خامسة ملكه قدم إسكندروس أسقفا ببيت المقدس ثم قتله بعد سبع سنين وبعث ابنه في عساكر الروم لغزو الفرس، فانهزم وحمل أسيرا إلى كسرى بهرام فقتله. وقال هرشيوش: ولي غلينوس خمسة عشر سنة فاشتدّ على النصارى الأمر وقتلهم وقتل معهم بطرك بيت المقدس، وكانت له حروب مع الفرس أسره في بعضها ملكهم سابور ثم من عليه وأطلقه، ووقع في أيامه برومة وباء عظيم فرفع طلبه عن النصارى بسببه، وفي أيامه خرج القوط من بلادهم وتغلبوا على بلاد الغريقيين ومقدونية وبلاد النبط، وكان هؤلاء القوط يعرفون بالسنسبين وكانت مواطنهم في ناحية بلاد السريانيين، فخرجوا لعهد غلنوش هذا وغلبوا كما قلناه على بلاد الغريقيين ومقدونية وعلى مرية. وهلك غلينوش قتيلا على يد قواد رومة، ثم ملك أقاويدوش قيصر سنة واحدة، وقال ابن العميد عن المسبحيّ سنة وتسعة أشهر لثمانين وخمسمائة للإسكندر. وفي أوّل سنة من ملكه قدم يونس السميصانيّ بطركا بأنطاكيّة فلبث ثمان سنين وكان يقول بالوحدانيّة ويجحد الكلمة بالروح، ولما مات اجتمع الأساقفة بأنطاكيّة وردوا مقالته. وقال هروشيوش: ولي بعد غلينوش فلوديش بن يلاريان بن موكله فنسبه هكذا، وقال فيه من عظماء القواد. ولم يكن من بيت الملك ودفع القوط المتغلّبين عن مقدونية من منذ خمس عشرة سنة عليها، ومات لسنتين من ملكه وهذا كما قال المسبحي. وقال هروشيوش: ولي بعده أخوه نطيل سبع عشرة يوما وقتله بعض القواد، ولم يذكر ذلك ابن العميد. ثم ملك بعده أوريليانس ست سنين وسمّاه ابن بطريق أوراليوس والمسبحيّ أرينوس وأبو فانيوس أوليوس وهروشيوش أوليان بن بلنسيان. وقال: ملك خمس سنين، قال ابن العميد: وفي الرابعة من ملكه قدم تاونا بطركا بالإسكندرية سادس عشر البطاركة فلبث عشر سنين. وكان النصارى يقيمون الدين خفية، فلمّا صار بطركا قابل الروم ولاطفهم بالهدايا فأذنوا له في بناء كنيسة مريم وأعلنوا فيها بالصلاة، قال: وفي سادسة ملكه ولد قسطنطين. وقال هروشيوش: إنّ   [2] وفي نسخة اخرى: مكسيموس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 أورليان بن بلنسيان هذا حارب القوط فظفر بهم وجدّد بناء رومة واشتدّ على النصارى تاسعة بعد نيرون ثم قتل. فولي بعده طانيش بن إلياس وملك قريبا من السنة. وقال ابن العميد: اسمه طافسوس وملك ستة أشهر. وقال ابن بطريق: اسمه طافساس وملك تسعة أشهر. ثم ملك فروفش قيصر خمس سنين، وقال أبو فانيوس: اسمه فروش، وقال ابن بطريق وابن الراهب والصعيديّون ست سنين، وقال المسبحيّ سبع سنين وسمّاه ألاكيوس وأرفيون، وسمّاه ابن بطريق بروش، وسماه هروشيوش فاروش بن أنطويش. قال: وتغلب على كثير من بلاد الفرس، وقال ابن العميد: كان ملكه لسابعة من ملك سابور ذي الأكتاف ولخمسمائة واثنتين وتسعين من ملك الإسكندر، وكان شديدا على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا وهلك هو وأبناه في الحرب. وقال هروشيوش: ولما هلك فاروش ولي من بعده ابنه مناربان وقتل لحينه، ولم يذكره ابن العميد. ثم ملك بقلاديانوش إحدى وعشرين سنة، وقال المسبحيّ: عشرين سنة، وقال غيره: ثماني عشرة سنة، وملك لخمسمائة وخمس وتسعين للإسكندر، وقال غيرهم: كان اسمه عربيطا وارتقى في أطوار الخدمة عند القياصرة إلى أن استخلصه فاريوش وجعله على خيله وكان حسن المزمار. ويقال أنّ الخيل كانت ترقص طربا لمزاميره، وعشقته بنت فاريوش الملك، ولما مات أبوها وإخوتها ملّكها الروم عليهم فتزوجته وسلمت له في الملك، فاستولى على جميع ممالك الروم وما والاها، وقسطنطش ابن عمه على بلاد أشيّا وبيزنطية، وأقام هو بأنطاكيّة وله الشام ومصر الى أقصى المغرب. وفي تاسعة عشر من ملكه انتقض أهل مصر والاسكندرية فقتل منهم خلقا ورجع إلى عبادة الأصنام وأمر بغلق الكنائس، ولقي النصارى منه شدّة وقتل القسيس مار جرس [1] وكان من أكابر أبناء البطارقة، وقتل ملقوس منهم أيضا. وفي عاشرة ملكه قدم مار بطرس بطركا بالإسكندرية فلبث عشر سنين وقتله، وجعل مكانه تلميذه إسكندروس، وكان كبير تلامذته اريوش كثيرا لمخالفة [2] له فسخطه وطرده، ولما مات مار بطرس رجع أريوش عن المخالفة فأدخله إسكندروس إلى الكنيسة وصيّره قسّا.   [1] هو القديس مار جرجس. [2] ومقتضى السياق «وكان كبير تلامذته أريوش يوشي به كثيرا لمخالفته له» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 قال ابن العميد: وفي أيام دقلاديانوس خرج قسطنطش ابن عمّه ونائبة على بيزنطيا وأشيّا ورأى هلانة، وكانت تنصّرت على يد أسقف الرّها، فأعجبته وتزوّجها وولدت له قسطنطين، وحضر المنجّمون لولادته فأخبروا بملكه، فأجمع ديقلاديانوس على قتله فهرب إلى الرّها. ثم جاء بعد موت ديقلاديانوس فوجد أباه قسطنطش قد ملك على الروم فتسلّم الملك من يده على ما نذكر، وهلك ديقلاديانوس لعشرين سنة من ملكه ولستمائة وستة عشرة سنة من ملك الإسكندر وملك من بعده ابنه مقسيمانوس [1] قال ابن بطريق: سبع سنين، وقال المسبحيّ وابن الراهب: سنة واحدة. قالوا وكان شريكه في الملك مقطوس، وكان أشدّ كفرا من ديقلاديانوس، ولقي النصارى منهما شدّة وقتلا منهم خلقا كثيرا، وفي أول سنة من ملكه قدم الإسكندروس تلميذ مار بطرس الشهير بطركا بالإسكندرية، فلبث فيهم ثلاثا وعشرين سنة. وعلى عهد مقسيمانوس تذكر تلك الخرافة بين المؤرخين من أن سابور ملك الفرس دخل أرض الروم متنكرا، وحضر مكان مقسيمانوس وسجنه في جلد بقرة وسار إلى مملكة فارس وسابور في ذلك الجلد وهرب منه، ولحق بفارس وهزم الروم، في حكاية مستحيلة وكلها أحاديث خرافة. والصحيح منه أنّ سابور سار إلى مملكة الروم فخرج إليه مقسيمانوس واستولى على ملكه كما نذكر بعد. وأمّا هروشيوش فلما ذكر مناربان قيصر بن قاريوس وأنّه ملك بعد أبيه وقتل لحينه، ثم قال وقام بملكهم ديوقاريان وثأر من قاتله، خرج عليه أقرير بن قاريوس فقتله ديوقاريان بعد حروب طويلة، ثم انتقض عليه أهل ممالكه وثار الثوار ببلاد الإفرنجة والأندلس وإفريقية ومصر، وسار إليه سابور ذو الأكتاف فدفع ديوقاريان إلى هذه الحروب كلها مخشميان هركوريش وصيّره قيصر، فبدأ أوّلا ببلاد الإفرنجة فغلب الثوار بها وأصلحها وكان الثائر الّذي بالأندلس قد ملك برطانية سبع سنين فقتله بعض أصحابه ورجعت برطانية إلى ملك ديوقاريان، ثم استعمل مخشميان خليفة ديوقاريان صهره قسطنطش وأخاه مخشمس ابني وليتنوس، فمضى مخشمس إلى إفريقية وقهر الثوار بها وردّها إلى طاعة الرومانيين، وزحف ديوقاريان قيصر الأعظم إلى مصر والإسكندرية فحصر الثائر بها إلى أن ظفر به وقتله، ومضى قسطنطش إلى اللمانيّين في ناحية بلاد الافرنج فظفر بهم بعد حروب طويلة. وزحف مخشميان خليفة ديوقاريان إلى سابور ملك الفرس   [1] هو مكسيمانوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 فكانت حروبه معه سجالا حتى غلبه وأصاب منه، واستأصل مدينة غورة والكوفة من بلاده سبيا وقتلا ورجع إلى رومة. ثم سرّحه ديوقاريان قيصر إلى حروب أهل غالش من الإفرنجة، فأثخن فيهم قتلا وسبيا، ثم اشتدّ ديوقاريان على النصارى الشدّة العاشرة بعد نيرون وأثخن فيهم بالقتل ودام ذلك عليهم عشر سنين. ثم اعتزل ديوقاريان وخليفته مخشميان الملك ورفضاه ودفعاه إلى قسطنطش بن وليتنوش وأخيه مخشمس ويسمّى غلاريس، فاقتسما ملك الرومانيين، فكان لمخشمس غلاريس ناحية الشرق وكان لقسطنطش ناحية المغرب وكانت إفريقية وبلاد الأندلس وبلاد الافرنج في ملكته [1] . وهلك ديوقاريان ومخشميان معتزلين عن الملك بناحية الشام وأقام قسطنطش في الملك، ثم هلك ببرطانية وأقام بملك اللطينيين من بعده ابنه قسطنطين. انتهى كلام هروشيوش. ويظهر أنّ هذا الملك الّذي سمّاه ابن العميد ديقلاديانوس هو الّذي سمّاه هروشيوش ديوقاريان، والخبر من بعد ذلك متشابه والأسماء مختلفة ولا يخفى عليك وضع كل اسم في مكانه من الآخر والله سبحانه وتعالى أعلم. الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفعال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعد إلى انقراض أمرهم هؤلاء الملوك القياصرة المتنصرة من أعظم ملوك العالم وأشهرهم وكان لهم الاستيلاء على جانب البحر الرومي من الأندلس إلى رومة إلى القسطنطينية إلى الشام إلى مصر والإسكندرية إلى إفريقية والمغرب، وحاربوا الترك والفرس بالمشرق والسودان بالمغرب من النبويّة فمن وراءهم. وكانوا أوّلا على دين المجوسيّة، ثم بعد ظهور الحواريّين ونشر دين النصرانية بأرضهم وتسلطهم عليهم بأرضهم مرة بعد أخرى أخذوا بدينهم. وكان أول من أخذ به قسطنطين بن قسطنطش بن وليتنوس [2] وأمّه هلانة بنت مخشميان قيصر خليفة ديوقاريان قيصر الثالث والثلاثون من القياصرة، وقد   [1] الأصح ان يقول ملكه. [2] هو ولتينوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 مرّ ذكره آنفا. وإنّما سعى هذا الدين دين النصرانيّة نسبة إلى ناصرة القرية التي كان فيها مسكن عيسى عليه السلام عند ما رجع من مصر مع أمّه. وأمّا نسبه إلى نصران فهو من أبنية المبالغة ومعناه أنّ هذا الدين في غير أهل عصابة فهو دين من ينصره من أتباعه. ويعرف هؤلاء القياصرة ببني الأصفر وبعض الناس ينسبهم إلى عيصو بن إسحاق وقد أنكر ذلك المحقّقون وأبوه. وقال أبو محمد بن حزم عند ذكر إسرائيل عليه السلام كان لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب واسمه عيصاب، وكان بنوه يسكنون جبال السراة من الشام إلى الحجاز، وقد بادوا جملة إلّا أن قوما يذكرون أنّ الروم من ولده وهو خطأ وإنما وقع لهم هذا الغلط لأنّ موضعهم كان يقال له أروم فظنّوا أنّ الروم من ذلك الموضع وليس كذلك، لأنّ الروم إنّما نسبوا إلى روملّس باني رومة وربما يحتجون بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك للحرث بن قيس: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ ولا حجة فيه لاحتمال أن يريد بني عيصاب على الحقيقة لأن قصده كان إلى ناحية السراة وهو مسكن بني عيصو (قلت) : مسكن عيصو هؤلاء كان يقال له أيذوم، بالذال المعجمة إلى الظاء أقرب فعرّبتها العرب راء، ومن هنا جاء الغلط والله تعالى أعلم. وهذا الموضع يقال له يسعون أيضا والاسمان في التوراة. قال ابن العميد: خرج قسطنطين المؤمن على مقسيمانوس فهزمه، ورجع إلى رومة وازدحم العسكر على الجسر فوقع بهم في البحر وغرق مقسمانوس مع من غرق، ودخل قسطنطين رومة وملكها بعد أن أقام ملكا على بيزنطية من بعد أبيه ستا وعشرين سنة، فبسط العدل ورفع الجور. وخرج قائده يسكن ناحية قسطنطينيّة، وولّاه على رومة وأعمالها وألزمه بإكرام النصارى، ثم انتقض عليه وقتل النصارى وعبد الأصنام، وكان فيمن قتل ماريادس بطرك بطارقة، فبعث قسطنطين العساكر إلى رومة لحربه فساقوه أسيرا وقتله. ثم تنصّر قسطنطين في مدينة نيقيا لاثنتي عشر من ملكه وهدم بيوت الأصنام وبنى الكنائس، ولتاسع عشرة من ملكه كان مجمع الأساقفة بمدينة نيقية ونفى أريوس، كما ذكرنا ذلك كله من قبل وأنّ رئيس هذا المجمع كان إسكندروس بطرك الاسكندرية، وفي الخامسة عشر من رياسته توفي بعد المجمع بخمسة أشهر. وقال ابن بطريق كانت ولاية إسكندروس في الخامسة من ملك قسطنطين وبقي ست عشرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 سنة وقتل في السادسة والعشرين من ملك ديقلاديانوس وأنه كان على عهد أوسانيوس أسقف قيساريّة. قال المسبحيّ: مكث بطركا ثلاثا وعشرين وكسر صنم النحاس الّذي هو هيكل زحل بإسكندرية، وجعل مكانه كنيسة فهدمها العبيديّون عند ملكهم إسكندريّة. وقال ابن الراهب: إنّ إسكندروس البطرك ولي أول سنة من ملك قسطنطين فمكث اثنتين وعشرين سنة وعلى عهده جاءت هلانة أم قسطنطين لزيارة بيت المقدس وبنت الكنائس وسألت عن موضع الصليب فأخبرها مقاريوس الأسقف: إنّ اليهود أهالوا عليه التراب والزبل فأحضرت الكهنونيّة وسألتهم عن موضع الصليب وسألتهم رفع ما هنالك من الزبل ثم استخرجت ثلاثة من الخشب وسألت أيتها خشبة المسيح، فقال لها الأسقف: علامتها أنّ الميت يحيا بمسيسها، فصدّقت ذلك بتجربتها، واتخذوا ذلك اليوم عيدا لوجود الصليب، وبنت على الموضع كنيسة القمامة [1] ، وأمرت مقاريوس الأسقف ببناء الكنائس وكان ذلك لثلاثمائة وثمان وعشرين من مولد المسيح عليه السلام. وفي حادية وعشرين من ملك قسطنطين كان مهلك إسكندروس البطرك، وولي مكانه تلميذه أثناسيوس كانت أمّه تنصّرت على يده فربى ابنها عنده وعلمه وولي بطركا مكانه وسعى به أصحاب أريوس إلى الملك بعده مرتين بقي فيهما على كرسيه ثم رجع. وحمل قسطنطين اليهود بالقدس على النصرانية فأظهروها وافتتحوا في الامتناع من أكل الخنزير، فقتل منهم خلقا وتنصّر بعضهم، فزعموا أنّ أخبار اليهود نقصوا من سني مواليد الآباء نحوا من ألف وخمسمائة سنة ليبطلوا مجيء المسيح في السوابيع التي ذكر دانيال أنّ المسيح يظهر عندها، وأنها لم يحن وقتها وأنّ التوراة الصحيحة هي التي فسّرها السبعون من أحبار اليهود [2] ملك مصر. وزعم ابن العميد أن قسطنطين أحضرها واطلع منها على النقض الّذي قاله، قال: وهي التوراة التي بيد النصارى الآن. قال ثم أمر قسطنطين بتجديد مدينة بيزنطية وسمّاها قسطنطينية باسمه وقسّم ممالكه بين أولاده، فجعل لقسطنطين قسطنطينية وما والاها، لقسطنطين الآخر بلاد الشام الى أقصى المشرق، ولقسطوس الثالث رومة وما والاها. قال وملك خمسين سنة منها   [1] هي كنيسة القيامة. [2] بياض بالأصل ومقتضى السياق: فسرها السبعون من أحبار اليهود وأرسلوها الى ملك مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 ست وعشرون بيزنطية قبل غلبة مقسميانوس ومنها أربع وعشرون بعد استيلائه على الروم، وتنصّر في اثنتي عشرة من آخر ملكه، وهلك لستمائة وخمسين للإسكندر. قال هروشيوش: كان قسطنطين بن قسنطش على دين المجوسية، وكان شديدا على النصارى، ونفى بطرك رومة فدعا عليه وابتلى بالجذام، ووصف له في مداواته أن ينغمس في دماء الأطفال، فجمع منهم لذلك عددا ثم أدركته الرقة عليهم فأطلقهم، فرأى في منامه من يحضّه على الاقتداء بالبطرك فردّه إلى رومة وبريء من الجذام. وجنح من حينئذ إلى دين النصرانية، ثم خشي خلاف قومه في ذلك، فارتحل الى القسطنطينية ونزلها وشيّد بناءها وأظهر ديانة المسيح، وخالف أهل رومة فرجع إليهم وغلبهم على أمرهم وأظهر دين النصرانية، ثم جاهد الفرس حتى ممالكهم. ولعشرين سنة من ملكه خرجت طائفة من القوط إلى بلاده فأغاروا وسبوا فزحف إليهم وأخرجهم من بلاده. ثم رأى في منامه عربا وبنودا على تمثال الصلبان وقائلا يقول هذه علامة الظفر لك، فخرجت أمه هلانة إلى بيت المقدس لطلب آثار المسيح وبنت الكنائس في البلدان ورجعت ثم هلك قسطنطين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه أهـ. كلام هروشيوش. ثم ولي قسطنطين الصغير بن قسطنطين وسمّاه هروشيوش قسطنش. قال ابن العميد: ملك أربعا وعشرين سنة وكان أخوه قسطوس برومية بولاية أبيهما ففي خامسة من ملك قسطنطين بعث العساكر فقتل مقنيطوس وأتباعه وولى على رومة من جهته فكانت له صاغية إلى أريوش فأخذ بمذهبه، وغلبت تلك المقالة على أهل قسطنطينية وأنطاكية ومصر والإسكندرية، وغلب أتباع أريوش على الكنائس ووثبوا على بطرك اسكندرية ليقتلوه فهرب كما مرّ، ثم هلك لأربع وعشرين سنة من ملكه. وولي ابن عمه يولياش. وقال هروشيوش بن منخشمطش قال: وملك سنة واحدة. وقال ابن العميد: ملك سنتين باتفاق لثلاثة من ملك سابور وكان كافرا وقتل النصارى وعزلهم عن الكنائس وأطرحهم من الديوان وسار لقتال الفرس فمات من سهم أصابه. وقال هروشيوش: تورط في طريقه في مفازة ضلّ فيها عن سبيله فتقبض عليه أعداؤه وقتلوه. قال هروشيوش: وولي بعده بليان بن قسطنطين سنة أخرى، وزحف إلى الفرس وملكهم يومئذ سابور، فحجم عن لقائهم، فصالحهم ورجع وهلك في طريقه. ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 يذكر ابن العميد بليان هذا وإنّما قال: ملك من بعد يوليانوس الملك يوشانوس واحدة باتفاق في سادسة عشر من ملك سابور، وكان مقدّم عساكر يوليانوس، فلما قتل اجتمعوا إليه وبايعوه واشترط عليهم الدخول في النصرانية فغلبوه، وأشار سابور بتوليته ونصب له صليبا في العسكر، ولما ولي نزل على نصّيبين للفرس ونقل الروم الّذي بها إلى آمد ورجع إلى كرسيّ مملكتهم، فردّ الأساقفة إلى الكنائس، ورجع فيمن رجع أثناشيوش بطرك اسكندرية، وطلب منه أن يكتب له أمانة أهل مجمع نيقية، فجمع الأساقفة وكتبوها وأشار عليه بلزومها. ولم يذكر هروشيوش يوشانوش هذا وذكر مكانه آخر قال: وسمّاه بلنسيان بن قسنطش. قال: وقاتل أمما من القوط والافرنجة وغيرهم، قال: وافترق القوط في أيامه فرقتين على مذهبي أريوش وأمانة نيقية، قال: وفي أيامه ولي داماش بطركا برومة ثم هلك بالفالج، وملك بعده أخوه واليس أربع سنين وعمل على مذهب أريوش واشتدّ على أهل الأمانة وقتلهم. وثار عليه بأهل إفريقية بعض النصارى مع البربر فأجاز إليهم البحر وحاربهم فظفر بالثائر وقتله بقرطاجنّة، ورجع إلى قسنطينية فحارب القوط والأمم من ورائهم وهلك في حروبهم. وقال ابن العميد في قيصر الّذي قتل واليس وسمّاه واليطنوس: إنه ملك اثنتي عشرة سنة فيما حكاه ابن بطريق وابن الراهب، وحكى عن المسبحيّ خمسة عشر سنة، وأنّ أخاه والياش كان شريكه في الملك وأنه كان مباينا وأنه ملك لستمائة وست وسبعين للإسكندر وسبع عشرة لسابور كسرى. قال: وفي أيامه وثب أهل اسكندرية على أثناشيوش البطرك ليقتلوه فهرب وقدّموا مكانه لوقيوس وكان على رأي أريوش، ثم اجتمع أهل الأمانة بعد خمسة أشهر ورجعوه إلى كرسيه وطردوا لوقيوس، وأقام أثناشيوش بطركا إلى أن مات، فولوا بعده تلميذه بطرس سنتين، ووثب به أصحاب لوقيوس فهرب ورجع لوقيوس الى الكرسي فأقام ثلاث سنين. ثم وثب به أهل الأمانة ورجّعوا بطرس وما لسنة من رجعته ولقي من داريانوس قيصر ومن أصحاب أريوش شدائد ومنحنا. وقال المسبحيّ: كان واليطينوس يديدن بالأمانة، وأخوه واليش يدين بمذهب أريوش أخذه عن ثاودكيس أسقف القسطنطينية، وعاهده على إظهاره، فلما ملك نفى جميع أساقفة الأمانة وسار أريوس اسقف أنطاكية بإذنه إلى الاسكندرية، فحبس بطرس البطرك وأقام مكانه أريوش من أهل سميساط، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وهرب بطرس من السجن وأقام برومة. وكانت بين واليطينوس قيصر وبين سابور كسرى فتنة وحروب وهلك في بعض حروبه معهم، وولي بعده أخوه واليش. قال ابن العميد عن ابن الراهب: سنتين، وعن أبي فانيوس ثلاث سنين وسمّاه والاس. وقال: هو أبو الملكين اللذين تركا الملك وترهّبا وسمّى مكسينوس ودوقاديوس، قال: وفي الثانية من ملكه بعث طيماناوس أخا بطرس بطركا على إسكندرية فلبث فيهم سبع سنين ومات، وفي سادسة ملكه كان المجمع الثاني بقسطنطينية وقد مرّ ذكره. وفي أيام واليس قيصر هذا مات بطرك قسطنطينية فبعث أغريوس أسقف يزناروا وولّاه مكانه فوليه أربع سنين ومات. ثم خرج على واليش خارج من العرب فخرج إليه فقتل في حروبه. ثم ولي أغراديانوس قيصر، قال ابن العميد، وهو أخو واليش وكان والنطوس بن واليش شريكا له في الملك وملك سنة واحدة، وقال عن أبي فانيوس سنتين، وعن ابن بطريق ثلاث سنين، وذكر عن ابن المسبحيّ وابن الراهب: أن تاوداسيوس الكبير كان شريكا لهما وأنّ ابتداء ملكهم لستمائة وتسعين من ملك الإسكندر، وأنه ردّ جميع ما نفاه واليش قبله من الأساقفة إلى كرسيه وخلّى كل واحد مكانه. ومات أغراديانوس وابن أخيه في سنة واحدة، قال ابن العميد. وملك بعدهما تاوداسيوس سبع عشرة سنة باتفاق لستمائة وتسعين من ملك الإسكندر، ولإحدى وثلاثين من ملك سابور كسرى، وفي سادسة ملكه مات أثناشيوش، بطرك اسكندرية فولي مكانه كاتبه تاوفيلا، وكان بطرك القسطنطينية يوحنّا فم الذهب، وأسقف قبرص أبو فانيوس كان يهوديا وتنصّر. قال: وكان لتاوداسيوس ولدان أرقاديوس وبرباريوس، قال: وفي خامسة عشر من ملكه ظهر الفتية السبعة أهل الكهف الذين قاموا أيام دقيانوس ولبثوا في نومهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين كما قصّه القرآن، ووجد معهم صندوق النحاس والصحيفة التي أودع البطريق فيها خبرهم، وبلغ الأمر إلى قيصر تاوداسيوس فبعث في طلبهم فوجدهم قد ماتوا، فأمر أن يبنى عليهم كنيسة ويتخذ يوم ظهورهم عيدا. قال المسبحيّ: وكان أصحاب أريوس قد استولوا على الكنائس منذ أربعين سنة فأزالهم عنها ونفاهم وأسقط من عساكره كل من يديدن بتلك المقالة، وعقد المجمع الثاني بقسطنطينية لمائتين وخمسين سنة من مجمع نيقية، وقرّر فيه الأمانة الأولى بنيقية وعهدوا أن لا يزاد فيها ولا ينقص. وفي خامسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 عشر من ملكه مات سابور بن سابور وملك بعده بهرام. ثم هلك تاوداسيوس لسبع عشرة سنة من ملكه. وأمّا هروشيوش فقال بعد ذكر واليش: وملك بعده وليطانش ابن أخيه فلنسيان ست سنين وهو الموفى أربعين عددا من ملوك القياصرة، قال واستعمل طودوشيش بن أنطيونش بن لوخيان على ناحية المشرق فملك الكثير منها، ثم همّ أهل رومة على قائدهم فقتلوه وخلعوا وليطانش الملك، فلحق بطودوشيش بالمشرق فسلّم إليه في الملك، فأقبل طودوشيش إلى رومة وقتل الثائر بها واستقل بملك القياصرة، وهلك لأربع عشرة سنة من ولايته، فولي ابنه أركاديش. ويظهر من كلام هروشيوش أن طودوشيش هو تاوداسيوس الّذي ذكره ابن العميد، لأنهما متفقان في أنّ ابنه أركاديش ومتقاربان في المدة، فلعل وليطانش الّذي ذكره هروشيوش هو أغراديانوس الّذي ذكره ابن العميد أهـ. قال ابن العميد: وملك أركاديش ولد تاوداسيوس الأكبر ثلاث عشرة سنة باتفاق في ثالثة ملك بهرام بن سابور وكان مقيما بالقسطنطينية، وولي أخاه أنوريش على رومة، قال: وولد لأركاديش ابن سمّاه طودوشيش باسم أبيه، ولما كبر طلب معلمه أريانوس ليعلم ولده، فهرب إلى مصر وترهّب، ورغّبه بالمال فأبى وأقام في مغارة بالجبل المقطم على قرية طرا ثلاث سنين، ومات فبنى الملك على قبره كنيسة وديرا يسمى دير القصير، ويقال: دير البغل. وفي أيامه غرق أبو فانيوس بمرجعه إلى قبرص، ومات يوحنّا فم الذهب بطرك القسطنطينية وكان نفاه أركاديش بموافقة أبي فانيوس، ودعا كل منهما على صاحبه فهلكا. وفي التاسعة من ملك أركاديش مات بهرام بن سابور وملك ابنه يزدجرد. ثم هلك أركاديش وملك من بعده طودوشيش الأصغر ابن أركاديش ثلاث عشرة سنة، وولّى أخاه أنوريش على رومة، فاقتسما ملك اللطينيّين، وانتقض لعهديهما قومس إفريقية وخالفه إلى طاعة القياصرة فحدثت بإفريقية فتنة لذلك. ثم غلب القومس أخاه فلحق بقبرص وترهّب بها، ثم زحف القوط. إلى رومة وفرّ عنها أنوريش فحاربوها ودخلوها عنوة واستباحوها ثلاثا وتجافوا عن أموال الكنائس. قال: ولما هلك أركاديش قيصر استبدّ أخوه أنوريش بالملك خمس عشرة سنة وأحسن في دفاع القوط عن رومة وهلك، فولي من بعده طودوشيش ابن أخيه أركاديش ولم يذكر ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 العميد أنوريش وإنّما ذكر بعد أركاديش ابنه طودوشيش وسمّاه الأصغر، قال: وملك اثنتين وأربعين سنة باتفاق في خامسة ملك يزدجرد، وكانت بينه وبين الفرس حروب كثيرة. قال: وفي أوّل سنة من ملكه مات تاوفيلا بطرك إسكندرية فولي مكانه كيرلّوس ابن أخته، في سابعة عشر من ملكه قدم نسطوريش بطركا بالقسطنطينية فأقام أربع سنين وظهرت عنه العقيدة التي دان بها وقد تقدّمت، وبلغت مقالته إلى كيرلّس بطرك الإسكندرية، فخاطب في ذلك بطرك رومة وأنطاكية وبيت المقدس، ثم اجتمعوا بمدينة أفسيس في مائتي أسقف وأجمعوا على كفرنسطوريش ونفوه، فنزل أخميم من صعيد مصر وأقام بها سبع سنين، وأخذ بمقالته نصارى الجزيرة والموصل إلى الفرات ثم العراق وفارس إلى المشرق، وولّى طودوشيش بالقسطنطينية مقسيموس عوضا عن نسطورس فأقام بها ثلاث سنين. وفي ثامنة وثلاثين من ملك طودوشيش الأصغر مات كيرلّس بطرك الإسكندرية وولي مكانه ديسقرس، ولقي شدائد من مرقيان الملك بعده. وفي سادسة عشرة من ملك طودوشيش الأصغر مات يزدجرد كسرى وولي ابنه بهرام جور، وكانت بينه وبين خاقان ملك الترك وقائع ثم عدل عن حروبهم ودخل إلى أرض الروم فهزمه طودوشيش وملك ابنه يزدجرد. قال هروشيوش: وفي أيام طودوشيش الأصغر تغلب القوط على رومة وملكوها وهلك ملكهم أبطريك كما نذكر في أخبارهم، ثم صالحوا الروم على أن يكون لهم الأندلس فانقلبوا إليها وتركوا رومة انتهى. قال ابن العميد: ثم ملك مرقيان بعده ست سنين باتفاق وتزوّج أخت طودوشيش، وسمّاه هروشيوش مركيان بن مليكة. قالوا: وكان في أيامه المجمع الرابع بمقدونية، وقد تقدّم ذكره، وإنّه كان بسبب ديقوس بطرك إسكندرية وما أحدث من البدعة في الأمانة، فأجمعوا على نفيه وجعلوا مكانه برطارس، وافترقت النصارى إلى ملكيّة وهم أهل الأمانة فنسبوا إلى مركيان قيصر الملك الّذي جمعهم وعهد بأن لا يقبل ما اتفق عليه أهل المجمع الخلقدوني، وإلى يعقوبية وهم أهل مذهب ديسقوس وتقدّم الكلام في تسميتهم يعقوبية، وإلى نسطوريّة وهم نصارى المشرق. وفي أيام مركيان سكن شمعون الحبيس الصومعة بأنطاكيّة وترهّب وهو أوّل من فعل ذلك من النصارى، وعلى عهده مات يزدجرد كسرى. ومات مركيان قيصر لست سنين من ملكه وملك بعده لاون الكبير. قال ابن العميد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 لسبعمائة وسبعين من ملك الإسكندر ولثانية من ملك نيرون، ملك ست عشرة سنة. ووافقه هروشيوش على مدّته، وقال فيه ليون بن شمخليّة. قال ابن العميد: وكان على مذهب الملكيّة ولما سمع أهل اسكندرية بموت مركيان وثبوا على برطارس البطرك فقتلوه بعد ست سنين من ولايته وأقاموا مكانه طيماناوس، وكان يعقوبيّا فجاء قائد من قسطنطينية بعد ثلاث سنين من ولايته فنفاه، وأبدل عنه سورس من الملكيّة وأقام تسع سنين. ثم عاد طيماناوس بالأمر لاون قيصر [1] ، ويقال: إنه بقي بطركا اثنتين وعشرين سنة. ولثانية عشر من ملك لاون زحف الفرس إلى مدينة آمد وحاصروها وامتنعت عليهم، وفي أيامه مات شمعون الحبيس صاحب العمود. ثم هلك لاون قيصر لست عشرة سنة من ملكه. قال ابن العميد: ووليّ من بعده لاون الصغير وهو أبو زينون الملك بعده. وقال ابن بطريق: هو ابن سينون وكان يعقوبيّا وملك سنة واحدة. ولم يذكره هروشيوش وإنّما ذكر زينون الملك بعده، وسمّاه سينون بالسين المهملة. وقال ملك سبع عشرة سنة. وقال ابن العميد مثله ولثمانية عشر من ملك نيرون ولسبعمائة وسبع وثمانين للإسكندر، قال: وكان يعقوبيّا وخرج عليه ولده ورجل من قرابته وحاربهما عشرين شهرا ثم قتلهما واتباعهما ودخل قسطنطينية ووجد بطركها وكان رديء العقيدة قد غير كتب الكنيسة وزاد ونقّص، فكتب زينون قيصر إلى بطرك رومة وجمع الأساقفة فناظروه ونفوه. وفي سابعة ملك زينون مات طيماناوس بطرك اسكندرية فولي مكانه بطرس وهلك بعد ثمان سنين، فولي مكانه أثناسيوس وهلك لسبع سنين وكان قيّما ببعض البيع في بطركيته. قال المسبحيّ: وفي أيام زينون احترق ملعب الخيل الّذي بناه بطليموس الأرنبا بالإسكندرية. وقال ابن بطريق: وفي أيام زينون هاجت الحرب بين نيرون والهياطلة وهزموه في بعض حروبهم، ورد الكرّة عليه بعض قواده كما في أخبارهم، ومات نيرون وتنازع الملك ابناه قياد ويلاش. وفي عاشرة من ملك زينون غلب يلاش أخاه واستقلّ بالملك ولحق أخوه قياد بخاقان ملك الترك، ثم هلك يلاش لأربع سنين ورجع قياد واستولى على مملكة فارس وذلك في أربعة عشر من ملك زينون فأقام ثلاثا وأربعين سنة. وهلك زينون لسبع عشرة من ولايته، فملك بعده نسطاس سبعا وعشرين سنة في   [1] مقتضى السياق: بالأمر للاون قيصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 أربعة من ملك قيادة ولثمانمائة وثلاث للإسكندر، وكان يعقوبيّا وسكن حماة ولذلك أمر أن تشيّد وتحصّن فبنيت في سنتين. وعهد لأول ملكه أن يقتل كل امرأة كاتبة، وفي ثالثة ملكه أمر ببناء مدينة في المكان الّذي قتل فيه دارا فوق نصّيبين. ثم وقعت الحرب بينه وبين الأكاسرة وخرّب قياد مدينة آمد ونازلت عساكر الفرس إسكندرية وأحرقوا ما حولها من البساتين والحصون، وقتل بين الأمّتين خلق كثير. وفي سادسة ملكه مات أثناسيوس بطرك الاسكندرية فصيّر مكانه يوحنّا وكان يعقوبيّا ومات لتسع سنين، فصيّر بعده يوحنّا الحسن ومات بعد إحدى عشرة. وفي أيام نسطاس قدم ساريوس بطركا بأنطاكيّة وكان كلاهما على أمّة ديسقوس. وفي سابعة وعشرين من ملك نسطاس قدم ساريوس بطركا بأنطاكيّة. ومات يوحنّا بطرك اسكندرية فولّى مكانه ديسقوس الجديد ومات لسنتين ونصف. وقال سعيد بن بطريق: إن إيليا بطرك المقدس كتب إلى نسطاس قيصر يسأله الرجوع إلى الملكيّة ويوضح له الحق في مذهبهم، وصبا إليه في ذلك جماعة من الرهبان، فأحضرهم وسمع كلامهم وبعث إليهم بالأموال للصدقات وعمارة الكنائس. وكان بقسطنطينية رجل على رأي ديسقوس فمضى إلى نشطانش قيصر ومضى وأشار عليه باتباع مذهب ديسقوس وأن يرفض المجمع الخلقدوني. فقبل ذلك منه وبعث إلى جميع أهل مملكته، وبلغ ذلك بطرك أنطاكية فكتب إلى نشطانش قيصر بالملامة على ذلك فغضب ونفاه، وجعل مكانه بأنطاكيّة سويوس وبلغ ذلك إلى إيليا بطرك القدس، فجمع الرهبان ورؤساء الديور في نحو عشرة آلاف ولعنوا سويوس وأجرموه والملك نشطانش معه. فنفاه نشطانش إلى إيليا وذلك في ثالثة وعشرين من ملكه، فاجتمع جميع البطاركة والأساقفة من الملكيّة وأجرموا نشطانش الملك وسويوس وديسقوس إمام اليعقوبية ونسطورس. قال ابن بطريق: وكان لسويوس تلميذ اسمه يعقوب البرادعي يطوف البلاد داعيا إلى مقالة سويوس ودسيقوس فنسب اليعاقبة إليه. وقال ابن العميد: وليس كذلك لأنّ اليعاقبة سمّوا بذلك من عهد ديسقوس كما مرّ. ثم هلك نشطانش لسبع وعشرين من ملكه، وملك بعده يشطيانش قيصر لثمانية وثلاثين من ملك قياد بن نيرون ولثمانية وثلاثين للإسكندر، وملك تسع سنين باتفاق. وقال هروشيوش سبعا. وقال المسبحيّ: كان معه شريك في ملكه اسمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 يشطيان. وفي ثالثة ملكه غزت الفرس بلاد الروم فوقعت بين الفرس والروم حروب كثيرة، وزحف كسرى في آخرها لثمانية من ملك يشطيانش ومعه المنذر ملك العرب، فبلغ الرّها وغلب الروم وغرق من الفريقين في الفرات خلق كثير وحمل الفرس أسارى الروم وسباياهم، ثم وقع الصلح بينهما بعد موت قيصر. وفي تاسعة ملكه أجاز البربر من المغرب إلى رومة وغلبوا عليها. قال ابن بطريق: وكان يشطيانش على دين الملكيّة فرد كل من نفاه نشطانش قبله منهم، وصيّر طيماناوس بطركا بالإسكندرية وكان يعقوبيّا فلبث فيهم ثلاث سنين، وقيل سبع عشرة سنة. وقال ابن الراهب: كان يشطيانش خلقدونيّا ونفى طيماناوس البطرك عن إسكندرية وجعل مكانه أيوليناريوس وكان ملكيا، وعقد مجمعا بالقسطنطينية يريد جمع الناس على رأي الخلقدونية مذهبه، وأحضر شاويرش بطرك أنطاكية وأسقفة المشرق فلم يوافقوه، فاعتقل بطرك أنطاكية سنين ثم أطلقه فسار إلى مصر وبقي مختفيا في الديور. ثم وصل أيوليناريوس بطرك إسكندرية ومعه كتاب الأمانة الخلقدونية، فقبل الناس منه وتبعوا مذهبه فيها وصاروا إليه. وهلك يشطيانش لتسع سنين من ملكه ثم ملك يشطينانش قيصر لإحدى وأربعين من ملك قياد ولثمانمائة وأربعين للإسكندر وكان ملكيّا وهو ابن عمّ يشطيانش الملك قبله. وقال المسبحيّ: بل كان شريكه كما مرّ وملك أربعين سنة باتفاق. وقال أبو فانيوس: ثلاثا وثلاثين. وفي سابعة ملكه غزا كسرى بلاد الروم وأحرق إيليا وأخذ الصليب الّذي كان فيها، وفي حادية عشر من ملكه عصت السامريّة عليه فغزاهم وخرّب بلادهم، وفي سادسة عشر من ملكه غزا الحارث بن جبلة أمير غسان والعرب ببرية الشام وغزا بلاد الأكاسرة وهزم عساكرهم وخرّب بلادهم ولقيه بعض مرازبة كسرى فهزمهم وردّ السبي منهم، ثم وقع الصلح بين فارس والروم وتوادعوا. وفي خمس وثلاثين من ملك يشطينانش عهد بأن يتخذ عيد الميلاد في رابع وعشرين من كانون، وعيد الغطاس [1] في ست منه، وكانا من قبل ذلك جميعا في سادس كانون. وقال المسبحيّ: أراد يشطينانش حمل الناس على رأي الملكيّة، فأحضر طيماناوس بطرك اسكندرية وكان يعقوبيّا، وأراده على ذلك فامتنع فهمّ بقتله، ثم أطلقه فرجع إلى مصر مختفيا ثم نفاه بعد ذلك وجعل مكانه بولس، وكان ملكيّا فلم   [1] عيد الظهور الإلهي عند المسيحيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 يقبله اليعاقبة وأقام على ذلك سنين. قال سعيد بن بطريق: ثم بعث قيصر قائدا من قوّاده اسمه يوليناريوس وجعله بطرك إسكندرية فدخل الكنيسة بزيّ الجند ثم لبس زيّ البطاركة وقدّس. فهموا به فصار إلى سياستهم فاقصروا ثم حملهم على رأي اليعقوبيّة وقتل من امتنع وكانوا مائتين. وفي أيام يشطينانش هذا ثار السامرة بأرض فلسطين وقتلوا النصارى وهدموا كنائسهم فبعث العساكر وأثخنوا فيهم وأمر ببناء الكنائس كما كانت، وكانت كنيسة بيت لحم صغيرة فأمر بأن يوسّع فيها فبنيت كما هي لهذا العهد. وفي عهده كان المجمع الخامس بقسطنطينية بعد مائة وثلاث وستين من الجمع الخلقدوني ولتاسعة وعشرين من ملك يشطينانش وقد مر ذكر ذلك. وفي عهد قيصر هذا مات أيوليناريوس القائد الّذي جعل بطركا بإسكندرية لسبع عشرة سنة من ولايته، وهو كان رئيس هذا المجمع، وجعل مكانه يوحنّا وكان أمانيّا وهلك لثلاث سنين، وانفرد اليعاقبة بالإسكندرية وكان أكثرهم القبط وقدموا عليهم طودوشيوش بطركا لبث فيهم اثنتين وثلاثين سنة، وجعل الملكيّة بطركهم داقيانوس وطردوا طودوشيوش من كرسيه ستة أشهر، ثم أمر يشطينانش قيصر بأن يعاد فأعيد وطلب منه المغامسة أن يقدّم دقيانوش بطرك الملكية على الشمامسة فأجابهم. ثم كتب يشطينانش الى طودوشيوش البطرك باجتماع المجمع الخلقدوني أو يترك البطركية، فتركها ونفاه وجعل مكانه بولس التنسي فلم يقبله أهل إسكندرية ولا ما جاء به. ثم مات وغلقت كنائس القبط اليعقوبيّة ولقوا شدائد من الملكيّة ومات طودوشيوش البطرك في سابعة وثلاثين من ملكة يشطيانش وجعل مكانه باسكندرية بطرس ومات بعد سنتين. قال ابن العميد: وسار كسرى أنوشروان في مملكة يشطيانش قيصر إلى بلاد الروم وحاصر أنطاكية وفتحها وبنى قبالتها مدينة سمّاها رومة ونقل إليها أهل انطاكية. ثم هلك يشطيانش وملك بعده يوشطونش قيصر لست وثلاثين من ملك أنوشروان ولثمانمائة وثمانين للإسكندر فملك ثلاثة عشر سنة. وقال هروشيوش إحدى عشرة سنة. ولثانية من ملكه مات بطرس ملك إسكندرية فجعل مكانه داميانو فمكث ستا وثلاثين سنة وخربت الديور على عهده، وفي الثانية عشر من ملكه مات كسرى أنوشروان بعد أن كان بعث العساكر من الديلم مع سيف بن ذي يزن من التبابعة ففتحوا اليمن وصارت للأكاسرة. ثم هلك يوشطونش قيصر لإحدى عشرة أو ثلاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 عشرة من ملكه. وملك بعده طباريش قيصر لثالثة من ملك هرمز ابن أنوشروان ولثمانمائة واثنتين وتسعين للإسكندر، فملك ثلاث سنين عند ابن بطريق وابن الراهب، وأربعا عند المسبحيّ. ولعهده انتقض الصلح بين الروم وفارس واتصلت الحرب، وانتهت عساكر الفرس إلى رأس عين الخابور، فثار إليهم موريق من بطاركة الروم فهزمهم، ثم جاء طباريش قيصر على أثره فعظمت الهزيمة واستحرّ [1] القتل في الفرس وأسر الروم منهم نحوا من أربعة آلاف غرّبهم إلى جزيرة قبرص، ثم انتقض بهرام مرزبان هرمز كسرى وطرده عن الملك بمنجع من تخوم بلاد الروم وبعث بالصريخ إلى طباريش قيصر، فبعث إليه المدد من الفرسان والأموال. يقال كان عسكر المدد أربعين ألفا فسار هرمز ولقيه بهرام بين المدائن وواسط فانهزم واستبيح، وعاد هرمز إلى ملكه وبعث إلى طباريش بالأموال والهدايا أضعاف ما أعطاه، ورد إليه ما كانت الفرس أخذته من بلادهم وسألهم [2] وغيرها، ونقل من كان فيها من الفرس إلى بلاده. وسأله طباريش بأن يبني هيكلين للنصارى بالمدائن وواسط فأجابه إلى ذلك. ثم هلك طباريش قيصر وملك من بعده موريكش قيصر في السادسة لهرمز ولثمانمائة وخمس وتسعين للإسكندر وملك عشرين سنة باتفاق المؤرّخين فأحسن السيرة. وفي حادية عشر من ملكه بلغه عن بعض اليهود بأنطاكيّة أنه بال [3] على صورة المسيح، فأمر بقتلهم ونفيهم. ولعهده انتقض على هرمز كسرى قريبه بهرام وخلعه واستولى على ملكه وقتله، وسار ابنه أبرويز إلى موريكش قيصر صريخا فبعث معه العساكر ورد أبرويز إلى ملكه، وقتل بهرام الخارج عليه وبعث إليه بالهدايا والتحف كما فعل أبوه من قبله مع القياصرة، وخطب أبرويز من موريكش قيصر ابنته مريم فزوّجه إيّاها   [1] وفي نسخة اخرى: واستمر. [2] كذا بياض بالأصل واتفق كل من الطبري وابن الأثير على القول: «وخاف بهرام سطوة هرمز وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن، فأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وان ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب أبرويز بهذا السبب الى أذربيجان خوفا من هرمز، فاجتمع اليه هناك عدة من المرازبة والاصبهبذين فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والاشراف بالمدائن وفيهم بندي وبسطام خالا أبرويز فخلعوا هرمز واستولوا على الملك، ثم جرت بينه وبين بهرام حروب اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثا بملكها فأخبره واستتب له الملك. (الطبري ج 2 ص 18) . [3] وفي نسخة اخرى: انهم بالوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وبعث معها من الجهاز والأمتعة والأقمشة ما يضيق عنه الحصر. ثم وثب على موريكش بعض مماليكه بمداخلة قريبه البطريق قوقاص فدسه عليه فقتله وملك على الروم وتسمّى قيصر وذلك لتسعمائة وأربع عشرة للإسكندر وخمس عشرة لأبرويز، فملك ثماني سنين وقتل أولاد موريكش وأفلت صغير منهم فلحق بطور سينا وترهّب ومات هنالك. وبلغ أبرويز كسرى ما جرى على موريكش وأولاده فجمع عساكره وقصد بلاد الروم ليأخذ ثأر صهره [1] ، وبعث عساكره مع مرزبانه خزرويه إلى القدس وعهد إليه بقتل اليهود وخراب البلد. وبعث مرزبان آخر إلى مصر والإسكندرية، وجاء بنفسه في عساكر الفرس إلى القسطنطينية وحاصرها وضيّق عليها، وأمّا خزرويه المرزبان فسار إلى الشام وخرّب البلاد. واجتمع يهود طبريّة والخليل وناصرة وصور وأعانوا الفرس على قتل النصارى وخراب الكنائس، فنهبوا الأموال وأخذوا قطعة من الصليب، وعادوا إلى كسرى بالسبيّ وفيهم ذخريّا بطرك القدس، فاستوهبته مريم بنت موريكش من زوجها أبرويز فوهبه إيّاها مع قطعة الصليب. ولما خلت الشام من الروم واجتمع الفرس على القسطنطينية، تراسل اليهود من القدس والخليل وطبرية ودمشق وقبرص، واجتمعوا في عشرين ألفا وجاءوا إلى صور ليملكوها، وكان فيها من اليهود نحو من أربعة آلاف فتقبض بطركها عليهم وقيدهم، وحاصرهم عساكر اليهود وهدموا الكنائس خارج صور والبطرك يقتل المقيدين ويرمي برءوسهم إلى أن فنوا، وارتحل كسرى عن القسطنطينية جاثيا فأجفل اليهود عن صور وانهزموا. وقال ابن العميد: وفي رابعة من قوقاص قيصر قدم يوحنّا الرحوم بطركا على الملكيّة باسكندرية ومصر، وإنّما سمّي الرحوم لكثرة رحمته وصدقته، وهو الّذي عمل البيمارستان للمرضى بإسكندرية. ولما سمع بمسير الفرس هرب مع البطريق الوالي بإسكندرية إلى قبرص فمات بها لعشر سنين من ولايته، وخلا كرسي الملكيّة بإسكندرية سبع سنين. وكان اليعاقبة باسكندرية قدّموا عليهم في أيام قوقاص قيصر بطركا اسمه أنشطانيوش مكث فيهم اثنتي عشرة سنة، واستردّ ما كانت الملكيّة بإسكندرية سبع سنين. وكان اليعاقبة باسكندرية قدّموا عليهم في أيام قوقاص قيصر بطركا اسمه أنشطانيوش مكث فيهم اثنتي عشرة سنة، واستردّ ما كانت الملكيّة استولت عليه من الكنائس اليعقوبية، وجاء أثناسيوس بطرك أنطاكية بالهدايا سرورا بولايته، فتلقاه هو بالأساقفة والرهبان، واتخذت الكنيسة بمصر والشام وأقام عنده   [1] موريكش هو حميّ أبرويز اي والد زوجته. ومقتضى السياق ليأخذ بثأر حميّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 أربعين يوما ورجع إلى مكانه. ومات أنسطانيوش بعد اثنتي عشرة من ولايته لثلاثمائة وثلاثين من ملك ديقلاديانوس. ولمّا انتهى أبرويز في حصار القسطنطينية نهايته وضيّق عليها وعدموا الأقوات، واجتمع البطارقة بعلوقيا وبعثوا السفن مشحونة بالأقوات مع هرقل أحد بطاركة الروم، ففرحوا به، ومالوا إليه وداخلهم في الملك، وأنّ قوقاص سبب هذه الفتنة، فثاروا عليه وقتلوه وملّكوا هرقل، وذلك لتسعمائة واثنتين وعشرين للإسكندر، فارتحل أبرويز عن القسطنطينية راجعا إلى بلاده، وملك هرقل بعد ذلك إحدى وثلاثين سنة ونصف عند المسبحيّ وابن الراهب، واثنتين وثلاثين عند ابن بطريق. وكانت ملكته أوّل سنة من الهجرة. وقال هروشيوش: لتسع وسمّاه هرقل بن هرقل بن أنطونيش. ولما تملّك هرقل بعث أبرويز بالصلح بوسيلة قتلهم موريكش فأجابهم على تقرير الضريبة عليهم فامتنعوا فحاصرهم ست سنين أخرى إلى الثمان التي تقدّمت، وجهدهم الجوع فخادعهم هرقل بتقرير الضريبة على أن يفرج عنهم حتى يجمعوا له الأموال. وضربوا الموعد معه ستة أشهر، ونقض هرقل فخالف كسرى إلى بلاده، واستخلف أخاه قسطنطين على قسطنطينية، وسار في خمسة آلاف من عساكر الروم إلى بلاد فارس فخرّب وقتل وسبى وأخذا بني أبرويز كسرى من مريم بنت موريكش وهما قبّاد وشيرويه. ومرّ بحلوان [1] وشهرزور إلى المدائن ودجلة ورجع إلى أرمينية، ولما قرب من القسطنطينية، وارتحل أبرويز كسرى إلى بلاده فوجدها خرابا وكان ذلك مما أضعف من مملكة الفرس وأوهنها. وخرج هرقل لتاسعة من ملكه لجمع الأموال، وطلب عامل دمشق منصور بن سرحون فاعتذر بأنه كان يحمل الأموال إلى كسرى، فعاقبه واستخلص منه مائة ألف دينار وأبقاه على عمله. ثم سار إلى بيت المقدس وأهدى إليه اليهود فأمّنهم أوّلا ثم عرّفه الأساقفة والرهبان بما فعلوه في الكنائس، ورآها خرابا وأخبروه بمن قتلوه من النصارى، فأمر هرقل بقتلهم فلم ينج منهم إلّا من اختفى أو أبعد المفرّ إلى الجبال والبراري، وأمر بالكنائس فبنيت. وفي العاشرة من ملكه قدم أندراسكون بطركا لليعاقبة بإسكندرية فأقام ست سنين   [1] مدينة قديمة في العراق العجمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 خربت فيها الديور، ثم مات فجعل مكانه بنيامين فمكث سبعا وثلاثين سنة ومات، والفرس يومئذ قد ملكوا مصر والإسكندرية. وأمّا هرقل فسار من بيت المقدس إلى مصر وملكها وقتل الفرس، وولّى على الإسكندرية فوس وكان أمانيّا وجمع له بين البطركة والولاية. ورأى بنيامين البطرك في نومه شخصا يقول قم فاختف إلى أن يجوز غضب الرب فاختفى، وتقبّض هرقل على أخيه مينا وأراده على الأخذ بالأمانة الخلقدونية فامتنع فأحرقه بالنار ورمى بجثته في البحر. ثم عاد هرقل إلى قسطنطينية بعد أن جمع الأموال من دمشق وحمص وحماة وحلب وعمّر البلاد، إلى أن ملك مصر عمرو بن العاص وفتحها لثلاثمائة وسبع وخمسين لديقلاديانس، وكتب لبنيامين البطرك بالأمان فرجع إلى إسكندرية بعد أن غاب عن كرسيّه ثلاث عشرة سنة. قال ابن العميد: وانتقل التاريخ إلى الهجرة لإحدى عشرة من ملك هرقل وذلك لتسعمائة وثلاث وثلاثين للإسكندر وستمائة وأربع عشرة للمسيح. قال المسعودي: وقيل إنّ مولده عليه السلام كان لعهد نيشطيانش الثاني الّذي ذكر إنه نوسطيونس خمس عشرة سنة وهو الّذي ضرب السكّة الهرقليّة، وبعده مورق بن هرقل، قال: والمشهور بين الناس أن الهجرة وأيام الشيخين كان ملك الروم لهرقل. قال: وفي كتب السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق، ثم كان بعهد ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر، ثم هرقل بن قيصر أيام عمرو عليه كان الفتح وهو المخرج من الشام، قال ومدّة ملكهم إلى الهجرة مائة وخمس وسبعون سنة. قال الطبري: مدّة ما بين عمارة المقدس بعد تخريب بخت نصّر إلى الهجرة على قول النصارى ألف سنة وتزيد، ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة ونيف وعشرين سنة، ومنه إلى مولد عيسى ثلاثمائة وثلاث سنين، وعمره إلى رفعه اثنان وثلاثون سنة، ومن رفعه إلى الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة. وقال هروشيوش إنّ ملك هرقل كانت الهجرة في تاسعته وسمّاه هرقل بن هرقل بن أنطونيوس لستمائة وإحدى عشرة من تاريخ المسيح، ولألف ومائة من بناء رومة والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية الى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم قال ابن العميد وفي الثانية من الهجرة بعث أبرويز عساكره إلى الشام والجزيرة فملكها، وأثخن في بلاد الروم، وهدم كنائس النصارى واحتمل ما فيها من الذهب والفضة والآنية، حتى نقل الرخام الّذي كان بالمباني، وحمل أهل الرّها على رأي اليعقوبيّة بإغراء طبيب منهم كان عنده فرجعوا إليه وكانوا ملكيّة. وفي سابعة الهجرة بعث عساكر الفرس ومقدّمهم مرزبانه شهريار فدوّخ بلاد الروم وحاصر القسطنطينية، ثم تغير له فكتب إلى المرازبة معه بالقبض عليه، واتفق وقوع الكتاب بيد هرقل فبعث به إلى شهريار فانتقض ومن معه، وطلبوا هرقل في المدد فخرج معهم بنفسه في ثلاثمائة ألف من الروم وأربعين ألفا من الخزر الذين هم التركمان، وسار إلى بلاد الشام والجزيرة وافتتح مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل وفيما افتتح أرمينية، ثم سار إلى الموصل فلقيه جموع الفرس وقائدهم المرزبان فانهزموا وقتل. وأجفل أبرويز عن المدائن واستولى هرقل على ذخائر ملكهم، وكان شيرويه بن كسرى محبوسا فأخرجه شهريار وأصحابه وملكوه وعقدوا مع هرقل الصلح، ورجع هرقل إلى آمد بعد أن ولّى أخاه تداوس على الجزيرة والشام، ثم سار إلى الرّها ورد النصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الّذي أكرهوا على تركه وأقام بها سنة كاملة. وعن غير ابن العميد: وفي آخر سنة ست [1] من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتابه من المدينة مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام، ونصّه على ما وقع في صحيح البخاري «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يوتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. «ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ به شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً من دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ 3: 64» . فلمّا بلغه الكتاب جمع من كان بأرضه من قريش وسألهم عن أقربهم نسبا منه فأشاروا   [1] قوله ست أي وكان وصوله إلى هرقل سنة سبع كما صوّبه ابن حجر (قاله نصر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 إلى أبي سفيان بن حرب، فقال لهم: إنّي سائله عن شأن هذا الرجل فاستمعوا ما يقوله. ثم سأل أبا سفيان عن أحوال تجب أن تكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو ينزه عنها، وكان هرقل عارفا بذلك، فأجابه أبو سفيان عن جميع ما سأله من ذلك. فرأى هرقل أنه نبي لا محالة مع أنه كان حزّاء ينظر في علم النجوم، وكان عنده علم من القرآن الكائن قبل الملّة بظهور الملة والعرب، فاستيقن بنبوّته وصحة ما يدعو إليه حسبما ذكره البخاري في صحيحه. وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرث بن أبي شمّر الغسّانيّ ملك غسّان بالبلقاء من أرض الشام وعامل قيصر على العرب مع شجاع بن وهب الأسديّ يدعوه إلى الإسلام، قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق يهيئ النزل لقيصر حين جاء من حمص إلى إيلياء، فشغل عني إلى أن دعاني ذات يوم وقرأ كتابي وقال: من ينتزع مني ملكي أنا سائر إليه ولو كان باليمن. ثم أمر بالخيول تنعل، وكتب بالخبر إلى قيصر، فنهاه عن المسير ثم أمرني بالانصراف وزوّدني بمائة دينار. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من الهجرة جيشه الى الشام وهي غزوة مؤتة كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف وأمّر عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب فجعفر فعبد الله من رواحة. فانتهوا إلى معان من أرض الشام، ونزل هرقل صاب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم. وانضمت إليه جموع جذام والغيد وبهرام وبلى، وعلى بلى مالك بن زافلة، ثم زحف المسلمون إلى البلقاء ولقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب على مؤتة فكان التمحيص والشهادة، واستشهد زيد ثم جعفر ثم عبد الله، وانصرف خالد بن الوليد بالناس فقدموا المدينة. ووجد النبيّ صلى الله عليه وسلم على من قتل من المسلمين ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده. ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا لغزو الروم فكانت غزوة تبوك، فبلغ تبوك وأتاه صاحب أيلة وجرباء وأذرح وأعطوا الجزية وصاحب أيلة يومئذ يوحنّا بن رؤبة بن نفاثة أحد بطون جذام وأهدى له بغلة بيضاء، وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل وكان بها أكيدر بن عبد الملك فأصابوه بضواحيها في ليلة مقمرة فأسروه وقتلوا أخاه وجاءوا به إلي النبي صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وردّه الى قريته. وأقام بتبوك بعض عشرة ليلة وقفل إلى المدينة وبلغ خبر يوحنّا إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته أهـ من غير ابن العميد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 ورجعنا إلى كلامه قال: وفي الثالثة عشرة من الهجرة جهّز أبو بكر العساكر من المسلمين العرب لفتح الشام: عمرو بن العاص لفلسطين، ويزيد بن أبي سفيان لحمص، وشرحبيل بن حسنة للبلقاء، وقائدهم أبو عبيدة بن الجرّاح. وبعث خالد بن سعيد بن العاص إلى سماوة فلقيه ماهاب البطريق في جموع الروم، فهزمهم خالد إلى دمشق ونزل مرجع [1] الصفراء، ثم أخذوا عليه الطريق ونازلوه ثانية فتجهز إلى جهة المسلمين وقتل ابنه. وبعث أبو بكر خالد بن الوليد بالعراق يسير إلى الشام أميرا على المسلمين فسار ونزل معهم دمشق وفتحوها كما نذكر في الفتوحات. وزحف عمرو بن العاص إلى غيره ولقيته الروم هنالك فهزمهم وتحصّنوا ببيت المقدس وقيساريّة. ثم زحف عساكر الروم من كل جانب في مائتين وأربعين ألفا والمسلمون في بضع وثلاثين ألفا، والتقوا باليرموك فانهزم الروم وقتل منهم من لا يحصى وذلك في خامسة عشر من الهجرة. ثم تتابعت عليهم الهزائم ونازل أبو عبيدة وخالد بن الوليد حمص فصالحوهم على الجزية. ثم سار خالد إلى قنّسرين فلقيه منياس البطريق في جموع الروم فهزمهم، وقتل منهم خلق كثير وفتح قنّسرين ودوّخ البلاد، ثم سار عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فحاصروا مدينة الرملة وجاء عمر بن الخطاب إلى الشام فعقد لأهل الرملة الصلح على الجزية، وبعث عمرا وشرحبيل لحصار بيت المقدس فحاصروها، ولما أجهدهم البلاء طلبوا الصلح على أن يكون أمانهم من عمر نفسه، فحضر عندهم وكتب أمانهم ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب لأهل إيلياء إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم ونسائهم وجميع كنائسهم لا تسكن ولا تهدم» أهـ. ودخل عمر بن الخطاب بيت المقدس وجاء كنيسة القمامة [2] فجلس في صحنها، وحان وقت الصلاة فقال للبترك أريد الصلاة، فقال له: صلّ موضعك، فامتنع وصلّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا، فلمّا قضى صلاته قال للتبرك لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلى عمر، وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها. ثم قال للبترك أرني موضعا أبني فيه   [1] وفي نسخة ثانية: موضع الصفراء. [2] هي كنيسة القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 مسجدا فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دما كثيرا فشرع في إزالته وتناوله بيده يرفعه في ثوبه، واقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه، وأمر ببناء المسجد. ثم بعث عمرو بن العاص إلى مصر فحاصرها وأمدّه بالزبير بن العوام في أربعة آلاف من المسلمين فصالحهم المقوقس [1] على الجزية، ثم سار إلى الاسكندرية فحاصرها وافتتحها. وفي السابعة عشر من الهجرة جاء ملك الروم إلى حمص في جموع النصرانية وبها أبو عبيدة فهزمهم واستلحمهم، ورجع هرقل إلى أنطاكية، وقد استكمل المسلمون فتح فلسطين وطبرية والساحل كله. واستنفر العرب المتنصّرة من غسّان ولخم وجذام وقدم عليهم ماهاب البطريق وبعثه للقاء العرب، وكتب إلى عامله على دمشق منصور بن سرحون أن يمدّه بالأموال، وكان يحقد عليه نكبته من قبل، واستصفى ماله حين أفرج الفرج عن حصاره بالقسطنطينية لأول ولايته، فاعتذر العامل للبطريق عن المال وهوّن عليه أمر العرب. فسار من دمشق للقائهم ونازلهم بجابية الخولان، ثم اتبعه العامل ببعض مال جهزه للعساكر، وجاء العسكر ليلا وأوقد المشاعل وضرب الطبول ونفخ البوقان، فظنهم الروم عسكر العرب جاءوا من خلفهم وأنهم أحيط بهم، فأجفلوا وتساقطوا في الوادي وذهبوا طوائف إلى دمشق وغيرها من ممالك الروم، ولحق ماهاب بطور سيناء وترهّب إلى أن هلك. واتبع المسلمون الفل مع منصور إلى دمشق وحاصروها ستة أشهر فرّقوا على أبوابها. ثم طلب منصور العامل الأمان للروم من خالد فأمّنه، ودخل المدينة من الباب الشرقي، وتسامع الروم الذين بسائر الأبواب فهربوا وتركوها، ودخل منها الأمراء الآخرون عنوة ومنصور ينادي بأمان خالد، فاختلف المسلمون قليلا ثم اتفقوا على أمان الروم الذين كانوا بالإسكندرية بعد ان افتتحها عمرو بن العاص ركبوا إليه البحر ووافوه بها. ثم هلك هرقل لإحدى وعشرين من الهجرة ولإحدى وثلاثين من ملكه، فملك على الروم بقسطنطينية قسطنطين وقتله بعض نساء أبيه لستة أشهر من ملكه، وملك أخوه هرقل بن هرقل، ثم تشاءم به الروم فخلعوه وقتلوه وملّكوا عليهم قسنطينوس بن قسطنطين، فملك ست عشرة سنة ومات لسابعة وثلاثين من الهجرة. وفي أيامه غزا   [1] وهو قيرس وزير هرقل وبطريرك الاسكندرية ومتولي شئون مصر لما فتحها عمرو بن العاص سنة 639 م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 معاوية بلاد الروم سنة أربع وعشرين وهو يومئذ أمير على الشام في خلافة عمر بن الخطاب، فدوّخ البلاد وفتح منها مدنا كثيرة وقفل، ثم أغزى عساكر المسلمين إلى قبرص في البحر ففتح منها حصونا وضرب الجزية على أهلها سنة سبع وعشرين. وكان عمرو بن العاص لما فتح الاسكندرية كتب لبنيامين بطرك اليعاقبة بالأمان، فرجع بعد ثلاث عشرة من مغيبه، وكان ولّاه هرقل في أوّل الهجرة كما قدمنا. وملك الفرس مصر والاسكندرية عشر سنين عند حصار قسطنطينية أيام هرقل، ثم غاب عن الكرسي عند ما ملك الفرس وقدموا الملكيّة، وبقي غائبا ثلاث عشرة سنة أيام الفرس عشرة وثلاث من ملكة المسلمين، ثم أمّنه عمرو بن العاص فعاد ثم مات في تاسعة وثلاثين من الهجرة، وخلفه في مكانه أغاثوا فملك سبع عشرة سنة. ولما هلك قسنطينوس بن قسطنطين في سابعة وثلاثين من الهجرة كما قلناه ملك على الروم في القسطنطينية ابنه يوطيانوس فمكث اثني عشرة سنة وتوفي سنة خمسين، فملك بعده طيباريوس ومكث سبع سنين، وفي أيامه غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في عساكر المسلمين وحاصرها مدّة ثم أفرج عنها، واستشهد أبو أيوب الأنصاري في حصارها ودفن في ساحتها [1] ، ولما قفل عنها توعدهم بتعطيل كنائسهم بالشام إن تعرّضوا لقبره. ثم قتل طيباريوس قيصر سنة ثمان وخمسين وملك أوغسطس قيصر، وفي أيام ولايته مات أغاثوا بطرك اليعاقبة القبط باسكندرية وقدم مكانه يوحنّا. ثم قتل أوغسطس قيصر ذبحه بعض عبيده سنة [2] ، وملك ابنه أصطفانيوس وكان لعهد عبد الملك بن مروان. وفي سنة خمس وستين من الهجرة زاد عبد الملك في المسجد الأقصى وأدخل الصخرة في الحرم. ثم خلع أصطفانيوس ثم ملك بعده لاون ومات   [1] وفي الكامل ج 3 ص 459: «وتوفي أبو أيوب الأنصاري عند القسطنطينية فدفن بالقرب من سورها، فأهلها يستسقون به..» . [2] لم يحدد ابن الأثير السنة التي ملك فيها أوغسطس ولا السنة التي توفي فيها وهناك تباين في الأسماء يقول: «ثم ملك قسطنطين بن قسط ثلاث عشرة سنة بعض أيام معاوية وأيام يزيد وابنه معاوية ومروان بن الحكم وصدرا من أيام عبد الملك. ثم ملك اسطيناس المعروف بالأخرم تسع سنين أيام عبد الملك ثم خلعه الروم وخرموا أنفه، ثم ملك بعده لونطيش ثلاث سنين أيام عبد الملك ... » . اما ابن أبي اصيبعة فيقول في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء عن اوسابيوس القيسراني الّذي كان اسقف قيسارية: «وملك بعد يوليوس قيصر اوغسطس قيصر وكانت مدته ستا وخمسين سنة وستة أشهر وفي سنة ثلاث وأربعين من ملكه ولد المسيح عليه السلام» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 سنة ثمان وسبعين، وملك طيباريوس سبع سنين ومات سنة ست وثمانين، فملك سطيانوس وذلك في أيام الوليد بن عبد الملك، وهو الّذي بنى مسجد بني أمية بدمشق، يقال إنه أنفق فيه أربعمائة صندوق في كل صندوق أربعمائة عشر ألف دينار، وكان فيه من جملة الفعلة اثنا عشر ألف مرخّم، ويقال كانت فيه ستمائة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل فكانت تغشى عيون الناظرين وتفتن المسلمين فأزالها عمر بن عبد العزيز وردّها إلى بيت المال. وكان الوليد لما اعتزم على الزيادة في المسجد أمر بهدم كنيسة النصارى وكانت ملاصقة للمسجد فأدخلها فيه، وهي معروفة عندهم بكنيسة مار يوحنّا، ويقال إنّ عبد الملك طلبهم في ذلك فامتنعوا، وإن الوليد بذل لهم فيها أربعين ألف دينار فلم يقبلوا، فهدمها ولم يعطهم شيئا، وشكوا أمرها إلى عمر بن عبد العزيز وجاءوه بكتاب خالد بن الوليد وعهده أن لا تخرّب كنائسهم ولا تسكن، فراودهم على أخذ الأربعين ألفا التي بذل لهم الوليد فأبوا، فأمر أن تردّ عليهم فعظم ذلك على الناس، وكان قاضيه أبو داريس [1] الخولانيّ فقال لهم: تتركون هذه الكنيسة في الكنائس التي في [2] العنوة في المدينة وإلا هدمناها، فأذعنوا وكتب لهم عمر الأمان على ما بقي من كنائسهم. وفي سنة ست وسبعين بعث كاتب الخراج إلى سليمان بن عبد الملك بأنّ مقياس حلوان بطل فأمر ببناء مقياس في الجزيرة بين الفسطاط والجزيرة فهو لهذا العهد. وفي سنة إحدى ومائة من الهجرة ملك تدّاوس على الروم سنة ونصفا، ثم ملك بعده لاون أربعا وعشرين سنة، وبعده ابنه قسطنطين. وفي سنة ثلاث عشرة ومائة غزا هشام بن عبد الملك الصائفة اليسرى، وأخوه سلمان الصائفة اليمنى، ولقيهم قسطنطين في جموع الروم فانهزموا وأخذ أسيرا ثم أطلقوه بعد. وفي أيام مروان بن محمد وولاية موسى بن نصير لقي النصارى بالإسكندرية ومصر شدّة وأخذوا بغرامة المال واعتقل بطرك الاسكندرية أبي ميخايل، وطلب بجملة من المال فبذلوا موجودهم وانطلقوا يستسعون ما يحصل لهم من الصدقة، وبلغ ملك النوبة ما حل بهم فزحف في مائة ألف من العساكر إلى مصر، فخرج إليه عامل مصر، فرجع من غير قتال. وفي أيام   [1] وفي نسخة اخرى: ابو إدريس الخولانيّ. [2] كذا بياض بالأصل ولم يذكر ابن الأثير ولا الطبري ومقتضى سياق الجملة: «في الكنائس التي تركت لكم وكانت من الأماكن التي أخذت عنوة في المدينة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 هشام ردّت كنائس الملكيّة من أيدي اليعاقبة، وولي عليهم بطرك قريبا من مائة سنة، وكانت رياسة البطرك فيها لليعاقبة وكانوا يبعثون الأساقفة للنواحي، ثم صارت النوبة من ورائهم للحبشة يعاقبة. ثم ملك بالقسطنطينية رجل من غير بيت الملك اسمه جرجس، فبقي أيام السفّاح والمنصور وأمره مضطرب، ثم مات وملك بعده قسطنطين بن لاون وبنى المدن وأسكنها أهل أرمينية وغيرها. ثم مات قسطنطين بن لاون وملك ابنه لاون، ثم هلك لاون وملك بعده نقفور. وفي سنة سبع وثمانين ومائة غزا الرشيد هرقلة ودوّخ جهاتها، وصالحه نقفور ملك الروم على الجزية فرجع إلى الرقة وأقام شاتيا وقد كلب البرد، وأمن نقفور من رجوعهم فانتقض، فعاد إلى الرشيد وأناخ عليه حتى قرّر الموادعة والجزية عليه ورجع. ودخلت عساكر الصائفة بعدها من درب الصفصاق فدوّخوا أرض الروم، وجمع نقفور ولقيهم فكانت عليه هزيمة شنعاء قتل فيها أربعون ألفا ونجا نقفور جريحا. وفي سنة تسعين ومائة دخل الرشيد بالصائفة إلى بلاد الروم في مائة وخمسة وثلاثين ألفا سوى المطوّعة، وبث السرايا في الجهات، وأناخ على هرقلة ففتحها، وبلغ سبيها ستة عشر ألفا، وبعث نقفور بالجزية فقبل وشرط عليهم أن لا يعمر هرقلة. وهلك نقفور في خلافة الأمين وولي ابنه أستبران قيصر، وغزا المأمون سنة خمس عشرة ومائتين إلى بلاد الروم ففتح حصونا عدّة ورجع إلى دمشق. ثم بلغه أنّ ملك الروم غزا طرسوس والمصيصة وقتل منها نحوا من ألف وستمائة رجل، فرجع وأناخ على أنطواغوا حتى فتحها صلحا، وبعث المعتصم ففتح ثلاثين من حصون الروم، وبعث يحيى بن أكثم بالعساكر فدوّخ أرضهم، ورجع المأمون إلى دمشق. ثم دخل بلاد الروم وأناخ على مدينة لؤلؤة مائة يوم وجهّز إليها العساكر مع عجيف مولاه، ورجع ملك الروم فنازل عجيفا، فأمدّه المأمون بالعسكر فرحل عنه ملك الروم وافتتح لؤلؤة صلحا. ثم سار المأمون إلى بلاد الروم ففتح سلعوس والبروة وبعث ابنه العبّاس بالعساكر فدوّخ أرضهم وبنى مدينة الطوليّة ميلاد في ميل وجعل لها أربعة أبواب. ثم دخل غازيا بلاد الروم ومات في غزاته سنة ثمان عشرة ومائتين. وفي أيامه غلب قسطنطين على مملكة الروم وطرد ابن نقفور عنها، وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين فتح المعتصم عمّورية وقصّتها معروفة في أخباره. أهـ كلام ابن العميد. وأغفلنا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 كلامه أخبار البطاركة من لدن فتح الاسكندرية لأنّا رأيناه مستغنى عنه وقد صارت بطركيتهم الكبرى التي كانت بالإسكندرية بمدينة رومة، وهي هنالك للملكيّة ويسمّونه البابا ومعناه أبوا الآباء، وبقي ببلاد مصر بطرك اليعاقبة على المعاهدين من النصارى بتلك الجهات وعلى ملوك النوبة والحبشة. وأمّا المسعودي فذكر ترتيب هؤلاء القياصرة من بعد الهجرة والفتح كما ذكره ابن العميد، قال: والمشهور بين الناس أنّ الهجرة وأيام الشيخين كان ملك الروم فيها لهرقل، قال: وفي كتب أهل السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق، ثم كان بعده ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر، ثم هرقل بن قيصر أيام عمر، وعليه كان الفتح وهو المخرج من الشام أيام أبي عبيدة وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان فاستقرّ بالقسطنطينية. وبعده مورق بن هرقل أيام عثمان، وبعده مورق بن مورق أيام علي ومعاوية، وبعده قلفط بن مورق آخر أيام معاوية وأيام يزيد ومروان بن الحكم وكان معاوية يراسله ويراسل أباه مورق، وكانت تختلف إليه علامة نياق وبشّره مورق بالملك وأخبره أنّ عثمان يقتل وأنّ الأمر يرجع إلى معاوية، وهادي ابنه قلفط حين سار إلى حرب عليّ رضي الله عنه، ثم نزلت جيوش معاوية مع ابنه الزيد قسطنطينية وهلك عليها في حصاره أبو أيوب الأنصاري. ثم ملك من بعد قلفط بن مورق لاون بن قلفط أيام عبد الملك بن مروان، وبعده جيرون بن لاون أيام الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز. ثم غشيهم المسلمون في ديارهم وغزوهم في البر والبحر، ونازل مسلمة القسطنطينية، واضطرب ملك الروم وملّك عليهم جرجيس بن مرعش وملك تسع عشرة سنة ولم يكن من بيت الملك. ولم يزل أمرهم مضطربا إلى أن ملك عليهم قسطنطين بن ألبون وكانت أمّه مستبدّة عليه لمكان صغره، ومن بعده نقفور بن استيراق أيام الرشيد وكانت له معه حروب وغزاه الرشيد فأعطاه الانقياد ودفع إليه الجزية، ثم نقض العهد فتجهّز الرشيد إلى غزوة ونزل هرقلة وافتتحها سنة تسعين ومائة وكانت من أعظم مدائن الروم، وانتقاد نقفور بعد ذلك وحمل الشروط. وملك بعده استيراق بن نقفور أيام الأمين، وغلب عليه قسطنطين ابن قلفط وملك أيام المأمون، وبعده نوفيل أيام المعتصم واستردّ زبطرة ونازل عمّورية وافتتحها وقتل من كان بها من أمم النصرانية. ثم ملك ميخايل بن نوفيل أيام الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين، ثم تنازع الروم وملكوا عليهم نوفيل بن ميخاييل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 ثم غلب على الملك بسيل الصقلبي ولم يكن من بيت الملك وكان ملكه أيام المعتز والمهتدي وبعضا من أيام المعتمد، ومن بعده إليون بن بسيل بقية أيام المعتمد وصدرا من أيام المعتضد. ومن بعده الإسكندروس ونقموا سيرته فخلعوه وملّكوا أخاه لاوي بن إليون بقية أيام المعتضد والمكتفي وصدرا من أيام المقتدر، ثم هلك وملك ابنه قسطنطين صغيرا وقام بأمره أرمنوس بطريق البحر وزوّجه ابنته ويسمى الدمستق وهو الّذي كان يحارب سيف الدولة ملك الشام من بني حمدان، واتصل ذلك أيام المقتدر والقاهر والراضي والمتّقي. وافترق أمر الروم وأقام بعض بطارقتهم ويعرف أستفانس في بعض النواحي وخوطب بالملك أرمنوس بطركا بكرسي القسطنطينية. إلى هنا انتهى كلام المسعودي. وقال عقبه: فجميع سني الروم المتنصرة من أيام قسطنطين بن هلانة إلى عصرنا وهو حدود الثلاثمائة والثلاثين للهجرة خمسمائة سنة وسبع سنين، وعدد ملوكهم أحد وأربعون ملكا، قال: فيكون ملكهم إلى الهجرة مائة وخمسا وسبعين سنة. أهـ كلام المسعودي. وفي تاريخ ابن الأثير: إنّ أرمانوس لما مات ترك ولدين صغيرين، وكان الدمستق على عهده قوقاش وملك ملطية من يد المسلمين بالأمان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وكان أمر الثغور لسيف الدولة بن حمدان، وملك قوقاش مرعش وعرزرية وحصونهما وأوقع بجابية طرسوس مرارا، وسار سيف الدولة في بلادهم فبلغ خرشنة وصارخة ودوّخ البلاد وفتح حصونا عدّة ثم رجع. ثم ولّى أرمانوس نقفور دمستقا، واسم الدمستق عندهم على من يلي شرقي الخليج حيث ملك ابن عثمان لهذا العهد، فأقام نقفور دمستقا، وهلك أرمانوس وترك ولدين صغيرين، وكان نقفور غائبا في بلاد المسلمين فلمّا رجع اجتمع إليه زعماء الروم وقدّموه لتدبير أمر الولدين وألبسوه التاج، وسار إلى بلاد المسلمين سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة إلى حلب فهزم سيف الدولة وملك البلد وحاصر القلعة فامتنعت عليه، وقتل ابن أخت الملك في حصارها فقتل جميع الأسرى الذين عنده. ثم بنى سنة ست وخمسين مدينة بقيسارية ليجلب منها على بلاد الإسلام، فخافه أهل طرسوس واستأمنوا إليه فسار إليهم وملكها بالأمان وملك المصيصة عنوة. ثم بعث أخاه في العساكر سنة تسع وخمسين إلى حلب فملكها، وهرب أبو المعالي بن سيف الدولة إلى البرية، وصالحه مرعويه بعد أن امتنع بالقلعة ورجع. ثم أن أمّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الملكين ابني أرمانوس اللذين كانا مكفولين له، استوحشت منه وداخلت في قتله ابن الشميشق فقتله سنة ستين. وقام ابن أرمانوس الأكبر وهو بسيل بتدبير ملكه، وجعل ابن الشميشق دمستقا وقام على الأورق أخي نقفور، وعلى ابنه ورديس بن لاون واعتقلهما. وسار إلى الرّها وميافارقين، وعاث في نواحيهما، وصانعه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل بالمال فرجع. ثم خرج سنة اثنتين وستين، فبعث أبو تغلب ابن عمه أبا عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره وأطلقه. وكان لأمّ بسيل أخ قام بوزارتها فتحيّل في قتل ابن الشميشق بالسّمّ. ثم ولّى بسيل بن أرمانوس سقلاروس دمستقا، فعصى عليه سنة خمس وستين وطلب الملك لنفسه، وغلبه بسيل. ثم خرج على بسيل ورد بن منير من عظماء البطارقة، واستجاش بأبي تغلب بن حمدان وملكوا الأطراف، وهزم عساكر بسيل مرّة بعد مرّة، فأطلق ورديس لاون وهو ابن أخي نقفور من معقلة وبعثه في العساكر لقتاله فهزمه ورديس، ولحق ورد بن منير بميافارقين صريخا بعضد الدولة، وراسله بسيل في شأنه فجنح عضد الدولة إلى بسيل وقبض على ورديس واعتقله ببغداد، ثم أطلقه ابنه صمصام الدولة لخمس سنين من اعتقاله، وشرط عليه إطلاق أسرى المسلمين، والنزول عن حصون عدّة من معاقل الروم، وأن لا يغير على بلاد الإسلام. وسار فاستولى على ملطية ومضى إلى القسطنطينية فحاصرها وقتل ورديس بن لاون، واستنجد بسيل بملك الروم وزوّجه أخته ثم صالح وردا على ما بيده. ثم هلك ورد بعد ذلك بقليل واستولى بسيل على أمره وسار إلى قتال البلغار فهزمهم وملك بلادهم وعاث فيها أربعين سنة. واستمدّه صاحب حلب أبو الفضائل بن سيف الدولة، فلما زحف إليه منجوتكين صاحب دمشق من قبل الخليفة بمصر سنة إحدى وثمانين، فجاء بسيل لمدده وهزمه منجوتكين ورجع مهزوما ورجع منجوتكين الى دمشق، ثم عاود الحصار فجاء بسيل صريخا لأبي الفضائل فأجفل منجوتكين من مكانه على حلب، وسار إلى حمص وشيزر فملكها وحاصر طرابلس، وصالحه ابن مروان على ديار بكر. ثم بعث الدوقس الدمستق إلى أمامه فبعث إليه صاحب مصر أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان في العساكر فهزمه وقتله. ثم هلك بسيل سنة عشر وأربعمائة لنيّف وسبعين من ملكه وملك بعده أخوه قسطنطين وأقام تسعا ثم هلك عن ثلاث بنات، وفملّك الروم عليهم الكبرى منهنّ وأقام بأمرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 ابن خالها أرمانوس وتزوّجت به فاستولى على مملكة الروم. وكان خاله ميخاييل متحكما في دولته ومداخلا لأهله فمالت إليه الملكة وحملته على قتل أرمانوس، فقتله واستولى على الأمر. ثم أصابه الصرع وأذاه فعمد لابن أخته واسمه ميخاييل أيضا وكان أرمانوس قد خرج سنة إحدى وعشرين إلى حلب في ثلاثة آلاف مقاتل، ثم خار عن اللقاء فاضطرب ورجع واتبعه العرب فنهبوا عساكره، وكان معه ابن الدوقس من عظماء البطارقة فارتاب وقبض عليه. وخرج سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في جموع الروم فملك الرّها وسروج وهزم عساكر ابن مروان. ولما ملك ميخاييل سار إلى بلاد الإسلام فلقيه الدربريّ صاحب الشام من قبل العلويّة فهزمه واقتصر الروم بعدها عن الخروج إلى بلاد الإسلام. وملّك ميخاييل ابن أخته كما قلناه وقبض على أخواله وقرابتهم وأحسن السيرة في المملكة، ثم طلب زوجته في الخلع فأبت، فنفاها إلى بعض الجزائر واستولى على المملكة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ونكر عليه البترك ما وقع فيه فهمّ بقتله ودخل بعض حاشيته في ذلك، ونمى الخبر الى البترك فنادى في النصرانية بخلعه وحاصره في قصره واستدعى الملكة التي خلعها ميخاييل من مكانها وأعادوها إلى الملك فنفت ميخاييل كما نفاها أوّلا. ثم اتفق البترك والروم على خلع الملكة بنت قسطنطين وملّكوا أختها الأخرى تودورة وسلّموا ميخاييل لها، ثم وقعت الفتنة بين شيعة تودورة وشيعة ميخاييل واتصلت، وطلب الروم أن يملكوا عليهم من يمحو هذه الفتنة وأقرعوا على المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين منهم فملّكوه أمرهم، وتزوّج بالملكة الصغيرة تودورة وجعلت أختها الكبرى على ما بذلته لها وذلك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ثم توفي قسطنطين سنة ست وأربعين، وملك على الروم أرمانوس وقارن ذلك بظهور الدولة السّلجوقيّة واستيلاء طغرلبك على بغداد، فردّد الغزو إليهم من ناحية أذربيجان، ثم سار ابنه الملك آلب أرسلان وملك مدنا من بلاد الكرخ [1] منها مدينة آي وأثخن في بلادهم. ثم سار ملك الروم الى منبج وهزم ابن مرداس وابن حسّان وجموع العرب، فسار آلب أرسلان إليه سنة ثلاث وستين وخرج أرمانوس في مائتي ألف من الروم والعرب والدوس والكرخ ونزل على نواحي أرمينية، فزحف إليه آلب أرسلان من أذربيجان فهزمه وحصل في أسره ثم فاداه على مال يعطيه وأجروه عليه وعقد معه   [1] وفي نسخة اخرى: بلاد الكرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 صلحا. وكان أرمانوس لمّا انهزم وثب ميخاييل بعده على مملكة الروم، فلما انطلق من الأسر ورجع دفعه ميخاييل عن الملك والتزم أحكام الصلح الّذي عقده مع آلب أرسلان وترهب أرمانوس إلى هنا انتهى كلام ابن الأثير. ثم استفحل ملك الافرنج بعد ذلك واستبدّوا بملك رومة وما وراءها، وكان الروم لما أخذوا بدين النصرانية حملوا عليه الأمم المجاورين لهم طوعا وكرها، فدخل فيه طوائف من الأمم منهم الأرمن وقد تقدّم نسبهم إلى ناحور أخي إبراهيم عليه السلام وبلدهم أرمينيّة وقاعدتها خلاط، ومنهم الكرج وهم من شعوب الروم وبلادهم الخزر ما بين أرمينية والقسطنطينية شمالا في جبال ممتنعة، ومنه الجركس في جبال بالعدوة الشرقية من بحر نيطش وهم من شعوب الترك، ومنهم الروس في جزائر ببحر نيطش وفي عدوته الشمالية ومنه البلغار نسبة إلى مدينة لهم في العدوة الشمالية أيضا من بحر نيطش، ومنهم البرجان أمّة كبيرة متوغلون في الشمال لا تعرف أخبارهم لبعدها، وهؤلاء كلهم من شعوب الترك. وأعظم من أخذ به من الأمم الافرنج وقاعدة بلادهم فرنجة، ويقولون فرنسة بالسين وملكهم الفرنسيس، وهم في بسائط على عدوة البحر الرومي من شمالية وجزيرة الأندلس من ورائهم في المغرب تفصل بينهم وبينها جبال متوعرة ذات مسالك ضيقة يسمونها ألبون وساكنها الجلالقة من شعوب الافرنج، وهؤلاء فرنسة أعظم ملوك الافرنجة بالعدوة الشمالية من هذا البحر، واستولوا من الجزيرة البحرية منه على صقلّيّة وقبرص وأقريطش وجنوة، واستولوا أيضا على قطعة من بلاد الأندلس إلى برشلونه، واستفحل ملكهم بعد القياصرة الأول. ومن أمم الافرنجة البنادقة وبلادهم حفافي خليج يخرج من بحر الروم متضايقا إلى ناحية الشمال ومغربا بعض الشيء على سبعمائة ميل من البحر وهذا الخليج مقابل لخليج القسطنطينية، وفي القرب منه وعلى ثمان مراحل من بلاد جنوة، ومن ورائها مدينة رومة حاضرة الافرنجة ومدينة ملكهم وبها كرسي البطرك الأكبر الّذي يسمونه البابا. ومن أمم الافرنجة الجلالقة وبلادهم الأندلس وهؤلاء كلهم دخلوا في دين النصرانية تبعا للروم إلى من دخل فيه منهم من أمم السودان والحبشة والنوبة، ومن كان على ملكة الروم من برابرة العدوة بالمغرب مثل نغزاوة وهوارة بإفريقية والمصامدة بالمغرب الأقصى، واستفحل ملك الروم ودين النصرانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 ولما جاء الله بالإسلام وغلب دينه على الأديان وكانت مملكة الروم قد انتشرت في حفافي البحر الرومي من عدوتيه، فانتزعوا منهم لأوّل أمرهم عدوته الجنوبية كلّها من الشام ومصر وإفريقية والمغرب وأجازوا من خليج طنجة فملكوا الأندلس كلّها من يد القوط والجلالقة وضعف أمر الروم وملكهم بعد الانتهاء إلى غايته شأن كل أمّة. ثم شغل الافرنجة بما دهمهم من العرب في الأندلس والجزائر بما كانوا يتخيمونهم ويردّدون الصوائف إلى بسائطهم أيام عبد الرحمن الداخل وبنيه الأندلس، وعبد الله الشيعي وبنيه بإفريقية. وملكوا عليهم جزائر البحر الرومي التي كانت لهم مثل صقلّيّة وميورقة ودانية وأخواتها، إلى أن فشل ربح الدولتين وضعف ملك العرب، فاستفحل الافرنجة ورجعت لهم واسترجعوا ما ملكه المسلمون إلّا قليلا بسيف البحر الرومي مضايق العرض في طول أربع عشرة مرحلة واستولوا على جزائر البحر كلّها، ثم سموا إلى الشام وبيت المقدس مسجد أنبيائهم ومطلع دينهم فسربوا إليه آخر المائة الخامسة، وتواثبوا على الأمصار والحصون وسواحله. ويقال: إنّ المستنصر العبيديّ هو الّذي دعاهم لذلك وحرّضهم عليه لما رجى فيه من اشتغال ملوك السلجوقيّة بأمرهم، وإقامتهم سدا بينه وبينهم عند ما سموا إلى ملك الشام ومصر. وكان ملك الافرنجة يومئذ اسمه بردويل [1] وصهره زجار [2] ملك صقلّيّة من أهل طاعته، فتظاهروا على ذلك وساروا إلى القسطنطينية سنة إحدى وتسعين ليجعلوها طريقا إلى الشام، فمنعهم ملك الروم يومئذ ثم أجازهم على أن يعطوه ملطية إذا ملوكها فقبلوا شرطه. ثم ساروا إلى بلاد ابن قلطمش، وقد استولى يومئذ على مرية وأعمالها وأرزن الروم وأقصر وسيواس، وافتتح تلك الأعمال كلّها عند هبوب ريح قومه على السلجوقيّة، ثم حدثت الفتنة بينهم وبين الروم بالقسطنطينية، واستنجد كل منهم بملوك المسلمين في ثغور الشام والجزيرة، وعظمت الفتن في تلك الآفاق ودامت الحال على ذلك نحوا من مائة سنة وملك الروم بالقسطنطينية في تناقص واضمحلال. وكان زجار صاحب صقلّيّة يغزو القسطنطينية من البحر ويأخذ ما يجد في مرساها من سفن التجار وشواني [3] المدينة، ولقد دخل جرجي بن ميخاييل صاحب أسطوله الى   [1] وهو بودوان. [2] وفي نسخة اخرى: روجيه. [3] الشونة: المركب المعد للجهاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 مينا القسطنطينية سنة أربع وأربعين وخمسمائة ورمى قصر الملك بالسهام، فكانت تلك أنكى على الروم من كل ناحية. ثم كان استيلاء الإفرنج على القسطنطينية آخر المائة السادسة وكان من خبرها أنّ ملك الروم بالقسطنطينية أصهر إلى الفرنسيس عظيم ملوك الافرنج في أخته فزوّجها له الفرنسيس وكان له منها ابن ذكر، ثم وثب بملك الروم أخوه فسمله وملك القسطنطينية مكانه. ولحق الابن بخاله الفرنسيس صريخا [1] به على عمه فوجده قد جهز الأساطيل الارتجاع بيت المقدس، واجتمع فيها ثلاثة من ملوك الافرنجة بعساكرهم دوقس البنادقة صاحب المراكب البحرية وفي مراكبه كان ركوبهم، وكان شيخا أعمى نقّادا ذا ركب والمركس [2] مقدّم الفرنسيس وكيدفليد وهو أكبرهم، فأمر الفرنسيس بالجواز على القسطنطينة ليصلحوا بين ابن أخته وبين عمّه ملك الروم، فلمّا وصلوا إلى مرسى القسطنطينية، خرج عمّه وحار بهم فهزموه ودخلوا البلد وهرب الى أطراف البلد وقتل حاضروه وأضرموا النار في البلد، فاشتغل الناس بها وأدخل الصبي بشيعته، فدخل الافرنج معه وملكوا البلد وأجلسوا الصبي في ملكه وساء أثرهم في البلد، وصادروا أهل النعم وأخذوا أموال الكنائس، وثقلت ووطأتهم على الروم فعقلوا الصبي وأخرجوهم واستدعوا ملكهم عمّ الصبيّ من مكان مقرّه وملّكوه عليهم. وحاصرهم الإفرنج فاستنجد بسليمان بن قليج أرسلان صاحب قونية وبلاد الروم شرقي الخليج، وكان في البلد خلق من الإفرنج، فقبل أن يصل سليمان ثاروا فيها وأضرموا النيران حتى شغل بها الناس، وفتحوا الأبواب فدخل الإفرنج واستباحوها ثمانية أيام حتى أقفرت، واعتصم الروم بالكنيسة العظمى منها وهي مموقيا [3] . ثم خرجت جماعة القسيسين والأساقفة والرهبان، وفي أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم أجمعين، ولم يراعوا لهم ذمّة ولا عهدا، ثم خلعوا الصبي واقترعوا ثلاثتهم على الملك فخرجت القرعة على كيدفليد كبيرهم فملّكوه على القسطنطينية وما يجاورها، وجعلوا لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل أقريطش ورودس وغيرهما، وللمركيس مقدم   [1] أي مستغيثا. [2] الدوقس وهو الدوق والمركس هو المركيز. [3] هي كنيسة أياصوفيا أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الفرنسيس البلاد التي في شرقي الخليج. ثم تغلّب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري ودفع عنها الإفرنج وبقيت بيده واستولى بعدها على القسطنطينية، وكان اسمه ميخاييل، وفي كتاب المؤيد صاحب حماة أنه أقام ببعض الحصون. ثم بنيت القسطنطينية وملكها وفّر الافرنج في مراكبهم وملك الروم وقتل الّذي كان ملكا قبله، وتوفي سنة إحدى وثمانين وستمائة وعقد معه الصلح المنصور قلاون صاحب مصر والشام لذلك العهد. قال: وملك بعده ابنه ماند ويلقّب الدوقس وشهرتهم جميعا اللشكري [1] ثم انقرضت دولة بني قليج أرسلان، وملك أعمالهم التتر كما نذكر في أخبارهم، وبقي بني اللشكري ملوكا على القسطنطينية إلى هذا العهد، وملك شرقي الخليج بعد انقضاء دولة التتر من بلاد الروم ابن عثمان جقّ أمير التركمان، وهو الآن متحكّم على صاحب القسطنطينية ومتغلب على نواحيه من سائر جهاته. هذا ما بلغنا من أخبار الروم من أوّل دولتهم منذ يونان والقياصرة لهذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالأندلس الى حين الفتح الإسلامي وأوّلية ذلك ومصايره هذه الأمة من أمم أهل الدولة العظيمة المعاصرة لدول الطبقة الثانية من العرب وقد ذكرناهم عقب اللطينيين لأنّ الملك صار إليهم من بينهم كما ذكرناه، وسياقة الخبر عنهم أنهم كانوا يعرفون في الزمن القديم بالسيسيين [2] نسبة إلى الأرض التي كانوا يعمّرونها بالمشرق فيما بين الفرس واليونان، وهم في نسبهم إخوة الصين من ولد ماغوغ بن يافث، وكانت لهم مع الملوك السريانيّين حروب موصوفة زحف إليهم فيها مومن مالي ملك سريان فدافعوه لعهد إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم كانت لهم حروب مع الفرس عند تخريب بيت المقدس وبناء رومة، ثم غلبهم الإسكندر وصاروا في ملكته واندرجوا في قبائل الروم ويونان. ثم لما ضعف أمر الروم بعد الإسكندر وتغلبوا على بلاد الغريقيّين ومقدونية ونبطة أيام غلبنوش بن بارايان من ملوك القياصرة وكانت   [1] وفي نسخة ثانية: السلكري. [2] وهم السكيثيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 بينه [1] وبينه حروب سجال، ثم غلبهم القياصرة من بعده وظفروا بهم، حتى إذا انتقل القياصرة إلى القسطنطينية وفشل أمرهم برومة زحف إليها هؤلاء القوط واقتحموها عنوة فاستباحوها. ثم خرجوا عنها أيام طودوشيش بن أركاديش [2] بعد حروب كثيرة، وكان أميرهم لذلك العهد أنطرك كما ذكرناه، ومات لعهد طودوشيش وأراد أن يجعل اسمه سمة الملوك برومة منهم مكان سمة قيصر، فاختلف عليه أصحابه في ذلك فرجع عنه، ثم صالح الرومانيين على أن يكون له ما يفتح من بلاد الأندلس لما كان امر الرومانيين قد ضعف عن الأندلس ولحق بها ثلاث طوائف من الغريقيّين فاقتسموا ملكها وهم الأبيون والشوانيّون والقندلش وباسم قندلس سميت الأندلس. وكان بالأندلس من قبلهم الأرباريّون من ولد طوال بن يافث وهم إخوة الأنطاليس، سكنوها من بعد الطوفان وصاروا إلى طاعة أهل رومة، حتى دخل إليهم هؤلاء الطوالع من الغريقيين عند ما اقتحم القوط مدينة رومة وغلبوا الأمم الذين كانوا بها من ولد طوال. وقد يقال: إنّ هؤلاء الطوالع كلهم من ولد طوال بن يافث وليسوا من الغريقيّين، واقتسم هؤلاء الطوالع ملكها وكانت جليقية لقندلش ولشبونة وماردة وطليطلة ومرسية لشوانش وكانوا أشرافهم. وكانت إشبيليّة وقرطبة وجيان وطالعة للأبيق وأميرهم عندريقش أخو لشيقش أربعين سنة حين زحف إليهم القوط من رومة، وكان قد ولي عليهم بعد أطفانش ملك آخر منهم اسمه طشريك وقتله الرومانيون، وولي مكانه منهم ماستة ثلاث سنين وزوّج أخته من طودوشيش ملك الرومانيين وصالحه على أن يكون له ما يفتحه من الأندلس. ثم مات وولي مكانه لزريق ثلاث عشرة سنة وهو الّذي زحف إلى الأندلس وقتل ملوكها وطرد الطوائف الذين كانوا بها فأجازوا إلى طنجة وتغلبوا على بلاد البربر وصرفوا البربر الذين كانوا بالعدوة عن طاعة القسطنطين إلى طاعتهم، فلم يزالوا على ذلك إلى دولة يشتيانش [3] نحوا من ثمانين سنة، ثم هلك طورديق [4] ملك القوط بالأندلس وولي مكانه [5]   [1] مقتضى السياق: كانت بينهم وبينه. [2] وفي نسخة اخرى: طودوسيوس بن أركاديوس. [3] وهو يوستنيانوس. [4] وفي نسخة اخرى: طوريق. [5] بياض بالأصل وهو أدولف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 سبع عشرة سنة، وانتقض عليه البسكتس إحدى طوائف القوط فزحف إليهم وردّهم إلى طاعته ثم هلك. وولي بعده الديك ثلاثا وعشرين سنة، وكانت الافرنج لعهده قد طمعوا في ملك الأندلس وأن يغلبوا عليها القوط، فجمعوا لهم وملكوا على أنفسهم منهم، فزحف إليهم الديك في أمم القوط إلى أن توغل في بلاد الافرنج فغلبوه وقتلوه وعامة أصحابه. وكانت القوط قبل دخولهم إلى الأندلس فرقتين كما ذكرنا في دولة بلنسيان بن قسطنطين من القياصرة المتنصّرة، وكانت إحدى الفرقتين قد أقامت بمكانها من نواحي رومة فلما بلغهم خبر الديك صاحب الأندلس منهم امتعضوا لذلك، وكان أميرهم طورديك منهم، فزحف إلى الافرنج وغلبهم على ما كانوا لملكونه من الأندلس، ودخل القوط الذين كانوا بالأندلس في طاعته فولّى عليهم ابنه أشتريك ورجع إلى مكانه من نواحي رومة، فزحف الافرنج إلى محاربة أشتريك حتى غلبوه على طلوسة من ناحيتهم. وهلك أشتريك بعد خمس سنين من ملكه وولي عليهم بعده بشليقش أربع سنين، ثم بعده طودريق إحدى وستين سنة وقتله بعض أصحابه بأشبيليّة، وولي بعده أبرليق خمس سنين، وبعده طودس ثلاث عشرة سنة، وبعده طودشكل سنتين، وبعده أيلة خمس سنين وانتقض عليه أهل قرطبة فحاربهم وتغلب عليهم. وبعده طنجاد خمس عشرة سنة، وبعده ليولة سنة واحدة، وبعده لوبليدة ثماني عشرة سنة وانتقضت عليه الأطراف فحاربهم وسكنهم ونكر عليه النصارى تثليث أريش وراودوه على الأخذ بتوحيدهم الذين [1] يزعمونه فأبى وحاربهم فقتل. وولي ابنه زدريق ست عشرة سنة ورجع إلى توحيد النصارى بزعمهم وهو الّذي بنى البلاد المنسوبة إليه بقرطبة. ولما هلك ولي بعده على القوط ليوبة سنتين، وبعده تبديقا عندمار سنتين، وبعده شيشوط ثماني سنين وعلى عهده كان هرقل ملك قسطنطينية والشام، ولعهده كانت الهجرة. وهلك شيشوط ملك القوط وولي بعده زدريق آخر منهم ثلاثة أشهر، وبعده شتلة ثلاث سنين، وبعده سنشادش خمس سنين، وبعده خنشوند سبع سنين، وبعده وجنشوند ثلاثا وعشرين سنة، ولهذه العصور ابتدأ ضعف الأحكام للقوط. وبعده   [1] مقتضى السياق: الّذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 مانيه ثمان سنين، وبعده لوري ثمان سنين، وبعده ايقه ست عشرة سنة، وبعده غطسة أربع عشرة سنة وهو الّذي وقع من قصته مع ابنه يليان عامل طنجة ما وقع. ثم بعده زدريق سنتين وهو الّذي دخل عليه المسلمون وغلبوه على ملك القوط وملكوا الأندلس، ولذلك العهد كان الوليد بن عبد الملك حسبما نذكره عند فتح الأندلس إن شاء الله تعالى. هذه سياقة الخبر عن هؤلاء القوط نقلته من كلام هروشيوش وهو أصح ما رأيناه في ذلك والله سبحانه وتعالى الموفق المعين بفضله وكرمه لا ربّ غيره ولا مأمول إلّا خيره. الطبقة الثالثة من العرب وهم العرب التابعة للعرب وذكر افاريقهم وأنسابهم وممالكهم وما كان لهم من الدول على اختلافها والبادية والرحالة منهم وملكها هذه الأمّة من العرب البادية أهل الخيام الذين لا إغلاق لهم لم يزالوا من أعظم أمم العالم وأكثر أجيال الخليقة، يكثرون الأمم تارة وينتهى إليهم العزّ والغلبة بالكثرة فيظفرون بالملك ويغلبون على الأقاليم والمدن والأمصار، ثم يهلكهم الترفه والتنعّم ويغلبون عليهم ويقتلون ويرجعون إلى باديتهم، وقد هلك المتصدّرون منهم للرئاسة بما باشروه من الترف ونضارة العيش وتصيير الأمر لغيرهم من أولئك المبعدين عنهم بعد عصور أخرى. هكذا سنّة الله في خلقه وللبادية منهم مع من يجاورهم من الأمم حروب ووقائع في كل عصر وجيل بما تركوا من طلب المعاش، وجعلوا طلب المعاش رزقهم في معاشهم بترصد السبيل وانتهاب متاع الناس. ولما استفحل الملك للعرب في الطبقة الأولى للعمالقة، وفي الثانية للتبابعة، وكان ذلك عن كثرتهم فكانوا منتشرين لذلك العهد باليمن والحجاز ثم بالعراق والشام، فلما تقلّص ملكهم وكانوا [1] بالعراق منهم بقيّة أقاموا ضاحين [2] من ظل الملك. يقال في مبدإ كونهم هنالك أنّ بخت نصّر لمّا سلطه الله على العرب وعلى بني إسرائيل بما كانوا من بغيهم وقتلهم الأنبياء، قتل أهل الوبر بناحية عدن اليمن نبيّهم شعيب بن ذي   [1] الأصح ان يقول: وكان بالعراق منهم بقية. [2] بمعنى بعيدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 مهدم على ما وقع في تفسير قوله تعالى: «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ 21: 12» . فأوحى الله إلى إرمياء بن حزقيّا وبرخيا أن يسيّرا بخت نصّر إلى العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم أن يقتل ولا يستحيى ويستلحمهم أجمعين ولا يبقى منهم أثرا، وقال بخت نصّر: وأنا رأيت مثل ذلك. وسار إلى العرب، وقد نظم ما بين أيلة والأبلّة خيلا ورجلا، وتسامع العرب بأقطار جزيرتهم واجتمعوا للقائه، فهزم عدنان أولا ثم استلحم الباقين ورجع إلى بابل، وجمع السبايا فأنزلهم بالأنبار ثم خالطهم بعد ذلك النبطة. وقال ابن الكلبي: إنّ بخت نصّر لما نادى بغزو العرب افتتح أمره بالقبض على من كان في بلاده من تجّارهم للميرة وأنزلهم الحيرة، ثم خرج إليهم في العساكر فرجعت قبائل منهم إليه آثروا الإذعان والمسالمة، وأنزلهم بالسواد على شاطئ الفرات، وابتنوا موضع عسكرهم وسموه الأنبار، ثم أنزلهم الحيرة فسكنوها سائر أيامه ورجعوا إلى الأنبار بعد مهلكه. قال الطبري: إن تبّعا أبا كرب لما غزا العراق أيام أردشير بهمن كانت طريقه على جبل طيِّئ ومنه إلى الأنبار، وانتهى إلى موضع الحيرة ليلا، فتحير وأقام فسمّي المكان الحيرة. ثم سار لوجهه وخلّف هنالك قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، وطنوا وبنوا ولحق بهم ناس من طيِّئ وكلب والسكون وإياد والحرث بن كعب فكانوا معهم. وقيل وهو قريب من الأوّل: خرج تبّع في العرب حتى تحيروا بظاهر الكوفة فنزل بها ضعفاء الناس فسميت الحيرة، ولما رجع ووجدهم قد استوطنوا، تركهم هنالك وفيهم من كل قبائل العرب من هذيل ولخم وجعفي وطيِّئ وكلب وبني لحيان من جرهم. قال هشام بن محمد: لما مات بخت نصّر انتقل الذين أسكنهم بالحيرة إلى الأنبار ومعهم من انضم إليهم من بني إسماعيل وبني معدّ وانقطعت طوالع العرب من اليمن عنهم، ثم كثر أولاد معدّ وفرقتهم العرب، وخرجوا يطلبون المنسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، ونزلت قبائل منهم البحرين وبها يومئذ قوم من الأزد نزلوها أيام خروج مزيقياء من اليمن، وكان الذين أقبلوا من تهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة وابن أخيهما مالك بن زهير وابن عمرو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 بن فهم في جماعة من قومهم والخنفار بن الحيق بن عمرو بن معدّ بن عدنان في قفص كلها ولحق بهم غطفان بن عمرو بن لطمان بن عبد مناف بن بعدم بن دعمي بن أياد بن أرقص بن صبيح بن الحارث بن أفصى بن دعمي وزهير بن الحرث بن أليل بن زهير بن أياد، واجتمعوا بالبحرين وتحالفوا على المقام والتناصر وأنهم يد واحدة، وكان هذا الاجتماع والحلف أزمان الطوائف، وكان ملكهم قليلا ومفترقا وكان كل واحد منهم يغير على صاحبه ويرجع على أكثر من ذلك. فتطلعت نفوس العرب بالبحرين إلى ريف العراق، وطمعوا في غلب الأعاجم عليه أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا الخلاف الّذي كان بين الطوائف وأجمع رؤساؤهم المسير إلى العراق. فسار منهم الأوّل الخنفار بن الحبق في أشلاء قفص بن معدّ ومن معهم من أخلاط الناس، فوجدوا بأرض بابل الى الموصل بني إرم بن سام الذين كانوا ملوكا بدمشق، وقيل لها من أجلهم دمشق إرم وهم من بقايا العرب الأولى، فوجدوهم يقاتلون ملوك الطوائف، فدفعوهم عن سواد العراق، فارتفعوا عنه إلى أشاء قفص، هؤلاء ينسبون إلى عمرو بن عديّ بن ربيعة جدّ بني المنذر عند نسابة مضر، وفي قول حمّاد الراوية كما يأتي ذكره. ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم وابن مالك بن زهير من قضاعة وغطفان بن عمرور وصبح بن صبيح وزهير بن الحرث من أياد فيمن معهم من غسّان وحلفائهم بالأنبار، وكلهم تنوخ كما قدمنا، فغلبوا بني إرم ودفعوهم عن جهات السواد. وجاء على أثرهم نمارة بن قيس ونمارة بن لخم نجدة من قبائل كندة، فنزلوا الحيرة وأوطنوها، وأقامت طالعة الأنبار وطالعة الحيرة لا يدينون للأعاجم ولا تدين لهم حتى مرّ بهم تبّع وترك فيهم ضعفة عساكره كما تقدّم، وأوطنوا فيهم من كل القبائل كما ذكرنا جعف وطيِّئ وتميم وبني لحيان من جرهم. ونزل كثير من تنوّخ ما بين الحيرة والأنبار بادين في الخيام لا يأوون إلى المدن ولا يخالطون أهلها، وكانوا يسمّون عرب الضاحية، وأوّل من ملكه منهم أزمان الطوائف مالك بن فهم، وبعده أخوه عمرو، وبعده ابن أخيه جذيمة الأبرش كما يأتي ذكر ذلك كله. وكان أيضا ولد عمرو مزيقياء بعد خروجه من اليمن بالأزد قومه عند خروجه أنذرهم بسيل العرم في القصة المشهورة، وقد انتشروا بالشام والعراق وتخلّف من تخلّف منهم بالحجاز وهم خزاعة، فنزلوا مرّ الظهران وقاتلوا جرهما بمكّة فغلبوهم عليها، ونزل نصر بن الأزد عمان، ونزلت غسّان جبال الشراة، وكانت لهم حروب مع بني معدّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 إلى أن استقروا هنالك في التخوم بين الحجاز والشام، هذا شأن من أوطن العراق والشام من قبائل سبا، تشاءم منهم أربعة وبقي باليمن ستة وهم مذجح وكندة والأشعريّون وحمير وأنمار وهو أبو خثعم وبجيلة، فكان الملك لهؤلاء باليمن في حمير ثم التبابعة منهم، ويظهر من هذا أنّ خروج مزيقياء والأزد كان لأوّل ملك التبابعة أو قبله بيسير. وأمّا بنو معدّ بن عدنان فكان إرميا وبرخيا لما أوحي إليهما بغزو بخت نصّر العرب، وأمرهما الله أن يستخرجا معدّ بن عدنان لأنّ من ولده محمدا صلى الله عليه وسلم، أخرجه آخر الزمان أختم به النبيّين وأرفع به من الضعة، فأخرجاه على البراق وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وذهبا به إلى حرّان فربي عندهما. وغزا بخت نصّر العرب واستلحمهم وهلك عدنان وبقيت بلاد العرب خرابا، ثم هلك بخت نصّر فخرج معدّ بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل، فحجّوا جميعا وطفق يسأل عمن بقي من ولد الحرث بن مضاض الجرهميّ. وكانت قبائل دوس [1] أكثر جرهم على يده فقيل له بقي جرهم بن جلهة [2] ، فتزوّج ابنته معانة وولدت له نزار بن معدّ. قال السهيليّ، وكان رجوع معدّ إلى الحجاز بعد ما رفع الله بأسه عن العرب، ورجعت بقاياهم التي كانت بالشواهق إلى مجالاتهم بعد أن دوّخ بخت نصّر بلادهم وخرّب معمورهم واستأصل حضورا وأهل الرسّ التي كانت سطوة الله بالعرب من أجلهم. أهـ. كلام السهيليّ. ثم كثر نسل معدّ في ربيعة ومضر وأياد، وتدافعوا إلى العراق والشام، وتقدّم منهم أشاء قفص- كما ذكرنا- وجاءوا على أثرهم، فنزلوا مع أحياء اليمنيّة الذين ذكرناهم قبل، وكانت لهم مع تبّع حروب وهو الّذي يقول: لست بالتّبع اليماني إن لم ... تركض الخيل في سواد العراق أو تؤدّي ربيعة الخرج قسرا ... لم تعقها موانع العوّاق ثم كان بالعراق والشام والحجاز أيام الطوائف ومن بعدهم في أعقاب ملك التبابعة اليمنية والعدنانية ملك ودول بعد أن درست الأجيال قبلهم وتبدّلت الأحوال السابقة   [1] كذا بياض بالأصل: وفي تاريخ الطبري ج 2 ص 191: وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهميّ وهو الّذي قاتل دوس العتق فافنى أكثر جرهم على يديه فقيل له: بقي جرشم بن جلهمة. [2] وفي الكامل اسمه: جوشم بن جلهمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 لعصرهم، فاستحق بذلك أن يكون جيلا منفردا عن الأوّل، وطبقة مباينة للطباق السالفة. ولما لم يكن لهم أثر في إنشاء العروبيّة كما للعرب العاربة، ولا في لغتها عنهم كما في المستعربة، وكانوا تبعا لمن تبعهم في سائر أحوالهم استحقوا التسمية بالعرب التابعة للعرب. واستمرت الرئاسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآمادا بما كانت صبغتها لهم من قبل وأحياء مضر وربيعة تبعا لهم، فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسّان في بني جفنة، وبيثرب كذلك في الأوس والخزرج ابني قيلة. وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ظواعن بادية وأحياء ناجعة، وكانت في بعضهم رياسة بدوية وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء، ثم نبضت عروق الملك في مضر وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز أزمنة عرف فيها منهم ودانت الدول بتعظيمهم. ثم صبح الإسلام أهل هذا الجيل وأمرهم على ما ذكرناه فاستحالت صبغة الملك إليهم، وعادت الدول لمضر من بينهم، واختصت كرامة الله بالنّبوّة بهم، فكانت فيهم الدول الإسلامية كلّها، إلّا بعضا من دولها قام بها العجم اقتداء بالملّة وتمهيدا للدّعوة حسبما نذكر ذلك كله. فلنأت الآن بذكر قبائل هذه الطبقة من قحطان وعدنان وقضاعة، وما كان لكل واحدة منها من الملك قبل الإسلام وبعده: ومن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني في أخبار خزيمة بن نهد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة قال: كان بدء تفرّق بني إسماعيل من تهامة ونزوعهم عنها إلى الآفاق وخروج من خرج منهم عن نسبه، أنّ قضاعة كانوا مجاورين لنزار وكان خزيمة بن نهد فاسقا متعرّضا للنساء، فشبب بفاطمة بنت يذكر وهو عامر بن عنزة، وذكرها في شعره حيث يقول: إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا وحالت دون ذلك من هموم ... هموم تخرج الشجر الربينا أري ابنة يذكر ظعنت فحلّت ... جنوب الحزن يا شحطا مبينا وسخط ذلك يذكر خشية خزيمة على نفسه فاغتاله وقتله، وانطفت نار يذكر ولم يصح على خزيمة شيء تتوجه به المطالبة على قضاعة حتى قال في شعره: فاه كان عند رضاب العصير ... ففيها يعلّ به الزنجبيل قتلت أباها على حبّها ... فتبخل إن بخلت أو تقيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 فلما سمعت نزار شعر خزيمة بن نهد وقتله يذكر بن عنزة، ثاروا مع قضاعة وتساندوا مع أحياء العرب الذين كانوا معهم، وكانت هذه مع نزار ونسبها يومئذ كندة بن جنادة بن معدّ، وجيرانهم يومئذ أجأ بن عمرو بن أدّ بن أدد ابن أخي عدنان بن أدد. وكانت قضاعة تنتسب إلى معدّ ومعدّ إلى عدنان، والأشعريون إلى الأشعر بن أدد أخي عدنان، وكانوا يظعنون من تهامة إلى الشام ومنازلهم بالصفاع. وكانت عسقلان من ولد ربيعة، وكانت قضاعة ما بين مكة والطائف، وكندة من العمد إلى ذات عرق، ومنازل أجأ والأشعر ومعدّ ما بين جدّة والبحر. فلما اقتتلوا هزمت نزار قضاعة وقتل خزيمة وخرجوا مفترقين، فسارت تيم اللات من قضاعة وبعض بني رفيدة منهم وفرقة من الأشعريين نحو البحرين، ونزلوا هجر وأجلوا من كان بها من النبط وملوكها. وكانت الزرقاء بنت زهير كاهنة منهم فتكهنت لهم بنزول ذلك المكان والخروج عن تهامة وقالت في شعرها: ودّع تهامة لا وداع مخالف ... بذمامه لكن قليّ وملام لا تنكري هجرا مقام غريبة ... لن تعدمي من ظاعنين تهام ثم تكهنت لهم في سجع بأنهم يقيمون بهجر حتى ينعق غراب أبقع عليه خلخال ذهبا ويقع على نخلة وصفتها فيسيرون إلى الحيرة، وكان في سجعها مقام وتنوخ فسمّيت تلك القبائل تنوخ من أجل هذه اللفظة. ولحق بهم قوم من الأزد فدخلوا في تنوخ وأصاب بقية قضاعة الموتان، وسارت فرقة من بني حلوان فنزلوا عبقرة من أرض الجزيرة ونسج نساؤهم البرود العبقرية من الصوف والبرود التزيدية إليهم لأنهم بنو تزيد، وأغارت عليهم الترك فأصابوا منهم، وأقبل الحرث بن قراد البهراني ليستجيش بني حلوان فعرض له أبان بن سليح صاحب العين فقتله الحرث ولحقت بهرا بالترك، فاستنقذوا ما أخذوه من بني تزيد وهزموهم وقال الحرث: كأنّ الدهر جمّع في ليال ... ثلاث بينهنّ بشهرزور صففنا للأعاجم من معدّ ... صفوفا بالجزيرة كالسعير وسارت سليح بن عمرو [1] بن الحاف وعليهم الهدرجان بن مسلمة، حتى نزلوا فلسطين على بني أدينة بن السميدع بن عاملة، وسارت أسلم بن الحاف وهي عذرة ونهد وحويكة وجهينة حتى نزلوا بين الحجر ووادي القرى، وأقامت تنوخ بالبحرين   [1] قوله سليح بن عمرو يأتي في مكان آخر سليح بن عمران قاله نصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 سنين. ثم أقبل الغراب بحلقتي الذهب ووقع على النخلة ونعق كما قالت الزرقاء فذكروا قولها وارتحلوا إلى الحيرة فنزلوها وهم أوّل من اختطها، وكان رئيسهم مالك بن زهير واجتمع إليه ناس كثيرة من بسائط القرى، وبنوا بها المنازل وأقاموا زمانا ثم أغار عليهم سابور الأكبر وقاتلوه، وكان شعارهم يا لعباد الله فسموا العبّاد. وهرمهم سابور فافترقوا، وسار أهل المهبط منهم مع الضيزن بن معاوية التنوخي فنزل بالحضر الّذي بناه الساطرون الجرمقاني، فأقاموا عليه. وأغارت حمير على قضاعة فأجلوهم وهم كلب. وخرج بنو زبّان بن تغلب بن حلوان فلحقوا بالشام، ثم أغارت عليهم كنانة بعد ذلك بحين واستباحوهم فلحقوا بالسماوة وهي إلى اليوم منازلهم. أهـ كلام صاحب الأغاني (قلت) : وأحياء جدّهم لهذا العهد ما بين عنزة وقلتة وفلسطين إلى معان من أرض الحجاز. الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم اعلم أنّ جميع العرب يرجعون إلى ثلاثة أنساب وهي عدنان وقحطان وقضاعة: فأمّا عدنان: فهو من ولد إسماعيل بالاتفاق، إلّا ذكر الآباء الذين بينه وبين إسماعيل فليس فيه شيء يرجع إلى يقينه، وغير عدنان من ولد إسماعيل قد انقرضوا فليس على وجه الأرض منهم أحد. وأمّا قحطان: فقيل من ولد إسماعيل وهو ظاهر كلام البخاري في قوله، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، وساق في الباب قوله صلى الله عليه وسلم لقوم من أسلم يناضلون: «ارموا يا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان راميا» . ثم قال: وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني وخزاعة من سبإ والأوس والخزرج منهم، وأصحاب هذا المذهب على أنّ قحطان ابن الهميسع بن أبين بن قيذار بن نبت بن إسماعيل. والجمهور على أنّ قحطان هو يقطن [1] المذكور في التوراة في ولد عابر وأن حضرموت من شعوب قحطان.   [1] ورد في التوراة: «وولد لعابر ابنان اسم أحدهما فالج لانه في أيامه انقسمت الأرض واسم أخيه يقطان الفصل العاشر من سفر التكوين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وأمّا قضاعة: فقيل إنّها حمير قاله ابن إسحاق والكلبي وطائفة. وقد يحتج لذلك بما رواه ابن لهيعة عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: يا رسول الله ممن نحن؟ قال: أنتم من قضاعة بن مالك. وقال عمرو بن مرّة وهو من الصحابة: نحن بن والشيخ العجاز الأزهري ... قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر وقال زهير: قضاعية وأختها مضريّة، فجعلهما أخوين. وقال: إنهما من حمير بن معدّ بن عدنان. وقال ابن عبد البر: وعليه الأكثرون، ويروي عن ابن عبّاس وابن عمرو وجبير بن مطعم وهو اختيار الزبير بن بكّار وابن مصعب الزبيريّ وابن هشام. قال السهيليّ: والصحيح أنّ أمّ قضاعة وهي عبكرة مات عنها مالك بن حمير وهي حامل بقضاعة فتزوّجها معدّ وولدت قضاعة فتكنى به ونسب إليه وهو قول الزبير. أهـ كلام السهيليّ. وفي كتب الحكماء الأقدمين من يونان مثل بطليموس وهروشيوش ذكر القضاعيّين والخبر عن حروبهم، فلا يعلم أهم أوائل قضاعة هؤلاء وأسلافهم أو غيرهم، وربّما يشهد للقول بأنهم من عدنان وأنّ بلادهم لا تتصل ببلاد اليمن وإنما هي ببلاد الشام وبلاد بني عدنان. والنسب البعيد يحيل الظنون ولا يرجع فيه إلى يقين. ولنبدأ بقحطان وبطونها: لما أنّ الملك الأقدم للعرب كان في نسب سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ومنه تشعب بطون حمير بن سبإ وكهلان بن سبإ وينفرد بنو حمير بالملك وكان منهم التبابعة أهل الدولة المشهورة وغيرهم كما نذكر. فلنبدأ بذكر حمير أولا من القحطانية، ونذكر بعدهم قضاعة لانتسابهم في المشهور إلى حمير، ثم نتبعهم بذكر كهلان إخوان حمير من القضاعيّة، ثم نرجع إلى ذكر عدنان. الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها قد تقدّم لنا ذكر الشعوب من حمير الذين كان لهم الملك قبل التبابعة فلا حاجة لنا إلى إعادة ذكرهم. وتقدّم لنا أنّ حمير بن سبإ كان له من الولد تسعة وهم: الهميسع ومالك وزيد وعريب وواثل ومشروح ومعديكرب وأوس ومرّة، فبنو مرّةُ دخلوا إلى حضرموت، وكان من حمير أبين بن زهير بن الغوث بن أبين بن الهميسع ابن حمير وإليهم تنسب عدن أبين، ومنهم بنو الأملوك وبنو عبد شمس وهما ابنا وائل ابن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير، وعريب وأبين أخوان. ومن بني عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 شمس بنو شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس، وقد تقدّم قول من ذهب إلى أنّ جشم وعبد شمس أخوان وهما ابنا وائل، والصحيح ما ذكرناه هنا فلنرجع وبنو خيران وشعبان وهما ابنا عمرو أخي شرعب بن قيس وزيد الجمهور بن سهل أخي خيران وشعبان، ورابعهم حسّان القيل بن عمرو وقد مرّ ذكره، ومن زيد الجمهور ذو رعين واسمه يريم بن زيد بن سهيل وإليه ينسب عبد كلال الّذي تقدّم ذكره في ملوك التبابعة. والحارث وعريب ابنا عبد كلال بن عريب بن يشرح بن مدان بن ذي رعين وهما اللذان كتب لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم كعب بن زيد الجمهور ويلقّب كعب الظلم وأبناء سبإ الأصغر بن كعب وإليه ينتهي نسب ملوك التبابعة. ومن زيد الجمهور بنو حضور بن عديّ بن مالك بن زيد وقد مرّ ذكرهم. وتقول اليمن إن منهم كان شعيب بن ذي مهدم النبي الّذي قتله قومه، فغزاهم بخت نصّر فقتلهم. وقيل بل هو من حضور بن قحطان الّذي اسمه في التوراة يقطن. ومنهم أيضا بنو ميثم وبنو حالة ابني سعد بن عوف بن عدي بن مالك أخي ذي رعين، وعوف هذا أخو حضور وأخوه أحاظة وميثم بنو حراز بن سعد، فمن ميثم كعب الأحبار وقد مرّ ذكره، وهو كعب بن ماتع بن هلسوع لن ذي هجري بن ميثم. ومن أحاظة رهط ذي الكلاع وهو السميقع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن يزيد وهو ذو الكلاع الأكبر بن النعمان بن أحاظة، ومن عمرو بن سعيد الخبائر والسحول بنو سوادة بن عمرو بن الغوث بن سعيد يحصب، وذو أصبح أبرهة بن الصبّاح، وكان من ملوك اليمن لعهد الإسلام وقد مرّ ذكره ونسبه، ومنهم مالك بن أنس إمام دار الهجرة وكبير فقهاء السلف وهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر وهو نافع بن عمرو بن الحرث بن عثمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح وابناه يحيى ومحمد وأعمامه أويس، وأبو سهل والربيع، وكانوا حلفاء لبني تيم من قريش. ومن زيد الجمهور مرثد بن علس بن ذي جدن بن الحرث ابن زيد وهو الّذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد قاتلي أبيه. ومن بني سبإ الأصغر الأوزاع وهم بنو مرثد بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبإ الأصغر، ومن إخوان هؤلاء الأوزاع بنو يعفر الذين استبدوا بملك اليمن كما يأتي عند ذكر ملوك اليمن في الدولة العبّاسيّة، وهو يعفر بن عبد الرحمن بن كريب بن عثمان بن الوضّاح بن إبراهيم بن مانع بن عون بن تدرص بن عامر بن ذي مغار البطين بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ذي مرايش بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن شدد بن زرعة. وكان آخر ملوك بني يعفر هؤلاء باليمن أبو حسّان أسعد بن أبي يعفر إبراهيم بن محمد بن يعفر ملك أبو إبراهيم صنعاء وبنى قلعة كحلان باليمن، وورث ملكه بنوه من بعده إلى أن غلب عليهم الصليحيّون من همدان بعدوة العبيديّين من الشيعة كما نذكر في أخبارهم. ومن زيد الجمهور ملوك التبابعة وملوك حمير من ولد صيفي بن سبإ الأصغر بن كعب بن زيد. قال ابن حزم: فمن ولد صيفي هذا تبّع وهو تبان وهو أيضا أسعد أبو كرب بن كليكرب وهو تبّع بن زيد وهو تبّع بن عمرو وهو تبّع ذو الأذعار بن أبرهة وهو تبّع ذو المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي، قال: فولد تبّع أسعد أبو كرب حسّان ذو معاهر وتبّع زرعة وهو ذو نواس الّذي تهوّد وهوّد أهل اليمن، ويسمى يوسف، وقتل أهل نجران من النصارى. وعمرو بن سعد وهو موثبان، فقال: ومن هؤلاء التبابعة شمّر يرعش بن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، وأفريقش بن قيس بن صيفي، وبلقيس بنت إيلي أشرح بن ذي جدن بن إيلي أشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي. قال: وفي أنساب التبابعة تخليط واختلاف ولا يصحّ منها ومن أخبارهم إلا القليل. أهـ. ومن زيد الجمهور ذو يزن بن عامر بن أسلم بن زيد. وقال ابن حزم: إنّ عامر هو ذو يزن، قال ومن ولده: سيف بن النعمان بن عفير بن زرعة بن عفير بن الحرث بن النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن ذي يزن، الّذي استجاش كسرى على الحبشة وأدخل الفرس إلى اليمن. هذه بطون حمير وأنسابها وديارهم باليمن من صنعاء إلى ظفار إلى عدن، وأخبار دولهم قد تقدّمت والله وارث الأرض ومن عليها وهو غير الوارثين. ونلحق بالكلام في أنساب حمير بن سبإ أنساب حضرموت وجرهم وما ذكره النسّابون من شعوبهما: فإنّهم يذكرونهما مع حمير لأن حضرموت وجرهم إخوة سبإ كما وقع في التوراة وقد ذكرناه ولم يبق من ولد قحطان بعد سبإ معروف العقب غير هذين. فأمّا حضرموت فقد تقدّم ذكرهم في العرب البائدة ومن كان منهم من الملوك يومئذ، ونبّهنا هنالك أنّ منهم بقية في الأجيال المتأخرة اندرجوا في غيرهم فلذلك ذكرناهم في هذه الطبقة الثالثة. قال ابن حزم: ويقال إن حضرموت هو ابن يقطن أخي قحطان والله أعلم. وكان فيهم رياسة إلى الإسلام، منهم وائل بن حجر له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 صحبة وهو وائل بن حجر بن سعيد بن مسروق بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف بن سعد بن عوف بن عديّ بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن مرّة بن حمير بن زيد بن لابي بن مالك بن قدامة بن أعجب بن مالك بن لابي بن قحطان، وابنه علقمة بن وائل. وسقط عنده بين حجر أبي وائل وسعيد ابن مسروق أب اسمه سعد وهو ابن سعيد. ثم قال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون فيقال إنّهم من ولد الجبّار بن علقمة بن وائل ومنهم علي المنذر بن محمد وابنه بقرمونة وإشبيليّة، اللذين قتلهما إبراهيم بن حجّاج اللخميّ غيلة، وهما ابنا عثمان أبي بكر بن خالد بن عثمان أبي بكر بن مخلوف المعروف بخلدون الداخل المشرق. وقال غيره في خلدون الأوّل: إنه ابن عمرو بن خلدون. وقال ابن حزم في خلدون: إنه ابن عثمان بن هانئ بن الخطّاب بن كريب بن معديكرب بن الحرث بن وائل بن حجر. وقال غيره: خلدون بن مسلم بن عمر بن الخطّاب بن هانئ بن كريب بن معديكرب بن الحرث بن وائل. قال ابن حزم: والصدف من بني حضرموت وهو الصدف [1] بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر، قال: ومن حضرموت العلاء بن الحضرميّ الّذي ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين وأبو بكر وعمر بن بعده إلى أن توفي سنة إحدى وعشرين، وهو العلاء بن عبد الله بن عبدة بن حمّاد بن مالك حليف بني أميّة بن عبد شمس وأخوه ميمون بن الحضرميّ ابن الصّدف. فيقال عبد الله بن حمّاد بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن أكبر بن عريب بن مالك بن الخزرج بن الصدف، قال وأخت العلاء الصعبة بنت الحضرميّ أمّ طلحة بن عبد الله أهـ. وأمّا جرهم فقال ابن سعيد: إنهم أمّتان أمة على عهد عاد وأمة من ولد جرهم بن قحطان، ولمّا ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز، ثم ملك من بعده ابنه عبد ياليل بن جرهم، ثم ابنه جرشم بن عبد ياليل، ثم ملك من بعده ابنه عبد المدان بن جرشم، ثم ابنه نفيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن نفيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه عمرو بن مضاض، ثم أخوه الحرث بن مضاض، ثم ابنه عمرو بن الحرث، ثم أخوه بشر بن الحرث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض. قال وهذه الأمة الثانية هم الذين بعث إليهم إسماعيل وتزوّج فيهم أهـ.   [1] وولد الصدف حريما بالضم ويدعى بالاحروم وجذاما ويدعى بالاجزوم كما في القاموس (قاله نصر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الّذي كان فيها قد تقدّم آنفا ذكر الخلاف الّذي في قضاعة هل هم لحمير أو لعدنان ونقلنا الحجاج لكلا المذهبين وأتينا بذكر أنسابهم تالية حمير ترجيحا للقول بأنهم منهم، وعلى هذا فقيل هو قضاعة بن مالك بن حمير. وقال ابن الكلبي: قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك بن حمير. وكان قضاعة فيما قال ابن سعيد ملكا على بلاد الشحر، وصارت بعده لابنه الحاف ثم لابنه مالك. ولم يذكر ابن حزم في ولد الحاف مالكا. قال ابن سعيد وكانت بين قضاعة وبين وائل بن حمير حروب، ثم استقل ببلاد الشحر مهرة بن حيدان بن الحاف بن قضاعة وعرفت به، قال وملك بنو قضاعة أيضا نجران ثم غلبهم عليها بنو الحرث بن كعب بن الأزد وساروا إلى الحجاز فدخلوا في قبائل معدّ، ومن هنا غلط من نسبهم إلى معدّ أهـ. ولنذكر الآن تشعّب البطون من قضاعة: اتفق النسّابون على أنّ قضاعة لم يكن له من الولد إلّا الحافي ومنه سائر بطونهم، وللحافي ثلاثة من الولد: عمرو وعمران وأسلم بضم اللام قاله ابن حزم. فمن عمرو بن الحافي حيدان وبلى وبهرا، فمن حيدان مهرة، ومن بلى جماعة من مشاهير الصحابة: منهم كعب بن عجرة وخديج بن سلامة وسهل بن رافع وأبو بردة ابن نيار، ومن بهرا جماعة من الصحابة أيضا منهم: المقداد بن عمرو وينسب إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب خال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي أمّه وتبنّاه فنسب إليه. ويقال إنّ خالد بن برمك مولى بني بهرا. ومن أسلم سعد هذيم وجهينة ونهد بنو زيد بن ليث بن سود بن أسلم، فجهينة ما بين الينبع ويثرب إلى الآن في متّسع من برية الحجاز وفي شماليهم الى عقبة ايلة مواطن بلى وكلاهما على العدوة الشرقية من بحر القلزم وأجاز منهم أمم إلى العدوة الغربية وانتشروا ما بين صعيد مصر وبلاد الحبشة وكثروا هنالك سائر الأمم وغلبوا على بلاد النوبة وفرّقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد. ومن سعد هذيم بنو عذرة المشهورون بين العرب في المحبة، كان منهم جميل بن عبد الله بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 معمر وصاحبته بثينة بنت حبابا. قال ابن حزم: كان لأبيها صحبة ومنهم عروة بن حزام وصاحبته عفرا. ومن بني عذرة كان رزاح بن ربيعة أخو قصيّ بن كلاب لأمّه وهو الّذي استظهر قصي به وبقومه على بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم فغلبهم على الاجازة بالناس من عرفة، وكانت مفتاح رياسته في قريش. ومن عمران بن الحافي بنو سليح وهو عمرو بن حلوان بن عمران، ومن بني سليح الضجاعم بنو ضجعم بن سعيد بن سليح كانوا ملوكا بالشام للروم قبل غسّان. ومن بني عمران بن الحافي بنو جرم بن زبّان بن حلوان بن عمران بطن كبير وفيهم كثير من الصحابة ومواطنهم ما بين غزة وجبال الشراة من الشام، وجبال الشراة من جبال الكرك. ومن تغلب بن حلوان بنو أسد وبنو النمر وبنو كلب قبائل ضخمة كلهم بنو وبرة بن تغلب، فمن النمر بن خشين بن النمر ومن بني أسد بن وبرة تنوخ وهم فهم بن تيم اللات بن أسد منهم مالك بن زهير بن عمرو بن عمرو بن فهم وعليه تنخت تنوخ، وعلى عهد أبيه مالك بن فهم كما مرّ وكانوا حلفاء لبني حزم. فتنوخ على ثلاثة أبطن: بطن اسمه فهم وهم هؤلاء، وبطن اسمه نزار وهم ليس نزار لهم بوالد لكنهم من بطون قضاعة كلها ومن بني تيم اللات ومن غيرهم بطون ثلاث يقال لهم الأحلاف من جميع قبائل العرب من كندة ولخم وجذام وعبد القيس أهـ كلام ابن حزم. ومن بني أسد بن وبرة بنو القين واسمه النعمان بن جسر بن شيع اللات بن أسد ومن بني كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بنو كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب، قبيلة ضخمة فيها ثلاثة بطون بنو عديّ وبنو زهير وبنو عليهم، وبنو جناب بن هبل ابن عبد الله بن كنانة بطون ضخمة ومنهم عبيدة بن هبيل شاعر قديم ويقول فيه بعض الناس ابن حرام، وهو الّذي عنى امرؤ القيس بقوله نبكي الديار كما بكى ابن حرام وقد قيل إنه من بكر بن وائل، وقال هشام بن السائب الكلبي: إذا سئلوا بم بكى ابن حرام الديار أنشدوا خمسة أبيات من كلمات امرئ القيس المشهورة قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ويقولون إن بقيتها لامرئ القيس بن حجر، وهذا امرؤ القيس بن حرام شاعر قديم دثر شعره لأنه لم يكن للعرب كتاب لبدأتها، وإنما بقي من أشعارهم ما ذكره رواة الإسلام وقيدوه من رواية الكتاب من محفوظ الرجال. ومن بني عديّ بنو حصين بن ضمضم بن عديّ، كانت منهم نائلة بنت الفرافصة بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحرث بن حصن امرأة عثمان بن عفّان، ومنهم أبو الخطّار الحسام بن ضرار بن سلامان بن جشم بن ربيعة بن حصن أمير الأندلس، ومنسبة بن شحيم بن منجاش بن مزغور بن منجاش بن هزيم بن عديّ بن زهير، وابن ابنه حسّان بن مالك بن بحدل الّذي قام بمروان يوم مرج راهط وكانت رياسة الإسلام في كلب لبني بحدل هؤلاء ومن عقبهم بنو منقذ ملوك شيزر. ومن بني زهير بن جناب حنظلة بن صفوان بن توبل بن بشر بن حنظلة بن علقمة بن شراحيل بن هرير بن أبي جابر بن زهير ولي إفريقية لهشام. ومن عليم بن جناب بنو معقل وربما يقال إنّ عرب المعقل الذين بالمغرب الأقصى لهذا العهد وفي زمانه ينتسبون فيهم. ومن بطون كلب بن عوف بن بكر بن عوف بن كعب بن عوف بن عامر بن عوف دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج بن عامر بن بكر بن عامر بن عوف صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي أتاه جبريل عليه السلام في صورته. ومنصور بن جهور بن حفر بن عمرو بن خالد بن حارثة بن العبيد بن عامر بن عوف القائم مع يزيد بن الوليد وولاه الكوفة، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزّى بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ودّ بن عوف سبي أبوه زيد في الجاهلية وصار إلى خديجة فوهبته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجاءه أبوه وخيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم فاختاره على أبيه وأهله وأقام في كفالة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه، وربي ابنه أسامة في بيته ومع مواليه وأخباره مشهورة. ومن بني كلب ثم من بني كنانة بن بكر بن عوف النسّابة ابن الكلبي وهو أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحرث بن عبد العزّى بن امرئ القيس. قال ابن حزم: هكذا ذكره ابن الكلبيّ في نسبه وأرى امرأ القيس هذا هو عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ودّ بن عوف بن كنانة بن عذرة وقد مرّ بقية نسبه، وكان لقضاعة هؤلاء ملك ما بين الشام والحجاز إلى العراق في أيلة وجبال الكرك إلى مشارف الشام واستعملهم الروم على بادية العرب هنالك، وكان أوّل الملك فيهم في تنوخ وتتابعت فيهم فيما ذكر المسعودي ثلاثة ملوك: النعمان بن عمر، وثم ابنه عمرو بن النعمان، ثم ابنه الحواري بن عمرو، ثم غلبهم على أمرهم سليح من بطون قضاعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وكانت رياستهم في ضجعم بن معدّ منهم. وقارن ذلك استيلاء طيطش من القياصرة على الشام فولاهم ملوكا على العرب من قبله يجبون له من ساحتهم إلى أن ولي منهم زيادة بن هبولة بن عمرو بن عوف ضجعم. وخرجت غسان من اليمن فغلبوهم على أمرهم وصار ملك العرب بالشام لبني جفنه وانقرض ملك الضجاعم حسبما نذكر. وقال ابن سعيد: سار زيادة بن هبولة بمن أبقى السيف منهم بعد غسّان إلى الحجاز فقتله حجر آكل المرار الكنديّ، كان على الحجاز من قبل التبابعة، وأفنى بقيتهم فلم ينج منهم إلّا القليل، قال: ومن الناس من يطلق تنوخ على الضجاعمة ودوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا، قال وكان لبني العبيد بن الأبرص بن عمر بن أشجع بن سليح ملك يتوارثونه بالحضر آثاره باقية في برية سنجار وكان آخرهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون وقصته مع سابور ذي الجنود من الأكاسرة معروفة، قال وكان لقضاعة ملك آخر في كلب بن وبرة يتداولونه مع السكون من كندة، فكانت لكلب دومة الجندل وتبوك ودخلوا في دين النصرانية وجاء الإسلام الدولة في دومة الجندل لأكيدر بن عبد الملك بن السكون، ويقال إنه كندي من ذرية الملوك الذين ولّاهم التبابعة على كلب، فأسره خالد بن الوليد وجاء به الى النبيّ صلى الله عليه وسلم فصالح على دومة، وكان في أوّل من ملكها دجانة بن قنافة بن عديّ بن زهير بن جناب، قال: وبقيت بنو كلب الآن في خلق عظيم على خليج القسطنطينية منهم مسلمون ومنهم متنصّرون. أهـ الكلام في أنساب قضاعة. قال ابن حزم: وجميع قبائل العرب فهي راجعة إلى أب واحد حاش ثلاث قبائل: وهي تنوخ والعتقيّ وغسّان، فأما تنوخ فقد ذكرناهم، وأمّا العتقيّ فهم من حجر حمير ومن حجر من ذي رعين ومن سعد العشيرة ومن كنانة بن خزيمة ومنهم زبيد بن الحرث العتقيّ من حجر حمير وهو مولى عبد الرحمن بن القاسم وخالد بن جنادة المصريّ صاحب مالك بن أنس، وهو مولى زبيد المذكور من أسفل، وأما غسّان فإنّهم من بني أب لا يدخل بعضهم في هذا النسب ويدخل فيهم من غيرهم. وسموا العتقاء لأنهم اجتمعوا ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فظفر بهم فأعتقهم، وكانوا جماعة من بطون شتّى. وسموا تنوخ لأنّ التنوخ الإقامة فتحالفوا على الإقامة بموضعهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 بالشام وهم من بطون شتّى. وأمّا غسّان فإنّهم أيضا طوائف نزلوا بماء يقال له غسّان فنسبوا اليه أهـ كلام ابن حزم. الخبر عن بطون كهلان من القحطانية وشعوبهم واتصال بعضها مع بعض وانقضائها هؤلاء بنو كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان اخوة بني حمير بن سبا، وتداولوا معهم الملك أوّل أمرهم، ثم انفرد بنو حمير به وبقيت بطون بني كهلان تحت ملكتهم باليمن. ثم لما تقلص ملك حمير بقيت الرئاسة على العرب البادية لبني كهلان لما كانوا بادين لم يأخذ ترف الحضارة منهم ولا أدركهم الهرم الّذي أودى بحمير، إنّما كانوا أحياء ناجعة في البادية والرؤساء والأمراء في العرب إنّما كانوا منهم. وكان لكندة من بطونهم ملك باليمن والحجاز، ثم خرجت الأزد من شعوبهم أيضا من اليمن مع مزيقياء وافترقوا بالشام، وكان لهم ملك بالشام في بني جفنة، وملك بيثرب في الأوس والخزرج، وملك بالعراق في بني فهم. ثم خرجت لخم وطئ من شعوبهم أيضا من اليمن، وكان لهم ملك بالحيرة في آل المنذر حسبما نذكر ذلك كله. وأمّا شعوبهم فهي كلها تسعة من زيد بن كهلان في مالك بن زيد وعريب بن زيد، فمن مالك بطون همدان وديارهم لم تزل باليمن في شرقيه، وهم بنو أوسلة، وهو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الجبّار بن مالك بن زيد بن نوف بن همدان. ومن شعوب حاشد بنو يام بن أصغى بن مانع بن مالك بن جشم بن حاشد ومنهم طلحة بن مصرف. ولما جاء الله بالإسلام افترق كثير من همدان في ممالكه، وبقي منهم من بقي باليمن، وكانوا شيعة لعليّ كرم الله وجهه ورضي عنه عند ما شجر بين الصحابة وهو المنشد فيهم متمثلا: فلو كانت بوّابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام ولم يزل التشيّع دينهم أيام الإسلام كلها، ومنهم كان علي بن محمد الصليحي من بني يام القائم بدعوة العبيديّين باليمن في حصن حرار من بني يام وهو من بطونهم وهو من بني يام من بطون حاشد، فاستولى عليه وورث ملكه لبنيه حسبما نذكره في أخبارهم. وكانت بعد ذلك وقبله دولة بني الرسي أيام الزيدية بصعدة فكانت على يدهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وبمظاهرتهم، ولم يزل التشيّع دينهم لهذا العهد. وقال البيهقي: وتفرّقوا في الإسلام فلم تبق لهم قبيلة وبرية إلا باليمن وهم أعظم قبائله وهم عصبة المعطي من الزيدية القائمين بدعوته باليمن، وملكوا جملة من حصون اليمن باليمن، ولهم بها إقليم بكيل وإقليم حاشد من بطونهم. قال ابن سعيد: ومن همدان بنو الزريع وهم أصحاب الدعوة والملك في عدن والحيرة وهم زيديّة وإخوة همدان إلهان بن مالك بن زيد بن أوسلة ومن مالك بن زيد أيضا الأزد وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك وخثعم وبجيلة ابنا أنمار بن أراش أخي الأزد بن الغوث. وقد يقال أنمار هو ابن نزار بن معدّ وليس بصحيح، فأمّا الأزد فبطن عظيم متّسع وشعوب كثيرة، فمنهم بنو دوس من بني نصر بن الأزد وهو دوس بن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحرث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد بطن كبير، ومنهم كان جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس وديارهم بنواحي عمان، وكان بعد دوس وجذيمة ملك بعمّان في إخوانهم بني نصر بن زهران بن كعب، كان منهم قبيل الإسلام المستكبر بن مسعود بن الجرّار بن عبد الله بن مغولة بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران، والّذي أدرك الإسلام منهم جيفر بن الجلندي بن كركر بن المستكبر وأخوه عبد الله ملك عمان، كتب إليهما النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واستعمل على نواحيهما عمرو بن العاص. ومن الأزد ثم من بني مازن بن الأزد بنو عمرو مزيقياء بن عامر ويلقب ماء السماء ابن حارثة الغطريف ابن امرئ القيس البهلول ابن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وعمرو هذا وآباؤه كانوا ملوكا على بادية كهلان باليمن مع حمير واستفحل لهم الملك من بعدهم. وكانت أرض سبإ باليمن لذلك العهد من أرفه البلاد وأخصبها وكانت مدافع للسيول المنحدرة بين جبلين هنالك فضرب بينهما سدّ بالصخر والقار يحبس سيول العيون والأمطار حتى يصرفوه من خروق في ذلك السدّ على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، ومكث كذلك ما شاء الله أيام حمير، فلما تقلّص ملكهم وانحلّ نظام دولتهم وتغلّب بادية كهلان على أرض سبإ وانطلقت عليها الأيدي بالعبث والفساد وذهب الحفظة القائمون بأمر السدّ نذروا بخرابه، وكان الّذي ندر به عمرو مزيقياء ملكهم لمّا رأى من اختلال أحواله. ويقال: إنّ أخاه عمران الكاهن أخبره، ويقال طريفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الكاهنة. وقال السهيليّ: طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر وهي طريفة بنت الخير الحميريّة لعهده. وقال ابن هشام: عن أبي زيد الأنصاري أنه رأى جرذا تحفر السدّ فعلم أنه لا بقاء للسدّ مع ذلك فأجمع النقلة من اليمن وكاد قومه بأن أمر أصغر بنيه أن يلطمه إذا أغلظ له ففعل فقال لا أقيم في بلد يلطمني فيها أصغر ولدي وعرض أمواله فقال أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا أمواله وانتقل في ولده وولد ولده فقال الأزد لا نتخلف عن عمرو فتجشموا للرحلة وباعوا أموالهم وخرجوا معه وكان رؤساءهم في رحلتهم بنو عمرو مزيقياء ومن إليهم من بني مازن ففصل الأزد من بلادهم باليمن إلى الحجاز. قال السهيليّ: كان فصولهم على عهد حسّان بن تبان أسعد من ملوك التبابعة ولعهده كان خراب السدّ. ولما فصل الأزد من اليمن كان أوّل نزولهم ببلاد عكّ ما بين زبيد وزمع، وقتلوا ملك عكّ من الأزد ثم افترقوا إلى البلاد، ونزل بنو نصر بن الأزد بالشراة وعمان، ونزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بيثرب، وأقام بنو حارثة بن عمرو بمرّ الظهران بمكة وهم فيما يقال خزاعة، ومرّوا على ماء يقال له غسّان بين زبيد وزمع فكل من شبه منه من بني مزيقياء سمّي به، والذين شربوا منه بنو مالك وبنو الحرث وبنو جفنة وبنو كعب فكلهم يسمون غسّان، وبنو ثعلبة العتقاء لم يشربوا منه فلم يسمّوا به، فمن ولد جفنة ملوك الشام الذين يأتي ذكرهم ودولتهم بالشام. ومن ولد ثعلبة العتقاء الأوس والخزرج ملوك يثرب في الجاهلية وسنذكرهم، ومن بطن عمرو مزيقياء بنو أفصى بن حارثة بن عمرو ويقال إنه أفصى بن عامر بن قمعة بلا شك ابن إلياس بن مضر. قال ابن حزم: فإن كان أسلم بن أفصى منهم فمن بني أسلم بلا شك وبنو أبان وهو سعد بن عديّ بن حارثة بن عمرو، وبنو العتيك من الأزد عمران بن عمرو. وأمّا بجيلة فبلادهم في سروات البحرين والحجاز إلى تبالة وقد افترقوا على الآفاق أيام الفتح فلم يبق منهم بمواطنهم إلا القليل، ويقدم الحاج منهم على مكّة في كل عام عليهم أثر الشظف ويعرفون من أهل الموسم بالسرو [1] ، وأمّا حالهم لأوّل الفتح الإسلامي فمعروف ورجالاتهم مذكورة، فمن بطون بجيلة قسر وهو مالك بن عبقر بن   [1] السرو من: سرا يسرو وسروا، كان سريّا أي صاحب مروءة وسخاء (القاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 أنمار وبنو أحمس بن الغوث بن أنمار. وأمّا بنو عريب بن زيد بن كهلان فمنهم طيِّئ والأشعريون ومذحج وبنو مرّة وأربعتهم بنو أدد بن زيد بن يشجب بن عريب، فأمّا الأشعريون فهم بنو أشعر وهو نبت بن أدد وبلادهم في ناحية الشمال من زبيد وكان لهم ظهور أوّل الإسلام ثم افترقوا في الفتوحات وكان لمن بقي منهم باليمن حروب مع ابن زياد لأول إمارته عليها أيام المأمون ثم ضعفوا عن ذلك وصاروا في عدد الرعايا. وأمّا بنو طيِّئ بن أدد فكانوا باليمن وخرجوا منه على أثر الأزد إلى الحجاز ونزلوا سميرا وفيد في جوار بني أسد، ثم غلبوهم على أجا وسلمى [1] وهما جبلان من بلادهم فاستقرّوا بهما وافترقوا لأوّل الإسلام في الفتوحات. قال ابن سعيد: ومنهم في بلادهم الآن أمم كثيرة ملئوا السهل والجبل حجازا وشاما وعراقا يعني قبائل طيِّئ هؤلاء وهم أصحاب الدولة في العرب لهذا العهد في العراق والشام وبمصر منهم سنبس والثعالب بطنان مشهوران، فسنبس بن معاوية بن شبل بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ ومعهم بحتر بن ثعل، قال ابن سعيد ومنهم زبيد بن معن بن عمرو بن عسّ بن سلامان بن ثعل وهم في برّيّة سنجار، والثعالب بنو ثعلبة بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طيِّئ، وثعلبة بن جدعا بن ذهل بن رومان. قال ابن سعيد: ومنهم بنو لام بن ثعلبة منازلهم من المدينة الى الجبلين وينزلون في أكثر أوقاتهم مدينة يثرب، والثعالب الذين بصعيد مصر من ثعلب بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ. قال ابن حزم: لام بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعا ومن الثعالب بنو ثعلبة بن ذهل بن رومان، وبجهة بنيامين والشام بنو صخر ومن بطونهم غزيّة المرهوب صولتهم بالشام والعراق. وهم بنو غزية بن أفلت بن معبد بن عمرو بن عسّ بن سلامان بن ثعل وبنو غزية كثيرون وهم في طريق الحاج بين العراق ونجد، وكانت الرئاسة على طيِّئ في الجاهلية لبني هني بن عمرو بن الغوث بن طيّ وهم رمليّون وإخوتهم جبليّون، ومن ولده إياس بن قبيصة الّذي أدال به كسرى أبرويز النعمان المنذر حين قتله وأنزل طيّا بالحيرة مكان لخم قوم النعمان وولّي على العرب من إياسا هذا، وهو إياس بن قبيصة بن أبي يعفر بن النعمان بن خبيب بن الحرث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سعد بن هني، فكانت   [1] (في فجر الإسلام ص 8) أجا وسلمى وهما المعروفان الآن بجبل شمّر، وقد سكنتها طيِّئ قبل الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 لهم الرئاسة إلى حين انقراض ملك الفرس. ومن عقب إياس هذا بنو ربيعة بن عليّ بن مفرح بن بدر بن سالم بن قصّة بن بدر بن سميع، ومن ربيعة شعب آل مراد وشعب آل فضل، وآل فضل شعبان آل عليّ وآل مهنا فعلي ومهنّا ابنا فضل، وفضل ومراد ابنا ربيعة وسميع الذين ينسبون إليه من عقب قبيصة بن أبي يعفر، ويزعم كثير من جهلة البادية إنه الّذي جاءت به العبّاسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى زعما كاذبا لا أصل له. وكانت الرئاسة على طيِّئ أيام العبيديّين لبني المفرّح، ثم صارت لبني مراد بن ربيعة وكلهم ورثوا أرض غسّان بالشام وملكهم على العرب، ثم صارت الرئاسة لبني عليّ وبني مهنّا ابني فضل بن ربيعة اقتسموها مدّة، ثم انفرد بها لهذا العهد بنو مهنّا الملوك على العرب إلى هذا العهد بمشارف الشام والعراق وبريّة نجد، وكان ظهورهم لأمر الدولة الأيوبية ومن بعدهم من ملوك الترك بمصر والشام ويأتي ذكرهم، والله وارث الأرض ومن عليها. وأمّا مذحج واسمه مالك بن زيد بن أدد بن زيد بن كهلان، ومنهم مراد واسمه يخابر بن مذحج، ومنهم سعد العشيرة بن مذحج بطن عظيم لهم شعوب كثيرة، منهم جعفر بن سعد العشيرة وزبيد بن صعب بن سعيد العشيرة. ومن بطون مذحج النخع ورها ومسيلة وبنو الحرث بن كعب، فأمّا النخع فهو جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج ومسيلة ابن عامر بن عمرو بن علة، وأمّارها فهو ابن منبّه بن حرب بن علة. وبقي من مذحج وبرية ينجعون مع أحياء طيِّئ في جملة أيام بني مهنّا مع العرب بالشام زمن أحلافهم وأكثرهم من زبيد. وأما بنو الحرث فالحرث أبوهم ابن كعب بن علة وديارهم بنواحي نجران يجاورون بها بني ذهل بن مزيقياء من الأزد وبني حارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد وكان نجران قبلهم لجرهم، ومنهم كان ملكها الأفعى الكاهن الّذي حكم بين ولد نزار بن معدّ لما تنافروا إليه بعد موت نزار واسمه الغلس بن غمر ماء بن همدان بن مالك بن منتاب بن زيد بن واثل بن حمير وكان داعية لسليمان عليه السلام بعد أن كان واليا لبلقيس على نجران، وبعثته إلى سليمان فصدّق وآمن وأقام على دينه بعد موته. ثم نزل نجران بنو الحرث بن كعب بن علة بن جلد بن مذحج فغلبوا عليها بني الأفعى. ثم خرجت الأزد من اليمن فمروا بهم وكانت بينهم حروب، وأقام من أقام في جوارهم من بني نصر بن الأزد وبني ذهل بن مزيقياء واقتسموا الرئاسة فنجران معهم. وكان من بني الحرث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 كعب هؤلاء المذحجيين بنو الزياد واسمه يزيد بن قطن بن زياد بن الحرث بن مالك بن كعب بن الحرث وهم بيت مذحج وملوك نجران وكانت رياستهم في عبد المدان بن الديّان، وانتهت قبيل البعثة إلى يزيد بن عبد المدان، ووفد أخوه عبد الحجر بن عبد المدان على النبي صلى الله عليه وسلم على يد خالد بن الوليد وكان ابن أخيهم زياد بن عبد الله بن عبد المدان خال السفّاح، وولّاه نجران واليمامة. وقال ابن سعيد: ولم يزل الملك بنجران في بني عبد المدان، ثم في بني أبي الجواد منهم، وكان منهم في المائة السادسة عبد القيس بن أبي الجواد، ثم صار الأمر لهذا العهد إلى الأعاجم شأن النواحي كلها بالمشرق، ثم من بطون الحرث بن كعب بنو معقل وهو ربيعة بن الحرث بن كعب، وقد يقال إنّ المعقل الذين هم بالمغرب الأقصى لهذا العهد إنما هم من هذا البطن وليسوا من معقل بن كعب القضّاعيين ويؤيد هذا أنّ هؤلاء المعقل جميعا ينتسبون إلى ربيعة، وربيعة اسم معقل هذا كما رأيت والله تعالى أعلم. وأمّا بنو مرّة بن أدد إخوة طيِّئ ومذحج والأشعريّين فهم أبطن كثيرة وتنتهي كلها إلى الحرث بن مرّة، مثل خولان ومعافر ولخم وجذام وعاملة وكندة. فأمّا معافر فهم بنو يعفر بن مالك بن الحرث بن مرّة وافترقوا في الفتوحات وكان منهم المنصور بن أبي عامر صاحب هشام بالأندلس. وأمّا خولان واسمه أفكل بن عمرو بن مالك وعمرو أخو يعفر وبلادهم في جبال اليمن من شرقيّه، وافترقوا في الفتوحات وليس منهم اليوم وبريّة إلّا باليمن وهم لهذا العهد، وهمدان أعظم قبائل العرب باليمن ولهم الغلب على أهله والكثير من حصونه. وأمّا لخم واسمه مالك بن عديّ بن الحرث بن مرّة فبطن كبير متّسع ذو شعوب وقبائل منهم الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، ومن أكبرهم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن عمم بن أنمارة بن لخم، ويقال نمارة وهم رهط آل المنذر وحافده عمرو بن عدي بن نصر هو ابن أخت جذيمة الوضّاح الّذي أخذ بثأره من الزبا قاتلته، وولي الملك على العرب للأكاسرة بعد خاله جذيمة وأنزلوه بالحيرة حسبما يأتي الخبر عن ملكه وملك بنيه ومن شعوب بني لخم هؤلاء كان بنو عبّاد ملوك إشبيليّة ويأتي ذكرهم. وأمّا جذام واسمه عمرو بن عديّ أخو لخم بن عدي فبطن متّسع له شعوب كثيرة مثل غطفان وأمصى وبنو حرام بن جذام وبنو ضبيب وبنو مخرمة وبنو بعجة بنو نفاثة وديارهم حوالي أيلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 من أوّل أعمال الحجاز إلى الينبع بن أطراف يثرب، وكانت لهم رياسة في معان وما حولها من أرض الشام لبني النافرة من نفاثة ثم لفروة بن عمرو بن النافرة منهم، وكان عاملا للرّوم على قومه وعلى من كان حوالي معان من العرب، وهو الّذي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء. وسمع بذلك قيصر فأغرى به الحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك غسّان فأخذه وصلبه بفلسطين، وبقيتهم اليوم في مواطنهم الأولى في شعبين من شعوبهم يعرف أحدهما بنو عائد وهم ما بين بلبيس من أعمال مصر إلى عقبة أيلة إلى الكرك من ناحية فلسطين، وتعرف الثانية بنو عقبة وهم من الكرك إلى الأزلم من برية الحجاز. وضمان السابلة ما بين مصر والمدينة النبويّة إلى حدود غزّة من الشام عليهم، وغزّه من مواطن جرم إحدى بطون قضاعة كما مرّ، وبإفريقية لهذا العهد منهم وبريّة كبيرة ينتجعون مع ذياب بن سليم بنواحي طرابلس. وأمّا عاملة واسمه الحرث بن عدي وهم إخوة لخم وجذام وإنّما سمّي الحرث عاملة بأمّه القضاعية وهم بطن متّسع ومواطنهم ببرية الشام. وأمّا كندة واسمه ثور بن عفير بن عديّ وعفير أخو لخم وجذام، وتعرف كندة الملوك لأنّ الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان كما نذكر، وبلادهم بجبال اليمن مما يلي حضرموت ومنها دمّون التي ذكرها امرؤ القيس في شعره، وبطونهم العظيمة ثلاثة: معاوية بن كندة ومنه الملوك بنو الحرث بن معاوية الأصغر ابن ثور بن مرتع بن معاوية والسكون وسكسك وابنهما أشرش بن كندة، ومن السكون بطن تجيب وهم بنو عدي وبنو سعد بن أشرش بن شبيب بن السكون وتجيب اسم أمّهما. وكان للسكون ملك بدومة الجندل وكان عليها عبد المغيث بن أكيدر بن عبد الملك بن عبد الحق بن أعمى بن معاوية ابن حلاوة بن أمامة بن شكامة بن شبيب بن السكون بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك خالد بن الوليد فجاء به أسيرا، وحقن صلى الله عليه وسلم دمه وصالحه على الجزية وردّه إلى موضعه. ومن معاوية بن كندة بنو حجر ابن الحرث الأصغر ابن معاوية بن كندة منهم حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية وهو حجر أبو الملوك ابن كندة الذين يأتي ذكرهم، والحرث الولادة أخو حجر وكان من عقبه الخارجين باليمن المسلمين طالب الحق وكان أباضيّا وسيأتي ذكره، ومنهم الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية وجبلّة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 بن الحرث الأكبر جاهليّ إسلامي، وابنه محمد بن الأشعث وابنه عبد الرحمن بن الأشعث القائم على عبد الملك والحجاج وهو مشهور، وابن عمهم أيضا ابن عديّ وهو الأدمر بن عديّ بن جبلّة له صحبة فيما يقال، وهو الّذي قتله معاوية على الثورة بأخيه زياد وخبره معروف. هذه قبائل اليمن من قحطان استوفينا ذكر بطونهم وأنسابهم ونرجع الآن إلى ذكر من كان الملك منهم بالشام والحجاز والعراق حسبما نقصه، والله تعالى المعين بكرمه ومنه لا ربّ غيره ولا خير إلّا خيره. الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذر من هذه الطبقة وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم وكيف صار إلى طيِّئ من بعدهم أمّا أخبار العرب بالعراق في الجيل الأول وهم العرب العاربة فلم يصل إلينا تفاصيلها وشرح حالها، إلّا أنّ قوم عاد والعمالقة ملكوا العراق، والمسند في بعض الأقوال أنّ الضحّاك بن سنان منهم كما مرّ. وأمّا في الجيل الثاني وهم العرب المستعربة فلم يكن لهم به مستبدّ وإنما كان ملكهم به بدويا ورياستهم في أهل الظواعن. وكان ملك العرب كما مرّ في التبابعة من أهل اليمن، وكانت بينهم وبين فارس حروب وربّما غلبوهم على العراق وملكوه أو بعضه كما مرّ، لكن اليمن لم يغلبوا ثانيا على ما ملكوا منه، وقد مرّ إيقاع بخت نصّر وإثخانه فيهم ما تقدّم. وكان في سواد العراق وأطراف الشام والجزيرة الأرمانيون من بني إرم بن سام، ومن كان من بقية عساكر ابن تبّع من جعفر طيِّئ وكلب وتميم وغيرهم من جرهم، ومن نزل معهم بعد ذلك من تنوخ ونمارة بن لخم وقنص بن معدّ ومن إليهم كما قدّمنا ذكر ذلك. وكان ما بين الحيرة والفرات إلى ناحية الأنبار موطن لهم وكانوا يسمّون عرب الضاحية، وكان أوّل من ملك منهم في زمن الطوائف مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن قضاعة، وكان منزله مما يلي الأنبار. وملك من بعده أخوه عمرو بن فهم. ثم ملك من بعدهما جذيمة الأبرش اثنتي عشرة سنة، وقد تقدّم أنه صهرهما وأنّ مالك بن زهير بن عمرو بن فهم زوّجه أخته وصاروا حلفاء مع الأزد من قوم جذيمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ونسب جذيمة في الأزد إلى بني زهران، ثم إلى دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران، وهو جذيمة بن ملك بن فهم بن غنم بن دوس هكذا قال ابن الكبي. ويقال: إنه من وبار بن أميم بن لاوذ بن سام، وكان بنو زهران من الأزد خرجوا قبل خروج مزيقياء من اليمن ونزلوا بالعراق وقيل ساروا من اليمن مع أولاد جفنة بن مزيقياء، فلما تفرّق الأزد على المواطن نزل بنو زهران هؤلاء بالشراة وعمان وصار لهم مع الطوائف ملك، وكان مالك بن فهم هذا من ملوكهم. وكان بشاطئ الفرات من الجانب الشرقي عمرو بن الظرب بن حسّان بن أدينة من ولد السميدع بن هوثر من بقايا العمالقة، فكان عمرو بن الظرب على مشارف الشام والجزيرة، وكان منزله بالمضيق بين الخابور وقرقيساء فكانت بينه وبين مالك بن فهم حروب هلك عمرو في بعضها، وقامت بملكه من بعده ابنته الزبّاء بنت عمرو واسمها نائلة عند الطبري وميسون عند ابن دريد. قال السهيليّ: ويقال إنّا الزباء الملكة كانت من ذرية السميدع بن هوثر من بني قطورا أهل مكّة، وهو السميدع بن مرثد بالثاء المثلثة ابن لاي بن قطور بن كركي بن عملاق، وهي بنت عمرو بن أدينة بن الظرب بن حسّان. وبين حسّان هذا والسميدع آباء كثيرة ليست بصحيحة لبعد زمن الزباء من زمن السميدع انتهى كلام السهيليّ. ولم تزل الحرب بين مالك بن فهم وبين الزباء بنت عمرو إلى أن ألجأها إلى أطراف مملكتها، وكان يغير على ملوك الطوائف حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم. قال أبو عبيدة: وهو أوّل ملك كان بالعراق من العرب وأوّل من نصب المجانيق وأوقد الشموع وملك ستين سنة. ولما هلك قام بأمره من بعده جذيمة الوضّاح ويقال له الأبرش، وكان يكنّى بأبي مالك وهو منادم الفرقدين. قال أبو عبيدة: كان جذيمة بعد عيسى بثلاثين سنة فملك أزمان الطوائف خمسا وسبعين سنة وأيام أردشير كلها خمسة عشر سنة وثماني سنين من أيام سابور، وكان بينه وبين الزّباء سلم وحرب، ولم تزل تحاول الثأر منه بأبيها حتى تحيلت عليه وأطمعته في نفسها فخطبها وأجابته، وأجمع المسير إليها وأبى عليه وزيره قيصر بن سعد، فعصاه ودخل إليها ولقيته بالجنود وأحس بالشر، فنجا قيصر ودخل جذيمة إلى قصرها فقطعت رواهشه [1] وأجرت دمه إلى أن   [1] الرواهش: العروق الكبيرة في باطن الذراعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 هلك في حكاية منقولة في كتب الأخباريين. قال الطبري: وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا وأبعدهم مغارا وأشدّهم حزما وأوّل من استجمع له الملك بأرض العراق وسرى بالجيوش، وكان به برص فكنوا عنه بالوضّاح إجلالا له، وكانت منازله بين الحيرة والأنبار وهيت ونواحيها وعين التمر [1] وأطراف البر إلى العمى والقطقطانيّة وجفنة، وكانت تجبى إليه الأموال وتفد إليه الوفود، وغزا في بعض الأيام طسما وجديسا في منازلهم باليمامة، ووجد حسّان بن تبّع قد أغار عليهم فانفكأ هو راجعا بمن معه، وأتت خيول حسّان على سرايا فأجاحوها. وكان أكثر غزو جذيمة للعرب العاربة، وكان قد تكهن وادعى النبوّة، وكانت منازل إياد بعين أباغ سميت باسم رجل من العمالقة نزل بها وكان جذيمة كثيرا ما يغزوهم حتى طلبوا مسالمته، وكان بينهم غلام من لخم من بني أختهم وكانوا أخوالا له وهو عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وكان له جمال وضرب وطلبه منهم جذيمة فامتنعوا من تسليمه إليه، فألح عليهم بالغزو وبعثت إياد من سرق لهم صنمين كانا عند جذيمة يدعو بهما ويستسقى بهما وعرّفوه أنّ الصنمين عندهم وأنهم يردّونهما بشريطة رفع الغزو عنهم، فأجابهم إلى ذلك بشريطة أن يبعثوا مع الصنمين عديّ بن نصر فكان ذلك. ولما جاءه عديّ بن نصر استخلصه لنفسه وولّاه شرابه، وهويته رقاش أخته فراسلته فدافعها بالخشية من جذيمة، فقالت له اخطبني منه إذا أخذت الخمر منه وأشهد عليه القول ففعل، وأعرس بها من ليلته، وأصبح مضرجا بالخلوق. وراب جذيمة شأنه ثم أعلم بما كان منه فعض على يديه أسفا، وهرب عديّ فلم يظهر له أثر، ثم سألها في أبيات شعر معروفة فأخبرته بما كان منه فعرف عذرها وكف، وأقام عديّ في أخواله إياد إلى أن هلك، وولدت رقاش منه غلاما وسمته عمرا وربي عند خاله جذيمة وكان يستظرفه ثم استهوته الجن فغاب وضرب له جذيمة في الآفاق إلى أن ردّه عليه وافدان من العتقاء، ثم من قضاعة وهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك بن العنس أهديا له طرفا ومتاعا، ولقيا عمرا بطريقهما وقد ساءت حاله وسألاه فأخبرهما باسمه ونسبه فأصلحا من شأنه وجاءا به إلى جذيمة بالحيرة فسرّ به وسرّت أمّه. وحكم الرجلين فطلبا منادمته فأسعفهما وكانا ينادمانه حتى ضرب المثل بهما وقيل ندماني   [1] تقع في الجنوب الغربي من كربلاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 جذيمة، والقصة مبسوطة في كتب الاخباريّين بأكثر من هذا. قال الطبري: وكان ملك العرب بأرض الحيرة ومشارف الشام عمرو بن ظرب بن حسّان بن أدينة بن السميدع بن هوثر العملاقي، فكانت بينه وبين جذيمة حرب قتل فيها عمرو بن الظرب وفضت جموعه. وملكت بعده ابنته الزبّاء واسمها نائلة وجنودها بقايا العمالقة من عاد الأولى ومن نهد وسليح ابني حلوان ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطئ الفرات وقد بنت هنالك قصرا وتربّع عند بطن المجاز وتصيّف بتدمر. ولما استحكم لها الملك أجمعت أخذ الثأر من جذيمة أبيها فبعثت إليه توهمه الخطبة وأنها امرأة لا يليق بها الملك فيجمع ملكها إلى ملكه، فطمع في ذلك ووافقه قومه، وأبى عليه منهم قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن أربى بن نمارة بن لخم وكان حازما ناصحا، وحذره عاقبة ذلك، فعصاه واستشار ابن أخته عمرو بن عديّ فوافقه فاستخلفه على قومه، وجعل على خيوله عمرو بن عبد الجن، وسار هو على غربي الفرات إلى أن نزل رحبة مالك بن طوق وأتته الرسل منها بالألطاف والهدايا، ثم استقبلته الخيول فقال له قصير: إن أحاطت بك الخيول فهو الغدر فاركب فرسك العصا وكانت لا تجاري. فأحاطت به الخيول ودخل جذيمة على الزبّاء فقطعت رواهشه فسال دمه حتى نزف ومات، وقدم قصير على عمرو بن عديّ وقد اختلف عليه قومه ومال جماعة منهم إلى عمرو بن عبد الجنّ فأصلح أمرهم حتى انقادوا جميعا لعمرو بن عديّ، وأشار عليه بطلب الثأر من الزبّاء بخاله جذيمة. وكانت الكاهنة قد عرفتها بملكها وأعطتها علامات عمرو فحذرته وبعثت رجلا مصوّرا يصور لها عمرا في جميع حالاته، فسار إليه متنكرا واختلط بحشمه وجاء إليها بصورته فاستثبتته وتيقنت أنّ مهلكها منه، واتخذت نفقا في الأرض من مجلسها إلى حصن داخل مدينتها. وعمد عمرو إلى قصير فجدع أنفه بمواطأة منه على ذلك فلحق بالزباء يشكو ما أصابه من عمرو وأنه اتهمه بمداخلة الزبّاء في أمر خاله جذيمة، وما رأيت بعد ما فعل بي أنكى له من أن أكون معك. فأكرمته وقرّبته حتى إذا رضي منها من الوثوق به أشار عليها بالتجارة في طرف العراق وأمتعته فأعطته مالا وعيرا، وذهب إلى العراق ولقي عمرو بن عديّ بالحيرة فجهزه بالطرف والأمتعة كيما يرضيها، وأتاها بذلك فازدادت به وثوقا وجهّزته بأكثر من الأولى، ثم عاد الثالثة وحمل بغاة الجند من أصحاب عمرو في الغرائر على الجمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وعمرو فيهم، وتقدّم فبشّرها بالعير وبكثرة ما حمل إليها من الطرف، فخرجت تنظر فأنكرت ما رأته في الجمال من التكارد [1] ، ثم دخلت العير المدينة فلما توسطت أنيخت وخرج الرجال، وبادر عمرو إلى النفق فوقف عنده، ووضع الرجال سيوفهم في أهل البلد. وبادرت الزبّاء إلى النفق فوجدت عمرا قائما عنده فلحمها بالسيف وماتت، وأصاب ما أصاب من المدينة وانكفأ راجعا. قال الطبري: وعمرو بن عديّ أوّل من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأوّل من تجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون وهم ملوك آل نصر. ولم يزل عمرو بن عدي ملكا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة مستبدا منفردا يغزوهم ويغنم، وتفد عليه الوفود ولا يدين لملوك الطوائف ولا يدينون له حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس. قال الطبري: وإنما ذكرنا في هذا الموضع أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما قدّمناه عند ذكر ملوك اليمن، وأنهم لم يكن لهم ملك مستفحل وإنما كانوا طوائف على المخاليف يغير كل واحد على صاحبه إذا استغفله، ويرجع خوف الطلب حتى كان عمرو بن عديّ فاتصل له ولعقبه الملك على من كان بنواحي العراق وبادية الحجاز بالعرب، فاستعمله ملوك فارس على ذلك إلى آخر أمرهم. وكان أمر آل نصر هؤلاء ومن كان من ولاة الفرس وعمالهم على العرب معروفا مثبتا عندهم في كنائسهم وأشعارهم. وقال هشام بن الكلبي: كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة. وأمّا ابن إسحاق فذكر في آل نصر ومصيرهم إلى العراق أنّ ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها ربيعة بن نصر وعبرها الكاهنان شقّ وسطيح، وفيها أن الحبشة يغلبون على ملكهم باليمن، قال: فجهّز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرّزاذ فأسكنهم الحيرة، ومن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. وقد يقال إنّ المنذر من أعقاب ساطرون ملك الحضر من تنوخ قضاعة، رواه ابن إسحاق من علماء الكوفة ورواه عن جبير بن مطعم قال: لما أتى عمر رضي الله عنه بسيف النعمان دعا بجبير بن مطعم،   [1] الطرد والمدافعة (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وكان أنسب قريش لقريش والعرب، تعلمه من أبي بكر رضي الله عنه فسلّمه إياه، ثم قال: ممن كان النعمان يا جبير؟ قال: كان من أسلاف قنص بن معدّة. قال السهيليّ: كان ولد قنص بن معد انتشروا بالحجاز فوقعت بينهم وبين بني أبيهم حرب وتضايق بالبلاد وأجدبت الأرض، فساروا نحو سواد العراق وذلك في أيام ملوك الطوائف قاتلهم الأردوانيّون وبعض ملوك الطوائف وأجلوهم عن السواد وقتلوهم، إلا أشلاء لحقت بقبائل العرب ودخلوا فيهم فانتسبوا إليهم. قال الطبري: حين سأله عمر عن النعمان قال: كانت العرب تقول من أشلاء قنص بن معدوهم من ولد عجم بن قنص إلا أنّ الناس صحّفوا عجم وجعلوا مكانه لخم. قال ابن إسحاق: وأما سائر العرب فيقولون النعمان بن المنذر رجل من لخم ربي بين ولد ربيعة بن نصر أهـ. ولما هلك عمرو بن عديّ ولي بعده على العرب وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة إمرؤ القيس بن عمرو بن عدي، ويقال له البدء، وهو أوّل من تنصّر من ملوك آل نصر وعمّال الفرس، وعاش فيما ذكر هشام بن الكلبي مائة وأربعة عشر سنة، منها أيام سابور ثلاثا وعشرين سنة، وأيام هرمز بن سابور سنة واحدة، وأيام بهرام بن هرمز ثلاث سنين، وأيام بهرام بن بهرام ثماني عشرة سنة، ومن أيام سابور سبعون سنة. وهلك لعهده فولي مكانه ابنه عمرو بن امرئ القيس البدء، فأقام في ملكه ثلاثين سنة بقية أيام سابور بن سابور، ثم ولي مكانه أوس بن قلام العمليقي فيما قال هشام بن محمد، وهو من بني عمرو بن عملاق، فأقام في ولايته خمس سنين ثم سار به جحجبا بن عتيك بن لخم فقتله وولي مكانه. ثم هلك في عهد بهرام بن سابور، وولى من بعده إمرؤ القيس بن عمرو خمسا وعشرين سنة وهلك أيام يزدجرد الأثيم، فولي مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس وأمّه شقيقة بنت ربيعة بن ذهب بن شيبان وهو صاحب الخورنق، ويقال إنّ سبب بنائه إياه أنّ يزدجرد الأثيم دفع إليه ابنه بهرام جور ليربّيه وأمره ببناء هذا الخورنق مسكنا له وأسكنه إياه، ويقال: إنّ الصانع الّذي بناه كان اسمه سنمّار وإنه لما فرغ من بنائه ألقاه من أعلاه فمات من أجل محاورة وقعت اختلف الناس في نقلها والله أعلم بصحتها، وذهب ذلك مثلا بين العرب في قبح الجزاء ووقع في أشعارهم منه كثير. وكان النعمان هذا من أفحل ملوك آل نصر وكانت له سنانان إحداهما للعرب والأخرى للفرس، وكان يغزو بهما بلاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 العرب بالشام ويدوّخها، وأقام في ملكه ثلاثين سنة ثم زهد وترك الملك ولبس المسوح وذهب فلم يوجد له أثر. قال الطبري: وأمّا العلماء بأخبار الفرس فيقولون إنّ الّذي تولّى تربية بهرام هو المنذر بن النعمان بن امرئ القيس، دفعه إليه يزدجرد الأثيم لإشارة كانت عنده فيه من المنجمين، فأحسن تربيته وتأديبه وجاءه بمن يلقنه الخلال من العلوم والآداب والفروسية والنقابة [1] حتى اشتمل على ذلك كله بما رضيه، ثم ردّه إلى أبيه فأقام عنده قليلا ولم يرض بحاله، ووفد على أبيه وافد قيصر وهو أخوه قياودس، فقصده بهرام أن يسأل له من أبيه الرجوع إلى بلاد العرب فرجع، ونزل على المنذر. ثم هلك يزدجرد فاجتمع أهل فارس وولوا عليهم شخصا من ولد أردشير وعدلوا عن بهرام لمرباه بين العرب وخلوة عن آداب العجم، وجهّز المنذر العساكر لبهرام لطلب ملكه، وقدّم ابنه النعمان فحاصر مدينة الملك ثم جاء على أثره بعساكر العرب وبهرام معه فأذعن له فارس وأطاعوه، واستوهب المنذر ذنوبهم من بهرام فعفا عنهم واجتمع أمره. ورجع المنذر إلى بلاده وشغل باللهو وطمع فيه الملوك حوله، وغزاه خاقان ملك الترك في خمسين ألفا من العساكر، وسار إليه بهرام فانتهى إلى أذربيجان ثم إلى أرمينية. ثم ذهب يتصيّد وخلف أخوه نرسي على العساكر فرماه أهل فارس بالجبن وأنه خار عن لقاء الترك، فراسلوا خاقان في الصلح على ما يرضاه فرجع عنهم. وانتهى الخبر بذلك إلى بهرام فسار في اتباعه وبيته فانفض بعسكره وقتله بيده، واستولى بهرام على ما في العساكر من الأثقال والذراري وظفر بتاج خاقان واكليله وسيفه بما كان فيه من الجواهر واليواقيت، وأسر زوجته، وغلب على ناحية من بلاده فولّى عليها بعض مرازبته وأذن له في الجلوس على سرير الفضة وأغزى ما وراء النهر فدانوا بالجزية، وانصرف إلى أذربيجان فجعل سيف خاقان واكليله معلقا ببيت النار وأخدمه خاتون امرأة خاقان، ورفع الخراج عن الناس ثلاث سنين شكرا للَّه تعالى على النصر، وتصدّق بعشرين ألف ألف درهم مكرّرة مرّتين، وكتب بالخبر إلى النواحي وولّى أخاه نرسي على خراسان واستوزر له بهر نرسي بن بدارة بن فرّخزاد، ووصل الطبريّ نسبه من هنا بعد أربعة فكان رابعهم أشك بن دارا وأغزى بهرام أرض الروم في أربعين ألفا فانتهى إلى القسطنطينية ورجع.   [1] سلوك طرق الجبال (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 قال هشام بن الكلبي: ثم جاء الحرث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش إلى بلاد معدّ والحيرة وقد ولاه تبّع بن حسّان بن تبع، فسار إليه النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة وقاتله فقتل النعمان وعدة من أهل بيته وانهزم أصحابه، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من اليمن، وتشتت ملك آل النعمان، وملك الحرث بن عمرو ما كانوا يملكونه. وقال غير هشام بن الكلبي: إنّ النعمان الّذي قتله الحرث هو ابن المنذر بن النعمان وأمه هند بنت زيد مناة بن زيد الله بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو الّذي أسرته فارس، ملك عشرين سنة منها في أيام فيروز بن يزدجرد عشر سنين وأيام يلاوش بن يزدجرد أربع سنين وفي أيام قباذ بن فيروز ست سنين. قال هشام بن محمد الكلبي: ولما ملك الحرث بن عمرو ملك آل النعمان بعث إليه قبّاذ يطلب لقاءه وكان مضعفا فجاءه الحرث وصالحه على أن لا يتجاوز بالعرب الفرات، ثم استضعفه فأطلق العرب للغارة في نواحي السواد وراء الفرات فسأله اللقاء بابنه، واعتذر إليه أشظاظ العرب وأنه لا يضبطهم إلّا المال فأقطعه جانبا من السواد، فبعث الحرث إلى ملك اليمن تبّع يستنهضه بغزو فارس في بلادهم ويخبره بضعف ملكهم، فجمع وسار حتى نزل الحيرة وبعث ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قبّاذ فقاتله واتبع إلى الري فقتله، ثم سار شمر إلى خراسان وبعث تبّع ابنه حسّان إلى الصغد وأمرهما معا أن يدوّخا أرض الصين، وبعث ابن أخيه يعفر إلى الروم فحاصر القسطنطينية حتى أعطوا الطاعة والإتاوة، وتقدّم إلى رومة فحاصرها. ثم أصابهم الطاعون ووهنوا له فوثب عليهم فقتلوهم جميعا. وتقدّم شمر إلى سمرقند فحاصرها واستعمل الحيلة فيها فملكها، ثم سار إلى الصين وهزم الترك ووجد أخاه حسّان قد سبقه إلى الصين منذ ثلاث سنين فأقاما هنالك إحدى وعشرين سنة إلى أن هلك، قال: والصحيح المتفق عليه أنهما رجعا إلى بلادهما بما غنماه من الأموال والذخائر وصنوف الجواهر والطيوب. وسار تبّع حتى قدم مكّة ونزل شعب حجاز وكانت وفاته باليمن بعد أن ملك مائة وعشرين سنة، ولم يخرج أحد بعده من ملوك اليمن غازيا. ويقال: إنه دخل في دين اليهود للأحبار الذين خرجوا معه من يثرب. وأمّا ابن إسحاق فعنده أنّ الّذي سار إلى المشرق من التبابعة تبّع الأخير وهو تبان أسعد أبو كرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 قال هشام بن محمد: وولّى انوشروان بعد الحرث بن عمرو المنذر بن النعمان الّذي أفلت يوم قتل أبوه ونزل الحيرة وأبوه النعمان الأكبر، فلما قوي سلطان أنوشروان واشتدّ أمره بعث إلى المنذر فملكه الحيرة وما كان يليه الحرث بن عمرو آكل المرار فلم يزل كذلك حتى هلك. قال: وملك العرب من قبل الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر وأمه ماوية بنت النعمان سبع سنين، ثم ملك بعده النعمان بن الأسود ابن المنذر وأمه أم الملك أخت الحرث بن عمرو أربع سنين، ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عديّ بن الذميل بن ثور بن أسد بن أربى بن نمارة بن لخم ثلاث سنين، ثم ملك المنذر بن امرئ القيس وهو ذو القرنين لضفيرتين كانتا له من شعره وأمه ماء السماء بنت عوف بن جثم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر بن الضبيب بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط فملك تسعا وأربعين سنة، ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر وأمه هند بنت الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار ست عشرة سنة ولثمان سنين من ملكه كان عام الفيل الّذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ولّى عمرو بن هند شقيقه قابوس أربع سنين: سنة منها أيام أنوشروان وثلاثة أيام ابنه هرمز [1] . ثم ولّى بعده أخوهما المنذر أربع سنين، ثم ولّى بعده النعمان بن المنذر وهو أبو قابوس اثنين وعشرين سنة منها ثمان سنين أيام هرمز وأربع عشرة أيام [2] أبرويز، وفي أيام النعمان هذا اضحمل ملك آل نصر بالجزرة وعليه انقرض، وهو الّذي قتله كسرى أبرويز وأبدل منه في الولاية على الحيرة والرعب باياس بن قبيصة الطائي، ثم ردّ رياسة الحيرة لمرازبة فارس إلى أن جاء الإسلام وذهب ملك فارس. وكان الّذي دعا أبرويز إلى قتله سعاية زيد بن عدي العبادي فيه عند أبرويز بسبب أنّ النعمان قتل أباه عديّ بن زيد، وسياقة الخبر عن ذلك أن عديّ بن زيد كان من تراجمة أبرويز وكان سبب قتل النعمان أنّ أباه وهو زيد بن حمّاد بن أيوب بن محروب بن عامر بن   [1] هنا عبارة ساقطة من الناسخ. أما الطبري فيقول. «ولي قابوس بن المنذر اربع سنين من ذلك في زمن انوشروان ثمانية أشهر وفي زمن هرمز بن انوشروان ثلاث سنين واربعة أشهر» ج 2 ص 156. [2] هنا أيضا سقطت عبارة من الناسخ وعند الطبري «ثم ولي بعد النعمان بن المنذر ابو قابوس اثنين وعشرين سنة من ذلك في زمن هرمز بن انوشروان سبع سنين وثمانية أشهر وفي زمن كسرى أبرويز بن هرمز اربع عشرة سنة واربعة أشهر» . ج 2 ص 156. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 قبيصة بن امرئ القيس بن زيد مناة والد عديّ هذا كان جميلا شاعرا خطيبا وقارئا كتاب العرب والفرس، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة ويقطعونهم القطائع على أن يترجموا عندهم عن العرب، وكان المنذر بن المنذر لمّا ملك جعل ابنه النعمان في حجر عديّ فأرضعه أهل بيته وربّاه قوم من أشراف الحيرة ينسبون إلى لخم ويقال لهم بنو مرسي، وكان للمنذر بن المنذر عشرة سوى النعمان يقال لهم الأشاهب لجمالهم، وكان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيرا أمّه سلمى بنت وائل بن عطية من أهل فدك كانت أمة للحرث بن حصن بن ضمضم بن عديّ بن جناب بن كلب، وكان قابوس بن المنذر الأكبر عمّ النعمان بعث إلى أنوشروان بعديّ بن زيد وإخوته فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر أوصى على ولده إياس بن قبيصة الطائي وجعل أمره كله بيده فأقام على ذلك شهرا، ونظر أنوشروان فيمن يملكه على العرب وشاور عديّ بن زيد واستنصحه في بني المنذر فقال بقيتهم في بني المنذر بن المنذر، فاستقدمهم كسرى وأنزلهم على عديّ، وكان هواه مع النعمان، فجعل يرعى إخوته تفضيلهم عليه، ويقول لهم: إن أشار عليكم كسرى بالملك وبمن يكفوه أمر العرب تكفلوا بشأن ابن أخيكم النعمان، ويسير للنعمان أن سأله كسرى عن شأن إخوته أن يتكفله ويقول: إن عجزت عنهم فأنا عن سواهم أعجز. وكان مع أخيه الأسود بن المنذر رجل من بني مرسي الذين ربّوهم اسمه عديّ بن أوس بن مرسي فنصحه في عديّ وأعلمه أنه يغشّه فلم يقبل. ووقف كسرى على مقالاتهم، فمال إلى النعمان وملّكه وتوّجه بقيمة ستين ألف دينار ورجع إلى الحيرة ملكا على العرب، وعديّ بن أوس في خدمته، وقد أضمر السعاية بعديّ بن زيد فكان يظهر الثناء عليه ويتواصى به مع أصحابه وأن يقولوا مثل قوله، إلّا أنه يستصغر النعمان ويزعم أنه ملكه وانه عامله حتى آسفوه بذلك، وبعث إليه في الزيارة فأتاه وحبسه ثم ندم وخشي عاقبة إطلاقه فجعل يمنّيه. ثم خرج النعمان إلى البحرين وخالفه جفنة ملك غسّان إلى الحيرة وغار عليها ونال منها، وكان عديّ بن زيد كتب إلى أخيه عند كسرى يشعره بطلب الشفاعة من كسرى إلى النعمان، فجاء الشفيع إلى الحيرة وبها خليفة النعمان، وجاء إلى عديّ فقال له: أعطني الكتاب أبعثه أنا ولازمني أنت هنا لئلا أقتل. وبعث أعداؤه من بني بقيلة إلى النعمان بأن رسول كسرى دخل عنده فبعث من قتله. فلمّا وفد وافد كسرى في الشفاعة أظهر له الإجابة وأحسن له بأربعة آلاف دينار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وجارية وأذن له أن يخرجه من محبسه فوجده قد مات منذ ليال، فجاء الى النعمان مثربا [1] فقال: والله لقد تركته حيّا. فقال: وكيف تدخل إليه وأنت رسول إليّ؟ فطرده فرجع إلى كسرى وأخبره بموته وطوى عنه ما كان من دخوله إليه. ثم ندم النعمان على قتله، ولقي يوما وهو يتصيد ابنه زيدا فاعتذر إليه من أمر أبيه، وجهّزه إلى كسرى ليكون خليفة أبيه على ترجمة العرب. فأعجب به كسرى وقرّبه وكان أثيرا عنده، ثم إنّ كسرى أراد خطبة بنات العرب فأشار عليه عديّ بالخطبة في بني منذر فقال له كسرى: اذهب إليهم في ذلك، فقال: إنّهم لا ينكحون العجم ويستريبون في ذلك فابعث معي من يفقه العربية فلعلي آتيك بغرضك. فلما جاء إلى النعمان قال لزيد: أما في عير السواد وفارس ما يغنيكم عن بناتنا؟ وسأل الرسول عن العير فقال له زيد: هي البقر. ثم رجعا إلى كسرى بالخيبة، وأغراه زيد فغضب كسرى وحقد على النعمان. ثم استقدمه بعد حين لبعض حاجاته وقال له: لا بدّ من المشافهة لأنّ الكتاب لا يسعها. ففطن فذهب إلى طيِّئ وغيرهم من قبائل العرب ليمنعوه، فأبوا وفرقوا من معاداة كسرى، إلّا بني رواحة بن سعد من بني عبس، فإنّهم أجابوه لو كانوا يغنون عنه فعذرهم، وانصرف عنهم إلى بني شيبان بذي قار والرئاسة فيهم لهانئ بن مسعود بن عامر بن الخطيب بن عمرو المزدلف ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، ولقيس بن خالد بن ذي الخدّين. وعلم أن هانئا يمنعه وكان كسرى قد أقطعه، فرجّع إليه النعمان ماله ونعمه وحلقته وهي سلاح ألف فارس شاكة، وسار إلى كسرى، فلقيه زيد بن عدي بساباط وتبين الغدر، فلمّا بلغ إلى كسرى قيّده وأودعه السجن إلى أن هلك فيه بالطاعون ودعا ذلك إلى واقعة ذي قار بين العرب وفارس. وذلك أنّ كسرى لما قتل النعمان استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة مكان النعمان ليده التي أسلفها طيِّئ عند كسرى يوم واقعة بهرام على أبرويز، وطلب من النعمان فرسه ينجو عليها فأبى واعترضه حسّان بن حنظلة بن جنّة الطائي وهو ابن عم إياس بن قبيصة فأركبه فرسه ونجا عليه، ومرّ في طريقه بإياس فأهدى له فرسا وجزورا، فرعى له أبرويز هذه الوسائل وقدّم إياسا مكان النعمان. وهو إياس بن قبيصة بن أبي عفر بن النعمان بن جنّة. فلمّا هلك النعمان بعث إياس إلى هانئ بن   [1] ثربه ثربا: لامه، قبح عليه فعله (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 مسعود في حلقة النعمان، ويقال كانت أربعمائة درع وقيل ثمانمائة، فمنعها هانئ وغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل، وأشار عليه النعمان بن زرعة من بني تغلب أن يمهل إلى فصل القيظ عند ورودهم مياه ذي قار. فلما قاظوا ونزلوا تلك المياه وجاءهم النعمان بن زرعة يخيّرهم في الحرب وإعطاء اليد فاختاروا الحرب، اختاره حنظلة بن سنان العجليّ وكانوا قد ولّوه أمرهم وقال لهم إنما هو الموت قتلا إن أعطيتم باليد أو عطشا إن هربتم وربما لقيكم بنو تميم فقتلوكم. ثم بعث كسرى إلى إياس بن قبيصة أن يسير إلى حربهم ويأخذه معه مسالح فارس وهم الجند الذين كانوا معه بالقطقطانية وبارق وتغلب، وبعث إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الخدّين وكان على طف شقران أن يوافي إياسا، فجاءت الفرس معها الجنود والأفيال عليها الأساورة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة فقال: اليوم انتصف العرب من العجم ونصروا، وحفظ ذلك اليوم فإذا هو يوم الوقعة. ولما تواقف الفريقان جاء قيس بن مسعود إلى هانئ وأشار عليه أن يفرّق سلاح النعمان على أصحابه ففعل، واختلف هانئ بن مسعود وحنظلة بن ثعلبة بن سنان، فأشار هانئ بركوب الفلاة وقطع حنظلة حزم الرجال وضرب على نفسه وآلى أن لا يفرّ. ثم استقوا الماء لنصف شهر، واقتتلوا وهرب العجم من العطش واتبعهم بكر وعجل، فاصطف العجم وقاتلوا وصبروا وراسلت إياد بكر بن وائل إنّا نفّر عند اللقاء فصحبوهم، واشتدّ القتال وقطعوا الآمال حتى سقطت الرجال إلى الأرض ثم حملوا عليهم، واعترضهم يزيد بن حمّاد السكونيّ في قومه كان كمينا أمامهم فشدّوا على إياس بن قبيصة ومن معه من العرب فولّت إياد منهزمة، وانهزمت الفرس وجاوزوا الماء في حرّ الظهيرة في يوم قائظ فهلكوا أجمعين قتلا وعطشا. وأقام إياس في ولاية الحيرة مكان النعمان ومعه الهمرجان من مرازبة فارس تسع سنين، وفي الثامنة منها كانت البعثة وولي بعده على الحيرة آخر من المرازبة اسمه زاذويه بن ماهان الهمذاني سبع عشرة سنة إلى أيام بوران بنت كسرى. ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر وتسميه العرب والغرور الّذي قتل بالبحرين يوم أجداث. ولما زحف المسلمون إلى العراق ونزل خالد بن الوليد الحيرة حاصرهم بقصورها فلما أشرفوا على الهلكة خرج إليهم إياس بن قبيصة في أشراف أهل الحيرة وأتقى من خالد والمسلمين بالجزية، فقبلوا منه وصالحهم على مائة وستين ألف درهم، وكتب لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 خالد بالعهد والأمان وكانت أوّل جزية بالعراق. وكان فيهم هانئ بن قبيصة أخو إياس بن قبيصة بالقصر الأبيض، وعديّ بن عديّ العبادي ابن عبد القيس، وزيد بن عديّ بقصر العدسيّين، وأهل نصر بن عدس من قصور الحيرة وهو بنو عوان بن عبد المسيح بن كلب بن وبرة وأهل قصر بني بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا: يا حارث ما أنت إلا بقيلة خضراء وعبد المسيح هذا هو المعمّر وهو الّذي بعثه كسرى أبرويز إلى سطيح في شأن رؤيا المرزبان. ولما صالح إياس بن قبيصة المسلمين وعقد لهم الجزية سخطت عليه الأكاسرة وعزلوه، فكان ملكه تسع سنين ولسنة منها وثمانية أشهر كانت البعوث، وولي حينئذ الخلافة عمر بن الخطّاب وعقد لسعد بن أبي وقّاص على حرب فارس، فكان من أوّل عمل يزدجرد أن أمر مرزبان الحيرة أن يبعث قابوس بن قابوس بن المنذر وأغراه بالعرب ووعده بملك آبائه، وقال له: ادع العرب وأنت على من أجابك منهم كما كان آباؤك، فنهض قابوس إلى القادسية ونزلها وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان للنعمان فكاتبهم مقاربة ووعدا، وانتهى الخبر الى المثنّى بن حارثة الشيبانيّ عقب مهلك أخيه المثنى وقبل وصول سعد، فأسرى من ذي قار وبيت قابوس بالقادسية ففض جمعه وقتله، وكان آخر من بقي من ملوك آل نصر بن ربيعة وانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس. أهـ كلام الطبري وما نقله عن هشام بن الكلبي. وقد كان المغيرة بن شعبة تزوج هندا بنت النعمان، وسعد بن أبي وقاص تزوّج صدقة بنت النعمان، وخبرهما معروف ذكره المسعودي وغيره. وعدّة ملوك آل نصر عند هشام بن الكلبي عشرون ملكا ومدتهم خمسمائة وعشرون سنة، وعند المسعودي ثلاث وعشرون ملكا ومدّتهم ستمائة وعشرون سنة. قال: وقد قيل إنّ مدّة عمران الحيرة إلى أن خربت عند بناء الكوفة خمسمائة سنة، قال: ولم يزل عمرانها يتناقص إلى أيام المعتضد ثم أقفرت. وفيما نقله بعض الأخباريّين أنّ خالد بن الوليد قال لعبد المسيح: أخبرني بما رأيت من الأيام؟ قال: نعم. قال: رأيت المرأة من الحيرة تضع مكتلها على رأسها ثم تخرج حتى تأتي الشام في قرى متصلة وبساتين ملتفة وقد أصبحت اليوم خرابا والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. هذا ترتيب الملوك من ولد نصر بن ربيعة بن كعب بن عمرو بن عديّ الأوّل منهم وهو الترتيب الّذي ذكره الطبري عن ابن الكلبي وغيره، وبين الناس فيه خلاف في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ترتيب ملوكهم، بعد اتفاقهم على أنّ الّذي ملك بعد عمرو بن عديّ ابنه امرؤ القيس ثم ابنه عمرو بن امرئ القيس وهو الثالث منهم. قال علي بن عبد العزيز الجرجاني في أنسابه بعد ذكر عمرو هذا: ثم ثار أوس بن قلام العملقي وملك فثار به جحجب بن عتيك اللخميّ فقتله وملك، ثم ملك من بعده امرؤ القيس البدء بن عمرو الثالث، ثم ملك من بعده ابنه النعمان الأكبر ابن امرئ القيس بن الشقيقة وهو الّذي ترك الملك وساح، ثم ملك من بعده ابنه المنذر، ثم ابنه الأسود بن المنذر، ثم أخوه المنذر بن المنذر، ثم النعمان بن الأسود بن المنذر، ثم أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عديّ بن الذميل بن ثور بن أسد بن أربى بن نمارة بن لخم، ثم ملك من بعده امرؤ القيس بن النعمان الأكبر، ثم ابنه امرؤ القيس، ثم كان أمر الحرث بن عديّ الكنديّ حتى تصالحها وتزوّج المنذر بنته هندا فولدت له عمرا، ثم ملك بعد المنذر عمرو بن هند، ثم قابوس بن المنذر أخوه، ثم المنذر بن المنذر أخوه الآخر، ثم ابنه النعمان بن المنذر. هكذا نسبه الجرجاني وهو موافق لترتيب الطبريّ إلّا في الحرث بن عمرو الكندي فانّ الطبري جعله بعد النعمان الأكبر بن امرئ القيس وابنه المنذر، والجرجاني جعله بعد المنذر بن امرئ القيس بن النعمان وبين هذا المنذر والمنذر بن النعمان الأكبر خمسة من ملوكهم فيهم أبو يعفر بن الذميل، فاللَّه أعلم بالصحيح من ذلك. وأمّا المسعودي فخالف ترتيبهم فقال: بعد النعمان الأكبر ابن امرئ القيس وسمّاه قائد الفرس ملك خمسا وستين سنة، ثم ملك ابنه المنذر خمسا وعشرين سنة وهذا مثل ترتيب الطبريّ والجرجاني. ثم خالفهما وقال: وملك النعمان بن المنذر الحيرة وهو الّذي بنى الخورنق خمسا وثلاثين سنة، وملك الأسود بن النعمان عشرين سنة، وملك ابنه المنذر أربعين سنة وأمّه ماء السماء من النمر بن قاسط من ربيعة وبها عرف، وملك ابنه عمرو بن المنذر أربعا وعشرين سنه ثم ملك بعده اخوه النعمان وامه مامة قتله كسرى وهو آخرهم. هكذا ساق المسعودي نسق ملوكهم ونسبهم وهو مخالف لما ذكره الطبريّ والجرجاني. وقال السهيليّ: كان للمنذر بن ماء السماء من الولد المملّكين عمرو والنعمان وكان عمرو لهند بنت الحرث آكل المرار قال: وكان عمرو هذا من أعاظم ملوك الحيرة ويعرف بمحرق لأنه حرق مدينة الملهم عند اليمامة، وكان يملك من قبل كسرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 أنوشروان، ومن بعده ملك أخوه النعمان بن المنذر وأمه مامة وقتله كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان لموجدة وجدها بسعاية زيد بن عديّ بن زيد العباديّ، وساق قصة مقتله وولاية إياس بن قبيصة الطائي من بعده وما وقع بعد ذلك من حرب ذي قار وغلب العرب فيها على العجم إلى آخرها. فاللَّه أعلم بالصحيح في ترتيب ملوكهم. وقال ابن سعيد: أوّل حديثهم في الملك أنّ بني نمارة كانوا جندا للعمالقة بأطراف الشام والجزيرة وكانوا مع الزبّاء، ولما قتلت جذيمة قام عمرو بن عديّ منهم بثأره، وكان ابن أخته حتى أدركه وقتله وبنى الحيرة على فرع من الفرات في أرض العراق. وقال صاحب تواريخ الأمم: ملك مائة وثمانية وعشرين سنة أيام ملوك الطوائف، وبعده امرؤ القيس بن عمرو، ولما مات ولّى أردشير بن سابور على الحيرة أوس بن قلام من العمالقة، ثم كان ملك الحيرة فوليها امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس المعروف بمحرق قال وهو المذكور في قصيدة الأسود بن يعفر التي على رويّ الدال. وبعده ابنه النعمان بن شقيقة وهي من بني شيبان وجعل معه كسرى واليا للفرس وهو باني الخورنق والسرير على مياه الفرات، وملك إلى أن ساح وتزهّد ثلاثين سنة، وذكره عديّ بن زيد في شعره. وملك بعده ابنه المنذر وهو الّذي سعى لبهرام جور في الملك حتى ثم له وملك أربعا وأربعين سنة، وملك بعده ابنه الأسود، ثم أخوه المنذر بن المنذر ثم النعمان بن الأسود وغضب عليه كسرى وولّي مكانه الذميل بن لخم من غير بيت الملك، ثم عاد الملك إليهم فولي امرؤ القيس بن النعمان الأكبر وهو ابن الشقيقة وهو الّذي غزا بكر بن وائل، وملك بعده ابنه المنذر بن ماء السماء وهي أمّه أخت كليب سيد وائل وطالبه قبّاذ باتباع مزدك على الزندقة فأبى، وولّى مكانه الحرث بن عمرو ابن حجر الكندي، ثم ردّه أنوشروان إلى ملك الحيرة وقتله الحرث الأعرج الغسّاني يوم حليمة كما يأتي. وملك بعده ابنه عمرو بن هند وهي [1] مامة عمة امرئ القيس بن حجر المعروف بمضرط الحجارة لشدّة بأسه، وهو محرق الثاني حرق بني دارم من تميم لأنهم قتلوا أخاه وحلف ليحرقنّ منهم مائة فحرقهم وملك ستة عشرة سنة أيام أنوشروان، فتك به في رواق بين الحيرة والفرات عمرو بن كلثوم سيد تغلب ونهبوا حياءه [2] . وملك بعده أخوه قابوس بن هند وكان أعرج وقتله بعض بني يشكر فولّى   [1] يعني أن أمه مامة وقد مرّ ذكره من قبل. [2] بمعنى النبات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 أنوشروان على الحيرة بعض مرازبة الفرس فلم تستقم له طاعة العرب، فولّى عليهم المنذر بن المنذر بن ماء السماء فخرج إلى جهة الشام طالبا ثأر أبيه من الحرث الأعرج الغسّاني فقتله الحرث أيضا يوم أباغ. وملك بعده ابنه النعمان بن المنذر وكان ذميما أشقر أبرش، وهو أشهر ملوك الحيرة وعليه كثرت وفود العرب وطلبه بثأر أبيه، وحرد من بني جفنة حتى أسر خلقا كثيرا من أشرافهم، وحمله عديّ بن زيد على أن تنصّر وترك دين آبائه، وحبس عديّا فشفع كسرى فيه بسعاية أخ له كان عنده فقتله النعمان في محبسه، ثم نشأ ابنه زيد بن عدي وصار ترجمانا لكسرى، فأغراه بالنعمان وحضر مع كسرى أبرويز في وقعة بين الفرس والروم وانهزمت الفرس ونجا النعمان على فرسه التخوم بعد أن طلبه منه كسرى ينجو عليه فأعرض عنه، ونزل له إياس بن قبيصة الطائي عن فرسه فنجا عليه، ووفد عليه النعمان بعد ذلك فقتله وولّى على الحيرة إياس بن قبيصة، فلم تستقم له طاعة العرب وغضبوا لقتل النعمان، وكان لهم على الفرس يوم ذي قار سنة ثلاث من البعثة، ومات إياس وصارت الفرس يولّون على الحيرة منهم إلى أن ملكها المسلمون. وذكر البيهقي: أنّ دين بني نصر كان عبادة الأوثان، وأوّل من تنصر منهم النعمان بن الشقيقة وقيل بل النعمان الأخير. وملّكت العرب بتلك الجهات ابنه المنذر فقتله جيش أبي بكر رضي الله عنه. وفي تواريخ الأمم أنّ جميع ملوك الحيرة من بني نصر وغيرهم خمسة وعشرون ملكا في نحو ستمائة سنة والله أعلم، وهذا الترتيب مساو لترتيب الطبري والجرجاني والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 ملوك كندة الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم قال الطبري عن هشام بن محمد الكلبي: كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم وكان ممن يخدم حسّان بن تبّع عمرو بن حجر سيد كندة لوقته وأبوه حجر هو الّذي تسمّيه العرب آكل المرار وهو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحرث الأصغر ابن معاوية بن الحرث الأكبر ابن معاوية بن كندة، وكان أخا حسّان بن تبّع لأمّه، فلما دوّخ حسّان بلاد العرب وسار في الحجاز وهمّ بالانصراف ولّى على معدّ بن عدنان كلّها أخا حجر بن عمرو هذا وهو آكل المرار، فدانوا له وسار فيهم أحسن سيرة، ثم هلك وملك من بعده ابنه عمرو المقصور. قال الطبريّ عن هشام: ولما سار حسّان إلى جديس خلفه على بعض أمور ملكه في حمير، فلما قتل حسّان وولي بعده أخوه عمرو بن تبّع وكان ذا رأي ونبل، فأراد أن يكرم عمرو بن حجر بما نقصه من ابن أخيه حسّان، فزوّجه بنت أخيه حسّان بن تبع، وتكلمت حمير في ذلك وكان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها أن يتزوّج في ذلك البيت أحد من العرب سواهم، فولدت بنت حسّان لعمرو بن حجر الحرث بن عمرو. وملك بعد عمرو بن تبّع عبد كلال بن متون أصغر أولاد حسّان، واستهوت الجنّ منهم تبّع بن حسّان فولوا عبد كلال مخافة أن يطمع في ملكهم أحد من بيت الملك، فولي عبد كلال لسروّرحمة، وكان على دين النصرانية الأولى وكان ذلك يسوء قومه، ودعا إليه رجل من غسّان قدم عليه من الشام، ووثب حمير بالغسّاني فقتلوه. ثم رجع تبّع بن حسّان من استهواء الجنّ وهو أعلم الناس بنجم وأعقل من يعلم في زمانه وأكثرهم حديثا عما كان ويكون، فملك على حمير وهابته حمير والعرب، وبعث بابن أخته الحرث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معدّ والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة فقاتله فقتل النعمان وعدّة من أهل بيته وهزم أصحابه، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمّه ماء السماء امرأة من النمر بن قاسط وذهب ملك آل النعمان وملك الحرث بن عمرو وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 كانوا يماكون وفي كتاب الأغاني قال: لما ملك قبّاذ، وكان ضعيف الملك، توثبت العرب على المنذر الأكبر ابن ماء السماء وهو ذو القرنين ابن النعمان بن الشقيقة فأخرجوه، وإنّما سمّي ذا القرنين لذؤابتين كانتا له، فخرج هاربا منهم حتى مات في إياد، وترك ابنه المنذر الأصغر فيهم وكان أنكى ولده، وجاءوا بالحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار فملّكوه على بكر وحشدوا له وقاتلوا معه، وظهر على من قاتله من العرب. وأبي قبّاذ أن يمدّ المنذر بجيش فلمّا رأى ذلك كتب إلى الحرث بن عمرو: إني في غير قومي وأنت أحق من ضمني وأنا متحوّل إليك فحوّله وزوّجه بنته هندا. وقال غير هشام بن محمد: ان الحرث بن عمرو لمّا ولي على العرب بعد أبيه اشتدّت وطأته وعظم بأسه ونازع ملوك الحيرة وعليهم يومئذ المنذر بن امرئ القيس وبين لهم إذ ولي كسرى قبّاذ بعد أبيه فيروز بن يزدجرد وكان زنديقا على رأي ماني، فدعا المنذر إلى رأيه فأبى عليه وأجابه الحرث بن عمرو فملّكه على العرب وأنزله بالحيرة، ثم هلك قبّاذ وولي ابنه أنوشروان فردّ ملك الحيرة إلى المنذر، وصالحه الحرث على أنّ له ما وراء نهر السواد فاقتسما ملك العرب. وفرّق الحرث ولده في معدّ فملك حجرا على بني أسد، وشرحبيل على بني سعد والرباب، وسلمة على بكر وتغلب، ومعديكرب على قيس وكنانة. ويقال: بل كان سلمة على حنظلة وتغلب، وشرحبيل على سعد والرباب وبكر، وكان قيس بن الحرث سيارة أبي قوم نزل بهم فهو ملكهم. وفي كتاب الأغاني إنه ملّك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل، وحنظلة على بني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب وغلفا وهو معديكرب على قيس، وسلمة بن الحرث على بني تغلب والنمر بن قاسط والنمر بن زيد مناة. أهـ كلام الأغاني. فأمّا شرحبيل: فإنه فسد ما بينه وبين أخيه سلمة واقتتلوا بالكلاب ما بين البصرة والكوفة، على سبع من اليمامة وعلى تغلب السفّاح وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تميم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب، وسبق إلى الكلاب سفيان بن مجاشع بن دارم من أصحاب سلمة في تغلب مع إخوته لأمه. ثم ورد سلمة وأصحابه فاقتتلوا عامة يومهم، وخذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وأتباعها عن تغلب، وصبر بنو بكر وتغلب ليس معهم غيرهم إلى الليل، ونادى منادي سلمة في ذلك اليوم من يقتل شرحبيل ولقاتله مائة من الإبل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 فقتل شرحبيل في ذلك اليوم قتله عصيم بن النعمان بن مالك بن غيّاث بن سعد بن زهير بن بكر بن حبيب التغلبي. وبلغ الخبر إلى أخيه معديكرب فاشتدّ جزعه وحزنه على أخيه وزاد ذلك حتى اعتراه منه وسواس هلك به، وكان معتزلا عن الحرث ومنع بنو سعد بن زيد مناة عيال شرحبيل وبعثوا بهم إلى قومهم، فعل ذلك عوف بن شحنة بن الحرث بن عطارد بن عوف بن معد بن كعب. وأمّا سلمة، فإنه فلج فمات. وأمّا حجر بن الحرث: فلم يزل أميرا على بني أسد إلى أن بعث رسله في بعض الأيام لطلب الإتاوة من بني أسد فمنعوها وضربوا الرسل، وكان حجر بتهامة فبلغه الخبر، فسار إليهم في ربيعة وقيس وكنانة فاستباحهم وقتله أشرافهم وسرواتهم وحبس عبيد ابن الأبرص في جمع منهم فاستعطفه بشعر بعث به إليه فسرّحه وأصحابه وأوفدهم، فلما بلغوا إليه هجموا عليه ببيته فقتلوه وتولّى قتله علباء بن الحرث الكاهلي كان حجر قتل أباه، وبلغ الخبر امرئ القيس فحلف أن لا يقرب لذة حتى يدرك بثأره من بني أسد، وسار صريخا إلى بني بكر وتغلب فنصروه وأقبل بهم فأجفل بنو أسد، وسار إلى المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة وأوقع امرؤ القيس في كنانة فأثخن فيهم، ثم سار في اتباع بني أسد إلى أن أعيا ولم يظفر منهم بشيء ورجعت عنه بكر وتغلب، فسار إلى مؤثر الخير بن ذي جدن من ملوك حمير صريخا بنصره بخمسمائة رجل من حمير وبجمع من العرب سواهم، وجمع المنذر لامرئ القيس ومن معه، وأمدّه كسرى أنوشروان بجيش من الأساورة والتقوا فانهزم امرؤ القيس، وفرّت حمير ومن كان معه ونجا بدمه وما زال يتنقل في القبائل والمنذر في طلبه وسار إلى قيصر صريخا فأمدّه، ثم سعى به الطمّاح عند قيصر أنه يشبب ببنته، فبعث إليه بحلّة مسمومة كان فيها هلاكه ودفن بأنقرة. قال الجرجاني ولا يعلم لكندة بعد هؤلاء ملوك اجتمع لهم أمرها وأطيع فيها سوى أنهم قد كان لهم رياسة ونباهة وفيهم سؤدد حتى كانت العرب تسميهم كندة الملوك، وكانت الرئاسة يوم جبلة على العساكر لهم، فكان حسّان بن عمرو بن الجور على تميم ومعاوية بن شرحبيل بن حصن على بني عامر والجور هو معاوية بن حجر آكل المرار أخو الملك المقصور عمرو بن حجر. والله وارث الأرض ومن عليها. وفي كتاب الأغاني: أن امرئ القيس لما سار إلى الشام نزل على السموأل بن عاديا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 بالأبلق بعد إيقاعه ببني كنانة على أنهم بنو أسد وتفرّق عنه أصحابه كراهية لفعله، واحتاج إلى الهرب فطلبه المنذر بن ماء السماء وبعث في طلبه جموعا من إياد وبهرا وتنوخ وجيوشا من الأساورة أمده بهم أنوشروان، وخذلته حمير وتفرّقوا عنه فالتجأ إلى السموأل ومعه أدراع خمسة مسمّاة كانت لبني آكل المرار يتوارثونها، ومعه بنته هند وابن عمه يزيد بن الحرث بن معاوية بن الحرث ومال وسلاح كان بقي معه والربيع بن ضبع بن نزارة، وأشار عليه الربيع بمدح السموأل فمدحه ونزل به، فضرب لابنته قبة وأنزل القوم في مجلس له براح، فمكثوا ما شاء الله. وسأله امرؤ القيس أن يكتب له إن الحرث بن أبي شمر يوصله إلى قيصر ففعل واستصحب رجلا يدله على الطريق وأودع ابنته وماله وأدراعه السموأل، وخلف ابن عمه يزيد بن الحرث مع ابنته هند ونزل الحرث بن ظالم غازيا على الأبلق، ويقال الحرث بن أبي شمر ويقال ابن المنذر، وبعث الحرث بن ظالم ابنه يتصيّد ويهدّده بقتله فأبى من الخفار ذمته وقتل ابنه فضرب به المثل في الوفاء بذلك [1] . وأمّا نسب السموأل فقال ابن خليفة عن محمد بن سالم البيكنديّ عن الطوسي عن ابن حبيب: إنه السموأل بن عريض بن عاديا بن حيا، ويقال إنّ الناس يدرجون عريضا في النسب ونسبه عمرو بن شبّة ولم يذكر عريضا، وقال عبد الله بن سعيد عن دارم بن عقال: من ولد السموأل بن عاديا بن رفاعة بن ثعلبة بن كعب بن عمرو ابن عامر مزيقياء وهذا عندي مجال لأن الأعشى أدرك سريج بن السموأل وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقياء قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة، وقد قيل إنّ أمه من غسّان وكلهم قالوا هو صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيما المشهور بالزبّاء، وقيل من ولد الكوهن بن هارون، وكان هذا الحصن لجدّه   [1] الواقع ان ابن السموأل هو الّذي كان في رحلة صيد، وعند عودته الى الحصن وجده محاصرا، فالقى قائد الحملة القبض عليه ونادى والده السموأل ليرى ابنه، واطلّ السموأل فرأى ابنه أسيرا والسيف فوق عنقه، فهدد القائد السموأل بقتل ابنه إذا لم يسلم الأمانة ولكن السموأل ابن تسليم الأمانة وبذلك يقول الأعشى: كن كالسموأل إذا طاف الهمام به ... في جحفل كهزيع الليل جرار إذا سامه خطتي خسف فقال له: ... قل ما تشاء فإنّي سامع حار فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له: ... اقتل أسيرك اني مانع جاري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 عاديا، واحتفر فيه أروية عذبة وتنزل به العرب فتصيبها وتمتار من حصنه وتقيم هنالك سوقا أهـ كلام الأغاني. وقال ابن سعيد: كندة لقب لثور بن عفير بن الحرث بن مرّة بن أدد بن يشجب بن عبيد الله بن زيد بن كهلان، وبلادهم في شرقي اليمن، ومدينة ملكهم دمون، وتوالى الملك منهم في بني معاوية بن عنزة، وكان التبابعة يصاهرونهم ويولونهم على بني معدّ ابن عدنان بالحجاز، فأوّل من ولي منهم حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية الأكبر وولاه تبّع بن كرب الّذي كسا الكعبة، وولي بعده ابنه عمرو بن حجر، ثم ابنه الحرث المقصور وهو الّذي أبى أن يتزندق مع قبّاذ ملك الفرس فقتل في بني كلب ونهب ماله، وكان قد ولّى أولاده على بني معدّ فقتل أكثرهم، وكان على بني أسد منهم حجر بن الحرث فجار عليهم فقتلوه، وتجرّد للطلب بثأره ابنه امرؤ القيس، وسار إلى قيصر فأغراه به الطماح الأسديّ. وقال: إنه يتغزّل ببنات الملوك فألبسه حلّة مسمومة تقطع بها. وقال صاحب التواريخ، إنّ الملك انتقل بعدهم إلى بني جبلة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية الأكرمين، واشتهر منهم قيس بن معديكرب بن جبلة ومنه الأعشى وابنته العمرّدة من مردة الإنس ولها في قتال المسلمين أخبار في الردة، وأسلم أخوها الأشعث ثم ارتد بعد الوفاة واعتصم بالحبر، ففتحه جيش أبي بكر رضي الله عنه وجيء به إليه أسيرا فمنّ عليه وزوّجه أخته وخرج من نسله بنو الأشعث المذكورون في الدولة الأموية. ومن بطون كندة السكون والسكاسك، وللسكاسك مجالات شرقي اليمن متميزة وهم معروفون بالسحر والكهانة، ومنهم تجيب بطن كبير كان منهم بالأندلس بنو صمادح وبنو ذي النون وبنو الأفطس من ملوك الطوائف. والله تعالى وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا ربّ غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة وأوليتهم ودولهم وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم أوّل ملك كان للعرب بالشام فيما علمناه للعمالقة، ثم لبني إرم بن سام ويعرفون بالأرمانيين. وقد ذكرنا خلاف الناس في العمالقة الذين كانوا بالشام هل هم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام أو من ولد عماليق بن أليفاز بن عيصو، وأنّ المشهور والمتعارف أنهم من عمليق بن لاوذ. كان بنو إرم يومئذ بادية في نواحي الشام والعراق، وقد ذكروا في التوراة، وكان لهم مع ملوك الطوائف حروب كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك كله من قبل، وكان آخر هؤلاء العمالقة ملك السميدع بن هوثر وهو الّذي قتله يوشع بن نون حين تغلب بنو إسرائيل على الشام، وبقي في عقبه ملك في بني الظرب بن حسّان من بني عاملة العماليق، وكان آخرهم ملكا الزبّاء بنت عمرو بن السميدع. وكانت قضاعة مجاورين لهم في ديارهم بالجزيرة وغلبوا العمالقة لما فشل ريحهم. فلما هلكت الزبّاء وانقرض أمر بني الظرب بن حسّان، ملك أمر العرب تنوخ من بطون قضاعة، وهم تنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسود بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وقد تقدّم ذكر نزولهم بالحيرة والأنبار ومجاورتهم للأرمانيين. فملك من تنوخ ثلاثة ملوك فيما ذكر المسعودي: النعمان بن عمرو، ثم ابنه عمرو بن النعمان، ثم أخوه الحوار بن عمرو، وكانوا مملكين من قبل الروم. ثم تلاشى أمر تنوخ واضمحلّ وغلبت عليهم سليح من بطون قضاعة، ثم الضجاعم منهم من ولد ضجعم بن سعد بن سليح واسمه عمرو بن حولان بن عمران بن الحاف فتنصّروا وملّكتهم الروم على العرب وأقاموا على ذلك مدّة، وكان نزولهم ببلاد مؤاب من أرض البلقاء. ويقال: إنّ الّذي ولّى سليح على نواحي الشام هو قيصر طيطش بن قيصر ماهان. قال ابن سعيد: كان لبني سليح دولتان في بني ضجعم وبني العبيد، فأمّا بنو ضجعم فملكوا إلى أن جاءهم غسّان فسلبوهم ملكهم، وكان آخرهم زياد بن الهبولة سار بمن أبقى السيف منهم إلى الحجاز فقتله والي الحجاز للتبابعة حجر آكل المرار. قال: ومن النسّابين من يطلق تنوخ على بني ضجعم ودوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 سار الضجاعم إلى بريّة الشام ودوس إلى بريّة العراق. قال: وأمّا بنو العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح فتوارثوا الملك بالحضر الّذي آثاره باقية في برية سنجار، والمشهور منهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون وقصّته مع سابور معروفة أهـ كلام ابن سعيد. ثم استحالت صبغة الرئاسة عن العرب لحمير وصارت إلى كهلان إلى بلاد الحجاز، ولما فصلت الأزد من اليمن كان نزولهم ببلاد عكّ ما بين زبيد وزمع فحاربوهم وقتلوا ملك عكّ قتله ثعلبة بن عمرو مزيقياء. قال بعض أهل اليمن، عكّ بن عدنان بن عبد الله بن أدد. قال الدار الدّارقطنيّ: عكّ بن عبد الله بن عدثان بالثاء المثلثة وضم العين ولا خلاف أنه بنونين كما لم يختلف في دوس بن عدثان قبيلة من الأزد أنه بالثاء المثلثة. ثم نزلوا بالظهران وقاتلوا جرهم بمكّة، ثم افترقوا في البلاد فنزل بنو نصر بن الأزد الشراة وعمان ونزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بيثرب وأقام بنو حارثة بن عمر وبمرّ الظهران بمكّة وهم يقال لهم خزاعة. وقال المسعودي: سار عمرو مزيقياء حتى إذا كان الشراة بمكّة أقام هنالك بنو نصر بن الأزد وعمران الكاهن، وعديّ بن حارثة بن عمرو بالأزد حتى نزلوا بين بلاد الأشعريّين وعكّ على ماء يقال له غسّان بين واديين يقال لهما زبيد وزمع فشربوا من ذلك الماء فسمّوا غسان، وكانت بينهم وبين معدّ حروب إلى أن ظفرت بهم معدّ فأخرجوهم إلى الشراة وهو جبل الأزد الذين هم به وهم على تخوم الشام ما بينه وبين الجبال مما يلي أعمال دمشق والأردن. قال ابن الكلبي: ولد عمرو بن عامر مزيقياء جفنة ومنه الملوك والحرث وهو محرق أوّل من عاقب بالنار، وثعلبة وهو العنقا، وحارثة وأبا حارثة ومالكا وكعبا ووداعة وهو في همدان وعوفا ودهل وائل ودفع ذهل إلى نجران ومنه أسقف عبيدة وذهلا وقيسا درج هؤلاء الثالثة وعمران بن عمرو فلم يشرب ابو حارثة ولا عمران ولا وائل ماء غسّان فليس يقال لهم غسّان. وبقي من أولاد مزيقياء ستة شربوا منه فهم غسّان وهم: جفنة وحارثة وثعلبة ومالك وكعب وعوف، ويقال إنّ ثعلبة وعوفا لم يشربا منه، ولمّا نزلت غسّان الشام جاوروا الضجاعم وقومهم من سليح ورئيس غسّان يومئذ ثعلبة بن عمرو بن المجالة بن الحرث بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن مازن بن الأزد، ورئيس الضجاعم يومئذ داود اللثق بن هبولة بن عمرو بن عوف بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ضجعم. وكانت الضجاعم هؤلاء ملوكا على العرب عمالا للروم كما قلناه، يجمعون ممن نزل بساحتهم لقيصر، فغلبتهم غسّان على ما بأيديهم من رياسة العرب لما كانت صبغة رياستهم الحميرية قد استحالت وعادت إلى كهلان وبطونها وعرفت الرئاسة منها باليمن قبل فصولهم، وربّما كانوا أولى عدّة وقوّة، وإنّما العزة للكاثر وكانت غسّان لأوّل نزولها بالشام طالبها ملوك الضجاعم بالإتاوة فمانعتهم غسّان فاقتتلوا فكانت الدائرة على غسّان، وأقرّت بالصغار وأدت الإتاوة حتى نشأ جذع بن عمرو [1] بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد، ورجال سليح من ولد رئيسهم داود اللثق وهو سبطة بن المنذر بن داود ويقال بل قتلة. فالتقوا فغلبتهم غسّان وأقادتهم وتفرّدوا بملك الشام وذلك عند فساد كان بين الروم وفارس، فخاف ملك الروم أن يعينوا عليه فارسا، فكتب إليهم واستدناهم ورئيسهم يومئذ ثعلبة بن عمرو أخو جذع بن عمرو، وكتبوا بينهم الكتاب على أنه إن دهمهم أمر من العرب أمدّهم بأربعين ألفا من الروم وإن دهمه أمر أمدته غسّان بعشرين ألفا، وثبت ملكهم على ذلك وتوارثوه. أوّل من ملك منهم ثعلبة بن عمرو فلم يزل ملكها إلى أن هلك وولي مكانه منهم ثعلبة بن عمرو مزيقياء. قال الجرجاني: وبعد ثعلبة بن عمرو ابنه الحرث بن ثعلبة يقال إنّه ابن مارية، ثم بعده ابنه المنذر بن الحرث، ثم ابنه النعمان بن المنذر بن الحرث، ثم أبو بشر بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، هكذا نسبه بعض النسّاب، والصحيح أنه ابن عوف بن الحرث بن عوف بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن مازن، ثم الحرث الأعرج ابن أبي شمر، ثم عمرو بن الحرث الأعرج، ثم المنذر بن الحرث الأعرج، ثم الأيهم بن جبلة بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، ثم ابنه جبله. وقال المسعودي: أوّل من ملك منهم الحرث بن عمرو مزيقياء، ثم بعده الحرث بن ثعلبة بن جفنة وهو ابن مارية ذات القرطين، وبعده النعمان بن الحرث بن جفنة بن الحرث، ثم أبو شمر بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن الحارث، ثم ملك بعده أخوه المنذر بن الحارث، ثم أخوه جبلة بن الحارث، ثم بعده عوف بن أبي شمر، ثم   [1] انظر مجمع الأمثال في قوله خذ من جذع ما أعطاك أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 بعده الحارث بن أبي شمر وعلى عهده كانت البعثة وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كتب إليه من ملوك تهامة والحجاز واليمن وبعث إليه شجاع بن وهب الأسدي يدعوه إلى الإسلام ويرغبه في الدين كذا عند ابن إسحاق. وكان النعمان بن المنذر على عهد الحارث بن أبي شمر هذا وكانا يتنازعان في الرئاسة ومذاهب المدح، وكان شعراء العرب تفد عليهما مثل الأعشى وحسّان بن ثابت وغيرهما. (ومن شعر حسّان) رضي الله تعالى عنه في مدح أبناء جفنة: للَّه درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأوّل أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل ثم ملك بعد الحارث بن أبي شمرا ابنه النعمان، ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة، وجبلة جدّه هو الّذي ملك بعد أخويه شمر والمنذر. وقال ابن سعيد: أوّل من ملك من غسّان بالشام وأذهب ملك الضجاعم جفنة بن مزيقياء. ونقل عن صاحب تواريخ الأمم: لما ملك جفنة بنى جلّق وهي دمشق وملك خمسا وأربعين سنة، واتصل الملك في بنيه إلى أن كان منهم الحارث الأعرج ابن أبي شمر وأمه مارية ذات القرطين من بني جفنة بنت الهانئ المذكورة في شعر حسّان بأرض البلقاء ومعان. قال ابن قتيبة: وهو الّذي سار إليه المنذر بن ماء السماء من ملوك الحيرة في مائة ألف، فبعث إليه الحارث مائة من قبائل العرب فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، فأظهروا أنهم رسل في الصلح حتى إذا أحاطوا برواق المنذر فتكوا به وقتلوا جميع من كان معه في الرواق وركبوا خيولهم، فمنهم من نجا ومنهم من قتل. وحملت غسّان على عسكر المنذر وقد اختطوا فهزموهم، وكانت حليمة بنت الحارث تحرّض الناس وهم منهزمون على القتال فسمي يوم حليمة [1] ، ويقال إنّ النجوم ظهرت فيه بالنهار من كثرة العجاج. ثم توالى الملك في ولد الحارث الأعرج إلى أن ملك منهم جفنة بن المنذر بن الحارث الأعرج وهو محرق لأنه حرق الحيرة دار ملك آل النعمان، وكان جوّالا في الآفاق وملك ثلاثين سنة. ثم كان ثالثة في الملك النعمان   [1] جاء في «أيام العرب» ان غسان أو شكت على الهزيمة فخرجت حليمة بالعطر على الجنود وأخذت ترشهم به وتحرضهم على قتل المنذر، وتعد القاتل بأنها ستتزوجه فبعث ذلك الحماسة في القلوب، واندفعت غسان في القتال حتى تغلبت على المناذرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 بن عمرو بن المنذر الّذي بنى قصر السويدا وقصر حارث عند صيدا وهو مذكور في شعر النابغة [1] ولم يكن أبوه ملكا وإنما كان يغزو بالجيوش [2] ، ثم ملك جبلة بن النعمان وكان منزله بصفّين وهو صاحب عين أباغ يوم كانت له الهزيمة فيه على المنذر بن المنذر ابن ماء السماء وقتل المنذر في ذلك اليوم، ثم اتصل الملك في تسعة منهم بعده وكان العاشر أبو كرب النعمان بن الحارث الّذي رثاه النابغة وكان منزله بالجولان من جهة دمشق، ثم ملك الأيهم بن جبلة بن الحارث وكان له رأي في الإفساد بين القبائل حتى أفنى بعضهم بعضا فعل ذلك ببني جسر وعاملة وغيرهم وكان منزله بتدمر وملك بعده منهم خمسة، فكان السادس منهم ابنه جبلة بن الأيهم وهو آخر ملوكهم أهـ. كلام ابن سعيد. واستفحل ملك جبلة هذا وجاء الله بالإسلام وهو على ملكه، ولما افتتح المسلمون الشام أسلم جبلة وهاجر إلى المدينة، واستشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهنّ لرؤيته لكرم وفادته، وأحسن عمر رضي الله عنه نزله وأكرم وفادته وأجلّه بأرفع رتب المهاجرين، ثم غلب عليه الشقاء ولطم رجلا من المسلمين من فزارة وطئ فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر رضي الله عنه في القصاص فأخذته العزّة بالإثم، فقال له عمر رضي الله عنه: لا بدّ أن أقيده منك، فقال له: اذن أرجع عن دينكم هذا الّذي يقاد فيه للسوقة من الملوك، فقال له عمر رضي الله عنه: اذن أضرب عنقك، فقال أمهلني الليلة حتى أرى رأيي، واحتمل رواحله وأسرى فتجاوز الدروب الى قيصر ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة. وفيما تذكره الثقات أنه ندم ولم يزل باكيا على فعلته تلك وكان فيما يقال يبعث بالجوائز الى حسان بن ثابت لما كان منه في مدح قومه ومدحه في الجاهلية. وعند ابن هشام أنّ شجّاع بن وهب إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبلة. قال المسعودي: جميع ملوك غسّان بالشام أحد عشر ملكا وقال: إنّ النعمان والمنذر إخوة جبلة وأبي شمر وكلهم بنو الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ملكوا كلهم.   [1] وفي أبيات النابغة وردت حارب لا حارث حيث يقول: لئن كان للقصرين: قصر يحلق ... وقصر بصيداء الّذي عند حارب [2] وفي نسخة ثانية: الجيش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 قال: وقد ملك الروم على الشام من غير آل جفنة مثل: الحارث الأعرج وهو أبو شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف وعوف هذا جدّ ثعلبة بن عامر قاتل داود اللثق، وملكوا عليهم أيضا أبا جبيلة بن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج بن ثعلبة بن مزيقياء وهو أبو جبيلة الّذي استصرخه مالك بن العجلان على يهود يثرب حسبما نذكر بعد. وقال ابن سعيد عن صاحب تواريخ الأمم: إنّ جميع ملوك بني جفنة اثنان وثلاثون ومدّتهم ستمائة سنة، ولم يبق لغسّان بالشام قائمة، وورث أرضهم بها قبيلة طيِّئ. قال ابن سعيد: وأمراؤهم بنو مرا وأمّا الآن فأمراؤهم بنو مهنّا وهما معا لربيعة بن عليّ ابن مفرّج بن بدر بن سالم بن عليّ بن سالم بن قصة بن بدر بن سميع. وقامت غسان بعد منصرفها من الشام بأرض القسطنطينية حتى انقرض ملك القياصرة، فتجهزوا إلى جبل شركس، وهو ما بين بحر طبرستان وبحر نيطش الّذي يمدّه خليج القسطنطينية، وفي هذا الجبل باب الأبواب وفيه من شعوب الترك المتنصّرة الشركس وأركس واللاص وكسا ومعهم أخلاط من الفرس ويونان، والشركس غالبون على جميعهم، فانحازت قبائل غسّان إلى هذا الجبل عند انقراض القياصرة والروم وتحالفوا معهم واختلطوا بهم ودخلت أنساب بعضهم في بعض، حتى ليزعم كثير من الشركس أنّهم من نسب غسّان. وللَّه حكمة بالغة في خلقه والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا انقضاء لملكه ولا ربّ غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة وذكر أوليتهم والإلمام بشأن نصرتهم وكيف انقراض أمرهم قد ذكرنا فيما تقدّم شأن يثرب وأنها من بناء يثرب بن فانية بن مهلهل بن إرم بن عبيل ابن عوص وعبيل أخوه عاد. وفيما ذكر السهيليّ: أن يثرب بن قائد بن عبيل بن مهلاييل بن عوص بن عمليق بن لاوذ بن إرم، وهذا أصح وأوجه. وقد ذكرنا كيف صار أمر هؤلاء لإخوانهم جاسم من الأمم العمالقة وأن ملكهم كان يسمّى الأرقم وكيف تغلب بنو إسرائيل عليه وقتلوه وملكوا الحجاز دونه كله من أيدي العمالقة، ويظهر من ذلك أنّ الحجاز لعهدهم كان آهلا بالعمران وجميع مياهه، يشهد بذلك أنّ داود عليه السلام لمّا خلع بنو إسرائيل طاعته وخرجوا عليه بابنه أشبوشت فرّ مع سبط يهوذا إلى خيبر وملك ابنه الشام وأقام هو وسبط يهوذا بخيبر سبع سنين في ملكه، حتى قتل ابنه وعاد إلى الشام. فيظهر من هذا أنّ عمرانه كان متصلا بيثرب ويجاوزها إلى خيبر. وقد ذكرنا هنالك كيف أقام من بني إسرائيل من أقام بالحجاز وكيف تبعتهم يهود خيبر وبنو قريظة. قال المسعودي: وكانت الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأكثرها ماء فنزلوا بلاد يثرب واتخذوا بها الأموال وبنوا الآطام [1] والمنازل في كل موطن، وملّكوا أمر أنفسهم، وانضافت إليهم قبائل من العرب نزلوا معهم واتخذوا الأطم والبيوت وأمرهم راجع إلى ملوك المقدس من عقب سليمان عليه السلام. قال شاعر بني نعيف: ولو نطقت يوما قباء لخبّرت ... بأنّا نزلنا قبل عاد وتبّع وآطامنا عادية مشمخرّة ... تلوح فتنعى من يعادي ويمنع فلمّا خرج مزيقياء من اليمن وملك غسّان بالشام ثم هلك، وملك ابنه ثعلبة العنقاء ثم هلك ثعلبة العنقاء، وولي أمرهم بعد ثعلبة عمرو ابن أخيه جفنة سخط مكانه ابنه حارثة فأجمع الرحلة إلى يثرب، وأقام بنو جفنة بن عمرو ومن انضاف إليهم بالشام، ونزل حارثة يثرب على يهود خيبر وسألهم الحلف والجوار على الأمان والمنعة فأعطوه من   [1] الآطام: ج أطم وهي القلعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ذلك ما سأل. قال ابن سعيد: وملك اليمن يومئذ شريب بن كعب فكانوا بادية لهم إلى أن انعكس الأمر بالكثرة والغلبة. ومن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني قال: بنو قريظة وبنو النضير الكاهنان من ولد الكوهن بن هارون عليه السلام، كانوا بنواحي يثرب بعد موسى عليه السلام وقبل تفرّق الأزد من اليمن بسيل العرم ونزول الأوس والخزرج يثرب وذلك بعد الفجّار. ونقل ذلك عن عليّ بن سليمان الأخفش بسنده إلى العماري قال: ساكنو المدينة العماليق وكانوا أهل عدوان وبغي، وتفرّقوا في البلاد، وكان بالمدينة منهم بنو نعيف وبنو سعيد وبنو الأزرق وبنو نظرون، وملك الحجاز منهم الأرقم ما بين تيماء إلى فدك وكانوا ملوك المدينة ولهم بها نخل وزرع، وكان موسى عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة يغزونهم، وبعث إلى العمالقة جيشا من بني إسرائيل وأمرهم أن لا يستبقوا أحدا فأبقوا ابنا للأرقم ضنّوا به على القتل، فلمّا رجعوا بعد وفاة موسى عليه السلام وأخبروا بني إسرائيل بشأنه فقالوا هذه معصية لا تدخلوا علينا الشام، فرجعوا إلى بلاد العمالقة ونزلوا المدينة وكان هذا أوّلية سكنى اليهود بيثرب. وانتشروا في نواحيها واتخذوا بها الآطام والأموال والمزارع ولبثوا زمانا، وظهر الروم على بني إسرائيل بالشام وقتلوهم وسبوا، فخرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل هاربين إلى الحجاز وتبعهم الروم فهلكوا عطشا في المفازة بين الشام والحجاز. وسمّي الموضع تمر الروم. ولما قدم هؤلاء الثلاثة المدينة نزلوا العالية فوجدوها وابية [1] وارتادوا. ونزل بنو النضير مما يلي البهجان، وبنو قريظة وبنو يهدل على نهروز. وكان ممن سكن المدينة من اليهود حين نزلها الأوس والخزرج بنو الشقمة. وبنو ثعلبة وبنو زرعة وبنو قينقاع وبنو يزيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل وبنو عوف وبنو عصص، وكان بنو يزيد من بليّ وبنو نعيف من بليّ وبنو الشقمة من غسّان. وكان يقال لبني قريظة وبني النضير الكاهنان كما مرّ. فلما كان سيل العرم وخرجت الأزد نزلت أزدشنوءة الشام بالسراة وخزاعة بطوى، ونزلت غسّان بصرى [2] وأرض الشام، ونزلت أزد عمان الطائف، ونزلت الأوس والخزرج يثرب نزلوا في ضرار بعضهم بالضاحية وبعضهم بالقرى مع أهلها، ولم يكونوا أهل نعم وشاء لأنّ المدينة كانت ليست بلاد مرعى، ولا نخل   [1] اي وجدوها موبؤة، نزل بها الوباء. [2] وتعرف ببصرى الشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 لهم ولا زرع إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من الموات والأموال لليهود فلبثوا حينا. ثم وفد مالك بن عجلان إلى أبي جبلة الغسّاني وهو يومئذ ملك غسّان فسأله فأخبره عن ضيق معاشهم، فقال: ما بالكم لم تغلبوهم حين غلبنا أهل بلدنا؟ ووعده أنه يسير إليهم فينصرهم، فرجع مالك وأخبرهم أنّ الملك آبا جبيلة يزورهم فأعدوا له نزلا فأقبل ونزل بذي حرض، وبعث إلى الأوس والخزرج بقدومه، وخشي أن يتحصّن منه اليهود في الآطام فاتخذ حائرا وبعث إليهم فجاءوه في خواصهم وحشمهم، وأذن لهم في دخول الحائر وأمر جنوده فقتلوهم رجلا رجلا إلى أن أتوا عليهم، وقال للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنّكم ورجع الى الشام فأقاموا في عداوة مع اليهود. ثم أجمع مالك بن العجلان وصنع لهم طعاما ودعاهم فامتنعوا لغدرة أبي جبيلة، فاعتذر لهم مالك عنها وأنه لا يقصد نحو ذلك فأجابوه وجاءوا إليه فغدرهم وقتل منهم سبعة وثمانين من رؤسائهم، وفطن الباقون فرجعوا وصوّرت اليهود بالحجاز مالك بن العجلان في كنائسهم وبيعهم وكانوا يلعنونه كلما دخلوا. ولما قتلهم مالك ذلّوا وخافوا وتركوا مشي بعضهم إلى بعض في الفتنة كما كانوا يفعلون من قبل، وكان كل قوم من اليهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يستنصرون بهم ويكونون لهم أحلافا أهـ كلام الأغاني. وكان لحارثة بن ثعلبة ولدان أحدهما أوس والآخر خزرج، وأمّهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة وقيل بنت كاهن بن عذرة من قضاعة، فأقاموا كذلك زمانا حتى أثروا وامتنعوا في جانبهم وكثر نسلهم وشعوبهم، فكان بنو الأوس كلهم لمالك بن الأوس منهم خطمة بن جشم بن مالك وثعلبة ولوذان وعوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك، ومن بني عوف بن عمرو حنش ومالك وكلفة كلهم بنو عوف، ومن مالك بن عوف معاوية وزيد. فمن زيد عبيد وضبيعة وأميّة ومن كلفة بن عوف جحجبا بن كلفة ومن مالك بن الأوس أيضا الحارث وكعب ابنا الخزرج بن عمرو ابن مالك، فمن كعب بنو ظفر ومن الحارث بن الخزرج حارثة وجشم، ومن جشم بنو عبد الأسهل، ومن مالك بن الأوس أيضا بنو سعد وبنو عامر ابنا مرّة بن مالك فبنوا سعد الجعادرة، ومن بني عامر عطيّة وأميّة ووائل كلهم بنو زيد بن قيس بن عامر، ومن مالك بن الأوس أيضا أسلم وواقف بنو امرئ القيس بن مالك فهذه بطون الأوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وأمّا الخزرج فخمسة بطون من كعب وعمرو وعوف وجشم والحارث، فمن كعب بن الخزرج بنو ساعدة بن كعب، ومن عمرو بن الخزرج بنو النجّار وهم تيم الله بن ثعلبة بن عمرو وهم شعوب كثيرة: بنو مالك وبنو عديّ وبنو مازن وبنو دينار كلهم بنو النجّار، ومن مالك بن النجّار مبدول واسمه عامر وغانم وعمرو، ومن عمرو عديّ معاوية، ومن عوف بن الخزرج بنو سالم والقواقل وهما عوف بن عمرو بن عوف. والقواقل ثعلبة ومرضخة بنو قوقل بن عوف، ومن سالم بن عوف بنو العجلان بن زيد بن عصم بن سالم وبنو سالم بن عوف، ومن جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم وتزيد بن جشم، فمن غضب بن جشم بنو بياضة وبنو زريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، ومن تزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن تزيد، ومن الحارث بن الخزرج بنو خدرة وبنو حرام ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. فهذه بطون الخزرج. فلما انتشر بيثرب هذان الحيّان من الأوس والخزرج وكثروا يهود، خافوهم على أنفسهم، فنقضوا الحلف الّذي عقدوه لهم وكان العزّة يومئذ بيثرب لليهود، قال قيس بن الحطيم: كنّا إذا رابنا قوم بمظلمة ... شدّت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا بنو الرهون وواسونا بأنفسهم ... بنو الصريخ فقد عفّوا وقد كرموا ثم نتج فيهم بعد حين مالك بن العجلان وقد ذكر نسب العجلان، فعظم شأن مالك وسوّده الحيّان، فلما نقض يهود الحلف واقعهم وأصاب منهم ولحق بأبي جبيلة ملك غسّان بالشام وقيل بعث إليه الرنق بن زيد بن امرئ القيس فقدم عليه فأنشده: أقسمت أطعم من رزق قطرة ... حتى تكثّر للنجاة رحيل حتى ألاقي معشر أنّى لهم ... خلّ ومالهم لنا مبذول أرض لنا تدعى قبائل سالم ... ويجيب فيها مالك وسلول قوم أولو عزّ وعزّة غيرهم ... إنّ الغريب ولو يعزّ ذليل فأعجبه وخرج في نصرتهم. وأبو جبيلة هو ابن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، كان حبيب بن عبد حارثة وأخوه غانم ابنا الجشمي ساروا مع غسّان إلى الشام وفارقوا الخزرج. ولما خرج أبو جبيلة إلى يثرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 لنصرة الأوس والخزرج لقيه أبناء قيلة وأخبروه أنّ يهود علموا بقصده فتحصّنوا في آطامهم فوري [1] عن قصده باليمن، وخرجوا إليه فدعاهم إلى صنيع أعده لرؤسائهم ثم استلحمهم، فعزت الأوس والخزرج من يومئذ وتفرّقوا في عالية يثرب وسافلتها يتبوّءون منها حيث شاءوا، وملكت أمرها على يهود، فذلت اليهود وقلّ عددهم وعلت قدم أبناء قيلة عليهم، فلم يكن لهم امتناع إلّا بحصونهم وتفرّقهم أحزابا على الحيّين إذا اشتجرا. وفي كتاب ابن إسحاق: إنّ تبعا أبا كرب غزا المشرق فمرّ بالمدينة وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة، فلما رجع أجمع على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن ظلّة، وظلة أمّه وأبوه معاوية بن عمرو. قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عديّ بن النجّار ويقال له أحمر نزل بهم تبّع، وقال: إنّما التمر لمن أبره. فزاد ذلك تبّعا حنقا عليهم فاقتتلوا. وقال ابن قتيبة في هذه الحكاية إنّ الّذي عدا على التبّعي هو مالك بن العجلان، وأنكره السهيليّ، وفرّق بين القصتين بأنّ عمرو بن ظلة كان لعهد تبّع ومالك بن العجلان لعهد أبي جبيلة واستبعد ما بين الزمانين. ولم يزل هذان الحيّان قد غلبوا اليهود على يثرب. وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في حلفهم من جاورهم من قبائل مضر وكانت قد تكون بينهم في الحيّين فتن وحروب ويستصرخ كل بمن دخل في حلفه من العرب ويهود. قال ابن سعيد: ورحل عمرو بن الإنابة من الخزرج إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة فملكه على الحيرة، واتصلت الرئاسة في الخزرج والحرب بينهم وبين الأوس، ومن أشهر الوقائع التي كانت بينهم يوم بعاث قبل المبعث، كان على الخزرج فيه عمرو بن النعمان بن صلاة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة، وكان على الأوس يومئذ حضير الكتائب ابن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. وكان حلفاء الخزرج يومئذ أشجّ من غطفان وجهينة من قضاعة، وحلفاء الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس وقريظة والنضير من يهود، وكان الغلب صدر النهار للخزرج ثم نزل حضير وحلف لا أركب أو أقتل، فتراجعت الأوس وحلفاؤها وانهزم الخزرج، وقتل عمرو بن النعمان رئيسهم. وكان آخر الأيام بينهم،   [1] أي أخفى قصده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وصبحهم الإسلام وقد سئموا الحرب وكرهوا الفتنة، فأجمعوا على أن يتوّجوا عبد الله ابن أبي بن سلول. ثم اجتمع أهل العقبة منهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ودعاهم إلى نصرة الإسلام، فجاءوا إلى قومهم بالخبر كما نذكر وأجابوا واجتمعوا على نصرته، ورئيس الخزرج سعد بن عبادة والأوس سعد بن معاذ. قالت عائشة: كان يوم بعاث يوما قدّمه الله لرسوله، ولما بلغهم خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكّة وما جاء به من الدين وكيف أعرض قومه عنه وكذّبوه وآذوه وكان بينهم وبين قريش إخاء قديم وصهر، فبعث أبو قيس بن الأسلت من بني مرّة بن مالك بن الأوس ثم من بني وائل منهم واسمه صيفي بن عامر بن شحم بن وائل وكان يحبهم لمكان صهره فيهم، فكتب إليهم قصيدة يعظّم لهم فيها الحرمة ويذكر فضلهم وحلمهم وينهاهم عن الحرب، ويأمرهم بالكفّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكّرهم بما رفع الله عنهم من أمر الفيل وأوّلها: أيا راكبا إمّا عرضت فبلغن ... مقالة أوسيّ لؤيّ بن غالب تناهز خمسا وثلاثين بيتا ذكرها ابن إسحاق في كتاب السير، فكان ذلك أوّل ما ألقح بينهم من الخير والإيمان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يئس من إسلام قومه يعرض نفسه على وفود العرب وحجاجهم أيّام الموسم أن يقوموا بدين الإسلام وبنصره حتى يبلغ ما جاء به من عند الله وقريش يصدّونهم عنه ويرمونه بالجنون والشعر والسحر كما نطق به القرآن، وبينما هو في بعض المواسم عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ست نفر اثنان من بني غانم بن مالك وهما: أسعد بن زرارة بن عديّ بن عبيد الله بن ثعلبة بن غانم ابن عوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غانم وهو ابن عفراء، ومن بني زريق بن عامر: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، ومن بني غانم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عبد الله بن عمرو بن الحرث بن ثعلبة بن الحرث ابن حرام بن كعب بن غانم كعب بن رئاب بن غانم وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غانم بن سواد بن غانم وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب ابن غانم. فلما لقيهم قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج! قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم! فقال: ألا تجلسون أكلمكم؟ فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 النبي الّذي تعدكم يهودية فلا يسبقنّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم وصدّقوه وآمنوا به وأرجأوا الأمر في نصرته إلى لقاء قومهم، وقدموا المدينة فذكروا لقومهم شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وافى الموسم في العام المقبل اثنا عشر منهم فوافوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحرث وأخوه معاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك ابن العجلان، وعقبة بن عامر من الستة الأولى، وستة آخرون منهم من بني غانم بن عوف من القواقل: منهم عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غانم، ومن بني زريق ذكوان بن عبد القيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق والعبّاس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان، هؤلاء التسعة من الخزرج وأبو عبد الرحمن بن زيد بن ثعلبة بن خزيمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة بن بني عصيّة من بليّ إحدى بطون قضاعة حليف لهم، ومن الأوس رجلان الهيثم بن التيهان واسمه مالك بن التيهان بن مالك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهر وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف. فبايعوه على الإسلام بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض الحرب، ومعناه أنه حينئذ لم يؤمر بالجهاد وكانت البيعة على الإسلام فقط، كما وقع في بيعة النساء على أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ 60: 12 الآية، وقال لهم: فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفّارة له، وإن سترتم عليه في الدنيا إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذّب وإن شاء غفر. وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي يقريهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم في الدين، فكان يصلّي بهم، وكان منزله على أسعد بن زرارة. وغلب الإسلام في الخزرج وفشا فيهم وبلغ المسلمون من أهل يثرب أربعين رجلا فجمعوا، ثم أسلم من الأوس سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل وابن عمه أسيد بن حضير الكتائب وهما سيدا بني عبد الأشهل، وأوعب الإسلام بني عبد الأشهل وأخذ من كل بطن من الأوس ما عدا بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وهي أوس أمّه من الأوس من بني حارثة، ووقف بهم عن الإسلام أبو قيس بن الأسلت يرى رأيه حتى مضى صدر من الإسلام ولم يبق دار من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 دور أبناء قيلة إلّا وفيها رجال ونساء مسلمون. ثم رجع مصعب إلى مكّة، وقدم المسلمون من أهل المدينة معه فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق فبايعوه، وكانوا ثلاثمائة وسبعين رجلا وامرأتين، بايعوه على الإسلام وأن يمنعوه ممن أراده بسوء ولو كان دون ذلك القتل، وأخذ عليهم النقباء اثني عشر تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وأسلم ليلتئذ عبد الله بن عمرو بن حرام وأبو جابر بن عبد الله، وكان أوّل من بايع البراء بن معرور من بني تزيد بن جشم من الخزرج. وصرخ الشيطان بمكانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنطست [1] قريش الخبر فوجدوه قد كان فخرجوا في طلب القوم، وأدركوا سعد بن عبادة وأخذوه وربطوه حتى أطلقه جبير بن مطعم بن عدي ابن نوفل والحرث بن حرب بن أمية بن عبد شمس لجوار كان له عليهما ببلده. فلمّا قدم المسلمون المدينة أظهروا الإسلام ثم كانت بيعة الحرب حتى أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال، فبايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرته عليهم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله وأن يقوموا بالحق أينما كانوا ولا يخافوا في الله لومة لائم. ولما تمت بيعة العقبة وأذن الله لنبيّه في الحرب أمر المهاجرين الذين كانوا يؤذون بمكّة أن يلحقوا بإخوانهم من الأنصار بالمدينة، فخرجوا أرسالا وأقام هو بمكّة ينتظر الإذن في الهجرة فهاجر من المسلمين كثير سمّاهم ابن إسحاق وغيره. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن هاجر هو وأخوه زيد وطلحة بن عبيد الله وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأنيسة وأبو كبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وعثمان بن عفّان رضي الله عنهم. ثم أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فهاجر وصحبه أبو بكر رضي الله عنه، فقدم المدينة ونزل في الأوس على كلثوم بن مطعم بن امرئ القيس بن الحرث بن زيد بن عبيد بن مالك بن عوف. وسيد الخزرج يومئذ عبد الله بن أبي ابن سلول وأبيّ هو ابن مالك بن الحرث بن عبيد واسم أم عبيد سلول وعبيد هو ابن مالك بن سالم بن غانم بن عوف بن غانم بن مالك بن النجّار، وقد نظموا له الخرز ليملّكوه على الحيين، فغلب على أمره واجتمعت أبناء قيلة كلهم على الإسلام، فضغن لذلك لكنه أظهر أن يكون له اسم منه، فأعطى الصفقة وطوى على النفاق   [1] تنطست: اي تجسّست عن الاخبار وبحثت عنها. (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 كما يذكر بعد. وسيد الأوس يومئذ أبو عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد، فخرج إلى مكة هاربا من الإسلام حين رأى اجتماع قومه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بغضا في الدين، ولما فتحت مكة فرّ إلى الطائف، ولما فتح الطائف فرّ الى الشام فمات هنالك. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري حتى ابنتي مساكنه ومسجده ثم انتقل إلى بيته. وتلاحق به المهاجرون واستوعب الإسلام سائر الأوس والخزرج وسمّوا الأنصار يومئذ بما نصروا من دينه، وخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم وكتب بين المهاجرين والأنصار كتابا وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم شرط لهم كما يفيده كتاب ابن إسحاق فلينظر هنالك. ثم كانت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه فغزاهم وغزوة وكانت حروبهم سجالا، ثم كان الظهور والظفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم آخرا كما نذكر في سيرته صلى الله عليه وسلم، وصبر الأنصار في المواطن كلها واستشهد من أشرافهم ورجالاتهم كثير هلكوا في سبيل الله وجهاد عدوّه. ونقض أثناء ذلك اليهود الذين بيثرب على المهاجرين والأنصار ما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهروا عليه، فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيهم وحاصرهم طائفة بعد أخرى، وأمّا بنو قينقاع فإنّهم تثاوروا مع المسلمين بسيوفهم وقتلوا مسلما، وأمّا بنو النضير وقريظة فمنهم من قتله الله وأجلاه، فأمّا بنو النضير فكان من شأنهم بعد أحد وبعد بئر معونة جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية من القرى، ولم يكن علم بعقدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما نذكره، فهمّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءهم لذلك خديعة منهم ومكرا، فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء وأن يحملوا ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة [1] وافترقوا في خيبر وبني قريظة. وأمّا بنو قريظة فظاهروا قريشا في غزوة الخندق فلما فرج الله كما نذكره حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكمه وكلمته وشفع الأوس فيهم، وقالوا تهبهم لنا كما وهبت بني قينقاع للخزرج، فردّ حكمهم إلى سعد بن معاذ وكان جريحا في المسجد أثبت في غزوة الخندق، فجاء   [1] الدرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم تحكم في هؤلاء بعد ان استحلف الأوس أنهم راضون بحكمه، فقال: يا رسول الله تضرب الأعناق وتسبي الأموال والذرية، فقال حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. فقتلوا عن آخرهم وهم ما بين الستمائة والتسعمائة. ثم خرج إلى خيبر بعد الحديبيّة سنة ست فحاصرهم وافتتحها عنوة وضرب رقاب اليهود وسبى نساءهم، وكان في السبي صفية بنت حيّي بن أخطب، وكان أبوها قتل مع بني قريظة وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وقتله محمد بن مسلمة غزاه من المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستة نفر فبيته. فلما افتتحت خيبر اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وقسم الغنائم في الناس من القمح والتمر، وكان عدد السهام التي قسّمت عليها أموال خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتان. وكانت أرضهم الشّقّ ونطاة والكتيبة، فحصلت الكتيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخمس ففرّقها على قرابته ونسائه ومن وصلهم من المسلمين، وأعمل أهل خيبر على المسافات ولم يزالوا كذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه. ولما كان فتح مكة سنة ثمان وغزوة حنين على أثرها وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم فيمن كان يستألفه على الإسلام من قريش وسواهم، وجد الأنصار في أنفسهم وقالوا: سيوفنا تقطر من دمائهم وغنائمنا تقسّم فيهم مع أنّهم كانوا ظنوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح بلاده وجمع على الدين قومه إنه سيقيم بأرضه وله غنيّة عنهم. وسمعوا ذلك من بعض المنافقين. وبلغ ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقال: يا معشر الأنصار ما الّذي بلغكم عني؟ فصدقوه الحديث، فقال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله ومتفرّقين فجمعكم الله؟ فقالوا الله ورسوله آمنّ. فقال: «لو شئتم لقلتم جئتنا طريدا فآويناك ومكذّبا فصدّقناك ولكن والله إني لأعطي رجالا استألفهم على الدين وغيرهم أحب اليّ، ألا ترضون أن ينقلب الناس بالشاء والبعير وتنقلبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ أمّا والّذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الناس دثار وأنتم شعار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار» . ففرحوا بذلك ورجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب فلم يزل بين أظهرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 إلى أن قبضه الله إليه. ولما كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة بن كعب ودعت الخزرج إلى بيعة سعد بن عبادة، وقالوا لقريش: منا أمير ومنكم أمير ضنّا بالأمر أو بعضه فيهم لما كان من قيامهم بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع المهاجرون، واحتجوا عليهم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالأنصار في الخطبة ولم يخطب بعدها. قال: أوصيكم بالأنصار إنهم كرشي [1] وعيبتي [2] وقد قضوا الّذي عليهم وبقي الّذي لهم فأوصيكم بأن تحسنوا إلى محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم فلو كانت الإمارة لكم لكانت ولم تكن الوصية بكم فحجوهم. فقام بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحرث بن الخزرج فبايع لابي بكر واتبعه الناس، فقال حباب بن المنذر بن الجموح بن حرام بن كعب بن غانم بن سلمة بن سعد يا بشير أنفست بها ابن عمك يعني الإمارة، قال لا والله ولكني كرهت أن أنازع الحق قوما جعله الله لهم. فلما رأى الأوس ما صنع بشير بن سعد وكانوا لا يريدون الأمر للخزرج قاموا فبايعوا أبا بكر، ووجد سعد فتخلف عن البيعة ولحق بالشام إلى أن هلك وقتله الجنّ فيما يزعمون وينشدون من شعر الجنّ. نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادة ... ضربناه بسهم فلم تخط فؤاده وكان لابنه قيس من بعده غناء في الأيام ... وأثرا في فتوحات الإسلام وكان له انحياش إلى عليّ في حروبه مع معاوية، وهو القائل لمعاوية بعد مهلك عليّ رضي الله عنه وقد عرض به معاوية في تشيعه فقال: والآن ماذا يا معاوية؟ والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا. وكان أجود العرب وأعظمهم جثمانا، يقال: إنه كان إذا ركب تخط رجلاه الأرض. ولما ولي يزيد بن معاوية وظهر من عسفه وجوره وإدالته الباطل من الحق ما هو معروف، امتعضوا للدين وبايعوا لعبد الله بن الزبير حين خرجوا بمكة، واجتمعوا على حنظلة بن عبد الله الغسيل إن أبي عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك   [1] كرش الرجل: صار له جيش بعد انفراده. [2] العيبة من الرجل موضع سره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 ابن صيفي بن أمية بن ضبيعة بن زيد، وعقد ابن الزبير لعبد الله بن مطيع بن إياس على المهاجرين معهم، وسرح يزيد إليهم مسلم بن عقبة المريّ، وهو عقبة بن رباح ابن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مرّة بن عوف ابن سعد بن دينار بن بغيض بن ريث ابن غطفان، فيمن فرض عليه من بعوث الشام والمهاجرين. فالتقوا بالحرة، حرة بني زهرة، وكانت الدبرة على الأنصار واستلحمهم جنود يزيد، ويقال إنه قتل في ذلك اليوم من المهاجرين والأنصار سبعون بدريّا وهلك عبد الله بن حنظلة يومئذ فيمن هلك، وكانت إحدى الكبر التي أتاها يزيد. واستفحل ملك الإسلام من بعد ذلك واتسعت دولة العرب، وافترقت قبائل المهاجرين والأنصار في قاصية الثغور بالعراق والشام والأندلس وإفريقية والمغرب حامية ومرابطين، فافترق الحيّ أجمع من أبناء قيلة وافترقت وأقفرت منهم يثرب، ودرسوا فيمن درس من الأمم. وتِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ 2: 134 والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. لا خالق سواه ولا معبود إلّا إياه ولا خير إلّا خيره ولا ربّ غيره، وهو نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد للَّه رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 الخبر عن بني عدنان وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام وأوّلية ذلك ومصايره قد تقدّم لنا أن نسب عدنان إلى إسماعيل عليه السلام باتفاق من النسّابين، وأنّ الآباء بينه وبين إسماعيل غير معروفة، وتنقلب في غالب الأمر مخلطة مختلفة بالقلّة والكثرة في العدد حسبما ذكرناه، فأمّا نسبته إليه فصحيحة في الغالب ونسب النبيّ صلى الله عليه وسلم منها إلى عدنان صحيح باتفاق من النسّابين. وأمّا بين عدنان وإسماعيل فبين الناس فيه اختلاف كثير، فقيل من ولد نابت بن إسماعيل وهو عدنان بن أدد المقدّم ابن ناحور بن تنوخ بن يعرب بن يشجب بن نابت قاله البيهقي، وقيل من ولد قيذار ابن إسماعيل وهو عدنان بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل ابن قيذار قاله الجرجاني علي بن عبد العزيز النسّابة، وقيل عدنان بن أدد بن يشجب ابن أيوب بن قيذار، ويقال إنّ قصيّ بن كلاب كان يومي شعره بالانتساب إلى قيذار. ونقل القرطبيّ عن هشام بن محمد فيما بين عدنان وقيذار نحوا من أربعين أبا، وقال سمعت رجلا من أهل تدمر من مسلمة يهود وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معدّ بن عدنان إلى إسماعيل من كتاب إرمياء النبي عليه السلام وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلّا قليلا، ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة لأنّ الأسماء ترجمت من العبرانية. ونقل القرطبي عن الزبير بن بكار بسنده إلى ابن شهاب فيما بين عدنان وقيذار قريبا من ذلك العدد، ونقل عن بعض النسّابين أنه حفظ لمعدّ بن عدنان أربعين أبا إلى إسماعيل، وأنه قابل ذلك بما عند أهل الكتاب في نفسه فوجده موافقا وإنما خالف في بعض الأسماء، قال: واستمليته فأملاه عليّ ونقله الطبريّ الى آخره. ومن النسّابين من يعدّ بين عدنان وإسماعيل عشرين أو خمسة عشر ونحو ذلك. وفي الصحيح عن أم سلمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: معدّ بن عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثراء. قالت أم سلمة: وزيد هو الهميسع وبرا هو نبت أو نابت وأعراق الثرى هو إسماعيل، وقد تقدّم هذا أوّل الكتاب، وأنّ السهيليّ ردّ تفسير أم سلمة وقال: ليس المراد بالحديث عدّ الآباء بين معدّ وإسماعيل وإنما معناه معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 قوله في الحديث الآخر: أنتم بنو آدم وآدم من التراب، وعضد ذلك باتفاق النسّابين على بعد المدّة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو خمسة أو عشرة إذ المدة أطول من هذا كله بكثير. وكان لعدنان من الولد على ما قال الطبري ستة: الربب وهو عكّ وعرق وبه سميت عرق اليمن وأدّ وأبيّ والضحّاك وعبق وأمهم مهدد، قال هشام بن محمد هي من جديس وقيل من طسم وقيل من الطواسيم من نسل لفشان بن إبراهيم. قال الطبري: ولما قتل أهل حضورا شعيب بن مهدم نبيهم أوحى الله إلى إرميا وأبرخيا من أنبياء بني إسرائيل بأن يأمر بخت نصّر يغزو العرب ويعلماه أنّ الله سلّطه عليهم، وأن يحتملا معدّ بن عدنان إلى أرضهم ويستنقذاه من الهلكة لما أراده من شأن النبوة المحمديّة في عقبه، كما مرّ ذلك من قبل، فحملاه على البراق ابن اثنتي عشرة سنة وخلصا به إلى حرّان فأقام عندهما وعلّماه علم كتابهما، وسار بخت نصّر إلى العرب فلقيه عدنان فيمن اجتمع إليه من حضورا وغيرهم بذات عرق فهزمهم بخت نصّر وقتلهم أجمعين، ورجع إلى بابل بالغنائم والسبي وألقاها بالأنبار. ومات عدنان عقب ذلك وبقيت بلاد العرب خرابا حقبا من الدهر حتى إذا هلك بخت نصّر خرج معدّ في أنبياء بني إسرائيل إلى مكّة، فحجوا وحج معهم ووجد أخويه وعمومته من بني عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن وتزوّجوا فيهم، وتعطّف عليهم أهل اليمن بولادة جرهم فرجّعهم إلى بلادهم، وسأل عمن بقي من أولاد الحرث بن مضاض الجرهميّ فقيل له بقي جرهم بن جلهة فتزوّج ابنته معانة وولدت له نزار بن معدّ. وأمّا مواطن بني عدنان هؤلاء فهي مختصة بنجد، وكلها بادية رحّالة إلا قريشا بمكّة، ونجد هو المرتفع من جانبي الحجاز وطوله مسيرة شهر من أوّل السروات التي تلي اليمن إلى آخرها المطلة على أرض الشام مع طول تهامة، وأوّله في أرض الحجاز من جهة العراق العذيب مما يلي الكوفة وهو ماء لبني تميم، وإذا دخلت في أرض الحجاز فقد أنجدت، وأوّله من جهة تهامة الحجاز حضن ولذلك يقال أنجد من رأى حضنا. قال السهيليّ: وهو جبل متصل بجبل الطائف الّذي هو أعلى نجد تبيض فيه النسور، قال: وسكانه بنو جشم بن بكر وهو أوّل حدود نجد، وأرض تهامة من الحجاز في قرب نجد مما يلي بحر القلزم في سمت مكّة والمدينة وتيماء وأيلة وفي شرقها بينها وبين جبل نجد غير بعيد، منها العوالي وهي ما ارتفع عن هذه الأرض، ثم تعلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 عن السروات ثم ترتفع إلى نجد وهي أعلاها. والعوالي والسروات بلاد تفصل بين تهامة ونجد متصلة من اليمن إلى هشام كسروات الخيل تخرج من نجد منفصلة من تهامة داخلة في بلاد أهل الوبر. وفي شرقي هذا الجبل برّيّة نجد ما بينه وبين العراق متصلة باليمامة وعمان والبحرين إلى البصرة، وفي هذه البريّة ومشاتي للعرب تشتو بها منهم خلق أحياء لا يحصيهم إلّا خالقهم. قال السهيليّ: واختص بنجد من العرب بنو عدنان لم تزاحمهم فيه قحطان إلّا طيِّئ من كهلان فيما بين الجبلين سلمى وأجأ، وافترق أيضا من عدنان في تهامة والحجاز، ثم في العراق والجزيرة، ثم افترقوا بعد الإسلام على الأوطان. وأمّا شعوبهم فمن عدنان عكّ ومعدّ فمواطن عكّ في نواحي زبيد، وقال عكّ بن الديث بالدال غير منقوطة والثاء مثلثة ابن عدنان، ويقال أن عكّا هذا هو ابن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله من بطون الأزد ومن عكّ بن عدثان بنو عائق بن الشاهد بن علقمة بن عكّ بطن متسع كان منهم في الإسلام رؤساء وأمراء. وأمّا معدّ فهو البطن العظيم ومنه تناسل عقب عدنان كلهم، وهو الّذي تقدّم الخبر عنه بأنّ إرمياء النبي من بني إسرائيل أوحى الله إليه أن يأمر بخت نصّر بالانتقام من العرب وأن يحمل معدّا على البراق أن تصيبه النقمة لأنه مستخرج من صلبه نبيا كريما خاتما للرسل فكان كذلك، ومن ولده إياد ونزار ويقال وقنص وأنمار، فأمّا قنص فكانت له الإمارة بعد أبيه على العرب وأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجوه [1] أهل مكّة وقدموا عليه نزارا. ولما احتضر قسّم ماله بين ولديه فجعل لربيعة الفرس، ولمضر القبّة الحمراء، ولأنمار الحمار، ولاياد عند من جعله من ولده الحلمة والعصا. ثم تحاكموا في هذا الميراث إلى أفعى نجران في قصة معروفة ليست من غرض الكتاب. وأمّا إياد فتشعّبوا بطونا كثيرة وتكاثر بنو إسماعيل وانفرد بنو مضر بن نزار برياسة الحرام وخرج بنو إياد إلى العراق، ومضى أنمار إلى السروات بعدّ بنيه في اليمانية وهم: خثعم وبجيلة، ونزلوا بأريافه وكان لهم في بلاد الأكاسرة آثار مشهورة إلى أن تابع لهم الأكاسرة الغزو وأبادوهم، وأعظم ما باد [2] منهم سابور ذو الأكتاف هو الّذي   [1] الصحيح ان يقول: أخرجه. [2] الصحيح أعظم ما أباد منهم حسب مقتضى السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 استلحمهم وأفناهم. وأمّا نزار فمنه البطنان: العظيمان ربيعة ومضر، ويقال: إنّ إيادا يرجعون إلى نزار وكذلك أنمار، فأمّا ربيعة فديارهم ما بين الجزيرة والعراق وهم ضبيعة وأسد ابنا ربيعة، ومن أسد عنزة وجديلة ابنا أسد فعنزة بلادهم في عين التمر في برية العراق على ثلاثة مراحل من الأنبار ثم انتقلوا عنها إلى جهات خيبر فهم هنالك، وورثت بلادهم غزيّة من طيِّئ الذين لهم الكثرة والإمارة بالعراق لهذا العهد، ومن عنزة هؤلاء بإفريقية حي قليل مع رياح من بني هلال بن عامر، ومنهم أحياء مع طيِّئ ينتجعون ويشتون في برية نجد. وأمّا جديلة فمنهم عبد القيس وهنب ابنا أفصى بن دعمي بن جدلة، فأمّا عبد القيس وكانت مواطنهم بتهامة ثم خرجوا إلى البحرين وهي بلاد واسعة على بحر فارس من غريبه، وتتصل باليمامة من شرقيها، وبالبصرة من شماليها، وبعمان من جنوبها، وتعرف ببلاد هجر ومنها القطيف وهجر والعسير وجزيرة أوال والأحساء، وهجر هي باب اليمن من العراق وكانت أيام الأكاسرة من أعمال الفرس وممالكهم وكان بها بشر كثير من بكر بن وائل وتميم في باديتها، فلما نزل معهم بنو عبد القيس زاحموهم في ديارهم تلك وقاسموهم في الموطن ووفدوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسلموا، ووفد منهم المنذر بن عائذ بن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر ابن عمرو بن عوف بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن بكر، وذكروا أنه سيدهم وقائدهم إلى الإسلام فكانت له صحبة ومكانة من النبي صلى الله عليه وسلم. ووفد أيضا الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلّى بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة، وثعلبة أخو عوف بن جذيمة وفد في عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوي من بني تميم وسيأتي ذكره، وكان نصرانيّا فأسلم وكانت له أيضا صحبة ومكانة. وكان عبد القيس هؤلاء من أهل الردّة بعد الوفاة، وأمّروا عليهم المنذر بن النعمان الّذي قتل كسرى أباه، فبعث إليهم أبو بكر بن العلا بن الحضرميّ في فتح البحرين وقتل المنذر. ولم تزل رياسة عبد القيس في بني الجارود أولا ثم في ابنه المنذر وولّاه عمر على البحرين ثم ولّاه على إصطخر، ثم عبد الله بن زياد ولّاه على الهند ثم ابنه حكيم بن المنذر وتردد على ولاية البحرين قبل ولاية العراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وأمّا هنب بن أفصى فمنهم النمر ووائل ابنا قاسط بن هنب. فأمّا بنو النمر بن قاسط فبلادهم رأس العين، ومنه صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن جذيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس مناة بن النمر بن قاسط صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور، وينسب إلى الروم، وكان سنان أبوه استعمله كسرى على الأبلّة، وكان لبني النمر بن قاسط شأن في الردّة مذكور، ومنهم ابن القرية المشهور بالفصاحة أيام الحجّاج، ومنصور بن النمر الشاعر مادح الرشيد. وأمّا بنو وائل فبطن عظيم متسع أشهرهم بنو تغلب وبنو بكر بن وائل وهما اللذان كانت بينهما الحروب المشهورة التي طالت فيما يقال أربعين سنة، فلبني تغلب شهرة وكثرة وكانت بلادهم بالجزيرة الفراتيّة بجهات سنجار ونصيبين وتعرف بديار ربيعة، وكانت النصرانية غالبة عليهم لمجاورة الروم. ومن بني تغلب عمرو بن كلثوم الشاعر، وهو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غانم بن تغلب وأمّه هند بنت مهلهل، ومن ولده مالك بن طوق بن مالك بن عتاب بن زافر بن شريح بن عبد الله بن عمرو بن كلثوم وإليه تنسب رحبة مالك بن طوق على الفرات، وعاصم بن النعمان عم عمرو بن كلثوم هو الّذي قتل شرحبيل بن الحرث الملك آكل المرار يوم الكلاب. ومن بني تغلب كليب ومهلهل ابنا ربيعة بن الحرث بن زهير بن جشم، وكان كليب سيد بني تغلب وهو الّذي قتله جسّاس بن مرّة بن ذهل بن شيبان وكان متزوّجا بأخته فرعت ناقة البسوس في حمى كليب فرماها بسهم فأثبتها، وقتله جسّاس لأنّ البسوس كانت جارته، فقام أخو كليب وهو مهلهل بن الحرث كمن برياسة تغلب وطالب بكر بن وائل بثأر كليب فاتصلت الحرب بينهم أربعين سنة، وأخبارها معروفة، وطال عمر مهلهل وتغرّب إلى اليمن فقتله عبدان له في طريقه، وبنو شعبة الذين بالطائف لهذا العهد من ولد شعبة بن مهلهل. ومن تغلب الوليد بن طريف بن عامر الخارجيّ وهو من بني صيفي بن حيّ بن عمرو بن بكر بن حبيب وهو الّذي رثته أخته ليلى بقولها: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يريد العزّ إلّا من التقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف خفيف على ظهر الجواد إلى الوغي ... وليس على أعدائه بخفيف فلو كان هذا الموت يقبل فدية ... فديناه من ساداتنا بألوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ومنهم بنو حمدان ملوك الموصل والجزيرة أيام المتّقي، ومن بعده من خلفاء العباسيّين وسيأتي ذكرهم في أخبار بني العبّاس وهم بنو حمدان من بني عديّ بن أسامة بن غانم بن تغلب، كان منهم سيف الدولة الملك المشهور. وأمّا بكر بن وائل ففيهم الشهرة والعدد فمنهم يشكر بن بكر بن وائل وبنو عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل ومنهم بنو حنيفة وبنو عجل ابني لجيم بن صعب. في بني حنيفة بطون متعدّدة أكثرهم بنو الدول بن حنيفة، فيهم البيت والعدد ومواطنهم باليمامة وهي من أوطان الحجاز كما هي نجران من اليمن، والشرقي منها يوالي البحرين وبني تميم والغرب يوالي أطراف اليمن والحجاز، والجنوب نجران والشمالي أرض نجد وطول اليمامة عشرون مرحلة، وهي على أربعة أيام من مكّة بلاد نخل وزلع وقاعدتها حجر بالفتح، وبها بلد اسمه اليمامة، ويسمّى أيضا جوّ باسم الزرقاء، وكانت مقرا للملوك قبل بني حنيفة، واتخذ بنو حنيفة بعدها بلد حجر وبقي كذلك في الإسلام. وكانت مواطن اليمامة لبني همدان بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير غلبوا على من كان بها من طسم وجديس كان آخر ملوكهم بها فيما ذكره الطبريّ قرط ابن يعفر، ثم هلك فغلب عليها بعده طسم وجديس وكانت منهم الزرقاء أخت رياح بن مرّة ابن طسم كما تقدّم في أخبارهم. ثم استولى على اليمامة آخرا بنو حنيفة وغلبوا عليها طسما وجديسا وكان ملكها منهم هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو بن عبد العزّى بن شحيم بن مرّة بن الدول بن حنيفة، وتوّجه كسرى وابن عمه عمرو بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزّى، قاتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ. وكان منهم ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة ملك اليمامة عند المبعث وثبت عند الردّة. ومنهم الخارجي نافع بن الأزرق بن قيس بن صبرة بن ذهل بن الدول بن حنيفة وإليه تنسب الأزارقة، ومنهم محلم بن سبيع بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة صاحب مسيلمة الكذّاب، وهو من بني عديّ بن حنيفة، وهو مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحرث بن عبد الحرث بن عدي، وأخبار مسيلمة في الردّة معروفة وسيأتي الخبر عنها. وأمّا بنو عجل بن لجيم بن صعب وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار كما مرّ، فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة وقد دثروا، وخلفهم في اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر، وكان منهم بنو أبي دلف العجليّ، كانت لهم دولة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 بعراق العجم يأتي ذكرها. وأمّا عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فمنه تيم الله وقيس ابنا ثعلبة بن عكابة وشيبان بن ذهل بن ثعلبة، بطون ثلاثة عظيمة، وأوسعها وأكثرها شعوبا بنو شيبان، وكانت لهم كثرة في صدر الإسلام شرقي دجلة في جهات الموصل، وأكثر أئمة الخوارج في ربيعة منهم، وسيّدهم في الجاهلية مرّة بن ذهل بن شيبان كان له أولاد عشرة نسلوا عشرة قبائل أشهرهم: همّام وجسّاس، وسادهما بعد أبيه. وقال ابن حزم: تفرّع من همّام ثمانية وعشرون بطنا. وأمّا جسّاس فقتل كليبا زوج أخته وهو سيّد تغلب حين قتل ناقة البسوس جارته، وأقام ابن كليب عند بني شيبان إلى أن كبر وعقل أن جساسا خاله هو الّذي قتل أباه فقتله ورجع إلى تغلب، فمن ولد جسّاس بنو الشيخ كانت لهم رياسة بآمد وانقطعت على يد المعتضد. ومن بني شيبان هانئ بن مسعود الّذي منع حلقة النعمان من أبرويز لما كانت وديعة عنده، وكان سبب ذلك يوم ذي قار وهو هانئ بن مسعود بن عامر بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، ومنهم الضحّاك بن قيس الخارجيّ الّذي بويع أيام مروان بن محمد على مذهب الصفريّة وملك الكوفة وغيرها، وبايعه بالخلافة جماعة من بني أمية منهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقتله آخرا مروان بن محمد. وهو الضحّاك بن قيس بن الحصين بن عبد الله بن ثعلبة بن زيد مناة بن أبي عمرو بن عوف بن ربيعة بن محلم بن ذهل بن شيبان، وسيأتي الإلمام بخبره. ومنهم المثنّى بن حارثة الّذي فتح سواد العراق أيام أبي بكر وعمر وأخوه المعنّى بن حارثة. ومنهم عمران بن حطّان من أعلام الخوارج. وهذا انقضاء الكلام في ربيعة بن نزار والله المعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وأمّا مضر بن نزار وكانوا أهل الكثرة والغلب بالحجاز من سائر بني عدنان وكانت لهم رياسة بمكّة فيجمعهم فخذان عظيمان وهما خندف وقيس، لأنه كان له من الولد اثنان: إلياس وقيس عيلان عبد حضنه قيس فنسب إليه، وقيل هو فرس، وقد قيل إنّ عيلان هو ابن مضر واسمه إلياس وإنّ له ابنين قيس ودهم، وليس ذلك بصحيح، وكان لإلياس ثلاثة من الولد مدركة وطابخة وقمعة لامرأة من قضاعة تسمّى خندف فانتسب بنو إلياس كلهم إليها، وانقسمت مضر إلى خندف وقيس عيلان. فأمّا قيس فتشعّبت إلى ثلاث بطون من كعب وعمرو وسعد بنيه الثلاثة، فمن عمرو بنو فهم وبنو عدوان ابني عمرو بن قيس، وعدوان بطن متّسع وكانت منازلهم الطائف من أرض نجد نزلها بعد أيام العمالقة ثم غلبتهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة، وكان منهم عامر بن الظرب بن عمرو بن عبّاد بن يشكر بن عدوان حكم العرب في الجاهلية، وكان منهم أيضا أبو سيارة الّذي يدفع بالناس في الموسم، وعميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن رائش بن زيد بن عدوان، وبإفريقية لهذا العهد منهم أحياء بادية بالقفر يظعنون مع بني سليم تارة ومع رياح بن هلال بن عامر أخرى. ومن بني فهم بن عمرو فيما ذكر البيهقي بنو طرود بن فهم بطن متسع كانوا بأرض نجد، وكان منهم الأعشى، وليس منهم الآن بها أحد، وبإفريقية لهذا العهد حي يظعنون مع سليم ورياح، وانقضى الكلام في بني عمرو بن قيس. وأمّا سعد بن قيس فمنهم غنيّ وباهلة وغطفان ومرّة، فأمّا غنيّ فهم بنو عمرو بن أعصر بن سعد، وأما باهلة فمنهم بنو مالك بن أعصر بن سعد صاحب خراسان المشهور، ومنهم أيضا الأصمعيّ رواية العرب المشهور وهو عبد الملك بن علي بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعيد بن عبد غانم بن قتيبة بن معن بن مالك. وأمّا بنو غطفان بن سعد: فبطن عظيم متسع كثير الشعوب والبطون ومنازلهم بنجد ما يلي وادي القرى وجبلي طيِّئ، ثم افترقوا في الفتوحات الإسلامية واستولت عليها قبائل طيِّئ وليس منهم اليوم عمودة رجالة في قطر من الأقطار إلّا ما كان لفزارة ورواحة في جوار هيب ببلاد برقة. وبنو غطفان بطون ثلاثة: منهم أشجع بن ريث ابن غطفان، وعبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، وذبيان. فأمّا أشجع فكانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 عرب المدينة يثرب وكان سيّدهم معقل بن سنان من الصحابة، وكان منهم نعيم بن مسعود بن أنيف بن ثعلبة بن قند بن خلاوة بن سبيع بن أشجع الّذي شتت جموع الأحزاب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلى آخرين مذكورين منهم، وليس لهذا العهد منهم بنجد أحد إلّا بقايا حوالي المدينة النبويّة، وبالمغرب الأقصى منهم حي عظيم الآن يظعنون مع عرب المعقل بجهات سجلماسة ووادي ملويّة ولهم عدد وذكر. وأمّا بنو عبس فبيتهم في بني عدّة بن قطيعة كان منهم الربيع بن زياد وزير النعمان، ثم إخوتهم بنو الحرث بن قطيعة كان منهم زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن آزر بن الحرث سيّدهم، وكانت له السيادة على غطفان أجمع، وله بنون أربعة منهم: قيس ساد بعده على عبس، وابنه زهير هو صاحب حرب داحس والغبرا فرسين كانت إحداهما وهي داحس لقيس والأخرى وهي الغبرا لحذيفة بن بدر سيد فزارة فأجرياهما وتشامّا في الحكم بالسبق فتشاجرا وتحاربا وقتل قيس حذيفة ودامت الحرب بين عبس وفزارة وإخوة قيس بن زهير الحرث وشاس ومالك وقتل مالك في تلك الحرب، وكان منهم الصحابيّ المشهور حذيفة بن اليماني بن حسل بن جابر بن ربيعة بن جروة بن الحرث بن قطيعة ومن عبس بن جابر بنو غالب بن قطيعة، ثم عنترة بن معاوية بن شدّاد بن مراد بن مخزوم بن مالك بن غالب الفارس المشهور وأحد الشعراء الستة في الجاهلية، وكان بعده من أهل نسبه وقرابته الحطيئة الشاعر المشهور واسمه جرول بن أوس بن جؤبة بن مخزوم، وليس بنجد لهذا العهد أحد من بني عبس، وفي أحياء زغبة من بني هلال لهذا العهد أحياء ينتسبون إلى عبس، فما أدري من عبس هؤلاء أم هو عبس آخر من زغبة نسبوا إليه. وأما ذبيان بن بغيض: فلهم بطون ثلاثة: مرّة وثعلبة وفزارة، فأمّا فزارة فهم خمسة شعوب: عديّ وسعد وشمخ ومازن وظالم. وفي بدر بن عديّ كانت رياستهم في الجاهلية، وكانوا يرأسون جميع غطفان، ومن قيس وإخوتهم بنو ثعلبة بن عديّ كان منهم حذيفة بن بدر بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة الّذي راهن قيس بن زهير العبسيّ على جري داحس والغبرا وكانت بسبب ذلك الحرب المعروفة، ومن ولده عيينة بن حصن بن حذيفة الّذي قاد الأحزاب إلى المدينة وأغار على المدينة لأوّل بيعة أبي بكر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمّيه الأحمق المطاع، ومنهم أيضا الصحابيّ المشهور سمرة بن جندب بن هلال بن خديج بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 مرّة بن خرق بن عمرو بن جابر بن خشين ذي الرأسين بن لاي بن عصيم بن شمخ بن فزارة، ومن بني سعد بن فزارة يزيد بن عمرو بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك بن سعد بن عديّ بن فزارة ولي العراقين هو وأبوه أيام يزيد بن عبد الملك ومروان بن محمد، وهو الّذي قتله المنصور بعد أن عاهده، ومن بني مازن بن فزارة هرم بن قطبة أدرك الإسلام وأسلم، إلى آخرين يطول ذكرهم ولم يبق بنجد منهم أحد. وقال ابن سعيد: إنّ أبرق الحنّان وأبانا من وادي القرى من معالم بلادهم، وانّ جيرانهم من طيِّئ مولدها لهذا العهد، وإنّ بأرض برقة منهم إلى طرابلس قبائل رواحة وهيب وفزّان. قلت: وبإفريقية والمغرب لهذا العهد أحياء كثيرة اختلطوا مع أهله، فمنهم مع المعقل بالمغرب الأقصى أحياء كثيرة لهم عدد وذكر بالمعقل إلى الاستظهار بهم حاجة، ومنهم مع بني سليم بن منصور بإفريقية طائفة أخرى أحلاف لأولاد أبي الليل من شعوب بني سليم يستظهرون بهم في مواقف حروبهم ويولّونهم على ما يتولونه للسلطان من أمور باديتهم نيابة عنهم شأن الوزراء في الدول، وكان من أشهرهم معن بن معاطن وزير حمزة بن عمر بن أبي الليل أمير الكعوب بعده حسبما نذكره في أخبارهم، وربما يزعم بنو مرين أمراء الزاب لهذا العهد أنّهم منهم، وينتسبون إلى مازن بن فزارة، وليس ذلك بصحيح، وهو نسب مصون يتقرّب به إليهم بعض البدو من فزارة هؤلاء طمعا فيما بأيديهم لمكانهم من ولاية الزاب والانفراد بجبايته ومصانعة الناس بوفرها، فيلهجونهم بذلك ترفعا على أهل نسبهم بالحقيقة من الأثابج، كما يذكر لكونه تحت أيديهم ومن رعاياهم. وأمّا بنو مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان فمنهم هرم بن سنان بن غيظ بن مرّة وهو سيدهم في الجاهلية الّذي مدحه زهير بن أبي سلمى، ومنهم أيضا الفاتك وهو الحرث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وشرحبيل بن الأسود بن المنذر، وحصل ابن الحرث في يد النعمان بن المنذر فقتله، وشاعره في الجاهلية النابغة زياد بن عمرو الذبيانيّ أحد الشعراء الستة. ومنهم أيضا مسلم بن عقبة بن رياح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع قائد يزيد بن معاوية صاحب يوم الحرّة على أهل المدينة إلى آخرين يطول ذكرهم. وهذا آخر الكلام في بني غطفان وبلادهم بنجد مما يلي وادي القرى، وبها من المعالم أبنى والحاجر والهباءة وأبرق الحنّان، وتفرّقوا على بلاد الإسلام في الفتوحات ولم يبق لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 في تلك البلاد ذكر، ونزلت بها قبائل طيِّئ وبانقضاء ذكرهم انقضى بنو سعد بن قيس. وأمّا خصفة بن قيس: فتفرّع منهم بطنان عظيمان وهما بنو سليم بن منصور وهوازن بن منصور، ولهوازن بطون كثيرة يأتي ذكرها، ويلحق بهذين البطنين بنو مازن بن منصور وعددهم قليل، وكان منهم عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نشيب بن وهب بن زيد بن مالك بن عبد عوف بن الحرث بن مازن الصحابي المشهور الّذي بني البصرة لعمر بن الخطّاب، وإليه ينسب العتبيّون الذين سادوا بخراسان، ويلحق أيضا بنو محارب بن خصفة. فأمّا بنو سليم فشعوبهم كثيرة منهم بنو ذكوان بن رفاعة بن الحرث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم، وإخوتهم بنو عبس بن رفاعة الذين منهم عبّاس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد عبس الصحابي المشهور الّذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين في المؤلّفة قلوبهم، ثم زاده حين غضب استقلالا لعطائه وأنشد الأبيات المعروفة في السير، وكان أبوه مرداس تزوّج الخنساء وولدت منه. ومن بني سليم أيضا بنو ثعلبة بن بهثة بن سليم، كان منهم عبيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي الأعور والي إفريقية، وجده أبو الأعور من قوّاد معاوية واسمه عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد بن قائف بن الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة، والرود بن خالد بن حذيفة بن عمرو بن خلف بن مازن بن مالك بن ثعلبة وكان على بني سليم يوم الفتح، وعمرو بن عتبة بن منقذ بن عامر بن خالد كان صديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأسلم ثلاث أبو بكر وبلال فكان يقول كنت يومئذ ربع الإسلام [1] . ومن بني سليم أيضا بنو علي بن مالك بن امرئ القيس بن بهثة وبنو عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس، وهما اللذان لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم [2] أهل بئر معونة وقتلهم إيّاهم. ومن   [1] اما الطبري فيقول في ج 2 ص 214: «قال حدثني عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: اتبعني عليه رجلان حرّ وعبد، ابو بكر وبلال، قال فأسلمت عند ذلك قال فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام. وكذلك أورد ابن الأثير القصة عن عمرو بن عبسة. إلى أن قال: ... فلقد رأيتني رابع الإسلام، وهكذا يستدل لنا أن اسم هذا الرجل هو عمرو بن عبسه وليس عمرو بن عتبة. [2] المعنى غير منسجم وربما تكون سقطت بعض الكلمات أثناء النسخ وهذه القصة مذكورة عند الطبري في ج 3 ص 33 وفي غيره من كتب التاريخ والسير ومقتضى السياق: «لعنهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم وافاه الخبر عن أهل بئر معونة وقتلهم إياهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 شعوب عصيّة الشريد واسمه عمرو بن يقظة بن عصيّة. وقال ابن سعيد: الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عصية الذين كانت منهم الخنساء وأخواها صخر ومعاوية ابنا عمرو بن الحرث بن الشريد والشريد بيت سليم في الجاهلية، قال ابن سعيد كان عمرو بن الشريد يمسك بيده ابنيه صخرا ومعاوية في الموسم فيقول: أنا أبو خيري مضر ومن أنكر فليعتبر فلا ينكر أحد وابنته الخنساء الشاعرة وقد تقدّم ذكرها، وحضرت بأولادها حروب القادسيّة. وبنو الشريد لهذا العصر في جملة بني سليم في إفريقية ولهم شوكة وصولة، ومنهم إخوة عصيّة بن خفّاف الذين كان منهم الخفّاف كبير أهل الردّة الّذي أحرقه أبو بكر بالنار واسمه إياس بن عبد الله بن أليل بن سلمة بن عميرة. ومن بني سلم أيضا بنو بهز بن امرئ القيس بن بهثة كان منهم الحجّاج بن علا بن خالد بن نديرة [1] بن حبتر بن هلال بن عبد ظفر بن سعد بن عمرو بن تميم بن بهز الصحابي المشهور، وابنه نصر بن حجّاج الّذي نفاه عمر عن المدينة، إلى آخرين من سليم يطون ذكرهم. قال ابن سعيد: ومن بني سليم بنو زغبة بن مالك بن بهثة كانوا بين الحرمين ثم انتقلوا الى المغرب فسكنوا بإفريقية في جوار إخوتهم بني ذياب بن مالك ثم صاروا في جوار بني كعب. ومن بني سليم بنو ذياب بن مالك ومنازلهم ما بين قابس وبرقة، يجاورون مواطن يعهب، وبجهة المدينة خلق منهم يؤذون الحاج ويقطعون الطريق. وبنو سليمان بن ذياب في جهة فزّان وودّان ورؤساء ذياب لهذا العهد الجواري ما بين طرابلس وقابس، وبيتهم بنو صابر والمحامد بنواحي فاس وبيتهم في بني رحاب بن محمود وسيأتي ذكرهم. ومن بني سليم بنو عوف بن بهثة: ما بين قابس وبلد العنّاب من إفريقية وجرما، هم مرداس وعلاق فأمّا مرداس فرياستهم في بني جامع لهذا العهد، وأمّا علاق فكان رئيسهم الأوّل في دخولهم إفريقية رافع بن حمّاد، ومن أعقابه بنو كعب رؤساء سليم لهذا العهد بإفريقية، ومن بني سليم بنو يعهب بن بهثة إخوة بني عوف بن بهثة وهم ما بين السدرة من برقة إلى العدوة الكبيرة ثم الصغيرة من حدود الإسكندرية، فأوّل ما يلي الغرب منهم بنو أحمد لهم أجدابية وجهاتها وهم عدد يرهبهم الحاج ويرجعون إلى شماخ، وقبائل شماخ لها عدد وأسماء متمايزة ولها العز في بيت لكونها جازت المحصب من بلاد برقة مثل المرج وطلميثا ودرنا، وفي المشرق عن بني أحمد إلى   [1] وهو الحجاج بن علاط بن خالد بن نويرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 العقبة الكبيرة، وأمّا الصغيرة فسال ومحارب والرئاسة في هذين القبيلتين لبني عزاز وهبيب بخلاف سائر سليم لأنها استولت على إقليم طويل خربت مدنه ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلّا لأشياخها وتحت أيديهم خلق من البرابرة واليهود زراعا وتجارا. وأمّا رواحة وفزارة اللذين في بلاد هبيب فهم من غطفان وهذا آخر الكلام في بني سليم بن منصور وكانت بلادهم في عالية نجد بالغرب وخيبر ومنها حرّة بني سليم، وحرّة النار بين وادي القرى وتيماء، وليس لهم الآن عدد ولا بقيّة في بلادهم، وبإفريقية منهم خلق عظيم كما يأتي ذكره في أخبارهم عند ذكر الطبقة الرابعة من العرب. وأمّا هوازن بن منصور ففيهم بطون كثيرة يجمعهم ثلاثة أجرام كلهم لبكر بن هوازن وهم بنو سعد بن بكر وبنو معاوية بن بكر وبنو منبّه بن بكر. فأمّا بنو سعد بن بكر، وهم أظآر النبيّ صلى الله عليه وسلم أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب بن عبد الله بن سحنة بن ناصرة بن عصيّة بن نصر بن أسعد، وبنوها عبد الله وأنيسة والشيما بنو الحرث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملاذ بن ناصرة، وحصلت الشيما في سبي هوازن فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّها إلى قومها وكان فيها أثر عضّة عضّها إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمله. فأمّا بنو منبّه بن بكر فمنهم ثقيف، وهم بنو قسيّ بن منبّه بطن عظيم متسع، منهم بنو جهم بن ثقيف كان منهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن حبيب بن الحرث بن مالك بن حطيط صاحب لوائهم يوم حنين وقتل يومئذ كافرا وكان من ولده أمير الأندلس لسليمان بن عبد الملك وهو الحرّ بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان، ومنهم بنو عوف بن ثقيف ويعرفون بالأحلاف، فمنهم بنو سعد بن عوف كان منهم عتبان بن مالك بن كعب بن عمرون بن سعد بن عوف الّذي وضعته ثقيف رهينة عند أبي مكسورة وأخوه معتب، كان من بنيه عروة بن مسعود بن معتب الّذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه داعيا إلى الإسلام فقتلوه، وهو أحد عظيمي القريتين، ومن بنيه أيضا الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب صاحب العراقين لعبد الملك وابنه الوليد، ومنهم يوسف بن عمر بن محمد بن عبد الحكم والي العراقين لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد وكثير من قومه كانوا ولاة بالعراق والشام واليمن ومكّة. ومن بني معتب أيضا غيلان بن مسلمة بن معتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 كانت له وفادة على كسرى، ومنهم بنو غبرة بن عوف الذين منهم الأخنس بن شريق ابن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العرّي بن غيرة بن عوف بن ثقيف، والحرث بن كلدة بن عمرو بن علاج طبيب العرب، وأبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن غيرة الصحابي المقتول يوم الجسر من أيام القادسيّة، وبانه المختار بن أبي عبيد الّذي ادعى النبوّة بالكوفة وكان عاملا عليها لعبد الله بن الزبير فانتقض عليه ودعا لمحمد بن الحنفيّة ثم ادعى النبوة، ومنهم أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير في آخرين يطول ذكرهم. ومواطن ثقيف كانت بالطائف وهي مدينة من أرض نجد قريبا من مكّة ثم جلس في شرقها وشمالها وهي على قبّة الجبل كانت تسمى واج وبوج، وكانت في الجاهلية للعمالقة ثم نزلتها ثمود قبل وادي القرى، ومن ثم يقال: إنّ ثقيفا كانت من بقايا ثمود، يقال: إنّ الّذي سكنها بعد العمالقة عدوان وغلبهم عليها ثقيف وهي الآن دارهم كذا ذكره السهيليّ. ويقال: إنهم موال لهوازن ويقال إنهم من إياد. ومن أعمال الطائف سوق عكاظ والعرج، وعكاظ حجر بين اليمن والحجاز، وكانت سوقها في الجاهلية يوما في السنة يقصدها العرب من الأقطار فكانت لهم موسما [1] وأمّا بنو معاوية بن بكر بن هوازن ففيهم بطون كثيرة منهم بنو نصر بن معاوية الذين منهم مالك بن سعد بن عوف بن سعد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر قائد المشركين يوم حنين وأسلم وحسن إسلامه. ومنهم بنو جشم بن معاوية، ومن جشم غزيّة رهط دريد بن الصمّة [2] ومواطنهم بالسروات وهي بلاد تفصل بين تهامة ونجد متصلة من اليمن إلى الشام كسروات الجبل وسروات جشم متصلة بسروات هذيل، وانتقل معظمهم إلى الغرب وهم الآن به كما يأتي ذكره في الطبقة الرابعة من العرب، ولم يبق بالسروات منهم إلّا من ليس له صولة، ومنهم بنو سلول ومنهم بنو مرّة بن صعصعة بن معاوية وإنّما عرفوا بأمهم سلول، وكانوا في الغرب كثيرا وفي   [1] سوق للعرب بين نخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذي القعدة، وتستمر عشرين يوما أو شهرا، تجتمع فيها قبائل العرب فيتناشدون ويتفاخرون. يؤنث، يذكر فالتأنيث لغة الحجاز والتذكير لغة تميم. قد تابع المؤلف لغة الحجاز. [2] وفي نسخة ثانية: غزيّة رهط بن دريد الصمّة. وهو القائل: وهل انا الا من غزيّة ان نموت ... غويت وان ترشد غزيّة أرشد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الغرب منهم كثير لهذا العهد. ومنهم فيما يزعم العرب بنو يزيد أهل وطن حمزة غربي بجاية وبعض أحياء بجيل عياض. كما نذكر منهم بنو عامر بن صعصعة بن معاوية جرم كبير من أجرام العرب لهم بطون أربعة. نمير وربيعة وهلال وسوأة، فأمّا نمير بن عامر فهم إحدى جمرات العرب وكانت لهم كثرة وعزّة في الجاهلية والإسلام ودخلوا إلى الجزيرة الفراتية وملكوا حرار وغيرها، واستلحمهم بنو العبّاس أيام المعتز فهلكوا ودثروا. وأمّا سوأة بن عامر فشعوبهم في رباب من سمرة، بن سوأة، فمنهم جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن رباب الصحابي المشهور، ومن بطن رباب هؤلاء حيّ بإفريقية ينجعون مع رياح بن هلال ويعرفون بهذا النسب كما يأتي في أخبار هلال من الطبقة الرابعة. وأمّا هلال بن عامر فبطون كثيرة كانوا في الجاهلية بنجد ثم ساروا إلى الديار المصرية في حروب القرامطة، ثم ساروا إلى إفريقية أجازهم الوزير البارزيّ في خلافة المستنصر العبيديّ لحرب المعزّ بن باديس، فملك عليه ضواحي إفريقية، ثم زاحمهم بنو سليم فساروا إلى الغرب ما بين بونة وقسنطينة، إلى البحر المحيط، وكان لهلال خمسة من الولد: شعبة وناشرة ونهيك وعبد مناف وعبد الله، وبطونهم كلها ترجع إلى هؤلاء الخمسة، فكان من بني عبد مناف زينب أمّ المؤمنين بنت خزيمة بن الحرث بن عبد الله بن عمرو بن عبد الله بن عبد مناف، وكان من بني عبد الله ميمونة أمّ المؤمنين بنت الحرث بن حزن بن بحير بن هرم بن رويبة بن عبد الله. قال ابن حزم: ومن بطون بني هلال بنو قرّة وبنو نعجة الذين بين مصر وافريقية، وبنو حرب الذين بالحجاز، وبنو رياح الذين أفسدوا إفريقية. وقال ابن سعيد: وجيل بني هلال مشهور بالشام وقد صار عربه حرائر وفيه قلعة صرخد مشهورة قال: وقبائلهم في العرب ترجع لهذا العهد إلى أثبج ورياح وزغبة وقارع. فأمّا الأثبج فمنهم سراح بجهة برقة، وعياض بجبل القلعة المسمّى لهم ولغيرهم. وأمّا رياح فبلادهم بنواحي قسنطينة والسلم والزاب، ومنهم عتبة بنواحي بجاية، ومنهم بالمغرب الأقصى خلق كثير كما يأتي في أخبارهم. وأمّا زغبة فإنّهم في بلاد زنانة خلق كثير. وأمّا قارع فإنّهم في المغرب الأقصى مع المعقل وقرّة وجشم. وبنو قرّة كانت منازلهم ببرقة وكانت رياستهم أيام الحاكم العبيديّ لما مضى ابن مقرب، ولما بايعوا لأبي ركوة من بني أميّة بالأندلس وقتله الحاكم سلّط عليهم العرب والجيوش فأفنوهم، وانتقل جلّهم إلى المغرب الأقصى، فهم مع جشم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 هنالك كما يأتي ذكره ويأتي الكلام في نسب هلال وشعوبهم ومواطنهم بالمغرب الأوسط وإفريقية عند الكلام عليهم في الطبقة الرابعة. وأمّا بنو ربيعة بن عامر فبطون كثيرة وعامّتها ترجع إلى ثلاثة من بنيه وهم عامر وكلاب وكعب، وبلادهم بأرض نجد الموالية لتهامة بالمدينة وأرض الشام، ثم دخلوا إلى الشام وافترق منهم على ممالك الإسلام فلم يبق منهم بنجد أحد. فمن عامر بن ربيعة بنو التكما وهو ربيعة بن عامر بن ربيعة الّذي اشترك ابنه حندج مع خالد بن جعفر بن كلاب في قتل زهير بن جذيمة العبسيّ، وبنو ذي السهمين معاوية بن عامر بن ربيعة وهو ذو الحجر عوف بن عامر بن ربيعة، وبنو فارس الضحيا عمرو بن عارم بن ربيعة منهم خدّاش بن زهيرة بن عمرو من فرسان الجاهلية وشعرائها. وأمّا بنو كلاب بن ربيعة فمنهم بنو الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب وبنو ربيعة المجنون ابن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب وبنو عمرو بن كلاب. قال ابن خزم: يقال: إنّ منهم بني صالح بن مرداس أمراء حلب، ومن بني كلاب بنو رواس واسمه الحرب بن كلاب، وبنو الضباب واسمه معاوية بن كلاب الذين منهم شهر بن ذي الجوش [1] بن الأعور بن معاوية قاتل الحسين بن عليّ، ومن عقبة كان الصهيل ابن حاتم بن شمر وزير عبد الرحمن بن يوسف الفهري بالأندلس، وبنو جعفر بن كلاب الذين منهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر وعمّه أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة وربيعة بن مالك وتبّع المعتبرين وأبوه لبيد بن ربيعة شاعر معروف مشهور. وكانت بلاد بني كلاب حمى ضرية والرَّبَذَة في جهات المدينة وفدك والعوالي، وحمى ضرية هي حمى كليب وائل نباته النضر تسمن عليه الخيل والإبل، وحمى الرَّبَذَة هو الّذي أخرج عليه عثمان أبا ذر رضي الله عنهما. ثم انتقل بنو كلاب إلى الشام فكان لهم في الجزيرة الفراتية صيت وملك وملكوا حلب وكثيرا من مدن الشام، تولّى ذلك منهم بنو صالح بن مرداس، ثم ضعفوا فهم الآن تحت خفارة العرب المشهورين بالشام وهنالك بالإمارة من طيِّئ. قال ابن سعيد وكان لهم في الإسلام دولة باليمامة. ومن بني كعب بن ربيعة بطون كثيرة منهم: الحريش بن كعب بطن كان منهم مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن وقدان بن الحريش الصحابي المشهور،   [1] وهو: شمر بن ذي الجوشن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 ويقال: إنّ منهم ليلى التي شبّب بها قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة الشاعر، مادح النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة الّذي غلب على ناب فارس أيام الزبير وعم أمه زياد بن الأشهب الّذي وفد على عليّ ليصلح بينه وبين معاوية، ومالك بن عبد الله بن جعدة الّذي أجار قيس بن زهير العبسيّ. وبنو قشير بن كعب منهم مرّة بن هبيرة بن عامر بن مسلمة الخير بن قشير وفد على النبي صلى الله عليه وسلّم فولّاه صدقات قومه، وكلثوم بن عياض بن رصوح بن الأعور بن قشير الّذي ولي إفريقية، وابن أخيه بلخ بن بشر. ومن بني قشير بخراسان أعيان منهم أبو القاسم القشيريّ صاحب الرسالة، ومنهم عريسة الأندلس بنو رشيق ملكها منهم عبد الرحمن بن رشيق وأخرج منها ابن عمارة، ومنهم الصمّة بن عبد الله من شعراء الحماسة. وبنو العجلان بن عبد الله بن كعب وشاعرهم تميم بن مقبل. وبنو عقيل بن كعب وهم بطون كثيرة منهم: بنو المنتفق بن عامر بن عقيل. ومن أعقاب بني المنتفق هؤلاء العرب المعروفون في المغرب بالخلط. قال عليّ بن عبد العزيز الجرجاني: الخلط بنو عوف وبنو معاوية ابنا المنتفق بن عامر بن عقيل انتهى. قال ابن سعيد: ومنازل المنتفق [1] الآجام التي بين البصرة والكوفة والإمارة منهم في بني معروف. قلت والخلط لهذا العهد في أعداد جشم بالمغرب، ومن بني عقيل بن كعب بنو عبادة بن عقيل، منهم الأخيل واسمه كعب بن الرحّال بن معاوية بن عبادة، ومن عقبه ليل الأخيلية [2] بنت حذيفة بن سداد بن الأخيل. وذكر ابن قتيبة: أن قيس بن الملوّح المجنون منهم. وبنو عبادة هؤلاء لهذا العهد فيما قال ابن سعيد بالجزيرة الفراتيّة فيما يلي العراق، ولهم عدد وذكر، وغلب منهم على الموصل وحلب في أواسط الخامسة قريش بن بدران بن مقلد فملكها هو وابنه مسلم بن قريش من بعده، ويسمى شرف الدولة، وتوالى الملك في عقب مسلم بن قريش منهم إلى أن انقرضوا. قال ابن سعيد: ومنهم لهذا العهد بقية بين الحازر والزاب يقال لهم عرب شرف الدولة، ولهم إحسان من صاحب الموصل وهم في تجمل وعزّ إلّا أنّ عددهم قليل نحو مائة فارس. ومن بني عقيل بن كعب خفاجة بن عمرو بن عقيل   [1] تسمى الآن في العراق (المنتفك) ويطلقونها خاصة على لواء الناصرية. [2] وفي نسخة ثانية: ليلى الأخيلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وانتقلوا في قرب من هذه العصور إلى العراق والجزيرة ولهم ببادية العراق دولة، ومن بني عامر بن عقيل بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف، وهم إخوة بني المنتفق وهم ساكنون بجهات البصرة وقد ملكوا البحرين بعد بني أبي الحسن ملكوها من تغلب. قال ابن سعيد: وملكوا أرض اليمامة من بني كلاب، وكان ملكهم لعهد الخمسين من المائة السابعة عصفور وبنوه وقد انقضى الكلام في بطون قيس عيلان. والله المعين لا ربّ غيره ولا خير إلّا خيره وهو نعم المولى، ونعم النصير، وهو حسبي ونعم الوكيل. وأسأله الستر الجميل آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وأمّا بطون خندف بن الياس بن مضر ولد إلياس مدركة وطابخة وقمعة وأمّهم امرأة من قضاعة اسمها خندف فانتسب ولد إلياس كلّهم إليها، فمن بطون قمعة أسلم وخزاعة، فأسلم بنو أفصى بن عامر بن قمعة، وخزاعة بن عمرو بن عامر بن لحيّ وهو ربيعة ابن عامر بن قمعة واسمه حارثة. وعمرو بن حليّ هو أوّل من غيّر دين إسماعيل وعبد الأوثان وأمر العرب بعبادتها، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لحيّ يجر قصبه في النار» يعني أحشائه. ومواطنهم بأنحاء مكة في مرّ الظهران وما يليه وكانوا حلفاء لقريش. ودخلوا عام الحديبيّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا مما [1] صالح قريشا عليه ثم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فغزا قريشا وغلبهم على أمرهم وافتتح مكّة وكان عام الفتح. وقد يقال: إنّ خزاعة هؤلاء من غسّان وأنهم بنو حارثة بن عمرو مزيقياء، وأنهم أقاموا بمرّ الظهران حين سارت غسّان إلى الشام وتخزعوا عنهم فسموا خزاعة، وليس ذلك بصحيح كما ذكر. وكان لخزاعة ولاية البيت قبل قريش في بني كعب بن عمرو بن لحيّ، وانتهت إلى حليل بن حبشيّة بن سلول وهو الّذي أوصى بها لقصي بن كلاب حين زوّجه ابنته حبي بنت حليل. ويقال: إنّ أبا غبشان بن حليل واسمه المحترش باع الكعبة من قصي بزق وخمر وفيه جرى المثل المعروف. يقال: أخسر صفقة من أبي غبشان. ومن ولد حليل بن حبشيّة كان كرز بن علقمة بن علال بن حريبة بن عبد فهم بن حليل، الّذي قفا أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى الغار، ورأى عليه نسج العنكبوت وعش اليمامية ببيضها فرخوا عنه. ولخزاعة هؤلاء بطون كثيرة منهم بنو المصطلق بن سعد بن عمرو بن لحيّ، وبنو كعب بن عمرو. ومنهم عمران بن الحصين صحابي، وسليمان بن صرد أمير التوّابين القائمين بثأر الحسين، ومالك بن الهيثم من نقباء بني العبّاس وبنو عديّ بن عمرو، ومنهم جويرية بنت الحارث أم المؤمنين، وبنو مليح بن عمرو، ومنهم طلحة الطلحات، وكثير الشاعر صاحب عزّة وهو ابن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سبيع بن خثعمة بن سعد بن مليح. وبنو عوف بن عمرو ومنهم العبّاد أهل الحيرة وهم بنو جهينة بن عوف. ومن إخوة خزاعة بنو أسلم بن أفصى بن عامر بن قمعة وبنو مالك بن أفصى، وماثان بن أفصى. فمن أسلم سلمة بن الأكوع   [1] الأصح ان يقول: ممن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 الصحابي ودعبل وبنو الشيص الشاعران ومحمد بن الأشعث قائد بني العباس، ومن ذلك مالك بن سليمان بن كثّير من دعاة بني العبّاس قتله أبو مسلم. وأمّا طابخة فلهم بطون كثيرة أشهرها ضبّة والرباب ومزينة وتميم، وبطون صغار إخوة لتميم، ومنهم صوفة ومحارب. فأمّا بنو تميم بن مرّ فهم: بنو تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة، وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمامة وانتشرت إلى العذيب من أرض الكوفة، وقد تفرّقوا لهذا العهد في الحواضر ولم تبق منهم باقية، وورث منازلهم الحيّان العظيمان بالمشرق لهذا العهد غزيّة من طيِّئ وخفاجة من بني عقيل بن كعب. ولتميم بطون كثيرة منهم الحارث بن تميم وفيهم ينسب المسيّب بن شريك الفقيه وهم قليل، وبنو العنبر الّذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وزفر الفقيه ابن ذهيل ابن قيس بن مسلم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو بن جيجور بن جندب بن العنبر صاحب أبي حنيفة، والناسك الفاضل عامر بن عبد قيس بن ثابت بن بشامة بن حذيفة بن معاوية بن الجون بن كعب بن جندب وربيعة ابن رفيع بن سلمة بن محلم بن صلاة بن عبدة بن عديّ بن جندب، وبنو الهجيج بن عمرو بن تميم وبنو أسيد بن عمير. وكان منهم أبو هالة هند بن زرارة بن النبّاش بن عديّ بن نمير بن أسيد الصحابي المشهور، وحنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح ابن الحرث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحليم [1] المشهور أكثم بن صيفي بن رياح، ويحيى بن أكثم قاضي المأمون من ولد صيفي بن رياح. وبنو مالك بن عمرو بن تميم منهم النضر بن شميل ابن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عبدة بن زهير بن عروة بن جميل بن حجر بن خزاعيّ بن مازن بن مالك النحويّ المحدّث، وسلم بن أخوز بن أربد بن محزر بن لاي بن مهل بن ضباب بن حجبة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك صاحب الشرطة لنصر بن سيّار وقاتل يحيى بن زيد بن زين العابدين، وأخوه هلال بن أخوز قاتل آل المهلّب، وقطريّ بن الفجاءة، واسم الفجاءة جعونة بن يزيد بن زياد بن جنز بن كابية بن حرقوص الخارجي الأزرقيّ سلم عليه بالخلافة عشرين سنة، ومالك بن الريب بن جوط بن قرط بن حسيل بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص   [1] الصحيح: الحكيم لا الحليم حسب شهرة أكثم بن صيفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 صاحب القصيدة المشهورة نعى بها نفسه وبعث بها إلى قومه وهو في خراسان في بعث عثمان بن عفّان وأوّلها: دعاني الهوى من أهل ودّي ورفقتي ... بذي الشيّطين [1] فالتفت ورائيا يقولون لا تبعد [2] وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلّا مكانيا وبنو عمرو بن العلاء بن عمّار بن عدنان بن عبيد الله بن الحصي بن الحرث بن جلهّم ابن خزاعيّ بن مازن بن مالك، وبنو الحرث بن عمرو بن تميم وهم الحبطات منهم عبّاد بن الحصين بن يزيد بن أوس بن سيف بن عدم بن جبلذة بن قيار بن سعد بن الحرث وهو الملقّب بالحبط لعظم بطنه، وبنو امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم وكان منهم زيد بن عديّ بن زيد بن أيوب بن مخوّف بن عامر بن عطيّة بن امرئ القيس صاحب النعمان بن المنذر بالحيرة الّذي سعى به إلى كسرى حتى قتله ومقاتل بن حسّان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب بن مخوف صاحب قصر بني مقاتل بن منصور بالحيرة ولاهز بن قريط بن سريّ بن الكاهن بن زيد بن عصيّة من دعاة بني العباس الّذي قتله أبو مسلم لنذارته لنصر بن سيّار. وبنو سعد بن زيد مناة بن تميم منهم الأبناء كان منهم رؤبة بن العجّاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كنيف بن عمير ابن حيّ بن ربيعة بن سعد بن مالك بن سعد، وعبدة بن الطيب الشاعر. وبنو منقر ابن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة، كان منهم قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه، وكان من ولده ميّة صاحبة ذي الرمّة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم. ومن بني منقر عمرو بن الأهتم صحابي وبنو مرّة بن عبيد بن مقاعس، منهم الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين بن حفص بن عبّادة بن النزّال بن مرّة وأبو بكر الأبهريّ المالكيّ، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح بن عمرو بن حفص بن عمرو بن مصعب بن الزبير بن سعد بن كعب بن عبادة بن النزّال. وبنو صريم بن مقاعس، منهم عبد الله بن أباض رئيس الإباضيّة من الخوارج، وعبد الله بن صفّار رئيس الصفريّة، والبرك بن عبد الله الّذي اشترط بقتل معاوية وضربه فجرحه. وبنو عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة منهم، ثم من بني بهدلة   [1] الشيطين: مثنى شيّط بتشديد الياء أهـ. [2] تبعد: من بعد بمعنى هلك ومات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 ابن عوف الزبرقان واسمه الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة وأويس ابن أخيه حنظلة الّذي أسر هوذة بن علي الحنفي. ومن بني عطارد بن عوف كرب بن صفوان بن شخمة بن عطارد الّذي كان يجيز بأهل الموسم في الجاهلية. ومن بني قريع بن عوف بن كعب جعفر الملقب أنف الناقة وكان ولده يغضبون منها إلى أن مدحهم الحطيئة بقوله: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا [1] وبنو الحرث الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد مناة، كان منهم زهرة بن جؤيّة بن عبد الله بن قتادة بن مرثد بن معاوية بن قطن بن مالك بن أرتم بن جشم بن الحرث الّذي أبلى في القادسيّة وقتل الجالنوس أمير الفرس، وقتله هو بعد ذلك أصحاب شبيب الخارجي مع عتاب بن ورقا وبنو مالك بن سعد بن زيد مناة، كان منهم الأغلب بن سالم بن عقال بن خفافة بن عبّاد بن عبد الله بن محرث بن سعد بن حرام بن سعد بن مالك أبو الولاة بإفريقية لبني العبّاس، وبنو ربيعة بن مالك بن زيد مناة كان منهم عروة بن جرير بن عامر بن عبد بن كعب بن ربيعة أول خارجي قال: لا حكم إلّا للَّه يوم صفّين. ويعرف بأنّ أباه نسبه إلى أمّه. ومن بني حنظلة بن مالك البراجم وهم بنو عمرو. والظلم وغالب وكلبة وقيس كلهم بنو حنظلة كان منهم ضابىء بن الحرث بن أرطاة بن شهاب بن عبيد بن جنادل [2] بن قيس وابن عمير بن ضابىء الّذي قتله الحجاج. وبنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة كان منهم بمراثيه المشهورة، وبنو الحرث بن يربوع منهم الزبير بن الماحور أمير الخوارج وأخوه عثمان وعلي وهم بنو بشير بن يزيد الملقّب بالماحور بن الحارث بن ساحق بن الحرث بن سليط بن يربوع وكلهم أمراء الأزارقة، وبنو كليب بن يربوع كان منهم جرير الشاعر ابن عطية بن الخطفي وهو حذيفة بن بدر بن سلم بن عوف بن كليب. وبنو العنبر بن يربوع منهم كانت سجاح المتنبئة بنت أويس بن جوين بن سامة بن عنبر. وبنو رياح كان منهم شبث بن ربعي بن حصين بن عميم بن ربيعة بن زيد بن رياح كان منهم رياح أسلم ثم سار مع الخوارج ثم رجع عنهم تائبا، ومعقل بن قيس أوفده عمّار بن ياسر على عمر بفتح تستر، وعتاب بن ورقاء بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح   [1] فأصبحوا بعد مدحه يفتخرون به. [2] وفي نسخة أخرى: جندال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 أمير أصبهان وقتله شبيب الخارجي. وبنو طهيّة بن مالك وهم بنو أبي سود وعوف ابني مالك. وبنو دارم بن مالك بن حنظلة كان منهم ثم من بني نهشل بن دارم بن حازم بن خزيمة بن عبد الله بن حنظلة نضلة بن حدثان بن مطلق بن أصحر بن نهشل صاحب الشرطة لبني العبّاس. ومن بني مجاشع بن دارم الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، والفرزدق بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال والحتات بن يزيد بن علقمة الّذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان. ومن بني عبد الله بن دارم المنذر بن ساوى بن عبد الله بن زيد بن عبد مناة بن دارم صاحب هجر ومن بني غرس بن زيد بن عبد الله بن دارم حاجب بن زرارة بن غرس وابنه عطارد وبنوهم، كان فيهم رؤساء وأمراء وانقضى الكلام في تميم. وأمّا بنو مزينة: وهم بنو مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس واسم ولده عثمان وأوس وأمّهما مزينة فسمّي جمع ولديهما بها، فكان منهم زهير بن أبي سلمى وهو ربيعة بن أبي رباح بن قرة بن الحرث بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن لاظم بن عثمان أحد الشعراء الستة، وأبناء بجير وكعب الّذي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنعمان بن مقرّن بن عامر بن صبح بن هجيم بن نصر بن حبشيّة بن كعب بن عفراء بن ثور بن هرمة، وأخوه سويد الّذي قتل يوم نهاوند، ومعقل بن يسّار بن عبد الله بن معير بن حراق بن لابي بن كعب بن عيد ثور الصحابي المشهور. وأمّا الرباب: وهم بنو عبد مناة بن أدّ بن طابخة فمن بنيه تميم وعديّ وعوف وثور، وسمّوا الرباب لأنهم غمسوا في الربّ أيديهم في حلف على بني ضبّة، وبلادهم جوار بني تميم بالدهناء، وفي أشعارهم ذكر حزوى وعالج من معالمهما. وتفرّقوا لهذا العهد ولم يبق منهم أحد هنالك. وكان من بني تميم بن عبد مناة المستورد بن علقمة بن الفريس بن صباري بن نشبة بن ربيع بن عمرو بن عبد الله بن لؤيّ بن عمرو بن الحرث بن تميم الخارجي قتله معقل بن قيس الرياحيّ في إمارة المغيرة بن شعبة، وابن باخمة ورد بن مجالد بن علقمة حضر مع عبد الرحمن بن ملجم في قتل عليّ وقتل، وقطام بنت بجنة بن عديّ بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تميم التي تزوّجها عبد الرحمن بن ملجم ومهرها قتل عليّ فيما قيل حيث يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب عليّ بالحسام المصمّم [1] وكانت خارجية وقتل أبوها شحمة وعمها الأخضر يوم النهروان. ومن بني عديّ بن عبد مناة ذي الرمّة الشاعر، وهو غيلان بن عقبة بن بهس بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان بن عديّ. ومن بني ثور بن عبد مناة ويسمى أطمل سفيان الثوريّ، وهو سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن منقر بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور وأخواه عمرو والمبارك والربيع بن خثيم الفقيه. وأمّا ضبّة: فهم بنو ضبّة بن أدّ وكانت ديارهم جوار بني تميم إخوتهم بالناحية الشمالية التهاميّة من نجد، ثم انتقلوا في الإسلام إلى العراق بجهة النعمانيّة وبها قتلوا المثنّى الشاعر. فمنهم ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن أسعد بن ضبّة سيد بني ضبّة في الجاهلية، وبقيت سيادتهم في بنيه، وكان له ثمانية عشر ولدا ذكرا شهدوا معه يوم القريتين، وابنه حصين كان مع عائشة يوم الجمل، ومن ولده القاضي أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسّان بن المنذر بن ضرار بن عنبسة بن إسحاق بن شمر بن عبس بن عنبسة بن شعبة ابن المختبر بن عامر بن العباب بن حسل بن بجالة المذكور في قوّاد بني العبّاس ولي مصر أيام المتوكل. ويقال: إنّ الديلم من بني باسل بن ضبّة بن أدّ والله أعلم. وأمّا صوفة: فهم بنو الغوث بن مرّ بن أدّ كانوا يجيزون بالحاج في الموسم لا يجوز أحد حتى يجوزوا ثم انقرضوا عن آخرهم في الجاهلية، وورث ذلك آل صفوان بن شحمة من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وقد مرّ ذكر ذلك وانقضى بنو طابخة بن إلياس. وأمّا مدركة بن إلياس فهم بطون كثيرة أعظمها هذيل والقارة وأسد وكنانة وقريش. فأمّا هذيل: فهم بنو هذيل بن مدركة، وديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف، ولهم أماكن ومياه في أسفلها من جهات نجد وتهامة وبين   [1] وفي كتاب ligionoftheShiah:لمؤلفه دوايت. م دونالدسن. ثلاثة الاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المسمم فلا مهر أعلى من عليّ وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم وربما تكون هذه الرواية أصح لان الحسام الّذي قتل به الامام كان مسموما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 مكّة والمدينة، ومنها الرجيع وبئر معونة. وهم بطنان سعد بن هذيل ولحيان بن هذيل: فمن بني سعد بن هذيل أبو بكر الشاعر، والحطيئة فيما يقال، وعبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن الحارث بن تميم بن سعد الصحابي المشهور. وأخواه عتبة وعميس، وبنوه عبد الرحمن وعتبة، والمسعودي المؤرخ ابن عتبة وهو عليّ بن الحسين بن عليّ بن عبد الله بن زيد بن عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ومن عتبة أخيه عتبة بن عبيد الله بن زيد بن عتبة فقيه المدينة. وقد افترقوا في الإسلام على الممالك ولم يبق لهم حي يطرف. وبإفريقية منهم قبيلة بنواحي باجة يعسكرون مع جند السلطان ويؤدّون المغرم. وأمّا بنو أسد: فمنهم بنو أسد بن خزيمة بن مدركة، بطن كبير متسع ذو بطون، وبلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد وفي مجاورة طيِّئ، ويقال: إنّ بلاد طيِّئ كانت لبني أسد، فلما خرجوا من اليمن غلبوهم على أجا وسلمى وجاءوا واصطلحوا وتجاوروا لبني أسد والتغلبيّة وواقصة وغاضرة. ولهم من المنازل المسمّاة في الأشعار غاضرة والنعف، وقد تفرّقوا من بلاد الحجاز على الأقطار ولم يبق لهم حيّ وبلادهم الآن فيما ذكر ابن سعيد لطيّئ وبني عقيل الأمراء، كانوا بأرض العراق والجزيرة وكانوا في الدولة السلجوقيّة قد عظم أمرهم وملكوا الحلّة وجهاتها، وكان بها منهم الملوك بنو مرين الذين ألّف الهباريّ أرجوزته المعروفة به في السياسة. ثم اضمحلّ ملكهم بعد ذلك وورث بلادهم بالعراق خفاجة. وكانت بنو أسد بطونا كثيرة، كان منها بنو كاهل قاتل حجر بن عمرو الملك والد امرئ القيس، وبنو غنم بن دودان بن أسد منهم: عبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثّير بن غنم الّذي أسلم ثم تنصّر ومات نصرانيا، وأخته زينب أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وعكاشة بن محصن بن حدثان بن قيس بن مرّة بن كثّير الصحابي المشهور. وبنو ثعلبة بن دودان بن أسد منهم: الكميت الشاعر ابن زيد بن الأخنس بن ربيعة بن امرئ القيس بن الحرث بن عمرو بن مالك بن سعد بن ثعلبة، وضرار بن الأزور وهو مالك بن أويس بن خزيمة بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة الصحابي، قاتل مالك بن نويرة، والحضرميّ بن عامر بن مجمع بن موالة بن همّام بن صحب بن القيس بن مالك وافدهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وبنو عمرو بن قعيد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 الحارث بن ثعلبة بن دودان منهم: الطمّاح بن قيس بن طريف بن عمرو بن قعيد الّذي سعى عند قيصر في هلاك امرئ القيس، وطليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمر والّذي كان كاهنا وادعى النبوّة ثم أسلم. وفي بني أسد بطون يطون ذكرها. وأمّا القارة وعكل: فهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس إخوة بني أسد وكانوا حلفاء لبني زهرة بن قريش. وأمّا كنانة فهم كنانة بن خزيمة بن مدركة إخوة بني أسد، وديارهم بجهات مكّة، وفيهم بطون كثيرة وأشرفها قريش، وهم بنو النضر بن كنانة وسيأتي ذكرهم. ثم بنو عبد مناة بن كنانة وبنو مالك بن كنانة. فمن بني عبد مناة: بنو بكر وبنو مرّة وبنو الحرث وبنو عامر، فمن بني بكر بنو ليث بن بكر منهم بنو الملوّح بن يعمر وهو الشدّاخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث. ومنهم الصعب بن جثامة بن قيس بن الشدّاخ الصحابي المشهور، والشاعر عروة بن أدينة بن يحيى بن مالك بن الحرث بن عبد الله ابن الشدّاخ، ومنهم بنو شجع بن عامر بن ليث بن بكر ومنهم أبو واقد الليثي الصحابي وهو الحرث بن عوف بن أسيد بن جابر بن عديدة بن عبد مناة بن شجع، وبنو سعد بن ليث بن بكر منهم أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جابر بن خميس بن عديّ بن سعد آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة سبع ومائة وواثلة بن الأسقع بن عبد العزّى بن عبد ياليل بن ناشب بن عبدة بن سعد الصحابي المشهور، وبنو جذع بن بكر بن ليث بن بكر: منهم أمير خراسان نصر بن سيّار بن رافع بن عديّ بن ربيعة بن عامر بن عوف بن جندع ورافع بن الليث بن نصر القائم بسمرقند أيام الرشيد بدعوة بني أميّة ثم استأمن إلى المأمون. ومن بني عبد مناف بنو عريج بن بكر بن عبد مناف وبنو الديل بن بكر: منهم الأسود بن رزق بن يعمر بن نافثة بن عديّ بن الدّيل الّذي كان بسببه فتح مكة. وسارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر بن محميّة بن عبد بن عديّ بن الديل الّذي ناداه عمر فيما اشتهر من المدينة وهو بالعراق يقاتل وأبو الأسود واضع النحو وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن جندب بن يعمر بن حليس بن نافثة بن عديّ. وبنو ضمرة بن بكر: منهم عامرة بن مخشى بن خويلد عبد بن نهم بن يعمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 بن عوف بن جري بن ضمرة الّذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعمرو بن أميّة بن خويلد بن عبد الله بن إياس بن عبيد بن ناشرة بن كعب بن جري الصحابي، والبرّاض بن قيس بن رافع بن قيس بن جري الفاتك قاتل عروة الرحّال ابن عتبة بن جعفر بن كلاب وكان بسببها حرب الفجّار. ومن ضمرة غفّار بن مليل بن ضمرة بطن كان منهم أبو ذرّ الغفاريّ الصحابي وهو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفّار، وصاحبه كثّير الشاعر الّذي تشبّب بعزّة بنت جميل بن حفص بن إياس بن عبد العزّى بن حاجب غافر بن غفّار ومنهم كلثوم بن الحصين بن خالد بن معيسير بن بدر بن خميس بن غفّار واستخلفه النبيّ صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوة الفتح. وبنو مدلج بن مرة بن عبد مناة: منهم سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن مالك بن تيم بن مدلج الّذي اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجعالة قريش ليردّه فظهرت فيه الآية وصرفه الله تعالى عنه ومجزز المدلجيّ الّذي سرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقيافته في أسامة وزيد وهو مجزز بن الأعور بن جعد بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج. وبنو عامر بن عبد مناة منهم بنو مساحق بن الأفرم بن جذيمة بن عامر الذين قتلهم خالد بن الوليد بالغميصاء ووداهم النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر فعل خالد. وبنو الحارث بن عبد مناة منهم الحليس بن علقمة بن عمرو بن الأوقح بن عامر بن جذيمة بن عوف بن الحارث الّذي عقد حلف الأحابيش مع قريش وأخوه تيم الّذي عقد حلف القارة معهم. وبنو فراس بن مالك بن كنانة: منهم فارس العرب ربيعة بن المكدّم بن عامر بن خويلد بن جذيمة بن علقمة بن جذل الطعّان بن فارس. وبنو عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة: منهم نسأة الشهور في الجاهلية قام الإسلام فيهم على جنادة بن أميّة بن عوف بن قلع بن جذيمة بن فقيم بن علي بن عامر وكل من صارت إليه هذه المرتبة كان يسمى القلمس وأوّل من نسأ الشهور: سمير بن ثعلبة بن الحارث وكان منهم الرماحس بن عبد العزيز بن الرماحس بن الرسارس بن واقد بن وهب بن هاجر بن عزّ بن وائلة بن الفاكه بن عمرو بن الحرث ولّاه عبد الرحمن الداخل حين جاء إلى الأندلس على الجزيرة وشذونة وامتنع بها ثم زحف إليه ففرّ إلى العدوة وبها مات. وكان له بالأندلس عقب ولهم في الدولة الأمويّة ذكر وولايات كان منها على الأساطيل فكان لهم فيها غناء وكانوا يغزون سواحل العبيديّين بإفريقية فتعظم نكايتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فيها. وهو وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا ربّ غيره ولا خير إلّا خيره، ولا يرجى إلا إيّاه ولا معبود سواه، وهم نعم المولى، ونعم النصير، وأسأله الستر الجميل، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. والحمد للَّه رب العالمين، حمدا دائما كثيرا، والله ولي التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وأمّا قريش وهم ولد النضر بن كنانة بن فهر بن مالك بن النضر، والنضر هو الّذي يسمّى قريشا، قيل للتفرش وهو التجارة، وقيل تصغير قرش وهو الحوت الكبير المفترس دواب البحر. وإنما انتسبوا إلى فهر لأنّ عقب النضر منحصر فيه لم يعقب من بني النضر غيره، فهذا وجه القول بأن قريشا من بني فهر بن مالك أعني انحصار نسبهم فيه، وأمّا الّذي اسمه قريش فهو النضر. فولد فهر غالب والحارث ومحارب فبنو محارب بن فهر من قريش الظواهر منهم الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب صاحب مرج راهط، قاتل فيه مروان بن الحكم حين بويع له بالخلافة وقتل. وضرار بن الخطّاب بن مرداس بن كثّير بن عمرو آكل السقف [1] ابن حبيب بن عمرو بن شيبان الفارس المشهور في الصحابة، وأبوه الخطّاب بن مرداس سيد الظواهر في الجاهلية، وكان يأخذ المرباع منهم وحضر حروب الفجّار، وابنه من فرسان الإسلام وشعرائه. وعبد الملك بن قطيّ بن نهشل بن عمرو بن عبد الله بن وهب بن سعد بن عمرو آكل السقف شهد يوم الحرّة وعاش حتى ولي الأندلس وصلبه أصحاب بلخ بن بشر القشيري، وكرز بن جابر بن حسل ابن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان قتل يوم الفتح وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسار بنو الحرث بن فهر من الظواهر، منهم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال بن وهب بن ضبّة بن الحرث من العشيرة وأمير المسلمين بالشام عند الفتح، وعقبة بن نافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ضرب بن الحرث فاتح إفريقية ومؤسس القيروان بها، ومن عقبه عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة والي إفريقية أبوه حبيب بن عقبة هو قاتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، ويوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة صاحب الأندلس وعليه دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فقتله ووليها هو وبنوه من بعده. وأمّا غالب بن فهر وهو في عمود النسب الكريم فولد تيم الأدرم وولدين فبنو تيم الأدرم من الظواهر وهم بادية، كان منهم ابن خطل الّذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح فقتل وهو متعلّق بأستار الكعبة، وهو هلال بن عبد الله بن عبد مناة بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيم الأدرم. وأمّا لؤيّ بن غالب في عمود النسب الكريم فولد كعبا وعامرا وبطونا أخرى يختلف   [1] ج سقيفة: بمعنى البعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 في نسها إلى لؤيّ خزيمة وسامة وسعد وجشم، وهو الحارث وعوف وهم من قريش الظواهر على أقل، فمنهم خزيمة بن لؤيّ وبنو سامة بن لؤيّ، ويقال ليس بنو سامة من قريش وهم بعمان. ويقال: إنّ منهم بني سامان ملوك ما وراء النهر. فأمّا بنو عامر بن لؤيّ فهم شقير حسل بن عامر ومعيص بن عامر فمن بني معيص بشر بن أرطاة وهو عويمر عمران بن الحليس بن يسار بن نزار بن معيص بن عامر وهو أحد قوّاد معاوية، ومكرز بن حفص بن الأحنف بن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص من سادات قريش الّذي أجار أبا جندل بن سهيل فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب الأصم ابن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص، وهو ابن خال خديجة وأمّه أمّ كلثوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكمثة بن عامر بن مخزوم. ومن بني حسل عامر بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن جبيب بن خزيمة بن مالك بن حسل بن عامر أمير المسلمين في فتح إفريقية أيام عثمان وولي مصر وكان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى مكة ثم جاء تائبا وحسنت حاله وقصته معروفة، وحويطب بن عبد العزّى بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل له صحبة، وعبد عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك صاحب الحديبيّة وأخوه السكران، وابنه أبو جندل سهيل واسمه العاصي وهو الّذي جاء في قيوده يوم صلح الحديبيّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فردّه وقصته معروفة. وزمعة بن قيس بن عبد شمس، وابنه عبد بن زمعة، وبنته سودة بنت زمعة أم المؤمنين وكانت زوجة السكران ابن عمها، ثم تزوّجها بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمّا كعب بن لؤيّ وهو في عمود النسب الكريم فولده مرّة وهصيص وعديّ وهم قريش البطاح أي بطائح مكّة، فمن ابن كعب هصيص بن كعب بن لؤيّ بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب منهم العاصي بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم، وابناه عمرو وهشام ابنا العاصي، وعبد الرحمن بن معيص بن أبي وداعة وهو الحارث بن سعيد بن سعد بن سهم قارئ أهل مكّة، وإسماعيل بن جامع بن عبد المطّلب بن أبي وادعة مفتي مكّة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم قتلا يوم بدر كافرين وألقيا في القليب، وقتل يومئذ العاصي بن منبّه، وكان له ذو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبد الله بن الزبعري بن قيس بن عديّ بن سعد بن سهم كان يؤذي بشعره ثم أسلم وحسن إسلامه، وحذافة بن قيس أبو الأخنس وخنيس، وكان خنيس على حفصة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن حذافة من مهاجرة الحبشة وهو الّذي مضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى. وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، كان منهم أميّة بن خلف بن وهب بن حذافة قتل يوم بدر وأخوه أبيّ قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بيده وابنه صفوان بن أميّة أسلم يوم الفتح وابنه عبد الله بن صفوان قتل مع الزبير وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة وإخوته قدامة والسائب وعبد الله مهاجرون بدريّون وإخوتهم زينب بنت مظعون أم حفصة. وبنو عديّ بن كعب: منهم زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن زراح بن عديّ [1] . رفض الأوثان في الجاهلية والتزم الحنيفيّة ملّة إبراهيم إلى أن قتل بقرية من قرى البلقاء قتله لخم أو جذام، وابنه سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة. وعمر بن الخطّاب أمير المؤمنين، وابنه عبد الله وعاصم وعبيد الله وغيرهم، وخارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبيد الله بن عويج بن عديّ بن كعب الّذي قتله الحروري بمصر يظنّه عمرو بن العاص [2] وقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة فصارت مثلا. وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم صاحب النفل يوم حنين ومطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج صحابي، وابنه عبد الله بن مطيع كان على المهاجرين يوم الحرّة قتل مع ابن الزبير بمكة. وأمّا مرّة بن كعب وهو من عمود النسب الكريم فكان له من الولد كلاب وتيم ويقظة. فأمّا تيم بن مرّة فمنهم: عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم سيد قريش في الجاهلية وتنسب إليه الدار المشهورة يومئذ بمكّة. ومنهم أبو بكر الصدّيق واسمه عبد الله بن أبي قحافة وهو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب وابناه عبد   [1] وفي نسخة أخرى: رزاح بن عديّ. [2] وبهذه المناسبة قال الشاعر: وليتها إذ فدت عمر الخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 الرحمن ومحمد وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب قتل يوم الجمل وابنه محمد السجّاد وأعقابهم كثيرة. وبنو يقظة بن مرّة منهم: بنو مخزوم بن يقظة بن مرّة فمنهم صيفي بن أبي رفاعة وهو أمية بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، قتل هو أخوه ببدر كافرا، والأرقم بن أبي الأرقم واسمه عبد مناف بن أبي جندب، واسمه أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم صاحبي بدريّ كان يجتمع بداره النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمون سرّا قبل أن يفشوا الإسلام، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم من قدماء المهاجرين كان زوج أمّ سلمة قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم واسمه أبو قيس قتل يوم بدر كافرا، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة واسمه عمر وقتل يومئذ كافرا وابنه عكرمة صحابي، والحارث بن هشام بن المغيرة أسلم وحسن إسلامه وله عقب كثير مشهورون، وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة قتل يوم بدر كافرا وبنته أمّ سلمة أمّ المؤمنين وهشام بن أبي حذيفة من مهاجرة الحبشة، وعبد الله بن أبي ربيعة وهو عمرو بن المغيرة من الصحابة من ولده الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقبّاع، والوليد بن المغيرة مات بمكّة كافرا وابنه خالد بن الوليد سيف الله صاحب الفتوحات الإسلامية، وسعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم تابعي، وأبوه المسيّب من أهل بيعة الرضوان. وأمّا كلاب بن مرّة من عمود النسب الكريم فولد له قصيّ وزهرة فبنو زهرة بن كلاب منهم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أم النبي صلى الله عليه وسلم وابن أخيها عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب، وسعد بن أبي وقّاص واسمه مالك بن وهب بن عبد مناف أمير المسلمين في فتح العراق، وهاشم ابن أخيه عتبة من الأمراء يومئذ، وابنه عمرو بن سعيد الّذي بعثه عبد الله بن زياد لقتال الحسين وقتله المختار بن أبي عبيد، وأخوه محمد بن سعد قتله الحجّاج بن أبي الأشعث، والمسوّر ابن مخرمة بن نوفل بن وهب صحابي وأبوه من المؤلّفة قلوبهم، وعبد الله بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحرث بن زهرة وابنه سلمة وله عقب كثير. وأمّا قصيّ بن كلاب من عمود النسب الكريم، وهو الّذي جمع أمر قريش وأثل مجدهم، فولد له عبد مناف وعبد الدار وعبد العزّى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 فبنو عبد الدار كان منهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، أسر يوم بدر مع المشركين، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومرّ بالصفراء أمر به فضرب عنقه هنالك. ومصعب بن عمرو بن هاشم بن عبد مناف صحابي بدري استشهد يوم أحد وكان صاحب اللواء، ومن عقبه كان عامر بن وهب القائم بسرقسطة من الأندلس بدعوة أبي جعفر المنصور، وقتله يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ أمير الأندلس قبل عبد الرحمن الداخل. ومنهم أبو السنابل بن بعكك بن السبّاق بن عبد الدار صحابي مشهور، ومنهم عثمان بن طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار الّذي دفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مفتاح الكعبة، وقيل إنّما دفعه إلى أخيه شيبة وصارت حجابة البيت إلى بني شيبة بن طلحة من يومئذ. وبنو عبد العزّى بن قصيّ منهم أبو البختري العاصي بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى، أراد التملّك على قريش من قبل قيصر فمنعوه فرجع عنهم الى الشام، وسجن من وجد بها من قريش، وكان في جملتهم أبو أحيحة سعيد بن العاص فدست قريش إلى عمرو بن جفنة الغسّانيّ، فسمّ عثمان بن الحويرث ومات بالشام. وهبّار بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى، كان من عقبه عمر بن عبد العزيز بن المنذر بن الزبير بن عبد الرحمن بن هبّار صاحب السند وليها في ابتداء الفتنة إثر قتل المتوكّل، وتداول أولاده ملكها إلى أن انقطع أمرهم على يد محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وما دون النهر من خراسان، وكانت قاعدتهم المنصورة، وكان جدّه المنذر بن الربيع قد قام بقرقيسياء أيام السفّاح فأسر وصلب. وإسماعيل بن هبّار قتله مصعب بن عبد الرحمن غفيلة، وهبّار كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ابنه عوف أسلم فمدحه وحسن إسلامه. وعبد الله بن زمعة بن الأسود له صحبة وتزوّج زينب بنت أبي سلمة من أم سلمة أم المؤمنين. وخديجة أمّ المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى، والزبير بن العوّام بن خويلد أحد العشرة، وابناه عبد الله ومصعب. وحكيم بن حزام بن خويلد عاش ستين سنة في الإسلام وباع داره والندوة من معاوية بمائة ألف، وابنه هشام بن حكيم. وأمّا عبد مناف وهو صاحب الشوكة في قريش وسنام الشرف وهو في عمود النسب الكريم، فولد له عبد شمس وهاشم والمطّلب ونوفل. وكان بنو هاشم وبنو عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 شمس متقاسمين رياسة بني عبد مناف والبقية أحلاف لهم فبنو المطّلب أحلاف لبني هاشم وبنو نوفل أحلاف لبني عبد شمس. فأمّا بنو عبد شمس فمنهم العبلات وهم بنو أميّة الأصغر وبنته الثريا صاحبة عمرو بن أبي ربيعة وهي سيدة القريض المغنّي وبنو ربيعة بن عبد شمس: منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، ومن عتبة ابنه الوليد وقتل يوم بدر كافرا، وأبو حذيفة صحابي وهو مولى سالم قتل يوم اليمامة، وهند بنت عتبة أمّ معاوية رضي الله عنها. وبنو عبد العزّى بن عبد شمس: منهم أبو العاصي بن الربيع بن عبد العزّى صهر النبيّ وكانت له منها أمامة تزوّجها علي بعد فاطمة رضي الله عنهما. وبنو أميّة الأكبر بن عبد شمس منهم سعيد بن أبي أحيحة العاصي بن أميّة مات كافرا، وابنه خالد بن عبد قتل يوم اليرموك، وسعيد بن العاص بن سعيد قديم الإسلام ولي صنعاء واستشهد في فتح الشام، وابنه سعيد قتل يوم اليرموك، وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية ولي الكوفة لعثمان، وابنه عمرو الأشدق القائم على عبد الملك وقتله، وأمير المؤمنين عثمان بن عفّان بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم بن أبي العاص، وأعقابه الخلفاء الأوّلون في الإسلام والملوك بالأندلس معروفون يأتي ذكرهم عند أخبار دولهم. وأبو سفيان بن حرب بن أميّة وأبناؤه معاوية أمير المؤمنين ويزيد وحنظلة وعتبة وأم حبيبة أمّ المؤمنين، وعقب معاوية بين الخلفاء والإسلام بيّن معروف يذكر عند ذكرهم. وعتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكّة إذ فتحها فلم يزل عليها إلى أن مات يوم ورود الخبر بموت أبي بكر الصدّيق. ومنهم بنو أبي الشوراب القضاة ببغداد من عهد المتوكل إلى المقتدر، وهم بنو أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط واسمه أبان بن عمرو بن أمية قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر صبرا، وابنه الوليد صحابي ولي الكوفة وهو الّذي حدّ على الخمر بين يدي عثمان، وابنه أبو قطيفة الشاعر، ومن عقبة بن أبي معيط المعيطي الّذي بويع بدانية من شرق الأندلس بايع له ما ملكها مجاهد زمان الفتنة بعد المائة الرابعة في آخر الدولة الأموية، وهو عبد الله بن عبيد الله بن عبيد الله بن الوليد بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عثمان بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عقبة بن أبي معيط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وبنو نوفل بن عبد مناف: منهم جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل الصحابي المشهور، وأبوه مطعم هو الّذي نوّه به النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الطائف ومات قبل بدر، وطعيمة بن عديّ قتل يوم بدر كافرا، ومولاه وحشي هو الّذي قتل يوم أحد حمزة بن عبد المطّلب. وبنو المطّلب بن عبد مناف منهم قيس بن مخرمة بن المطّلب صحابي، وابنه عبد الله بن قيس مولى يسار جد محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، ومسطح وهو عوف بن أثاثة بن عبّاد بن المطّلب أحد من تكلم بالإفك وهو ابن خالة أبي بكر الصدّيق، وركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطّلب كان من أشدّ الرجال، وصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه وكانت آية من آياته. والسائب بن عبد يزيد وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر يوم بدر ومن عقبه الشافعيّ محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السائب. وأمّا بنو هاشم بن عبد مناف فسيّدهم عبد المطلب بن هاشم، ولم يذكر من عقبه إلّا عقب عبد المطلب هذا، وكان بنوه عشرة عبد الله أبو النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أصغرهم، وحمزة، والعبّاس وأبو طالب، والزبير، والمقوّم ويقال اسمه الغيداق، وضرار وحجل، وأبو لهب، وقثم والزبير لا عقب لهما. وعقب حمزة انقرض فيما قال ابن حزم. ومن عقب أبي لهب ابنه عتبة صحابي. وأمّا عقب العبّاس وأبي طالب فأكثر من أن يحصر، والبيت والشرف من بني العبّاس في عبد الله بن العبّاس، ومن بني أبي طالب في علي أمير المؤمنين وبعده أخوه جعفر رضي الله عنهم أجمعين، وسنذكر من مشاهيرهم عند ذكر أخبارهم ودولهم ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. هذا آخر الكلام وفي أنساب قريش وانقضى بتمامها الكلام في أنساب مضر وعدنان فلنرجع الآن إلى أخبار قريش وسائر مضر وما كان لهم من الدول الإسلامية. والله المستعان لا ربّ غيره، ولا خير إلّا خيره، ولا معبود سواه ولا يرجى إلّا إياه، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأسأله الستر الجميل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك اليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز وأكناف العرب كانت ديار العمالقة من ولد عمليق بن لاوذ وأنهم كان لهم ملك هنالك، وكانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشد، وكانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت. وأصاب اليمن يومئذ قحط ففرّوا نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى وعثروا في طريقهم بإسماعيل مع أمّه هاجر عند زمزم، وكان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عند ذكر إبراهيم عليه السلام. ونزلوا على قطورا من بقية العمالقة، وعليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة ابن لاوي بن قطورا بن ذكر بن عملاق أو عمليق. واتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن وما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم، وعليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم، فنزلوا على مكّة بقعيقعان وكانت قطورا أسفل مكّة. وكان مضاض يعشر من دخل مكّة من أعلاها والسميدع من أسفلها، هكذا عند ابن إسحاق والمسعودي أنّ قطورا من العمالقة، وعند غيرهما أنّ قطورا من بطون جرهم وليسوا من العمالقة. ثم افترق أمر قطورا وجرهم وتنافسوا الملك واقتتلوا وغلبهم المضاض وقتل السميدع وانقضت العرب العاربة قال الشاعر: مضى آل عملاق فلم يبق منهمو ... حقير ولاذ وعزّة متشاوس عتوا فأدال الدهر منهم وحكمه ... على الناس هذا وأغذ ومبايس ونشأ إسماعيل صلوات الله عليه بين جرهم وتكلم بلغتهم وتزوّج منهم حرّا بنت سعد بن عوف بن هنء بن نبت بن جرهم، وهي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره ووجده غائبا فقال لها: قولي لزوجك فليغير عتبته، فطلّقها وتزوّج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف، ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور، وتزوّج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم. ولثلاثين سنة من عمر إسماعيل قدم أبوه الحجاز فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام، وكان الحجر زربا لغنم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 إسماعيل فرفع قواعدها مع ابنه إسماعيل وصيّرها خلوة لعبادته، وجعلها حجا للناس كما أمره الله، وانصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مرّ. وبعث الله إسماعيل إلى العمالقة وجرهم وأهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض إلى أن قبضة الله ودفن بالحجر مع أمه هاجر ويقال آجر، وكان عمره فيما يقال مائة وثلاثين سنة وعهد بأمره لابنه قيذار: ومعنى قيذار صاحب الإبل وذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسماعيل كذا قال السهيليّ، قال غيره معناه الملك. ويقال: إنما عهد لابنه نابت فقام ابنه بأمر البيت ووليها، وكان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر: قيذار ينابوت ادبيبل [1] مبسام مشمع دوما مسّا حدد [2] ديما يطور ياقيس قدما [3] أمّهم السيدة بنت مضاض قاله السهيليّ. وهكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات، والحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج، فلهذا يقع الخلاف بين العلماء في ضبط هذه الألفاظ، وقد ضبط ابن إسحاق تيماء منهم بالطاء والياء وضبطه الدار الدّارقطنيّ بالضاد المعجمة والميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم وذكر ابن إسحاق ديما. وقال البكري به سميت دومة الجندل لأنه كان نزلها وذكر أنّ الطوربيطون ابن إسماعيل. ثم هلك نابت بن إسماعيل، وولى أمر البيت جدّه الحرث بن مضاض، وقيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء ابن نبت بن جرهم، ثم ابنه الحرث بن عمرو. ثم قسمت الولاية بين ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسماعيل إعظاما للحرم أن يكون به بغي أو قتال. ثم بغت جرهم في البيت، ووافق بغيهم تفرّق سبإ ونزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكّة، فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم واقتتلوا فغلبهم بنو حارثة، وهم فيما قيل خزاعة، وملكوا البيت عليهم، ورئيسهم يومئذ عمرو بن لحيّ وشرّد بقية جرهم. ولحيّ هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر، وقيل: إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر. وفي الحديث «رأيت عمرو بن لحيّ يجرّ قصبه في النار»   [1] وفي نسخة ثانية: قيايوت أدبئيل. [2] وفي نسخة ثانية: حدار. [3] وهذه هي أسماء بني إسماعيل عن التوراة: بنايوت، قيذار، أدئبيل، مبسام، مشماع، دومة، مسّا، حدار، تيما، يطور، ناغيش، قدمه. هؤلاء بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بحسب احويتهم وحظائرهم اثنا عشر زعيما لقبائلهم. سفر التكوين: الفصل الخامس والعشرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 يعني أحشاءه، لأنه الّذي بحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي وغير دين إسماعيل ودعا الى عبادة الأوثان. وفي طريق آخر رأيت عمرو بن عامر. قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة، هذا هو عمرو بن لحيّ بن قمعة بن إلياس وإنّما عامر اسم أبيه أخو قمعة، وهو مدركة بن إلياس، وقال السهيليّ: كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحيّ بد أبيه قمعة ولحيّ تصغير واسمه ربيعة تبنّاه حارثة وانتسب إليه فالنسب صحيح بالوجهين، وأسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة. وعن ابن إسحاق أنّ الّذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها، وإنّما تصدّى للنكير عليهم خزاعة وكنانة. وتولّى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وبنو غبشان بن عبد عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى بن حارثة فاجتمعوا لحربهم واقتتلوا، وغلبهم بنو بكر وبنو غبشان بن كنانة وخزاعة على البيت ونفوهم من مكّة. فخرج عمرو، وقيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر، بمن معه من جرهم إلى اليمن بعد أن دفن حجر الركن وجميع أموال الكعبة بزمزم. ثم أسفوا على ما فارقوا من أمر مكّة وحزنوا حزنا شديدا. وقال عمرو بن الحرث وقيل عامر: كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر بلى نحن كنّا أهلها فأزالنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف فما تحظى لدينا المكاثر ملكنا فعزّزنا فأعظم ملكنا ... فليس لحيّ عندنا ثم فاخر ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤنا منّا ونحن الأصاهر فإن تنثني الدنيا علينا بحالها ... فإنّ لها حالا وفيها التّشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للنّاس تجري المقادر أقول إذا نام الخليّ ولم أنم ... إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر وبدّلت منها أوجها لا أحبّها ... قبائل منها حمير وبحائر وصرنا أحاديثا وكنّا بغبطة ... بذلك عضّتنا السنون الغوابر فساحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر ونبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظلّ بها أمنا وفيها العصافر وفيه وحوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر ثم غلبت بنو حبشيّة على أمر البيت بقومهم من خزاعة، واستقلوا بولايتها دون بني بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 عبد مناة، وكان الّذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث وهو غبشان. وذكر الزبير: أنّ الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسماعيل هم إياد بن نزار. ومن بعد ذلك وقعت الحرب بين مضر وإياد فأخرجتهم مضر، ولما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود ودفنوه في بعض المواضع، ورأت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها فاشترطوا على مضر إن دلوهم عليه أنّ لهم ولاية البيت دونهم، فوفّوا لهم بذلك. وصارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن باعها أبو غبشان لقصيّ. ويذكر ان من وليها منهم عمرو بن لحيّ ونصب الأصنام وخاطبه رجل من جرهم: يا عمرو لا تظلم بمكّة إنّها بلد حرام سائل بعاد أين هم- وكذاك تحترم الأنام وهي العماليق الذين لهم بها كان السوام وكانت ولاية البيت لخزاعة وكان لمضر ثلاث خصال: الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرّة إخوتهم وهو صوفة، والإفاضة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عديّ وانتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد فدفع من مزدلفة أربعين سنة على حمار، ونسأ الشهور الحرم، كان لبني مالك بن كنانة وانتهى إلى القلمس كما مرّ. وكان إذا أراد الناس الصدور من مكّة قال: اللَّهمّ إني أحللت أحد الصغرين ونسأت الآخر للعام المقبل قال عمرو بن قيس من بني فراس. ونحن الناسئون على معدّ ... شهور الحلّ نجعلها حراما قال ابن إسحاق: فأقام بنو خزاعة وبنو كنانة على ذلك مدّة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه. وفي أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة ومن مضر كلها وصاروا جرما وبيوتات متفرّقين في بطن قومهم من بني كنانة، وكلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها. وصارت قريش على فرقتين: قريش البطاح وقريش الظواهر. فقريش البطاح ولد قصيّ بن كلاب وسائر بني كعب بن لؤيّ، وقريش الظواهر من سواهم وكانت خزاعة بادية لكنانة، ثم صار بنو كنانة لقريش، ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح، وقريش الظواهر من كان على أقل من مرحلة، ومن الضواحي ما كان على أكثر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 ذلك. وصار من سوى قريش وكنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية، وظعونا ناجعة من بطون قيس، وخندف من أشجع وعبس وفزارة ومرّة وسليم وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة وثقيف. ومن تميم والرباب وضبعي بني أسد وهذيل والقارة وغير هؤلاء من البطون الصغار، وكان التقدّم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش، والتقدّم في قريش لبني لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وكان سيّدهم قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ كان له فيهم شرف وقرابة وثروة وولد. وكان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بن زيد من بطونهم نسب ظئر ورحم كلالة كانوا من أجلها فيه شيعة، وذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكّة قبل مهلك كلاب بن مرّة. وكان كلاب خلف قصيّا في حجر أمّه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن فتزوّجها ربيعة وقصيّ يومئذ فطيم فاحتملته إلى بلاد بني عذرة وتركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا، وولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة. ولما شبّ قصيّ وعرف نسبه رجع إلى قومه، وكان الّذي يلي أمر البيت لعهده من خزاعة حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن عمرو، فأصهر إلى قصيّ في ابنته حبي فأنكحه إياها فولدت له عبد الدار وعبد مناف وعبد العزّى وعبد قصيّ. ولما انتشر ولد قصيّ وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأى قصيّ أنه أحق بالكعبة وبأمر مكّة وخزاعة وبني بكر لشرفه في قريش. ولما كثرت قريش سائر الناس واعتزت عليهم وقيل أوصى له بذلك حليل، ولما بدا له ذلك مشى في رجالات قريش ودعاهم الى ذلك فأجابوه، وكتب إلى أخيه رزاح في قومه عذرة مستجيشا بهم فقدم مكّة في إخوته من ولد ربيعة ومن تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصيّ. قال السهيليّ: وذكر غير ابن إسحاق أنّ حليلا كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبي حين كبر وضعف فكانت بيدها، وكان قصيّ ربما أخذها يفتح البيت للناس ويغلقه. فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصيّ وأبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصيّ، فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم. وقال الطبريّ: لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبي لما كبر وثقل قالت: اجعل ذلك لرجل يقوم لك به. فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤيّ بن ملكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 بن قصيّ، وكانت له ولاية الكعبة. ويقال: إنّ أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصيّ بزق خمر، قليل فيه: «أخسر من صفقة أبي غبشان» . فكان من أوّل ما بدءوا به نقض ما كان لصوفة من إجازة الحاج، وذلك أنّ بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة ينفر الحاج لنفرهم ويرمون الجمار لرميهم، ورثوا ذلك من بني الغوث بن مرّة، كانت أمّه من جرهم وكانت لا تلد، فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها، فولدت الغوث وخلى أخواله من جرهم بينه وبين من نافسه بذلك، فكان له ولولده وكان يقال لهم صوفة. وقال السهيليّ: عن بعض الأخباريين: إنّ ولاية الغوث بن مرّة كانت من قبل ملوك كندة، ولما انقرضوا ورث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة، ولما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتاب بن شجنة وقد مرّ ذكره في بطون تميم. فلما كان العام الّذي أجمع فيه قصيّ الانفراد بولاية البيت وحضر إخوته من عذرة، تعرّض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش وكنانة وقضاعة عند الكعبة، فلما وقفوا للإجازة قال: لا نحن أولى بهذا منكم فتناجزا وغلبهم قصيّ على ما كان بأيديهم، وعرفت خزاعة وبنو بكر عند ذلك أنّه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين، فانحازوا عنه وأجمعوا لحربه وتناجزوا وكثر القتل، ثم صالحوه على أن يحكمّوا من أشراف العرب، وتنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى لقصيّ عليهم، فولي قصيّ البيت وقرّ بمكة وجمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها وقطعها أرباعا بينهم، فأنزل كل بطن منهم بمنزله الّذي صبحهم [1] به الإسلام وسمّي بذلك مجمعا قال الشاعر: قصيّ لعمري كان يدعى مجمّعا ... به جمع الله القبائل من فهر فكان أوّل من أصاب من بني لؤيّ بن غالب ملكا أطاع له به قومه، فصار له لواء الحرب وحجابة البيت، وتيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم وكثيرها، فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم وجعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم ومعاقدهم. ثم تصدّى لإطعام الحاج وسقايته لما رأى أنهم ضيف الله وزوّار بيته، وفرض على قريش خراجا يؤدّونه إليه   [1] صبح: أتاهم صباحا. وصبح: كان وضيّا. وصبح: كان مشرقا وجميلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 زيادة على ذلك كانوا يردفونه به فحاز شرفهم كله، وكانت الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء له. ولما أسنّ قصيّ وكان بكرة عبد الدار وكان ضعيفا، وكان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة أبيه، فأوصى قصيّ لعبد الدار بما كان له من الحجابة واللواء والندوة والرفادة والسقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف، وكان أمره في قومه كالدين المتّبع لا يعدل عنه. ثم هلك وقام بأمره في قومه بنوه من بعده. وأقاموا على ذلك مدّة وسلطان مكّة لهم وأمر قريش جميعا، ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم ونازعوهم، فافترق أمر قريش وصاروا في مظاهرة بني قصيّ بعضهم على بعض فرقتين. وكان بطون قريش قد اجتمعت لعهدها ذلك اثني عشر بطنا: بنو الحرث بن فهر، وبنو محارب بن فهر، وبنو عامر بن لؤيّ، وبنو عديّ بن كعب، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو تيم بن مرّة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرّة، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وبنو عبد الدار، وبنو عبد مناف بن قصيّ. فأجمع بنو عبد مناف انتزاع ما بأيدي بني عبد الدار مما جعل لهم قصيّ، وقام بأمرهم عبد شمس أسنّ ولده واجتمع له من قريش: بنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحرث. واعتزل بن عامر، وبنو المحارب الفريقين. وصار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار وهم: بنو سهم، وبنو جمح، وبنو عديّ، وبنو مخزوم. ثم عقد كل من الفريقين على أحلافه عقدا مؤكدا، وأحشر بنو عبد مناف وحلف قومهم عند الكعبة جفنة مملوءة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيدا للحلف، فسمّي «حلف المطيّبين» . وأجمعوا للحرب وسوّوا بين القبائل وأنّ بعضها إلى بعض، فعبت بنو عبد الدار لبني أسد، وبنو جمح لبني زهرة، وبنو مخزوم لبني تيم، وبنو عديّ لبني الحرث. ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ويختص بنو عبد الدار بالحجابة واللواء فرضي الفريقان وتحاجز الناس. وقال الطبريّ قيل ورثها من أبيه. ثم قام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره وقراره بمكّة، وتقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام، فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج وإكرام وفدهم. ويقال: إنه أوّل من أطعم الثريد الّذي كان يطعم فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 ثريد قريش الّذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. والثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاة والتنور وليس من طعام العرب، إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة، وهو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطبا إلى أن يتم نضجه، ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه وتتلازج. وما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أو لا إلا أنّ لفظ الثريد يتناوله لغة. ويقال: إن هاشم بن عبد المطلب أوّل من سنّ الرحلتين في الشتاء والصيف للعرب ذكره ابن إسحاق، وهو غير صحيح، لأنّ الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم ومصالحها لأنّ معاشهم فيها، وهذا معنى العرب وحقيقتهم أنه الجيل الّذي معاشهم في كسب الإبل والقيام عليها في ارتياد المرعى وانتجاع المياه والنتاج والتوليد وغير ذلك من مصالحها، والفرار بها من أذى البرد عند التوليد الى القفار ودفئها، وطلب التلول في المصيف للحبوب وبرد الهواء، وتكوّنت على ذلك طباعهم فلا بد لهم منها ظعنوا أو أقاموا وهو معنى العروبية، وشعارها أنّ هاشما لما هلك وكان مهلكه بغزّة من أرض الشام، تخلف عبد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده ابنه المطّلب، وكان ذا شرف وفضل، وكانت قريش تسمّيه الفضل لسماحته، وكان هاشم قدم يثرب فتزوّج في بني عديّ وكانت قبله عند أحيحة بن الجلّاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الأوس لعهده، فولدت عمرو بن أحيحة، وكانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح، فولدت عبد المطّلب فسمته شيبة، وتركه هاشم عندها حتى كان غلاما. وهلك هاشم فخرج إليه أخوه المطّلب فأسلمته إليه بعد تعسّف واغتباط به، فاحتمله ودخل مكة فرفده على بعيره فقالت قريش: هذا عبد ابتاعه المطّلب، فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ. ثم أنّ المطّلب هلك بردمان من اليمن، فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم، وأقام الرفادة والسقاية للحاج على أحسن ما كان قومه يقيمونه بمكّة من قبله، وكانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير والحبشة، وقد قدّمناه خبره مع ابن ذي يزن ومع أبرهة. ولمّا أراد حفر زمزم للرؤيا التي رآها، اعترضته قريش دون ذلك، ثم حالوا بينه وبين ما أراد منها، فنذر لئن ولد له عشرة من الولد ثم يبلغوا معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 حتى يمنعوه لينحرنّ أحدهم قربانا للَّه عند الكعبة، فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الّذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة، فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتحيّر في شأنه، ومنعه قومه من ذلك، وأشار بعضهم وهو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بسؤال العرّافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك، فألفوها بخيبر وسألوها. فقالت: قرّبوه وعشرا من الإبل وأجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك وإلّا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح وانحروها حينئذ فهي الفدية عنه وقد رضي إلهكم. ففعلوا وبلغت الإبل مائة فنحرها عبد المطلب، وكانت من كرامات الله به. وعليه قوله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن الذبيحين» يعني عبد الله أباه وإسماعيل بن إبراهيم جدّه اللذين قرّبا للذبح، ثم فديا بذبح الأنعام. ثم إنّ عبد المطلب زوّج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك، فلما أبطأ عليهم خبره بعث في أثره. وقال الطبريّ: عن الواقدي: الصحيح أنه أقبل من الشام في حي لقريش، فنزل بالمدينة ومرض بها ومات. ثم أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكّة والكون يصغي لملك العرب والعالم يتمخّض بفصال النبوة، إلى أن وضح نور الله من أفقهم، وسرى خبر السماء إلى بيوتهم، واختلفت الملائكة إلى أحيائهم، وخرجت الخلافة في أنصبائهم، وصارت العزّة لمضر ولسائر العرب بهم، وذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ من يَشاءُ 5: 54. وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة وهو الّذي احتفر زمزم. قال السهيليّ: ولما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب وأسيافا كذلك، كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة، وقيل سابور. ودفنها الحرث بن مضاض في زمزم لما خرج بجرهم من مكّة، فاستخرجها عبد المطلب، وضرب الغزالين حلية للكعبة فهو أوّل من ذهّب حلية الكعبة بها، وضرب من تلك الأسياف باب حديد وجعله للكعبة. ويقال: إنّ أوّل من كسى الكعبة واتخذ لها غلقا تبّع إلى أن جعل لها عبد المطلب هذا الباب. ثم اتخذ عبد المطلب حوضا لزمزم يسقي منه، وحسده قومه على ذلك وكانوا يخرّبونه بالليل، فلما غمّه ذلك رأى في النوم قائلا يقول: «قل لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حلّ وبلّ فإذا قلتها فقد كفيتهم» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 فكان بعد إذا أرادها أحد بمكروه رمى بداء في جسده، ولما علموا بذلك تناهوا عنه. وقال السهيليّ: أوّل من كسا البيت المسوح والخصف والأنطاع تبّع الحميريّ. ويروى أنه لما كساها انتقض البيت فزال ذلك عنه، وفعل ذلك حين كساه الخصف فلما كساه الملاء والوصائل قبله وسكن. وممن ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل. وقال ابن إسحاق: أوّل من كسا البيت الديباج الحجاج. وقال الزبير بن بكار بل عبد الله بن الزبير أوّل من كساها ذلك. وذكر جماعة منهم الدار الدّارقطنيّ: أنّ نتيلة بنت جناب أم العبّاس بن عبد المطلب كانت أضلت العبّاس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة، وكانت من بيت مملكة، فوفت بنذرها. هذه أخبار قريش وملكهم بمكّة، وكانت ثقيف جيرانهم بالطائف يساجلونهم في مذاهب العروبية وينازعونهم في الشرف، وكانوا من أوفر قبائل هوازن، لأنّ ثقيفا هو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن، وكانت الطائف قبلهم لعدوان الذين كان فيهم حكيم العرب عامر بن الظرب بن عمرو بن عبّاد بن يشكر بن بكر بن عدوان وكثر عددهم حتى قاربوا سبعين ألفا، ثم بغى بعضهم على بعض فهلكوا وقل عددهم، وكان قسي بن منبّه صهرا لعامر بن الظرب، وكان بنوه بينهم فلما قل عدد عدوان نغلّب عليهم ثقيف وأخرجوهم من الطائف وملكوه إلى أن صبحهم الإسلام به. على ما نذكره والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء للَّه وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أمر النبوّة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الاباية والحرب لما استقر أمر قريش بمكة على ما استقر، وافترقت قبائل مضر في أدنى مدن الشام والعراق وما دونهما من الحجاز فكانوا ظعونا واحياء، وكان جميعهم بمسغبة وفي جهد من العيش بحرب بلادهم وحرب فارس والروم على تلول العراق والشام، وأربابهما ينزلون حاميتهم بثغورها، ويجهزّون كتائبهم بتخومها، ويولّون على العرب من رجالاتهم وبيوت العصائب منهم من يسومهم القهر، ويحملهم على الانقياد حتى يؤتوا جباية السلطان الأعظم وإتاوة ملك العرب، ويؤدّوا ما عليهم من الدماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 والطوائل من يسترهن [1] أبناءهم على السلم وكف العادية، ومن انتجاع الأرباب وميرة الأقوات، والعساكر من وراء ذلك توقع بمن منع الخراج وتستأصل من يروم الفساد. وكان أمر مضر راجعا في ذلك إلى ملوك [2] كندة بني حجر آكل المرار منذ ولّاه عليهم تبّع حسّان كما ذكرناه، ولم يكن في العرب ملك إلّا في آل المنذر بالحيرة للفرس وفي آل جهينة بالشام للروم وفي بني حجر هؤلاء على مضر والحجاز. وكانت قبائل مضر مع ذلك بل وسائر العرب أهل بغي وإلحاد، وقطع للأرحام، وتنافس في الردى، وإعراض عن ذكر الله، فكانت عبادتهم الأوثان والحجارة، وأكلهم العقارب والخنافس والحيات والجعلان، وأشرف طعامهم أوبار الإبل إذا أمرّوها في الحرارة في الدم، وأعظم عزّهم وفادة على آل المنذر وآل جهينة وبني جعفر [3] ونجعة من ملوكهم، وإنما كان تنافسهم الموءودة والسائبة والوصيلة والحامي. فلما تأذن الله بظهورهم واشرأبّت إلى الشرف هوادي أيامهم وتم أمر الله في إعلاء أمرهم [4] وهبت ريح دولتهم وملّة الله فيهم، تبدّت تباشير الصباح من أمرهم وأونس الخير والرشد في خلالهم وأبدل الله بالطيّب الخبيث من أحوالهم وشرهم، واستبدلوا بالذلّ عزّا وبالمآثم متابا وبالشرّ خيرا، ثم بالضلالة هدى وبالمسغبة شبعا وريّا وايالة وملكا. وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه فكان لهم من العز والظهور قبل المبعث ما كان، وأوقع بنو شيبان وسائر بكر [5] بن وائل وعبس بن غطفان بطيء، وهم يومئذ ولاة العرب بالحيرة وأميرها منهم قبيصة بن إياس ومعه الباهوت [6] صاحب مسلحة كسرى، فأوقعوا بهم الوقعة المشهورة بذي قار والتحمت عساكر الفرس، وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمدينة ليومها وقال: «اليوم انتصفت العرب من العجم وبي نصروا» . ووفد حاجب بن زرارة من بني تميم على كسرى في طلب الانتجاع والمسيرة بقومه في اباب [7] العراق، فطلب الأساورة منه   [1] وفي نسخة ثانية: ويسترهنوا. [2] وفي النسخة الباريسية: (أمراء كندة) . [3] وفي النسخة الباريسية: بني حجر. [4] وفي النسخة الباريسية: يدهم. [5] وفي النسخة الباريسية: مضر. [6] وفي النسخة الباريسية: ابناهوت. [7] وفي النسخة الباريسية: أرياف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 الرهن على عادتهم، فأعطاهم قوسه واستكبر عن استرهان ولده، توقعوا [1] منه عجزا عما سواها وانتقلت خلال الخير من العجم ورجالات فارس فصارت أغلب في العرب حتى كان الواحد منهم همّه بخلافه [2] وشرفه الشرّ والسفسفة على أهل دول العجم. وانظر فيما كتب به عمر إلى أبي عبيدة بن المثنى حين وجهه الى حرب فارس: «انك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والحيرة [3] تقدم على أقوام قد جرءوا على الشرّ فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون» أهـ. وتنافست العرب في الخلال وتنازعوا في المجد والشرف حسبما هو مذكور في أيامهم وأخبارهم. وكان حظ قريش من ذلك أوفر على نسبة حظهم من مبعثه [4] وعلى ما كانوا ينتحلونه من هدى آبائهم، وانظر ما وقع في حلف الفضول حيث اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزّى وبنو زهرة وبنو تميم، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكّة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلمته، وسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. وفي الصحيح عن طلحة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت» . ثم ألقى الله في قلوبهم التماس الدين وإنكار ما عليه قومهم من عبادة الأوثان، حتى لقد اجتمع منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، وعثمان بن الحويرث بن أسد، وزيد بن عمرو بن نفيل من بني عدي بن كعب عمّ عمر بن الخطاب، وعبيد الله بن جحش من بني أسد بن خزيمة، وتلاوموا في عبادة الأحجار والأوثان وتواصوا بالنفر في البلدان بالتماس الحنيفيّة دين إبراهيم نبيهم. فأما ورقة فاستحكم في النصرانية وابتغى من أهلها الكتب حتى علم من أهل الكتاب، وأمّا عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه حتى جاء الإسلام فأسلم وهاجر إلى الحبشة فتنصر وهلك نصرانيا وكان يمرّ بالمهاجرين بأرض الحبشة فيقول: فقحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر مثل ما يقال في الجر وإذا فتح عينيه فقح وإذا أراد ولم يقدر صأصأ، وأمّا عثمان بن الحويرث فقدم على ملك الروم قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده،   [1] وفي النسخة الباريسية: فرجعوا منه عجزا عمن سواها. [2] وفي نسخة ثانية: بخلاله. [3] وفي النسخة الباريسية: والخيانة الحميرية. [4] وفي النسخة الباريسية: مغبّته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وأما زيد بن عمرو فما هم أن يدخل [1] في دين ولا اتبع كتابا واعتزل الأوثان والذبائح والميتة والدم ونهى عن قتل الموءودة وقال: أعبد ربّ إبراهيم وصرّح بعيب آلهتهم وكان يقول: اللَّهمّ لو أني أعلم أيّ الوجوه أحب إليك لعبدتك [2] ولكن لا أعلم ثم يسجد على راحته. وقال ابنه سعيد وابن عمه عمر بن الخطاب: يا رسول الله استغفر الله لزيد بن عمرو قال: نعم انه يبعث أمة واحدة. ثم تحدّث الكهّان والحزاة قبل النبوّة وأنها كائنة في العرب وأن ملكهم سيظهر، وتحدّث أهل الكتاب من اليهود والنصارى بما في التوراة والإنجيل من بعث محمد وأمته، وظهرت كرامة الله بقريش ومكّة في أصحاب الفيل إرهاصا بين يدي مبعثه. ثم ذهب ملك الحبشة من اليمن على يد ابن ذي يزن من بقية التبابعة، ووفد عليه عبد المطلب يهنيه عند استرجاعه ملك قومه من أيدي الحبشة، فبشره ابن ذي يزن بظهور نبيّ من العرب وأنه من ولده في قصة معروفة. وتحيّن الأمر لنفسه كثير من رؤساء العرب يظنه فيه، ونفروا إلى الرهبان والأحبار من أهل الكتاب يسألونهم ببلدتهم على ذلك [3] ، مثل أمية بن أبي الصلت الشقيّ وما وقع له في سفره إلى الشام مع أبي سفيان بن حرب وسؤاله الرهبان ومفاوضته أبا سفيان فيما وقف عليه من ذلك، يظن أنّ الأمر له أو لأشراف قريش من بني عبد مناف حتى تبين لهما خلاف ذلك في قصة معروفة، (ثم رجمت) الشياطين عن استماع خبر السماء في أمره وأصغى الكون لاستماع أنبائه. المولد الكريم و بدء الوحي ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل، لأربعين سنة من ملك كسرى أنوشروان وقيل لثمان وأربعين، ولثمانمائة واثنتين وثمانين لذي القرنين. وكان عبد الله أبوه غائبا بالشام وانصرف فهلك بالمدينة، وولد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مهلكه بأشهر قلائل، وقيل غير ذلك. وكفله جدّه عبد المطلب بن هاشم وكفالة الله من ورائه، والتمس له الرضعاء واسترضع في بني سعد من بني هوازن، ثم في بني نصر بن سعد أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحرث بن شحنة بن رزاح بن ناظرة بن خصفة بن   [1] وفي النسخة الباريسية: فلم يدخل دين. [2] وفي النسخة الباريسية: عبدتك به. [3] وفي نسخة ثانية: من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 قيس [1] ، وكان ظئره [2] منهم الحارث بن عبد العزى وقد مرّ ذكرهما في بني عامر بن صعصعة، وكان أهله يتوسمون فيه علامات الخير والكرامات من الله، ولما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شق الملكين بطنه واستخراج العلقة السوداء من قلبه وغسلهم حشاه وقلبه بالثلج ما كان، وذلك لرابعة من مولده، وهو خلف البيوت يرعى الغنم فرجع إلى البيت منتقع [3] اللون، وظهرت حليمة على شأنه فخافت أن يكون أصابه شيء من اللمم [4] فرجعته إلى أمه. واسترابت آمنة برجعها إياه بعد حرصها على كفالته فأخبرتها الخبر، فقالت: كلّا والله لست أخشى عليه. وذكرت من دلائل كرامة الله له وبه كثيرا. وأزارته أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أخوال جدّه عبد المطلب من بني عديّ بن النجار بالمدينة، وكانوا أخوالا لها أيضا. وهلك عبد المطلب لثمان سنين من ولادته، وعهد به إلى ابنه أبي طالب فأحسن ولايته وكفالته، وكان شأنه في رضاعه وشبابه ومرباه عجبا. وتولّى حفظه وكلاءته من مفارقة أحوال الجاهلية، وعصمته من التلبس بشيء منها حتى لقد ثبت أنه: مرّ بعرس مع شباب قريش، فلمّا دخل على القوم أصابه غشي النوم، فما أفاق حتى طلعت الشمس وافترقوا. ووقع له ذلك أكثر من مرّة. وحمل الحجارة مع عمه العبّاس لبنيان الكعبة وهما صبيان، فأشار عليه العبّاس بحملها في إزاره، فوضعه على عاتقه وحمل الحجارة فيه وانكشف، فلما حملها على عاتقه سقط مغشيا عليه، ثم عاد فسقط فاشتمل إزاره وحمل الحجارة كما كان يحملها. وكانت بركاته تظهر بقومه وأهل بيته ورضعائه في شئونهم كلها. وحمله عمه أبو طالب الى الشام وهو ابن ثلاث عشرة وقيل ابن سبع عشرة، فمرّوا ببحيرا الراهب عند بصرى فعاين الغمامة تظله والشجر [5] تسجد له، فدعا القوم وأخبرهم بنبوّته وبكثير من شأنه في قصة مشهورة. ثم خرج ثانية الى الشام تاجرا بمال خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى مع غلامها ميسرة ومروا بنسطور الراهب، فرأى ملكين يظلّانه من الشمس فأخبر ميسرة بشأنه، فأخبر بذلك خديجة فعرضت   [1] وفي النسخة الباريسية: قصيّة بن نصر. [2] ظأر المرأة على ولد غيرها: عطفها عليه- ظأرت المرأة: اتخذت ولدا ترضعه (قاموس) . [3] وفي نسخة ثانية: ممتقع اللون. [4] اللمم: الجنون (قاموس) . [5] وفي النسخة الباريسية: والحجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 نفسها عليه، وجاء أبو طالب فخطبها الى أبيها فزوجه، وحضر الملأ من قريش، وقام أبو طالب خطيبا فقال: «الحمد للَّه الّذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ [1] معدّ وعنصر مضر وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا أمناء بيته وسوّاس حرمه وجعلنا الحكّام على الناس وأنّ ابن أخي محمد بن عبد الله من قد علمتم قرابته وهو لا يوزن بأحد إلّا رجح به فان كان في المال قلّ فإنّ المال ظلّ زائل وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل» . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة. وشهد بنيان الكعبة لخمس وثلاثين من مولده حين أجمع كل قريش على هدمها وبنائها، ولما انتهوا إلى الحجر تنازعوا أيهم يضعه وتداعوا للقتال، وتحالف بنو عبد الدار على الموت [2] ثم اجتمعوا وتشاوروا، وقال أبو أمية حكموا أول داخل من باب المسجد فتراضوا على ذلك. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين، وبذلك كانوا يسمّونه، فتراضوا به وحكموه. فبسط ثوبا ووضع فيه الحجر وأعطى قريشا أطراف الثوب، فرفعوه حتى أدنوه من مكانه، ووضعه عليه السلام بيده [3] . وكانوا أربعة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو حذيفة بن المغيرة بن عمر بن مخزوم، وقيس بن عدي السهمي. ثم استمرّ على أكمل الزكاء والطهارة في أخلاقه، وكان يعرف بالأمين، وظهرت كرامة الله فيه وكان إذا أبعد في الخلاء لا يمرّ بحجر ولا شجر إلا ويسلم عليه. بدء الوحي ثم بدئ بالرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم تحدّث الناس بشأن ظهوره ونبوّته، ثم حببت إليه العبادة والخلوة بها فكان يتزوّد للانفراد حتى جاء الوحي بحراء لأربعين سنة من مولده وقيل لثلاث وأربعين. وهي حالة يغيب   [1] الأصل والعدن (قاموس) . [2] وفي النسخة الباريسية: وتحالف بنو عبد الدار وبنو عدي على الموت. [3] وفي النسخة الباريسية: واعطى أشراف قريش جنباته فرفعوه حتى أدنوه من مكانه وفي الكامل ج 2، ص 45: فقال: هلمّوا إليّ ثوبا، فأوتي به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه ثمّ قال: لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا. فلمّا بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بني عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 فيها عن جلسائه وهو كائن معهم، فأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه ويعي قوله، وأحيانا يلقي عليه القول، ويصيبه أحوال الغيبة عن الحاضرين من الغط والعرق وتصببه كما ورد في الصحيح من أخباره، قال: وهو أشدّ علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. فأصابته تلك الحالة بغار حراء وألقى عليه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ من عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5» . وأخبر بذلك كما وقع في الصحيح. وآمنت به خديجة وصدّقته وحفظت عليه الشأن. ثم خوطب بالصلاة وأراه جبريل طهرها، ثم صلّى به وأراه سائر أفعالها. ثم كان شأن الاسراء من مكة الى بيت المقدس من الأرض إلى السماء السابعة الى سدرة المنتهى وأوحى إليه ما أوحى، ثم آمن به عليّ ابن عمه أبي طالب وكان في كفالته من أزمة أصابت قريشا وكفل العبّاس جعفرا أخاه، فجعفر أسنّ [1] عيال أبي طالب. فأدركه الإسلام وهو في كفالته فآمن وكان يصلّي معه، في الشعاب مختفيا من أبيه حتى إذ ظهر عليهما أبو طالب دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أستطيع فراق ديني ودين آبائي، ولكن لا ينهض إليك شيء تكره ما بقيت، وقال لعليّ: الزمه فإنه لا يدعو إلّا لخير. فكان أوّل من أسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ثم أبو بكر، وعليّ بن أبي طالب، كما ذكرنا، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلال بن حمامة مولى أبي بكر، ثم عمر بن عنبسة السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية. ثم أسلم بعد ذلك قوم من قريش اختارهم الله لصحابته من سائر قومهم وشهد لكثير منهم بالجنة. وكان أبو بكر محبّبا سهلا وكانت رجالات قريش تألفه فأسلم على يديه من بني أميّة عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أمية، ومن عشيرة بنى عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، ومن بني زهرة بن قصيّ سعد بن أبي وقّاص واسمه مالك بن وهب بن مناف بن زهرة وعبد الرحمن بن عوف بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة، ومن بني أسد بن عبد العزى الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد وهو ابن صفية عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم من بني الحرث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال   [1] وفي النسخة الباريسية: فجعفر من عيال أبي طالب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 بن أهيب بن ضبة بن الحرث، ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب أبو سلمة عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وأخوه قدامة، ومن بني عدي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد الله بن قرط بن رياح [1] بن عدي وزوجته فاطمة أخت عمر بن الخطاب بن نفيل وأبوه زيد هو الّذي رفض الأوثان في الجاهلية ودان بالتوحيد وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. ثم أسلم عمير أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة حليف بنى زهرة، كان يرعى غنم عقبة بن أبي معيط وكان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلب من غنمه شاة حائلا فدرّت [2] . ثم أسلم جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن ملك بن قحافة الخثعميّ، والسائب بن عثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس واسمه مهشم، وعامر بن فهيرة أزدى وفهيرة أمه مولاة أبي بكر. وأفد بن عبد الله بن عبد مناف تميمي من حلفاء بني عدي. وعمار بن ياسر عنسي بن مذحج مولى أبي مخزوم [3] وصهيب بن سنان من بني النمر بن قاسط حليف بني جدعان. ودخل الناس في الدين أرسالا وفشا الإسلام وهم ينتحلون [4] به ويذهبون إلى الشعاب فيصلون. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بأمره ويدعوه إلى دينه بعد ثلاث سنين من مبدإ الوحي، فصعد على الصفا ونادى يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش، فقال: لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلي. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ثم نزل قوله وأنذر عشيرتك الأقربين. وتردّد إليه الوحي بالنذارة [5] ، فجمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون على طعام   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن رزاح. [2] وفي نسخة ثانية: فعدّت. [3] وفي نسخة ثانية: مولى لبني مخزوم. [4] وفي نسخة ثانية: ينتجعون به. [5] الأصح ان يقول الوحي النزير أي الوحي القليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 صنعه لهم عليّ بن أبي طالب بأمره، ودعاهم إلى الإسلام ورغبهم وحذرهم وسمعوا كلامه وافترقوا. ثم إنّ قريشا حين صدع وسبّ الآلهة وعابها نكروا ذلك منه ونابذوه وأجمعوا على عداوته، فقام أبو طالب دونه محاميا ومانعا، ومشت إليه رجال قريش يدعونه الى النصفة عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، وأبو البختري [1] بن هشام بن الحرث ابن أسد بن عبد العزى، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ابن أخي الوليد، والعاصي بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن علي بن حذيفة بن سعد بن سهم، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة. فكلموا أبا طالب وعادوه فردّهم ردّا جميلا، ثم عادوا إليه فسألوه النصفة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته بمحضرهم وعرضوا عليه قولهم فتلا عليهم القرآن وأيأسهم من نفسه وقال لأبي طالب: يا عمّاه لا أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه. واستعبر وظنّ أنّ أبا طالب بدا له في أمره، فرقّ له أبو طالب وقال يا ابن أخي قل ما أحببت فو الله لا أسلمك أبدا. هجرة الحبشة ثم افترق أمر قريش وتعاهد بنو هاشم وبنو المطلب مع أبي طالب على القيام دون النبيّ صلى الله عليه وسلم ووثب كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم [2] واشتدّ عليهم العذاب، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم، وكان قريش يتعاهدونها بالتجارة فيحمدونها، فخرج عثمان بن عفّان وامرأته رقية بنت النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأبو حذيفة بن كتبة بن ربيعة مراغما لأبيه وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو بن عامر بن لؤيّ والزبير بن العوام ومصعب بن عمير بن عبد شمس وابو سبرة بن أبي رهم [3] بن عبد العزى العامري من بني عامر بن لؤيّ وسهيل بن بيضاء من بني الحرث بن فهر وعبد الله بن مسعود وعامر بن   [1] هو نجاء معجمه بوزن جعفري كما في شرح القاموس- قاله نصر. [2] وفي النسخة الباريسية: ويعيبونهم. [3] وفي النسخة ثانية: ابن أبي هاشم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ربيعة العنزي حليف بني عدي وهو من عنز بن وائل ليس من عنزة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة. فهؤلاء الأحد عشر رجلا كانوا أوّل من هاجر إلى أرض الحبشة، وتتابع المسلمون من بعد ذلك، ولحق بهم جعفر بن أبي طالب وغيره من المسلمين. وخرجت قريش في آثار الأوّلين إلى البحر فلم يدركوهم، وقدموا إلى أرض الحبشة فكانوا بها، وتتابع المسلمون في اللحاق بهم، يقال إنّ المهاجرين إلى أرض الحبشة بلغوا ثلاثة وثمانين رجلا. فلما رأت قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم قد امتنع بعمّه وعشيرته وأنّهم لا يسلمونه طفقوا يرمونه عند الناس ممن يفد على مكة بالسحر والكهانة والجنون والشعر يرومون بذلك صدّهم عن الدخول في دينه، ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرته صلى الله عليه وسلم بالعداوة والاذاية [1] ، منهم: عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب أحد المستهزءين، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط أحد المستهزءين، وأبو سفيان من المستهزءين، والحكم بن أبي العاص بن أمية من المستهزءين أيضا، والنضر بن الحرث من بني عبد الدار، والأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزى من المستهزءين وابنه زمعة، وأبو البختري العاص بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، وأبو جهل بن هشام وأخوه العاص وعمهما الوليد وابن عمهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي وابنا عمه نبيه ومنبه، وأميّة وأبي ابنا خلف بن جمح. وأقاموا يستهزءون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ويتعرضون له بالاستهزاء والاذاية حتى لقد كان بعضهم ينال منه بيده، وبلغ عمه حمزة يوما أنّ أبا جهل بن هشام تعرض له يوما بمثل ذلك وكان قوي الشكيمة، فلم يلبث أن جاء إلى المسجد وأبو جهل في نادي قريش، وحتى وقف على رأسه وضربه وشجّه، وقال له: تشتم محمدا وأنا على دينه؟ وثار رجال بني مخزوم إليه فصدهم أبو جهل وقال دعوه فاني سببت ابن أخيه سبّا قبيحا. ومضى حمزة على إسلامه، وعملت قريش أنّ جانب المسلمين قد اعتز بحمزة فكفّوا بعض الشرّ بمكانه فيهم، ثم اجتمعوا وبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشيّ ليسلم إليهم من هاجر إلى أرضه من المسلمين فنكر النجاشيّ رسالتهما وردهما مقبوحين. ثم أسلم عمر بن الخطاب وكان سبب إسلامه أنه بلغه أنّ أخته فاطمة أسلمت مع   [1] وفي نسخة ثانية: الأذى وهي أصح ولا وجود لكلمة الاذاية فيما بين أيدينا من كتب اللغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 زوجها سعيد ابن عمه زيد، وأن خباب بن الأرت عندهما يعلمهما القرآن، فجاء إليهما منكرا وضرب أخته فشجّها، فلما رأت الدم قالت: قد أسلمنا وتابعنا محمدا فافعل ما بدا لك!، وخرج إليه خباب من بعض زوايا البيت فذكّره ووعظه، وحضرته الانابة فقال له: اقرأ عليّ من هذا القرآن، فقرأ من سورة طه وأدركته الخشية فقال له: كيف تصنعون إذا أردتم الإسلام؟ فقالوا له وأروه الطهور. ثم سأل على مكان النبي صلى الله عليه وسلم فدل عليه، فطرقهم في مكانهم، وخرج إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا ابن الخطّاب؟ فقال: يا رسول الله جئت مسلما، ثم تشهّد شهادة الحق ودعاهم إلى الصلاة عند الكعبة فخرجوا وصلوا هنالك، واعتز المسلمون بإسلامه. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: اللَّهمّ أعزّ الإسلام بأحد العمرين يعنيه أو أبا جهل. ولما رأت قريش فشوّ الإسلام وظهوره أهمهم ذلك، فاجتمعوا وتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في الكعبة، وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلهم كافرهم ومؤمنهم فصاروا في شعب أبي طالب محصورين متجنبين، حاشا أبي لهب فإنه كان مع قريش على قومهم، فبقوا كذلك ثلاث سنين لا يصل إليهم شيء ممن أراد صلتهم إلّا سرا ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل على شأنه من الدعاء إلى الله والوحي عليه متتابع. إلى أنّ قام في نقض الصحيفة رجال من قريش كان أحسنهم في ذلك أثرا هشام بن عمرو بن الحرث من بني حسل بن عامر بن لؤيّ، لقي زهير بن أبي أمية بن المغيرة وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فعيّره بإسلامه أخواله إلى ما هم فيه، فأجاب إلى نقض الصحيفة. ثم مضى إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وذكر رحم هاشم والمطلب ثم الى أبي البختري [1] بن هشام وزمعة بن الأسود فأجابوا كلّهم، وقاموا في نقض الصحيفة، وقد بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الصحيفة أكلت الأرضة كتابتها كلها حاشا أسماء الله، فقاموا بأجمعهم فوجدوها كما قال، فخزوا ونقض حكمها. ثم أجمع أبو بكر الهجرة وخرج لذلك فلقيه ابن الدغنة [2] فردّه، ثم اتصل   [1] البختري بوزن الجعفري، والخاء معجمة على ما في شرح القاموس (قاله نصر) . [2] وفي نسخة اخرى: ابن الدغينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 بالمهاجرين في أرض الحبشة خبر كاذب بأنّ قريشا قد أسلموا، فرجع إلى مكة قوم منهم عثمان بن عفّان وزوجته وأبو حذيفة وامرأته وعبد الله بن عتبة بن غزوان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير وأخوه والمقداد بن عمرو وعبد الله بن مسعود وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم المؤمنين وسلمة بن هشام بن المغيرة وعمّار بن ياسر وبنو مظعون عبد الله وقدامة وعثمان وابنه السائب وخنيس بن حذافة وهشام بن العاص وعامر بن ربيعة وامرأته وعبد الله بن مخرمة من بني عامر بن لؤيّ وعبد الله بن سهل بن السكران بن عمرو وسعد بن خولة وأبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وعمرو بن أبي سرح، فوجدوا المسلمين بمكة على ما كانوا عليه مع قريش من الصبر على أذاهم، ودخلوا الى مكة بعضهم مختفيا وبعضهم بالجوار، فأقاموا إلى أن كانت الهجرة إلى المدينة بعد أن مات بعضهم بمكة. ثم هلك أبو طالب وخديجة وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فعظمت المصيبة، وأقدم عليه سفهاء قريش بالاذاية والاستهزاء وإلقاء القاذورة [1] في مصلاه. فخرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام والنصرة والمعونة وجلس إلى عبد ياليل بن عمر بن عمير وأخويه مسعود وحبيب وهم يومئذ سادات ثقيف وأشرافهم، وكلمهم فأساءوا الردّ، ويئس منهم فأوصاهم بالكتمان فلم يقبلوا وأغروا به سفاءهم فاتبعوه حتى ألجئوه الى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة، فأوى إلى ظله حتى اطمأن ثم رفع طرفه إلى السماء يدعو: «اللَّهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهو اني على الناس أنت أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين أنت ربي إلى من تكلني إلى بغيض يتجهمني أو إلي عدوّ ملكته أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوّة إلّا بك» . ولما انصرف من الطائف الى مكة بات بنخلة، وقام يصلّي من جوف الليل، فمرّ به نفر من الجنّ وسمعوا القرآن. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في جوار المطعم بن عدي بعد أن عرض ذلك على غيره من رؤساء قريش فاعتذروا بما قبله منهم. ثم قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسيّ فأسلم ودعا قومه فأسلم بعضهم ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له علامة للهداية فجعل في وجهه نورا ثم   [1] وفي نسخة اخرى: القاذورات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 دعا له فنقله إلى سوطه وكان يعرف بذي النور. وقال ابن حزم: ثم كان الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السموات، ولقي من لقي من الأنبياء، ورأى جنة المأوى وسدرة المنتهى في السماء السادسة، وفرضت الصلاة في تلك الليلة. وعند الطبري الإسراء وفرض الصلاة كان أوّل الوحي. ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على وفود العرب في الموسم يأتيهم في منازلهم ليعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إلى نصره ويتلو عليهم القرآن، وقريش مع ذلك يتعرضونهم بالمقابح إن قبلوا منه وأكثرهم في ذلك أبو لهب. وكان من الذين عرض عليهم في الموسم بنو عامر بن صعصعة من مضر وبنو شيبان وبنو حنيفة من ربيعة وكندة من قحطان وكلب من قضاعة وغيرهم من قبائل العرب، فكان منهم من يحسن الاستماع والعذر، ومنهم من يعرض ويصرح بالإذاية، ومنهم من يشترط الملك الّذي ليس هو من سبيله فيردّ صلى الله عليه وسلم الأمر إلى الله. ولم يكن فيهم أقبح ردّا من بني حنيفة. وقد ذخر الله الخير في ذلك كله للأنصار، فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بن الأوس، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم يبعد ولم يجب، وانصرف الى المدينة فقتل في بعض خروبهم وذلك قبل بعاث. ثم قدم بمكّة أبو الحيسر أنس بن رافع في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال إياس بن معاذ منهم وكان شابا حدثا: هذا والله خير مما جئنا له، فانتهره أبو الحيسر فسكت. ثم انصرفوا إلى بلادهم ولم يتم لهم الحلف ومات إياس فيقال: إنه مات مسلما. ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك [1] ابن النجار، وعوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمر وبن عامر بن زيد بن مالك بن غضبة بن جشم بن الخزرج، وطبقة بن عامر بن حيدرة بن عمر وبن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد ابن مراد بن يزيد بن جشم، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن   [1] وفي النسخة الباريسية: مسلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 نعمان بن سلمة [1] بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة. وفدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وكان من صنع الله لهم أنّ اليهود جيرانهم كانوا يقولون إنّ نبيا يبعث وقد أظل زمانه، فقال بعضهم لبعض هذا والله النبيّ الّذي تحدّثكم به اليهود فلا يسبقونا إليه. فآمنوا وأسلموا وقالوا إنّا قد قدّمنا فيهم [2] حروبا فنتصرف وندعوهم إلى ما دعوتنا إليه فعسى الله أن يجمع كلمتهم بك فلا يكون أحد أعز منك، فانصرفوا إلى المدينة ودعوا إلى السلام حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام القابل قدم مكة من الأنصار اثنا عشر رجلا منهم خمسة من الستة الّذي ذكرناهم، ما عدا جابر بن عبد الله فإنه لم يحضرها، وسبعة من غيرهم وهم: معاذ بن الحرث أخو عوف بن الحرث المذكور وقيل إنه ابن عفراء، وذكوان بن عبد قيس بن خالدة، وخالد بن مخلد بن عامر بن زريق، وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهد بن ثعلبة بن صرمة بن أصرم بن عمرو بن عبادة بن عصيبة من بني حبيب، والعبّاس ابن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو ابن عوف هؤلاء عشرة من الخزرج. ومن الأوس: أبو الهيثم مالك بن التيهان وهو من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحرث بن الخزرج بن عمر ابن مالك بن أوس، وعويم بن ساعدة من بني عمر وبن عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة. فبايع هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أن لا يشركوا باللَّه شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يفتروا الكذب. فلما حان انصرافهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يدعوهم إلى الإسلام ويعلم من أسلم منهم القرآن والشرائع، فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة، وكان مصعب يؤمهم وأسلم على يديه خلق كثير من الأنصار. وكان سعد بن معاذ وأسعد بن زرارة ابنا الخالة، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير [3] إلى أسعد بن زرارة وكان جارا لبني عبد الأشهل، فأنكروا عليه فهداهما الله إلى السلام، وأسلم   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن سنان. [2] وفي النسخة ثانية: بينهم. [3] وفي النسخة ثانية: الحصين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال والنساء. ولم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها المسلمون رجال ونساء حاشا بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، بطون من الأوس وكانوا في عوالي المدينة، فأسلم منهم قوم سيدهم أبو قيس صيفي بن الأسلت الشاعر فوقف بهم عن الإسلام حتى كان الخندق فأسلموا كلهم . العقبة الثانية ثم رجع مصعب المذكور ابن عمير إلى مكة وخرج معه إلى الموسم جماعة ممن أسلم من الأنصار للقاء النبي صلى الله عليه وسلم في جملة قوم منهم لم يسلموا بعد، فوافوا مكة وواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، ووافوا ليلة ميعادهم إلى العقبة متسللين عن رحالهم سرّا ممن حضر من كفّار قومهم، وحضر معهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر وأسلم تلك الليلة، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم وأن يرحل إليهم هو وأصحابه. وحضر العبّاس بن عبد المطّلب، وكان على دين قومه بعد، وإنما توثق للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكان للبراء بن معرور في تلك الليلة المقام المحمود في الإخلاص والتوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أوّل من بايع. وكانت عدّة الذين بايعوا تلك الليلة ثلاثا وسبعين رجلا وامرأتين، واختار منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وقال لهم: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي. فمن الخزرج من أهل العقبة الأولى: أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة ابن الصامت. ومن غيرهم سعد بن الربيع بن عمر بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس، ومالك بن مالك، وثعلبة بن كعب بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس، والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عديّ بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبد الله بن عمرو بن حرام [1] أبو جابر، وسعد بن عبادة بن دليم [2] بن حارثة بن لودان بن عبد، ودّ بن يزيد بن ثعلبة بن الخزرج بن   [1] وفي نسخة ثانية: حزام. [2] وفي نسخة ثانية: ديلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 ساعدة. وثلاثة من الأوس وهم: أسيد بن حضر بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وسعد بن خيثمة بن الحارث [1] بن مالك بن الأوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. وقد قدّم أبو الهيثم بن التيهان مكان رفاعة هذا والله أعلم. ولما تمت هذه البيعة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى رحالهم فرجعوا، ونمي الخبر إلى قريش فغدت الجلة [2] منهم على الأنصار في رحالهم فعاتبوهم، فأنكروا ذلك وحلفوا لهم، وقال لهم عبد الله بن أبي بن سلول ما كان قومي ليتفقوا على مثل هذا وأنا لا أعلمه، فانصرفوا عنه وتفرّق الناس من منى، وعلمت قريش صحة الخبر فخرجوا في طلبهم، فأدركوا سعد بن عبادة فجاءوا به إلى مكة يضربونه ويجرّونه بشعره حتى نادى بجبير بن مطعم والحرث بن أميه وكان يجيرهما ببلده فخلصاه مما كان فيه. وقد كانت قريش قبل ذلك سمعوا صائحا يصيح ليلا على جبل أبي قبيس: فأن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف فقال أبو سفيان السعدان سعد بكر وسعد هذيم فلما كان في الليلة القابلة سمعوه يقول: أيا سعد: سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين [3] الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف فإنّ ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات فارف فقال هما والله سعد بن عبادة وسعد بن معاذ. ولما فشا الإسلام بالمدينة وطفق أهلها يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، تعاقدت على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم فأصابهم من ذلك جهد شديد. ثم نزل قوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ 8: 39» . فلما تمت بيعة الأنصار على ما وصفناه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ممن هو بمكّة بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالا وأوّل من خرج أبو سلمة بن عبد الأسد ونزل في   [1] وفي النسخة الباريسية: الحرث. [2] وفي نسخة ثانية: الخلّة. [3] وفي نسخة ثانية: الخزرجيّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 قبا، ثم هاجر عامر بن ربيعة حليف بني عدي [1] بامرأته ليلى بنت أبي خيثمة بن غانم، ثم هاجر جميع بني جحش من بني أسد بن خزيمة ونزلوا بقبا على عكاشة بن محصن وجماعة من بني أسد حلفاء بني أمية كانت فيهم زينب بنت جحش أم المؤمنين وأختاها حمنة وأم حبيبة، ثم هاجر عمر بن الخطّاب وعياش [2] بن أبي ربيعة في عشرين راكبا فنزلوا في العوالي في بني أمية بن زيد وكان يصلّي بهم سالم مولى أبي حذيفة. وجاء أبو جهل بن هشام فخادع عياش بن أبي ربيعة وردّه إلى مكة فحبسوه حتى تخلص بعد حين ورجع. وهاجر مع عمر أخوه وسعيد ابن عمه زيد وصهره على بنته حفصة أم المؤمنين خنيس [3] بن حذافة السهمي وجماعة من حلفاء بني عدي، نزلوا بقبا على رفاعة بن عبد المنذر من بني عوف بن عمرو. ثم هاجر طلحة بن عبيد الله فنزل هو وصهيب بن سنان على حبيب بن أساف في بني الحرث بن الخزرج بالسلم، وقيل بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة. ثم هاجر حمزة بن عبد المطّلب ومعه زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحليفه أبو مرثد كناز بن حصين الغنوي فنزلوا في بني عمر وبن عوف بقبا على كلثوم بن الهدم، ونزل جماعة من بني المطلب بن عبد مناف فيهم مسطح بن اثاثة ومعه خباب بن الأرت مولى عتبة بن غزوان في بني المسجلان بقبا، ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع في بني الحرث بن الخزرج، ونزل الزبير بن العوّام وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى على المنذر بن محمد بن عتبة بن أحيحة الجلاح في دار بني جحجبا، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ في بني عبد الأشهل، ونزل أبو حذيفة بن عتبة ومولاه سالم وعتبة ابن غزوان المازني على عباد بن بشر من بني عبد الأشهل، ولم يكن سالم عتيق أبي حذيفة وإنّما أعتقته امرأة من الأوس كانت زوجا لأبي حذيفة اسمها بثينة بنت معاذ فتبناه ونسب اليه. ونزل عثمان بن عفان في بني النجّار على أوس أخي حسّان بن ثابت. ولم يبق أحد من المسلمين بمكّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا أبو بكر وعلي بن أبي طالب فإنّهما أقاما بأمره وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.   [1] وفي النسخة الباريسية: عامر بن ربيعة بن عدي. [2] وفي نسخة ثانية: عبّاس. [3] وفي نسخة ثانية: جحش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 الهجرة ولما علمت قريش أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأنصار من غيرهم وأنه مجمع على اللحاق بهم وأنّ أصحابه من المهاجرين سبقوه إليهم تشاوروا ما يصنعون في أمره، واجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة: عتبة وشيبة وأبو سفيان من بني أمية وطعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر من بني نوفل والنضر بن الحارث من بني عبد الدار وأبو جهل من بني مخزوم ونبيه ومنبه ابنا الحجاج من بني سهم وأمية بن خلف من بني جمح، ومعهم من لا يعدّ من قريش. فتشاوروا في حبسه أو إخراجه عنهم، ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابا جلدا فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم. واستعدوا لذلك من ليلتهم وجاء الوحي بذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا رأى أرصدهم على باب منزله أمر علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه ويتوشح ببرده، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فطمس الله تعالى على أبصارهم ووضع على رءوسهم ترابا وأقاموا طول ليلهم، فلما أصبحوا خرج إليهم عليّ فعلموا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نجا، وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصدّيق، واستأجر عبد الله بن أريقط الدولي من بني بكر بن عبد مناف ليدل بهما إلى المدينة وينكب عن الطريق العظمى، وكان كافرا وحليفا للعاص بن وائل، لكنهما وثقا بامره [1] وكان دليلا بالطرق. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر ليلا، وأتيا الغار الّذي في جبل ثور بأسفل مكّة فدخلا فيه، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وراعي غنمه يريح غنمه عليهما ليلا ليأخذ حاجتهما من لبنها، وأسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام. وتقفّى [2] عامرا بالغنم أثر عبد الله [3] ، ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار وقال هنا انقطع الأثر! وإذا بنسج العنكبوت على فم الغار فاطمأنوا إلى ذلك ورجعوا، وجعلوا مائة ناقة لمن ردّهما عليهم.   [1] وفي نسخة ثانية: بأمانته. [2] وفي نسخة ثانية: نقض. [3] وفي النسخة الباريسية: اثر عبد الله والماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 ثم أتاهما عبد الله بن أريقط بعد ثلاث براحلتهما [1] فركبا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة، وأتتهما أسماء بسفرة لهما وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت ذات النطاقين. وحمل أبو بكر جميع ماله نحو ستة آلاف درهم، ومرّوا بسراقة بن مالك بن جعشم فاتبعهم ليردّهم، ولمّا رأوه دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في الأرض، فنادى بالأمان وأن يقفوا له. وطلب من النبي أن يكتب له كتابا فكتبه أبو بكر بأمره، وسلك الدليل من أسفل مكّة على الساحل أسفل من عسفان [2] وأمج وأجاز قديدا الى العرج ثم إلى قبا من عوالي المدينة. ووردوها قريبا من الزوال يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأوّل، وخرج الأنصار يتلقونه وقد كانوا ينتظرونه حتى إذا [3] قلصت الظلال رجعوا إلى بيوتهم. فتلقوه مع أبي بكر في ظلّ نخلة، ونزل عليه السلام بقبا على سعد بن خيثمة، وقيل على كلثوم بن الهدم [4] ، ونزل أبو بكر بالسخ في بني الحرث بن خزرج على خبيب بن أسد، وقيل على خارجة بن زيد. ولحق بهم عليّ رضي الله عنه من مكّة بعد أن ردّ الودائع للناس التي كانت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزل معه بقبا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك أياما ثم نهض لما أمر الله وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلّاها في المسجد هنالك ورغب إليه رجال بني سالم أن يقيم عندهم، وتبادروا إلى خطام ناقته اغتناما لبركته. فقال عليه السلام: خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة، ثم مشى والأنصار حواليه إلى أنّ مرّ بدار بني بياضة، فتبادر إليه رجالهم يبتدرون خطام الناقة، فقال: دعوها فإنّها مأمورة. ثم مرّ بدار بني ساعدة فتلقّاه رجال وفيهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو ودعوه كذلك وقال لهم مثل ما قال للآخرين. ثم إلى دار بني حارثة [5] بن الخزرج فتلقّاه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة. ثم مرّ ببني عديّ بن النجار أخوال عبد المطلب ففعلوا وقال لهم مثل ذلك، إلى أن أتي دار بني مالك بن النجار فبركت ناقته على باب مسجده اليوم وهو يومئذ لغلامين منهم في حجر معاذ بن عفراء اسمهما سهل وسهيل وفيه خرب ونخل وقبور للمشركين ومربد، ثم   [1] وفي نسخة ثانية: براحلتيهما. [2] وفي النسخة الباريسية: من غسّان. [3] وفي نسخة ثانية: الى ان. [4] وفي النسخة الباريسية: ابن المنذر. [5] وفي النسخة الباريسية: بني الحرث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 بركت الناقة وبقي على ظهرها ولم ينزل فقامت ومشت غير بعيد ولم يثنها، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مكانها الأوّل فبركت واستقرّت ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها. وحمل أبو أيوب رحله إلى داره فنزل عليه وسأل عن المربد وأراد أن يتخذه مسجدا، فاشتراه من بني النجّار بعد أن وهبوه إياه فأبى من قبوله، ثم أمر بالقبور فنبشت وبالنخل فقطعت، وبني المسجد باللبن وجعل عضادتيه الحجارة وسواريه جذوع النخل وسقفه الجريد، وعمل فيه المسلمون حسبة [1] للَّه عزّ وجلّ. ثم وداع اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة شرط فيه لهم وعليهم. ثم مات أسعد بن زرارة وكان نقيبا لبني النجّار فطلبوا إقامة نقيب مكانه، فقال أنا نقيبكم، ولم يخص بها منهم آخر دون آخر فكانت من مناقبهم. ثم لما رجع عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكانه فخرج ومعه عائشة أخته وأمها أم رومان ومعهم طلحة بن عبيد الله [2] فقدموا المدينة وتزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر وبنى بها في منزل أبي بكر بالسنح. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة فحملاهنّ [3] إليه من مكة، وبلغ الخبر بموت أبي أحيحة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل من مشيخة قريش. ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين جعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة ومعاذ بن جبل، وبين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وبين عمر بن الخطّاب وعثمان بن مالك من بني سالم [4] ، وبين أبي عبيدة بن الجرّاح وسعد بن معاذ، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين عثمان بن عفّان وأوس بن ثابت أخي حسان، وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر بن وقش من بني عبد الأشهل، وبين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان العنسيّ حليف بني عبد الأشهل وقيل بل ثابت بن قيس بن شمّاس، وبين أبي ذر الغفاريّ   [1] وفي النسخة الباريسية: حسنة. [2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله. [3] الأصح ان يقول جملهن. [4] وفي نسخة اخرى: بني سهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 والمنذر بن عمرو بن بني ساعدة، وبين حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزّى، وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف، وبين سلمان الفارسيّ وأبي الدرداء، وعمير بن بلتعة من بني الحرث بن الخزرج [1] وبين بلال بن حمامة وأبي رويحة الخثعميّ [2] . ثم فرضت الزكاة ويقال وزيد في صلاة الحاضر [3] ركعتين فصارت أربعا بعد أن كانت ركعتين سفرا وحضرا. ثم أسلم عبد الله بن سلام وكفر جمهور اليهود، وظهر قوم من الأوس والخزرج منافقون يظهرون الإسلام مراعاة لقومهم من الأنصار ويصرّون الكفر، وكان رءوسهم من الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول والجدّ بن قيس، ومن الأوس الحرث بن سهيل بن الصامت وعبّاد بن حنيف ومربع بن قيظي وأخوه أوس من أهل مسجد الضرار. وكان قوم من اليهود أيضا تعوذوا بالإسلام وهم يبطنون الكفر منهم: سعد بن حنيس [4] وزيد بن اللصيت [5] ورافع بن خزيمة ورفاعة بن زيد ابن التابوت وكنانة بن خبورا [6] . الغزوات الأبواء: ولما كان شهر صفر بعد مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة خرج في مائتين من أصحابه يريد قريشا وبني ضمرة، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، فبلغ ودّان والأبواء ولم يلقهم. واعترضه مخشى بن عمر وسيد بني ضمرة بن عبد منات بن كنانة وسأله موادعة قومه فعقد له، ورجع إلى المدينة ولم يلق حربا. وهي أوّل غزاة غزاها بنفسه، ويسمى بالأبواء وبودّان المكانان اللذان انتهى إليهما، وهما متقاربان بنحو ستة أميال، وكان صاحب اللواء فيها حمزة بن عبد المطّلب. بواط: ثم بلغه أن عير قريش نحو ألفين وخمسمائة فيها أمية بن خلف، ومائة رجل من قريش ذاهبة إلى مكة، فخرج في ربيع الآخر لاعتراضها واستعمل على المدينة   [1] في هامش الأصل سقط أبو عمير أهـ قاله نصر. [2] وفي النسخة الباريسية: زويغة الخثعميّ. [3] وفي النسخة الباريسية: في صلاة الحضر. [4] وفي النسخة ثانية: خنيس. [5] وفي نسخة ثانية: زيد بن اللطيت. [6] وفي نسخة ثانية: كنانة بن حيورتا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 السائب بن عثمان بن مظعون. وقال الطبري: سعد بن معاذ فانتهى إلى بواط ولم يلقهم ورجع إلى المدينة. غزوة العشيرة: ثم خرج في جمادى الأولى غازيا قريشا، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد فسلك عن جانب من الطريق إلى أن لقي الطريق بصخيرات اليمام إلى العشيرة من بطن ينبع، فأقام هنالك بقية جمادى الأولى وليلة من جمادى الثانية ووداع بني مدلج، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا. بدر الأولى [1] وأقام بعد العشيرة نحو عشر ليلا ثم أغار كرز بن جابر الفهريّ على سرح المدينة، فخرج في طلبه حتى بلغ ناحية بدر، وفاته كرز فرجع الى المدينة. البعوث: وفي هذه الغزوات كلها غزا بنفسه وبعث فيما بينها بعوثا نذكرها (فمنها) : بعث حمزة بعد الأبواء، بعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين إلى سيف البحر فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهنيّ [2] ولم يكن قتال. ومنها بعث عبيدة بن الحرث بن المطلب في ستين راكبا وثمانين من المهاجرين فبلغ ثنية المرار [3] ولقي بها جمعا عظيما من قريش كان عليهم عكرمة بن أبي جهل وقيل مكرز بن حفص بن الأحنف ولم يكن بينهم قتال. وكان مع الكفّار يومئذ من المسلمين المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان، خرجا مع الكفار ليجد السبيل إلى اللحاق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فهربا إلى المسلمين وجاءا معهم. وكان بعث حمزة وعبيدة متقاربين، واختلف أيهما كان قبل إلا أنهما أوّل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ إنّ بعث حمزة كان قبل ودّان في شوال لسبعة أشهر من الهجرة. ومنها بعث سعد [4] بن أبي وقّاص في ثمانية رهط من المهاجرين يطلب كرز بن جابر حين أغار على سرح المدينة فبلغ المرار ورجع. ومنها بعث عبد الله بن جحش إثر مرجعه من بدر الأولى في شهر رجب بعثه بثمانية من المهاجرين وهم أبو حذيفة بن عتبة وعكاشة بن محصن بن أسد بن خزيمة وعتبة   [1] وفي النسخة الباريسية: العشيرة بدر الأولى. [2] وفي نسخة ثانية: عدي بن صجر الجهنيّ. [3] وفي النسخة الباريسية: ثنية المرة. [4] وفي النسخة الباريسية: سعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 بن غزوان بن مازن بن منصور وسعد بن أبي وقاص وعامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي وواقد بن عبد الله بن زيد مناة بن تميم وخالد بن البكير بن سعد بن ليث وسهيل بن بيضا [1] بن فهر بن مالك، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ولا يكره أحدا من أصحابه، فلما قرأ الكتاب بعد يومين وجد فيه أن تمضي حتى تنزل نخلة بين مكّة والطائف وترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم، فأخبر أصحابه وقال: حتى ننزل النخلة بين مكة والطائف ومن أحب الشهادة فلينهض ولا أستكره أحدا. فمضوا كلهم وضل لسعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان في بعض الطريق بعير لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ونفر الباقون إلى نخلة، فمرّت بهم عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرميّ وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولاهم وذلك آخر يوم من رجب، فتشاور المسلمون وتحرج بعضهم الشهر الحرام ثم اتفقوا واغتنموا الفرصة فيهم، فرمى واقد بن عبد الله [2] عمرو بن الحضرميّ فقتله وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت نوفل، وقدموا بالعير والأسيرين وقد أخرجوا الخمس فعزلوه. فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهم ذلك في الشهر الحرام، فسقط في أيديهم ثم أنزل الله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ 2: 217» الآية إلى قوله «حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا 2: 217» . فسرّى عنهم وقبض النبيّ صلى الله عليه وسلم الخمس وقسم الغنيمة وقبل الفداء في الأسيرين، وأسلم الحكم بن كيسان منهما، ورجع سعد وعتبة سالمين إلى المدينة. وهذه أوّل غنيمة غنمت في الإسلام وأوّل غنيمة خمست في الإسلام وقتل عمرو بن الحضرميّ هو الّذي هيج [3] وقعة بدر الثانية. صرف القبلة: ثم صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة، خطب بذلك على المنبر وسمعه بعض الأنصار فقام فصلّى ركعتين إلى الكعبة، قاله ابن حزم. وقيل على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل ستة عشر، ولم يقل غير ذلك. غزوة بدر الثانية: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى رمضان من السنة   [1] وفي نسخة ثانية: بن مضاض. [2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله بن واقد. [3] وفي نسخة ثانية: هاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 الثانية، ثم بلغه أنّ عيرا لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكّة معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش عميدهم أبو سفيان ومعه عمرو بن العاصي ومخرمة بن نوفل، فندب عليه السلام المسلمين إلى هذه العير وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج، ولم يحتفل في الحشد لأنه لم يظن قتالا، واتصل خروجه بأبي سفيان، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم فنفروا وأرعبوا إلّا يسيرا منهم أبو لهب. وخرج صلى الله عليه وسلم لثمان خلون من رمضان واستخلف على الصلاة عمرو بن أمّ مكتوم وردّ أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى إلى مصعب بن عمير، ودفع إلى عليّ راية، وإلى رجل من الأنصار أخرى يقال كانتا سوداوين. وكان مع أصحابه صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعون بعيرا يعتقبونها فقط. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة من بني النجّار، وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ثم انتهوا إلى صخيرات يمام [1] ثم إلي بئر الروحاء، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء. وبعث عليه السلام قبلها بسبس بن عمرو الجهنيّ حليف بني ساعدة وعديّ بن أبي الزغباء [2] الجهنيّ حليف بني النجّار إلى بدر يتجسّسون أخبار أبي سفيان وغيره. ثم تنكّب عن الصفراء يمينا وخرج على وادي دقران، فبلغه خروج قريش ونفيرهم، فاستشار أصحابه، فتكلّم المهاجرون وأحسنوا، وهو يريد ما يقوله الأنصار وفهموا ذلك. فتكلّم سعد بن معاذ وكان فيما قال: «لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك فسر بنا يا رسول الله على بركة الله» فسرّ بذلك، وقال: «سيروا وأبشروا فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين» . ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر وبعث عليّا والزبير وسعدا في نفر يلتمسون الخبر فأصابوا غلامين لقريش، فأتوا بهما وهو عليه السلام قائم يصليّ، وقالوا: نحن سقاة قريش فكذّبوهما كراهية في الخبر ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلّة المؤنة، فجعلوا يضربونهما فيقولان نحن من العير. فسلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم، وقال للغلامين: أخبر اني أين قريش. فأخبراه أنّهم وراء الكثيب [3]   [1] وفي نسخة اخرى: تمام. [2] وفي النسخة الباريسية: الدغماء. [3] الكثيف: التل من الرمل وفي النسخة الباريسية الكثيف وهو الصفيح من الحديد (قاموس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وأنّهم ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا. فقال عليه السلام: القوم بين التسعمائة والألف. وقد كان بسبس وعديّ الجهنيّان مضيا يتجسّسان ولا خبر حتى نزلا وأناخا قرب الماء واستقيا في شنّ لهما ومجدي بن عمرو بن جهينة بقربهما، فسمع عديّ جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها العير تأتي غدا أو بعد غد وأعمل لهم وأقضيك الّذي لك وجاءت إلى مجدي بن عمرو فصدقها، فرجع بسبب وعديّ بالخبر. وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسّس الخبر فقال لمجدي هل أحسست أحدا فقال راكبين أناخا يميلان لهذا التل فاستقيا الماء، ونهضا فأتى أبو سفيان مناخهما وفتت من أبعار رواحلهما، فقال هذه والله علائف يثرب فرجع سريعا وقد حذر وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا وأوصى إلى قريش بأنّا قد نجونا بالعير فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ونقيم به ثلاثا وتهابنا العرب أبدا، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة وكان حليفهم ومطاعا فيهم، وقال: إنّما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت فارجعوا. وكان بنو عديّ لم ينفروا مع القوم، فلم يشهد بدرا من قريش عدويّ ولا زهريّ. وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا إلى ماء بدر وثبطهم عنه مطر نزل وبله مما يليهم وأصاب مما يلي المسلمين دهس [1] الوادي، وأعانهم على السير، فنزل عليه السلام على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: «آللَّه أنزلك بهذا المنزل فلا نتحوّل عنه أم قصدت الحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام: لا بل هو الرأي والحرب. فقال يا رسول الله ليس هذا بمنزل، وإنّما نأتي أدنى ماء من القوم فنزله ونبني عليه حوضا فنملؤه ونغوّر القلب كلها فنكون قد منعناهم الماء. فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بنوا له عريشا يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه [2] من ربه النصر، ومشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا، ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ يحزر [3] له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فيهم فارسان الزبير والمقداد، فحزرهم وانصرف وخبّرهم الخبر، ورام حكيم بن حزام   [1] الدهس: المكان السهل ليس برمل ولا تراب (قاموس) . [2] وفي النسخة الباريسية: يكون فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واثقا من ربه النصر. [3] وفي نسخة اخرى: يحذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ولا يكون الحرب، فأبى أبو جهل وساعده المشركون، وتواقفت الفئتان. وعدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر وحده، وطفق يدعو ويلح وأبو بكر يقاوله ويقول في دعائه اللَّهمّ أن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني، وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه وأخفق [1] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتبه فقال أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر الله. ثم خرج يحرّض الناس، ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول: شاهت الوجوه. ثم تزاحفوا فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز فخرج إليهم عبيدة بن الحرث وحمزة بن عبد المطّلب وعلي بن أبي طالب فقتل حمزة وعلي شيبة والوليد وضرب عتبة عبيدة فقطع رجله فمات وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه. وقد كان برز إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلّا قومهم، وجال القوم جولة فهزم المشركون وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا فمن مشاهيرهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان بن حرب وابنا سعيد بن العاص عبيدة والعاص، والحرث بن عامر بن نوفل وابن عمه طعيمة بن عديّ وزمعة بن الأسود وابنه الحرث وأخوه عقيل بن الأسود وابن عمه أبو البختري بن هشام ونوفل بن خويلد بن أسد وأبو جهل بن هشام، اشترك فيه معاذ ومعوذ ابنا عفراء ووجده عبد الله بن مسعود وبه رمق فحزّ رأسه، وأخوه العاص بن هشام وابن عمهما مسعود بن أمية وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وابن عمه أبو قيس بن الفاكه، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والعاصي بن منبه وأميه بن خلف وابنه عليّ وعمير بن عثمان عمّ طلحة. وأسر العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب والسائب بن عبد يزيد من بني المطلب وعمرو بن أبي سفيان بن حرب وأبو العاص بن الربيع وخالد بن أسيد بن أبي العيص وعديّ بن الخيار من بني نوفل وعثمان بن عبد شمس ابن عمّ عتبة بن غزوان وأبو عزيز أخو مصعب بن عمير وخالد بن هشام ابن المغيرة وابن عمه رفاعة [2] بن أبي رفاعة وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة والوليد   [1] وفي النسخة الباريسية: وطفق. [2] وفي النسخة الباريسية: وابن عمه حمير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 بن الوليد أخو خالد وعبد الله وعمرو ابنا أبيّ بن خلف وسهيل بن عمرو في آخرين مذكورين في كتب السير. واستشهد من المسلمين، من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن المطلب وعمير بن أبي وقاص وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بني زهرة وصفوان بن بيضاء من بني الحرث بن فهر ومهجع مولى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أصابه سهم فقتله، وعاقل بن البكير الليثي حليف بني عديّ من الأنصار. ثم من الأوس: سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر. ومن الخزرج: يزيد بن الحارث [1] بن الخزرج وعمير بن الحمام من بني سلمة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على الجهاد ويرغب في الجنة وفي يده تمرات يأكلهن فقال: بخ بخ أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم رمى بهنّ وقاتل حتى قتل، ورافع بن المعلّى من بني حبيب بن عبد حارثة وحارثة بن سراقة من بني النجّار وعوف ومعوذ ابنا عفراء. ثم انجلت الحرب وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين فسحبوا إلى القليب وطم عليهم التراب، وجعل على النفل [2] عبد الله بن كعب بن عمرو بن مبدول بن عمر بن غنم بن مازن بن النجّار، ثم انصرف إلى المدينة فلما نزل الصفراء قسم الغنائم كما أمر الله، وضرب عنق النضر بن الحرث بن كلدة من بني عبد الدار، ثم نزل عرق الظبية فضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة وكان في الأسارى ومرّ إلى المدينة فدخلها لثمان بقين من رمضان. غزوة الكدر: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه إلى المدينة اجتماع غطفان فخرج يريد بني سليم بعد سبع ليال من منصرفه، واستخلف على المدينة سبّاع بن عرفطة الغفاريّ أو ابن أمّ مكتوم، فبلغ ماء يقال له الكدر وأقام عليه ثلاثة أيام ثم انصرف ولم يلق حربا، وقيل إنه أصاب من نعمهم ورجع بالغنيمة، وإنه بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية فنالوا منهم وانصرفوا بالغنيمة. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحجة، وفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أسارى بدر.   [1] وفي النسخة الباريسية: يزيد من الحرث من بني الحرث بن الخزرج. [2] وفي النسخة الباريسية: البقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 غزوة السويق: ثم إنّ أبا سفيان لما انصرف من بدر نذر أن يغزو المدينة فخرج في مائتي راكب حتى أتى بني النضير ليلا، فتوارى عنه جيّ بن أخطب ولقيه سلام بن مشكم وقراه [1] وأعلمه بخبر الناس، ثم رجع ومرّ بأطراف المدينة فحرق نخلا وقتل رجلين في حرث لهما، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، واستعمل على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وبلغ الكدر [2] وفاته أبو سفيان والمشركون وقد طرحوا السويق من أزوادهم ليتخففوا، فأخذها المسلمون فسميت لذلك غزوة السويق. وكانت في ذي الحجة بعد بدر بشهرين. ذي أمرّ: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر المحرم غازيا غطفان واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فأقام بنجد صفر وانصرف ولم يلق حربا. نجران: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ربيع الأوّل يريد قريشا واستخلف ابن أمّ مكتوم فبلغ نجران معدنا في الحجاز ولم يلق حربا. وأقام هنالك إلى جمادى الثانية من السنة الثالثة وانصرف إلى المدينة. قتل كعب بن الأشرف: وكان كعب بن الأشرف رجلا من طيِّئ وأمّه من يهود بني النضير، ولما أصيب أصحاب بدر، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مبشرين إلى المدينة، جعل يقول: ويلكم أحق هذا؟ وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، وإن كان محمد أصاب هؤلاء فبطن الأرض خير من ظهرها. ثم قدم مكّة ونزل على المطّلب بن أبي وداعة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية، فجعل يحرّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي على أصحاب القليب، ثم رجع إلى المدينة فشبب بعاتكة ثم شبب بنساء المسلمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يقتل كعب بن الأشرف، فانتدب لذلك محمد بن مسلمة وملكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة من بني عبد الأشهل أخو كعب من الرضاعة وعبّاد بن بشر بن وقش والحرث بن بشر بن معاذ وأبو عبس بن جبر من بني حارثة، وتقدّم إليه ملكان بن سلامة وأظهر له انحرافا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إذن منه، وشكا إليه ضيق الحال ورام أن يبيعه وأصحابه طعاما ويرهنون سلاحهم. فأجاب إلى ذلك ورجع إلى أصحابه،   [1] وفي النسخة الباريسية: سلام بن مسلم ونهاه. [2] وفي النسخة ثانية: الكرز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 فخرجوا وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد [1] في ليلة قمراء، وأتوا كعبا فخرج إليهم من حصنه ومشوا غير بعيد ثم وضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمد بن مسلمة معولا كان معه في ثنته [2] فقتله. وصاح عدوّ الله صيحة شديدة انذعر لها أهل الحصون التي حواليه، وأوقدوا النيران، ونجا القوم وقد جرح منهم الحرث بن أوس ببعض سيوفهم فنزفه الدم وتأخر، ثم وافاهم بجرّة العريض آخر الليل، وأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وأخبروه وتفل على جرح الحرث فبرأ. وأذن للمسلمين في قتل اليهود لما بلغه أنهم خافوا من هذه الفعلة، وأسلم حينئذ حويصة بن مسعود، وقد كان أسلم قبله أخوه محيصة بسبب قتل بعضهم. غزوة بني قينقاع: وكان بنو قينقاع لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقف بسوق بني قينقاع في بعض الأيام فوعظهم وذكرهم ما يعرفون من أمره في كتابهم، وحذّرهم ما أصاب قريشا من البطشة، فأساءوا الردّ وقالوا: لا يغرنك انك لقيت قوما لا يعرفون الحرب فأصبت منهم والله لئن جرّبتنا لتعلمنّ أنّا نحن الناس. فأنزل الله تعالى: «وَإِمَّا تَخافَنَّ من قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ 8: 58» . وقيل بل قتل مسلم يهوديا بسوقهم في حق، فثاروا على المسلمين ونقضوا العهد ونزلت الآية. فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر، وقيل أبا لبابة، وكانوا في طرف المدينة في سبعمائة مقاتل منهم ثلاثمائة دارع، ولم يكن لهم زرع ولا نخل إنما كانوا تجار أو صاغة يعملون بأموالهم، وهم قوم عبد الله بن سلام فحصرهم عليه السلام خمس عشرة ليلة لا يكلم أحدا منهم حتى نزلوا على حكمه فكتفهم ليقتلوا، فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول وألح في الرغبة [3] حتى حقن له رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم، ثم أمر بإجلائهم وأخذ ما كان لهم من سلاح وضياع [4] ، وأمر عبادة بن الصامت فمضى بهم إلى ظاهر ديارهم ولحقوا بخيبر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس من الغنائم وهو أول خمس   [1] وفي نسخة اخرى: الفرقد وفي النسخة الباريسية: العرقد. [2] الثنّة: شعرات مؤخر رجل الفرس (قاموس) والأصح ان يقول ثنيته: اي اسنان مقدّم الفم. وفي النسخة الباريسية: في قبته. [3] وفي نسخة اخرى: الرغنة: اي الطمع. [4] وفي النسخة الباريسية: صياغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 أخذه، ثم انصرف إلى المدينة وحضر الأضحى فصلى بالناس في الصحراء وذبح بيده شاتين ويقال أنّهما أوّل أضحيته صلى الله عليه وسلم. سرية زيد بن حارثة إلى قردة: وكانت قريش من بعد بدر قد تخوّفوا من اعتراض المسلمين عيرهم في طريق الشام وصاروا يسلكون طريق العراق، وخرج منهم تجّار فيهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية واستجاروا بفرات بن حيان من بكر بن وائل فخرج بهم في الشتاء وسلك بهم على طريق العراق، وانتهى خبر العير إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما فيها من المال وآنية الفضة، فبعث زيد بن حارثة في سريّة فاعترضهم وظفر بالعير وأتى بفرات بن حيّان العجليّ أسيرا فتعوذ بالإسلام وأسلم. وكان خمس هذه الغنيمة عشرين ألفا. قتل ابن أبي الحقيق: كان سلام بن أبي الحقيق هذا من يهود خيبر وكنيته أبو رافع، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحزب عليهم الأحزاب، مثلا أو قريبا من كعب بن الأشرف، وكان الأوس والخزرج يتصاولان تصاول الفحلين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه والنيل من أعدائه، لا يفعل أحد القبيلتين شيئا من ذلك إلّا فعل الآخرون مثله. وكان الأوس قد قتلوا كعب بن الأشرف كما ذكرناه، فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل ابن أبي الحقيق نظير ابن الأشرف في الكفر والعداوة، فأذن لهم. فخرج إليهم من الخزج ثم من بني سلمة [1] ثمانية نفر منهم: عبد الله بن عقيل ومسعر بن سنان وأبو قتادة والحرث بن ربعي الخزاعي من حلفائهم في آخرين، وأمر عليهم عبد الله بن عقيل ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، وخرجوا في منتصف جمادى الآخرة من سنة ثلاث، فقدموا خيبر، وأتوا دار ابن أبي الحقيق في علية له بعد أن انصرف عنه سمره ونام، وقد أغلقوا الأبواب من حيث أفضوا كلها عليهم، ونادوه ليعرفوا مكانه بصوته، ثم تعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه، وخرجوا من القصر وأقاموا ظاهره حتى قام الناعي على سور القصر فاستيقنوا موته، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر. وكان أحدهم قد سقط من درج العلية فأصابه كسر في ساقه فمسح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرأ [2] .   [1] وفي النسخة الباريسية: من بني ساعدة سلمة. [2] وفي نسخة ثانية: فبرئت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 غزوة أحد وكانت قريش بعد واقعة بدر قد توامروا [1] وطلبوا من أصحاب العير أن يعينوهم بالمال ليتجهزوا به لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعانوهم، وخرجت قريش بأحابيشها وحلفائها وذلك في شوّال من سنة ثلاث، واحتملوا الظعن التماسا للحفيظة وأن لا يفرّوا، وأقبلوا حتى نزلوا ذا الحليفة قرب أحد ببطن السبخة مقابل المدينة على شفير واد هنالك، وذلك في رابع شوّال. وكانوا في ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس وقائدهم أبو سفيان ومعهم خمس عشرة امرأة بالدفوف يبكين قتلى بدر. وأشار صلى الله عليه وسلم على أصحابه بأن يتحصنوا بالمدينة ولا يخرجوا وإن جاءوا قاتلوهم على أفواه الأزقة، وأقر [2] ذلك على رأي عبد الله بن أبي بن سلول، وألحّ قوم من فضلاء المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة فلبس لامته وخرج، وقدم أولئك الذين ألحّوا عليه وقالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد. فقال: ما ينبغي لبني إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل. وخرج في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بقية المسلمين بالمدينة. فلما سار بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس مغاضبا لمخالفة رأيه في المقام، وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّة بني حارثة ومرّ بين الحوائط وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به حتى نزل الشعب من أحد مستندا إلى الجبل، وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع المسلمين وتهيأ للقتال في سبعمائة فيهم خمسون فارسا وخمسون راميا، وأمّر على الرماة عبد الله بن جبير من بني عمرو بن عوف والأوس أخو خوّات، ورتبهم خلف الجيش ينضحون بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من خلفهم، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وأجاز يومئذ سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خديج من بني حارثة في الرماة وسنهما خمسة عشر عاما، وردّ أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطّاب ومن بني مالك بن النجار زيد بن ثابت وعمرو بن حرام ومن بني حارثة البراء بن عازب وأسيد بن ظهير، ورد عرابة بن أوس وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدريّ سن جميعهم يومئذ أربعة عشر عاما. وجعلت قريش على ميمنة الخيل خالد بن الوليد،   [1] ربما قصد المؤرخ تآمروا. [2] وفي نسخة اخرى: وافقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل. وأعطى عليه السلام سيفه بحقه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة من بني ساعدة وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب. وكان مع قريش ذلك اليوم والد حنظلة غسيل الملائكة أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك ابن النعمان في طليعة [1] وكان في الجاهلية قد ترهّب وتنسّك، فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء وفرّ إلى مكة في رجال من الأوس وشهد أحد مع الكفّار، وكان يعد قريش في انحراف الأوس إليه لما أنه سيدهم، فلم يصدق ظنه، ولما ناداهم وعرفوه، قالوا: لا أنعم الله لك علينا يا فاسق. فقاتل المسلمين قتالا شديدا. وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس [2] بلاء شديدا، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتدّ القتال وانهزم قريش أوّلا، فخلت الرماة عن مراكزهم، وكرّ المشركون كرّة وقد فقدوا متابعة الرماة فانكشف المسلمون واستشهد منهم من أكرمه الله، ووصل العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة في رأسه، يقال إن الّذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثي. وشدّ حنظلة الغسيل على أبي سفيان ليقتله فاعترضه شدّاد بن الأسود الليثي من شعوب فقتله وكان جنبا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هناك، فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام، ومصّ الدم من جرحه مالك بن سنان الخدريّ والد أبي سعيد، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح فندرت ثنيتاه فصار اهتم [3] . ولحق المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم، وكان آخرهم عمّار بن يزيد بن السكن. ثم قاتل طلحة حتى أجهض [4] المشركون وأبو دجانة يلي النبيّ صلى الله عليه وسلم بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك [5] ، وأصيبت عين قتادة   [1] وفي نسخة ثانية: من ضبيعة. [2] وفي النسخة الباريسية: النضر بن شميل. [3] ويقال: اثرم بدل اهتم أهـ. [4] اجهض: بمعنى أبعد المشركين. [5] وفي نسخة ثانية: فلا يترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 ابن النعمان من بني ظفر فرجع وهي على وجنته، فردها عليه السلام بيده فصحت وكانت أحسن عينيه. وانتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة وقد دهشوا وقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة. وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها. وقتل حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قتله وحشي مولى جبير بن مطعم بن عديّ، وكان قد جاعله على ذلك بعتقه فرآه يبارز سبّاع بن عبد العزى فرماه بحربته من حيث لا يشعر فقتله. ونادي الشيطان ألا أنّ محمدا قد قتل، لأنّ عمرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عمير يظن أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضربته أم عمّارة نسيبة بنت كعب بن أبي [1] مازن ضربات فتوفي [2] منها بدرعيه وخشي المسلمون لما أصابه ووهنوز لصريخ الشيطان. ثم إنّ كعب بن مالك الشاعر من بنى سلمة عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بأعلى صوته يبشّر الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: أنصت، فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ والزبير والحرث بن الصمة [3] الأنصاري وغيرهم، وأدركه أبي بن خلف في الشعب، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة وطعنه بها في عنقه فكرّ أبي منهزما، وقال له المشركون ما بك من بأس، فقال: والله لو بصق عليّ لقتلني وكان صلى الله عليه وسلم قد توعّده بالقتل فمات عدوّ الله بسرف [4] مرجعهم الى مكة. ثم جاء عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجه ونهض فاستوى على صخرة من الجبل وحانت الصلاة فصلى بهم قعودا. وغفر الله للمنهزمين من المسلمين ونزل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ 3: 155 (الآية) وكان منهم عثمان بن عفان وعثمان بن أبي عقبة الأنصاري.   [1] وفي نسخة ثانية: من بني مازن. [2] وفي نسخة ثانية: توفي. [3] وفي النسخة الثانية: الصامت. [4] سرف القوم جاوزهم (القاموس) وسرف مكان بين مكة والمدينة. والمرجّح انه سقطت كلمة أثناء في الجملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 واستشهد في ذلك اليوم حمزة كما ذكرناه وعبد الله بن جحش ومصعب بن عمير في خمسة وستين معظمهم من الأنصار، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم في مضاجعهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وقتل من المشركين اثنان وعشرون منهم الوليد بن العاص بن هشام وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة وأبو عزّة عمرو بن عبد الله بن جمح، وكان أسر يوم بدر فمنّ عليه وأطلقه بلا فداء على أن لا يعين عليه فنقض العهد وأسر يوم أحد وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صبرا، وأبي بن خلف قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصعد أبو سفيان الجبل حتى أطلّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونادى بأعلى صوته: الحرب: سجال يوم أحد بيوم بدر، أعل هبل. وانصرف وهو يقول موعدكم العام القابل. فقال عليه السلام قولوا له هو بيننا وبينكم. ثم سار المشركون إلى مكة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة، وكانت هند وصواحبها قد جدّ عنه وبقرن عن كبده فلاكتها ولم تسغها، ويقال إنه لما رأى ذلك في حمزة قال لئن أظفرني الله بقريش لأمثلنّ بثلاثين منهم. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. ويقال إنه قال لعليّ لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا. غزوة حمراء الأسد: ولما كان يوم أحد سادس عشر شوّال، وهو صبيحة يوم أحد، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لطلب العدوّ وأن لا يخرج إلّا من حضر معه بالأمس، وفسح لجابر بن عبد الله ممن سواهم، فخرج وخرجوا على ما بهم من الجهد والجراح وصار عليه السلام متجلدا مرهبا للعدوّ، وانتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثا، ومرّ به هناك معبد بن أبي معبد الخزاعي سائرا الى مكة، ولقي [1] أبا سفيان وكفّار قريش بالروحاء فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم وكانوا يرومون الرجوع إلى المدينة ففتّ ذلك في أعضادهم وعادوا إلى مكة. بعث الرجيع: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر متمّ الثلاثة من الهجرة نفر من عضل والقارة بني الهون من خزيمة إخوة بني أسد، فذكروا أنّ فيهم   [1] وفي النسخة الباريسية: ولحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 إسلاما ورغبوا أن يبعث فيهم من يفقههم في الدين، فبعث معهم ستة رجال من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي [1] ، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح من بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي من بني جحجبا بن كلفة، وزيد بن الدّثنّة، بن بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمر عليهم مرثدا منهم. ونهضوا مع القوم حتى إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل قريبا من عسفان غدروا بهم، واستصرخوا هذيلا عليهم فغشوهم في رحالهم ففزعوا إلى القتال فأمّنوهم وقالوا: إنا نريد نصيب بكم فداء من أهل مكة، فامتنع مرثد وخالد وعاصم من أمنهم وقاتلوا حتى قتلوا، ورموا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد ابن شهيد وكانت نذرت أن تشرب فيه الخمر لما قتل ابنيها من بني عبد الدار يوم أحد، فأرسل الله الدبر [2] فحمت عاصما منهم فتركوه إلى الليل فجاء السيل فاحتمله. وأمّا الآخرون فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة ولما كانوا بمرّ الظهران انتزع ابن طارق يده من القران وأخذ سيفه فرموه بالحجارة فمات، وجاءوا بخبيب وزيد إلى مكة فباعوهما إلى قريش فقتلوهما صبرا. غزوة بئر معونة: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر هذا ملاعب الأسنة أبو براء عمر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فدعاه إلى الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال إنّي أخاف [3] عليهم. فقال أبو براء أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنذر بن عمرو بن بني ساعدة في أربعين من المسلمين، وقيل في سبعين، منهم الحرث بن الصمّة، وحرام بن ملحان خال أنس، وعامر [4] بن فهيرة، ونافع بن بديل بن ورقاء. فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم، وبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فقتله، ولم ينظر في كتابه، واستعدى عليهم بني عامر فأبوا لجوار أبي براء إياهم، فاستعدى بني سليم فنهضت منهم عصية ورعل   [1] وفي نسخة ثانية: الغنمي. [2] الدبر بفتح الدال وسكون الموحدة: الزنابير أهـ. [3] وفي النسخة الباريسية: أخشى. [4] وفي النسخة الباريسية: عمرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 وذكوان وقتلوهم عن آخرهم، وكان سرحهم إلى جانب منهم ومعهم المنذر بن أحيحة [1] من بني الجلّاح وعمرو بن أمية الضمريّ فنظرا إلى الطير تحوم على العسكر، فأسرعا إلى أصحابهما فوجداهم في مضاجعهم، فأمّا المنذر بن أحيحة فقاتل حتى قتل، وأما عمرو بن أمية فجز عامر بن الطفيل ناصيته حين علم أنه من مضر لرقبة كانت عن أمه، وذلك لعشر بقين من صفر وكانت مع الرجيع في شهر واحد. ولما رجع عمرو بن أمية لقي في طريقه رجلين من بني كلاب أو بني سليم فنزلا معه في ظل كان فيه معهما عهد من النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو فانتسبا له في بني عامر أو سليم فعدا عليهما لما ناما وقتلهما، وقدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال لقد قتلت قتيلين لأدينهما. غزوة بني النضير: ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير مستعينا بهم في دية هذين القتيلين فأجابوا، وقعد عليه السلام مع أبي بكر وعمر وعليّ ونفر من أصحابه إلى جدار من جدرانهم، وأراد بنو النضير رجلا منهم على الصعود إلى ظهر البيت ليلقي على النبيّ صلى الله عليه وسلم صخرة، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب منهم. وأوحى الله بذلك إلى نبيّه فقام، ولم يشعر أحدا ممن معه واستبطئوه، واتبعوه إلى المدينة. فأخبرهم عن وحي الله بما أراد به يهود وأمر من أصحابه بالتهيؤ لحربهم. واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم، ونهض في شهر ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة، فتحصنوا منه بالحصون فحاصرهم ست ليال وأمر بقطع النخل وإحراقها، ودس إليهم عبد الله بن أبي والمنافقون إنا معكم قتلتم أو أخرجتم، فغرّوهم [2] بذلك ثم خذلوهم كرها وأسلموهم. وسأل عبد الله من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم بما حملت الإبل من أموالهم إلّا السلاح، واحتمل إلى خيبر من أكابرهم حييّ بن أخطب وابن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم بين المهاجرين الأوّلين خاصة، وأعطى منها أبا دجانة وسهل بن حنيف كانا فقيرين. وأسلم من بني النضير يامين بن عمير بن جحاش، وسعيد بن وهب فأحرزا أموالهما بإسلامهما. وفي هذه الغزاة نزلت سورة الحشر.   [1] وفي النسخة الباريسية: المنذر بن محمد بن الجلاح. [2] وفي نسخة ثانية: ففرّ وهمّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 غزوة ذات الرقاع: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بني النضير إلى جمادى من السنة الرابعة، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذرّ الغفاريّ، وقيل عثمان بن عفان، ونهض حتى نزل نجدا فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، إلا أنهم خاف بعضهم بعضا حتى صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين صلاة الخوف، وسميت ذات الرقاع لأنّ أقدامهم نقبت وكانوا يلقون عليها الخرق. وقال الواقدي: لأنّ الجبل الّذي نزلوا به كان به سواد وبياض وحمرة رقاع فسميت بذلك وزعم أنها كانت في المحرم. غزوة بدر الصغرى الموعد: كان أبو سفيان نادى يوم أحد كما قدّمناه بموعد بدر من قابل وأجابوه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان في شعبان من هذه السنة الرابعة خرج لميعاده واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، ونزل في بدر وأقام هناك ثمان ليال وخرج أبو سفيان في أهل مكّة حتى نزل الظهران أو عسفان، ثم بدا له في الرجوع واعتذر بأنّ العام عام جدب. غزوة دومة الجندل: خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأوّل من السنة الخامسة وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ. وسببها أنه عليه السلام بلغه انّ جمعا تجمعوا بها فغزاهم، ثم انصرفوا من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل ولم يلق حربا. وفيها وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة [1] بن حصن أن يرعى بأراضي المدينة لأنّ بلاده كانت أجدبت، وكانت هذه قد أخصبت بسحابة وقعت فأذن له في رعيها. غزوة الخندق كانت في شوّال من السنة الخامسة، والصحيح أنها في الرابعة، ويقويه أنّ ابن عمر يقول ردّني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فليس بينهما إلّا سنة واحدة وهو الصحيح، فهي قبل دومة الجندل بلا شك. وكان سببها أنّ نفرا من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وحيي بن أخطب من بني   [1] وفي النسخة الباريسية: عتبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 النضير وهود [1] ابن قيس وأبو عمارة [2] من بني وائل، لما انجلى بنو النضير إلى خيبر خرجوا إلى مكة يحزّبون الأحزاب ويحرّضون على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغبون من اشرأب إلى ذلك بالمال. فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم مضوا إلى غطفان وخرج بهم عيينة بن حصن على أشجع، وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وغيرهم. ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده والمسلمون معه، ويقال إنّ سلمان أشار به. ثم أقبلت الأحزاب حتى نزلوا بظاهر المدينة بجانب أحد، وخرج عليه السلام في ثلاثة آلاف من المسلمين، وقيل في تسعمائة فقط وهو راجل بلا شك [3] . وخلف على المدينة ابن أم مكتوم فنزل بسطح سلع والخندق بينه وبين القوم وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في الآطام، وكان بنو قريظة مواد عين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم حييّ وأغراهم فنقضوا العهد ومالوا مع الأحزاب، وبلغ أمرهم إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة وخوّات [4] بن جبير وعبد الله بن رواحة يستخبرون الأمر، فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا. وكان صلى الله عليه وسلم قد أمرهم إن وجدوا الغدر حقا أن يخبروه تعريضا لئلا يفتوا في أعضاد الناس، فلما جاءوا إليه قالوا يا رسول الله عضل والقارة يريدون غدرهم بأصحاب الرجيع، فعظم الأمر وأحيط بالمسلمين من كل جهة، وهمّ بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأنّ بيوتهم عورة خارج المدينة ثم ثبّتهم الله. ودام الحصار على المسلمين قريبا من شهر ولم تكن حرب. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحرث بن عوف أن يرجعا ولهما ثلثا ثمار [5] المدينة، وشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأبيا، وقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به فلا بدّ منه أم شيء تحبه فتصدقه فتصنعه لك أم شيء تصنعه لنا؟ فقال: بل   [1] وفي نسخة ثانية: وهو ابن قيس. [2] وفي النسخة الباريسية: عمّار. [3] وفي النسخة الباريسية: وهو الأصح. [4] وفي نسخة ثانية: خوان. [5] وفي النسخة الباريسية: ثلث ثمر المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 أصنعه لكم إني رأيت أنّ العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ: قد كنا معهم على الشرك والأوثان ولا يطمعون منا بثمرة إلّا شراء [1] وبيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلّا السيف. فصلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتمادى الأمر، وظهر فوارس من قريش إلى الخندق وفيهم: عكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن عبد ودّ من بني عامر بن لؤيّ، وضرار بن الخطّاب من بني محارب فلما رأوا الخندق قالوا هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها. ثم اقتحموا من مكان ضيق حتى جالت خيلهم بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، وقتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ودّ، ورجعوا إلى قومهم من حيث دخلوا. ورمي في بعض تلك الأيام سعد بن معاذ بسهم فقطع عنه الأكحل، يقال رماه حبان بن قيس بن العرقة وقيل أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، ويروى أنه لما أصيب جعل يدعو: «اللَّهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقى لها فلا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه، وان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة» . ثم اشتدّ الحال وأتى نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فقال: يا رسول الله اني أسلمت ولم يعلم قومي فمرني بما تشاء، فقال إنما أنت رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة. فخرج فأتى بني قريظة وكان صديقهم في الجاهلية، فنقم لهم في قريش وغطفان وأنهم إن لم يكن الظفر لحقوا ببلادهم وتركوكم، ولا تقدرون على التحوّل عن بلدكم ولا طاقة لكم بمحمد وأصحابه، فاستوثقوا منهم برهن أبنائهم حتى يصابروا معكم. ثم أتى أبا سفيان وقريشا فقال لهم: إنّ اليهود قد ندموا وراسلوا محمدا في المواعدة على أن يسترهنوا أبناءكم ويدفعوهم إليه. ثم أتى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش. فأرسل أبو سفيان وغطفان إلى بني قريظة في ليلة سبت إنا لسنا بدار مقام فأعدوا للقتال، فاعتذر اليهود بالسبت، وقالوا: مع ذلك لا نقاتل حتى تعطونا أبناءكم. فصدّق القوم خبر نعيم، وردوا إليهم بالاباية من الرهن والحث على الخروج، فصدّق أيضا بنو قريظة خبر نعيم وأبوا القتال. وأرسل الله على قريش وغطفان ريحا عظيمة أكفأت قدورهم وآنيتهم وقلعت أبنيتهم وخيامهم، وبعث عليه   [1] وفي النسخة الباريسية: الأخرى وبيعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 السلام حذيفة بن اليمان عينا فأتاه بخبر رحيلهم وأصبح وقد ذهب الأحزاب ورجع إلى المدينة. غزوة بني قريظة ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه جبريل بالنهوض إلى بني قريظة وذلك بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، فأمر المسلمين أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة، وخرج وأعطى الراية عليّ بن أبي طالب، واستخلف ابن أمّ مكتوم، وحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد إحدى ثلاث إمّا: الإسلام، وإمّا تبييت النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة السبت ليكون الناس آمنين منهم، وإمّا قتل الذراري والنساء ثم الاستماتة. فأبوا كل ذلك وأرسلوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر بن عمرو بن عوف لأنهم كانوا حلفاء الأوس، فأرسله واجتمع إليه الرجال والنساء والصبيان فقالوا: يا أبا لبابة ترى لنا أن ننزل على حكم محمد، قال نعم، وأشار بيده في حلقه أنه الذبح. ثم رجع فندم وعلى أنه أذنب فانطلق على وجهه، ولم يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وربط نفسه إلى عمود في المسجد ينتظر توبة الله عليه وعاهد الله أن لا يدخل أرض بني قريظة مكانا خان فيه ربه ونبيّه، وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لو أتاني لاستغفرت له فأمّا بعد ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه فنزلت توبته، فتولّى عليه السلام إطلاقه بيده بعد أن أقام مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحل إلا للصلاة. ثم نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم بعضهم ليلة نزولهم وهم نفر أربعة من هذيل إخوة قريظة والنضير، وفرّ عنهم عمرو بن سعد القرظي ولم يكن دخل معهم في نقض العهد فلم يعلم أين وقع. ولما نزل بنو قريظة على حكمه صلى الله عليه وسلم طلب الأوس أن يفعل فيهم ما فعل بالخزرج في بني النضير، فقال لهم: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ وكان جريحا منذ يوم الخندق وقد أنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فأتى به على حمار فلما أقبل على المجلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: قوموا إلى سيدكم. ثم قالوا: يا سعد إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك حكم مواليك، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، قالوا: نعم. قال: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ثم أنه أمر فأخرجوا إلى سوق المدينة وخندق لهم بها خنادق وضربت أعناقهم فيها وهم بين الستمائة والسبعمائة رجل، وقتلت فيهم امرأة واحدة بنانة امرأة الحكم القرظي وكانت طرحت على خلاد [1] بن سويد بن الصامت رحى من فوق الحائط فقتلته. وأمر عليه السلام بقتل من أنبت [2] منهم. ووهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن ياطا فاستحيا منهم عبد الرحمن بن الزبير كانت له صحبة، وبعد أن كان ثابت استوهب من النبيّ صلى الله عليه وسلم الزبير وأهله وماله فوهبه ذلك فمر الزبير عليه يده وأبي إلّا الشدّ مع قومه اغتباطا بهم قبحه الله. ووهب عليه السلام لأم المنذر بنت قيس من بني النجّار رفاعة بن سموأل القرظي فأسلم رفاعة وله صحبة. وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما، وكانت خيل المسلمين يومئذ ستة وثلاثين فارسا، ووقع في سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بني عمرو بن قريظة فلم تزل في ملكه حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فتح بني قريظة آخر ذي القعدة من السنة الرابعة. ولما ثم أمرهم أجيبت دعوة سعد بن معاذ فانفجر عرقه ومات فكان ممن استشهد يوم الخندق في سبعة آخرين من الأنصار، وأصيب من المشركين يوم الخندق أربعة من قريش فيهم: عمرو بن عبد ودّ وابنه حسل ونوفل بن عبد الله بن المغيرة [3] ، ولم تغز كفّار قريش المسلمين مذ يوم الخندق. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة فقصد بني لحيان يطالب بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن عديّ وأهل الرجيع، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل، فسلك على طريق الشام أوّلا ثم أخذ ذات اليسار إلى صخيرات اليمام، ثم رجع إلى طريق مكة وأجدّ السير حتى نزل منازل لبني بين أمج وعسفان فوجدهم قد حذروا وامتنعوا بالجبال، وفاتتهم الغرّة فيهم فخرج في مائتي راكب إلى المدينة.   [1] وفي نسخة ثانية: خلال. [2] وفي نسخة ثانية: اثبت. [3] وفي نسخة ثانية: المريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 غزوة الغابة وذي قرد وبعد قفوله والمسلمين إلى المدينة بليال أغار عيينة بن حصن الفزاري في بني عبد الله من غطفان فاستلحموا [1] القاح النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغابة، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأته فقتلوا الرجل وحملوا المرأة، ونذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان ناهضا، فعلا ثنية الوداع وصاح بأعلى صوته نذيرا بهم، ثم اتبعهم واستنقذ ما كان بأيديهم، ولما وقعت الصيحة بالمدينة ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم، ولحق به المقداد بن الأسود وعباد [2] بن بشر وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل. وعكاشة بن محصن ومحرز بن نضلة الأسديّ وأبو قتادة من بني سلمة في جماعة من المهاجرين والأنصار، وأمرّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد وانطلقوا في اتباعهم حتى أدركوهم، فكانت بينهم جولة قتل فيها محرز بن نضلة قتله عبد الرحمن بن عيينة وكان أوّل من لحق بهم. ثم ولّى المشركون منهزمين وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء يقال له ذو قرد، فأقام عليه ليلة ويومها [3] ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة ثم قفل إلى المدينة. غزاة بني المصطلق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شعبان من هذه السنة السادسة، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة لما بلغه أنهم مجتمعون له وقائدهم الحرث بن أبي ضرار أبو جويرية [4] أمّ المؤمنين، فخرج إليهم واستخلف أبا ذرّ الغفاريّ، وقيل نميلة بن عبد الله الليثي ولقيهم بالمريسيع [5] من مياههم ما بين قديد والساحل فتزاحفوا وهزمهم الله وقتل من قتل منهم وسبي النساء والذرية وكانت منهم جويرية بنت الحرث سيدهم، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، وأدّى عليه السلام عنها وأعتقها وتزوّجها. وأصيب في هذه الغزاة هشام بن صبابة الليثي من بني ليث بن بكر قتله رجل من رهط عبادة بن الصامت غلطا يظنه من العدوّ، وفي مرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذه الغزاة، وفيها قال عبد الله بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل لمشاجرة وقعت بين جهجاه بن   [1] وفي النسخة الباريسية: فاكتسحوا. [2] وفي النسخة الباريسية: عباس. [3] وفي نسخة ثانية: ويومين. [4] وفي النسخة الباريسية: جويرة. [5] وفي نسخة ثانية: بالمريسع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 مسعود الغفّاريّ أجير عمر بن الخطاب وبين سنان ابن واقد [1] الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج، فتثاوروا [2] وتباهوا، فقال ما قال: وسمع زيد بن أرقم مقالته، وبلغها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونزلت سورة المنافقين وتبرأ منه ابنه عبد الله، وقال: يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل وإن شئت والله أخرجته. ثم اعترض أباه عند المدينة، وقال: والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له، وحينئذ دخل، وقال يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي وإني أخشى أن تأمر غيري فلا تدعني نفسي أن أقاتله، وإن قتلته قتلت مؤمنا بكافر، ولكن مرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه. فجزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا وأخبره أنه لا يصل إلى أبيه سوء. وفيها قال أهل الافك ما قالوا في شأن عائشة مما لا حاجة بنا إلى ذكره وهو معروف في كتب السير، وقد أنزل الله القرآن الحكيم ببراءتها وتشريفها. وقد وقع في الصحيح أنّ مراجعته وقعت في ذلك بين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وهو وهم ينبغي التنبيه عليه، لأن سعد بن معاذ مات بعد فتح بني قريظة بلا شك داخل السنة الرابعة وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة بعد عشرين شهرا من موت سعد، والملاحاة بين الرجلين كانت بعد غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة. والّذي ذكر ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وغيره أنّ المقاول لسعد بن عبادة إنما هو أسيد بن الحضير [3] والله أعلم. ولما علم المسلمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج جويرية، أعتقوا كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق أصهار [4] رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق بسببها مائة من أهل بيتها، ثم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بعامين الوليد بن عقبة بن أبي معيط لقبض صدقاتهم، فخرجوا يتلقونه، فخافهم على نفسه ورجع، وأخبر أنهم هموا بقتله. فتشاور المسلمون في غدرهم ثم جاء وفدهم منكرين ما كان من رجوع الوليد قبل لقيهم، وأنهم إنما خرجوا تلقية   [1] وفي النسخة الباريسية: بن وفد. [2] وفي النسخة الباريسية: فتشاوروا. [3] وفي نسخة ثانية: ابن الحضي. [4] وفي النسخة الباريسية: لصهر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وكرامة وروده. فقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ونزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ 49: 6 الآية. عمرة الحديبيّة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السادسة وفي ذي القعدة منها معتمرا بعد بني المصطلق بشهرين، واستنفر الأعراب حوالي المدينة فأبطأ أكثرهم فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار، واتبعه من العرب فيما بين الثلاثمائة بعد الألف إلى الخمسمائة، وساق الهدي وأحرم من المدينة ليعلم الناس أنه لا يريد حربا. وبلغ ذلك قريشا فأجمعوا على صدّه عن البيت وقتاله دونها، وقدّموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم، وورد خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، فسلك على ثنية المرار حتى نزل الحديبيّة من أسفل مكة وجاء من ورائهم، فكر خالد في خيله إلى مكّة. فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى مكة بركت ناقته، فقال الناس خلأت، فقال: ما خلأت وما ذاك لها بخلق [1] ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل واشتكى الناس فقد الماء فأعطاهم سهما من كنانته غرزوه في بعض القلب [2] من الوادي، فجاش الماء حتى كفى جميع الجيش، يقال نزل به البراء بن عازب. ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفّار قريش، وبعث عثمان بن عفّان بينهما رسولا، وشاع الخبر أنّ المشركين قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وجلس تحت شجرة فبايعوه على الموت وأن لا يفرّوا، وهي بيعة الرضوان، وضرب عليه السلام بيسراه على يمينه وقال هذه عن عثمان. ثم كان سهيل ابن عمرو آخر من جاء من قريش فقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصرف عامه ذلك ويأتي من قابل معتمرا ويدخل مكّة وأصحابه بلا سلاح حاشا السيوف في القرب، فيقيم بها ثلاثا ولا يزيد، وعلى أن يتّصل الصلح عشرة أعوام يتداخل فيه الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أنّ من هاجر من الكفّار إلى المسلمين من رجل أو امرأة أنّ يرد إلى قومه ومن ارتدّ من المسلمين إليهم لم يردوه.   [1] وفي نسخة ثانية: وما هو لها بخلق. [2] وفي نسخة ثانية: بعض القلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 فعظم ذلك على المسلمين حتى تكلم فيه بعضهم، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم علم أنّ هذا الصلح سبب لأمن الناس وظهور الإسلام، وأنّ الله يجعل فيه فرجا للمسلمين وهو أعلم بما علمه ربه. وكتب الصحيفة عليّ، وكتب في صدرها هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبي سهيل عن ذلك وقال لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا أن يمحوها، فأبى وتناول هو الصحيفة بيده ومحا ذلك وكتب محمد بن عبد الله. ولا يقع في ذهنك من أمر هذه الكتابة ريب فإنّها قد ثبتت في الصحيح، وما يعترض في الوهم من أنّ كتابته قادحة في المعجزة فهو باطل، لأنّ هذه الكتابة إذا وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف ولا قوانين الخطّ وأشكالها بقيت الأمية على ما كانت عليه، وكانت هذه الكتابة الخاصة من إحدى المعجزات انتهى. ثم أتى أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده وكان قد أسلم، فقال سهيل: هذا أوّل ما نقاضي عليه. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه وعظيم ذلك على المسلمين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل أنّ الله سيجعل له فرجا، وبينما هم يكتبون الكتاب إذ جاءت سرية من جهة قريش قيل ما بين الثلاثين والأربعين يريدون الإيقاع بالمسلمين، فأخذتهم خيول المسلمين وجاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم فإليهم ينسب العتقيون [1] . ولما تم الصلح وكتابه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا ويحلقوا فتوقفوا، فغضب حتى شكى إلى زوجته أم سلمة فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج وانحر واحلق فإنّهم تابعوك [2] . فخرج ونحر وحلق رأسه حينئذ خراش بن أمية الخزاعي، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وما فتح من قبله فتح كان أعظم من هذا الفتح. قال الزهري: لما كان القتال حيث لا يلتقي الناس [3] . فلمّا كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا فالتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام أحدا يفعل شيئا إلّا دخل عليه [4] ، فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثلما قبل ذلك أو أكثر.   [1] وفي نسخة ثانية: العتيقيون. [2] وفي نسخة ثانية: متابعوك. [3] وفي النسخة الباريسية: إنما كان القتال حيث يبتغي الناس. [4] وفي نسخة ثانية: دخل فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لحقه أبو بصير [1] عتبة بن أسيد بن جارية [2] هاربا وكان قد أسلم وحبسه قومه بمكة وهو ثقفي من حلفاء بني زهرة، فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف عمّ عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق سيد بني زهرة رجلا من بني عامر بن لؤيّ مع مولى لهم، فأسلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم فاحتملاه. فلما نزلوا بذي الحليفة أخذ أبو بصير السيف من أحد الرجلين، ثم ضرب به العامري فقتله وفرّ الآخر، وأتى أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد وفت ذمتك وأطلقني الله فقال عليه السلام: ويلمه [3] مسعر حرب لو كان له رجال. ففطن أبو بصير من لحن هذا القول أنه سيرده، وخرج إلى سيف البحر على طريق قريش إلى الشام، وانضاف إليه جمهور من يفرّ عن قريش ممن أراد الإسلام فآذوا قريشا وقطعوا على رفاقهم وسابلتهم، فكتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضمهم بالمدينة. ثم هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وجاء فيها أخواها عمارة والوليد، فمنع الله من ردّ النساء وفسخ ذلك الشرط المكتتب، ثم نسخت براءة ذلك كلّه وحرم الله حينئذ على المسلمين إمساك الكوافر في عصمتهم فانفسخ نكاحهن. إرسال الرسل الى الملوك ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين الحديبيّة ووفاته رجالا من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم دعاة إلى الله عزّ وجل، فبعث سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ أخا بني عامر بن لؤيّ إلى هوذة [4] بن عليّ صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر ابن ساوى أخي بني عبد القيس صاحب البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي [5] بن عامر بن جلندي صاحب عمان، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية فأدّى إليه كتاب رسول الله   [1] وفي النسخة الباريسية: أبو نصر. [2] وفي نسخة ثانية: ابن حارثة. [3] أصله: ويل أمه أهـ. [4] وفي النسخة الباريسية: هدوة. [5] وفي النسخة الباريسية: الى جبير بن خليد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 صلى الله عليه وسلم وأهدى المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار منهن مارية أم إبراهيم ابنه. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبيّ إلى قيصر وهو هرقل ملك الروم، فوصل إلى بصرى وبعثه صاحب بصرى إلى هرقل، وكان يرى في ملاحمهم أنّ ملك الختان قد ظهر، فقرأ الكتاب وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم [1] الروم السلام على من اتبع الهدى. أمّا بعد أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيّين. وفي رواية «إثم الأكّارين عليك تعيا بجمله» . فطلب من في مملكته من قوم النبي صلى الله عليه وسلم فأحضروا له من غزّة، وكان فيهم أبو سفيان فسأله كما وقع في الصحيح، فأجابه وسلم [2] أحواله وتفرّس صحة أمره، وعرض على الروم أتباعه فأبوا ونفروا فلاطفهم بالقول وأقصر. ويروى عن ابن إسحاق أنه عرض عليهم الجزية، فأبوا فعرض عليهم أن يصالحوا بأرض سورية. قالوا وهي أرض فلسطين والأردن ودمشق وحمص وما دون الدرب وما كان وراء الدرب فهو الشام فأبوا. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي أخا بني أسد بن خزيمة إلى الحرث بن شمر الغساني صاحب دمشق، وكتب معه: «السلام على من اتبع الهدى وآمن به أدعوك إلى أن تؤمن باللَّه وحده لا شريك له يبقى لك ملكك» . فلما قرأ الكتاب قال: من ينزع ملكي أنا سائر إليه. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: باد ملكه. قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشيّ الأصحم عظيم الحبشة، سلام عليك فاني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الطيبة البتول الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فاني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ومعه نفر   [1] وفي النسخة الباريسية: ملك الروم. [2] وفي نسخة أخرى: وعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 من المسلمين فإذا جاءوك قاقرهم ودع التجري وإني أدعوك وجنودك إلى الله فلقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي والسلام على من اتبع الهدي» . فكتب إليه النجاشيّ «إلى محمد رسول الله من النجاشيّ الأصحم ابن الحرّ [1] سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته أحمد الله الّذي لا إله إلّا هو الّذي هدانا للإسلام أمّا بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فما ذكرت من أمر عيسى فو ربّ السماء والأرض ما نزيد بالرأي على ما ذكرت أنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا فقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت للَّه رب العالمين وقد بعثت إليك بابني أرخا [2] الأصحم فإنّي لا أملك إلّا نفسي إن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإنّي أشهد أنّ الّذي تقول حق والسلام عليك يا رسول الله» . فذكر أنه بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة فغرقت بهم. (وقد جاء) أنه أرسل إلى النجاشي [3] ليزوّجه أم حبيبة، وبعث إليها بالخطبة جاريته فأعطتها أوضاحا وفتخا ووكلت خالد بن سعيد بن العاص فزوّجها، ودفع النجاشي إلى خالد بن سعيد أربعمائة دينار لصداقها، وجاءت إليها بها الجارية فأعطتها منها خمسين مثقالا، فردت الجارية ذلك بأمر النجاشي. وكانت الجارية صاحبة دهنه وثيابه وبعث إليها نساء النجاشي بما عندهن من عود وعنبر وأركبها في سفينتين مع بقية المهاجرين، فلقوا النّبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وبلغ أبا سفيان تزويج أم حبيبة منه فقال: ذلك الفحل الّذي لا يقدع أنفه. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة إلى كسرى، وبعث بالكتاب عبد الله بن حذافة السهميّ وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن باللَّه ورسله أمّا بعد فإنّي رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيّا أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس.» فمزّق كسرى كتاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مزّق الله ملكه. وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله «وآمن باللَّه ورسله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن الجر. [2] وفي النسخة الباريسية: أرعاز. [3] وفي النسخة الباريسية: وعن الواقدي انه أرسل الى النجاشي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين فإن أبيت فإثم الأريسيين عليك:» قال فلما قرأه مزّقه، وقال يكتب إليّ هذا وهو عبدي! قال: ثم كتب كسرى إلى باذان وهو عامله على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الّذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني، به فبعث باذان قهرمانه بانويه وكان حاسبا كاتبا بكتاب فارس ومعه خرخسرة من الفرس، وكتب إليه معهما أن ينصرف إلى كسرى، وقال لقهرمانه: اختبر الرجل وعرّفني بأمره. وأوّل ما قدما الطائف سألا عنه فقيل هو بالمدينة. وفرح من سمع بذلك من قريش وكانوا بالطائف، وقالوا قطب له كسرى وقد كفيتموه. وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فكلمه بانويه [1] وقال: إنّ شاهنشاه قد كتب إلى الملك باذان أنّ يبعث إليك من يأتيه بك وبعثني لتنطلق معي ويكتب معه فينفعك وإن أبيت فهو من علمت ويهلك قومك ويخرب بلادك. وكانا قد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالا: أمرنا به ربّنا يعنون به كسرى. فقال لهما: لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي لم أؤخرهما إلى غد. وجاءه الوحي بأنّ الله سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله [2] ليلة كذا من شهر كذا لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، فدعاهما وأخبرهما فقالا: هل تدري ما تقول؟ يحزنانه عاقبة هذا القول، فقال اذهبا وأخبراه بذلك عني وقولا له إنّ ديني وسلطاني يبلغ ما بلغ ملك كسرى وإن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك من الأنباء، وأعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب وفضة كان بعض الملوك أهداها له. فقدما على باذان وأخبراه فقال ما هذا كلام ملك ما أرى الرجل إلّا نبيا كما يقول ونحن ننتظر مقالته. فلم ينشب [3] بأذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: «أما بعد فإنّي قد قتلت كسرى ولم أقتله إلّا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتسخيرهم في ثغورهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك وانظر الرجل الّذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه» . فلمّا بلغ باذان الكتاب وأسلمت الأبناء معه من فارس ممن كان منهم باليمن، وكانت حمير تسمي خرخسرة ذا المفخرة للمنطقة التي   [1] وفي النسخة الباريسية: أبو بويه. [2] وفي نسخة ثانية: يسلّط على كسرى ابنه شيرويه فيقتله. [3] اي لم يلبث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 أعطاه إياها النّبي صلى الله عليه وسلم والمنطقة بلسانهم المفخرة، وقد كان بانويه قال لباذان ما كلمت رجلا قط أهيب عندي منه، فقال: هل معه شرط؟ قال: لا (قال الواقدي) وكتب إلى المقوقس عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم. غزوة خيبر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا إلى خيبر في بقية المحرم آخر السنة السادسة [1] وهو في ألف وأربعمائة راجل ومائتي فارس، واستخلف نميلة بن عبد الله الليثي، وأعطى راية لعليّ بن أبي طالب، وسلك على الصهباء حتى نزل بواديها إلى الرجيع، فحيل بينهم وبين غطفان وقد كانوا أرادوا إمداد يهود خيبر، فلما خرجوا ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب لحس سمعوه من ورائهم فانصرفوا وأقاموا في أماكنهم. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح حصون خيبر حصنا حصنا فافتتح أوّلا منها حصن ناعم، وألقيت على محمود بن سلمة من أعلاه رحى فقتلته. ثم افتتح القموص حصن ابن أبي الحقيق، وأصيبت منهم سبايا كانت منهنّ صفية بنت حييّ ابن أخطب، وكانت عروسا عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فوهبها عليه السلام لدحية، ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس ووضعها عند أمّ سلمة حتى اعتدّت وأسلمت ثم أعتقها وتزوّجها. ثم فتح حصن الصعب بن معاذ، ولم يكن بخيبر أكثر طعاما وودكا منه. وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم حصرهما بضع عشرة ليلة. ودفع إلى عليّ الراية في حصار بعض حصونهم ففتحه، وكان أرمد فتفل في عينه صلى الله عليه وسلم فبرأ. وكان فتح بعض خيبر عنوة وبعضها وهو الأكثر صلحا على الجلاء، فقسّمها صلى الله عليه وسلم وأقر اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم النصف من كل ما تخرج من زرع أو تمر يقرّهم على ذلك ما بدا له، فبقوا على ذلك الى آخر خلافة عمر فبلغه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الّذي مات فيه: «لا يبقى دينان بأرض العرب، فأمر باجلائهم عن خيبر وغيرها من بلاد العرب» . وأخذ المسلمون ضياعهم من مغانم خيبر فتصرّفوا فيها، وكان متولي قسمتها بين أصحابها جابر بن صخر من بني   [1] هذا منقول عن مالك بناء على ان ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع وعلى المشهور محرم هو أول سنة سبع كما في المواهب- قاله نصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 سلمة، وزيد بن ثابت [1] من بني النجار، واستشهد من المسلمين جماعة تنيف على العشرين من المهاجرين والأنصار منهم عامر بن الأكوع وغيره. وفي هذه الغزاة حرّمت لحوم الحمر الأهلية فاكفئت القدور وهي تفور بلحمها. وفيها أهدت اليهودية زينب بنت الحرث امرأة سلام بن مشكم [2] إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، وجعلت السمّ في الذراع منها وكان أحب اللحم إليه، فتناوله ولاك منه مضغة ثم لفظها، وقال: إنّ هذا العظم يخبرني أنه مسموم، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور وازدرد لقمته فمات منها. ثم دعا باليهودية فاعترفت ولم يقتلها لإسلامها حينئذ على ما قيل، ويقال إنه دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها. قدوم مهاجرة الحبشة: وكان مهاجرة الحبشة قد جاء جماعة منهم [3] إلى مكة قبل الهجرة حين سمعوا بإسلام قريش ثم هاجروا إلى المدينة، وجاء آخرون منهم قبل خيبر بسنتين، ثم جاء بقيتهم إثر فتح خيبر. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشي في شأنهم ليقدمهم عليه، فقدم جعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس وبنوهما عبد الله ومحمد وعون، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية وامرأته أمينة بنت خلف وابناهما سعيد، وأمّ خالد وعمرو بن سعيد بن العاص، ومعيف [4] بن أبي فاطمة حليف أبي سعيد بن العاص ولي بيت المال لعمر، وأبو موسى الأشعري حليف آل عتبة بن ربيعة والأسود بن نوفل بن خويلد ابن أخى خديجة-، وجهم بن قيس بن شرحبيل بن عبد الدار وابناه عمر وخزيمة، والحرث بن خالد بن صخر بن تميم، وعثمان بن ربيعة بن أهبان من بني جمح، ومحنية بن حذاء [5] الزبيدي حليف بني سهم ولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأخماس، ومعمر بن عبد الله بن نضلة من بني عدي، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عامر بن لؤيّ، وأبي عمرو مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس، فكان هؤلاء آخر من بقي بأرض الحبشة. ولما قدم جعفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم   [1] وفي نسخة أخرى: زيد بن سلمة. [2] وفي النسخة الباريسية: سلام بن مكثم. [3] وفي النسخة الباريسية: قد جاء من جاء منهم. [4] وفي نسخة اخرى: معيقب. [5] وفي نسخة اخرى: جون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 يوم فتح خيبر قبل ما بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟! فتح فدك ووادي القرى ولما اتصل بأهل فدك شأن أهل خيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه الأمان على أن يتركوا الأموال، فأجابهم إلى ذلك فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يقسمها ووضعها حيث أمره الله. ثم انصرف عن خيبر إلى وادي القرى فافتتحها عنوة وقسمها، وقتل بها غلامه مدغما، قال فيه لما شهد له الناس بالجنة: كلا إنّ [1] الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم قبل القسم لتشتعل عليه نارا ثم رحل إلى المدينة في شهر صفر. عمرة القضاء وأقام صلى الله عليه وسلم بعد خيبر إلى انقضاء شوال من السنة السابعة ثم خرج في ذي القعدة لقضاء العمرة التي عاهده عليها قريش يوم الحديبيّة وعقد لها الصلح، وخرج ملأ من قريش عن مكة عداوة للَّه ولرسوله وكرها في لقائه، فقضى عمرته وتزوّج بعد إحلاله بميمونة بنت الحرث من بني هلال بن عامر [2] خالة ابن عباس وخالد بن الوليد، وأراد أن يبني بها، وقد تمت الثلاث التي عاهده قريش على المقام بها وأوصوا إليه بالخروج وأعجلوه عن ذلك، فبنى بها بسرف. غزوة جيش الأمراء وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من عمرة القضاء إلى جمادى الأولى من السنة الثامنة ثم بعث الأمراء إلى الشام، وقد كان أسلم قبل ذلك عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة وهم من كبراء قريش. وقد كان عمرو بن العاص مضى عن قريش إلى النجاشي يطلبه في المهاجرين الذين عنده، ولقي هنالك عمرو بن أمية الضمريّ وافد النبي صلى الله عليه وسلّم، فغضب   [1] وفي نسخة اخرى: كلاله. [2] وفي نسخة اخرى: بن علي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 النجاشي لما كلمه في ذلك، فوفقه الله ورئي [1] الحق فأسلم وكتم إسلامه، ورجع إلى قريش ولقي خالد بن الوليد فأخبره فتفاوضا، ثم هاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلما. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا مع بعث الشام وأمّر على الجيش مولاه زيد بن حارثة وكانوا نحوا من ثلاثة آلاف، وقال إن أصابه قدر فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن أصابه قدر فالأمير عبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه أميرا عليهم. وشيعهم صلى الله عليه وسلم وودّعهم، ونهضوا حتى انتهوا إلى معان من أرض الشام، فأتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم قد نزل مؤاب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ومائة ألف من نصارى العرب البادين هنالك من لخم وجذام وقبائل قضاعة من بهرا وبلي والقيس وعليهم مالك بن زاحلة من بني أراشة. فأقام المسلمون في معان ليلتين يتشاورون في الكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظار أمره ومدده، ثم قال لهم عبد الله بن رواحة أنتم إنما خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة إلّا بهذا الدين الّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا إلى [2] جموع هرقل عند قرية مؤتة ورتبوا الميمنة والميسرة، واقتتلوا فقتل زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح والراية في يده، فأخذها جعفر بن أبي طالب وعقر فرسه ثم قاتل حتى قطعت يمينه فأخذها بيساره فقطعت فقتل كذلك وكان ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأخذها عبد الله بن رواحة وتردّد عن النزول بعض الشيء ثم صمم إلى العدوّ فقاتل حتى قتل. فأخذ الراية ثابت بن أفرم [3] من بني العجلان وناولها لخالد بن الوليد فانحاز بالمسلمين، وأنذر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء الأمراء قبل ورود الخبر وفي يوم قتلهم، واستشهد مع الأمراء جماعة من المسلمين يزيدون على الشعرة أكرمهم الله بالشهادة، ورجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحزنه موت جعفر ولقيهم خارج المدينة وحمل عبد الله بن جعفر بين يديه على دابته وهو صبي وبكى عليه واستغفر له وقال: أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة، فسمي ذا الجناحين.   [1] وفي نسخة اخرى: رأى. [2] وفي احدى النسخ: فانطلقوا فهي احدى الحسنيين إمّا ظهوره وإما شهادتنا موافقوه ونهضوا الى تخوم البلقاء فلقوا جموع هرقل. [3] وفي النسخة الباريسية: ثابت بن أرقم وفي نسخة اخرى: ثابت بن أقرن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 فتح مكة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد الصلح بينه وبين قريش في الحديبيّة أدخل خزاعة في عقده المؤمن منهم والكافر، وأدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة في عقدها وكانت بينهم تراث في الجاهلية ودخول كان فيها الأوّل للأسود بن رزن [1] من بني الدئل بن بكر بن عبد مناة وثارهم [2] عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحضرميّ، وكانوا قد عدوا [3] على رجل من خزاعة فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم، وعدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن فقتلوهم وهم أشراف بني كنانة، وجاء الإسلام فاشتغل الناس به ونسوا أمر هذه الدماء، فلمّا انعقد هذا الصلح من الحديبيّة وأمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الدئل هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة بقتلهم بني الأسود بن رزن، وخرج نوفل بن معاوية الدّؤلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة وليس كلهم تابعه، وخرج معه بعضهم وخرجوا منهم وانحجزوا في دور مكة ودخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ورجع بنو بكر وقد انتقض العهد فركب بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة وقريش، فأجاب صلى الله عليه وسلم صريخهم وأخبرهم: بأنّ أبا سفيان يأتي يشدّ العقد ويزيد في المدّة وأنه يرجع بغير حاجة وكان ذلك سببا للفتح وندم قريش على ما فعلوا، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد ويزيد في المدّة، ولقي بديل بن ورقاء بعسفان فكتمه الخبر وورّى له عن وجهه، وأتى أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فطوت دونه فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالت لا يجلس عليه مشرك، فقال لها قد أصابك بعدي شرّيا بنية. ثم أتى المسجد وكلّمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فذهب إلى أبي بكر وكلمه أن يتكلم في ذلك فأبى، فلقي عمر فقال: والله لو لم أجد إلا الذرّ لجاهدتكم به، فدخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة وابنه الحسن صبيّا   [1] وفي نسخة اخرى: بن رزق. [2] وفي النسخة الباريسية: دم عند خزاعة. [3] وفي نسخة أخرى: عقدوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 فكلمه فيما أتى له فقال عليّ: ما نستطيع أن نكلمه في أمر عزم عليه، فقال لفاطمة يا بنت محمد أما تأمري [1] ابنك هذا ليجير بين الناس فقالت لا يجير أحد على رسول الله، فقال له عليّ يا أبا سفيان أنت سيد بني كنانة فقم وأجر وارجع إلى أرضك، فقال ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: ما أظنه ولكن لا أجد لك سواه. فقام أبو سفيان في المسجد فنادى: ألا إني قد أجرت بين الناس ثم ذهب إلى مكة وأخبر قريشا، فقالوا ما جئت بشيء وما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك. ثم أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سائر إلى مكة، وأمر الناس بأن يتجهزوا، ودعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش، وكتب إليهم حاطب بن أبي بلتعة بالخبر مع ظعينة قاصدة إلى مكة، فأوحى الله، إليه بذلك فبعث عليّا والزبير والمقداد إلى. الظعينة فأدركوها بروضة خاخ وفتشوا رحلها فلم يجدوا شيئا، وقالوا: رسول الله أصدق، فقال عليّ: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الحوائج، فأخرجته من بين قرون رأسها. فلما قرئ على النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ما هذا يا حاطب؟ فقال يا رسول الله والله ما شككت في الإسلام ولكني ملصق في قريش فأردت عندهم يدا يحفظوني [2] بها في مخلف أهلي وولدي، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم. وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف فيهم: من سليم ألف رجل وقيل سبعمائة، ومن مزينة ألف، ومن غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، وطوائف من قريش وأسد وتميم وغيرهم، ومن سائر القبائل جموع وكتائب الله من المهاجرين والأنصار. واستخلف أبا رهم الغفاريّ على المدينة، ولقيه العبّاس بذي الحليفة وقيل بالجحفة مهاجرا، فبعث رحله إلى المدينة وانصرف معه غازيا، ولقيه بنيق [3] العقاب أبو سفيان بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية مهاجرين واستأذنا فلم يؤذن لهما، وكلمته أم سلمة فأذن لهما، وأسلما فسار حتى نزل مرّ الظهران، وقد طوى الله أخباره عن قريش إلّا أنهم يتوجسون الخيفة.   [1] الأصح ان يقول: اما تأمرين. [2] الأصح ان يقول: يحفظونني. [3] وفي نسخة أخرى: بشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وخشي العبّاس تلافي قريش إن فاجأهم الجيش قبل ان يستأمنوا، فركب بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم وذهب يتجسس، وقد خرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم ابن حزام يتحسسون الخبر، وبينما العبّاس قد أتى الأراك ليلقى من السابلة من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل وقد أبصرا نيران العساكر، فيقول بديل: نيران بني خزاعة، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. فقال العبّاس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس والله إن ظفر بك ليقتلنك واصباح قريش فارتدف خلفي. ونهض به إلى المعسكر ومر بعمر فخرج يشتدّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحمد للَّه الّذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فسبقه العبّاس على البغلة ودخل على أثره فقال: يا رسول الله هذا عدوّ الله أبو سفيان أمكن الله منه بلا عهد فدعني أضرب عنقه، فقال العبّاس: قد أجرته فزأره عمر، فقال العباس: لو كان من بني عديّ ما قلت هذا ولكنه من عبد مناف، فقال عمر: والله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطّاب لأني أعرف أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العبّاس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، فلما أتى به قال له صلى الله عليه وسلم: ألم يأن لك أن تعلم أنّ لا إله إلّا الله؟ فقال بأي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا، فقال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال أبي أنت وأمي ما أحملك وأكرمك وأوصلك امّا هذه ففي النفس منها شيء [1] . فقال له العبّاس: ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم. فقال العبّاس: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا. قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. ثم أمر العبّاس أن يوقف أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جنود الله ففعل ذلك، ومرّت به القبائل قبيلة قبيلة، إلى أن جاء مركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، عليهم الدروع البيض، فقال من هؤلاء؟ فقال العبّاس: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما: فقال: يا أبا سفيان إنها النبوّة، فقال: هي إذا! فقال له العبّاس: النجاء إلى قومك. فأتى مكة   [1] وفي نسخة اخرى: في النفس منها حتى الآن شيئا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وأخبرهم بما أحاط بهم وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه. ورتب الجيش وأعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر عليّا ان يأخذ الراية منه، ويقال أمر الزبير. وكان على الميمنة خالد بن الوليد وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وعلى الميسرة الزبير، وعلى المقدّمة أبو عبيدة بن الجرّاح. وسرّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من ذي طوى، وأمرهم بالدخول إلى مكة: الزبير من أعلاها، وخالد من أسفلها، وأن يقاتلوا من تعرض لهم. وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو قد جمعوا للقتال، فناوشهم أصحاب خالد القتال، واستشهد من المسلمين كرز بن جابر من بني محارب، وخنيس بن خالد من خزاعة، وسلمة بن جهينة، وانهزم المشركون وقتل منهم ثلاثة عشر وأمّن النبيّ صلى الله عليه وسلم سائر الناس. وكان الفتح لعشر بقين من رمضان، وأهدر دم جماعة من المشركين سمّاهم يومئذ منهم: عبد العزّى بن خطل من بني تميم، والأدرم بن غالب كان قد أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ومعه رجل من المشركين فقتله وارتدّ ولحق بمكّة وتعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن حريث المخزومي وابو برزة الأسلميّ. ومنهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ ولحق بمكة ونميت عنه أقوال، فاختفى يوم الفتح وأتى به عثمان بن عفّان وهو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمّنه، فلما خرج قال لأصحابه هلّا ضربتم عنقه، فقال له بعض الأنصار هلا أومأت إليّ، فقال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ولم يظهر بعد إسلامه إلّا خير وصلاح واستعمله عمر وعثمان. ومنهم الحويرث بن نفيل [1] من بني عبد قصيّ كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح. ومنهم مقيس بن صبابة كان هاجر في غزوة الخندق ثم عدا على رجل من الأنصار كان قتل أخاه قبل ذلك غلطا ووداه فقتله وفرّ إلى مكّة مرتدّا، فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه. ومنهم قينتا ابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتلت إحداهما   [1] قوله نفيل وفي المواهب نقيد أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 واستؤمن للأخرى فأمنها. ومنهم مولاة لبني عبد المطلب اسمها سارة واستؤمن لها فأمّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستجار رجلان من بني مخزوم بأمّ هانئ بنت أبي طالب يقال إنّهما الحرث بن هشام وزهير بن أبي أميّة أخو أمّ سلمة فأمنتهما، وأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها فأسلما. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالكعبة وأخذ المفتاح من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته، فدخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت فهي في ولد شيبة إلى اليوم. وأمر بكسر الصور داخل الكعبة وخارجها، وبكسر الأصنام حواليها، ومرّ عليها وهي مشدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في يده وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً 17: 81، فما بقي منهم [1] صنم إلا خرّ على وجهه. وأمر بلالا فأذن على ظهر الكعبة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة ثاني يوم الفتح وخطب خطبته المعروفة، ووضع مآثر الجاهلية إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج، وأخبر أنّ مكة لم تحلّ لأحد قبله ولا بعده، وإنما أحلّت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس [2] ، ثم قال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إنّ كل مأثورة أو دم أو مال يدعى في الجاهلية فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج، ألا وإن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيهما الدية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها، يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم خلق من تراب» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ من ذَكَرٍ وَأُنْثى 49: 13» إلى آخر الآية. يا «معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون إني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرا أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وأعتقهم على الإسلام وجلس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة للَّه ولرسوله فيما استطاعوا، ولمّا فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، أمر عمر بن الخطاب أن يبايعهن واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يمس امرأة حلالا ولا حراما.   [1] الأصح ان يقول منها. [2] وفي النسخة الباريسية: ثم أعيدت لحرمتها بالأمس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن واتبعه عمير بن وهب من قومه بأمان النبيّ صلى الله عليه وسلم له فرجع وأنظره أربعة أشهر، وهرب ابن الزبير الشاعر إلى نجران ورجع فأسلم، وهرب هبيرة بن أبي وهب المخزوميّ زوج امّ هانئ إلى اليمن فمات هنالك كافرا. ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة ولم يأمرهم بقتال، وفي جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة فقتل منهم وأخذ ذلك عليه، وبعث إليهم عليّا بمال فودى لهم قتلاهم وردّ عليهم ما أخذ لهم. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا إلى العزّى بيت بنخلة كانت مضر من قريش تعظمه وكنانة وغيرهم، وسدنته بنو شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم فهدمه. ثم ان الأنصار توقفوا إلى أن يقيم صلى الله عليه وسلم داره بعد أن فتحها فأغمهم ذلك وخرجوا له، فخطبهم صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنّ المحيا محياهم والممات مماتهم فسكتوا لذلك واطمأنوا. غزوة حنين وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة خمس عشرة ليلة وهو يقصر الصلاة فبلغه أنّ هوازن وثقيف جمعوا له وهم عامدون إلى مكة وقد نزلوا حنينا، وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يظنون أنه إنما يريدهم، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني النضير [1] ، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن معاوية، وبني سعد بن بكر وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية والأحلاف، وبني مالك بن ثقيف بن بكر، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة ابن خزاعة بن أزية بن جشم رئيسهم وسيدهم شيخ كبير ليس فيه إلا ليؤتم برأيه ومعرفته. وفي ثقيف سيدان ليس لهم في الأحلاف إلّا قارب بن الأسود بن مسعود ابن معتب [2] ، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحرث بن مالك وأخوه أحمر. وجميع أمر النّاس إلى مالك بن عوف. فلمّا أتاهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح مكة أقبلوا عامدين اليه، وأسار   [1] وفي النسخة الباريسية: من بني نصر. [2] وفي النسخة الباريسية: بن مغيث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 مالك مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم يرى أنه أثبت لموقفهم، فنزلوا بأوطاس، فقال دريد بن الصمة لمالك: ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير ويعار الشاء وبكاء الصغير، فقال: أموال الناس وأبناءهم سقنا معهم ليقاتلوا عنها، فقال راعي ضأن: والله وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسلاحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم سأل عن كعب وكلاب وأسف لغيابهم وأنكر على مالك رأيه ذلك، وقال: لم تصنع بتقديم بيضة [1] هوازن إلى نجور الخيل شيئا أرفعهم إلى ممتنع بلادهم، ثم ألق الصبيان على متون الخيل فان كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت لغيرك كنت قد أحرزت [2] أهلك ومالك. وأبى عليه مالك واتبعه هوازن. ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد [3] الأسلمي يستعلم خبر القوم فجاءه وأطلعه على جليّة الخبر وأنّهم قاصدون إليه، فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع وقيل أربعمائة وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح، واستعمل على مكّة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ومضى لوجهه. وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس، والضحاك بن سفيان الكلابيّ، وجموع من عبس وذبيان، ومزينة وبني أسد. ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء، وكان لهم في الجاهلية مثلها يطوف بها الأعراب ويعظمونها ويسمّونها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال لهم: قلتم كما قال قوم موسى اجعل لنا آلها كما لهم آلهة، والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم واجرم من ذلك [4] . ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة أوّل يوم [5] من شوّال من السنة الثامنة وهو وادي حزن [6] ، فتوسطوه في غبش الصبح وقد كمنت هوازن في جانبيه فحملوا   [1] وفي نسخة أخرى: نقيضه. [2] وفي النسخة الباريسية: أجرت. [3] وفي نسخة ثانية: أبي حدود. [4] وفي نسخة ثانية: وزجرهم عن ذلك. [5] قوله أول يوم ولعل الصواب كما في غير هذا الكتاب سادس يوم أهـ. وانتهى الى خيبر عاشره (قاله نصر) . [6] وفي النسخة الباريسية: وادي حروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 على المسلمين حملة رجل واحد، فولّى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا. وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعبّاس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر والفضل وقثم ابنا العبّاس وجماعة سواهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء دلدل والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة قيل وبالمهاجرين، فلمّا سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا فصدّهم ازدحام الناس [1] عن أن يثنوا رواحلهم، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون [2] ، واشتدّت الحرب وحمي الوطيس وقذف الله في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يملكوا أنفسهم، فولّوا منهزمين ولحق آخر الناس وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم واستحرّ [3] القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا في جملتهم: ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة بن الحرث بن حبيب سيداهم، وامّا قارب بن الأسود سيد الأحلاف من ثقيف ففرّ بقومه منذ أوّل الأمر وترك رايته فلم يقتل منهم أحد، ولحق بعضهم بنخلة. وهرب مالك بن عوف النصري مع جماعة من قومه فدخلوا الطائف مع ثقيف، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس [4] واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه، يقال قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن يربوع بن سماك بن عوف بن امرئ القيس. وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فقاتلهم، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة فأخذ أبو موسى الراية وشدّ على قاتل عمه فقتله. وانهزم المشركون واستحرّ [5] القتل في بني رباب من بني نصر بن معاوية، وانفضت جموع أهل هوازن كلها. واستشهد   [1] وفي نسخة ثانية: المنهزمين. [2] وفي النسخة الباريسية: لاحقون. [3] وفي النسخة الباريسية: واستمر. [4] وفي النسخة الباريسية: الى واسط. [5] وفي النسخة الباريسية: وانهزم القوم واستمر القتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 من المسلمين يوم الخميس أربعة منهم أيمن بن أم أيمن أخو أسامة لأمه [1] ، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وسراقة بن الحرث من بني العجلان، وأبو عامر الأشعري. حصار الطائف وغزوة تبوك ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فحبست بالجعرانة بنظر مسعود ابن عمرو الغفاريّ، وسار من فوره إلى الطائف فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة، وقاتلوا من وراء الحصون، وأسلم من كان حولهم من الناس وجاءت وفودهم إليه. وقد كان مرّ في طريقه بحصن مالك بن عوف النصري [2] فأمر بهدمه، ونزل على أطم لبعض ثقيف فتمنع فيه صاحبه فأمر بهدمه فأخرب وتحصنت ثقيف. وقد كان عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من ساداتهم ذهبا إلى جرش يتعلمان صنعة المجانيق والدبابات للحصار لمّا أحسوا من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فلم يشهدا الحصار ولا حنينا قبله، وحاصرهم المسلمون بضع عشرة أو بضعا وعشرين ليلة واستشهد بعضهم بالنبل ورماهم صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق، ودخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا إلى سور الطائف فصبوا عليهم سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا منهم قوما، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم [3] ، ورغب إليه ابن الأسود بن مسعود في ماله وكان بعيدا من الطائف وكفّ عنه، ثم دخل إلى الطائف وتركهم ونزل أبو بكرة فأسلم. واستشهد من المسلمين في حصاره: سعيد بن سعيد بن العاص، وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة أخو أمّ سلمة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي في آخرين قريبا من اثني عشر فيهم أربعة من الأنصار. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة وأتاه هناك وفد هوازن مسلمين راغبين، فخيّرهم بين العيال والأبناء والأموال فاختاروا العيال والأبناء، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون والأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله   [1] وفي النسخة الباريسية: أيمن بن عبيد أخو سلمة لأمه. [2] النصري بالصاد المهملة، كذا في فضائل رمضان للأجهوري، قال وأسلم بعد ذلك أهـ. (قاله نصر) . [3] وفي نسخة اخرى: أعناقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 صلى الله عليه وسلم. وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أن يراد عليهم ما وقع لهما من الفي وساعدهم قومهم [1] ، وامتنع العبّاس بن مرداس كذلك. وخالف بنو سليم وقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تطب نفسه عن نصيبه. وردّ عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم. وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بنى ذكر وأنثى فيهنّ الشيما أخت النبيّ صل يا لله عليه وسلم من الرضاعة وهي بنت الحرث بن عبد العزّى من بني سعد بن بكر من هوازن، وأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسن إليها وخيّرها فاختارت قومها فردّها اليهم. وقسم الأموال بين المسلمين، ثم أعطى من نصيبه من خمس الخمس قوما يستألفهم على الإسلام من قريش وغيرهم، فمنهم من أعطاه مائة مائة، ومنهم خمسين خمسين، ومنهم ما بين ذلك، ويسمّون المؤلفة وهم مذكورون في كتب السير يقاربون الأربعين، منهم أبو سفيان وابنه معاوية وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية ومالك بن عوف وغيرهم، ومنهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر والأقرع بن حابس وهما من أصحاب المائة، وأعطى عبّاس بن مرداس دونهما، فأنشده أبياته المعروفة يتسخط فيها، فقال اقطعوا عني لسانه فأتموا إليه المائة. ولمّا أعطى المؤلفة قلوبهم وجد الأنصار في أنفسهم إذ لم يعطهم مثل ذلك وتكلّم شبانهم مع ما كانوا يظنون أنه إذا فتح الله عليه بلده يرجع إلى قومه ويتركهم، فجمعهم ووعظهم وذكّرهم وقال: «إنما أعطي قوما حديثي عهد بالإسلام أتألفهم عليه، أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاء والبعير وتنصرفوا برسول الله إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الأنصار شعبا وسلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار» فرضوا وافترقوا. ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة الى مكة، ثم رجع الى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة لشهرين ونصف من خروجه، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد شابا ينيف عمره على عشرين، وكان غلبه الورع والزهد فأقام الحج بالمسلمين في سنته وهو أوّل أمير أقام حجّ الإسلام المشركون على مشاعرهم. وخلف بمكة معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن،   [1] وفي نسخة اخرى:، وساعدهما قومهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي [1] من الأزد بعمان مصدقا فأطاعوا له بذلك. واستعمل صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف على من أسلم من قومه ومن سلم منهم وماله حوالي الطائف من ثقيف، وأمره بمغادرة الطائف من التضييق عليهم ففعل حتى جاءوا مسلمين كما يذكر بعد. وحسن إسلام المؤلفة قلوبهم ممن أسلم يوم الفتح أو بعده وإن كانوا متفاوتين في ذلك. ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فأهدر دمه وضاقت به الأرض، وجاء فأسلم وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة بمدحه التي أوّلها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول إلخ. وأعطاه بردة في ثواب مدحه فاشتراها معاوية من ورثته بعد موته وصار الخلفاء يتوارثونها شعارا. ووفد في سنة تسع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بنو أسد فأسلموا وكان منهم ضرار بن الأزور، وقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن يرسل إلينا فنزلت «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا 49: 17» (الآية) . ووفد فيها وفدتين في شهر ربيع الأول ونزلوا على رويفع بن ثابت البلوي. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف في ذي الحجة إلى شهر رجب من السنة التاسعة. ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم: «وكان في غزواته كثيرا ما يوري بغير الجهة التي يقصدها على طريقة الحرب إلا ما كان من هذه الغزاة لعسرها بشدّة الحرب، وبعد البلاد وفصل الفواكه وقلّة الظلال وكثرة العدو الذين يصدّون. وتجهز الناس على ما في أنفسهم من استثقال ذلك، وطفق المنافقون يثبطونهم عن الغزو، وكان نفر منهم يجتمعون في بيت بعض اليهود، فأمر طلحة بن عبيد الله أن يخرّب عليهم البيت فخرّبها [2] . واستأذن ابن قيس من بني سلمة في القعود فأذن له وأعرض عنه، وتدرّب كثير من المسلمين بالإنفاق والحملان وكان من أعظمهم في ذلك عثمان بن عفّان يقال إنه أنفق فيها ألف دينار وحمل على تسعمائة بعير ومائة فرس وجهز ركابا. وجاء بعض المسلمين يستحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد ما يحملهم عليه فنزلوا باكين لذلك، وحمل بعضهم يامين بن عمير النضري وهما أبو ليلى بن كعب من بني مازن بن النجّار وعبد الله بن المغفل المزني. واعتذر المخلفون من الأعراب   [1] وفي نسخة اخرى: الى أهل حنين وعمرو بن الجلندي. [2] وفي النسخة الباريسية: ان يحرق عليهم البيت فحرقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نهض وخلّف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل بل سبّاع بن عرفطة وقيل بل عليّ ابن أبي طالب، وخرج معه عبد الله بن أبي بن سلول في عدد وعدّة، فلما سار صلى الله عليه وسلم تخلّف هو فيمن تخلّف من المنافقين. ومرّ صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فأمر أن لا يستعمل ماؤها ويعلف ما عجن منه للإبل، وأذن لهم في بئر الناقة، وأمر أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلّا باكين، ونهى أنّ يخرج أحد منفردا عن صاحبه، فخرج رجلان من بني ساعدة خنق [1] أحدهما فمسح عليه فشفي، والآخر رمته الريح في جبل طي فردّوه بعد ذلك إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وضلّ صلى الله عليه وسلم ناقته في بعض الطريق، فقال أحد المنافقين محمد يدّعي علم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لا أعلم إلّا ما علّمني الله وأن الناقة بموضع كذا. وكان قد أوحى إليه بها فوجدوها ثم، وكان قائل هذا القول زيد بن اللصيت من بني قينقاع وقيل إنه تاب بعد ذلك. وفضح الوحي قوما من المنافقين كانوا يخذلون الناس ويهوّلون عليهم أمر الروم، فتاب منهم مخشى بن جهير [2] ودعا أن يكفر عنه بشهادة يخفي مكانه فقتل يوم اليمامة. ولمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحينة بن رؤبة صاحب أيلة وأهل جرباء وأذرح فصالحوا على الجزية وكتب لكل كتابا. وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك [3] صاحب دومة الجندل من كندة كان ملكا عليها وكان نصرانيا وأخبر أنه يجده يصيد البقر، واتفق أن بقر الوحوش باتت تهدّ القصر بقرونها فنشط أكيدر لصيدها وخرج ليلا، فوافق وصوله خالدا، فأخذه وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنه وصالحه على الجزية وردّه. وأقام بتبوك عشرين ليلة، ثم انصرف، وكان في طريقه ماء قليل نهى أن يسبق إليه أحد، فسبق رجلان واستنفدا ما فيه فنكر عليهما ذلك، ثم وضع يده تحت وشله فصب ما شاء الله أن يصب ونضح به الوشل [4] ودعا فجاش الماء حتى كفى العسكر.   [1] وفي نسخة اخرى: جن [2] وفي النسخة الباريسية: مخشى بن حمير. [3] وفي النسخة الباريسية: عبد الله. [4] وفي نسخة اخرى: ونضح بالوشل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 ولما قرب المدينة بساعة من نهار أنفذ مالك بن الدخشم من بني سالم ومعن بن عدي من بني العجلان إلى مسجد الضرار، فأحرقاه وهدماه، وقد كان جماعة من المنافقين بنوه وأتوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فسألوه الصلاة فيه، فقال: أنا على سفر ولو قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه. فلمّا رجع أمر بهدمه. وفي هذه الغزاة تخلف كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية بن واقف وكانوا صالحين، فنهى صلى الله عليه وسلم عن كلامهم خمسين يوما، ثم نزلت توبتهم، وكان المتخلفون من غير عذر نيفا وثلاثين رجلا. وكان وصوله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان سنة تسع، وفيه كانت وفادة ثقيف وإسلامهم، ونزل الكثير من سورة براءة في شأن المنافقين وما قالوه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم. إسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم اللات كان صلى الله عليه وسلم لما أفرج عن الطائف وارتحل المدينة اتبعه عروة بن مسعود سيدهم، فأدركه في طريقه وأسلم ورجع يدعو قومه، فرمي بسهم في سطح بيته وهو يؤذن للصلاة فمات، ومنع قومه من الطلب بدمه وقال: هي شهادة ساقها الله إليّ وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين. ثم قدم ابنه أبو المليح وقارب بن الأسود بن مسعود فأسلما، وضيق مالك بن عوف على ثقيف واستباح سرحهم وقطع سابلتهم. وبلغهم رجوع النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك وعلموا أنّ لا طاقة لهم بحرب العرب المسلمين، وفزعوا إلى عبد ياليل بن عمرو بن عمير، فشرط عليهم أن يبعثوا معه رجالا منهم ليحضروا مشهدة خشية على نفسه مما نزل بعروة، فبعثوا معه رجلين من أحلاف قومه وثلاثا من بني مالك، فخرج بهم عبد يا ليل وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة التاسعة يريدون البيعة والإسلام فضرب لهم قبة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي في أمرهم وهو الّذي كتب كتابهم بخطه، وكانوا لا يأكلون طعاما يأتيهم حتى يأكل منه خالد، وسألوه أن يدع لهم اللات ثلاث سنين رغبا لنسائهم وأبنائهم حتى يأنسوا فأبى، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، فسألوه أن لا يكسروا أوثانهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 بأيديهم فقال: أمّا هذه فسنكفيكم منها. فأسلموا وكتب لهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص أصغرهم سنا لأنه كان حريصا على الفقه وتعلم القرآن. ثم رجعوا إلى بلادهم، وخرج معه أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات، وتأخر أبو سفيان حتى دخل المغيرة فتناولها بيده ليهدمها، وقام بنو معتب [1] دونه خشية عليه. ثم جاء أبو سفيان وجمع ما كان لها من الحليّ وقضى منه دين عروة والأسود ابني مسعود كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وقسّم الباقي. الوفود ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وأسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه حتى لقد سميت سنة الوفود. قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل وقادتهم لا ينكرون لهم، وكانت قريش هي التي نصبت لحربه وخلافه. فلمّا استفتحت مكة ودانت قريش ودخلها الإسلام عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحربة وعداوته، فدخلوا في دينه أفواجا يضربون إليه من كل وجه انتهى. فأوّل من قدم إليه بعد تبوك وفد بني تميم وفيه من رءوسهم: عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس من بني دارم بن مالك، والحتات بن زيد [2] ، والأقرع بن حابس، والزّبرقان بن بدر من بني سعد، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم وهما من بني منقر، ونعيم بن زيد ومعهم عيينة بن حصن الفزاريّ. وقد كان الأقرع وعيينة شهدا فتح مكة وخيبر وحصار الطائف، ثم جاءا مع وفد بني تميم، فلمّا دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجرات فنزلت الآيات في إنكار ذلك عليهم. ولمّا خرج قالوا جئنا نفاخرك بخطيبنا وشاعرنا فأذن لهم، فخطب عطار وفاخر ويقال والأقرع بن حابس، ثم أنشد الزبرقان بن بدر شعرا بالمفاخرة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن الشماس من بني الحرث بن الخزرج فخطب وحسّان بن ثابت فأنشد مساجلين لهم، فأذعنوا للخطبة والشعر والسؤدد والحلم، وقالوا: هذا   [1] وفي النسخة الباريسية: بنو مغيث. [2] وفي نسخة اخرى: الحباب بن يزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 الرجل هو مؤيد من الله أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا. ثم أسلموا وأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم جوائزهم. وهذا كان شأنه مع الوفود ينزلهم إذا قدموا ويجهزّهم إذا رحلوا. ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير مع رسولهم ومع الحرث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر. وبعث زرعة بن ذي يزن رسوله مالك بن مرّة الرهاويّ بإسلامهم ومفارقة الشرك، وأهله وكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابه. وبعث إلى ذي يزن معاذ بن جبل مع رسوله مالك بن مرّة يجمع الصدقات، وأوصاهم برسله معاذ وأصحابه. ثم مات عبد الله بن أبي بن سلول في ذي القعدة، ونعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشيّ وأنه مات في رجب قبل تبوك. وقدم وفد بهرا في ثلاثة عشر رجلا ونزلوا على المقداد بن عمرو وجاء بهم فأسلموا وأجازهم وانصرفوا، وقدم وفد بني البكاء ثلاثة نفر منهم. وقدم وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن وابن أخيه الحرّ بن قيس فأسلموا. ووفد عديّ بن حاتم من طي فأسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل تبوك إلى بلاد طي عليّ بن أبي طالب في سريّة فأغار عليهم، وأصيب حاتم وسبيت ابنته وغنم سيفين في بيت أصنامهم كانتا من قربان الحرب بن أبي شمّر، وكان عديّ قد هرب قبل ذلك ولحق ببلاد قضاعة بالشام فرارا من جيوش المسلمين وجوارا لأهل دينه من النصارى وأقام بينهم، ولما سيقت ابنة حاتم جعلت في الحظيرة بباب المسجد التي كانت السبايا تحبس بها، ومرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته أن يمنّ عليها، فقال: قد فعلت ولا تعجلي حتى تجدي ذائقة من قومك يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني، قالت: فأقمت حتى قدم ركب من بني قضاعة وأنا أريد أن آتي أخي بالشام فعرّفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساني وحلني وزوّرني وخرجت معهم فقدمت الشام فلما لقيها عديّ تلاوما ساعة ثم قال لها ماذا ترين في أمري مع هذا الرجال؟ فأشارت عليه باللحاق به فوفد، وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله إلى بيته وأجلسه على وسادته، بعد أن استوقفته في طريقه امرأة فوقف لها، فعلم عديّ أنه ليس بملك وأنه نبي، ثم أخبره عن أخذه المرباع من قومه ولا يحلّ له فازداد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 استبصارا [1] فيه، ثم قال: لعلّه إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم فيوشك ان يفيض المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، أو لعله يمنعك ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة عددهم فو الله ليوشكنّ تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، أو لعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان لغيرهم فيوشك أن تسمع بالقصور البيض من بابل قد فتحت. فأسلم عديّ وانصرف إلى قومه. ثم أنزل الله على نبيّه الأربعين آية من أوّل براءة في نبذ هذا العهد الّذي بينه وبين المشركين أن لا يصدوا عن البيت، ونهوا أن يقرب المسجد الحرام مشرك بعد ذلك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان [2] بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فيتم له إلى مدّته، وأجلّهم أربعة أشهر من يوم النحر. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات أبا بكر وأمّره على إقامة الحج بالموسم من هذه السنة، فبلغ ذا الحليفة فأتبعه بعليّ فأخذها منه، فرجع أبو بكر مشفقا أن يكون نزل فيه قرآن، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: لم ينزل شيء ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني. فسار ابو بكر على الحج وعليّ على الأذان ببراءة، فحج أبو بكر بالناس وهم على حجّ الجاهلية، وقام عليّ عند العقبة يوم الأضحى فأذّن بالآية التي جاء بها. قال الطبريّ وفي هذه السنة فرضت الصدقات لقوله تعالى خُذْ من أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها 9: 103 الآية. وفيها قدم وفد ثعلبة بن سعد [3] ووفد سعد هذيم من قضاعة. قال الطبريّ: وفيها بعث بنو سعد بن بكر ضمّام [4] بن ثعلبة وافدا فاستحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الإسلام، وذكر التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج واحدة واحدة حتى إذا فرغ تشهّد وأسلم، وقال: لاؤديّ هذه الفرائض وأجتنب ما نهيت عنه ثم لا أزيد عليها ولا انقص، فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة، ثم قدم على قومه فأسلموا كلهم يوم قدومه. والّذي عليه الجمهور: أنّ قدوم ضمّام وقصّته كانت سنة خمس.   [1] وفي نسخة ثانية: استبعادا. [2] وفي نسخة الثانية: وإن كان. [3] وفي نسخة ثانية: ثعلبة بن منقذ. [4] وفي نسخة ثانية: ضمضام بن ثعلبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 ثم دخلت سنة عشر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ربيع أو جمادى في سريّة اربعمائة إلى نجران وما حولها يدعو بني الحرث بن كعب إلى الإسلام ويقاتلهم إن لم يفعلوا، فأسلموا وأجابوا داعية، وبعث الرسل [1] في كل وجه فأسلم الناس فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه بأن يقدم مع وفدهم، فأقبل خالد ومعه وفد بني الحرث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو القصة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل [2] وعبد الله بن قراد [3] الزيادي وشدّاد بن عبد الله الضبابي وعمرو بن عبد الله الضبابي، فأكرمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال لهم: بم كنتم تغلبون من يقاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ [4] أحدا بظلم. قال: صدقتم، فأسلموا وأمّر عليهم قيس بن الحصين، ورجعوا صدر ذي القعدة من سنة عشر، ثم أتبعهم عمرو بن حزم [5] من بني النّجار ليفقّههم في الدين ويعلمهم السنة، وكتب إليه كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره بأمره، وأقام عاملاه على نجران. وهذا الكتاب وقع في السير مرويا وأعتمده الفقهاء في الاستدلالات وفيه مآخذ كثيرة للأحكام الفقهية ونصّه: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب [6] من الله ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ 5: 1، عهدا من محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن آمره بتقوى الله في أمره كله فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وآمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يبشّر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلّم الناس القرآن ويفهمهم [7] فيه، وأن ينهي الناس فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر، وان يخبر الناس بالذي لهم والّذي عليهم، ويلين للناس في الحق ويشتدّ عليهم في الظلم فإنّ الله حرّم [8] الظلم ونهى عنه فقال: أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ 11: 18، وأن يبشر الناس بالجنة   [1] وفي النسخة الباريسية: الركبان. [2] وفي النسخة الباريسية: يزيد بن المحجب. [3] وفي نسخة اخرى: عبد الله بن قريض. [4] وفي النسخة الباريسية: ولا ننيل. [5] وفي نسخة اخرى: عمرو بن حزام. [6] وفي النسخة الباريسية: هذا بيان. [7] وفي نسخة اخرى: يفقههم فيه. [8] وفي النسخة الباريسية: كره الظلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وبعملها وينذر الناس بالنار وعملها، ويستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين، ويعلّم الناس معالم الحجّ وسننه وفرائضه وما أمر الله به والحجّ الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة، وينهي الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون واسعا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهي أن يجتبي أحد في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء، وينهي أن يقصّ أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه، وينهي إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا القبائل والعشائر فليعطفوه بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء في وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين وأن يمسحوا برءوسهم كما أمرهم الله، وآمره بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود وأن يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة والمغرب حين يقبل الليل لا يؤخر حتى تبدوا نجوم السماء والعشاء أوّل الليل، وآمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها والغسل عند الرواح إليها، وآمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله، وما كتب على المؤمنين [1] في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين أو سقت السماء وعلى ما سقى الغرب نصف العشر وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياة وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنّها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له، وانه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يردّ عنها وعليه الجزية، على كل حالم [2] ذكرا وأنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا. فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة الله وذمّة رسوله. ومن منع ذلك فإنه عدوّ للَّه ولرسوله وللمؤمنين جميعا صلوات الله عليه محمد والسلام عليه ورحمته وبركاته» . وقدم وفد غسان في رمضان من هذه السنة العاشرة في ثلاثة نفر فأسلموا وانصرفوا إلى قومهم فلم يجيبوا إلى الإسلام فكتموا أمرهم وهلك اثنان منهم ولقي الثالث أبو عبيدة   [1] وفي النسخة الباريسية: على المسلمين. [2] وفي نسخة ثانية: كل محتلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 عامر باليرموك [1] فأخبره بإسلامه. وقدم عليه وفد عامر عشرة نفر فأسلموا وتعلّموا شرائع الإسلام وأقرأهم أبيّ [2] القرآن وانصرفوا. وقدم في شوّال وفد سلامان سبعة نفر رئيسهم حبيب فأسلموا وتعلّموا الفرائض [3] وانصرفوا. وفيما قدم وفد أزدجرش وفد فيهم صرد بن عبد الله الأزدي في عشرة من قومه، ونزلوا على فروة بن عمرو، وأمّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا صردا على من أسلم منهم، وأن يجاهد المشركين حوله. فحاصر جرش ومن بها من خثعم وقبائل اليمن، وكانت مدينة حصينة اجتمع إليها أهل اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين، فحاصرهم شهرا، ثم قفل عنهم فظنوا أنه انهزم فاتبعوه إلى جبل شكر، فصف وحمل عليهم ونال منهم، وكانوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رائدين وأخبرهما ذلك اليوم بواقعة شكر وقال: إنّ بدن الله لتنحر عنده الآن فرجعا إلى قومهما وأخبراهم بذلك وأسلموا وحمى لهم حمى حول قريتهم. وفيها كان إسلام همدان ووفادتهم على يد عليّ رضي الله عنه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فمكث ستة أشهر لا يجيبونه، فبعث عليه السلام علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدا، فلما بلغ عليّ أوائل اليمن جمعوا له فلما لقوة صفّوا فقدّم عليّ الإنذار وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم، وكتب بذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسجد للَّه شكرا، ثم قال: السلام على همدان ثلاث مرّات. ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام وقدمت وفودهم، وكان عمرو بن معديكرب الزبيدي قال لقيس بن مكشوح [4] المرادي: اذهب بنا إلى هذا الرجل فلن يخفى علينا أمره فأبى قيس من ذلك، فقدم عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلم، وكان فروة بن مسيك المراديّ على زبيد لأنه وفد قبل عمرو مفارقا لملوك كندة فأسلم ونزل سعد بن عبادة وتعلم القرآن وفرائض الإسلام واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج كلّها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معه في بلاده حتى كانت الوفاة.   [1] وفي نسخة ثانية: عام اليرموك. [2] وفي نسخة ثانية: النبيّ. [3] وفي نسخة ثانية: القرآن. [4] وفي نسخة ثانية: مكثوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وفي هذه السنة قدم وفد عبد القيس يقدمهم الجارود بن عمرو وكانوا على دين النصرانية، فأسلموا ورجعوا إلى قومهم. ولما كانت الوفاة وارتدّ عبد القيس ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر الّذي يسمّى الغرور ثبت الجارود على الإسلام، وكان له المقام المحمود وهلك قبل أن يراجعوا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرميّ قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبديّ [1] فأسلم وحسن إسلامه، وهلك بعد الوفاة وقبل ردّة أهل البحرين والعلاء أمير عنده لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين. وفي هذه السنة قدم وفد بني حنيفة في سنة عشر فيهم: مسيلمة بن حبيب الكذاب، ورجّال بن عنفوة، وطلق بن عليّ بن قيس، وعليهم سلمان بن حنظلة، فأسلموا وأقاموا أياما يتعلمون القرآن من أبيّ بن كعب، ورجّال يتعلم، وطلق يؤذن لهم، ومسيلمة في الرحال، وذكروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم مكانه في رحالهم فأجازه، وقال: ليس بشرّكم مكانا لحفظه رحالكم، فقال مسيلمة عرف أن الأمر لي من بعده. ثم ادّعى مسيلمة بعد ذلك النبوّة، وشهد له طلق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الأمر فافتتن الناس به كما سنذكره. وفيها قدم وفد كندة يقدمهم الأشعث بن قيس في بضعة عشر وقيل في ستين وقيل في ثمانين، وعليهم الديباج والحرير، وأسلموا ونهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه فتركوه. وقال له أشعث نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فضحك وقال: ناسبوا بهذا النسب العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحرث وكانا تاجرين فإذا ساحا في أرض العرب قال نحن بنو آكل المرار فيعتز بذلك لأنّ لهم عليه ولادة من الأمهات، ثم قال لهم لا نحن بنو النضر بن كنانة فانتفوا منا ولا ننتفي من أبينا [2] . وقدم مع وفد كنانة [3] وفد حضرموت وهم بنو وليعة، وملوكهم جمد ومخوس ومشرح وأبضعة [4] ، فأسلموا ودعا لمخوس بإزالة الرتّة من لسانه. (وقدم وائل بن حجر) راغبا في الإسلام فدعا له ومسح رأسه، ونودي الصلاة جامعة سرورا بقدومه، وأمر   [1] وفي النسخة الباريسية: العمري. [2] وفي نسخة ثانية: ولا ينتغي من إلينا. [3] وفي نسخة ثانية: كندة. [4] وفي نسخة ثانية: ضمرة ومخوش ومسرح والضعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 معاوية أن ينزله بالحرّة، فمشى معه وكان راكبا فقال له معاوية أعطني نعلك أتوقى بها الرمضاء، فقال ما كنت لألبسها وقد لبستها. وفي رواية لا يبلغ أهل اليمن أنّ سوقة لبس نعل ملك فقال: أردفني قال لست من أرداف الملوك، ثم قال: إنّ الرمضاء قد أحرقت قدمي قال امش في ظل ناقتي كفاك به شرفا. ويقال إنه وفد على معاوية في خلافته فأكرمه وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب محمد النبيّ لوائل بن حجر قيل حضرموت إنك إن أسلمت لك ما في يديك من الأرض والحصون ويؤخذ منك من كل عشر واحدة ينظر في ذلك ذو عدل وجعلت لك الّا تظلم فيها معلّم [1] الدين. والنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أشهاد عليه [2] » . قال عياض (وفيه) إلى الأقيال العباهلة والأوراع المشابيب [3] . (وفيه) في التيعة [4] شاة لا مقوّرة لالياط ولا ضناك وأنطوا الثبجة وفي السيوب الخمس ومن زنى من بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما، ومن زنى من ثيّب فضرجوه بالاضاميم [5] ، ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض الله وكل مسكر حرام ووائل بن حجر يترفّل على الأقيال. وفيها قدم وفد محارب في عشرة نفر فأسلموا. وفيها قدم وفد الرها من مذحج في خمسة عشر نفرا وأهدوا فرسا، فأسلموا وتعلموا القرآن وانصرفوا، ثم قدم نفر منهم وحجّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي فأوصى لهم بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة وباعوها من معاوية. وفيها قدم وفد نجران النصارى في سبعين [6] راكبا يقدمهم أميرهم العاقب عبد المسيح من كندة، وأسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل، والسيّد الأيهم وجادلوا عن دينهم، فنزل صدر سورة آل عمران وآية المباهلة فأبوا منها وفرقوا وسألوا الصلح، وكتب لهم به على ألف حلّة في صفر وألف في رجب وعلى دروع ورماح وخيل وحمل   [1] وفي النسخة الباريسية: مقام الدين. [2] وفي نسخة ثانية: والمؤمنون عليه أنصار. [3] وفي النسخة الباريسية: والأوزاع السابقين. [4] وفي نسخة ثانية: وفيه في العبيّة. [5] وفي نسخة اخرى: ففرجوه بالاصاحيم. [6] وفي النسخة الباريسية: في ستين راكبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 ثلاثين من كل صنف، وطلبوا أن يبعث معهم واليا يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح، ثم جاء العاقب والسيّد وأسلما. وفيها قدم وفد الصدف من حضرموت في بضعة عشر نفرا فأسلموا، وعلمهم أوقات الصلاة وذلك في حجة الوداع. وفي هذه السنة قدم وفد عبس، قال ابن الكلبي: وفد منهم رجل واحد فأسلم ورجع ومات في طريقه. وقال الطبريّ: وفيها وفد عديّ ابن حاتم في شعبان انتهى. وفيها قدم وفد خولان عشرة نفر فأسلموا وهدموا صنمهم، وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبيّة قبل خيبر رفاعة بن زيد الضبيبيّ من جذام وأهدى غلاما فأسلم، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا، ولم يلبث أن قفل دحية بن خليفة الكلبيّ منصرفا من عند هرقل حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه تجارة، فأغار عليه الهنيد بن عوض [1] وقومه بنو الضليع من بطون جذام فأصابوا كل شيء معه، وبلغ ذلك مسلمين من بني الضبيب فاستنقذوا ما أخذه الهنيد وابنه وردّوه على دحية، وقدم دحية على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه فأخبره الخبر، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش من المسلمين فأغار عليهم بالقضقاض من حرة الرمل [2] ، وقتلوا الهنيد وابنه في جماعة وكان معهم ناس من بني الضبيب فاستباحوهم معهم وقتلوهم، فركب رفاعة بن زيد ومعه أبو زيد بن عمرو من قومه في جماعة منهم فقدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر، فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقالوا: يا رسول الله أطلق لنا من كان حيّا، فبعث معهم علي بن أبي طالب وحمله على جمل وأعطاه سيفه فلحقه بفيفاء الفحلتين وأمره برد أموالهم فردّها. وفي هذه السنة قدم وفد عامر بن صعصعة فيهم: عامر بن الطفيل بن مالك، وأربد ابن ربيعة بن مالك، فقال له عامر: يا محمد اجعل لي الأمر بعدك، قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، قال: اجعل لي الوبر ولك المدر، قال: لا ولكن أجعل لك أعنة الخيل فإنك امرؤ فارس، فقال: لأملأنها عليك خيلا ورجلا ثم ولوا. فقال: اللَّهمّ اكفنيهم اللَّهمّ أهد عامر أو أغن الإسلام عن عامر. وذكر ابن إسحاق   [1] وفي نسخة اخرى: بن عوص. [2] وفي النسخة الباريسية: بالفضافض من حرة الرجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 والطبريّ: أنهما أرادا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقدروا عليه في قصة ذكرها أهل الصحيح، ثم رجعوا إلى بلادهم فأخذه الطاعون في عنقه فمات في طريقه في أحياء بني سلول وأصابت أخاه أربد صاعقة بعد ذلك. ثم قدم علقمة بن علاثة بن عوف وعوف [1] بن خالد بن ربيعة وابنه فأسلموا. وفيها قدم وفد طيِّئ في خمسة عشرة نفرا يقدمهم سيدهم زيد الخيل وقبيصة بن الأسود من بني نبهان فأسلموا، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وأقطع له بئرا وأرضين معها وكتب له بذلك ومات في مرجعه. وفي هذه السنة ادعى مسيلمة النبوّة وأنه أشرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر، وكتب إليه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريش قوم لا يعدلون، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتّبع الهدى أما بعد فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» . قال الطبريّ: وقد قيل إنّ ذلك كان بعد منصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كما نذكر. حجة الوداع ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في خمس ليال بقين من ذي العقدة ومعه من أشراف الناس ومائة من الإبل عريا [2] ، ودخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، ولقيه عليّ بن أبي طالب بصدقات نجران فحجّ معه، وعلم صلى الله عليه وسلم الناس بمناسكهم واسترحمهم وخطب الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين، حمد الله واثنى عليه ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا! أيها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلّغت فمن كان عنده أمانة فليؤدّها إلى   [1] وفي النسخة الباريسية: وهودة. [2] وفي نسخة ثانية: هدايا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 من ائتمنه عليها وإن كان ربا فهو موضوع ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا إن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم في الجاهلية موضوع كلّه وأن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وكان مسترضعا في بني ليث، فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدأ من دم الجاهلية. أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ممّا تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم. إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرّمونه إلى فيحلوا ما حرّم الله إلا وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد الّذي بين جمادى وشعبان أمّا بعد أيها الناس فإنّ لكم على نسائكم حقا ولهنّ عليكم حقا لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهنّ أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهنّ ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهنّ عندكم عوان [1] لا يملكن لأنفسهن شيئا وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإنّي قد بلغت قولي وتركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه أيها الناس اسمعوا قولي واعلموا إن كل مسلم أخو المسلم وإن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم ألا هل بلغت [2] . فذكر أنهم قالوا: اللَّهمّ نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد. وكانت هذه الحجّة تسمى حجّة البلاغ وحجة الوداع لأنه لم يحج بعدها وكان قد حج قبل ذلك حجتين واعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك ثلاث ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشرة [3] .   [1] وفي نسخة أخرى: عوار. [2] وفي نسخة أخرى: اللَّهمّ. [3] لم يذكر هنا حديث الغدير وقد أجمع المؤرخون وأرباب التفسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من حجة الوداع الى المدينة نزل عليه الأميل جبرائيل بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ 5: 67. وان الآية الكريمة أمرت النبي صلى الله عليه وسلم ان ينصب عليّا أميرا وخليفة للمسلمين من بعده فأمر الرسول من كان معه من المسلمين ان يحطوا رحلهم بغدير خم قرب الجحفة على طريق المدينة وان يرد من تقدم منهم الى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 العمال على النواحي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم باذان عامل كسرى على اليمن وأسلمت اليمن أمره على جميع مخاليفها ولم يشرك معه فيها أحدا حتى مات، وبلغه موته وهو منصرف من حجّة الوداع فقسم عمله على جماعة من أصحابه، فولّى على صنعاء ابنه شهر [1] بن باذان، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري، وعلى الجنديعلي بن أمية، وعلى همدان عامر بن شهر الهمدانيّ، وعلى عك والأشعر بين الطاهر بن أبي هالة [2] وعلى ما بين نجران وزمع وزبيد خالد بن سعيد بن العاص، وعلى نجران عمرو بن حزم [3] ، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد [4] البياضي، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور [5] بن أصفر الغوثي، وعلى معاوية بن كندة عبد الله المهاجر   [ () ] المحل الّذي نزل به الرسول وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشرة من الهجرة وكان ذلك اليوم شديد الحرّ فكان الرجل يضع بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحر. وقد وقف النبي في هذا اليوم بعد صلاة الظهر خطيبا بالمسلمين فقال: الحمد للَّه ونستعين ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا الدنيّة لا هادي لمن ضل ولا مضل لمن هدى واشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله. اما بعد ايها الناس قد نبأني اللطيف الخبير انه لم يعمر نبيّ الا مثل نصف عمر الّذي قبله واني أوشك ان ادعى فأجيب واني مسئول وأنتم مسئولون. فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد انك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا قال ألستم تشهدون ان لا إله إلا الله وان محمد عبده ورسوله؟ قالوا بلى نشهد بذلك. ثم قال ايها الناس الا تسمعون؟ قالوا نعم. قال فإنّي فرط على الحوض وأنتم واردون عليه فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قال الثقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا والآخر الأصغر عترتي وان اللطيف الخبير نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت لهما ذلك ربي فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ثم أخذ بيد عليّ فرفعها وعرفه القوم فقال: ايها الناس من اولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال ان الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وانا اولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللَّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وأدر الحق معه حيث دار الا فليبلغ الشاهد الغائب. انظر كتاب البداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 208 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 93 والفرق الإسلامية ص 42 وغيرها من كتب التاريخ. [1] وفي نسخة اخرى: شمر. [2] وفي النسخة الباريسية: الطاهر بن أبي منالة [3] وفي نسخة اخرى: بن حزام. [4] وفي النسخة الباريسية: زياد بن يزيد. [5] وفي النسخة الباريسية: عكاشة بن بدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 بن أبي أمية واشتكى المهاجر فلم يذهب فكان زياد بن لبيد يقوم على عمله، وبعث معاذ بن جبل معلما لأهل اليمن وحضرموت، وكان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عدي بن حاتم على صدقة طيِّئ وأسد، ومالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وقسم صدقة بني سعد بين رجلين منهم، وبعث العلاء بن الحضرميّ على البحرين وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويقدم عليه بها فوافاه من حجة الوداع كما مرّ. خبر العنسي ّ كان الأسود العنسيّ واسمه عبهلة بن كعب ولقبه ذو الخمار، وكان كاهنا مشعوذا يفعل الأعاجيب ويخلب بحلاوة منطقه، وكانت داره كهف حنار [1] بها ولد، ونشأ وادّعى النّبوّة وكاتب مذحجا عامّة فأجابوه ووعدوه [2] ، نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم [3] وخالد بن سعيد بن العاص وأقاموه في عملها، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد فأجلوه، وسار الأسود في سبعمائة فارس إلى شهر بن باذان بصنعاء فلقيه شهر بن باذان فهزمه الأسود فقتله، وغلب على ما بين صنعاء وحضرموت إلى أعمال الطائف إلى البحرين من قبل عدن، وجعل يطير استطارة الحريق وعامله المسلمون بالتقية، وارتدّ كثير من أهل اليمن. وكان عمرو بن معديكرب مع خالد بن سعيد بن العاص، فخالفه واستجاب للأسود، فسار إليه خالد ولقيه فاختلفا ضربتين فقطع خالد سيفه الصمصامة وأخذها، ونزل عمرو عن فرسه وفتك في الخيل ولحق عمرو بن الأسود فولاه على مذحج وكان أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث المرادي، وأمر الأبناء إلى فيروز ودادويه وتزوج امرأة شهر بن باذان واستفحل أمره. وخرج معاذ بن جبل هاربا ومرّ بأبي موسى في مأرب فخرج معه ولحقا بحضرموت، ونزل معاذ في السكون وأبو موسى في السكاسك، ولحق عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بالمدينة. وأقام الطاهر بن أبي هالة ببلاد عكّ حيال [4] صنعاء، فلما ملك   [1] وفي نسخة أخرى: خيار وفي النسخة الباريسية: جناز [2] وفي نسخة أخرى: وأوعدوا [3] وفي نسخة أخرى: بن حزام. [4] وفي نسخة أخرى: جبال صنعاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 الأسود اليمن واستفحل استخف بقيس بن عبد يغوث وبفيروز ودادويه، وكانت ابنة عم فيروز هي زوجة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود بعد مقتله واسمها أزاد. وبلغ الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكتب مع وبر بن يحنس [1] إلى الأبناء وأبي موسى ومعاذ الطاهر يأمرهم فيه أن يعملوا في أمر الأسود بالغيلة أو المصادمة [2] ويبلغ منه من يروم عنده دنيا أو نجدة، وأقام معاذ والأبناء في ذلك فداخلوا قيس بن عبد يغوث في أمره فأجاب، ثم داخل فيروز بنت عمه زوجة الأسود فواعدته قتله، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن شهر الهمدانيّ وبعث جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وذي أمران وذي ظليم من أهل ناحيته وإلى أهل نجران من عربهم ونصاراهم واعترضوا الأسود ومشوا وتنحوا إلى مكان واحد. وأخبر الأسود شيطانه بغدر قيس وفيروز ودادويه فعاتبهم وهمّ بهم، ففروا إلى امرأته وواعدتهم أن ينقبوا البيت من ظهره ويدخلوا فيبيتوه، ففعلوا ذلك ودخل فيروز ومعه قيس ففتل [3] عنقه ثم ذبحه، فنادى بالأذان عند طلوع الفجر ونادى دادويه بشعار الإسلام، وأقام وبر بن يحنس [4] الصلاة واهتاج الناس مسلمهم وكافرهم وماج بعضهم في بعض وأختطف الكثير من أصحابه صبيانا من أبناء المسلمين، وبرزوا وتركوا كثيرا من أبنائهم ثم تراسلوا في ردّ كل ما بيده وأقاموا يتردّدون فيما بين صنعاء ونجران، وخلصت صنعاء والجنود، وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم وتنافسوا الإمارة في صنعاء، ثم اتفقوا على معاذ فصلّى بهم وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر، وكان قد أتى خبر الواقعة من السماء فقال في غداتها: قتل العنسيّ البارحة قتله رجل مبارك وهو فيروز. ثم قدمت الرسل، وقد توفي [5] النبي صلى الله عليه وسلم. بعث أسامة: ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع آخر ذي الحجة ضرب على الناس في شهر المحرم بعثا إلى الشام وأمّر عليهم مولاه أسامة بن زيد   [1] وفي نسخة أخرى: بن عنيس. [2] وفي نسخة أخرى: المصادقة. [3] وفي النسخة الباريسية: ففك عنقه. [4] وفي نسخة ثانية: بن جنيس. [5] وفي نسخة أخرى: اسامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 بن حارثة، أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم إلى الأردن من أرض فلسطين ومشارف الشام، فتجهّز الناس وأوعب معه المهاجرون الأوّلون. فبينا الناس على ذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بشكواه التي قبضة الله فيها إلى كرامته ورحمته، وتكلم المنافقون في شأن الكرامة، وبلغ الخبر بارتداد الأسود ومسيلمة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه من الصداع وقال: «إني رأيت البارحة في نومي أنّ في عضديّ سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما هذين الكذّابين صاحب اليمامة وصاحب اليمن وقد بلغني أنّ أقواما تكلموا في إمارة اسامة أن يطعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لحقيقا بالإمارة وانه لحقيق بها [1] انفروا» . فبعث أسامة فضرب أسامة بالجرف [2] وتمهل، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفاه الله قبل توجه أسامة. أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة: كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى حجة الوداع تحلّل به السير فاشتكى وطارت الأخبار، بذلك فوثب الأسود باليمن كما مرّ، ووثب مسيلمة باليمامة، ثم وثب طليحة بن خويلد في بني أسد، يدعي كلهم النبوة. وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل والكتب إلى عماله ومن ثبت على إسلامه من قومهم أن يجدّوا في جهادهم، فأصيب الأسود قبل وفاته بيوم ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله والذبّ عن دينه، فبعث إلى المسلمين من العرب في كل ناحية من نواحي هؤلاء الكذابين يأمرهم بجهادهم. وجاء كتاب مسيلمة إليه فأجابه كما مرّ وجاء، ابن أخي طليحة يطلب الموادعة فدعا صلى الله عليه وسلم حتى كان من حكم الله فيهم بعده ما كان. مرضه صلى الله وسلم عليه: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أنّ الله نعى إليه نفسه بقوله إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخر السورة، ثم بدأه الوجع لليلتين بقيتا من صفر وتمادى به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استقر به في بيت ميمونة، فاستأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة فأذن له. وخرج على الناس فخطبهم وتحلل منهم وصلى على شهداء أحد واستغفر لهم، ثم قال لهم: إنّ عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده. وفهمها أبو بكر   [1] وفي النسخة الباريسية: لخليق بها. [2] وفي نسخة ثانية: الحرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 فبكى، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: على رسلك يا أبا بكر، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فحرب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيرا وقال: أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأودعكم إليه إني لكم نذير وبشير إلا تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 28: 83 وقال أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ 39: 60 [1] . ثم سألوه عن مغسله، فقال: الأدنون من أهلي، وسألوه عن الكفن، فقال: في ثيابي هذه؟ أو ثياب مصر [2] أو حلّة يمانية. وسألوه عن الصلاة عليه، فقال: ضعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة حتى تصلي عليّ الملائكة ثم ادخلوا فوجا بعد فوج فصلوا وليبدأ رجال أهلي [3] ثم نساؤهم. وسألوه عمن يدخله القبر، فقال: أهلي. ثم قال: ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده فتنازعوا وقال بعضهم أهجر؟ يستفهم. ثم ذهبوا يعيدون عليه، ثم قال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى بثلاث: أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وان يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم، وسكت عن الثالثة أو نسيها الراويّ. وأوصى بالأنصار فقال إنهم كرشي وعيلتي التي أويت إليها [4] فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم فقد أصبحتم يا معشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا يزيدون، ثم قال: سدّوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فاني لا أعلم أمر أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة إخاء وإيمان حتى يجمعنا الله عنده. ثم ثقل به الوجع وأغمي عليه فاجتمع إليه نساؤه وبنوه وأهل بيته والعباس وعليّ، ثم حضر وقت الصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك، فمر عمر فامتنع عمر، وصلّى ابو بكر، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج فلما أحس أبو بكر تأخر فجذبه رسول   [1] وفي النسخة الباريسية: للكافرين. [2] وفي نسخة أخرى: بياض مصر. [3] وفي نسخة أخرى: رجال أهل بيتي. [4] وفي النسخة الباريسية: هم كرسيّ وعيني اليمنى فأكرموا كريمهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 الله صلى الله عليه وسلم وأقامه مكانه وقرأ من حيث انتهى أبو بكر، ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر، قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة. وكان يدخل يده في القدم وهو في في النزع فيمسح وجهه بالماء ويقول اللَّهمّ أعني على سكرات الموت، فلما كان يوم الإثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصبا رأسه وأبو بكر يصلي، فنكص عن صلاته [1] ، وردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وصلى قاعدا عن يمينه، ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكّرهم، ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر: إني أرى أصبحت بنعمة الله وفضله كما نحب. وخرج إلى أهله في السنح. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فاضطجع في حجرة [2] عائشة، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر، فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريده قالت: فمضغته حتى لان وأعطيته إياه فاستنّ به ثم وضعه. ثم ثقل في حجري فذهبت انظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «الرفيق الأعلى من الجنة» فعلمت أنه خير فاختار. وكانت تقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري. وذلك نصف نهار يوم الإثنين لليلتين من شهر ربيع الأول ودفن من الغد نصف النهار من يوم الثلاثاء. ونادى النعي في الناس بموته وأبو بكر غائب في أهله بالسنح، وعمر حاضر فقام في الناس وقال: إن رجالا من المنافقين زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأنه لم يمت وإنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم. وأقبل أبو بكر حين بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبله وقال: بأبي أنت وأمي قد ذقت الموتة التي كتب الله عليك ولن يصيبك بعدها موته أبدا. وخرج إلى عمر وهو يتكلم، فقال: أنصت. فأبي، وأقبل على الناس يتكلم فجاءوا إليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت» ثم تلا: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ 3: 144» الآية. فكأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية في المنزل قال عمر: فما هو إلّا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أنه قد مات وقيل   [1] وفي النسخة الباريسية: نهض عن مصلاه. [2] وفي النسخة الباريسية: في حجر عائشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 تلا: معها: إنك ميت وإنهم ميتون الآية. وبينما هم كذلك إذا جاء رجل يسعى بخبر الأنصار أنهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة ويقولون منا أمير ومن قريش أمير، فانطلق أبو بكر وعمر وجماعة المهاجرين إليهم، وأقام عليّ والعبّاس وابناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد يتولون تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسله عليّ مسندة إلى ظهره والعباس وابناه يقلبونه معه وأسامة وشقران يصبان الماء وعلي يدلك من وراء القميص [1] لا يفضي إلى بشرته بعد أن كانوا اختلفوا في تجهيزه ثم أصابتهم سنة فخفقوا وسمعوا من وراء البيت أن اغسلوه وعليه ثيابه ففعلوا، ثم كفنوه في ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيهن إدراجا، استدعوا حفارين أحدهما يلحد والآخر يشق، ثم بعث إليهما العبّاس رجلين وقال اللَّهمّ خر [2] لرسولك فجاء الّذي يلحد وهو أبو طلحة زيد بن سهل كان يحفر لأهل المدينة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سرير بيته واختلفوا أيدفن في مسجده أو بيته فقال أبو بكر سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ما قبض نبي إلّا يدفن حيث قبض، فرفع فراشه الّذي قبض عليه وحفر له تحته، ودخل الناس يصلون عليه أفواجا الرجال ثم، النساء ثم الصبيان ثم العبيد لا يؤم أحدهم أحدا، ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء وعن عائشة لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول فكملت سنو الهجرة عشر سنين كوامل، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل خمس وستين سنة وقيل ستين. خبر السقيفة لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتاع الحاضرون لفقده حتى ظن أنه لم يمت، واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة وهم يرون أن الأمر لهم بما آووا ونصروا، وبلغ الخبر إلى أبي بكر وعمر فجاءوا إليهم ومعهم أبو عبيدة ولقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة فأرادوهم على الرجوع وخفضوا عليهم   [1] وفي النسخة الباريسية: يصبان الماء على يديه من وراء القميص. [2] وفي نسخة ثانية: اغفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الشأن، فأبوا الّا أن يأتوهم فأتوهم في مكانهم ذلك فأعجلوهم عن شأنهم وغلبوهم عليه جماعا وموعظة. وقال أبو بكر: نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره ولا ننازع في ذلك، وأنتم لكم حق السابقة والنصرة، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقال الحباب بن المنذر [1] بن الجموع: منا أمير ومنكم أمير وإن أبو فاجلوهم يا معشر الأنصار عن البلاد فبأسيافكم دان الناس لهذا الدين وإن شئتم أعددناها جذعة [2] أنا جذيلهما المحكك [3] وعذيقها المرجب [4] . وقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا لكم كما تعلمون ولو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا، ثم وقعت ملاحاة بين عمر وابن المنذر [5] ، وأبو عبيدة يحفضهما ويقول: اتقوا الله يا معشر الأنصار أنتم أوّل من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدّل وغير. فقام بشير بن سعد بن النعمان [6] بن كعب بن الخزرج فقال: ألا إن محمدا من قريش وقومه أحق وأولى، ونحن وإن كنا أولى فضل في الجهاد وسابقة في الدين، فما أردنا بذلك إلا رضي الله وطاعة نبيه فلا نبتغي به من الدنيا عوضا، ولا نستطيل به على الناس. فقال الحباب بن المنذر: نفست والله عن ابن عمك يا بشير. فقال: لا والله ولكن كرهت أن أنازع قوما حقهم. فأشار أبو بكر إلى عمر وأبي عبيدة فامتنعا وبايعا أبا بكر وسبقهما إليه بشير بن سعد، ثم تناجي الأوس فيما بينهم وكان فيهم أسيد بن حضير أحد النقباء وكرهوا إمارة الخزرج عليهم وذهبوا إلى بيعة أبي بكر فبايعوه، وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحابه اتقوا سعدا لا تقتلوه. فقال عمر: اقتلوه قتله الله. وتماسكا فقال أبو بكر: مهلا يا عمر الرّفق هنا أبلغ. فأعرض عمر ثم طلب سعد في البيعة فأبى وأشار بشير بن سعد بتركه، وفقال: إنما هو رجل واحد، فأقام سعد لا يجتمع معهم في الصلاة ولا يفيض معهم في الحديث [7] حتى هلك أبو بكر. ونقل الطبري   [1] وفي النسخة الباريسية: فقال المنذر بن الحباب. [2] اي جديدا كما بدأ والأصح ان يقول جذعا بدل جذعة. [3] الّذي يستجار به ويستغني برأيه. [4] أي الذكي اللبق والمرجّب المهان (قاموس) [5] وفي نسخة أخرى: المنذر بن الحباب. [6] وفي النسخة الباريسية: بشير بن سعد والد النعمان من بني كعب بن الخزرج. [7] وفي النسخة الباريسية: في الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 أن سعدا بايع يومئذ، وفي أخبارهم أنه لحق بالشام فلم يزل هنالك حتى مات وأن الجن قتلته وينشدون البيتين الشهرين وهما نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ... فرميناه بسهمين فلم نخط فؤاده الخلافة الإسلامية الخبر عن الخلافة الإسلامية في هذه الطبقة وما كان فيها من الرّدة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الإسلام ثم الاتفاق والجماعة ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمر السقيفة كما قدمناه، أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبي بكر ولم يخالف إلا سعد إن صحّ خلافه فلم يلتفت إليه لشذوذه. وكان من أوّل ما أعتمده إنفاذ بعث أسامة، وقد ارتدت [1] العرب إمّا القبيلة مستوعبة وإمّا بعض منها، ونجم النفاق والمسلمون كالغنم في الليلة الممطرة لقلّتهم وكثرة عدوّهم وإظلام الجوّ بفقد نبيّهم، ووقف أسامة بالناس ورغب من عمر التخلف عن هذا البعث والمقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر، وقالت له الأنصار فإن أبي إلّا المضي فليول علينا أسنّ من أسامة. فأبلغ عمر ذلك كله أبا بكر فقام وقعد وقال: لا أترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرج وأنفذه. ثم خرج حتى أتاهم فأشخصهم وشيّعهم وأذن لعمر في الشخوص، وقال: أوصيكم بعشر فاحفظوها عليّ: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الطفل ولا الشيخ ولا المرأة ولا تفرقوا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلّا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وإذا لقيتم أقواما فحصوا أواسط رءوسهم وتركوا حولها فتل العصاب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه، فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا ترفعوا باسم الله يا أسامة اصنع ما أمرك به نبي الله ببلاد قضاعة ثم أتت آفل ولا تقصر في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» . ثم ودّعه من الجرف ورجع. وقد كان بعث معه من القبائل من حول المدينة الذين لهم الهجرة في ديارهم وحبس من بقي منهم فصار مسالح حول قبائلهم ومضي أسامة مغذّا وانتهى لما أمر النبي صلى   [1] وفي نسخة ثانية: أرادت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الله عليه وسلم وبعث الجنود في بلاد قضاعة وأغار على أبني [1] فسبى وغنم ورجع لأربعين يوما وقيل لسبعين، ولم يحدث أبو بكر في مغيبه شيئا، وقد جاء الخبر بارتداد العرب عامّة وخاصة إلا قريشا وثقيفا، واستغلظ أمر مسيلمة واجتمع على طليحة عوام طيِّئ وأسد وارتدت غطفان وتوقفت هوازن فأمسكوا الصدقة، وارتد خواص من بني سليم وكذا سائر الناس بكل مكان. وقدمت رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبنى أسد ومن الأمراء من كل مكان بانتقاض العرب عامّة أو خاصة، وحاربهم بالكتب والرسل وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، فعاجلته عبس وذبيان ونزلوا في الأبرق ونزل آخرون بذي القصة ومعهم حبال [2] من بني أسد ومن انتسب إليهم من بني كنانة، وبعثوا وفدا إلى أبي بكر نزلوا على وجوه من الناس يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة، فأبي أبو بكر من ذلك، وجعل على أنقاب المدينة عليا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد. ورجع وفد المرتدين وأخبروا قومهم بقلّة أهل المدينة فأغاروا على من كان بأنقاب المدينة، فبعثوا إلى أبي بكر فخرج في أهل المسجد على النواضح، فهربوا والمسلمون في أتباعهم إلى ذي خشب، ثم نفروا إبل المسلمين بلعبات اتخذوها فنفرت ورجعت بهم وهم لا يملكونها إلى المدينة ولم يصبهم شيء، وظن القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى أهل ذي القصة يستقدمونهم. ثم خرج أبو بكر في التعبية وعلى ميمنته النعمان بن مقرّن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرّن [3] ، وعلى الساقة سويد بن مقرن، وطلع عليهم مع الفجر واقتتلوا فما ذرّ قرن الشمس إلا وقد هزموهم وغنموا ما معهم من الظهر وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر إلى ذي القصة فجهز بها النعمان بن مقرن في عدد ورجع إلى المدينة، ووثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم وفعل ذلك غيرهم من المرتدين، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين مثل من قتلوه من المسلمين وزيادة. واعتز المسلمون بوقعة أبي بكر وطرقت المدينة صدقات. وقدم أسامة فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وخرج في نفر إلى ذي خشب [4] وإلى ذي القصة ثم سار حتى نزل على أهل   [1] قوله أبنى بضم الهمزة: موضع بناحية البلقاء أهـ. [2] وفي نسخة ثانية خبال. [3] وفي النسخة الباريسية: معرور. [4] وفي النسخة الباريسية: ذي حسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 الرَّبَذَة بالأبرق وبها عبس وذبيان وبنو بكر من كنانة وثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة، فاقتتلوا وانهزم القوم، وأقام أبو بكر على الأبرق، وحرم تلك البلد على بني ذبيان ثم رجع إلى المدينة. ردّة اليمن: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وبني كنانة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص على المدر، ومالك بن عوف على الوبر، وعلى عجز هوازن عكرمة بن أبي جهل، وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين زمع وزبيد إلى نجران خالد بن سعيد بن العاص، وعلى همدان كلها عامر بن شهر الهمدانيّ، وعلى صنعاء فيروز الديلميّ ومسانده دادويه وقيس بن مكشوح المرادي رجعوا إليها بعد قتل الأسود، وعلى الجنديعلي بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين وعكّ الطاهر بن أبي هالة، وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي وعكاشة بن ثور بن أصفر الغوثي، وعلى كندة المهاجر بن أبي أمية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه في غزوة تبوك فاسترضته له أم سلمة وولاه على كندة، ومرض فلم يصل إليها، وأقام زياد بن لبيد ينوب عنه. وكان معاذ بن جبل يعلم القرآن باليمن يتنقل على هؤلاء وعلى هؤلاء في أعمالهم. وثار الأسود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربه بالرسل وبالكتب فقتله الله وعاد الإسلام في اليمن كما كان، فلما بلغهم الموت انتقضت اليمن وارتدّ أهلها في جميع النواحي وكانت الفالة من جند العنسيّ بين نجران وصنعاء لا يأوون إلى أحد، ورجع عمرو بن حزم إلى المدينة واتبعه خالد بن سعيد، وكان عمرو بن معديكرب بالجبال حيال فروة بن مسيك وابن مكشوح وتحيل في قتل الأبناء فيروز ودادويه وخشنش والاستبداد بصنعاء، وبعث إلى الفالة من جيش الأسود يغريهم بالأبناء ويعدهم المظاهرة عليهم فجاءوا إليه، وخشي الأبناء غائلتهم وفزعوا إليه فأظهر لهم المناصحة، وهيأ طعاما فجمعهم له ليغدر بهم فظفر بدادويه وهرب فيروز وخشنش وخرج قيس في أثرهما، فامتنعا بخولان أخوال فيروز وثار قيس بصنعاء وجبى ما حولها، وجمع الفالة من جنود الأسود إليه. وكتب فيروز إلى أبي بكر بالخبر، فكتب له بولاية صنعاء، وكتب إلى الطاهر بن أبي هالة بإعانته، وإلى عكاشة بن ثور بأن يجمع أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 تهامة ويقيم بمكانه، وكتب إلى ذي الكلاع سميفع [1] وذي ظليم حوشب وذي تبان شهر بإعانة الأبناء وطاعة فيروز وأن الجند يأتيهم. وأرسل إليهم قيس بن مكشوح يغريهم بالأبناء، فاعتزل الفريقان واتبعت عوامّهم قيس بن مكشوح في شأنه، وعمد قيس إلى عيلات الأبناء الذين مع فيروز فغرّبهم وأخرجهم من اليمن في البرّ والبحر وعرضهم للنهبى، فأرسل فيروز إلى بني عقيل بن ربيعة وإلى عكّ يستصرخهم، وفاعترضوا عيال فيروز والأبناء الذين معه فاستنقذوهم وقتلوا من كان معه، وجاءوا إلى فيروز فقاتلوا معه قيس بن مكشوح دون صنعاء فهزموه، ورجع إلى المكان الّذي كان به مع فالة الأسود العنسيّ. وانضاف قيس إلى عمرو بن معديكرب وهو مرتد منذ تنبأ الأسود العنسيّ، وقام حيال فروة بن مسيك، وقد كان فروة وعمرو أسلما وكذلك قيس، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيسا على صدقات مراد، وكان عمرو قد فارق قومه سعد العشيرة مع بني زبيد وأحلافها وانحاز إليهم فأسلم معهم وكان فيهم فلما انتقض الأسود، واتبعه عوام مذحج كان عمرو فيمن اتبعه، وأقام فروة فيمن معه على الإسلام فولى الأسود عمرا وجعله بحياله. وكانت كندة قد ارتدوا وتابعوا الأسود العنسيّ بسبب ما وقع بينهم وبين زياد الكندي في أمر فريضة من فرائض الصدقة أطلقها بعض بني عمرو بن معاوية بعد أن وقع عليها ميسم الصدقة غلطا، فقاتلهم زياد وهزمهم، فاتفق بنو معاوية على منع الصدقة والردّة إلا شراحيل بن السمط وابنه، وأشير على زياد بمعاجلتهم قبل أن ينضم إليهم بعض السكاسك وحضرموت وأبضعه وجمد ومشرح ومخوس وأختهم العمرة، وهرب الباقون ورجع زياد بالسبي والغنائم، ومرّ بالأشعث بن قيس وبني الحرث بن معاوية واستغاث نساء السبي فغار الأشعث وتنقذهم، ثم جمع بني معاوية كلهم ومن أطاعه من السكاسك وحضرموت وأقام على ردّته. وكان أبو بكر قاد حارب أهل الردة أولا بالكتب والرسل ولم يرسل إلى من ارتد وابتدأ بالمهاجرين والأنصار، ثم استنفر كلا على من يليه حتى فرغ من آخر أمور الناس لا يستعين بمرتد، وكتب إلى عتاب بن أسيد بمكة وعثمان بن أبي العاص بالطائف بركوب من ارتد بمن لم يرتدّ وثبت على الإسلام من أهل عملهما. وقد كان اجتمع   [1] وفي نسخة ثانية: سميقح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 بتهامة أو شاب [1] من مدلج وخزاعة، فبعث عتاب إليهم ففرّقهم وقتلهم. واجتمع بشنوءة جمع من الأزد وخثعم وبجيلة فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص من فرّقهم وقتلهم. واجتمع بطريق الساحل من تهامة جموع من عكّ والأشعريين فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العكّي فهزموهم وقتلوهم، وأقام بالأجناد ينتظر أمر أبي بكر ومعه مسروق العكي. وبعث أهل نجران من بني الأفعى الذين كانوا بها قبل بني الحرث وهم في أربعين ألف مقاتل، وجاء وفدهم يطلبون إمضاء العهد الّذي بأيديهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فأمضاه أبو بكر إلا ما نسخه الوحي بأن لا يترك دينان بأرض العرب. ورجعت رسل النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان بعثهم عند انتقاض الأسود العنسيّ وهم: جرير بن عبد الله والأقرع ووبر بن يحنس [2] فرد أبو بكر جريرا، ليستنفر من ثبت على الإسلام على من ارتدّ ويقاتل خثعم الذين غضبوا لهدم ذي الحليفة فيقتلهم ويقيم بنجران، فنفذ ما أمره به ولم يمر به أحد إلّا رجال قليل تتبعهم بالقتل، وسار إلى نجران وكتب أبو بكر إلى عثمان بن أبي العاص أن يضرب البعوث على مخاليف أهل الطائف، فضرب على كل مخالف عشرين وأمر عليهم أخاه، كتب إلى عتاب بن أسيد أن يضرب على مكة وعملها خمسمائة بعث وأمر عليهم أخاه خالدا وأقاموا ينتظرون، ثم أمر المهاجر بن أبي أمية بأن يسير إلى اليمن ليصلح من أمره ثم ينفذ إلى عمله وأمره بقتال من بين نجران وأقصى اليمن ففعل ذلك، ومرَّ بمكة والطائف فسار معهم خالد بن أسيد وعبد الرحمن بن أبي العاص بمن معهما، ومرّ بجرير بن عبد الله وعكاشة بن ثور فضمهما إليه، ثم مر بنجران وانضم إليه فروة بن مسيك، وجاءه عمرو بن معديكرب وقيس بن مكشوح فأثقهما وبعث بهما إلى أبي بكر، وسار إلى لقائه فتتبعهم بالقتل ولم يؤمنهم فقتلوا بكل سبيل. وحضر قيس عند أبي بكر فحظر قتل دادويه ولم يجد أمرا جليلا في أمره، وتاب عمرو بن معديكرب واستقال فاقالهما وردّهما. وسار المهاجر حتى نزل صنعاء وتتبع شذاذ القبائل فقتل من قدر عليه وقبل توبة من رجع إليه وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء، فجاءه الجواب بأن يسير إلى كندة   [1] وفي نسخة ثانية: وشباب. [2] وفي نسخة ثانية: بن مخنس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 مع عكرمة بن أبي جهل وقد جاءه من ناحية عمان ومعه خلق كثير من مهرة والأزد وناجية وعبد القيس وقوم من مالك بن كنانة وبني العنبر، وقدم أبين وأقام بها لاجتماع النخع وحمير ثم سار مع المهاجر إلى كندة، وكتب زياد إلى المهاجر يستحثه فلقيه الكتاب بالمفازة بين مأرب وحضرموت، فاستخلف عكرمة على الناس وتعجل إلى زياد ونهدوا إلى كندة وعليهم الأشعث بن قيس فهزموهم وقتلوهم وفرّوا إلى النجير حصن لهم فتحصنوا فيه مع من استغووه من السكاسك وشذاذ السكون [1] وحضرموت وسدّوا عليهم الطريق إلا واحدة جاء عكرمة بعدهم فسدّها وقطعوا عنهم المدد، وخرجوا مستميتين في بعض الأيام فغلبوهم وأخرجوهم. واستأمن الأشعث إلى عكرمة بما كانت أسماء بنت النعمان بن الجون تحته فخرج إليه، وجاء به إلى المهاجر وأمّنه في أهله وماله وتسعة من قومه على أن يفتح لهم الباب، فاقتحمه المسلمون وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فكان في السبي ألف امرأة، فلما فرغ من النجير دعا بكتاب الأمان من الأشعث وإذا هو قد كتب غرض نفسه في التسعة رجال من أصحابه، فأوثقه كتافا وبعث به إلى أبي بكر ينظر في أمره، فقدم مع السبايا والأسرى، فقال له أبو بكر: أقتلك. قال إني راودت القوم على عشرة وأتيناهم بالكتاب مختومة، فقال أبو بكر: إنما الصلح على من كان في الصحيفة وأما غير ذلك فهو مردود [2] . فقال يا أبا بكر: احتسب في وأقلني واقبل إسلامي وردّ عليّ زوجتي، وقد كان تزوج أم فروة أخت أبي بكر حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرها إلى أن يرجع، فأطلقه أبو بكر وقبل إسلامه وردّ عليه زوجته وقال ليبلغني عنك خير، ثم خلّي عن القوم فذهبوا وقسم الأنفال. بعث الجيوش للمرتدين لما قدم أسامة ببعث الشام على أبي بكر استخلفه على المدينة ومضى إلى الرَّبَذَة فهزم بني عبس وذبيان وكنانة بالأبرق ورجع إلى المدينة كما قدّمناه، حتى إذا استجم جند أسامة وتاب من حوالي المدينة خرج إلى ذي القصة على بريد من تلقاء نجد، فقعد فيها أحد عشر لواء على أحد عشر جندا لقتال أهل الردّة، وأمر كل واحد باستنفار   [1] وفي النسخة الباريسية: وشذاذ الكون. [2] وفي النسخة الباريسية: واما قبل ذلك فهو مراودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 من يليه من المسلمين من كل قبيلة، وترك بعضها لحماية البلاد. فعقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة وبعده لمالك بن نويرة بالبطاح، ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة واليمامة ثم اردفه بشرحبيل بن حسنة وقال له: إذا فرغت من اليمامة فسر إلى قتال قضاعة ثم تمضي إلى كندة بحضرموت، ولخالد بن سعيد بن العاص وقد كان قدم بعد الوفاة الى المدينة من اليمن وترك أعماله فبعثه إلى مشارف الشام، ولعمرو بن العاص إلى قتال المرتدة من قضاعة، ولحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة فحذيفة لأهل دبا وعرفجة لمهرة وكل واحد منهما أمير في عمله على صاحبه، ولطريفة بن حاجز وبعثه إلى بني سليم ومن معهم من هوازن، ولسويد بن مقرن وبعثه إلى تهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرميّ وبعثه إلى البحرين. وكتب إلى الأمراء عهودهم بنص واحد: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد اليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره بالجدّ في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتى يقرّوا له ثم ينبئهم بالذي عليهم والّذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الّذي لهم لا ينظرهم ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم. فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقرّ له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروب. وطنماذ يقاتل من كفر باللَّه على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل وكان الله حسيبه بعد فيما استسرّ به، ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئا مما أعطى إلّا الإسلام فمن أجابه وأقرّ قبل منه وأعانه، ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه عز وجلّ قتلهم فيه كل قتلة بالسلاح والنيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه ويمنع أصحابه العجلة والفساد وأن يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول» انتهى. وكتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدة كتابا واحدا في نسخ كثيرة على يد رسل تقدّموا بين أيديهم نصه بعد البسملة: «هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة أقام على الإسلام أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع إلى الضلالة والهوى، [1] فإنّي أحمد إليكم الله الّذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأو من بما جاء به وأكفر من أبى وأجاهده أما بعد» . ثم قرّر أمر النبوة ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطنب في الموعظة ثم قال: «وإني بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته ألا يقاتل أحد ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه، ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية للأذان فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفّوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاسألوهم بما عليهم فإن أبو عاجلوهم وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم» انتهى. فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود وخرجت الأمراء ومعهم العهود وكان أوّل ما بدأ به خالد طليحة وبني أسد. خبر طليحة كان طليحة قد ارتدّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كاهنا فادّعى النبوّة واتبعه أفاريق من بني إسرائيل [2] ونزل سميراء، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور إلى قتاله مع جماعة، فاجتمع عليهم المسلمون وهم ضرار بمناجزته، فأتى الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم فاستطار أمر طليحة واجتمعت إليه غطفان وهوازن وطيِّئ، وفرّ ضرار ومن معه من العمال إلى المدينة وقدمت وفودهم على أبي بكر في الموادعة على ترك الزكاة فأبى من ذلك، وخرج كما قدّمناه إلى غطفان وأوقع بهم بذي القصة فانضموا بعد الهزيمة إلى طليحة وبني أسد ببزاخة وكذلك فعلت طيِّئ وأقامت بنو عامر وهوازن ينتظرون. وجمل [3] خالد إلى طليحة ومعه عيينة بن حصن على بزاخة من مياه بني أسد وأظهر أنه   [1] وفي نسخة الباريسية: والعمى. [2] وفي النسخة الباريسية: بني أسد. [3] وفي نسخة ثانية: صمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 يقصد خيبر ثم ينزل إلى سلمى وأجأ فيبدأ بطيء. وكان عديّ بن حاتم قد خرج معه في الجيش فقال له: أنا أجمع لك قبائل طيِّئ يصحبونك إلى عدوّك. وسار إليهم فجاء بهم وبعث خالد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم من الأنصار طليحة ولقيهما طليحة وأخوه فقتلاهما ومرّ بهما المسلمون فعظم عليهم قتلهما. ثم عبّى خالد كتائبه وثابت بن قيس على الأنصار وعديّ بن حاتم على طيِّئ ولقي القوم فقاتلهم، وعيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من غطفان، واشتدّ المجال بينهم وطليحة في عباءة يتكذب لهم في انتظار الوحي، فجاء عيينة بعد ما ضجر من القتال [1] وقال: هل جاءك أحد بعد؟ قال: لا ثم راجعه ثانية ثم ثالثة فقال: جاء. وقال إنّ لك رحى كرحاه، وحديثا لا تنساه. فقال عيينة: يا بني فزارة الرجل كذاب، وانصرف فانهزموا وقتل من قتل وأسلم الناس طليحة فوثب على فرسه واحتقب امرأته فنجا بها إلى الشام، ونزل في كلب [2] من قضاعة على النقع حتى أسلمت أسد وغطفان، فأسلم ثم خرج معتمرا أيام عمر ولقيه بالمدينة فبايعه وبعثه في عساكر الشام، فأبلى في الفتح، ولم يصب عيالات بني أسد في واقعة بزاخة شيء لأنهم كانوا أخرجوهم في الحصون عند واسط وأسلموا خشية على ذراريهم. خبر هوازن وسليم وبني عامر كان بنو عامر ينتظرون أمر طليحة وما تصنع أسد وغطفان حتى أحيط بهم وكان قرة ابن هبيرة في كعب وعلقمة بن علاثة [3] في كلاب وكان علقمة قد ارتد بعد فتح الطائف، ولما قبض النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه، وبلغ أبا بكر خبره فبعث إليه سرية مع القعقاع ابن عمر ومن بني تميم فأغار عليهم، فأفلت وجاء بأهله وولده وقومه فأسلموا. وكان قرّة بن هبيرة قد لقي عمرو بن العاصي منصرفه من عمان بعد الوفاة وأضافه وقال له: اتركوا الزكاة فانّ العرب لا تدين لكم بالإتاوة، فغضب لها عمرو وأسمعه وأبلغها أبا بكر، فلما أوقع خالد ببني أسد وغطفان وكانت هوازن وسليم وعامر ينتظرون أمرهم فجاءوا إلى خالد وأسلموا وقبل منهم الإسلام، إلا من   [1] وفي النسخة الباريسية: عند ما ظهر القتال. [2] اي نزل عند بني كلب. [3] وفي نسخة ثانية: بن علاقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 عدا على أحد من المسلمين أيام الردّة فإنه تتبعهم فأحرق وقمط [1] ورضخ بالحجارة ورمى من رءوس الجبال، ولما فرغ من أمر بني عامر أوثق عيينة بن حصن وقرّة بن هبيرة وبعث بهما إلى أبي بكر فتجاوز لهما وحقّ دماءهما. ثم اجتمعت قبائل غطفان إلى سلمى بنت مالك بن حذيفة من بدر بن ظفر في الحوأب فنزلوا إليها وتذامروا، وكانت سلمى هذه قد سبيت قبل وأعتقتها عائشة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوما وقد دخل عليها وهي في نسوة ببيت عائشة فقال: إنّ أحدا كن تستنبح كلاب الحوأب، وفعلت ذلك واجتمع إليها الفلال من غطفان وهوازن وسليم وطيِّئ وأسد، وبلغ ذلك خالدا وهو يتبع الثأر ويأخذ الصدقات، فسار إليهم وقاتلهم وسلمى واقفة على جملها حتى عقر وقتلت وقتل حول هودجها مائة رجل، فانهزموا وبعث خالد بالفتح على أثره بعده بعشرين ليلة. وأما بنو سليم فكان الفجاءة بن عبد ياليل قدم على أبي بكر يستعينه مدعيا إسلامه ويضمن له قتال أهل الردّة فأعطاه وأمره، وخرج إلى الجون وارتد وبعث نجية بن أبي المثنى ومن بني الشريد، وأمره بشن الغارة على المسلمين في سليم وهوازن. فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم وأعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه ولقياه، فقتل نجية وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره وجاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطبا ثم رمى به في النار مقموطا، وفاءت بنو سليم كلهم وفاء معهم أبو شجرة بن عبد العزى بأو الخنساء وكان فيمن ارتد. خبر بني تميم وسجاح قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله في بني تميم الزبرقان بن بدر على الرباب وعوف والأبناء وقيس بن عاصم على المقاعس والبطون وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو ووكيع بن مالك على بني مالك ومالك بن نويرة على حنظلة [2] ، فجاء صفوان إلى أبي بكر حين بلغته الوفاة بصدقات بني عمرو، وجاء الزبرقان بصدقات أصحابه، وخالفه قيس بن عاصم في المقاعس والبطون لأنه كان ينتظره، وبقي من أسلم منهم متشاغلا بمن تربص أو ارتاب. وبينما هم على ذلك فجئتهم   [1] وفي نسخة ثانية: وقحط. [2] وفي نسخة ثانية: على بني حنظلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 سجاح [1] بنت الحارث بن سويد من بني عقفان أحد بطون تغلب وكانت تنبأت بعد الوفاة، واتبعها الهذيل بن عمران في بني تغلب وعقبة بن هلال في النمر والسليل بن قيس في شيبان وزياد بن بلال وكان الهذيل نصرانيا فترك دينه إلى دينها، وأقبلت من الجزيرة في هذه المجموع قاصدة المدينة لتغزو أبا بكر والمسلمين، وانتهت إلى الجرف [2] فدهم بني تميم أمر عظيم لما كانوا عليه من اختلاف الكلمة، فوادعها مالك بن نويرة وثناها عن الغزو وحرّضها [3] على بني تميم ففرّوا أمامها، ورجع إليها وكيع بن مالك واجتمعت الرباب وضبة فهزموا أصحاب سجاح وأسروا منهم، ثم اصطلحوا. وسارت سجاح فيمن معها تريد المدينة فبلغت النباج فاعترضهم بنو الهجيم [4] فيمن تأشب [5] إليهم من بني عمرو وأغاروا عليهم فأسر الهذيل وعقبة، ثم تحاجزوا على أن تطلق أسراهم ويرجعوا ولا يجتازوا عليهم، ورجع عن سجاح مالك بن نويرة ووكيع بن مالك إلى قومهم ويئست سجاح وأصحابها من الجواز عليهم، ونهدت إلى بني حنيفة وسار معها من تميم الزبرقان بن بدر [6] وعطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن حريث [7] وشبث بن ربعي ونظراؤهم، وصانعها مسيلمة بما كان فيه من مزاحمة ثمامة بن أثال له في اليمامة. وزحف شرحبيل بن حسنة والمسلمون إليه فاهدى لها واستأمنها وكانت نصرانية أخذت الدين من نصارى تغلب، فقال لها مسيلمة: نصف الأرض لنا ونصف الأرض لقريش لكنهم لم يعدلوا فقد جعلت نصفهم لك. ويقال إنها جاءت إليه واستأمنته وخرج إليها من الحصن إلى قبة ضربت لها بعد أن جمرها [8] فدخل إليها وتحرّك الحرس حوالي القبة فسجع لها وسجعت له من أسجاع الفرية، فشهدت له بالنّبوّة وخطبها لنفسه فتزوجته وأقامت عنده ثلاثا ورجعت إلى   [1] وفي النسخة الباريسية: شجاح. [2] وفي نسخة ثانية: الحرث. [3] وفي النسخة الباريسية: فحملها على بني تميم. [4] وفي نسخة ثانية: النجيم. [5] تأشب القوم: اختلطوا (قاموس) . [6] وفي النسخة الباريسية: بن زيد. [7] وفي النسخة الباريسية: بن حرسه. [8] اي نجرّها وطيّبها وفي النسخة الباريسية خمرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 قومها، فعذلوها في التزويج على غير صداق فرجعت إليه فقال لها: ناد في أصحابك إني وضعت عنهم صلاة الفجر والعتمة مما فرض عليهم محمد، وصالحته على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة فأخذته وسألت أن يسلفها النصف للعام القابل، ودفعت الهذيل وعقبة لقضبه فهم على ذلك، وإذا بخالد بن الوليد وعساكره قد أقبلوا فانفضت جموعهم وافترقوا، ولحقت سجاح بالجزيرة فلم تزل في بني تغلب حتى نقل معاوية عام الجماعة بني عقفان عشيرتها إلى الكوفة، وأسلمت حينئذ سجاح وحسن إسلامها. ولما افترق وفد الزبرقان والأقرع على أبي بكر وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونحن نضمن لك أمرها ففعل وكتب لهم بذلك، وكان طلحة بن عبيد الله يتردّد بينهم في ذلك، فجاء إلى عمر ليشهد في الكتاب فمزقه ومحاه وغضب طلحة، وقال لأبي بكر رضي الله عنه: أنت الأمير أم عمر رضي الله عنه؟ فقال: عمر غير أن الطاعة لي. وشهد الأقرع والزبرقان مع خالد اليمامة والمشاهد كلها. ثم مضى الأقرع مع شرحبيل إلى دومة. البطاح ومالك بن نويرة لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة وراجع بنو تميم الإسلام أقام مالك بن نويرة متحيرا في أمره واجتمع إليه من تميم بنو حنظلة واجتمعوا بالبطاح، فسار إليهم خالد بعد أن تقاعد عنه الأنصار يسألونه انتظار أبي بكر، فأبي إلا انتهاز الفرصة من هؤلاء، فرجعوا إلى اتباعه ولحقوا به. وكان مالك بن نويرة لما تردّد في أمره فرّق بني حنظلة في أموالهم ونهاهم عن القتال ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد بعث السرايا يدعون إلى الإسلام ويأتون بمن لم يجب أن يقتلوه، فجاءوا بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع واختلفت السريّة فيهم، فشهد أبو قتادة أنهم أذنوا وصلّوا فحبسهم عند ضرار بن الأزور وكانت ليلة ممطرة فنادى مناديه أن أدفئوا أسراكم وكانت في لغة كنانة كناية [1] عن القتل فبادر ضرار بقتلهم وكان كنانيا. وسمع خالد الواعية فخرج متأسفا وقد فرغوا منهم، وأنكر عليه أبو قتادة فزجره خالد، فغضب ولحق بأبي بكر ويقال: إنهم لما جاءوا بهم إلى خالد خاطبه مالك بقوله: فعل صاحبكم شأن   [1] وفي نسخة أخرى: وكانت في لغته كناية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 صاحبكم فقال له خالد: أو ليس لك بصاحب؟ ثم قتله [1] وأصحابه كلهم ثم قدم خالد على أبي بكر وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة أو يعزله فأبى، وقال: ما كنت أشيم سيفا سلّه الله على الكافرين، وودى مالكا وأصحابه وردّ خالدا إلى عمله. خبر مسيلمة واليمامة لما بعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل استعجل عكرمة فانهزم وكتب إلى أبي بكر بالخبر، فكتب إليه لا ترجع فتوهن الناس وامض إلى حذيفة وعرفجة فقاتلوا مهرة وأهل عما فإذا فرغتم فامض أنت وجنودك واستنفروا من مررتم عليه حتى تلقوا المهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت، وكتب إلى شرحبيل يمضي إلى خالد فإذا فرغتم فامض أنت إلى قضاعة فكن مع عمرو بن العاص على من ارتدّ منهم. ولما فرغ خالد من البطاح ورضي عنه أبو بكر بعثه نحو مسيلمة وأوعب معه الناس، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبرّاء بن عازب، وتعجّل خالد إلى البطاح وانتظر البعوث حتى قدمت عليه، فنهض إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير يقال أربعون ألف مقاتل متفرقين في قراها وحجرها، وتعجل شرحبيل كما فعل عكرمة بقتال مسيلمة فنكب وجاء خالد فلامه على ذلك. ثم جاء خليط من عند أبي بكر مددا لخالد ليكون ردءا له من خلفه ففرّت جموع كانت تجمعت هنالك من فلال سجاح، وكان مسيلمة قد جعل لها جعلا. وكان الرّجال [2] بن عنفوة من أشراف بني حنيفة شهد لمسيلمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه معه في الأمر لأنّ الرجال، كان قد هاجر وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وتفقّه في الدين فلما ارتدّ مسيلمة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلما لأهل اليمامة ومشغبا على مسيلمة فكان أعظم فتنة على بني حنيفة   [1] رثاه اخوه بقصيدة من أشجا الشعر وأحزنه. منها: لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك وقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى، فالدكادك؟ فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك. [2] الرجّال بوزن شدّاد بالجيم، قال في القاموس: ووهم من ضبطه بالحاء. واسمه على ما في البداية: نهار اقاله نصر) وفي النسخة الباريسية الرحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 منه. واتبع مسيلمة على شأنه وشهد له وكان يؤذن لمسيلمة ويشهد له بالرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم:، فعظم شأنه فيهم وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره، وكان مسيلمة يسجع لهم بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن يأتيه، ويأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضدّ المقصود. ولما بلغ مسيلمة وبني حنيفة دنو خالد، خرجوا وعسكروا في منتهى ريف اليمامة [1] واستنفروا الناس فنفروا إليهم، وأقبل خالد ولقيه شرحبيل بن حسنة فجعله على مقدمته، حتى إذا كان على ليلة من القوم هجموا على مجاعة في سرية أربعين أو ستين راجعين من بلاد بني عامر وبني تميم يثأرون فيهم فوجدوهم دون ثنية اليمامة فقتلوهم أجمعين، وقيل له استبق مجاعة بن مرارة إن كنت تريد اليمامة فاستبقى. ثم سار خالد ونازل بني حنيفة ومسيلمة والرجال على مقدمة مسيلمة واشتدت الحرب وانكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خباء خالد، ومجاعة بها أسير مع أم متمم [2] زوجة خالد، فدافعهم عنها مجاعة وقال: نعمت الحرة. ثم تراجع المسلمون وكرّوا على بني حنيفة فقال المحكم بن الطفيل: ادخلوا الحديقة يا بني حنيفة فاني أمنع أدباركم، فقاتل ساعة ثم قتله عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم تذامر المسلمون وقاتل ثابت بن قيس فقتل ثم زيد بن الخطاب ثم أبو حذيفة ثم سالم مولاه ثم البراء أخو أنس بن مالك وكان تأخذه عند الحرب رعدة حتى ينتفض ويقعد عليه الرجال حتى يبول، ثم يثور كالأسد فقاتل وفعل الأفاعيل. ثم هزم الله العدو وألجأهم المسلمون إلى الحديقة وفيها مسيلمة فقال البراء ألقوني عليهم من أعلى الجدار فاقتحم، وقاتلهم على باب الحديقة ودخل المسلمون عليهم، فقتل مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ، وكان زيد بن الخطاب قتل الرجال بن عنفوة. وكان خالد لما نازل بني حنيفة ومسيلمة ودارت الرحى عليه طلب البراز فقتل جماعة، ثم دعا مسيلمة للبراز والكلام محادثة يجاول فيه غرة وشيطانه يوسوس إليه، ثم ركبه خالد فأرهقه وأدبروا وزالوا عن مراكزهم وركبهم المسلمون فانهزم [3] . وتطاير الناس عن مسيلمة بعد أن   [1] وفي نسخة أخرى: ريف اليمن. [2] وفي رواية: غير أم تميم، وفي النسخة الباريسية مع أم أميم. [3] اي فانهزم أصحاب مسيلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 قالوا له أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا على أحسابكم. وأتاه وحشي فرماه بحربته فقتل. واقتحم الناس عليه حديقة الموت من حيطانها وأبوابها فقتل فيها سبعة عشر ألف مقاتل من بني حنيفة، وجاء خالد بمجاعة ووقفه على القتلى ليريه مسيلمة فمرّ بمحكم فقال: هو ذا؟ فقال مجاعة: هذا والله خير منه، ثم أراه مسيلمة رويجل دميم أخينس، فقال خالد: هذا الّذي فعل فيكم ما فعل، فقال مجاعة: قد كان ذلك وإنه والله ما جاءك إلّا سرعان الناس وإنّ جماهيرهم في الحصون فهلم أصالحك على قومي. وقد كان خالد التقط من دون الحصون ما جاء من مال ونساء وصبيان ونادى بالنزول عليها فلما قال له مجاعة ذلك قال له: أصالحك على ما دون النفوس. وانطلق يشاورهم فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال أبوا أن يجيزوا يشاورهم فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال أبوا أن يجيزوا ذلك، ونظر خالد إلى رءوس الحصون قد اسودّت والمسلمون قد نهكتهم الحرب وقد قتل من الأنصار ما ينيف على الثلاثمائة وستين، ومن المهاجرين مثلها ومن التابعين لهم مثلها أو يزيدون، وقد فشت الجراحات فيمن بقي، فجنح إلى السلم فصالحه على الصفراء والبيضاء، ونصف السبي والحلقة وحائط ومزرعة من كل قرية، فأبوا فصالحهم على الربع فصالحوه. وفتحت الحصون فلم يجد فيها إلّا النساء والصبيان فقال خالد: خدعتني يا مجاعة فقال: قومي ولم أستطع إلّا ما صنعت فعقد له وخيرهم ثلاثا فقال: له سلمة بن عمير لا نقبل صلحا ونعتصم بالحصون ونبعث إلى أهل القرى فالطعام كثير والشتاء قد حضر، فتشاءم مجاعة برأيه وقال لهم لولا أني خدعت القوم ما أجابوا إلى هذا، فخرج معه سبعة من وجوه القوم وصالحوا خالدا وكتب لهم وخرجوا إلى خالد للبيعة والبراءة مما كانوا عليه. وقد أضمر سلمة بن عمير الفتك بخالد فطرده حين وقعت عينه عليه وأطلع أصحابه على غدره فأوثقوه وحبسوه ثم أفلت فاتبعوه وقتلوه. وكان أبو بكر بعث إلى خالد مع سلمة بن وقش إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموسى من بني حنيفة، فوجده قد صالحهم فأتم عقده معهم، ووفى لهم وبعث وفدا منهم إلى أبي بكر بإسلامهم فلقيهم وسألهم عن اسجاع مسيلمة فقصّوها عليه، فقال سبحان الله هذا الكلام ما خرج من إلّا ولا برّ فأين يذهب بكم عن أحلامكم وردّهم إلى قومهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 ردّه الحطم وأهل البحرين لما فرغ خالد من اليمامة ارتحل عنها إلى واد من أوديتها وكانت عبد القيس وبكر بن وائل وغيرهم من أحياء ربيعة قد ارتدّوا بعد الوفاة وكذا المنذر بن ساوى من بعدها بقليل، فأما عبد القيس فردّهم الجارود بن المعلى وكان قد وفد وأسلم ودعا قومه فأسلموا فلما بلغهم خبر الوفاة ارتدوا وقالوا لو كان نبيا ما مات فقال لهم الجارود تعلمون أن الله أنبياء من قبله ولم تروهم وتعلمون أنهم ماتوا ومحمد صلى الله عليه وسلم قد مات ثم تشهد فتشهدوا معه وثبتوا على إسلامهم، وخلوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوى والمسلمين. وقال ابن إسحاق كان أبو بكر بعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه فلما كانت الوفاة وارتدت ربيعة ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمّى المغرور، فأقاموه ملكا كما كان قومه بالحيرة، وثبت الجارود وعبد القيس على الإسلام، واستمرّ [1] بكر بن وائل على الردّة، وخرج الحطم بن ربيعة أخو بني قيس بن ثعلبة حتى نزل بين القطيف وهجر، وبعث إلى دارين فأقاموا. ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وأرسل إلى المغرور بن سويد أخي النعمان بن المنذر وبعثه إلى جواثى [2] وقال اثبت فان ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة، فحاصره المسلمون [3] بجواثى وجاء العلاء بن الحضرميّ لقتال أهل الردة بالبحرين ومر باليمامة فاستنفر ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة وكان مترددا، وألحق عكرمة بعمان ومهرة، وأمر شرحبيل بالمقام حيث هو يغاور مع عمرو بن العاص أهل الردّة من قضاعة، عمرو يغاور سعدا وبلق وشرحبيل يغاور كلبا ولفها. ثم مرّ ببلاد بني تميم فاستقبله بنو الرباب وبنو عمرو [4] ومالك بن نويرة بالبطاح يقاتلهم ووكيع بن مالك يواقف عمرو بن العاص وقيس بن عاصم من المقاعس، والبطون يواقف الزبرقان بن بدر والأبناء عوف وقد أطاعوه على الإسلام وحنظلة متوقفون. فلما رأى   [1] وفي النسخة الباريسية: واستفحل أمر بكر. [2] وفي النسخة الباريسية: الى جولة. [3] وفي النسخة الباريسية: فحاصر المسلمين. [4] وفي نسخة ثانية، بنو عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 قيس بن عاصم تلقى الرباب وبني عمر [1] وقدم وجاء بالصدقات إلى العلاء وخرج معه لقتال البحرين، فسار مع العلاء من بني تميم مثل عسكره ونزل هجر وبعث إلى الجارود أن ينازل بعبد القيس الحطم وقومه مما يليه، واجتمع المشركون إلى الحطم إلا أهل دارين، والمسلمون إلى العلاء، وخندقوا واقتتلوا وسمعوا في بعض الليالي ضوضأة شديدة أي جلبة وصياحا وبعثوا من يأتيهم بخبرها فجاءهم بأنّ القوم سكارى، فبيتوهم ووضعوا السيوف فيهم واقتحموا الخندق وفر القوم هرابا فمتمرد وناج ومقتول ومأسور. وقتل قيس بن عاصم الحطم بن ربيعة، ولحق جابر بن بحير وضربه فقطع عصبه ومات، وأسر عفيف بن المنذر والمغرور بن سويد وقال للعلاء: أجرني فقال له العلاء: أنت غررت بالناس، فقال: لكني أنا مغرور، ثم أرسل وأقام بهجر. ويقال إن المغرور اسمه وليس هو بلقب وقتل المغرور بن سويد بن المنذر وقسم الأنفال بين الناس، وأعطى عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال من أسلاب القوم وثيابهم، وقصد الفلال إلى دارين وركبوا السفين إليها ورجع الآخرون إلى قومهم. وكتب العلاء إلى من أقام على إسلامه من بكر بن وائل بالقعود لأهل الردة في السبل وإلى خصفة التميمي والمثنى بن حارثة بمثل ذلك، فرجعوا إلى دارين وجمعهم الله بها. ثم لما جاءته كتب بكر بن وائل وعلم حسن إسلامهم أمر أن يؤتى من خلفه على أهل البحرين ثم لما ندب الناس إلى دارين وأن يستعرضوا البحر، فارتحلوا واقتحموا البحر على الظهر، وكلهم يدعو: يا ارحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حيّ يا قيوم لا إليه إلّا أنت يا ربنا. ثم أجازوا الخليج يمشون على مثل رمل مشيا فوقها ما يغمر أخفاف الإبل في مسيرة يوم وليلة، فلقوا العدوّ واقتتلوا، وما تركوا بدارين مخبرا وسبوا الذراري واستاقوا الأموال، وبلغ نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين. ورجع العلاء إلى البحرين وضرب الإسلام بجرانه. ثم أرجف المرجفون بأن أبا شيبان وثعلبة والحرقد جمعهم مفروق الشيبانيّ على الردة، فوثق العلاء باللهازم وتقاربهم [2]   [1] وفي نسخة أخرى: يلقي الرباب وعمرو العلاء. [2] وفي نسخة أخرى: بان اللهازم تفارقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وكانوا مجمعين على نصره، وأقبل العلاء بالناس فرجعوا إلى من أحب المقام، وقفل ثمامة بن أثال فيهم. ومرّوا بقيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فرأوا خميصة الخطم عليه فقالوا هو قتله! فقال: لم أقتله ولكن الأمير نفلنيها فلم يقبلوا وقتلوه. وكتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق وقتل الخطم قتله زيد وسميفع [1] فكتب إليه أبو بكر إن بلغك عن بني ثعلبة ما خاض فيه المرجفون فابعث إليهم جندا وأوصهم وشرّد بهم من خلفهم. ردة أهل عمان ومهرة واليمن [2] نبغ بعمان بعد الوفاة رجل من الأزد يقال له لقيط بن مالك الأزدي يسامى في الجاهلية الجلندي فدفع عنها الملكين اللذين كانا بها، وهما جيفر وعبد [3] ابنا الجلندي، فارتدّ وادعى النبوة وتغلب على عمان ودفع عنها الملكين، وبعث جيفر إلى أبي بكر بالخبر، فبعث أبو بكر حذيفة بن محصن من حمير وعرفجة البارقي، حذيفة إلى عمان وعرفجة إلى مهرة، وإن اجتمعا فالأمير صاحب العمل، وأمرهما أن يكاتبا كما مرّ، فأمره بالمسير إلى حذيفة وعرفجة ليقاتل معهما عمان ومهرة ويتوجه إذا فرغ من ذلك إلى اليمن، فمضى عكرمة فلحق بهما قبل أن يصلا إلى عمان، وقد عهد إليهم أبو بكر أن ينتهوا إلى رأي عكرمة، فراسلوا جيفرا وعبدا وبلغ لقيطا مجيء الجيوش فعسكر بمدينة دبا وعسكر جيفر وعبد بصحار، واستقدموا عكرمة وحذيفة وعرفجة وكاتبوا رؤساء الدين فقدموا بجيوشهم [4] ، ثم صمدوا إلى لقيط وأصحابه فقاتلوهم، وقد أقام لقيط عياله وراء صفوفه، وهمّ المسلمون بالهزيمة حتى جاءهم مددهم من بني ناجية وعليهم الحريث [5] بن راشد ومن عبد القيس وعليهم سنجار بن صرصار [6] فانهزم العدوّ وظفر [7] المسلمون، وقتلوا منهم نحوا من عشرة آلاف وسبوا الذراري والنساء   [1] وفي نسخة أخرى: مسمع. [2] وفي النسخة الباريسية: النمر. وفي الكامل ج 2 ص 374 ردّة اليمن. [3] وفي نسخة ثانية: عبّاد. [4] وفي النسخة الباريسية: فارفضوا إليهم. [5] وفي نسخة ثانية: الخرّيت. [6] وفي نسخة ثانية: سبحان بن صوحان. [7] وفي النسخة الباريسية: واثخن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 وتمّ الفتح، وقسّموا الأنفال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة وكان الخمس ثمانمائة رأس. وأقام حذيفة بعمان وسار عكرمة إلى مهرة وقد استنفر أهل عمان ومن حولها من ناحيته الأزد وعبد القيس وبني سعيد من تميم، فاقتحم مهرة بلادهم وهم على فرقتين يتنازعان الرئاسة فأجابه أحد الفريقين، وسار إلى الآخرين فهزمهم وقتل رئيسهم، وأصابوا منهم ألفي نجيبة. وأفاد المسلمون قوة بغنيمتهم وأجاب أهل تلك النواحي إلى الإسلام وهم أهل نجد والروضة والشاطئ والجزائر والمر واللبان وأهل جيرة وظهور الشحر [1] والفرات وذات الخيم، فاجتمعوا كلهم على الإسلام، وبعث إلى أبي بكر بذلك مع البشير وسارعوا إلى اليمن للقاء المهاجر بن أبي أمية كما عهد إليه أبو بكر. بعوث العراق وصلح الحيرة ولما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إليه أبو بكر في المحرم من سنة اثنتي عشرة فأمره بالمسير إلى العراق ومرج الهند وهي الأبلة منتهى بحر فارس في جهة الشمال قرب البصرة، فيتألف أهل فارس ومن في مملكتهم من الأمم. فسار من اليمامة وقيل قدم على أبي بكر ثم سار من المدينة، وانتهى إلى قرية بالسواد وهي بانقيا وبرسوما وصاحبهما جابان، فجاء صلوبا فصالحهم على عشرة آلاف دينار [2] فقبضها خالد، ثم سار إلى الحيرة وخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي الأمير عليها بعد النعمان بن المنذر، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو المناجزة، فصالحوه على تسعين ألف درهم، وقيل إنما أمره أبو بكر أن يبدأ بالأبلة ويدخل من أسفل العراق. وكتب إلى عياض بن غنم أن يبدأ بالمضيخ ويدخل من أعلى العراق، وأمر خالدا بالقعقاع بن عمرو التميمي وعياض بن عوف الحمي [3] ، وقد كان المثنى بن حارثة الشيبانيّ استأذن أبا بكر في غزو العراق فأذن له فكان يغزوهم قبل قدوم خالد، فكتب أبو بكر إليه وإلى حرملة ومدعور وسلمان أن يلحقوا بخالد بالأبلة وكانوا في ثمانية آلاف   [1] وفي نسخة ثانية: الشمر وفي الطبري ج 3 ص 264: والصبرات. [2] وفي نسخة ثانية: باروسما والليس وكانت لابن صلوبا، فصالحهم على عشرة آلاف دينار. [3] وفي نسخة ثانية: الحميري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 فارس، ومع خالد عشرة آلاف، فسار خالد في أوّل مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم وجاء هو بعدهما على مسيرة يوم بين كل عسكر، وواعدهما الحفير ليجتمعوا به ويصادموا عدوهم وكان صاحب ذلك الفرج [1] من أساورة الفرس اسمه هرمز وكان يحارب العرب في البرّ والهند في البحر، فكتب إلى أردشير كسرى بالخبر وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه حتى نزل الحفير، وجعل على مجنبتيه قباذ وأنوشجان يناسبانه في أردشير الأكبر واقترنوا بالسلاسل لئلا يفرّوا، وأروا خالدا أنهم سبقوا إلى الحفير فمال إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها أيضا. وكان للعرب على هرمز حنق لسوء مجاورته وقدم خالد فنزل قبالتهم على غير ماء وقال: جالدوهم على الماء فإنّ الله جاعله لأصبر الفريقين، ثم أرسل الله سحابة فأغدرت من ورائهم. ولما حطوا أثقالهم قدم خالد ودعا إلى النزال [2] فبرز إليه هرمز وترجلا ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد وحمل أصحاب هرمز للغدر به فلم يشغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو فقتلهم وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون، وسميت الواقعة ذات السلاسل. وأخذ خالد سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أبي بكر. وسار فنزل بمكان البصرة وبعث المثنى بن حارثة في آثار العدو فحاصر حصن المرأة فتحه وأسلمت فتزوجها، وبعث معقل بن مقرن إلى الأبلة ففتحها عتبة بن [3] غزوان أيام عمر سنة أربع عشرة، ولم يتعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين وتركهم وعمارة البلاد كما أمرهم أبو بكر [4] . وكان كسرى أردشير لما جاءه كتاب هرمز بمسير خالد أمره بقارن بن فريانس فسار إلى المدار [5] ولما انتهى إلى المذار [6] لقيه المنهزمون من هرمز ومعهم قباذ وأنوشجان فتذامروا ورجعوا ونزلوا النهر، وسار إليهم خالد واقتتلوا وبرزقان فقتله معقل بن الأعشى بن النباش وقتل عاصم أنوشجان وقتل عدي قباذ، وانهزمت الفرس وقتل منهم نحو ثلاثين ألفا سوى من غرق ومنعت المياه   [1] وفي نسخة ثانية: المرج. [2] وفي النسخة الباريسية: الى البراز. [3] وفي نسخة ثانية: عقبة. [4] وفي نسخة ثانية: كما أمر ابو بكر به. [5] وفي نسخة ثانية: فسار من المدائن. [6] وفي نسخة ثانية: الدار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 المسلمين من طلبهم. وكانت الغنيمة عظيمة وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا في ذمّة، ولم يقاتل المسلمين من الفرس بعد قارن أعظم منه، وتسمى هذه الوقعة بالثني وهو النهر. ولما جاء الخبر إلى أردشير بالهزيمة بعث الأندرزغر وكان فارسا من مولدي السواد فأرسل في أثره عسكرا مع بهمن حاذويه، وحشد الأندرزغر ما بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين وعسكروا بالولجة، وسار إليهم خالد فقاتلهم وصبروا، ثم جاءهم كمين من خلفهم فانهزموا ومات الأندرزغر عطشا. وبذل خالد الأمان للفلّاحين فصاروا ذمة، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم وأصاب اثنين من نصارى بني وائل أحدهما جابر بن بجير والآخر ابن عبد الأسود من عجل فأسرهما، وغضب بكر بن وائل لذلك فاجتمعوا على الليس [1] وعليهم عبد الأسود العجليّ، فكتب أردشير إلى بهمن حاذويه، وقد أقام بعد الهزيمة كتابا يأمره بالمسير إلى نصارى العرب بالليس فيكون معهم إلى أن يقدم عليهم جابان من المرازبة، فقدم بهم على أردشير ليشاوره وخالفه جابان إلى نصارى العرب من عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من الحيرة وهم مجتمعون على الليس. وسار إليهم خالد حين بلغه خبرهم ولا مشعر لهم بجابان [2] ، فلما حط الأثقال سار إليهم وطلب المبارزة، فبرز إليه مالك بن قيس فقتله خالد، واشتد القتال بينهم وسائر المشركين ينتظرون قدوم بهمن، ثم انهزموا واستأسر الكثير منهم وقتلهم خالد حتى سال النهر بالدم وسمي نهر الدم، ووقف على طعام الأعاجم وكانوا قعودا للأكل فنفله المسلمين، وجعل العرب يتساءلون عن الرقاق يحسبونه رقاعا. وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا. ولما فرغ من الليس سار إلى أمغيشيا فغزا أهلها وأعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها وخرّبها.   [1] وفي نسخة أخرى: الليث. [2] وفي نسخة أخرى: ولا يشعر بجابان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 فتح الحيرة ثم سافر خالد إلى الحيرة وحمل الرجال والأثقال في السفن، وخرج ابن زيان من [1] الحيرة ومعه الأزادية فعسكر عند الغريّين وأرسل ابنه ليقاطع الماء عن السفن، فوقفت على الأرض. وسار إليه خالد فلقيه على فرات باذقلا [2] فقتله وجميع من معه، وسار نحو أبيه على الحيرة فهرب بغير قتال لما كان بلغه من موت أردشير كسرى وقتل ابنه. ونزل خالد منزله بالغريّين وحاصر قصور الحيرة وافتتح الديور وصاح القسيسون والرهبان بأهل القصور فرجعوا على الاباية، وخرج إياس بن قبيصة من القصر الأبيض، وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان معمرا وسأله خالد عن عجيبة قد رآها، فقال: رأيت القرى ما بين دمشق والحيرة تسافر بينهما المرأة فلا تتزود إلا رغيفا واحدا. ثم جاءه واستقرب منه ورأى مع خادمه كيسا فيه سم فأخذه خالد ونثره في يده، وقال ما هذا؟ قال خشيت أن تكونوا على غير ما وجدت فيكون الموت أحب إليّ من مكروه أدخله على قومي، فقال له خالد: لن تموت حتى تأتي على أجلها. ثم قال: باسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء وابتلع السم فوعك ساعة ثم قام كأنما نشط من عقال. فقال عبد المسيح: لتبلغنّ ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا. ثم صالحهم على مائة أو مائتين وتسعين ألفا وعلى كرامة [3] بنت عبد المسيح لشريك كان النبي صلى الله عليه وسلم عرّف بها إذا فتحت الحيرة فأخذها شريك، وافتدت منه بألف درهم وكتب لهم بالصلح وذلك في أول سنة اثنتي عشرة. فتح ما وراء الحيرة كان الدهاقين يتربصون بخالد ما يصنع بأهل الحيرة فلما صالحهم واستقاموا له جاءته الدهاقين من كل ناحية فصالحوه عمّا يلي الحيرة من الفلاليح وغيرها على ألف ألف وقيل على ألفي ألف سوى جباية كسرى، وبعث خالد ضرار بن الأزور وضرار بن   [1] وفي نسخة أخرى: وخرج وزبان الحيرة. [2] وفي نسخة أخرى: باذقلة. [3] رواية الدميري الشيما والصحابي هو أوس بن خزيمة، انظر ترجمة البقلة (قاله نصر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 الخطّاب والقعقاع بن عمرو والمثنى بن حارثة وعيينة بن الشماس فكانوا في الثغور وأمرهم بالغارة، فمخروا السواد كله إلى شاطئ دجلة، وكتب إلى ملوك فارس: «أما بعد فالحمد الله الّذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرّق كلمتكم ولو لم نفعل ذلك كان شرا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلّا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» . وكتب إلى المرازبة: «أما بعد فالحمد الله الّذي فض حدّتكم وفرق كلمتكم وجفل حرمكم وكسر شوكتم فأسلموا تسلموا وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدّوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر» انتهى. وكان العجم مختلفين بموت أردشير وقد أزالوا بهمن حاذويه فيمن سيره في العساكر، فجبى خالد خراج السواد في خمسين ليلة، وغلب العجم عليه، وأقام بالحيرة سنة يصعد ويصوب، والفرس حائرون فيمن يملكونه ولم يجدوا من يجتمعون عليه لأن سيرين كان قتل جميع من تناسب إلى بهرام جور. فلما وصل كتاب خالد تكلم نساء آل كسرى وولوا الفرّخزاد بن البندوان إلى أن يجدوا من يجتمعون عليه، ووصل جرير ابن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة، وكان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام، ثم قدم على أبي بكر فكلمه أن يجمع له قومه كما وعده النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أوزاعا [1] متفرقين في العرب، فسخط ذلك منه أبو بكر فقال: تكلمني [2] بما لا يعني وأنت ترى ما نحن فيه من فارس والروم. وأمره بالمسير إلى خالد فقدم عليه بعد فتح الحيرة. فتح الأنبار وعين التمر وتسمّى هذه الغزوة ذات العيون ثم سار خالد على تعبيته إلى الأنبار وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، وكان بالأنبار شيرزاد صاحب ساباط فحاصرهم ورشقوهم بالنبال حتى فقئوا منهم ألف عين. ثم نحر ضعاف الإبل وألقاها في الخندق حتى ردمه بها وجاز هو وأصحابه فوقها،   [1] الجماعات ولا واحد لها (قاموس) . [2] وفي النسخة الباريسية: تكلفني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق، وصالح شيرزاد على أن يلحقوه بمأمنه ويخلي لهم عن البلد وما فيها، فلحق ببهمن حاذويه. ثم استخلف خالد على الأنبار الزبرقان ابن بدر، وسار إلى عين التمر وبها بهرام [1] بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقبة بن أبي عقبة في جمع عظيم من العرب، وحولهم طوائف من النمر وتغلب وإياد وغيرهم من العرب. وقال عقبة لبهرام: دعنا وخالدا فالعرب أعرف بقتال العرب. فتركه لذلك واتقى به وسار عقبة إلى خالد وحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأخذه أسرا وانهزم العسكر عن غير قتال وأسر أكثرهم. وبلغ الخبر إلى بهرام [2] فهرب وترك الحصن وتحصن به المنهزمون، واستأمنوا لخالد فأبى، فنزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين، وعقبة معهم. وغنم ما في الحصن وسبى عيالهم [3] وأولادهم وأخذ من البيعة وهي الكنيسة غلمانا كانوا يتعلمون الإنجيل ففرّقهم في الناس منهم: سيرين أبو محمد ونصير أبو موسى وحمران مولى عثمان، وبعث إلى أبي بكر بالفتح والخمس. وقتل من المسلمين عمير ابن رباب السهمي من مهاجرة الحبشة وبشير بن سعد والد النعمان. ولما فرغ خالد من عين التمر وافق وصول كتاب عياض بن غنم وهو على من بإزائه من نصارى العرب بناحية دومة الجندل وهم بهرام [4] وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وكانت رياسة دومة لأكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة يقتسمانها، وأشار أكيدر بصلح خالد فلم يقبلوا منه فخرج عنهم، وبلغ خالد مسيره فأرسل من اعترضه فقتله وأخذ ما معه، وسار خالد فنزل دومة وعياض عليها من الجهة الأخرى، وخرج الجودي لقتال خالد وأخرج طائفة أخرى لقتال عياض، فانهزموا من الجهتين إلى الحصن فأغلق دونهم وقتل الجودي وافتتح الحصن عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية.   [1] وفي نسخة ثانية: فهران بن بهرام. [2] وفي نسخة ثانية: مهران. [3] وفي نسخة ثانية: أهليهم. [4] وفي نسخة ثانية: بهرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 الوقائع بالعراق وأقام خالد بدومة الجندل فطمع الأعاجم في الحيرة وملأهم عرب الجزيرة غضبا لعقبة، فخرج اسواران إلى الأنبار وانتهيا إلى الحصيد والخنافس، فبعث القعقاع من الحيرة عسكرين حالا بينهما وبين الريف، ثم جاء خالد إلى الحيرة فعجل القعقاع بن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى لقائهما بالحصيد، فقتل من العجم مقتلة عظيمة، وقتل الأسواران، وغنم المسلمون ما في الحصيد، وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس وبها بالبهبوذان من الأساورة. وسار أبو ليلى في اتباعهم فهزم البهبوذان إلى المضيخ [1] وكان بها الهذيل بن عمران وربيعة بن بحير من عرب الجزيرة غضبا لعقبة وجاءا مددا لأهل الحصيد، فكتب خالد إلى القعقاع وأبي ليلى وواعدهما [2] المضيخ، وسار إليهم فتواقفا هنالك وأغاروا على الهذيل ومن معه من ثلاثة أوجه، فأكثروا فيهم القتل ففر الهذيل في قليل، وكان مع الهذيل عبد العزيز بن أبي رهم من أوس مناة ولبيد بن جرير وكانا أسلما وكتب لهما أبو بكر بإسلامهما فقتلا في المعركة، فوادهما أبو بكر وأوصى بأولادهما، وكان عمر يعتمد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد. ولما فرغ خالد من الهذيل بالمضيخ واعد القعقاع وأبا ليلى إلي الثني شرقي الرصافة ليغير على ربيعة بن بحير التغلبي صاحب الهذيل الّذي جاء معه لمدد الفرس ويبيتهم فلم يلق [3] منهم أحدا، ثم اتبع الهذيل بعد مفره من المضيخ الى اليسير وقد لحق هنالك بعتاب بن السيد فبيتهم خالد قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار إلى الرصافة وبها هلال بن عقبة فتفرق عنه أصحابه وهرب فلم يلق بها خالد أحدا. ثم سار خالد إلى الرضاب وإلى الفراض [4] وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة فحميت الروم واستعانوا بمن يليهم من مسالح فارس، واجتمعت معهم تغلب وإياد والنمر وساروا إلى خالد وطلبوا منه العبور، فقال: اعبروا أسفل منا فعبروا وامتاز الروم من العرب، فانهزمت الروم ذلك اليوم وقتل منهم نحو من مائة ألف. وأقام خالد على   [1] وفي نسخة ثانية: المصيخ. [2] وفي نسخة ثانية: أودعهما. [3] وفي نسخة أخرى: وتبيتهم فلم يفلت منهم أحدا. [4] وفي نسخة أخرى: من الرضاب إلى الفراض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 الفراض إلى ذي القعدة، ثم أذن للناس بالرجوع إلى الحيرة، وجعل شجرة بن الأغر على الساقة. وخرج من الفراض حاجا مكتتما بحجة وذهب يتعسف في البلاد حتى أتى مكة فحج ورجع فوافى الحيرة مع جنده، وشجرة بن الأغر. معهم ولم يعلم بحجه إلا من أعلمه به، وعتب به أبو بكر في ذلك لما سمعه وكانت عقوبته إياه أن صرفه من غزو العراق إلى الشام. ثم شن خالد بن الوليد الغارات على نواحي السواد فأغار هو على سوق [1] بغداد، وعلى قطربُّل، وعقرقوما [2] ، ومسكن، وبادروبا. وحج أبو بكر في هذه السنة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. بعوث الشام وكان من أوّل عمل أبي بكر بعد عوده من الحج أن بعث خالد بن سعيد بن العاص في الجنود إلى الشام أول سنة ثلاث عشرة، وقيل إنما بعثه الى الشام لما بعث خالد بن الوليد إلى العراق أول السنة التي قبلها، ثم عزله قبل أن يسير لأنه كان لما قدم من اليمن عند الوفاة تخلف عن بيعة أبي بكر أياما وغدا على عليّ وعثمان فعزلهما على الاستكانة لتيم وهما رءوس بني عبد مناف فنهاه عليّ وبلغت الشيخين، فلما ولاه أبو بكر عقد له عمر فعزله وأمره أن يقيم بتيماء ويدعو من حوله من العرب إلى الجهاد حتى يأتيه أمره، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم خبره فضربوا البعث على العرب الضاحية بالشام من بهرا وسليح وكلب وغسان ولخم وجذام، وسار إليهم خالد فغلبهم على منازلهم وافترقوا. وكتب له أبو بكر بالإقدام فسار متقدما ولقيه البطريق ماهان من بطارقة الروم فهزمه خالد واستلحم الكثير من جنوده، وكتب إلى أبي بكر يستمده، ووافق كتابه المستنفرين وفيهم ذو الكلاع ومعه حمير وعكرمة بن أبي جهل ومن معه من تهامة والشحر [3] وعمان والبحرين فبعثهم إليه. وحينئذ اهتم ابو بكر بالشام وكان عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما إلى عمان وعده أن يعيده إلى عمله عند فراغه من أمر عمان، فلما جاء بعد الوفاة أعاده إليها أبو بكر إنجازا لوعده صلى الله عليه وسلم تسليما وهي صدقات سعد هذيم وبني عذرة،   [1] وفي نسخة أخرى: شرق. [2] وفي نسخة أخرى: عقرقوف. [3] وفي نسخة أخرى: والسّرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 فبعث إليه الآن يأمره باللحاق بخالد بن سعيد لجهاد الروم وأن يقصد فلسطين، وبعث أيضا إلى الوليد بن عقبة وكان على صدقات قضاعة وولاه الأردن، وأمر يزيد ابن أبي سفيان على جمهور من انتدب إليه فيهم سهيل بن عمرو وأشباهه، وأمر أبا عبيدة بن الجراح على جميعهم وعين له حمص، وأوصى كل واحد منهم. ولما وصل المدد إلى خالد بن سعيد وبلغه توجه المراء تعجل للقاء الروم قبلهم فاستطرد له ماهان ودخل دمشق، واقتحم خالد الشام ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى نزل مرج الصفر [1] عند دمشق فانطوت مسالح ماهان عليه وسدوا الطريق دونه وزحف إليه ماهان، ولقي ابنه سعيدا في طريقه فقتلوه وبلغ الخبر أباه خالدا فهرب فيمن معه وانتهى إلى ذي المروة قرب المدينة. وأقام عكرمة ردءا من خلفهم فردّ عنهم الروم فأقام قريبا من الشام. وجاء شرحبيل بن حسنة إلى أبي بكر وافدا من العراق من عند خالد فندب معه الناس وبعثه مكان الوليد إلى أردن، ومرّ بخالد ففصل ببعض أصحابه. ثم بعث أبو بكر معاوية وأمره باللحاق بأخيه يزيد، وأذن لخالد بن سعيد بدخول المدينة. وزحف الأمراء في العساكر نحو الشام، فعبّى هرقل عساكر الروم ونزل حمص بعد أن أشار على الروم بعدم قتال العرب ومصالحتهم على ما يريدون، فأبوا ولجّوا، ثم فرّقهم على أمراء المسلمين، فبعث شقيقه تدارق [2] في تسعين ألفا نحو عمرو بن العاص بفلسطين، وبعث جرجة بن توذر نحو يزيد بن أبي سفيان، وبعث الدراقص نحو شرحبيل بن حسنة بالأردن، وبعث القيقلان [3] بن نسطورس في ستين ألفا نحو أبي عبيدة بالجابية. فهابهم المسلمون ثم رأوا أنّ الاجتماع أليق بهم، وبلغ كتاب أبي بكر بذلك فاجتمعوا باليرموك أحدا وعشرين ألفا [4] . وأمر هرقل أيضا باجتماع جنوده ووعدهم بوصول ملحان إليهم ردءا [5] ، فاجتمعوا بحيال المسلمين والوادي خندق بينهم، فأقاموا بإزائه ثلاثة أشهر، واستمدوا أبا بكر فكتب   [1] بوزن سكر. مشدد. [2] هوفره دريك. [3] وفي نسخة أخرى: القيقار. [4] وفي نسخة أخرى: بضعة وعشرين الفا. [5] وفي النسخة الباريسية: مددا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 إلى خالد بن الوليد أن يستخلف على العراق المثنى بن حارثة ويلحق بهم وأمّره على جند الشام. بعوث الشام ولما استمدّ المسلمون أبا بكر بعث إليهم خالد بن الوليد من العراق واستحثّه في السير إليهم، فنفّذ خالد لذلك ووافى المسلمين مكانهم عند ما وافى ماهان والروم أيضا. وولّى خالد قباله وولى الأمراء قبل الآخرين إزاءهم فهزم ماهان، وتتابع الروم على الهزيمة وكانوا مائتين وأربعين ألفا وتقسموا بين القتل والغرق [1] في الواقوصة والهويّ في الخندق، وقتل صناديد الروم وفرسانهم، وقتل تدارق أخو هرقل، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص فارتحل وأخلد [2] إلى ما وراءها لتكون بينه وبين المسلمين وأصرّ [3] عليها وعلى دمشق. ويقال إنّ المسلمين كانوا يومئذ ستة وأربعين ألفا: سبعة وعشرين منها مع الأمراء، وثلاثة آلاف من إمداد أهل العراق مع خالد بن الوليد، وستة آلاف ثبتوا مع عكرمة رداء بعد خالد بن سعيد. وأن خالد بن سعيد سماهم [4] كراديس ستة وثلاثين كردوسا لما رأى الروم تعبّوا كراديس، وكان كل كردوس ألفا وكان ذلك في شهر جمادى، وأن أبا سفيان بن حرب أبلى يومئذ بلاء حسنا بسعيه وتحريضه. قالوا وبينما الناس في القتال قدم البريد من المدينة بموت أبي بكر وولاية عمر، فأسرّه إلى خالد وكتمه عن الناس. ثم خرج جرجه من أمراء الروم فطلب خالدا وسأله عن أمره وأمر الإسلام، فوعظه خالد فاستبصر وأسلم وكانت وهنا على الروم. ثم زحف خالد بجماعة من المسلمين فيهم جرجه فقتل من يومه، واستشهد عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو، وأصيبت عين أبي سفيان، واستشهد سلمة بن هشام وعمرو وأبان ابنا سعيد وهشام بن العاص وهبار [5] بن سفيان والطفيل بن عمرو، وأثبت   [1] وفي نسخة أخرى: الطرق. [2] وفي نسخة اخرى: وأجاز. [3] وفي نسخة أخرى: وأمّر. [4] وفي نسخة أخرى: عبأهم. [5] وفي نسخة أخرى: سيّار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 خالد بن سعيد فلا يعلم أين مات بعد ويقال استشهد في مرج الصّفر في الوقعة الأولى. ويقال إنّ خالدا لما جاء من العراق مددا للمسلمين بالشام طلب من الأدلّاء أن يغوروا به حتى يخرج من وراء الروم، فسلك به رافع بن عمرو الطائي من فزارة في بلاد كلب حتى خرج إلى الشام ونحر فيها الإبل وأغار على مضيخ [1] فوجد به رفقة [2] فقتلهم وأسلبهم، وكان الحرث بن الأيهم وغسّان قد اجتمعوا بمرج راهط فسلك إليهم واستباحهم، ثم نزل بصرى ففتحها، ثم سار منها إلى المسلمين بالواقوصة فشهد معهم اليرموك. ويقال: إنّ خالدا لمّا جاء من العراق إلى الشام لقي أمراء المسلمين ببصرى فحاصروها جميعا حتى فتحوها على الجزية، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص، وعمرو بالغور والروم يحلّق مع تدارق أخي هرقل، وكشفوا عن جلّق إلى أجنادين وراء الرملة شرقا، ثم تزاحف الناس فاقتتلوا، وانهزم الروم وذلك في منتصف جمادى الأولى من السنة، وقتل فيها تدارق، ثم رجع هرقل ولقي المسلمين بالواقوصة عند اليرموك، فكانت واقعة اليرموك كما قدّمنا في رجب بعد أجنادين، وبلغت المسلمين وفاة أبي بكر وأنها كانت لثمان بقين من جمادى الآخرة. خلافة عمر رضي الله عنه ولما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر رضي الله عنهما بالأمر من بعده بعد أن شاور عليه [3] طلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم وأخبرهم بما يريد فيه، فأثنوا على رأيه، فأشرف على الناس وقال: إني قد استخلفت عمر ولم آل لكم نصحا فاسمعوا له وأطيعوا. ودعا عثمان فأمره فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر، إني استعملت عليكم عمر ابن الخطّاب ولم آل لكم خيرا، فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن   [1] وفي نسخة أخرى، مصيخ. [2] وفي النسخة الباريسية. فصبح به رفعه. [3] وفي نسخة اخرى: عليّا وطلحة ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 جار وبدّل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» . فكان أوّل ما أنفذه من الأمور عزل خالد عن إمارة الجيوش بالشام وتولية أبي عبيدة، وجاء الخبر بذلك والمسلمون موافقون عدوّهم في اليرموك فكتم أبو عبيدة الأمر كله، فلما انقضى أمر اليرموك كما مرّ سار المسلمون إلى فحل من أرض الأردن وبها رافضة [1] الروم وخالد على مقدمة الناس فقاتلوا الروم. فتح دمشق واقتحموها عنوة وذلك في ذي القعدة ولحقت رافضة الروم بدمشق وعليها ماهان من البطارقة فحاصرهم المسلمون حتى فتحوا دمشق، وأظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد. وقال سببه أنّ أبا بكر كان يسخط خالد بن سعيد والوليد بن عقبة من أجل فرارهما كما مرّ، فلمّا ولي عمر رضي الله عنه أباح لهما دخول المدينة ثم بعثهما مع الناس إلى الشام، ولما فرغ أمر اليرموك وساروا إلى فحل وبلغ عمر خبر اليرموك فكتب فعزل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص حتى يصير الحرب إلى فلسطين فيتولاها عمرو، وأن خالدا قدم على عمر بعد العزل وذلك بعد فتح دمشق وأنهم ساروا إلى فحل فاقتحموها، ثم ساروا إلى دمشق وعليها نسطاس بن نسطورس فحاصروها سبعين ليلة وقيل ستة أشهر من نواحيها الأربع، خالد وأبو عبيدة ويزيد وعمرو كل واحد على ناحية. وقد جعلوا بينهم وبين هرقل مدينة حمص ومن دونها ذو الكلاع في جيش من المسلمين، وبعث هرقل المدد إلى دمشق وكان فيهم ذو الكلاع فسقّط في أيديهم وقدموا على دخول دمشق وطمع المسلمون فيهم، واستغفلهم خالد في بعض الليالي فتسور سورهم من ناحيته وقتل الوليد وفتح الباب واقتحم البلد وكبّروا وقتلوا جميع من لقوة. وفزع أهل النواحي إلى الأمراء الذين يلونهم فنادوا لهم بالصلح والدخول، فدخلوا من نواحيهم صلحا فأجريت ناحية خالد على الصلح مثلهم. قال سيف: وبعثوا إلى عمر بالفتح فوصل كتابه بأن يصرف جند العراق إلى العراق، فخرجوا وعليهم هاشم بن عتبة وعلى مقدمته القعقاع. وخرج الأمراء إلى فحل وأقام يزيد بن أبي سفيان بدمشق، وكان الفتح في رجب سنة أربع عشرة. وبعث   [1] وفي نسخة ثانية: واقعة الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 يزيد دحية الكلبيّ إلى تدمر، وأبا الأزاهر القشيري إلى حوران والبثنة [1] ، فصالحوهما ووليا عليهما، ووصل الأمراء الى فحل فبيتهم الروم فظفر المسلمون بهم وهزموهم فقتل منهم ثمانون ألفا وكان على الناس في وقعة فحل شرحبيل بن حسنة، فسار بهم إلى بيسان وحاصرها فقتل مقاتلتها وصالحه الباقون فقبل منهم. وكان أبو الأعور السلميّ على طبريّة محاصرا لها، فلما بلغهم شأن بيسان صالحوه فكمل فتح الأردن صلحا ونزلت القوّاد في مدائنها وقراها وكتبوا إلى عمر بالفتح. وزعم الواقدي أنّ اليرموك كانت سنة خمس عشرة وأنّ هرقل انتقل فيها من أنطاكية الى قسطنطينية وأنّ اليرموك كانت آخر الوقائع. والّذي تقدّم لنا من رواية سيف أنّ اليرموك كانت سنة ثلاث عشرة وأن البريد بوفاة أبي بكر قدم يوم هربت الروم فيه، وأن الأمراء بعد اليرموك ساروا إلى دمشق ففتحوها ثم كانت بعدها وقعة فحل، ثم وقائع أخرى قبل شخوص هرقل والله أعلم. خبر المثنى بالعراق بعد مسير خالد الى الشام لما وصل كتاب أبي بكر إلى خالد بعد رجوعه من حجّة بأن ينصرف إلى الشام أميرا على المسلمين بها ويخرج في شطر الناس ويرجع بهم إذا فتح الله عليه وإلى العراق ويترك الشطر الثاني بالعراق مع المثنّى بن حارسة، وفعل ذلك خالد ومضى لوجهه، وأقام المثنى بالحيرة ورتّب المصالح. واستقام أهل فارس بعد خروج خالد بقليل على شهريرار [2] بن شيرين بن شهريار ممن يناسبه إلى كسرى أبي سابور وذلك سنة ثلاث عشرة، فبعث إلى الحيرة هرمز فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا بعدوة الضرّاء وغار الفيل بين الصفوف فقتله المثنّى وناس معه، وانهزم أهل فارس واتّبعهم المسلمون يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدينة، ومات شهريار إثر ذلك وبقي ما دون دجلة من السواد في أيدي المسلمين. ثم اجتمع أهل فارس من بعد شهريار على آزرميدخت ولم ينفذ لها أمر فخلعت، وملك سابور بن شهريار وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان وزوّجه آزرميدخت،   [1] وفي نسخة ثانية: والبثينة. [2] وفي نسخة أخرى: شهريار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 فغضب وبعث [1] إلى سياوخش وكان من كبار الأساورة وشكت إليه، فأشار عليها بالقبول. وجاءه ليلة العرس فقتل الفرّخزاد ومن معه، ونهض إلى سابور فحاصره ثم اقتحم عليه فقتله، وملكت آزرميدخت وتشاغل بذلك آل ملكها [2] حتى انتهى شأن أبي بكر وصار السواد في سلطانه، وتشاغل أهل فارس عن دفاع المسلمين عنه. ولما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف المثنى على الناس بشر بن الخصاصية وخرج نحو المدينة يستعلم ويستأذن، فقدم وأبو بكر يجود بنفسه وقد عهد إلى عمر وأخبر الخبر، فأحضر عمر وأوصاه أن يندب الناس مع المثنى وأن يصرف أصحاب خالد من الشام إلى العراق، فقال عمر: يرحم الله أبا بكر علم أنه تستر في إمارة خالد فأمرني بصرف أصحابه ولم يذكره. ولاية أبي عبيد بن مسعود على العراق ومقتله ولما ولي عمر ندب الناس مع المثنى بن حارثة أياما وكان أوّل منتدب أبو عبيد بن مسعود، وقال عمر للناس: إنّ الحجاز ليس لكم بدار إلّا النجعة ولا يقوى عليه أهله إلّا بذلك أين المهاجرون عن موعد الله؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتب أن يورثكموها. فقال: ليظهره على الدين كله فاللَّه مظهر دينه ومعز ناصره ومولى أهله مواريث الأمم. أين عباد الله الصالحون؟ فانتدب أبو عبيد الثقفيّ، ثم سعد بن عبيد الأنصاري، ثم سليط بن قيس، فولّى أبا عبيد على البعث لسبقه، وقال: اسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجتهد مسرعا بل اتئد فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلّا الرجل المكيث الّذي يعرف الفرصة والكف. ولم يمنعني أن أؤمر سليطا إلّا لسرعته إلى الحرب، وفي السرعة إلى الحرب إلّا عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمرته. فكان بعث أبي عبيد هذا أوّل بعث بعثه عمر، ثم بعث بعده يغلي [3] بن أمية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران   [1] وفي نسخة أخرى: زوجة آزرميدخت، فغضبت وبعثت. [2] وفي نسخة أخرى: وتشاغلوا بذلك عن ملكها. [3] وفي نسخة أخرى: بعليّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في مرضه، وقال أخبرهم أنّا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك دينان بأرض العرب ثم نعطيهم أرضا كأرضهم وفاء بذمّتهم كما أمر الله. قالوا: فخرج أبو عبيد مع المثنى بن حارثة وسعد وسليط إلى العراق، وقد كانت بوران بنت كسرى كلما اختلفت الناس بالمدائن عدلت بينهم حتى يصلحوا، فلما قتل الفرّخزاد بن البندوان وملكت آزرميدخت اختلف أهل فارس واشتغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها، فبعثت بوران إلى رستم تستحثه للقدوم وكان على فرج [1] خراسان، فأقبل في الناس إلى المدائن وعزل الفرخزاد وفقأ عين آزرميدخت ونصبّ بوران، فملكته وأحضرت مرازبة فارس فأسلموا له ورضوا به وتوّجته. وسبق المثنى إلى الحيرة، ولحقه أبو عبيد ومن معه. وكتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين وبعث في كل رستاق رجلا لذلك، فكان في فرات باذقلا جابان وفي كسكرنرسي، وبعث جندا لمصادمة المثنى فساروا واجتمعوا أسفل الفرات. وخرج المثنى من الحيرة خوفا أن يؤتى من خلفه، فقدم عليه أبو عبيد، ونزل جابان النمارق ومعه جمع عظيم، فلقيه أبو عبيد هناك وهزم الله أهل فارس وأسر جابان ثم أطلق، وساروا في المنهزمين حتى دخلوا كسكر وكان بها نرسي ابن خالة كسرى فجمع الفالة إلى عسكره، وسار إليهم أبو عبيد من النمارق في تعبيته، وكان على مجنبتي نرسي نفدويه وشيرويه [2] ابنا بسطام خال كسرى. واتصلت هزيمة جابان ببوران ورستم فبعثوا الجالنوس مددا لنرسي وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر فاشتدّ القتال وانهزمت الفرس، وهرب نرسي وغنم المسلمون ما في عسكره، وبعث أبو عبيد المثنى وعاصما فهزموا من كان تجمّع من أهل الرساتيق وخرّبوا وسبوا وأخذوا الجزية من أهل السواد وهم يتربصون قدوم الجالنوس. ولمّا سمع به أبو عبيد سار إليه على تعبيته فانهزم الجالنوس وهرب ورجع أبو عبيد فنزل الحيرة، وقد كان عمر قال له: «إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والخزي تقدم على قوم تجرّءوا على الشرّ فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون   [1] الفرج: الخلل بين الشيئين، الثغر، فرج الوادي: بطنه. فرج الطريق: متنه. [2] وفي النسخة الباريسية: بندويه وتبروية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وأحرز لسانك ولا تفش سرّك فإن صاحب السر ما ضبّط متحصن لا يؤتي من وجه يكرهه وإذا ضيّعه كان بمضيعة» . ولما رجع الجالنوس إلى رستم بعث بهمن حادويه ذا الحاجب إلى الحيرة فأقبل ومعه درفش كابيان راية كسرى عرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر من جلود النمر فنزل في الناطف على الفرات، وأقبل أبو عبيد فنزل عدوته وقعد إلى أن نصبوا للفريقين جسرا على الفرات، وخيّرهم بهمن حادويه في عبوره أو عبورهم، فاختار أبو عبيد العبور وأجاز إليهم. وماجت الأرض بالمقاتلة ونفرت خيول المسلمين وكراديسهم من الفيلة، وأمر بالتخفيف عن الخيل فترجل أبو عبيد والناس وصافحوا العدوّ بالسيوف، ودافعتهم الفيلة فقطعوا وضنها [1] فسقطت رحالها وقتل من كان عليها، وقابل أبو عبيد فيلا منهم فوطئه بيده وقام عليه فأهلكه. وقاتلهم الناس ثم انهزموا عن المثنى وسبقه بعض المسلمين إلى الجسر [2] فقطعه، وقال: موتوا أو تظفروا. وتواثب بعضهم الفرات فغرقوا وأقام المثنى وناس معه مثل عروة بن زيد الخيل وأبي محجن الثقفي وأنظارهم، وقاتل أبو زيد الطائي كان نصرانيا قدم الحيرة لبعض أمره فحضر مع المثنى وقاتل حينئذ حميّة، ونادى المثنى الذين عبروا من المسلمين فعقدوا الجسر وأجاز بالناس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس فانفضّ أصحابه إلى المدينة وبقي المثنّى في فلّه جريحا. وبلغ الخبر إلى عمر فشق [3] عليه وعذر المنهزمين، وهلك من المسلمين يومئذ أربعة آلاف قتلى وغرقى وهرب ألفان وبقين ثلاثة آلاف. وبينما بهمن حادويه يروم العبور خلف المسلمين أتاه الخبر بأنّ الفرس ثاروا برستم مع الفيرزان فرجع إلى المدائن، وكانت الوقعة في مدائن سنة ثلاث عشرة. ولما رجع بهمن حادويه أتبعه جابان ومعه مردان شاه [4] ، وخرج المثنى في أثرهما فلما أشرف عليهما أتياه يظنان أنه هارب فأخذهما أسيرين، وخرج أهل الليس على أصحابهما فأتوا بهم أسرى وعقدوا معه مهادنة وقتل جميع الأسرى.   [1] ج وضين، الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج (قاموس) [2] وفي النسخة الباريسية: الى الحصن. [3] وفي النسخة الباريسية: اشتد عليه. [4] وفي نسخة اخرى: مردان شاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 ولمّا بلغ عمر رضي الله عنه وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى، وكان فيمن ندب بجيلة وأمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه الّذي جمعهم من القبائل بعد أن كانوا مفترقين ووعده النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك وشغل عن ذلك أبو بكر بأمر الردّة ووفّى له عمر به وسيّره مددا للمثنى بالعراق، وبعث عصمة بن عبد الله الضبّي، وكتب إلى أهل الردّة بأن يوافوا المثنى وبعث المثنّى الرسل فيمن يليه من العرب، فوافوه [1] في جموع عظيمة حتى نصارى النمر جاءوه وعليهم أنس بن هلال، وقالوا: نقاتل مع قومنا. وبلغ الخبر إلى رستم والفيروزان فبعثا مهران الهمدانيّ إلى الحيرة والمثنى بين القادسية وخفان، فلما بلغه الخبر استبقى فرات باذقلا وكتب بالخبر إلى جرير وعصمة ان يقصدا العذيب مما يلي الكوفة، فاجتمعوا هنالك ومهران قبالتهم عدوة الفرات وتركوا له العبور فأجاز إليهم. وسار إليه المثنّى في التعبية وعلى مجنبتيه مهران مرزبان الحيرة من الأزدبة [2] ومردان شاه، ووقف المثنى على الرايات يحرّض الناس فأعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت حربهم واشتدت، ثم حمل المثنى على مهران فأزاله عن مركزه، وأصيب مسعود أخو المثنّى، وخالط المثنّى القلب ووثب المجنبات على المجنبات قبالتهم فانهزمت الفرس، وسبقهم [3] المثنّى إلى الجسر فهربوا مصعدين ومنحدرين، واستلحمتهم خيول المسلمين وقتل فيها مائة ألف أو يزيدون، وأحصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة. وتبعهم المسلمون إلى الليل، وأرسل المثنّى في آثار الفرس، فبلغوا ساباط فغنموا وسبوا ساباط [4] واستباحوا القرى وسخّروا السواد بينهم وبين دجلة لا يلقون مانعا. ورجع المنهزمون إلى رستم فاستهانوا ورضوا أن يتركوا ما وراء دجلة. ثم خرج المثنّى من الحيرة واستخلف بشير بن الخصاصية وسار نحو السواد ونزل الليس من قرى الأنبار فسميت الغزاة، غزاة الأنبار الآخرة وغزاة الليس الآخرة، وجاءت إلى المثنّى عيون فدلته على سوق الخنافس وسوق بغداد، وأنّ سوق الخنافس أقرب ويجتمع بها تجّار المدائن والسواد وخفراؤهم ربيعة وقضاعة، فركب إليها وأغار عليها   [1] وفي النسخة الباريسية: فوافقه. [2] وفي نسخة اخرى: ابن الازاذبة [3] وفي النسخة الباريسية: وساقهم. [4] وفي النسخة الباريسية: فبلغوا السيب فغنموا وسبوا وبلغوا ساباط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 يوم سوق، فاشتفّ السوق وما فيها وسلب الخفراء ورجع إلى الأنبار فأتوه بالعلوفة والزاد وأخذ منهم أدلّاء تظهر له المدائن وسار بهم إلى بغداد ليلا، وصبح السوق فوضع فيهم السيف وأخذ ما شاء من الذهب والفضة والجيّد من كل شيء. ثم رجع إلى الأنبار وبعث المضارب العجليّ إلى الركان [1] وبه جماعة من تغلب فهربوا عنه، ولحقهم المضارب فقتل في أخرياتهم وأكثر. ثم سرّح فرات بن حيّان التغلبي وعتيبة ابن النّهاس للإغارة على أحياء من تغلب بصفين، ثم اتبعهما المثنّى بنفسه فوجدوا أحياء صفين قد هربوا عنها فعبر المثنّى إلى الجزيرة، وفني زادهم وأكلوا رواحلهم وأدركوا عيرا من أهل خفان [2] ، فحضر نفر من تغلب فأخذوا العير ودلّهم أحد الخفراء على حيّ من تغلب ساروا إليه يومهم، وهجموا عليهم فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية واستاقوا الأموال، وكان هذا الحيّ بوادي الرويحلة، فاشترى أسراهم من كان هنالك من ربيعة بنصيبهم من الفيء وأعتقوهم وكانت ربيعة لا تسبي في الجاهلية. ولما سمع المثنّى أنّ جميع من يملك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة خرج في اتباعهم فأدركهم بتكريت، فغنم ما شاء وعاد إلى الأنبار، ومضى عتيبة وفرات حتى أغارا على التمر وتغلب بصفّين، وتمكن رعب المسلمين من قلوب أهل فارس وملكوا ما بين الفرات ودجلة. أخبار القادسية ولما دهم أهل فارس من المسلمين بالسواد ما دهمهم وهم مختلفون بين رستم والفيرزان واجتمع عظماؤهم وقالوا لهما إمّا أن تجتمعا وإلّا فنحن لكما حرب فقد عرّضتمونا للهلكة وما بعد بغداد وتكريت إلى المدار [3] فأطاعا لذلك، وفزعوا إلى بوران يسألونها في ولد من آل كسرى يولّونه عليهم، فأحضرت لهم النساء والسراري وبسطوا عليهنّ العذاب فذكروا لهم غلاما من ولد شهريار بن كسرى اسمه يزدجرد أخذته أمه عند ما قتل شيرويه أبناء أبيه، فسألوا أمه عنه فدلتهم عليه عند أخواله كانت أودعته عندهم حينئذ فجاءوا به ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه واجتمعوا عليه، وتباري   [1] وفي نسخة أخرى الكباث. [2] ويقال أهل دبا. [3] وفي نسخة أخرى: المدائن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 المزاربة في طاعته وعيّن المسالح والجنود لكل ثغر ومنها الحيرة والأبلّة والأنبار وخرجوا إليها من المدائن. وكتب المثنّى بذلك إلى عمر، وبينما هو ينتظر الجواب انتقض أهل السواد وكفروا وخرج المثنّى إلى ذي قار، ونزل الناس في عسكر واحد. ولمّا وصل كتابه إلى عمر قال: «والله لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب» ، فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي وشرف وبسطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلّا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس، وكتب إلى المثنّى يأمره بخروج المسلمين من بين العجم والتفرّق في المياه بحيالهم، وأن يدعو الفرسان وأهل النجدات من ربيعة ومضر ويحضرهم طوعا وكرها، فنزل المسلمون بالحلة [1] وسروا [2] إلى عصيّ وهو جبل البصرة متناظرين، وكتب إلى عمّاله على العرب أن يبعثوا إليه من كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي وخرج إلى الحج، فحجّ سنة ثلاث عشرة، ورجع فجاءته أفواجهم إلى المدينة، ومن كان أقرب إلى العراق انضمّ إلى المثنّى، فلمّا اجتمعت عنده إمداد العرب خرج من المدينة واستخلف عليها عليّا وعسكر على صرار من ضواحيها، وبعث على المقدمة طلحة وجعل على المجنبتين عبد الرحمن والزبير وانبهم أمره على الناس، ولم يطق أحد سؤاله، فسأله عثمان. فأحضر الناس واستشارهم في المسير إلى العراق فقال العامة: سر نحن معك فوافقهم، ثم رجع إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر عليّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن واستشارهم فأشاروا بمقامه وأن يبعث رجلا بعده آخر من الصحابة بالجنود حتى يفتح الله على المسلمين ويهلك عدوّهم، فقبل ذلك ورأى فيه الصواب. وعين لذلك سعد بن أبي وقّاص وكان على صدقات هوازن فأحضره وولّاه حرب العراق وأوصاه وقال: «يا سعد بن أم سعد لا يغرّنك من الله أن يقال خال رسول الله وصاحب رسول الله فإنّ الله لا يمحو السيء بالسيئ ولكنه يمحو السيء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إلّا بطاعته فالناس في دين الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الّذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فألزمه وعليك بالصبر» . ثم سرحه في أربعة آلاف ممن اجتمع إليه فيهم: حميضة بن النعمان بن حميضة على   [1] وفي نسخة اخرى: بالجلّ. [2] وفي النسخة الباريسية: وسراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 بارق، وعمرو بن معديكرب وأبو سبرة بن أبي رهم على مذحج، ويزيد بن الحرث الصدائي على عذرة، وخبب ومسلية وبشر بن عبد الله الهلاليّ على قيس عيلان، والحصين بن نمير ومعاوية بن حديج على السكون وكندة. ثم أمر بعد خروجه بألفي يماني وألفي فخرى. وسار سعد وبلغه في طريقه بزرود [1] أنّ المثنّى مات من جراحة انتقضت، وأنه استخلف على الناس بشير بن الخصاصية، وكانت جموع المثنى ثلاثة آلاف، وكذلك أربعة آلاف من تميم والرباب وأقاموا، وعمر ضرب على بني أسد أن ينزلوا على حدّ أرضهم، فنزلوا في ثلاثة آلاف وأقاموا بين سعد والمثنّى، وسار سعد إلى سيراف فنزلها، واجتمعت إليه العساكر ولحقه الأشعث بن قيس ومعه ثلاثون ألفا، ولم يكن أحد أجرأ على الفرس من ربيعة، ثم عبّى سعد كتائب من سيراف وأمّر الأمراء وعرّف على كل عشرة عريفا، وجعل الرايات لأهل السابقة ورتّب المقدمة والساقة والمجنبات والطلائع وكل ذلك بأمر عمر ورأيه، وبعث في المقدمة زهرة بن عبد الله بن قتادة الحيوي من بني تميم فانتهى إلى العذيب، وعلى اليمامة عبد الله بن المعتمر، وعلى المسيرة شرحبيل بن السمط وخليفة بن خالد بن عرفطة حليف بني عبد شمس وعاصم بن عمر التميمي، وسواد بن مالك التميمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة. ثم سار على التعبية ولقيه المهنّي [2] بن حارثة الشيبانيّ بسيراف، وقد كان بعد موت أخيه المثنّى سار بذي قار إلى قابوس واستلحمه ومن معه ورجع إلى ذي قار. وجاء إلى سعد بالخبر ليعلمه بوصية المثنّى إليه أن لا تدخلوا بلاد فارس وقاتلوهم على حدّ أرضهم بادئ حجر من ارض العرب، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم وإلّا رجعتم إلى فئة ثم تكونوا أعلم بسبيهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يردّ الله الكرب. فترحم سعد ومن معه على المثنّى وولّى أخاه المهنّى على عمله وتزوّج سلمى زوجته، ووصله كتاب عمر بمثل رأي المثنّى يسأله عن سيراف. ونزل العرب ثم أتى القادسية فنزلها بحيال القنطرة بين العتيق والخندق، ووصله كتاب عمر يؤكد عليهم في الوفاء بالأنبار ولو كان إشارة أو ملاعبة، وكان زهرة في المقدمة فبعث سريّة للإغارة على الحيرة عليها بكر بن عبد الله الليثي، وإذا أخت مرزبان الحيرة تزفّ إلى زوجها فحمل   [1] وفي نسخة ثانية: يزرورد. [2] وفي نسخة ثانية: المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 بكير على ابن الأزادية فقتله وحملوا الأثقال والعروس في ثلاثين امرأة ومائة من التوابع ومعهم ما لا يعرف قيمته، ورجع بالغنائم فصبح سعد بالعذيب فقسّمه في المسلمين. ولما رجع سعد إلى القادسية أقام بها شهرا يشنّ الغارات بين كسكر والأنبار ولم يأته خبر عن الفرس، وقد بلغت أخبارهم إلى يزدجرد وأنّ ما بين الحيرة والفرات قد نهب وخرّب، فأحضر رستم ودفعه لهذا الوجه، فتقاعد عنه وقال: ليس هذا من الرأي. وبعث الجيوش يعقب بعضها بعضا أولى من مصادمة مرّة، فأبى يزدجرد إلا مسيره لذلك. فعسكر رستم بساباط وكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إليه لا يكترثنك ما يأتيك عنهم واستعن باللَّه وتوكل عليه، وابعث رجالا من أهل الراي والجلد يدعونه فإن الله جاعل ذلك وهنا لهم. فأرسل سعد نفرا منهم: النعمان بن مقرّن، وقيس بن زرارة [1] ، والأشعث بن قيس، وفرات بن حيّان وعاصم بن عمر، وعمرو بن معديكرب، والمغيرة بن شعبة، والمهنّى بن حارثة. فقدموا على يزدجرد وتركوا رستم، واجتمعوا واجتمع الناس ينظرون إليهم وإلى خيولهم ويردّوهم، فأحضرهم يزدجرد وقال لترجمانه: سلهم ما جاء بكم وما أولعكم بغزونا وبلادنا من أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فتكلّم النعمان بن مقرّن بعد أن استأذن أصحابه، وقال ما معناه: إنّ الله رحمنا وأرسل إلينا رسولا صفته كذا يدعونا إلى كذا ووعدنا بكذا فأجابه منّا قوم وتباعد قوم ثم أمر أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين مكره اغتبط وطائع ازداد حتى اجتمعنا عليه وعرفنا فضل ما جاء به ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ودعائهم إلى الإنصاف فإن أبيتم فأمر أهون من ذلك وهو الجزية فإن أبيتم فالمناجزة، فقال يزدجرد: لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفونا أمركم ولا تطمعوا أن تقوموا للفرس فإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتا وكسوناكم وملّكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فقال قيس بن زرارة: هؤلاء أشراف العرب والأشراف يستحيون من الأشراف وأنا أكلمك وهم يشهدون، فأمّا ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد ثم ذكر   [1] وفي نسخة ثانية: النعمان بن مقرن وبشر بن أبي أدهم وجملة من حيوة وحنظلة بن الربيع وعدي بن سهيل وعطارد بن حاجب والحرث بن حسّان والمغيرة بن زرارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 من عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما قال النعمان إلخ. ثم قال له: اختر إمّا الجزية عن يد وأنت صاغر أو السيف وإلّا فنجّ نفسك بالإسلام. فقال يزدجرد: لو قتل أحد الرسل قبلي لقتلتكم. ثم استدعى بوقر من تراب وحمل على أعظمهم، وقال: ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه اني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسية ثم يدوّخ بلادكم أعظم من تدويخ سابور. فقام عاصم بن عمر فحمل التراب على عنقه، وقال: أنا أشرف هؤلاء. ولما رجع إلى سعد فقال: أبشر فقد أعطانا الله تراب أرضهم وعجب رستم من محاورتهم، وأخبر يزدجرد بما قاله عاصم بن عمر، فبعث في أثرهم إلى الحيرة فأعجزوهم. ثم أغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على الفراض فاستاق ثلاثمائة دابة بين بغل وحمار وثور وآخرها سمكا وصبح بها العسكر، فقسّمه سعد في الناس، وواصلوا السرايا والبعوث لطلب اللحم، وأمّا الطعام فكان عندهم كثيرا. وسار رستم إلى ساباط في ستين ألفا وعلى مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا وساقته عشرون ألفا وفي الميمنة الهرمزان وفي المسيرة مهران بن بهرام الرازيّ، وحمل معه ثلاثة وثلاثين فيلا ثمانية عشر في القلب وخمسة عشر في الجنبين. ثم سار حتى نزل كوثى، فأتى برجل من العرب، فقال له رستم: ما جاء بكم وما تطلبون؟ فقال: نطلب وعد الله بأرضكم وأبنائكم إن لم تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم دون ذلك، قال من قتل دخل الجنة ومن بقي أنجزه الله وعده، قال رستم: فنحن إذا وضعنا في أيديكم، فقال: أعمالكم وضعتكم وأسلمكم الله بها فلا يغرنّك من ترى حولك فلست تحاول الناس [1] إنما تحاول القضاء والقدر. فغضب وأمر به فضربت عنقه. وسار فنزل الفرس وفشا من عسكره المنكر وغصبوا الرعايا أموالهم وأبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل، وقال: صدق والله العربيّ. وأتى ببعضهم فضرب عنقه. ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها فعزرهم [2] وهمّ بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا، وأرسل سعد السرايا إلى السواد وسمع بهم رستم فبعث لاعتراضهم الفرس، وبلغ ذلك سعدا فأمدّهم بعاصم بن عمر فجاءهم وخيل فارس تحتوشهم، فلما رأوا عاصم هربوا، وجاء عاصم بالغنائم.   [1] وفي النسخة الباريسية: الأنس. [2] وفي النسخة الباريسية: وهددهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 ثم أرسل سعد عمرو بن معديكرب وطليحة الأسديّ طليعة فلما ساروا فرسخا وبعضه، لقوا المسالح فرجع عمرو، ومضى طليحة حتى وصل عسكر رستم وبات فيه وهتك أطناب خيمة أو خيمتين واقتاد بعض الخيل وخرج يعدو به فرسه، ونذر به الفرس فركبوا في طلبه إلى أن أصبح وهم في أثره فكرّ على فارس فقتله ثم آخر وأسر الرابع، وشارف عسكر المسلمين فرجعوا عنه، ودخل طليحة على سعد بالفارسي ولم يخلف بعده فيهم مثله فأسلم ولزم طليحة. ثم سار رستم فنزل القادسية بعد ستة أشهر من المدائن، وكان يطاول خوفا وتقيّة، والملك يستحثّه وكان رأى في منامه كأن ملكا نزل من السماء ومعه النبيّ صلى الله عليه وسلم ودفعه النبي إلى عمر فحزن لذلك أهل فارس في سيره. ولمّا وصل القادسية وقف على العتيق حيال عسكر المسلمين والناس يتلاحقون حتى اغتموا من كثرتهم، وركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوّب [1] حتى وقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فواقفه وعرض له بالصلح. وقال: كنتم جيراننا وكنّا نحسن إليكم ونحفظكم ويقرّر صنيعهم مع العرب ويقول زهرة: ليس أمرنا بذلك [2] وإنما طلبنا الآخرة وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا دعانا الى دين الحق فأجبناه. وقال: قد سلطتكم على من لم يدن به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة. فقال رستم: وما هو دين الحق. فقال: الشهادتان وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله وأنتم إخوان في ذلك. فقال رستم: فإن أجبنا إلى هذا ترجعون؟ فقال: إي والله فانصرف عنه رستم. ودعا رجال فارس وذكر ذلك لهم فأنفوا، وأرسل الى سعد أن ابعث لنا رجلا نكلمه ويكلمنا، فبعث إليهم ربعي بن عامر وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم، فجلس على سرير من ذهب وبسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدودة بعصب، وقدم حتى انتهى الى البساط ووطئه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل فيهما، فلم يقبلوا ذلك وأظهروا التهاون. ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، وأشاروا إليه بوضع سلاحه فقال: لو أتيتكم فعلت كذا فأمركم وإنما دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البسط،   [1] وفي نسخة ثانية: وصوّت. [2] وفي نسخة ثانية: من أولئك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 ثم دنا من رستم وجلس على الأرض وركز رمحه على البساط وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم. فقال له الترجمان: ما جاء بكم، فقال: الله بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه الى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفىء إلى الجنّة أو الظفر. فقال رستم: هل لكم أن تؤخر هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم كم أحب إليك يوما أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: إنّ مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكّن الأعداء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك وأمرهم واختر إمّا الإسلام وندعك وأرضك أو الجزية فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك أو المنابذة في الرابع أن تنبذ [1] وأنا كفيل بهذا عن أصحابي. قال أسيّدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض يجيز أدناهم على أعلاهم. فخلا رستم برؤساء قومه وقال: رأيتم كلاما قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه. فقال: ويحكم إنما انظر إلى الرأي والكلام والسيرة والعرب تستخف اللّباس وتصون الأحساب. ثم أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن [2] ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه وتكلم وأجاب مثل الأول، فقال له: ما قعد بالأول عنا؟ فقال: أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي. فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟ فقال: إلى ثلاث من أمس وانصرف. وحاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم. وبعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة بن شعبة فلمّا وصل إليهم وهم على زيهم وبسطهم على غلوة من مجلس رستم فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه، فقال: لا أرى قوما أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضا بعضا فظننتكم كذلك وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم ملك على هذه السيرة. فقالت السفلة: صدق والله العربيّ، وقالت الأساطين [3] : لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله من يصغر أمر هذه الأمة. ثم تكلم رستم فعظم من   [1] وفي نسخة ثانية: إلا أن تبذلوا. [2] وفي النسخة الباريسية: ابن حصن. [3] وفي نسخة ثانية: الدهاقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 أمر فارس بل من شأن فارس وسلطانهم وصغر أمر العرب وقال: كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدونا في الجدب فنردّكم بشيء من التمر والشعير ولم يحملكم على ما صنعتم إلى ما بكم من الجهد ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلا وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون فلست أشتهي قتلكم. فتكلم المغيرة وخطب فقال: أما الّذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره والدنيا دول والشدة بعدها الرخاء ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم قليلا عما أوتيتم وقد أسلمكم ضعف [1] الشكر إلى تغير الحال وأن الله بعث فينا رسولا، ثم ذكر مثل ما تقدّم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال، ثم قال، وإن عيالنا ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه. فقال رستم: إذا تموتون دونها، فقال المغيرة: يدخل من قتل منا الجنة ويظفر من بقي منا بكم. فاستشاط غضبا وحلف أن لا يقع الصلح أبدا حتى أقتلكم أجمعين. وانصرف المغيرة وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم، وحذّرهم عاقبة حربهم، فلجّوا. وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب، فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الامتنان على العرب والتعريض بالمطامع، فلم يتفق شيء من رأيهم. فقال رستم: تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا وأرسل إليهم سعد بذلك وأرادوا القنطرة، فقال سعد: لا ولا كرامة لا نردّ عليكم شيئا غلبناكم عليه فأبى. فأتوا [2] يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسرا. ثم عبر رستم ونصب له سريره وجلس عليه وضرب طيارة وعبر عسكره، وجعل الفيلة في القلب والمجنبتين عليها الصناديق والرجال والرايات أمثال الحصون، وجعل الجالنوس بينه وبين الميمنة والفيرزان بينه وبين الميسرة، ورتب يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وما بينه وبين رستم رجلا على كل دعوة تنتقل إليه ينبئهم أخبار رستم في أسرع وقت. ثم أخذ المسلمون مصافهم واختط سعد قصره، وكان به عرق النساء وأصابته معه دماميل لا يستطيع معها الجلوس فصعد على سطح القصر راكبا على وسادة في صدره وأشرف على الناس، وعاب ذلك عليه بعض الناس فنزل واعتذر إليهم وأراهم القروح في جسده فعذروه، واستخلف خالد بن عرفطة على الناس   [1] وفي نسخة ثانية: وقد اسلمكم الله بضعف الشكر. [2] وفي نسخة ثانية: فباتوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وحبس من شغب عليه في القصر وقيدهم، وكان فيهم أبو محجن الثقفي، وقيل إنما حبسه بسبب الخمر. ثم خطب الناس وحثهم على الجهاد وذكرهم بوعد الله، وذلك في المحرم سنة أربع عشرة، وأخبرهم أنه استخلف خالد بن عرفطة. وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال مثل المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس وغالب وعمرو، ومن الشعراء الشماخ والحطيئة والعبديّ بل وعبدة بن الطيب وغيرهم ففعلوا، ثم أمر بقراءة الأنفال فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها، فلما فرغت القراءة قال سعد: الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإنّي مكبر تكبيرة فكبّروا واستعدّوا، فإذا سمعتم الثانية فكبّروا وأتموا عدّتكم، فإذا سمعتم الثالثة فكبّروا ونشطوا الناس، فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوّكم وقولوا لا حول ولا قوّة إلا باللَّه. فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس فاعتوروا الطعن والضرب، وارتجزوا الشعر، وأول من أسر في ذلك اليوم هرمز من ملوك الكبار [1] وكان متوّجا أسره غالب بن عبد الله الأسدي [2] فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب. وطلب البراز أسوار منهم فبرز إليه عمرو بن معديكرب فأخذه وجلده الأرض فذبحه وسلب سواريه ومنطقته. ثم حملوا الفيلة على المسلمين وأمالوها على بحيلة فثقلت عليهم، فأرسل سعد إلى بني أسد أن يدافعوا عنهم، فجاءه طليحة بن خويلد وحمل بن مالك فردّوا الفيلة، وخرج على طليحة عظيم منهم فقتله طليحة، وعير الأشعث بن قيس كندة بما يفعله بنو أسد فاستشاطوا ونهودا معه فأزالوا الذين بإزائهم. وحين رأس الفرس ما لقي الناس والفيلة من بني أسد حملوا عليهم جميعا وفيهم ذو الحاجب والجالنوس. وكبر سعد الرابعة فزحف المسلمون وثبت بنو أسد، ودارت رحى الحرب عليهم وحملت الفيول على الميمنة والميسرة ونفرت خيول المسلمين منها فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر هل من حيلة لهذه الفيلة؟ فبعث الرماة يرشقونها بالنبل واشتدّ لردّها آخرون يقطعون الوضن، وخرج عاصم بجميعهم ورحى الحرب على أسد، واشتدّ عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها، ونفس عن أسد أن أصيب منهم   [1] وفي نسخة ثانية: اللباب. [2] وفي نسخة ثانية: الازدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 خمسمائة وردّوا فارس إلى مواقفهم. ثم اقتتلوا إلى هدء من الليل وكان هذا اليوم الأول وهو يوم الرماة. ولما أصبح دفن القتلى وأسلم الجرحى إلى نساء يقمن عليهم، وإذا بنواصي الخيل طالعة من الشام. كان عمر بعد فتح دمشق عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عتبة يردّهم إلى العراق، فخرج بهم هاشم وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، فقام القعقاع على الناس صبيحة ذلك اليوم يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يقطعوا أعشارا بين كل عشرين مدّ البصر وكانوا ألفا، فسلم على الناس وبشرهم بالجنود وعرضهم على القتال، وطلب البراز فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع ونادى بالثأر لأصحاب الجسر، وتضاربا فقتله القعقاع وسرّ الناس بقتله، ووهنت الأعاجم لذلك. ثم طلب البراز فخرج إليه الفيرزان والبندوان. وأكثر المسلمون القتل في الفرس وأخذوا الفيلة عن القتال لأن نوابتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا حملها، وجعل القعقاع إبلا وجعل عليها البراقع وأركبها عشرة عشرة، وأطاف عليها الخيول تحملها، وحملها على خبل الفرس فنفرت منها وركبتهم خيول المسلمين، ولقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة. وبرز القعقاع يومئذ في ثلاثين فارسا في ثلاثين حملة فقتلهم، كان آخرهم بزرجمهر الهمدانيّ، وبارز الأعور بن قطنة [1] شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه. ولما انتصف النهار تزاحف الناس فاقتتلوا إلى انتصاف الليل وقتلوا عامة أعلام فارس، ثم أصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم بين الصفين ومن المسلمين ألفا جريح وقتيل ومن المشركين عشرة آلاف، فدفن المسلمون موتاهم وأسلموا الجرحى إلى النساء ووكلوا النساء والصبيان بحفر القبور، وبقي قتلى المشركين بين الصفين. وبات القعقاع يسرب أصحابه إلى حيث فارقهم بالأمس، وأوصاهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة يجدّد بذلك الناس، وجاء بينهما يلحق هاشم بن عتبة. فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحابه القعقاع فتقدموا والمسلمون يكبرون، فتزاحفت الكتائب عنا وهربا، وما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى لحق هاشم فعبّى أصحابه سبعين سبعين وكان فيهم قيس بن المكشوح فلما خالط القلب كبر وكبر المسلمون ثم كبر فخرق الصفوف إلى   [1] وفي النسخة الباريسية: بن خطبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 العتيق، ثم عاد وقد أصبح الفرس على مواقفهم وأعادوا الصناديق على الفيلة وأحدقوا الرجال بها يحمونها أن تقطع وضنها، وأقام الفرسان يحمون الرجالة فلم تنفر خيل المسلمين منها. وكان هذا اليوم يوم عماس وكان شديدا، إلا أن الطائفتين فيه سواء وأبلى فيه قيس بن المكشوح وعمرو بن معديكرب، زحفت الفيلة وفرّقت بين الكتائب. وأرسل سعد إلى القعقاع وعاصم أن أكفياني الأبيض وكان بإزائهما، وإلى محمل والذميل [1] أن أكفياني الأجرب وكان بإزائهما، فحملوا على الفيلين فقتل الأبيض ومن كان عليه وقطع مشفر الأجرب وفقئت عينه وضرب سائسه الذميل بالطبرزين فأفلت جريحا، وتحيّر الأجرب بين الطائفتين وألقى نفسه في العتيق واتبعته الفيلة وخرقت [2] صفوف الأعاجم في اثره، وقصدت المدائن بثوابتها [3] وهلك جميع من فيها. وخلص المسلمون والفرس فاختلفوا على سواء إلى المساء واقتتلوا بقية ليلتهم وتسمى ليلة الهرير. فأرسل سعد طليحة وعمرا إلى محاضة أسفل السكر يقومون عليها خشية أن يؤتى المسلمون منها، فتشاوروا أن يأتوا الأعاجم من خلفهم، فجاء طليحة وراء العسكر وكبر فارتاع أهل فارس، فأغار عمرو أسفل المخاضة ورجع وزاحفهم الناس دون إذن سعد وأوّل من زاحفهم من الناس دون إذن سعد زاحفهم القعقاع وقومه فحمل عليهم، ثم حمل بنو أسد ثم النخع ثم بحيلة ثم كندة، وسعد يقول في كل واحدة اللَّهمّ اغفر لهم وانصرهم. وقد كان قال لهم إذا كبرت ثلاثا فاحملوا، فلما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا صلاة العشاء واختلطوا وصليل الحديد كصوت القرن إلى الصباح. وركدت الحرب وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم وأقبل سعد على الدعاء، وسمع نصف الليل صوت القعقاع في جماعة من الرؤساء إلى رستم حتى خالطوا صفه مع الصبح فحمل الناس من كل جهة على من يليهم واقتتلوا إلى قائم ظهيرة، فناجز الفيرزان والهرمزان بعض الشيء وانفرج القلب، وهبت ريح عاصف فقلبت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير   [1] وفي نسخة ثانية: الدّميل. [2] وفي نسخة ثانية: وفرقت. [3] وفي نسخة ثانية: بوثوبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 وقد قام رستم عنه فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علقمة الحمل فوقع أحد العدلين على رستم فكسر ظهره، وضربه هلال ضربة نفحت مسكا وضرب نحو العتيق فرمى بنفسه فيه فاقتحم هلال وجرّه برجله فقتله، وصعد السرير وقال: قتلت رستم ورب الكعبة إليّ إليّ. فأطافوا به وكبروا. وقيل إن هلالا لما قصد رستم رماه بسهم، فأثبت قدمه بالركاب ثم حمل عليه، فقتله واحتز رأسه ونادى في الناس قتلت رستم. فانهزم قلب المشركين وقام الجالنوس على الردم ونادى الفرس إلى العبو، وتهافت المقترنون بالسلاسل في العتيق وكانوا ثلاثين فهلكوا، وأخذ ضرار بن الخطاب راية الفرس العظيمة وهي درفش كابيان فعوض منها ثلاثين ألفا وكانت قيمتها ألف ألف ومائة ألف ألف، وقتل ذلك اليوم من الأعاجم عشرة آلاف في المعركة، وقتل من المشركين في ذلك اليوم ستة آلاف دفنوا بالخندق سوى ألفين وخمسمائة قتلوا ليلة الهرير، وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله ولا بعده مثله. ونفل سعد هلال بن علقمة سلب رستم، وأمر القعقاع وشرحبيل باتباع العدوّ وقد كان خرج زهرة بن حيوة قبلهما في آثارهم، فلحق الجالنوس يجمع المنهزمين فقتله وأخذ سلبه، فتوقف سعد من عطائه، وكتب إلى عمر، فكتب إليه: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه أمض له سلبه وفضله على أصحابه في العطاء بخمسمائة. ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وأخذه عبد الرحمن بطائفة من الفرس قد استماتوا فقتلوهم أجمعين، واستمات بعد الهزيمة بضعة وثلاثون رئيسا من المسلمين فقتلوهم أجمعين. وكان ممن هرب من أمراء الفرس الهرمزان وأهودوزاد بيهس [1] وقارن، وممن استمات فقتل شهريار بن كبارا وأسر المدمرون والفردان الأهوازي وحشر شوم الهمدانيّ. وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبمن أصيب من المسلمين، وكان عمر يسأل الركبان حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله، فلما ألفى البشرى قال: من أين؟ فأخبره فقال: حدّثني فقال: هزم الله المشركين. ففرح بذلك. وأقام المسلمون بالقادسية ينتظرون كتاب عمر إلى أن وصلهم بالإقامة. وكانت وقعة القادسية سنة أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة.   [1] وفي نسخة ثانية: الفرزاد بن بيهس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 فتح المدائن وجلولاء بعدها ولما انهزم أهل فارس بالقادسية انتهوا إلى بابل وفيهم بقايا الرؤساء النخيزجان ومهران الأهوازي والهرمزان وأشباههم واستعملوا عليهم الفيرزان. وأقام سعد بعد الفتح شهرين وسار بأمر عمر إلى المدائن وخلف العيال بالعتيق في جند كثيف حامية لهم، وقدّم بين يديه زهرة بن حيوة وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن المعتمر [1] ، ولقيهم بعض عساكر الفرس برستن فهزموهم حتى لحقوا ببابل. ثم جاء سعد وسار في التعبية ونزلوا على الفيرزان ومن معه ببابل، فخرجوا وقاتلوا المسلمين، فانهزموا وافترقوا فرقتين ولحق الهرمزان بالأهواز والفيرزان بنهاوند وبها كنوز كسرى، وسار النخيزجان ومهران إلى المدائن فتحصنوا وقطعوا الجسر. ثم سار سعد من بابل على التعبية وزهرة في المقدمة، وقدم بين يديه بكير بن عبد الله الليثي وكثير بن شهاب السبيعي [2] حتى عبرا ولحقا بأخريات القوم، فقتلا في طريقهما اسوارين من أساورتهم، ثم تقدموا إلى كوثى [3] وعليها شهريار فخرج لقتالهم فقتل وانهزم أصحابه فافترقوا في البلاد. وجاء سعد فنفل قاتله سلبه. وتقدّم زهرة إلى ساباط فصالحه أهلها على الجزية وهزم كتيبة كسرى، ثم نزلوا جميعا نهرشير [4] من المدائن، ولما عاينوا الإيوان كبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى هذا ما وعد الله. وكان نزولهم عليها ذا الحجة سنة خمس عشرة فحاصروها ثلاثة أشهر ثم اقتحموها، وكانت خيولهم تغير على النواحي وعهد إليهم عمر أن من أجاب من الفلاحين ولم يعن عليهم فذلك أمانة، ومن هرب فأدرك فشأنكم به. ودخل الدهاقين من غربي دجلة وأهل السواد كلهم في أمان المسلمين واغتبطوا بملكهم، واشتد الحصار على نهرشير ونصبوا عليها المجانيق واستلحموهم في المواطن، وخرج بعض المرازبة يطلب البراز، فقاتله زهرة بن حيوة فقتلا معا، ويقال إن زهرة قتله شبيب الخارجي أيام الحجاج. ولما ضاق بهم الحصار ركب إليهم الناس بعض الأيام   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن المعتز. [2] وفي النسخة الباريسية: السعدي. [3] وفي النسخة الباريسية: كوتا. [4] وفي نسخة ثانية: بهرشير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 فلم يروا على الأسوار أحدا إلا رجلا يشير إليهم فقال: ما بقي بالمدينة أحد وقد صاروا إلى المدينة القصوى التي فيها الإيوان، فدخل سعد والمسلمون وأرادوا العبور إليهم فوجدوهم جمعوا المعابر عندهم، فأقام أياما من صبر ودلّه بعض العلوم على مخاضة في دجلة فتردّد، فقال له أقدم فلا تأتي عليك ثلاثة إلا ويزدجرد قد ذهب بكل شيء فيها. فعزم سعد على العبور وخطب الناس وندبهم إلى العبور ورغبهم، وندب من يجزى أن لا يجيء الفراض حتى يجيز إليه الناس، فانتدب عاصم بن عمر في ستمائة واقتحموا دجلة فلقيهم أمثالهم من الفرس عند الفراض وشدوا عليهم فانهزموا وقتل أكثرهم وعوروا من الطعن في العيون، وعاينهم المسلمون على الفراض، فاقتحموا في أثرهم يصيحون نستعين باللَّه ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا باللَّه العلي العظيم. وساروا في دجلة وقد طبقوا ما بين عدوتيها وخيلهم سابحة بهم وهم يهيمنون تارة ويتحادثون أخرى حتى أجازوا البحر ولم يفقدوا شيئا، إلا قدحا لبعضهم غلبت صاحبه عليه وجرية الماء وألقته الريح إلى الشاطئ. ورأى الفرس عساكر المسلمين قد أجازوا البحر فخرجوا هاربين إلى حلوان، وكان يزدجرد قدم إليها قبل ذلك عياله، ورفعوا ما قدروا عليه من عرض المتاع وخفيفة ومن بيت المال والنساء والذراري، وتركوا بالمدائن من الثياب والأمتعة والآنية والألطاف ما لا تحصر [1] قيمته، وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف مكرّرة ثلاث مرّات تكون جملتها ثلاث آلاف قنطار من الدنانير، وكان رستم عند مسيره إلى القادسية حمل نصفها لنفقات العساكر وأبقى النصف. واقتحمت العساكر المدينة تجول في سكسكها لا يلقون بها أحدا، وأرز سائر الناس إلى القصر الأبيض حتى توثقوا لأنفسهم على الجزية. ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ الإيوان به مصلّى ولم يغير ما فيه من التماثيل، ولما دخله قرأ «كَمْ تَرَكُوا من جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 44: 25» الآية، وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن وأتم الصلاة بنية الإقامة. وسرح زهرة بن حيوة في آثار الأعاجم إلى النهروان وقراها من كل جهة، وجعل على الأخماس عمرو بن عمرو بن مقرّن، وعلى القسم سلمان بن ربيعة الباهلي وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة، ووجدوا حلية كسرى ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان   [1] وفي نسخة ثانية: لا تحصى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 يجلس فيها للمباهاة أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين، وأخذ منهم أيضا وقر بغل من السيوف وآخر من الدروع والمغافر منسوبة كلها: درع هرقل وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وبهرام جور وسياوخش والنعمان بن المنذر وسيف كسرى وهرمز وقباد وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان أحضرها القعقاع وخيّره في الأسياف، فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وبعث إلى عمر سيف كسرى والنعمان وتاج كسرى وحليته وثيابه ليراها الناس. وقسّم سعد الفيء بين المسلمين بعد ما خمسه، وكانوا ستين ألفا فصار للفارس اثنا عشر ألفا وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل، ونفل من الأخماس في أهل البلاد، وقسم في المنازل بين الناس، واستدعى العيالات من العتيق فأنزلهم الدور ولم يزالوا بالمدائن حتى تم فتح جلولاء وحلوان وتكريت والموصل، واختططت الكوفة فتحولوا إليها، وأرسل في الخمس كل شيء يعجب العرب منهم أن يضع إليهم، وحضر إليهم نهار كسرى وهو الغطف وهو بساط طوله ستون ذراعا في مثلها مقدار مزرعة جريت في أرضه وهي منسوجة بالذهب طرقا كالأنهار وتماثيل خلالها بصدف الدر والياقوت وفي حافاتها كالأرض المزدرعة والمقبلة بالنبات ورقها من الحرير على قضبان الذهب وزهره حبات الذهب والفضة وثمره الجوهر، كانت الأكاسرة يبسطونه في الإيوان في فصل الشتاء عند فقدان الرياحين يشربون عليه، فلما قدمت الأخماس على عمر قسمها في الناس، ثم قال أشيروا في هذا القصب، فاختلفوا وأشاروا على نفسه، فقطعه بينهم، فأصاب عليّ قطعة منه باعها بعشرين ألفا ولم تكن بأجودها. وولى عمر سعد بن أبي وقاص على الصلاة والحرب فيما غلب عليه، وولى حذيفة بن اليمان على سقي الفرات، وعثمان بن حنيف على سقي دجلة، ولما انتهى الفرس بالهرب إلى جلولاء، وافترقت الطرق من هنالك بأهل آذربيجان والباب وأهل الجبال وفارس، وقفوا هنالك خشية الافتراق واجتمعوا على مهران الرازيّ وخندقوا على أنفسهم وأحاطوا الخندق بجسر الحديد، وتقدّم يزدجرد إلى حلوان. وبلغ ذلك سعدا فكاتب عمر بذلك يأمره أن يسرح بجلولاء هاشم ابن أخيه عتبة في اثني عشر ألفا وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وأن يولي القعقاع بعد الفتح ما بين السواد والجبل. فسار هاشم من المدائن لذلك في وجوه المسلمين وأعلام العرب حتى قدم جلولاء فأحاط بهم وحاصرهم في خنادقهم، وزاحفوهم ثمانين يوما ينصرون عليهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 كلها والمدد متصل من هاهنا وهاهنا ثم قاتلهم آخر الأيام فقتلوا منهم أكثر من ليلة الهرير، وأرسل الله عليهم ريحا وظلمة فسقط فرسانهم في الخندق وجعلوه طرقا مما يليهم ففسد حصنه، وشعر المسلمون بذلك فجاء القعقاع إلى الخندق فوقف على بابه، وشاع في الناس أنه أخذ في الخندق، فحمل الناس حملة واحدة انهزم المشركون لها وافترقوا، ومرّوا بالجسرة التي تحصنوا بها فعقرت دوابهم فترجلوا ولم يفلت منهم إلا القليل، يقال إنه قتل منهم يومئذ مائة ألف. واتبعهم القعقاع بالطلب إلى خانقين، وأجفل يزدجرد من حلوان إلى الري واستخلف عليها حشرشوم [1] ، وجاء القعقاع إلى حلوان فبرز إليه حشرشوم وعلى مقدمته الرومي، فقتله القعقاع وهرب حشرشوم من ورائه، وملك القعقاع حلوان وكتب إلى عمر بالفتح واستأذنوا في اتباعهم، فأبى وقال: وددت أنّ بين السواد والجبل سدا حصينا من ريف السواد فقد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. وأحصيت الغنيمة فكانت ثلاثين ألف ألف، فقسمها سلمان بن ربيعة، يقال: إنه أصاب الفارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب. وبعثوا بالأخماس إلى عمر مع زياد ابن أبيه. فلما قدم الخمس قال عمر: والله لا يجنه سقف حتى أقسمه، فجعله في المسجد وبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه، ولما أصبح جاء في الناس ونظر إلى ياقوتة وجوهرة فبكى، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر؟ قال: والله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا فيلقي الله بأسهم بينهم. ومنع عمر من قسمة السواد ما بين حلوان والقادسية فاقرّه حبسا، واشترى جرير بعضه بشاطئ الفرات فردّ عمر الشراء. ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغهم أن أدين بن الهرامون جمع جمعا وجاء بهم إلى السهل، فبعث إليه ضرار بن الخطاب في جيش فلقيهم بماسبدان فهزمهم وأسر أدين فقتله، وانتهى في طلبهم إلى النهروان وفتح ماسبدان عنوة وردّ إليها أهلها ونزل بها فكانت أحد فروج الكوفة، وقيل كان فتحها بعد نهاوند والله سبحانه أعلم.   [1] وفي النسخة الباريسية: خسرشوم وفي نسخة أخرى خشرشوم وفي الطبري ج 4 ص 136: خسروشنوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 ولاية عتبة بن غزوان على البصرة كان عمر عند ما بعث المثنى إلى الحيرة بعث قطبة [1] بن قتادة السدوسي [2] إلى البصرة فكان يغير بتلك الناحية، ثم استمدّ عمر فبعث إليه شريح بن عامر بن سعد ابن بكر فأقبل إلى البصرة ومضى إلى الأهواز، ولقيه مسلحة الأعاجم فقتلوه. فبعث عمر عتبة بن غزوان واليا على تلك الناحية، وكتب إلى العلاء بن الحضرميّ أن يمدّه بعرفجة بن هرثمة وأمره أن يقيم بالتخوم بين أرض العرب وأرض العجم، فانتهى إلى حيال الجسر وبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف وعتبة في خمسمائة والتقوا فقتلوا الأعاجم أجمعين وأسروا صاحب الفرات، ثم نزل البصرة في ربيع سنة أربع عشرة، وقيل إنّ البصرة بصرت سنة ست عشرة بعد جلولاء وتكريت. وأرسل سعد إليها عتبة فأقام بها شهرا وخرج إليه أهل الأبلة، وكانت مرفأ للسفن من الصين، فهزمهم عتبة وأحجرهم في المدينة ورجع إلى عسكره، ورعب الفرس فخرجوا عن الأبلة وحملوا ما خف وأدخلوا المدينة وعبروا النهر، ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه. ثم اختط البصرة وبدأ بالمسجد فبناه بالقصب. وجمع لهم أهل دست ميان فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا، وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر، وسأل عنهم فقيل له: انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة وأتوها. ثم سار عتبة إلى عمر بعد أن بعث مجاشع بن مسعود في جيش إلى الفرات، واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى قدوم مجاشع [3] ، وجاء ألف بيكان من عظماء الفرس إلى المسلمين ولقيهم المغيرة بن شعبة بالمرغاب وبينما هم في القتال إذ لحق بهم النساء وقد اتخذن خمرهن رايات، فانهزم الأعاجم وكتبوا بالفتح إلى عمر، فردّ عتبة إلى عمله فمات في طريقه، وقيل إن إمارة عتبة كانت سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة فوليها ستة أشهر، واستعمل عمر بعد المغيرة بن شعبة سنتين فلما رمى بما رمى به عزله، واستعمل أبا موسى. وقيل استعمل بعد عتبة أبا سبرة وبعده المغيرة.   [1] وفي نسخة ثانية: قتبة. [2] وفي نسخة ثانية: السلوسي. [3] وفي النسخة الباريسية: مشاجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها لما انهزم الروم بفحل سار أبو عبيدة وخالد إلى حمص واجتمعوا بذي الكلاع في طريقهم وبعث هرقل توذر البطريق للقائهم فنزلوا جميعا مرج الروم، وكان توذر بإزاء بخالد وشمس [1] بطريق آخر بإزاء أبي عبيدة وأمسوا متباريين [2] . ثم أصبح فلم يجدوا توذر وسار إلى دمشق واتبعه خالد، واستقبله يزيد من دمشق فقاتله، وجاء خالد من خلفه فلم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم. وقاتل شمس [3] أبو عبيدة بعد مسير خالد فانهزم الروم وقتلوا واتبعهم أبو عبيدة إلى حمص ومعه خالد، فبلغ ذلك هرقل فبعث بطريق حمص إليها وسار هو في الرهاء، فحاصر أبو عبيدة حمص حتى طلبوا الأمان فصالحهم، وكان هرقل يعدهم في حصارهم المدد، وأمر أهل الجزيرة بامدادهم فساروا لذلك. وبعث سعد بن أبي وقاص العساكر من العراق فحاصروا هبت وقرقيسيا فرجع أهل الجزيرة إلى بلادهم. ويئس أهل حمص من المدد فصالحوا على صلح أهل دمشق، وأنزل أبو عبيدة فيها السمط بن الأسود في بني معاوية من كندة الأشعث بن ميناس في السكون والمقداد في بلي وغيرهم، وولى عليهم أبو عبيدة عبادة بن الصامت وصار إلى حماة فصالحوه على الجزية عن رءوسهم والخراج عن أرضهم، ثم سار نحو شيزر فصالحوا كذلك، ثم إلى المعرة كذلك ويقال معرة النعمان وهو النعمان بن بشير الأنصاري. ثم سار إلى اللاذقية ففتحها عنوة ثم سليمة أيضا، ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين فاعترضه ميناس عظيم الروم بعد هرقل فهزمهم خالد وأثخن فيهم، ونازل قنسرين حتى افتتحها عنوة وخربها. وأدرب إلى هرقل من ناحيته، وأدرب عياض بن غنم لذلك، وأدرب عمر بن مالك من الكوفة إلى قرقيسيا، وأدرب عبد الله بن المعتمر من الموصل، فارتحل هرقل إلى القسطنطينية من أمدها، وأخذ أهل الحصون بين الإسكندرية [4] وطرسوس وشعبها أن ينتفع المسلمون بعمارتها. ولما بلغ عمر صنيع خالد قال: «أمّر   [1] وفي نسخة ثانية: شمر. [2] وفي نسخة ثانية: مستترين. [3] وفي نسخة ثانية: ششس. [4] هي الاسكندرونة مع مقتضى السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال» . وقد كان عزل خالدا والمثنى بن حارثة خشية أن يداخلهما كبر من تعظيم فوكلوا إليه، ثم رجع عن رأيه في المثنى عند قيامه بعد أبي عبيد، وفي خالد بعد قنسرين فرجع خالد إلى إمارته. ولما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب وبلغه أن أهل قنسرين غدروا فبعث إليهم السمط الكندي فحاصرهم وفتح وغنم، ووصل أبو عبيدة إلى خناصر [1] حلب وهو موضع قريب منها يجمع أصنافا من العرب، فصالحوا على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك. ثم أتى حلب وكان على مقدّمته عياض بن غنم الفهري فحاصرهم حتى صالحوه على الأمان، وأجاز ذلك أبو عبيدة، وقيل صولحوا على مقاسمة الدور والكنائس، وقيل انتقلوا إلى انطاكية حتى صالحوا ورجعوا إلى حلب. ثم سار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية وبها جمع كبير من فل قنسرين وغيرهم ولقوة قريبا منها فهزمهم وأحجرهم وحاصرهم حتى صالحوه على الجلاء أو الجزية ورحل عنهم، ثم نقضوا فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول وكانت عظيمة الذكر، فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتب فيها حامية مرابطة ولا يؤخر عنهم العطاء [2] . ثم بلغ أبا عبيدة أن جمعا بالروم بين معرة مصرين وحلب فسار إليهم فهزمهم وقتل بطارقتهم، وأمعن بل وأثخن فيهم، وفتح معرة مصرين على صلح حلب. وجالت خيوله فبلغت سرمين وتيري وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية، ثم فتح حلبة ثانية. وسار يريد قورس، وعلى مقدمته عياض، فصالحوه على صلح أنطاكية. وبث خيله ففتح تل نزار وما يليه، ثم فتح منبج على يد سلمان بن ربيعة الباهلي، ثم بعث عياضا إلى دلوك وعينتاب فصالحهم على مثل منبج واشترط عليهم أن يكونوا عونا للمسلمين. وولى أبو عبيدة على كل ما فتح من الكور عاملا وضم إليه جماعة وشحن الثغور المخوفة بالحامية. واستولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات، وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين. وبعث أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسيّ، فسلكوا درب تفليس إلى بلاد الروم فلقي جمعا للروم ومعهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل   [1] وفي نسخة ثانية: حاضر. [2] وفي النسخة الابريسية: ولا يجبي منهم العطاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 فأوقع بهم وأثخن فيهم، ولحق به على أنطاكية مالك بن الأشتر النخعي مددا، فرجعوا جميعا إلى أبي عبيدة. وبعث أبو عبيدة جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وخرّبها، وبعث جيشا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحرث كذلك. وفي خلل ذلك فتحت قيسارية، بعث إليها يزيد بن أبي سفيان أخاه معاوية بأمر عمر فسار إليها وحاصرهم بعد أن هزمهم، وبلغت قتلاهم في الهزائم ثمانين ألفا وفتحها آخرا وكان علقمة بن مجزز [1] على غزة وفيها القبفار من بطارقة الروم. وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس لما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص بعد واقعة مرج الروم نزل عمرو وشرحبيل على أهل بيسان فافتتحها وصالح أهل الأردن، واجتمع عسكر الروم بأجنادين وغزة وبيسان وعليهم أرطبون من بطارقة الروم، فسار عمرو وشرحبيل إليهم واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي. وكان الأرطبون قد أنزل بالرملة جندا عظيما من الروم وبيت المقدس كذلك، وبعث عمر وعلقمة بن حكيم الفراسي ومسرور [2] بن العكي لقتال أهل بيت المقدس، وبعث أبا أيوب المالكي إلى قتال أهل الرملة، وكان معاوية محاصرا لأهل قيسارية فشغل جميعهم عنه، ثم زحف عمرو إلى الأرطبون واقتتلوا كيوم اليرموك وأشدّ، وانهزم أرطبون إلى بيت المقدس وأفرج له المسلمون الذين كانوا يحاصرونها حتى دخل. ورجعوا إلى عمرو وقد نزل أجنادين. وقد تقدم لنا ذكر هذه الوقعة قبل اليرموك على قول من جعلها قبلها وهذا على قول من جعلها بعدها. ولما دخل أرطبون بيت المقدس فتح عمرو غزة، وقيل كان فتحها في خلافة أبي بكر، ثم فتح سبسطية وفيها قبر يحيى بن زكريا، وفتح نابلس على الجزية، ثم فتح مدينة لدّ، ثم عمواس وبيت حبرين ويافا ورفح وسائر مدائن الأردن. وبعث إلى الأرطبون فطلب أن يصالح كأهل الشام ويتولى العقد عمر وكتبوا إليه بذلك، فسار عن المدينة واستخلف عليّ بن أبي طالب بعد أن عذله في مسيره فأبى، وقد كان واعد أمراء الأجناد هنالك فلقيه   [1] مجزز: بجيم مفتوحة وزايين الاولى مشردة مكسورة كما في الكامل أهـ. [2] وفي نسخة ثانية: مسروق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير فنزل ورماهم بالحجارة، وقال: أتستقبلوني [1] في هذا الزي؟ وإنما شبعتم منذ سنتين والله لو كان على رأس الماءين لاستبدلت بكم فقالوا: إنها بلاد ثمن. وإن علينا السلاح، فسكت ودخل الجابية. وجاءه أهل بيت المقدس وقد هرب أرطبون عنهم إلى مصر، فصالحوه على الجزية وفتحوها له وكذلك أهل الرملة. وولى علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة، وعلقمة بن مجزز على النصف الآخر وأسكنه بيت المقدس، وضم عمرا وشرحبيل إليه فلقياه بالجابية. وركب عمر إلى بيت المقدس فدخلها وكشف عن الصخرة وأمر ببناء المسجد عليها وذلك سنة خمس عشرة وقيل سنة ست عشرة. ولحق أرطبون بمصر مع من أبى الصلح من الروم حتى هلك في فتح مصر، وقيل إنما لحق بالروم وهلك في بعض الصوائف. ثم فرّق عمر العطاء ودون الدواوين سنة خمس عشرة ورتب ذلك على السابقة. ولما أعطى صفوان بن أمية والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو أقل من غيرهم قالوا: لا والله لا يكون أحد أكرم منا. فقال: إنما أعطيت على سابقة الإسلام لا على الأحساب. قالوا فنعم إذا. وخرجوا إلى الشام فلم يزالوا مجاهدين وحتى أصيبوا. ولما وضع عمر الدواوين قال له عليّ وعبد الرحمن ابدأ بنفسك، قال لا بل بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب، ورتب ذلك على مراتب ففرض خمسة آلاف ثم أربعة ثم ثلاثة ثم ألفين وخمسمائة ثم ألفين ثم ألفا واحدا ثم خمسمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين ثم مائتين، وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف لكل واحدة وفضل عائشة بألفين، وجعل النساء على ما رتب فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين، والصبيان مائة مائة والمساكين جريبين [2] في الشهر، ولم يترك في بيت المال شيئا. وسئل في ذلك فأبى وقال: هي فتنة لمن بعدي. وسأل الصحابة في قوته من بيت المال، فأذنوا له وسألوه في الزيادة على لسان حفصة ابنته متكتمين عنه، فغضب وامتنع، وسألها عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشه وملبسه وفراشه فأخبرته بالكفاف من ذلك، فقال والله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالترجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقا   [1] الأصح ان يقول: تستقبلوني. [2] وفي نسخة ثانية: جرايتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وتزود الأول فبلغ المنزل واتبعه الآخر مقتديا به كذلك ثم جاء الثالث بعدهما فإن اقتفى طريقهما وزادهما لحق بهما وإلا لم يبلغهما. وفتحت في جمادى من هذه السنة تكريت لأن أهل الجزيرة كانوا قد اجتمعوا إلى المرزبان الّذي كان بها وهم من الروم وإياد وتغلب والنمر ومعهم المشهارجة ليحموا أرض الجزيرة من ورائهم، فسرح إليهم سعد بن أبي وقاص بأمر عمر، كاتبه عبد الله بن المعتمر وعلى مقدمته ربعي بن الأفكل وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة، فحاصروهم أربعين يوما وداخلوا العرب الذين معهم فكانوا يطلعونهم على أحوال الروم، ثم يئس الروم من أمرهم واعتزموا على ركوب السفن في دجلة للنجاة، فبعث العرب بذلك إلى المسلمين وسألوهم الأمان، فأجابوهم على أن يسلموا فأسلموا وواعدوهم الثبات والتكبير وأن يأخذوا على الروم أبواب البحر مما يلي دجلة ففعلوا. ولما سمع الروم التكبير من جهة البحر ظنوا أن المسلمين استداروا من هناك فخرجوا إلى الناحية التي فيها المسلمون فأخذتهم السيوف من الجهتين، ولم يفلت إلا من أسلم من قبائل ربيعة من تغلب والنمر وإياد. وقسمت الغنائم فكان للفارس ثلاثة آلاف درهم وللراجل ألف. ويقال إن عبد الله بن المعتمر بعث ربعي بن الأفكل بعهد عمر إلى الموصل ونينوى وهما حصنان على دجلة من شرقيها وغربيها، فسار في تغلب وإياد والنمر وسبقوه إلى الحصنين فأجابوا إلى الصلح وصاروا ذمة. وقيل بل الّذي فتح الموصل عتبة بن فرقد سنة عشرين وأنه ملك نينوى وهو الشرقي عنوة. وصالحوا أهل الموصل وهو الغربي على الجزية وفتح معها جبل الأكراد [1] وجميع أعمال الموصل وقيل إنما بعث عتبة بن فرقد عياض بن غنم عند ما فتح الجزيرة على ما نذكره والله أعلم. مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وارمينية كان أهل الجزيرة قد راسلوا هرقل وأغروه بالشام وأن يبعث الجنود إلى حمص وواعدوه المدد، وبعثوا الجنود إلى أهل هيت مما يلي العراق، فأرسل سعد عمر بن مالك بن جبير بن مطعم في جند وعلى مقدمته الحرث بن يزيد العامري فسار إلى هيت وحاصرهم، فلما رأى اعتصامهم بخندقهم حجر عليهم الحرث بن يزيد وخرج   [1] وفي النسخة الباريسية: معاقيل الأكراد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 في نصف العسكر وجاء قرقيسيا على غرّة فأجابوه إلى الجزية، وكتب إلى الحرث أن يخندق على عسكر الجزيرة فبيت حتى سألوا المسالمة والعود إلى بلادهم فتركهم ولحق بعمر بن مالك. ولما اعتزم هرقل على قصد حمص وبلغ الخبر أبا عبيدة ضمّ إليه مسالحه وعسكر بفنائها، وأقبل إليه خالد من قنسرين، وكتبوا إلى عمر بخبر هرقل فكتب إلى سعد أن يذهب بل أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو ويسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وان يسرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استدعوا الروم إلى حمص، وأن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم يقصد حران والرها، وأن يسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وأن يكون عياض بن غنم على أمراء الجزيرة هؤلاء إن كانت حرب. فمضى القعقاع من يومه في أربعة آلاف إلى حمص، وسار عياض بن غنم وأمراء الجزيرة كل أمير إلى كورته، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية يريد حمص مغيثا لأبي عبيدة. ولما سمع أهل الجزيرة خبر الجنود فارقوا هرقل ورجعوا إلى بلادهم، وزحف أبو عبيدة إلى الروم فانهزموا، وقدم القعقاع من العراق بعد الوقعة بثلاث، وكتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إليهم أن أشركوا أهل العرب في الغنيمة. وسار عياض بن غنم إلى الجزيرة وبعث سهيل بن عدي إلى الرقة عند ما انقبضوا عن هرقل فنهضوا معه، إلا إياد بن نزار، فإنّهم دخلوا أرض الروم. ثم بعث عياض بن سهيل وعبد الله يضمهما إليه، وسار بالناس إلى حران فأجابوه إلى الجزية. ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها فأجابوا إلى الجزية، وكمل فتح الجزيرة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر لما رجع من الجابية، وانصرف معه خالد أن يضم إليه عياض بن غنم مكانه ففعل، وولى حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها والوليد بن عقبة على عربها. ولما بلغ عمر دخول إياد إلى بلاد الروم، كتب إلى هرقل بلغني أن حيّا من أحياء العرب تركوا دارنا وأتوا دارك فو الله لتخرجنهم أو لنخرجنّ النصارى إليك، فأخرجهم هرقل وتفرّق منهم أربعة آلاف فيما يلي الشام والجزيرة، وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل منهم إلا الإسلام، فكتب إليه عمر إنما ذلك في جزيرة العرب إلى تل التي فيها مكة والمدينة واليمن فدعهم على أن لا ينصرفوا وليدا ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام. ثم وفدوا إلى عمر في أن يضع عنهم اسم الجزيرة فجعلها الصدقة مضاعفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 ثم عزل الوليد عنهم لسطوته وعزتهم، وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمر الجملي. وقال ابن إسحاق: إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة وإن سعدا بعث إليها الجند مع عياض بن غنم وفيهم ابنه عمر مع عياض بن غنم، ففتح عمر مع عياض الرها، وصالحت حرّان، وافتتح أبو موسى نصيبين، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية فصالحوه على الجزية، ثم كان فتح قيسارية من فلسطين، فتكون الجزيرة على هذا من فتوح أهل العراق والأكثر أنها من فتوح أهل الشام. وأن أبا عبيدة سيّر عياض بن غنم إليها، وقيل بل استخلفه لما توفي، فولاه عمر على حمص وقنسرين والجزيرة فسار إليها سنة ثمان عشرة في خمسة آلاف فانته طائفة إلى الرقة فحاصروها حتى صالحوه على الجزية والخراج على الفلاحين. ثم سار إلى بحران فجهز عليها صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة، وسار هو إلى الرها فحاصرها حتى صالحوه. ثم رجع إلى حران وصالحهم كذلك، ثم فتح سميساط وسروج ورأس كيفا فصالحوه على منبج كذلك، ثم آمد ثم ميافارقين ثم كفرتوثا [1] ثم نصيبين ثم ماردين ثم الموصل وفتح أحد حصنيها، ثم سار إلى أرزن الروم ففتحها ودخل الدرب إلى بدليس [2] . ثم خلاط فصالحوه وانتهى إلى اطراف أرمينية، ثم عاد إلى الرقّة ومضى إلى حمص فمات. واستعمل عمر عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين وقيل إن عياضا هو الّذي أرسله، وقيل إن أبا موسى الأشعري هو الّذي افتتح رأس عين بعد وفاة عياض بولاية عمر، وقيل إن خالدا حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد فأطلى بشيء فيه خمر وقيل لم يسر خالد تحت لواء أحد بعد أبي عبيدة. ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة أيضا ورتب فيها الجند وولى عليها، ولما أدرب عياض بن غنم من الجابية. فرجع عمر إلى المدينة سنة سبع عشرة وعلى حمص أبو عبيدة، وعلى قنسرين خالد بن الوليد من تحته، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى السواحل عبد الله بن قيس. وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال فانتجعه رجال منهم الأشعث بن قيس وأجازه بعشرة آلاف، وبلغ ذلك   [1] وفي النسخة الباريسية: كفرنونا. [2] وفي النسخة الباريسية: تفليس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 عمر مع ما بلغه في آمد من تدلكه بالخمر، فكتب إلى أبي عبيدة أن يقيمه في المجلس وينزع عنه قلنسوته ويعقله بعمامته ويسأله من أين أجاز الأشعث؟ فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله واضمم إليك عمله. فاستدعاه أبو عبيدة وجمع الناس وجلس على المنبر وسأل البريد [1] خالدا فلم يجبه، فقام بلال وأنقذ فيه أمر عمر وسأله، فقال: من مالي فأطلقه وأعاد قلنسوته وعمامته. ثم استدعاه عمر فقال من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان وما زاد على ستين ألفا فهو لك فجمع ماله فزاد عشرين فجعلها في بيت المال ثم استصلحه. وفي سنة سبع عشرة هذه اعتمر عمر ووسع في المسجد، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على من أبى البيع دورهم لذلك، وكانت العمارة في رجب وتولاها: مخرمة بن نوفل، والأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى وسعيد بن يربوع، واستأذنه أهل المياه أن يبنو المنازل بين مكة والمدينة فأذن لهم على شرط أن ابن السبيل أحق بالظل والماء. غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة وولاية أبي موسى كان العلاء بن الحضرميّ على البحرين أيام أبي بكر ثم عزله عمر بقدامة بن مظعون ثم أعاده، وكان العلاء يناوئ سعيد بن أبي وقاص ووقع له في قتال أهل الردة ما وقع، فلما ظفر سعد بالقادسية كانت أعظم من فعل العلاء، فأراد أن يؤثر في الفرس شيئا فندب الناس إلى فارس وأجابوه، وفرّقهم أجنادا بين الجارود بن المعلى والسوار ابن همام وخليد بن المنذر وأمره على جميعهم وحمله في البحر إلى فارس بغير إذن من عمر لأنه كان ينهي عن ذلك وأبو بكر قبله خوف الغرق. فخرجت الجنود إلى اصطخروا بإزائهم الهربذ في أهل فارس، وحالوا بينهم وبين سفنهم فخاطبهم خليد وقال: إنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب. ثم ناهدوهم واقتتلوا بطاوس، وقتل الجارود والسوار وأمر خليد أصحابه أن يقاتلوا رجّالة، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة، ثم خرج المسلمون نحو البصرة وأخذ الفرس عليهم الطرق فعسكروا   [1] وفي نسخة ثانية: اليزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وامتنعوا، وبلغ ذلك عمر فأرسل إلى عتبة بالبصرة يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وأمر العلاء بالانصراف عن البحرين إلى سعد بمن معه، فأرسل عتبة الجنود اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وأمثالهم وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم بن عامر بن لؤيّ، فساحل بالناس حتى لقوا خليدا والعسكر، وقد تداعى إليهم بعد وقعة طاوس أهل فارس من كل ناحية، فاقتتلوا وانهزم المشركون وقتلوا. ثم انكفؤا بما أصابوا من الغنائم واستحثهم عتبة بالرجوع فرجعوا إلى البصرة. ثم استأذن عتبة في الحج فأذن له عمر فحج، ثم استعفاه فأبى وعزم عليه ليرجعن إلى عمله فانصرف ومات ببطن نخلة على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد. واستخلف على عمله أبا سبرة بن أبي رهم فأقره عمر بقية السنة. ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، وكان بينه وبين أبي بكرة منافرة وكانا متجاوزين في مشربتين ينفذ البصر من إحداهما إلى الأخرى من كوتين، فزعموا أن أبا بكرة وزياد بن أبيه وهو أخوه لأمه [1] وآخرين معهما عاينوا المغيرة على حالة قذفوه بها، وادعوا الشهادة ومنعه أبو بكرة من الصلاة، وبعثوا إلى عمر، فبعث أبا موسى أميرا في تسعة وعشرين من الصحابة فيهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر ومعهم كتاب عمر إلى المغيرة: «أما بعد فقد بلغني عنك نبأ عظيم وبعثت أبا موسى أميراً فسلم إليه ما في يدك والعجل» . ولما استحضرهم عمر اختلفوا في الشهادة ولم يستكملها زياد فجلد الثلاثة. ثم عزل أبا موسى عن البصرة بعمر بن سراقة ثم صرفه إلى الكوفة ورد أبا موسى فأقام عليه. بناء البصرة والكوفة وفي هذه السنة وهي اربع عشرة بلغ عمر أن العرب تغيرت ألوانهم ورأى ذلك في وجوه وفودهم فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا، وقيل إن حذيفة وكان معه سعد كتب بذلك إلى عمر فسأل عمر سعدا فقال: غيرتهم وخومة البلاد والعرب لا يوافقها من البلاد إلا ما وافق إبلها، فكتب إليه أن يبعث سلمان وحذيفة شرقية فلم يرضيا إلا   [1] وفي النسخة الباريسية: اخوه لأبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 بقعة الكوفة فصليا فيها ودعيا أن تكون منزل ثبات. ورجع إلى سعد فكتب إلى القعقاع وعبد الله بن المعتمر أن يستخلفا على جند هما ويحضرا، وارتحل من المدائن فنزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة لسنتين وشهرين من وقعة القاسية ولثلاث سنين وثمانية أشهر من ولاية عمر، وكتب إلى عمر إني قد نزلت الكوفة بين الحيرة والفرات برّيا بحريا بين الجلاء والنصر وخيرت الناس بينهما وبين المدائن ومن أعجبته تلك جعلته فيها مسلحة، فلما استقروا بالكوفة ثاب إليهم ما فقدوه من حالهم. ونزل أهل البصرة أيضا منازلهم في وقت واحد مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرات نزلوها من قبل واستأذنوا جميعا في بنيان القصب، فكتب عمر: إن العسكرة أشد لحربكم وأذكر لكم وما أحب أن أخالفكم فابتنوا بالقصب. ثم وقع الحريق في القصرين فاستأذنوا في البناء باللبن فقال: افعلوا ولا يزيد أحد على ثلاثة بيوت ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنّة تلزمكم الدولة. وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل البصرة أبو المحرب عاصم بن الدلف. وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع، وماسبدان وعليها ضرار بن الخطاب، وقرقيسيا وعليها عمر بن مالك، والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر. ويكون بها خلفاؤهم إذا غابوا. فتح الأهواز والسوس بعدهما لما انهزم الهرمزان يوم القادسية قصد خوزستان وهي قاعدة الأهواز فملكها وملك سائر الأهواز، وكان أصله منهم من البيوتات السبعة في فارس، وأقام يغير على أهل ميسان ودست ميسان من ثغور البصرة يأتي إليها من منادر ونهير تيري من ثغور الأهواز. واستمد عتبة بن غزوان سعدا فأمده بنعيم بن مقرن، ونعيم بن مسعود، فنزلا بين ثغور البصرة وثغور الأهواز. وبعث عتبة بن غزوان سلمي بن القين وحرملة بن مريطة [1] من بني العدوية بن حنظلة فنزلا على ثغور البصرة بميسان، ودعوا بني العم بن مالك وكانوا ينزلون خراسان، فأهل البلاد يأمنونهم، فاستجابوا وجاء منهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي فلقيا سلمي وحرملة وواعداهما الثورة بمنادر ونهر تيري. ونهض سلمي وحرملة يوم الموعد في التعبية وأنهضا نعيما والتقوا هم   [1] وفي نسخة ثانية: بن قريضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 والهرمزان [1] وسلمي على أهل البصرة ونعيم على أهل الكوفة، وأقبل إليهما المدد من قبل غالب وكليب وقد ملك منادر ونهر تيري، فانهزم وقتل المسلمون من أهل فارس مقتلة، وانتهوا في اتباعهم إلى شاطئ دجيل وملكوا ما دونها. وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وصار دجيل بينه وبين المسلمين، ثم طلب الهرمزان الصلح فصالحوه على الأهواز كلها ما خلا [2] نهر تيري ومنادر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد، وبقيت المسالح على نهر تيري ومنادر وفيهما غالب وكليب. ثم وقع بينهما وبين الهرمزان اختلاف في التخم واوافقهما سلمي وحرملة فنقض الهرمزان ومنع ما قبل وكثف جنوده بالأكراد، وبعث عتبة بن غزوان حرقوص بن زهير السعدي لقتاله، فانهزم وسار إلى رامهرمز وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسقت [3] له البلاد إلى تستر. ووضع الجزية وكتب بالفتح وبعث في أثر الهرمزان جزء بن معاوية فانتهى الى قرية الشغر، ثم الى دورق فملكها وأقام بالبلاد وعمّرها وطلب الهرمزان الصلح على ما بقي من البلاد، ونزل حرقوص جبل الأهواز وكان يزدجرد في خلال ذلك يمد ويحرض أهل فارس حتى اجتمعوا وتعاهدوا مع أهل الأهواز على النصرة، وبلغت الأخبار حرقوصا وجزءا وسلمي وحرملة فكتبوا إلى عمر فكتب إلى سعد أن يبعث جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن ينزلون منازل الهرمزان، وكتب إلى أبي موسى أن يبعث كذلك جندا كثيفا مع سعد بن عدي أخي سهيل ويكون فيهم البراء من مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى الجندين أبو سبرة بن أبي رهم. فخرج النعمان بن مقرّن في أهل الكوفة فخلّف حرقوصا وسلمي وحرملة إلى الهرمزان وهو برام هرمز، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ولقيه فانهزم ولحق بتستر، وجاء النعمان إلى رامهرمز فنزلها وجاء أهل البصرة من بعده فلحقهم خبر الواقعة بسوق الأهواز فساروا حتى أتوا تستر، ولحقهم النعمان فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان، وأمدّهم عمر بأبي موسى جعله على أهل البصرة فحاصروهم أشهرا وأكثروا فيهم القتل، وزاحفهم المشركون ثمانين زحفا سجالا ثم انهزموا في آخرها، واقتحم المسلمون خنادقهم وأحاطوا بها وضاق عليهم الحصار فاستأمن بعضهم من   [1] وفي النسخة الباريسية: ولقوا الهرمزان. [2] وفي النسخة الباريسية: ما عدا. [3] وفي نسخة ثانية: اتسعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 داخل البلد بمكتوب في سهم على أن يدلهم على مدخل يدخلون منه، فانتدب لهم طائفة ودخلوا المدينة من مدخل الماء وملكوها وقتلوا المقاتلة، وتحصّن الهرمزان بالقلعة فأطافوا بها واستنزلوه على حكم عمرو وأوثقوه. واقتسموا الفيء فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف والراجل ألف. وقتل من المسلمين في تلك الليلة البرّاء بن مالك ومجزأة بن ثور قتلهما الهرمزان. ثم خرج أبو سبرة في أثر المنهزمين ومعه النعمان وأبو موسى فنزلوا على السوس، وسار زرّ ابن عبد الله الفقيمي إلى جنديسابور فنزل عليها. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالرجوع إلى البصرة وأمر مكانه الأسود بن ربيعة بن مالك صحابي يسمّى المقترب، وأرسل أبو سبرة بالهرمزان إلى عمر في وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج المذهب وتاجه مرصّعا بالياقوت وحليته ليراه المسلمون، فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه وقال يا هرمزان كيف رأيت أمر الله وعاقبة الغدر؟ فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم. فلما صار الآن معكم غلبتمونا. قال: فما حجتك وما عذرك في الانتقاض مرّة بعد أخرى؟ قال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قالا لا تخف ذلك. ثم استقى فأتي بالماء فقال: أخاف أن أقتل وأنا أشرب فقال لا بأس عليك حتى تشربه، فألقاه من يده وقال لا حاجة لي في الماء وقد أمّنتني. قال: كذبت. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين فقد قلت له لا بأس عليك حتى تخبرني وحتى تشربه وصدّق الناس. فأقبل عمر على الهرمزان وقال خدعتني لا والله إلا أن تسلم! فأسلم. ففرض له في ألفين وأنزله المدينة واستأذنه الأحنف بن قيس في الانسياح في بلاد فارس وقال: لا يزالون في الانتقاض حتى يهلك ملكهم فأذن له. ولما لحق أبو سبرة بالسوس [1] ونزل عليها وبها شهريار أخو الهرمزان فأحاط بها ومعه المقترب بن ربيعة في جند البصرة، فسأل أهل السوس الصلح فأجابوهم. وسار النعام بن مقرّن بأهل الكوفة إلى نهاوند وقد اجتمع بها الأعاجم، وسار المقترب إلى زرّ بن عبد الله على جنديسابور فحاصروها مدّة ثم رمى السهم بالأمان من خارج على الجزية فخرجوا لذلك، فناكرهم المسلمون فإذا عبد فعل ذلك أصله منهم، فأمضى عمر أمانه. وقيل في فتح السوس إنّ يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل   [1] وفي النسخة الباريسية: بالفرس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 إصطخر ومعه سباه [1] في سبعين ألفا من فارس فبعثه إلى السوس ونزل الكلبانية وبعث الهرمزان إلى تستر، ثم كانت واقعة أبي موسى فحاصرهم فصالحوه على الجزية وسار الى هرمز ثم إلى تستر. ونزل سباه بين رامهرمز وتستر، وحمل أصحابه على صلح أبي موسى ثم على الإسلام على أن يقاتلوا الأعاجم ولا يقتلوا العرب ويمنعهم هو من العرب، ويلحقوا بأشراف العطاء فأعطاهم ذلك عمر [2] وأسلموا وشهدوا فتح تستر، ومضى سباه إلى بعض الحصون في زي العجم فغدرهم وفتحه للمسلمين وكان فتح تستر وما بعدها سنة سبع عشرة وقيل ست عشرة. مسير المسلمين الى الجهات للفتح لما جاء الأحنف بن قيس بالهرمزان إلى عمر قال له: يا أمير المؤمنين لا يزال أهل فارس يقاتلون ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالانسياح في بلادهم فأزلنا [3] ملكهم انقطع رجاؤهم. فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة غير بعيد ويقيم حتى يأتي أمره، ثم بعث إليه مع سهيل بن عديّ بألوية الأمراء الذين يسيرون في بلاد العجم: لواء خراسان للأحنف بن قيس، ولواء أردشير خرة وسابور لمجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر لعثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودارابجرد لسارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان لسهيل بن عديّ، ولواء سجستان لعاصم بن عمرو، ولواء مكران للحكم بن عمير التغلبي [4] . ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة ثمان عشرة، ويقال سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين، ثم ساروا في بلاد العجم وفتحوا كما يذكر بعد. مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس وأصاب الناس سنة ثمان عشرة قحط شديد وجدب أعقب جوعا بعد العهد بمثله مع طاعون أتى على جميع الناس، وحلف عمر لا يذوق السمن واللبن حتى يحيا   [1] وفي نسخة ثانية: سياه. [2] وفي النسخة الباريسية: فعقد لهم ذلك عمر وأسلموا. [3] وفي النسخة الباريسية: فازلت ملكهم. [4] وفي نسخة ثانية: الثعلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 الناس، وكتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدّهم لأهل المدينة، فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام من مصر فرخص السعر، واستقى عمر بالناس فخطب الناس وصلّى. ثم قام وأخذ بيد العبّاس وتوسّل به ثم بكى وحثا على ركبتيه يدعوا إلى أن مطر الناس. وهلك بالطاعون أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم. وتفانى الناس بالشام، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها فدعا أبا موسى يرتاد له منزلا ومات قبل رحيله، وسار عمر بالناس إلى الشام وانتهى الى سرغ ولقيه أمراء الأجناد وأخبروه بشدّة الوباء، واختلف الناس عليه في قدومه فقبل إشارة العود ورجع، وأخبر عبد الرحمن بن عوف بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوباء فقال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه» . أخرجاه في الصحيحين. ولما هلك يزيد ولّى عمر على دمشق مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان وعلى الأرض شرحبيل بن حسنة، ولمّا فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر على المسير إليه ليقسّم مواريث المسلمين ويتطوّف على الثغور ففعل ذلك، ورجع واستقضى في سنة ثمان عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكنديّ، وعلى البصرة كعب بن سوار الأزديّ. وحج في هذه السنة ويقال إن فتح جلولاء والمدائن والجزيرة كان في هذه السنة وقد تقدّم ذكر ذلك وكذلك فتح قيسارية على يد معاوية وقيل سنة عشرين. فتح مصر ولما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه ثم اتبعه الزبير بن العوّام فساروا سنة عشرين أو إحدى أو اثنين أو خمس فاقتحموا باب إليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر ولقيهم الجاثليق أبو مريم والأسقف قد بعثه المقوقس، وجاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية والمنع وأخبره بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، وأجلّهم ثلاثا ورجعوا إلى المقوقس وأرطبون أمير الروم فأبى من ذلك أرطبون وعزم على الحرب وبيّت المسلمين فهزموه وجنده. ونازلوا عين شمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وهي المطريّة وبعثوا لحصار الفرما أبرهة [1] بن الصبّاح، ولحصار الإسكندرية عوف ابن مالك، وراسلهم أهل البلاد وانتظروا عين شمس فحاصرهم عمرو والزبير مدة حتى صالحوهما على الجزية، وأجروا ما أخذوا قبل ذلك عنوة، فجرى الصلح وشرطوا ردّ السبايا فأمضاه لهم عمر بن الخطّاب على أن يجيز السبايا في الإسلام وكتب العهد بينهم ونصّه: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمر وبن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافّتهم وصاعهم [2] ومدّهم وعددهم لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقص ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليه ممن جنى نصرتهم فإن أبي أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم [3] وذمتنا ممّن أبى بريّة وإن نقص نهرهم من غايته [4] إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله ما لهم وعليه ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا، وعليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلاث جباية ثلث ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر» هذا نص الكتاب منقولا من الطبري. قال فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح ونزل المسلمون الفسطاط، وجاء أبو مريم الجاثليق يطلب السبايا التي بعد المعركة في أيام الأجل فأبى عمرو من ردّها وقال: أغاروا وقاتلوا وقسّمتهم في الناس، وبلغ الخبر إلى عمر فقال: من يقاتل في أيام الأجل فله الأمن وبعث بهم إلى الرباق [5] فردّهم عليهم. ثم سار عمرو إلى الإسكندرية فاجتمع له من بينهما وبين الفسطاط من الروم والقبط فهزمهم وأثخن   [1] وفي نسخة ثانية: الفورفا أبرهة. [2] وفي النسخة الباريسية: وصلبهم. [3] وفي نسخة ثانية: من الجزية بعددهم. [4] وفي النسخة الباريسية: من عادته [5] وفي نسخة ثانية: الرقاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 فيهم، ونازل الإسكندرية وبها المقوقس وسأله الهدنة إلى مدّة فلم يجبه وحاصرهم ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وغنم ما فيها وجعلهم ذمة. وقيل إنّ المقوقس صالح عمرا على اثني عشر ألف دينار على أن يخرج من يخرج ويقيم من يقيم باختيارهم وجعل عمرو فيها جندا. ولما تم فتح مصر والإسكندرية أغزى عمرو العساكر إلى النوبة فلم يظفروا، فلما كان أيام عثمان وعبد الله بن أبي سرح على مصر صالحهم على عدّة رءوس في كل سنة ويهدي إليهم المسلمون طعاما وكسوة فاستمرّ ذلك فيها [1] . وقعة نهاوند وما كان بعدها من الفتوحات لما فتحت الأهواز ويزدجرد بمرو كاتبوه واستنجدوه، فبعث إلى الملوك ما بين الباب والسند وخراسان وحلوان يستمدّهم فأجابوه، واجتمعوا إلى نهاوند وعلى الفرس الفيرزان في مائة وخمسين ألف مقاتل. وكان سعد بن أبي وقّاص قد ألّب أقوام عليه من عسكره، وشكوا إلى عمر فبعث محمد بن مسلمة في الكشف عن أمره فلم يسمع إلّا خيرا سوى مقالة من بني عبس، فاستقدمه محمد إلى عمر وخبّره الخبر. وقال: كيف تصلّي يا سعد؟ قال: أطيل [2] الأولتين وأحذف الأخيرتين. قال: هكذا [3] الظنّ بك، ثم قال: من خليفتك على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقرّه وشافهه بخبر الأعاجم وأشار بالانسياح ليكون أهيب على العدوّ. فجمع عمر الناس واستشارهم بالمسير بنفسه، فمن موافق ومخالف إلى أن اتفق رأيهم على أن يبعث الجنود ويقيم ردءا لهم، وكان ذلك رأي عليّ وعثمان وطلحة وغيرهم، فولّى على حربهم النعمان بن مقرّن المزني وكان على جند الكوفة بعد انصرافهم من حصار السوس، وأمره أن يصير إلى ماء لتجتمع الجيوش عليه ويسير بهم إلى الفيرزان ومن معه. وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر الناس مع النعمان، فبعثهم مع حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرّن، وكتب إلى المقترب وحرملة وزرّ الذين كانوا بالأهواز وفتحوا السوس وجنديسابور أن يقيموا بتخوم أصبهان وفارس ويقطعوا المدد   [1] وفي نسخة ثانية: فيما بعد. [2] وفي النسخة الباريسية: أصلى الأولتين. [3] وفي النسخة الباريسية: هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 عن أهل نهاوند. واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة وجرير والمغيرة وابن عمر وأمثالهم، وأرسل النعمان طليحة وعمرو بن معديكرب طليعة، ورجع عمرو من طريقه. وانتهى طليحة إلى نهاوند ونفض الطرق فلم يلق بها أحدا وأخبر الناس، فرحل النعمان وعبّى المسلمين ثلاثين ألفا، وجعل على مقدمته نعيم بن مقرّن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرّن وعلى المجردة القعقاع وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. ومع الفيرزان كتائبه وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جادويه مكان ذي الحاجب، وقد توافي إليهم بنهاوند كل من غاب من القادسية من أبطالهم. فلما تراءى الجمعان كبر المسلمون وحطت العرب الأثقال وتبادر أشراف الكوفة إلى فسطاط النعمان فبنوه، حذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وعقبة بن عمرو وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب وبشير بن الخصاصية والأشعث بن قيس ووائل بن حجر وسعيد بن قيس الهمدانيّ. ثم تزاحفوا للقتال يوم الأربعاء والخميس والحرب سجال ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياما، وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق وتشاوروا، وأشار طليحة باستخراجهم للمناجزة بالاستطراد فناشبهم القعقاع فبرزوا إليه كأنهم حبال حديد قد تواثقوا أن لا يفرّوا وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا، فلمّا بارزوا استطرد لهم حتى فارقوا الخنادق وقد ثبت لهم المسلمون ونزل الصبر، ثم وقف النعمان على الكتائب وحرّض المسلمين ودعا لنفسه بالشهادة، وقال: إذا كبّرت الثالثة فاحملوا. ثم كبّر وحمل عند الزوال وتجاول الناس ساعة وركدت الحرب ثم انفض الأعاجم وانهزموا وقتلوا ما بين الظهر والعتمة حتى سالت أرض المعركة دما تزلق فيه المشاة حتى زلق فيه النعمان وصرع، وقيل بل أصابه سهم، فسجّاه أخوه نعيم بثوب. وتناول الراية حذيفة بعهده وتواصوا بكتمان موته. وذهب الأعاجم ليلا وعميت عليهم المذاهب، وعقرهم حسك الحديد ووقعوا في اللهب الّذي أعدوه في عسكرهم فمات منهم أكثر من مائة ألف منها نحو ثلاثين ألفا في المعركة، وهرب الفيرزان بعد أن صرع إلى همذان واتبعه نعيم بن مقرّن فأدركه بالثنية دونها وقد سدّتها الأحمال وترجل وصعد في الجبل، وكان نعيم قد قدّم القعقاع أمامه فاعترضه وقتله المسلمون على الثنية، ودخل الفلّ همذان وبها خسروشنوم فنزل المسلمون عليها مع نعيم والقعقاع، ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة وغنموا ما فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 وجمعوه إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع. ووليّ على الجند حذيفة بعهد النعمان إليه. ثم جاء الهربذ صاحب بيت النار إلى حذيفة فأمّنه وأخرج له سفطين مملو أين [1] جوهرا نفيسا كانا من ذخائر كسرى أودعهما عنده البخرجان [2] فنقلهما المسلمون، وبعث الخمس مع السائب إلى عمر وأخبره بالواقعة وبالفتح بمن استشهد فبكى، وبالسفطين فقال ضعهما [3] في بيت المال والحق بجندك. قال السائب: ثم لحقني رسوله بالكوفة فردني إليه فلما رآني قال: ما لي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان نارا يتوعدوني بالكي إن لم أقسّمهما فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين. فبعتهما بالكوفة من عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم وباعهما عمرو بأرض الأعاجم بضعفهما، فكان له بالكوفة مال. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف والراجل ألفين ولم يكن للفرس من بعدها اجتماع. وكان أبو لؤلؤة قاتل عمر من أهل نهاوند حصل في أسر الروم وأسره الفرس منهم، فكان إذا لقي سبّي نهاوند بالمدينة يبكي ويقول: أكل عمر كبدي. وكان أبو موسى الأشعري قد حضر نهاوند على أهل البصرة فلما انصرف مرّ بالدينور فحاصرها خمسة أيام، ثم صالحوه على الجزية. وسار إلى أهل شيروان [4] فصالحوه كذلك. وبعث السائب بن الأقرع إلى الصيمرة [5] ففتحها صلحها. ولما اشتدّ الحصار بأهل همذان بعث خسروشنوم إلى نعيم والقعقاع في الصلح على قبول الجزية فأجابوه إلى ذلك ثم اقتدى أهل الماهين وهم الملوك الذين جاءوا لنصرة يزدجرد وأهل همذان، وبعثوا إلى حذيفة فصالحوه. وأمر عمر بالانسياح في بلاد الأعاجم، وعزل عبد الله بن عبد الله بن عتبان عن الكوفة وبعثه في وجه آخر. وولّى مكانه زياد بن حنظلة حليف بني عبد قصيّ واستعفى فأعفاه، وولّى عمار بن ياسر، واستدعى ابن مسعود من حمص فبعثه معه معلما لأهل الكوفة، وأمدّهم بأبي موسى، وأمدّ   [1] وفي نسخة ثانية: صفتين مملوءتين. [2] وفي نسخة ثانية: البجرجان. [3] وفي النسخة ثانية: صنهما. [4] وفي النسخة الباريسية: سيروان [5] وفي النسخة الباريسية: العميرة وفي نسخة ثانية: العميرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 أهل البصرة مكانه بعبد الله بن عبد الله، ثم بعثه إلى أصبهان مكان حذيفة، وولّى على البصرة عمرو بن سراقة. ثم انتقض أهل همذان فبعث إلى نعيم بن مقرّن فحاصرهم، وصار بعد فتحها إلى خراسان، وبعث عتبة بن فرقد وبكر بن عبد الله إلى أذربيجان يدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل، ولما وصل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان، وكان من الصحابة من وجوه الأنصار حليف بني الحبلي فأمدّه بأبي موسى، وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحيّ وعصمة بن عبد الله، فسار إلى نهاوند ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة. فسار عبد الله بمن معه ومن تبعه من عند النعمان نحو أصبهان، وعلى جندها الأسبيدان وعلى مقدمته شهريار بن جادويه في جمع عظيم برستاق أصبهان، فاقتتلوا وبارز عبد الله بن ورقاء شهريار فقتله، وانهزم أهل أصبهان وصالحهم الأسبيدان على ذلك الرستاق، ثم ساروا إلى أصبهان وتسمى جي [1] وملكها الفادوسفان [2] ، فصالحهم على الجزية والخيار بين المقام والذهاب وقال: ولكم أرض من ذهب. وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز فدخل معه أصبهان وكتبوا إلى عمر بالفتح. فكتب إلى عبد الله أن يسير إلى سهيل بن عديّ لقتال كرمان، فاستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل أن يصل كرمان، وقد قيل: إنّ النعمان بن مقرّن حضر فتح أصبهان أرسله إليها عمر من المدينة واستجاش له أهل الكوفة فقتل في حرب أصبهان، والصحيح أنّ النعمان قتل بنهاوند. وافتتح أبو موسى قم وقاشان. ثم ولّى عمر على الكوفة سنة إحدى وعشرين المغيرة بن شعبة وعزل عمّارا. فتح همذان كان أهل همذان قد صالح عليهم خسروشنوم القعقاع ونعيما وضمنهما ثم انتقض فكتب عمر إلى نعيم أن يقصدها فودّع حذيفة ورجع إليها من الطريق على تعبيته، فاستولى على بلادها أجمع حتى صالحوا على الجزية، وقيل إن فتحها كان سنة أربع وعشرين فبينما نعيم يجول في نواحي همذان إذ جاء الخبر بخروج الديلم وأهل الريّ   [1] وفي النسخة الباريسية: وتسمّى جرّ. [2] وفي النسخة الباريسية: الفادوسوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 وإسفنديار أخو رستم بأهل آذربيجان، فاستخلف نعيم على همذان يزيد بن قيس الهمدانيّ وسار إليهم فاقتتلوا وانهزم الفرس وكانت واقعتها ومثل نهاوند وأعظم. وكتبوا إلى عمر بالفتح فأمر نعيما بقصد الري والمقام بها بعد فتحها. وقيل إنّ المغيرة بن شعبة أرسل من الكوفة جرير بن عبد الله إلى همذان ففتحها صلحها وغلب على أرضها، وقيل تولّاها بنفسه وجرير على مقدمته. ولما فتح جرير همذان بعث البرّاء بن عازب إلى قزوين ففتح ما قبلها، وسار إليها فاستنجدوا بالديلم فوعدوهم ثم جاء البرّاء في المسلمين فخرجوا لقتالهم والديلم وقوف على الجبل ينظرون، فيئس أهل قزوين منهم وصالحوا البرّاء على صلح أبهر قبلها. ثم غزا البرّاء الديلم وجيلان [1] . فتح الري ّ ولما انصرف نعيم من واقعته سار إلى الري وخرج إليه أبو الفرخان من أهلها في الصلح وأبى ذلك ملكها سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين، واستمدّ أهل دنباوند [2] وطبرستان وقومس [3] وجرجان فأمدّوه [4] والتقوا مع نعيم فشغلوا به عن المدينة، وقد كان خلفهم أبو فرخان. ودخل المدينة من الليل ومعه المنذر بن عمر وأخو نعيم فلم يشعروا وهم موافقون لنعيم إلّا بالتكبير من ورائهم، فانهزموا وقتلوا وأفاء الله على المسلمين بالريّ مثل ما كان بالمدائن، وصالحه أبو الفرخان الزبيني [5] على البلاد فلم يزل شرفهم في عقبه. وأخرب نعيم مدينتهم العتيقة وأمر ببناء أخرى. وكتب إلى عمر بالفتح وصالحه أهل دنباوند على الجزية فقبل منهم. ولما بعث بالأخماس إلى عمر كتب إليه بإرسال أخيه سويد إلى قومس ومعه هند بن عمرو الجملي، فسار فلم يقم له أحد وأخذها سلما وعسكر بها. وكاتبه الفلّ الذين بطبرستان وبالمفاوز فصالحوه على الجزية، ثم سار إلى جرجان وعسكر فيها ببسطام وصالحه ملكها على الجزية، وتلقاه مرزبان صول قبل جرجان فكان معه حتى جبى   [1] وفي النسخة الباريسية: ومرقان التيبر والطيلسان [2] وفي النسخة الباريسية: ديناوند [3] وفي النسخة الباريسية: وقوقس. [4] وفي النسخة الباريسية: فأوفدوه وفي نسخة أخرى: فأمّروه. [5] وفي النسخة الباريسية: المرسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الخراج وأراه مروجها وسدّها، وقيل كان فتحها سنة ثلاثين أيام عثمان، ثم أرسل سويد إلى الأصبهبذ صاحب طبرستان على الموادعة فقبل وعقد له بذلك. فتح أذربيجان ولما افتتح نعيم الريّ أمره عمر أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري إلى أذربيجان ممدّا لبكير بن عبد الله [1] ، وكان بكير بن عبد الله عند ما سار إلى أذربيجان لقي بالجبال أسفنديار بن فرّخزاد مهزوما من واقعة نعيم من ماح رود [2] دون همذان وهو أخو رستم فهزمه بكير وأسره. فقال له: أمسكني عندك فأصالح لك على البلاد وإلا فرّوا إلى الجبال وتركوها، وتحصّن من تحصّن إلى يوم ما فأمسكه وسارت البلاد صلحا إلّا الحصون. وقدم عليه سماك وهو في مثل ذلك وقد افتتح ما يليه وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه، وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدّم، فأذن له أن يتقدّم نحو الباب وأن يستخلف على ما افتتح، فاستخلف عتبة بن فرقد وجمع له عمر أذربيجان كلها، فولّى عتبة سماك بن خرشة [3] على ما افتتحه بكير. وكان بهرام بن الفرّخزاد قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره مقتصدا [4] معترضا له فلقيه عتبة وهزمه، وبلغ خبر الإسفنديار وهو أسير عند بكير فصالحه واتبعه أهل أذربيجان كلهم. وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر وبعثوا بالأخماس فكتب عمر لأهل أذربيجان كتاب الصلح، ثم غزا عتبة بن فرقد شهرزور والصامغان ففتحهما بعد قتال على الجزية والخراج، وقتل خلقا من الأكراد، وكتب إلى عمر أن فتوحي بلغت أذربيجان فولّاه إياه وولى هرثمة بن عرفجة الموصل. فتح الباب ولما أمر عمر بكير بن عبد الله بغزو الباب والتقدم إليها، بعث سراقة بن عمرو على حربها فسار من البصرة، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة وعلى إحدى   [1] وفي نسخة ثانية: لبكر بن عبد الله. [2] وفي نسخة ثانية: معهم ابو حرود. [3] وفي النسخة الباريسية: ابن خرثمة. [4] وفي النسخة الباريسية: معتصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 مجنبتيه ابن أسيد الغفاريّ وعلى الأخرى بكير بن عبد الله المتقدم والى المقاسم سلمان بن ربيعة الباهليّ، وردّ أبا موسى الأشعري إلى البصرة مكان سراقة، ثم أمدّ سراقة بجبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة، وسار سراقة من أذربيجان، فلما وصل عبد الرحمن بن ربيعة في مقدّمته على الباب والملك بها يومئذ شهريار من ولد شهريرار الّذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام منهم، فكاتبه شهريار واستأمنه على أن يأتي فحضر وطلب الصلح والموادعة على أن تكون جزيته النصر والطاعة للمسلمين، قال: ولا تسومونا الجزية فتوهنونا لعدوّكم. فسيّره عبد الرحمن إلى سراقة فقبل منه وقال: لا بدّ من الجزية على من يقيم ولا يحارب العدوّ. فأجاب، وكتبوا إلى عمر فأجاز ذلك. فتح موقان وجبال ارمينية ولما فرغ سراقة من الباب بعث [1] أمراء إلى ما يليه من الجبال المحيطة بأرمينية، فأرسل بكير بن عبد الله إلى موقان، وحبيب بن مسلمة إلى تفليس، وحذيفة بن اليمان إلى جبال اللان [2] ، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر. وكتب بالخبر الى عمر فلم يرج تمام ذلك لأنه فرج عظيم، ثم بلغه موت سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة، فأقرّه عمر على فرج الباب وأمره ب غزو الترك . ولم يفتح أحد من أولئك الأمراء إلّا بكير بن عبد الله فإنه فتح موقان، ثم تراجعوا على الجزية دينارا عن كل حالم. غزو الترك ولما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك سار حتى الباب وسار معه شهريار فغزا بلنجر وهم قوم من الترك ففرّوا منه وتحصّنوا، وبلغت خيله على مائتي فرسخ من بلنجر وعاد بالظفر والغنائم. ولم يزل يردّد الغزو فيهم إلى أيام عثمان فتذامر الترك وكانوا يعتقدون أن المسلمين لا يتقلون لأنّ الملائكة معهم، فأصابوا في هذه الغزاة رجلا من المسلمين على غرّة فقتلوه وتجاسروا، وقاتل عبد الرحمن فقتل وانكشف أصحابه، وأخذ الراية أخوه سلمان فخرج بالناس ومعه أبو هريرة الدوسيّ فسلكوا على جيلان إلى جرجان.   [1] وفي النسخة الباريسية: ولما فرغ من الباب بعث سراقة. [2] وفي نسخة ثانية: اللات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 فتح خراسان ولما عقدت الألوية للأمراء للانسياح في بلاد فارس كان الأحنف بن قيس منهم بخراسان وقد تقدم، أن يزدجرد سار بعد جلولاء إلى الريّ وبها أبان جادويه من مرازبته فأكرهه على خاتمه، وكتب الضحّاك بما اقترح من ذخائر يزدجرد وختم عليها وبعث بها إلى سعد، فردّها عليه على حكم الصلح الّذي عقد له. ثم سار يزدجرد والناس معه إلى أصبهان ثم إلى كرمان ثم رجع إلى مرو من خراسان فنزلها وأمن من العرب، وكاتب الهرمزان وأهل فارس بالأهواز والفيرزان وأهل الجبال فنكثوا [1] جميعا وهزمهم الله وخذلهم وأذن عمر للمسلمين بالانسياح في بلادهم. وأمّر الأمراء كما قدّمناه وعقد لهم الألوية، فسار الأحنف إلى خراسان سنة ثمان عشرة وقيل اثنتين وعشرين فدخلها من الطبسين [2] ، وافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان [3] العبديّ، ثم سار إلى مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور مطرّف بن عبد الله بن الشخّير، وإلى سرخس الحرث بن حسّان، ودرج يزدجرد من مرو الشاهجان إلى مروالروذ فملكها الأحنف ولحقه مدد أهل الكوفة هنالك، فسار الى مروالروذ واستخلف على الشاهجان حارثة بن النعمان الباهلي وجعل مدد الكوفة في مقدّمته، والتقوا هم ويزدجرد على بلخ فهزموه وعبر النهر فلحقهم الأحنف وقد فتح الله عليهم، ودخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور وطخارستان. وولّى على طخارستان ربعي بن عامر، وعاد الى مروالروذ فنزلها وكتب إلى عمر بالفتح، فكتب إليه أن يقتصر على ما دون النهر. وكان يزدجرد وهو بمروالروذ قد استنجد ملوك الأمم وكتب إلى ملك الصين وإلى خاقان ملك الترك وإلى ملك الصغد، فلما عبر يزدجرد النهر مهزوما أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمروالروذ ونزل المشركون عليه، ثم رحل ونزل سفح الجبل في عشرين ألفا من أهل البصرة وأهل الكوفة وتحصن العسكران بالخنادق وأقاموا   [1] وفي النسخة الباريسية: فنكبوا. [2] وفي النسخة الباريسية: الطمسين. [3] وفي نسخة أخرى: فلال وكذا في الكامل والطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 يقاتلون [1] أياما، وصحبهم الأحنف ليلة وقد خرج فارس من الترك يضرب بطبله ويتلوه اثنان كذلك، ثم يخرج العسكر بعدهم عادة لهم، فقتل الأحنف الأوّل ثم الثاني ثم الثالث فلما مرّ بهم خاقان تشاءم وتطير ورجع أدراجه فارتحل وعاد إلى بلخ، وبلغ الخبر إلى يزدجرد وكان على مرو الشاهجان محاصرا لحارثة بن النعمان ومن معه فجمع خزائنه وأجمع اللحاق بخاقان على بلخ، فمنعه أهل فارس وحملوه على صلح المسلمين والركون إليهم وأنهم أوفى ذمة من الترك، فأبى من ذلك وقاتلهم فهزموه واستولوا على الخزائن، ولحق بخاقان وعبروا النهر إلى فرغانة، وأقام يزدجرد ببلد الترك أيام عمر كلها إلى أن كفر أهل خراسان أيام عثمان. ثم جاء أهل فارس إلى الأحنف ودفعوا إلى الخزائن والأموال وصالحوه واغتبطوا بملكة المسلمين، وقسّم الأحنف الغنائم فأصاب الفارس ما أصابه يوم القادسية. ثم نزل الأحنف بلخ وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع ورجع إلى مروالروذ فنزلها، وكتب بالفتح إلى عمر. وكان يزدجرد لما عبر النهر لقي رسوله الّذي بعثه إلى ملك الصين قد رده إليه يسأله أن يصف له المسلمين الذين فعلوا به هذه الأفاعيل مع قلّة عددهم، ويسأل عن وفائهم ودعوتهم وطاعة أمرائهم ووقوفهم عند الحدود ومآكلهم وشرابهم وملابسهم ومراكبهم، فكتب إليه بذلك كله. وكتب إليه ملك الصين أن يسالمهم فإنّهم لا يقوم لهم شيء بما قام نردبل [2] ، فأقام يزدجرد بفرغانة بعهد من خاقان. ولمّا وصل الخبر إلى عمر خطب الناس وقال: ألا وإنّ ملك المجوسية قد ذهب فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم، ألا وإنّ الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون فلا تبدّلوا فيستبدل الله بكم غيركم، فإنّي لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتي إلّا من قبلكم [3]   [1] وفي النسخة الباريسية: يقتتلون. [2] كذا في الأصل: وفي الكامل ج 3 ص 37: «وكتب ملك الصين إلى يزدجرد «إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند اوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحقّ عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوّها ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة ولا تهيّجهم ما لم يهيّجوك» . [3] وفي النسخة الباريسية: أن تؤتوا الأمر قبلكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 فتوح فارس ولما خرج الأمراء الذين توجهوا إلى فارس من البصرة افترقوا وسار كل أمير إلى جهته وبلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم وكانت تلك هزيمتهم وشتاتهم. وقصد مجاشع بن مسعود من الأمراء سابور وأردشيرخرة فاعترضه الفرس دونهما بتوّج فقتلهم وأثخن فيهم، وافتتح توّج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر، فكانت واقعة توّج هذه ثانية لواقعة العلاء بن الحضرميّ عليهم أيام طاوس ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقرّوا بها. إصطخر: وقصد عثمان بن أبي العاص إصطخر فزحفوا إليه يحور [1] ، فهزمهم وأثخن فيهم وفتح جور وإصطخر ووضع عليهم الجزية وأجابه الهربذ إليها، وكان ناس منهم فرّوا فتراجعوا إليها. وبعث بالفتح والخمس إلى عمر. ثم فتح كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها، ولحق به أبو موسى فافتتحها مدينة شيراز وأرّجان على الجزية والخراج، وقصد عثمان جنابة [2] ففتحها ولقي الفرس بناحية جهرم فهزمهم وفتحها. ثم نقض شهرك في أوّل خلافة عثمان فبعث عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم وأتته الأمداد من البصرة وعليه عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد والتقوا بأرض فارس، فانهزم شهرك وقتله الحكم بن أبي العاصي وقيل سوار بن همّام العبديّ وقيل إن ابن شهرك حمل على سوار فقتله. ويقال إن إصطخر كانت سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين. وقيل إنّ عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين إلى فارس في ألفين، فسار إلى توّج وعلى مجنبته الجارود وأبو صفرة والد المهلب، وكان كسرى أرسل شهرك في الجنود إلى لقائهم، فالتقوا بتوّج وهزمهم إلى سابور وقتل شهرك وحاصروا مدينة سابور حتى صالح عليها ملكها واستعانوا به على قتال إصطخر، ثم مات عمر رضي الله عنه، وبعض عثمان بن عفّان عبيد الله بن معمر مكان عثمان بن أبي العاص وأقام محاصرا إصطخر وأراد ملك سابور الغدر به، ثم أحصر وأصابت عبيد الله حجارة منجنيق فمات بها. ثم فتحوا المدينة فقتلوا بها بشرا كثيرا منهم.   [1] وفي الكامل ج 3 ص 40: مقصد. عثمان بن أبي العاص الثقفي لاصطخره فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا. [2] وفي نسخة ثانية: جينا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 بسا ودرابجرد: وقصد سارية بن زنيم الكناني من أمراء الانسياح مدينة بسا [1] ودارابجرد فحاصرهم، ثم استجاشوا بأكراد فارس واقتتلوا بصحراء، وقام عمر على المنبر ونادى يا سارية الجبل، يشير إلى جبل كان إزاءه أن يسند إليه، فسمع ذلك سارية ولجأ إليه ثم انهزم المشركون، وأصاب المسلمون مغانمهم وكان فيها سفط جوهر فاستوهبه سارية من الناس، وبعث به مع الفتح إلى عمر، ولما قدم به الرسول سأله عمر فأخبره عن كل شيء ودفع إليه السفط فأبى إلا أن يقسّم على الجند فرجع به وقسمه سارية. كرمان: وقصد سهيل بن عديّ من أمراء الانسياح كرمان ولحق به عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وحشد أهل كرمان واستعانوا بالقفص وقاتلوا المسلمين في أدنى أرضهم فهزموهم بإذن الله، وأخذ المسلمون عليهم الطريق بل الطرق ودخل النسير [2] بن عمرو العجليّ [3] إلى جيرفت وقتل في طريقه مرزبان كرمان، وعبد الله بن عبد الله مفازة شيرزاد وأصابوا ما أرادوا من إبل وشاء. وقيل إنّ الّذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ. ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر وقال: أقطعني الطبسين، فأراد أن يفعل فقال إنها رستاقان فامتنع. سجستان: وقصد عاصم بن عمرو من الأمراء سجستان ولحق به عبد الله بن عمير وقاتلوا أهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم وحصروهم وبزرنج ومخروا أرض سجستان، ثم طلبوا الصلح [4] على مدينتهم وأرضها، على أن الفدافد حمى، وبقي أهل سجستان على الخراج [5] وكانت أعظم من خراسان وأبعد فروجا يقاتلون القندهار والترك وأمما أخرى، فلما كان زمن معاوية هرب الشاة من أخيه نبيل [6] ملك الترك إلى بلد من سجستان يدعى آمل، وكان على سجستان سلم بن زياد بن أبي سفيان فعقد له وأنزله آمل، وكتب إلى معاوية بذلك فأقرّه بغير نكير وقال: إن هؤلاء قوم غدر وأهون ما يجيء منهم إذا وقع اضطراب أن يغلبوا على بلاد آمل   [1] وفي الكامل ج 3 ص 642: فسا. [2] وفي نسخة ثانية: البشير بن عمرو. [3] وفي النسخة الباريسية: البجلي. [4] وفي النسخة الباريسية: ثم صالحوهم. [5] وفي نسخة ثانية: على ان الفرات حمى ويسقي أهل سجستان على الخراج. [6] وفي بعض الكتب رتبيل بدل زنبيل أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 بأسرها، فكان كذلك. وكفر الشاه بعد معاوية وغلب على بلاد آمل واعتصم منه زنبيل بمكانه، وطمع هو في زرنج فحاصرها حتى جاءت الأمداد من البصرة فأجفلوا عنها. مكران: وقصد الحكم بن عمرو التغلبي من أمراء الانسياح بلد مكران ولحق به شهاب بن المخارق وجاء سهيل بن عديّ وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وانتهوا جميعا الى دوين [1] وأهل مكران على شاطية [2] وقد أمدّهم أهل السند بجيش كثيف، ولقيهم المسلمون فهزموهم وأثخنوا فيهم بالقتل، واتبعوهم أياما حتى انتهوا الى النهر ورجعوا إلى مكران فأقاموا بها وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس مع صحّار العبديّ، وسأله عمر عن البلاد فأثنى عليها شرّا، فقال: والله لا يغزوها جيش لي أبدا وكتب إلى سهيل والحكم أن لا يجوز مكران أحد من جنودكما. خبر الأكراد كان أمر أمراء الانسياح لما فصلوا إلى النواحي، اجتمع ببيروذ [3] بين نهر تيري ومنادر من أهل الأهواز جموع من الأعاجم أعظمهم الأكراد، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى تخوم البصرة ردءا للأمراء المنساحين، فجاء إلى بيروذ وقاتل تلك الجموع قتالا شديدا وقاتل المهاجر بن زياد حتى قتل [4] . ثم وهن الله المشركين فتحصّنوا منه في قلّة وذلّة، فاستخلف أبو موسى عليهم أخاه الربيع بن زياد وسار الى أصبهان مع المسلمين الذين يحاصرونها حتى إذا فتحت رجع إلى البصرة. وفتح الربيع بن زياد بيروذ وغنم ما فيها ولحق به بالبصرة وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس، وأراد ضبّة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، فغضب وانطلق شاكيا إلى عمر بانتقائه ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه وأنه أجاز الحطيئة بألف وولّى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، واعتذر أبو موسى وقبله عمر. وكان عمر قد اجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي   [1] وفي النسخة الباريسية: دومن. [2] وفي نسخة ثانية: شاطئية. [3] بيروذ على وزن فيروز، قال في الكامل وآخره ذال معجمة أهـ. [4] وفي نسخة ثانية: وقتل المهاجر بن زياد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 ودفعهم الى الجهاد على عادته وأوصاهم، فلقوا عدوا من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا وقاتلوهم وهزموهم وقتلوا وسبوا وقسّموا الغنائم، ورأى سلمة جوهرا في سفط فاسترضى المسلمين وبعث به إلى عمر فسأل الرسول عن أمور الناس حتى أخبره بالسفط فغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وقال: أسرع قبل أن تفترق الناس ليقسّمه سلمة فيه فباعه سلمة وقسمه في الناس وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفا. مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه كان للمغيرة بن شعبة مولى من نصارى العجم اسمه أبو لؤلؤة وكان يشدد عليه في الخراج، فلقي يوما عمر في السوق فشكى إليه وقال: أعدني على المغيرة فإنه يثقل عليّ في الخراج درهمين في كل يوم، قال: وما صناعتك؟ قال نجّار حدّاد نقاش، فقال: ليس ذلك كثير على هذه الصنائع وقد بلغني انك تقول أصنع رحى تطحن بالريح فاصنع لي رحى. قال: أصنع لك رحى يتحدّث الناس بها أهل المشرق والمغرب، وانصرف، فقال عمر: توعدني العلج. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة واستوت الصفوف ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر برأسين نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداها تحت سرّته، وقتل كليبا بن أبي البكير الليثي، وسقط عمر فاستخلف عبد الرحمن بن عوف في الصلاة واحتمل الى بيته. ثم دعا عبد الرحمن وقال: أريد أن أعهد إليك، قال: أتشير عليّ بها قال: لا. قال: والله لا أفعل. قال: فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن معهم، وقال انتظروا طلحة ثلاثا فإن جاء وإلّا فاقضوا أمركم، وناشد الله من يفضي إليه الأمر منهم أن يحمل أقاربه على رقاب الناس، وأوصاهم بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم وبعفو [1] عن مسيئهم، وأوصى بالعرب فإنّهم مادّة الإسلام أن تؤخذ صدقاتهم في فقرائهم، وأوصى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، ثم قال: اللَّهمّ قد بلغت لقد تركت الخليفة من بعدي   [1] مقتضى سياق الجملة ان يقول «يعفى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 على أنقى من الراحلة. ثم دعي أبا طلحة الأنصاري فقال: قم على باب هؤلاء ولا تدع أحدا يدخل إليهم حتى يقضوا أمرهم. ثم قال: يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني؟ قال يا أمير المؤمنين: قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة. قال: الحمد للَّه الّذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد للَّه سجدة واحدة. ثم بعث إلى عائشة يستأذنها في دفنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فأذنت له. ثم قال: يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فان تساووا فكن مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. ثم أذن للناس فدخل المهاجرون والأنصار فقال لهم: أهذا عن ملأ منكم؟ فقالوا: معاذ الله. وجاء علي وابن عباس فقعدوا عند رأسه، وجاء الطبيب فسقاه نبيذا فخرج متغيّرا ثم لبنا فخرج كذلك، فقال له: أعهد. قال: قد فعلت. ولم يزل يذكر الله إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وصلّى عليه صهيب وذلك لعشر سنين وستة أشهر من خلافته. وجاء أبو طلحة الأنصاري ومعه المقداد بن الأسود، وقد كان أمرهما عمر أن يجمعا هؤلاء الرهط الستة في مكان ويلزماهم أن يقدّموا للناس من يختاروه [1] منهم وإن اختلفوا كان الاتباع للاكثر وإن تساووا حكّموا عبد الله بن عمر أو اتبعوا عبد الرحمن بن عوف، ويؤجلوهم في ذلك ثلاثا يصلي فيهم بالناس صهيب ويحضر عبد الله بن عمر معهم مشيرا ليس له شيء من الأمر وطلحة شريكهم ان قدم في الثلاث ليال. فجمعهم أبو طلحة والمقداد في بيت المسوّر بن مخرمة وقيل في بيت عائشة، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال: تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى. ثم دار بينهما الكلام وتنافسوا في الأمر، فقال: عبد الرحمن أيّكم يخرج منها نفسه ويجتهد فيوليها أفضلكم وأنا أفعل ذلك؟ فرضي القوم وسكت علي. فقال: ما تقول على شريطة أن تؤثر الحق ولا تتبع الهوى ولا تخصّ ذا رحم ولا تألوا الأمّة نصحا وتعطينا العهد بذلك. قال: وتعطوني أنتم مواثيقكم على أن تكونوا معي على من خالف وترضوا من اخترت وتواثقوا. ثم قال لعليّ: أنت أحق من حضر بقرابتك وسوابقك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد في نفسك فمن ترى أحق فيه بعدك من هؤلاء؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك فقال: عليّ.   [1] الصواب يختارونه لانه لم يتقدم الفعل ما يحذف النون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 ودار عبد الرحمن لياليه كلها يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يوافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس ويشيرهم إلى صبيحة الرابع، فأتى منزل المسوّر بن مخرمة وخلا فيه بالزبير وسعد أن يتركا الأمر لعلي أو عثمان [1] فاتفقا على عليّ، ثم قال له سعد بايع لنفسك وأرحنا فقال: قد خلعت لهم نفسي على أن أختار ولو لم أفعل ما أريدها [2] . ثم استدعى عبد الرحمن عليا وعثمان فناجى كلّا منهما إلى أن رضوا بل إلى أن صلّوا الصبح ولا يعلم أحد ما قالوا. ثم جمع المهاجرين وأهل السابقة من الأنصار وأمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم، فقال: أشيروا عليّ، فأشار عمّار بعلي ووافقه المقداد. فقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ووافقه عبد الله بن أبي ربيعة، فتفاوضا وتشاتما ونادى سعد: يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال: نظرت وشاورت فلا تجعلنّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلا. ثم قال لعليّ: عليك عهد الله وميثاقه لتعلمنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أن أجتهد بل أن أفعل بمبلغ علمي وطاقتي. وقال لعثمان مثل ذلك فقال: نعم. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، وقال: اللَّهمّ اشهد أني قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق عثمان فبايعه الناس. ثم قدم طلحة في ذلك اليوم فأتى عثمان، فقال له عثمان: أنت على الخيار في الأمر وإن أبيت رددتها. فقال: أكلّ الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: رضيت، ولا أرغب عما أجمعوا عليه. وكانت العجم بالمدينة يستروح بعضها الى بعض، ومرّ أبو لؤلؤة بالهرمزان وبيده الخنجر الّذي طعن به عمر فتناوله من يده وأطال النظر فيه ثم ردّه إليه، ومعهم جفينة نصرانيّ من أهل الحيرة. فلما طعن عمر من الغداة قال عبد الرحمن بن أبي بكر لعبيد الله بن عمر: اني رأيت هؤلاء الثلاثة يتناجون فلما رأوني افترقوا وسقط منهم هذا الخنجر، فعدا عبيد الله عليهم فقتلهم ثلاثتهم، وأمسكه سعد بن أبي وقاص وجاء به الى عثمان بعد البيعة وهو في المسجد فاشار عليّ بقتله، وقال عمرو بن العاص: لا يقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم، فجعلها عثمان دية واحتملها وقال انا وليّه. ثم قال عثمان وصعد المنبر وبايعه الناس كافّة، وولّى لوقته سعد بن أبي   [1] وفي النسخة الباريسية: لعلي وعثمان. [2] وفي نسخة ثانية: على ان اختار ولم افعل ما أردتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 وقاص على الكوفة وعزل المغيرة وذلك بوصيّة عمر لأنه أوصى بتولية سعد، وقال لم أعزله عن سوء ولا خيانة منه. وقيل إنما ولّاه وعزل المغيرة بعد سنة وأنه أقرّ لأول أمره عمّال عمر كلهم. نقض أهل الاسكندرية وفتحها لما سار هرقل إلى القسطنطينية وفارق الشام واستولى المسلمون على الإسكندرية وبقي الروم بها تحت أيديهم، فكاتبوا هرقل فاستنجدوه فبعث إليهم عسكرا مع منويل الخصيّ ونزلوا بساحل الاسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه، فساروا إلى مصر ولقيهم عمرو بن العاص والمسلمون فهزموهم واتبعوهم إلى الاسكندرية، وأثخنوا فيهم بالقتل وقتل قائدهم منويل الخصيّ، وكانوا قد أخذوا في مسيرهم إلى مصر أموال أهل القرى فردّها عمرو عليهم بالبينة ثم هدم سور الاسكندرية ورجع الى مصر. ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينية وأذربيجان وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعدا عن الكوفة لأنه اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضا، وتقاضاه ابن مسعود فلم يوسر سعد [1] فتلاحيا وتناجيا بالقبيح وافترقا يتلاومان، وتداخلت [2] بينهما العصبية، وبلغ الخبر عثمان فعزل سعدا واستدعى الوليد بن عقبة من الجزيرة، وكان على غربها منذ ولّاه عمر، فولّاه عثمان على الكوفة فكان مكان سعد. ثم عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا، فغزاهم الوليد وعلى مقدّمته عبد الله بن شبيل الأحمسيّ فأغار على أهل موقان والبرزند والطيلسان ففتح وغنم وسبى، وطلب أهل كور أذربيجان الصلح فصالحهم على صلح حذيفة ثمانمائة درهم وقبض المال. ثم بث سراياه وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي الى أهل أرمينية في اثني عشر ألفا فسار فيها وأثخن، ثم انصرف إلى الوليد وعاد الوليد إلى الكوفة وجعل طريقة على   [1] وعند ابن الأثير في تاريخه الكامل ج 3 ص 82: «فلما تقاضاه ابن مسعود لم يتيسر له قضاؤه» . [2] وفي النسخة الباريسية: وقد دخلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 الموصل، فلقيه كتاب عثمان بأن الروم أجلبوا على معاوية بالشام فابعث إليهم رجلا من أهل النجدة والبأس في عشرة آلاف عند قراءة المكتوب [1] ، فبعث الوليد الناس مع سلمان بن ربيعة ثمانية آلاف ومضوا إلى الشام ودخلوا أرض الروم مع حبيب بن مسلمة، فشنوا عليهم الغارات واستفتحوا الحصون، وقيل إنّ الّذي أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة هو سعيد بن العاص، وذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية فبعثه وحاصر قاليقلا حتى نزلوا على الجلاء أو الجزية، فجلى كثير الى بلاد الروم وأقام فيها فيمن معه أشهرا. ثم بلغه أن بطريق أرميناقس وهي بلاد مطلية وسيواس وقونية إلى خليج قسطنطينية قد زحف إليه في ثمانين ألفا، فاستنجد معاوية فكتب إلى عثمان فأمر سعيد بن العاص بإمداد حبيب فأمدّه بسلمان في ستة آلاف، وبيّت الروم فهزمهم وعاد الى قاليقلا، ثم سار في البلاد فجاء بطريق خلاط وبيده أمان عيّاض بن غنم وحمل ما عليهم من المال فنزل حبيب خلاط، ثم سار منها فصالحه صاحب السيرجان [2] ثم صاحب أردستان [3] ثم صالح أهل ديبل بعد الحصار، ثم أهل بلاد السيرجان كلهم. ثم أتى أهل شمشاط فحاربوه فهزمهم وغلب على حصونهم، ثم صالحه بطريق خرزان [4] على بلاده وسار إلى تفليس فصالحوه وفتح عدّة حصون ومدن تجاورها. وسار ابن ربيعة الباهلي إلى أرّان فصالح أهل البيلقان على الجزية والخراج، ثم أهل بردعة كذلك وقراها. وقاتل أكراد البوشنجان وظفر بهم وصالح بعضهم على الجزية، وفتح مدينة شمكور وهي التي سميت بعد ذلك المتوكليّة، وسار سلمان حتى فتح فلية وصالحه صاحب كسكر على الجزية وملك شروان وسائر ملوك الجبال الى مدينة الباب وانصرفوا. ثم غزا معاوية الروم وبلغ عمّورية ووجد ما بين انطاكية وطرسوس من الحصون خاليا فجمع فيها العساكر حتى رجع وخرّبها.   [1] وفي نسخة اخرى: الكتاب. [2] وفي النسخة الباريسية: السفرخان. [3] وفي النسخة الباريسية: أزد شاط. [4] وفي النسخة الباريسية: خزران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 ولاية عبد الله بن أبي سرح على مصر وفتح افريقية وفي سنة ست وعشرين عزل عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر واستعمل مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة، فكتب إلى عثمان يشكو عمرا فاستقدمه واستقل عبد الله بالخراج والحرب وأمره بغزو افريقية. وقد كان عمرو بن العاص سنة إحدى وعشرين سار من مصر إلى برقة فصالح أهلها على الجزية ثم سار إلى طرابلس فحاصرها شهرا، وكانت مكشوفة السور [1] من جانب البحر وسفن الروم في مرساها فحسر القوم في بعض الأيام وانكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين فاقتحموا البلد بين البحر والبيوت فلم يكن للروم ملجأ إلّا سفنهم، وارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل البلد ولم تفلت الروم إلا بما خفّ في المراكب، ورجع إلى مدينة صبرة وكانوا قد آمنوا بمنعة طرابلس فصبحهم المسلمون ودخلوها عنوة، وكمل الفتح ورجع عمرو إلى برقة فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار جزية وكان أكثر أهل برقة لواتة. وكان يقال إنّ البربر ساروا بعد قتل ملكهم جالوت الى المغرب وانتهوا إلى لوبية ومراقية كورتان من كور مصر، فصارت زنانة ومغيلة من البربر الى المغرب فسكنوا الجبال وسكنت لواتة برقة وتعرف قديما انطابلس، وانتشروا إلى السوس ونزلت هوّارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلوا من كان هنالك من الروم، وأقام الأفارق وهم خدم الروم وبقيتهم على صلح يؤدونه إلى من غلب عليهم إلى أن كان صلح عمرو بن العاص. ثم إنّ عبد الله بن أبي سرح كان أمره عثمان بغزو افريقية سنة خمس وعشرين، وقال له: إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم. وأمر عقبة بن نافع بن عبد القيس على جند وعبد الله بن نافع بن الحرث على آخر وسرحهما، فخرجوا إلى افريقية في عشرة آلاف وصالحهم أهلها على مال يؤدّونه ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة أهلها. ثم إن عبد الله بن أبي سرح [2] استأذن عثمان في ذلك واستمدّه، فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به، فجهز العساكر من المدينة وفيهم جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن   [1] وفي النسخة الباريسية منكشفة السور. [2] وفي نسخة اخرى: ثم لما ولي عبد الله بن أبي سرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 والحسين وابن الزبير وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين، ولقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة، ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم عندها، ثم ساروا إلى افريقية وبثّوا السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم جرجير يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت ولاية هرقل ويحمل إليه الخراج، فلما بلغه الخبر جمع مائة وعشرين ألفا من العساكر ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة دار ملكهم وأقاموا يقتتلون ودعوه إلى الإسلام أو الجزية فاستكبر. ولحقهم عبد الرحمن [1] بن الزبير مددا بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم، وسمع جرجير بوصول المدد ففتّ في عضده، وشهد ابن الزبير معهم القتال، وقد غاب ابن أبي سرح وسأل عنه فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول من قتل ابن أبي سرح فله مائة ألف دينار وأزوّجه ابنتي فخاف وتأخر عن شهود القتال، فقال له ابن الزبير: تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته مائة ألف وزوّجته ابنته واستعملته على بلاده، فخاف جرجير أشدّ منه. ثم قال عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير متأهبين للحرب، ويقاتلون الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فيركب عليهم بالآخرين على غرّة لعلّ الله ينصرنا عليهم، ووافق على ذلك أعيان الصحابة [2] ففعلوا ذلك وركبوا من الغد إلى الزوال وألحّوا عليهم حتى أتعبوهم ثم افترقوا، وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا مستريحين فكبّروا وحملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا وقتل كثير منهم، وقتل ابن الزبير جرجير وأخذت ابنته سبيّة فنفلها ابن الزبير، وحاصر ابن أبي سرح سبيطلة ففتحها وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار وسهم الرجل ألف. وبث جيوشه في البلاد إلى قفصة فسبوا وغنموا، وبعث عسكرا إلى حصن الأجم وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان، ثم صالحه أهل افريقية على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار. وأرسل ابن الزبير بالفتح والخمس فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار، وبعض الناس يقول أعطاه إياه ولا يصح، وإنما أعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى. ثم رجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر بعد مقامه سنة وثلاثة أشهر. ولمّا بلغ هرقل أن أهل افريقية صالحوه بذلك المال الّذي أعطوه غضب عليهم وبعث   [1] وفي النسخة الباريسية: عبد الله. [2] وفي نسخة اخرى: أعيان أصحابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 بطريقا يأخذ منهم مثل ذلك، فنزل قرطاجنّة وأخبرهم بما جاء له فأبوا وقالوا: قد كان ينبغي أن يساعدنا [1] مما نزل بنا. فقاتلهم البطريق وهزمهم وطرد الملك الّذي ولّوه بعد جرجير، فلحق بالشام وقد اجتمع الناس على معاوية بعد علي (رضي الله عنه) ، فاستجاشه على افريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكونيّ في عسكر، فلما وصل الاسكندرية وهلك الرومي ومضي ابن حديج في العساكر فنزل قونية، وسرّح إليه البطريق ثلاثين ألف مقاتل وقاتلهم معاوية فهزمهم معاوية، وحاصر حصن جلولاء فامتنع معه حتى سقط ذات سوره فملكه المسلمون وغنموا ما فيه. ثم بثّ السرايا ودوّخ البلاد فأطاعوا، وعاد الى مصر. ولمّا أصاب ابن أبي سرح من افريقية ما أصاب ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازيا الى الإسكندرية في ستمائة مركب وركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح ومعه معاوية في أهل الشام. فلما تراءى الجمعان أرسوا جميعا، وباتوا على أمان والمسلمون يقرءون ويصلّون. ثم قرنوا سفنهم عند الصباح واقتتلوا ونزل الصبر واستحرّ القتل، ثم انهزم قسطنطين جريحا في فلّ قليل من الروم، وأقام ابن أبي سرح بالموضع أياما ثم قفل وسمى المكان ذات الصواري والغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري، وكانت هذه الغزاة سنة احدى وثلاثين وقيل أربع وثلاثين. وسار قسطنطين الى صقلّيّة وعرّفهم خبر الهزيمة فنكروه وقتلوه في الحمام. فتح قبرص كان أبو عبيدة لما احتضر [2] استخلف على عمله عيّاض بن غنم وكان ابن عمه وخاله وقيل استخلف معاذ بن جبل، واستخلف عيّاض بعده سعيد بن حذيم الجمحيّ، ومات سعيد فولى عمر مكانه عمير بن سعيد الأنصاري، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه على دمشق أخاه معاوية، فاجتمعت له دمشق والأردن، ومات عمر وهو كذلك وعمير على حمص وقنسرين، ثم استعفى عمير عثمان في مرضه فأعفاه وضمّ حمص وقنسرين الى معاوية، ومات عبد الرحمن بن أبي علقمة   [1] وفي النسخة الباريسية: يسامحنا [2] وفي النسخة الباريسية: استحضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 وكان على فلسطين فضم عثمان عمله الى معاوية فاجتمع الشام كله لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان. وكان يلحّ على عمر في غزو البحر وكان وهو بحمص كتب إليه في شأن قبرص أنّ قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلاب قبرص وصياح دجاجهم، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه! فكتب إليه: «هو خلق كبير يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء إن ركد فلق [1] القلوب وإن تحرك أزاغ العقول يزداد فيه اليقين قلّة والشك كثرة وراكبه دود على عود إن مال غرق وإن نجا برق» . فكتب عمر إلى معاوية والّذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا، وقد بلغني أنّ بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله كل يوم وليلة في أن يغرق الأرض فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر، وباللَّه لمسلم واحد أحب إليّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي في ذلك فقد علمت ما لقي العلاء مني. ثم كاتب ملك الروم عمرو قاربه وأقصر عن الغزو، ثم ألحّ معاوية على عثمان بعده في غزو البحر فأجابه على خيار الناس وطوعهم، فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم، أبو ذرّ وأبو الدرداء وشدّاد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أمّ حرام بنت ملحان، واستعمل عليهم عبد الله بن قيس حليف بني فزارة، وساروا إلى قبرص وجاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فاجتمعوا عليها وصالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار لكل سنة، ويؤدّون مثلها للروم، ولا منعة لهم على المسلمين ممن أرادهم من سواهم وعلى أن يكونوا عينا للمسلمين على عدوّهم، ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم. وكانت هذه الغزاة سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين وقيل ثلاث وثلاثين، وماتت فيها أم حرام سقطت عن دابتها حين خرجت من البحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك. وأقام عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا خمسين غزاة لم ينكب فيها أحد، إلى أن نزل في بعض أيام في ساحل المرقي من أرض الروم فثاروا إليه فقتلوه، ونجا الملّاح وكان استخلف سفيان بن عوف الأزدي على السفن فجاء إلى أهل المرقي وقاتلهم حتى قتل وقتل معه جماعة.   [1] وفي النسخة الباريسية: خرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 ولاية ابن عامر على البصرة وفتوح فارس وخراسان وفي السنة الثالثة من خلافة عثمان خرج أبو موسى من البصرة غازيا إلى أهل آمد والأكراد لما كفروا حمل ثقله على أربعين بغلا من القصر [1] بعد ان كان حض على الجهاد مشيا، فألّب الناس عليه ومضوا إلى عثمان فاستعفوه منه وتولّى كبر ذلك غيلان بن خرشة [2] فعزله عثمان وولّى عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان، وكان ابن خمس وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص من عمان والبحرين، فصرف عبيد الله بن معمر عن خراسان وبعثه الى فارس، وولّى على خراسان مكانه عمير بن عثمان بن سعد فاثخن فيها حتى بلغ فرغانة ولم يدع كورة إلا أصلحها. ثم ولّى عليها سنة أربع أمير [3] بن أحمر اليشكري، وعلى كرمان عبد الرحمن بن عبيس، واستعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي، وعلى كرمان عاصم بن عمرو فجاشت فارس وانتقضت بعبيد الله بن عمرو وجمعوا له [4] فلقيهم بباب إصطخر فقتل عبيد الله وانهزم جنده. وبلغ الخبر عبد الله بن عامر فاستنفر أهل البصرة وسار بالناس، وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص وفي المجنبتين أبو برزة [5] الأسلمي ومعقل بن يسار وعلى الخيل عمران بن حصين، ولقيهم بإصطخر فقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزموا وفتح إصطخر عنوة، وبعدها دارابجرد. وسار الى مدينة جور وهي أردشير، وكان هرم بن حيّان محاصرا لها فلما جاء ابن عامر فتحها. ثم عاد إلى إصطخر وقد نقضت فحاصرها طويلا ورماها بالمجانيق واقتحمها عنوة ففني فيها أكثر أهل البيوتات والأساورة لأنهم كانوا لجئوا إليها، ووطئ أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل. وكتب الى عثمان بالفتح فكتب إليه أن يستعمل على كور فارس هرم بن حيّان اليشكري وهرم بن حيان العبسيّ والخرّيت بن راشد وأخاه المنجاب من بني سلمة والبرجمان الهجيمي [6] ، وان يفرق كور خراسان   [1] وفي النسخة الباريسية: الضهر. [2] وفي نسخة ثانية: جرشة. [3] أمير بوزن زبير وكذا كريز وعبيس كما في الكامل أهـ. [4] وفي النسخة الباريسية: وحملوا له [5] وفي النسخة الباريسية: ابو بردة [6] وفي النسخة الباريسية: المحجمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 بين ستة نفر: الأحنف بن قيس على المرو، وحبيب بن قرة [1] اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر اليشكري على طوس، وقيس بن هبيرة السلميّ على نيسابور، ثم جمع عثمان خراسان كلها لقيس، واستعمل أمير بن أحمد اليشكري على سجستان، ثم بعده عبد الرحمن [2] بن سمرة من قرابة ابن عامر بن كريز، فلم يزل عليها حتى مات عثمان وعمران على كرمان وعمير بن عثمان ابن مسعود على فارس وابن كريز القشيري على مكران، وخرج على قيس بن هبيرة بعد موت عثمان ابن عمه عبد الله بن حازم كما نذكره. ولما افتتح ابن عامر فارس أشار عليه الناس بقصد خراسان وكانوا قد انتقضوا فسار إليها وقيل عاد إلى البصرة، واستخلف على فارس شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها. فلما دخل البصرة أشار عليه الأحنف بن قيس وحبيب بن أوس بالمسير إلى خراسان فتجهز واستخلف على البصرة زياد بن أبيه، وسار إلى كرمان وقد نكثوا فبعث لحربهم مجاشع بن مسعود السلميّ ولحرب سجستان الربعي بن زياد الحارثي، وسار هو الى نيسابور وتقدّمه الأحنف بن قيس الى الطبسين حصنان هما بابا خراسان فصالحه أهلها، وسار الى قوهستان [3] فقاتل أهلها حتى أحجرهم في حصنهم ولحقه ابن عامر فصالحوه على ستمائة ألف درهم، وقيل كان المتولّي حرب قوهستان أمير بن أحمر اليشكري. ثم بعث ابن عامر السرايا إلى أعمال نيسابور ففتح رستاق رام عنوة وباخرز وجيرفت عنوة، وبعث الأسود بن كلثوم من عدي الرباب وكان ناسكا الى بيهق [4] من أعمالها فدخل البلد من ثلمة كانت في سورها وقاتل حتى قتل وظفر أخوه أدهم بالبلد. وفتح ابن عامر بشت بالشّين المعجمة من أعمال نيسابور ثم أسفراين [5] ثم قصد نيسابور، وبعد ما استولى على أعمالها فحاصرها أشهرا [6] وكان بها أربع مرازبة من فارس فسأل واحد منهم الأمان على أن يدخلهم ليلا، وفتح لهم الباب وتحصّن الأكبر منهم في   [1] وفي النسخة الباريسية: قروة وفي نسخة أخرى قرط. [2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله. [3] وفي النسخة الباريسية: مهزستان. [4] وفي النسخة الباريسية: بهق. [5] وفي النسخة الباريسية: استيغيراس [6] وفي نسخة اخرى: شهرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 حصنها حتى صالح على ألف ألف درهم. وولّى ابن عامر على نيسابور قيس بن الهيثم السلمي. وبعث جيشا إلى نسا وأبيورد فصالحهم أهلها، وآخر إلى سرخس فصالحوا مرزبانها على أمان مائة رجل لم يدخل فيها نفسه فقتله وافتتحها [1] عنوة وجاء، مرزبان طوس فصالحه على ستمائة ألف درهم، وبعث جيشا إلى هراة مع عبد الله بن حازم فصالح مرزبانها على ألف ألف درهم. ثم بعث مرزبان مرو فصالح على ألف ألف ومائتي ألف وأرسل إليه ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، ثم بعث الأحنف بن قيس إلى طخارستان فصالح في طريقة رستاقا على ثلاثمائة ألف وعلى أن يدخل رجل يؤذن فيه ويقيم حتى ينصرف ومرّ الى مروالروذ، وزحف إليه أهلها فهزمهم وحاصرهم وكان مرزبانها من أقارب باذام [2] صاحب اليمن فكتب إلى الأحنف متوسلا بذلك في الصلح فصالحه على ستمائة ألف. ثم اجتمع أهل الجوزجان والطالقان والفارياب في جمع عظيم ولقيهم الأحنف فقاتلهم قتالا شديدا ثم انهزموا فقتلوا قتلا ذريعا. ورجع الأحنف إلى مروالروذ، وبعث الأقرع بن حابس الى فلهم بالجوزجان فهزمهم وفتحها عنوة، ثم فتح الأحنف الطالقان صلحا والفاريات وقيل فتحها أمير بن أحمد، ثم سار الأحنف إلى بلخ وهي مدينة طخارستان فصالحوه على أربعمائة ألف وقيل سبعمائة واستعمل عليها أسيد بن المنشمر، ثم سار إلى خوارزم على نهر جيحون فامتنعت عليه فرجع إلى بلخ. وقد استوفى أسيد قبض المال وكتبوا إلى ابن عامر. ولما سار مجاشع بن مسعود إلى كرمان كما ذكرناه وكانوا قد انتقضوا ففتح هميد [3] عنوة وبنى بها قصرا ينسب إليه، ثم سار إلى السيرجان وهي مدينة كرمان فحاصرها وفتحها عنوة وجلى كثيرا من أهلها. ثم فتح جيرفت عنوة ودوخ نواحي كرمان وأتى القفص وقد تجمع له من العجم من أهل الجلاء، وقاتلهم فظفر وركب كثير منهم البحر إلى كرمان وسجستان، ثم أنزل العرب في منازلهم وأراضيهم. وسار الربيع بن زياد الحارثي بولاية ابن عامر كما قدّمناه [4] إلى سجستان فقطع المفازة   [1] وفي نسخة اخرى: اقتحمها [2] وفي نسخة اخرى: باذان [3] وفي النسخة الباريسية: حمير. [4] وفي النسخة الباريسية: كما قلناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 من كرمان حتى أتى حصن زالق فأغار عليهم يوم المهرجان وأسر دهقانهم، فافتدى بما غمر عنزة قاعة [1] من الذهب والفضة، وصالحوه على صلح فارس. وسار إلى زرنج [2] ولقيه المشركون دونها فهزمهم وقتلهم وفتح حصونا عدة بينها وبينه، ثم انتهى إليها وقاتله أهلها فأحجرهم وحاصرهم، وبعث مرزبانها في الأمان ليحضر فأمنه وجلس له على شلو من أشلاء القتلى وارتفق بآخر وفعل أصحابه مثله، فرعب المرزبان من ذلك وصالح على ألف جام من الذهب يحملها ألف وصيف، ودخل المسلمون المدينة، ثم سار منها إلى وادي سنارود فعبره إلى القرية التي كان رستم الشديد يربط بها فرسه، فقاتلهم وظفر بهم، وعاد إلى زرنج وأقام بها سنة ثم سار بها إلى ابن عامر واستخلف عليها عاملا فأخرجوه وامتنعوا. فكانت ولاية الربيع سنة ونصف سنة سبى فيها أربعين ألف رأس وكان الحسن البصري يكتب له. ثم استعمل ابن عامر على سجستان عبد الرحمن بن سمرة فسار إليها وحاصر زرنج حتى صالحوه على ألفي ألف درهم وألفي وصيف، وغلب على ما بينها وبين الكش من ناحية الهند وعلى ما بينها وبين الدادين [3] من ناحية الرخج، ولما انتهى إلى بلد الدادين حاصرهم في جبل الزور حتى صالحوه ودخل على الزور [4] وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان، فأخذهما وقطع يده، وقال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر وإنما قصدت أنه لا يضرّ ولا ينفع. ثم فتح كابل وزابلستان وهي بلاد غزنة فتحها صلحا. ثم عاد إلى زرنج إلى أن اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر وانصرف فأخرجه أهلها وانتقضوا. ولما كان الفتح لابن عامر في فارس وخراسان وكرمان وسجستان قال له الناس: لم يفتح لأحد ما فتح عليك فقال: لا جرم لأجعلن شكري للَّه على ذلك أن أخرج محرما من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان استخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيس في أرض طخارستان ودوخها وامتنع عليه سنجار فافتتحها عنوة.   [1] وفي الكامل ج 3 ص 128: فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهبا وفضة. [2] وفي نسخة أخرى: زريخ وفي الكامل زرنج. [3] وفي النسخة الباريسية: الدوان وفي الكامل ج 3، ص 129 الدوان. [4] وفي النسخة الباريسية: جبل الرور وفي الكامل ج 3 ص 129: جبل الزور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ولاية سعيد بن العاص الكوفة كان عثمان لأول ولايته قد ولّى على الكوفة الوليد بن عقبة استقدمه إليها من عمله بالجزيرة وعلى بني تغلب وغيرهم من العرب، فبقي على ولاية الكوفة خمس سنين وكان أبو زبيد الشاعر قد انقطع إليه من أخواله بني تغلب ليد أسداها إليه وكان نصرانيا فأسلم على يده وكان يغشاه بالمدينة والكوفة، وكان أبو زبيد يشرب الخمر فكان بعض السفهاء يتحدث بذلك في الوليد للملازمته إياه. ثم عدا الشباب من الأزد بالكوفة على رجل من خزاعة فقتلوه ليلا في بيته وشهد عليهم أبو شريح الخزاعي فقتلهم الوليد فيه بالقسامة، وأقام آباؤهم للوليد على حقه وكانوا ممن يتحدثون فيه، وجاءوا إلى ابن مسعود بمثل ذلك فقال: لا نتبع عورة من استتر عنا. وتغيظ الوليد من هذه المقالة وعاتب ابن مسعود عليها، ثم عمد أحد أولئك الرهط إلى ساحر قد أتى به الوليد فاستفتي ابن مسعود فيه وأفتى بقتله، وحبسه الوليد ثم أطلقه، فغضبوا وخرجوا إلى عثمان شاكين من الوليد وانه يشرب الخمر. فاستقدمه عثمان وأحضره وقال: رأيتموه يشرب؟ قالوا لا وإنما رأيناه يقيء الخمر فأمر سعيد بن العاص فجلده وكان عليّ حاضرا فقال: انزعوا خميصته للجلد. وقيل إن عليا أمر ابنه الحسن أن يجلده فأبى فجلده عبد الله بن جعفر، ولما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة [1] . ولما وقعت هذه الواقعة عزل عثمان الوليد عن الكوفة وولى مكانه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، مات سعيد الأول كافرا وكان يكنى أحيحة، وخالد ابنه عم سعيد الثاني ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعاء وكان يكتب واستشهد يوم مرج الصفر، وربي سعيد الثاني في حجر عثمان فلما فتح الشام أقام مع معاوية ثم استقدمه عثمان وزوجه وأقام عنده حتى كان من رجال قريش. فلما استعمله عثمان وذلك سنة ثلاثين سار إلى الكوفة ومعه الأشتر وأبو خشة [2] الغفاريّ وجندب بن عبد الله والصعب بن جثامة، وكانوا شخصوا مع الوليد ليعينوه فصاروا عليه، فلما وصل   [1] المعنى مشوش هنا وربما يعود هذا الى سقوط بعض الكلمات أثناء النسخ ولم تذكر هذه القصة بالتفصيل كما هي في الكامل وفي الطبري والمسعودي. [2] وفي نسخة ثانية: ابو حنيفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 خطب الناس وحذرهم وتعرف الأحوال، وكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب الروادف والتابعة على أهل الشرف والسابقة، فكتب إليه عثمان أن يفضل أهل السابقة ويجعل من جاء بعدهم تبعا يعرف لكل منزلته ويعطيه حقه. فجمع الناس وقرأ عليهم كتاب عثمان وقال: أبلغوني حاجة ذي الحاجة. وجعل القراء في سمره فلم ترض أهل الكوفة ذلك وفشت المقالة، وكتب سعيد إلى عثمان فجمع الناس واستشارهم فقالوا: أصبت لا تطمع في الأمور من ليس لها بأهل فتفسد. فقال: يا أهل المدينة إني أرى الفتن دبت إليكم وإني أرى أن أتخلص الّذي لكم وأنقله إليكم من العراق. فقالوا: وكيف ذلك؟ قال: تبيعونه ممن شئتم بما لكم في الحجاز واليمن. ففعلوا ذلك واستخلصوا ما كان لهم بالعراق، منهم طلحة ومروان والأشعث بن قيس، ورجال من القبائل اشتروا ذلك بأموال كانت لهم بخيبر ومكة والطائف. غزو طبرستان وفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان ولم يغزها أحد قبله، وقد تقدّم أن الأصبهبذ صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر على مال، فغزاها سعيد في هذه السنة ومعه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الحسن والحسين وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وحذيفة بن اليمان في غيرهم، ووافق خروج ابن عامر من البصرة إلى خراسان فنزل نيسابور، ونزل سعيد قومس وهي صلح كان حذيفة صالحهم عليه بعد نهاوند. فأتى سعيد جرجان فصالحوه علي مائتي ألف، ثم أتى متاخمة جرجان على البحر فقاتله أهلها، ثم سألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، وفتحوا فقتلهم أجمعين إلا رجلا وقتل معه محمد بن الحكم بن أبي عقيل جدّ يوسف بن عمرو، وكان أهل جرجان يعطون الخراج تارة مائة ألف وأخرى مائتين وثلاثمائة وربما منعوه. ثم امتنعوا وكفروا فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد، وصار الطريق إلى خراسان من فارس كما كان من قبل حتى ولي قتيبة بن مسلم خراسان. وقدمها يزيد بن المهلب فصالح المرزبان وفتح البحيرة ودهستان وصالح أهل جرجان على صلح سعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف وفي سنة ثلاثين هذه صرف حذيفة من غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة وأقام له سعيد العاص بأذربيجان ردءا حتى عاد بعد مقتل عبد الرحمن كما مرّ، فأخبره بما رأى من اختلاف أهل البلدان في القرآن وأن أهل حمص يقولون قراءتنا خير من قراءة غيرنا وأخذناها عن المقداد، وأهل دمشق يقولون كذلك، وأهل البصرة عن أبي موسى، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأنكر ذلك واستعظمه وحذر من الاختلاف في القرآن، ووافقه من حضر من الصحابة والتابعين، وأنكر عليه أصحاب ابن مسعود فأغلظ عليهم وخطأهم، فأغلظ له ابن مسعود فغضب سعيد وافترق المجلس، وسار حذيفة إلى عثمان فأخبره وقال: أنا النذير العريان فأدرك الأمة. فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ابعثي إلينا بالصحف ننسخها وكانت هذه الصحف هي التي كتبت أيام أبي بكر، فإن القتل لما استحر في القراء يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: أرى أن تأمر بجمع القرآن لئلا يذهب الكثير منه لفناء القراء، فأبى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله. ثم استبصر ورجع إلى رأي عمرو أمر زيد بن ثابت بجمعه من الرقاع والعسب [1] وصدور الرجال، وكتب في الصحف فكانت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة. وأرسل عثمان فأخذها، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش ففعلوا. ونسخوا المصاحف فبعث الى كل أفق بمصحف يعتمد عليه، وحرق ما سوى ذلك الصحابة في سائر الأمصار، ونكره عبد الله بن مسعود في الكوفة حتى نحاهم عن ذلك وحملهم عليه. مقتل يزدجرد لما خرج ابن عامر من البصرة إلى فارس فافتتحها هرب يزدجرد من جور وهي أردشيرخره [2] في سنة ثلاثين، وبعث ابن عامر في إثره مجاشع بن مسعود وقيل هرم بن   [1] العسب هو النسل كما في القاموس ولعل ابن خلدون كان يعني العسيب وهي جريدة النخل المستقيمة الدقيقة المكشوط خوصها. [2] وفي النسخة الباريسية: وهو ازدشير خرج سنة ثلاثين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 حيان اليشكري وقيل العبسيّ [1] ، فاتبعه إلى كرمان فهرب إلى خراسان وهلك الجند في طريقهم بالثلج، فلم يسلم إلا مجاشع ورجع معه وكان مهلكهم على خمسة فراسخ من السيرجان، ولحق يزدجرد بمرو ومعه خرّزاذ أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق ووصى به ما هو به مرزبان مرو فسأله في المال فمنعه وخافه على نفسه وعلى مرو، واستجاش بالترك فبيتوه وقتل أصحابه وهرب يزدجرد ماشيا إلى شط المرغاب وآوى إلى بيت رجل ينقر الرحاء، فلما نام قتله ورماه في النهر. وقيل إنما بيته أهل مرو ولما جاءوا إلى بيت الرجل أخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله، واستخرجوا يزدجرد من النهر وحملوه في تابوت إلى إصطخر فدفن في ناوس هنالك. وقيل إن يزدجرد هرب من وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان واستأذن عليه بعض رؤسائها وحجب فضرب البواب وشجّه، فرحل عن أصبهان إلى الري، وجاء صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده فلم يجبه ومضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثم إلى مرو في ألف فارس، وقيل بل أقام بفارس أربع سنين ثم بكرمان سنتين وطلبه دهقانها [2] في شيء فمنعه فطرده عن بلاده، وأقام بسجستان خمس سنين، ثم نزل خراسان ونزل مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين وفرّخزاد وكاتب ملوك الصين وفرغانة والخزر وكابل، وكان دهقان مرو قد منعه الدخول خوفا من مكروه ووكل ابنه بحفظ الأبواب، فعمد يزدجرد يوما إلى مرو ليدخلها فمنعه ابن الدهقان وأظهر عصيان أبيه في ذلك، وقيل بل أراد يزدجرد أن يجعل ابن أخيه دهقانا عليها فعمل في هلاكه، وكتب إلى نيزك طرخان يستقدمه لقتل يزدجرد ومصالحه العرب عليه وأن يعطيه كل يوم ألف درهم، فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنه يقدم عليه فيلقاه منفردا عن العسكر وعن فرخزاد، فأجابه إلى ذلك بعد أن امتنع فرخزاد واتهمه يزدجرد في امتناعه فتركه لشأنه بعد أن أخذ خطه برضاه بذلك. وسار إلى نيزك فاستقبله بأشياء وجاء به إلى عسكره ثم سأله أن يزوجه ابنته فأنف يزدجرد من ذلك وسبعة فعلا رأسه بالمقرعة فركض منهزما وقتل أصحابه، وانتهى إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثا لم يطعم، ثم عرض عليه الطعام فقال لا أطعم إلا بالزمزمة، فسأل من زمزم   [1] وفي نسخة ثانية: العنسيّ. [2] وفي النسخة الباريسية: قهرمانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 له حتى أكل ووشى المزمزم بأمره إلى بعض الأساورة [1] فبعث إلى الطحان بخنقه وإلقائه في النهر، فأبى من ذلك وجحده، فدل عليه ملبسه وعرف المسك فيه فأخذوا ما عليه وخنقوه وألقوه في الماء فجعله أسقف مرو في تابوت ودفنه. وقيل بل سار يزدجرد من كرمان قبل وصول العرب إليها إلى مرو وفي أربعة آلاف على الطبسين وقهستان، ولقيه قبل مرو قائدان من الفرس متعاديين فسعى أحدهما في الآخر، ووافقه يزدجرد في قتله، ونمى الخبر إليه فبيت يزدجرد وعدوه، فهرب إلى رحى على فرسخين من مرو، وطلب منه الطحّان شيئا فأعطاه منطقته فقال: إنما أحتاج أربعة دراهم، فقال: ليست معي. ثم قام فقتله الطحان وألقى شلوه في الماء. وبلغ خبر قتله الى المطران بمرو فجمع النصارى ووعظهم عليه من حقوق سلفه فدفنوه وبنوا له ناووسا وأقاموا له مأتما، بعد عشرين سنة من ملكه ستة عشر منها في محاربة العرب. وانقرض ملك الساسانية بموته. ويقال إن قتيبة حين فتح الصغد وجد جاريتين من ولد المخدج ابنه كان قد وطئ أمّه بمرو فولدت هذا الغلام بعد موته ذاهب الشق فسمى المخدج [2] ، وولد له أولاد بخراسان ووجد قتيبة هاتين الجاريتين من ولده فبعث بهما إلى الحجاج، وبعث بهما إلى الوليد أو بإحداهما فولدت له يزيد الناقص. ظهور الترك بالثغور كان الترك والخزر يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لما رأوا من شدّتهم وظهورهم في غزواتهم حتى أكمنوا لهم في بعض الغياض فقتلوا بعضهم فتجاسروا على حربهم. وكان عبد الرحمن بن ربيعة على ثغور أرمينية إلى الباب، واستخلف عليها سراقة بن عمرو وأقرّه عمر وكان كثير الغزو في بلاد الخزر، وكثيرا ما كان يغزو بلنجر وكان عثمان قد نهاه عن ذلك فلم يرجع، فغزاهم سنة اثنتين وثلاثين وجاء الترك لمظاهرتهم وتذامروا فاشتدت الحرب بينهم وقتل عبد الرحمن كما مرّ، وافترقوا فرقتين فرقة سارت نحو الباب لقوا سلمان بن ربيعة قد بعثه سعيد بن العاص من الكوفة مددا للمسلمين بأمر عثمان فساروا معه، وفرقة سلكوا على جيلان وجرجان فيهم سلمان الفارسيّ وأبو   [1] وفي النسخة الباريسية: الى بعض المرازبة. [2] وفي النسخة الباريسية: ولد المجدّع والمخدج: ناقص الخلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 هريرة. ثم استعمل سعيد بن العاص على الباب سلمان بن ربيعة مكان أخيه، وبعث معه جندا من أهل الكوفة عليهم حذيفة بن اليمان وأمدّهم عثمان بحبيب بن مسلمة في جند الشام وسلمان أمير على الجميع، ونازعه حبيب الامارة فوقع الخلاف، ثم غزا حذيفة بعد ذلك ثلاث غزوات آخرها عند مقتل عثمان. وخرجت جموع الترك سنة اثنتين وثلاثين من ناحية خراسان في أربعين ألفا عليهم قارن من ملوكهم فانتهى إلى الطبسين، واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ قيس بن الهيثم السلميّ استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرما فدوّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد الله بن حازم فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهدا إذا خرج منها قيس ففعل، فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن حازم: ما ترى، قال: أرى أن تخرج عن البلاد فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها. فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر، وقيل أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمدّه، فلما خرج أظهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن حازم للقاء الترك في أربعة آلاف. ولما التقى الناس أمر جيشه بايقاد النار في أطراف رحالهم فهاج العدوّ على دهش، وغشيهم ابن حازم بالناس متتابعين، فانهزموا وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والسبي. وكتب ابن حازم بالفتح إلى ابن عامر فأقرّه على خراسان فلم يزل واليا عليها إلى حرب الجمل، فأقبل إلى البصرة وبقي أهل البصرة بعد غزوة ابن حازم هذه حتى غزوا المنتقضين من أهلها وعادوا جهزوا كتيبة من أربعة آلاف فارس هناك. بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه لما استكمل الفتح واستكمل للملّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهداه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم. وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلّا قليلا منهم وكان لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 الذهول والدهش لأمر النبوة وتردّد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء وذلّ العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنفض ووجدوا الرئاسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والاستبطاء [1] عليهم في الطاعات والتجني بسؤال الاستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان. وفشت المقالة في ذلك من أتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة، فارتابوا لها وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه. وبعث الى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمّار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه، فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم إلا عمّارا فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه منهم عبد الله بن سبإ ويعرف بابن السوداء، كان يهوديا وهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه وأخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام وأخرجوه فلحق بمصر، وكان يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السرّ لأهل البيت ويقول: إن محمدا يرجع كما يرجع عيسى. وعنه أخذ ذلك أهل الرجعة، وإنّ عليّا وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يجز وصيته وإنّ عثمان أخذ الأمر بغير حق، ويحرّض الناس على القيام في ذلك والطعن على الأمراء. فاستمال الناس بذلك في الأمصار وكاتب به بعضهم بعضا، وكان معه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر فثبطوا عمارا عن المسير الى المدينة. وكان مما أنكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام ومن المدينة إلى الرَّبَذَة، وكان الّذي دعا إلى ذلك شدّة الورع من أبي ذر وحمله الناس على شدائد الأمور والزهد في الدنيا وانه لا ينبغي لأحد أن يكون عنده أكثر من قوت يومه، ويأخذ بالظاهر في ذم الادّخار بكنز الذهب والفضة. وكان ابن سبإ يأتيه فيغريه بمعاوية ويعيب [2] قوله المال مال الله، ويوهم أنّ في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين، حتى   [1] وفي النسخة الباريسية: والاشتضاط [2] وفي النسخة الباريسية: ونقيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 عتب أبو ذر معاوية فاستعتب له وقال سأقول مال المسلمين [1] ، وأتى ابن سبإ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك فدفعوه، وجاء به عبادة الى معاوية وقال هذا الّذي بعث [2] عليك أبا ذرّ. ولما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه وقال له ما لأهل الشام يشكون منك فأخبره، فقال: يا أبا ذرّ لا يمكن حمل الناس على الزهد وإنما عليّ أن أقضي [3] بينهم بحكم الله وأرغبهم في الاقتصاد، فقال أبو ذرّ: لا نرضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا للجيران والاخوان ويصلوا القرابة، فقال له كعب الأحبار: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذرّ فشجّه وقال: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا. فاستوهب عثمان من كعب شجّته فوهبه. ثم استأذن أبو ذرّ عثمان في الخروج من المدينة وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا، فأذن له، ونزل الرَّبَذَة وبنى بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقا، وكان يتعاهد المدينة فعدّ أولئك الرهط خروج أبي ذرّ فيما ينقمونه على عثمان مع ما كان من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقية والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه. ومما عدوّا عليه أيضا زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة، وإتمامه الصلاة في منى وعرفة مع أن الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده كان على القصر. ولما سأله عبد الرحمن واحتج عليه بذلك قال له: بلغني أن بعض حاج اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي وقد اتخذت بمكة أهلا ولي بالطائف مال. فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال: زوجتك بمكّة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت ومالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر. وأما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده وقد كان الإسلام ضرب بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. فمن الصحابة من تبعه على ذلك ومنهم من خالفه. ومما عدّوا عليه سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد.   [1] وفي نسخة اخرى: ما للمسلمين. [2] وفي النسخة الباريسية: الّذي خيّر. [3] وفي النسخة الباريسية: ان اقصد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 وأما الحوادث التي وقعت في الأمصار فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدّم ذكرها وأنه عزله على شرب الخمر واستبدله بسعيد بن العاص منه، وكان وجوه الناس وأهل القادسية يسمرون عنده مثل مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس من النخع وثابت بن قيس الهمدانيّ وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعيّ وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وابن الكوّاء وكميل بن زياد وعمير بن ضابيء وطليحة بن خويلد، وكانوا يفيضون في أيام الوقائع وفي أنساب الناس وأخبارهم وربما ينتهون إلى الملاحاة ويخرجون منها إلى المشاتمة والمقاتلة، ويعذلهم في ذلك حجّاب سعيد بن العاص فينهرونهم [1] ويضربونهم. وقد قيل إن سعيدا قال يوما: إنما هذا السواد بستان قريش، فقال له الأشتر: السواد الّذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك ولقومك؟ وخاص القوم في ذلك، فأغلظ لهم عبد الرحمن الأسدي [2] ، صاحب شرطته فوثبوا عليه وضربوه حتى غشي عليه، فمنع سعيد بعدها السمر عنده. فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيدا وعثمان، والسفهاء يغشونهم. فكتب سعيد وأهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب أن يلحقوهم بمعاوية وكتب إلى معاوية إن نفرا خلقوا للفتنة فقم عليهم وانههم وإن آنست منهم رشدا فاقبل وان أعيوك فارددهم علي، فأنزلهم معاوية وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق، وأقاموا عنده يحضرون مائدته ثم قال لهم يوما: «أنتم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا ولو لم تكن قريش كنتم أذلة إذا أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم وان أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحملون عنكم المؤنة والله لتنتهنّ أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم [3] فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم» . فقال له صعصعة منهم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر الناس ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة فانّ الجنّة إذا   [1] وفي نسخة اخرى: فيهزمونهم. [2] وفي نسخة اخرى: الازدي [3] وفي النسخة الباريسية: ثم يكونون شركاءكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 اخترمت [1] خلص إلينا. فقال معاوية: الآن عرفتكم وعلمت أنّ الّذي أغراكم على هذا قلّة العقول وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا أعظم عليك أمر الإسلام، وتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظّموا أمركم فقهوا عني ولا أظنكم تفقهون، ثم ذكر شأن قريش وأن عزّها إنما كان باللَّه في الجاهلية والإسلام ولم يكن بكثرة ولا شدّة، وكانوا على أكرم أحساب وأكمل مروءة وبوّأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب والعجم والأسود والأحمر في بلادهم، ثم ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ الله ارتضى له أصحابا كان خيارهم قريشا فبنى الملك عليهم وجعل الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلّا بهم، ثم قرّعهم ووبّخهم وهددهم، ثم أحضرهم بعد أيام، وقال: اذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضرّه، وإن أردتم النجاة فالزموا الجماعة ولا تبطرنّكم النعمة وسأكتب الى أمير المؤمنين فيكم. وكتب إلى عثمان: «أنه قدم عليّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أبطرهم العدل إنّما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحد [2] إلّا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن عنده عنهم [3] . فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة ومروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم، وقال: «يا ألة الشيطان [4] لا مرحبا بكم ولا أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في نشاط خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم» . ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوا وما قالوا لسعيد ومعاوية، فهابوا [5] سطوته وطفقوا يقولون: نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله، حتى قال: تاب الله عليكم. وسرّح الأشتر إلى عثمان تائبا فقال له عثمان: أحلّك حيث تشاء، فقال: مع عبد الرحمن بن خالد قال: ذاك إليك فرجع إليهم. وقيل إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة ودار بينهم وبينه القول وأغلظوا له وأغلظ عليهم، وكتب إلى عثمان فأمر أن يردّهم الى سعيد، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم وضجّ سعيد منهم، وكتب إلى   [1] وفي نسخة اخرى: إذا اخترقت [2] وفي نسخة اخرى: يأتون الأمر [3] وفي الطبري ج 5 ص 87: «ليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير. [4] الألّة: بتشديد اللام الحربة أهـ. [5] وفي النسخة الباريسية: فرهبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد فدار بينهم وبينه ما قدّمناه. وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن وكان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبإ المعروف بابن السوداء، هاجر إلى الإسلام من اليهودية ونزل على حكيم بن جبلة العبديّ وكان يتشيع لأهل البيت، ففشت مقالته بالطعن وبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه وأتى الكوفة فأخرج أيضا واستقّر بمصر، وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء. وكان حمران [1] بن أبان أيضا يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدّة وسيّره إلى البصرة، فلزم ابن عامر وكان بالبصرة عامر بن عبد القيس وكان زاهدا متقشّفا فأغرى به حمران صاحب ابن عامر فلم يقبل سعايته، ثم أذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه عثمان بمعاوية وأقام عنده حتى تبيّنت براءته وعرف فضله وحقه وقال: ارجع إلى صاحبك فقال: لا أرجع إلى بلد استحلّ أهله مني ما استحلوا وأقام بالشام كثير العبادة والانفراد بالسواحل إلى أن هلك. ولما فشت المقالات بالطعن والإرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع وثلاثين، وكان قبلها قد ولّى على الأعمال أمراء من قبله، فولّى الأشعث بن قيس على أذربيجان وسعيد بن قيس على الري والنسير العجليّ على همذان والسائب بن الأقرع على أصبهان ومالك بن حبيب على ماه وحكيم بن سلامة على الموصل وجرير بن عبد الله على قرقيسيا وسلمان بن ربيعة على الباب وجعل على حلوان عتيبة [2] بن النهّاس وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، فخرجوا لأعمالهم وخرج هو وافدا على عثمان، واستخلف عمرو بن حريث وخلت الكوفة من الرؤساء وأظهر الطاعنون أمرهم وخرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان، فبادره القعقاع بن عمرو فقال له: إنما نستعفي من سعيد. وكتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم، فساروا إليه وسبقهم الأشتر ووقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول جئتكم من عند عثمان وتركت سعيدا يريده على نقصان   [1] وفي النسخة الباريسية: عمران [2] وفي النسخة الباريسية: عيينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 نسائكم على مائة درهم وردّ أولى [1] البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. ثم استخف الناس ونادى يزيد في الناس من شاء أن يلحق بيزيد لردّ سعيد فليفعل، فخرجوا وذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون. وأقام أشراف الناس وعقلاؤهم مع عمرو بن حريث ونزل يزيد وأصحابه الجزعة [2] قريبا من القادسية لاعتراض سعيد وردّه، فلما وصل قالوا: ارجع فلا حاجة لنا بك قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحدا إليّ وإلى عثمان رجلا. وقال مولى له: ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع، فقتله الأشتر ورجع سعيدا الى عثمان فأخبره بخبر القوم وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري، فولّاه الكوفة وكتب إليهم: «أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد والله لأقرضنكم عرضي ولأبذلنّكم صبري ولاستصلحنكم بجهدي» . وخطب أبو موسى الناس، وأمرهم بلزوم الجماعة، وطاعة عثمان، فرضوا ورجع الأمراء من قرب الكوفة واستمرّ أبو موسى على عمله. وقيل إنّ أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان ويعذلوه فيما نقم عليه، فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد وهو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنبر [3] فأتاه وقال له: إن ناسا اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أمورا عظاما، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: ألا تسمعون إلى هذا الّذي يزعم الناس أنه قارئ ثم يجيء يكلمني في المحقرات؟ وو الله لا يدري أين الله. فقال له عامر: بل والله إني لأدري إنّ الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر وعمرو بن العاص، وكانوا بطانته دون الناس فجمعهم وشاورهم، وقال: إنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم فطلبوا أن أعزل عمالي وأرجع إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر: أرى أن تشغلهم بالجهاد، وقال سعيد: متى تهلك قادتهم يتفرّقوا، وقال معاوية: اجعل كفالتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام، وقال عبد الله: استصلحهم بالمال. فردّهم عثمان إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل، ورد سعيد إلى الكوفة فلقيه الناس بالجزعة وردوه كما ذكرناه وولّى أبا موسى وأمر عثمان   [1] وفي النسخة الباريسية: على نقض أعطيتكم للنساء وذر النساء [2] وفي النسخة الباريسية: المخزعة وفي نسخة اخرى: الجرعة [3] وفي نسخة أخرى: بني العنيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 حذيفة بغزو الباب فسار نحوه. ولما كثر هذا الطعن في الأمصار وتواتر بالمدينة وكثر الكلام في عثمان والطعن عليه، وكان له منهم شيعة يذبّون عنه مثل زيد بن ثابت وأبي أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فلم يغنوا عنه، واجتمع الناس إلى علي بن أبي طالب وكلموه وعددوا عليه ما نقموه، فدخل على عثمان وذكر له شأن الناس وما نقموا عليه وذكره بأفعال عمر وشدّته ولينه هو لعمّاله وعرض عليه ما يخاف من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة، فقال له: إنّ المغيرة بن شعبة ولّيناه وعمر ولّاه، ومعاوية كذلك، وابن عامر تعرفون رحمه وقرابته. فقال له عليّ إنّ عمر كان يطأ على صماخ من ولّاه وأنت ترفق بهم وكانوا أخوف لعمر من غلامه يرفأ [1] ومعاوية يستبدّ عليك، ويقول هذا أمر عثمان فلا تغير عليه. ثم تكالما طويلا وافترقا وخرج عثمان على أثر ذلك، وخطب وعرض بما هو فيه من الناس وطعنهم وما يريدون منه، وأنهم تجرءوا عليه لرفقه بما لم يتجرؤا بمثله على ابن الخطّاب، ووافقهم برجوعه في شأنه إلى ما يقدمهم. حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأتابه ورفع درجته ولما كثرت الإشاعة في الأمصار بالطعن على عثمان وعمّاله، وكتب بعضهم إلى بعض في ذلك وتوالت الأخبار بذلك على أهل المدينة، جاءوا إلى عثمان وأخبروه فلم يجدوا عنده علما منه. وقال: أشيروا عليّ وأنتم شهود المؤمنين. قالوا: تبعث من تثق به إلى الأمصار يأتوك [2] بالخبر. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام وغيرهم إلى سواها فرجعوا، وقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره علماء المسلمين ولا عوامهم، وتأخر عمّار بن ياسر بمصر واستماله ابن السوداء وأصحابه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر، وكتب عثمان إلى أهل الأمصار: إن قد رفع إليّ أهل المدينة أن عمّالي وقع منهم أضرار بالناس، وقد أخذتهم بأن يوافوني في كل موسم فمن كان له حق فليحضر يأخذ بحقه مني أو من عمّالي، أو تصدّقوا فإنّ الله يجزي المتصدّقين. فبكى الناس عند قراءة كتابه عليهم   [1] كذا في الأصل وفي الكامل ج 3 ص 152: فقال عليّ: أنشدك الله! هل تعلم ان معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ، غلام عمر، له؟ قال: نعم. [2] الأصح ان يقول يأتونك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 ودعوا له، وبعث إلى عمّال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر وابن أبي سرح ومعاوية وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمرا وقال: ويحكم ما هذه الشكاية والاذاعة واني لأخشى والله أن يكونوا صادقين! فقالوا له: ألم يخبرك رسلك بأنّ أحدا لم يشافههم بشيء؟ وإنما هذه إشاعة لا يحل الأخذ بها واختلفوا في وجه الرأي في ذلك. فقال عثمان: إن الأمر كائن وبابه سيفتح ولا أحب أن تكون لأحد عليّ حجة في فتحه وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا فسكّتوا الناس وبيّنوا لهم حقوقهم. ثم قدم المدينة فدعا عليّا وطلحة والزبير ومعاوية حاضر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنتم ولاة هذا الأمر واخترتم صاحبكم [1] يعني عثمان وقد كبر وأشرف وفشت مقالة خفتها عليكم فما عنيتم فيه من شيء فأنا لكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم. فانتهره عليّ، ثم ذهب عثمان يتكلّم، وقال: اللذان كانا قبلي منعا قرابتهما احتسابا وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وأنّ قرابتي أهل عيلة وقلّة معاش فأعطيتهم فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فقالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا ومروان خمسة عشر ألفا، قال: آخذ ذلك منهما، فانصرفوا راضين. وقال له معاوية: أخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه، قال: لا أبتغي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلا. قال: فأبعث إليك جندا يقيمون معك، قال: لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال معاوية: لتغتالن ولتعرين [2] ، قال: حسبي الله ونعم الوكيل. ثم سار معاوية ومرّ على عليّ وطلحة والزبير فوصّاهم بعثمان وودّعهم ومضى. وكان المنحرفون عن عثمان بالأمصار قد تواعدوا عند مسير الأمراء إلى عثمان أن يثبوا عليه في مغيبهم، فرجع الأمراء ولم يتهيأ لهم ذلك، وجاءتهم كتب من المدينة ممن صار إلى مذهبهم في الانحراف عن عثمان أن أقدموا علينا فإن الجهاد عندنا، فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة، فخرج المصريون وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ في خمسمائة وقيل في ألف وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكونيّ وميسرة أو قتيرة بن فلان السكونيّ، وعليهم جميعا الغافقي بن حرب العكّي، وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان   [1] وفي النسخة الباريسية: وولوا صاحبهم [2] وفي نسخة ثانية: لتعيّرن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 العبديّ والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصمّ العامري، وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبديّ وذريح بن عبّاد وبشر بن شريح القيسي وابن المحرش وعليهم حرقوص بن زهير السعدي وكلهم في مثل عدد أهل مصر، وخرجوا جميعا في شوّال مظهرين للحجّ. ولما كانوا من المدينة على ثلاث مراحل تقدّم ناس من أهل البصرة وكان هواهم في طلحة فنزلوا ذا خشب، وتقدّم ناس من أهل الكوفة وكان هواهم في الزبير فنزلوا الأعوص، ونزل معهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في عليّ وتركوا عامتهم بذي المروة. وقال زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم من أهل الكوفة: لا تعجلوا حتى ندخل المدينة فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا فو الله إن كان حقا لا يقوم لنا أمر. ثم دخلوا المدينة ولقوا عليّا وطلحة والزبير وأمّهات المؤمنين وأخبروهم أنهم إنما أتوا للحجّ وأن يستعفوا من بعض العمّال، واستأذنوا في الدخول فمنعوهم ورجعوا إلى أصحابهم وتشاوروا في أن يذهب من أهل الكوفة وكل مصر فريق إلى أصحابهم كيادا وظلما في الفرقة، فأتى المصريون عليّا وهو في عسكر عند أحجار الزيت وقد بعث ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عليه فعرضوا عليه أمرهم، فصاح بهم وطردهم وقال: إن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم ذلك الصالحون. وأتى البصريون طلحة والكوفيون الزبير فقالا مثل ذلك فانصرفوا وافترقوا عن هذه الأماكن إلى عسكرهم على بعد. فتفرّق أهل المدينة فلم يشعروا إلا والتكبير في نواحيها، وقد هجموا وأحاطوا بعثمان ونادوا بأمان من كف يده، وصلّى عثمان بالناس أياما ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه، وغدا عليهم عليّ فقال: ما ردكم بعد ذهابكم، قالوا أخذنا كتابا مع بريد بقتلنا. وقال البصريون لطلحة والكوفيون للزبير مثل مقالة أهل مصر وانهم جاءوا لينصروهم، فقال لهم عليّ: كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم علينا جميعا؟ هذا أمر أبرم بليل. فقالوا: اجعلوه كيف شئتم لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا، وهم يصلّون خلفه ومنعوا الناس من الاجتماع معه. وكتب عثمان إلى الأمصار يستحثم فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهريّ، وبعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 عبد الله بن أبي سرح معاوية بن حديج [1] وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو، وتسابقوا إلى المدينة على الصعب والذلول، وقام بالكوفة نفر يحضّون على إعانة أهل المدينة فمن الصحابة عقبة بن عامر [2] وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب، ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله بن حكيم. وقام بالبصرة في ذلك عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر، ومن التابعين كعب بن سوار وهرم بن حيّان. وقام بالشام وبمصر جماعة أخرى من الصحابة والتابعين. ثم خطب عثمان في الجمعة القابلة وقال يا هؤلاء الله الله فو الله إنّ أهل المدينة ليعلموا أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطايا بالصواب. فقال محمد بن مسلمة: أنا أشهد بذلك. فأقعده حكيم بن جبلة، وقام زيد بن ثابت فأقعده آخر، وحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وأصيب عثمان بالحصباء فصرع وقاتل دونه سعد بن أبي وقّاص والحسين وزيد بن ثابت وأبو هريرة. ودخل عثمان بيته وعزم عليهم في الانصراف فانصرفوا، ودخل عليّ وطلحة والزبير على عثمان يعودونه وعنده نفر من بني أمية فيهم مروان فقالوا لعليّ: أهلكتنا وصنعت هذا الصنع والله لئن بلغت الّذي تريد لتمرّن عليك الدنيا، فقام مغضبا وعادوا إلى منازلهم. وصلّى عثمان بالناس وهو محصور ثلاثين يوما، ثم منعوه الصلاة، وصلّى بالناس أمير المصريين الغافقي بن حرب العكّي، وتفرّق أهل المدينة في بيوتهم وحيطانهم ملازمين للسلاح وبقي الحصار أربعين يوما. وقيل بل أمر عثمان أبا أيوب الأنصاري فصلّى أياما، ثم صلى عليّ بعده بالناس وقيل أمر عليّ سهل بن حنيف فصلّى عشر ذي الحجة ثم صلّى العيد والصلوات حتى قتل عثمان. وقد قيل في حصار عثمان أن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرّضان على عثمان، فلما خرج المصريون في رجب مظهرين للحجّ ومضمرين قتل عثمان أو خلعه وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ كان فيمن خرج مع المصريين محمد بن أبي بكر، وبعث عبد الله بن سعد في آثارهم وأقام محمد بن حذيفة بمصر، فلما كان ابن أبي سرح بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه، وأنّ محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر فرجع سريعا إليهما فمنع منهما، فأتى فلسطين وأقام بها   [1] وفي نسخة ثانية: بن جريح [2] وفي النسخة الباريسية: ابن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 حتى قتل عثمان. وأمّا المصريون فلمّا نزلوا ذا خشب جاء عثمان إلى بيت عليّ ومت إليه بالقرابة في أن يركب إليهم ويردّهم لئلا تظهر الجراءة منهم، فقال له عليّ: قد كلمتك في ذلك فأطعت أصحابك وعصيتني! يعني مروان ومعاوية وابن عامر وابن أبي سرح وسعيدا. فعلى أي شيء أردّهم؟ فقال: على أن أصير إلى ما تراه وتشيره وأن أعصي أصحابي وأطيعك. فركب في ثلاثين من المهاجرين والأنصار فيهم سعيد بن زيد وأبو جهم العدويّ وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتّاب، ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسّان وكعب بن مالك، ومن العرب نيار [1] بن مكرز، فأتوا المصريين وتولى الكلام معهم: عليّ ومحمد بن مسلمة، فرجعوا إلى مصر، وقال ابن عديس لمحمد أتوصينا بحاجة، قال: تتقي الله وتردّ من قبلك عن إمامهم فقد وعدنا أن يرجع وينزع. ورجع القوم إلى المدينة ودخل عليّ على عثمان وأخبره برجوع المصريين، ثم جاءه مروان من الغد فقال له: أخبر الناس بأنّ أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عنك كان باطلا قبل أن تجيء الناس من الأمصار ويأتيك ما لا تطيقه ففعل. فلما خطب ناداه الناس من كل ناحية [2] اتّق الله يا عثمان وتب إلى الله وكان أوّلهم عمرو بن العاص، فرفع يده وقال لهم: إني تائب. وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين، ثم جاء الخبر بحصاره وقتله. وقيل إنّ عليّا لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزع قبل أن يجيء غيرهم، ففعل وخطب بذلك وأعطى الناس من نفسه التوبة، وقال: «أنا أوّل من اتعظ أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فليأت أشرافكم يروني رأيهم فو الله إن ردّني الحق عبدا لاستن [3] بسنّة العبد ولأذلنّ ذل العبد وما عن الله مذهب إلّا إليه فو الله لأعطينكم الرضى ولا أحتجب عنكم» . ثم بكى وبكى الناس ودخل منزله، فجاءه نفر من بني أمية يعذلونه في ذلك فوبختهم نائلة بنت الفرافصة فلم يرجعوا إليها، وعابوه فيما فعل واستذلوه في إقراره بالخطبة والتوبة عند الخوف، واجتمع الناس بالباب وقد ركب بعضهم بعضا، فقال لمروان: كلّمهم فأغلظ لهم   [1] في النسخة الباريسية: ينار وفي نسخة اخرى: دينار [2] وفي النسخة الباريسية: من كل جهة [3] وفي النسخة الباريسية: لأسيرن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 في القول. وقال: «جئتم لنزع [1] ملكنا من أيدينا. والله لئن رمتمونا ليمرنّ عليكم منا أمر لا يسرّكم ولا تحمدوا غب [2] رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنّا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا» . وبلغ الخبر عليّا فنكر ذلك، وقال لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث: أسمعت خطبته بالأمس ومقالة مروان للناس اليوم؟ يا للَّه ويا للناس إن قعدت في بيتي، قال: تركتني وقرابتي وحقي وإن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السنّ وصحبة الرسول. وقام مغضبا إلى عثمان واستقبح مقالة مروان وأنبّه عليها وقال ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتكم فقد أذهبت شرفك وغلبت على رأيك. ثم دخلت عليه امرأته نائلة وقد سمعت قول عليّ، فعذلته في طاعة مروان، وأشارت عليه باستصلاح عليّ فبعث إليه فلم يأته. فأتاه عثمان إلى منزله ليلا يستلينه ويعده الثبات على رأيه معه فقال: بعد أن قام مروان على بابك يشتم الناس ويؤذيهم، فخرج عثمان وهو يقول: خذلتني وجرّأت الناس، فقال علي: والله إني أكثر الناس ذبّا عنك ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضى جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي. ثم منع عثمان الماء فغضب عليّ غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان. وقيل إن عليّا كان عند حصار عثمان بخيبر فقدم [3] والناس مجتمعون عند طلحة فجاء عثمان وقال: يا عليّ إن لي حق الإخاء والقرابة والصهر، ولو كان أمر الجاهلية فقط كان عارا على بني عبد مناف أن تنزع تيم أمرهم! فجاء عليّ إلى طلحة وقال: ما هذا، فقال طلحة: أبعد ما مسّ الحزام الطبيين [4] يا أبا حسن. فانصرف عليّ إلى بيت المال، وأعطى الناس فبقي طلحة وحده وسرّ بذلك عثمان وجاء إليه طلحة فقال له والله ما جئت تائبا ولكن مغلوبا فاللَّه حسيبك يا طلحة. وقيل إن المصريين لما رجعوا خرج إليهم محمد بن مسلمة فأعطوه صحيفة قالوا وجدناها عند غلام عثمان بالبويب وهو على بعير من إبل الصدقة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البيّاع وحبسهم وحلق رءوسهم   [1] وفي النسخة الباريسية: ولا تنزعون [2] وفي النسخة الباريسية: راغب [3] وفي النسخة الباريسية: فقام [4] هذا مثل يضرب به عند بلوغ الأمر غايته في الشدّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 ولحاهم وصلب بعضهم، وقيل وجدت الصحيفة بيد أبي الأعور السلميّ. فعاد المصريون وعاد معهم الكوفيون والبصريّون وقالوا لمحمد بن مسلمة حين سألهم: قد كلّمنا عليّا وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فوعدونا أن يكلموه فليحضر عليّ معنا عند عثمان. ثمّ دخل عليّ ومحمد على عثمان وأخبروه بقول أهل مصر فحلف ما كنت ولا علم. وقال محمد صدق هذا من عمل مروان. ودخل المصريون فشكى ابن عديس بابن أبي سرح وما أحدثه بمصر وأنه ينسب ذلك إلى كتاب عثمان وأنّا جئنا من مصر لقتلك فردّنا عليّ ومحمد وضمنا لنا النزوع عن هذا كله فرجعنا ولقينا هذا الكتاب وفيه أمرك لابن أبي سرح بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس وهو بيد علامك وعليه خاتمك، فحلف عثمان ما كتب ولا أمر ولا علم. قالوا: فكيف يجترأ عليك بمثل هذا فقد استحققت الخلع على التقديرين ولا يحل أن يولّى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف، فاخلع نفسك فقال: لا أنزع ما ألبسني الله ولكن أتوب وأرجع. قال: رأيناك تتوب وتعود فلا بدّ من خلعك أو قتلك وقتال أصحابك دون ذلك أن يخلص إليك أو تموت، فقال: لا ينالكم أحد بأخرى [1] ولو أردت ذلك لاستجشت بأهل الأمصار. ثم كثر اللغط وأخرجوا ومضى عليّ إلى منزله، وحصر المصريون عثمان وكتب إلى معاوية وابن عامر يستحثّهم وقام يزيد بن أسد القسري فاستنفر أهل الشام وسار إلى عثمان وبلغهم قتله بوادي القرى، فرجعوا وقيل سار من الشام حبيب بن مسلمة ومن البصرة مجاشع بن مسعود فبلغهم قتله بالربذة فرجعوا. وكانت بطانة عثمان أشاروا عليه أن يبعث إلى عليّ في كفّهم عنه على الوفاء لهم، فبعث إليه في ذلك فأجاب بعد توقف ثم بعث إليهم فقالوا لا بدّ لنا أن نتوثق منه وجاء فأعلمه وتوثق منه على أجل ثلاثة أيام، وكتب بينهم كتابا على ردّ المظالم وعزل من كرهوه من العمّال. ثم مضى الأجل وهو مستعدّ ولم يغير شيئا، فجاء المصريون من ذي خشب يستنجدون عهدهم فأبى فحصروه وأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأشرف عليهم فحيّاهم ودعا لهم، ثم قال: «أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون أنه لم يستجب لكم أو تقولون أن الله لم يبال بمن ولي هذا الدين أم تقولون أن الأمة ولوا مكابرة وعن غير مشورة فوكلهم إلى أمرهم أو لم يعلم عاقبة أمري، ثم أنشدكم الله   [1] وفي الكامل ج 3 ص 170: فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 هل تعلمون لي من السوابق ما يجب حقه فمهلا فلا يحل إلّا قتل ثلاثة: زان بعد إحصان وكافر بعد إيمان وقاتل بغير حق ثم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف» . فقالوا له: ما ذكرت من الاستخارة بعد عمر فكل ما صنع الله تعالى فيه الخيرة، ولكن الله ابتلى بك عباده وأمّا حقك وسابقتك فصحيح، لكن أحدثت ما علمت ولا نترك إقامة الحق مخافة الفتنة عاما قابلا، وأمّا حصر القتل في الثلاثة ففي كتب الله قتل من سعى في الأرض فسادا ومن قاتل على البغي وعلى منع الحق والمكابرة عليه، وأنت إنّما تمسكت بالإمارة علينا وإنّما قاتل دونك هؤلاء لهذه التسمية فلو نزعتها انصرفوا. فسكت عثمان ولزم الدار وأقسم على الناس بالانصراف فانصرفوا إلّا الحسن بن عليّ ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير. وكانت مدّة انحصاره أربعين يوما، ولثمان عشرة منها وصل الخبر بمسير الجنود من الأمصار فاشتد الانحصار ومنعوه من لقاء الناس ومن الماء، وأرسل إلى عليّ وطلحة والزبير وأمّهات المؤمنين يطلب الماء فركب علي إليهم مغلسا، وقال: يا أيها الناس إن هذا لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين وإنما الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى. فقالوا: لا والله ونعمة عين. فرجع وجاءت أمّ حبيبة على بغلتها مشتملة على إداوة وقالت: أردت أن أسأل هذا الرجل عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم، فقالوا: لا والله، وضربوا وجه البغلة فنفرت وكادت تسقط عنها وذهب بها الناس إلى بيتها. وأشرف عليهم عثمان وقرّر حقوقه وسوابقه فقال بعضهم مهلا عن أمير المؤمنين، فجاء الأشتر وفرّق الناس وقال: لا يمكر بكم. ثم خرجت عائشة إلى الحج ودعت أخاها فأبى، فقال له حنظلة الكاتب: تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع سفهاء العرب فيما لا يحل ولو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم ذهب حنظلة إلى الكوفة وبلغ طلحة والزبير ما لقي عليّ وأمّ حبيبة فلزموا بيوتهم. وكان آل حزم يدسون الماء إلى بيت عثمان في الغفلات، وكان ابن عبّاس ممن لزم باب عثمان للمدافعة فأشرف عليه عثمان وأمره أن يحجّ بالناس، فقال: جهاد هؤلاء أحب إليّ، فأقسم عليه وانطلق. ولما رأى أهل مصر أن أهل الموسم يريدون قصدهم، وأنّ أهل الأمصار يسيرون إليهم اعتزموا على قتل عثمان رضي الله عنه يرجون في ذلك خلاصهم واشتغال الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 عنهم، فقاموا إلى الباب ليقتحموه فمنعهم الحسن بن عليّ وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصاحبة وقاتلوهم وغلبوهم دون الباب، ثم صدهم عثمان عن القتال وحلف ليدخلنّ فدخلوا وأغلق الباب فجاءوا بالنار وأحرقوه، ودخلوا وعثمان يصلّي وقد افتتح سورة طه، وقد سار أهل الدار فما شغله شيء من أمرهم حتى فرغ وجلس إلى المصحف يقرأ فقرأ: «الَّذِينَ قال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 3: 173» . ثم قال لمن عنده إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليّ عهدا فأنا صابر عليه، ومنعهم من القتال وأذن للحسن في اللحاق بأبيه وأقسم عليه فأبى وقاتل دونه، وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تعجّل من الحج في عصابة لنصره فقاتل حتى قتل. وجاء أبو هريرة ينادي يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار وقاتل، ثم اقتحمت الدار من ظهرها من جهة دار عمرو بن حزم فامتلأت قوما ولا يشعر الذين بالباب، وانتدب رجل فدخل على عثمان في البيت فحاوره في الخلع فأبى فخرج، ودخل آخر ثم آخر كلهم يعظه فيخرج ويفارق القوم، وجاء ابن سلّام فوعظهم فهموا بقتله، ودخل عليه محمد بن أبي بكر فحاوره طويلا بما لا حاجة إلى ذكره ثم استحيا وخرج. ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم وأكبت عليه نائلة امرأته تتقي الضرب بيدها فنفحها أحدهم بالسيف في أصابعها. ثم قتلوه وسال دمه على المصحف، وجاء غلمانه فقتلوا بعض أولئك القاتلين وقتلاء أخر، وانتبهوا ما في البيت وما على النساء حتى نائلة، وقتل الغلمان منهم وقتلوا من الغلمان، ثم خرجوا إلى بيت المال فانتهبوه، وأرادوا قطع رأسه فمنعهم النساء فقال ابن عديس: اتركوه. ويقال إن الّذي تولى قتله كنانة بن بشر التجيبي وطعنه عمرو بن الحمق طعنات، وجاء عمير بن ضابيء وكان أبوه مات في سجنه فوثب عليه حتى كسر ضلعا من أضلاعه. وكان قتله لثمان عشرة خلت من ذي الحجة وبقي في بيته ثلاثة أيام. ثم جاء حكيم بن حزام وجبير بن مطعم إلى علي فأذن لهم في دفنه، فخرجوا به بين المغرب والعشاء ومعهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان فدفنوه في حشّ كوكب [1] ، وصلى عليه جبير وقيل مروان وقيل حكيم، ويقال: إنّ ناسا تعرّضوا لهم   [1] هو حائط من حيطان المدينة وهو خارج البقيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ليمنعوا من الصلاة عليه، فأرسل إليهم عليّ وزجرهم. وقيل إنّ عليّا وطلحة حضرا جنازته وزيد بن ثابت وكعب بن مالك. وكان عمّاله عند موته على ما نذكره: فعلى مكّة عبد الله بن الحضرميّ، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفيّ، وعلى صنعاء يعلى بن منيّة، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة والبحرين عبد الله بن عامر، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد من قبله، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة كذلك، وعلى الأردن ابو الأعور السلميّ كذلك، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكندي [1] كذلك، وعلى البحرين عبد الله بن قيس الفزاري، وعلى القضاء أبو الدرداء، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة والقعقاع بن عمرو على الحرب، وعلى خراج السواد جابر المزنيّ وسمّاك الأنصاري على الخراج، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة [2] بن النهّاس، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبدان خنيس [3] ، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى القضاء زيد بن ثابت. بيعة علي رضي الله عنه لما قتل عثمان اجتمع طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا عليّا يبايعونه، فأبى وقال: أكون وزيرا لكم خير من أن أكون أميرا ومن اخترتم رضيته، فألحّوا عليه وقالوا: لا نعلم أحق منك ولا نختار غيرك حتى غلبوه في ذلك، فخرج إلى المسجد وبايعوه وأوّل من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيّرهما ويقال إنهما ادّعيا الإكراه بعد ذلك بأربعة أشهر وخرجا إلى مكة، ثم بايعه الناس. وجاءوا بسعد فقال لعليّ: حتى تبايعك الناس [4] فقال: اخلوه وجاءوا بابن عمر فقال: كذلك. فقال: ائتني بكفيل. قال: لا أجده فقال الأشتر: دعني أقتله فقال عليّ: دعوه أنا كفيله. وبايعت الأنصار وتأخّر منهم حسّان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو   [1] وفي النسخة الباريسية: الكناني. [2] وفي النسخة الباريسية: عيينة. [3] وفي النسخة الباريسية: عنيس. [4] الأصح ان يقول: حتى يبايعك الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 سعيد الخدريّ ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة وسلمة بن سلامة بن وقش [1] ، وتأخر من المهاجرين عبد الله بن سلّام وصهيب بن سنان وأسامة بن زيد وقدامة بن مظعون والمغيرة بن شعبة. وأمّا النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان وقميصه الّذي قتل فيه ولحق بالشام صريخا. وقيل إنّ عثمان لما قتل بقي الغافقي بن حرب أميرا على المدينة خمسة أيام، والتمس من يقوم بالأمر فلم يجبه أحد، وأتوا إلى عليّ فامتنع، وأتى الكوفيّون الزبير والبصريّون طلحة فامتنعا، ثم بعثوا إلى سعد وابن عمر فامتنعا [2] . فبقوا حيارى ورأوا أنّ رجوعهم إلى الأمصار بغير إمام يوقع في الخلاف والفساد، فجمعوا أهل المدينة وقالوا: أنتم أهل الشورى وحكمكم جائز على الأمة فاعقدوا الإمامة ونحن لكم تبع وقد أجّلناكم يومين وإن لم تفعلوا قتلنا فلانا وفلانا وغيرهما يشيرون إلى الأكابر. فجاء الناس إلى عليّ فاعتذر وامتنع، فخوّفوه الله في مراقبة الإسلام، فوعدهم إلى الغد. ثم جاءوه من الغد وجاء حكيم بن جبلة [3] في البصريّين، فأحضر الزبير كرها، وجاء الأشتر في الكوفيين فأحضر طلحة كذلك وبايعوا لعلي، وخرج إلى المسجد وقال: هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلّا من أردتم وقد افترقنا أمس وأنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم، فقالوا: نحن على ما افترقنا عليه بالأمس، فقال لهم: اللَّهمّ اشهد! ثم جاءوا بقوم ممن تخلف قالوا نبايع على إقامة كتاب الله. ثم بايع العامة، وخطب عليّ وذكر الناس وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة ورجع إلى بيته، فجاءه طلحة والزبير وقالا: قد اشترطنا إقامة الحدود فأقمها على قتلة هذا الرجل، فقال: لا قدرة لي على شيء مما تريدون حتى يهدأ الناس وننظر الأمور فتؤخذ الحقوق، فافترقوا عنه. وأكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان وباستناده إلى أربعة في رأيه، وبلغه ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم، ثم هرب مروان وبنو أمية ولحقوا بالشام، فاشتدّ على عليّ منع قريش من الخروج، ثم نادى في اليوم الثالث برجوع   [1] وفي نسخة أخرى: وخشب. [2] وفي النسخة الباريسية: ثم بعثوا الى سعد بن عمر فامتنع. [3] وفي النسخة الباريسية: وجاء حكم بن عبلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 الأعراب إلى بردهم، فأبوا وتدامرت معهم السبئية، وجاءه طلحة والزبير فقالا: دعنا نأتي البصرة والكوفة فنستنفر الناس فأمهلهما. وجاء المغيرة فأشار عليه باستبقاء العمّال حتى يستقرّ الأمر ويستبدلوا بمن شاء فأمهله، ورجع من الغد فأشار بمعاجلة الاستبدال، وجاءه ابن عبّاس فأخبره بخبر المغيرة، فقال: نصحك أمس وغشّك اليوم. قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج عند قتل الرجل إلى مكة وأمّا اليوم فإنّ بني أميّة يشبّهون على الناس بأن يلجموك طرفا من هذا الأمر ويطلبون ما طلب أهل المدينة في قتلة عثمان فلا يقدرون عليهم والأمر أن تقرّ معاوية. فقال علي رضي الله عنه: والله لا أعطيه إلّا السيف. فقال له ابن عبّاس: أنت رجل شجاع لست صاحب رأيي في الحرب أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحرب خدعة. قال: بلى! فقال ابن عبّاس: أمّا والله إن أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الأمور ولا يعرفون ما كان وجهها من غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عبّاس لست من هنيّاتك ولا هنيّات معاوية في شيء [1] . فقال ابن عبّاس: أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، وإن نهضت مع هؤلاء القوم يحمّلك الناس دم عثمان غدا. فأبى عليّ وقال: أشر عليّ وإذا خالفتك أطعني. قال: أيسر مالك عندي الطاعة. قال: فسر إلى الشام فقد وليكتها. قال: إذا يقتلني معاوية بعثمان أو يحبسني فيتحكم عليّ لقرابتي منك ولكن أكتب إليه وعده فأبى. وكان المغيرة يقول نصحته فلم يقبل. فغضب ولحق بمكة. ثم فرّق على العمّال على الأمصار فبعث على البصرة عثمان بن حنيف، وعلى الكوفة عمارة بن شهاب بن المهاجرين، وعلى اليمن عبيد الله بن عبّاس، وعلى مصر قيس بن سعد، وعلى الشام سهل بن حنيف. فمضى عثمان إلى البصرة واختلفوا عليه فأطاعته فرقة وقال آخرون: ما يصنع أهل المدينة فنقتدي بهم، ومضى عمارة إلى الكوفة فلما بلغ زبالة لقي طليحة بن خويلد فقال له: ارجع فإنّ اليوم لا يستبدلون بأبي موسى وإلّا ضربت عنقك، ومضى ابن عبّاس إلى اليمن فجمع يعلى بن منيّة [2] مال الجباية   [1] وفي النسخة الباريسية: لست من سنامك ولا سنامك معاوية في شيء. - وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 198: لست من هناتك ولا هنات معاوية في شيء. - وفي الطبري ج 5 ص 161: لست من هنيئتك وهنيئات معاوية في شيء. [2] وفي النسخة الباريسية: بن حقبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 وخرج به إلى مكة ودخل عبيد الله إلى اليمن، ومضى قيس بن سعد إلى مصر ولقيه بأيلة خيّالة من أهل مصر فقالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد من فلّ عثمان أطلب من آوي إليه وأنتصر به. ومضى حتى دخل مصر وأظهر أمره فافترقوا عليه فرقة كانت معه وأخرى تربصوا حتى يروا فعله في قتلة عثمان. ومضى سهل بن حنيف إلى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقال لهم: أنا أمير على الشام، قالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع. فلمّا رجع وجاءت أخبار الآخرين دعا عليّ طلحة والزبير وقال قد وقع ما كنت أحذركم. فسألوه الإذن في الخروج من المدينة وكتب عليّ إلى أبي موسى مع معبد [1] الأسلمي فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة وببيعتهم ومن الكاره منهم والراضي حتى كأنه يشاهد. وكتب إلى معاوية مع سبرة الجهنيّ فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان، ثم دعا قبيصة من عبس وأعطاه كتابا مختوما عنوانه من معاوية إلى عليّ وأوصاه بما يقول وأعاده مع رسول عليّ، فقدما في ربيع الأوّل ودخل العبسيّ وقد رفع الطومار كما أمره حتى دفعه إلى علي، ففضه فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال نعم قال تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود قال: وممن؟ قال منك وتكرت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان منصوبا على منبر دمشق. فقال: اللَّهمّ اني أبرأ إليك من دم عثمان! قد نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله. ثم ردّه إلى صاحبه وصاحت السبئيّة اقتلوا هذا الكلب وافد الكلاب، فنادى يا آل مضريا لقيس أحلف باللَّه ليردّنها عليكم أربعة آلاف خصيّ فانظروا كم الفحول والركاب وتقاووا عليه، فمنعته مضر ودسّ أهل المدينة على عليّ من يأتيهم برأيه في القتال وهو زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعا إليه فجالسه ساعة فقال له عليّ: سيروا لغو الشام. فقال لعليّ: الأناة والرّفق أمثل فتمثل يقول: متى تجمع القلب الذكيّ وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم فعلم أنّ رأيه القتال [2] ثم جاء إلى القوم الذين دسوه فأخبرهم ثم استأذنه طلحة والزبير في العمرة ولحقا بمكّة. ثم اعتزم على الخروج إلى الشام ودعا أهل المدينة إلى قتالهم.   [1] وفي النسخة الباريسية: فهد. [2] وفي الطبري ج 5 ص 163: «فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وقال: انطلقوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الّذي عليكم. وأمر الناس بالتجهّز إلى الشام ودفع اللواء لمحمد بن الحنفيّة، وولّى عبد الله بن عبّاس ميمنته، وعمرو بن سلمة ميسرته، ويقال بل عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وولّى أبا ليلى بن عمرو بن الجرّاح ابن أخي عبيدة مقدمته، ولم يول أحدا ممن خرج على عثمان. واستخلف على المدينة تمّام بن العبّاس، وعلى مكة قثم بن العبّاس. وكتب الى قيس بن سعد بمصر وعثمان بن حنيف بالبصرة وأبي موسى بالكوفة أن يندبوا الناس إلى الشام، وبينما هو على التجهّز للشام إذا أتاه الخبر عن أهل مكّة بنحو آخر وأنّهم على الخلاف فانتقض عن الشام. أمر الجمل ولما جاء خبر مكة إلى عليّ قام في الناس وقال: ألا إنّ طلحة والزبير وعائشة قد تمالئوا على نقض إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكفّ إن كفّوا وأقتصد نحوه، وندب أهل المدينة فتثاقلوا، وبعث كميلا النخعيّ فجاءه بعبد الله بن عمر فقال: انهض معي، فقال: أنا من أهل المدينة افعل ما يفعلون، قال: فأعطني كفيلا بأنك لا تخرج [1] ، قال: ولا هذه، فتركه ورجع الى المدينة، وخرج إلى مكة وقد أخبر ابنة علي أمّ كلثوم [2] بأنه سمع من أهل المدينة تثاقلهم وأنه على طاعة عليّ ويخرج معتمرا. وجاء الخبر من الغداة إلى عليّ بأنه خرج إلى الشام فبعث في أثره عل كل طريق، وماج أهل المدينة، وركبت أمّ كلثوم إلى أبيها وهو في السوق يبعث الرجال ويظاهر في طلبه فحدّثته فانصرف عن ذلك ووثق به فيما قاله، ورجع إلى أهل المدينة فخاطبهم [3] وحرّضهم فرجعوا الى اجابته، وأول من أجابه أبو الهيثم بن التيهان البدري وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين. ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس عن عليّ انتدب إليه وقال: من تثاقل عنك فإنّا نخفي معك ونقاتل دونك.   [1] وفي النسخة الباريسية: بأنه لا يخرج. [2] وفي نسخة اخرى: أخبر أخته أم كلثوم. [3] وفي النسخة الباريسية: فخطبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 وكان سبب اجتماعهم بمكّة أنّ عائشة كانت خرجت إلى مكّة وعثمان محصور كما قدّمناه، فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة فلقيت في طريقها رجلا من بني ليث اخوالها فأخبرها بقتل عثمان وبيعة عليّ، فقالت: قتل عثمان والله ظلما ولأطلبنّ بدمه فقال لها الرجل: ولم أنت كنت تقولين ما قلت؟ فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وانصرفت الى مكة. وجاءها الناس فقالت: «إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما ونقّموا عليه استعمال من حدثت سنّه وقد استعمل أمثالهم من كان قبله ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها فلمّا لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام. والله لاصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ولو أنّ الّذي اعتدّوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه» . فقال عبد الله بن عامر الحضرميّ وكان عامل مكّة لعثمان: أنا أوّل طالب، فكانت أوّل مجيب وتبعه بنو أمية وكانوا هربوا إلى مكّة بعد قتل عثمان، منهم: سعيد بن العاص والوليد بن عقبة. وقدم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ويعلى بن منيّة [1] من اليمن بستمائة بعير وستمائة ألف فأناخ بالأبطح، ثم قدم طلحة والزبير من المدينة فقالت لهما عائشة: ما وراءكما؟ قالا: تحملنا هرابا من المدينة من غوغاء وأعراب غلبوا على خيارهم فلم يمنعوا أنفسهم ولا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا، فقالت: انهضوا بنا إليهم، وقال آخرون: نأتي الشام، فقال ابن عامر: إنّ معاوية كفا كم الشام فأتوا البصرة فلي بها صنائع ولهم في طلحة هوي. فنكروا عليه مجيئه من البصرة واستقام رأيهم على رأيه وقالوا: إنّ الذين معنا لا يطيقون من بالمدينة ويحتجّون ببيعة عليّ وإذا أتينا البصرة أنهضناهم كما أنهضنا أهل مكّة وجاهدنا، فاتفقوا ودعوا عبد الله [2] بن عمر الى النهوض فأبى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. وكانت أمهات المؤمنين معها على قصد المدينة، فلما نهضت إلى البصرة قعدوا عنها وأجابتها حفصة فمنعها أخوها عبد الله. وجهّزهم ابن عامر بما معه من المال ويعلى بن منيّة بما معه من المال والظهر، ونادوا في الناس   [1] يعلى بن منيّه هو يعلى بن أميه، وهو أبوه، ومنيّه امه كما في شرح مسلم والكامل ينتسب تارة الى أبيه وتارة الى امه وقول الناس منبّه تحريف، قاله نصر. [2] وفي نسخة اخرى: عبد الرحمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 بالحملان فحملوا على ستمائة بعير وساروا في ألف من أهل مكة ومن أهل المدينة وتلاحق بهم الناس فكانوا ثلاثة آلاف، وبعثت أمّ الفضل وأمّ عبد الله بن عبّاس بالخبر استأجرت على كتابها من أبلغه عليّا، ونهضت عائشة ومن معها، وجاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير فقال: على أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذن بالصلاة، فقال ابن الزبير على أبي، وقال ابن طلحة على أبي، فأرسلت عائشة إلى مروان تقول له أتريد أن تفرّق أمرنا ليصلّ بالناس ابن أختي [1] تعني عبد الله بن الزبير. وودّع أمهات المؤمنين عائشة من ذات عرق باكيات، وأشار سعيد بن العاص على مروان بن الحكم وأصحابه بإدراك ثأرهم من عائشة وطلحة والزبير. فقالوا نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا. ثم جاء إلى طلحة والزبير فقال: لمن تجعلان الأمر إن ظفرتما؟ قالا: لأحدنا الّذي تختاره الناس، فقال: بل اجعلوه لولد عثمان لأنكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: وكيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟ قال: فلا أراني أسعى إلّا لإخراجها من بني عبد مناف فرجع، ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد ووافقه المغيرة بن شعبة ومن معه من ثقيف فرجعها، ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان. وأركب يعلى بن منيّة عائشة جملا اسمه عسكر اشتراه بمائة دينار وقيل بثمانين، وقيل بل كان لرجل من عرينة عرض لهم بالطريق على جمل فاستبدلوا به جمل عائشة على ان حمله بألف فزادوه أربعمائة درهم، وسألوه عن دلالة الطريق فدلهم ومرّ بهم على الماء الحوأب فنبحتهم كلابه. وسألوه عن الماء فعرّفهم باسمه. فقالت عائشة: ردّوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب، ثم ضربت عضد بعيرها [2] فأناخته وأقامت بهم يوما وليلة إلى أن قيل النجاء النجاء قد أدرككم عليّ، فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي، وأشار بأن يتقدّم عبد الله بن عامر إليهم فأرسلته عائشة وكتبت معه إلى رجال من البصرة، إلى الأحنف بن قيس وسمرة وأمثالهم، وأقامت بالحفّين [3] تنتظر الجواب، ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجلا عامّة، وأبا الأسود الدؤليّ وكان   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن أخي. [2] وفي النسخة الباريسية: غضب بعيرها. [3] لعلها: حفير وهو موضع بين مكة والمدينة وعن ابن دريد: بين مكة والبصرة (معجم البلدان) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 رجلا خاصّة، وقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فجاءاها بالحفين وقالا: إنّ أميرنا بعثنا نسألك عن مسيرك؟ فقالت: إنّ الغوغاء ونزاع القبائل فعلوا ما فعلوا فخرجت في المسلمين أعلمهم بذلك وبالذي فيه الناس ورائنا وما ينبغي من إصلاح هذا الأمر. ثم قرأت لا خَيْرَ في كَثِيرٍ من نَجْواهُمْ 4: 114 الآية. ثم عدلا عنها إلى طلحة فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع عليّا؟ قال: بلى والسيف على رأسي وما أستقبل على البيعة إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان. وقال لهما الزبير مثل ذلك، ورجعا إلى عثمان بن حنيف فاسترجع وقال: دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة، ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمران: اعتزل. قال بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فجاءه هشام بن عامر فأشار عليه بالمسالمة والمسامحة حتى يأتي أمر عليّ، فأبى ونادى في الناس فلبس السلاح ثم دسّ من يتكلم في الجمع ليرى ما عندهم، فقال رجل: إنّ هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فبلدهم يأمن فيه الطير وان جاءوا لدم عثمان فما نحن بقتلته فأطيعوني وردّوهم من حيث جاءوا. فقال الأسود بن سريع السعدي: إنما جاءوا يستعينون بنا على قتلته منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أنّ لهم بالبصرة ناصرا وكسره ذلك كلّه. وانتهت عائشة ومن معها إلى المربد، وخرج إليها عثمان فيمن معه وحضر أهل البصرة، فتكلّم طلحة من الميمنة: فحمد الله وذكر عثمان وفضله ودعا إلى الطلب بدمه وحثّ عليه، وكذلك الزبير فصدقهما أهل الميمنة. وقال أصحاب عثمان من الميسرة: بايعتم عليّا ثم جئتم تقولون. ثم تكلمت عائشة وقالت: «كان الناس يتجنّون على عثمان ويأتوننا بالمدينة فنجدهم فجرة ونجده برّا تقيا وهم يحاولون غير ما يظهرون، ثم كثروا واقتحموا عليه داره وقتلوه واستحلّوا المحرّمات بلا ترة ولا عذر، ألا وأنّ مما ينبغي لكم ولا ينبغي غيره أخذ قتلة عثمان واقامة كتاب الله» ثم قرأت «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً من الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ 3: 23» الآية. فاختلف أصحاب عثمان عليه ومال بعضهم إلى عائشة، ثم افترق الناس وتحاصبوا وانحدرت عائشة إلى المربد، وجاءها جارية [1] بن قدامة السعدي فقال: «يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة السلاح، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك وأنّه من   [1] وفي النسخة الباريسية: حارثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 رأى قتالك يرى قتلك، فإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك وان كنت مكرهة فاستعيني باللَّه وبالناس على الرجوع» . وأقبل حكيم بن جبلة وهو على الخيل [1] فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم فاقتتلوا على فم السكة [2] ، وحجز الليل بينهم وباتوا يتأهبون وعاداهم حكيم بن جبلة فاعترضه رجل من عبد القيس [3] فقتله حكيم، ثم قتل امرأة أخرى، واقتتلوا إلى أن زال النهار. وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف ولما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا على أن يبعثوا إلى المدينة فإن كان طلحة والزبير أكرها سلم لهم عثمان الأمر وإلّا رجعا عنه. وسار كعب بن سوار القاضي الى أهل المدينة يسألهم عن ذلك، فجاءهم يوم جمعة وسألهم فلم يجبه إلا أسامة بن زيد فإنّه قال: بايعا مكرهين. فضربه الناس حتى كاد يقتل. ثم خلّصه صهيب وأبو أيوب ومحمد بن مسلمة إلى منزله، ورجع كعب وبلغ الخبر بذلك إلى عليّ، فكتب إلى عثمان بن حنيف يعجزه ويقول والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا. ولما جاء كعب بقول أهل المدينة بعث طلحة والزبير إلى عثمان ليجتمع بها، فامتنع واحتج بالكتاب وقال هذا غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الناس وجاءا إلى المسجد بعد صلاة العشاء في ليلة ظلماء شاتية، وتقدم عبد الرحمن بن عتّاب في الوحل فوضع السلاح في الجائية من الزطّ والسابحة وهم أربعون رجلا فقاتلوهم وقتلوا عن آخرهم، واقتحموا على عثمان فأخرجوه إلى طلحة والزبير وقد نتفوا شعر وجهه كله، وبعثا إلى عائشة بالخبر فقالت خلوا سبيله، وقيل أمرت بإخراجه وضربه، وكان الّذي تولى إخراجه وضربه مجاشع بن مسعود. وقيل إنّ الاتفاق إنّما وقع بينهم على أن يكتبوا إلى عليّ فكتبوا إليه وأقام عثمان يصلّي فاستقبلوه ووثبوا عليه فظفروا به وأرادوا قتله، ثم استبقوه من أجل الأنصار وضربوه وحبسوه. ثم خطب طلحة والزبير وقالا يا أهل البصرة توبة بجوبة [4] إنما أردنا أن نستعتب عثمان   [1] وفي نسخة ثانية: على ظهر الخيل. [2] وفي النسخة الباريسية: فم السمكة. [3] وفي النسخة الباريسية: من عبد الله بن القيس. [4] توبة بحوبة: اي توبة بإثم وفي النسخة الباريسية: توبة تحويه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 فغلب السفهاء فقتلوه. فقالوا لطلحة قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا! قال الزبير: أمّا أنا فلم أكاتبكم، وأخذ يرمي عليّا بقتل عثمان فقال رجل من عبد القيس: يا معشر المهاجرين أنتم أوّل من أجاب داعي الإسلام وكان لكم بذلك الفضل، ثم استخلفتم مرارا ولم تشاورونا، وقتلتم كذلك، ثم بايعتم عليّا وجئتم تستعدوننا عليه فماذا الّذي نقمتم عليه؟ فهموا بقتله ومنعته عشيرته، ثم وثبوا من الغد على قتل عثمان ومن معه فقتلوا منهم سبعين. وبلغ حكيم بن جبلة ما فعل بعثمان بن حنيف فجاء لنصره في جماعة من عبد القيس، فوجد عبد الله بن الزبير فقال له: ما شأنك؟ قال: تخلوا عن عثمان وتقيمون على ما كنتم حتى يقدم عليّ ولقد استحللتم الدم الحرام تزعمون الطلب بثأر عثمان وهم لم يقتلوه. ثم ناجزهم الحرب في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وأقام حكيم أربعة قوّاد فكان هو بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام. وتزاحفوا واستحرّ القتل فيهم حتى قتل كثير منهم وقتل حكيم وذريح، وأفلت حرقوص في فلّ من أصحابه إلى قومهم بني سعد، وتتبعوهم بالقتل وطالبوا بني سعد بحرقوص وكانوا عثمانية [1] ، فاعتزلوا وغضبت عبد القيس كلهم والكثير من بكر بن وائل، وأمر طلحة والزبير بالعطاء في أهل الطاعة لهما، وقصدت عبد القيس وبكر بيت المال فقاتلوهم ومنعوهم، وكتب عائشة إلى أهل الكوفة بالخبر [2] وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن عليّ وأن يقدموا بدم عثمان، وكتبت بمثل ذلك الى اليمامة والمدينة. ولنرجع إلى خبر عليّ وقد كان لمّا بلغه خبر طلحة والزبير وعائشة ومسيرهم إلى البصرة دعا أهل المدينة للنصرة وخطبهم، فتثاقلوا أوّلا وأجابه زياد بن حنظلة وأبو الهيثم وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين وأبو قتادة في آخرين، وبعثت أم سلمة معه ابن عمّها وخرج يسابق طلحة والزبير إلى البصرة ليردّهما، واستخلف على المدينة تمام ابن عبّاس وقيل سهل بن حنيف، وعلى مكّة قثم بن عباس، وسار في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وسار معه من نشط من الكوفيين والمصريين متخففين في تسعمائة، ولقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال يا أمير المؤمنين: لا تخرج منها فو الله إن   [1] أي من اتباع الخليفة عثمان. [2] وفي النسخة الباريسية: بالفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 خرجت منهما لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا. فبدر الناس إليه، فقال: دعوه فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وسار فانتهى الى الرَّبَذَة، وجاء خبر سبقهم إلى البصرة فأقام يأتمر بما يفعل ولحقه ابنه الحسن وعذله في خروجه وما كان من عصيانه إيّاه، فقال: ما الّذي عصيتك فيه حين أمرتني؟ قال: أمرتك أن تخرج عند حصار عثمان من المدينة ولا تحضر لقتله، وثم عند قتله ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة الأمصار، ثم عند خروج هؤلاء أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا. فقال: أمّا الخروج من المدينة فلم يكن إليه سبيل وقد كان أحيط بنا كما أحيط بعثمان، وأمّا البيعة فخفنا ضياع الأمر والحل والعقد لأهل المدينة لا للعرب ولا للأمصار ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحق بالأمر بعده فبايع الناس غيري واتبعتهم في أبي بكر وعمر وعثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا أقاتل من خالف بمن أطاع إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين، وأمّا القعود عن طلحة والزبير فإذا لم انظر فيما يلزمني من هذا الأمر فمن ينظر فيه؟. ثم أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر يستنفران الناس، وأقام بالربذة يحرّض الناس وأرسل إلى المدينة في أداته وسلاحه، وقال له بعض أصحابه عرّفنا بقصدك من القوم؟ قال: الإصلاح إن قبلوه وإلّا ننظرهم وان بادرونا امتنعنا. ثم جاءه جماعة من طيِّئ نافرين معه فقبلهم وأثنى عليهم. ثم سار من الرَّبَذَة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمرو بن الجرّاح، ولما انتهى الى فيد أتته أسد وطيِّئ وعرضوا عليه النفير معه، فقال: الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية. ولقيه هنالك رجل من أهل الكوفة من بني شيبان فسأله عن أبي موسى، فقال إن أردت الصلح فهو صاحبه، وان أردت القتال فليس بصاحبه. فقال: والله ما أريد إلّا الصلح حتى يردّ علينا. ثم انتهى إلى الثعلبية والأساد، فبلغه ما لقي عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة، ثم جاء بذي قار عثمان بن حنيف وأراه ما بوجهه، فقال: «أصبت أجرا وخيرا إنّ الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب ثم ثالث فقالوا وفعلوا ثم بايعوني ومنهم طلحة والزبير ثم نكثا وألّبا عليّ. ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما عليّ! والله إنهما ليعلمان اني لست دونهم» . ثم أخذ في الدعاء عليهما وابن وائل هنالك يعرضون عليه النفير فأجابهم مثل طيِّئ وأسد، وبلغه خروج عبد القيس على طلحة والزبير فأثنى عليهم. وأمّا محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فبلغا إلى الكوفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 ودفعا إلى أبي موسى كتاب عليّ وقاما في الناس بأمره فلم يجبهما أحد وشاوروا أبا موسى في الخروج إلى علي، فقال: الخروج سبيل الدنيا والقعود سبيل الآخرة فقعدوا كلهم. وغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى، فقال لهما: والله إنّ بيعة عثمان لفي عنقي وعنق عليّ وان كان لا بدّ من القتال فحتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا، فرجعا إلى عليّ بالخبر وهو بذي قار، فرجع عليّ باللائمة على الأشتر، وقال: أنت صاحبنا في أبي موسى فاذهب أنت وابن العباس وأصلح ما أفسدت. فقدما على أبي موسى وكلما استعانا عليه بالناس لم يجب إلى شيء ولم ير إلّا القعود حتى تنجلي الفتنة ويلتئم الناس، فرجع ابن عبّاس والأشتر إلى عليّ فأرسل عليّ ابنه الحسن وعمّار بن ياسر وقال: لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت. فانطلقا حتى دخلا المسجد، وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن علي فضمه إليه وقال لعمّار: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا وأحللت نفسك مع الفجّار؟ فقال: لم أفعل. فأقبل الحسن على أبي موسى فقال: لم تثبط الناس عنّا وما أردنا إلا الإصلاح ومثل أمير المؤمنين لا يخاف على شيء. قال: «صدقت بأبي أنت وأمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب والمسلمون اخوان ودماؤهم وأموالهم حرام» فغضب عمّار وسبّه فسبّه آخر وتثاور الناس، ثم كفّهم أبو موسى. وجاء زيد بن صوحان بكتاب عائشة إليه وكتابها إلى أهل الكوفة فقرأهما على الناس في سبيل الإنكار عليها فسبه شبث بن ربعي [1] ، وتهاوى الناس وأبو موسى يكفّهم ويأمرهم بلزوم البيوت حتى تنجلي الفتنة، ويقول: أطيعوني وخلوا قريشا إذا أبوا إلّا الخروج من الدار الهجرة وفراق أهل العلم. حتى ينجلي الأمر. وناداه زيد بن صوحان بإجابة عليّ والقيام بنصرته وتابعه القعقاع بن عمرو فقام بعده فقال: لا سبيل إلى الفوضى وهذا أمير المؤمنين مليء بما ولي وقد دعاكم فانفروا، وقال عبد خير مثل ذلك وزاد: يا أبا موسى هل تعلم أنّ طلحة والزبير بايعا؟ قال: نعم. قال: فهل أحدث عليّ ما ينقض البيعة؟ لا أدري قال: لا دريت ونحن نتركك حتى تدري. ثم قال سيحان [2] بن صوحان مثل ما قال القعقاع، وحرّض على طاعة عليّ وقال: فإنه   [1] شبت: بفتح الشين المعجمة والموحّدة كما في القاموس. [2] سيمان بوران جيحان أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 دعاكم تنظرون ما بينه وبين صاحبيه [1] وهو المأمون على الأمّة الفقيه في الدين، فقال عمّار وهو دعاكم إلى ذلك لتنظروا في الحق وتقاتلوا معه عليه، وقال الحسن:. أجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم وإن أمير المؤمنين يقول: إن كنت مظلوما أطيعوني [2] أو ظالما فخذوا مني بالحق. والله إن طلحة والزبير أول من بايعني وأول من غدر. فأجاب الناس، وحرّض عديّ بن حاتم قومه وحجر بن عديّ كذلك فنفر مع الحسن من الكوفة تسعة آلاف سارت منها ستة في البر وباقيهم في الماء. وأرسل عليّ بعد مسير الحسن وعمّار الأشتر إلى الكوفة فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى والحسن وعمّار في منازعة معه ومع الناس، فجعل الأشتر يمرّ بالقبائل ويدعوهم إلى القصر حتى انتهى إليه في جماعة الناس فدخله وأبو موسى بالمسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له اعتزل علمنا واترك منبرنا، فدخل الأشتر إلى القصر وأمر بإخراج غلمان أبي موسى بن القصر، وجاءه أبو موسى فصاح به الأشتر: أخرج لا أمّ لك وأجله تلك العشيّة. ودخل الناس لينهبوا متاعه فمنعهم الأشتر، ونفر الناس مع الحسن كما قلنا وكان الأمراء على أهل النفير على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي، وعلى قبائل قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن مجدوح الذهلي، وعلى مذحج والأشعريّين حجر بن عدي، وعلى بحيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، ورؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب، ورؤساء النفار زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس وأمثالهم. فقدموا على عليّ بذي قار، فركب إليهم ورحب بهم وقال: يا أهل الكوفة دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فهو الّذي نريد وإن يحلوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤنا بالظلم ولا ندع أمرا فيه الصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد ان شاء الله. فاجتمع الناس عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها وهم ألوف ينتظرونه ما بينه وبين البصرة، ثم دعا القعقاع وكان من الصحابة فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الق هذين الرجلين فادعهما للالفة   [1] وفي النسخة الباريسية: صاحبه. [2] وفي النسخة الباريسية: أعينوني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 والجماعة وعظم عليهما الفرقة وقال له: كيف تصنع إذا قالوا ما لا وصاة مني فيه عندك؟ قال: نلقاهم بالذي أمرت به فإذا جاء منهم ما لي عندنا منك رأيي فيه اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى انه ينبغي، قال: أنت لها. فخرج القعقاع فقدم البصرة وبدأ بعائشة وقال: أي أمّة ما أشخصك؟ قالت: أريد الإصلاح بين الناس، قال فابعثي الى طلحة والزبير تسمعي مني ومنهما، فبعثت إليهما فجاءا فقال لهما: اني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح وكذلك قالا. قال فأخبراني ما هو؟ قالا: قتلة عثمان! فإنّ تركهم ترك للقرآن، قال: فقد قتلتم منهم ستمائة من أهل البصرة وغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فان قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمعت مضر وربيعة على حربكم فأين الإصلاح؟ قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال هذا الأمر دواؤه التسكين وإذا سكن اختلجوا فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح خير ولا تعرضونا للبلاء فنتعرّض له ويصرعنا وإياكم، فقالوا قد أصبت وأحسنت فارجع فان قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع وأخبر عليا فأعجبه وأشرف القوم على الصلح. وقد كانت وفود أهل البصرة أقبلوا إلى علي قبل رجوع القعقاع وتفاوضوا مع أهل الكوفة واتفقوا جميعا على الصلاح، ثم خطب عليّ الناس وأمرهم بالرحيل من الغد وأن لا يرحل معه أحد ممن أعان على عثمان. فاجتمع من أهل مصر ابن السوداء وخالد بن ملجم والأشتر والذين رضوا بمن سار إليه مثل علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى، وتشاوروا فيما قال عليّ وقالوا: هو أبصر بكتاب الله وأقرب إلى العمل به من أولئك وهو يقول ما يقول، وإنما معه الذين أعانوا على عثمان فكيف إذا اصطلحوا واجتمعوا ورأوا قلّتنا في كثرتهم. فقال الأشتر رأيهم والله فينا واحد وأن يصطلحوا فعلى دمائنا فهلموا نثب على طلحة نلحقه بعثمان ثم يرضى منا بالسكون، فقال ابن السوداء: طلحة وأصحابه نحو من خمسة آلاف وأنتم ألفان وخمسمائة فلا تجدون إلى ذلك سبيلا، وقال علباء بن الهيثم: اعتزلوا الفريقين حتى يأتيكم من تقومون به. فقال ابن السوداء: ودّ والله الناس لو انفردتم فيتخطفونكم، فقال عدي: والله ما رضيت ولا كرهت فاما إذ وقع ما وقع ونزل الناس بهذه المنزلة فان لنا خيلا وسلاحا. فإن أقدمتم أقدمنا وإن أحجمتم أحجمنا، ثم قال سالم بن ثعلبة وسويد بن أوفى: أبرموا أمركم. ثم تكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزّكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدا فانشبوا القتال فلا يجدون بدّا منه ويشغلهم الله عما تكرهون، وافترقوا على ذلك. وأصبح عليّ راحلا حتى نزل على عبد القيس فانضموا اليه وساروا معه فنزل الزاوية، وسار من الزاوية إلى البصرة. وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة والتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد منتصف جمادى الآخرة، وتراسلت بكر بن وائل وعبد القيس وجاءوا إلى عليّ رضي الله عنه فكانوا معه، وأشار على الزبير بعض أصحابه أن يناجز القتال، فاعتذر بما وقع بينه وبين القعقاع. وطلب من عليّ رضي الله تعالى عنه أصحابه مثل ذلك فأبى وسئل ما حالنا وحالهم في القتلى؟ فقال: أرجو أن لا يقتل منّا ومنهم أحد نقي قلبه للَّه إلّا أدخله الله الجنة، ونهى عن قتالهم وبعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب إن كنتم على ما جاء به القعقاع فكفّوا حتى ننزل وننظر في الأمر، وجاءه الأحنف بن قيس وكان معتزلا عن القوم وقد كان بايع عليا بالمدينة بعد قتل عثمان مرجعه من الحج، قال الأحنف: ولم أبايعه حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وعثمان محصور وعلمت أنه مقتول فقلت لهم من أبايع بعده؟ قالوا عليّا فلما رجعت وقد قتل عثمان بايعت عليّا فلما جاءوا إلى البصرة دعوني إلى قتال عليّ فحرت في أمري بين خذلانهم أو خلع طاعتي، فقلت: ألم تأمروني بمبايعته؟ قالوا نعم لكنه بدّل وغير فقلت لا أنقض بيعتي ولا أقاتل أمّ المؤمنين، ولكن أعتزل، ونزل بالجلحاء على فرسخين من البصرة في زهاء ستة آلاف، فلما قدم عليّ جاءه وخيره بين القتال معه أو كف عشرة آلاف سيف عنه، فاختار الكفّ ونادى في تميم وبني سعد فأجابوه فاعتزل بهم حتى ظفر عليّ فرجع إليه واتبعه. ولما تراءى الجمعان خرج طلحة والزبير وجاءهم عليّ حتى اختلفت أعناق دوابهم. فقال عليّ: لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما فهل من حديث أحلّ لكما دمي قال طلحة: ألّبت على عثمان! قال عليّ: يومئذ يوفيهم الله دينهم الحقّ فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة. أما بايعتني؟ قال: والسيف على عنقي. ثم قال للزبير: أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقاتلّنه وأنت له ظالم؟ قال اللَّهمّ نعم ولو ذكرت قبل مسيري ما سرت. وو الله لا أقاتلك أبدا وافترقوا. فقال عليّ لأصحابه: إنّ الزبير قد عهد أن لا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة وقال: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 أعرف أمري غير موطني هذا! قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال أدعهم وأذهب. فقال له ابنه عبد الله: خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أن حامليها فتية أنجاد وأنّ تحتها الموت الأحمر فجنبت فأحفظه ذلك. وقال: حلفت. قال: كفّر عن يمينك فأعتق غلامه مكحولا. وقيل إنما أراد الرجوع عن القتال حين سمع ان عمّار بن ياسر مع عليّ لمّا ورد: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية. وكان أهل البصرة على ثلاث فرق مفترقين مع هؤلاء وهؤلاء وثالثة اعتزلت كالأحنف ابن قيس وعمران بن حصين، ونزلت عائشة في الأزد ورأسهم صبرة بن شيمان، وأشار عليه كعب بن سور بالاعتزال فأبى وكان معها قبائل كثيرة من مضر والرباب وعليهم المنجاب بن راشد، وبنو عمرو بن تميم وعليهم أبو الجرباء، وبنو حنظلة وعليهم هلال بن وكيع وسليم وعليهم مجاشع بن مسعود، وبنو عامر وغطفان وعليهم زفر بن الحرث، والأزد وعليهم صبرة بن شيمان، وبكر وعليهم مالك بن مسمع، وبنو ناجية وعليهم الخرّيت بن راشد، وهم في نحو ثلاثين ألفا. وعليّ في عشرين ألفا. والناس جميعا متنازلون مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، ولا يشكّون في الصلح وقد ردّوا حكيما ومالكا إلى علي: إنّا على ما فارقنا عليه القعقاع، وجاء ابن عبّاس إلى طلحة والزبير، ومحمد بن طلحة إلى عليّ وتقارب أمر الصلح وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشّر ليلة يتشاورون، واتفقوا على إنشاب الحرب بين الناس فغسلوا وما [1] يشعر بهم أحد، وقصد مضر الى مضر وربيعة إلى ربيعة ويمن الى يمن فوضعوا فيهم السلاح، وثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم. وبعث طلحة والزبير عبد الرحمن بن الحرث بن هشام الى الميمنة وهم ربيعة، وعبد الرحمن بن عتّاب إلى الميسرة، وركبا في القلب، وسألا [2] الناس ما هذا؟ فقالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا فقال طلحة والزبير إنّ عليّا لا ينتهي حتى يسفك الدماء. ثم دفعوا أولئك المقاتلين فسمع عليّ وأهل عسكره الصيحة، فقال ما هذا؟ فقيل له أظنّه سقط من هنا طرقنا أو نحوه السبئية بيتونا ليلا فرددتهم [3] فوجدنا القوم على أهبة فركبونا، وثار الناس وركب عليّ. وبعث الى الميمنة والميسرة صاحبها، وقال: إنّ طلحة والزبير لا   [1] وفي النسخة الباريسية: ولم. [2] وفي نسخة اخرى: وتساءل [3] وفي نسخة اخرى: فرددناهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 ينتهيان حتى تسفك الدماء ونادى في الناس كفّوا، وكان رأيهم جميعا في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يقيموا الحجة ولا يقتلوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلّوا سلبا. وأقبل كعب بن سور إلى عائشة وقال: قد أبى القوم إلّا القتال فلعل الله يصلح بك. فأركبها وألبسوا هودجها الأدراع وأوقفوها بحيث تسمع الغوغاء، واقتتل الناس حتى انهزم أصحاب الجمل وذهب، وأصيب طلحة بسهم في رجله فدخل البصرة ودمه يسيل إلى أن مات. وذهب الزبير إلى وادي السباع لما ذكره عليّ، فمرّ بعسكر الأحنف واتّبعه عمرو بن الجرموز وكان يسائله حتى إذا قام إلى الصلاة قتله ورجع بفرسه وسلاحه وخاتمه إلى الأحنف فقال والله ما أدري أحسنت أم أسأت. فجاء ابن جرموز إلى عليّ وقال للحاجب: استأذن لقاتل الزبير فقال لحاجبه: ائذن له وبشّروه بالنار. ولما بلغت الهزيمة البصرة ورأوا الخيل أطافت بالجمل فرجعوا وشبت الحرب كما كانت. وقالت عائشة لكعب بن سور وناولته مصحفا: تقدّم فادعهم إليه واستقبل القوم فقتله السبئيّة رشقا بالسهم، ورموا عائشة في هودجها حتى جأرت بالاستغاثة ثم بالدعاء على قتلة عثمان، وضج الناس بالدعاء فقال عليّ ما هذا قالوا عائشة تدعوا على قتلة عثمان! فقال: اللَّهمّ العن قتلة عثمان. ثم أرسلت عائشة إلى الميمنة والميسرة وحرّضتهم، وتقدّم مضر الكوفة ومضر البصرة فاجتلدوا أمام الجمل حتى ضرسوا، وقتل زيد بن صوحان من أهل الكوفة وأخوه سيحان وارتث أخوهما صعصعة، وتزاحف الناس وتأخرت يمن الكوفة وربيعتها ثم عادوا فقتل على راياتهم عشرة. ثم أخذها يزيد بن قيس فثبت، وقتل تحت راية ربيعة زيد وعبد الله بن رقية وأبو عبيدة بن راشد بن سلمة، واشتدّ الأمر ولزقت ميمنة الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم، ومنعت ميمنة هؤلاء ميسرة هؤلاء وميسرة هؤلاء ميمنة هؤلاء، وتنادى شجعان مضر من الجانبين بالصبر وقصدوا الأطراف يقطعونها، وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب قبل قتله، وقاتل عند الجمل الأزد ثم بنو ضبّه وبنو عبد مناة، وكثر القتل والقطع وصارت المجنبات إلى القلب واستحرّ القتل إلى الجمل حتى قتل على الخطام أربعون رجلا أو سبعون كلهم من قريش، فجرح عبد الله بن الزبير وقتل عبد الرحمن بن عتّاب وجندب بن زهير العامري وعبد الله بن حكيم بن حزام ومعه راية قريش قتله الأشتر وأعانه فيه عدي بن حاتم، وقتل الأسود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 بن أبي البختري وهو آخذ بالخطام وبعده عمرو بن الأشرف الأزدي في ثلاثة عشر من أهل بيته وجرح مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة ما بين طعنة ورمية، ونادى عليّ اعقروا الجمل يتفرقوا، وضربه رجل فسقط فما كان صوت أشد عجيجا منه. وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل فأخذها الصقعب أخوه فقتل ثم أخوهما عبد الله كذلك، فأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل ومعه زيد وسيحان ابنا صوحان وأخذها عدة فقتلوا منهم عبد الله بن رقية ثم منقذ بن النعمان، ودفعها الى ابنه مرّة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل [1] مع الحرث بن حسّان فقتل في خمسة من بني أهل ورجال من بني محدوج [2] وخمسة وثلاثين من بني ذهل. وقيل في عقر الجمل: ان القعقاع دعا الأشتر وقد جاء من القتال عند الجمل إلى العود فلم يجبه، وحمل القعقاع والخطام بيد زفر بن الحرث فأصيب شيوخ من بني عامر، وقال القعقاع لبجير بن دجلة [3] من بني ضبّة وهو من أصحاب عليّ يا بجير صح بقومك يعقروا الجميل قبل أن يصابوا وتصاب أم المؤمنين، فضرب ساق البعير فوقع على شقّه، وأمّن [4] القعقاع من يليه واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه وهو كالقنفذ بالسهام، وفرّ من وراءه، وأمر عليّ فنودي لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور، وأمر بحمل الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبّة وأن ينظر هل بها جارحة فجاء يسألها. وقيل لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمّار فاحتملا الهودج إلى ناحية ليس قربة أحد وأتاها عليّ فقال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير قال: يغفر الله لك. قالت: ولك. وجاء وجوه الناس إليها فيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها، وقالت له: وددت اني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وجاء إلى عليّ فقال له مثل قولها ولما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق البصرة،   [1] وفي النسخة الباريسية: بني هذيل. [2] وفي نسخة اخرى: بني مخزوم. [3] وفي النسخة الباريسية: ابن دجلة. [4] وفي نسخة ثانية: أمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 فأقرّها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفيّة زوجه بنت الحرث بن أبي طلحة من بني عبد الدار أمّ طلحة الطلحات بن عبد الله، وتسلّل الجرحى من بين القتلى فدخلوا ليلا إلى البصرة وأذن عليّ في دفن القتلى فدفنوا بعد أن أطاف عليهم، ورأى كعب بن سور وعبد الرحمن بن عتّاب وطلحة بن عبيد الله وهو يقول: زعموا أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء مع أن هؤلاء فيهم. ثم صلّى على القتلى من الجانبين وأمر بالأطراف فدفنت في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من كل شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال من عرف شيئا فليأخذه إلّا سلاحا عليه سمة السلطان. وأحصى القتلى من الجانبين فكانوا عشرة الاف منهم من ضبّة ألف رجل. ولما فرغ عليّ من الوقعة جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد فقال له: تربصت فقال ما أراني إلّا قد أحسنت وبأمرك كان ما كان، فارفق فانّ طريقك بعيد وأنت إليّ غدا أحوج منك أمس فلا تقل لي مثل هذا فاني لم أزل لك ناصحا. ثم دخل البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة فبايعه وعرض له في عمه زياد بأنه متربّص، فقال والله إنه لمريض وعلى مسرّتك لحريص. فقال: انهض أمامي فمضى فلما دخل عليه عليّ اعتذر فقبل عذره واعترض بالمرض قبل عذره، وأراده على البصرة فامتنع وقال: ولها رجلا من أهلك تسكن إليه الناس وسأشير عليه، وأشار بابن عبّاس فولاه، وجعل زيادا على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس بموافقته فيما يراه. ثم راح علي إلى عائشة في دار ابن خلف وكان عبد الله بن خلف قتل في الوقعة فأساءت أمه وبعض النسوة عليه، فأعرض عنهنّ وحرّضه بعض أصحابه عليهنّ فقال: إن النساء ضعيفات وكنا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات فكيف بهن مسلمات. ثم بلغه أنّ بعض الغوغاء عرض لعائشة بالقول والإساءة، فأمر من أحضر له بعضهم وأوجعهم ضربا، ثم جهّزها عليّ إلى المدينة بما احتاجت إليه وبعثها مع أخيها محمد مع أربعين من نسوة البصرة اختارهن لمرافقتها، وأذن للفل ممن خرج عنها أن يرجعوا معها، ثم جاء يوم ارتحالها فودّعها واستعتبت له واستعتب لها، ومشى معها أميالا وشيّعها بنوه مسافة يوم، وذلك غرّة رجب، فذهبت إلى مكة فقضت الحج ورجعت إلى المدينة. ورجع [1]   [1] وفي نسخة اخرى: وخرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 بنو أمية من الفل ناجين الى الشام، فعتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن [1] ويحيى أخوا مروان خلصوا إلى عصمة بن أبير التميمي إلى أن اندملت جراحهم، ثم بعثهم إلى الشام. وأمّا عبد الله بن عامر فخلص إلى بني حرقوص ومضى من هنالك، وأما مروان بن الحكم فأجاره أيضا مالك بن مسمع وبعثه وقيل كان مع عائشة فلما ذهبت إلى مكرة فارقها الى المدينة، وأما ابن الزبير فاختفى بدار بعض الأزد وبعث إلى عائشة يعلمها بمكانه فأرسلت أخاها محمدا وجاء إليها به. ثم قسم عليّ جميع ما في بيت المال على من شهد معه، وكان يزيد على ستمائة ألف فأصاب كل رجل خمسمائة، وقال: ان أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم. فخاض السبئيّة في الطعن عليه بذلك وبتحريم أموالهم مع اراقة دمائهم، ورحلوا عنه فأعجلوه عن المقام بالبصرة، وارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه. وقد قيل في سياق أمر الجمل غير هذا، هو أنّ عليّا لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى ليستنفر له أهل الكوفة وامتنع. سار هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص إلى عليّ بالربذة فأخبره فأعاده إليه يقول له: إني لم أولّك إلّا لتكون من أعواني على الحق، فامتنع أبو موسى وكتب إليه هاشم مع المحل بن خليفة الطائي، فبعث علي ابنه الحسن وعمّار بن ياسر يستنفران كما مرّ. وبعث قرظة [2] بن كعب الأنصاري أميرا وبعث إليه: إني قد بعثت الحسن وعمّارا يستنفران الناس وبعثت قرظة بن كعب واليا على الكوفة فاعتزل عملنا مذموما مدحورا وان لم تفعل فقد أمرته أن ينابذك وإن ظفر بك أن يقطعك إربا إربا وانّ الناس تواقفوا للقتال، وأمر عليّ من يتقدّم بالمصحف يدعوهم إلى ما فيه وان قطع وقتل وحمله بعض الناس وفعل ذلك فقتل. وحملت ميمنتهم [3] على ميسرتهم فاقتتلوا ولاذ الناس بجمل عائشة أكثرهم من ضبّة والأزد ثم انهزموا آخر النهار، واستحرّ في الأزد القتل وحمل عمّار على الزبير يحوزه بالرمح ثم استلان له وتركه، وألقى عبد الله بن الزبير نفسه مع الجرحى. وعقر الجمل واحتمل عائشة أخوها محمد فأنزلها وضرب عليها قبة ووقف عليها عليّ يعاتبها، فقالت   [1] وفي النسخة الباريسية: عبد الله. [2] وفي النسخة الباريسية: قرطه. [3] يعني ميمنة عليّ (رضي الله عنه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 له ملكت فأسجح [1] نعم ما أبكيت قومك اليوم، فسرّحها في جماعة رجال ونساء الى المدينة وجهزها بما تحتاج إليه. هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبريّ اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين. وقتل يوم الجمل عبد الرحمن أخوه طلحة من الصحابة والمحرز بن حارثة العبشمي وكان عمر ولّاه على أهل مكّة، ومجاشع ومجالد ابنا مسعود مع عائشة. وعبد الله بن حكيم بن حزام وهند بن أبي هالة وهو ابن خديجة قتل مع عليّ وقيل بالبصرة وغيرهم. انتهى أمر الجمل. ولما فرغ الناس من هذه الوقعة اجتمع صعاليك من العرب وعليهم جبلة بن عتاب الحنظليّ وعمران بن الفضيل ابرجميّ، وقصدوا سجستان وقد نكث أهلها، وبعث عليّ إليهم عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتلوه، فكتب إلى عبد الله بن عبّاس أن يبعث إلى سجستان واليا، فبعث ربعي بن كاس العنبري في أربعة آلاف ومعه الحصين بن أبي الحرّ فقتل جبلة وانهزموا وضبط ربعي البلاد واستقامت. انتقاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله لما قتل أبو حذيفة بن عتبة يوم اليمامة ترك ابنه محمدا في كفالة عثمان وأحسن تربيته وسكر في بعض الأيام فجلده عثمان، ثم تنسك وأقبل على العبادة وطلب الولاية من عثمان، فقال: لست بأهل فاستأذنه على اللحاق بمصر لغزو البحر فأذن له وجهزه ولزمه الناس وعظّموه لما رأوا من عبادته، ثم غزا مع ابن أبي سرح غزوة الصواري كما مرّ، فكان يتعرّض له بالقدح فيه وفي عثمان بتوليته ويجتمع في ذلك مع محمد بن أبي بكر، وشكاهما ابن أبي سرح إلي عثمان فكتب إليه بالتجافي عنهما لوسيلة ذلك بعائشة وهذا لتربيته. وبعث إلى ابن أبي حذيفة ثلاثين ألف درهم وحمل من الكسوة فوضعهما ابن أبي حذيفة في المسجد، وقال: يا معشر المسلمين كيف أخادع عن ديني وآخذ الرشوة عليه. فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان وبايعوه على رياستهم، وكتب إليه عثمان يذكّره بحقوقه عليه فلم يردّه ذلك. وما زال يحرّض الناس عليه حتى خرجوا لحصاره وأقام هو بمصر، وخرج ابن أبي سرح إلى عثمان   [1] اي أحسن العفو أهـ. وفي النسخة الباريسية: ملكت فاسمح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 فاستولى هو على مصر وضبطها إلى أن قتل عثمان وبويع عليّ وبايع عمرو بن العاص لمعاوية، وسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد فمنعهما فخدعا محمد حتى خرج إلى العريش فتحصن بها في ألف رجل، فحاصراه حتى نزل على حكمهم فقتلوه. وفي هذا الخبر بعض الهون لأنّ الصحيح أنّ عمرا ملك مصر بعد صفّين، وقيس ولاه عليّ لأول بيعته، وقد قيل ان ابن أبي حذيفة لما حوصر عثمان بالمدينة أخرج هو ابن أبي سرح عن مصر وضبطها، وأقام ابن أبي سرح بفلسطين حتى جاء الخبر بقتل عثمان وبيعة علي وتوليته قيس بن سعد على مصر، فأقام بمعاوية. وقيل إنّ عمرا سار إلى مصر بعد صفّين فبرز إليه ابن أبي حذيفة في العساكر وخادعه في الرجوع إلى بيعة عليّ، وأن يجتمعا لذلك بالعريش في غير جيش من الجنود، ورجع إلى معاوية عمرو فأخبره، ثم جاء إلى ميعاده بالعريش وقد استعدّ بالجنود وأكمنهم خلفه حتى إذا التقيا طلعوا على أثره فتبين ابن أبي حذيفة الغدر فتحصن بقصر العريش إلى أن نزل على حكم عمرو. وبعث به إلى معاوية فحبسه إلى أن فرّ من محبسه فقتل، وقيل إنما بعثه عمرو إلى معاوية عند مقتل محمد بن أبي بكر وأنّه أمّنه ثم حمله إلى معاوية فحبسه بفلسطين. ولاية قيس بن سعد على مصر كان عليّ قد بعث إلى مصر لأوّل بيعته قيس بن سعد أميرا في صفر من سنة ست وثلاثين وأذن له في الإكثار من الجنود وأوصاه فقال له: لو كنت لا أدخلها إلّا بجند آتي بهم من المدينة لا أدخلها أبدا فانا أدع لك الجند تبعثهم في وجوهك، وخرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر وقرأ عليهم كتابا يعلمهم بمبايعته وطاعته وأنّه أميرهم، ثم خطب فقال بعد أن حمدا للَّه: أيها الناس قد بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا فبايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله. فبايعه الناس واستقامت مصر، وبعث عليها عمّاله إلّا بعض القرى كان فيها قوم يدعون إلى الطلب بدم عثمان، مثل يزيد بن الحرث ومسلمة بن مخلد، فهادنهم وجبى الخراج وانقضى أمر الجمل وهو بمصر. وخشي معاوية أن يسير إليه عليّ في أهل العراق وقيس من ورائه في أهل مصر. فكتب إليه يعظم قتل عثمان ويطوّقه عليّا ويحضّه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله، يولّي من أراد من أهله الحجاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 كذلك، ويعطيه ما شاء من الأموال. فنظر في أهله بين موافقته أو معاجلته بالحرب فآثر الموافقة، فكتب إليه: «أما بعد فإنّي لم أقارف [1] شيئا مما ذكرته وما اطلعت لصاحبي علي شيء منه. وأمّا متابعتك فانظر فيها وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه حتى نرى وترى» . فكتب إليه معاوية: «إنّي لم أرك تدنو فأعدّك سلما ولا تتباعد فأعدّك حربا، وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل والسلام» . فعلم قيس أنّ المدافعة لا تنفع معه فأظهر له ما في نفسه، وكتب إليه بالرّد القبيح والشتم والتصريح بفضل عليّ والوعيد، فحينئذ أيس معاوية منه وكاده من قبل علي، فأشاع في الناس أن قيسا شيعة له تأتينا كتبه ورسله ونصائحه وقد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان وهو يجري عليهم من الأعطية والأرزاق، فأبلغ ذلك إلى عليّ محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر وعيونه بالشام فأعظم ذلك، وفاوض فيه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، فقال له عبد الله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واعزله عن مصر. ثم جاء كتابه بالكفّ عن قتال المعتزلين فقال ابن جعفر: مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة. فكتب إليه يأمره بذلك فلم ير قيس ذلك رأيا وقال: متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوّك وهم الآن معتزلون والرأى تركهم. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر، وكان أخاه لأمه، واعزل قيسا فبعثه. وقيل بعث قبل الأشتر النخعيّ، ومات بالطريق، فبعث محمد ولما قدم محمد على قيس خرج عنها مغضبا إلى المدينة وكان عليها مروان بن الحكم فأخافه، فخرج هو وسهل بن حنيف إلى عليّ. وكتب معاوية إلى مروان يعاتبه لو أمددت عليّا بمائة ألف مقاتل كان أيسر عليّ من قيس بن سعد. ولما قدم قيس على عليّ وكشف له عن وجه الخبر قبل عذره وأطاعه في أمره كله، وقدم محمد مصر فقرأ كتاب عليّ على الناس وخطبهم [2] ، ثم بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم. ادخلوا في طاعتنا أو اخرجوا عن بلادنا. فقالوا: دعنا حتى ننظر. وأخذوا حذرهم، ولما انقضت صفّين وصار الأمر إلى التحكيم   [1] وفي النسخة الباريسية: لم أفارق. [2] وفي النسخة الباريسية: خاطبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 بارزوه وبعث العساكر إلى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا وعليهم الحرث بن جمهان فقتلوه ثم بعث آخر فقتلوه. مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد، فسكن بها هاربا مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله، فارتحل يبكي ويقول كما تقول النساء، حتى أتى دمشق فبلغه بيعة عليّ، فاشتدّ عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنعه الناس، ثم بلغه مسير عائشة وطلحة والزبير فأمّل فرجا من أمره، ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب في أمره. وسمع أنّ معاوية بالشام لا يبايع عليّا وأنّه يعظّم قتل عثمان، فاستشار ابنيه في المسير إليه، فقال له ابنه عبد الله توفي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس. وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب وكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت. فقال: يا عبد الله أمرتني بما هو خير لي في ديني، ويا محمد أمرتني بما هو خير لي في دنياي وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجدوهم يطلبون دم عثمان، فقال: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. فأعرض معاوية قليلا، ثم رجع إليه وشركه في سلطانه. أمر صفين لما رجع عليّ بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعا على قصد الشام، بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان وإلى الأشعث بن قيس بآذربيجان وهما من عمّال عثمان بأن يأخذا له البيعة ويحضرا عنده، فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته ونكث طلحة والزبير وحزبهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا قدم عليه طاوله في الجواب وحمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان واتهامهم عليّا به، وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ملوّثا بالدم كما قدّمناه وبأصابع زوجته نائلة، وضع معاوية القميص على المنبر والأصابع من فوقه، فمكث الناس يبكون مدّة وأقسموا ألّا يمسهم ماء إلّا لجنابة ولا يناموا على فراش حتى يثأروا لعثمان ومن حال دون ذلك قتلوه. فرجع جرير بذلك إلى عليّ وعذله الأشتر في بعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 جرير وأنّه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم [1] ، فغضب لذلك جرير ولحق بقرقيسياء واستقدمه معاوية فقدم عليه. وقيل أن شرحبيل بن السمط الكندي أشار على معاوية بردّ جرير لأجل منافسة كانت بينهما منذ أيام عمر، وذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه فقرّبه سعد وقدّمه ونافسه له أشعث بن قيس، فأوصى جريرا عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده، ففعل فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير، فلما جاء الى معاوية أغراه شرحبيل به وحمله على الطلب بدم عثمان. ثم خرج عليّ وعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري وقدم عليه عبد الله بن عبّاس في أهل البصرة، وتجهّز معاوية وأغراه عمرو بقلّة عسكر عليّ واضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم، وعبّى معاوية أهل الشام وعقد لعمرو ولا بنيه وغلامه وردان الألوية. وبعث عليّ في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف وشريح بن هانئ في أربعة آلاف، وسار من النخيلة إلى المدائن واستنفر من كان بها من المقاتلة وبعث منها معقل بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل ويوافيه بالرّقة. وولّي عليّ على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، وسار فلما وصل إلى الرّقة نصب له جسر فعبر وجاء زياد وشريح من ورائه، وكانا سمعا بمسير معاوية وخشيا أن يلقاهما معاوية وبينهما وبين عليّ البحر ورجعا إلى هيت وعبر الفرات، ولحقا بعلي فقدّمهما امامه، فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فطاولاه وبعثا إلى عليّ فسرح الأشتر وأمره أن يجعلهم على مجنبتيه، وقال: لا تقاتلهم حتى آتيك. وكتب إلى شريح وزياد بطاعته فقدم عليهما وكف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشيّ فاقتتلوا ساعة وافترقوا، ثم خرج من الغداة وخرج إليه من أصحاب الأشتر هاشم بن عتبة المرقال واقتتلوا عامة يومهم. وبعث الأشتر سنان بن مالك النخعيّ إلي أبي الأعور السلميّ يدعوه إلى البراز فأبي وحجز بينهم الليل، ووافاهم من الغد عليّ وعساكره، فتقدم الأشتر وانتهى إلى معاوية ولحق به عليّ. وكان معاوية قد ملك شريعة الفرات فشكى الناس إلى عليّ العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية: «بأنّا سرنا ونحن عازمون على الكفّ عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال ونحن رأينا   [1] وفي النسخة الباريسية: من ورائهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 الكفّ حتى ندعوك ونحتج عليك وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلّون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا وبينكم وان أردت القتال حتى يشرب الغالب فعلنا» . فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم، وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنعهم الماء، وعرضا بشتم فتشاتم معهم صعصعة ورجع، وأوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء وجاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جدّ خالد بن عبد الله ثم بعمرو بن العاص بعده، وأمر عليّ الأشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر وعليهم أصحاب عليّ وملكوا الماء عليهم، وأرادوا منعهم منه فنهاهم عليّ عن ذلك. وأقام يومين ثم بعث إلى معاوية أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمدانيّ وشبث بن ربعي التميمي، يدعونه إلى الطاعة وذلك أوّل ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فدخلوا عليه وتكلّم بشير بن عمرو بعد حمدا للَّه والثناء عليه والموعظة الحسنة وناشده الله أن لا يفرّق الجماعة ولا يسفيك الدماء، فقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك. فقال بشير: ليس مثلك أحق بالأمر بالسابقة والقرابة. قال: فما رأيك؟ قال: تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق، قال معاوية: ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبدا! ثم قال شبث بن ربعي: يا معاوية إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء العظام الى طاعتك، ولقد علمنا أنك أبطات على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة فاتق الله ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله. فأجابه معاوية وأبدع في سبّه وقال: انصرفوا فليس بيني وبينكم إلّا السيف. فقال له شبث: أقسم باللَّه لنعجلها [1] لك. ورجعوا إلى عليّ بالخبر. وأقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها عسكر من هؤلاء وعسكر من هؤلاء، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذرا من الاستئصال والهلاك. ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعا في الصلح، وبعث إلى معاوية عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة [2] ، فتكلم عدي بعد الحمد والثناء ودعا إلى الدخول في طاعة عليّ ليجمع الله به الكلمة فلم يبق غيرك ومن معك واحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل. فقال معاوية:   [1] وفي نسخة اخرى: لنجعلنها لك. [2] وفي نسخة اخرى: زياد بن حفصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 كأنك جئت مهدّدا لا مصلحا هيهات يا عدي أنا ابن حرب والله ما يقعقع لي بالشنان وأنّك من قتلة عثمان وأرجو أن يقتلك الله به. فقال له يزيد بن قيس: إنما أتيناك رسلا ولا ندع مع ذلك النصح والسعي في الالفة والجماعة وذكر من فضل عليّ واستحقاقه للأمر بتقواه وزهده. فقال معاوية بعد الحمد والثناء: أمّا الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا وأمّا طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا وآوى أهل ثأرنا ونحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة والجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان. فقال شبث بن ربعي: أيسرّك يا معاوية أن تقتل عمّارا؟ قال: نعم بمولاه. قال شبث: حتى تضيق الأرض والفضاء عليك. فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق. وافترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن خصفة وشكى إليه من عليّ وسأله النصر منه بعشيرته وأن يولّيه أحد المصرين، فأبى وقال: إني على بيّنة من ربي فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقام عنه فقال معاوية لعمرو: كأنّ قلوبهم قلب رجل واحد. ثم بعث معاوية إلى عليّ حبيب بن مسلمة وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه، فتكلّم حبيب بعد الحمد للَّه والثناء فقال: إنّ عثمان كان خليفة مهديّا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم موته فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله ثم اعتزل أمر الناس فيولّوا من أجمعوا عليه. فقال عليّ: ما أنت وهذا الأمر؟ فاسكت فلست بأهل له، فقال والله لتراني بحيث تكره، فقال: وما أنت لا أبقى الله عليك ان أبقيت اذهب فصوّب وصعد، ثم تكلّم بعد الحمد للَّه والثناء وهداية الناس بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلافة الشيخين وحسن سيرتهما، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا ونحن أقرب منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن سمحنا لهما [1] بذلك، وولي عثمان فعاب الناس عليه وقتلوه، ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم، ونكث عليّ رجلان وخالف صاحبكم الّذي ليس له مثل سابقتي، والعجب من انقيادكم له دون بيت نبيّكم ولا ينبغي لكم ذلك، وأنا أدعوكم إلى الكتاب والسنّة ومعالم الدين وإماتة الباطل وإحياء الحق» فقالوا: نشهد أن عثمان قتل مظلوما، فقال: لا أقول مظلوما ولا ظالما. قالوا: فمن لم يقل ذلك فنحن منه برآء وانصرفوا. فقرأ عليّ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى 27: 80 الآية ثم، قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في ضلالهم أجدّ منكم في حقّكم.   [1] وفي نسخة اخرى: سامحناهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 ثم تنازع عدي بن حاتم في راية طيِّئ وعامر بن قيس الحزمري [1] وكان رهطه أكثر من رهط عدي، فقال عبد الله بن خليفة البولاني: ما فينا أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي وهو الوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس طيِّئ في النخيلة والقادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند وتستر، وسأل عليّ قومهم فوافقوه على ذلك فقضى بها لعديّ. ولما انسلخ المحرّم نادى عليّ في الناس بالقتال وعبّى الكتائب وقال: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا ولا تأخذوا مالا ولا تهيّجوا امرأة وإن شتمتكم فإنّهنّ ضعاف الأنفس والقوى، ثم حرّضهم ودعا لهم وجعل الأشتر على خيل الكوفة وسهل بن حنيف على خيل البصرة وقيس بن سعد على رجالة البصرة وعمّار بن ياسر على رجّالة الكوفة وهاشم بن عتبة معه الراية ومسعر بن فدكي على القرّاء، وعبّى معاوية كتائبه فجعل على الميمنة ذا الكلاع الحميري وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة، وعلى المقدّمة أبا الأعور وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص وعلى رجّالتها مسلم بن عقبة المرّي. وعلى الناس كلهم الضحّاك بن قيس. وتبايع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم في خمسة صفوف فاقتتلوا عامة يومهم، وفي اليوم الثاني هاشم بن عتبة وأبو الأعور السلميّ، وفي اليوم الثالث عمّار بن ياسر وعمرو بن العاص فاقتتلوا أشدّ قتال وحمل عمّار فأزال عمرا عن موضعه، وفي اليوم الرابع محمد بن الحنفيّة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وتداعيا إلى البراز فرد عليّ ابنه وتراجعوا، وفي اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة فاقتتلا كذلك، ثم عاد في اليوم السادس الأشتر وحبيب فاقتتلا قتالا شديدا وانصرفا. وخطب عليّ الناس عشيّة يومه [2] وأمرهم بمناهضة القوم بأجمعهم وأن يطيلوا ليلتهم القيام، ويكثروا التلاوة ويدعو الله بالنصر والصبر، ويرموا [3] غدا في لقائهم بالجدّ والحزم. فبات الناس يصلحون ليلتهم سلاحهم، وعبّى عليّ الناس ليلته إلى الصباح، وزحف وسأل عن القبائل من أهل الشام وعرف مواقفهم وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، ومن ليس منهم أحد بالشام يصرفهم إلى من ليس منهم أحد   [1] وفي نسخة اخرى: الجرموزي. [2] وفي نسخة اخرى: عشية يومهم. [3] وفي النسخة الباريسية: ويدنو في الكامل: القوهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 بالعراق مثل بجيلة صرفهم الى لخم. وخرج معاوية في أهل الشام فاقتتلوا يوم الأربعاء قتالا شديدا عامة يومهم ثم انصرفوا، وغلس عليّ يوم الخميس بالزحف وعلى ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء وعلى ميسرته عبد الله بن عبّاس والقرّاء مع عمّار وقيس بن سعد وعبد الله بن يزيد والناس على راياتهم ومراكزهم، وعليّ في القلب بين أهل الكوفة والبصرة ومعه أهل البصرة والكوفة ومعه أهل المدينة من الأنصار وخزاعة وكنانة. ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق [1] وزحف ابن بديل في الميمنة فقاتلهم إلى الظهر وهو يحرّض أصحابه. ثم كشف خيلهم واضطرهم إلى قبة معاوية، وجاء الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية فبعثهم إلى حبيب فحمل بهم على ميمنة أهل العراق فانجفل الناس عن ابن بديل إلا ثلاثمائة أو مائتين من القرّاء وانتهت الهزيمة إلى عليّ، وأمدّه عليّ بسهل بن حنيف في أهل المدينة فاستقبلهم جموع عظيمة لأهل الشام فمنعتهم، ثم انكشفت مضر من الميسرة وثبتت ربيعة وجاء عليّ يمشي نحوهم فاعترضه أحمر مولى أبي سفيان فحال دونه كيسان مولاه فقتله أحمر، فتناول عليّ أحمر من درعه فجذبه وضرب به الأرض وكسر منكبيه وعضديه، ثم دنا من ربيعة فصبّرهم وثبّت أقدامهم وتنادوا بينهم إن أصيب بينكم أمير المؤمنين افتضحتم في العرب، وكان الأشتر مرّ به راكضا نحو الميمنة واستقبل الناس منهزمين فأبلغهم مقالة عليّ: أين فراركم من الموت الّذي لا تعجزوه [2] إلى الحياة التي لا تبقى لكم، ثم نادى أنا الأشتر فرجع إليه بعضهم فنادى مذحجا وحرّضهم فأجابوه، وقصد القوم واستقبله شباب من همذان ثمانمائة أو نحوها وكان قد هلك منهم في ذلك اليوم أحد عشر رئيسا وأصيب منهم ثمانون ومائة وزحف الأشتر نحو الميمنة، وتراجع الناس واشتدّ القتال حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية عند الاصفرار وانتهى إلى ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء قد لصقوا بالأرض، فانكشفوا عنهم أهل الشام وأبصروا إخوانهم وسألوا عن عليّ فقيل لهم هو في الميسرة يقاتل، فقال ابن بديل استقدموا بنا ونهاه الأشتر فأبى ومضى نحو معاوية وحوله أمثال الجبال تقتل كل من دنا منه حتى وصل   [1] وفي النسخة الباريسية: وأحاط نفسه بخيل دمشق. [2] الصحيح ان تقول: لا تعجزونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 الى معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به فقتل وقتل من أصحابه ناس ورجع آخرون مجرّمين [1] وأهل الشام في اتباعهم، فبعث الأشتر من نفس عنهم حتى وصلوا إليه وزحف الأشتر في همذان وطوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل أخرى فصرع منهم أربعة صفوف حتى دعا معاوية بفرسه فركبه، وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمّار فقاتلوا، وتقدّم عقبة بن حديد النميري مستميتا ومعه إخوته وقاتلوا حتى قتلوا، وتقدّم شمر بن ذي الجوشن مبارزا فضرب أدهم بن محرز الباهليّ وجهه بالسيف وحمل هو على أدهم فقتله، وحمل قيس بن المكشوح [2] ومعه راية بجيلة فقاتل حتى أخذها آخر كذلك. ولما رأى عليّ أهل ميمنة أصحابه قد عادوا إلى مواقفهم وكشفوا العدوّ قبالتهم أقبل إليهم وعذلهم بعض الشيء عن مفرّهم وأثنى على وجوههم، وقاتل الناس قتالا شديدا وتبارز الشجعان من كل جانب وأقبلت قبائل طيِّئ والنخع وخرجت حمير من ميمنة أهل الشام، وتقدّم ذو الكلاع ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقصد ربيعة في ميسرة أهل العراق وعليهم ابن عبّاس وحملوا عليهم حملة شديدة فثبت ربيعة وأهل الحفاظ منهم وانهزم الضعفاء والفشلة، ثم رجعوا ولحقت بهم عبد القيس وحملوا على حمير فقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر وأخذ سيف ذي الكلاع وكان لعمر، فلما ملك معاوية العراق أخذه من قاتله. ثم خرج عمّار بن ياسر وقال اللَّهمّ اني لا أعمل اليوم عملا أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ثم نادى من سعى في رضوان ربّه فلا يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال: «اقصدوا بنا هؤلاء الذين يطلبون بدم عثمان يخادعون بذلك عمّا في نفوسهم من الباطل» ، ثم مضى فلا يمرّ بواد من صفّين الا اتبعه من هناك من الصحابة. ثم جاء الى هاشم بن عتبة وكان صاحب الراية فأنهضه حتى دنا من عمرو بن العاص وقال: يا عمرو بعت دينك بمصر؟ تبّا لك فقال: إنما أطلب دم عثمان، فقال: أشهد أنك لا تطلب وجه الله في كلام كثير من أمثال ذلك وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمّار تقتله الفئة الباغية.   [1] وفي نسخة اخرى: مجروحون. [2] المكشوح لقب واسمه هبيرة أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 ولما قتل عمّار حمل عليّ وحمل معه ربيعة ومضر وهمذان حملة منكرة فلم يبق لأهل الشام صف إلّا انتقض حتى بلغوا معاوية فناداه عليّ: علام يقتل الناس بيننا هلمّ أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر، فقال له عمرو: أنصفك. فقال له معاوية: لكنك ما أنصفت. وأسر يومئذ جماعة من أصحاب عليّ فترك سبيلهم، وكذلك فعل عليّ، ومرّ عليّ بكتيبة من الشام قد ثبتوا فبعث إليهم محمد ابن الحنفية فازالهم عن مواقفهم، وصرح عبد الله بن كعب المرادي فمرّ به الأسود بن قيس فأوصاه بتقوى الله والقتال مع عليّ، وقال أبلغه عني السلام، وقال له قاتل على [1] المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره فإنه العالي. ثم اقتتل الناس إلى الصباح وهي ليلة الجمعة وتسمّي ليلة الهرير، وعليّ يسير بين الصفوف ويحرّض كل كتيبة على التقدّم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في الميمنة وابن عبّاس في الميسرة والناس يقتتلون من كل جانب وذلك يوم الجمعة. ثم ركب الأشتر ودعا الناس إلى الحملة على أهل الشام فحمل حتى انتهى إلى عسكرهم وقتل صاحب رايتهم، وأمدّه عليّ بالرجال، فلما رأى عمرو شدّة أهل العراق وخاف على أصحابه الهلاك، قال لمعاوية: مر الناس يرفعون المصاحف على الرماح ويقولون كتاب الله بيننا وبينكم فإن قبلوا ذلك ارتفع عنّا القتال وإن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة. ففعلوا ذلك، فقال الناس: نجيب إلى كتاب الله فقال لهم عليّ: «يا عباد الله امضوا على حقكم وقتال عدوّكم فإنّ معاوية وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم صحبتهم أطفالا ورجالا فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلّا مكيدة وخديعة» . فقالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل، فقال: إنما قتلناهم ليدينوا بكتاب الله فإنّهم نبذوه. فقال له مسعر بن فدك التميميّ وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا عليّ أجب الى كتاب الله وإلّا دفعنا برمتك إلى القوم. أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفّان. فقال: إن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الأشتر وكفّه عن القتال، فبعث إليه يزيد بن هانئ بذلك فأبى، وقال:، قد رجوت أن يفتح   [1] وفي النسخة الباريسية: عن المعركة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 الله لي فلما جاء يزيد بذلك ارتج الموقف باللغط، وقالوا لعليّ: ما نراك إلا أمرته بقتال فابعث إليه فليأتك وإلّا اعتزلناك، فقال عليّ: ويحك يا يزيد قل له أقبل إليّ فان الفتنة قد رفعت، فقال: ألرفع المصاحف؟ فقال: نعم قال: لقد ظننت أن ذلك يوقع فرقة كيف ندع هؤلاء وننصرف والفتح قد وقع، فقال يزيد: تحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم إلى عدوّه أو يقتل، ثم أقبل إليهم الأشتر وأطال عتبهم، وقال امهلوني فواقا فقد أحسست بالفتح، فأبوا فعذلهم وأطال في عذلهم، فقالوا دعنا يا أشتر قاتلناهم الله، فقال: بل خدعتم فانخدعتم. ثم كثرت الملاحاة بينهم وتشاتموا فصاح بهم عليّ فكفّوا، فقال له الأشعث بن قيس: إنّ الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية وسألته ما يريد. قال: افعل. فأتاه وسأله: لأيّ شيء رفعتم المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به من كتابه تبعثون رجلا ترضونه، ونحن آخر ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه. ثم نتبع ما اتفقا عليه، فقال الأشعث هذا الحق ورجع إلى عليّ والناس وأخبرهم، فقال الناس رضينا وقبلنا، ورضي أهل الشام عمرا، وقال الأشعث وأولئك القرّاء الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي موسى، فقال عليّ لا أرضاه فقال الأشعث ويزيد بن الحصين [1] ومسعر بن فدك: لا نرضي إلّا به. قال فإنه ليس ثقة قد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمّنته بعد شهر، قالوا لا نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، قال فالأشتر، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قال: فاصنعوا ما بدا لكم. فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل القتال، فقيل إنّ الناس قد اصطلحوا، فحمد الله، قيل وقد جعلوك حكما فاسترجع، وجاء أبو موسى إلى العسكر وطلب الأحنف بن قيس من عليّ أن يجعله مع أبي موسى، فأبى الناس من ذلك وحضر عمرو بن العاص عند عليّ لتكتب القضية بحضوره، فكتبوا بعد البسملة هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال: عمرو ليس هو بأميرنا، فقال له الأحنف: لا تمحها فاني أتطير بمحوها فمكث مليّا، ثم قال الأشعث: امحها. فقال عليّ: الله أكبر وذكر قصة الحديبيّة وفيها أنّك ستدعى إلى مثلها فتجيبها، فقال عمرو: وسبحان الله نشبه بالكفار ونحن مؤمنون. فقال عليّ: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدّوا، فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك   [1] وفي النسخة الباريسية: زيد بن الحصن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 مجلس بعد اليوم، فقال عليّ: أرجو أن يظهر الله مجلسي منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى عليّ على أهل الكوفة ومن معهم ومعاوية على أهل الشام ومن معهم أنّا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله. وهما أبو موسى عبد الله ابن قيس وعمرو بن العاص وما لم يجدا في كتب الله فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الّذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة حتى يقضيا، وأجلّاء القضاء إلى رمضان وإن أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه وأنّ مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام» . وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام وضعوا خطوطهم في الصحيفة، وأبى الأشتر أن يكتب اسمه فيها وحاوره الأشعث في ذلك فأساء الردّ عليه وتهدّده. وكتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين. واتفقوا على أن يوافي عليّ موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرح في شهر رمضان، ثم جاء بعض الناس إلى عليّ يحضّه على قتال القوم فقال: لا يصلح الرجوع بعد الرضى ولا التبديل بعد الإقرار. ثم رجع الناس عن صفّين ورجع علي، وخالفت الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال ورجعوا على غير الطريق الّذي جاءوا فيه حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة، ومرّ عليّ بقبر خباب بن الأرت توفي بعد خروجه فوقف واسترحم له، ثم دخل الكوفة فسمع رجة البكاء في الدور فقال يبكين على القتلى فترحم لهم، ولم يزل يذكر الله حتى دخل القصر فلم تدخل الخوارج معه وأتوا حرورا فنزلوا بها في اثني عشر ألفا، وقدّموا شبث بن عمر التميمي أمير القتال وعبيد الله بن الكوّاء اليشكري أمير الصلاة، قالوا البيعة للَّه عزّ وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر شورى بعد الفتح. فقالوا للناس بايعتم عليّا إنّكم أولياء من والى وأعداء من عادى، وبايع أهل الشام معاوية على ما أحب وكرهوا فلستم جميعا من الحق في شيء، فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بايعناه إلا على الكتاب والسنّة لكن لما خالفتموه تعيّنتم للضلال وتعيّنا للحق. ثم بعث عليّ عبد الله بن عبّاس إليهم قوال لا تراجعهم حتى آتيك فلم يصبر عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 مكالمتهم، وقال: ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما بين الزوجين فكيف بالأمة فقالوا لا يكون هذا بالرأي والقياس فإنّ ذلك جعله الله حكما للعباد وهذا أمضاه كما أمضى حكم الزاني والسارق. قال ابن عباس: قال الله تعالى يَحْكُمُ به ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ 5: 95، قالوا والأخرى كذلك وليس أمر الصيد والزوجين كدماء المسلمين. ثم قالوا له: قد كنّا بالأمس نقاتل عمرو بن العاص فان كان عدلا فعلى ما قتلناه وان لم يكن عدلا فكيف يسوغ تحكيمه؟ وأنتم قد حكمتم الرجال في أمر معاوية وأصحابه والله تعالى قد امضى حكمه فيهم أن يقتلوا أو يرجعوا وجعلتم بينكم الموادعة في الكتب وقد قطعها الله بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة. ثم جاء عليّ إلى فسطاط يزيد بن قيس منهم بعد أن علم أنهم يرجعون إليه في رأيهم، فصلّى عنده ركعتين وولّاه على أصبهان والريّ، ثم خرج إليهم وهم في مجلس ابن عبّاس فقال من زعيمكم قالوا: ابن الكوّاء قال: فما هذا الخروج؟ قالوا لحكومتكم يوم صفين، قال أنشدكم الله أتعلمون أنّه لم يكن رأيي وإنما كان رأيكم مع أني اشترطت على الحكمين أن يحكما بحكم القرآن فان فعلا فلا ضير وإنّ خالفا فلا خير ونحن برآء من حكمهم، قالوا فتحكيم الرجال في الدماء عدل؟ قال إنّما حكمنا القرآن إلا أنه لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال، قالوا: فلم جعلتم الأجل بينكم؟ قال لعلّ الله يأتي فيه بالهدنة بعد افتراق الأمة فرجعوا إلى رأيه، وقال ادخلوا مصركم فلنمكث ستة أشهر حتى يجبى المال ويسمن الكراع ثم نخرج الى عدوّنا فدخلوا من عند آخرهم. أمر الحكمين ولما انقضى الأجل وحان وقت الحكمين بعث عليّ أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي ومعهم عبد الله بن عبّاس يصلى بهم، وأوصى شريحا بموعظة عمر، فلما سمعها قال متى كنت أقبل مشورة عليّ وأعتدّ برأيه؟ قال وما يمنعك أن تقبل من سيد المسلمين، وأساء الرّد عليه فسكت عنه. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل، فكان أصحاب عمرو أطوع من أصحاب ابن عباس لابن عبّاس، حتى لم يكونوا يسألوه عن كتاب معاوية إذا جاءه، ويسأل أهل العراق ابن عبّاس ويتهمونه، وحضر مع الحكمين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن ابن الحرث بن هشام، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم بن حذيفة العدويّ، والمغيرة بن شعبة، وسعد بن أبي وقّاص على خلاف فيه، وقيل قدم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس. ولما اجتمع الحكمان قال عمرو لأبي موسى: أتعلم أنّ عثمان قتل مظلوما وأنّ معاوية وقومه أولياؤه، قال: بلى، قال: فما يمنعك منه وهو في قريش كما علمت وإن قصّرت به السابقة قدّمه حسن السياسة وأنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه وصاحبه والطالب بدم عثمان وعرّض بالولاية، فقال أبو موسى: يا عمرو اتّق الله واعلم أنّ هذا الأمر ليس بالشرف وإلّا لكان لآل أبرهة بن الصبّاح وإنّما هو بالدين والفضل مع أنّه لو كان بشرف قريش لكان لعلي بن أبي طالب وما كنت لأرى لمعاوية طلبه دم عثمان وأوليه وأدع المهاجرين الأوّلين. وأما تعرضيك بالولاية فلو خرج لي معاوية عن سلطانه ما وليته وما أرتشي في حكم الله، ثم دعاه إلى تولية عبد الله بن عمر، فقال له عمرو: فما يمنعك من ابني وهو من علمت؟ فقال: هو رجل صدق ولكنك غمسته في الفتنة، فقال عمرو: إنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لرجل له ضرس يأكل ويطعم. وكانت في ابن عمر غفلة وكان ابن الزبير بإزائه فنبهه لما قال: فقال ابن عمر: لا أرشو عليها أبدا. ثم قال أبو موسى: يا ابن العاص إنّ العرب أسندت أمرها إليك بعد المقارعة بالسيوف فلا تردّنهم في فتنة، قال له: فخبّرني ما رأيك، قال: أرى أن نخلع الرجلين ونجعل الأمر شورى يختار المسلمون لأنفسهم. فقال عمرو: والرأي ما رأيت. ثم أقبلوا على الناس وهم ينتظرونهم، وكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه في الكلام لما له من الصحبة والسنّ، فقال: يا أبا موسى أعلمهم أنّ رأينا قد اتفق، فقال: إنّا رأينا أمرا نرجو الله أن يصلح به الأمة، فقال له ابن عبّاس: ويحك أظنه خدعك فاجعل له الكلام قبلك، فأبى وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر أصلح لهم مما اتفقنا عليه وهو أن نخلع علينا ومعاوية ويولّي الناس أمرهم من أحبّوا وإني قد خلعتهما فولوا من رأيتموه أهلا، فقال عمرو: إنّ هذا قد خلع صاحبه وقد خلعته كما خلعه وأثبتّ معاوية فهو ولّي ابن عفّان وأحق الناس بمقامه. ثم غدا ابن عبّاس وسعد على أبي موسى بالأئمة فقال: ما أصنع غدرني ورجع بالأئمة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 عمرو وقال لا وفقك الله غدرت وفجرت. وحمل شريح على عمرو فضربه بالسيف [1] وضربه ابن عمر كذلك، وحجز الناس بينهم، فلحق أبو موسى بمكّة وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عبّاس وشريح إلى عليّ بالخبر فكان يقنت إذا صلّى الغداة ويقول اللَّهمّ العن معاوية وعمرا وحبيبا وعبد الرحمن بن مخلد والضحّاك بن قيس والوليد وأبا الأعور، وبلغ ذلك معاوية فكان إذا اقنت يلعن عليّا وابن عبّاس والحسن والحسين والأشتر [2] . أمر الخوارج وقتالهم ولما اعتزم عليّ أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعديّ من الخوارج وقالا له: تب من خطيئتك وارجع عن قضيّتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، وقال عليّ: قد كتبنا بيننا وبينهم كتابا وعاهدناهم، فقال حرقوص: ذلك ذنب تنبغي التوبة منه، فقال عليّ: ليس بذنب ولكنه عجز من الرأي، فقال زرعة: لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله، فقال عليّ: بؤسا لك كأني بك قتيلا تسفى عليك الرياح، قال: وددت لو كان ذلك. وخرجا من عنده يناديان لا حكم إلّا للَّه، وخطب عليّ يوما فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة، فقال عليّ: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، وخطب ثانيا فقالوا كذلك، فقال: أما آن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا الفيء ما دمتم معنا ولا نقاتلكم حتى تبدءونا وننتظر فيكم أمر الله. ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي [3] فوعظهم وحرّضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدع، وتبعه حرقوص بن زهير في المقالة، فقال حمزة بن سنان الأسدي [4] : الرأي ما رأيتم لكن لا بدّ لكم من أمير وراية، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي، ثم حرقوص بن زهير، ثم حمزة بن سنان، ثم   [1] وفي النسخة الباريسية: بالسوط. [2] قال ابن كثير في تاريخه: ان هذا لم يصحّ أهـ ولعلّ الدعاء كان لغير اللعن. قاله نصر. [3] وفي النسخة الباريسية: عبد الله بن وهيب الراسي. [4] وفي نسخة اخرى: حمزة بن سنان الأزديّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 شريح بن أوفى العنسيّ فأبوا كلّهم. ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فأجاب فبايعوه لعشر خلون من شوّال، وكان يقال له ذو الثفنات. ثم اجتمعوا في منزل شريح وتشاوروا. وكتب ابن وهب إلى أهل البصرة منهم يستحشدهم [1] على اللحاق بهم، ولما اعتزموا على السير تعبدوا ليلة الجمعة ويومها ساروا، فخرج معهم طرفة بن عديّ بن حاتم الطائيّ، واتبعه أبوه إلى المدائن فلم يقدر عليه فرجع ولقيه عبد الله بن وهب في عشرين فارسا وأراد قتله فمنعه من كان معه من طيِّئ. وأرسل عليّ إلى عامل المدائن سعد بن مسعود بخبرهم فاستخلف ابن أخيه المختار بن عبيد وسار في طلبهم في خمسمائة فارس، فتركوا طريقهم وساروا على بغداد ولحقهم سعد بالكرخ مساء، وجاءه عبد الله في ثلاثين فارسا وقاتلهم وامتنعوا، وأشار أصحابه بتركهم [2] إلى أن يأتي فيهم أمر عليّ فأبى، ولما جنّ عليهم الليل عبر عبد الله إليهم دجلة وسار إلى أصحابه بالنهروان، واجتمعت خوارج البصرة في خمسمائة رجل عليهم مسعر بن فدكي التميميّ واتبعهم أبو الأسود الدؤليّ بأمر ابن عبّاس ولحقهم فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، فأدلج مسعر بأصحابه فلحق بعبد الله بن وهب بالنهروان، ولما خرجت الخوارج بايع عليّ أصحابه على قتالهم، ثم أنكر [3] شأن الحكمين وخطب الناس وقال بعد الحمد للَّه والموعظة: ألا إنّ هذين الحكمين نبذا حكم القرآن واتبع كل واحد هواه واختلفا في الحكم وكلاهما لم يرشد، فاستعدّوا للسير إلى الشام. وكتب إلى الخوارج بالنهروان بذلك واستحثهم للمسير إلى العدوّ وقال: نحن على الأمر الأوّل الّذي كنّا عليه. فكتبوا إليه: إنّك غضبت لنفسك ولم تغضب لربّك فان شهدت على نفسك بالكفر وتبت نظرنا بيننا وبينك وإلّا فقد نابذناك على السواء. فيئس عليّ منهم ورأى أن يمضي إلى الشام ويدعهم، وقام في الناس يحرّضهم لذلك، وكتب إلى ابن عبّاس من معسكره بالنخيلة يأمره بالشخوص بالعساكر والمقام إلى أن يأتي أمره، فأشخص ابن عبّاس الأحنف بن قيس في ألف وخمسمائة، ثم خطب ثانية وندب الناس وقال: كيف ينفر هذا العدد القليل وأنتم   [1] وفي نسخة اخرى: يستحث بهم. [2] وفي النسخة الباريسية: وأمر أصحابه فتركهم. [3] وفي النسخة الباريسية: ثم بلغه شأن الحكمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 ستون ألف مقاتل! ثم تهدّدهم وأمرهم بالنفير مع جارية بن قدامة السعدي، فخرج معه ألف وستمائة [1] ووافوا عليّا في ثلاثة آلاف ويزيدون. ثم خطب أهل الكوفة ولاطفهم بالقول وحرّضهم وأخبرهم بما فعل أهل البصرة مع كثرتهم وقال ليكتب إليّ كل رئيس منكم ما في عشيرته من المقاتلة من أبنائهم ومواليهم، فأجابه سعيد بن قيس الهمدانيّ ومعقل بن قيس وعديّ بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عديّ وأشراف الناس بالسمع والطاعة، وأمروا ذويهم ألّا يتخلّف منهم أحد، فكانوا أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ممن بلغ الحلم، وانتهت عساكره إلى ثمانية وستين ألفا. وبلغه أنّ الناس يرون تقديم الخوارج فقال لهم: إنّ قتال أهل الشام أهم [2] علينا لأنّهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكا جبارين ويتخذوا عباد الله خولا فرجعوا إلى رأيه وقالوا: سر بنا إلى حيث شئت. وبينما هو على اعتزام السير إلى أهل الشام بلغه أنّ خوارج أهل البصرة لقوا عبد الله بن خباب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من النهروان فعرّفهم بنفسه، فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيرا، ثم عن عثمان في أول خلافته وآخرها فقال: كان محقا في الأوّل والآخر، فسألوه عن عليّ قيل التحكيم وبعده، فقال: هو أعلم باللَّه وأشدّ توقيا على دينه، فقالوا: إنك توالي الرجال على أسمائها، ثم ذبحوه وبقروا بطن امرأته ثم قتلوا ثلاث نسوة من طيِّئ. فآسف عليّا قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس، فبعث الحرث بن مرّة العبديّ لينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه، فقال له أصحابه: كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم في أموالنا وعيالنا إنّما نقدّم أمرهم على الشام، وقام الأشعث بن قيس بمثل ذلك فوافقهم عليّ وسار إليهم، وبعث من يقول لهم ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نرجع من قتال العرب [3] لعل الله يردّكم إلى خير، فقالوا: كلّنا قتلهم وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم، ثم جاءهم قيس بن سعد ووعظهم وأبو أيوب الأنصاري كذلك. ثم جاءهم عليّ فتهدّدهم وسفّه رأيهم ويريهم [4] شأن الحكمين وأنهما لما خالفا حكم   [1] وفي النسخة الباريسية: ألف وسبعمائة. [2] وفي النسخة الباريسية: أحب علينا. [3] يعني المؤرخ قتال أهل الشام. [4] وفي نسخة اخرى: بيّن لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 الكتاب والسنّة نبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فقالوا: إنا كفرنا بالتحكيم وقد تبنا فان تبت أنت فنحن معك وان أبيت فقد نابذناك، فقال: كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني وهجرتي وجهادي ثم انصرف عنهم. وقيل إنّ عليّا خطبهم وأغلظ عليهم فيما فعلوه من الاستعراض والقتل فتنادوا لا تكلموهم وتأهّبوا للقاء الله. ثم قصدوا جسر الخوارج ولحقهم عليّ دونه، وقد عبّى أصحابه: وعلى ميمنته حجر بن عديّ وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس وعلى الخيل أبو أيوب وعلى الرجالة أبو قتادة وعلى أهل المدينة سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد. وعبأت نحوه الخوارج: على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلى الميسرة شريح بن أوفى العنسيّ [1] وعلى الخيل حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجالة حرقوص بن زهير. ودفع عليّ إلى أبي أيوب راية أمانا لهم لمن جاءها ممن لم يقتل ولم يستعرض فناداهم إليها وقال: من انصرف الى الكوفة والمدائن فهو آمن. فاعتزل عنهم فروة بن نوفل الأشجعيّ في خمسمائة وقال أعتزل حتى يتضح لي أمر في قتال عليّ فنزل الدسكرة، وخرج آخرون إلى الكوفة، ورجع آخرون إلى عليّ وكانوا أربعة آلاف، وبقي منهم ألف وثمانمائة فحمل عليهم عليّ والناس حتى فرّقهم [2] على الميمنة والميسرة. ثم استقبلتهم الرماة وعطفت عليهم الخيل من المجنبتين ونهض إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا كلهم في ساعة واحدة كأنما قيل لهم موتوا، وقتل عبد الله بن وهب وزيد بن حصن وحرقوص بن زهير وعبد الله بن شجرة وشريح بن أوفى. وأمر عليّ أن يلتمس المخدج في قتلاهم وهو الّذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاماتهم فوجد في القتلى فاعتبر [3] عليّ وكبر واستنصر الناس، وأخذ ما في عسكرهم من السلاح والدواب فقسمه بين المسلمين وردّ عليهم المتاع والإماء والعبيد. ودفن عدي بن حاتم ابنه طرفة ورجالا من المسلمين فنهى علي عن ذلك، وارتحل ولم يفقد من أصحابه إلّا سبعة أو نحوهم. وشكا إليه الناس الكلال ونفوذ السهام والرماح وطلبوا الرجوع إلى الكوفة ليستعدوا   [1] وفي النسخة الباريسية: العبسيّ. [2] وفي النسخة الباريسية: فحملوا على الناس حتى فرّقوهم. [3] الأصح ان يقول استعبر (من العبرة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 فإنه أقوى على القتال [1] ، وكان الّذي تولي كلامه الأشعث بن قيس فلم يجبه، وأقبل فنزل ومنعهم من دخول منازلهم حتى يسيروا إلى عدوّهم، فتسللوا أيام المقامة إلى البيوت وتركوا المعسكر خاليا فلما رأى عليّ ذلك دخل ثم ندبهم ثانيا فلم ينفروا، فأقام أياما ثم كلّم رؤساءهم على رأيهم والّذي يبطئ بهم فلم ينشط من ذلك إلّا القليل، فخطبهم وأغلظ في عتابهم وأعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا. ولاية عمرو بن العاص مصر قد تقدّم لنا ما كان من اجتماع العثمانية بنواحي مصر مع معاوية بن حديج السكونيّ، وان محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم [2] فهزموه وقتلوه، واضطربت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر، وبلغ ذلك عليّا فبعث إلى الأشتر من مكان عمله بالجزيرة وهو نصيبين فبعثه على مصر وقال: ليس لها غيرك. وبلغ الخبر إلى معاوية وكان قد طمع في مصر فعلم أنها ستتمنع بالأشتر، وجاء الأشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك، وقيل إنّ معاوية بعث إلى صاحب القلزم فسمّه على أن يسقط عنه الخراج وهذا بعيد. وبلغ خبر موته عليّا فاسترجع واسترحم وكان محمد بن أبي بكر لما بلغته ولاية الأشتر شق عليه فكتب عليّ يعتذر إليه وأنّه لم يولّه لسوء رأي في محمد وإنّما هو لما كان يظن فيه من الشدّة، وقد صار إلى الله ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب، فاصبر لعدوّك وشمّر للحرب وادع الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وأكثر من ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفيك ما أهمّك ويعينك على ما ولّاك. فأجابه محمد بالرضى برأيه والطاعة لأمره، وأنه مزمع على حرابة من خالفه. ثم لمّا كان من أمر الحكمين ما كان واختلف أهل العراق على عليّ، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة، فأراد معاوية صرف عمله [3] إلى مصر لما كان يرجو من الاستعانة على حروبه بخراجها، ودعا بطانته أبا الأعور السلميّ وحبيب بن مسلمة وبسر بن   [1] وفي النسخة الباريسية: أقوى على العدو. [2] هو ابن مضاهم الكلبي. [3] وفي النسخة الباريسية: فازداد معاوية وصرف همه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 أرطاة والضحّاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط وشاورهم في شأنها، فأشار عليه عمرو بافتتاحها وأشار ببعث الجيش مع حازم صارم يوثق ويجتمع إليه من كان على رأيه من العثمانية، وقال معاوية: بل الرأي أن نكاتب العثمانيّة بالوعد ونكاتب العدو بالصلح والتخويف ونأتي الحرب من بعد ذلك، ثم قال معاوية: إنك يا ابن العاص بورك لك في العجلة وأنا في التؤدة، فقال: أفعل ما تراه وأظن الأمر لا يصير إلا للحرب. فكتب معاوية إلى معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد يشكرهما على الخلاف، ويحثهما على الحرب والقيام في دم عثمان، وفرحا بجوابهما [1] فطلب المدد فجمع أصحابه وأشاروا بذلك، فأمر عمرو بن العاص أن يتجهز إلى مصر في ستة آلاف رجل ووصّاه بالتؤدة وترك العجلة، فنزل أدنى أرض مصر واجتمعت إليه العثمانيّة، وبعث كتابه وكتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر بالتهديد وأنّ الناس اجتمعوا عليك وهم مسلموك فاخرج، فبعث بالكتابين إلى عليّ فوعده بإنفاذ [2] الجيوش وأمره بقتال العدوّ والصبر. فقدّم محمد بن أبي بكر كنانة بن بشر في ألفين، فبعث معاوية عمرو بن حديج [3] وسرّحه في أهل الشام فأحاطوا بكنانة، فترجل عن فرسه وقاتل حتى استشهد. وجاء الخبر الى محمد بن أبي بكر فافترق عنه أصحابه وفرّوا، وآوى في مفرّه إلى خربة واستتر في تلك الخربة، فقبض عليه فأخذه ابن حديج وجاء به إلى الفسطاط، وطلب أخوه عبد الرحمن من عمرو أن يبعث إلى ابن حديج في البقاء عليه فأبى، وطلب محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان، ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعنه ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو. وكانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتلته. ويقال إنه لما انهزم اختفى عند جبلة بن مسروق حتى أحاط به معاوية بن حديج [4] وأصحابه، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل. ولما بلغ الخبر عليّا خطب الناس وندبهم الى أعدائهم وقال: اخرجوا بنا إلى الجزاعة بين الحيرة والكوفة. وخرج من الغد إلى المنتصف النهار يمشي إليها حتى نزلها فلم يلحق   [1] وفي النسخة الباريسية: وجاء جوابهما. [2] وفي النسخة الباريسية: بانقياد. [3] وفي النسخة الباريسية: فبعث عمرو معاوية بن حديج. [4] اي من الشاميين والمصريين الذين قتلوا محمد بن أبي بكر أهـ (ابن كثير) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 به أحد، فرجع من العشي وجمع أشراف الناس ووبّخهم فأجاب مالك بن كعب الأرحبيّ في ألفين، فقال سر وما أراك تدركهم فسار خمسا، ولقي [1] حجّاج بن عرفة الأنصاري قادما من مصر فأخبره بقتل محمد، وجاء إلى عليّ عبد الرحمن بن شبث الفزاريّ وكان عينا له بالشام، فأخبره بقتل محمد واستيلاء عمرو على مصر، فحزن لذلك، وبعث الى مالك بن كعب [2] أن يرجع بالجيش وخطب الناس فأخبرهم بالخبر وعذلهم على ما كان منهم من التثاقل حتى فات هذا الأمر ووبّخهم طويلا ثم نزل. دعاء ابن الحضرميّ بالبصرة لمعاوية ومقتله ولما فتح معاوية مصر بعث عبد الله بن الحضرميّ إلى البصرة داعيا لهم وقد آنس منهم الطاعة بما كان من قتل عليّ أباهم يوم الجمل وأنهم على راية في دم عثمان، وأوصاه بالنزول في مصر يتودّد إلى الأزد وحذّره من ربيعة وقال إنّهم ترائبه يعني شيعة لعليّ. فسار ابن الحضرميّ حتى قدم البصرة. وكان ابن عبّاس قد خرج إلى عليّ واستخلف عليها زيادا، ونزل في بني تميم واجتمع إليه العثمانيّة فحضهم على الطلب بدم عثمان من عليّ، فقال الضحّاك بن قيس الهلاليّ: قبّح الله ما جئت به وما تدعو إليه تحملنا على الفرقة بعد الاجتماع وعلى الموت ليكون معاوية أميرا؟ فقال له عبد الله بن حازم السلمي: اسكت فلست لها بأهل. ثم قال لابن الحضرميّ: نحن أنصارك ويدك والقول قولك، فقرأ كتاب معاوية يدعوهم إلى رأيه من الطلب بدم عثمان على أن يعمل فيهم بالسنّة ويضاعف لهم الأعطية. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف بن قيس معتزلا وحض عمر بن مرحوم على لزوم البيعة والجماعة، وقام العبّاس بن حجر في مناصرة ابن الحضرميّ، فقال له المثنى بن مخرمة لا يغرّنك ابن صحّار وارجع من حيث جئت، فقال ابن الحضرميّ لصبرة بن شيمان الأزدي ألا تنصرني؟ قال: لو نزلت عندي فعلت. ودعا زياد أمير البصرة حصين بن المنذور ومالك بن مسمع ورءوس بكر بن وائل إلى المنعة من ابن الحضرميّ إلى أن يأتي أمر عليّ، فأجاب حصين وتثاقل مالك وكان هواه في بني أميّة، فأرسل زياد الى صبرة بن شيمان يدعوه   [1] وفي نسخة ثانية: ولحق. [2] وفي النسخة الباريسية: كعب بن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 إلى الجوار [1] بما معه من بيت المال [2] فقال: إن حملته إلى داري أجرتك فتحول إليه ببيت المال والمنبر، وكان يصلي الجمعة في مسجد قومه، وأراد زياد اختبارهم فبعث إليهم من ينذرهم بمسيره بهم اليهم، وأخذ زياد جندا منهم بعد صبره لذلك وقال: إن جاءوا جئناهم، وكتب زياد إلي عليّ بالخبر فأرسل أعين بن ضبيعة [3] ليفرّق تميما عن ابن الحضرميّ ويقاتل من عصاه بمن أطاعه، فجاء لذلك وقاتلهم يوما أو بعض يوم، ثم اغتاله قوم فقتلوه يقال من الخوارج. ولاية زياد على فارس ولما قتل ابن الحضرميّ بالبصرة والناس مختلفون على عليّ طمع أهل النواحي من بلاد العجم في كسر الخراج، وأخرج أهل فارس عاملهم سهل بن حنيف، فاستشار عليّ الناس فأشار عليه جارية بن قدامة [4] بزيادة فأمر ابن عبّاس أن يولّيه عليها، فبعثه إليها في جيش كثيف فطوى بهم أهل فارس وضرب ببعضهم بعضا وهرب قوم وأقام آخرون، وصفت له فارس بغير حرب. ثم تقدّم إلى كرمان فدوّخها مثل ذلك فاستقامت وسكن الناس، ونزل إصطخر وسكن قلعة بها تسمّي قلعة زياد [5] . فراق ابن عبّاس لعلي رضي الله عنهم وفي سنة أربعين فارق عبد الله بن عبّاس عليّا [6] ولحق بمكة، وذلك أنه مرّ يوما بأبي الأسود [7] ووبّخه على أمر، فكتب أبو الأسود إلي عليّ بأنّ ابن عبّاس استثر بأموال الله فأجابه عليّ يشكره على ذلك وكتب لابن عبّاس ولم يخبره بالكاتب، فكتب اليه   [1] وفي نسخة اخرى: الجدار. [2] وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 361: فأرسل الى صبره بن شيمان الحدّاني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين. [3] كذا بالأصل وفي الكامل ج 3 ص 362. وفي النسخة الباريسية: ابن صعصعة. [4] وفي النسخة الباريسية: حارثة بن قادمة وفي الكامل جارية بن قادمة السعدي. [5] وفي نسخة اخرى: زيّار. [6] وفي النسخة الباريسية: البصرة. [7] وفي النسخة الباريسية: بابي الحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 بكذب ما بلغه من ذلك وانه ضابط للمال [1] حافظ له، فكتب إليه عليّ أعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيما صنعت [2] ؟ فكتب إليه ابن عبّاس فهمت استعظامك لما رفع إليك اني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فاني ظاعن عنه واستدعى أخواله من بني هلال، فجاءته قيس كلها ولم يبعث الأموال [3] وقال: هذه أرزاقنا، وأتبعه أهل البصرة ووقفت دونه قيس. فرجع صبرة بن شيمان الهمدانيّ بالأزد وقال قيس: إخواننا وهم خير من المال فأطيعوني، وانصرف معهم بكر وعبد القيس ثم انصرف الأحنف بقومه من بني تميم وحجز بقية تميم عنه، ولحق ابن عبّاس بمكة. مقتل علي قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين لسبع عشرة من رمضان وقيل لإحدى عشرة وقيل في ربيع الآخر والأوّل أصح، وكان سبب قتله أنّ عبد الرحمن بن ملجم المراديّ والبرك [4] بن عبد الله التميميّ الصريميّ واسمه الحجّاج وعمرو بن بكر التميمي السعديّ، ثلاثتهم من الخوارج لحقوا من فلّهم بالحجاز، واجتمعوا فتذاكروا ما فيه الناس وعابوا الولاة وترحّموا على قتلى النهروان، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم الناس، فقال ابن ملجم وكان من مصر: أنا أكفيكم عليّا، وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا أن لا يرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت. واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان وانطلقوا، ولقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم، ثم جاء إلى شبيب بن شجرة من أشجع ودعاه إلى الموافقة [5] في شأنه، فقال شبيب ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله. قال: أكمن له في المسجد في صلاة الغداة فان قتلناه وإلّا فهي الشهادة، قال: ويحك لا   [1] وفي النسخة الباريسية: وانه بريء ضابط للمال. [2] وفي نسخة ثانية: وضعت. [3] وفي نسخة ثانية: فحمل المال. [4] البرك على وزن صرد كذا خطه الحافظ أهـ. (تاج العروس) [5] وفي النسخة الباريسية، المرافقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 أجدني أنشرح لقتله مع سابقته وفضله، قال: ألم يقتل العباد الصالحين أهل النهروان؟ قال: بلى. قال: فنقتله بمن قتله منهم، فأجابه: ثم لقي امرأة من تيم الرباب فائقة الجمال قتل أبوها وأخوها يوم النهروان، فأخذت قلبه فخطبها فشرطت عليه عبدا وقينة وقتل عليّ، فقالت كيف يمكن ما أنت تريدين؟ قالت التمس غرته فان قتلته شفيت النفوس وإلّا فهي الشهادة. قال: والله ما جئت إلا لذلك ولك ما سألت، قالت: سأبعث معك من يشدّ ظهرك ويساعدك، وبعثت معه رجلا من قومها اسمه وردان. فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل عليّ وكانت ليلة الجمعة جاء إلى المسجد ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السّدة التي يخرج منها علي للصلاة، فلما خرج ونادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على مقدّم رأسه، وقال: الحكم للَّه لا لك يا عليّ ولا لأصحابك. وهرب وردان إلى منزله وأخبر بعض أصحابه بالأمر فقتله. وهرب شبيب مغلسا. وصاح الناس به فلحقه رجل من حضرموت فأخذه وجلس عليه والسيف في يد شبيب والناس قد أقبلوا في طلبه، وخشي الحضرميّ على نفسه لاختلاط الغلس فتتركه وذهب في غمار الناس، وشدّ الناس على ابن ملجم واستخلف علي على الصلاة جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانئ فصلى الغداة بالناس، وأدخل ابن ملجم مكتوفا على عليّ فقال: أي عدوّ الله ما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه، فقال: أراك مقتولا به. ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وان بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطلب لا تحرّضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي، يا حسن إن أنا متّ من ضربتي هذه فاضربه بسيفه ولا تمثلنّ بالرجل فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة. وقالت أمّ كلثوم لابن ملجم وهو مكتوف وهي تبكي: أي عدوّ الله إنه لا بأس على أبي والله مخزيك قال: فعلام تبكين؟ والله لقد شريته بألف وصقلته أربعين ولو كانت هذه الضربة بأهل بلد ما بقي منهم أحد. وقال جندب بن عبد الله لعليّ أنبايع الحسن إن فقدناك؟ قال: ما آمركم به ولا أنهاكم أنتم أبصر، ثم دعا الحسن والحسين ووصّاهما قال: أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 بغتكما ولا تأسفا علي شيء زوى منها عنكما [1] وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع [2] وكونا للظالم خصما وللمظلوم ناصرا واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم قال لمحمد بن الحنفية: اني أوصيك بمثل ذلك وبتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك ولا تقطع أمرا دونهما، ثم وصّاهم بابن الحنفية، ثم أعاد على الحسن وصيته. ولما حضرته الوفاة كتب وصيّته العامة ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض. فأحضر الحسن ابن ملجم فقال له: هل لك في البقاء عليّ واني قد عاهدت الله أن أقتل عليّا ومعاوية واني عاهدت الله على الوفاء بالعهد فخلّ بيني وبين ذلك فإن قتلته وبقيت فلك عهد الله أن آتيك، فقال: لا والله حتى تعاين النار ثم قدّمه فقتله. وأما البرك فإنه قعد لمعاوية تلك الليلة فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف في أليته وأخذ فقال: عندي بشري [3] أتنفعني ان أخبرتك بها قال: نعم. قال: إنّ أخا لي قتل عليّا هذه الليلة، قال: فلعله لم يقدر عليه، قال: بلى إنّ عليّا ليس معه حرس، فأمر به معاوية فقتل، وأحضر الطبيب فقال: ليس إلا الكي أو شربة تقطع منك الولد. فقال: في يزيد وعبد الله ما تقرّبه عيني والنار لا صبر لي عليها، وقد قيل إنّه أمر بقطع البرك فقطع وأقام إلى أيام زيادة فقتله بالبصرة، وعند ذلك اتخذ معاوية المقصورة وحرس الليل وقيام الشرط على رأسه إذا سجد. ويقال إنّ أوّل من اتخذ المقصورة مروان بن الحكم سنة أربع وأربعين حين طعنه اليمانيّ. وأمّا عمرو بن بكر فإنّه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى فأمر صاحب شرطته خارجة بن أبي حبيبة بن عامر بن لؤيّ يصلي بالناس فشدّ عليه فضربه فقتله وهو يرى أنه عمرو بن العاص، فلما أخذوه وأدخلوه على عمرو قال فمن قتلت إذا؟ قالوا خارجة فقال: لعمرو بن العاص والله ما ظننته غيرك! فقال عمرو: وأردت عمرا وأراد الله خارجة. وأمر بقتله. وتوفي عليّ رضي الله عنه وعلى البصرة عبد الله بن عبّاس وعلى قضائها ابو الأسود الدؤلي وعلى فارس زياد بن سميّة وعلى اليمن عبيد الله بن العبّاس حتى وقع أمر بسر بن   [1] وفي النسخة الباريسية: ولا تبكيا منها على شيء رزى عنكما. [2] وفي النسخة الباريسية: واضنعا الله. [3] وفي النسخة الباريسية: مسرّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 أبي أرطاة، وعلى مكّة والطائف قثم بن عبّاس وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف. بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية ولما قتل عليّ رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن، وأوّل من بايعه قيس ابن سعد وقال: ابسط يدك على كتاب الله وسنّة رسوله وقتال الملحدين. فقال الحسن على كتاب الله وسنة رسوله. ويأتيان على كل شرط. ثم بايعه الناس فكان يشترط عليهم انكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت، فارتابوا وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال. وبلغ الخبر بمقتل علي إلى معاوية فبويع بالخلافة ودعي بأمير المؤمنين، وقد كان بويع بها بعد اجتماع الحكمين. ولأربعين ليلة بعد مقتل علي مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه، ثم مات من أصحاب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي. وكان عليّ قبل قتله قد تجهز بالمسلمين إلى الشام، وبايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت، فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه وعلى مقدّمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفا، وقيل بل كان عبد الله بن عبّاس على المقدّمة وقيس في طلائعه. فلمّا نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر أنّ قيس بن سعد قتل، واهتاج الناس وماج بعضهم في بعض وجاءوا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الّذي كان عليه واستلبوه رداءه وطعنه بعضهم في فخذه. وقامت ربيعة وهمدان دونه واحتملوه على سرير إلى المدائن ودخل الى القصر وكاد أمره أن ينحلّ، فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف، ويعطيه خراج دارابجرد من فارس والّا يشتم عليّا وهو يسمع، وأخبر بذلك أخوه الحسين وعبد الله بن جعفر وعذلاه فلم يرجع اليهما. وبلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها وكان قد بعث عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة الى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك فاشترط فيها أضعاف ما كان في الصحيفة، فلما سلم له وطالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الاولى وقال هو الّذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 طلبت [1] . ثم نزعه أهل البصرة خراج دارابجرد وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه. وخطب الحسن أهل العراق وقال: سخى نفسي عنكم ثلاث: قتل أبي وطعني وانتهاب بيتي، ثم قال ألا وقد أصبحتم بين قبيلين قبيل بصفين يبكون له وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره وأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر وأنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبا السيوف، وإن أدرتم الحياة قبلنا وأخذنا لكم الرضى. فناداه الناس من كل جانب البقية البقية فأمضى الصلح. ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته. ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، وكتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة، فقال له الناس: طاعة الإمام أولى، وانصرفوا إلى معاوية فبايعوه وامتنع قيس وانصرف. فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يقيم الحسن للناس خطيبا ليبدو للناس عيّه، فلما قدم حمد الله وقال: أيها الناس إنّ الله هداكم بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا وإنّ لهذا الأمر مدّة والدنيا دول الله عزل وجل يقول لنبيه: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 21: 111، فقال له معاوية اجلس وعرف أنه خدع في رأيه. ثم ارتحل الحسن في أهل بيته وحشمهم إلى المدينة وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين، فلم يزل مقيما بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع وأربعين. وقال أبو الفرج الأصبهاني سنة احدى وخمسين وعلى فراشه بالمدينة، وما ينقل من أنّ معاوية دس إليهم السمّ مع زوجه جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك. وأقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة وكان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عبّاس لما كتب إليه في الأمان بنفسه، فلقيه ليلا وأمّنه وسار معه إلى معاوية، فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة عليّ علي دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة، وبلغ الخبر الى معاوية وأشار عليه عمرو في قتاله، وقال معاوية: يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام ولا خير فيه. ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها وقال: اكتب في هذا ما شئت فهو لك، فكتب قيس له ولشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال،   [1] وفي النسخة الباريسية: اشترطت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 ولم يسأل مالا فأعطاه معاوية ذلك وبايعه قيس والشيعة الذين معه، ثم جاء سعد بن أبي وقّاص فبايعه واستقرّ الأمر لمعاوية واتفق الجماعة على بيعته وذلك في منتصف سنة احدى وأربعين وسمّي ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك. ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان وغيرهم فقاتلهم واستلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من إفراد الأخبار عن الدول وأهل النحل دولة دولة وطائفة طائفة. وهذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردّة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبريّ وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمّة من خيارهم وعدولهم عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، فكثيرا ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسوّد بها الصحف [1] ، وأتبعتها بمفردات من غير كتاب الطبريّ بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة وإذا ذكرت شيئا في الأغلب نسبته إلى قائلة، وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة، ولا ينظر في ذلك إلى حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة فإنه لم يصحّ، والحق أنّ معاوية في عداد الخلفاء وإنّما أخّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين: الأوّل أنّ الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره، وأمّا قبل ذلك كانت اختيارا واجتماع فميّزوا بين الحالتين، فكان معاوية أوّل خلفاء المغالبة والعصبيّة الذين يعبّر عنهم أهل الأهواء بالملوك، ويشبّهون بعضهم ببعض وحاشى الله أن يشبّه معاوية بأحد ممّن بعده، فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس، ولا يقال إنّ الملك أدون رتبة من الخلافة فكيف يكون خليفة ملكا. واعلم أنّ الملك الّذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتيّة المعبر عنها بالكسرويّة التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها، وأما الملك الّذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوّة فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات   [1] وفي نسخة اخرى: العيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 الله عليهما نبيّين وملكين وكانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربّهما عزّ وجل. ومعاوية لم بطلب الملك ولا أبّهته للاستكثار من الدنيا، وانما ساقه أمر العصبيّة بطبعها لمّا استولى المسلمون على الدول كلها وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عند ما تستفحل العصبيّة وتدعو لطبيعة الملك. وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه، والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار لا بالواهي، فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين، ومن خرجت أفعاله عن ذلك فهو من ملوك الدنيا وإنما سمّي خليفة بالمجاز. الأمر الثاني في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخفاء الأربعة أنهم كانوا أهل نسب واحد وعظيمهم معاوية، فجعل مع أخل نسبه، والخفاء الأوّلون مختلفو الأنساب فجعلوا في نمط واحد وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريبا في الفضل والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم. تمت تكملة الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوّله الخبر عن الدول الإسلامية ونبدأ منها بدولة بني أمية معقبة لخلفاء صدر الإسلام وذكر أوليتهم وأخبار دولهم واحدة واحدة الى انقضائها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 [ المجلد الثالث ] بسم الله الرحمن الرحيم [تتمة الكتاب الثاني ... ] [تتمة القول في أجيال العرب ... ] [تتمة الطبقة الثالثة من العرب ... ] [الخبر عن الدول الإسلامية ونبدأ منها بدولة بني أمية معقبة لخلفاء صدر الإسلام وذكر أوليتهم وأخبار دولهم واحدة واحدة الى انقضائها] (كان) لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش. وكان فخذاهم بنو أميّة وبنو هاشم حيا جميعا ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه. وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرئاسة عليهم الا أنّ بني أمية كانوا أكثر عددا من بني هاشم وأوفر رجالا. والعزّة إنّما هي بالكثرة، قال الشاعر: وإنّما العزّة للكاثر وكان لهم قبيل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أميّة وكان رئيسهم في حرب الفجّار. وحدّث الأخباريون أنّ قريشا تواقعوا ذات يوم وحرب هذا مسند ظهره إلى الكعبة فتبادر إليه غلمة منهم ينادون يا عم أدرك قومك، فقام يجرّ إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا ولوّح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم. (ولما) جاء الإسلام ودهش الناس لما وقع من أمر النبوّة والوحي وتنزل الملائكة، وما وقع من خوارق الأمور ونسي الناس أمر العصبيّة مسلمهم وكافرهم. أمّا المسلمون فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث أنّ الله أذهب عنكم غبية [1] الجاهلية وفخرها لأننا وأنتم بنو آدم وآدم من تراب. وأما المشركون فشغلهم ذلك الأمر   [1] غبية: بالغين المعجمة أي الافتخار بالآباء وغير ذلك من أمور العصبية انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 العظيم عن شأن العصائب وذهلوا عنه حينا من الدهر. ولذلك لمّا افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام. إنما كان ذلك الافتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير ولم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإسلام حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد ولم يبق إلّا العصبية الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزّة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه، فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاء إلى الدين ألا ترى إلى صفوان بن أميّة وقوله عند ما انكشف المسلمون يوم حنين وهو يومئذ مشرك في المدّة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسلم، فقال له أخوه: ألا بطل السحر اليوم؟ فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك. لان يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن. ثم أنّ شرف بني عبد مناف لم يزل في بني عبد شمس وبني هاشم. فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة كذلك. ثم من بعده العبّاس والكثير من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم خلا الجوّ حينئذ من مكان بني هاشم بمكّة واستغلظت رياسة بني أمية في قريش. ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر وهلك فيها عظماء بني عبد شمس: عتبة وربيعة والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم. فاستقلّ أبو سفيان بشرف بني أمية والتقدّم في قريش، وكان رئيسهم في أحد وقائدهم في الأحزاب وما بعدها. (ولما كان الفتح) قال العبّاس للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما أسلم أبو سفيان ليلتئذ، كما هو معروف وكان صديقا له: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكرا. فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ثم من على قريش بعد أن ملكهم يومئذ وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء وأسلموا. وشكت مشيخة قريش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم من التخلّف عن رتب المهاجرين الأوّلين، وما بلغهم من كلام عمر في تركه شوراهم فاعتذر لهم أبو بكر وقال أدركوا إخوانكم بالجهاد وأنفذهم لحروب الردّة فأحسنوا الغناء عن الإسلام وقوّموا الأعراب عن الحيف والميل. ثم جاء عمر فرمي بهم الروم وأرغب قريشا في النفير إلى الشام فكان معظمهم هنالك واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام. وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة فولّى مكانه أخاه معاوية وأقرّه عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوّة ونبذوا الدنيا من أيديهم بما اعتاضوا عنها من مباشرة الوحي وشرف القرب من الله برسوله وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أمية. وانظر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر: إنّ هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف. (ولما هلك عثمان) واختلف الناس على عليّ كانت عساكر عليّ أكثر عددا لمكان الخلافة والفضل إلّا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم، وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم نزلوا بثغور الشام منذ الفتح فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكه، ثم كسر من جناح عليّ ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه واتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عند ما نسي الناس شأن النبوّة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب وتعين بنو أمية للغلب على مضر وسائر العرب ومعاوية يومئذ كبيرهم. فلم تتعدّه الخلافة ولا ساهمه فيها غيره فاستوت قدمه واستفحل شأنه واستحكمت في أرض مصر رياسته وتوثق عقده. وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يدا من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم ويصانع رءوس العرب وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه وكانت غايته في الحلم لا تدرك وعصابته فيها لا تنزع ومرقاته فيها تزلّ عنها الأقدام (ذكر) أنه مازح عديّ بن حاتم يوما يؤنبه بصحبة عليّ فقال له عديّ: والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا وأنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبرا لندنينّ إليك من الشرّ باعا وأنّ حزّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم [1] ، لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليّ فشم السيف يا معاوية يبعث السيف، فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا وأخباره في الحلم كثيرة. بعث معاوية العمال الى الأمصار لما استقلّ معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمّال إلى الأمصار، فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة. ويقال إنه ولّى عليها أوّلا عبد الله بن عمرو بن العاص فأتاه المغيرة منتصحا وقال: عمرو بمصر وابنه بالكوفة فأنت بين نابي أسد فعزله وولّى المغيرة. وبلغ   [1] قوله وحشرجة إلخ. قال المجد: والحشرجة الغرغرة عند الموت تردد النفس انتهى. وقوله الحيزوم، قال المجد أيضا: وكأمير، الصدر أو وسطه كالحيزوم فيهما، جمعه احزمة وحزم انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ذلك عمرا فقال لمعاوية: يختان المال فلا تقدر على ردّه فعد فاستعمل من يخافك فنصب المغيرة على الصلاة وولّى على الخراج غيره، وكان على القضاء شريح. (ولما ولي) المغيرة على الكوفة استعمل كثير بن شهاب على الريّ وأقرّه زياد بعده. وكان يغزو الديلم ثم بعث على البصرة بسر بن أرطاة وكان قد تغلّب عليها حمران بن زيد عند صلح الحسن مع معاوية فبعث بسرا عليها فخطب الناس وتعرّض لعليّ. ثم قال: نشدت الله رجلا يعلم أني صادق أو كاذب ولا صدقني أو كذّبني. فقال أبو بكرة: اللَّهمّ لا نعلمك إلّا كاذبا فأمر به فخنق فقام أبو لؤلؤة الضبيّ فدفع عنه. وكان على فارس من أعمال البصرة زياد بن أبيه وبعث إليه معاوية يطلبه في المال فقال: صرفت بعضه في وجهه واستودعت بعضه للحاجة إليه وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك فامتنع فلما ولي بسر على البصرة جمع عنده أولاد زياد والأكابر عبد الرحمن وعبد الله وعبّاد وكتب إليه لتقدمنّ أو لأقتلنّ بنيك فامتنع واعتزم بسر على قتلهم فأتاه أبو بكرة وكان أخا زياد لأمّه فقال: أخذتهم بلا ذنب وصالح الحسن على أصحاب عليّ حيث كانوا فأمهله بسر إلى أن يأتي بكتاب معاوية. ثم قدم أبو بكرة على معاوية وقال: إنّ الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال وإنّ بسرا يريد قتل بني زياد! فكتب إليه بتخليتهم وجاء إلى البصرة يوم المهاد ولم يبق منه إلّا ساعة وهم موثقون للقتل فأدركهم وأطلقهم انتهى. (ثم عزل) معاوية بسرا عن البصرة وأراد أن يولي عتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر: إنّ لي بالبصرة أموالا وودائع وإن لم تولني عليها ذهبت. فولّاه وجعل إليه معها خرسان وسجستان وقدمها سنة إحدى وأربعين فولي على خراسان قيس بن الهيثم السلميّ وكان أهل بلخ وباذغيس وهراة ويوشلخ [1] قد نضوا، فسار إلى بلخ وحاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة، وقيل إنّما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين على ما سيأتي (ثم قدم) قيس على ابن عامر فضربه وحبسه وولّى مكانه عبد الله بن حازم، وقدم خراسان فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس ويوشلخ في الأمان والصلح فأجابهم وحمل لابن عامر مالا انتهى. (ثم ولّى) معاوية سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم وعلى مكّة خالد بن العاص بن هشام. واستقصى مروان عبد الله بن الحرث بن نوفل وعزل مروان عن المدينة سنة تسع وأربعين وولّى مكانه سعيد بن العاص وذلك لثمان سنين من   [1] وفي نسخة اخرى: بوشنج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 ولايته. وجعل سعيد على القضاء [1] ابن عبد الرحمن مكان عبد الله بن الحرث ثم عزل معاوية سعيدا سنة أربع وخمسين وردّ إليها مروان. قدوم زياد وكان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل عليّ كما قدّمناه وكان عبد الرحمن ابن أخيه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة ورفع إلى معاوية أنّ زيادا استودع أمواله عبد الرحمن فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك فأحضر عبد الرحمن وقال له: إن يكن أبوك أساء إليّ فقد أحسن عمك وأحسن العذر عند معاوية (ثم قدم المغيرة) على معاوية فذكر له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس فقال: داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت ويعيد الحرب خدعة، فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له ثم أتاه وقال: إنّ معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن ولم يكن هناك غيره فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك. قال: أشر عليّ والمستشار مؤتمن فقال أرى أن تشخص إليه وتصل حبلك بحبله وترجع عنه فكتب إليه معاوية بأمانه وخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه المنجاب بن رابد الضبّي وحارثة بن بدر الغداني، واعترضه عبد الله بن حازم في جماعة وقد بعثه ابن عامر ليأتيه به فلما رأى كتاب الأمان تركه وقدم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق وبما حمل إلى عليّ وبما بقي عنده مودعا للمسلمين فصدّقه معاوية وقبضه منه. ويقال إنه قال له: أخاف أن تكون مكروبا بي فصالحني فصالحه على ألفي ألف درهم بعث بها إليه واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له وكان المغيرة يكرمه ويعظمه وكتب إليه معاوية أن يلزم زيادا وحجر بن عديّ وسليمان بن صرد وسيف بن ربعي وابن الكوّاء وابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلوات. عمال ابن عامر على الثغور لما ولي ابن عامر على البصرة استعمل عبد الرحمن بن سمرة على سجستان فأتاها وعلى شرطتها عبّاد بن الحصين ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر وغيره. وكان أهل البلاد قد كفروا، ففتح أكثرها حتى بلغ كابل وحاصرها أشهرا ونصب عليها المجانيق حتى ثلم سورها ولم يقدر المشركون على سد الثلمة. وبات عبّاد بن الحسين عليها يطاعنهم إلى الصبح، ثم خرجوا من الغد للقتال فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوة انتهى. (ثم سار) إلى نسف فملكها عنوة ثم إلى حسك فصالحه أهلها   [1] بياض بالأصل وقال الطبري: وكان على قضاء المدينة لمروان فيما زعم الواقدي حين عزل عبد الله بن الحارث بن نوفل. فلما ولي سعيد بن العاص عزله عن القضاء واستقضى ابا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. (ج 6 ص 130) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 ثم إلى الرجح فقاتلوه وظفر بهم وفتحها انتهى. ثم إلى زابلستان (وهي غزنة) وأعمالها ففتحها ثم عاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها انتهى. (واستعمل) على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبديّ، ويقال بل ولّاه معاوية من قبله فغزا التيعان فأصاب مغنما ووفد على معاوية وأهدى له من خيولها، ثم عاد إلى غزوهم فاستنجدوا بالترك وقتلوه، وكان كريما في الغاية يقال: لم يكن أحد يوقد النار في عسكره، وسأل ذات ليلة عن نار رآها فقيل له خبيص يصنع لنفساء فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام. (واستعمل) على خراسان قيس بن الهيثم فتغافل بالخراج والهدنة فولى مكانه عبد الله بن حاتم. فخاف قيسا وأقبل فزاد ابن عامر غضبا لتضييعه الثغر وبعث مكانه رجلا من يشكر وقيل أسلم بن زرعة الكلابي (انتهى) . (ثم بعث) عبد الله بن حازم وقيل: إنّ ابن حازم قال لابن عامر: إنّ قيسا لا ينهض بخراسان وأخاف إن لقي قيس حربا أن ينهزم ويفسد خراسان، فاكتب لي عهدا إن عجز عن عدوّ قمت مقامه. فكتب وخرجت خارجة من طخارستان فأشار ابن حازم عليه أن يتأخر حتى يجتمع عليه الناس فلما سار غير بعيد أخرج ابن حازم عهده وقام بأمر الناس وهزم العدوّ. وبلغ الخبر إلى الأمصار فغضبت أصحاب قيس وقالوا خدع صاحبنا، وشكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر فقبل منه، وقال له أقم في الناس بعذرك ففعل انتهى. (وفي سنة) ثلاث [1] وأربعين توفي عمرو بن العاص بمصر فاستعمل معاوية مكانه عبد الله ابنه. عزل ابن عامر وكان ابن عامر حليما ليّنا للسفهاء فطرق البصرة الفساد من ذلك. وقال له زياد جرّد السيف فقال: لا أصلح الناس بفساد نفسي. ثم بعث وفدا من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة ومنهم ابن الكوّاء وهو عبد الله بن أبي أوفى اليشكري فلما سألهم معاوية عن الأمصار أجابه ابن الكوّاء بعجز ابن عامر وضعفه فقال معاوية: تتكلم على أهل البصرة وهم حضور! وبلغ ذلك ابن عامر فغضب وولّى على خراسان من أعداء ابن الكوّاء عبد الله بن أبي شيخ اليشكري أو طفيل بن عوف فسخر منه ابن الكوّاء لذلك وقال: وددت أنه ولى كل يشكري من أجل عداوتي. ثم أنّ معاوية استقدم ابن عامر فقدم   [1] قوله وفي سنة ثلاث إلخ.. هذا يخالف ما ذكره الميداني في مجمع الأمثال قال: ليس هذا من كيسك، يضرب لمن يرى منه ما لا يمكن ان يكون هو صاحبه. وأصل هذا ان معاوية لما أراد المبايعة ليزيد دعا عمرا فعرض عليه البيعة له فامتنع فتركه معاوية ولم يستقص عليه. فلما اعتل معاوية العلة التي توفي فيها دعا يزيدا وخلا به وقال له: إذا وضعتم سريري على شفير حفرتي فادخل أنت القبر ومر عمرا يدخل معك فإذا دخل فاخرج واخترط سيفك ومره ليبايعك فان فعل والا فادفنه قبلي ففعل ذلك يزيد فبايع عمرو وقال ما هذا من كيسك ولكنه من كيس الموضوع في اللحد فذهبت مثلا انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وأقام أياما فلما ودّعه قال: إني سائلك ثلاثا قال: هنّ لك، قال: ترد عليّ عملي ولا تغضب وتهب لي مالك بعرفة ودورك بمكّة. قال: قد فعلت. قال: وصلتك رحم، فقال ابن عامر: وإني سائلك ثلاثا ترد عليّ عملي بعرفة ولا تحاسب لي عاملا ولا تتبع لي أثرا وتنكحني ابنتك هندا. قال: قد فعلت! ويقال: إنّ معاوية خيّره بين أن يردّه على اتباع أثره وحسابه بما سار إليه أو يعزله ويسوغه ما أصاب فاختار الثالثة فعزله وولّى مكانه الحرث ابن عبد الله الأزدي [1] استخلاف زياد كانت سميّة أم زياد مولاة للحرث بن كندة الطبيب وولدت عنده أبا بكرة ثم زوّجها بمولى له وولدت زيادا وكان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية وولدت زيادا هذا، ونسبه [2] إلى أبي سفيان وأقرّ لها به، إلّا أنه كان بخفية، ولما شبّ زياد سمت به النجابة واستكتبه أبو موسى الأشعريّ وهو على البصرة، واستكفاه عمر في أمر فحسن منار دينه وحضر عنده يعلمه بما صنع، فأبلغ ما شاء في الكلام فقال عمرو بن العاص وكان حاضرا للَّه هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. قال أبو سفيان وعليّ يسمع: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمّه، فقال له عليّ: اسكت فلو سمع عمر هذا منك كان إليك سريعا. ثم استعمل عليّ زيادا على فارس فضبطها وكتب إليه معاوية يتهدّده ويعرض له بولادة أبي سفيان إيّاه فقام في الناس فقال: عجبا لمعاوية [3] يخوّفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار! وكتب إليه عليّ إني ولّيتك وأنا أراك أهلا وقد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب النفس، لا توجب ميراثا ولا نسبا. ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام (هـ) . ولما قتل عليّ وصالح زياد معاوية وضع مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ على معاوية ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل، ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان فشهد له رجال من أهل البصرة وألحقه، وكان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك وينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة. (وكتب زياد) إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب ليكون له حجة فكتبت   [1] وفي نسخة ثانية: الأسدي والصحيح الازدي. [2] مقتضى السياق: ونسبته الى أبي سفيان. [3] وفي بعض الروايات: عجبا لابن آكلة الأكباد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد. وكان عبد الله بن عامر يبغض زيادا وقال يوما لبعض أصحابه: من عبد القيس؟! ابن سميّة يقبّح آثاري ويعترض عمّالي لقد هممت بقسامة من قريش أنّ أبا سفيان لم ير سميّة! فأخبر زياد بذلك فأخبر به معاوية، فأمر حاجبه أن يردّه من أقصى الأبواب وشكا ذلك إلى يزيد، فركب معه فأدخله على معاوية فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيته فقال يزيد: نقعد في انتظاره فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول، وقال: إني لا أتكثر بزياد من قلّة ولا أتعزّز به من ذلّة ولكن عرفت حق الله فوضعته موضعه فخرج ابن عامر وترضّى زيادا ورضي له معاوية. ولاية زياد البصرة كان زياد بعد صلح معاوية واستلحاقه نزل الكوفة وكان يتشوّف الامارة عليها. فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم يعفه. فيقال إنه خرج زياد إلى الشام، ثم إنّ معاوية عزل الحرث بن عبد الله الأزدي عن البصرة وولّى عليها زيادا سنة خمس وأربعين، وجمع له خراسان وسجستان ثم جمع له السند والبحرين وعمان، وقدم البصرة فخطب خطبته البتراء وهي معروفة، وإنما سمّيت البتراء لأنه لم يفتحها بالحمد والثناء، فحذّرهم في خطبته ما كانوا عليه من الانهماك في الشهوات والاسترسال في الفسق والضلال، وانطلاق أيدي السفهاء على الجنايات وانتهاك الحرم وهم يدنون منهم، فأطال في ذلك عنّفهم ووبّخهم وعرّفهم ما يجب عليهم في الطاعة من المناصحة والانقياد للأئمة وقال: لكم عندي ثلاث لا أحتجب عن طالب حاجة ولو طرقني ليلا ولا أحبس العطاء عن اباية ولا أحمر البعوث [1] فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأيهم: أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. قال: كذبت ذاك نبيّ الله داود ثم استعمل على شرطته عبد الله بن حصين وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل. وكان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلّا سفكت دمه وكان يأمر بقراءة سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة ثم يمهل بقدر ما يبلغ الرجل أقصى البصرة، ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحدا إلّا قتله. وكان أوّل من شدّد أمر السلطان وشيّد الملك فجرّد السيف وأخذ بالظنّة وعاقب على الشبهة وخافه السفهاء والذعّار وأمن الناس على أنفسهم ومتاعهم حتى كان الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرّض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه ولا يغلق أحد بابا وأدرّ العطاء واستكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف [2] وسئل في   [1] وفي نسخة ثانية: عن ابانة ولا اجرّ البعوث. [2] يعتبر زياد أول من أعلن الأحكام العرفية في الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 إصلاح السابلة فقال: حتى أصلح المصر. فلما ضبطه أصلح ما وراءه، وكان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة فاستعفى، فولى مكانه عبد الله بن فضالة الليثي، ثم أخاه عاصما، ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد، وكان يستعين بأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب. ويقال: إن زيادا أوّل من سيّر بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس رابطة، فكان خمسمائة منهم لا يفارقون المسجد، ثم قسّم ولاية خراسان على أربعة: فولّى على مرو أمين ابن أحمد اليشكري، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى مروالروذ والعاربات والطالقات قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائي. ثم إنّ نافعا بعث إليه بجواد باهر غنمه في بعض وجوهه، وكانت قوائمه منه، فأخذ منها قائمة وجعل مكانها أخرى ذهبا وبعث الجواد مع غلامه زيد وكان يتولى أموره فسعى فيه عند زياد بأمر تلك القائمة فعزله وحبسه، وأغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتابا، وقيل ثمانمائة ألف. وشفع فيه رجال من الأزد فأطلقه واستعمل مكانه الحكم بن عمرو الغفاريّ وجعل معه رجالا على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابيّ. وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى جبال الغور، وكانوا قد ارتدّوا، ففتح وغنم وسبى وعبر النهر في ولايته إلى ما وراءه فملأه غارة. ولما رجع من غزاة الغور مات بمرو واستخلف على عمله أنس بن أبي أناس [1] بن ربين فلم يرضه زياد. وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين ألفا من البصرة والكوفة. صوائف الشام ودخل المسلمون سنة اثنتين وأربعين إلى بلاد الروم فهزموهم وقتلوا جماعة من البطارقة وأثخنوا فيها ثم دخل بسر بن أرطاة أرضهم سنة ثلاث وأربعين ومشى بها وبلغ القسطنطينيّة. ثم دخل عبد الرحمن بن خالد وكان على حمص فشتّى بهم وغزاهم بسر تلك السنة في البحر. ثم دخل عبد الرحمن إليها سنة ست وأربعين فشتى بها، وشتى أبو عبد الرحمن السبيعي على انطاكية ثم دخلوا سنة ثمان وأربعين فشتّى عبد الرحمن بأنطاكية أيضا. ودخل عبد الله بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة وغزاهم مالك بن هبيرة اليشكريّ في البحر وعقبة بن عامر الجهنيّ في البحر أيضا بأهل مصر وأهل المدينة. ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع وأربعين فشتّى بأرض الروم ودخل عبد الله بن كرز الجيلي بالصائفة وشتّى يزيد بن ثمرة الرهاويّ في بلاد الروم بأهل الشام في البحر   [1] وفي نسخة ثانية: انس بن أبي إياس بن روبين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وعقبة بن نافع بأهل مصر كذلك (ثم) بعث معاوية سنة خمسين جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف وندب يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه. ثم بلغ الناس أنّ الغزاة أصابهم جوع ومرض وبلغ معاوية أنّ يزيد أنشد في ذلك: ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالفدفد البيد من حمّى ومن شوم إذا اتطأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مرّان عندي أمّ كلثوم وهي امرأته بنت عبد الله بن عامر فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير جمعهم إليه معاوية فيهم ابن عبّاس وابن عامر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينيّة وقاتلوا الروم عليها. فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريبا من سورها ورجع يزيد والعساكر إلى الشام ثم شتّى فضالة بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى وخمسين وغزا بسر بن أرطاة بالصائفة. وفاة المغيرة توفي المغيرة وهو عامل على الكوفة سنة خمسين بالطاعون، وقيل سنة تسع وأربعين وقيل سنة إحدى وخمسين، فولّى مكانه معاوية زيادا وجمع له المصرين فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب فلما وصل الكوفة خطبهم فحصبوه على المنبر فلما نزل جلس على كرسيّ وأحاط أصحابه بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك، ومن لم يخلف حبسه فبلغوا ثمانين واتخذ المقصورة من يوم حبس. ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء فطلبه، فهرب ثم أخذه فقتله وقال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط: إنّ عمر بن الحمق يجتمع إليه شيعة عليّ فأرسل إليه زياد ونهاه عن الاجتماع عنده. وقال لا أبيح أحدا حتى يخرج عليّ، وأكثر سمرة بن جندب اليتامى بالبصرة يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك عليه زياد انتهى. (كان عمرو بن العاص) قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عبد قيس على إفريقية، وهو ابن خالته انتهى الى لواته [1] ومرانه، فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى. ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين غذامس. وفي السنة التي بعدها ودّان وكورا من كور السودان وأثخن في تلك النواحي، وكان له فيها جهاد وفتوح. ثم ولّاه معاوية على إفريقية سنة خمسين وبعث إليه عشرة آلاف فارس، فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد، لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا، فإذا رجعوا عنهم ارتدّوا فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها   [1] من نواحي الأندلس من أعمال فرّيش، ولواته: قبيلة من البربر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 العساكر من البربر فاختط القيروان وبنى بها المسجد الجامع، وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم، وكان دورها [1] ثلاثة آلاف باع وستمائة باع، وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا للإغارة والنهب، ودخل أكثر البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين ورسخ الدين. ثم ولّى معاوية على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري واستعمل على إفريقية مولاه أبا المهاجر فأساء عزل عقبة واستخف به فسيّر ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية وشكا إليه فاعتذر له ووعده بردّه إلى عمله، ثم ولّاه يزيد سنة اثنتين وستين (وذكر) الواقدي: أنّ عقبة ولي إفريقية سنة ست وأربعين فاختط القيروان ثم عزله يزيد سنة اثنتين وستين بأبي المهاجر. فحينئذ قبض على عقبة وضيّق عليه فكتب إليه يزيد يبعثه إليه وأعاده واليا على إفريقية فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعا كسلة ملك البرانس من البربر كما نذكر بعد. (كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة) كثيرا ما يتعرّض لعليّ في مجالسه وخطبه، ويترحّم على عثمان ويدعو له فكان حجر بن عديّ إذا سمعه يقول: بلاياكم قد أضلّ الله ولعن. ثم يقول أنا أشهد أنّ من تذمّون أحق بالفضل، ومن تزكّون أحق بالذم. فبعث له المغيرة يقول: يا حجر اتّق غضب السلطان وسطوته، فإنّها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك. (ولما كان) آخر إمارته المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول فصاح به حجر ثم قال له: مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا وأصبحت مولعا بذم المؤمنين، وصاح الناس من جوانب المسجد صدق حجر فر لنا بأرزاقنا، فالذي أنت فيه لا يجدي علينا نفعا. فدخل المغيرة إلى بيته وعذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن سلطانه، ويسخط عليه معاوية فقال لا أحبّ أن آتي بقتل أحد من أهل المصر. وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله ثم توفي المغيرة وولي زياد فلما قدم خطب الناس وترحم على عثمان ولعن قاتليه. وقال حجر ما كان يقول فسكت عنه ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث وبلغه أنّ حجرا يجتمع إليه شيعة عليّ ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منهم وأنهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها ثم خطب الناس وحجر جالس يسمع فتهدّده وقال: لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأودعه نكالا لمن بعده ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة فبعث صاحب الشرطة شدّاد بن الهيثم الهلالي إليه جماعة فسبهم   [1] اي محيطها ودورانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 أصحابه. فجمع زياد أهل الكوفة وتهدّدهم فتبرّءوا فقال: ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا حتى إذا لم يبق معه إلّا قومه، قال زياد لصاحب الشرطة: انطلق إليه فأت به طوعا أو كرها فلما جاءه يدعوه امتنع من الإجابة فحمل عليهم وأشار إليه أبوا العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه، هذا وزياد على المنبر ينتظر ثم غشيهم أصحاب زياد وضرب عمرو بن الحمق فسقط ودخل في دور الأزد فاختفى وخرج حجر من أبواب كندة فركب ومعه أبو العمرطة إلى دور قومه واجتمع إليه الناس ولم يأته من كندة إلّا قليل ثم أرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان ليأتوه بحجر، فلما علم أنهم قصدوه تسرّب من داره إلى النخع ونزل على أخي الأشتر. وبلغه أنّ الشرطة تسأل عنه في النخع. فأتى الأزد واختفى عند ربيعة بن ناجد، وأعياهم طلبه فدعا حجر محمد بن الأشعث أن يأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجاء محمد ومعه جرير بن عبد الله وحجر بن يزيد وعبد الله بن الحرث أخو الأشتر فاستأمنوا له زيادا فأجابهم ثم أحضروا حجرا فحبسه وطلب أصحابه فخرج عمرو بن الحمق إلى الموصل ومعه زواعة بن شدّاد فاختفى في جبل هناك ورفع أمرهما إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية، ويعرف بابن أمّ الحكم فسار إليهما وهرب زواعة وقبض على عمرو، وكتب إلى معاوية بذلك فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعا بمشاقص كانت معه فاطعنه كذلك فمات في الأولى والثانية ثم جدّ زياد في طلب أصحاب حجر وأتى بقبيصة بن ضبعة العبسيّ بأمان فحبسه وجاء قيس بن عبّاد الشّبلي برجل من قومه من أصحاب حجر فأحضره زياد وسأله عن عليّ فأثنى عليه فضربه وحبسه. وعاش قيس بن عبّاد حتى قاتل مع ابن الأشعث، ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجّاج فقتله. ثم أرسل زياد إلى عبد الله ابن خليفة الطائي من أصحاب حجر فتوارى وجاء الشرط فأخذوه ونادت أخته الفرار بقومه فخلصوه فأخذ زياد عديّ بن حاتم وهو في المسجد وقال: ائتني بعبد الله وخبره جهرة فقال: آتيك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فحبسه، فنكر ذلك الناس وكلّموه وقالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبير طيِّئ قال: أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه وأمر عدي عبد الله أن يلحق بجبل طيِّئ فلم يزل هنالك حتى مات وأتى زياد بكريم بن عفيف الخثعميّ من أصحاب حجر وغيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 ولما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا رءوس الأرباع يومئذ [1] وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد. فشهدوا كلهم أنّ حجرا جمع الجموع وأظهر شتم معاوية، ودعا إلى حربه وزعم أنّ الأمر لا يصلح إلا في الطالبيين ووثب بالمصر وأخرج العامل وأظهر غدر أبي تراب والترحم عليه، والبراءة من عدوّه وأهل حربه، وأنّ النفر الذين معه وهم رءوس أصحابه على مقدّم رأيه ثم استكثر زياد من الشهود فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة والمنذر ابن الزبير وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقّاص وغيرهم وفي الشهود شريح بن الحرث وشريح بن هانئ ثم استدعى زياد وائل بن حجر الحضرميّ وكثير ابن شهاب ودفع إليهما حجر بن عديّ وأصحابه وهم الأرقم بن عبد الله الكنديّ وشريك بن شدّاد الحضرميّ وصيفي بن فضيل الشيبانيّ وقبيصة بن ضبيعة العبسيّ، وكريم ابن عفيف الخثعميّ، وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سميّ البجلي، وكرام بن حبّان العنزي وعبد الرحمن بن حسّان العنزي ومحرز بن شهاب التميمي وعبد الله بن حويّة السعدي ثم أتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر وسعد بن غوات الهمدانيّ، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى معاوية. ثم لحقهما شريح بن هانئ ودفع كتابه إلى معاوية بن وائل ولما انتهوا إلى مرج غدراء [2] قريب دمشق تقدّم ابن وائل وكثير إلى معاوية، فقرأ كتاب شريح وفيه بلغني أنّ زيادا كتب شهادتي وأنّي أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، حرام الدم والمال فإن شئت فاقبله أو فدعه، فقال معاوية: ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس وسعد بن غوات اللذين ألحقهما زياد بهما. وجاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية فأخبره بوصولهما، فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصما وورقاء ابني عمه وقد كتب يزيد يزكيهما ويشهد ببراءتهما فأطلقهما معاوية وشفع وائل بن حجر في الأرقم وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم وسأله مالك بن هبيرة السكونيّ   [1] يظهر من سياق المعنى ان العبارة تامة وليس مكان البياض شيء. [2] هو مرج عذراء بغوطة دمشق (معجم البلدان) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 في حجر فردّه فغضب وحبس في بيته وبعث معاوية هدبة بن فيّاض القضاعيّ، والحسين بن عبد الله الكلابي، وأبا شريف البدري إلى حجر وأصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله فأتوهم وعرض عليهم البراءة من عليّ فأبوا وصلّوا عامة ليلتهم ثم قدموا من الغد للقتل وتوضأ حجر وصلّى وقال: لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت منها. اللَّهمّ إنّا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة، يشهدون علينا، وأهل الشام يقتلوننا. ثم مشى إليه هدبة بن فيّاض بالسيف، فارتعد فقالوا: كيف وأنت زعمت أنك لا تجزع من الموت؟ فابرأ من صاحبك وندعك. فقال: وما لي لا أجزع وأنا بين القبر والكفن، والسيف. وإن جزعت من الموت لا أقول ما يسخط الربّ فقتلوه وقتلوا ستة معه وهم شريك بن شدّاد وصيفي بن فضيل وقبيصة بن حنيفة، ومحرز بن شهاب، وكرام بن حبان ودفنوهم وصلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسّان العنزي [1] وجيء بكريم بن الخثعميّ إلى معاوية فطلب منه البراءة من عليّ فسكت واستوهبه سمرة بن عبد الله الخثعميّ من معاوية فوهبه له، على أن لا يدخل الكوفة. فنزل إلى الموصل ثم سأل عبد الرحمن بن حسّان عن عليّ فأثنى خيرا ثم عن عثمان فقال: أوّل من فتح باب الظلم وأغلق باب الحق فردّه إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه حيّا وهو سابع القوم. (وأمّا مالك) بن هبيرة السكونيّ فلما لم يشفعه معاوية في حجر جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه فلقي القتلة وسألهم فقالوا مات القوم وسار إلى عديّ فتيقن قتلهم فأرسل في إثر القتلة فلم يدركوهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حربا فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه. (ولما بلغ) عائشة خبر حجر وأصحابه، أرسلت عبد الرحمن بن الحرث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء وقد قتلوا فقال لمعاوية: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال: حيث غاب عليّ مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سميّة فاحتملت وأسفت عائشة لقتل حجر وكانت تثني عليه. وقيل في سياقة الحديث غير ذلك وهو أنّ زيادا أطال الخطبة في يوم جمعة فتأخرت الصلاة فأنكر حجر ونادى بالصلاة فلم يلتفت إليه. وخشي فوت الصلاة فحصبه بكف من الحصباء، وقام إلى   [1] هذه العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 485 «وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرّبّ. فقتلوه وقتلوا ستة. فقال عبد الرحمن بن حسّان العنزي وكريم الخثعميّ: ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 الصلاة فقام الناس معه فخافهم زياد ونزل فصلى. وكتب إلى معاوية وعظّم عليه الأمر، فكتب إليه أن يبعث به موثقا في الحديد وبعث من يقبض عليه فكان ما مرّ. ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية، فلما رآه معاوية أمر بقتله فصلى ركعتين وأوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيدا ولا تغسلوا دما فإنّي لاق معاوية غدا على الجادّة وقتل (انتهى) . (وقالت) عائشة لمعاوية: أين حملك عن حجر؟ قال: لم يحضرني رشيد (انتهى) . (وكان) زياد قد ولّى الربيع بن زياد الحارثيّ على خراسان سنة إحدى وخمسين بعد أن هلك حسن بن عمر الغفاريّ وبعث معه من جند الكوفة والبصرة خمسين ألفا فيهم بريدة بن الحصيب، وأبو برزة الأسلمي من الصحابة وغزا بلخ ففتحها صلحا، وكانوا انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس. ثم فتح قهستان عنوة واستلحم من كان بناحيتها من الترك، ولم يفلت منهم إلّا قيزل طرخان وقتله قتيبة ابن مسلم في ولايته فلما بلغ الربيع بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك وقال: لا تزال العرب تقتل بعده صبرا ولو نكروا قتله منعوا أنفسهم من ذلك، لكنهم أقرّوا فذلوا. ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره وقال للناس: إني قد مللت الحياة، واني داع فأمّنوا ثم رفع يديه وقال: اللَّهمّ إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمّن الناس. ثم خرج فما تواترت ثيابه حتى سقط، فحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله ومات من يومه. ثم مات ابنه بعده بشهرين واستخلف خليد ابن عبد الله الحنفي وأقرّه زياد. وفاة زياد ثم مات زياد في رمضان سنة ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه يقال بدعوة ابن عمر، وذلك أنّ زيادا كتب إلى معاوية إني ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة فاشغلها بالحجاز، فكتب له عهده بذلك، وخاف أهل الحجاز وأتوا عبد الله بن عمر يدعو لهم الله أن يكفيهم ذلك فاستقبل القبلة ودعا معهم وكان من دعائه: اللَّهمّ اكفناه، ثم كان الطاعون فأصيب في يمينه فأشير عليه بقطعها فاستدعى شريحا القاضي فاستشاره فقال إن يكن الأجل فرغ فتلقى الله أجذم [1]   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 3 ص 494 «فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم وقد قطعت يدك كراهية لقائه» «وفي مروج الذهب ما يؤخذ منه تسويده وعباراته وانه شاور شريحا في قطعها، فقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني اكره ان كانت لك مدة ان تعيش أجذم، وإن حم أجلك أن تلق ربك مقطوع اليد. فإذا سألك لم قطعتها؟ قلت بغضا للقائك وفرارا من قضائك انتهى.» ج 3 ص 27. ابن خلدون م 2 ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 كراهية في لقائه وإلّا فتعيش أقطع، ويعيّر ولدك فقال: لا أبيت والطاعون في لحاف واحد، واعتزم على قطعها فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه، وقيل تركه لإشارة شريح وعذل الناس شريحا في ذلك فقال: المستشار مؤتمن. ولما حضرته الوفاة قال له ابنه: قد هيأت لكفنك ستين ثوبا فقال: يا بني قد دنا لأبيك لباس خير من لباسه. ثم مات ودفن بالتوسة قرب الكوفة، وكان يلبس القميص ويرقعه، ولما مات استخلف على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد وكان خليفته على البصرة عبد الله بن عمر بن غيلان وعزل بعد ذلك عبد الله بن خالد عن الكوفة وولّى عليها الضحّاك بن قيس. ولاية عبيد الله بن زياد على خراسان ثم على البصرة ولما قدم ابنه عبيد الله على معاوية وهو ابن خمس وعشرين سنة قال: من استعمل أبوك على المصرين؟ فأخبره فقال: لو استعملك لاستعملتك. فقال عبيد الله: أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك لو استعملك أبوك وعمك استعملتك. فولّاه خراسان ووصّاه فكان من وصيته: اتق الله ولا تؤثرنّ على تقواه شيئا، فإنّ في تقواه عوضا وق عرضك من أن تدنسه، وإن أعطيت عهدا فأوف به، ولا تتبعنّ كثيرا بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه فإذا خرج فلا يردنّ عليك. وإذا لقيت عدوّك فكبّر أكبر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعنّ أحدا في غير حقه، ولا تؤيسنّ أحدا من حق هو له. ثم ودّعه فسار إلى خراسان أوّل سنة أربع وخمسين، وقدم إليها أسلم بن زرعة الكلابي، ثم قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل ففتح رامين ونسف وسكند ولقيه الترك فهزمهم وكان مع ملكهم امرأته خاتون، فأعجلوها عن لبس خفيها، فأصاب المسلمون أحدهما وقوّم بمائتي ألف درهم. وكان عبيد الله ذلك اليوم يحمل عليهم وهو يطعن حتى يغيب عن أصحابه ثم يرفع رايته تقطر دما. وكان هذا الزحف من زحوف خراسان المعدودة، وكانت أربعة منها للأحنف بن قيس بقهستان والمرعات وزحف لعبد الله بن حازم قضى فيه جموع فاران وأقام عبيد الله واليا على خراسان سنتين وولاه معاوية سنة خمس وخمسين على البصرة. وذلك أنّ ابن غيلان خطب وهو أمير على البصرة، فحصبه رجل من بني ضبّة فقطع يده فأتاه بنو ضبة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 عنه، وأنه قطع على أمر لم يصح، مخافة أن يعاقبهم معاوية جميعا فكتب لهم وسار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة وأوفاه الضبّيّون بالكتاب، فادّعوا أنّ ابن غيلان قطع صاحبهم ظلما فلما قرأ معاوية الكتاب قال: أمّا القود من عمّالي فلا سبيل إليه، ولكن أدي صاحبكم من بيت المال وعزل عبد الله بن غيلان عن البصرة، واستعمل عليها عبيد الله بن زياد، فسار إليها عبيد الله وولّى على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي فلم يغز ولم يفتح. العهد ليزيد ذكر الطبري بسنده قال: قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف، فاستعفاه فأعفاه وأراد أن يولّي سعيد بن العاص وقال أصحاب المغيرة للمغيرة: إنّ معاوية قلاك، فقال لهم: رويدا ونهض إلى يزيد وعرض له بالبيعة. وقال ذهب أعيان الصحابة وكبراء قريش ورادوا أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وسياسة، وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العهد لك فأدّى ذلك يزيد إلى أبيه واستدعاه وفاوضه في ذلك. فقال: قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان وفي يزيد منك خلف، فاعهد له يكون كهفا للناس بعدك فلا تكون فتنة ولا يسفك دم وأنا أكفيك الكوفة ويكفيك ابن زياد البصرة فردّ معاوية المغيرة إلى الكوفة، وأمره أن يعمل في بيعة يزيد فقدم الكوفة وذاكر من يرجع إليه من شيعة بني أمية فأجابوه، وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى فدعاه إلى عقد البيعة ليزيد. فقال: أوقد رضيتموه؟ قالوا: نعم! نحن ومن وراءنا. فقال: ننظر ما قدمتم له ويقضي الله أمره، والأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره بفكر [1] . وكف عن هدم دار سعيد وكتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الظعينة بين قرايته ويقول لو لم تكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم يجب عليك أن تدعي ذلك فاعتذر له معاوية وتنصّل. وقدم سعيد عليه وسأله عن مروان فأثنى خيرا فلما كان سنة سبع وخمسين عزل مروان وولّى مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقيل سنة ثمان [2] .   [1] بياض بالأصل وفي تاريخ الطبري «حدثني الحارث قال: حدثنا علي عن مسلمة، قال: لما أراد معاوية [2] هذا المقطع غير منسجم مع العنوان: العهد ليزيد، فهو يتكلم عن عزل سعيد بن العاص وتولية مروان بن الحكم مكانه، وأمره مروان بهدم دار سعيد والقصة مذكورة في مكان سابق من هذا الكتاب. 506- 511- طبعة دار صادر 1965 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19   [ () ] ان يبايع ليزيد كتب الى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد ابن كعب النميري فقال: ان لكل مستبشر ثقة ولكل سر مستودع وان الناس قد أبدعت من خصلتان: اذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها. وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثوابا، ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه، وقد عجمتها منك فاحمدت الّذي قبلك. وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف. ان أمير المؤمنين كتب إلي يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد وهو يتخوف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم ويستشيرني وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم. ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدّيا عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقل له: رويدك بالأمر، فأقمن ان يتم لك ولا تعجل. فان دركا في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت. فقال عبيد له أفلا غير هذا؟ قال ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه ولا تمقت اليه ابنه، وألقى أنا يزيد سرا من معاوية فأخبره عنك ان أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخاف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وانك ترى له ترك ما ينقم عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد. فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة. فقال زياد: رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فان أصبت فما لا ينكر وان يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إنشاء الله من الخطأ. قال تقول بما ترى ويقضي الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكتب زياد الى معاوية يأمره بالتؤدة وان لا يعجل فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فاقطعه قطيعة» . الطبري ج 6 ص 169- 170. وورد في الكامل لابن الأثير بعد ذكر الرواية المذكورة أعلاه عن الطبري بفارق قليل: ج 3 ص 507. «فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل الى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد ان ديني عندي إذن لرخيص وامتنع، ثم كتب معاوية بعد ذلك الى مروان بن الحكم: إني قد كبرت سني ودق عظمي وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي. وقد رأيت ان أتخير لهم من يقوم بعدي، وقد كرهت ان اقطع امرا دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم واعلمني بالذي يردون عليك. فقام مروان بالناس فأخبرهم به. فقال الناس: أصاب ووفق، وقد أحببنا ان يتخير لنا فلا يألو. فكتب مروان الى معاوية بذلك، فأعاد اليه الجواب يذكر يزيد، فقام مروان فيهم وقال: ان أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون ان تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الّذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قال لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما 46: 17 الآية. فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء حجاب وقالت: يا مروان يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل فيه القرآن؟ كذبت والله وما هو به ولكنه فلان بن فلان ولكنك أنت فضض من لعنة نبي الله. وقام الحسين بن عليّ فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر وابن الزبير. فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب الى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وان يوفدوا اليه الوفود من الأمصار ... تم ذكر الوفود التي وفدت على معاوية ويزيد وذكر كلام المتكلمين بهذا الشأن. وسفر معاوية الى المدينة ثم الى مكة الى ان قال ص 510: ثم أقبل معاوية على ابن الزبير فقال: هات لعمري انك خطيبهم فقال: نعم نخيرك بين ثلاث خصال. قال اعرضهن قال: تصنع كما صنع رسول الله (ص) أو كما صنع أبو بكر أو كما صنع عمر. قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله (ص) ولم يستخلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 عزل الضحاك عن الكوفة وولاية ابن أمّ الحكم ثم النعمان بن بشير عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان وخمسين وولى مكانه عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي وهو ابن أمّ الحكم أخت معاوية فخرجت عليه الخوارج الذين كان المغيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة، وخرجوا من سجنه بعد موته فاجتمعوا على حيّان بن ضبيان السلميّ ومعاذ بن جرير الطائي، فسيّر إليهم عبد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما يذكر في أخبار الخوارج. ثم إنّ أهل الكوفة نقلوا عن عبد الرحمن سوء سيرته، فعزله معاوية عنهم وولّى مكانه النعمان بن بشير. وقال: أوليك خيرا من الكوفة، فولّاه مصر، وكان عليها معاوية بن خديج السكونيّ، وسار إلى مصر فاستقبله معاوية على مرحلتين منها، وقال: ارجع إلى حالك لا تسر فينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة فرجع إلى معاوية وأقام معاوية بن خديج في عمله.   [ () ] أحدا فارتضى الناس ابا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد الى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وان شئت فاصنع كما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال لا! ثم قال: فأنتم! قالوا: قولنا قوله. قال: فاني قد أحببت ان أتقدم إليكم انه قد أعذر من أنذر، أني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح واني قائم بمقالة، فأقسم باللَّه لئن رد علي أحدكم بكلمة في مقامي هذا لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه. ثم دعا صاحب حرسه في حضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فان ذهب رجل منهم يرد على كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ان هؤلاء الرهط من المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يقضى إلا عن مشورتهم وأنهم رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس، وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله وانصرف الى المدينة. فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم انكم لا تبايعون فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم ان تردوا على الرجل. قالوا: كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثم انصرف الى الشام» ص 511 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان وفي سنة تسع وخمسين قدم عبد الرحمن بن زياد وافدا على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين أما لنا حق؟ قال: بلى! فماذا قال توليني؟ قال: بالكوفة النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالبصرة وخراسان عبيد الله أخوك، وبسجستان عبّاد أخوك ولا أرى ما يشبهك إلا أن أشركك في عمل عبيد الله فإن عمله واسع يحتمل الشركة فولّاه خراسان فسار إليها، وقدّم بين يديه قيس بن الهيثم السلميّ، فأخذ أسلم بن زرعة وحبسه. ثم قدم عبد الرحمن فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم وأقام بخراسان وكان متضعّفا لم يقرّ قط. وقدم على يزيد بين يدي قتل الحسين، فاستخلف على خراسان قيس بن الهيثم. فقال له يزيد: كم معك من مال خراسان؟ قال عشرون ألف درهم فخيّره بين أخذها بالحساب وردّه إلى عمله أو تسويغه إياها وعزله، على أن يعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، فاختار تسويغها والعزل. وبعث إلى ابن جعفر بألف ألف وقال نصفها من يزيد ونصفها مني. ثم إنّ أهل البصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على منازلهم ودخل الأحنف آخرهم وكان هيأ المنزلة من عبيد الله فرحب به معاوية وأجلسه معه على سريره. ثم تكلم القوم وأثنوا على عبيد الله وسكت الأحنف، فقال معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم، فقال: انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله واطلبوا واليا ترضونه، فطفق القوم يختلفون إلى رجال بني أمية وأشراف الشام، وقعد الأحنف في منزله، ثم أحضرهم معاوية وقال: من اخترتم فسمّى كل فريق رجلا والأحنف ساكت. فقال معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال: إن ولّيت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن ولّيت من غيرهم ينظر في ذلك قال: فإنّي قد أعدته عليكم، ثم أوصاه بالأحنف وقبّح رأيه في مباعدته ولما هاجت الفتنة لم يعزله غير الأحنف ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم. بقية الصوائف دخل بسر بن أرطاة سنة اثنتين وخمسين أرض الروم وشتّى بها وقيل رجع ونزل هنالك سفيان بن عوف الأزديّ فشتّى بها وتوفي هنالك انتهى. وغزا بالصائفة محمد بن عبد الله الثقفيّ، ثم دخل عبد الرحمن ابن أمّ الحكم سنة ثلاث وخمسين إلى أرض الروم وشتّى بها وافتتحت في هذه السنة رودس، فتحها جنادة بن أبي أميّة الأزديّ ونزلها المسلمون على حذر من الروم، ثم كانوا يعترضونه في البحر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 ويأخذون سفنه، وكان معاوية يدركهم بالعطاء حتى خافهم الروم ثم نقلهم يزيد في ولايته. ثم دخل سنة أربع وخمسين الى بلاد الروم محمد بن مالك وشتى بها وغزا بالصائفة [1] ابن يزيد السلميّ، وفتح المسلمون جزيرة أروى قرب القسطنطينيّة ومقدمهم جنادة بن أبي أمية، فملكوها سبع سنين ونقلهم يزيد في ولايته وفي سنة خمس وخمسين كان شتّى سفيان بن عوف بأرض الروم، وقيل عمر بن محرز وقيل عبد الله بن قيس. وفي سنة ست وخمسين كان شتّى جنادة بن أبي أميّة، وقيل عبد الرحمن بن مسعود، وقيل غزا في البحر يزيد ابن سمرة. وفي البرّ عياض بن الحرث. وفي سنة سبع وخمسين كان شتّى عبد الله بن قيّس بأرض الروم. وغزا مالك بن عبد الله الخثعميّ في البرّ، وعمر بن يزيد الجهنيّ في البحر. وفي سنة ثمان وخمسين كان شتّى عمر بن مرّة الجهنيّ بأرض الروم، وغزا في البحر جنادة بن أميّة. وفتح المسلمون في هذه السنة حصن كفخ من بلاد الروم، وعليهم عمير بن الحباب السلميّ صعد سورها وقاتل عليه وحده حتى انكشف الروم وفتحه. وفي سنة ستين غزا مالك بن عبد الله سويّة وملك جنادة بن أبي أمية رودس وهدم مدينتها. وفاة معاوية وتوفي معاوية سنة ستين وكان خطب الناس قبل موته وقال: إني كزرع مستحصد وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أنّ من كان قبلي خير مني. وقد قيل من أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه. اللَّهمّ إني قد أحببت لقاءك فاحبب لقائي وبارك لي. فلم يمض إلا قليل حتى ازداد به مرضه فدعا ابنه يزيد وقال: يا بنيّ إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأمور وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد. وإني لا أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الّذي انتسب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر. فأمّا ابن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق غيره بايعك. وأمّا الحسين فإنّ أهل العراق لم يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإنّ له رحما ما مثله وحقا   [1] بياض في الأصل وفي الطبري ج 3 ص 164: «ففيها كان مشتى محمد بن مالك أرض الروم وصائفة معن بن يزيد السلمي» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 عظيما. وأمّا ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله وليس له همّة إلّا في النساء. وأمّا الّذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها بك وقدرت عليه فقطعه إربا إربا. هذا حديث الطبري عن هاشم وله عن هاشم من طريق آخر قال: لما حضرت وفاة معاوية سنة ستين كان يزيد غائبا فدعا بالضحّاك بن قيس الفهريّ وكان صاحب شرطته، ومسلم بن عتبة المزنيّ فقال: أبلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنّهم أهلك فأكرم من قدم إليك منهم وتعاهد من غاب. وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف. وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإن رابك شيء من عدوّك فانتصر بهم، فإذا أصبتم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن قاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم ولست أخاف عليك من قريش إلّا ثلاثا ولم يذكر في هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر. وقال في ابن عمر: قد وقذه الدين فليس ملتمسا شيئا قبلك وقال في الحسين: ولو أني صاحبه عفوت عنه. وأنا أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه. وقال في ابن الزبير: إذا شخص إليك فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحا فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت. (وتوفي في منتصف رجب) ويقال جمادى لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته وكان على خاتمه عبد الله بن محصن الحميريّ وهو أوّل من اتخذ ديوان الخاتم، وكان سببه أنه أمر لعمر بن الزبير بمائة ألف درهم، وكتب له بذلك إلى زياد بالعراق، ففض عمر الكتاب وصيّر المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، وأخذ عمر بردّها وحبسه فأدّاها عنه أخوه عبد الله فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم، وحزم الكتب ولم تكن تحزم وكان على شرطته قيس بن همزة الهمدانيّ، فعزله ابن بيد بن عمر العدويّ، وكان على حرسه المختار من مواليه. وقيل أبو المحارى مالك مولى حميرة وهو أوّل من اتخذ الحرس. وعلى حجابه مولاه سعد، وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي، وعلى القضاء فضالة بن عبد الله الأنصاري وبعده أبو دويس عائذ بن عبد الله الخولانيّ. بيعة يزيد بويع يزيد بعد موت أبيه وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 ابن سعيد بن العاص، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير. ولم يكن همّه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد بموت معاوية، وأن يأخذ حسينا وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية، استرجع وترحم، واستشار الوليد في أمر أولئك النفر، فأشار عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا وإلا قتلهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فيثب كل رجل منهم في ناحية، إلّا ابن عمر فإنه لا يحب القتال، ولا يحب الولاية، إلا أن يرفع إليه الأمر. فبعث الوليد لوقته عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث، فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس وقال: أجيبا الأمير فقالا: لا تنصرف إلا أن نأتيه، ثم حدّثا فيما بعث إليهما، فلم يعلموا ما وقع. وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار اليه فأجلسهم بالباب، وقال إنّ دعوتكم أو سمعتم صوتي عاليا فادخلوا بأجمعكم. ثم دخل فسلّم ومروان عنده فشكرهما على الصلة بعد القطيعة، ودعا لهما بإصلاح ذات البين فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية ودعاه إلى البيعة، فاسترجع وترحم وقال: مثلي لا يبايع سرّا ولا يكتفى بها مني، فإذا ظهرت إلى الناس ودعوتهم كان أمرنا واحدا وكنت أوّل مجيب فقال الوليد وكان يحب المسالمة: انصرف. فقال مروان: لا يقدر منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينهم، ألزمه البيعة وإلا اضرب عنقه. فوثب الحسين وقال أنت تقتلني أو هو! كذبت والله! وانصرف إلى منزله. وأخذ مروان في عذل الوليد. فقال: يا مروان والله ما أحب أنّ لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت الحسين إن قال لا أبايع. واما ابن الزبير فاختفى في داره وجمع أصحابه، وألح الوليد في طلبه، وبعث مواليه فشتموه وهدّدوه، وأقاموا ببابه في طلبه، فبعث ابن الزبير أخاه جعفرا يلاطف الوليد ويشكو ما أصابه من الذعر، ويعده بالحضور من الغداة، وأن يصرف رسله من بابه، فبعث إليهم وانصرفوا. وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما، وأخذا طريق الفرع إلى مكة فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه ورجعوا وتشاغلوا بذلك عن الحسين سائر يومه. ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال: أصبحوا وترون وفري. وسار في الليلة الثانية ببنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية، وكان قد نصحه وقال تنحّ عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث دعاتك إلى الناس، فإن أجابوك فاحمد الله، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 اجتمعوا على غيرك فلم يضرّ بذلك دينك ولا عقلك، ولم تذهب به مروأتك ولا فضلك، وأنا أخاف أن تأتي مصرا أو قوما فيختلفون عليك، فتكون الأوّل إساءة، فإذا خير الأمّة نفسا وأبا أضيعها ذمارا وأذلها. قال له الحسين: فإنّي ذاهب قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن فاتت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال. ومن بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس، وتعرف الرأي فقال يا أخي نصحت وأشفقت! ولحق بمكة. وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع فقال: أنا أبايع أمام الناس، وقيل ابن عمر وابن عبّاس كانا بمكة، ورجعا إلى المدينة فلقيا الحسين وابن الزبير وأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر: لا تفرّقا جماعة المسلمين، وقدم هو وابن عبّاس المدينة وبايعا عنه بيعة الناس ولما دخل ابن الزبير مكة وعليها عمر بن سعيد قال: أنا عائد بالبيت، ولم يكن يصلي ولا يقف معهم ويقف هو وأصحابه ناحية. عزل الوليد عن المدينة وولاية عمر بن سعيد ولما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر، عزله عن المدينة واستعمل عليها عمر بن سعيد الأشرق فقدمها في رمضان واستعمل على شرطته عمر ابن الزبير بالمدينة لما كان بينه وبين أخيه من البغضاء، وأحضر نفرا من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم. ثم جهّز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها، وقال لعمر بن الزبير: من نبعث إلى أخيك؟ فقال: لا تجد رجلا أنكى له مني. فجهز معه سبعمائة مقاتل فيهم أنيس بن عمرو الأسلمي. وعذله مروان بن الحكم في غزو مكة وقال له: اتّق الله ولا تحلّ حرمة البيت فقال: والله لنغزونه في جوف الكعبة وجاء أبو شريح الخزاعيّ إلى عمر بن سعيد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس. فقال له عمر: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ. وقيل إنّ يزيد كتب إلى عمر بن سعيد أن يبعث عمر بن الزبير بالجيش إلى أخيه، فبعثه في ألفي مقاتل وعلى مقدّمته أنيس. فنزل أنيس بذي طوى ونزل عمر بالأبطح وبعث إلى أخيه أن برّ يمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 يزيد، فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلّا أن يؤتى بك في جامعه فلا يضرب الناس بعضهم بعضا، فإنك في بلد حرام. فأرسل عبد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عبد الله بن صفوان فهزموا أنيسا بذي طوى وقتل أنيس في الهزيمة وتخلّف عن عمر بن الزبير أصحابه فدخل دار ابن علقمة وأجاره عبدة بن الزبير. وقال لأخيه: قد أجرته فأنكر ذلك عليه. وقيل: إنّ صفوان قال لعبد الله بن الزبير: اكفني أخاك أنا أكفيك أنيس بن عمرو، وسار إلى أنيس فهزمه وقتله. وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمر فتفرّق عنه أصحابه، وأجاره أخوه عبدة، فلم يجز أخوه عبد الله جواره وضربه بكل من ضربه بالمدينة وحبسه بسجن عارم ومات تحت السياط. مسير الحسين إلى الكوفة ومقتله ولما خرج الحسين إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع وسأله أين تريد؟ فقال: مكة وأستخير الله فيما بعد، فنصحه أن لا يقرب الكوفة، وذكره قتلهم أباه وخذلانهم أخاه، وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس. ورجع عنه وترك الحسين بمكّة فأقام والناس يختلفون إليه، وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار، ويأتي الحسين فيمن يأتي ويعلم أنّ أهل الحجاز لا يلقون إليه مع الحسين. ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد ولحاق الحسين بمكة اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان والمسيب بن محمد، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب ابن مظاهر وغيرهم يستدعونه وأنهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعة ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ، وعبد الله بن وال ثم كتبوا إليه ثانيا بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة، ثم ثالثا يستحثونه للحاق بهم كتب له بذلك شيث بن ربعيّ وحجاز بن ابجر ويزيد بن الحرث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجّاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي فأجابهم الحسين: فهمت ما قصصتم وقد بعثت إليكم ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، يكتب إليّ بأمركم ورأيكم، فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم عليكم قريبا. ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدين بدين الحق. وسار مسلم فدخل المدينة وصلى في المسجد وودّع أهله واستأجر دليلين من قيس فضلّا الطريق وعطش القوم فمات الدليلان بعد أن أشارا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 إليهم بموضع الماء، فانتهوا إليه وشربوا ونجوا فتطيّر مسلم من ذلك، وكتب إلى الحسين يستعفيه. فكتب إليه خشيت أن لا يكون حملك على ذلك إلّا الجبن، فامض لوجهك والسلام. وسار مسلم فدخل الكوفة أوّل ذي الحجة من سنة ستين، واختلف إليه الشيعة وقرأ عليهم كتاب الحسين، فبكوا ووعدوه النصر وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة وكان حليما يجنح إلى المسالمة، فخطب وحذّر الناس الفتنة. وقال: لا أقاتل من لا يقاتلني ولا آخذ بالظنّة والتهمة، ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فو الله لأضربنّكم بسيفي ما دام قائمته بيدي، ولو لم يكن لي ناصر فقال له بعض حلفاء بني أمية: لا يصلح ما ترى إلا الغشم، وهذا الّذي أنت عليه مع عدوّك رأي المستضعفين فقال: أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب اليّ من أن أكون من الأعزين في معصية الله. ثم تركه فكتب عبد الله بن مسلم وعمارة بن الوليد وعمارة بن سعد بن أبي وقّاص إلى يزيد بالخبر، وتضعف النعمان وضعفه فابعث إلى الكوفة رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل عملك في عدوّك فأشار عليه سرجون [1]   [1] هنا بياض بالأصل نحو ثلاث ورقات. وجاء في الكامل لابن الأثير ج 4 ص 22 وما بعدها (طبعة دار صادر) : «فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية فأقرأه الكتب، واستشاره فيمن يوليه الكوفة، وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية كنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم! قال: فاخرج عهد عبيد الله على الكوفة. فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه. وجمع الكوفة والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره اليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه. فلما وصل كتابه إلى عبيد الله أمر بالتجهّز ليبرز من الغد. وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخة واحدة إلى الاشراف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله ... ص 23» . وجاء في الطبري ج 6 ص 200 (طبعة مصر) : «وقد كان حسين كتب إلى أهل البصرة كتابا. قال هشام، قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن أبي عثمان النهديّ قال: كتب حسين مع مولى لهم يقال له سليمان وكتب بنسخة إلى رءوس الأخماس بالبصرة والى الاشراف. فكتب إلى مالك بن مسمع البكري والى الأحنف بن قيس والى المنذر بن الجارود والى مسعود بن عمرو والى قيس بن الهيثم والى عمر بن عبد الله بن معمر. فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع اشرافها وهذا نصه: «أما بعد فان الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته. ثم قبضه الله اليه. وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وسلم. وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة. وأحببنا العافية ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه. وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم. وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وانا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه (ص) . فان السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28   [ () ] مسير الحسين إلى الكوفة ووقعة كربلاء: انها وقعة عظيمة، وهي ضمن الأوراق البيضاء في هذا الكتاب، تاريخ العبر للعلامة ابن خلدون. ذكرها الطبري باسهاب في الجزء السادس من ص (194) إلى ص (271) . وذكرها ابن الأثير في تاريخ الكامل في ج 4 ص 37 وما بعدها إلى ص 94 وقد أثبتنا هنا عن هذه الوقعة ما ورد في تاريخ المختصر في أخبار البشر لابي الفداء صاحب حماه ج 2. ص 104- 107 طبعة بيروت.» ومن أراد زيادة الإسهاب فليرجع الى التواريخ المطولة. ذكر مسير الحسين إلى الكوفة كما ورد بتاريخ ابو الفداء وورد على الحسين مكاتبات يحثونه على المسير اليهم ليبايعوه، وكان العامل عليها النعمان ابن بشير الأنصاري، فأرسل الحسين إلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليأخذ البيعة عليهم، فوصل إلى الكوفة وبايعه بها، قيل ثلاثون الفا، وقيل ثمانية وعشرون ألف نفس، وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولى على الكوفة عبيد الله بن زياد وكان واليا على البصرة فقدم الكوفة ورأى ما الناس عليه، فخطبهم وحثهم على طاعة يزيد بن معاوية، واستمر مع مسلم بن عقيل من كان بايعه للحسين، وحصروا عبيد الله بن زياد بقصره، ولم يكن مع عبيد الله في القصر أكثر من ثلاثين رجلا، ثم ان عبيد الله أمر أصحابه ان يشرفوا من القصر ويمنوا أهل الطاعة ويخذلوا أهل المعصية، حتى ان المرأة ليأتي ابنها وأخاها فتقول انصرف ان الناس يكفونك، فتفرق الناس عن مسلم، ولم يبق مع مسلم غير ثلاثين رجلا، فانهزم واستتر، ونادى منادي عبيد الله بن زياد من أتى بمسلم بن عقيل فله ديته، فأمسك مسلم واحضر اليه، ولما حضر مسلم بين يدي عبيد الله شتمه وشتم الحسين وعليا وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته من القصر، ثم أحضر هانئ بن عروة وكان ممن أخذ البيعة للحسين فضرب عنقه أيضا، وبعث برأسيهما الى يزيد بن معاوية، وكان مقتل مسلم بن عقيل لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وأخذ الحسين وهو بمكة في التوجه الى العراق، وكان عبد الله بن عباس يكره ذهاب الحسين إلى العراق خوفا عليه، وقال للحسين يا ابن العم إني أخاف عليك أهل العراق، فإنهم قوم أهل غدر، وأقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، وان أبيت الا أن تخرج فسر الى اليمن، فان بها شيعة لأبيك وبها حصون وشعاب، فقال الحسين يا ابن العم اني أعلم والله أنك ناصح مشفق، ولقد أزمعت وأجمعت، ثم خرج ابن عباس من عنده وخرج الحسين من مكة يوم التروية سنة ستين، واجتمع عليه جماعة من العرب، ثم لما بلغه مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه، اعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يمينا وشمالا، ولما وصل الحسين الى مكان يقال له سراف، وصل اليه الحر صاحب شرطة عبيد الله بن زياد في الفي فارس، حتى وقفوا مقابل الحسين في حر الظهيرة، فقال لهم الحسين ما أتيت الا بكتبكم فان رجعتم رجعت من هنا، فقال له صاحب شرطة ابن زياد انا أمرنا ان لا نفارقك حتى نوصلك الكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أهون من ذلك، وما زالوا عليه حتى سار مع صاحب شرطة ابن زياد (ثم دخلت سنة احدى وستين) . ذكر مقتل الحسين كما ورد في تاريخ ابو الفداء ولما سار الحسين مع الحر ورد كتاب من عبيد الله بن زياد الى الحر يأمره ان ينزل الحسين ومن معه على غير ماء، فأنزلهم في الموضع المعروف بكربلاء، وذلك يوم الخميس ثاني المحرم من هذه السنة أي سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 مسيرة المختار الى الكوفة وأخذها من ابن المطيع بعد وقعة كربلاء مضى إبراهيم الى المختار وأخبره الخبر وبعثوا في الشيعة ونادوا بثأر الحسين، ومضى   [ () ] احدى وستين، ولما كان من الغد قدم من الكوفة عمر بن سعد ابن أبي وقاص بأربعة آلاف فارس، أرسله ابن زياد لحرب الحسين، فسأله الحسين في أن يمكن اما من العود من حيث أتى، واما ان يجهز الى يزيد بن معاوية، واما ان يمكن أن يلحق بالثغور، فكتب عمر الى ابن زياد يسأل أن يجاب الحسين الى أحد هذه الأمور، فاغتاظ ابن زياد فقال لا ولا كرامة، فأرسل مع شمر بن ذي الجوشن الى عمر بن سعد، اما ان تقاتل الحسين وتقتله وتطأ الخيل جثته، واما ان تعتزل ويكون الأمير على الجيش شمر، فقال عمر بن سعد بل أقاتله، ونهض عشية الخميس تاسع المحرم من هذه السنة، والحسين جالس امام بيته بعد صلاة العصر. فلما قرب الجيش منه سألهم مع أخيه العباس ان يمهلوه الى الغد، وانه يجيبهم الى ما يختارونه فأجابوه إلى ذلك. وقال الحسين لأصحابه اني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذا الليل وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فقال اخوه العباس لم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا! ثم تكلم اخوته وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر في نحو ذلك، وكان الحسين وأصحابه يصلون الليل كله ويدعون، فلما أصبحوا ركب عمر بن سعد في أصحابه وذلك يوم عاشوراء من المذكورة، وعبى الحسين أصحابه وهم اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا. ثم حملوا على الحسين وأصحابه واستمر القتال الى وقت الظهر من ذلك اليوم، فصلى الحسين وأصحابه صلاة الخوف. واشتد بالحسين العطش، فتقدم ليشرب فرمي بسهم فوقع في فمه. ونادى شمر: ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه، فضربه زرعة بن شريك على كتفه، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح، فوقع فنزل اليه فذبحه واحتز رأسه. وقيل ان الّذي نزل واحتز رأسه هو شمر المذكور، وجاء به الى عمر بن سعد، فأمر عمر بن سعد جماعة فوطئوا صدر الحسين وظهره بخيولهم، ثم بعث بالرءوس والنساء والأطفال الى عبيد الله بن زياد فجعل ابن زياد يقرع فم الحسين بقضيب في يده، فقال له زيد بن أرقم ارفع هذا القضيب فو الّذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (ص) على هاتين الشفتين. ثم بكى، وروي انه قتل مع الحسين من أولاد علي أربعة هم العباس وجعفر ومحمد وأبو بكر ومحمد، ومن أولاد الحسين أربعة، وقتل عدة من أولاد عبد الله بن جعفر ومن أولاد عقيل. ثم بعث ابن زياد بالرءوس وبالنساء والأطفال. ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم، وأن يبعث معهم أمينا يوصلهم الى المدينة، فجهزهم الى المدينة، ولما وصلوا اليها لقيهم نساء بني هاشم حاسرات وفيهن ابنة عقيل بن أبي طالب وهي تبكي وتقول: ماذا تقولون ان قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... ان تخلفوني بسوء في ذوي رحمي (واختلف) في موضع الحسين فقيل جهز الى المدينة ودفن عند امه. وقيل دفن عند باب الفراديس، وقيل ان خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رأسا الى القاهرة ودفنوه بها وبنوا عليه مشهدا يعرف بمشهد الحسين، وقد اختلف في عمره والصحيح انه خمس وخمسون سنة وأشهر. وقيل حج الحسين خمسا وعشرين حجة ماشيا، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة (وأما) عبد الله بن الزبير فإنه استمر بمكة ممتنعا عن الدخول في طاعة يزيد بن معاوية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 إبراهيم إلى النخع فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلا وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء ثم لقي بعضهم فهزمهم، ثم آخرين كذلك ثم رجع إلى المختار فوجد شيث بن ربعيّ وحجاز بن أبجر العجليّ يقاتلانه فهزمهما، وحاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم قبل فولّى أمرهم فركب واجتمع الناس وتوافي إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة وبعث ابن مطيع شيث بن ربعي في ثلاثة آلاف، وربع بن إياس في أربعة آلاف فسرّح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائة راجل ونعيم بن هبيرة لشيث في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل واقتتلوا من بعد صلاة الصبح. وقتل نعيم فوهن المختار لقتله وظهر شيث وأصحابه عليهم وقاتل إبراهيم بن الأشتر راشد بن إياس فقتله، وانهزم أصحابه وركبهم الفشل. وبعث ابن المطيع جيشا كثيفا فهزمهم، ثم حمل على شيث فهزمه، وبعث المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة. ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش فشجعه عمر ابن الحجّاج الزبيديّ وقال له: اخرج واندب الناس ففعل. وقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم وندبهم ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين وشمر بن ذي الجوشن في ألفين ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف. ووقف هو بكتائبه. واختلف على القصر شيث بن ربعي فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه وأسره، ثم من عليه ودخل ابن مطيع القصر وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثا ومعه يزيد بن أنس وأحمد بن شميط، ولما اشتدّ الحصار على ابن مطيع، أشار عليه شيث بن ربعي بأن يستأمن للمختار، ويلحق بابن الزبير وله ما يعده. فخرج عنهم مساء ونزل دار أبي موسى واستأمن القوم للمختار فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد فخطبهم، ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية، فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة، واللطف بأهل البيت، ووعدهم بحسن السيرة وبلغه أنّ ابن مطيع في دار أبي موسى فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال يجهز بهذه. وكان ابن مطيع قد فرّق بيوت الأموال على الناس، وسار ابن مطيع إلى وجهه وملك الكوفة، وجعل على شرطته عبد الله بن كامل، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة، وجعل الأشراف جلساءه، وعقد لعبد الله بن الحرث بن الأشتر على أرمينية، ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، ولعبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، ولإسحاق بن مسعود على المدائن، ولسعد بن حذيفة ابن اليمان على حلوان. وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة. وولى شريحا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 القضاء ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على حجر بن عديّ، ولم يبلغ عن هانئ بن عروة رسالته إلى قومه وأنّ عليّا غرمه وأنه عثمانيّ [1] . وسمع ذلك هو فتمارض فجعل مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم مرض فولّى مكانه عبد الله بن مالك الطائيّ. مسيرة ابن زياد الى المختار وخلافة أهل الكوفة عليه كان مروان بن الحكم لما استوثق له الشام بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز مع جيش ابن دلجة القينيّ وقد شاتة ومقتلة [2] . والآخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد فكان من أمره وأمر التوّابين من الشيعة ما تقدّم وأقام محاصرا لزفر بن الحرث بقرقيسياء، وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير، فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها. ثم توفي مروان وولي بعده عبد الملك فأقرّه على ولايته وأمره بالجدّ ويئس من أمر زفر وقيس، فنهض إلى الموصل فخرج عنها عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت، وكتب إلى المختار بالخبر، فبعث يزيد بن أنس الأسديّ في ثلاثة آلاف إلى الموصل، فسار إليها على المدائن وسرّح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنويّ في ثلاثة آلاف فالتقيا ببابل وعبّأ يزيد أصحابه وهو راكب على حمار وحرّضهم، وقال: إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسديّ وإن هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري، وإن هلك فسعد الخثعميّ. ثم اقتتلوا يوم عرفة وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة، وسار الفلّ غير بعيد فلقيهم عبد الله بن حملة الخثعميّ قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف فردّ المنهزمين وعاد القتال يوم الأضحى، فانهزم أهل الشام وأثخن فيهم أهل الكوفة بالقتل والنهب، وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم. وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفته، وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد، وقال: نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك. وانصرف الناس وتقدّم الخبر إلى الكوفة فأرجف الناس بالمختار وأشيع أنّ يزيد قتل وسرّ المختار رجوع العسكر فسرّح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف وضم إليه جيش يزيد ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك. ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شيث بن ربعي وكان شيخهم جاهليا اسلاميا، وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم، ودعوه إلى الوثوب به. فقال: حتى ألقاه وأعذر إليه، ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما نكروه فوعده   [1] نسبة الى عثمان بن عفان. [2] لم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه الأسماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 الرجوع إلى مرادهم، وذكر له شأن الموالي وشركتهم في الفيء فقال: إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أمية وابن الزبير تركتهم فقال: اخرج إليهم بذلك وخرج فلم يرجع. واجتمع رأيهم على قتاله وهم شيث بن ربعي ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعد بن قيس وشمر بن ذي الجوشن وكعب بن أبي كعب النخعيّ، وعبد الرحمن بن مخنف الأزديّ. وقد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشام وأهل البصرة فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم وهم عليكم أشدّ، فأبوا من رأيه وقالوا: لا تفسد جماعتنا. ثم خرجوا وشهروا السلاح وقالوا للمختار: اعتزلنا فإنّ ابن الحنفية لم يبعثك. قال: نبعث إليه الرسل مني ومنكم، وأخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات وكفّ أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر، وقد بعث إليه بالرجوع فجاء فرأى القوم مجتمعين ورفاعة بن شدّاد البجليّ [1] يصلي بهم. فلما وصل إبراهيم عبّأ المختار أصحابه وسرح بين يديه أحمد ابن شميط البجليّ وعبد الله بن كامل الشادي فانهزم أصحابهما وصبرا ومدّهما المختار بالفرسان والرجال فوجا بعد فوج، وسار ابن الأشتر الى مصر وفيهم شيث ابن ربعيّ فقاتلوه فهزمهم فاشتدّ ابن كامل على اليمن ورجع رفاعة بن شدّاد أمامهم إلى المختار فقاتل معه حتى قتل من أهل اليمن عبد الله بن سعيد بن قيس، والفرات ابن زخر بن قيس، وعمر بن مخنف، وخرج أخوه عبد الرحمن فمات وانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم فكانوا نصفهم وأطلق الباقين ونادى المختار الأمان إلا من شهد في دماء أهل البيت وفرّ عمر بن الحجّاج الزبيدي، وكان أشدّ من حضر قتل الحسين، فلم يوقف له على خبر وقيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا رأسه، وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن، فقتل طالبه وانتهى إلى قرية الكلبانية فارتاح يظنّ أنه نجا. وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار، بعثه مسلخة بينه وبين أهل البصرة، فنمي إليه خبره فركب إليه فقتله وألقى شلوه للكلاب وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا أكثرهم من اليمن، وكان آخر سنة ست وستين، وخرج أشراف الناس إلى البصرة وتتبع المختار قتلة الحسين ودلّ على عبيد الله بن أسد الجهنيّ ومالك بن نسير الكنديّ. وحمل ابن مالك المحاربيّ بالقادسية فأحضرهم وقتلهم. ثم أحضر زياد بن مالك   [1] وفي نسخة ثانية: الجبيليّ. ابن خلدون م 3 ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 الضبعيّ وعمران بن خالد العثريّ وعبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي، وعبد الله ابن قيس الخولانيّ، وكانوا نهبوا من الورث الّذي كان مع الحسين فقتلهم وأحضر عبد الله أو عبد الرحمن بن طلحة وعبد الله بن وهيب الهمدانيّ ابن عم الأعشى فقتلهم. وأحضر عثمان بن خالد الجهنيّ وأبا أسماء بشر بن سميط القابسيّ، وكانا مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فقتلهما وحرقهما بالنار. وبحث عن خولي بن يزيد الأصبحيّ صاحب رأس الحسين، فجيء برأسه وحرق بالنار. ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه عبد الله بن أبي جعدة ابن هبيرة فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده فقال: تعرف هذا؟ قال: نعم! ولا خير في العيش بعده فقتله. ويقال: إن الّذي بعث المختار على قتلة الحسين أنّ يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية، فقال له ابن الحنفية: يزعم المختار أنه لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدّثونه فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل وبعث برأس عمر وابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي، وكان رمى الحسين بسهم، وأصاب سلب العباس ابنه. وجاء عديّ بن حاتم يشفع فيه فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذرا من قبول المختار شفاعته. وبحث عن مرّة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين فدافع عن نفسه ونجا إلى مصعب بن الزبير وقد شلّت يده بضربة وبحث عن زيد وفاد الحسين [1] قاتل عبد الله بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته وقتله بالأخرى فخرج بالسيف يدافع. فقال ابن كامل: ارموه بالحجارة فرموه حتى سقط وأحرقوه حيّا. وطلب سنان بن أنس الّذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة. وطلب عمر بن صبح الصدائي فقتله طعنا بالرماح، وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسيّة فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره. وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين فلحقوا بمصعب وهدم دورهم.   [1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 243: «وبعث المختار الى زيد بن رقاد الجنبيّ أو الحبّاني» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 شأن المختار مع ابن الزبير كان على البصرة الحرث بن أبي ربيعة وهو القبّاع عاملا لابن الزبير. وعلى شرطته عبّاد بن حسين وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم. وجاء المثنّى بن مخرمة العبديّ وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد، ورجع فبايع للمختار وبعثه إلى البصرة يدعو له بها فأجابه كثير من الناس، وعسكر لحرب القبّاع. فسرّح إليه عبّاد بن حسين وقيس بن الهيثم في العساكر فانهزم المثنّى إلى قومه عبد القيس، وأرسل القبّاع عسكرا يأتونه به فجاءه زياد بن عمر العنكبيّ فقال له: لتردنّ خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنّهم فأرسل الأحنف بن قيس وأصلح الأمر على أن يخرج المثنّى عنهم فسار إلى الكوفة. وقد كان المختار لما أخرج ابن مطيع من البصرة كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتمّ أمره في الدعاء لأهل البيت، وطلب المختار في الوفاء بما وعده به من الولاية، فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره، فولّى عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام على الكوفة، وأعلمه بطاعة المختار وبعثه إليها وجاء الخبر إلى المختار، فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس، وأعطاه سبعين ألف درهم، وقال: ادفعها إلى عمر فهي ضعف ما أنفق، وأمره بالانصراف بعد تمكث، فإن أبى فأره الخيل فكان كذلك. ولما رأى عمر الخيل أخذ المال وسار نحو البصرة، واجتمع هو وابن مطيع في امارة القبّاع قبل وثوب ابن مخرمة. وقيل إنّ المختار كتب إلى ابن الزبير: إني اتخذت الكوفة دارا فإن سوّغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم سرت إلى الشام وكفيتك مروان، فمنعه من ذلك فأقام المختار بطاعته ويوادعه ليتفرّغ لأهل الشام ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحرث ابن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى فسرّح شرحبيل ابن دوس الهمدانيّ في ثلاثة آلاف أكريم [1] من الموالي وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك، واتهمه ابن الزبير فبعث من مكّة عبّاس بن سهل بن سعد في ألفين وأمره أن يستنفر العرب وإن رأى من جيش المختار خلافا ناجزهم وأهلكهم. فلقيهم عبّاس   [1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 247: فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمدانيّ فسيّره في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 بالرقيم وهم على تعبية فقال: سيروا بنا إلى العدوّ الّذي بوادي القرى. فقال ابن دوس: إنما أمرني المختار أن آتي المدينة ففطن عبّاس لما يريد فأتاهم بالعلوفة والزاد وتخيّر ألفا من أصحابه وحمل عليهم فقتل ابن دوس وسبعين معه من شجعان قومه وأمن الباقين فرجعوا للكوفة، ومات أكثرهم في الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير، ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته، ففعل بهم ابن الزبير ما فعل. ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة ويبعث ابن الحنفية عليهم رجلا من قبله فيفهم الناس أني في طاعتك، فكتب إليه ابن الحنفية قد عرفت قصدك ووفاءك بحقي وأحبّ الأمر إليّ الطاعة، فأطع الله وتجنب دماء المسلمين. فلو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعا والأعوان كثيرا لكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. (ثم دعا ابن الزبير) محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة فامتنع وبعث إليه ابن الزبير وأغلظ عليه وعليهم، فاستكانوا وصبروا فتركهم. فلما استولى المختار على الكوفة وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به، فاعتزم عليهم في البيعة، وتوعدهم بالقتل، وحبسهم بزمزم، وضرب لهم أجلا وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فأخبر الشيعة وندبهم وبعث أمراء منهم في نحو ثلاثمائة، عليهم أبو عبد الله الجدلي وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم وساروا إلى مكّة فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم وطفقوا ينادون بثأر الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم وأخرج ابن الحنفية وكان قد بقي من أجله يومان، واستأذنوه في قتال ابن الزبير. فقال: لا أستحلّ القتال في الحرم ثم جاء باقي الجند وخافهم ابن الزبير وخرج ابن الحنفية إلى شعب عليّ واجتمع له أربعة آلاف رجل فقسم بينهم المال. (ولما قتل المختار) واستوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم في البيعة فخافه على نفسه وكتب لعبد الملك فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر الناس ووعده بالإحسان. وخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام. ولما وصل مدين لقيه خبر مهلك عمر بن سعيد فندم وأقام بأيلة، وظهر في الناس فضله وعبادته وزهده وكتب له عبد الملك أن يبايعه فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي طالب، فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف، وعذل ابن عبّاس ابن الزبير على شأنه، ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هنالك وصلى عليه ابن الحنفية وعاش إلى أن أدرك حصار الحجّاج لابن الزبير. (ولما قتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ابن الزبير) بايع لعبد الملك وكتب عبد الملك إلى الحجّاج بتعظيم حقه وبسط أمله، ثم قدم إلى الشام وطلب من عبد الملك أن يرفع حكم الحجّاج عنه ففعل، وقيل إنّ ابن الزبير بعث إلى ابن عبّاس وابن الحنفية في البيعة حتى يجتمع الناس على إمام، فإنّ في هذه فتنة فحبس ابن الحنفية في زمزم وضيق على ابن عبّاس في منزله وأراد إحراقهما فأرسل المختار جيشه كما تقدّم ونفس عنهما ولما قتل المختار قوى ابن الزبير عليهما فخرجا إلى الطائف. مقتل ابن زياد ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين بعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد وبعث معه وجوه أصحابه وفرسانهم وشيعته وأوصاه، وبعث معه بالكرسي الّذي كان يستنصر به وهو كرسيّ قد غشاه بالذهب وقال للشيعة: هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل، فكبر شأنه وعظم. وقاتل ابن زياد فكان له الظهور وافتتن به الشيعة، ويقال: إنه كرسي عليّ بن أبي طالب، وإنّ المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة، وكانت أمّه أمّ هانئ بنت أبي طالب فهو ابن أخت عليّ. ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في السير وأوغل في أرض الموصل، وكان ابن زياد قد ملكها كما مرّ. فلما دخل إبراهيم أرض الموصل عبّى أصحابه، ولما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، ونزل ابن زياد قريبا من النهر وكانت قيس مطبقة على بني مروان عند المرج، وجند عبد الملك يومئذ [1] فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر وأوعده أن ينهزم بالميسرة، وأشار عليه بالمشاجرة ورأى عند ابن الأشتر ميلا إلى المطاولة فثناه عن ذلك وقال: إنهم   [1] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 261: فسار إبراهيم وخلّف أرض العراق وأوغل في أرض الموصل وجعل على مقدمته الطفيل بن لقيط النّخعيّ، وكان شجاعا. فلما دنا ابن زياد عبّأ أصحابه ولم يسر إلّا على تعبية واجتماع، إلا أنه يبعث الطفيل على الطلائع حتى يبلغ نهر خازر من بلد الموصل فنزل بقرية بارشيا. واقبل ابن زياد اليه حتى نزل إليه حتى نزل قريبا منهم على شاطئ الخازر. وأرسل عمير بن الحباب السلمي وهو من أصحاب ابن زياد، الى ابن الأشتر أن القني، وكانت قيس كلها مضطفنة على ابن مروان وقصة مرج راهط وجند عبد الملك يومئذ كلب ... » وفي الطري ج 7 ص 142: «وجاء عبد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر، وأرسل عمير بن الحباب السلمي إلى ابن الأشتر: اني معك وانا أريد الليلة لقاءك فأرسل إليه ابن الأشتر ان القني إذا شئت. وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم بجدل، فأتاه عمير ليلا فبايعه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 ميلوا [1] منكم رعبا وإن طاولتهم اجترءوا عليكم قال: وبذاك أوصاني صاحبي. ثم عبّى أصحابه في السحر الأوّل، ونزل يمشي ويحرّض الناس حتى أشرف على القوم وجاءه عبد الله بن زهير السلولي بأنهم خرجوا على دهش وفشل وابن الأشتر يحرّض أصحابه ويذكّرهم أفعال ابن زياد وأبيه. ثم التقى الجمعان وحمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم فقتل علي بن مالك الخثعميّ، ثم أخذ الراية فرد بن علي فقتل، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ورجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا. وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالا شديدا. وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم، فاقتتلوا أشدّ قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القصارين، وإبراهيم يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم. ثم حملوا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب ابن زياد. وقال ابن الأشتر إني قتلت رجلا تحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك وضربته بسيفي فقصمته نصفين فالتمسوه فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه وأحرقت جثته. وحمل شريك بن جدير الثعلبي على الحصين بن نمير فاعتقله وجاء أصحابه فقتلوا الحصين. ويقال إنّ الّذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا، وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع وادّعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأزدي، وعبيد الله بن زهير السلمي واتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكبر ممن قتل، وغنموا جميع ما في العسكر وطرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى المختار فأتته بالمدائن وأنفذ ابن الأشتر عمّاله إلى البلاد فبعث أخاه عبد الرحمن على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة. وولّى زفر بن الحرث قيس [2] وحاتم بن النعمان الباهليّ حرّان والرهاء وشمشاط وعمير بن الحباب السلمي كفرنوبي وطور عبدين وأقام بالموصل وأنفذ رءوس عبيد الله وقوّاده إلى المختار.   [1] لا معنى للميل هنا ولعلها ملئوا. [2] «قال في المشترك: قيس بفتح القاف وسكون المثناة من تحت وفي آخرها سين مهملة. وقال في اللباب: كيش بكسر الكاف وسكون المثناة التحتية وفي آخرها شين معجمة، وجزيرة كيش بين الهند والبصرة، وبهذه الجزيرة مغاص لؤلؤ وبها نخيل محدث وأشجار جبلية وشرب أهلها من الآبار انتهى من أبي الفداء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 مسير مصعب إلى المختار وقتله إياه كان ابن الزبير في أوّل سنة سبع وستين أو آخر ست عزل الحرث بن ربيعة وهو القبّاع وولّى مكانه أخاه مصعبا فقدم البصرة وصعد المنبر وجاء الحرث فأجلسه مصعب تحته بدرجة ثم خطب وقرأ الآيات من أوّل القصص ونزل ولحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار، ودخل عليه شيث بن ربعي وهو ينادي وا غوثاه! ثم قدم محمد ابن الأشعث بعده واستوثقوه إلى المسير وبعث إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار فأبطأ وأغفل فأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه، فقال المهلب: ما وجد مصعب بريدا غيرك؟ فقال: ما أنا ببريد ولكن غلبنا عبيدنا على أبنائنا وحرمنا فأقبل معه المهلّب بالجموع والأموال وعسكر مصعب عند الجسر فأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سرّا ليثبط الناس عن المختار ويدعو إلى ابن الزبير وسار على التعبية وبعث في مقدمته عبّاد بن الحصين الحبطي التميمي وعلى ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى ميسرته المهلّب وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه، وقرّبهم إلى الخروج مع ابن شميط وعسكر محمد في أعفر وبعث رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط وأصحابه فثبتوا وحمل المهلّب من الميسرة على ابن كامل فثبت ثم كرّ المهلب وحمل حملة منكرة وصبر ابن كامل قليلا وانهزموا وحمل الناس جميعا على ابن شميط فانهزم وقتل واستمرّ القتل في الرجالة وبعث مصعب عبّادا فقتل كل أسير أخذه. وتقدّم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة فلم يدركوا منهزما إلّا قتلوه. ولما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط وحملوا الضعفاء وأثقالهم في السفن ثم خرجوا إلى نهر الفرات وسار إلى الكوفة. ولما بلغ المختار خبر الهزيمة ومن قتل من أصحابه وأنّ مصعبا أقبل إليه في البرّ والبحر سار إلى مجتمع الأنهار نهر الجزيرة والمسلحين والقادسية ونهر يسر فسكّر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار. وبقيت سفن أهل البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر وأزالوه وقصدوا الكوفة. وسار المختار ونزل حروراء بعد أن حصّن القصر وأدخل عدّة الحصار، وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلّب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 الهمدانيّ وعلى الخيل عمر بن عبيد الله النهدي. ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين. ولما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة وحمل عبد الله ابن جعدة بن هبيرة المخزوميّ على من بإزائه فحطّم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم، وحمل مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة فقتل ابن الأشعث وعامّة أصحابه، وقتل عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب وقاتل المختار. ثم افترق الناس ودخل القصر وسار مصعب من الغد فنزل السبخة وقطع عنهم الميرة وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية ففطن مصعب لذلك فمنعه وأصابهم العطش فكانوا يصبون العسل في الآبار ويشربون. ثم إنّ المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنّط وتطيّب وخرج في عشرين رجلا منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله فقال: ويحك يا أحمق وثب ابن الزبير بالحجاز، ووثب بجدة باليمامة، وابن مروان بالشام فكنت كأحدهم إلّا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عقد العرب، فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نيّة. ثم تقدّم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين طرفة وطرّاف ابني عبد الله بن دجاجة. وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر، واختفى عند بعض إخوانه، ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين وأشار عليه المهلّب باستبقائهم، فاعترضه أشراف أهل الكوفة، ورجع إلى رأيهم. ثم أمر بكف المختار ابن أبي عبيد فقطعت وسمّرت إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجّاج. وقتل زوجه عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أنّ المختار [1] فاستأذن أخاه عبد الله وقتلها. ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ووعده بولاية أعنة الخيل وما غلب عليه من المغربة. وكتب إليه عبد الملك بولاية العراق، واختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن زياد وأشراف أهل الشام وكتب إلى مصعب بالإجابة وسار إليه فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلّب بن أبي صفرة. وقيل إنّ المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة وإنه بعث على مقدّمته أحمد بن   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 275: «وقالت عمرة: رحمه الله كان عبد الله صالحا، فحبسها، وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير انها تزعم انه نبي فأمر بقتلها، فقتلت ليلا بين الكوفة والحيرة، قتلها بعض الشرط ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 شميط، وبعث مصعب عبّاد الحبطيّ ومعه عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب، وتراضوا ليلا، فناجزهم المختار من ليلته وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم واشتدّ القتال وقتل من أصحاب مصعب جماعة منهم محمد بن الأشعث فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب وليس عنده أحد فانصرف ودخل قصر الكوفة وفقد أصحابه فلحقوا به، ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم. وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل، وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعا، وكانوا ستة آلاف رجل. ولما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب فأساء السيرة وقصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن مسمع، فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة أن الحق بأبيك. وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهم مصعبا ففعل وخرج حمزة بالأموال فعرض له مالك بن مسمع وقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا فضمن له عمر بن عبيد الله العطاء فكفّ عنه. وقيل إن عبيد الله بن الزبير إنّما ردّ مصعبا إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار. ولما ردّه إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولّاه حرب الأزارقة. وكان المهلّب على حربهم أيام مصعب وحمزة، فلما ردّ مصعبا أراد أن يولّي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك فاستقدمه واستخلف على عمله المغيرة. فلما قدم البصرة عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج. خلاف عمر بن سعيد الأشرف ومقتله كان عبد الملك بعد رجوعه من قنّسرين أقام بدمشق زمانا، ثم سار لقتال زخر [1] بن الحرث الكلابي بقرقيسياء، واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ابن أخته، وسار معه عمر بن سعيد. فلما بلغ بطنان انتقض عمر وأسرى ليلا إلى دمشق، وهرب ابن أم الحكم عنها فدخلها عمر وهدم داره، واجتمع إليه الناس   [1] هو زفر بن الحارث الّذي ذكره الأخطل بقوله: بني أمية اني ناصح لكم ... فلا يبيتن فيكم آمنا زفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 فخطبهم ووعدهم وجاء عبد الملك على أثره فحاصره بدمشق ووقع بينهما القتال أياما ثم اصطلحا وكتب بينهما كتابا وأمّنه عبد الملك فخرج إليه عمر ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام ثم بعث إلى عمر ليأتيه، فقال له عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده: لا تأتيه [1] فإنّي أخشى عليك منه فقال: والله لو كنت نائما ما أيقظني! ووعد الرسول بالرواح إليه، ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء، ومضى في مائة من مواليه وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان وحسّان بن نجد الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمر فدخل. ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحسّ بالشرّ وقال للغلام: انطلق إلى أخي يحيى وقل له يأتيني، فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك وهو لا يفهم فقال له: أغرب عني. ثم أذن عبد الملك لحسّان وقبيصة فلقيا عمر، ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثة زمنا، ثم أمر بنزع السيف عنه فأنكر ذلك عمر وقال: اتّق الله يا أمير المؤمنين! فقال له عبد الملك أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك؟ فأخذ عنه السيف، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفت بيمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة، فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم! وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟ فقال بنو مروان: أبرّ قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية فقال عمر: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين فأخرج من تحت فراشه جامعة وأمر غلاما فجمعه فيها وسأله أن لا [2] يخرجه على رءوس الناس فقال أمكرا عند الموت؟ ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء فقال عبد الملك: والله لو علمت أنك تبقى إن أبقيت عليك وتصلح قريش لأبقيتك، ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد فشتمه عمر وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز بقتله. فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم، فامسك عنه وجلس ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب، فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمر فذبحه بيده وقيل أمر غلامه بن الزغير فقتله وفقد الناس عمر مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده وكانوا ألفا، ومعه حميد بن الحرث وحريث وزهير   [1] الأصح أن يقول: لا تأته. [2] اللام هنا زائدة، وكانت نية عمران يرى أعوانه ما هو فيه، فيهبوا لنجدته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 ابن الأبرد فهتفوا باسمه ثم كسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وخرج الوليد بن عبد الملك واقتتلوا ساعة ثم خرج عبد الرحمن ابن أمّ الحكم الثقفيّ بالرأس فألقاه إلى الناس وألقى اليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا. ثم خرج عبد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فأخبر بجراحته وأتى بيحيى ابن سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد ثم أخرجهم جميعا وألحقهم بمصعب، حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم. وكان بنو عمر أربعة أمية وسعد [1] وإسماعيل ومحمّد. ولما حضروا عنده، قال: أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلا لن يجعله الله لكم، والّذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا بل كان قديما في أنفس أوّليكم على أوّلينا في الجاهلية فقال سعيد: يا أمير المؤمنين تعدّ علينا أمرا كان في الجاهلية والإسلام قد هدم ذلك ووعد جنة وحذر نارا. وأمّا عمر فهو ابن عمك وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت، وإن أحد ثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك وقال: أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلي، وأمّا أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم. وقيل إنّ عمر إنما كان خلفه وقتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه فلم يجبه إلى ذلك، فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها وكان قتله سنة تسعة وستين. مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه، فاستمهله أصحابه فأبى، وسار نحو العراق وبلغ مصعبا سيره فأرسل إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج، وولّى مكانه المهلّب وذلك حين استخلف على الكوفة. وجاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد على البصرة مختفيا، وأعيد لعبد الملك عند مالك ابن مسمع في بكر بن وائل والأزد، وأمدّ عبد الملك بعبيد الله ابن زياد بن ضبيان وحاربهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثم صالحهم على أن يخرجوا خالدا فأخرجوه وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 302: سعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فسخط على ابن معمر وسبّ أصحابه وضربهم وهدم دورهم وحلقهم وهدم دار مالك بن مسمع واستباحها. وعزل ابن معمر عن فارس وولّى المهلّب وخرج إلى الكوفة فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلّب على قتال الخوارج ردّه وقال له المهلّب إنّ أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا يتعدّى ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى عسكر في معسكره، وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد ابن مروان، وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد، فنزلوا قريبا من قرقيسيا. وحضر زفر ابن الحرث الكلابي، ثم صالحه وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار معه فنزل بمسكن قريبا من مسكن مصعب وفرّ الهذيل بن زفر فلحق بمصعب. وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوما [1] إلى مصعب فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق فأخبره مصعب بما فيه وقال مثل هذا الا يرغب عنه فقال إبراهيم ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة ولقد كتب عبد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعن واقتلهم أو احبسهم في أضيق محبس، فأبى عليه مصعب وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب. وعذلهم قيس بن الهيثم منهم في طاعة أهل الشام فأعرضوا عنه. ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب بقول، فقال: نجعل الأمر شورى فقال مصعب: ليس بيننا إلّا السيف فقدّم عبد الملك أخاه محمدا وقدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمدّه بالجيش، فأزال محمدا عن موقفه، وأمدّه عبد الملك بعبيد الله بن يزيد فاشتدّ القتال وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهليّ والد قتيبة، وأمدّ مصعب إبراهيم بعتّاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم ونكره. وقال أوصيته لا يمدّني بعتاب وأمثاله وكان قد بايع لعبد الملك فجر الهزيمة على إبراهيم وقتله وحمل رأسه إلى عبد الملك. وتقدّم أهل الشام فقاتل مصعب ودعا رءوس العراق إلى القتال فاعتذروا وتثاقلوا فدنا محمد بن مروان من مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل العراق فأعرض عنه، فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال: أتظنهم يعرفون لك ذلك؟ فإن أحببت فافعل قال: لا يتحدّث نساء قريش   [1] مختوم هي مضاف اليه والأصح بكتاب مختوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 أنى رغبت بنفسي عنك. قال: فاذهب إلى عمك بمكّة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني، فإنّي مقتول. فقال: لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الطاعة أو بأمير المؤمنين بمكّة فقال: لا يتحدّث قريش أني فررت. ثم قال لعيسى: تقدّم يا بني أحتسبك فتقدّم في ناس فقتل وقتلوا. وألح عبد الملك في قبول أمانه فأبى ودخل سرادقه فتحفظ ورمى السرادق وخرج فقاتل ودعاه عبيد الله بن زياد بن ضبيان فشتمه وحمل عليه وضربه فجرحه. وخذل أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة أنفس، وأثخنته الجراحة فرجع إليه عبيد الله بن زياد ابن ضبيان فقتله وجاء برأسه إلى عبد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها. وقال: إنما قتلته بثأر أخي. وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته وقيل: إنّ الّذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار وأخذ عبيد الله رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل وكان ذلك سنة إحدى وسبعين. ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوما وخطب الناس فوعد المحسن، وطلب يحيى بن سعيد من جعفة وكانوا أخواله فأحضروه فأمّنه وولّى أخاه بشر بن مروان على الكوفة ومحمد بن نمير على همدان ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري ولم يف لهم بأصبهان كما شرطوا عليه، وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري، ويحيى بن معتوق الهمدانيّ قد لجئا إلى علي بن عبد الله بن عبّاس ولجأ هذيل بن زفر بن الحرث وعمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك وصنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاما فأخبره بالخورنق وأذن للناس عامة فدخلوا، وجاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره وطعم الناس. ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه ولما بلغ عبد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن معمر؟ قيل: هو على فارس. قال: فالمهلب قيل: في قتال الخوارج، قال: فعبّاد بن الحسين؟ قيل على البصرة. قال: وأنا بخراسان! خذيني فجرّيني جهارا وأنشدي ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة، ثم إلى الشام فنصب بدمشق وأرادوا التطاوف [1] به فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن   [1] لعله يقصد التطواف، والفعل طاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 معاوية فغسلته ودفنته. وانتهى قتل مصعب إلى المهلّب وهو يحارب الأزارقة فبايع الناس لعبد الملك بن مروان ولما جاء خبر مصعب لعبد الله بن الزبير خطب الناس فقال: الحمد للَّه الّذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، ألا وإنه لم يذلّ الله من كان الحق معه وإن كان الناس عليه طرّا. وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب فالذي أفرحنا منه أنّ قتله شهادة وأمّا الّذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم عبد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإنّ أهل العراق، أهل الغدر والنفاق سلّموه وباعوه بأقل الثمن فإن [1] فو الله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام ولا نموت إلّا طعنا بالرماح وتحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الّذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ البطور، وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (ولما بلغ الخبر) إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة واستعان حمدان بعبد الله ابن الأهتم عليها، وكانت له منزلة عند بني أمية، فلما تمهّد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولّى على البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد، فاستخلف عليها عبيد الله ابن أبي بكرة، فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد، ثم عزل خالدا سنة ثلاث وسبعين وولّى مكانه على البصرة أخاه بشرا وجمع له المصرين وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمر بن حريث وولّى عبد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين، فغزا الروم ومزّقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم. أمر زفر بن الحرث بقرقيسياء قد ذكرنا في وقعة راهط مسير بن زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه وأقام بها يدعو لابن الزبير ولما ولي عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط، وهو على   [1] بياض بالأصل وفي كتاب الكامل لابن الأثير ج 4 ص 335: «فإن يقتل فمه! والله ما نموت على مضاجعنا ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 حمص بالمسير إلى زفر، فسار وعلى مقدمته عبد الله بن رميت العلائي فعاجله عبد الله بالحرب وقتل من أصحابه نحو ثلاثمائة ثم أقبل أبان فواقع زفر، وقيل ابنه وكيع بن زفر وأوهنه. ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب فحاصره ونصب عليه المجانيق وقال: كلب لعبد الملك لا تخلط معنا القيسيّة، فإنّهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر ففعل. واشتدّ حصارهم وكان زفر يقاتلهم في كل غداة وأمر ابنه الهذيل يوما أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عبد الملك ففعل وقطع بعض أطنابه، ثم بعث عبد الملك أخاه بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومن معهما وأنّ لهم ما أحبوا فأجاب الهذيل وأدخل أباه في ذلك. وقال: عبد الملك لنا خير من ابن الزبير فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنة. وأن ينزل حيث شاء ولا يعين على ابن الزبير وبينما الرسل تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد هدم من المدينة أربعة أبراج، فترك الصلح وزحف إليهم، فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم ورجع إلى الصلح واستقرّ بينهم على الأمان ووضع الدماء والأموال. وأن لا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه، وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه وتأخر زفر عن لقاء عبد الملك خوفا من فعلته بعمر بن سعيد. فأرسل إليه بقضيب النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه على سريره وزوّج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر وسار عبد الملك إلى قتال مصعب فبعث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر ولما قارب مصعبا هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمّنه عبد الملك كما مرّ. مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح عليها قد تقدّم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث فرق، وكف فرقتين منهم. وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور وعليهم بجير [1] بن ورقاء الصريميّ فلما قتل مصعب بعث عبد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين. وبعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة. فقال ابن حازم: لولا الفتنة بين سليم وعامر ولكن كل كتابك فأكله وكان بكير بن وشّاح [2] التميمي خليفة بن حازم على مرو، فكتب إليه عبد الملك بعهده على   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: بحير: «بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة» . [2] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: وسّاج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 خراسان ورغّبه بالمطامع إن انتهى، فخلع ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك وأجابه أهل مرو وبلغ ابن حازم فخاف أن يأتيه بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور فترك بجيرا وارتحل عنه إلى مرو ويزيد ابنه يترمّد [1] فأتبعه بجير ولحقه قريبا من مرو واقتتلوا فقتل ابن حازم. طعنه بجير وآخران معه فصرعوه وقعد أحدهم على صدره فقطع رأسه وبعث بجير البشير بذلك إلى عبد الملك وترك الرأس وجاء بكير بن وشاح في أهل مرو وأراد إنفاذ الرأس إلى عبد الملك وأنه الّذي قتل ابن حازم وأقام في ولاية خراسان. وقيل إنّ ذلك إنّما كان بعد قتل ابن الزبير وأنّ عبد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة فغسل الرأس وكفّنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير وبكير ما ذكرناه [2] . (كان) عبد الملك لما بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشأم وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحرث بن حاطب بن الحرث بن معمر الجمعيّ، فهرب الحرث وأقام ابن أنيف شهرا يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى معسكره ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحرث إلى المدينة وبعث ابن الزبير بن خالد الدورقي على خيبر وفدك. ثم بعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحرث بن الحكم في أربعة آلاف فنزل وادي القرى، وبعث سرية إلى سليمان بخيبر وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه وأقاموا بخيبر وعليهم ابن القمقام وذكر لعبد الملك ذلك فاغتمّ وقال قتلوا رجلا صالحا بغير ذنب. ثم عزل ابن الزبير الحرث بن حاطب عن المدينة وولّى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبرا. ثم بعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان، وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى، ويعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار، وليسدّ خللا إن ظهر له بالحجاز، فبعث طارق خيلا إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا فأصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه وكتب ابن الزبير إلى القبّاع وهو   [1] كذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: ويزيد ابنه بترمذ. [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 346: «فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى اهله بالمدينة واطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله وحلف ان لا يطيع عبد الملك ابدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 عامله على البصرة يستمدّه ألفي فارس إلى المدينة فبعثهم القبّاع وأمر ابن الزبير جابر ابن الأسود أن يسيّرهم إلى قتال طارق ففعل ولقيهم طارق فهزمهم وقتل مقدمهم، وقتل من أصحابه خلقا وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم، ورجع إلى وادي القرى. ثم عزل ابن الزبير جابرا عن المدينة واستعمل طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو طلحة النّداء وذلك سنة سبعين. فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق ولما قتل عبد الملك مصعبا ودخل الكوفة وبعث منها الحجّاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير، وكتب معه بالأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين، فلم يتعرّض للمدينة ونزل الطائف. وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويلقاهم هناك خيل ابن الزبير فينهزمون دائما وتعود خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجّاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرّق أصحابه ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمدّه، فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجّاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عنها طلحة النّداء عامل ابن الزبير، وولّى مكانه رجلا من أهل الشام وسار إلى الحجّاج بمكّة في خمسة آلاف. ولما قدم الحجّاج مكّة أحرم بحجه ونزل بئر ميمون وحج بالناس ولم يطف ولا سعى، وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكّة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي. ثم نصب الحجّاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة وكان ابن عمر قد حجّ تلك السنة فبعث إلى الحجّاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل، ونادى منادي الحجّاج عند الإفاضة انصرفوا فإنّا نعود بالحجارة على ابن الزبير، ورمى بالمنجنيق على الكعبة وألحت الصواعق عليهم في يومين وقتلت من أصحاب الشام رجالا فذعروا. فقال لهم الحجّاج لا شك فهذه صواعق تهامة وإنّ الفتح قد حضر فأبشروا. ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسرى عن أهل الشام فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف ولم يزل القتال بينهم، وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه وقسّم لحمها في أصحابه وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمدّ من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق، يقوّي بها نفوس أصحابه. ثم أجهدهم الحصار وبعث الحجّاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف، وافترق الناس عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب، وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه. وحرّض الناس الحجّاج وقال: قد ترون قلّة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق فتقدّموا واملؤا ما بين الحجون والأبواء فدخل ابن الزبير على أمّه أسماء وقال يا أمّه قد خذلني الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت له: أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أميّة. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال: يا أمّه أخاف أن يمثّلوا بي ويصلبوني فقالت: يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعن باللَّه فقبّل رأسها وقال هذا رأيي والّذي خرجت به داعيا إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة وما أخرجني إلّا الغضب للَّه وأن تستحلّ حرماته، ولكن أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتيني [1] بصيرة وإني يا أمّه في يومي هذا مقتول فلا يشتدّ حزنك وسلّمي لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم، ولم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى. اللَّهمّ لا أقر هذا تزكية لنفسي لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني فقالت: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدّمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك. ثم قالت: أخرج حتى انظر ما يصير أمرك جزاك الله خيرا. قال: فلا تدعي الدعاء لي، فدعت له وودّعها وودّعته ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبستها إلا لأشدّ منك فقالت: إنه لا يشدّ مني فنزعها وقالت له البس ثيابك مشمرة ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال: بئس الشيخ إذن أنا في الإسلام إذا واقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام والحجّاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة وابن الزبير يحمل على هؤلاء وعلى هؤلاء وينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف فيجيبه من جانب المعترك ولما رأى الحجّاج إحجام الناس عن ابن الزبير غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين يديه فتقدّم ابن الزبير   [1] الأصح ان يقول زدتني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 إليهم وكشفهم عنه ورجع فصلّى ركعتين عند المقام وحملوا على صاحب الراية فقتلوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام. ويقال: إنه قال: لأصحابه يوم قتل: يا آل الزبير أوطبتم لي نفسا عن أنفسكم كأهل بيت من العرب اصطلمنا في الله؟ فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشدّ من ألم وقعها، صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه ولا تسألوا عني، ومن كان سائلا فإنّي في الرعيل الأوّل ثم حمل حتى بلغ الحجون فأصابته حجارة في وجه فأرغش [1] لها ودمي وجهه. ثم قاتل قتالا شديدا وقتل في جمادى الآخر سنة ثلاث وسبعين وحمل رأسه إلى الحجّاج فسجد، وكبّر أهل الشام وثار الحجّاج وطارق حتى وقفا عليه، وبعث الحجّاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك وصلب جثته منكّسة على ثنية الحجون اليمنى. وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى، وكتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك فخلّى بينها وبينه ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة وسبق الحجّاج إلى عبد الملك فرحّب به وأجلسه على سريره، وجرى ذكر عبد الله فقال عروة: إنه كان! فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل فخرّ ساجدا. ثم أخبره عروة أنّ الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمّه فقال: نعم، وكتب إلى الحجّاج ينكر عليه صلبه فبعث بجثته إلى أمّه وصلّى عليه عروة ودفنه وماتت أمّه بعده قريبا. ولما فرغ الحجّاج من ابن الزبير دخل إلى مكّة فبايعه أهلها لعبد الملك وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين وأساء إلى أهلها وقال: أنتم قتلة عثمان وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم كما يفعل بأهل الذمّة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد ثم عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله، وقيل إنّ ولاية الحجّاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين وإنّ عبد الملك عزل عنها طارقا واستعمله. ثم هدم الحجّاج بناء الكعبة الّذي بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الّذي أقرّه عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولم يصدّق ابن الزبير في الحديث الّذي رواه عن عائشة. فلمّا صحّ عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل.   [1] وفي الكامل ج 4 ص 356: فأرعش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 ولاية المهلب حرب الازارقة ولما عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة واستعمل مكانه أخاه بشر بن مروان وجمع له المصرين أمره أن يبعث المهلّب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة ويتركه وراءه في الحرب، وأن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفا معروفا بالبأس والنجدة في جيش كثيف إلى المهلب، فيتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم. فأرسل المهلّب جديع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان. وشق على بشر أنّ امرأة المهلب جاءت من عند عبد الملك، فغص به ودعا عبد الرحمن بن مخنف فأعلمه منزلته عنده وقال: إني أوليك جيش الكوفة بحرب الأزارقة فكن عند حسن ظني بك ثم أخذ يغريه بالمهلّب وأن لا يقبل رأيه ولا مشورته، فأظهر له الوفاق وسار إلى المهلب فنزلوا رامهرمز ولقي بها الخوارج فحدق [1] عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران. ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم وأنه استخلف على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد فافترق الناس من أهل المصرين إلى بلادهم، ونزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدّدهم ويحذّرهم عقوبة عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه ومضوا إلى الكوفة واستأذنوا عمر بن حريث في الدخول ولم يأذن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه. ولاية أسد بن عبد الله على خراسان ولما ولي بكير بن وشّاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم وأقاموا في العصبية له وعليه سنتين، وخاف أهل خراسان أن تفسد البلاد ويقهرهم العدوّ فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وانها لا تصلح إلّا على رجل من قريش واستشار أصحابه فقال له أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد: نزكيهم برجل منك فقال: لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها فاعتذر وحلف أنّ الناس خذلوه ولم يجد مقاتلا فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن الهلكة، وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري وقد علمه الناس، فولّاه خراسان. (ولما) سمع بكير بن وشّاح بمسيره بعث، الى بجير بن ورقاء وهو في حبسه كما مرّ فأبى وأشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل   [1] لعلها تكون خندق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وصالح بكير أو بعث إليه بكير بأربعين ألفا على أن لا يقاتله فلما قارب أميّة نيسابور إليه بجير وعرّفه عن أمور خراسان وما يحسن به طاعة أهلها وحذّره غدر بكير وجاء معه إلى مرو فلم يعرض أمية لبكير ولا لعمّاله وعرض عليه شرطته فأبى. وقال: لا أحمل الجزية اليوم وقد كانت تحمل إليّ بالأمس وأراد أن يولّيه بعض النواحي من خراسان فحذّره بجير منه. ثم ولّى أمية ابنه عبد الله على سجستان فنزل بستا. وغزا رتبيل الّذي ملك على الترك بعد المقتول الأوّل وكان هائبا للمسلمين فراسلهم في الصلح وبعث ألف ألف وبعث بهدايا ورقيق فأبى عبد الله من قبولها وطلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها عبد الله. ثم أخذ عليه الشعاب والمضايق حتى سأل منه الصلح وأن يخلي عينه عن المسلمين فشرط رتبيل عليه ثلاثمائة ألف درهم والعهد بأن لا يغزو بلادهم فأعطاه ذلك وبلغ الخبر بذلك عبد الملك فعزله. ولاية الحجاج العراق ثم ولّى عبد الملك الحجّاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمسة وسبعين وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق فسار على النجب في اثني عشر راكبا حتى قدم الكوفة في شهر رمضان. وقد كان بشر بعث المهلّب إلى الخوارج فدخل المسجد وصعد المنبر وقال: عليّ بالناس فظنّوه من بعض الخوارج فهموا به، حتى تناول عمير بن ضابئ البرجمي الحصباء وأراد أن يحصبه، فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه وهو لا يشعر به. ثم حضر الناس فكشف الحجّاج عن وجهه وخطب خطبته المعروفة. ذكرها الناس وأحسن من أوردها المبرّد في الكامل يتهدّد فيها أهل الكوفة ويتوعدهم عن التخلّف عن المهلّب. ثم نزل وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلّب فقام إليه عمير ابن ضابئ وقال: أنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشدّ مني فقال: هذا خير لنا منك قال: ومن أنت؟ قال عمير بن ضابئ قال: الّذي غزا عثمان في داره؟ قال: نعم. فقال: يا عدوا الله [1] إلى عثمان بدلا. قال: إنه حبس أبي وكان شيخا كبيرا. فقال: إني لا أحب حياتك إنّ في قتلك صلاح المصرين، وأمر به فقتل ونهب ماله. وقيل إنّ عنبسة بن سعيد بن العاص هو الّذي أغرى به الحجّاج حين دخل عليه. ثم أمر الحجاج مناديه فنادى ألا   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 378: «قال: يا عدو الله أفلا إلى عثمان بعثت بدلا؟» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 إنّ ابن ضابئ تخلّف بعد ثالثة من النداء فأمرنا بقتله، وذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب فتساءل الناس إلى المهلب وهو بدار هرمز وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر ثم بعث الحجّاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفيّ وأمره أن يشتدّ على خالد بن عبد الله، وبلغه الخبر فقسّم في أهل البصرة ألف ألف وخرج عنها. ويقال إن الحجّاج أوّل من عاقب على التخلّف عن البعوث بالقتل قال الشعبيّ: كان الرجل إذا أخلّ بوجهه الّذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعليّ تنزع عمامته ويقام بين الناس، فلما ولي مصعب أضاف إليه حلق الرءوس واللحى، فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط فيخرق المسماران يده وربما مات فلما جاء الحجّاج ترك ذلك كله وجعل عقوبة من تخلّى بمكانه من الثغر أو البعث القتل. ثم ولّى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة فخرج عليه معاوية ابن الحرث الكلابي العلاقي وأخوه، فغلباه على البلاد وقتلاه فأرسل الحجّاج مجاعة ابن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر وغزا وفتح فتوحات بمكران لسنة من ولايته. وقوع أهل البصرة بالحجاج ثم خرج الحجّاج من الكوفة واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة وسار إلى البصرة وقدمها وخطب كما خطب بالكوفة وتوعد على القعود عن المهلب كما توعد فأتاه شريك بن عمرو اليشكري وكان به فتق فاعتذر به وبأنّ بشر بن مروان قبل عذره بذلك وأحضر عطاءه ليردّ لبيت المال فضرب الحجاج عنقه وتتابع الناس مزدحمين إلى المهلب ثم سار حتى كان بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا. وأقام يشدّ ظهره وقال: يا أهل المصرين هذا والله مكانكم حتى يهلك الله الخوارج. ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية وكانت مائة مائة وقال: لسنا نجيزها. فقال عبد الله بن الجارود: إنما هي زيادة عبد الملك وقد أجازها أخوه بشر بأمره، فانتهره الحجّاج فقال: إني لك ناصح وإنه قول من ورائي فمكث الحجّاج أشهرا لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها فردّ عليه ابن الجارود مثل الردّ الأوّل. فقال له مضفلة بن كرب العبديّ سمعا وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا وليس لنا أن نردّ عليه. فانتهره ابن الجارود وشتمه وأتى الوجوه إلى عبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعيّ وقالوا: إنّ هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة وإنّا نبايعك على إخراجه من العراق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 ونكتب إلى عبد الملك أن يولّي علينا غيره وإلّا خلعناه وهو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق، فبايعوه سرّا وتعاهدوا وبلغ الحجّاج أمرهم فاحتاط وجدّ. ثم خرجوا في ربيع سنة ستة وسبعين وركب عبد الله بن الجارود في عبد قيس على راياتهم ولم يبق مع الحجّاج إلا خاصته وأهل بيته وبعث الحجاج يستدعيه فأفحش في القول لرسوله، وصرّح بخلع الحجّاج فقال له الرسول: تهلك قومك وعشيرتك! وأبلغه تهديد الحجاج إياه فضرب وأخرج وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه فنهبوا ما فيه من المتاع وأخذوا زجاجته وانصرفوا عنها. فكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه. وقال الغضبان بن أبي القبعثري الشيبانيّ لابن الجارود: لا ترجع عنه وحرضه على معالجته فقال إلى الغداة، وكان مع الحجّاج عثمان بن قطن وزياد لا ترجع عنه وحرضه على معالجته فقال إلى الغداة، وكان مع الحجّاج عثمان بن قطن وزياد بن عمر العتكيّ صاحب الشرطة بالبصرة، فاستشارهما فأشار زياد بأن يستأمن القوم ويلحق بأمير المؤمنين وأشار عثمان بالثبات ولو كان دونه الموت. وقال: لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقّاك إلى ما رقّاك وفعلت ما فعلت بابن الزبير والحجاز فقبل رأي عثمان وحقد على زياد في إشارته وجاءه عامر بن مسمع يقول: قد أخذ لك الأمان من الناس فجعل الحجّاج يغالطه رافعا صوته عليه ليسمع الناس ويقول والله لا آمنهم حتى تؤتوني بالهذيل بن عمران وعبد الله بن حكيم. ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري أن ائتني فامنعني، فقال له: إن أتيتني منعتك فأبى وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد وعبد الله بن حكيم بمثل ذلك، وأجابوه مثله. ثم إنّ عبّاد بن الحصين الجفطيّ مرّ بابن الجارود والهذيل وعبد الله بن حكيم يتناجون فطلب الدخول معهم فأبوا وغضب وسار إلى الحجّاج وجاءه قتيبة بن مسلم في بني أعصر للحميّة القتيبيّة. ثم جاءه سبرة بن عليّ الكلابي وسعيد بن أسلم الكلابي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فثابت إليه نفسه وعلم أنه قد امتنع. وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت عنك، فأجابه أن أقم فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف وقال ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي؟ قال تركته أمس ولم يبق إلّا الصبر ثم تراجعوا وعبّى ابن الجارود وأصحابه على ميمنة الهذيل وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، وحمل ابن الجارود حتى حاصر اصحاب الحجّاج وعطف الحجّاج عليه فقارب ابن الجارود أن يظفر. ثم أصابه سهم غرب فوقع ميتا ونادى منادي الحجّاج بأمان الناس إلا الهذيل وابن حكيم وأمر أن لا يتبع المنهزمين، ولحق ابن ضبيان بعمار فهلك هنالك. وبعث الحجّاج برأس ابن الجارود ورأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك ونصبت ليراها الخوارج فيتأسوا من الاختلاف وحبس الحجاج عبيد بن كعب ومحمد بن عمير لامتناعهما من الإتيان إليه وحبس ابن القبعثري لتحريضه عليه، فأطلقه عبد الملك وكان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك فقال الحجاج: لا أرى أنسا يعين عليّ ودخل البصرة وأخذ ماله. وجاءه أنس فأساء عليه وأفحش في كلمة في شتمه وكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس. «وأن تجيء إلى منزله وتتنصل إليه وإلّا نبعث من يضرب ظهرك ويهتك سترك» . قالوا وجعل الحجّاج في قراءته يتغير ويرتعد وجبينه يرشح عرقا. ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه. وفي عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة، وقد كانوا خرجوا قبل ذلك أيام مصعب ولم يكونوا بالكثير وأفسدوا الثمار والزروع. ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم وقتل بعضهم وصلبه. فلما كانت هذه الواقعة قدّموا عليهم رجلا منهم اسمه رياح ويلقب بشير زنجي أي أسد الزنج وأفسدوا فلما فرغ الحجّاج من ابن الجارود أمر زياد بن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم وبعث ابنه حفصا في جيش فقتلوه وانهزم أصحابه فبعث جيشا فهزم الزنج وأبادهم. مقتل ابن مخنف وحرب الخوارج كان المهلب وعبد الرحمن بن مخنف واقفين للخوارج برامهرمز فلما أمدّهم الحجّاج بالعساكر من الكوفة والبصرة تأخر الخوارج من رامهرمز إلى كازرون وأتبعهم العساكر حتى نزلوا بهم. وخندق المهلّب على نفسه، وقال ابن مخنف وأصحابه خدمنا [1] سيوفنا. فبيتهم الخوارج وأصابوا الغرّة في ابن مخنف فقاتل هو وأصحابه حتى قتلوا، هكذا حديث أهل البصرة، وأمّا أهل الكوفة فذكروا أنهم لما ناهضوا   [1] ولعلها خندقنا سيوفنا، لأن خدمنا ليس لها معنى هنا. اي انهم يحمون أنفسهم بسيوفهم وليس بالخندق حولهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الخوارج اشتدّ القتال بينهم ومال الخوارج على المهلب فاضطروه إلى معسكره وأمدّه عبد الرحمن بالخيل والرجال، ولما رأى الخوارج مدده تركوا من يشغل المهلّب وقصدوا عبد الرحمن فقاتلوه وانكشفوا عنه، وصبر في سبعين من قومه فثابوا إلى عتاب بن ورقاء، وقد أمره الحجّاج أن يسمع للمهلّب فثقل ذلك عليه، فلم يحسن بينهما العشرة وكان يتراءف في الكلام، وربما أغلظ له المهلب. فأرسل عتاب إلى الحجّاج يسأله القعود، وكان حرب الخوارج وشبيب قد اتسع عليه، فصادفا منه ذلك مرقعا [1] واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلّب فولّى المهلب عليهم ابنه حبيبا، وأقام يقاتلهم بنيسابور نحوا من سنة وتحرّكت الخوارج على الحجّاج من لدن سنة ستة وسبعين إلى سنة ثمان وشغل بحربهم وأوّل من خرج منهم صالح بن سرح من بني تميم بعث إليه العساكر فقتل فولّوا عليهم شبيبا واتبعه كثير من بني شيبان وبعث إليهم الحجّاج العساكر مع الحرث بن عميرة ثم مع سفيان الخثعميّ ثم انحدر ابن سعيد فهزموها وأقبل شبيب إلى الكوفة فحاربهم الحجّاج وامتنع ثم سرّح عليه العساكر وبعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزموهم. ثم بعث عتّاب بن ورقاء وزهرة بن حويّة مددا لهم فانهزموا وقتل عتاب وزهرة ثم قتل شبيب واختلف الخوارج بينهم وقتل منهم جماعة كما يذكر ذلك كله في أخبارهم. ضرب السكة الإسلامية كان عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى الروم: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112: 1 وذكر النبيّ مع التاريخ، فنكر ذلك ملك الروم وقال: اتركوه وإلّا ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهونه فعظم ذلك عليه واستشار الناس فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة وترك دنانيرهم ففعل. ثم نقش الحجّاج فيها قل هو الله أحد فكره الناس ذلك لأنه قد يمسّها غير الطاهر. ثم بالغ في تخليص الذهب والفضة من الغش وزاد ابن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك عليه. ثم زاد خالد القسريّ عليهم في ذلك أيام هشام ثم أفرط يوسف بن عمر من بعدهم في المبالغة وامتحان العيار وضرب عليه فكانت الهبيريّة والخالديّة واليوسفيّة أجود نقود بني أمية. ثم أمر المنصور أن لا يقبل في الخراج غيرها وسميت النقود الأولى مكروهة إمّا لعدم جودتها أو لما نقش عليها الحجّاج   [1] لا معنى للكلمة مرقعا ولعلها: وصادف منه ذلك موقعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وكرهه. وكانت دراهم العجم مختلفة بالصغر والكبر، فكان منها مثقال وزن عشرين قيراطا واثني عشر وعشرة قراريط وهي أنصاف المثاقيل فجمعوا قراريط الأنصاف الثلاثة فكانت اثنين وأربعين فجعلوا ثلثها وهو اثنا عشر قيراطا وزن الدرهم العربيّ فكانت كل عشرة دراهم تزن مثاقيل. وقيل إنّ مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله والأصح أنّ عبد الملك أوّل من ضرب السكة في الإسلام. مقتل بكير بن وشاح [1] بخراسان قد تقدّم لنا عزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد سنة أربع وسبعين وأنّ بكيرا أقام في سلطان أمية بخراسان وكان يكرمه ويدعوه لولاية ما شاء من أعمال خراسان، فلا يجيب، وأنه ولّاه طخارستان، وتجهز لها فيه بجير بن ورقاء فمنعه، ثم أمره بالتجهّز لغزو ما وراء النهر، فحذره منه بجبر فردّه فغضب بكير. ثم تجهز أمية لغزو غارا، وموسى بن عبد الله بن حازم لترمذ واستخلف ابنه على خراسان. فلما أراد قطع النهر قال لبكير: ارجع إلى مرو فأكفنيها فقد وليتكها، وقم بأمر ابن حازم فإنّي أخشى أن لا يضبطها. فانتخب من وثق به من أصحابه ورجع، وأشار عليه صاحبه عتّاب بأن يحرق السفن ويرجع إلى مرو فيخلع أميّة، ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على ذلك فقال لهم بكير: أخشى على من معي. قالوا نأتيك من أهل مرو بمن تشاء، قال: يهلك المسلمون. قال ناد في الناس برفع الخراج فيكونون معك. قال فيهلك أميّة وأصحابه. قال لهم عدد وعدد يقاتلون عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين فأحرق بكير السفن ورجع إلى مرو فخلع أمية وحبس ابنه وبلغ الخبر أمية فصالح أهل الشام بخارى ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وجاءه موسى بن عبد الله بن حازم من [2] مددا له وبعث شماس بن ورقاء في ثمانمائة في مقدمته فبيته بكير وهزمه، فبعث مكانه ثابت بن عطية فهزمه. ثم التقى أمية وبكير فاقتتلوا أياما. ثم انهزم بكير إلى مرو وحاصره أمية أياما حتى سأل الصلح على ولاية ما شاء من خراسان، وأن يقضي عنه أربعمائة ألف دينه، ويصل أصحابه   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 443: بكير بن وسّاج. [2] بياض بالأصل وفي الكامل الابن الأثير ج 4 ص 445 «وأتاه موسى بن عبد الله بن حازم، وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة وسار إليه بكير فبيته وهزمه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 ولا يقبل فيه سعاية بجير فتمّ الصلح ودخل أمية مدينة مرو وأعاد بكيرا إلى ما كان عليه من الكرامة وأعطى عتاب العدابي عشرين ألفا وعزل بجير عن شرطته بعطا بن أبي السائب. وقيل إنّ بكيرا لم يصحب أمية إلى النهر وإنما استخلفه على مرو فلما عبر أمية النهر خلع وفعل ما فعل. ثم أنّ بجيرا سعى بأمية بأنّ بكيرا دعاه إلى الخلاف وشهد عليه جماعة من أصحابه، وأنّ معه ابني أخيه فقبض عليه أمية وقتله وقتل معه ابني أخيه وذلك سنة سبع وسبعين. ثم عبر النهر لغزو بلخ فحصره الترك حتى جهد هو وعسكره وأشرفوا على الهلاك ثم نجوا ورجعوا إلى مرو. مقتل بجير بن زياد [1] ولما قتل بكير بسعاية بجير بن ورقاء تعاقد بنو سعد بن عوف من تميم وهم عشيرته على الطلب بدمه وخرج فتى منهم من البادية اسمه شمردل وقدم خراسان ووقف يوما على بجير فطعنه فصرعه ولم يمت وقتل شمردل وجاء مكانه صعصعة بن حرب العوفيّ ومضى إلى سجستان وجاور قرابة بجير مدّة وانتسب إلى خنفيّة ثم قال لهم: إنّ لي بخراسان ميراثا فاكتبوا إلى بجير يعينني، فكتبوا له وجاء إليه وأخبره بنسبه وميراثه، وأقام عنده شهرا يحضر باب المهلّب وقد أنس به وأمن غائلته، وجاء صعصعة يوما وهو عند المهلب في قميص ورداء ودنا ليكلمه فطعنه ومات من الغد وقال صعصعة فمنعته مقاعس وقالوا أخذ بثأره فحمل المهلب دم صعصعة وجعل دم بجير ببكير وقيل إنّ المهلب بعثه إلى بجير فقتله والله أعلم وكان ذلك سنة إحدى وثمانين. ولاية الحجاج على خراسان وسجستان وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمهما إلى الحجّاج بن يوسف فبعث المهلّب بن أبي صفرة على خراسان وقد كان فرغ من حرب الأزارقة فاستدعاه وأجلسه معه على السرير، وأحسن إلى أهل البلاد من أصحابه وزادهم وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان فأما المهلب فقدّم ابنه حبيبا إلى خراسان فلم يعرض لأمية ولا لعمّاله حتى قدم أبوه المهلب بعد سنة من   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 457: بحير بن ورقاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 ولايته، وسار في خمسة آلاف وقطع النهر الغربي وما وراء النهر، وعلى مقدمته أبو الأدهم الرمّاني في ثلاثة آلاف، فنزل على كشّ وجاءه ابن عمر الختن يستنجده على ابن عمه، فبعث معه ابنه يزيد، فبيّت ابن العم عساكر الختن وقتل الملك وجاءه صرّ يريد قلعتهم حتى صالحوا بما رضي، ورجع. وبعث المهلب ابنه حبيبا في أربعة آلاف ووافى صاحب بخارى في أربعين ألفا. وكبس بعض جنده في قرية فقتلهم وأحرقها ورجع إلى أبيه. وأقام المهلب يحاصر كش سنتين حتى صالحوه على فدية وأما عبد الله بن أبي بكرة فأقام بسجستان ورتبيل على صلحه يؤدّي الخراج. ثم امتنع فأمر الحجاج ابن أبي بكرة فغزوه واستباحوا بلاده، فسار في أهل المصرين وعلى أهل الكوفة شريح بن هانئ من أصحاب علي، فدخل بلاد رتبيل وتوغّل فيها حتى كانوا على ثمانية عشر فرسخا من مدينتهم وأثخن واستباح وخرّب القرى والحصون. ثم أخذ الترك عليهم القرى والشعاب حتى ظنوا الهلكة فصالحهم عبيد الله على الخروج من أرضهم، على أن يعطيهم سبعمائة ألف درهم. ونكر ذلك عليه شريح وأبى إلا القتال وحرّض الناس ورجع وقتل حين، قتل في ناس من أصحابه ونجا الباقون وخرجوا من بلاد رتبيل، ولقيهم الناس بالأطعمة فكانوا يموتون إذا شبعوا. فجعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا حتى استمرّوا وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في غزو بلاد رتبيل فأذن له فجهّز عشرين ألف فارس من الكوفة وعشرين ألفا من البصرة واختار أهل الغنى والشجاعة، وأزاح عللهم وأنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، وأخذهم بالخيل الرائعة والسلاح الكامل. وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان يبغضه ويقول أريد قتله. ويخبر الشعبي بذلك عبد الرحمن فيقول أنا أزيله عن سلطانه، فلما بعثه على ذلك الجيش تنصح أخوه إسماعيل للحجّاج وقال لا تبعثه فإنّي أخشى خلافه. فقال هو أهيب لي من أن يخالف أمري. وسار عبد الرحمن في الجيش وقدم سجستان واستنفرهم وحذر العقوبة لمن يتعدّى وساروا جميعا إلى بلاد رتبيل وبذل الخراج فلم يقبل منه ودخل بلاده فحواها شيئا فشيئا وبعث عمّاله عليها ورجع المصالح بالنواحي والأرصاد على العقاب والشعاب، وامتلأت أيدي الناس من الغنائم، ومنع من التوغل في البلاد إلى قابل. وقد قيل في بعث عبد الرحمن بن الأشعث غير هذا وهو أن الحجّاج كان قد أنزل هميان بن عديّ السديّ مسلحة بكرمان إن احتاج إليه عامل السند وسجستان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 فمضى هميان فبعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فهزمه وقام بموضعه. ثم مات عبد الله بن أبي بكرة فولّاه الحجاج مكانه وجهّز إليه هذا الجيش وكان يسمى جيش الطواويس لحسن زيهم. أخبار ابن الأشعث ومقتله ولما وصل كتاب ابن الأشعث إلى الحجاج كتب إليه يوبّخه على القعود عن التوغل ويأمره بالمضيّ لما أمره به من هدم حصونهم وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم. وأعاد عليه الكتاب بذلك ثانيا وثالثا وقال له: إن مضيت وإلّا فأخوك إسحاق أمير الناس. فجمع عبد الرحمن الناس وردّ الرأي عليهم وقال: قد كنّا عزمنا جميعا على ترك التوغل في بلد العدوّ ورأينا رأيا وكتبت بذلك إلى الحجّاج وهذا كتابه يستعجزني ويستضعفني ويأمرني بالتوغل بكم وأنا رجل منكم، فثار الناس وقالوا: لا نسمع ولا نطيع للحجّاج. وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكنانيّ: اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن فتنادى الناس من كل جانب فعلنا فعلنا. وقال عبد المؤمن بن شيث بن ربعي: انصرفوا إلى عدوّ الله الحجّاج فانفوه عن بلادكم ووثب الناس إلى عبد الرحمن على خلع الحجاج ونفيه من العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد الملك. وصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل ما بقي من الدهر، وإن هزم منعه ممن يريده. وجعل عبد الرحمن على سبت عيّاض بن هميان الشيبانيّ وعلى رومج عبد الله بن عامر التميمي، وعلى كرمان حرثة بن عمر التميمي. ثم سار إلى العراق في جموعه وأعشى همدان بين يديه يجري بمدحه وذمّ الحجّاج. وعلى مقدمته عطيّة بن عمير العيرني. ولما بلغ فارس بدا للناس في أمر عبد الملك وقالوا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعناه فخلعه الناس وبايعوا عبد الرحمن على السنة وعلى جهاد أهل الضلالة والمخلين وخلعهم. وكتب الحجّاج إلى عبد الملك يخبره ويستمدّه وكتب المهلّب إلى الحجّاج بأن لا يعترض أهل العراق حتى يسقطوا إلى أهليهم، فنكر كتابه واتهمه. وجنّد عبد الملك الجند إلى الحجّاج فساروا إليه متتابعين، وسار الحجّاج من البصرة فنزل تستر وبعث مقدمة خيل فهزمهم أصحاب عبد الرحمن بعد قتال شديد وقتل منهم جمعا كثيرا وذلك في أضحى إحدى وثمانين، وأجفل الحجّاج إلى البصرة، ثم تأخّر عنها إلى الغاوية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وراجع كتاب المهلب فعلم نصيحته. ودخل عبد الرحمن البصرة فبايعه أهلها وسائر نواحيها لأنّ الحجّاج كان اشتد على الناس في الخراج، وأمر من دخل الأمصار أن يرجع إلى القرى، يستوفي الجزية، فنكر ذلك الناس وجعل أهل القرى يبكون منه، فلما قدم عبد الرحمن بايعوه على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك. ثم اشتدّ القتال بينهم في المحرّم سنة اثنتين وثمانين، وتزاحفوا على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك. وانهزم أهل العراق وقصدوا الكوفة وانهزم منهم خلق كثير. وفشا القتل في القرى فقتل منهم عقبة بن الغافر الأزدي في جماعة استلحموا معه، وقتل الحجّاج بعد الهزيمة منهم عشرة آلاف وكان هذا اليوم يسمّى يوم الراوية. واجتمع من بقي بالبصرة على عبد الرحمن ابن عبّاس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وبايعوه، فقاتل بهم الحجّاج خمس ليال ثم لحق بابن الأشعث بالكوفة ربيعة طائفة من أهل البصرة. ولما جاء عبد الرحمن الكوفة وخليفة الحجّاج عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحضرميّ وثب بع مطر بن ناحية من بني تميم مع أهل الكوفة، فاستولى على القصر وأخرجه. فلما وصل ابن الأشعث لقيه أهل الكوفة واحتف به همدان وجاء إلى القصر فمنعه مطر فصعد الناس القصر وأخذوه فحبسه عبد الرحمن وملك الكوفة. ثم إنّ الحجّاج استعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي ورجع إلى الكوفة فنزل دوير فيرة، ونزل عبد الرحمن دير الجماجم واجتمع إلى كل واحد أمداده وخندق على نفسه وبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمدا في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجّاج ويجرى عليهم أعطياتهم كأهل الشام، وينزل عبد الرحمن إلى أيّ بلد شاء عاملا لعبد الملك. فوجم الحجّاج لذلك وكتب إلى عبد الملك: إنّ هذا ممن يزيدهم جراءة وذكّره بقضية عثمان وسعيد بن العاص. فأبى عبد الملك من رأيه وعرض عبد الله ومحمد بن مروان ما جاء به عبد الملك وتشاور أهل العراق بينهم وأشار عليهم عبد الرحمن بقبول ذلك، وأن العزّة لهم على عبد الملك لا تزول، فتواثبوا من كل جانب منكرين لذلك ومجدّدين الخلع. وتقدّمهم في ذلك عبد الله بن دواب السلميّ وعمير بن تيحان، ثم برزوا للقتال وجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللّخميّ، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى الرجّالة عبد الله بن حبيب الحكميّ. وجعل عبد الرحمن على ميمنته الحجّاج بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 حارثة الخثعميّ، وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن ابن العبّاس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، وعلى رجّالته محمد بن سعد بن أبي وقّاص، وعلى مجنبته عبد الله بن رزم الحرشيّ، وعلى القرى [1] جبلة بن زخر بن قيس الجعفيّ وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم أقاموا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون بقية سنتهم، وكتيبة القرى معروفة بالصبر يحملون عليها فلا تنتقص. فعبّى الحجّاج ثلاث كتائب مع الجرّاح بن عبد الله الحكمي وحملوا على القرى ثلاث حملات وجبلة يحرّض القرى ويبيتهم والشعبي وسعيد بن جبير كذلك. ثم حملوا على الكتائب ففرّقوها وأزالوها عن مكانها وتأخر جبلة عنهم ليكون لهم فئة يرجعون إليه، وأبصره الوليد بن نجيب الكلبيّ فقصده في جماعة من أهل الشام وقتله وجيء برأسه إلى الحجّاج وقدموا عليهم مكانه وظهر القتل في القرى. ثم اقتتلوا بعد ذلك ما يزيد على مائة يوم كثر فيها القتلى والمبارزة. ثم اقتتلوا يوما في منتصف جمادى الآخرة وحمل سفيان بن الأبرد في ميمنة الحجاج على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرّة من غير قتّال فتقوّضت صفوف الميمنة، وركبهم أصحاب الحجّاج، ثم انهزم عبد الرحمن وأصحابه. ومضى الحجّاج إلى الكوفة ومحمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام. وأخذ الحجّاج الناس على أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر، وقتل من أبى ودعا بكميل بن زياد صاحب عليّ فقتله لاقتصاصه. ثم أقام بالكوفة شهرا وأنزل أهل الشام في بيوت أهل الكوفة، ولحق ابن الأشعث بالبصرة فاجتمع إليه جموع المنهزمين ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة ولحق به محمد بن سعد بن أبي وقّاص بالمدائن، وسار نحو الحجّاج ومعه بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ كان قدم عليه قبل الهزيمة من الري وكان انتقض بها ثم غلب عليها ولحق بعبد الرحمن فكان معه وبايع عبد الرحمن خلق كثير على الموت، ونزل مسكن وخندق عليه وعلى أصحابه والحجّاج قبالتهم وقاتلهم خالد بن جرير بن عبد الله وكان قدم من خراسان في بعث الكوفة، فقاتلهم خمسة عشر يوما من شعبان أشدّ قتال، وقتل زياد بن غنيم القيني. وكان عليّ صالح الحجّاج فهدّ منهم ثم أبى بكر القتال. وحل بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف من فرسان الكوفة والبصرة، كسروا جفون   [1] اي القرّاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 سيوفهم وحملوا على أهل الشام فكشفوهم مرارا وأحاط بهم الرماة ولحقوا فقتلوا. وحمل عبد الملك بن المهلّب على أصحاب عبد الرحمن فكشفوهم. ثم حمل أصحاب الحجّاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه، وأبو البحتري الطائي ومعلّى بن الأشعث نحو سجستان ويقال إنّ بعض الأعراب جاء إلى الحجّاج فدلّه على طريق من وراء معسكر ابن الأشعث فبعث معه أربعة آلاف جاءوا من ورائه، وأصبح الحجّاج فقاتله واستطرد له حتى نهب معسكره وأقبلت السرية من الليل إلى معسكر ابن الأشعث وكان الغرقى منهم أكثر من القتلى، وجاء الحجاج إلى المعسكر فقتل من وجد فيه وكان عدّة القتلى أربعة آلاف منهم: عبد الله بن شدّاد بن الهادي وبسطام بن مصقلة وعمر بن ربيعة الرقاشيّ وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم. (ولما سار) ابن الأشعث إلى سجستان أتبعه الحجاج بالعساكر، وعليهم عمارة بن تميم اللخمي، ومعهم محمد بن الحجّاج فأدركوه بالسوس فقاتلوه وانهزم إلى سابور واجتمع إليه الأكراد وقاتلوا العساكر قتالا شديدا فهزم، وخرج عمارة ولحق ابن الأشعث بكرمان فلقيه عامله بها وهيأ له النزول فنزل. ثم رحل إلى زرنج فمنعه عامله من الدخول، فحاصرها أياما ثم سار إلى بست وعليها من قبله عيّاض بن هميان بن هشام السلوبيّ الشيبانيّ، ثم استغفله فأوثقه. وكان رتبيل ملك الترك قد سار ليستقبله، ونزل على بست وتهدّد عيّاضا فأطلقه، وحمل رتبيل إلى بلاده وأنزله عنده. واجتمع المنهزمون فاتفقوا على قصد خراسان لينموا بعشائرهم وقصدوا للصلاة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث يستقدمونه فقدم عليهم وثناهم عن قصد خراسان مخافة من سطوة يزيد بن المهلّب وأن يجتمع أهل الشام وأهل خراسان فأبوا وقالوا بل يكثر بها تابعنا. فسار معهم إلى هراة فهرب عنهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة فخشي الانتقاض وقال: إنما أتيتكم وأمركم جميعا وأنا الآن منصرف إلى صاحبي الّذي جئت من عنده يعني رتبيل. ورجع عنهم في قليل وبقي معظم العسكر مع عبد الرحمن بن العبّاس بسجستان، فجمع بابن الأشعث وسار إلى خراسان في عشرين ألفا ونزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه. وبعث إليه يزيد بن المهلب بالرحلة من البلاد، فقال إنما نزلنا لنستريح ونرتحل، ثم أخذ في الجباية وسار نحوه يزيد بن المهلب والتقوا فافترق أصحاب عبد الرحمن عنه، وصبرت معه طائفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ثم انهزموا وأمر يزيد بالكف عنهم وغنم ما في عسكرهم وأسر جماعة منهم فيهم محمد بن سعد بن أبي وقّاص وعمر بن موسى بن عبد الله بن معمر وعبّاس بن الأسود بن عوف والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز وأبوا العلج مولى عبيد الله بن معمر وسوار بن مروان وعبد الله بن طلحة الطلحات، وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي. ولحق عبد الرحمن بن العبّاس بالسند وأتى ابن سمرة إلى مرو وانصرف يزيد إلى مرو. وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع سيدة بن نجدة، وقال له أخوه حبيب: ألا تبعث عبد الرحمن بن طلحة؟ فإنّ له عندنا يدين، وقد ودى عن المهلب أبوه طلحة مائة ألف، فتركه وترك عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد. وبعث الباقين وقدموا عليه بمكان واسط قبل بنائها فدعا بفيروز وقال: ما أخرجك مع هؤلاء وليس بينك وبينهم نسب؟ قال: فتنة عمّت الناس! قال: أكتب أموالك فكتب ألفي ألف وأكثر. فقال للحجاج: وأنا آمن على دمي؟ قال: لا والله لتؤدّينها ثم أقتلك. قال: لا تجمع مالي ودمي وأمر به فنحي. ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقّاص فوبّخه طويلا ثم أمر به فقتل ثم دعا بعمر بن موسى فوبخه ولاطفه في العذر فلم يقبل ثم أمر به فقتل. ثم أحضر الهلقام بن نعيم فوبخه. وقال: ابن الأشعث طلب الممالك فالذي طلبت أنت؟ قال: أن توليني العراق مكانك فأمر به فقتل. ثم أحضر عبد الله بن عامر فعذله في عبد الله يزيد بن المهلب لأنه أطلق قومه من الأسر وقاد نحوه مطرا، فأطرق الحجّاج، ثم قال: ما أنت وذاك؟ ثم أمر به فقتل فلم يزل في نفسه من يزيد حتى عزله. ثم أمر بفيروز فعذب ولما أحس بالموت قال أظهروني للناس ليردّوا عليّ ودائعي فلما ظهر نادى من كان لي عنده شيء فهو في حل فأمر به فقتل. وأمر بقتل عمر بن فهر الكندي وكان شريفا، وأحضر أعشى همدان واستنشده قصيدته بين الأثلج وبين قيس، وفيها تحريض ابن الأشعث وأصحابه فقال: ليست هذه وإنما التي بين الأثلج وبين قيس بارق على رويّ الدال. فأنشده فلما بلغ قوله بخ بخ للوالدة وللمولود. قال: والله لا تبخبخ بعدها أبدا وقتل. (وسأل الحجاج) عن الشعبي فقال له يزيد بن أبي مسلم إنه لحق بالري فكتب إلى قتيبة بن مسلم وهو عامله على الري بإرسال الشعبي. فقدم على الحجّاج سنة ثلاث وثمانين، وكان ابن أبي مسلم له صديقا فأشار عليه بحسن الاعتذار فلما دخل على الحجّاج سلّم عليه بالإمرة وقال: وأيم الله لا أقول إلا الحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 قد والله حرّضنا وجهدنا فما كنا أقوياء فجرة، ولا أتقياء بررة، وقد نصرك الله وظفرت فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا. فقال الحجاج: هذا والله أحب اليّ ممن يقول ما شهدت ولا فعلت وسيفه يقطر من دمائنا. ثم أمّنه وانصرف. (ولما ظفر الحجّاج) بابن الأشعث وهزمه لحق كثير من المنهزمين بعمر بن الصلت وقد كان غلب على الري في تلك الفتنة. فلما اجتمعوا أرادوا أن يحظوا عند الحجاج ويمحوا عن أنفسهم ذنب الجماجم فأشاروا على عمر بخلع الحجّاج فامتنع فدسوا عليه أباه فأجاب. ولما سار قتيبة إلى الري خرجوا مع عمر لقتاله ثم غدروا به فانهزم، ولحق بطبرستان وأقرّه الأصبهبد وأحسن اليه، وأرادوا الوثوب على الأصبهبد فشاور أباه وقال: قد علمت الأعاجم أني أشرف منه فمنعه أبوه ودخل قتيبة الري وكتب الحجّاج إلى الأصبهبد أن يبعث بهم أو برءوسهم ففعل ذلك: (ولما انصرف) عبد الرحمن بن الأشعث من هراة إلى رتبيل قال له علقمة ابن عمر الازدي: لا أدخل معك دار الحرب لأنّ رتبيل إن دخل إليه الحجاج فيك وفي أصحابك قتلكم أو أسلمكم إليه، ونحن خمسمائة قد تبايعنا على أن نتحصن بمدينة حتى نأمن أو نموت كراما وقدم عليهم مودود البصري، وزحف إليهم عمارة بن تميم اللخمي وحاصرهم حتى استأمنوا فخرجوا إليه وقلاهم وتتابعت كتب الحجّاج إلى رتبيل في عبد الرحمن يرهبه ويرغبه. وكان عبيد بن سميع التميمي من أصحاب ابن الأشعث وكان رسوله إلى رتبيل أوّلا فأنس به رتبيل وزحف عليه وأغرى القاسم بن الأشعث أخاه عبد الرحمن بقتله فخافه وزير لرتبيل أخذ العهد من الحجّاج وإسلام عبد الرحمن إليه على أن يكف عن أرضه سبع سنين فأجابه رتبيل وخرج إلى عمارة سرّا. وكتب عمارة إلى الحجّاج بذلك فأجاب وكتب له بالكفّ عنه عشر سنين، وبعث إليه رتبيل برأس عبد الرحمن وقيل مات بالسل فقطع رأسه وبعث به، وقيل أرسله مقيّدا مع ثلاثين من أهل بيته إلى عمارة فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح القصر فمات، فبعث عمارة برأسه وذلك سنة أربع أو خمس وثمانين. قد كنا قدمنا حصار المهلب مدينة كشّ من وراء النهر فأقام عليها سنتين، وكان استخلف على خراسان ابنه المغيرة فمات سنة اثنتين وثمانين، فجزع عليه وبعث ابنه يزيد إلى مرو ومكنه في سبعين فارسا، ولقيهم في مفازة نسف جمع من الترك يقاربون الخمسمائة فقاتلوهم قتالا شديدا يطلبون ما في أيديهم والمغيرة يمتنع حتى أعطى بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 أصحابه لبعضهم شيئا من المتاع والسلاح، ولحقوا بهم ولحق يزيد بمرو. ثم سأل أهل كشّ من المهلب الصلح على مال يعطونه، فاسترهن منهم رهنا من أبنائهم في ذلك، وانفتل المهلّب وخلّف حريث بن قطنة مولى خزاعة ليأخذ الفدية ويردّ الرهن، فلما صار ببلخ كتب إليه: لا تخل الرهن وإن قبضت الفدية حتى تقدم أرض بلخ لئلا يغيروا عليك فأقرأ صاحب كشّ كتابه وقال: إن عجلت أعطيتك الرهن، وأقول له جاء الكتاب بعد إعطائه. فعجّل صاحب كشّ بالفدية وأخذ الرهن وعرض له الترك كما عرضوا ليزيد وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى، ففدوهم فردا فردا وأطلقهم. ولما وصل إلى المهلّب ضربه ثلاثين سوطا عقوبة على مخالفة كتابه في الرهن. فحلف حريث بن قطنة ليقتلنّ المهلب، وخاف ثابتا أن كان ذلك المسير إليه فبعث إليه المهلب أخاه ثابت بن قطنة يلاطفه فأبى وحلف ليقتلن المهلب، وخاف ثابت إن كان ذلك أن يقتلوا جميعا فأشار عليه باللحاق بموسى بن عبد الله بن حازم، فلحق به في ثلاثمائة من أصحابهما. (ثم هلك المهلّب) واستخلف ابنه يزيد، وأوصى ابنه حبيبا بالصلاة وأوصى ولده جميعا بالاجتماع والألفة، ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد وأنها كم عن القطيعة، فإنّها تعقب النار والذلة والقلة، وعليكم بالطاعة والجماعة ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم واتقوا الجواب وزلة اللسان فإنّ الرجل تزلّ قدمه فينعش ويزلّ لسانه فيهلك واعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له. وآثروا الجود على البخل وأحبوا العرف واصنعوا المعروف، فإنّ الرجل من العرب تعده العدة فيموت فكيف بالصنيعة عنده. وعليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة فإنّها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء وإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر، وإن لم يظفر قيل ما فرّط ولا ضيّع ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات وذلك سنة اثنتين وثمانين. (ويقال) إنه لما حثّهم على الألفة والاجتماع أحضر سهاما محزومة فقال: أتكسرون هذه مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: فتكسرونها مفترقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. واستولى يزيد على خراسان بعد أبيه وكتب له الحجّاج بالعهد عليها ثم وضع العيون على بيزك حتى بلغه خروجه عن قلعته فسار إليها وحاصرها ففتحها وغنم ما كان فيها من الأموال والذخائر، وكانت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 من أحصن القلاع. وكان بيزك إذا أشرف عليها يسجد لها. ولما فتحها كتب إلى الحجّاج بالفتح وكان كاتبه يعمر العدوانيّ حليف هذيل فكتب: إنّا لقينا العدوّ فمنحنا الله أكنافهم فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برءوس الجبال ومهامه الأودية وأهضام الغيطان وأفناء الأنهار. فقال الحجّاج: من يكتب ليزيد؟ قيل: يحيى بن يعمر. فكتب بحمله على البريد فلما جاءه قال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز قال: فمن أين هذه الفصاحة؟ قال: حفظت من أولاد أبي وكان فصيحا قال: يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيرا. قال ففلان؟ قال: نعم. قال: فأنا؟ قال: تلحن خفيفا تجعل أنّ موضع إنّ وأنّ موضع أنّ. قال: أجلتك ثلاثا وإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان. بناء الحجاج مدينة واسط كان الحجاج ينزل أهل الشام على أهل الكوفة فضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان سنة ثلاث وثمانين، وعسكروا قريبا من الكوفة حتى يستتموا، ورجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمه فطرق بيته ودق الباب فلم يفتح له إلّا بعد هنيهة وإذا سكران من أهل الشام فشكت إليه ابنة عمه مراودته إيّاها. فقال لها: ائذني له فأذنت له، وجاء فقتله الفتى وخرج إلى العسكر وقال: ابعثي إلى الشاميين وارفعي إليهم صاحبهم فأحضروها عند الحجّاج فأخبرته. فقال: صدقت! وقال للشاميين لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار. ثم نادى مناديه لا ينزل أحد على أحد وبعث الروّاد فارتادوا له مكان واسط ووجد هناك راهبا ينظف بقعته من النجاسات فقال: ما هذه؟ قال: نجد في كتبنا أنه ينشأ هاهنا مسجد للعبادة. فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك وبنى المسجد في تلك البقعة. عزل يزيد عن خراسان يقال إنّ الحجّاج وفد إلى عبد الملك ومرّ في طريقه براهب قيل له إنّ عنده علما من الحدثان فقال: هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه؟ قال: نعم فقال: مسمّى أو موصوفا؟ قال: موصوفا. قال: فما تجدون صفة ملكنا؟ قال: صفته كذا. قال ثم من؟ قال: آخر اسمه الوليد. قال: ثم من؟ قال: آخر اسمه ثقفي. قال فمن تجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 بعدي قال رجل يدعى يزيد. قال أتعرف صفته قال لا أعرف صفته إلا أنه يغدر غدرة فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد بن المهلب ووجل منه وقدم على عبد الملك. ثم عاد إلى خراسان وكتب إلى عبد الملك يذمّ يزيد وآل المهلب وأنهم زبيريّة فكتب إليه إنّ وفاءهم لآل الزبير يدعوهم إلى الوفاء لي فكتب إليه الحجّاج يخوّفه غدرهم وما يقول الراهب فكتب إليه عبد الملك إنك أكثرت في يزيد فانظر من تولّي مكانه فسمّى له قتيبة بن مسلم فكتب له أن يوليه. وكره الحجاج أن يكاتبه بالعزل فاستقدمه وأمره أن يستخلف أخاه المفضل واستشار يزيد حصين بن المنذر الرقاشيّ فقال له: أقم واعتل وكاتب عبد الملك فإنه حسن الرأي فيك نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف. وأخذ يتجهز وأبطأ فكتب الحجّاج إلى المفضل بولاية خراسان واستلحاق يزيد. فقال: إنه لا يضرّك بعدي وإنما ولّاك مخافة أن امتنع وخرج يزيد في ربيع سنة خمس وثمانين. ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته وولى قتيبة بن مسلم وقيل سبب عزل اليزيد أنّ الحجاج أذل العراق كلهم إلّا آل المهلب وكان يستقدم يزيد فيعتل عليه بالعدا [1] والحروب وقيل كتب إليه أن يغزو خوارزم فاعتذر إليه بأنها قليلة السلب شديدة الكلف. ثم استقدمه بعد ذلك فقال إنّي أغزو خوارزم فكتب الحجّاج لا تغزها فغزاها وأصاب سبيا وصالحه أهلها وانفتل في الشتاء. وأصاب الناس البرد فتدثروا بلباس الأسرى فبقوا عرايا وقتلهم المفضل. ولما ولى المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه ثم غزا شومان فغنم وقسّم ما أصابه. مقتل موسى بن حازم كان عبد الله بن حازم لما قتل بني تميم بخراسان وافترقوا عليه فخرج إلى نيسابور، وخاف بنو تميم على ثقله بمرو فقال لابنه موسى: اقطع نهر بلخ حتى نلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن نقيم فيه. فسار موسى عن مرو في مائتين وعشرين فارسا واجتمع إليه شبه الأربعمائة وقوم من بني سليم وأتى قم فقاتله أهلها فظفر بهم وأصاب منهم مالا، وقطع النهر. وسأل صاحب بخارى أن يأوي إليه فأبى وخافه، وبعث إليه بصلة فسار عنه وعرض نفسه على ملوك الترك فأبوا خشية منه، وأتى سمرقند فأذن   [1] لعلها العدي ومعناها الأعداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 له ملكها طرخون ملك الصغد في المقام فأقام وبلغه قتل أبيه عبد الله بن حازم ولم يزل مقيما بسمرقند. وبارز بعض أصحابه يوما بعض الصغد فقتله فأخرجه طرخون عنه فأتى كشّ فنزلها ولم يطق صاحبها مدافعته واستجاش عليه بطرخون. فخرج موسى للقائه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس فاقتتلوا إلى الليل ودسّ موسى بعض أصحابه إلى طرخون يخوّفه عاقبة أمره وأنّ كل من يأتي خراسان يطالبه بدمه فقال: يرتحل عن كشّ؟ قال له: نعم! وكفّ حتى ارتحل وأتى ترمذ، فنزل إلى جانب حصن بها مشرف على النهر، وأبى ملك ترمذ من تمليكه الحصن فأقام هنالك ولاطف الملك وتودّد له وصار يتصيد معه. وصنع له الملك يوما طعاما وأحضره في مائة من أصحابه ليأكلوا، فلما طعموا امتنعوا من الذهاب. وقال موسى هذا الحصن إمّا بيتي أو قبري وقاتلهم فقتل منهم عدّة واستولى على الحصن وأخرج ملك ترمذ ولم يتعرّض له ولا لأصحابه. ولحق به جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم، وكان يغير على ما حوله. ولما ولي أمية خراسان سار لغزوه وخالفه بكير كما تقدّم. ثم بعث إليه بعد صلحه مع بكير الجيوش مع رجل من خزاعة وحاصروه. وعاود ملك ترمذ استنصاره بالترك في جمع كثير ونزلوا عليه من جانب آخر. وكان يقاتل العرب أوّل النهار والترك آخره ثلاثة أشهر. ثم بيّت الترك ليلة فهزمهم وحوى عسكرهم بما فيه من المال والسلاح ولم يهلك من أصحابه إلا ستة عشر رجلا. وأصبح الخزاعي والعرب وقد خافوا مثلها. وغدا عمر بن خالد بن حصين الكلابي على موسى بن حازم وكان صاحبه فقال: إنّا لا نظفر إلّا بمكيدة فاضربني وخلني، فضربه خمسين سوطا فلحق بالخزاعي وقال: إنّ ابن حازم اتهمني بعصبيتكم وأني عين لكم فأمّنه الخزاعي وأقام عنده. ودخل عليه يوما وهو خال فقال له: لا ينبغي أن تكون بغير سلاح. فرفع طرف فراشه وأراه سيفا منتضى تحته فضربه عمر حتى قتله ولحق بموسى. وتفرّق الجيش واستأمن بعضهم موسى. ولما ولي المهلّب على خراسان قال لبنيه: إياكم وموسى فإنه إن مات جاء على خراسان أمير من قيس. ثم لحق به حريث وثابت ابنا قطنة الخزاعي فكانا معه. ولما ولي يزيد أخذ أموالهما وحرمهما، وقتل أخاهما للأم الحرث بن معقّد، فسار ثابت إلى طرخون صريخا، وكان محببا إلى الترك فغضب له طرخون. وجمع له نيزك وملك الصغد وأهل بخارى والصاغان، فقدموا مع ثابت إلى موسى وقد اجتمع عليه فلّ عبد الرحمن بن عبّاس من هراة وفل ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 الأشعث من العراق ومن كابل. فكان معه نحو ثمانية آلاف فقال له ثابت وحريث: سر بنا في هذا العسكر مع الترك، فنخرج يزيد من خراسان ونوليك، فحذّر موسى أن يغلباه على خراسان، ونصحه بعض أصحابه في ذلك فقال لهما: إن أخرجنا يزيد قدم عامل المدينة عبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر ويكون لنا، فأخرجوهم وانصرف طرخون والترك. وقوي أمر العرب بترمذ وجبوا الأموال واستبد ثابت وحريث على موسى وأغراه أصحابه بهما فهم بقتلهما، وإذا بجموع العجم قد خرجت إليهم من الهياطلة والتبّت والترك فخرج موسى فيمن معه للقتال. ووقف ملك الترك على ما قيل في عشرة آلاف، فحمل عليهم حريث بن قطنة حتى أزالهم عن موضعهم، وأصيب بسهم في وجهه وتحاجزوا ثم بيّتهم موسى فانهزموا وقتل من الترك خلق كثير ومات منهم قليل. ومات حريث بعد يومين ورجع موسى بالظفر والغنيمة. وقال له أصحابه: قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت فأبى. وبلغ ثابتا بعض ما كانوا يخوضون فيه ودسّ محمد بن عبد الله الخزاعي عليهم على أنه من سبي الباسيان ولا يحسن العربية، فاتصل بموسى وكان ينقل إلى ثابت خبر أصحابه فقال لهم ليلة: قد أكثرتم عليّ فعلى أيّ وجه تقتلونه ولا أغدر به؟ فقال له أخوه نوح: إذا أتاك غدا عد لنا به إلى بعض الدور فقتلناه قبل أن يصل إليك. فقال والله: إنه لهلاككم وجاء الغلام إلى ثابت بالخبر فخرج من ليلته في عشرين فارسا وأصبحوا ففقدوه وفقدوا الغلام فعلموا أنه كان عينا. ونزل ثابت بحشور واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم. وسار إليه موسى وقاتله، فحصر ثابتا بالمدينة. وأتاه طرخون مددا فرجع موسى إلى ترمذ. ثم اجتمع ثابت وطرخون وأهل بخارى ونسف وأهل كش في ثمانين ألفا. فحاصروا موسى بترمذ حتى جهد أصحابه. وقال يزيد بن هذيل والله لأقتلن ثابتا أو أموت. فاستأمن إليه وحذّره بعض أصحابه منه فأخذ ابنيه قدامة والضحّاك رهنا وأقام يزيد يتلمّس غرّة ثابت. ومات ابن الزياد والقصير الخزاعي فخرج إليه ثابت يعزيه وهو بغير سلاح فضربه يزيد على رأسه وهرب وأخذ طرخون قدامة والضحّاك ابني يزيد فقتلهما. وهلك ثابت لسبعة أيام وقام مكانه من أصحابه ظهير [1] وضعف أمرهم وبيّتهم موسى ليلا في   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 511: «وأخذ طرخون قدامة والضحّاك ابني يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام ومات. وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياما ضعيفا وانتشر أمرهم وأجمع موسى على بياتهم ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ثلاثمائة فبعث إليه طرخون كف أصحابك فإنّا نرحل الغداة. فرجع وارتحل طرخون والعجم جميعا. ولما ولي المفضل خراسان بعث عثمان بن مسعود في جيش إلى موسى ابن حازم وكتب إلى مدرك بن المهلب في بلخ بالمسير معه، فعبر النهر في خمسة عشر ألفا، وكتب إلى رتبيل وإلى طرخون أن يكونوا مع عثمان. فحاصروا موسى بن حازم فضيّقوا عليه شهرين، وقد خندق عثمان على معسكره حذر البيات فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا مستميتين واقصدوا الترك فخرجوا وخلّف النضر ابن أخيه سليمان في المدينة وقال له: إن أنا قتلت فملك المدينة لمدرك بن المهلّب دون عثمان وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال لا تقاتلوه إلا إن قاتلكم وقصد طرخون وأصحابه وصدقوهم القتال، فانهزم طرخون وأخذوا وحجزت الترك والصغد بينهم وبين الحصن فقاتلهم فعقروا فرسه وأردفه مولى له فبصر به عثمان حين وثب فعرفه فقصده وعقروا به الفرس وقتلوه، وقتل خلق كثير من العرب وتولى قتل موسى واصل العنبريّ ونادى منادي عثمان بكفّ القتل وبالأسر وبعث النضر بن سليمان إلى مدرك ابن المهلب فسلّم إليه مدينة ترمذ وسلّمها مدرك إلى عثمان وكتب المفضل إلى الحجّاج بقتل موسى فلم يسرّه لأنه من قيس وكان قتل موسى [1] سنة خمس وثمانين لخمس عشرة سنة من تغلبه على ترمذ. البيعة للوليد بالعهد وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد والبيعة لابنه الوليد، وكان قبيصة ينهاه عن ذلك ويقول: لعلّ الموت يأتيه وتدفع العار عن نفسك وجاءه روح بن زنباع [2] ليلة وكان عنده عظيما ففاوضه في ذلك فقال: لو فعلته ما انتطح فيه عنزان. فقال: نصلح إن شاء الله. وأقام روح عنده ودخل عليهما قبيصة بن ذؤيب من جنح   [1] رحمه الله لو أبقي في حصنه ليكون سدا بينهم وبين طوائف الأمم المجاورة له لكان خيرا لهم وللإسلام، فقد فجعوا الإسلام بقتله، كما فجعوه بقتل قتيبة بن مسلم الباهلي. فاني أظن انه لم يأت في صدر الإسلام عند قيام الدولة الأموية مثلهما. يعرف ذلك من نظر في وقائعهما وحروبهما. «من خط الشيخ العطّار» . [2] روح بن زنباع قالت فيه زوجته: بكن الخز من روح وأنكر جلده ... وعجبت عجبا من جزام المطارف وهذا البيت أورده السنوسي في شرح الكبرى، واختلفت نسخ الشراح والحواشي فيه فمن قائل عون وآخر عوف والصحيح روح. وله ترجمة في كتاب الاغاني. ولزوجته قائلة البيت قصة ظريفة رحمهما الله تعالى أهـ. من خط الشيخ العطار» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 الليل وهما نائمان وكان لا يحجب عنه وإليه الخاتم والسكة فأخبره بموت عبد العزيز أخيه. فقال روح: كفانا الله ما نريد ثم ضم مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولّاه عليها. ويقال: إنّ الحجاج كتب إلى عبد الملك يزيّن له بيعة الوليد فكتب إلى عبد العزيز إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك، فكتب له أن تجعل الأمر له من بيعة فكتب له إني أرى في أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب له عبد الملك أن يحمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز إني وإياك يا أمير المؤمنين قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا ولا ندري أينا يأتيه الموت فلا تفسد عليّ بقية عمري فرقّ له عبد الملك وتركه. (ولما) بلغ الخبر بموت عبد العزيز عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنه الوليد وسليمان، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان. وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا وأبى سعيد بن المسيّب فضربه ضربا مبرحا وطاف به وحبسه. وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه ويقول: إنّ سعيدا ليس عنده شقاق ولا نفاق ولا خلاف وقد كان ابن المسيّب امتنع من بيعة ابن الزبير فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطا، وكتب إليه ابن الزبير يلومه. وقيل إنّ بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين والأوّل أصح. وقيل قدم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر فلما فارقه وصّاه عبد الملك فقال: أبسط بشرك وألن كنفك وآثر الرّفق في الأمور فهو أبلغ لك، وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك. ولا يقفنّ أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الّذي تأذن له أو تردّه، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشورة فإنّها تفتح مغاليق الأمور المبهمة واعلم أنّ لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ولن يهلك امرؤ عن مشورة وإذا سخطت على أحد فأخّر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردّها بعد إصابتها. وفاة عبد الملك وبيعة الوليد ثم توفي عبد الملك منتصف شوال سنة ست وثمانين وأوصى إلى بنيه فقال: أوصيكم بتقوى الله فإنّها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الّذي عنه تفترّون، ولحيكم الّذي عنه ترمون وأكرموا الحجّاج فإنه الّذي وطّأ لكم المنابر، ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم مغنى الأعداء. وكونوا بني أم بررة لا تدب بينكم العقارب. وكونوا في الحرب أحرارا فإنّ القتال لا يقرّب منيّة وكونوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 للمعروف منارا فإنّ المعروف يبقى أجره وذخره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنه لصون له، واشكر [1] لما يؤتي إليهم منه، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا، وإن عادوا فانتقموا. (ولما دفن عبد الملك) قال الوليد: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين والحمد للَّه على ما أنعم علينا من الخلافة. فكان أوّل من عزّى نفسه وهنأها. ثم قام عبد الله بن همّام السامولي وهو يقول: الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلّا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها وبايعه ثم بايعه الناس بعده وقيل إنّ الوليد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا مقدّم لما أخّره الله ولا مؤخر لما قدّمه الله وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار ووليّ هذه الأمّة بالذي يحق للَّه عليه في الشدّة على المذنب واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منازل الإسلام وإعلائه من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله فلم يكن عاجزا ولا مفرّطا. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإنّ الشيطان مع المنفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الّذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه ثم نزل. ولاية قتيبة بن مسلم خراسان وأخباره قدم قتيبة [2] خراسان أميرا عن الحجّاج سنة ستة وثمانين فعرض الجند وحثّ على الجهاد وسار غازيا وجعل على الحرب بمرو [3] إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي وتلقاه دهاقين البلخ والطالقان وساروا معه. ولما عبر النهر تلقّاه ملك الصغانيان بهداياه. وكان ملك أخرون وشومان يسيء جواره فدعاه إلى بلاده وسلّمها إليه. وسار قتيبة إلى أخرون وشومان وهو من طخارستان فصالحه ملكهما على فدية أدّاها إليه. وقبضها ثم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح بعد   [1] لعلها واشكروا حسب مقتضى السياق لأنه يخاطب أولاده. [2] هذا فحل الدولة الأموية كما ان الحجاج فرعونها، كتبه الشيخ العطار. [3] مرو احدى قواعد إقليم خراسان الأربع وهي مرو وهراة وبلخ ونيسابور كتبه الشيخ العطار أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 رجوع قتيبة كاشان وأورشت من فرغانة، ثم أخسيكت مدينة فرغانة القديمة، وكان معه ابن يسّار وأبلى في هذه الغزاة. وقيل إنّ قتيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين وكان من ذلك السبي امرأة برمك. وكان برمك على النوبهار، فصارت لعبد الله بن مسلم أخي قتيبة فوقع عليها وعلقت منه بخالد، ثم صالح أهل بلخ وأمر قتيبة بردّ السبي، فألحق عبد الله به حملها. ثم ردّت إلى برمك. وذكر أنّ ولد عبد الله بن مسلم ادّعوه ورفعوا أمرهم إلى المهدي وهو بالري، فقال لهم بعض قرابتهم إنكم إن استلحقتموه لا بدّ لكم أن تزوّجوه، فتركوه ولما صالح قتيبة ملك شومان [1] كتب إلى بترك طرخان صاحب باذغيس فيمن عنده من أسرى المسلمين هدّدهم فبعث بهم إليه. ثم كتب إليه يستقدمه على الأمان فخشي وتثاقل، ثم قدم وصالح لأهل باذغيس على أن لا يدخلها قتيبة ثم غزا بيكنداد في مدائن بخارى إلى النهر سنة سبع وثمانين. فلما نزل بهم استجاشوا بالصغد وبمن حولهم من الترك. وساروا إليه في جموع عظيمة، وأخذوا عليه الطرق. فانقطعت الأخبار والرسل ما بينه وبين المسلمين شهرين، ثم هزمهم بعض الأيام وأثخن فيهم بالقتل والأسر وجاء إلى السور ليهدمه، فسألوا الصلح فصالحهم واستعمل عليهم وسار عنهم غير بعيد. فقتلوا العامل ومن معه فرجع إليهم وهدم سورهم وقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة وغنم من السلاح وآنية الذهب والفضة ما لم يصيبوا مثله. ثم غزا سنة ثمان وثمانين بلد نومكثت فصالحوه وسار إلى رامسة فصالحوه أيضا، فانصرف وزحف أيضا إليه الترك والصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كوربعابور ابن أخت ملك الصين، واعترضوا مقدمته وعليها أخوه عبد الرحمن فقاتلهم حتى جاء قتيبة وكان ينزل معه، فأبلى مع المسلمين ثم انهزم الترك وجموعهم، ورجع قتيبة إلى مرو. ثم أمره الحجّاج سنة تسع وثمانين وبخارى، وملكها وردان خذاه فعبر النهر من زمّ ولقيه الصغد وأهل كشّ ونسف بالمفازة وقاتلوه فهزمهم ومضى إلى بخارى فنزل عن يمين وردان ولم يظفر منه بشيء ورجع إلى مرو. عمارة المسجد كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين لأربع سنين من ولايته، وولّى عليها عمر بن عبد العزيز فقدمها ونزل دار مروان ودعا عشرة من فقهاء المدينة   [1] وفي نسخة ثانية سومرن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 فيهم الفقهاء السبعة المعروفون، فجعلهم أهل مشورته لا يقطع أمرا دونهم وأمرهم أن يبلغوه الحاجات والظلامات فشكروه وجزوه خيرا. ودعا له الناس ثم كتب إليه سنة ثمان [1] أن يدخل حجر أمّهات المؤمنين في المسجد ويشتري ما في نواحيه حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها، وقدّم القبلة ومن أبى أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل وادفع إليه الثمن وأهدم عليه الملك، ولك في عمر وعثمان إسوة. فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها وبعث الوليد إلى ملك الروم أنه يريد بناء المسجد فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ومائة من الفعلة وأربعين حملا من الفسيفساء [2] وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز واستكثر معهم من فعله الشام وشرع عمر في عمارته أهـ وولّى الوليد في سنة تسع وثمانين على مكّة خالد بن عبد الله القسريّ. فتح السند كان الحجّاج قد ولّى على ثغر السند ابن عمه محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل، وجهّز معه ستة آلاف مقاتل ونزل مكران، فأقام بها أياما ثم أتى فيريوز ففتحها ثم أرمايل ثم سار إلى الدبيل وكان به بدّ [3] عظيم في وسط المدينة على رأسه دقل عظيم وعليه راية فإذا هبت الريح دارت فأطافت بالمدينة والبد صنم مركوز في بناء والدقل منارة عليه وكل ما يعبد فهو عندهم بدّ. فحاصر الدبيل ورماهم بالمنجنيق فكسر الدقل فتطيّروا بذلك ثم خرجوا إليه فهزمهم وتسنّم الناس الأسوار ففتحت عنوة وأنزل فيها أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى النيروز. وقد كانوا بعثوا إلى الحجّاج وصالحوه فلقوا محمدا بالميرة وأدخلوه مدينتهم وسار عنها وجعل لا يمرّ بمدينة من مدائن السند إلا فتحها حتى بلغ نهر مهران، واستعد ملك السند لمحاربته واسمه داهر بن صصّة ثم عقد الجسر على النهر وعبر فقاتله داهر وهو على الفيل وحوله الفيلة. ثم اشتدّ القتال وترجّل داهر فقاتل حتى قتل وانهزم الكفّار واستلحمهم المسلمون ولحقت امرأة داهر بمدينة راور فساروا إليها وخافته، فأحرقت نفسها وجواريها. وملك المدينة ولحق الفلّ بمدينة بدهمتاباد العتيقة على فرسخين من مكان المنصورة وهي يومئذ غيضة، ففتحها عنوة واستلحم من وجد بها   [1] اي سنة ثمان وثمانين. [2] قوله الفسيفساء حي أحجار صغيرة ملونة انتهى. من خط الشيخ العطار. [3] بد: صنم كبير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وخرّبها. ثم استولى على مدائن السند واحدة واحدة وقطع نهر ساسل إلى الملقاد فحاصرها وقطع الماء فنزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقتل سدنة البلد وهم ستة آلاف وأصابوا في البلد ذهبا كثيرا في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية كانت الأموال تهدى إليه من البلدان ويحجون إليه ويحلقون شعرهم عنده ويزعمون أنه هو أيوب فاستكمل فتح السند وبعث من الخمس بمائة وعشرين ألف ألف وكانت النفقة نصفها. فتح الطالقان وسمرقند وغزو كش ونسف والشاش وفرغانة وصلح خوارزم قد تقدّم أن قتيبة غزا بخارى سنة تسع وثمانين، وانصرف عنها ولم يظفر. وبعث إليه الحجّاج سنة تسعين يوبخه على الانصراف عنها ويأمره بالعود فسار إليها ومعه نيزك طرخان صاحب باذغيس، وحاصرها واستجاش ملكها وردان أخذاه [1] بمن حوله من الصغد والترك. فلما جاء مددهم خرجوا إلى المسلمين وكانت الأزد في المقدّمة فانهزموا حتى جازوا عسكر المسلمين ثم رجعوا وزحفت العساكر حتى ردّوا الترك إلى موقفهم. ثم زحف بنو تميم وقاتلوا الترك حتى خالطوهم في مواقفهم وأزالوهم عنها وكان بين المسلمين وبينهم نهر لم يتجاسر أحد على عبوره إلا بنو تميم، فلما زالوا عن مواقفهم عبر الناس واتبعوهم وأثخنوا فيهم بالقتل، وخرج خاقان وابنه وفتح الله على المسلمين وكتب بذلك إلى الحجّاج ولما استوت الهزيمة جاء طرخون ملك الصغد ومعه فارسان ودنا من عسكر قتيبة يطلب الصلح على فدية يؤدّيها فأجابه قتيبة وعقد له ورجع قتيبة ومعه نيزك وقد خافه لما رأى من الفتوح، فاستأذنه في الرجوع وهو بآمد، فرجع يريد طخارستان وأسرع السير وبعث قتيبة إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسه وتبعه المغيرة فلم يدركه وأظهر نيزك الخلع ودعا لذلك الأصبهند [2] ملك بلخ. وباذان ملك مروالروذ وملك الطالقان وملك القاربات وملك الجوزجان فأجابوه، وتوعدوا [3] لغزو قتيبة. وكتب إلى كاتب شاه يستظهر به وبعث إليه بأثقاله وأمواله واستأذنه في الإتيان إن اضطر إلى ذلك. وكان جيفونة ملك   [1] ورد اسمه سابقا وردان خذاه. [2] هو الأصبهبذ كما مرّ اسمه في مكان سابق. [3] لعلها تواعدوا حسب مقتضى السياق اي اتفقوا على موعد، اما التوعد اي التهديد فلا معنى لها هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 طخارستان نيزك ينزل عنده، فاستضعفه وقبض عليه وقيّده خشية من خلافه وأخرج عامل قتيبة من بلده. وبلغ قتيبة وخبرهم قبل الشتاء وقد تفرّق الجند فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألف إلى البروقان، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انقضى الشتاء تقدّم إلى طخارستان وأنا قريب منك. ولما انصرم الشتاء استقدم قتيبة الجنود من نيسابور وغيرها فقدموا، فسار نحو الطالقان وكان ملكها قد دخل معهم في الخلع ففتحها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في مثلها، واستخلف عليها أخاه محمد بن مسلم، وسار إلى القاربات فخرج إليه ملكها مطيعا واستعمل عليها وسار إلى الجوزجان فلقيه أهلها بالطاعة، وهرب ملكها إلى الجبال واستعمل عليها عامر بن ملك الحماس. ثم أتى بلخ وتلقاه أهلها بالطاعة وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب حمله، ومضى نيزك إلى بغلان وخلف المقاتلة على فم الشعب ولا يهتدي إلى مدخل، ومضايقوه يمنعونه. ووضع أثقاله في قلعة من وراء الشعب، وأقام قتيبة أياما يقاتلهم على فم الشعب ولا يهتدى إلى مدخل، حتى دلّه عليه بعض العجم هنالك على طريق سرّب منه الرجال إلى القلعة فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومضى إلى سمنجان ثم إلى نيزك، وقدّم أخاه عبد الرحمن وارتحل نيزك إلى وادي فرغانة، وبعث أثقاله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى إلى السكون فتحصّن به ولم يكن له إلا مسلك واحد صعب على الدواب فحاصره قتيبة شهرين حتى جهدوا وأصابهم جهد الجدري وقرب فصل الشتاء فدعا قتيبة بعض خواصه ممن كان يصادق نيزك فقال: انطلق إليه وأثن عليه بغير أمان وإن أعياك فأمنه وإن جئت دونه صلبتك. فمضى الرجل وأشار عليه بلقائه وأنه عازم على أن يشق هنالك، فقال: أخشاه فقال له: لا يخلّصك إلا إتيانك، تنصّح له بذلك وبأنه يخشى عليه من غدر أصحابه الذين معه. ولم يزل يفتل له [1] في الذروة والغارب، وهو يمتنع حتى قال له: إنه قد أمّنك. فأشار عليه أصحابه بالقبول لعلمهم بصدقة وخرج معه نيزك ومعهم جيفونة ملك طخارستان الّذي كان قيّده حتى انتهوا إلى الشعب وهناك خيل أكمنه الرجل ما كان فيه وكتب إلى الحجّاج يستأذنه في قتل نيزك فوافاه كتابه لأربعين يوما بقتله فقتله وقتل معه صول طرخان خليفة جيفونة وابن أخي نيزك ومن أصحابه   [1] «قوله يفتل له ... هو مثل من أمثال العرب يضرب في الخداع والمماكرة أهـ. من الميداني» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 سبعمائة وصلبهم وبعث برأسه إلى الحجاج وأطلق جيفونة وبعث به إلى الوليد ثم رجع إلى مرو. وأرسل إليه ملك الجوزجان يستأمنه فأمّنه على أن يأتيه فطلب الرهن فأعطاه. وقدم ثم رجع فمات بالطالقان وذلك سنة إحدى وتسعين. ثم سار إلى شومان فحاصرها، وقد كان ملكها طرد عامل قتيبة من عنده، فبعث إليه بعد مرجعه من هذه الغزاة أن يؤدّي ما كان صالح عليه، فقتل الرسول، فسار إليه قتيبة وبعث له صالح أخو قتيبة وكان صديقه ينصحه في مراجعة الطاعة فأبى، فحاصره قتيبة ونصب عليه المجانيق فهدم الحصن وجمع الملك ما في الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر لا يدرك قعره، ثم استمات وخرج فقاتل حتى قتل وأخذ قتيبة القلعة عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرّية ثم بعث أخاه عبد الرحمن إلى الصغد وملكهم طرخون فأعطى ما كان صالح عليه قتيبة. وسار قتيبة إلى كشّ ونسف فصالحوه. ورجع ولقي أخاه ببخارى وساروا إلى مرو. (ولما رجع) عن الصغد، حبس الصغد ملكهم طرخون لإعطائه الجزية وولّوا عليهم غورك فقتل طرخون نفسه ثم غزا في سنة اثنتين وتسعين إلى سجستان يريد رتبيل فصالحه وانصرف. وكان ملك خوارزم قد غلبه أخوه خرزاد على أمره وكان أصغر منه وعاث في الرعية وأخذ أموالهم وأهليهم فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلّمها إليه على أن يمكنه من أخيه ومن عصاه من دونهم، فأجابه قتيبة ولم يطلع الملك أحدا من مرازبته على ذلك وتجهز قتيبة سنة ثلاث وتسعين وأظهر غزو الصغد، فأقبل أهل خوارزم على شأنهم ولم يحتفلوا بغزوه، وإذا به قد نزل هزارسب قريبا منهم، وجاء أصحاب خوارزم شاه إليه فدعوه للقتال فقال: ليس لنا به طاقة ولكن نصالحه على شيء نعطيه كما فعل غيرنا، فوافقوه. وسار إلى مدينة الفيد من وراء النهر، وهذا حصن بلاده وصالحه بعشرة آلاف رأس وعين ومتاع وأن يعينه على خام جرد وقيل على مائة ألف رأس [1] . وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد وهو عدو لخوارزم شاه فقاتله وقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وأسر منهم أربعة آلاف فقتلهم وسلّم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفه من أمرائه فقتلهم، ودفع أموالهم إلى قتيبة. ولما قبض قتيبة أموالهم أشار عليه المحشر بن مخازم   [1] قوله على مائة ألف رأس لعله ممن يأخذ منهم خراجا، والا فمن العبيد استرقاق هذا العدد وأخذه منهم. وماذا يصنعون بهذا العدد وأي طعام يكفيهم كل يوم. من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 السلميّ بغزو الصغد وهم آمنون على مسافة عشرة أيام. فقال أكتم ذلك فقدّم أخاه في الفرسان والرماة، وبعثوا بالأثقال إلى مرو، وخطب قتيبة الناس وحثّهم على الصغد وذكّرهم الضغائن فيهم. ثم سار فأتى الصغد بعد ثلاث من وصول أخيه، فحاصرهم بسمرقند شهرا واستجاشوا ملك الشاش وأخشاد [1] خاقان وفرغانة فانتخبوا أهل النجدة من أبناء الملوك والمرازبة والأساورة وولّوا عليهم ابن خاقان وجاءوا إلى المسلمين، فانتخب قتيبة من عسكره ستمائة فارس، وبعث بهم أخاه صالحا لاعتراضهم. في طريقهم، فلقوهم بالليل وقاتلوهم أشدّ قتال، فهزموهم وقتلوهم وقتلوا ابن خاقان ولم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم، ونصب قتيبة المجانيق فرماهم بها وثلم السور واشتدّ في قتالهم، وحمل الناس عليهم إلى أن بلغوا الثلمة. ثم صالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال، في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، وأن يمكّنوه من بناء مسجد بالمدينة ويخلوها حتى يدخل فيصلّي فيه. فلما فعل ذلك ودخل المدينة أكرههم على إقامة جند فيها وقيل إنه شرط عليهم الأصنام وما في بيوت النار فأعطوه فأخذ الحلية وأحرق الأصنام وجمع من بقايا مساميرها وكانت ذهبا خمسين ألف مثقال. وبعث بجارية من سبيها من ولد يزدجرد إلى الحجّاج، فأرسلها الحجّاج إلى الوليد وولدت له يزيد. ثم قال فورك لقتيبة انتقل عنّا فانتقل وبعث إلى الحجاج بالفتح. ثم رجع إلى مرو واستعمل على سمرقند إياس ابن عبد الله على حربها، وعبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم على خراجها، فاستضعف أهل خوارزم إياسا وجمعوا له فبعث قتيبة عبد الله عاملا على سمرقند وأمره أن يضرب إياسا وحبايا السطي مائة مائة ويخلعهما. فلما قرب عبد الله من خوارزم مع المغيرة بن عبد الله فبلغهم ذلك وخشي ملكهم من أبناء الذين كان قتلهم ففرّ إلى بلاد الترك. وجاء المغيرة فقتل وسبى وصالحه الباقون على الجزية، ورجع إلى قتيبة فولّاه على نيسابور ثم غزا قتيبة سنة أربع وتسعين إلى ما وراء النهر وفرض البعث على أهل بخارى وكشّ ونسف وخوارزم، فسار منهم عشرون ألف مقاتل فبعثهم إلى الشاش وسار هو إلى خجندة فجمعوا له واقتتلوا مرارا كان الظفر فيها للمسلمين. وفتح الجند الذين ساروا إلى الشاش مدينة الشاش وأحرقوها ورجعوا إلى قتيبة وهو على كشان   [1] قوله واخشاد لعله اخشيد فرغانة لأن ملك فرغانة يقال له الإخشيد من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 مدينة فرغانة وانصرف إلى مرو ثم بعث الحجّاج إليه جيشا من العراق وأمره بغزو الشاش فسار لذلك وبلغه موت الحجّاج فرجعوا إلى مرو. خبر يزيد بن المهلب واخوته كان الحجاج قد حبس يزيد وإخوته سنة ست وثمانين وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان فأقاموا في محبسهم إلى سنة تسعين. وبلغه أنّ الأكراد غلبوا على فارس فعسكر قريبا من البصرة للبعث وأخرج معه بني المهلب وجعلهم في فسطاط قريبا منه ورتّب عليهم الحرس من أهل الشام. ثم طلب منهم ستة آلاف ألف، وأمر بعذابهم وبكت أختهم هند بنت المهلب زوجة الحجاج فطلقها. ثم كفّ عنهم وجعل يستأدبهم وبعثوا إلى أخيهم مروان وكان على البصرة أن يعدّ لهم خيلا وكان حبيب منهم يعذب بالبصرة فصنع يزيد للحرس طعاما كثيرا وأمر لهم بشراب فأقاموا يتعاقرون واستغفلهم يزيد والمفضل وعبد الملك وخرجوا ولم يفطنوا لهم. ورفع الحرس خبرهم إلى الحجّاج فخشيهم على خراسان وبعث البريد إلى قتيبة يخبرهم ليحذرهم، وكان يزيد قد ركب السفن إلى البطائح واستقبلته الخيل المعدّة له هناك، وساروا إلى الشام على السماوة ومعهم دليل من كلب ونمى خبرهم إلى الحجّاج فبعث إلى الوليد بذلك. وقدموا إلى فلسطين فنزلوا على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي وكان كريما على سليمان فأخبره بحالهم وأنهم استجاروا به من الحجاج، فقال: ائتني بهم فقد أجرتهم. وكتب الحجّاج إلى الوليد أنّ بني المهلب خانوا مال الله وهربوا مني فلحقوا بسليمان. فسكن ما به لأنه كان خشيهم على خراسان كما خشيهم الحجّاج وكان غضبا للمال الّذي ذهبوا به فكتب سليمان إلى الوليد أنّ يزيد عندي وقد أمّنته، وكان الحجّاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدّ نصفها وأنا أؤدّي النصف. فكتب الوليد لا أؤمنه حتى تبعث به، فكتب سليمان لأجيئنّ معه، فكتب الوليد إذن لا أؤمنه. فقال يزيد لسليمان: لا يتشاءم الناس بي لكما فاكتب معي وتلطف ما أطقت، فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب وكان الوليد أمر أن يبعث مقيدا. فقال سليمان لابنه: أدخل على عمك أنت ويزيد في سلسلة. فقال: الوليد لما رأى ذلك لقد بلغنا من سليمان. ثم دفع أيوب كتاب أبيع بالشفاعة وضمان المال عن يزيد فقرأه الوليد واستعطفه أيوب في ذمّة أبيه وجواره، وتكلم يزيد واعتذر فأمّنه الوليد ورجع إلى سليمان وكتب الوليد إلى الحجاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 بالكفّ عنهم فكف عن حبيب وأبي عبسة وكانا عنده وأقام يزيد عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة. ولاية خالد القسري على مكة وإخراج سعيد بن جبير عنها ومقتله ولما كان في سنة ثلاث وتسعين كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد يقص عليه أفعال الحجّاج بالعراق وما هم فيه من ظلمه وعدوانه، فبلغ بذلك الحجّاج فكتب إلى الوليد: إنّ كثيرا من المرّاق وأهل الشقاق قد انجلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة ومنعهم عمر وأصابه من ذلك وهن. فولّى الوليد على مكّة خالد بن عبد الله القسري [1] وعثمان بن حيّان بإشارة الحجّاج، وعزل عمر عن الحجاز وذلك في شعبان من السنة. ولما قدم خالد مكة أخرج من كان بها من أهل العراق كرها وتهدّد من أنزل عراقيا أو أجره دارا وكانوا أيام عمر بن عبد العزيز يلجأ إلى مكة والمدينة كل من خلف الحجّاج فيأمن. وكان منهم سعيد بن جبير هاربا من الحجّاج وكان قد جعله على عطاء الجند الذين وجههم مع عبد الرحمن بن الأشعث إلى قتال رتبيل فلما خرج عبد الرحمن كان سعيد فيمن خلع فكان معه إلى أن هزم وسار إلى بلاد رتبيل. فلحق سعيد بأصبهان، وكتب الحجاج فيه إلى عاملها فتحرّج من ذلك ودسّ إلى سعيد فسار إلى أذربيجان. ثم طال عليه المقام فخرج إلى مكة فكان بها مع ناس أمثاله من طلبة الحجاج يستخفون بأسمائهم. فلما قدم خالد بن عبد الله مكّة أمره الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج فأخذ سعيد بن جبير ومجاهدا وطلق بن حبيب، وبعث بهم إلى الحجّاج فمات طلق في الطريق وجيء بالآخرين إلى الكوفة وأدخلا على الحجاج. فلما رأى سعيدا شتم خالدا القسري على إرساله وقال: لقد كنت أعرف أنه بمكّة وأعرف البيت الّذي كان فيه، ثم أقبل على سعيد وقال: ألم أشركك في أمانتي؟ ألم أستعملك؟ ثم تفعل بعدد أياديه عنده. فقال: بلى! قال: فما أخرجك على قتالي؟ أنا امرؤ من المسلمين أخطئ مرّة وأصيب أخرى. ثم استمرّ في محاورته فقال: إنما كانت بيعة في عنقي فغضب الحجاج وقال: ألم آخذ بيعتك لعبد الملك بمكّة بعد مقتل ابن الزبير؟ ثم جددت له البيعة بالكوفة فأخذت بيعتك   [1] خالد هذا من جبابرة أمراء الدولة المروانية على شاكلة الحجاج أهـ. من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 ثانيا؟ قال: بلى! قال: فنكثت بيعتين لأمير المؤمنين، وتوفي بواحدة للفاعل بن الفاعل، والله لأقتلنك. فقال: إني لسعيد كما سمتني أمي فضربت عنقه فهلل رأسه ثلاثا أفصح منها بمرّة. ويقال: إن عقل الحجاج التبس يومئذ وجعل يقول: قيودنا قيودنا فظنّوها قيود سعيد بن جبير، فأخذوها من رجليه وقطعوا عليها ساقيه، وكان إذا نام يرى سعيد بن جبير في منامه آخذا بمجامع ثوبه يقول: يا عدوّ الله فيم قتلتني؟ فينتبه مرعوبا يقول: ما لي ولسعيد بن جبير. وفاة الحجاج وتوفي الحجاج في شوّال خمس وتسعين لعشرين سنة من ولايته العراق، ولما حضرته الوفاة استخلف على ولايته ابنه عبد الله وعلى حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرّهم الوليد بعد وفاته. وكتب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجهدك وجهادك أعداء المسلمين وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الّذي تحب، فأتمم مغازيك وانتظر ثواب ربّك ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني انظر إلى بلادك والثغر الّذي أنت فيه ولم يغير الوليد أحدا من عمّال الحجاج. أخبار محمد بن القاسم بالسند كان محمد بن القاسم بالملتان وأتاه خبر وفاة الحجاج هنالك فرجع إلى الدور والثغور [1] وكان قد فتحها. ثم جهّزه الناس إلى السلماس مع حبيب فأعطوا الطاعة وسالمه أهل شرست [2] وهي مغزى أهل البصرة وأهلها يقطعون في البحر. ثم سار في العسكر إلى [3] فخرج إليه دوهر فقاتله محمد وهزمه وقتله. ونزل أهل المدينة على حكمه فقتل وسبى ولم يزل عاملا على السند إلى أن ولي سليمان بن عبد الملك فعزله وولّى يزيد بن أبي كبشة السكسكيّ على السند مكانه فقيّده يزيد وبعث به إلى العراق فحبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط وعذبه في رجال من قرابة الحجّاج على   [1] وفي الكامل ج 4 ص 588: فرجع إلى الدور والبغرور وكان قد فتحها، وفي بعض النسخ الثغور والثغرور. [2] وفي الكامل لابن الأثير: سرشت. [3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 588: ثم إلى محمد الكيرج فخرج اليه دوهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 قتلهم. وكان الحجاج قتل أخاه آدم على رأي الخوارج ومات يزيد بن أبي كبشة لثمان عشرة ليلة من مقدمه. فولى سليمان على السند حبيب بن المهلّب فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع حبشة بن داهر إلى برهماباذ [1] فنزل حبيب على شاطئ مهران وأعطاه أهل الروم الطاعة، وحارب فظفر، ثم أسلم الملوك لما كتب عمر بن عبد العزيز إلى الإسلام على أن يملكهم وهم أسوة المسلمين فيما لهم وعليهم، فأسلم حبشة والملوك وتسمّوا بأسماء العرب وكان عمرو بن مسلم الباهليّ عامل عمر على ذلك الثغر فغزا بعض الهند وظفر. ثم ولّى الجنيد بن عبد الرحمن على السند أيام هشام بن عبد الملك، فأتى شط مهران، ومنعه حبشة بن داهر العبور وقال: إني قد أعملت وولّاني الرجل الصالح ولست آمنك فأعطاه الرهن ثم ردّها حبشة وكفر وحارب فحاربه الجنيد في السفن وأسره ثم قتله. وهرب صصّة بن داهر إلى العراق شاكيا لغدر الجنيد فلم يزل يؤنسه حتى جاءه فقتله. ثم غزا الجنيد الكيرج من آخر الهند وكانوا نقضوا فاتخذ كباشا [2] زاحفة ثم صك بها سور المدينة فثلمها ودخل فقتل وسبى وغنم، وبعث العمّال إلى المرمد والمعدل [3] ودهنج [4] وبعث جيشا إلى أرين فأغاروا عليها وأحرقوا ربضها وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف وحمل مثلها. وولّى تميم بن زيد الضبيّ [5] فضعف ووهن ومات قريبا من الدّيبل. وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند وتركوا مراكزهم. ثم ولي الحكم بن سوّام [6] الكلبي وقد كفر أهل الهند الا أهل قصّة، فبنى مدينة سمّاها المحفوظة وجعلها مأوى المسلمين، وكان معه عمر بن محمد بن القاسم وكان يفوّض إليه عظائم الأمور وأغزاه عن المحفوظة. فلما قدم وقد ظهر أمره فبنى مدينة وسماها المنصورة وهي التي كانت أمراء السند ينزلونها واستخلص ما كان غلب عليه العدوّ، ورضي الناس بولايته. ثم قتل الحكم وضعفت الدولة الأموية عن الهند وتأتي أخبار السند في دولة المأمون.   [1] وفي الكامل لابن الأثير: ورجع جيشبه بن ذاهر إلى برهمناباذ. [2] ليس المراد بالكباش هاهنا الغنم، وانما هي آلة من خشب وحديد يجرونها بنوع من الخيل فتدق الحائط فينهدم. وقد بطلت هذه الآلة كالمنجنيق لما حدثت الآلات النارية من المدافع وغيرها، كبطلان النبال فليس الآن من الآلات القديمة الا السيف والرماح قليلة أهـ. من خط الشيخ العطار. [3] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 590. [4] وفي نسخة اخرى: وهج. [5] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 590: تميم بن زبيد القينيّ. [6] وفي الكامل لابن الأثير: الحكم بن عوّام الكلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 فتح مدينة كاشغر أجمع قتيبة لغزو مدينة كاشغر سنة ست وتسعين وهي أدنى مدائن الصين فسار لذلك وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعها بسمرقند وعبر النهر، وجعل على المجاز مسلحة [1] يمنعون الراجع من العسكر إلا بإذنه! وبعث مقدمه إلى كاشغر فغنموا وسبوا وختم أعناق السبي. وأوغل حتى قارب الصين فكتب إليه ملك الصين يستدعي من أشراف العرب من يخبره عنهم وعن دينهم فانتخب قتيبة عشرة من العرب كان منهم هبيرة بن شمرج الكتابيّ. وامر لهم بعدة حسنة ومتاع من الخزّ والوشي وخيول أربعة وقال لهم: أعلموه أني حالف أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم. ولما قدموا على ملك الصين دعاهم في اليوم الأوّل فدخلوا وعليهم الغلائل والأردية، وقد تطيبوا ولبسوا النعال. فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن حضره، وقالوا بعد انصرافهم هؤلاء نسوان. فلبسوا الوشي والمطارف وعمائم الخز وغدوا عليه فلم يكلموهم وقالوا هذه أقرب إلى هيئة الرجال ثم دعاهم الثالثة فلبسوا سلاحهم وعلى رءوسهم البيضات والمغافر وتوشحوا السيوف واعتقلوا الرماح ونكبوا القسيّ فهالهم منظرهم ثم انصرفوا وركبوا فتطاردوا فعجب القوم منهم. ثم دعا زعيمهم هبيرة بن شمرج فسأله لم خالفوا في زيّهم فقال: أمّا الأوّل فإنّا نساء في أهلنا وأما الثاني فزيّنا عند أمرائنا، وأما الثالث فزينا لعدوّنا. فاستحسن ذلك، ثم قال له: قد رأيتم عظم ملكي وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وقد عرفت قلّتكم فقولوا لصاحبكم ينصرف وإلّا بعثت من يهلككم. فقال هبيرة كيف نكون في قلة وأول خيلنا في بلادك وآخرها في منابت الزيتون. وأما القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه، ولنا آجال إذا حضرت فلن نتعدّاها وقد حلف صاحبنا أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويأخذ جزيتكم قال الملك: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث له بتراب من أرضنا فيطؤه، ويقبض أبناءنا فيختمهم وبهدية ترضيه، ثم أجازهم فأحسن. وقدموا على قتيبة فقبل الجزية ووطئ التراب وختم الغلمان وردّهم ثم انصرف من غداته. وأوفد هبيرة إلى الوليد، وبلغه وهو في الفرات موت الوليد.   [1] المسلمة: جماعة من العسكر يقفون في الطريق للحاجة اليهم أهـ. من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وفاة الوليد وبيعة سليمان ثم توفي الوليد في منتصف جمادى الأخيرة من سنة ست وتسعين وصلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان من أفضل خلفاء بني أمية وبنى المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد القدس ومسجد دمشق. ولما أراد بناء مسجد دمشق كانت في موضعه كنيسة فهدمها وبناها مسجدا وشكوا ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال: نردّ عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنّها خارج المدينة مما فتح عنوة ونبنيها مسجدا فتركوا ذلك. وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند، وكان يتخذ الضياع وكان متواضعا يمرّ بالبقّال فيسأله بكم حزمة البقل؟ ويسعّر عليه وكان يختم القرآن في ثلاث وفي رمضان في يومين وكان أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان فكتب إلى عمّاله ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجّاج وقتيبة وبعض خواصه. واستقدم سليمان ثم استبطأه فأجمع السير إليه ليخلعه فمات دون ذلك. ولما مات بويع سليمان من يومه وهو بالرملة فعزل عثمان بن حيّان من المدينة آخر رمضان، وولّى عليها أبا بكر ابن محمد بن عمر بن حزم، وعزل ولاة الحجاج عن العراق فولّى يزيد بن المهلّب على المصرين وعزل عنهما يزيد بن أبي مسلم. فبعث يزيد أخاه زيادا على عمان وأمر سليمان يزيد بن المهلب بنكبة آل أبي العقيّل قوم الحجاج وبني أبيه وبسط أصناف العذاب عليهم، فولّى على ذلك عبد الملك بن المهلّب. مقتل قتيبة بن مسلم ولما ولي سليمان خافه قتيبة لما قدّمناه من موافقته الوليد على خلعه فخشي أن يولّي يزيد ابن المهلب خراسان فأجمع خلعه وكتب إليه لئن لم تقرّني على ما كنت عليه وتؤمّني لأخلعنك ولأملأنّها عليك خيلا ورجلا فأمّنه وكتب له العهد على خراسان وبعث إليه رسوله بذلك، فبعث الرسول وهو بحلوان أنه قد خلع وكان هو بعد بعثة الكتاب إلى سليمان قد اشتدّ وجله وأشار عليه أخوه عبد الله بالمعاجلة، فدعا الناس إلى الخلع وذكرهم بوائقه وسوء ولاية من تقدّمه فلم يجبه أحد، فغضب وشتمهم وعدّد وقالبهم قبيلة قبيلة وأثنى على نفسه بالأب والبلد والمعشر. فغضب الناس وكرهوا خلع سليمان وأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه وعذل قتيبة أصحابه فيما كان منه فقال: لما لم تجيبوني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 غضبت فلم أدر ما قلت. وجاء الأزد إلى حضين بن المنذر «بالضاد المعجمة» فقالوا: كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا فعرف مغزاهم فقال: إنّ مضر كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا فعرف مغزاهم فقال: إنّ مضر بخراسان كثير وتميم أكثرهم وهم شوكتها ولا يرضون بغيرهم فيصيبوا قتيبة ولا أرى لها إلا وكيعا. وكان وكيع موثقا من قتيبة بعزله وولاية ضرار بن حصين الضبيّ مكانه. وقال حيّان النبطيّ مولى بن شيبان ليس لها غير وكيع، ومشى الناس بعضهم إلى بعض سرّا وتولى كبر ذلك حيّان ونمي خبره إلى قتيبة فأمر بقتله إذا دخل عليه، وتنصح بعض خدم قتيبة بذلك إلى حيّان فلما دعاه تمارض، واجتمع الناس إلى وكيع وبايعوه. فمن أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة آلاف رئيسهم حضين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف عليهم ابن زخر ومن الموالي سبعة آلاف عليهم حيّان النبطيّ وقيل من الديلم، وسمي نبطيّا للكنته. وشرط على وكيع أن يحوّل له الجانب الشرقي من نهر بلخ فقبل، وفشا الخبر وبلغ قتيبة فدسّ ضرار بن سيان الضبي [1] إلى وكيع فبايعه، وجاء إلى قتيبة بالخبر فأرسل قتيبة إلى وكيع فاعتذر بالمرض. فقال لصاحب شرطته: ائتني به وإن أبى ائتني برأسه فلما جاء إلى وكيع ركب ونادى في الناس فأتوه أرسالا. واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواصه وثقاته وبنو عمه، وأمر فنودي في الناس قبيلة قبيلة، وأجابوه بالجفوة. يقول: أين بنو فلان؟ فيقولون: حيث وضعتهم فنادى بأذكركم الله والرحم، فقالوا: أنت قطعتها! فنادى لكم العتبى، فقالوا: إنّا لنا الله إذا فدعا ببرذون ليركبه فمنعه ورمحه فعاد إلى سريره وجاء حيّان النبطي في العجم، فأمره عبد الله أخو قتيبة أن يحمل على القوم، فاعتذر وقال لابنه: إذا لقيتني حولت قلنسوتي فمل بالأعاجم إلى وكيع، ثم حوّلها وسار بهم ورمى صالح أخو قتيبة بسهم فحمل إلى أخيه. ثم تهايج الناس وجاء إلى عبد الرحمن أخي قتيبة الغوغاء ونحوهم فأحرقوا آريّا [2] فيه إبل قتيبة ودوابه. ثم زحفوا به حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه وجرح جراحات كثيرة ثم قطعوا رأسه وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم ومسلم وابنه كثير، وقيل قتل عبد الكريم بقزوين، فكان عدّة من قتل من أهله أحد عشر رجلا، ونجا أخوه عمر مع أخواله من تميم. ثم صعد وكيع المنبر وأنشد الشعر في الثناء على نفسه وفعله والذم من قتيبة ووعد بحسن السيرة وطلب رأس قتيبة وخاتمه من الأزد   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 15: ضرار بن سنان الضبي. [2] الآري: محبس الدابة أو حبل تشد به: جمعها اواري وأوار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وهدّدهم عليه فجاءوا به فبعثه إلى سليمان. ووفّى وكيع لحيّان النبطيّ بما ضمن له. ولاية يزيد بن المهلب خراسان كان يزيد بن المهلّب لما ولاه سليمان العراق على الحرب والصلاة والخراج استكره أن يحيف على الناس في الخراج فتلحقه المذمة كما لحقت الحجاج ويخرب العراق، وإن قصّر عن ذلك لم يقبل منه فرغب من سليمان أن يعفيه من الخراج وأشار عليه بصالح ابن عبد الرحمن مولى تميم فولاه سليمان الخراج وبعثه قبل يزيد فلما جاء صالح إلى يزيد ضيّق عليه صالح، وكان يزيد يطعم على ألف خوان فاستكثرها صالح فقال: اكتب ثمنها عليّ وغير ذلك وضجر يزيد وجاء خبر خراسان ومقتل قتيبة فطمع يزيد في ولايتها ودسّ عبد الله بن الأهتم على سليمان أن يولّيه خراسان ولا يشعر بطلبته بذلك. وسيّره على البريد فقال له سليمان: إنّ يزيد إليّ بذكر عملك بالعراق! فقال: نعم بها ولدت وبها نشأت. ثم استشاره فيمن يوليه خراسان ولم يزل سليمان بذكر الناس وهو يردّهم، ثم حذّره من وكيع وغدره قال: فسمّ أنت! قال شريطة الكمال الإجازة ممن أشير به، وإذا علم يكره ذلك. ثم قال: هو يزيد بن المهلب فقال سليمان: العراق أحب إليه، فقال ابن الأهتم: قد عملت ولكن نكرهه فيستخلف على العراق ويسير إلى خراسان، فكتب عهد يزيد على خراسان وبعثه مع ابن الأهتم فلما جاءه بعث ابنه مخادا على خراسان ثم سار بعده واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكميّ وعلى البصرة ابن عبد الله بن هلال الكلابي، وعلى الكوفة حرملة بن عيد اللمغميّ. ثم عزله لأشهر بشير بن حيّان النهدي، فكانت قيس تطلب بثأر قتيبة وتزعم أنه لم يخلع. فأوصى سليمان يزيد إن أقامت قيس بيّنة أنه لم يخلع أن يقيد به من وكيع. أخبار الصوائف [1] وحصار قسطنطينية كانت الصوائف تعطلت من الشام منذ وفاة معاوية وحدوث الفتن واشتدّت الفتن أيام عبد الملك اجتمعت الروم واستجاشوا على أهل الشام فصالح عبد الملك صاحب قسطنطينية على أن يؤدّي إليه كل يوم جمعة ألف دينار خشية منه على المسلمين ونظرا   [1] الصوائف هي الجيوش التي كانت تجهز في أوان الصيف لسد الثغور وحرب الكفار، استمر ذلك من صدر الإسلام إلى أواخر الدولة العباسية أهـ. من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 لهم، وذلك سنة سبعين لعشر سنين من وفاة معاوية. ثم لما قتل مصعب وسكنت الفتنة بعث الجيوش سنة إحدى وسبعين في الصائفة. فدخل فافتتح قيساريّة، ثم ولّى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وسبعين فدخل في الصائفة إلى بلاد الروم فهزمهم، ودخل عثمان بن الوليد من ناحية أرمينية في أربعة آلاف ولقيه الروم في ستين ألفا فهزمهم وأثخن فيهم بالقتل والأسر. ثم غزا محمد بن مروان سنة أربع وسبعين فبلغ أنبولية وغزا في السنة بعدها في الصائفة من طريق مرعش، فدوّخ بلادهم وخرج الروم في السنة بعدها إلى العتيق فغزاهم من ناحية مرعش ثانية، ثم غزاهم سنة ست وسبعين من ناحية ملطية ودخل في الصائفة سنة سبع وسبعين الوليد ابن عبد الملك فأثخن فيهم ورجع وجاء الروم سنة تسع وسبعين فأصابوا من أهل أنطاكية وظفروا بهم فبعث عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بالعسكر ففتح قاليقلا. ثم غزا محمد بن مروان سنة اثنتين وثمانين أرمينية وهزمهم، فسألوه الصلح فصالحهم وولّى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروه وقتلوه فغزاهم سنة خمس وثمانين وصاف فيها وشتى ثم غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ودوّخها، ورجع وعاد إليها سنة سبع وثمانين. فأثخن فيهم بناحية المصيصة وفتح حصونا كثيرة. منها حصن بولق والأحزم وبولس وقمقيم. وقتل من المستقربة ألف مقاتل وسبى أهاليهم. ثم غزا بلاد الروم سنة تسع وثمانين مسلمة بن عبد الملك والعبّاس بن الوليد، فافتتح مسلمة حصن سورية وافتتح العبّاس أردولية، ولقي جمعا من الروم فهزمهم. وقيل إنّ مسلمة قصد عمّورية فلقي بها جمعا من الروم فهزمهم. وافتتح هرقلة وقموليّة وغزا العبّاس الصائفة من ناحية البلد بدون. وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك سنة تسع وثمانين من ناحية أذربيجان ففتح حصونا ومدائن هناك. ثم غزا سنة تسعين ففتح الحصون الخمس التي بسورية. وغزا العبّاس حتى بلغ أردنّ وسورية. وفي سنة إحدى وتسعين غزا عبد العزيز بن الوليد في الصائفة مع مسلمة بن عبد الملك وكان الوليد قد ولّى مسلمة على الجزيرة وأرمينية وعزل عمه محمد بن مروان عنها، فغزا الترك من ناحية أذربيجان حتى الباب وفتح مدائن وحصونا، ثم غزا سنة اثنتين وتسعين بعدها ففتح ثلاثة حصون وجلا أهل سر سنّة إلى بلاد الروم ثم غزا العبّاس بن الوليد سنة ثلاث بعدها بلاد الروم ففتح سبيطلة، وغزا مروان بن الوليد فبلغ حنجرة. وغزا مسلمة ففتح ماشية وحصن الحديد وغزالة من ناحية ملطية. وغزا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 العبّاس بن الوليد سنة أربع وتسعين ففتح انطاكية. وغزا عبد العزيز بن الوليد ففتح غزالة وبلغ الوليد بن هشام المعيطيّ مروج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفي سنة خمس وتسعين غزا العبّاس الروم ففتح هرقلة. وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الرضاخيّة وفتح الحصن الّذي فتحه الرّصاع، وغزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتّى بها، وبعث سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية وبعث ابنه داود على الصائفة ففتح حصن المراة، وفي سنة ثمان وتسعين مات ملك الروم، فجاء القون إلى سليمان فأخبره وضمن له فتح الروم، وسار سليمان إلى وابق وبعث الجيوش مع أخيه مسلمة، ولما دنا من القسطنطينيّة أمر أهل المعسكر أن يحمل كل واحد مدّين من الطعام ويلقوه في معسكرهم فصار أمثال الجبال واتخذ البيوت من الخشب وأمر الناس بالزراعة وصاف وشتّى وهم يأكلون من زراعتهم وطعامهم الّذي استاقوه مدّخرا. ثم جهد أهل القسطنطينية الحصار، وسألوا الصلح على الجزية دينارا على الرأس، فلم يقبل مسلمة وبعث الروم إلى ألقون إن صرفت عنّا المسلمين ملّكناك فقال لمسلمة: لو أحرقت هذا الزرع علم الروم أنك قصدتهم بالقتال فنأخذهم باليد وهم الآن يظنون مع بقاء الزرع أنك تطاولهم، فأحرق الزرع فقوي الروم وغدر ألقون وأصبح محاربا، وأصاب الناس الجوع فأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وسلمان مقيم بوابق وحال الشتاء بينهم وبينه فلم يقدر أن يمدّهم حتى مات وأغارت برجان على مسلمة وهو في قلّة فهزمهم وفتح مدينتهم. وغزا في هذه السنة الوليد بن هشام فأثخن في بلاد الروم. وغزا داود بن سليمان سنة ثمان وتسعين ففتح حصن المراة مما يلي ملطية. وفي سنة تسع وتسعين بعث عمر بن عبد العزيز مسلمة وهو بأرض الروم وأمدّه بالنفول بالمسلمين وبعث إليه بالخيل والدواب، وحث الناس على معونتهم ثم أمر عمر بن عبد العزيز أهل طريدة بالجلاء عنها إلى ملطية وخرّبها. وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين وفرض على أهل الجزيرة مسلحة تكون عندهم إلى فصل الشتاء، وكانت متوغلة في أرض الروم فخرّبها عمر، وولّى على ملطية جعونة بن الحرث من بني عامر بن صعصعة. وأغزى عمر سنة مائة من الهجرة بالصائفة الوليد بن هشام المعيطي وعمر ابن قيس الكندي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 فتح جرجان وطبرستان كان يزيد بن المهلب يريد فتحهما لما أنهما كانتا للكفار، وتوسطتا بين فارس وخراسان ولم يصبهما الفتح. وكان يقول وهو في جوار سليمان بالشام إذا قصّت عليه أخبار قتيبة وما يفعله بخراسان وما وراء النهر، ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت يوسس ونيسابور وليست هذه الفتوح بشيء والشأن في جرجان. فلما ولّاه سليمان خراسان سار إليها في مائة ألف من أهل العراق والشام وخراسان سوى الموالي والمتطوّعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخارم يقوم الرجل على باب منها فيمنعه فابتدأ بقهستان فحاصرها وبها طائفة من الترك فكانوا يخرجون فيقاتلون وينهزمون في كل يوم ويدخلون حصنهم ولم يزل على ذلك حتى بعث إليه دهقان يستأذن [1] يسأل في الصلح ويسلّم المدينة وما فيها فصالحه وأخذ ما فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألفا من الترك، وكتب إلى سليمان بذلك. ثم سار إلى جرجان وكان سعيد بن العاصي قد صالحهم على الجزية مائة ألف في السنة فكانوا أحيانا يجبون مائة وأحيانا مائتين وأحيانا ثلاثمائة، وربما أعطوا ذلك وربما منعوا، ثم كفروا ولم يعطوا خراجا، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا الطريق إلى خراسان على [2] فكان الناس يسلكون على فارس وسلماس. ثم فتح قتيبة طريق قومس وبقي أمر جرجان حتى جاء يزيد فصالحوه. ولما فتح يزيد قهستان وجرجان طمع في طبرستان فاستعمل عبد الله بن معمر اليشكريّ على ساسان وقهستان، وخلف معه أربعة آلاف فارس، وسار إلى أدنى جرجان من جهة طبرستان ونزل بآمد. ونسا [3] راشد بن عمر في أربعة آلاف. ودخل بلاد طبرستان فسأل صاحبها الأصبهبذ في الصلح، وأن يخرج من طبرستان فأبى يزيد ورجا أن يفتحها، ووجه أخاه عيينة من وجه وابنه خالد بن يزيد من وجه، وإذا اجتمعا فعيينة على الناس واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديلم والتقوا فانهزم   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: «فأرسل صول، دهقان مهستان، الى يزيد يطلب منه ان يصالحه ويؤمنه على نفسه واهله وماله ليدفع اليه المدينة بما فيها، فصالحه ووفّى له» . [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: «ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان أحد إلّا على فارس» . [3] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: واستعمل على ايذوسا راشد بن عمرو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 المشركون، واتبعهم المسلمون إلى الشّعب وصعد المشركون في الجبل فامتنعوا على المسلمين وصعد أبو عيينة بمن معه خلفهم فهزمهم المشركون في الوعر فكفّوا وكاتب الأصبهبذ أهل جرجان ومقدّمهم المرزبان أن يبيتوا للمسلمين عندهم ليقطعوا المادّة عن يزيد والطريق بينه وبين جرجان ووعدهم بالمكافأة على ذلك فساروا بالمسلمين وهم غارّون، وقتل عبد الله بن معمر وجميع من معه ولم ينج أحد وكتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق، وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم وهالهم، وفزع يزيد إلى حيّان النبطيّ وكان قد غرّمه مائتي ألف درهم بسبب أنه كتب إلى ابنه مخلد كتابا فبدأ بنفسه. فقال له: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين، وقد علمت ما جاءنا من جرجان فاعمل في الصلح. فأتى حيّان الأصبهبذ ومت إليه بنسب العجم وتنصّل له وفتل له في الذروة والغارب حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة وقر [1] زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل على يد كل رجل منهم ترس وطيلسان وجام من فضة وخرقة حرير وكسوة، فأرسل يزيد لقبض ذلك ورجع. أهـ. (وقيل) في سبب مسير يزيد إلى جرجان أنّ صولا [2] التركي كان على قهستان والبحيرة، جزيرة في البحر على خمسة فراسخ من قهستان، وهما من جرجان مما يلي خوارزم وكان يغير على فيروز بن فولفول مرزبان جرجان وأشار فيروز بنصيب من بلاده، فسار فيروز إلى يزيد هاربا منه وأخذ صول جرجان وأشار فيروز على يزيد أن يكتب إلى الأصبهبذ ويرغبه في العطاء إن هو حبس صولا بجرجان حتى يحاصر بها، ليكون ذلك وسيلة إلى معاكسته وخروجه عن جرجان فيتمكن يزيد منه فكتب إلى الأصبهبذ وبعث بالكتاب إلى صول فخرج من حينه إلى البحيرة وبلغ يزيد الخبر فسار إلى جرجان ومعه فيروز واستخلف على خراسان ابنه مخلدا. وعلى سمرقند وكشّ ونسف وبخارى ابنه معاوية وعلى طخارستان ابن قبيصة بن المهلّب، وأتى جرجان فلم يمنعه دونها أحد ودخلها ثم سار منها إلى البحير وحصر صولا بها شهرا حتى سأل الصلح على نفسه وماله وثلاثمائة ويسلّم إليه البحيرة فأجابه   [1] الوقر: الحمل الثقيل. وأكثر ما يستعمل في حمل الحمار والبغل. اما حمل الحمل فيسمى الوسق. [2] قبوله صول هو اسم ملك من ملوك الترك وقول بعض العرب: ما اقدر الله ان يدني على شحط من داره الحزن فمن داره صول أي داره دار صول أهـ. من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 يزيد وخرج صول عن البحيرة وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفا وأمر إدريس بن حنظلة العمى أن يحصي ما في البحيرة ليعطي الجند فلم يقدر. وكان فيها من الحنطة والشعير والأرزّ والسمسم والعسل شيء كثير ومن الذهب والفضة كذلك ولما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان كما قدّمناه سار إلى جرجان وعاهد الله إن ظفر بهم ليطحننّ القمح على سائل دمائهم ويأكل منه فحاصرهم سبعة أشهر وهم يخرجون إليه فيقاتلونه ويرجعون وكانوا متمنعين [1] في الجبل والأوعار وقصد رجل من عجم خراسان فأتبع [2] بخلا في الجبل وانتهى إلى معسكرهم وعرف الطريق إليه ودلّ الأدلّة على معالمه، وأتى يزيد فأخبره فانتخب ثلاثمائة رجل مع ابنه خالد وضم إليه جهم بن ذخر وبعثه وذلك الرجل يدل به، وواعده أن يناهضهم العصر من الغداة ولما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب عنده حتى اضطرمت النيران ونظر العدوّ إلى النار فهالهم وحاموا للقتال آمنين خلفهم فناشبهم يزيد إلى العصر وإذا بالتكبير من ورائهم فهربوا إلى حصنهم وأتبعهم المسلمون فأعطوا ما بأيديهم ونزلوا على حكم يزيد فقتل المقاتلة وسبى الذرّية وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى وادي جرجان، ومكّن أهل الثأر منهم حتى استلحموهم وجرى الماء على الدم وعليه الأرحاء فطحن وخبز وأكل وقتل منهم أربعين ألفا وبنى مدينة جرجان ولم تكن بنيت قبل ورجع إلى خراسان وولّى على جرجان جهم بن ذخر الجعفيّ ولما قتل مقاتلهم صلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره. وفاة سليمان وبيعة عمر بن عبد العزيز ثم توفى سليمان بدابق من أرض قنّسرين من سنة تسعة وتسعين في صفر منها، وقد كان في مرضه أراد أن يعهد إلى ولده داود، ثم استصغره وقال له كاتبه رجاء بن حيوة ابنك غائب عنك بقسطنطينية ولا يعرف حياته من موته فعدل إلى عمر بن عبد العزيز وقال له: إني والله لأعلم أنها تكون فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده، وكان عبد الملك قد جعل ذلك له وكتب بعد البسملة هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز: إني قد وليتك الخلافة من بعدي   [1] الأصح ان يقول ممتنعين. [2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 34: فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصير، وقيل رجل من طيِّئ فأبصر وعلا في الجبل فتبعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 ومن بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله، ولا تختلفوا فيطمع فيكم وختم الكتاب ثم أمر كعب بن جابر العبسيّ صاحب الشرطة أن يجمع أهل بيته، وأمر رجاء بن حيوة أن يدفع لهم كتابه وقال: أخبرهم أنه كتابي فليبايعوا من ولّيت فيه فبايعوه رجلا رجلا وتفرّقوا وأتى عمر إلى رجاء يستعمله ويناشده الله والمودّة يستعفي من ذلك فأبى وجاءه هشام أيضا يستعمله ليطلب حقه في الأمر فأبى، فانصرف أسفا أن يخرج من بني عبد الملك ثم مات سليمان وجمع رجاء أهل بيته فقرأ عليهم الكتاب فلما ذكر عمر قال هشام: والله لا نبايعه أبدا فقال له رجاء: والله نضرب عنقك فقام أسفا يجرّ رجليه حتى جاء إلى عمر بن عبد العزيز وقد أجلسه رجاء على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فبايعه واتبعه الباقون ودفن سليمان وصلى عليه عمر بن عبد العزيز والوليد كان غائبا عن موت سليمان ولم يعلم بيعة عمر فعقد لواء ودعا لنفسه وجاء إلى دمشق. ثم بلغه عهد سليمان فجاء إلى عمر واعتذر إليه وقال: بلغني أنّ سليمان لم يعهد فخفت على الأموال أن تنهب فقال: عمر لو قمت بالأمر لقعدت في بيتي ولم أنازعك فقال عبد العزيز: والله لا أحب لهذا الأمر غيرك وأوّل ما بدأ به عمر لما استقرّت البيعة له أنه ردّ ما كان لفاطمة بنت عبد الملك زوجته من المال والحلي والجوهر إلى بيت المال وقال: لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد فردّته جميعه ولما ولّى أخوها يزيد من بعد ردّه عليها فأبت وقالت: ما كنت أعطيه حيّا أعطيه ميتا [1] ففرّقه يزيد على أهله وكان بنو أمية يسبّون عليّا فكتب عمر إلى الآفاق بترك ذلك، وكتب إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول بالمسلمين. عزل يزيد بن المهلب وحبسه والولاية على عماله ولما استقرّت البيعة لعمر كتب في سنة مائة إلى يزيد بن المهلب أن يستخلف على عماله ويقدم فاستخلف مخلدا ابنه وقدم من خراسان وقد كان عمر ولّى على البصرة عديّ ابن أرطاة الفزاريّ وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب وضم إليه أبا الزناد، فكتب إلى عدي بن أرطاة موسى أن يقبض على يزيد بن المهلب ويبعثه مقيدا، فلما نزل يزيد واسط وركب السفن يريد البصرة بعث عليّ بن   [1] الجملة غير مفهومة حسب مقتضى السياق وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 42: «ما كنت أطيعه حيّا وأعصيه ميتا.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 أرطاة موسى بن الرحيبة الحميريّ فلقيه في نهر معقل عند الجسر فقيّده وبعث به إلى عمر، وكان عمر يبغضه ويقول إنه مراء وأهل بيته جبابرة فلما طالبه بالأموال التي كتب بها إلى سليمان من خمس جرجان قال: إنما كتبت لأسمع الناس، وعلمت أنّ سليمان لم يكن ليأخذني بذلك. فقال له عمر: اتق الله وهذه حقوق المسلمين لا يسعني تركها ثم حبسه بحصن حلب وبعث الجرّاح بن عبد الله الحكميّ واليا على خراسان مكانه. وانصرف يزيد بن يزيد فقدم على عمر واستعطفه لأبيه وقال له: يا أمير المؤمنين إن كانت له بيّنة فخذ بها وإلا فاستحلفه وإلا فصالحه أو فصالحني على ما تسأل فأبى عمر من ذلك وشكر من مخلد ما فعل، ثم ألبس يزيد جبة صوف وحمله على جمل وسيّره إلى دهلك ومرّ يزيد على الناس وهو ينادي بعشيرة وبالنكير لما فعل به فدخل سلامة بن نعيم الخولانيّ على عمر وقال: أردد يزيد إلى محبسه لئلا ينزعه قومه، فإنّهم قد غضبوا، فرده إلى أن كان من أمر فزارة ما يذكر. ولاية عبد الرحمن بن نعيم القشيري على خراسان ولما عزل يزيد عن خراسان وكان عامل جرجان جهم بن ذخر الجعفيّ فأرسل عامل العراق على جرجان عاملا مكانه، فحبسه جهم وقيّده فلما جاء الجرّاح إلى خراسان أطلق أهل جرجان عاملهم، ونكر الجرّاح على جهم ما فعل وقال: لولا قرابتك مني ما سوغتك هذا! يعني أنّ جهما وجعفا معا ابنا سعد العشيرة. ثم بعث في الغزو وأوفد على عمر وفدا فكلّم فيه بعضهم عمر بأنه يعرّي الموالي بلا عطاء ولا رزق ويؤاخذ من أسلم من أهل الذمّة بالخراج. ثم عرّض بأنه سيف من سيوف الجرّاح قد علم بالظلم والعدوان. فكتب عمر إلى الجرّاح انظر من صلى قبلك فخل عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام فرارا من الجزية فامتحنهم بالختان وكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه عمران! الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا واستقدم الجرّاح وقال: احمل معك أبا مخلد واستخلف على حرب خراسان عبد الرحمن ابن نعيم القشيري ولما قدم على عمر قال: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان. قال: صدق من وصفك بالجفاء، ألا أقمت حتى تقطر ثم تسافر. ثم سأل عمر أبا مخلد عن عبد الرحمن بن عبد الله فقال يكافئ الأكفّاء ويعادي الأعداء ويقدم إن وجد ما يساعده، قال: فعبد الرحمن بن نعيم؟ قال: يحب العافية وتأتيه! قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 هو أحب إليّ فولّاه الصلاة والحرب، وولّى عبد الرحمن القشيريّ الخراج فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى قتل يزيد بن المهلّب. وولي مسلمة فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف وظهر من أيام الجرّاح بخراسان دعاة بني العبّاس فيمن بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس إلى الآفاق حسبما يذكر في أخبار الدولة العبّاسية. وفاة عمر بن عبد العزيز وبيعة يزيد ثم توفى عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان ودفن بها السنتين وخمسة أشهر من ولايته ولأربعين من عمره وكان يدعى أشجّ بني أمية رمحته دابة وهو غلام فشجّته. ولما مات ولي بعده يزيد بن عبد الملك بعهد سليمان كما تقدّم وقيل لعمر حين احتضر: أكتب إلى يزيد فأوصه بالأمّة فقال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك! ثم كتب أمّا بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما أترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام. ولما ولي يزيد عزل أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن المدينة وولّى عليها عبد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهري وغير كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز وكان من ذلك شأن خراج اليمن فإنّ محمدا أخا الحجّاج جعل عليهم خراجا مجدّدا وأزال ذلك عمر إلى العشر أو نصف العشر وقال: لئن يأتيني من اليمن حبة ذرة أحب إليّ من تقرير هذه الوظيفة فلما ولي يزيد أعادها وقال لعامله خذها منهم ولو صاروا حرضا وهلك عمّه محمد بن مروان فولّى مكانه على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية عمّه الآخر مسلمة بن عبد الملك. احتيال يزيد بن المهلب مقتله قد تقدّم لنا حبس يزيد بن المهلب فلم يزل محبوسا حتى اشتدّ مرض عمر بن عبد العزيز فعمل في الهرب مخافة يزيد بن عبد الملك لأنّ زوجته بنت أخي الحجّاج وكان سليمان أمر ابن المهلب بعذاب قرابة الحجاج كلهم فنقلهم من البلقاء وفيهم زوجة يزيد وعذّبها وجاءه يزيد بن عبد الملك إلى منزله شافعا فلم يشفعه فضمن حمل ما قرّر عليها فلم يقبل فتهدّده فقال له ابن المهلب لئن وليت أنت لأرمينّك بمائة ألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 سيف، فحمل يزيد بن عبد الملك عنها مائة ألف دينار. ولما اشتدّ مرض عمر خاف من ذلك وأرسل إلى مواليه أن يغدوا له بالإبل والخيل في مكان عيّنه لهم وبعث إلى عامل حلب باشفاقه من يزيد، وبذل له المال وإلى الحرس الذين يحفظونه فخلّى سبيله، وأتى إلى دوابه فركبها ولحق بالبصرة. وكتب إلى عمر: إني والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك. ولكن خفت أن يقتلني يزيد شرّ قتله فقرأ عمر الكتاب وبه رمق فقال: اللَّهمّ إن كان ابن المهلب يريد بالمسلمين سوءا فألحقه به وهضه فقد هاض. انتهى. ولما بويع ليزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة وإلى عديّ بن أرطاة بالبصرة بهربه والتحرّر منه وأبى عديّ أن يأخذ المهلب بالبصرة فحبس المفضّل حبيبا ومروان ابني المهلب، وبعث عبد الحميد من الكوفة جندا عليهم هشام بن ساحق بن عامر فأتوا العذيب ومرّ بيزيد عليهم فوق القطقطانة فلم يقدموا عليه. ومضى نحو البصرة وقد جمع عديّ بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها وبعث على خيلها المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل وجاء يزيد على أصحابه الذين معه وانضم إليه أخوه محمد فيمن اجتمع إليه من قومهم. وبعث عديّ بن أرطاة على كل خمس من أخماس البصرة رجالا: فعلى الأزد المغيرة بن زياد بن عمر العتكيّ، وعلى تميم محرز بن حمدان السعديّ، وعلى بكرة نوح بن شيبان بن مالك بن مسمع، وعلى عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى أهل العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وهم قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان ومزينة فلم يعرضوا ليزيد وأقبل فانزل. انتهى. واختلف الناس إليه وأرسل إلى عديّ أن يطلق له إخوته فينزل به البصرة، ويخرج حتى يأخذ لنفسه من يزيد، وبعث حميد ابن أخيه عبد الملك بن المهلب يستأمن له من يزيد بن عبد الملك فأجاره خالد القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد له ولأهله وقد كان بعد منصرف حميد فرّق في الناس قطع الذهب والفضة فانثالوا عليه، وعديّ يعطي درهمين درهمين ثم تناجزوا الحرب وحمل أصحاب يزيد على أصحاب عديّ فانهزموا ودنا يزيد من القصر، وخرج عديّ بنفسه فانهزم أصحابه. وخاف إخوة يزيد وهم في الحبس أن يقتلوا قبل وصوله فأغلق الباب وامتنعوا فجاءهم الحرس يعالجون فأجفلهم الناس عنه فخلّوا عنهم وانطلقوا إلى أخيهم. ونزل يزيد دار مسلم بن زياد إلى جنب القصر وتسوّر القصر بالسلالم وفتحه وأتى بعديّ بن أرطاة فحبسه. وهرب رءوس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر إلى الكوفة والشام وخرج المغيرة بن زياد بن عمر العتكيّ إلى الشام فلقي خالدا القسري وعمر بن يزيد وقد جاءوا بأمان يزيد بن المهلب مع حميد بن أخيه فأخبرهما بظهور يزيد على البصرة وحبسه عديا فرجعا إلى وعد لهما فلم يقبلا، وقبض عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة على خالد بن يزيد ابن المهلب وحمّاد بن ذخر، وحملهما وسيرهما إلى الشام فحبسهما يزيد حتى هلكا بالسجن وبعث يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثني عليهم ويمنيهم الزيادة وجهز أخاه مسلمة وابن أخيه العبّاس بن الوليد إلى العراق في سبعين ألف مقاتل أو ثمانين من أهل الشام والجزيرة، فقدموا الكوفة ونزلوا النخيلة. وتكلم العبّاس يوما ببعض الكلام فأساء عليه حيّان النبطيّ بالكشّة الأعجمية ولما سمع ابن المهلب بوصول مسلمة وأهل الشام فخطب الناس وشجّعهم للقائهم وهوّن عليهم أمرهم وأخبرهم أن أكثرهم له واستوثق له أهل البصرة وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان وبعث إلى خراسان مدرك بن المهلب وعليها عبد الرحمن بن نعيم وبعث بنو تميم ليمنعوه ولقيه الأزد على رأس المغارة فقالوا: ارجع عنّا حتى نرى مآل أمركم. ثم خطب يزيد الناس يدعوهم إلى الكتاب والسنة ويحثهم على الجهاد وأنّ جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم ونكر ذلك الحسن البصريّ والنضر بن أنس بن مالك وتابعهما الناس في النكير. وسار يزيد من البصرة إلى واسط واستخلف عليها أخاه مروان بن المهلب وأقام بواسط أياما ثم خرج منها سنة اثنتين ومائة واستخلف عليها أمان معونة وقدّم أخاه عبد الملك بن المهلب نحو الكوفة فاستقبله ابن الوليد بسور له فاقتتلوا وانهزم عبد الملك وعاد إلى يزيد وأقبل مسلمة على شاطئ الفرات إلى الأنهار فعقد الجسر وعبر وسار حتى نزل على يزيد بن المهلب وفزع إليه ناس من أهل الكوفة وكان عسكره مائة وعشرين [1] وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة وشق المياه وجعل الأرصاد على أهل الكوفة أن يفزعوا إلى يزيد بن المهلّب، وبعث بعثا إلى مسلمة مع صبرة بن عبد الرحمن بن مختف فعزل مسلمة بن عبد الحميد عن الكوفة واستعمل عليها محمد بن عمر بن الوليد بن عقبة. ثم أراد يزيد بن المهلّب أن يبعث أخاه محمد بالعساكر يبيّتون مسلمة فأبى عليه أصحابه وقالوا: قد وعدناهم بالكتاب والسنة ووعدوا بالإجابة فلا نغدرهم فقال يزيد: ويحكم تصدّقونهم إنهم   [1] أي مائة وعشرين الفا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه والله ما في بني مروان أمكر ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصغرى يعني مسلمة. وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحثّ الناس على اللحاق بيزيد أخيه والحسن البصريّ يثبطهم ويتهدّده فلم يكف ثم طلب الذين يجتمعون إليه فافترقوا فأقام مسلمة بن عبد الملك يطاول يزيد بن المهلب ثمانية أيام ثم خرج يوم الجمعة منتصف صغر فعبّى أصحابه وعبّى العبّاس بن الوليد كذلك والتقوا، واشتدّ القتال وأمر مسلمة فأحرق الجسر فسطع دخانه فلما رآه أصحاب يزيد انهزموا واعترضهم يزيد يضرب في وجوههم حتى كثروا عليه فرجع وترجّل في أصحابه وقيل له: قتل أخوك حبيب فقال: لا خير في العيش بعده ولا بعد الهزيمة. ثم استمات ودلف إلى مسلمة لا يريد غيره فعطف عليه أهل الشام فقتلوه هو وأصحابه، وفيهم أخوه محمد وبعث مسلمة برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد ابن الوليد بن عقبة وقيل إن الّذي قتله الهذيل بن زفر بن الحرث الكلابي وأنف أن ينزل فيأخذ رأسه فأخذه غيره وكان المفضل بن المهلب يقاتل في ناحية المعترك وما علم بقتل يزيد فبقي ساعة كذلك يكرّ ويفرّ حتى أخبر بقتل إخوته فافترق الناس عنه، ومضى إلى واسط وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد فقاتلهم أبو رؤبة رأس الطائفة المرجئة ومعه جماعة منهم صدق، فقاتلوا ساعة من النهار ثم انصرفوا وأسر مسلمة ثلاثمائة أسير حبسهم بالكوفة. وجاء كتاب يزيد إلى محمد بن عمر بن الوليد بقتلهم فأمر العريان بن الهيثم صاحب الشرطة بذلك وبدأ بثمانين من بني تميم فقتلهم. ثم جاء كتاب يزيد بإعفائهم فتركهم وأقبل مسلمة فنزل الحيرة وجاء الخبر بقتل يزيد إلى واسط فقتل ابنه معاوية عديّ بن أرطاة ومحمدا ابنه ومالكا وعبد الملك ابنا مسمع في ثلاثين ورجع إلى البصرة بالمال والخزائن واجتمع بعمّه المفضّل وأهل بيتهم، وتجهزوا للركوب في البحر وركبوا إلى قندابيل وبها وداع بن حميد الأزدي ولّاه عليها يزيد بن المهلب ملجأ لأهل بيته إن وقع بهم ذلك فركبوا البحر بعيالهم وأموالهم إلى جبال كرمان فنزلوا بها واجتمع إليهم الفلّ من كل جانب. وبعث مسلمة مدرك بن ضب الكلبي في طلبهم فقاتلهم وقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم ومحمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث وأسر ابن صول قهستان، وهرب عثمان بن إسحاق بن محمد بن الأشعث فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة ورجع ناس من أصحاب بني المهلب فاستأمنوا وأمّنهم مسلمة منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر والورد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 ابن عبد الله بن حبيب السعدي التميمي ومضى إلى آل المهلب ومن معهم بقندابيل فمنعهم وداع بن حميد من دخولها وخرج معهم لقتال عدوّهم وكان مسلمة قد ردّ مدرك بن ضبّ بعد هزيمتهم في جبال كرمان وبعث في أثرهم هلال بن أحور التميمي فلحقهم بقندابيل فتبعوا لقتاله! وبعث هلال راية أمان فمال إليه وداع بن حميد وعبد الملك بن هلال وافترق الناس عن آل المهلب ثم استقدموا فاستأمنوا فقتلهم عن آخرهم: المفضل وعبد الملك وزياد ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب برتبيل [1] ملك الترك وبعث هلال بن أحور برءوسهم وسبيهم وأسراهم إلى مسلمة بالحيرة فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك فسيّرهم يزيد إلى العبّاس بن الوليد في حلب فنصب الرءوس وأراد مسلمة أن يبتاع الذرّية فاشتراهم الجرّاح بن عبد الله الحكميّ بمائة ألف وخلّى سبيلهم. ولم يأخذ مسلمة من الجرّاح شيئا ولما قدم بالأسرى على يزيد بن عبد الملك وكانوا ثلاثة عشر أمر يزيد فقتلوا وكلهم من ولد المهلب واستأمنت هند بنت المهلب لأخيها عيينة إلى يزيد بن عبد الملك فأمّنه وأقام عمر وعثمان عند رتبيل حتى أمّنهما أسد بن عبد الله القسري وقدما عليه بخراسان. ولاية مسلمة على العراق وخراسان ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب بني المهلب ولّاه يزيد بن عبد الملك على العراق وجمع له ولاية البصرة والكوفة وخراسان فأقرّ على الكوفة محمد بن عمر بن الوليد وكان قد قام بأمر البصرة بعد بني المهلب شبيب بن الحرث التميمي فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليم الكلبي وعلى شرطتها عمر بن يزيد التميمي وأراد عبد الرحمن أن يقتل شيعة بن المهلب بالبصرة فعزله وولّى على البصرة عبد الملك بن بشر ابن مروان. وأقرّ عمر بن يزيد على الشرطة واستعمل مسلمة على خراسان صهره على [2] سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العبّاس   [1] الظاهر من سياق المعنى ان عبارة سقطت أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 86: «وحملت رءوسهم وفي اذن كل واحد رقعة فيها اسمه إلّا ابا عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل، فإنهم لحقوا برتبيل» . [2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 90: «واستعمل مسلمة على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 ويلقب سعيد خدينة. دخل عليه بعض العرب بخراسان وعليه ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة، وسئل عنه لما خرج فقال: خدينة وهي الدهقانة ربة البيت. ولمّا ولّاه على خراسان سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهير النهشليّ على سمرقند فسار إليها وقدم الصغد وكان أهلها كفروا أيام عبد الرحمن بن نعيم، ثم عادوا إلى الصلح فوبّخ ساكنها من العرب وغيرهم بالجبن فاعتذروا بأمر أميرهم عليّ بن حبيب العبديّ. ثم حبس سعيد عمّال عبد الرحمن بن عبد الله وأطلقهم، ثم حبس عمّال يزيد بن المهلب رفع لهم أنهم اختانوا الأموال فعذبهم فمات بعضهم في العذاب وبقي بعضهم بالسجن حتى غزاهم الترك والصغد فأطلقهم. العهد لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد لما بعث يزيد بن عبد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب مع مسلمة أخيه والعبّاس بن أخيه الوليد قال له العباس: إنا نخاف أن يرجف أهل العراق بموتك ويبث [1] ذلك في أعضادنا وأشار عليه بالعهد لعبد العزيز أخيه بن الوليد وبلغ ذلك مسلمة فجاءه وقال: أخوك أحق فإنّ ابنك لم يبلغ وأشار عليه بأخيه هشام وابنه الوليد من بعده. والوليد ابن إحدى عشرة سنة فبايع لهما كذلك ثم بلغ ابنه الوليد فكان إذا رآه يقول الله بيني وبين من قدّم هشاما عليك. غزوة الترك لما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس وسمّوه خدينة واستعمل شعبة على سمرقند ثم عزله كما مرّ وولّى مكانه عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخّير فطمعت الترك، وبعثهم خاقان إلى الصغد، وعلى الترك كورصول وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهليّ وفيه مائة أهل بيت بذراريهم. وكتبوا إلى عثمان بسمرقند وخافوا أن يبطئ المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة. وندب عثمان الناس فانتدب المسيّب بن بشر الرياحيّ ومعه أربعة آلاف من سائر القبائل. فقال لهم المسيّب: من أراد الغزو والصبر على الموت فليتقدّم فرجع عنه ألف، وقالها بعد فرسخ فرجع ألف آخر، ثم أعادها ثالثة بعد فرسخ فاعتزله ألف. وسار حتى كان   [1] بث الخبر اي أذاعه ونشره وليس لها معنى هنا. ولعلها يفت من اعضادنا اي يوهن فوقنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 على فرسخين من العدوّ فأخبره بعض الدهاقين بقتل الرهائن وميعادهم غدا. وقال أصحابي ثلاثمائة مقاتل وهم معكم فبعث المسيب إلى القصر رجلين عجميّا وعربيّا يأتيانه بالخبر، فجاءوا في ليلة مظلمة وقد أجرت الترك الماء بدائر القصر لئلا يصل إليه أحد فصاح بهما فقالا له اسكت وادع لنا فلانا. فأعلماه قرب العسكر وسألا هل عندكم امتناع غدا؟ فقال: لهما نحن مستميتون. فرجعا إلى المسيب فأخبراه فعزم على تبييت الترك وبايعه أصحابه على الموت وساروا يومهم إلى الليل. ولما أمسى حثّهم على الصبر وقال: ليكن شعاركم يا محمد ولا تتبعوا موليّا واعقروا الدواب فإنه أشدّ عليهم، وليست بكم قلّة فإنّ سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنته، وان كثر أهله. ثم دنوا من العسكر في السحر وثار الترك وخالطهم المسلمون وعقروا الدواب وترجّل المسيب في أصحاب له فقاتلوا قتالا شديدا وقتل عظيم من عظماء الترك فانهزموا ونادى منادي المسيب لا تتبعوهم واقصدوا القصر واحملوا من فيه، ولا تحملوا من متاعهم إلّا المال ومن حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله وإلا فله أربعون درهما. وحملوا من في القصر إلى سمرقند ورجع الترك من الغد فلم يروا في القصر أحدا. ورأوا قتلاهم فقالوا: لم يكن الذين جاءونا بالأمس. غزو الصغد ولما كان من انتقاض الصغد إعانتهم الترك على المسلمين ما ذكرنا تجهّز سعيد لغزوهم وعبر النهر فلقيه الترك وطائفة من الصغد فهزمهم المسلمون. ونهاهم سعيد عن اتباعهم وقال هم جباية أمير المؤمنين فانكفوا عنهم. ثم سار المسلمون إلى واد بينهم وبين المرج فقطعه بعض العسكر وقد أكمن لهم الترك فخرجوا عليهم وانهزم المسلمون إلى الوادي وقيل بل كان المنهزمون مسلحة للمسلمين وكان فيمن قتل شعبة بن ظهر [1] في خمسين رجلا. وجاء الأمير والناس فانهزم العدوّ وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا ردّ السبي وعاقب السرية فثقل سعيد على الناس وضعفوه ولما رجع من هذه الغزاة وكان سورة بن الأبجر قد قال لحيّان النبطيّ يوم أمر سعيد بالكف عن الصغد وأنهم جباية أمير المؤمنين [2] فقال: سورة ارجع عنهم يا حيّان فقال: عقيرة   [1] وقد مرّ اسمه في السابق بن ظهير. [2] قوله جباية أمير المؤمنين معناه: أنه يأخذ منهم المال، ففي استئصالهم ضياع له انتهى. من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 الله لا أدعها. فقال انصرف يا نبطيّ. قال: أنبط الله وجهك فحقدها عليه سورة وأغرى به سعيد خدينة وقال: إنه أفسد خراسان على قتيبة ويثب عليك ويتحصّن ببعض القلاع فقال له سعيد: لا يسمع هذا منك أحد، ثم حاول عليه وسقاه لبنا قد ألقى فيه ذهبا مسحوقا. ثم ركض والناس معه أربعة فراسخ فعاش حيّان من بعدها ليالي قلائل ومات. ولاية ابن هبيرة على العراق وخراسان كان مسلمة لما ولي على هذه الأعمال لم يدفع من الخراج شيئا واستحيا يزيده من عزله فكتب إليه بالقدوم وأن يستخلف على عمله وسار لذلك سنة ثلاث وأربعمائة، فلقيه عمر بن هبيرة بالطريق على دواب البريد، وقال: وجّهني أمير المؤمنين لحيازة أموال بني المهلب فارتاب لذلك، وقال له بعض أصحابه: كيف يبعث ابن هبيرة من عند الجزيرة لمثل هذا الغرض؟ ثم أتاه أنّ ابن هبيرة عزل عمّاله. وكان عمر بن هبيرة من النجابة بمكان، وكان الحجّاج يبعثه في البعوث، وهو ممن سار لقتال مطرف بن المغيرة حين خلع ويقال إنه الّذي قتله، وجاء برأسه، فسيره الحجّاج إلى عبد الملك فاقطعه قرية قريبة من دمشق. ثم بعثه إلى كروم ابن مرثد الفزاري ليخلّص منه مالا فارتاب وأخذ المال ولحق بعبد الملك عائدا به من الحجّاج وقال قتلت ابن عمه ولست آمنه على نفسي، فأجاره عبد الملك، وكتب الحجّاج إليه فيه فقال: أمسك عنه وعظّم شأنه عبد الملك وبنوه واستعمله عمر بن عبد العزيز على الروم من ناحية أرمينية وأثخن فيهم وأسر سبعمائة منهم وقتلهم. واستخدم أيام يزيد لمحبوبته حبّابة [1] فسعت له في ولاية العراق، فولّاه يزيد مكان أخيه مسلمة. ولمّا ولي قدم عليه المجشر بن مزاحم السلميّ، وعبد الله بن عمر الليثي في وفد فشكوا من سعيد وحذيفة عاملهم وهو صهر مسلمة فعزله وولى مكانه على خراسان سعيد بن عمر الحريشيّ من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فسار خدينة عن خراسان وقدم سعيد فلم يعرض لعماله. ولما قدم على خراسان كان الناس بإزاء العدوّ وقد نكثوا، فحثّهم على الجهاد وخاف الصغد منه بما كانوا أعانوا الترك أيام خدينة، فقال لهم ملكهم: احملوا له خراج ما مضى واضمنوا خراج ما يأتي   [1] حبّابة هذه جارية أحبها يزيد حبّا تجاوز به الحد وضرب به المثل، أهـ. من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 والعمارة والغزو معه، وأعطوه الرهن بذلك. فأبوا إلّا أن يستجيروا بملك فرغانة وخرجوا من بلادهم إلى خجندة وسألوا الجوار وأن ينزلوا شعب عصام. فقال: أمهلونا عشرين يوما أو أربعين لنخليه لكم وليس لكم عليّ جوار قبل دخولكم إيّاه. ثم غزاهم الحريش سنة أربع ومائة فقطع النهر وترك قصر الريح على فرسخين من الدنوسيّة، وأتاه ابن عم ملك فرغانة يغريه بأهل الصغد وأنهم بخجندة، ولم يدخلوا جواره بعد، فبعث معه عبد الرحمن القسريّ في عسكر، وجاء في أثره حتى نزلوا على خجندة، وخرج أهل صغد لقتالهم فانهزموا، وقد كانوا حفروا خندقا وغطّوه بالتراب ليسقط فيه المسلمون عند القتال. فلما انهزموا ذلك اليوم أخطأهم الطريق وأسقطهم الله في ذلك الخندق. ثم حاصرهم الحريشيّ، ونصب عليهم المجانيق وأرسلوا إلى ملك فرغانة ليجيرهم، فقال: قد شرطت عليكم أن لا جوار قبل الأجل الّذي بيني وبينكم. فسألوا الصلح من الحريشيّ على أن يردّوا ما في أيديهم من سبي العرب، ويعطوا ما كسر من الخراج ولا يتخلف أحد منهم بخجندة، وإن أحدثوا حدثا استبيحت دماؤهم. فقبل منهم وخرجوا من خجندة ونزلوا في العسكر على كل من يعرفه. وبلغ الحريشيّ أنهم قتلوا امرأة فقتل قاتلها، فخرج قبيل منهم فاعترض الناس وقتل جماعة. وقتل الصغد من أسرى المسلمين مائة وخمسين، ولقي الناس منهم عنفا ثم أحاطوا بهم وهم يقاتلون بالخشب ليس لهم سلاح فقتلوا عن آخرهم ثلاثة آلاف أو سبعة آلاف. وكتب الحريشيّ إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب لعمر بن هبيرة فأحفظه ذلك ثم سرّح الحريشيّ سليمان بن أبي السري إلى حصن يطيف به وراء الصغد ومعه خوارزم شاه وملك أجرون وسومان. فسار سليمان وعلى مقدمته المسيّب بن بشر الرياحي، ولقيه أهل الحصن فهزمهم ثم حاصرهم فسألوا الصلح على أن لا يعرض لسبيهم ويسلموا القلعة بما فيها فقبل. وبعث إلى الحريشيّ فقبضه [1] وبعث من قبضه. وسار الحريشيّ إلى كشّ ونسف حربا وخراجا سليمان بن أبي السريّ واستنزل مكانه آخر اسمه قشقري من حصنه على الأمان وجاء به إلى مرو فشنقه وصلبه.   [1] مقتضى السياق فقبله وبعث من قبضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 ولاية الجرّاح على أرمينية وفتح بلنجر ولما سار ابن هبيرة على الجزيرة وأرمينية تشبب البهراني فحفل لهم الخزر وهم التركمان واستجاشوا بالقفجاق وغيرهم من أنواع الترك، ولقوا المسلمين بمرج الحجارة فهزموهم واحتوى التركمان على عسكرهم وغنموا ما فيه. وقدم المنهزمون على يزيد بن عبد الملك فولّى على أرمينية الجرّاح بن عبد الله الحكميّ وأمدّه بجيش كثيف وسار لغزو الخزر فعادوا للباب والأبواب. ونزل الجرّاح بردعة فأراح بها قليلا، ثم سار نحوهم وعبر نهر الكرّ وأشاع الإقامة ليرجع بذلك عيونهم إليهم ثم أسرى من ليلته وأجدّ السير إلى مدينة الباب فدخلها وبثّ السرايا للنهب والغارة. وزحف إليه التركمان وعليهم ابن ملكهم فلقيهم عند نهر الزمان واشتد القتال بينهم، ثم انهزم التركمان وكثر القتل فيهم، وغنم المسلمون ما معهم وساروا حتى نزلوا على الحصن، ونزل أهلها على الأمان فقتلهم. ثم سار إلى مدينة برغوا [1] فحاصرها ستة أيام، ثم نزلوا على الأمان ونقلهم [2] ثم ساروا إلى بلنجر وقاتلهم التركمان دونها فانهزموا وافتتح الحصن عنوة. وغنم المسلمون جميع ما فيه فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار وكانوا بضعة وثلاثين ألفا. ثم إن الجرّاح رجّع حصن بلنجر إلى صاحبه وردّ عليه أهله وماله، على أن يكون عينا للمسلمين على الكفّار. ثم نزل على حصن الوبيد [3] وكان به أربعون ألف بيت من الترك فصالحوا الجرّاح على مال أعطوه إياه. ثم تجمع الترك والتركمان وأخذوا الطرق على المسلمين فأقام في رستاق سبى وكتب إلى يزيد بالفتح وطلب المدد وكان ذلك آخر عمر يزيد وبعث هشام بعد ذلك إليه بالمدد وأقرّه على العمل. ولاية عبد الواحد القسري على المدينة ومكة كان عبد الرحمن بن الضحّاك عاملا على الحجاز منذ أيام عمر بن عبد العزيز وأقام عليها ثلاث سنين ثم حدثته نفسه خطبة فاطمة بنت الحسين فامتنعت فهدّدها بأن يجلد ابنها في الخمر وهو عبد الله بن الحسن المثنّى. وكان على ديوان المدينة عامل من أهل الشام يسمّى ابن هرمز. ولما رفع حسابه وأراد السير إلى يزيد جاء ليودّع فاطمة، فقالت: أخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحّاك وما يتعرّض لي. ثم بعث   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 112: يرغوا. [2] وفي نسخة اخرى: فقتلهم. [3] وفي الكامل ج 5 ص 112: الوبندر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 رسولها بكتابها إلى يزيد يخبره. وقدم ابن هرمز على يزيد فبينما هو يحدثه عن المدينة قال الحاجب: بالباب رسول فاطمة بنت الحسين، فذكر ابن هرمز ما حملته. فنزل عن فراشه وقال عندك مثل هذا وما تخبرني به! فاعتذر بالنسيان. فأدخل يزيد الرسول وقرأ الكتاب وجعل ينكث الأرض بخيزارنة ويقول: لقد اجترأ ابن الضحّاك هل من رجل يسمعني صوته في العذاب قيل له عبد الواحد بن عبد الله القسري فكتب إليه بيده قد وليتك المدينة فانهض إليها واعزل ابن الضحّاك وغرمه أربعين ألف دينار، وعذّبه حتى أسمع وأنا على فراشي. وجاء البريد بالكتاب إليه ولم يدخل على ابن الضحّاك فأحضر البريد ودس إليه بألف دينار فأخبره الخبر فسار ابن الضحّاك إلى مسلمة بن عبد الملك واستجار به وسأل مسلمة فيه يزيد فقال: والله لا أعفيه أبدا فردّه مسلمة إلى عبد الواحد بالمدينة فعذّبه ولقي شرّا، ولبس جبة صوف يسأل الناس وكان قد آذى الأنصار فذمّوه وكان قدوم القسري في شوّال سنة أربع ومائة وأحسن السيرة فأحبّه الناس وكان يستشير القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله. عزل الحريشيّ وولاية مسلم الكلبي على خراسان كان سعيد الحريشيّ عاملا على خراسان لابن هبيرة كما ذكرنا وكان يستخف به ويكاتب الخليفة دونه ويكنيه أبا المثنّى. وبعث من عيونه من يأتيه بخبره فبلغه أعظم مما سمع فعزله وعذّبه حتى أدّى الأموال وعزم على قتله ثم كف عنه. وولّى ابن هبيرة على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، ولما جاء إلى خراسان حبسه وقيّده وعذّبه كما قلنا. فلما هرب ابن هبيرة بعد ذلك عن العراق أرسل خالد القسري في طلبه الحريشيّ فأدركه على الفرات وقال لابن هبيرة ما ظنك بي قال: إنك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قسر قال: هو ذاك ثم انصرف وتركه. وفاة يزيد وبيعة هشام ثم توفي يزيد بن عبد الملك في شعبان سنة خمس ومائة لأربع سنين من خلافته وولّى بعده أخوه هشام بعهده إليه بذلك كما مرّ، وكان بحمص فجاءه الخبر بذلك فعزل عمر ابن هبيرة عن العراق وولّى مكانه خالد بن عبد الله القسري فسار إلى العراق من يومه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 غزو مسلم الترك غزا مسلم بن سعيد الترك سنة خمسة ومائة فعبر النهر وعاث في بلادهم ولم يفتح شيئا وقفل فأتبعه الترك ولحقوه على النهر فعبر بالناس ولم ينالوا منه. ثم غزا بقية السنة وحاصر أفشين حتى صالحوه على ستة آلاف رأس، ثم دفعوا إليه القلعة. ثم غزا سنة ست ومائة، وتباطأ عنه الناس، وكان ممن تباطأ البختري بن درهم، فردّ مسلم نصر بن سيّار إلى بلخ وأمره أن يخرج الناس إليه، وعلى بلخ عمر بن قتيبة أخو مسلم، فجاء نصر وأحرق باب البختري وزياد بن طريف الباهليّ. ثم منعهم عمر من دخول بلخ وقد قطع سعيد النهر، ونزل نصر بن سيّار البروقان وأتاه جند الضلاضيان، وتجمعت ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر وخرجت مضر إلى نصر، وخرج عمر بن مسلم إلى ربيعة والأزد وتوافقوا وسفر الناس بينهما في الصلح وانصرف نصر. ثم حمل البختري وعمر بن مسلم على نصر فكرّ عليهم فقتل منهم ثمانية عشر وهزمهم وأتى بعمر بن مسلم والبختريّ وزياد بن طريف فضربهم مائة مائة وحلق رءوسهم ولحاهم وألبسهم المسوح. وقيل إنّ سبب تعزير عمر بن مسلم انهزام تميم عنه وقيل انهزام ربيعة والأزد ثم أمنهم نصر بعد ذلك وأمرهم أن يلحقوا بمسلم بن سعيد. ولما قطع مسلم النهر ولحقه من لحق من أصحابه سار إلى بخارى فلحقه بها كتاب خالد بن عبد الله القسري بولايته وبأمره بإتمام غزاته، فسار إلى فرغانة وبلغه أنّ خاقان قد أقبل إليه فارتحل. ولحقه خاقان بعد ثلاثة مراحل لقي فيها طائفة من المسلمين فأصابهم. ثم أطاف بالعسكر وقاتل المسلمين، وقتل المسيّب بن بشر الرياحيّ والبرّاء من فرسان المهلّب وأخو غورك وثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر ورحل مسلم بالناس ثمانية أيام والترك مطيفون بهم بعد أن أمر بإحراق ما ثقل من الأمتعة، فأحرقوا ما قيمته ألف ألف. وأصبحوا في التاسع قريب النهر دونه أهل فرغانة والشاش. فأمر مسلم الناس أن يخرطوا سيوفهم ويحملوا فافرج أهل فرغانة والشاش عن النهر، ونزل مسلم بعسكره ثم عبر من الغد، واتبعهم ابن خاقان. فكان حميد بن عبد الله على الساقة من وراء النهر وهو مثخن بالجراحة. فبعث إلى مسلم بالانتظار وعطف على الترك فقاتلهم وأسر قائدهم وقائد الصغد ثم أصابه سهم فمات. وأتوا خجندة وقد أصابتهم مجاعة وجهد ولقيهم هنالك كتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 أسد بن عبد الله القسري أخي خالد بولايته على خراسان واستخلافه عبد الرحمن بن نعيم. فقرأ مسلم الكتاب وقال سمعا وطاعة. ولاية أسد القسري على خراسان ولما غزا خالد بن عبد الله خراسان استخلف عليها أخاه أسد بن عبد الله فقدم ومسلم ابن سعيد بفرغانة فلما رجع وأتى النهى ليقطعه منعه الأشهب بن عبد الله التميمي وكان على السفن بآمد [1] حتى عرفه أنه الأمير فأذن له. ثم عبر أسد النهر ونزل بالمرج وعلى سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج بالناس وتلقى أسدا وأدخله سمرقند وبعث أسد إلى عبد الرحمن بن نعيم بالولاية على العسكر فقفل بالناس إلى سمرقند. ثم عزل أسدا عنها وولّى مكانه الحسن بن أبى العمّرطة الكنديّ ثم قدم مسلم بن سعيد بن عبد الله بخراسان فكان يكرّمه ومرّ بابن هبيرة وهو يروم الهرب وأسلم على يديه. ثم غزا الغور وهي جبال هراة فوضع أهلها أثقالهم في الكهوف ولم يكن إليهم طريق فاتخذ التوابيت ووضع فيها الرجال ودلّاها بالسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه ثم قطع كماق النهر وجاءه خاقان ولم يكن بينهما قتال وقيل عاد مهزوما من الجسر. ثم سار إلى عوبرين وقاتلها وأبلى نصر بن سيّار ومسلم بن أحور وانهزم المشركون وحوى المسلمون عسكرهم بما فيه. ولاية أشرس على العراق كان أسد بن عبد الله في ولايته على خراسان يتعصّب حتى أفسد الناس وضرب نصر ابن سيّار بالسياط وعبد الرحمن بن نعيم وسورة بن أبجر والبختريّ بن أبي درهم، وعامر بن مالك الحماني وحلقهم وسيّرهم إلى أخيه، وكتب إليه أنهم أرادوا الوثوب بي فلامه خالد وعنّفه وقال: هلّا بعثت برءوسهم؟ وخطب أسد يوما فلعن أهل خراسان. فكتب هشام بن عبد الملك إلى خالد اعزل أخاك فعزله في رمضان سنة تسع وولّى مكانه الحكم بن عوانة الكلبي فقعد عن الصائفة تلك السنة فاستعمل هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي وأمره أن يراجع خالدا فكان خيرا ففرح به أهل خراسان.   [1] وفي الكامل ج 5 ص 131: بآمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 عزل أشرس أرسل أشرس إلى سمرقند سنة عشر ومائة أبا الصيدا صالح بن ظريف مولى بني ضبّة والربيع بن عمران التميمي إلى سمرقند وغيرها مما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، وعليها الحسن بن العمرّطة الكندي على حربها وخراجها، فدعاهم لذلك وأسلموا. وكتب غورك إلى الأشرس أنّ الجرّاح قد انكسر، فكتب أشرس إلى ابن العمرّطة: بلغني أنّ أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما أسلموا نفورا من الجزية فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه. ثم عزل ابن العمرّطة عن الخراج وولّى عليها ابن هانئ ومنعهم أبو الصيدا أخذ الجزية ممن أسلم، وكتب هانئ إلى أشرس بأنهم أسلموا وبنوا المساجد فكتب إليه وإلى العمّال أن يعيدوا الجزية على من كانت عليه ولو أسلم، فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على فراسخ من سمرقند وخرج معهم أبو الصيدا وربيع بن عمران والهيثم الشيبانيّ وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشير وبشير الجحدري وبيان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصروهم. وبلغ الخبر إلى أشرس فعزل ابن العمرّطة عن الحرب وولّى مكانه المجشر بن مزاحم السلمي وعميرة بن سعد الشيبانيّ، فكتب المجشر إلى أبي الصيدا يستقدمه هو وأصحابه فقدم ومعه ثابت قطنة فحبسهما وسيرهما إلى أشرس، واجتماع الباقون وولّوا عليهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا فكتب أشرس ووضع عنهم الخراج فرجعوا وضعف أمرهم وتتبعوا فحبسوا كلهم وألحّ هانئ في الخراج واستخف بفعل العجم والدهاقين. وأقيموا في العقوبات وحرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم وأخذت الجزية ممن أسلم. فكفرت الصغد وبخارى، واستجاشوا بالترك وخرج أشرس غازيا فنزل آمد وأقام أشهرا وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم في عشرة آلاف فعبر النهر ولقي الترك وأهل الصغد وبخارى ومعهم خاقان، فحصروا قطنا في خندقه. وأغار الترك على سرح المسلمين، وأطلق أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو وبعثه معه في خيل، فاستقدمه من أيدي الترك ما أخذوه ثم عبر أشرس بالناس ولحق بقطن ولقيهم العدوّ فانهزموا أمامهم وسار أشرس بالناس حتى جاء بيكند فحاصرها المسلمون، وقطع أهل البلد عنهم الماء، وأصابهم العطش فرحلوا إلى المدينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 واعترضهم دونها العدوّ فقاتلوهم قتالا شديدا وأبلى الحرث بن شريح وقطن بن قتيبة بلاء شديدا وأزالوا الترك عن الماء فقتل يومئذ ثابت قطنة وصخر بن مسلم بن النعمان العبديّ، وعبد الملك بن دثار الباهلي وغيرهم وحمل قطن بن قتيبة في جماعة تعاقدوا على الموت، فانهزم العدوّ واتبعهم المسلمون يقتلونهم إلى الليل. ثم رجع أشرس إلى بخارى وجهز عليها عسكرا يحاصرونها وعليهم الحرث بن شريح الأزدي ثم حاصر خاقان مدينة كمرجة من خراسان وبها جمع من المسلمين. وقطعوا القنطرة وأتاهم ابن جسر وابن يزدجرد وقال: إنّ خاقان جاء يردّ عليّ منكبي وأنا آخذ لكم الأمان فشتموه وأتاهم يزغري في مائتين وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه. فطلب رجلا يكلمه فجاءه يزيد بن سعد الباهلي فرغّبه باضعاف العطاء والإحسان على النزول ويسيرون معهم، فلاطفه ورجع إلى أصحابه وقال هؤلاء يدعونكم لقتال المسلمين، فأبوا وأمر خاقان فألقى الحطب الرطب في الخندق ليقطعه، وألقى المسلمون البهائم ليأكلوها ويحشوا جلودها ترابا ويملئوا بها الخندق. وأرسل الله سبحانه سحابة فاحتمل السيل ما في الخندق إلى النهر الأعظم ورمى المسلمون بالسهام فأصيب يزغري بسهم ومات من ليلته فقتلوا جميع من عندهم من الأسرى والرهن. ولم يزالوا كذلك حتى نزلت جيوش المسلمين فرغانة فجرّدوا عليهم واشتدّ قتالهم وصالحهم المسلمون على أن يسلموا لهم كمرجة ويرحلوا عليها إلى سمرقند والدنوسيّة وتراهنوا على ذلك وتأخر خاقان حتى يخرجوا وخلف معهم كورصول ليبلغهم إلى مأمنهم فارتحلوا حتى بلغوا الدنوسية وأطلقوا الرهن وكان مدّة الحصار ستين يوما. عزل أشرس عن خراسان وولاية الجنيد وفي سنة إحدى عشرة ومائة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان وولّى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن عمر بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المريّ أهدى إلى أمّ حكيم بنت يحيي بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جواهر فأعجبت هشاما فأهدى له أخرى مثلها فولّاه خراسان وحمله على البريد فقدم خراسان في خمسمائة ووجد الخطّاب ابن محرز السلمي خليفة أشرس على خراسان فسار الجنيد إلى ما وراء النهر ومعه الخطاب واستخلف على مرو المجشر بن مزاحم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 السلمي وعلى بلخ سورة بن أبجر التميمي. وبعث إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد أن يبعث إليه بسرية مخافة أن يعترضه العدوّ، فبعث إليه أشرس عامر بن مالك الجابي فعرض له الترك والصغد فقاتلوهم ثم استداروا وراء معسكر الترك وحمل المسلمون عليهم من أمامهم فانهزم الترك ولحق عامر بالجنيد فأقبل معه وعلى مقدمته عمارة بن حزيم واعترضه الترك فهزمهم. وزحف اليه خاقان بنواحي سمرقند وقطن ابن قتيبة على ساقته، فهزم خاقان وأسر ابن أخيه وبعث به إلى هشام، ورجع إلى مرو ظافرا. واستعمل قطن بن قتيبة على بخارى والوليد بن القعقاع العبسيّ على هراة وحبيب بن مرّة العبسيّ على شرطته ومسلم بن عبد الرحمن الباهلي على بلخ وعليها نصر بن سيّار فبعث مسلم إلى نصر وجيء به في قميص دون سراويل، فقال شيخ مضر جئتم به على هذه الحالة؟ فعزل الجنيد مسلما عن بلخ وأوفد وفدا إلى هشام يخبر غزاته. مقتل الجرّاح الحكمي قد كان تقدّم لنا دخوله إلى بلاد الخزر سنة أربع ومائة وانهزامهم أمامه وأنه أثخن فيهم وملك بلنجر وردّها على صاحبها وأدركه الشتاء فأقام هنالك. وأنّ هشاما أقرّه على عمله ثم ولّاه أرمينية فدخل بلاد التركمان من ناحية تفليس سنة إحدى عشرة ففتح مدينتهم البيضاء وانصرف ظافرا. فاجتمع الخزر والترك من ناحية اللاف، وزحف إليهم الجرّاح سنة اثنتي عشرة ولقيهم بمرج أردبيل، فاقتتلوا أشدّ قتال، وتكاثر العدوّ عليه فاستشهد ومن معه وقد كان استخلف أخاه الحجّاج على أرمينية ولما قتل طمع الخزر وهم التركمان وأوغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل، وقيل كان قتله ببلنجر. ولما بلغ الخبر هشاما دعا سعيد الحريشيّ فقال: بلغني أنّ الجرّاح انهزم! قال: الجرّاح أعرف باللَّه من أن ينهزم ولكن قتل فابعثني على أربعين من دواب البريد وابعث إليّ كل يوم أربعين رجلا مددا واكتب إلى أمراء الأجناد يواسوني ففعل وسار الحريشيّ فلا يمرّ بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من أراد الجهاد. ووصل مدينة أزور فلقيه جماعة من أصحاب الجرّاح فردّهم معه ووصل إلى خلاط فحاصرها وفتحها وقسّم غنائمها. ثم سار عنها يفتح القلاع والحصون إلى بروعة فنزلها وابن خاقان يومئذ بأذربيجان يحاصر مدينة ورثان منها ويعيث في نواحيها، وبعث الحريشيّ إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 أهل ورثان يخبرهم بوصوله فأخرج العدوّ عنهم ووصل إليهم الحريشيّ. ثم اتبع العدوّ إلى أردبيل وجاءه بعض عيونه بأنّ عشرة آلاف من عسكرهم على أربعة فراسخ منه ومعهم خمسة آلاف بيت من المسلمين أسارى وسبايا، فبيتهم وقتلهم أجمعين ولم ينج منهم أحد واستنقذ المسلمين منهم. وسار إلى باجروان فجاءه عين آخر ودله على جمع منهم فسار إليهم واستلحمهم أجمعين واستنقذ من معهم من المسلمين، وكان فيهم أهل الجرّاح وولده فحملهم إلى باجروان. ثم زحف إليهم جموع الخزر مع ابن ملكهم والتقوا بأرض زرند، واشتدّ القتال والسبي من معسكر الكفّار فبكى المسلمون رحمة لهم وصدقوا الحملة، فانهزم الكفّار واتبعهم المسلمون إلى نهر أرس وغنموا ما كان معهم من الأموال واستنقذوا الأسرى والسبايا وحملوهم إلى باجروان. ثم تناصر الخزر في ملكهم ورجعوا فنزلوا نهر البيلقان واقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزموا فكان من غرق أكثر ممن قتل وجمع الحريشيّ الغنائم وعاد إلى باجروان فقسّمها وكتب إلى هشام بالفتح. واستقدمه وولّى أخاه مسلمة على أرمينية وأذربيجان. وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان وخرج الجنيد سنة اثنتي عشرة ومائة من خراسان غازيا إلى طخارستان وبعث إليها عمارة ابن حزيم في ثمانية عشر ألفا، وبعث إبراهيم بن سام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر وحاشتك الترك [1] وزحف بهم خاقان إلى سمرقند وعليها سورة بن أبجر فكتب إلى الهند مستغيثا فأمر الجنيد بعبور النهر فقال له المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي: إن الترك ليسوا كغيرهم وقد مزقت جندك فسلّم ابن عبد الرحمن بالنبراود والبختري بهراة وعمارة بن حزيم بطخارستان ولا تعبر النهر في أقل من خمسين الفا. فاستقدم عمارة وأمهل فقال: أخي على سورة وعبر الجنيد فنزل كشّ وتأهب للسير. وغوّر الترك الآبار في طريق كشّ وسار الجنيد على التعبية واعترضه خاقان ومعه أهل الصغد وفرغانة والشاش، وحملوا على مقدّمته، وعليها عثمان بن عبد الله بن الشخّير فرجعوا والترك في أتباعهم ثم حملوا على المدينة وأمدّهم الجنيد   [1] العبارة غير واضحة والأسماء مختلفة عن بعض المراجع وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 162: «فوجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر الفا، ووجه إبراهيم بن بسّام الليثي في عشرة الاف إلى وجه آخر، وجاشت الترك .... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 بنصر بن سيّار وشدّوا على العدوّ وقتل أعيانا منهم وأقبل الجنيد على الميمنة وأقبل تحت راية الأزد فقال له صاحب الراية: ما قصدت كرامتنا لكن علمت أنّا لا نصل إليك ومنا عين تطرف. فصبروا وقاتلوا حتى كلّت سيوفهم وقطع عبيدهم الخشب فقاتلوا بها حتى أدركهم الملل وتعانقوا ثم تحاجزوا وهلك من الأزد في ذلك المعترك نحو من ثمانين فيهم عبد الله بن بسطام ومحمد بن عبد الله بن جودان والحسين بن شيخ ويزيد ابن المفضّل الحرّاني. وبين الناس كذلك إذ طلعت أوائل عسكر خاقان فنادى منادي الجنيد بالنزول فترجلوا، وخندق كل كائن على رجاله. وقصد خاقان جهة بكر بن وائل وعليهم زياد بن الحرث فحملت بكر عليهم فأفرجوا واشتد القتال، وأشار أصحاب الجنيد عليه بأن يبعث إلى سورة بن أبجر من سمرقند ليتقدّم الترك إليه ليكون لهم شغل به عن الجنيد وأصحابه، فكتب يستقدمه فاعتذر فأعاد عليه وتهدّده وقال: أخرج وسر مع النهر لا تفارقه فلما خرج هو استبعد طريق النهر واستخلف على سمرقند موسى بن أسود الحنظليّ وسار محمد في اثني عشر ألفا حتى إذا بقي بينه وبين الجنيد وعساكره فرسخ لقيه خاقان عند الصباح وحال بينهم وبين الماء واضرم النار في اليبس حواليهم فاستماتوا وحملوا وانكشفت الترك وأظلم الجوّ بالعجاج. وكان من وراء الترك لهب سقط فيه جميع العدوّ والمسلمون وسقط سورة فاندقت فخذه ثم عطف الترك فقتلوا المسلمين ولم يبق منهم إلا القليل وانحاش بالناس المهلب بن زياد والعجمي في ستمائة أو ألف، ومعه قريش بن عبد الله العبديّ إلى رستاق المرغاب، وقاتلوا بعض قصوره فأصيب المهلب وولّوا عليهم الرحب بن خالد. وجاءهم الاسكيد صاحب نسف وغورك ملك الصغد فنزلوا معه إلى خاقان فلم يجز أمان غورك وقتلهم ولم ينج منهم أحد. ثم خرج الجنيد من الشعب قاصدا سمرقند وأشار عليه مجشر بن مزاحم بالنزول فنزل ووافقته جموع الترك فجال الناس جولة وصبر المسلمون وقاتل العبيد وانهزم العدوّ ومضى الجنيد إلى سمرقند فحمل العيالات إلى مرو وأقام بالصغد أربعة أشهر وكان صاحب الرأي بخراسان في الحرب المجشّر بن مزاحم السلمي وعبد الرحمن ابن صبح المخزومي وعبيد الله بن حبيب الهجريّ. ولما انصرفت الترك بعث الجنيد نهار بن توسعة بن تيم الله وزميل بن سويد بن شيم بالخبر وتحامل فيه على سورة بن أبجر بما عصاه من مفارقة النهر حتى نال العدوّ منه فكتب إليه هشام قد بعث إليك من المدد عشرة آلاف من البصرة ومثلها من الكوفة وثلاثون ألف رمح ومثلها سيفا. وأقام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 الجنيد بسمرقند وسار خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة بن مسلم فخاف عليه من الترك واستشار عبد الله بن أبي عبد الله مولى بن سليم بعد أن اختلف عليه أصحابه فاشترط عليه أن لا يخالفه فأشار بحمل العيالات من سمرقند فقدّمهم واستخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخّير في أربعمائة فارس وأربعمائة راجل ووفّر أعطياتهم وسار العيادات في مقدمته حتى [1] من الضيق ودنا من الطواويس. فأقبل إليه خاقان بكير ميمنية [2] أوّل رمضان سنة اثنتي عشرة، واقتتلوا قليلا، ثم رجع الترك وارتحل من الغد، فاعترضه الترك ثانيا وقتل مسلم بن أحوز بعض عظمائهم فرجعوا من الطواويس. ثم دخل الجنيد بالمسلمين بخارى وقدمت الجنود من البصرة والكوفة فسرّح الجنيد معهم حورثة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه. ولاية عاصم على خراسان وعزل الجنيد بلغ هشاما سنة ست عشرة أن الجنيد بن عبد الرحمن عامل خراسان تزوّج بنت يزيد بن المهلّب فغضب لذلك وعزله وولّى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي وكان الجنيد قد مرض بالاستسقاء. فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه فلما قدم عاصم وجده قد مات وكانت بينهما عداوة فحبس عمارة بن حزيم وكان الجنيد استخلفه وهو ابن عذبة فعذّبه عاصم وعذّب عمال الجنيد. ولاية مروان بن محمد على أرمينية وأذربيجان لما عاد مسلمة من غزو الخزر وهم التركمان إلى بلاد المسلمين وكان في عسكره مروان بن محمد بن مروان، فخرج مختفيا عنه إلى هشام وشكا له من مسلمة وتخاذله عن الغزو وما أدخل بذلك على المسلمين من الوهم. وبعث إلى العدوّ بالحرب وأقام شهرا حتى استعدّوا وحشدوا ودخل بلادهم فلم يكن له فيهم نكاية وقصد أراد السلامة ورغب إليه بالغزو إليهم لينتقم منهم، وأن يمدّه بمائة وعشرين ألف مقاتل ويكتم عليه.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 169: «حتى خرجوا من الأماكن المخوفة ودنا من الطواويس. [2] وفي الكامل ج 5 ص 169: بكر مينية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 فأجابه لذلك وولّاه على أرمينية. فسار إليها وجاءه المدد من الشام والعراق والجزيرة. فأظهر أنه يريد غزو اللان وبعث إلى ملك الخزر في المهادنة فأجاب. وأرسل رسله لتقرير الصلح فأمسكهم مروان إلى أن تجهّز وودّعهم وسار على أقرب الطرق فوافاهم ورأى ملك الخزر أنّ اللقاء على تلك الحال غرر فتأخر إلى أقصى بلاده. ودخل مروان فأوغل فيها وخرّب وغنم وسبى إلى آخرها. ودخل بلاد ملك السرير وفتح قلاعها وصالحوه على ألف رأس نصفها غلمان ونصفها جواري ومائة ألف مد تحمل إلى الباب. وصالحه أهل تومان على مائة رأس نصفين وعشرين ألف مد. ثم دخل أرض وردكران فصالحوه. ثم أتى حمرين وافتتح حصنهم، ثم أتى سبدان فافتتحها صلحا، ثم نزل صاحب اللكز في قلعته وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج يريد ملك الخزر فأصيب بسهم ومات وصالح أهل اللكز مروان، وأدخل عامله وسار مروان إلى قلعة سروان فأطاعوا، وسار إلى الرودانيّة فأوقع بهم ورجع. خلع الحرث بن شريح [1] بخراسان كان الحرث هذا عظيم الأزد بخراسان فخلع سنة ست عشرة ولبس السواد، ودعا إلى كتاب الله وسنة نبيّه والبيعة للرضا على ما كان عليه دعاة بني العبّاس هناك. وأقبل الى الغاربات [2] وجاءته رسل عاصم مقاتل بن حيّان النبطيّ والخطّاب بن محرز السلميّ فحبسهما وفرّوا [3] من السجن إلى عاصم بدم الحرث وغدره. وسار الحرث من الغاربات إلى بلخ وعليها نصر بن سيّار والتخيبيّ، فلقياه في عشرة آلاف وهو في أربعة فهزمهم، وملك بلخ واستعمل عليها سليمان بن عبد الله بن حازم. وسار إلى الجوزجان [4] عليها ثم سار إلى مرو ونمي إلى عاصم أنّ أهل مرو يكاتبونه فاستوثق منهم بالقسامة وخرج وعسكر قريبا من مرو، وقطع الجسور وأقبل الحرث في ستين ألفا ومعه فرسان الأزد وتميم ودهاقين الجوزجان والغاربات، وملك الطالقان وأصلحوا القناطر ثم نزع محمد بن المثنّى في ألفين من الأزد وحمّاد بن عامر   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: الحرث بن سريج. [2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: الغارياب [3] الأصح أن يقول وفرّا. [4] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: «وسار إلى الجوزجان فغلب عليها وعلى الطالقان ومروالروذ.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 الجابي في مثلها من بني تميم إلى عاصم، ولحقوا به. ثم اقتتلوا فانهزم الحرث وغرق كثير من أصحابه في نهر مرو وقتلوا قتلا ذريعا. وكان ممن غرق حازم. ولما قطع الحرث نهر مرو ضرب رواقه واجتمع إليه بها ثلاثة آلاف فارس وكفّ عاصم عنهم. ولاية أسد القسري الثانية بخراسان كتب عاصم إلى هشام سنة سبع عشرة أنّ خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى العراق ليكون مددها قريب الغوث، فضم هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله القسري وكتب إليه: ابعث أخاك يصلح ما أفسد فبعث خالد أخاه أسدا فسار على مقدمته محمد بن مالك الهمدانيّ. (ولما بلغ عاصم) الخبر راود الحرث بن شريح على الصلح وأن يكتبا جميعا إلى هشام يسألانه الكتاب والسنة، فإن أبى اجتمعا وأبى بعض أهل خراسان ذلك فانتقض بينهما واقتتلا، فانهزم الحرث وأسر من أصحابه كثير قتلهم عاصم. وبعث بالفتح إلى هشام مع محمد بن مسلم العنبريّ فلقيه أسد بالري وجاء إلى خراسان فبعث عاصما وطلبه بمائة ألف درهم، وأطلق عمارة بن حزيم وعمّال الجنيد. ولم يكن لعاصم بخراسان إلا مرو ونيسابور وكانت مروالروذ للحرث، وواصل لخالد بن عبيد الله الهجريّ على مثل رأي الحرث. فبعث أسد عبد الرحمن بن نعيم في أهل الكوفة والشام إلى الحرث، وسار هو بالناس إلى آمد. فخرج إليه زياد القرشيّ مولى حيّان النبطي في العسكر، فهزمهم أسد وحاصرهم حتى سألوا الأمان، واستعمل عليهم يحيي بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ، وسار إلى بلخ، وقد بايعوا سليمان بن عبد الله بن حازم. فسار حتى قدمها ثم سار منها إلى ترمذ والحرث محاصر لهما، وأعجزه وصول المدد إليها فخرج إلى بلخ، وخرج أهل ترمذ فهزموا الحرث وقتلوا أكثر أصحابه. ثم سار أسد إلى سمرقند ومرّ بحصن زمّ وبه أصحاب الحرث فبعث إليهم وقال: إنما نكرتم منا سوء السيرة ولم يبلغ ذلك النساء واستحلال الفروج ولا مظاهرة المشركين على مثل سمرقند وأعطاه الأمان على تسليم سمرقند، وهدّده إن قاتل بأنه لا يؤمنه أبدا. فخرج إلى الأمان وسار معه إلى سمرقند فأنزلهم على الأمان ثم رجع أسد إلى بلخ وسرّح جديعا الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحرث وأصحابه في طخارستان. فحاصرها وفتحها وقتل مقاتلهم ومنهم بنو بزري من ثعلب أصحاب الحرث. وباع سبيهم في سوق بلخ وانتقض على الحرث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 أربعمائة وخمسون من أصحابه بالقلعة، ورئيسهم جرير بن ميمون القاضي. فقال لهم الحرث: إن كنتم مفارقيّ ولا بدّ فاطلبوا الأمان، وإن طلبتموه بعد رحيلي لا يعطونه لكم، فأبوا إلّا أن ارتحل، فبعثوا بالأمان فلم يجبهم إليه. وسرّح جديعة الكرمانيّ في ستة آلاف فحصرهم حتى نزلوا على حكمه وحمل خمسين منهم إلى أسد فيهم ابن ميمون القاضي. فقتلهم وكتب إلى الكرماني بإهلاك الباقين واتخذ أسد مدينة بلخ دارا ونقل إليها الدواوين. ثم غزا طخارستان وأرض حبونة [1] فغنم وسبى. مقتل خاقان ولما كانت سنة تسع عشرة غزا أسد بن عبد الله بلاد الختّل فافتتح منها قلاعا وامتلأت أيدي العسكر من السبي والشاء وكثب بن السائحي [2] صاحب البلاد يستجيش خاقان على العرب، ويضعفهم له فتجهز وخفف من الأزودة استعجالا للعرب فلما أحس به ابن السائحيّ بعث بالنذير إلى أسد فلم يصدّقه، فأعاد عليه إني الّذي استمددت خاقان لأنك معّرت البلاد، ولا أريد أن يظفر بك خشية من معاداة العرب واستطالة خاقان عليّ، فصدّقه حينئذ أسد وبعث الأثقال مع إبراهيم بن عاصم العقيليّ، الّذي كان ولي سجستان، وبعث معه المشيخة كثيّر بن أميّة، وأبا سفيان بن كثيّر الخزاعي وفضيل بن حيّان المهري وغيرهم وأمدّهما بجند آخر. وجاء في أثرهم فانتهى إلى نهر بلخ وقد قطعه إبراهيم بن عاصم بالسبي والأثقال، فخاض النهر من ثلاثة وعشرين موضعا، وحمل الناس شياههم حتى حمل هو شاة فما استكمل العبور حتى طلعت عليهم الترك وعلى المسلمة الأزد وتميم. فحمل خاقان عليهم فانكشفوا فرجع أسد إلى عسكره وخندق. وظنوا أنّ خاقان لا يقطع النهر فقطع النهر إليهم وقاتله المسلمون في معسكرهم وباتوا والترك محيطون بهم فلما أصبحوا لم يروا منهم أحدا فعلموا أنهم اتبعوا الأثقال والسبي، واستعلموا علمها من الطلائع، فشاور أسد الناس فأشاروا بالمقام وأشار نصر بن سيّار باتباعهم يخلص الأثقال ويقطع شقة لا بد من قطعها، فوافقه أسد وطيّر النذير إلى إبراهيم بن عاصم. وصبح خاقان للأثقال وقد خندقوا عليهم فأمر أهل الصغد بقتلهم فهزمتهم مسلحة المسلمين فصعد   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 198: حبوية. وفي نسخ اخرى: حبوية. [2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 200: انسايجي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 على تلّ حتى رأى المسلمين من خلفهم. وأمر الترك أن يأتوهم من هنالك ففعلوا وخالطوهم في معسكرهم وقتلوا صاغان خذاه وأصحابه وأحسوا بالهلاك وإذا بالغبار قد رهج والترك يتنحّون قليلا قليلا. وجاء أسد ووقف على التلّ الّذي كان عليه خاقان وخرج إليه بقية الناس وجاءته امرأة صاغان خذاه معولة فأعول معها، ومضى خاقان يقود أسرى المسلمين في الآفاق ويسوق الإبل الموقورة والجواري وأراد أهل العسكر قتالهم فمنعهم أسد ونادى رجل من عسكر خاقان وهو من أصحاب الحرث بن شريح يعيّر أسدا ويحرّضه ويقول: قد كان لك عن الختّل مندوحة وهي أرض آبائي وأجدادي، قد كانت ما رأيت، ولعلّ الله ينتقم منك. ومضى أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى جاء الشتاء، فدخل البلد وشتّى فيها. وكان الحرث بن شريح بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان وأغراه بغزو خراسان وزحفوا إلى بلخ. وخرج أسد يوم الأضحى فخطب الناس وعرّفهم بأن الحرث بن شريح استجلب الطاغية ليطفئ نور الله ويبدّل دينهم، وحرّضهم على الاستنصار باللَّه وقال أقرب ما يكون العبد للَّه ساجدا. ثم سجد وسجد الناس وأخلصوا الدعاء وخرج للقائهم وقد استمدّ خاقان من وراء النهر، وأهل طخارستان وحبونة في ثلاثين ألفا وجاء الخبر إلى أسد وأشار بعض الناس بالتحصّن منهم بمدينة بلخ. واستمدّ خالد وهشام. وأبى الأسد إلّا اللقاء، فخرج واستخلف على بلخ الكرماني بن علي، وعهد إليه أنه لا يدع أحدا يخرج من المدينة. واعتزم نصر بن سيّار والقاسم بن نجيب وغيرهم على الخروج فأذن لهم وصلّى بالناس ركعتين وطوّل. ثم دعا وأمر الناس بالدعاء ونزل من وراء القنطرة ينتظر من تخلف، ثم بدا له وارتحل فلقي طليعة خاقان وأسر قائدهم وسار حتى نزل على فرسخين من الجوزجان ثم أصبحوا وقد تراءى الجمعان وأنزل أسد الناس ثم تهيأ للحرب ومعه الجوزجان (أهـ) . وحملت الترك على الميسرة فانهزموا إلى رواق أسد، فشدت عليهم الأسد وبنو تميم والجوزجان من الميمنة فانكشفوا إلى خاقان وقد انهزم والحرث معه واتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلونهم واستاقوا مائة وخمسين ألفا من الشاء ودواب كثيرة. وسلك خاقان غير الجادّة والحرث بن شريح [1] ولقيهم أسد عند الطريق. وسلك الجوزجان بعثمان بن عبد الله بن الشخّير طريقا،   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 205: وأخذ خاقان طريقا في الجبل والحرث يحميه وسار منهزما.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 يعرفها حتى نزلوا على خاقان وهو آمن، فتركوا الأبنية والقدور تغلي وبناء العرب والموالي والعسكر مشحون من آنية الفضّة، وركب خاقان والحرث يمانع عنه. وأعجلوا امرأة خاقان عن الركوب فقتلها الخصيّ الموكل بها. وبعث أسد بجوار الترك دهاقين خراسان يفادون بها أسراهم، وأقام خمسة أيام وانصرف إلى بلخ لتاسعة من خروجه. ونزل الجوزجان وخاقان هارب أمامه. وانتهى خاقان إلى جونة الطخاريّ، فنزل عليه، وانصرف أسد إلى بلخ، وأقام خاقان عند جونة حتى أصلح آلته، وسار وسبيه بها فأخذه جدكاوش أبو فشين فأهدى إليه وأتحفه وحمل أصحابه يتخذ بذلك عنده يدا. ثم وصل خاقان بلاده وأخذ في الاستعداد في الحرب ومحاصرة سمرقند وحمل الحرث وابن شريح وأصحابه على خمسة آلاف برذون. ولاعب خاقان بالنرد كورصول يوما فغمزه كورصول فأنف وتشاجر، فصك كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرنّ يده فتنحّى وجمع. ثم بيّت خاقان فقتله وافترق الترك وحملوه وتركوه بالعراء فحمله بعض عظمائهم ودفنه. وكان أسد بعث بالفتح من بلخ إلى خالد بن عبد الله فأخبره وبعث به إلى هشام فلم يصدّقه، ثم بعده القاسم بن نجيب بقتل خاقان، فحثّت قيس أسدا وخالدا، وقالوا لهشام: استقدم مقاتل بن حيّان. فكتب بذلك إلى خالد، فأرسل إلى أسد أن يبعث به فقدم على هشام والأبرش وزيره جالس عنده، فقصّ عليه الخبر فسرّ بذلك وقال لمقاتل: ما حاجتك؟ قال يزيد بن المهلّب أخذ من حيّان أبي مائة ألف درهم بغير حق، فأمر بردّها عليّ. فاستحلفه وكتب له بردها، وقسّمها مقاتل بين ورثة حيّان. ثم غزا أسد الختّل بعد مقتل خاقان، وقدم مصعب بن عمر الخزاعيّ إليها فسار إلى حصن بدرطرخان فاستأمن له أن يلقي أسدا فأمنه وبعث إلى أسد فسأل أن يقبل منه ألف درهم، وراوده على ذلك فأبى أسد وردّه إلى مصعب ليردّه إلى حصنه، فقال له مسلمة بن أبي عبد الله وهو من الموالي: إن أمير المؤمنين سيندم على حبسه. ثم أقبل أسد بالناس ووعد له المجشّر بن مزاحم بدرطرخان أو قبول ما عرض، فندم أسد وأرسل إلى مصعب يسأل عنه فوجده مقيما عند مسلمة، فجيء به وقطعت يده. ثم أمر رجلا من الأزد كان بدرطرخان قتل أباه فضرب عنقه وغلب على القلعة. وبعث العساكر في بلاد الختّل فامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وامتنع ولد بدرطرخان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وأمواله في قلعة فوق بلدهم صغيرة فلم يوصل [1] إليهم. وفاة أسد وفي ربيع الأوّل سنة عشرين توفي ابن عبدا القسري بمدينة بلخ واستخلف جعفر بن حنظلة النهروانيّ فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيّار بالعمل في رجب. ولاية يوسف بن عمر الثقفي على العراق وعزل خالد وفي هذه السنة عزل هشام خالدا عن أعماله جميعها بسعاية أبي المثنّى وحسّان النبطيّ وكانا يتوليان ضياع هشام بالعراق، فنقلا على خالد وأمر الأشدق بالنهوض على الضياع وأنهى ذلك حسّان بعد أبي المثنّى، وأنّ غلته في السنة ثلاثة عشر ألف ألف فوقرت في نفس هشام. وأشار عليه بلال بن أبي بردة والعريان بن الهيثم أن يعرض أملاكه على هشام ويضمنون له الرضا فلم يجبهم. ثم شكا من خالد بعض آل عمر والأشدق بأنه أغلظ له في القول بمجلسه، فكتب إليه هشام يوبّخه ويأمره بأن يمشي ساعيا على قدميه إلى بابه ويترضاه ونميت عنه من هذا أقوال كثيرة وأنه يستقل ولاية العراق، فكتب إليه هشام: يا ابن أم خالد بلغني أنك تقول ما ولاية العراق لي بشرف، يا ابن اللخناء كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ أمّا والله إني لأظنّ أنّ أوّل من يأتيك صقر من قريش يشدّ يديك إلى عنقك. ثم كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي وهو باليمن يأمره أن يقدم في ثلاثين من أصحابه إلى العراق فقد ولّاه ذلك. فسار إلى الكوفة ونزل قريبا منها وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده وأهدى إليه وصيفا ووصيفة سوى الأموال والثياب ومرّ يوسف وأصحابه ببعض أهل العراق فسألوهم فعرضوا وظنّوهم خوارج، وركب يوسف إلى دور ثقيف فكتموا، ثم جمع يوسف بالمسجد من كان هنالك من مضر ودخل مع الفجر فصلى، وأرسل إلى خالد وطارق فأخذهما. وقيل إنّ خالدا كان بواسط وكتب إليه بالخبر بعض أصحابه من دمشق، فركب إلى خالد وأخبره بالخبر وقال: اركب إلى أمير المؤمنين واعتذر إليه قال: لا أفعل بغير إذن قال: فترسلني أستأذنه قال: لا. قال: فاضمن له جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده   [1] الأصح ان يقول: لم يصل اليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وهي مائة ألف ألف قال: والله ما أجد عشرة آلاف ألف قال: أتحملها أنا وفلان وفلان. قال: لا أعطي شيئا وأعود فيه فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستبقي الدنيا وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند الكوفة فنقتل ويأكلون الأموال فأبى خالد من ذلك كله فودعه طارق ومضى وبكى ورجع إلى الكوفة. وخرج خالد إلى الحمّة وجاء كتاب هشام بخطه إلى يوسف بولاية العراق وأن يأخذ ابن النصرانيّة يعني خالدا وعمّاله فيعذّبهم، فأخذ الأولاد وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت وقدم في جمادى الأخيرة سنة عشرين ومائة فنزل النجف وأرسل مولى كيسان فجاء بطارق ولقيه بالحيرة فضربه ضربا مبرّحا ودخل الكوفة. وبعث عثمان عطاء بن مقدم إلى خالد بالحمّة فقدم عليه وحبسه وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على سبعة آلاف ألف. وقيل أخذ منه مائة ألف وكانت ولايته العراق خمس عشرة سنة ولما ولي يوسف نزلت الذلّة بالعراق في العرب وصار الحكم فيه إلى أهل الذمّة. ولاية نصر بن سيار خراسان وغزوة وصلح الصغد ولما مات أسد بن عبد الله ولّى هشام على خراسان نصر بن سيّار وبعث إليه عهده على عبد الكريم بن سليط الحنفيّ، وقد كان جعفر بن حنظلة لما استخلفه أسد عند موته عرض على نصر أن يولّيه بخارى فقال له: البحتريّ بن مجاهد مولى بني شيبان لا تقبل فإنك شيخ مضر بخراسان، وكان عهدك قد جاء على خراسان كلها فكان كذلك ولما ولي نصر استعمل على بلخ مسلم بن عبد الرحمن وعلى مروالروذ وشاح ابن بكير بن وشاح، وعلى هراة الحرث بن عبد الله بن الحشرج، وعلى نيسابور زياد بن الرحمن القسريّ، وعلى خوارزم أبا حفص عليّ بن حقنة، وعلى الصغد قطن بن قتيبة. وبقي أربع سنين لا يستعمل في خراسان إلّا مضريّا فعمرت عمارة لم تعمر مثلها، وأحسن الولاية والجباية. وكان وصول العهد إليه بالولاية في رجب سنة عشرين فغزا غزوات أوّلها إلى ما وراء النهر من نحو باب الحديد. وسار إليها من بلخ ورجع إلى مرو فوضع الجزية على من أسلم من أهل الذمّة وجعلها على من كان يخفف عنه منهم وانتهى عددهم ثلاثين ألفا من الصنفين وضعت عن هؤلاء وجعلت على هؤلاء. ثم غزا الثانية إلى سمرقند، ثم الثالثة إلى الشاش سار إليها من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 مرو ومعه ملك بخارى وأهل سمرقند وكشّ ونسف في عشرين ألفا. وجاء إلى نهر الشاش فحال بينه وبين عبوره كورصول، عسكر نصر في ليلة ظلماء، ونادى نصر لا يخرج أحد وخرج عاصم بن عمير في جند سمرقند، فجاولته خيل الترك ليلا وفيهم كورصول فأسره عاصم وجاء به إلى نصر فقتله وصلبه على شاطئ النهر فحزنت الترك لقتله وأحرقوا أبنيته وقطعوا آذانهم وشعورهم وأذناب خيولهم. وأمر نصر بإحراق عظامه لئلا يحملوها بعد رجوعه. ثم سار إلى فرغانة فسبى منها ألف رأس، وكتب إليه يوسف بن عمران ليسير إلى الحرث بن شريح في الشاش ويخرّب بلادهم ويسبيهم. فسار لذلك وجعل على مقدّمته يحيى بن حصين وجاء بهم إلى الحرث وقاتلهم وقتل عظيما من عظماء الترك وانهزموا. وجاء ملك الشاش في الصلح والهدنة والرهن واشترط نصر عليه إخراج الحرث بن شريح من بلده فأخرجه إلى فاراب. واستعمل على الشاش ينزل ابن صالح مولى عمرو بن العاص. ثم سار إلى أرض فرغانة وبعث أمّه في إتمام الصلح، فجاءت لذلك وأكرمها نصر وعقد لها ورجعت. وكان الصغد لما قتل خاقان طمعوا في الرجعة إلى بلادهم، فلما ولي نصر بعث إليهم في ذلك وأعطوه ما سألوه من الشروط، وكان أهل خراسان قد نكروا شروطهم، وكان منها أن لا يعاقب من ارتدّ عن الإسلام إليهم ولا يؤخذ منهم أسرى إلا ببينة وحكم وعاب الناس ذلك على نصر لما أمضاه لهم. فقال: لو عاينتم شكوتهم في المسلمين مثل ما عاينت ما أنكرتم. وأرسل إلى هشام في ذلك فأمضاه وذلك سنة ثلاث وعشرين. ظهور زيد بن على ومقتله ظهر زيد بن عليّ بالكوفة خارجا على هشام داعيا للكتاب والسنّة وإلى جهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء وردّ المظالم وأفعال الخير ونصر أهل البيت. واختلف في سبب خروجه فقيل: إنّ يوسف ابن عمران لما كتب في خالد القسريّ كتب إلى هشام أنه شيعة لأهل البيت، وأنه ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار وردّ عليه الأمن، وأنه أودع زيدا وأصحابه الوافدين عليه مالا، فكان زيد قد قدم على خالد بالعراق هو ومحمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، وداود بن علي بن عبد الله بن عبّاس فأجازهم ورجعوا إلى المدينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 فبعث هشام عنهم وسألهم فأقرّوا بالجائزة وحلفوا على ما سوى ذلك وأنّ خالدا لم يودعهم شيئا فصدّقهم هشام وبعثهم إلى يوسف فقاتلوا خالدا وصدّقهم الآخر، وعادوا إلى المدينة ونزلوا القادسية. وراسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم، وقيل في سبب ذلك، إنّ زيدا اختصهم مع ابن عمه جعفر ابن الحسن المثنّى في وقف عليّ، ثم مات جعفر فخاصم أخوه عبد الله زيدا وكانا يحضران عند عامل خالد بن عبد الملك بن الحرث، فوقعت بينهما في مجلسه مشاتمة وأنكر زيد من خالد إطالته للخصومة وأن يستمع لمثل هذا فأغلظ له زيد وسار إلى هشام فحجبه، ثم أذن له بعد حين فحاوره طويلا ثم عرض له بأنه ينكر الخلاف وتنقصه. ثم قال له: أخرج؟ قال: نعم ثم لا أكون إلا بحيث تكره! فسار إلى الكوفة وقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: ناشدتك الله الحق بأهلك ولا تأت الكوفة وذكّره بفعلهم مع جدّه وجدّه يستعظم ما وقع به. وأقبل الكوفة فأقام بها مستخفيا ينتقل في المنازل واختلف إليه الشيعة وبايعه جماعة منهم: مسلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسيّ ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وناس من وجوه أهل الكوفة يذكر لهم دعوته. ثم يقول: أتبايعون على ذلك؟ فيقولون: نعم فيضع يده على أيديهم ويقول عهد الله عليك وميثاقه وذمّته وذمّة نبيه بيقين تتبعني ولا تقاتلني مع عدوّي ولتنصحنّ لي في السر والعلانية. فإذا قال نعم وضع يده على يده ثم قال: اللَّهمّ اشهد فبايعه خمسة عشر ألفا وقيل أربعون. وأمرهم بالاستعداد وشاع أمره في الناس وقيل: إنه أقام في الكوفة ظاهرا ومعه داود بن عليّ ابن عبد الله بن عبّاس لما جاءوا لمقاتلة خالد فاختلف إليه الشيعة، وكانت البيعة. وبلغ الخبر إلى يوسف بن عمران فأخرجه من الكوفة ولحق الشيعة بالقادسية أو الغلبية وعذله داود بن عليّ في الرجوع معه وذكره حال جدّه الحسين فقالت الشيعة لزيد: هذا إنما يريد الأمر لنفسه ولأهل بيته فرجع معهم ومضى داود إلى المدينة. ولما أتى الكوفة جاءه مسلمة بن كهيل فصدّه عن ذلك وقال أهل الكوفة لا يعوّلون لك. وقد كان مع جدّك منهم أضعاف من معك ولم تعاوله، وكان أعزّ عليهم منك على هؤلاء فقال له: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال: فتأذن لي أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث وأنا لا أهلك نفسي، فخرج لليمامة وكتب عبد الله بن الحسن المثنّى إلى زيد يعذله ويصدّه فلم يصغ إليه وتزوّج نساء بالكوفة وكان يختلف إليهنّ والناس يبايعونه، ثم أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 أصحابه يتجهّزون. ونمى الخبر إلى يوسف بن عمر فطلبه وخاف فتعجّل الخروج وكان يوسف بالحيرة وعلى الكوفة الحكم بن الصلت وعلى شرطته عمر بن عبد الرحمن من القاهرة ومعه عبيد الله بن عبّاس الكندي في ناس من أهل الشام. ولما علم الشيعة أنّ يوسف يبحث عن زيد جاء إليه جماعة منهم فقالوا: ما تقول في الشيخين؟ فقال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، وما سمعت أهل بيتي يذكرونهما إلا بخير. وغاية ما أقول أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنّة. قال: فإذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم؟ فقال: إنّ هؤلاء ظلموا المسلمين أجمعين فإنا ندعوهم إلى الكتاب والسنّة وأن نحيي السنن ونطفئ البدع، فإن أجبتم سعدتم وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: سبق الإمام الحق يعنون محمدا الباقر، وأنّ جعفرا ابنه إمامنا بعده، فسمّاهم زيد الرافضة ويقال إنما سمّاهم الرافضة حيث فارقوه ثم بعث يوسف بن عمر إلى الحكم بأن يجمع أهل الكوفة في المسجد فجمعوا وطلبوا زيدا في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة فخرج منها ليلا واجتمع إليه ناس من الشيعة وأشعلوا النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر، وأصبح جعفر بن أبي العباس الكندي فلقى اثنين من أصحاب زيد يناديان بشعاره فقتل واحدا وأتى بالآخر إلى الحكم فقتله، وأغلق أبواب المسجد على الناس وبعث إلى يوسف بالخبر فسار من الحيرة وقدم الريّاف بن سلمة الأراثيني في ألفين خيالة وثلاثمائة ماشية. وافتقد زيد الناس فقيل إنهم في الجامع محصورون، ولم يجد معه إلا مائتين وعشرين. وخرج صاحب الشرطة في خيله فلقي نصر بن خزيمة العبسيّ من أصحاب زيد ذاهبا إليه فحمل عليه نصر وأصحابه فقتلوه وحمل زيد على أهل الشام فهزمهم وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأزدي ممن بايعه وناداه فلم يخرج إليه. ثم سار زيد إلى الكناسة فحمل على أهل الشام فهزمهم ثم دخل الكوفة، والريات في اتباعه فلما رأى زيد خذلان الناس قال لنصر بن خزيمة: أفعلتموها حسينية؟ قال: أمّا أنا فو الله لأموتنّ معك وإنّ الناس بالمسجد فامض بنا إليهم فجاء إلى المسجد ينادي بالناس بالخروج إليه فرماه أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد فانصرفوا عند المساء. وأرسل يوسف بن عمر من الغد العبّاس ابن سعد المزني في أهل الشام فجاءه في دار الزرق وقد كان أوى إليها عند المساء، فلقيه زيد بن ثابت فاقتتلوا فقتل نصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 ثم حملوا على أصحاب العبّاس فهزمهم زيد وأصحابه وعبأهم يوسف بن عمر من العشيّ ثم سرّحهم فكشفهم أصحاب زيد ولم يثبت خيلهم لخيله. وبعث إليهم يوسف بن عمر بالقادسية واشتدّ القتال وقتل معاوية بن زيد ثم رمي زيد عند المساء بسهم أثبته فرجع أصحابه وأهل الشام يظنون أنهم تحاجزوا ولما نزع النصل من جبهته مات فدفنوه وأجروا عليه الماء وأصبح الحكم يوم الجمعة يتبع الجرحى من الدور ودلّه بعض الموالي على قبر زيد فاستخرجه وقطع رأسه وبعث بها إلى يوسف بالحيرة، فبعثه إلى هشام فنصبه على باب دمشق وأمر يوسف الحكم أن يصلب زيدا بالكناسة ونصر ابن خزيمة ومعاوية بن إسحاق ويحرسهم فلما ولي الوليد أمر بإحراقهم واستجار يحيي ابن زيد بعبد الملك بن شبر بن مروان فأجاره حتى سكن المطلب ثم سار إلى خراسان في نفر من الزيدية. ظهور أبي مسلم بالدعوة العباسية كان أهل الدعوة العباسية بخراسان يكتمون أمرهم منذ بعث محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس دعاته إلى الآفاق سنة مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز، لمّا مرّ أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفيّة ذاهبا وجائيا من الشام من عند سليمان بن عبد الملك فمرض عنده بالحميمة من أعمال البلقاء وهلك هنالك وأوصى له بالأمر. وكان أبو هاشم قد علّم شيعته بالعراق وخراسان وأنّ الأمر صائر في ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس. فلما مات أبو هاشم قصدت الشيعة محمدا وبايعوه سرّا وبعث دعاته منهم إلى الآفاق وكان الّذي بعث إلى العراق مسيرة بن والي خراسان محمد بن حبيش، وأمّا عكرمة السرّاج وهو أبو محمد الصادق وحيّان العطّار خال إبراهيم بن سلمة فجاءوا إلى خراسان ودعوا إليه سرّا وأجابهم الناس وجاءوا بكتب من أجاب إلى مسيرة انتهى. فبعث بها إلى محمد واختار أبو محمد الصادق اثني عشر رجلا من أهل الدعوة فجعلهم نقباء عليهم وهم: سليمان بن كثيّر الخزاعي ولاهز بن قريط التميمي، وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وأبو حمزة بن عمر ابن أعين مولى خزاعة وأخوه عيسى، وأبو علي شبلة بن طهمان الهروي مولى بني حنيفة. واختار بعده سبعين رجلا وكتب إليه محمد بن علي كتابا يكون لهم مثالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 يقتدون به في الدعوة، وأقاموا على ذلك ثم بعث مسيرة رسله من العراق سنة اثنتين ومائة في ولاية سعيد خدينة، وخلافة يزيد بن عبد الملك. وسعى بهم إلى سعيد فقالوا نحن تجار فضمنهم قوم من ربيعة واليمن فأطلقهم وولد محمد ابنه عبد الله السفّاح سنة أربع ومائة، وجاء إليه أبو محمد الصادق في جماعة من دعاة خراسان فأخرجه لهم ابن خمسة عشر يوما قال: هذا صاحبكم الّذي يتمّ الأمر على يده، فقبلوا أطرافه وانصرفوا. ثم دخل معهم في الدعوة بكير بن هامان جاء من السند مع الجنيد بن عبد الرحمن فلما عزل قدم الكوفة ولقي أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن حبيش وعمّار العبادي خال الوليد الأزرق دعاه إلى خراسان في ولاية أسد القسري أيام هشام ووشى بهم إليه فقطع أيدي من ظفر به منهم وصلبه وأقبل عمّار إلى بكير بن هامان فأخبره فكتب إلى محمد بن علي بذلك فأجابه: الحمد للَّه الّذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت منكم قتلى ستعدّ. ثم كان أوّل من قدّم محمد بن علي إلى خراسان أبو محمد زياد مولى همذان بعثه محمد بن عليّ سنة تسعة في ولاية أسد أيام هشام وقال له: انزل في اليمن وتلطّف لمضر ونهاه عن الغالب النيسابورىّ شيعة بني فاطمة. فشتّى زياد بمرو ثم سعى به إلى أسد فاعتذر بالتجارة، ثم عاد إلى أمره، فأحضره أسد وقتله في عشرة من أهل الكوفة ثم جاء بعدهم إلى خراسان رجل من أهل الكوفة اسمه كثيّر ونزل على أبي الشحم وأقام يدعو سنتين أو ثلاثة، ثم أخذ أسد بن عبد الله في ولايته الثانية سنة سبع عشرة. أخذ سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريط بثلاثمائة سوط وشهد حسن ابن زيد الأزدي ببراءتهم فأطلقهم. ثم بعث بكير بن هامان سنة ثماني عشرة عمّار بن زيد على شيعتهم بخراسان فنزل مرو وتسمّى بخراش وأطاعه الناس. ثم نزل دعوتهم بدعوة الحزمية [1] فأباح النساء وقال: إنّ الصوم إنما هو عن ذكر الإمام وأشار إلى إخفاء اسمه والصلاة الدعاء له، والحج القصد إليه وكان خراش هذا نصرانيّا بالكوفة وأتبعه على مقالته مالك بن الهيثم والحريش بن سليم. وظهر أسد على خبره وبلغ الخبر بذلك إلى محمد بن عليّ فنكر عليهم قبولهم من خراش وقطع مراسلتهم فقدم عليه ابن كثيّر منهم يستعلم خبره ويستعطفه على ما وقع منهم، وكتب معه إليهم كتابا مختوما لم يجدوا فيه غير البسملة، فعلموا مخالفة خراش لأمره وعظم   [1] وفي نسخة ثانية الخرّميّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 عليهم. ثم بعث محمد بن بكير بن بان وكتب معه بكذب خراش فلم يصدّقوه فجاء إلى محمد وبعث معه عصيا مضبّية بعضها بالحديد وبعضها بالنحاس ودفع إلى كل رجل عصا فعلموا أنهم قد خالفوا السيرة فتابوا ورجعوا وتوفي محمد بن علي سنة أربع وعشرين وعهد ابنه إبراهيم بالأمر وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمّونه الإمام. وجاء بكير بن هامان إلى خراسان بنعيه والدعاء لإبراهيم الإمام سنة ست وعشرين ومائة، ونزل مرو ودفع إلى الشيعة والنقباء كتابه بالوصية والسيرة فقبلوه، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقاتهم فقدم بها بكير على إبراهيم. ثم بعث إليهم أبا مسلم سنة أربع وعشرين وقد اختلف في أوّليته اختلافا كثيرا وفي سبب اتصاله بإبراهيم الإمام أو أبيه محمد فقيل: كان من ولد بزرجمهر، ولد بأصبهان وأوصى به أبوه إلى عيسى بن موسى السرّاج، فحمله إلى الكوفة ابن سبع سنين ونشأ بها واتصل بإبراهيم الإمام وكان اسم أبي مسلم إبراهيم بن عثمان بن بشار فسمّاه إبراهيم الإمام عبد الرحمن وزوجة أبيه أبي النجم عمران ابن إسماعيل من الشيعة فبنى بها بخراسان وزوّج ابنته من محرز بن إبراهيم فلم يعقب. وابنته أسماء من فهم بن محرز فأعقبت فاطمة وهي التي يذكرها الحزمية [1] . وقيل في اتصاله بإبراهيم الإمام أنّ أبا مسلم كان مع موسى السرّاج وتعلم منه صناعة السروج وكان يتجهّز فيها بأصبهان والجبال والجزيرة والموصل واتصل بعاصم بن يونس العجليّ صاحب عيسى السراج وابني أخيه عيسى وإدريس ابني معقل، وإدريس هو جد أبي دلف ونمى إلى يوسف بن عمران العجليّ من دعاة بني العباس فحبسهم مع عمال خالد القسري. وكان أبو مسلم معهم في السجن بخدمتهم وقبل منهم الدعوة وقيل لم يتصل بهم من عيسى السرّاج وإنما كان من ضياع بني العجليّ بأصبهان أو الجبل. وتوجه سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريط وقحطبة بن شبيب من خراسان يريدون إبراهيم الإمام بمكّة، فمرّوا بعاصم بن يونس وعيسى وإدريس ابني معقل العجليّ بمكانهم من الحبس فرأوا معهم أبا مسلم فأعجبهم وأخذوه ولقوا إبراهيم الإمام بمكّة فأعجبه فأخذه. وكان يخدمه ثم قدم النقباء بعد ذلك على إبراهيم الإمام يطلبون أن يوجّه من قبله إلى خراسان فبعث معه أبا مسلم. فلما تمكن ونوى أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عبّاس وكان من أولية هذا الخبر أنّ   [1] وفي نسخة ثانية الخرّمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 جارية لعبد الله بن العبّاس ولدت لغير رشدة [1] فحدّها واستعبد وليدها وسمّاه سليطا فنشأ واختص بالوليد. وادّعى أنّ عبد الله بن عبّاس أقرّ بأنه ابنه وأقام البينة على ذلك وخاصم عليّ بن عبد الله في الميراث وأذاه. وكان في صحابته عمر الدنّ من ولد أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها سليط بالخبر، فاستعدت الوليد على عليّ فأنكر وحلف، فنبشوا في البستان فوجدوه. فأمر الوليد بعليّ فضرب ليدلّه على عمر الدنّ. ثم شفع فيه عبّاد بن زياد فأخرج إلى الحميمة. ولما ولي سليمان ردّه إلى دمشق وقيل: إنّ أبا مسلم كان عبدا للعجليين، وابن بكير بن هامان كان كاتبا لعمّال بعض السند وقدم الكوفة فكان دعاة بني العباس فحبسوا وبكير معهم. وكان العجليون في الحبس، وأبو مسلم العبسيّ بن معقل. فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه، واستحسن الغلام فاشتراه من عيسى بن معقل بأربعمائة درهم وبعث به إلى إبراهيم الإمام، فدفعه إبراهيم إلى موسى السرّاج من الشيعة. فسمع منه وحفظ وصار يتردّد إلى خراسان. وقيل كان لبعض أهل هراة وابتاعه منه إبراهيم الإمام، ومكث عنده سنين وكان يتردّد بكتبه إلى خراسان ثم بعثه أميرا على الشيعة وكتب إليهم بالطاعة له، وإلى أبي سلمة الخلّال داعيهم بالكوفة يأمره بإنفاذه إلى خراسان فنزل على سليمان بن كثيّر وكان من أمره ما يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى. ثم جاء سليمان بن كثيّر ولاهز بن قريط وقحطبة إلى مكّة سنة سبع وعشرين بعشرين ألف دينار للإمام إبراهيم ومائتي ألف درهم ومسك ومتاع كثير ومعهم أبو مسلم وقالوا: هذا مولاك وكتب بكير بن هامان إلى الإمام بأنه أوصى بأمر الشيعة بعده لأبي سلمة حفص بن سليمان الخلّال وهو رضى فكتب إليه إبراهيم بالقيام بأمر أصحابه وكتب إلى أهل خراسان بذلك فقبلوه وصدّقوه وبعثوا بخمس أموالهم ونفقة الشيعة للإمام إبراهيم. ثم بعث إبراهيم في سنة ثمان وعشرين مولاه أبا مسلم إلى خراسان وكتب له: إني قد أمرته بأمري فاسمعوا له وأطيعوا. وقد أمّرته على خراسان وما غلبت عليه فارتابوا من قوله ووفدوا على إبراهيم الإمام من قابل مكّة وذكر له أبو مسلم أنهم لم يقبلوه. فقال لهم: قد عرضت عليكم الأمر فأبيتم من قبوله، وكان عرضه على سليمان بن كثيّر ثم على إبراهيم بن مسلمة فأبوا. وإني قد أجمع رأيي على أبي مسلم وهو منّا أهل البيت فاسمعوا له وأطيعوا. وقال لأبي مسلم: انزل في أهل   [1] الرشدة ضد الزنية ويقال: ولد لرشدة اي شرعي، وولد لغير رشدة اي ابن زنى. (قاموس) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 اليمن وأكرمهم. فإنّ بهم يتمّ الأمر وآتهم البيعة. وأمّا مضر فهم العدوّ والغريب، واقتل من شككت فيه وإن قدرت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل وارجع إلى سليمان بن كثيّر واكتف به مني وسرّحه معهم فساروا إلى خراسان. وفاة هشام بن عبد الملك وبيعة الوليد بن يزيد توفي هشام بن عبد الملك بالرصافة في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة لعشرين سنة من خلافته وولي بعده الوليد ابن أخيه يزيد بعهد يزيد بذلك كما مرّ، وكان الوليد متلاعبا وله مجون وشراب وندمان، وأراد هشام خلعه فلم يمكنه. وكان يضرب من يأخذه في صحبته، فخرج الوليد في ناس من خاصته ومواليه وخلف كاتبه عيّاض بن مسلم ليكاتبه بالأحوال فضربه هشام وحبسه. ولم يزل الوليد مقيما بالبرية حتى مات هشام، وجاءه مولى أبي محمد السفياني على البريد بكتاب سالم ابن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل بالخبر فسأل عن كاتبه عيّاض فقال: لم يزل محبوسا حتى مات هشام، فأرسل إلى الحرّاق أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاما من شيء طلبه. ثم خرج بعد موته من الحبس وختم أبواب الخزائن ثم كتب الوليد من وقته إلى عمه العبّاس بن عبد الملك أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده وعمّاله وخدمه إلّا مسلمة بن هشام فإنه كان يراجع أباه في الرّفق بالوليد، فانتهى العبّاس لما أمر به الوليد. ثم استعمل الوليد العمّال وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة فجاءته بيعتهم وكتب مروان ببيعته واستأذن في القدوم. ثم عقد الوليد من سنته لابنيه الحكم وعثمان بعده وجعلهما وليي عهده وكتب بذلك إلى العراق وخراسان. ولاية نصر للوليد على خراسان وكتب الوليد في سنته إلى نصر بن سيّار بولاية خراسان وأفرده بها، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرا وعمّاله فردّ إليه الوليد خراسان. وكتب يوسف إلى نصر بالقدوم ويحمل معه الهدايا والأموال وعياله جميعا وكتب له الوليد بأن يتّخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة ويجمع له البراذين الغرّة [1] ويجمع بذلك إليه في   [1] الغرّة لا تتناسب مع معنى الجملة ولعلها الفرة جمع فارة ويقال للبرذون والبغل والحمار فاره إذا كان سيورا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وجوه أهل خراسان، واستحثه رسول يوسف فأجازه. ثم سار واستخلف على خراسان عصمة بن عبد الله الأسدي وعلى شاش موسى بن ورقاء وعلى سمرقند حسّان بن [1] من أهل الصغانيان وعلى آمد مقاتل بن عليّ الصغديّ. وأسرّ إليهم أن يداخلوا الترك في المسير إلى خراسان ليرجع إليهم وبينا هو في طريقه إلى العراق بيهق لقيه مولى لبني ليث، وأخبره بقتل الوليد والفتنة بالشام وأنّ منصور بن جمهور قدم العراق وهرب يوسف بن عمر فرجع بالناس. مقتل يحيى بن زياد كان يحيى بن زياد سار بعد قتل أبيه وسكون الطلب عنه كما مرّ فأقام عنه الحريش ابن عمر ومروان في بلخ ولما ولي الوليد كتب إلى نصر بأن يأخذه من عند الحريش فأحضر الحريش وطالبه بيحيى، فأنكر، فضربه ستمائة سوط، فجاء ابنه قريش ودلّه على يحيى فحبسه وكتب إلى الوليد فأمره أن يخلي سبيله وسبيل أصحابه فأطلقه نصر وأمره أن يلحق بالوليد فسار وأقام بسرخس فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عيّاد يخرجه عنها فأخرجه إلى بيهق وخاف يحيى بن يوسف بن عمر فسار إلى نيسابور وبها عمر ابن زرارة، وكان مع يحيى سبعون رجلا ولقوا دواب وأدركهم الإعياء فأخذوها بالثمن. وكتب عمر بن زرارة بذلك إلى نصر فكتب إليه يأمره بحربهم، فحاربهم في عشرة آلاف فهزموه وقتلوه، ومروا بهراة فلم يعرضوا لها وسرّح نصر بن سيّار مسلم بن أحور المازني إليهم فلحقهم بالجوزجان فقاتلهم قتالا شديدا وأصيب يحيى بسهم في جبهته فمات. وقتل أصحابه جميعا وبعثوا برأسه إلى الوليد وصلب بالجوزجان. وكتب الوليد إلى يوسف بن عمر بأن يحرق شلو زيد، فأحرقه وذراه في الفرات ولم يزل يحيى مصلوبا بالجوزجان حتى استولى أبو مسلم على خراسان فدفنه ونظر في الديوان أسماء من حضر لقتله فمن كان حيّا قتله ومن كان ميتا خلفه في أهله بسوء. مقتل خالد بن عبد الله القسري قد تقدّم لنا ولاية يوسف بن عمر على العراق وأنه حبس خالدا أصحاب العراق   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 270: «وحسّان من أهل الصغانيان بسمرقند» وفي الطبري ج 8 ص 299: وحسان من أهل صغانيان الاسدي سمرقند.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وخراسان قبله [1] فأقام بحبسه في الحيرة ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد ابن خالد والمنذر ابن أخيه أسد واستأذن هشاما في عذابه فأذن له على أنه إن هلك قتل يوسف به فعذبه. ثم أمر هشام بإطلاقه سنة إحدى وعشرين، فأتى إلى قرية بإزاء الرصافة فأقام بها، حتى خرج زيد وقتل وانقضى أمره، فسعى يوسف بخالد عند هشام بأنه الّذي داخل زيدا في الخروج، فردّ هشام سعايته ووبّخ رسوله وقال: لسنا نتهم خالدا في طاعة. وسار خالد إلى الصائفة وأنزل أهله دمشق وعليها كلثوم بن عيّاض القشيريّ، وكان يبغض خالدا. فظهر في دمشق حريق في ليال، فكتب كلثوم إلى هشام بأنّ موالي خالد يريدون الوثوب إلى بيت المال ويتطرّقون إلى ذلك بالحريق كل ليلة في البلد. فكتب إليه هشام بحبس الكبير منهم والصغير والموالي فحبسهم. ثم ظهر على صاحب الحريق وأصحابه. وكتب بهم الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج ولم يذكر فيهم أحدا من آل خالد ومواليه فكتب هشام إلى كلثوم يوبّخه ويأمره بإطلاق آل خالد وترك الموالي فشفع فيهم خالد عند مقدمه من الصائفة، فلما قدم دخل منزله وأذّن للناس فاجتمعوا ببابه فوبّخهم وقال: إنّ هشاما يسوقهنّ إلى الحبس كل يوم. ثم قال خرجت غازيا سامعا مطيعا فحبس أهلي مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين. ولم يغير ذلك أحد منكم، أخفتم القتل؟ أخافكم الله. والله ليكفنّ عني هشام أو لأعودن إلى عراقيّ الهوى شاميّ الدار حجازي الأصل يعني محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس. وبلغ ذلك هشاما فقال: خرف أبو الهيثم. ثم تتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام بطلب يزيد بن خالد فأرسل إلى كلثوم بإنفاذه إليه فهرب يزيد فطلبه كلثوم من خالد وحبسه فيه فكتب إليه هشام بتخليته ووبّخه انتهى. ولما ولي الوليد بن يزيد استقدم خالدا وقال أين ابنك؟ قال: هرب من هشام وكنّا نراه عندك حتى استخلفك الله فلم نره وطلبناه ببلاد قومه من الشراة فقال: ولكن خلفته طلبا للفتنة فقال: إنّا أهل بيت طاعة. فقال: لتأتيني به أو لازهقنّ، نفسك فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فأمر الوليد بضربه. ولما قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال اشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف فقال له الوليد: إنّ   [1] العبارة هنا مبهمة وغير واضحة وفي الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 5 ص 276 «ثم سار يوسف إلى الحيرة وأخذ خالدا فحبسه بها تمام ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 يوسف يشتريك بكذا فاضمنها إلي قبل أن أدفعك إليه. فقال: ما عهدت العرب تباع! والله لو سألتني عودا ما ضمنته. فدفعه إلى يوسف فألبسه عباءة وحمله على غير وطاء وعذبه عذابا شديدا وهو لا يكلمه. ثم حمله إلى الكوفة فاشتدّ في عذابه ثم قتله ودفنه في عباءة يقال: إنه قتله بشيء وضعه على وجهه. وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه. وذلك في المحرّم سنة ستة وعشرين ومائة. مقتل الوليد وبيعة يزيد ولما ولي الوليد لم يقلع عما كان عليه من الهوى والمجون. حتى نسب إليه في ذلك كثير من الشنائع مثل رمية المصحف بالسهام حين استفتح فوقع على قوله: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 14: 15 وينشدون له في ذلك بيتين تركتهما لشناعة مغزاهما [1] . ولقد ساءت القالة فيه كثيرا، وكثير من الناس نفوا ذلك عنه وقالوا: إنها من شناعات الأعداء الصقوها به. قال المدائني: دخل ابن الغمر بن يزيد على الرشيد فسأله: ممن أنت؟ فقال: من قريش. قال: من أيها؟ فوجم، فقال: قل وأنت آمن ولو أنّك مروان فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال: رحم الله الوليد ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة مجمعا عليه، ارفع حوائجك فرفعها وقضاها. وقال شبيب بن شبّة: كنا جلوسا عند المهدي فذكر الوليد فقال المهدي: كان زنديقا فقام ابن علانة الفقيه [2] فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الله عزّ وجلّ أعدل من أن يولي خلافة النبوّة وأمر الأمّة زنديقا لقد أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبة وشربه ويراه في طهارته وصلاته فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المصيبة المصبغة. ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب بيض نظيفة فيلبسها ويشتغل بربه. أترى هذا فعل من لا يؤمن باللَّه؟ فقال المهدي: بارك الله عليك يا ابن علانة، وإنما كان الرجل محسودا في خلاله ومزاحما بكبار عشيرة بيته من بني عمومته مع لهو كان يصاحبه، أوجد لهم به السبيل على نفسه. وكان من خلاله قرض الشعر الوثيق ونظم الكلام   [1] تهددني بجبار عنيد ... فها انا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشد ... فقل: يا رب خزقني الوليد [2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 291: ابو علانة الفقيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 البليغ. قال يوما لهشام يعزّيه في مسلمة أخيه: إنّ عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختلّ الثغر فهوى. وعلى أثر من سلف، يمضي من خلف، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى. فأعرض هشام وسكت القوم. وامّا حكاية مقتله فإنه لما تعرّض له بنو عمه ونالوا من عرضه أخذ في مكافأتهم. فضرب سليمان بن عمه هشام مائة سوط وحلقه وغرّبه إلى معان من أرض الشام، فحبسه إلى آخر دولته وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرّق بين ابن الوليد وبين امرأته، وحبس عدّة من ولد الوليد، فرموه بالفسق والكفر واستباحة نساء أبيه. وخوّفوا بني أمية منه بأنه اتخذ ميتة جامعة لهم [1] وطعنوا عليه في تولية ابنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما. وكان أشدّهم عليه في ذلك يزيد بن الوليد لأنه كان يتنسّك فكان الناس إلى قوله أميل. ثم فسدت اليمامة عليه بما كان منه لخالد القسري. وقالوا: إنما حبسه ونكبه لامتناعه من بيعة ولديه. ثم فسدت عليه قضاعة وكان اليمن وقضاعة أكثر جند الشام. واستعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف ابن عمر، وصنعوا على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنيّة بشأن خالد. فازداد واختفى. وأتوا إلى يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة. وشاور عمر بن زيد الحكمي فقال: شاور أخاك العبّاس وإلا فأظهر أنه قد بايعك، فإنّ الناس له أطوع. فشاور العبّاس فنهاه عن ذلك فلم ينته، ودعا الناس سرّا وكان بالبادية. وبلغ الخبر مروان بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يعظّم عليه الأمر ويحذره الفتنة ويذكر له أمر يزيد، فأعظم ذلك سعيد وبعث بالكتاب إلى العبّاس فتهدّد أخاه يزيد فكتمه فصدّقه. ولما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق لأربع ليال متنكرا، معه سبعة نفر على الحمر. ودخل دمشق ليلا وقد بايع له أكثر أهلها سرّا وأهل المزّة. وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج فاستوياها فنزل قطنا، واستخلف عليها ابنه محمدا وعلى شرطته أبو العاج كثيّر بن عبد الله السلميّ. ونمى الخبر إليهما فكذّباه وتواعد يزيد مع أصحابه بعد المغرب بباب الفراديس. ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة، ولما قضوا الصلاة جاء حرس المسجد لإخراجهم فوثبوا عليهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين وخمسين، وطرقوا باب المقصورة فأدخلهم الخادم فأخذوا أبا العاج وهو سكران   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 280: وقد اتخذ مائة جامعة لبني أمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وخزان [1] بيت المال. وبعث عن محمد بن عبد الملك فأخذه وأخذوا سلاحا كثيرا كان بالمسجد، وأصبح الناس من الغد من النواحي القريبة متسائلين للبيعة أهل المزّة والسكاسك وأهل دارا وعيسى بن شيب الثعلبيّ في أهل درهة وحرستا، وحميد بن حبيب اللّخميّ في أهل دمّرّعران، وأهل حرش والحديثة ودرير كاوربعيّ بن هشام الحرثي في جماعة من عرّ وسلامان. ويعقوب بن عمير بن هانئ العبسيّ وجهينة ومواليهم. ثم بعث عبد الرحمن بن مصادي في مائتي فارس، فجاء بعبد الملك بن محمد بن الحجّاج من قصره على الأمان. ثم جهّز يزيد الجيش الى الوليد بمكانه من البادية مع عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك، ومنصور بن جمهور وقد كان الوليد لما بلغه الخبر بعث عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق فأقام بطريقة قليلا، ثم بايع ليزيد وأشار على الوليد أصحابه أن يلحق بحمص فيتحصّن بها. قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد، وخالفه عبد الله بن عنبسة وقال: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبل أن يقاتل فسار إلى قصر النعمان ابن بشير، ومعه أربعون من ولد الضحّاك وغيره. وجاء كتاب العبّاس بن الوليد بأنه قادم عليه، وقاتلهم عبد العزيز ومنصور بعد أن بعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى الكتاب والسنّة. فقتله أصحاب الوليد واشتدّ القتال بينهم وبعث عبد العزيز بن منصور بن جمهور لاعتراض العبّاس بن الوليد أن يأتي بالوليد، فجاء به كرها إلى عبد العزيز وأرسل الوليد إلى عبد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي على أن ينصرف عنه فأبى. ثم قاتل قتالا شديدا حتى سمع النداء بقتله وسبّه من جوانب الحومة، فدخل القصر فأغلق الباب وطلب الكلام من أعلى القصر، فكلّمه يزيد بن عنبسة السكسكي فذكّره بحرمة وفعله فيهم فقال ابن عنبسة: إنّا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله، وشرب الخمر ونكاح أمّهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. قال: حسبك الله يا أخا السكاسك! فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإنّ فيما أحل الله سعة عما ذكرت. ثم رجع إلى الدار فجلس يقرأ في المصحف وقال: يوم كيوم عثمان فتسوّروا عليه وأخذ يزيد بن عنبسة بيده يقيه لا يريد قتله، وإذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه واجتزوا رأسه فساروا به إلى يزيد فأمر بنصبه، فتلطّف له يزيد بن فروة مولى   [1] لعلها خزائن بيت المال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 بني مرّة في المنع من ذلك، وقال: هذا ابن عمك وخليفة وإنما تنصب رءوس الخوارج ولا آمن أن يتعصب له أهل بيته. فلم يجبه، وأطافه بدمشق على رمح ثم دفع إلى أخيه سليمان بن يزيد وكان معهم عليه وكان قتله آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين لسنتين وثلاثة أشهر من بيعته. ولما قتل خطب الناس يزيد فذمّه وثلبه وأنه إنما قتله من أجل ذلك، ثم وعدهم بحسن الظفر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم وسدّ الثغور والعدل في العطاء والأرزاق ورفع الحجاب وإلّا فلكم ما شئتم من الخلع. وكان يسمى الناقص لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الناس وهي عشرة عشرة. وردّ العطاء كما كان أيام هشام وبايع لأخيه إبراهيم بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض طرقه [1] . ولما قتل الوليد وكان قد حبس سليمان ابن عمّه هشام بعمان، خرج سليمان من الحبس وأخذ ما كان هناك من الأموال ونقله إلى دمشق. ثم بلغ مقتله إلى حمص وأنّ العبّاس بن الوليد أعان على قتله فانتقضوا وهدموا دار العبّاس وسبوها، وطلبوه فلحق بأخيه يزيد. وكاتبوا الأجناد في الطلب بدم يزيد وأمّروا عليهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك ومعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير وراسلهم يزيد فطردوا رسوله فبعث أخاه مسرورا في الجيش فنزل حوّارين. ثم جاء سليمان بن هشام من [2] فردّ عليه ما أخذ الوليد من أموالهم، وبعث على الجيش وأمر أخاه مسرورا بالطاعة. واعتزم أهل حمص على المسير إلى دمشق فقال لهم مروان: ليس من الرأي أن تتركوا خلفكم هذا الجيش وإنما نقاتله قبل، فيكون ما بعده أهون علينا. فقال لهم السميط بن ثابت [3] : إنما يريد خلافكم وإنما هواه مع يزيد والقدرية، فقتلوه وولّوا عليهم محمدا السفياني وقصدوا دمشق، فاعترضهم ابن   [1] بياض بالأصل وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 22: «شتم مروان بن محمد يزيد بن الوليد فقال: الناقص بن الوليد فسمّاه الناقص، فسمّاه الناس الناقص لذلك، وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بن يزيد بعمان» راجع الكامل لابن الأثير ج 5 ص 291- 292. [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 293: «فنزلوا حوّارين ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام، فردّ عليه يزيد ما كان الوليد أخذه من أموالهم ... » وفي الطبري ج 9 ص 23 عبارة واحدة وهي «ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام» . [3] وفي الكامل ج 5 ص 293: السّمط بن ثابت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 هشام بغدرا [1] فقاتلهم قتالا شديدا وبعث يزيد عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك في ثلاثة آلاف إلى ثنيّة العقاب وهشام بن مضاد في ألف وخمسمائة إلى عقبة السلاميّة. وبينما سالم يقاتلهم إذ أقبلت عساكر من ثنيّة العيقاب فانهزم أهل حمص، ونادى يزيد بن خالد بن عبد الله القسريّ: الله الله على قومك يا سليمان. فكفّ الناس عنهم وبايعوا ليزيد. وأخذ أبا محمد السفياني ويزيد بن خالد ابن يزيد وبعثهما إلى يزيد فحبسهما أهـ. واستعمل على حمص معاوية بن يزيد بن الحصين وكان لما قتل الوليد وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه وتولّى منهم سعيد وضبعان ابنا روح. وكان ولد سليمان ينزلون فلسطين فأحضروا يزيد بن سليمان وولّوه عليهم. وبلغ ذلك أهل الأردن فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك. وبعث يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني على ثمانين ألفا، وبعث إلى ابني روح بالإحسان والولاية، فرجعا بأهل فلسطين. وقدّم سليمان عسكرا من خمسة آلاف إلى طبرية فنهبوا القرى والضياع وخشي أهل طبرية على من وراءهم، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك، ونزلوا بمنازلهم، فافترقت جموع الأردن وفلسطين وسار سليمان بن هشام ولحقه أهل الأردن فبايعوا ليزيد وسار إلى طبرية والرملة وأخذ على أهلهما البيعة ليزيد وولّى على فلسطين ضبعان بن روح وعلى الأردن إبراهيم بن الوليد. ولاية منصور بن جمهور على العراق ثم ولاية عبد الله بن عمر لما ولي يزيد استعمل منصور بن جمهور على العراق وخراسان ولم يكن من أهل الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانيّة، وحنقا على يوسف بقتله خالد القسري. ولما بلغ يوسف قتل الوليد ارتاب في أمره، وحبس اليمانيّة لما تجتمع المضريّة عليه. فلم ير عندهم ما يحب فأطلق اليمانية. وأقبل منصور وكتب من عين البقر [2] إلى قوّاد الشام في الحيرة بأخذ يوسف وعمّاله، فأظهر يوسف الطاعة ولما قرب منصور   [1] وفي الكامل ج 5 ص 293: عذراء. [2] وفي الكامل ج 5 ص 294: عين التمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 دخل دار عمر ابن محمد بن سعيد بن العاص ولحق منها بالشام سرّا وبعث يزيد بن الوليد خمسين فارسا لتلقّيه. فلما أحسّ بهم هرب واختفى، ووجد بين النساء فأخذوه وجاءوا به إلى يزيد فحبسه مع ابني الوليد، حتى قتلهم مولى ليزيد بن خالد القسري. ولما دخل منصور بن جمهور الكوفة لأيام خلت من رجب أفاض العطاء وأطلق من كان في السجون من العمّال وأهل الخراج، واستعمل أخاه على الري وخراسان، فسار لذلك فامتنع نصر بن سيّار من تسليم خراسان له. ثم عزل يزيد منصور بن جمهور لشهرين من ولايته، وولّى على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وقال: سر إلى أهل العراق فإنّ أهله يميلون إلى أبيك. فسار وانقاد له أهل الشام وسلّم إليه منصور العمل، وانصرف إلى الشام وبعث عبد الله العمّال على الجهات واستعمل عمر بن الغضبان بن القبعثرى على الشرطة وخراج السواد والمحاسبات وكتب إلى نصر بن سيّار بعهده على خراسان. انتقاض أهل اليمامة ولما قتل الوليد كان عليّ بن المهاجر على اليمامة عاملا ليوسف بن عمر فجمع له المهير بن سليمان بن هلال من بني الدول بن خولة [1] . وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر فالتقوا وانهزم عليّ وقتل ناس من أصحابه، وهرب إلى المدينة وملك المهير اليمامة ثم مات. واستخلف عليها عبد الله بن النعمان من بني قيس بن ثعلبة. من الدؤل فبعث المندلب [2] بن إدريس الحنفي على الفلج قرية من قرى بني عامر بن صعصعة فجمع له بني كعب بن ربيعة بن عامر وبني عمير فقتلوا المندلب وأكثر أصحابه. فجمع عبد الله ابن النعمان جموعا من حنيفة وغيرها وغزا الفلج وهزم بني عقيل وبني بشير وبني جعدة وقتل أكثرهم. ثم اجتمعوا ومعهم نمير فلقوا بعض حنيفة بالصحراء فقتلوهم وسلبوا نساءهم، ثم جمع عمر بن الوازع الحنفي الجموع وقال لست بدون عبد الله بن النعمان وهذه فترة من السلطان. وأغار وامتلأت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه وأقبلت بنو عامر والتقوا فانهزم بنو حنيفة ومات أكثرهم من العطش. ورجع بنو عامر بالأسرى والنساء ولحق عمر بن الوازع باليمامة ثم جمع   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 298: «المهير بن سلمى بن هلال، أحد بني الدؤل بن حنيفة.» [2] وفي الكامل لابن الأثير: المندلث بن إدريس الحنفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 عبيد الله بن مسلم الحنفي جمعا وأغار على قشير وعكل فقتل منهم عشرين وسمّى المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة واليا على اليمامة من قبل أبيه حتى ولي العراق لمروان فتعرّض المثنّى لبني عامر وضرب عدّة من بني حنيفة وحلقهم. ثم سكنت البلاد ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفيا حتى قدم كسرى بن عبيد الله الهاشمي واليا على العامّة لبني العبّاس ودلّ عليه فقتله. اختلاف أهل خراسان ولما قتل الوليد وقدم على نصر عهد خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز صاحب العراق، انتقض عليه جديع بن عليّ الكرماني وهو أزدي. وإنما سمى الكرماني لأنه ولد بكرمان وقال لأصحابه: هذه فتنة فانظروا لأموركم رجلا. فقالوا له: أنت! وولّوه. وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما ولي نصر عزله عن الرئاسة بغيره فتباعد ما بينهما. وأكثر على نصر أصحابه في أمر الكرماني، فاعتزم على حبسه، وأرسل صاحب حرسه ليأتي به. وأراد الأزد أن يخلّصوه فأبى، وجاء إلى نصر يعدّد عليه أياديه قبله من مراجعة يوسف بن عمر في قتله، والغرامة عنه، وتقديم ابنه للرئاسة. ثم قال: فبدلت ذلك بالإجماع على الفتنة، فأخذ يعتذر ويتنصّل، وأصحاب نصر يتحاملون عليه مثل مسلم بن أحور وعصمة بن عبد الله الأسدي. ثم ضربه وحبسه آخر رمضان سنة ست وعشرين. ثم نقب السجن واجتمع له ثلاثة آلاف، وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على الكتاب والسنّة. فلما جاء الكرماني قدّمه عبد الملك ثم عسكر نصر على باب مروالروذ، واجتمع إليه الناس، وبعث سالم بن أحور في الجموع إلى الكرماني وسفر الناس بينهما على أن يؤمّنه نصر ولا يحبسه. وأجاب نصر إلى ذلك وجاء الكرماني إليه وأمره بلزوم بيته. ثم بلغه عن نصر شيء فعاد إلى حاله، وكلّموه فيه فأمّنه، وجاء إليه وأعطى أصحابه عشرة عشرة. فلما عزل جمهور عن العراق وولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز خطب نصر قدّام بن جمهور وأثنى على عبد الله، فغضب الكرماني لابن الجمهور وعاد لجمع المال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة ويصلّي خارج المقصورة، ويدخل فيسلّم ولا يحبس. ثم أظهر الخلاف وبعث إليه نصر سالم بن أحور فأفحش في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 صرفه وسفر بينهما الناس في الصلح على أن يخرج الكرماني من خراسان وتجهّز للخروج إلى جرجان. أمان الحرث بن شريح وخروجه من دار الحرث لما وقعت الفتنة بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر أن يستظهر الكرماني عليه بالحرث بن شريح، وكان مقيما ببلاد الترك منذ اثنتي عشرة سنة كما مرّ، فأرسل مقاتل بن حيّان النبطي يراوده على الخروج من بلاد الترك، بخلاف ما يقتضي له الأمان من يزيد بن الوليد وبعث خالد بن زياد البديّ الترمذيّ وخالد بن عمرة مولى بني عامر لاقتضاء الأمان له من يزيد، فكتب له الأمان وأمر نصرا أن يردّ عليه ما أخذ له، وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عامل الكوفة أن يكتب لهما بذلك أيضا. ولما وصل إلى نصر بعث إلى الحرث بذلك فلقيه الرسول راجعا مع مقاتل بن حيّان وأصحابه ووصل سنة سبع وعشرين في جمادى الأخيرة وأنزله نصر بمرو، وردّ عليه ما أخذ له، وأجرى عليه كل يوم خمسين درهما وأطلق أهله وولده. وعرض عليه أن يولّيه ويعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل. وقال: لست من الدنيا واللذات في شيء، وإنما أسأل كتاب الله والعمل بالسنة وبذلك أساعدك على عدوّك، وإنّما خرجت من البلاد منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور فكيف تزيدني عليه؟ وبعث إلى الكرماني: إن عمل نصر بالكتاب عضدته في أمر الله ولا أعتبك إن ضمنت لي القيام بالعدل والسنّة. ثم دعا قبائل تميم فأجاب منهم ومن غيرهم كثير واجتمع إليه ثلاثة آلاف وأقام على ذلك. انتقاض مروان لما قتل الوليد كان مروان بن محمد بن مروان على أرمينية وكان على الجزيرة عبدة بن رياح العباديّ. وكان الوليد قد بعث بالصائفة أخاه فبعث معه مروان ابنه عبد الملك. فلما انصرفوا من الصائفة لقيهم بجرزان حين مقتل الوليد، وسار عبدة عن الجزيرة. فوثب عبد الملك بالجزيرة وجرزان فضبطهما، وكتب إلى أبيه بأرمينية يستحثه، فسار طالبا بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطها. وكان معه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين، وكان صاحب فتنة. وكان هشام قد حبسه على إفساد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 الجند بإفريقية عند مقتل كلثوم بن عيّاض، وشفع فيه مروان فأطلقاه واتخذا عنده يدا. فلما سار من أرمينية داخل ثابت أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفرات واجتمع له الكبير من جند مروان وناهضه القتال. ثم غلبهم وانقادوا له وحبس ثابت بن نعيم وأولاده. ثم أطلقهم من حرّان إلى الشام وجمع نيّفا وعشرين ألفا من الجزيرة ليسير بهم إلى يزيد، وكتب إليه يشترط ما كان عبد الملك ولّى أباه محمدا من الجزيرة والموصل وأذربيجان، فأعطاه يزيد ولاية ذلك وبايع له مروان وانصرف. وفاة يزيد وبيعة أخيه إبراهيم ثم توفي يزيد آخر سنة ست وعشرين لخمسة أشهر من ولايته. ويقال إنه كان قدريا وبايعوا لأخيه إبراهيم من بعده، إلا أنه انتقض عليه الناس ولم يتم له الأمر وكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة وأقام على ذلك نحوا من ثلاثة أشهر ثم خلعه مروان ابن محمد على ما يذكر وهلك سنة اثنتين وثلاثين [1] . مسير مروان إلى الشام ولما توفي يزيد وولي أخوه إبراهيم وكان مضعفا، انتقض عليه مروان لوقته، وسار إلى دمشق. فلما انتهى إلى قنّسرين وكان عليها بشر بن الوليد عاملا لأخيه يزيد ومعه أخوهما مسرور، ودعاهم مروان إلى بيعته ومال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة، وخرج بشر للقاء مروان فلما تراءى الجمعان مال ابن هبيرة وقيس إلى مروان وأسلموا بشرا ومسرورا فأخذهما مروان وحبسهما، وسار بأهل قنّسرين ومن معه إلى حمص، وكانوا امتنعوا من بيعة إبراهيم. فوظه إليهم عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك في جند أهل دمشق. فكان يحاصرهم. فلما دخل مروان رحل عبد العزيز عنهم، وبايعوا مروان وخرج للقائه سليمان بن هشام في مائة وعشرين ألفا ومروان في ثمانين فدعاهم إلى الصلح وترك الطلب بدم الوليد على أن يطلقوا ابنيه الحكم وعثمان وليي عهده فأبوا وقاتلوه. وسرّب عسكرا جاءوهم من خلفهم فانهزموا، وأثخن فيهم أهل حمص فقتلوا   [1] اي سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 منهم نحوا من سبعة عشر ألفا وأسروا مثلها. ورجع مروان بالفلّ وأخذ عليهم البيعة للحكم وعثمان ابني الوليد وحبس يزيد بن العقّار والوليد بن مصاد الكلبيّين فهلكا في حبسه. وكان ممن شهد قتل الوليد ابن الحجّاج وهرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق فاجتمع له مع إبراهيم وعبد العزيز بن الحجّاج وتشاوروا في قتل الحكم وعثمان، خشية أن يطلقهما مروان فيثأرا بأبيهما. وولوا ذلك يزيد بن خالد فبعث مولاه أبا الأسد فقتلهما وأخرج يوسف ابن عمر فقتله، واعتصم أبو محمد السفياني ببيت في الحبس فلم يطيقوا فتحة، وأعجلهم خيل مروان فدخل دمشق وأتى بأبي الوليد ويوسف بن عمر مقتولين فدفنهما، وأتى بأبي عمر السفياني في قيوده فسلّم عليه بالخلافة وقال: إنّ ولي العهد جعلها لك. ثم بايعه وسمع الناس فبايعوه وكان أوّلهم بيعة معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير وأهل حمص. ثم رجع مروان إلى خراسان واستأمن له إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام وقدما عليه، وكان قدوم سليمان من تدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانيّة فبايعوا لمروان. انتقاض الناس على مروان ولما رجع إلى خراسان راسل ثابت بن نعيم من فلسطين أهل حمص في الخلاف على مروان فأجابوه وبعثوا إلى من كان بتدمر ممن طلب وجاء الأصبغ بن دؤالة الكلبيّ وأولاده، ومعاوية السّكسكيّ فارس أهل الشام وغيرها في ألف من فرسانهم، ودخلوا حمص ليلة الفطر من سنة سبعة وعشرين وزحف مروان في العساكر من حرّان ومعه إبراهيم المخلوع وسليمان بن هشام، ونزل عليهم ثالث يوم الفطر، وقد سدّوا أبوابهم فنادى مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا لم ننكث ونحن على الطاعة. ودخل عمر الوضّاح في ثلاثة آلاف فقاتله المحتشدون هنالك للخلاف وخرجوا من الباب الآخر وجفل مروان في اتباعهم وعلا الباب. فقتل منهم نحو خمسمائة وصلبهم وهدم من سورها علوه وأفلت الأصبغ بن دؤالة وابنه قرافصة. ثم بلغ مروان وهو بحمص خلاف أهل الغوطة وأنهم ولّوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحاصروا دمشق وأميرها زامل بن عمر، فبعث مروان إليهم ابا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحرث، وعمر بن الوضّاح في عشرة آلاف. فلما دنوا من دمشق حملوا عليهم، وخرج إليهم من كان بالمدينة فهزموهم وقتلوا يزيد بن خالد وبعثوا برأسه إلى مروان وأحرقوا المزّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وقرى البرامة. ثم خرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين وحاصر طبرية وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم. فبعث مروان إليه أبا الورد، فلما قرب منه خرج أهل طبرية عليه فهزموه ولقيه أبو الورد منهزما فهزمه أخرى، وافترق أصحابه وأسر ثلاثة من ولده وبعث بهم إلى مروان. وتغيب ثابت وولّى مروان على فلسطين الرّماحس بن عبد العزيز الكنانيّ فظفر بثابت بعد شهرين وبعث به إلى مروان موثقا فقطعه وأولاده الثلاثة، وبعثهم إلى دمشق فصلبوه. ثم بايع لابنيه عبد الله وعبيد الله وزوجهما بنتي هشام، ثم سار إلى ترمذ [1] من دير أيوب وكانوا قد غوروا المياه فاستعمل المزاد والقرب والإبل وبعث وزيره الأبرش الكلبيّ إليهم وأجابوا إلى الطاعة. وهرب نفر منهم إلى البلد وهدم الأبرش سورها ورجع بمن أطاع إلى مروان ثم بعث مروان يزيد ابن عمر بن هبيرة إلى العراق لقتال الضحّاك الشيبانيّ الخارجي بالكوفة وأمدّه ببعوث أهل الشام ونزل قرقيسيا ليقدّم ابن هبيرة لقتال الضحّاك. وكان سليمان بن هشام قد استأذنه بالمقام في الرصافة أياما ويلحق به فرجعت طائفة عظيمة من أهل الشام الذين بعثهم مروان مع ابن هبيرة فأقاموا بالرصافة ودعوا سليمان بن هشام بالبيعة فأجاب، وسار معهم إلى قنّسرين فعسكر بها، وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه. وبلغ الخبر مروان فكتب إلى ابن هبيرة بالمقام ورجع من قرقيسيا إلى سليمان فقاتله فهزمه، واستباح معسكره وأثخن فيهم وقتل أسراهم، وقتل إبراهيم أكبر ولد سليمان وخالد بن هشام المخزومي جا [2] أبيه فيما ينيف على ثلاثين ألفا وهرب سليمان إلى حمص في الفل فعسكر بها وبنى ما كان تهدم من سورها. وسار مروان إليه فلما قرب منه بيّته جماعة من أصحاب سليمان تبايعوا على الموت، وكان على احتراس وتعبية فترك القتال بالليل وكمنوا له في طريقه من الغد فقاتلهم إلى آخر النهار، وقتل منهم نحوا من ستمائة وجاءوا إلى سليمان فلحق بتدمر وخلف أخاه سعيدا بحمص وحاصره مروان عشرة أشهر ونصب عليهم نيفا وثمانين منجنيقا حتى استأمنوا   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 330: وكان مروان بدير أيوب فبايع لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوجهما ابنتي هشام بن عبد الملك وجمع كذلك بني أمية، واستقام له الشام ما خلا تدمر ... وكانوا قد عوّروا المياه فاستعمل المزاد والقرب والإبل ... » [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص: ومثل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وخالد بن هشام المخزوميّ خال هشام بن عبد الملك، وادّعى كثير من الأسراء للجند انّهم عبيد، فكف عن قتلهم وامر ببيعهم فيمن يزيد مع من أصيب من عسكرهم ومضى سليمان حتى انتهى إلى حمص ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 له وأمكنوه من سعيد بن هشام وآخرين شرطهم عليهم. ثم سار لقتال الضحّاك الخارجيّ بالكوفة. وقيل إنّ سليمان بن هشام لما انهزم بقنّسرين لحق بعبد الله ابن عمر بن عبد العزيز بالعراق، وسار معه إلى الضحّاك فبايعوه وكان النصر بن سعيد قد ولي العراق، فلما اجتمعوا على قتاله سار نحو مروان فاعترضه بالقادسية جنود الضحّاك من الكوفة مع ابن ملحان فقتله النضر. وولّى الضحّاك مكانه بالكوفة المثنّى بن عمران وسار الضحّاك إلى الموصل وأقبل ابن هبيرة إلى الكوفة فنزل بعيد التمر [1] وسار إليه المثنّى فهزمه ابن هبيرة وقتله وعدّة من قوّاد الضحّاك. وانهزم الخوارج ومعهم منصور بن جمهور ثم جاءوا إلى الكوفة واحتشدوا وساروا للقاء ابن هبيرة فهزمهم ثانية، ودخل الكوفة وسار إلى واسط وأرسل الضحّاك عبيدة بن سوار الثعلبيّ لقتاله، فنزل الصّراة وقاتله ابن هبيرة هنالك فانهزمت الخوارج كما يأتي في أخبارهم. ظهور عبد الله بن معاوية كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الكوفة في إخوانه وولده، فأكرمهم عبد الله وأجرى عليهم ثلاثمائة درهم في كل يوم وأقاموا كذلك. ولما بويع إبراهيم بن الوليد بعد أخيه واضطرب الشام وسار مروان إلى دمشق، حبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده، وزاد في رزقه بعده لمروان يبايعه ويقاتله [2] . فلما ظفر مروان بإبراهيم سار إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة وقاتله عبد الله بن عمر ثم خاف إسماعيل أن يفتضح فكفوا خبرهم فوقعت العصبية بين الناس من إيثار عبد الله بن عمر بعضا من مضر وربيعة بالعطاء دون غيرهم، فثارت   [1] اسمها عين التمر وقد مر ذكرها في مكان سابق وقد ذكرها ابن خلدون عين البقر وعين التمر اسمها الصحيح وما تزال إلى آلاف تعرف بهذا الاسم وهي تقع إلى الجنوب الغربي من كربلاء ويسمونها شفاثة أيضا» . [2] العبارة هنا غير واضحة وفي الطبري ج 8 ص 49: فاحتبس عبد الله بن عمر عبد الله ابن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه واعده لمروان بن محمد ان هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له ويقاتل به مروان.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 ربيعة فبعث إليهم أخاه عاصما ملقيا بيده فاستحيوا ورجعوا وأفاض [1] في رءوس الناس يستميلهم. فاستنفر الناس واجتمعت الشيعة إلى عبد الله بن معاوية فبايعوه وأدخلوه قصر الكوفة وأخرجوا منه عاصم بن عمر فلحق بأخيه بالحيرة وبايع الكوفيون ابن معاوية ومنهم منصور بن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء، وجاءته البيعة من المدائن وجمع الناس وخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة، فسرّح للقائه مولاه. ثم خرج في أثره وتلاقيا ونزع منصور بن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء. وجاءته البيعة من ابن عمر ولحقوا بالحيرة وانهزم ابن معاوية إلى الكوفة. وكان عمر بن الغضبان قد حمل على ميمنة ابن عمر فكشفها وانهزم أصحابه من ورائه، فرجع إلى الكوفة وأقام مع ابن معاوية في القصر، ومعهم ربيعة والزيدية على أفواه السكك يقاتلون ابن عمر. ثم أخذ ربيعة الأمان لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية، وسار ابن معاوية إلى المدائن وتبعه قوم من أهل الكوفة فتغلب بهم على حلوان والجبل وهمذان وأصبهان والري إلى أن كان من خبره ما نذكره. غلبة الكرماني على مرو وقتله الحرث بن شريح لما ولي مروان وولّى على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة كتب يزيد إلى نصر بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد فارتاب الحرث وقال: ليس لي أمان من مروان وخرج فعسكر وطلب من نصر أن يجعل الأمر شورى فأبى، وقرأ جهم بن صفوان مولى راسب وهو رأس الجهميّة سيرته وما يدعو إليه على الناس، فرضوا وكثر جمعه. وأرسل إلى نصر في عزل سالم بن أحور عن الشرطة، وتغيير العمّال. فتقرّر الأمر بينهما على أن يردوا ذلك إلى رجال أربعة: مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيّان بتعيين نصر والمغيرة بن شعبة الجهضمي [2] ومعاذ بن جبلة بتعيين الحرث.   [1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 8 ص 50: «وبلغ الخبر ابن عمر فأرسل إليهم أخاه عاصما فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا فالقى نفسه بينهم وقال: هذه يدي لكم فاحكموا فاستحيوا وعظموا عاصما وتشكروا له، واقبل على صاحبيهم فسكتا وكفّا، فلما امسى ابن عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بن الغضبان بمائة ألف فقسمها في قومه بني همام وأرسل إلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف، فقسمها في قومه وأرسل إلى جعفر بن نافع بن القعقاع بعشرة آلاف وإلى عثمان بن الخيبري بعشرة آلاف» . [2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 342: المغيرة بن شعبة الجهضمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وأمر نصر أن يكتب بولاية سمرقند وطخارستان لمن يرضاه هؤلاء الأربعة. وكان الحرث يقول إنه صاحب السور وإنه يهدم سور دمشق ويزيل ملك بني أمية فأرسل إليه نصر: إن كان ما تقوله حقا فتعال نسير إلى دمشق، وإلا فقد أهلكت عشيرتك. فقال الحرث: هو حق لكن لا تبايعني عليه أصحابي. قال: فكيف تهلك عشرين ألفا من ربيعة واليمن؟ ثم عرض عليه ولاية ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل. فقال له: فابدأ بالكرمانيّ فأقتله وأنا في طاعتك. ثم اتفقا على تحكيم جهم ومقاتل، فاحتكما بأن يعزله نصر ويكون الأمر شورى. فأتى نصر فخالفه الحرث، وقدم على نصر جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة منهم عاصم بن عمير الضريمي وأبو الديّال الناجي ومسلم بن عبد الرحمن وغيرهم، فكانوا معه وأمر الحرث أن يقرأ سيرته في الأسواق والمساجد، وأتاه الناس وقرئت على باب نصر. فضرب غلمان نصر قارئها فنادى بهم وتجهّزوا للحرب. ونقب الحرث سور مرو من الليل ودخل بالنهار فاقتتلوا وقتل جهم بن مسعود الناجي وأعين مولى حيّان ونهبوا منزل مسلم بن أحور، فركب سالم حين أصبح فقاتل الحرث وهزمه، وجاء إلى عسكره فقتل كاتبه وبعث نصر إلى الكرمانيّ وكان في الأزد وربيعة وكان موافقا للحرث لما قدّمناه، فجاءه نصر على الأمان وحادثهم وأغلظوا له في القول فارتاب ومضى، وقتل من أصحابه جهم بن صفوان. ثم بعث الحرث ابنه حاتما إلى الكرمانيّ يستجيشه فقال له أصحابه: دع عدويك يضطربان، ثم ضرب بعد يومين وناوش القتال أصحاب نصر فهزمهم، وصرع تميم بن نصر ومسلم بن أحور وخرج نصر من مرو من الغد فقاتلهم ثلاثة أيام وانهزم الكرمانيّ وأصحابه ونادى مناد يا معشر ربيعة واليمن إنّ أبا سيّار قتل فانهزمت مضر ونصر وترجل ابنه تميم فقاتل وأرسل إليه الحرث إني كافّ عنك فإنّ اليمانية يعيّرونني بانهزامكم، فاجعل أصحابك إزاء الكرمانيّ، ولما انهزم نصر غلب الكرمانيّ على مرو ونهب الأموال فأنكر ذلك عليه الحرث، ثم اعتزل عن الحرث بشر بن جرموز الضبيّ في خمسة آلاف وقال: إنما كنا نقاتل معك طلبا للعدل، فأمّا إن اتبعت الكرماني للعصبية فنحن لا نقاتل فدعا الحرث الكرماني إلى الشورى فأبى، فانتقل الحرث عنه وأقاموا أياما. ثم ثلم الحرث السور ودخل البلد وقاتله الكرمانيّ قتالا شديدا فهزمه وقتله وأخاه سوادة. واستولى الكرمانيّ على مرو وقيل إنّ الكرمانيّ خرج مع الحرث لقتال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 بشر بن جرموز ثم ندم الحرث على اتباع الكرماني وأتى عسكر بشر فأقام معهم وبعث إلى مضر من عسكر الكرماني فساروا إليهم وكانوا يقتتلون كل يوم ويرجعون إلى خنادقهم ثم نقب الحرث بعد أيام سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني واقتتلوا فقتل الحرث وأخاه وبشر بن جرموز وجماعة من بني تميم وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة فانهزم الباقون وصفت مرو لليمن وهدموا دور المضريّة. ظهور الدعوة العباسية بخراسان قد ذكرنا أنّ أبا مسلم كان يتردّد إلى الإمام من خراسان ثم استدعاه سنة تسعة وعشرين ليسأله عن الناس فسار في سبعين من النقباء مؤدين بالحج ومر بنسا فاستدعى أسيدا فأخبره بأن كتب الإمام جاءت إليه مع الأزهر بن شعيب وعبد المالك بن سعيد، ودفع إليه الكتب ثم لقيه بقومس كتاب الإمام إليه وإلى سليمان بن كثيّر إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث يلقاك كتابي ووجّه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض وجاء أبو مسلم إلى مرو وأعطى كتاب الإمام لسليمان بن كثيّر وفيه الأمر بإظهار الدعوة، فنصبوا أبا مسلم وقالوا رجل من أهل البيت ودعوا إلى طاعة بني العبّاس وكتبوا إلى الدعاة بإظهار الأمر، وترك أبو مسلم بقرية من قرى مرو في شعبان من سنة تسع وعشرين ثم بثوا الدعاة في طخارستان ومروالرود والطالقان وخوارزم، وأنهم إن أعجلهم عدوّهم دون الوقت عاجلوه وجرّدوا السيوف للجهاد، ومن شغله العدوّ عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعد الوقت. ثم سار أبو مسلم فنزل على سليمان بن كثيّر الخزاعي آخر رمضان ونصر بن سيّار يقاتل الكرماني وشيبان فعقد اللواء الّذي بعث به الإمام إليه وكان يدعى الظلّ على رمح طوله أربعة عشر ذراعا. ثم عقد الراية التي بعثها معه وتسمى السحاب وهو يتلو: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ 22: 39 الآية. ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثيّر وأخوه سليمان ومواليه ومن أجاب الدعوة من أهل تلك القرى وأوقدوا النيران ليلتهم لشيعتهم في خرقان فأصبحوا عنده ثم قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضّاح في سبعمائة راجل. وقدم من الدعاة أبو العبّاس المروزي وحصن أبو مسلم بسفيدنج ورمّها وحضر عيد الفطر، فصلى سليمان بن كثيّر وخطب على المنبر في العسكر وبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة. وكبر في الأولى ست تكبيرات وفي الثانية خمسا خلاف ما كان بنو أمية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 يفعلون. وكل ذلك مما سنّه لهم الإمام وأبوه. ثم انصرفوا من الصلاة مع الشيعة فطمعوا وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب نصر بن سيار يبدأ باسمه فلما قوى بمن اجتمع إليه كتب إلى نصر وبدأ بنفسه وقال: (أمّا بعد) فإنّ الله تباركت أسماؤه عيّر قوما في القرآن فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ 35: 42 (إلى) وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا 35: 43 فاستعظم الكتاب وبعث مولاه يزيد لمحاربة أبي مسلم لثمانية عشر شهرا من ظهوره فبعث إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي فدعاه إلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستكبروا فقاتلهم مالك وهو في مائتين يوما بكماله. وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبيّ وإبراهيم بن يزيد وزياد بن عيسى فسرّحهم إلى مالك فقوي مالك بهم، وقاتلوا القوم فحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر فأسره، وانهزم أصحابه وأرسله الطائي إلى أبي مسلم ومعه رءوس القتلى فأحسن أبو مسلم إلى يزيد وعالجه، ولما اندملت جراحة قال: إن شئت أقمت عندنا وإلا رجعت إلى مولاك سالما بعد أن تعاهدنا على أن لا تحاربنا ولا تكذب علينا فرجع إلى مولاه. وتفرس نصر أنه عاهدهم فقال: والله هو ما ظننت وقد استحلفوني أن لا أكذب عليهم وأنهم الله يصلون الصلاة لوقتها بأذان وإقامة ويتلون القرآن ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو ولولا أنك مولاي لأقمت عندهم. وكان الناس يرجفون عنهم بعبادة الأوثان واستحلال الحرام. ثم غلب حازم بن خزيمة على مروالروذ وقتل عامل نصر بها وكان من بني تميم من الشيعة وأراد بنو تميم منعه فقال: أنا منكم فإن ظفرت فهي لكم وإن قتلت كفيتم أمري فنزل قرية زاها. ثم تغلب على أهلها فقتل بشر بن جعفر السغدي عامل نصر عليها أوائل ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع ابنه خزيمة بن حازم. وقيل في أمر أبي مسلم غير هذا وأنّ إبراهيم الإمام أزوج أبا مسلم لما بعثه خراسان بابنه أبي النّجم وكتب إلى النقباء بطاعته. وكان أبو مسلم من سواد الكوفة فهزما فانتهى [1] لإدريس بن معقل العجليّ ثم سار إلى ولاية محمد بن علي، ثم ابنه إبراهيم، ثم للأئمة من ولاية [2] من ولده وقدم خراسان وهو حديث   [1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 361: «وكان أبو مسلم من أهل خطرنية من سواد الكوفة وكان قهرمانا لإدريس بن معقل العجليّ.» [2] الظاهر من المعنى ان «من ولاية زائدة» ولا لزوم لوجودها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 السن واستصغره سليمان بن كثيّر فردّه وكان أبو داود خالد بن إبراهيم غائبا وراء النهر، فلما جاء إلى مرو أقرأه كتاب الإمام وسألهم عن أبي مسلم فأخبروه أنّ سليمان بن كثيّر ردّه لحداثة سنّه وأنه لا يقدر على الأمر، فنخاف على أنفسنا وعلى من يدعوه فقال لهم أبو داود: إنّ الله بعث نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى جميع خلقه، وأنزل عليه كتابه بشرائعه وأنبأه بما كان وما يكون وخلف علمه رحمة لأمته وعمله إنما هو عند عترته وأهل بيته وهم معدن العلم وورثة الرسول فيما علمه الله أتشكون في شيء من ذلك؟ قالوا: لا. قال: فقد شككتم والرجل لم يبعثه إليكم حتى علم أهليته لما يقوم به فبعثوا عن أبي مسلم وردّوه من قومس بقول أبي داود وولوه أمرهم وأطاعوه ولم تزل في نفس أبي مسلم من سليمان بن كثيّر. ثم بعث الدعاة ودخل الناس في الدعوة أفواجا واستدعاه الإمام سنة تسع وعشرين أن يوافيه بالمرسوم ليأمره في إظهار الدعوة وأن يقدم معه قحطبة بن شبيب ويحمل ما اجتمع عنده من الأموال فسار في جماعة من النقباء والشيعة فلقيه كتاب الإمام بقومس يأمره بالرجوع وإظهار الدعوة بخراسان، وبعث قحطبة بالمال وأنّ قحطبة سار إلى جرجان. واستدعى خالد بن برمك وأبا عون فقدما بما عندهما من مال الشيعة فسار به نحو الإمام. مقتل الكرماني قد ذكرنا من قبل أنّ الكرماني قتل الحرث بن شريح فخلصت له مرو وتنحّى نصر عنها ثم بعث نصر سالم بن أحور في رابطته وفرسانه إلى مرو فوجد يحيي بن نعيم الشّيبانيّ في ألف رجل من ربيعة ومحمد بن المثنّى في سبعمائة من الأزد وأبو الحسن ابن الشيخ في ألف منهم والحربي السغدي [1] في ألف من اليمن. فتلاحى سالم وابن المثنّى وشتم سالم الكرماني فقاتلوه فهزموه وقتل من أصحابه نحو مائة. فبعث نصر بعده عصمة بن عبد الله الأسديّ فكان بينهم مثل ما كان أوّلا، فقاتلهم محمد السغدي، فانهزم السغدي وقتل من أصحابه أربعمائة. ورجع إلى نصر فبعث مالك بن عمر التميميّ فاقتتلوا كذلك وانهزم مالك وقتل من أصحابه سبعمائة ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة. ولما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنه لا مدد لهم جعل يكتب إلى شيبان الخارجي يذمّ اليمانية تارة ومضر أخرى ويوصي   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 363: الجرجيّ السعدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 الرسول بكتاب مضر أن يتعرّض لليمانيّة ليقرؤا ذمّ مضر والرسول بكتاب اليمانيّة أن يتعرّض لمضر ليقرؤا ذمّ اليمانيّة حتى صار هوى الفريقين معه ثم كتب إلى نصر بن سيّار والكرماني: أنّ الإمام أوصاني بكم ولا أعد ورأيه فيكم. ثم كتب يستدعي الشيعة أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا ومقاتل بن حكيم بن غزوان وكانوا أوّل من سوّد ونادوا يا محمد يا منصور! ثم سوّد أهل أبي ورد ومروالروذ وقرى مرو فاستدعاهم أبو مسلم وأقبل فنزل بين خندق الكرماني وخندق نصر وهابه الفريقان وبعث إلى الكرماني إني معك وقبل فانضم أبو مسلم إليه، وكتب نصر بن سيّار إلى الكرماني يحذّره منه ويشير عليه بدخول مرو ليصالحه فدخل ثم خرج من الغد، وأرسل إلى نصر في إتمام الصلح في مائتي فارس، فرأى نصر فيه غرّة فبعث إليه ثلاثمائة فارس فقتلوه. وسار ابنه إلى أبي مسلم وقاتلوا نصر بن سيّار حتى أخرجوه من دار الإمارة إلى بعض الدور. ودخل أبو مسلم مرو فبايعه عليّ بن الكرماني، وقال له أبو مسلم أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. وكان نصر حين نزل أبو مسلم بين خندقه وخندق الكرماني ورأى قوّته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بخروجه وكثرة من معه ودعائه لإبراهيم بن محمد: أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام فإنّ النار بالعودين تذكو ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام فإن لم تطفئوها يخرجوها ... مسجّرة يشيب لها الغلام أقول من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام فإن يك قومنا أضحوا نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام تعزّي عن رجالك ثمّ قولي ... على الإسلام والعرب السلام. فوجده مشتغلا بحرب الضحّاك بن قيس فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فاحثهم التلول قبلك. فقال نصر: أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده. وصادف وصول كتاب نصر إلى مروان عثورهم على كتاب من إبراهيم الإمام لابي مسلم يوبّخه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكنته ويأمره أن لا يدع بخراسان متكلّما بالعربية. فلما قرأ الكتاب بعث إلى عامله بالبلقاء أن يسير إلى الحيسة [1] فيبعث إليه بإبراهيم بن محمد مشدود الوثاق فحبسه مروان.   [1] وفي الكامل ج 5 ص 366: الى الحميمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 اجتماع أهل خراسان على قتل أبي مسلم لما أظهر أبو مسلم أمره سارع إليه الناس، وكان أهل مرو يأتونه ولا يمنعهم نصر، وكان الكرماني وشيبان الخارجي لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان وكان أبو مسلم ليس له حرس ولا حجّاب ولا غلظة الملك، فكان الناس يأنسون به لذلك، وأرسل نصر إلى شيبان الخارجي في الصلح ليتفرّغ لقتال أبي مسلم، إمّا أن يكون معه أو يكفّ عنه، ثم نعود إلى ما كنا فيه فهمّ شيبان بذلك، وكتب أبو مسلم إلى الكرمانيّ فحرّضه على منع شيبان من ذلك فدخل عليه وثناه عنه ثم بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة فملكها وطرد عنها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي عامل نصر. فجاء يحيي بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ إلى الكرماني وشيبان وأغراهما بمصالحة نصر وقال: إن صالحتم نصرا قاتله أبو مسلم وترككم لأنّ أمر خراسان لمضر وإن لم تصالحوه صالحه وقاتلكم فقدّموا نصر قبلكم. فأرسل شيبان إلى نصر في الموادعة فأجلب وجاء مسلم بن أحور بكتب الموادعة فكتبوها وبعث أبو مسلم إلى شيبان في موادعة ثلاثة أشهر فقال ابن الكرمانيّ إذا ما صالحت نصرا إنما صالحه شيبان وأنا موتور بأبي ثم عاود القتال وقعد شيبان عن نصره وقال: لا يحلّ الغدر فاستنصر ابن الكرمانيّ بأبي مسلم فأقبل حتى نزل الماخران لاثنتين وأربعين يوما من نزوله يسفيدنج وخندق على معسكره وجعل له بابين وعلى شرطته مالك بن الهيثم وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند أبا صالح كامل بن المظفّر وعلى الرسائل أسلم بن صبيح وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب وكان القاسم يصلي بأبي مسلم ويقرأ القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم وسالف بني أميّة ولما نزل أبو مسلم الماخران أرسل إلى ابن الكرمانيّ بأنه معه فطلب لقاءه فجاءه أبو مسلم وأقام عنده يومين ثم رجع وذلك أوّل المحرّم سنة ثلاثين [1] ثم عرض الجند وأمر كامل ابن مظفّر بكتب أسمائهم وأنسابهم في دفتر فبلغت عدّته سبعة آلاف ثم إن القبائل من ربيعة ومضر واليمن توادعوا على وضع الحرب والاجتماع على قتال أبي مسلم فعظم ذلك عليه وتحوّل عن الماخران لأربعة أشهر من نزولها لأنها كانت   [1] اي سنة ثلاثين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 تحت الماء وخشي أن يقطع فتحوّل إلى طبسين وخندق بها، وخندق نصر بن سيّار على نهر عياض وأنزل عمّاله بالبلاد، فأنزل أبا الدّيال في جنده لطوسان فآذوا أهلها وعسفوهم وكان أكثرهم مع أبي مسلم في خندق فسير إليهم جندا فقاتلوه فهزموه وأسروا من أصحابه ثلاثين، فأطلقهم أبو مسلم ثم بعث محرز بن إبراهيم في جمع من الشيعة ليقطع مادّة نصر من مروالروذ وبلخ وطخارستان فخندق بين نصر وبين هذه البلاد، واجتمع إليه ألف رجل وقطع المادة عن نصر. مقتل عبد الله بن معاوية قد تقدّم لنا أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بويع بالكوفة وغلبه عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ولحق بالمدائن وجاءه ناس من أهل الكوفة وغيرها فسار إلى الجبال وغلب عليها وعلى حلوان وقومس وأصبهان والريّ وأقام بأصبهان وكان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس فجاء إلى دار الإمارة بإصطخر وطرد عامل عبد الله بن عمر عنها، وبايع الناس لعبد الله بن معاوية. ثم سار إلى كرمان فأغار عليها وانضم إليه قوّاد من أهل الشام فسار إلى سالم بن المسيّب عامل عبد الله ابن عمر على شيراز فقتله سنة ثمان وعشرين. ثم سار محارب إلى أصبهان وحوّل عبد الله ابن معاوية إلى إصطخر بعد أن استعمل على الجبال أخاه الحسن بن معاوية، وأتى إلى إصطخر فنزل بها وأتاه بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال وبعث العمّال. وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام، وأتاه شيبان بن عبد العزيز الخارجي ثم أتاه أبو جعفر المنصور وعبد الله ابن أخيه عيسى. ولما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي على الأهواز وأن يقاتل عبد الله بن معاوية، وبلغ سليمان بن حبيب وهو بالأهواز فسرّح داود بن حاتم للقاء نباتة، وهرب سليمان من الأهواز إلى نيسابور وقد غلب الأكراد عليها فطردهم عنها، وبايع لابن معاوية، فبعث أخاه يزيد بن معاوية عليها. ثم إنّ محارب بن موسى فارق عبد الله بن معاوية وجمع، وقصد نيسابور فقاتله يزيد بن معاوية وهزمه، فأتى كرمان وأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه ثم نافره، فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابنا له. ثم بعث يزيد بن هبيرة بعد نباتة بن حنظلة ابنه داود ابن يزيد في العساكر إلى عبد الله بن معاوية، وعلى مقدّمته داود بن ضبارة. وبعث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 معن بن زائدة من وجه آخر، فقاتلوا عبد الله بن معاوية وهزموه وأسروا وقتلوا، وهرب منصور بن جمهور إلى السند وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان وعمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر، وبعثوا بالأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم ومضى ابن معاوية عن فارس إلى خراسان. وسار معن بن زائدة في طلب منصور بن جمهور وكان فيمن أسر مع عبد الله بن معاوية عبد الله بن علي بن عبد الله ابن عبّاس، شفع فيه حرب ابن قطن من أخواله بني هلال، فوهبه له ضبارة وغاب عبد الله بن معاوية عن ابن ضبارة، ورمى أصحابه باللواطة، فبعث إلى ابن هبيرة ليخبره، وسار ابن ضبارة في طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحاصره بها حتى خرج منها هاربا ومعه أخوه الحسن ويزيد وجماعة من أصحابه، فسلك المفازة على كرمان إلى خراسان طمعا في أبي مسلم لأنه كان يدعو إلى الرضا من آل محمد، وقد استولى على خراسان فوصل إلى نواحي هراة وعليها مالك فقال له: انتسب نعرفك. فانتسب له فقال: أمّا عبد الله وجعفر فمن أسماء آل الرسول وأمّا معاوية فلا نعرفه في أسمائهم. قال: إنّ جدّي كان عند معاوية حين ولد أبي فبعث إليه مائة ألف على أن يسمي ابنه باسمه فقال: لقد اشتريتم الأسماء الخبيثة بالثمن اليسير [1] فلا نرى لك حقا فيما تدعو إليه ثم بعث بخبره إلى أبي مسلم فأمره بالقبض عليه وعلى من معه فحبسهم. ثم كتب إليه بإطلاق أخويه الحسن ويزيد وقتل عبد الله فوضع الفراش على وجهه فمات [2] . لما تعاقد نصروا ابن الكرماني وقبائل ربيعة واليمن ومضر على قتال أبي مسلم عظم على الشيعة، وجمع أبو مسلم أصحابه ودسّ سليمان بن كثيّر إلى ابن الكرماني يذكّره بثأر أبيه من نصر فانتقضوا، فبعث نصر إلى أبي مسلم بموافقة مضر وبعث إليه أصحاب ابن الكرماني وهم ربيعة واليمن بمثل ذلك. واستدعى وفد الفريقين ليختار الركون إلى أحدهما وأحضر الشيعة لذلك وأخبرهم بأنّ مضر أصحاب مروان وعمّاله وشيعته وقبله [3] يحيى بن زيد. فلما حضر الوفد تكلم سليمان بن كثيّر، ويزيد بن شقيق   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 373: «لقد اشتريتم الاسم الخبيث بالثمن اليسير. [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 373: فأمر من وضع فراشا على وجهه فمات واخرج فصلّي عليه ودفن، وقبره بهراة معروف يزار، رحمه الله.» [3] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 378: قتله يحيى بن زيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 السلميّ بمثل ذلك وبأن نصر بن سيّار عامل مروان ويسمّيه أمير المؤمنين وينفّذ أوامره فليس على هدى، وإنما يختار عليّ بن الكرماني وأصحابه ووافق السبعون من الشيعة على ذلك وانصرف الوفد ورجع أبو مسلم من أبين إلى الماخران وأمر الشيعة ببناء المساكن وأمن من فتنة العرب ثم أرسل إليه علي بن الكرماني أن يدخل مرو من ناحيته ليدخل هو وقومه من الناحية الأخرى، فلم يطمئن لذلك أبو مسلم وقال: ناشبهم الحرب من قبل فناشب ابن الكرمانيّ نصر بن سيّار الحرب ودخل مرو من ناحيته وبعث أبو مسلم بعض النقباء. فدخل معه ثم سار وعلى مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعيّ، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع. فدخل مرو والفريقان يقتتلان، ومضى إلى قصر الإمارة وهو يتلو: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها 28: 15. وأمر الفريقين بالانصراف فانصرفوا إلى معسكرهم وصفت له مرو، وأمر بأخذ البيعة من الجند، وتولى أخذها أبو منصور طلحة بن زريق أحد النقباء الذين اختارهم محمد بن علي من الشيعة حين بعث دعاته إلى خراسان سنة ثلاث وأربع، وكانوا اثني عشر رجلا. فمن خزاعة سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحة بن زريق وعمر بن أعين. ومن طيِّئ قحطبة بن شبيب بن خالد سعدان. ومن تميم أبو عيينة موسى بن كعب ولاهز ابن قريط والقاسم بن مجاشع وأسلم بن سلام ومن بكر بن وائل أبو داود خالد بن إبراهيم الشّيبانيّ وأبو علي الهروي، ويقال شبل بن طهمان وكان عمر بن أعين مكان موسى بن كعب وأبو النّجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي وهو ختن أبي مسلم. ولم يكن أحد من النقباء ووالده غير أبي منصور طلحة بن زريق بن سعد وهو أبو زينب الخزاعي، وكان قد شهد حرب ابن الأشعث وصحب المهلّب وغزا معه. وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور. وكان نصّ البيعة: أبايعكم على كتاب الله وسنّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والطاعة للرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى أن لا تسألوا رزقا ولا طمعا حتى تبدأكم به ولاتكم، وذلك سنة ثلاثين ومائة. ثم أرسل أبو مسلم لاهز بن قريط في جماعة إلى نصر بن سيّار يدعو إلى البيعة، وعلم نصر أن أمره قد استقام ولا طاقة له بأصحابه، فوعده بأنه يأتيه يبايعه من الغد، وأرسل أصحابه بالخروج من ليلتهم إلى مكان يأمنون فيه. فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 أسلم بن أحوز لا يتهيأ لنا الليلة. فلما أصبح [1] أبو مسلم كتابه وأعاد لاهز بن قريط إلى نصر يستحثه فأجاب وأقام لوضوئه، فقال لاهز: إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فخرج نصر عند المساء من خلف حجرته ومعه ابنه تميم والحكم بن غيلة النميري وامرأته المرزبانة وانطلقوا هرابا. واستبطأه لاهز فدخل المنزل فلم يجده وبلغ أبا مسلم هربه فجاء إلى معسكره وقبض على أصحابه منهم سالم ابن أحوز صاحب شرطته والبحتري كاتبه، وابنان له ويونس بن عبد ربه ومحمد ابن قطن وغيرهم. وسار أبو مسلم وابن الكرماني في طلبه ليلتهما فأدركا امرأته قد خلفها وسار فرجعوا إلى مرو. وبلغ نصر من سرخس فأقام بطوس خمس عشرة ليلة. ثم جاء نيسابور فأقام بها وتعاقد ابن الكرماني مع أبي مسلم على رأيه. ثم بعث إلى شيبان الحروري يدعوه إلى البيعة فقال شيبان: بل أنت تبايعني [2] واستنصر بابن الكرماني فأبى عليه، وسار شيبان إلى سرخس واجتمع له جمع من بكر بن وائل وبعث إليه أبو مسلم في الكفّ فسجن الرسل. فكتب إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني ليث المكنّى بأبي ورد أن يسير إليه فقاتله وقتله وقتل بكر بن وائل الرسل الذين كانوا عنده. وقيل إنّ أبا مسلم إنما وجه إلى شيبان عسكرا من عنده عليهم خزيمة بن حازم وبسّام بن إبراهيم. ثم بعث أبو مسلم كعبا من النقباء إلى أبيورد فافتتحها، ثم أبا داود خالد بن إبراهيم من النقباء إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيريّ فجمع له أهل بلخ وترمذ وجند طخارستان ونزل الجوزجان، ولقيهم أبو داود فهزمهم وملك مدينة بلخ. وساروا إلى ترمذ فكتب أبو مسلم إلى أبي داود يستقدمه وبعث مكانه على بلخ يحيى بن نعيم أبا الميلاء فداخله زياد بن عبد الرحمن في الخلاف على أبي مسلم، واجتمع لذلك زياد ومسلم بن عبد الرحمن الباهليّ، وعيسى بن زرعة السلميّ وأهل بلخ وترمذ وملوك طخارستان وما وراء النهر ونزلوا على فرسخ من بلخ وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه. واتفقت كلمة مضر وربيعة واليمن ومن معهم من العجم على قتال المسوّدة وولّوا عليهم مقاتل بن   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 381: «فلما كان الغد عبّأ ابو مسلم أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر وأعاد إلى نصر لاهز بن قريظ وجماعة معه» . [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 383: «فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي. فأرسل اليه ابو مسلم أن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الّذي أنت به.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 حيّان النبطيّ مخافة أن يتنافسوا. وبعث أبو مسلم أبا داود إليهم فأقبل بعساكره حتى اجتمعوا على نهر السرحسان [1] واقتتلوا. وكان زياد وأصحابه قد خلفوا أبا سعيد القرشي مسلحة وراءهم خشية أن يؤتوا من خلفهم وكانت راياته سودا وأغفلوا ذلك. فلما اشتدّ القتال زحف أبو سعيد في أصحابه لمددهم فظنّوه كمينا للمسوّدة فانهزموا وسقطوا في النهر، وحوى أبو داود معسكرهم بما فيه وملك بلخ. ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى ترمذ وكتب أبو مسلم يستقدم أبا داود وبعث النضر بن صبيح المزني على بلخ. ولما قدم أبو داود أشار على أبي مسلم بالتفرقة بين عليّ وعثمان ابني الكرماني. فبعث عثمان على بلخ وقدمها فاستخلف الفرافصة بن ظهير العبسيّ وسار هو والنضر بن صبيح إلى مروالروذ وجاء مسلم بن عبد الرحمن الباهليّ من ترمذ في المضريّة، فاستولى على بلخ ورجع إليه عثمان والنضر فهربوا من ليلتهم ولم يعن النضر في طلبهم وقاتلهم عثمان ناحية عنه فانهزم، ورجع أبو داود إلى بلخ وسار أبو مسلم إلى نيسابور ومعه علي بن الكرماني وقد اتفق مع أبي داود على قتال ابني الكرماني فقتل أبو داود عثمان في بلخ وقتل أبو مسلم عليّا في طريقه إلى نيسابور. مسير قحطبة للفتح وفي سنة ثلاثين قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم من عند الإمام إبراهيم وقد عقد له لواء على محاربة العدوّ فبعثه أبو مسلم في مقدمته وضمّ إليه العساكر وجعل إليه التولية والعزل، وأمر الجنود بطاعته. وقد كان حين غلب على خراسان بعث العمّال على البلاد فبعث ساعي بن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان ومحمد بن الأشعث الخزاعي على طبسين وجعل مالك بن الهيثم على شرطته. وبعث قحطبة إلى طوس ومعه عدّة من القوّاد: أبو عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك وعثمان بن نهيك، وحازم بن خزيمة وغيرهم فهزم أهل طوس وأفحش في قتلهم، ثم بعث أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق الحجّة، وكتب إلى قحطبة بقتال تميم ابن نصر بالسودقان،   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 384: نهر السرجنان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 ومعه الثاني بن سويد وأصحاب شيبان، وأمدّه بعشرة آلاف مع عليّ بن معقل فزحف إليهم ودعاهم بدعوته وقاتلهم، فقتل تميم بن نصر وجماعة عظيمة من أصحابه، يقال بلغوا ثلاثين ألفا واستبيح معسكرهم وتحصّن الباقي بالمدينة فاقتحمها عليهم، وخلّف خالد بن برمك على قبض الغنائم، وسار إلى نيسابور فهرب منها نصر بن سيّار الى قومس ثم تفرّق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان وكان يزيد بن هبيرة بعثه مددا لنصر، فأتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الريّ، ثم إلى جرجان وقدم قحطبة نيسابور فأقام بها رمضان وشوّال وارتحل إلى جرجان، وجعل ابنه الحسن على مقدمته وانتهى إلى جرجان وأهل الشام بها مع نباتة فهابهم أهل خراسان فخطبهم قحطبة وأخبرهم أنّ الإمام أخبره أنهم يلقونه مثل هذه العدد فينصرونه عليهم. ثم تقدّم للقتال وعلى ميمنته ابنه الحسن فانهزم أهل الشام وقتل نباتة في عشرة آلاف منهم وبعث برأسه إلى أبي مسلم، وذلك في ذي الحجة من السنة وملك قحطبة جرجان. ثم بلغه أنّ أهل جرجان يرومون الخروج عليه فاستعرضهم وقتل منهم نحوا من ثلاثين ألفا وسار نصر من قومس إلى خوار الري وعليها أبو بكر العقيليّ وكتب إلى ابن هبيرة بواسط يستمدّه فحبس رسله. فكتب مروان إلى ابن هبيرة فجهز ابن هبيرة جيشا كثيفا إلى نصر وعليهم ابن عطيف. هلاك نصر بن سيار ثم بعث قحطبة ابنه الحسن إلى محاصرة نصر في خوار الري في محرّم سنة إحدى وثلاثين، وبعث إليه المدد مع أبي كامل وأبي القاسم محرز بن إبراهيم وأبي العبّاس المروزيّ. ولما تقاربوا نزع أبو كامل إلى نصر فكان معه وهرب جند قحطبة وأصحاب نصر أصابهم شيء من متاعهم فبعثه نصر إلى ابن هبيرة فاعترضه ابن عطيف بالري فأخذه فغاضبه نصر فأقام ابن عطيف بالري وسار نصر إلى الري وعليها حبيب بن يزيد النهشليّ. فلما قدمها سار ابن عطيف إلى همذان وكان فيها مالك ابن أدهم بن محرز الباهلي، فعدل ابن عطيف عنها إلى أصبهان وبها عامر بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 ضبارة، وقدم نصر الري فأقام بها يومين ومرض وارتحل. فلما بلغ نهاوة [1] مات لاثنى عشر من ربيع الأوّل من اسنة ودخل أصحابه همذان. استيلاء قحطبة على الري ّ ولما مات نصر بن سيّار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن حازم إلى سمنان وأقبل قحطبة من جرجان وقدم زياد بن زرارة القشيري وقد كان قدم على طاعة أبي مسلم واعتزم على اللحاق بابن ضبارة، فبعث قحطبة في أثره المسيّب بن زهير الضبيّ فهزمه، وقتل عامة من مع ابن معاوية ورجع، ولحق قحطبة ابنه الحسن إلى الريّ فخرج عنها حبيب بن يزيد النهشليّ وأهل الشام، ودخلها الحسن في صفر ثم لحق به أبوه وكتب بالخبر إلى أبي مسلم. وقد أكثر أهل الريّ إلى بني أمية فأخذ أبو مسلم أملاكهم ولم يردّها عليهم إلا السفاح بعد حين فأقام قحطبة بالريّ وكتب أبو مسلم إلى أصبهبذ طبرستان بالطاعة وأداء الخراج فأجاب، وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند وكبير الديلم بمثل ذلك فأفحش في الردّ. فكتب أبو مسلم إلى موسى بن كعب أن يسير إليه من الري فسار ولم يتمكن منه لضيق بلاده وكان الديلم يقاتلونه كل يوم، فكثر فيهم الجراح والقتل، ومنعهم الميرة فأصابهم الجوع فرجع موسى إلى الري ولم يزل المصمغان متمنّعا إلى أيام المنصور فأغزاه حمّاد بن عمر في جيش كثيف، ففتح دنباوند. ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم ارتحل عن مرو ونزل نيسابور ثم سير قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الريّ بثلاث ليال، فسار عنها مالك بن أدهم وأهل الشام وخراسان إلى نهاوند ونزل على أربعة فراسخ من المدينة، وأمدّه قحطبة بأبي الجهم بن عطيّة مولى باهلة في سبعمائة وأقام محاصرا لها. استيلاء قحطبة على أصبهان ومقتل ابن ضبارة وفتح نهاوند وشهرزور قد تقدّم لنا أنّ ابن هبيرة بعث ابنه داود يزيد لقتال عبد الله بن معاوية بإصطخر،   [1] وفي نسخة أخرى نهاوند. وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 396: «فلما بلغ ساوة مات» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وبعث معه عامر بن ضبارة فهزموه واتبعوه إلى كرمان سنة تسع وعشرين، فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بجرجان سنة ثلاثين، كتب إلى ابنه داود ضبارة بالمسير إلى قحطبة فسار من كرمان في خمسين ألفا ونزلوا أصبهان وبعث إليهم قحطبة جماعة من القوّاد عليهم مقاتل بن حكيم الكعبيّ فنزلوا قمّ وسار قحطبة إلى نهاوند مددا لولده الحسن الّذي حاصرهم فبعث مقاتلا بذلك قحطبة، فسار حتى لحقه، وزحفوا للقاء داود ابن ضبارة وهم في مائة ألف وقحطبة في عشرين ألفا. وحمل قحطبة وأصحابه فانهزم ابن ضبارة وقتل واحتووا على ما كان في معسكرهم مما لا يعبّر عنه من الأصناف وذلك في رجب. وطيّر قحطبة بالخبر إلى ابنه الحسن وسار إلى أصبهان فأقام بها عشرين ليلة، وقدم على ابنه فحاصروا نهاوند ثلاثة أشهر إلى آخر شوّال، ونصبوا عليهم المجانيق وبعث بالأمان إلى من كان في نهاوند من أهل خراسان فلم يقبلوا، فبعث إلى أهل الشام فقالوا أشغل عنا أهل المدينة بالقتال نفتح لك المدينة من ناحيتنا، ففعلوا، وخرجوا إليه جميعا فقتلوا أهل خراسان فيهم أبو كامل وحاتم بن شريح وابن نصر بن سيّار وعاصم بن عمير وعليّ بن عقيل وبيهس. وكان قحطبة لما جاء إلى نهاوند بعث ابنه الحسن إلى جهات حلوان وعليها عبد الله بن العلاء الكنديّ فتركها وهرب. ثم بعث قحطبة عبد الملك بن يزيد ومالك بن طرا في أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على مقدمته عبد الله بن محمد فقاتلوا عثمان آخر ذي الحجة فانهزم وقتل. وملك أبو عون بلاد الموصل. وقيل إنّ عثمان هرب إلى عبد الله بن مروان وغنم أبو عون عسكره وقتل أصحابه، وبعث إليه قحطبة بالمدد وكان مروان بن محمد بحرّان فسار في أهل الشام والجزيرة والموصل ونزل الزاب الأكبر وأتوا شهرزور إلى المحرّم سنة اثنتين وثلاثين. حرب سفاح بن هبيرة مع قحطبة ومقتلهما وفتح الكوفة ولما قدم على يزيد بن هبيرة ابنه داود منهزما من حلوان خرج يزيد للقاء قحطبة في مدد لا يحصى، وكان مروان أمدّه بحوثرة بن سهيل الباهليّ، فسار معه حتى نزل حلوان واحتفر الخندق الّذي كانت فارس احتفرته أيام الواقعة. وأقام وأقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 قحطبة إلى حلوان ثم عبر دجلة إلى الأنبار فرجع ابن هبيرة مبادرا إلى الكوفة وقدم إليها حوثرة في خمسة عشر ألفا وعبر قحطبة الفرات من الأنبار لثمان من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات وعلى ثلاثة وعشرين فرسخا من الكوفة، ومعه حوثرة وفلّ ابن ضبارة. وأشار عليه أصحابه أن يدع الكوفة ويقصد هو خراسان فيتبعه قحطبة فأبى إلا البدار إلى الكوفة، وعبر إليها دجلة من المدائن، وعلى مقدمته حوثرة والفريقان يسيران على جانب الفرات. وقال قحطبة لأصحابه إنّ الإمام أخبرني بأنّ وقعة تكون بهذا المكان والنصر لنا، ثم دلّوه على مخاضة فعبر منها، وقاتل حوثرة وابن نباتة فانهزم أهل الشام، وقعد قحطبة وشهد مقاتل العللي بأنّ قحطبة عهد لابنه الحسن بعده، فبايع جميع الناس لأخيه الحسن، وكان في سرية فبعثوا عنه وولّوه ووجد قحطبة في جدول هو وحرب بن كمّ ابن أحوز وقيل: إنّ قحطبة لما عبر الفرات وقاتل ضربه معن بن زائدة فسقط وأوصى إذا مات أن يلقى في الماء. ثم انهزم ابن نباتة وأهل الشام ومات قحطبة وأوصى بأمر الشيعة إلى أبي مسلمة الخلّال بالكوفة وزير آل محمد. ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة فانهزم إلى واسط واستولى الحسن ابن قحطبة على ما في معسكرهم. وبلغ الخبر إلى الكوفة فثار بها محمد بن خالد القسري بدعوة الشيعة خرج ليلة عاشوراء وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثيّ وعلى شرطته عبد الرحمن بن بشير العجليّ وسار إلى [1] فهرب زياد ومن معه من أهل الشام ودخل القصر ورجع إليه حوثرة [2] وعن محمد عامة من معه ولزم القصر. ثم جاء قوم من بجيلة من أصحاب حوثرة فدخلوا في الدعوة ثم آخرون من كنانة، ثم آخرون من نجدل [3] فارتحل حوثرة نحوه [4] وكتب محمد إلى قحطبة   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 405: «وسار محمد إلى القصر، فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام، ودخل محمد القصر.» [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 405: وسمع حوثرة الخبر فسار نحو الكوفة فتفرّق عنه محمد عامة من معه.» [3] وفي نسخة أخرى بجدل وفي الكامل ج 5 ص 405: من آل بحدل. [4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 405: «ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل فلما رأى ذلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وهو لم يعلم بهلاكه فقرأه الحسن على الناس وارتحل نحو الكوفة فصبحها الرابعة من مسيرة وقيل إنّ الحسن بن قحطبة سار إلى الكوفة بعد قتل ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجليّ فهرب عنها وسبق محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلا فلقى الحسن ودخل معه وأتوا إلى أبي مسلمة فاستخرجوه من بني مسلمة وعسكر بالنخيلة، ثم نزل حمام أعين. وبعث الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة وبايع الناس أبا مسلمة حفص ابن سليمان الخلّال وزير آل محمد واستعمل محمد بن خالد القسري على الكوفة وكان يسمّى الأمير، حتى ظهر أبو العبّاس السفّاح وبعث حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد والمسيّب بن هبيرة وخالد بن مرمل [1] ، إلى دير فناء وشراحيل إلى عير [2] وبسّام بن إبراهيم بن بسّام إلى الأهواز، وبها عبد الرحمن بن عمر بن هبيرة فقاتله بسّام وانهزم إلى البصرة وعليها مسلم بن قتيبة الباهليّ عاملا لأخيه. وبعث بسّام في أثره سفيان ابن معاوية بن يزيد بن المهلّب واليا على البصرة، فجمع سالم قيسا ومضر وبني أمية وجاء قائد من قواد ابن هبيرة في ألفي رجل، وجمع سفيان اليمانيّة وحلفاءهم من ربيعة واقتتلوا في صفر. وقتل ابن سفيان واسمه معاوية فانهزم لذلك. ثم جاء إلى سالم أربعة آلاف مددا من عند مروان فقاتل الأزد واستباحهم ولم يزل بالبصرة حتى قتل ابن هبيرة فهرب عنها واجتمع ولد الحرث بن عبد المطّلب إلى محمد بن جعفر فولّوه أياما حتى قدم أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم. فلما بويع أبو العباس السفّاح ولّاها سفيان بن معاوية. بيعة السفاح قد كنا قدمنا خبر الدعاة وقبض مروان على إبراهيم بن محمد وأنه حبسه بحرّان وكان نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم باللحاق بالكوفة وأوصى على أخيه أبي العبّاس عبد الله ابن الحرثية. فسار أبو العبّاس ومعه أهل بيته وفي إخوته أبو جعفر المنصور وعبد الوهاب ومحمد ابن أخيه إبراهيم وعيسى ابن أخيه موسى ومن أعمامه داود وعيسى وصالح   [1] هو خالد بن برمك. [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 406: «وبعث المسيب بن زهير وخالد بن برمك إلى دير منّى، وبعث المهلّبيّ وشراحيل إلى عين التمر.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عبّاس، وموسى ابن عمه داود ويحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس، فقدموا الكوفة في صفر وأبو سلمة والشيعة على حمام أعين بظاهر الكوفة وأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم عن جميع القوّاد والشيعة أربعين ليلة، وأراد فيما زعموا أن يحوّل الأمر إلى أبي طالب. وسأله أبو الجهم من الشيعة وغيره فيقول: لا تعجلوا ليس هذا وقته. ولقي أبو حميد محمد بن إبراهيم ذات يوم خادم إبراهيم الإمام وهو سابق الخوارزميّ فسأله عن الإمام فقال: قتل إبراهيم وأوصى إلى أخيه أبي العبّاس وها هو بالكوفة ومعه أهل بيته. فسأله في اللقاء فقال: حتى أستأذن وواعده من الغد في ذلك المكان، وجاء أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبره وكان في عسكر أبي سلمة فقال له: تلطف في لقائهم. فجاء إلى موعد سابق ومضى معه ودخل عليهم فسأل عن الخليفة فقال داود ابن علي: هذا إمامكم وخليفتكم يشير إلى أبي العبّاس. فسلّم عليه بالخلافة وعزّاه بإبراهيم الإمام، ورجع ومعه خادم من خدمهم إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم وأنّ أبا العبّاس أرسل إلى أبي سلمة أن يبعث إليه كراء الرواحل التي جاءوا إليها، فلم يبعث إليهم شيئا فمشى أبو الجهم وأبو الحميد والخادم إلى موسى بن كعب وأخبروه بالأمر وبعثوا إلى الإمام مائتي دينار مع خادمه. واتفق رأي القوّاد على لقاء الإمام فنهض موسى بن كعب وأبو الجهم عبد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وعبد الله الطائي وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل وأبو حميد وعبد الله ابن بسّام ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن حصين وسليمان بن الأسود فدخلوا على أبي العبّاس فسلّموا عليه بالخلافة وعزّوه في إبراهيم. ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم وخلفوا الباقين عند الإمام وأوصوهم إن جاء أبو سلمة لا يدخلنّ إلّا وحده وبلغه الخبر فجاء ودخل وحده كما حدوا له وسلم على أبي العباس بالخلافة وأمره بالعود إلى معسكره وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأوّل فلبسوا الصفّاح واصطفّوا للخروج إلى أبي العبّاس وأتوه بالدواب له ولمن معه من أهل بيته، وأركبوهم إلى دار الإمارة، ثم رجع إلى المسجد فخطب وصلى بالناس وبايعوه ثم صعد المنبر ثانية فقام في أعلاه وصعد عمه داود فقام دونه وخطب خطبته البليغة المشهورة وذكر حقهم في الأمر وميراثهم له، وزاد الناس في أعطياتهم، وكان موعوكا فاشتد عليه الوعك فحبس على المنبر وقام عمّه داود على أعلى المراقي فخطب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 مثله وذمّ سيرة بني أمية وعاهد الناس على إقامته الكتاب والسنّة وسيرة النبي. ثم اعتذر عن عود السفّاح بعد الصلاة إلى المنبر وأنه أراد أن لا يخلط كلام الجمعة بغيرها، وإنما قطعه عن إتمام الكلام شدّة الوعك فأدعوا الله له بالعافية. ثم بالغ في ذم مروان وشكر شيعتهم من أهل خراسان وأنّ الكوفة منزلهم لا يتخلون عنها وأنه ما صعد هذا المنبر خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار إلى السفّاح وأنّ هذا الأمر فينا ليس بخارج عنّا حتى نسلمه لعيسى بن مريم. ثم نزل أبو العبّاس وداود أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر في المسجد يأخذ البيعة على الناس حتى جنّ الليل. وخرج أبو العبّاس إلى عسكر أبي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر. وحاجب السفّاح يومئذ عبد الله بن بسّام واستخلف على الكوفة عمه داود وبعث عمه عبد الله إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور وبعث ابن أخيه موسى إلى الحسن ابن قحطبة وهو يحاصر ابن هبيرة بواسط وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس إلى أحمد ابن قحطبة بالمدائن وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسّام إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمر بن عثمان بن مالك ابن الطوّاف وأقام السفّاح بالعسكر شهرا ثم ارتحل فنزل قصر الإمارة من المدينة الهاشمية. وقد قيل إنّ داود بن عليّ وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بني العبّاس إلى الكوفة وإنهما لقياهم بدومة الجندل فعرفا خبرهم وقال لهم داود: كيف تأتون الكوفة ومروان بن محمد في حرّان في أهل الشام والجزيرة فطلّ على العراق ويزيد بن هبيرة بالعراق؟ فقال: يا عم من أحب الحياء ذلّ فرجع داود وابنه معه. مقتل إبراهيم بن الامام قد تقدّم لنا أنّ مروان حبسه بحرّان وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان والعبّاس بن الوليد بن عبد الملك وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز وأبا محمد السفياني فهلك منهم في السجن من وباء وقع بحرّان: العبّاس بن الوليد وإبراهيم بن الإمام وعبد الله بن عمر. وخرج سعيد بن هشام ومن معه من المحبوسين بعد أن قتلوا صاحب السجن فقتلهم الغوغاء من أهل حرّان وكان فيمن قتلوه شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك وعبد الملك بن بشر الثعلبي وبطريق أرمينية واسمه كوشان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس لم يستحلّ الخروج منه. ولما قدم مروان منهزما من الزاب حل عنه فيمن بقي وقيل إنّ شراحيل بن مسلمة كان محبوسا مع إبراهيم وكانا يتزاوران ويتهاديان، فدسّ في بعض الأيام إلى إبراهيم بن الإمام بلبن مسموم على لسان شراحيل فاستطلق بطنه. وقيل إنّ شراحيل قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 احتيل والله عليه، وأصبح ميتا من ليلته. هزيمة مروان بالزاب ومقتله بمصر قد ذكرنا أنّ قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور فقتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل وأنّ مروان بن محمد سار إليه من حرّان في مائة وعشرين ألفا وسار أبو عون إلى الزاب ووجه أبو سلمة عيينة بن موسى والمنهال بن قبّان [1] وإسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف مددا له. فلما بويع أبو العباس وبعث مسلمة بن محمد في ألفين وعبد الله الطائيّ في ألف وخمسمائة وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين ودراس بن فضلة [2] في خمسمائة كلهم مددا لأبي عون، ثم ندب أهل بيته إلى المسير إلى أبي عون، فانتدب عبد الله بن عليّ فسار وقدم على أبي عون فتحوّل له عن سرادقه بما فيه ثم أمر عيينة بن موسى بخمسة آلاف تعبر النهر من الزاب أوّل جمادى الأخير سنة اثنتين وثلاثين وقاتل عساكر مروان إلى المساء ورجع ففقد مروان الجسر من الغد وقدم ابنه عبد الله وعبر فبعث عبد الله بن عليّ المخارق بن غفّار في أربعة نحو عبد الله بن مروان فسرّح ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فانهزم أصحاب المخارق وأسر هو وجيء به إلى مروان مع رءوس القتلى، فقال: أنت المخارق؟ قال: لا. قال: فتعرفه في هذه الرءوس؟ قال: نعم. قال: هو ذا فخلّى سبيله وقيل بل أنكر أن يكون في الرءوس فخلّى سبيله وعاجلهم عبد الله بن عليّ بالحرب قبل أن يفشوا الخبر وعلى ميمنته أبو عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية وكان عسكره نحوا من عشرين ألفا، وقيل اثني عشر وأرسل مروان إليه في الموادعة فأبى وحمل الوليد بن معاوية بن مروان   [1] المنهال بن فتّان: ابن الأثير ج 5 ص 416. [2] وداس بن نضلة: ابن الأثير ج 5 ص 416. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وهو صهر مروان على ابنته، فقاتل أبا عون حتى انهزم إلى عبد الله بن علي فأمر الناس فارتحلوا ومشى قدما ينادي يا لثارات إبراهيم وبالأشعار يا محمد يا منصور. وأمر مروان القبائل بأن يحملوا فتخاذلوا واعتذروا حتى صاحب شرطته. ثم ظهر له الخلل فأباح الأموال للناس على أن يقاتلوا فأخذوها من غير قتال. فبعث ابنه عبد الله يصدّهم عن ذلك فتبادروا بالفرار وانهزموا وقطع مروان الجسر وكان من غرق أكثر ممن قتل. وغرق إبراهيم بن الوليد المخلوع وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام وممن قتل يحيى بن علي ابن هشام وكان ذلك في جمادى الأخيرة سنة اثنتين وثلاثين، وأقام عبد الله في عسكره سبعة أيام واجتاز عسكر مروان بما فيه وكتب بالفتح إلى أبي العبّاس السفّاح، وسار مروان منهزما إلى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمر الثعلبي وابن خزيمة الأسدي، فقطعا الجسر ومنعاه العبور إليهم وقيل هذا أمير المؤمنين فتجاهلوا وقالوا أمير المؤمنين لا يفرّ. ثم أسمعوه الشتم والقبائح فسار إلى حرّان وبها أبان ابن أخيه، وسار إلى حمص وجاء عبد الله إلى حرّان فلقيه أبو مسعود فأمنه ولقي الجزيرة. ولما بلغ مروان حمص أقام بها ثلاثا وارتحل فاتبعه أهلها لينهبوه فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وسار إلى دمشق وعليها الوليد ابن عمه فأوصاه بقتال عدوّه. وسار إلى فلسطين فنزل نهر أبي فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل إلى عبد الله ابن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره، ثم سار عبد الله بن عليّ في أثره من حرّان بعد أن هدم الدار التي حبس فيها أخوه الإمام إبراهيم. وانتهى إلى قنج [1] فأطاعه أهلها وقدم عليه أخوه عبد الصمد بعثه السفاح مددا في ثمانية آلاف وافترق قوّاد الشيعة على أبواب دمشق فحاصروها أياما ثم دخلوها عنوة لخمس من رمضان واقتتلوا بها كثيرا وقتل عاملها الوليد بن معاوية وأقام عبد الله بدمشق خمس عشرة ليلة وارتحل يريد فلسطين فأجفل مروان إلى العريش، وجاء عبد الله فنزل نهر أبي فطرس ووصله هناك كتاب السفّاح بأن يبعث صالح بن عليّ في طلب مروان. فسار صالح في ذي القعدة وعلى مقدمته أبو عون وعامر بن إسماعيل الحارثي فأجفل مروان إلى النيل ثم إلى الصعيد ونزل صالح الفسطاط وتقدّمت عساكره فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم ودلوهم على مكانه ببوصير فسار إليه أبو عون وبيته هنالك خوفا من أن   [1] منبج: ابن الأثير ج 5 ص 425. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 يفضحه الصبح فانهزم مروان وطعن فسقط في آخر ذي الحجة الحرام وقطع رأسه، وبعث به طليعة أبي عون إليه. فبعثه إلى السفّاح وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان إلى أرض الحبشة وقاتلوهم فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وبقي إلى أيام المهدي فأخذه عامل فلسطين وسجنه المهدي. وكان طليعة أبي عون عامر بن إسماعيل الحارثي فوجد نساء مروان وبناته في كنيسة بوصير قد وكل بهنّ خادما يقتلهنّ بعده بهنّ صالح ولما دخلن عليه سألنه في الإبقاء فلامهنّ على قتالهم عند بني أمية. ثم عفا عنهنّ وحملهنّ إلى حرّان يبكين. وكان مروان يلقب بالحمار لحرنه في مواطن الحرب. وكان أعداؤه ويلقبونه الجعديّ نسبة إلى الجعد بن درهم كان يقول بخلق القرآن ويتزندق. وأمر هشام خالد القسري بقتله فقتله. ثم تتبعوا بني أمية بالقتل ودخل أسديف [1] يوما على السفّاح وعنده سليمان بن هشام وقد أمّنه والده فقال: لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إنّ بين الضلوع داء دويّا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا فأمر السفاح بسليمان فقتل. ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده ثمانون أو تسعون من بني أمية يأكلون على مائدته فقال: أصبح الملك في ثبات الأساس ... بالبهاليل من بني العبّاس طلبوا أمر هاشم فنعونا ... بعد ميل من الزمان وباس لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... فاقطعن كلّ رقلة وغراس فلنا أظهر التودّد منها ... وبها منكم كحزّ المواسي فلقد غاضني وغاض سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس والقتيل الّذي بحرّان أضحى ... ثاويا رهن غربة ونعاس فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسط من فوقهم الأنطاع فأكل الطعام عليهم وأنينهم يسمع حتى ماتوا، وذلك بنهر أبي فطرس وكان فيمن قتل: محمد بن عبد الملك بن مروان والمعزّ بن يزيد وعبد الواحد بن سليمان وسعيد بن عبد الملك وأبو   [1] سديف: ابن الأثير ج 5 ص 429. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 عبيدة بن الوليد بن عبد الملك. وقيل: إنّ إبراهيم المخلوع قتل معهم، وقيل إنّ أسديفا هو الّذي أنشد هذا الشعر للسفّاح وأنه الّذي قتلهم. ثم قتل سليمان بن علي بن عبد الله بن العبّاس بالبصرة جماعة من بني أمية فأمر بأشلائهم في الطرق فأكلتهم الكلاب، وقيل إنّ عبد الله بن علي أمر بنبش قبور الخلفاء من بني أمية فلم يجدوا في القبور إلّا شبه الرماد وخيطا في قبر معاوية وجمجمة في قبر عبد الملك. وربّما وجد فيها بعض الأعضاء الا هشام بن عبد الملك فإنه وجد كما هو لم يبل، فضربه بالسوط ثم صلبه وحرقة وذرّاه في الريح، والله أعلم بصحّة ذلك. ثم تتبعوا بني أمية بالقتل فلم يفلت منهم إلا الرضعاء أو من هرب إلى الأندلس مثل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام وغيره ممن تبعه من قرابته كما يذكر في أخبارهم. بقية الصوائف في الدولة الاموية قد انتهينا بالصوائف إلى آخر أيام عمر بن عبد العزيز وفي سنة اثنتين ومائة أيام اليزيد غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقا وقتل منهم سبعمائة أسير. وغزا العبّاس بن الوليد الروم أيضا ففتحها لسنة. ثم غزا سنة ثلاث بعدها فافتتح مدينة رسلة. ثم غزا الجرّاح الحكميّ أيام هشام سنة خمس فبلغ وراء بلنجر وغنم، وغزا في هذه السنة سعيد بن عبد الملك أرض الروم وبعث ألف مقاتل في سرية فهلكوا جميعا. وغزا فيها مروان بن محمد بالصائفة اليمنى، ففتح مدينة قريبة من أرض الزوكخ. ثم غزا سعيد بن عبد الملك بالصائفة أيام هشام سنة ست. ثم غزا مسلمة بن عبد الملك الروم من الجزيرة وهو وال عليها ففتح قيساريّة. وغزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا [1] . وغزا معاوية بن هشام في البحر قبرس، وغزا سنة تسع ففتح حصنا آخر يقال له طبسة [2] . وغزا سنة عشر بالصائفة عبد الله بن عقبة الفهريّ، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج. وغزا بالصائفة اليسرى سنة إحدى عشرة معاوية بن هشام وبالصائفة اليمنى سعيد بن هشام وفي البحر عبد الله بن أبي مريم. وافتتح معاوية في   [1] فتح حصنا من حصون الروم. [2] طيبة: ابن الأثير ج 5 ص 145. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 صائفة ثلاث عشرة مدينة خرشفة [1] . وغزا سنة ثلاث عشرة عبد الله البطّال، فانهزم فثبت عبد الوهّاب من أصحابه فقتل. ودخل معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش. ثم غزا سنة أربع عشرة بالصائفة اليسرى وأصحاب ربض أفرق [2] . والتقى عبد الله البطّال مع قسطنطين، فهزمه البطّال وأسره. وغزا سليمان بن هشام بالصائفة اليسرى [3] فبلغ قيساريّة، وهزم مسلمة بن عبد الملك خاقان وباب الباب [4] . وغزا معاوية بن هشام بالصائفة سنة خمس عشرة وغزا سفيان بن هشام بالصائفة اليسرى سنة سبع عشرة. وسليمان بن هشام بالصائفة اليمنى من ناحية الجزيرة، وفرّق السرايا في أرض الروم وبعث فيها مروان بن محمد من أرمينية [5] فافتتحوا من أرض اللان آهلها أخذها قومانساه صلحا، وغزا معاوية وسليمان أيضا أرض الروم سنة ثماني عشرة. وغزا فيها مروان بن محمد من أرمينية ودخل أرض وارقيس [6] ، فهرب وارقيس إلى الحرور [7] ونازل حصنه فحاصره. وقتل وارقيس بعض من اجتاز به وبعث برأسه إلى مروان ونزل أهل الحصن على حكمه فقتل وسبى. وغزا سنة تسع عشرة مروان بن محمد من أرمينية ومرّ ببلاد اللّان إلى بلاد الخزر على بلنجر وسمندر وانتهى إلى خاقان فهرب خاقان منه. وغزا سليمان بن هشام سنة عشرين بالصائفة فافتتح سندرة وغزا إسحاق بن مسلم العقيلي قومانساه [8] وافتتح قلاعه وخرب أرضه. وغزا مروان من أرمينية سنة إحدى وعشرين وأفنى [9] قلعة بيت السرير فقتل وسبى، ثم قلعة أخرى كذلك ودخل عزسك [10] وهو حصن الملك فهرب منه الملك ودخل   [1] خرشنة: ابن الأثير ج 5 ص 171 [2] العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 179: «وفي هذه السنة (أي سنة اربع عشرة ومائة) غزا معاوية بن هشام بالصائفة اليسرى فأصاب ربض أقرف.» [3] بالصائفة اليمنى «المرجع السابق» . [4] هزم خاقان وأحكم ما هناك وبنى الباب: ابن الأثير ج 179 [5] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 186: «وفيها بعث مروان بن محمد وهو على أرمينية، بعثين وافتتح أحدهما حصونا ثلاثة من اللّان، ونزل الآخر على تومان شاه فنزل أهلها على الصلح.» [6] أرض ورنيس: ابن الأثير ج 5 ص 198 [7] الخزر: ابن الأثير ج 5 ص 198 [8] وغزا إسحاق بن سلم العقيلي تومان شاه: ابن الأثير ج 5 ص 228 [9] لعلها أتى قلعة بيت السرير [10] غوميك: ابن الأثير ج 5 ص 240 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 حصنا له يسمى جرج [1] فيه سرير الذهب فنازله مروان حتى صالحه على ألف فارس كل سنة ومائة ألف مدني [2] ثم دخل أرض أرزق ونصران [3] فصالحه ملكها. ثم أرض تومان كذلك. ثم أرض حمدين [4] فأخرب بلاده وحصر حصنا له شهرا حتى صالحه ثم أرض مسداد [5] ففتحها على صلح ثم نزل كيلان [6] فصالحه أهل طبرستان وكيلان [7] وكل هذه الولايات على شاطئ البحر من أرمينية إلى طبرستان. وغزا مسلمة بن هشام الروم في هذه السنة فافتتح بها مطامير وفي سنة اثنتين وعشرين بعدها قتل البطّال واسمه عبد الله بن الحسين الأنطاكي وكان كثير الغزو في بلاد الروم والإغارة عليهم. وقدّمه مسلمة على عشرة آلاف فارس فكان يغزو بلاد الروم إلى أن قتل هذه السنة. وفي سنة أربعة وعشرين غزا سليمان بن هشام بالصائفة على عهد أبيه فلقي أليون ملك الروم فهزمه وغنم. وفي سنة خمسة وعشرين خرجت الروم إلى حصن زنطره [8] وكان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهري وخزينة [9] الروم وبني بناء غير محكم فأخربوه ثانية أيام مروان. ثم بناه الرشيد وطرقه الروم أيام المأمون فشعبوه فأمر ببنائه وتحصينه ثم طرقوه أيام المعتصم وخبره معروف. وفي هذه السنة غزا الوليد بن يزيد بالصائفة أخاه العمر وبعث الأسود بن بلال المحاربي [10] بالجيش في البحر إلى قبرس ليجير أهلها بين الشام والروم فافترقوا فريقين، وغزا أيام مروان سنة ثلاثين بالصائفة الوليد بن هشام ونزل العمق وبنى حصن مرعش   [1] خيزج: ابن الأثير ج 5 ص 240 [2] مدي: ابن الأثير ج 5 ص 240 [3] أزر وبطران: ابن الأثير ج 5 ص 240 [4] حمزين: ابن الأثير ج 5 ص 240 [5] مداز: ابن الأثير ج 5 ص 240 [6] كيران: ابن الأثير ج 5 ص 240 [7] فصالحه أهل طبرستان وفيلان: المرجع السابق [8] زبطرة: ابن الأثير ج 5 ص 274 [9] حسب مقتضى السياق: واضربته الروم [10] اغزى الوليد أخاه الغمر بن يزيد وأمّر على جيوش البحر الأسود بن بلال المحاذيّ: ابن الأثير ج 5 ص 274. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 عمال بني أمية على النواحي استعمل معاوية أوّل خلافته سنة أربعين عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة ثم عزله واستعمل المغيرة بن شعبة على الصلاة واستعمل [1] على الخراج وكان على النقباء بها شريح وكان حمران بن أبان قد وثب على البصرة عند ما صالح الحسن معاوية فبعث معاوية بشر بن أرطاة على البصرة وأمدّه فقتل أولاد زياد بن أبيه، وكان عاملا على فارس لعليّ بن أبي طالب، فقدم البصرة وقد ذكرنا خبره مع بني زياد فيما قبل. ثم ولّى على البصرة عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس وضم إليه خراسان وسجستان فجعل على شرطته حبيب بن شهاب وعلى القضاء عميرة بن تبرى، وقد تقدّم لنا أخبار قيس في خراسان وكان عمرو بن العاص على مصر كما تقدّم، فولّى سنة إحدى وأربعين من قبله على إفريقية عقبة بن نافع بن عبد قيس، وهو ابن خالته فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوه ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى. ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين بعدها غذامس وقتل وسبى وافتتح سنة ثلاثة وأربعين بعدها بلد ودّان وولّى معاوية بالمدينة سنة اثنتين وأربعين مروان بن الحكم فاستقضى عبد الله بن الحرث بن نوفل، وولّى معاوية على مكّة في هذه السنة خالد بن العاص ابن هشام، وكان على أرمينية حبيب بن مسلمة الفهريّ وولاه عليها معاوية ومات سنة اثنتين وأربعين فولى مكانه [2] واستعمل ابن عامر في هذه السنة على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبديّ ويقال ولّاه معاوية وعزل ابن عامر في هذه السنة قيس بن الهيثم عن خراسان وولّى مكانه الحرث ابن عبد الله بن حازم. ثم عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة سنة أربع وأربعين وولّى مكانه الحرث بن عبد الله الأزدي، ثم عزله لأربعة أشهر وولّى أخاه زيادا سنة   [1] بياض بالأصل: يذكر ابن الأثير في كتاب الكامل ج 3 ص 413 خبر تولية عمرو بن العاص الكوفة وعزله عنها بدسيسة المغيرة ثم تولية المغيرة الكوفة وعزله عن الخراج واستعماله على الصلاة فقط بتحذير من عمرو بن العاص. ولم يذكر ابن الأثير من تولى أمر الخراج. وكذلك الطبري لم يذكر خبر عزله عن الخراج ج 6 ص 98. [2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 425 خبر وفاة محمد بن مسلمه بالمدينة ولم يذكر من ولي مكانه. وكذلك الطبري لم يذكر وفاته ولا من تولى بعده أمر أرمينية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 خمس وأربعين، فولّى على خراسان الحكم بن عمر الغفاريّ، وجعل معه على الخراج أسلم بن زرعة الكلابي. ثم مات الحكم فولّى خليد بن عبد الله الحنفيّ سنة سبعة وأربعين ثم ولّى على خراسان سنة ثمان بعدها غالب بن فضالة الليثيّ، وتولى عمرو بن العاص سنة تسعة وأربعين فولّى مكانه سعيد بن العاص، فعزل عبد الله بن الحرث عن القضاء واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن وفي سنة خمسين توفي المغيرة بن شعبة فضم الكوفة إلى أخيه زياد، فجاء إليها واستخلف على البصرة سمرة ابن جندب، وكان يقسم السنة بين المصريين في الإقامة نصفا بنصف وفي سنة خمسين هذه اقتطع معاوية إفريقية عن معاوية بن خديج بمصر وولّى عقبة بن نافع الفهريّ وكان مقيما ببرقة وزويلة من وقت فتحها أيام عمرو بن العاص، فأمدّه بعشرة آلاف فسار إليها وانضاف إليه من أسلم من البربر، ودوّخ البلاد وبنى بالقيروان، وأنزل عساكر المسلمين ثم استعمل معاوية على مصر وإفريقية مولاه أبا المهاجر، فأساء عزل عقبة، وجاء عقبة إلى الشام فاعتذر إليه معاوية ووعده بعمله ومات معاوية فولّاه يزيد سنة اثنتين وستين. وذكر الواقدي أن عقبة ولي سنة اثنتين وستين واستعمل أبا المهاجر فولي الأمصار، فحبس عقبة وضيّق عليه وأمره يزيد بإطلاقه فوفد عقبة فأعاده إلى عمله. فحبس أبا المهاجر وخرج غازيا وأثخن حتى قتله كسيلة كما يأتي في أخباره وفي سنة إحدى وخمسين ولّى زياد على خراسان الربيع بن زياد الحرث مكان خليد بن عبد الله الحنفي وفي سنة ثلاث وخمسين توفي زياد واستخلف على البصرة سمرة بن جندب وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد. ثم ولّى الضحاك بن قيس سنة خمس بعدها وفي هذه السنة مات الربيع بن زياد عامل خراسان قبل موت زياد واستخلفه ابنه عبد الله ومات لشهرين واستخلف خليد بن يربوع الحنفي وكان على صفا بيروز الدّيلميّ من قبل معاوية فمات سنة ثلاث وخمسين وفي سنة أربع وخمسين عزل معاوية عن المدينة سعيد بن العاص وردّ إليها مروان بن الحكم ثم عزله سنة سبعة وولّى مكانه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان وعزل سنة تسعة وخمسين عن البصرة ابن جندب وولّى مكانه عبد الله بن عمر بن غيلان، وولّى على خراسان عبيد الله بن زياد ثم ولّاه سنة خمس بعدها على البصرة مكان بن غيلان ثم ولّى على خراسان سنة ستة وخمسين سعيد بن عثمان بن عفّان وفي سنة ثمانية وخمسين عزل معاوية عن الكوفة الضحّاك بن قيس واستعمل مكانه ابن أمّ الحكم وهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 أخته، وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وطرده أهل الكوفة فولّاه مصر فردّه معاوية بن خديج وولّى مكانه على الكوفة سنة تسعة وخمسين النعمان بن بشير وولّى فيها على خراسان عبد الرحمن بن زياد فقدم إليها قيس بن الهيثم السلميّ فحبس أسلم بن زرعة فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم. ثم مات معاوية سنة ستين وولاته على النواحي من ذكرناه وعلى سجستان عبّاد بن زياد وعلى كرمان شريك بن الأعور وعزل يزيد لأوّل ولايته الوليد بن عقبة عن المدينة والحجاز وولّاها عمر بن سعيد الأشدق ثم عزله سنة إحدى وستين، وردّ الوليد بن عقبة وولّى على خراسان سالم بن زياد، فبعث سالم إليها الحرث بن معاوية الحرثي وبعث أخاه يزيد إلى سجستان وكان بها أخوهما عبّاد فخرج عنهما. وقاتل يزيد أهل كابل فهزموه، فبعث مسلم على سجستان طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعيّ فبقي سنة، وبعث سنة اثنتين وستين عقبة بن نافع إلى إفريقية فحبس أبا المهاجر، واستخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي كما نذكر في اخباره. وتوفي في هذه السنة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ أمير مصر. ثم هلك يزيد سنة أربع وستين واستخلف على أهل العراق عبيد الله بن زياد. وولّى أهل البصرة عليهم عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب ويلقب ببّة، وهرب ابن زياد إلى الشام. وجاء إلى الكوفة عامر بن مسعود من قبل ابن الزبير وبلغه خلاف أهل الري وعليهم الفرّخان فبعث عليهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب فهزموه، فبعث عتّاب بن ورقاء فهزمهم. ثم بويع مروان وسار إلى مصر فملكها من يد عبد الرحمن بن حجّام القرشيّ داعية ابن الزبير وولّى عليها عمر بن سعيد ثم بعثه للقاء مصعب بن الزبير لما بعثه أخوه عبد الله إلى الشام، وولّى على مصر ابنه عبد العزيز فلم يزل عليها واليا إلى أن هلك لسنة خمسة وثمانين، فولّى عبد الملك عليها ابنه عبد الله بن عبد الملك. وخلع أهل خراسان بعد يزيد سالم بن زياد واستخلف المهلّب بن أبي صفرة، ثم ولىّ مسلم عبد الله بن حازم فاستبدّ بخراسان إلى حين. ثم خرج أهل الكوفة عمر بن حريث خليفة بن زياد وبايعوا لابن الزبير وقدم المختار بن أبي عبيد أميرا على الكوفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 من قبله بعد ستة أشهر من مهلك يزيد، وامتنع شريح من القضاء أيام الفتنة [1] واستعمل ابن الزبير على المدينة أخاه مصعبا سنة خمس وستين مكان أخيه عبد الله وثار بنو تميم بخراسان على عبد الله بن حازم فغلبه عليها بكير بن وشّاح وغلب المختار على ابن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة سنة ست وستين (ثم مات) مروان سنة خمس وستين وولي عبد الملك. وولىّ ابن الزبير أخاه مصعبا على البصرة وولىّ مكانه بالمدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهريّ. ثم ملك عبد العزيز العراق سنة إحدى وسبعين واستعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن أسد وعلى الكوفة أخاه بشر بن مروان وكان على خراسان عبد الله بن حازم بدعوة ابن الزبير، فقام بكير بن وشّاح التميمي بدعوة عبد الملك وقتله. وولّاه عبد الملك خراسان. وكان على المدينة طلحة بن عبد الله بن عوف بدعوة ابن الزبير بعد جابر بن الأسود، فبعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان فغلبه عليها. ثم قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين وانفرد عبد الملك بالخلافة وولّى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمدا. وعزل خالد بن عبد الله عن البصرة وضمّها إلى أخيه بشر فسار إليها واستخلف على الكوفة عمر بن حريث وولىّ على الحجاز واليمن واليمامة الحجّاج بن يوسف وبعثه من الكوفة لحرب ابن الزبير وعزل طارقا عن المدينة وسار من جنده. وفي سنة أربع وسبعين استقضى أبا إدريس الخولانيّ وأمر بشر أخاه أن يبعث المهلّب بن أبي صفرة لحرب الأزارقة. وعزل عن خراسان بكير بن وشّاح وولّى مكانه أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد فبعث أمية ابنه عبد الله على سجستان. وكان على إفريقية زهير بن قيس البلوي فقتله البربر سنة تسع وستين. وشغل عبد الملك بفتنة ابن الزبير، فلما فرغ منها بعث إلى إفريقية سنة أربع وسبعين حسّان بن النعمان القيساني في عساكر لم ير مثلها، فأثخن فيها وافترقت جموع الروم   [1] بياض بالأصل: وفي الطبري ج 7 ص 66: «وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة فيها اخوه عبيدة بن الزبير وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطميّ، وعلى قضائها سعد بن ثمران، وأبي شريح ان يقضي فيها. وقال فيما ذكر عنه: انا لا أقضي في الفتنة. وعلى البصرة عمر بن عبد الله بن معمر التميمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة وعلى خراسان عبد الله بن خازم» . وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 174 لم يذكر امتناع شريح من القضاء وانما يذكر توليه عبد الله بن يزيد الخطميّ على الكوفة وعلى قضائها هشام بن هبيرة. وقد تولى القضاء بعد امتناع شريح عن القضاء في الكوفة أبا بردة بن أبي موسى كما سنعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 والبربر. وقتل الكاهنة كما يذكر في أخبار إفريقية ثم ولىّ عبد الملك سنة خمس وسبعين الحجّاج بن يوسف على العراق فقط، وولىّ على السند سعيد بن أسلم بن زرعة وقتل في حروبها، وكان أمر الخوارج وفي سنة ست وسبعين ولي على المدينة أبان ابن عثمان وكان على قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة زرارة بن أبي أوفى بعد هشام بن هبيرة وعلى قضاء المدينة عبد الله بن قشير بن مخرمة. ثم كانت حروب الخوارج كما نذكر في أخبارهم. وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أميّة بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمّهما إلى الحجّاج بن يوسف، فبعث الحجّاج على خراسان المهلّب بن أبي صفرة وعلى سجستان عبد الله بن أبي بكرة وولىّ على قضاء البصرة موسى بن أنس واستعفى شريح بن الحرث من القضاء بالكوفة فولّى مكانه أبا بردة بن أبي موسى ثم ولى على قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة وخرج عبد الرحمن بن الأشعث فملك سجستان وكرمان وفارس والبصرة ثم قتل ورجعت إلى حالها، وذلك سنة إحدى وثمانين. وفي سنة اثنتين وثمانين مات المهلّب بن أبي صفرة واستخلف ابنه يزيد على خراسان فأقرّه الحجّاج. وفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة وولىّ مكانه هشام بن إسماعيل المخزومي فعزل هشام نوفل ابن مساحق عن القضاء وولىّ مكانه عمر بن خالد الزرقيّ. وبنى الحجّاج مدينة واسط. وفي سنة خمس وثمانين عزل الحجّاج يزيد بن المهلّب عن خراسان وولىّ مكانه هشام أخاه المفضّل قليلا ثم ولى قتيبة بن مسلم وتوفي عبد الملك. وعزل الوليد لأوّل ولايته هشام بن إسماعيل عن المدينة وولّى مكانه عمر بن عبد العزيز فولّى على القضاء أبا بكر بن عمر بن حزم وولىّ الحجّاج على البصرة الجرّاح بن عبد الله الحكميّ وولىّ على قضائها عبد الله بن أذينة وعلى قضاء الكوفة أبا بكر بن أبي موسى الأشعري. وفي سنة تسع وثمانين ولىّ الوليد على مكّة خالد بن عبد الله القسريّ وكان على ثغر السند محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وهو ابن عمّ الحجاج. ففتح السند وقتل ملكه، وكان على مصر عبد الله بن عبد الملك ولّاه عليها أبوه ففل ملكها. فعزله الوليد في هذه السنة وولىّ مكانه قرّة بن شريك، وعزل خالدا عن الحجاز وولىّ عمر بن عبد العزيز. وفي سنة إحدى وتسعين عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية وولىّ مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك وكان على طندة في قاصية المغرب طارق بن زياد عاملا لمولاه موسى بن نصير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 عامل الوليد بالقيروان فأجاز البلاد والبحر إلى بلاد الأندلس وافتتحها سنة اثنتين وتسعين كما يذكر في أخبارها، وفي سنة ثلاث وتسعين عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز وولّى مكانه خالد بن عبد الله على مكّة وعثمان بن حيّان على المدينة. ومات الحجّاج سنة خمس وتسعين ثم مات الوليد سنة ست وتسعين وفيها قتل قتيبة بن مسلم لانتقاضه على سليمان وولّاها سليمان يزيد بن المهلّب وفيها مات قرّة بن شريك [1] وكان على المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم وعلى مكّة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة وفي سنة سبع وتسعين عزل سليمان بن موسى بن نصير [2] عن إفريقية وولّى مكانه محمد بن يزيد القرشيّ حتى مات سليمان فعزل واستعمل عمر مكانه إسماعيل بن عبد الله [3] وفي سنة ثمان وتسعين كان فتح طبرستان وجرجان أيام سليمان بن عبد الملك على يد يزيد ابن المهلّب وفي سنة تسع وتسعين استعمل عمر ابن عبد العزيز على البصرة عدي بن أرطاة الفزاريّ، وأمره بإبقاء يزيد بن المهلّب موثوقا فولّى على القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري ثم إياس بن معاوية وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطّاب. وولّى على المدينة عبد العزيز بن أرطاة وولّى على خراسان الجرّاح بن عبد الله الحكمي. ثم عزل سنة مائة وولّى عبد الرحمن بن نعيم القرشي وولّى على الجزيرة عمر بن هبيرة الفزاري، وعلى إفريقية إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم وعلى الأندلس السمح بن مالك الخولانيّ. ثم في سنة إحدى ومائة عزل إسماعيل عن إفريقية وولّاها يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجّاج، فلم يزل عليها إلى أن قتل. وفي سنة اثنتين ومائة ولي يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على العراق وخراسان فولّى على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحرث ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة ويقال له سعيد خدينة. ثم استحيا من مسلمة في أمر الجرّاح فعزله وولّى مكانه ابن يزيد بن هبيرة، فجعل على قضاء الكوفة القاسم   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 20: «وفي هذه السنة (96) مات قرّة بن شريك العبسيّ أمير مصر في صفر، وقيل مات سنة خمس وتسعين في الشهر الّذي مات فيه الحجّاج» . [2] العبارة غير صحيحة. وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 23: «وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية واستعمل عليها محمد بن يزيد القرشي» . [3] إسماعيل بن عبيد الله: ابن الأثير (المرجع السابق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى. وكان على مصر أسامة بن زيد، وليها بعد قرّة بن شريك وولّى ابن هبيرة على خراسان سعيدا الحريشيّ مكان حذيفة. وفي سنة ثلاث ومائة جمع يزيد مكّة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحّاك، وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد عن مكّة وعن الطائف وولّى مكانه على الطائف عبد الواحد بن عبد الله البصري. وفي سنة أربع ومائة ولّى يزيد على أرمينية الجرّاح بن عبد الله الحكمي وعزل عبد الرحمن بن الضحّاك عن مكّة والمدينة لثلاث سنين من ولايته، وولّى عليهما مكانه عبد الواحد النصري [1] وعزل ابن هبيرة سعيد الحريشيّ عن خراسان وولّى عليها مسلم بن سعيد ابن أسلم بن زرعة الكلابي، وولّى على قضاء الكوفة الحسين بن حسين الكندي. ومات يزيد بن عبد الملك سنة خمس وولي هشام فعزل ابن هبيرة عن العراق وولّى مكانه خالد بن عبد الله القسري، واستعمل خالد على خراسان أخاه أسدا سنة سبع ومائة. وعزل مسلم بن سعيد وولّى على البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس. وولّى على السند الجنيد بن عبد الرحمن. واستعمل هشام على الموصل الحرّ بن يوسف، وعزل عبد الواحد النصري عن الحجاز، وولّى مكانه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، واستقضى بالمدينة محمد بن صفوان الجمحيّ، ثم عزله واستقضى الصّلت الكندي. وعزل الجرّاح بن عبد الله عن أرمينية وأذربيجان وولّى مكانه أخاه مسلمة، فولّى عليها الحرث ابن عمر الطائي. وكان على اليمن سنة ثمان يوسف بن عمر، وفي سنة تسع عزل خالد أخاه أسدا عن خراسان وولّى هشام عليها أشرس بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالدا بعد أن كان خالد ولّى الحكم بن عوانة الكلبي مكان أخيه، فلم يقرّ فعزله هشام. ومات في سنة تسع عامل القيروان بشر بن صفوان، فولى هشام مكانه عبيدة بن عبد الرحمن بن الأغرّ السلمي فعزل عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس، واستعمل حذيفة بن الأخوص الأشجعيّ. ثم عزل لستة أشهر ووليها عثمان بن أبي نسعة الخثعميّ وفي سنة عشر ومائة جمع خالد الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بردة وعزل تمامة عن القضاء. وفي سنة إحدى عشرة عزل هشام عن خراسان أشرس بن عبد الله وولّى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن الحرث بن خارجة بن   [1] وفي نسخة اخرى: البصري وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 113: النضريّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 سنان بن أبي حارثة المرّي وولّى على أرمينية الجرّاح بن عبد الله الحكمي وعزل مسلمة. وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن عامل إفريقية وعثمان بن أبي تسعة عن الأندلس، وولّى مكانه الهيثم بن عبيد الكناني. وفي سنة اثنتي عشرة قتل الجرّاح بن عبد الله صاحب أرمينية قتله التركمان، فولّى هشام مكانه سعيدا الحريشيّ. ومات الهيثم عامل الأندلس وولّوا على أنفسهم مكانه محمد بن عبد الله الأشجعي شهرين وبعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقيّ من قبيل ابن عبد الرحمن السلمي عامل إفريقية. وغزا إفرنجة فاستشهد، فولّى عبيدة مكانه عبد الملك بن قطن الفهري وعزل عبيدة عن إفريقية وولّى مكانه عبيد الله بن الحجاب، وكان على مصر فسار إليها. وفي سنة أربع عشرة عزل هشام مسلمة عن أرمينية وولّى مكانه مروان بن محمد بن مروان. وعزل إبراهيم بن هشام عن الحجاز وولّى مكانه على المدينة خالد بن عبد الملك بن الحرث بن الحكم، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام المخزوميّ. وفي سنة ست عشرة ومائة عزل هشام الجنيد بن عبد الرحمن المرّي عن خراسان وولّى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلاليّ. وفيها استعمل عبد الله بن الحجاب على الأندلس عقبة بن الحجّاج القيسي مكان عبد الملك بن قطن ففتح خليتيه [1] وفي سنة سبع عشرة ومائة عزل هشام عاصم بن عبد الله عن خراسان وولّى مكانه خالد بن عبد الله القسري فاستخلف خالد أخاه أسدا. وولّى هشام على إفريقية والأندلس عبيد الله بن الحجاب وكان على مصر فسار اليها واستخلف على مصر ولده وولّى على الأندلس عقبة بن الحجّاج وعلى طنجة ابنه إسماعيل وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان وفتح وغنم. وأغزاه إلى صقلّيّة سنة اثنتين وعشرين ومائة ففتح أكثرها ثم واستدعاه لفتنة ميسرة كما نذكره في أخبارهم وفي سنة ثمان عشرة عزل هشام عن المدينة خالد بن عبد الملك بن الحرث وولّى مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل. وفي سنة عشرين مات أسد بن عبد الله الخراسانيّ وولي مكانه نصر بن سيّار. وعزل هشام خالد القسري عن جميع أعماله بالعراقين وخراسان وولّى مكانه يوسف بن عمر الثقفي   [1] وفيها استعمل عبد الله بن الحجاب عطيّة بن الحجّاج القيسيّ على الأندلس فسار اليها ووليها في شوّال من هذه السنة وعزل عبد الملك بن قطن، وكان له كلّ سنة غزاة، وهو الّذي افتتح جليقية والبتة وغيرهما. (ابن الأثير ج 5 ص 185) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 استقدمه إليها من ولاية اليمن، فأقرّ نصر بن سيّار على خراسان، وكان على قضاء الكوفة ابن شرمة [1] وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة وولّى يوسف بن عمر بن شرمة على سجستان واستقضى مكانه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وكان على قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرّة فمات في هذه السنة وفي سنة ثلاث وعشرين قتل كلثوم بن عيّاض الّذي حثه هشام لقتال البربر بالمغرب وتوفي عقبة بن الحجّاج أمير الأندلس وقيل بل خلعوه، وولّى مكانه عبد الملك بن قطن ولايته الثانية كما يذكر. وفي سنة أربع وعشرين ظهر أمر أبي مسلم بخراسان. وتلقب بلخ [2] على الأندلس ثم مات وكان سار إليها من فل كلثوم بن عيّاض لما قتله البربر بالمغرب وولّى هشام على الأندلس أبا الخطّار حسام بن ضرار الكلبي فأمر حنظلة بن صفوان أن يوليه فولّاه وكان ثعلبة بن خزامة سلامة الجرابي قد ولوه بعد بلج فعزله أبو الخطار. وفي هذه السنة ولّى الوليد بن يزيد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفيّ على الحجاز فأسره ثم قتل الوليد سنة ست وعشرين فعزل يزيد عن العراق يوسف بن عمر وولّى مكانه منصور ابن جمهور، فبعث عامله على خراسان فامتنع نصر بن سيّار من تسليم العمل له. ثم عزل يزيد منصور بن جمهور وولّى مكانه على العراق عبد الله بن عمر ابن عبد العزيز، وغلب حنظلة على إفريقية عبد الرحمن بن حبيب كما يذكر في خبرها. وعزل يزيد عن المدينة يوسف بن محمد بن يوسف، وولّى مكانه عبد العزيز ابن عمر بن عثمان، وغلب سنة سبع وعشرين عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على الكوفة، وولّى مروان على الحجاز عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعلى العراق النضر بن سعيد الحريشيّ. وامتنع ابن عمر من استلام العمل إليه ووقعت الفتنة بينهم. ولحق ابن عمر بالخوارج كما يذكر في أخبارهم واستولى بنو العبّاس على خراسان. وفي سنة تسع وعشرين ولي يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ على الأندلس بعد نوّابة بن سلامة كما يأتي في أخبارهم. وولّى مروان على الحجاز عبد الواحد [3] وعلى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة وفي سنة ثلاثين ملك أبو مسلم   [1] ابن شبرمة (ابن الأثير ج 5 ص 228) وفي نسخة اخرى شبرمة. [2] هو بلج (ابن الأثير ج 5 ص 259) . [3] عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك: ابن الأثير ج 5 ص 373. وفي الطبري ج 9 ص 96: «وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن ودان» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 خراسان وهرب عنها نصر بن سيّار فمات بنواحي همذان سنة إحدى وثلاثين وجاء المسوّدة عليهم قحطبة فطلبوا ابن هبيرة على العراق وملّكوه وبايعوا خليفتهم أبا العبّاس السفّاح. ثم غلبوا مروان على الشام ومصر وقتلوه. وانقرض أمر بني أمية وعاد الأمر والخلافة لبني العبّاس والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده وهذه أخبار بني أمية مخلصة [1] من كتاب أبي جعفر الطبري ولنرجع إلى أخبار الخوارج كما شرطنا في أخبارها بالذكر، والله المعين لا ربّ غيره. الخبر عن الخوارج وذكر أوّليتهم وتكرّر خروجهم في الملة الإسلامية قد تقدّم لنا خبر الحكمين في حرب صفين واعتزل الخوارج عليا منكرين للتحكيم مكفّرين به ولاطفهم في الرجوع عن ذلك وناظرهم فيه بوجه الحق فلجّوا وأبوا إلا الحرب وجعلوا أشعارهم النداء بلا حكم إلا للَّه وبايعوا عبد الله ابن وهب الراسبي وقاتلهم عليّ بالنهروان فاستلحمهم أجمعين ثم خرج من فلّهم طائفة بالأنبار فبعث إليهم من استلحمهم ثم طويفة أخرى مع هلال بن عليّة فبعث معقل بن قيس فقتلهم. ثم أخرى ثالثة كذلك، ثم أخرى على المدائن كذلك، ثم أخرى بشهرزور كذلك، وبعث شريح بن هانئ فهزموه فجرح واستلحمهم أجمعين، واستأمن من بقي فأمّنهم وكانوا نحو خمسين. وافترق شمل الخوارج ثم اجتمع من وجدانهم الثلاثة الذين توعدوا [2] لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فقتل بالسهم عبد الرحمن بن ملجم عليّا رضى الله عنه وباء بإثمه وسلم الباقون، ثم اتفقت الجماعة على بيعة معاوية سنة إحدى وأربعين واستقل معاوية بخلافة الإسلام. وقد كان فروة بن نوفل الأشجعي اعتزل عليّا والحسن ونزل شهرزور وهو في خمسمائة من الخوارج فلما بويع معاوية قال فروة لأصحابه: قد جاء الحق فجاهدوا وأقبلوا فنزلوا النخيلة عند الكوفة فاستنفر معاوية أهل الكوفة فخرجوا لقتالهم، وسألوا أهل الكوفة أن يخلوا بينهم وبين معاوية فأبوا فاجتمعت أشجع على فروة وأتوا له من القتال   [1] لعلها ملخصة. [2] الأصح: تواعدوا أي اتفقوا على ميعاد، بينما هنا تعني تهددوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ودخلوا الكوفة قهرا [1] واستعمل الخوارج بعده عبد الله بن أبي الحريشيّ من طيِّئ وقاتلوا أهل الكوفة فقاتلوا وابن أبي الحريشيّ معهم ثم اجتمعوا بعده على حوثرة بن وداع الأسدي وقدموا إلى النخيلة في مائة وخمسين ومعهم فلّ ابن أبي الحريشيّ. وبعث معاوية إلى حوثرة أباه ليردّه عن شأنه فأبى، فبعث إليهم عبد الله بن عوف في معسكر فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين دخلوا الكوفة وتفرّقوا فيها، وذلك في جمادى الأخيرة سنة إحدى وأربعين. وسار معاوية إلى الشام وخلف المغيرة بن شعبة فعاد فروة ابن نوفل الأشجعي إلى الخروج فبعث إليه المغيرة خيلا عليها ابن ربعي ويقال معقل ابن قيس فلقيه بشهرزور فقتله ثم بعث المغيرة إلى شبيب بن أبجر من قتله، وكان من أصحاب ابن ملجم وهو الّذي أتى معاوية يبشّره بقتل عليّ فخافه على نفسه وأمر بقتله فتنكّر بنواحي الكوفة إلى أن بعث المغيرة من قتله ثم بلغ المغيرة أنّ بعضهم يريد الخروج وذكر له معن بن عبد الله المحاربي فحبسه ثم طالبه بالبيعة لمعاوية فأبى فقتله. ثم خرج على المغيرة أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب فأخرج معه النساء، فبعث المغيرة من قتله وأصحابه ثم حكم أبو ليلى في المسجد بمشهد الناس وخرج في اثنين من الموالي فأتبعه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسور الكوفة سنة اثنتين وأربعين ثم خرج على ابن عامر في البصرة سهم بن غانم الجهنيّ في سبعين رجلا منهم الحطيم وهو يزيد بن حالك الباهليّ، ونزلوا بين الجسرين والبصرة ومرّ بهم بعض الصحابة منقلبا من الغزو فقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه، وقالوا: هؤلاء كفرة وخرج إليهم ابن عامر فقتل منهم عدّة وأمّن باقيهم ولما أتى زياد البصرة سنة خمس وأربعين هرب منهم الحطيم إلى الأهواز وجمع ورجع إلى البصرة فافترق عنه أصحابه فاختفى وطلب الأمان من زياد فلم يؤمنه ثم دل عليه فقتله وصلبه بداره. وقيل بل قتله عبد الله بعد زياد سنة أربع وخمسين. ثم اجتمع الخوارج بالكوفة على المستورد بن عقلة التيمي من تيم الرباب وعلى حيّان بن ضبيان السلمي وعلى معاذ بن جوين الطائي. وكلهم من فلّ النهروان الذين ارتموا في القتلى ودخلوا الكوفة بعد مقتل عليّ واجتمعوا في أربعمائة في منزل حيّان بن ضبيان وتشاوروا في الخروج، وتدافعوا الإمارة. ثم اتفقوا على المستورد وبايعوه في جمادى الأخيرة وكبسهم المغيرة في منزلهم فسجن حيّان وأفلت   [1] المعنى غير واضح وفي نسخة اخرى: «فاجتمعت أشجع على فروة فوعظوه فلم يرجع فأخذوه قهرا وأدخلوه الكوفة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 المستورد فنزل الحيرة واختلف إليه الخوارج. وبلغ المغيرة خبرهم فخطب الناس وتهدّد الخوارج فقام إليه معقل بن قيس فقال: ليكفك كل رئيس قومه. وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس وكان عالما بمنزلهم عند سليم بن مخدوج العبديّ إلا أنه لا يسلم عشيرته، فخرجوا ولحقوا بالصراة في ثلاثمائة فجهّز إليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف وجعل معظمهم من شيعة عليّ، وخرج معقل في الشيعة وجاء الخوارج ليعبروا النهر إلى المدائن فمنعهم عاملها سمّال بن عبد العبسيّ ودعاهم إلى الطاعة على الأمان فأبوا فساروا إلى المذار. وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فبعث شريك بن الأعور الحارثيّ في ثلاثة آلاف من الشيعة وجاء معقل بن قيس إلى المدائن وقد ساروا إلى المذار، فقدّم بين يديه أبا الرواع الشاكريّ في ثلاثمائة، وسار ولحقهم أبو الرواع بالمذار فقاتلهم. ثم لحقه معقل بن قيس متقدّما أصحابه عند المساء فحملت الخوارج عليه فثبت وباتوا على تعبية، وجاء الخبر إلى الخوارج بنهوض شريك بن الأعور من البصرة فأسروا من ليلتهم راجعين وأصبح معقل واجتمع بشريك وبعث أبا الرواع في أتباعهم في ستمائة فلحقهم بجرجان فقاتلهم فهزمهم إلى ساباط وهو في اتباعهم. ورأى المستورد أن هؤلاء مع أبي الرواع حماة أصحاب معقل فتسرب عنهم إلى معقل وأبو الرواع في اتباعه ولما لحق بمعقل قاتلهم قتالا وأدركهم أبو الرواع بعد أن لقي كثيرا من أصحاب معقل منهزمين فردّهم واقتتلوا قتالا شديدا، وقتل المستورد معقلا طعنه بالرمح فأنفذه وتقدّم معقل والرمح فيه إلى المستورد فقسم دماغه بالسيف وماتا جميعا. وأخذ الراية عمر بن محرز بن شهاب التميمي بعهد معقل بذلك. ثم حمل الناس على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم إلا خمسة أو ستة. وعند ابن الكلبي أنّ المستورد من تيم من بني رباح. خرج بالبصرة أيام زياد قريب الأزدي ورجاف الطائي ابنا الخالة، وعلى البصرة سمرة بن جندب وقتلوا بعض بني ضبّة فخرج عليهم شبان من بني عليّ وبني راسب فرموهم بالنبل، وقتل قريب وجاء عبد الله بن أوس الطائي برأسه واشتد زياد في أمر الخوارج وسمرة وقتلوا منهم خلقا. ثم خرج سنة اثنتين وخمسين على زياد بن حراش العجليّ في ثلاثمائة بالسواد فبعث اليهم زياد سعد بن حذيفة في خيل فقتلوهم، وخرج أيضا أصحاب المستورد حيّان بن ضبيان ومعاذ من طيِّئ فبعث إليهما من قتلهما وأصحابهما. وقيل بل استأمنوا وافترقوا. ثم اجتمع بالبصرة سنة ثمان وخمسين سبعون رجلا من الخوارج من عبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 القيس وبايعوا طواف بن [1] على أن يفتكوا بابن زياد، وكان سبب ذلك أنّ ابن زياد حبس جماعة من الخوارج بالبصرة وحملهم على قتل بعضهم بعضا وخلى سبيل القاتلين ففعلوا وأطلقهم، وكان منهم طوّاف ثم ندموا وعرضوا على أولياء المقتولين القود والدية فأبوا، وأفتاهم بعض علماء الخوارج بالجهاد لقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا من بَعْدِ ما فُتِنُوا 16: 110 الآية، فاجتمعوا للخروج كما قلنا. وسعى بهم إلى ابن زياد فاستعجلوا الخروج وقتلوا رجلا ومضوا إلى الجلحاء كما قلنا. فندب ابن زياد الشرط والمحاربة فقاتلوهم. فانهزم الشرط أوّلا ثم كثرهم الناس فقتلوا عن آخرهم. واشتد ابن زياد على الخوارج وقتل منهم جماعة كثيرة منهم: عروة بن أدبة أخو مرداس وأدبة أمهما وأبوهما جرير بن تميم. وكان وقف على ابن زياد يوما يعظه فقال أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 26: 128 الآيات؟ فظن ابن زياد أنّ معه غيره فأخذه وقطعه وقتل ابنيه. وكان أخوه مرداس من عظمائهم وعبّادهم وممن شهد النهروان بالاستعراض ويحرّم خروج النساء ولا يرى بقتال من لا يقاتله. وكانت امرأته من العابدات من بني يربوع وأخذها ابن زياد فقطعها. والحّ ابن زياد في طلب الخوارج وقتلهم وخلّى سبيل مرداس من بينهم لما وصف له من عبادته، ثم خاف فخرج إلى الأهواز وكان يأخذ مال المسلمين إذا مرّ به فيعطي منه أصحابه ويرد الباقي. وبعث ابن زياد إليهم أسلم بن زرعة الكلابي في الغي رجل ودعاهم إلى معاودة الجماعة فأبوا وقاتلوهم فهزموا أسلم وأصحابه فسرّح إليهم ابن زياد عبّاد بن علقمة المازنيّ. ولحقهم بتوج وهم يصلون فقتلهم أجمعين ما بين راكع وساجد لم يتغيروا عن حالهم ورجع إلى البصرة برأس أبي بلال مرداس فرصده عبيدة بن هلال في ثلاثة نفر عند قصر الإمارة ليستفتيه فقتلوه واجتمع عليهم الناس فقتلوا منهم وكان على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة فأمره زياد بتتبع الخوارج إلى أن تقدّم فحبسهم، وأخذ الكفلاء على بعضهم وأتى بعروة بن أدبة فقال أنا كفيلك وأطلقه. ولما جاء ابن زياد قتل المحبوسين منهم والمكفولين، وطالب ابن أبي بكرة بعروة بن أدبة فبحث عنه حتى ظفر به وجاء به إلى ابن زياد فقطعه وصلبه سنة ثمان وخمسين. ثم مات يزيد واستفحل أمر ابن الزبير بمكة وكان الخوارج لما اشتدّ عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال مرداس أشار عليهم   [1] ضوّاف بن غلّاق: ابن الأثير ج 3 ص 516 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 نافع بن الأزرق منهم باللحاق بابن الزبير لجهاد عساكر يزيد لما ساروا إليه قالوا: وإن لم يكن على رأينا داحضا عن البيت وقاموا يقاتلون معه فلما مات يزيد وانصرفت العساكر كشفوا عن رأي ابن الزبير فيهم وجاءوه يرمون من عثمان ويتبرّءون منه فصرّح بمخالفتهم. وقال بعد خطبة طويلة أثنى فيها على الشيخين وعليّ وعثمان واعتذر عنه فيما يزعمون، وقال: أشهدكم ومن حضرني أني وليّ لابن عفّان وعدوّ لأعدائه قالوا: فبرئ الله منك قال بل بريء الله منكم فافترقوا عنه. وأقبل نافع بن الأزرق الحنظليّ وعبد الله بن صفّار السعديّ وعبد الله بن أباض، وحنظلة بن بيهس وبنو الماخور: عبد الله وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع وكلهم من تميم، حتى أتوا البصرة وانطلق أبو طالوت عن بني بكر بن وائل وأبو فديك عبد الله بن نور بن قيس ابن ثعلبة وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة فوثبوا بها مع أبي طالوت. ثم تركوه ومالوا عنه إلى نجدة ابن عامر الحنفيّ. ومن هنا افترقت الخوارج على أربع فرق: الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنظليّ وكان رايه البراءة من سائرة المسلمين وتكفيرهم والاستعراض وقتل الأطفال واستحلال الأمانة لأنه يراهم كفّارا. والفرقة الثانية النجديّة وهم بخلاف الأزارقة في ذلك كلّه. والفرقة الثالثة الإباضيّة أصحاب عبد الله بن إباض المريّ وهم يرون أنّ المسلمين كلهم يحكم لهم بحكم المنافقين فلا ينتهون إلى الرأي الأوّل ولا يقفون عند الثاني ولا يحرّمون مناكحة المسلمين ولا موارثتهم ولا المنافقين فيهم وهم عندهم كالمنافقين، وقول هؤلاء أقرب إلى السنّة ومن هؤلاء البيهسيّة أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعيّ. والفرقة الرابعة الصفريّة وهم موافقون للأباضية إلا في العقدة فإنّ الإباضية أشد على العقدة منهم. وربما اختلفت هذه الآراء من بعد ذلك واختلف في تسمية الصفريّة فقيل نسبوا إلى ابن صفّار وقيل اصفروا بما نهكتهم العبادة وكانت الخوارج من قبل هذا الافتراق على رأي واحد لا يختلفون إلا في الشاذ من الفروع. وفي أصل اختلافهم هذا مكاتبات بين نافع بن الأزرق وأبي بيهس وعبد الله بن إباض ذكرها المبرد في كتاب الكامل فلينظر هناك، (ولما جاء نافع) إلى نواحي البصرة سنة أربع وستين فأقام بالأهواز يعترض الناس وكان على البصرة عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب، فسرّح إليه مسلم عبس بن كويز بن ربيعة من أهل البصرة بإشارة الأحنف ابن قيس، فدافعه عن نواحي البصرة وقاتله بالأهواز، على ميمنة مسلم الحجّاج بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر العدابي، وعلى ميمنة ابن الأزرق عبيدة بن هلال وعلى ميسرته الزبير بن الماخور التميمي. فقتل مسلم ثم قتل نافع فأمّر أهل البصرة عليهم الحجّاج بن باب والخوارج عبد الله بن الماخور ثم قتل الحجّاج، وعبد الله فأمّر أهل البصرة ربيعة بن الاخدم [1] والخوارج عبيد الله بن الماخور. ثم اقتتلوا حتى أمسوا، وجاء إلى الخوارج مدد فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتل ربيعة وولّوا مكانه حارثة بن بدر فقاتل وردّهم على الأعقاب ونزل الأهواز. ثم عزل عن البصرة عبد الله بن الحرث وبعث ابن الزبير عليها الحرث القبّاع بن أبي ربيعة فزحف الخوارج إلى البصرة، وأشار الأحنف بن قيس بتولية المهلّب حروبهم، وقد كان ابن الزبير ولّاه خراسان، فكتبوا لابن الزبير بذلك فأجاب، واشترطوا للمسلم ما سأل من ولاية ما غلب عليه، والإعانة بالأموال، فاختار من الجند اثني عشر ألفا وسار إليهم فدفعهم عن الجسر. وجاء حارثة بن بدر بمن كان معه في قتال الخوارج، فردّهم الحرث إلى المهلّب وركب حارثة البحر يريد البصرة فغرق في النهر. وسار المهلّب وعلى مقدمته ابنه المغيرة فقاتلهم المقدمة ودفعوهم عن سوق الأهواز إلى مادر. ونزل المهلّب بسولاف وقاتله الخوارج وصدقوا الحملة فكشفوا أصحاب المهلّب ثم ترك من الغد قتالهم وقطع دجيل ونزل العقيل ثم ارتحل فنزل قريبا منهم وخندق عليه وأذكى العيون والحرس. وجاء منهم عبيدة بن هلال والزبير بن الماخور في بعض الليالي ليبيّتوا عسكر المهلّب فوجدوهم حذرين وخرج إليهم المهلب من الغد في تعبية والأزد وتميم في ميمنته، وبكر وعبد القيس في ميسرته، وأهل العالية في القلب. وعلى ميمنة الخوارج عبيدة بن هلال اليشكريّ، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماخور واقتتلوا ونزل الصبر. ثم شدّوا على الناس فأجفل عسكر المهلّب وانهزم وسبق المنهزمين إلى ربوة ونادى فيهم فاجتمع له ثلاثة آلاف أكثرهم من الأزد، فرجع بهم وقصد عسكر الخوارج واشتدّ قتالهم ورموهم بالحجارة، وقتل عبد الله بن الماخور [2] وكثير منهم وانكفؤا راجعين إلى كرمان وناحية أصبهان منهزمين، واستخلفوا عليهم الزبير ابن الماخور [3] وأقام المهلّب بمكانه حتى جاء مصعب بن الزبير أميرا على البصرة وعزل   [1] وفي نسخة ثانية: ربيعة بن الأخزم. [2] عبد الله بن الماخور: ابن الأثير ج 4 ص 199 [3] الزبير بن الماخور: ابن الأثير ج 4 ص 200 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 المهلب. (وأمّا نجدة) وهو نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيّار [1] بن مفرّج الحنفيّ. وكان مع نافع بن الأزرق، فلما افترقوا سار إلى اليمامة ودعا أبو طالوت إلى نفسه، وهو من بكر بن وائل وتابعه نجدة ونهب الحضارم بلد بني حنيفة وكان فيها رقيق كثير يناهز أربعة آلاف فقسّمها في أصحابه، وذلك سنة خمس وستين. واعترض عيرا من البحرين جاءت لابن الزبير فأخذها وجاء بها إلى أبي طالوت فقسّمها بين أصحابه. ثم رأى الخوارج أن نجدة خير لهم من أبي طالوت فخالفوه وبايعوا نجدة وسار إلى بني كعب بن ربيعة فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع نجدة إلى اليمامة في ثلاثة آلاف، ثم سار إلى البحرين سنة سبع وستين فاجتمع أهل البحرين من عبد القيس وغيرهم على محاربته. وسالمته الأزد والتقوا بالعطيف فانهزمت عبد القيس وأثخن فيهم نجدة وأصحابه وأرسل سرية إلى الخط فظفروا بأهله. ولما قدم مصعب بن الزبير البصرة سنة تسع وستين بعث عبد الله بن عمر الليثي الأعور في عشرين ألفا [2] ونجدة بالعطيف فقاتلوهم وهزمهم نجدة وغنم ما في عسكرهم وبعث عطية بن الأسود الحنفي من الخوارج إلى عمان وبها عبّاد ابن عبد الله شيخ كبير فقاتله عطيّة فقتله وأقام أشهرا وسار عنها، واستخلف عليها بعض الخوارج فقتله أهل عمان وولّوا عليهم سعيدا وسليمان ابني عبّاد. ثم خالف عطيّة نجدة وجاء إلى عمان فامتنعت منه، فركب البحر إلى كرمان وأرسل إليه المهلّب جيشا فهرب إلى سجستان ثم إلى السند فقتله خيل المهلّب بقندابيل. ثم بعث نجدة المعرفين إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير فقاتلوا بني تميم بكاظمة وأعانهم أهل طويلع فبعث نجدة من استباحهم وأخذ منهم الصدقة كرها. ثم سار إلى صنعاء فبايعوه وأخذ الصدقة من مخالفيها. ثم بعث أبا فديك إلى حضرموت فأخذ الصداقة منهم. وحج سنة ثمان وستين في تسعمائة رجل وقيل في ألفين، ووقف ناحية عن ابن الزبير على صلح عقد بينهما. ثم سار نجدة إلى المدينة وتأهبوا لقتاله، فرجع إلى الطائف وأصاب بنتا لعبد الله بن عمر بن عثمان فضمّها إليه وامتحنه الخوارج بسؤاله بيعها فقال: قد أعتقت نصيبي منها. قالوا: فزوّجها، قال: هي أملك بنفسها، وقد كرهت الزواج ولما قرب من الطائف جاءه عاصم بن عروة بن مسعود فبايعه عن قومه وولّى عليهم الخازرق وعلى يبانة والسراة. وولّى على   [1] بن ساد: ابن الأثير ج 4 ص 201 [2] عبد الله بن عمير الليثي الأعور في اربعة عشر الفا: ابن الأثير ج 4 ص 202 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ما يلي نجران سعد الطلائع، ورجع إلى البحرين وقطع الميرة عن الحرمين. وكتب إليه ابن عبّاس أنّ ثمامة بن أشاك [1] لما أسلم قطع الميرة عن مكة وهم مشركون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة فخلّاها لهم، وانك قطعت الميرة ونحن مسلمون فخلّاها لهم نجدة. ثم اختلف إليه أصحابه لأنّ أبا سنان حييّ بن وائل أشار عليه بقتل من أطاعه تقية، فانتهره نجدة وقال: إنما علينا أن نحكم بالظاهر. وأغضبه عطية في منازعة جرت بينهما على تفضيله لسرية البرّ على سرية البحر في الغنيمة فشتمه نجدة فغضب وسأله في درء الحدّ في الخمر عن رجل من شجعانهم فأبى، وكاتبه عبد الملك في الطاعة على أن يولّيه اليمامة ويهدر له ما أصاب من الدماء فاتّهموه في هذه المكاتبة ونقموا عليه أمثال هذه، وفارقه عطية إلى عمان. ثم انحازوا عنه وولّوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور أحد بني قيس بن ثعلبة واستخفى نجدة وألح أبو فديك في طلبه وكان مستخفيا في قرية من قرى حجر. ثم نذر به فذهب إلى أخواله من تميم وأجمع المسير إلى عبد الملك، فعلم به أبو فديك، وجاءت سرية منهم وقاتلهم فقتلوه. وسخط قتله جماعة من أصحاب أبي فديك وأعتمده مسلم بن جبير فطعنه اثنتي عشر طعنة وقتل مسلم لوقته، وحمل أبو فديك إلى منزله، ثم جاء مصعب إلى البصرة سنة ثمان وستين واليا على العراقين عن أخيه، وكان المهلّب في حرب الأزارقة فأراد مصعب أن يولّيه بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية، ليكون بينه وبين عبد الملك فاستقدمه من فارس وولّاه، وولّى على فارس وحرب الأزارقة عمر بن عبد الله بن معمر. وكان الخوارج قد ولّوا عليهم بعد قتل عبد الله بن الماخور سنة خمس وستين أخاه الزبير فجاءوا به إلى إصطخر، وقدم عمر ابنه عبيد الله إليهم فقتلوه ثم قاتل الزبير عمر فهزمهم وقتل منهم سبعون. وفلق قطري بن الفجاءة وشتر صالح بن مخراق وساروا إلى نيسابور، فقاتلهم عمر بها وهزمهم، فقصدوا أصبهان فاستحموا بها. ثم أقبلوا إلى فارس وتجنّبوا عسكر عمر ومروا على ساجور ثم أرّجان، فأتوا الأهواز قاصدين العراق. وأغذ عمر السير في أثرهم، وعسكر مصعب عند الجسر. فسار الزبير بالخوارج فقطع أرض صرصر وشنّ الغارة على أهل المدائن يقتلون الولدان والرجال، ويبقرون بطون الحبالى، وهرب صاحب المدائن عنها وانتهت جماعة منهم إلى الكرخ، فقاتلهم أبو   [1] ثمامة بن أثال: ابن الأثير ج 4 ص 204 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 بكر بن مخنف فقتلوه وخرج أمير الكوفة وهو الحرث بن أبي ربيعة القبّاع حتى انتهى إلى الصراة ومعه إبراهيم بن الأشتر وشبيب بن ربعي، وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحرث ومحمد بن عمير، وأشاروا عليه بعقد الجسر والعبور إليهم، فانهزموا إلى المدائن. وأمر الحرث عبد الرحمن ابن مختف باتباعهم في ستة آلاف إلى حدود أرض الكوفة، فانتهوا إلى الري وعليها يزيد بن الحرث بن دويم الشّيبانيّ وما والاهم عليه أهل الري فهزموه وقتلوه. ثم انحطوا إلى أصبهان وبها عتاب بن ورقاء فحاصروه أشهرا وكان يقاتلهم على باب المدينة ثم دعا إلى الاستماتة في قتالهم فخرجوا وقاتلوهم، وانهزمت الخوارج وقتل الزبير واحتووا على معسكرهم. ثم بايع الخوارج قطري بن الفجاءة المازنيّ ويكنى أبا نعامة وارتحل بهم إلى كرمان حتى استجمعوا فرجعوا إلى أصبهان فامتنعت، فأتوا الأهواز وقاموا. وبعث مصعب إلى المهلّب فردّه إلى قتال الخوارج وولّى على الموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلّب فانتجعت الناس من البصرة وسار إلى الخوارج فلقيهم بسولاف واقتتلوا ثمانية أشهر وبعث مصعب إلى عتاب بن ورقاء الرباحي [1] عامل أصبهان بقتال أهل الري بما فعله في ابن دويم، فسار إليهم وعليهم الفرّخان فقاتلهم وافتتحها عنوة وقلاعها وعاث في نواحيها. خبر ابن الحرّ ومقتله كان عبيد الله بن الحرّ الجعفي من خيار قومه صلاحا وفضلا. ولما قتل عثمان حزن عليه، وكان مع معاوية على عليّ، وكانت له زوجة بالكوفة فتزوّجت لطول مغيبه. فأقبل من الشام وخاصم زوجها إلى عليّ فعدّد [2] عليه شهوده صفين. فقال: أيمنعني ذلك من عدلك؟ قال: لا وردّ إليه امرأته. فرجع إلى الشام وجاء إلى الكوفة بعد مقتل عليّ ولقي إخوانه وتفاوضوا في النكير على عليّ ومعاوية. ولما قتل الحسين تغيّب على ملحمته وسأل عنه ابن زياد فلم يره. ثم لقيه فأساء عذله، وعرض له بالكون مع عدوّه فأنكر وخرج مغضبا. وراجع ابن زياد رأيه فيه فطلبه فلم يجده فبعث عنه فامتنع، وقال: أبلغوه أني لا آتيه طائعا أبدا وأتى منزل أحمد بن   [1] وفي نسخة اخرى: الرياحي. [2] لعلها ندّد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 زياد الطائي فاجتمع إليه أصحابه، وخرج إلى المدائن. ومضى لمصارع الحسين وأصحابه فاستغفر لهم، ولما مات يزيد وقعت الفتنة اجتمع إليه أصحابه وخرج بنواحي المدائن، ولم يعترض للقتل ولا للمال، إنما كان يأخذ مال السلطان متى لقيه فيأخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويردّ الباقي ويأخذ لصاحب المال بما أخذ. وحبس المختار امرأته بالكوفة وجاء فأخرجها من الحبس وأخرج كل من فيه وأراد المختار أن يسطو به فمنعه إبراهيم بن الأشتر إلى الموصل لقتال ابن زياد. ثم فارقه ولم يشهد معه وشهد مع مصعب قتال المختار وقتله. ثم أغرى به مصعب فحبسه وشفع فيه رجال من وجوه مذحج فشفعهم وأطلقه، وأتى إليه الناس يهنئونه فصرّح بأن أحدا لا يستحق بعد الأربعة ولا يحلّ أن يعقد لهم بيعة في أعناقنا، فليس لهم علينا من الفضل ما يستحقون به ذلك، وكلهم عاص مخالف، قوي الدنيا ضعيف الآخرة، ونحن أصحاب الأيام مع فارس، ثم لا يعرف حقنا وفضلنا وإني قد أظهرت لهم العداوة. وخرج للحرب فأغار فبعث إليه مصعب سيف بن هانئ المراديّ يعرض عليه الطاعة على أن يعطيه قطعة من بلاد فارس فأبى، فسرّح إليه الأبرد بن فروة الرباحيّ في عسكر فهزمه عبيد الله فبعث إليه حريث بن زيد فهزمه فقتله، فبعث إليه الحجّاج بن حارثة الخثعميّ ومسلم بن عمر فقاتلهما بنهر صرصر وهزمهما، فأرسل إليه مصعب بالأمان والولاية فلم يقبل، وأتى إلى فارس فهرب دهقانها بالمال وتبعه ابن الحرّ إلى عين التمر وعليه بسطام بن معقلة بن هبيرة الشّيبانيّ، فقاتل عبيد الله وأوفاهم الحجّاج بن حارثة فهزمهما عبيد الله وأسرهما وأخذ المال الّذي مع الدهقان. وأقام بتكريت ليحيي الخراج فسرّح مصعب لقتاله الأبرد ابن فروة الرباحي والجون بن كعب الهمدانيّ في ألف وأمدهم المهلّب بيزيد بن المعقل في خمسمائة وقاتلهم عبيد الله يومين في ثلاثمائة ثم تحاجزوا وقال لأصحابه: إني سائر بكم إلى عبد الملك فتجهّزوا! ثم قال: إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعبا وقصد الكوفة وجاءته العساكر من كل جهة، ولم يزل يهزمهم ويقتل منهم بنواحي الكوفة والمدائن. وأقام يغير بالسواد ويجبي الخراج ثم لحق بعبد الملك فأكرمه وأجلسه معه على سريره، وأعطاه مائة ألف درهم وقسّم في أصحابه الأعطيات وسأل من عبد الملك أن يوجّه معه عسكرا لقتال مصعب فقال: سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال. فسار نحو الكوفة ونزل بناحية الأنبار وأذن لأصحابه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 إتيان الكوفة ليخبروا أصحابه بقدومه. وبعث الحرث بن أبي ربيعة إليه جيشا كثيفا فقاتلهم وتفرّق عنه أصحابه وأثخنه الجراح فخاض البحر إلى سفينة فركبها حتى توسط الفرات فأشرف خيل على السفينة وتبادروا به فقام يمشي في البحر فتعلقوا به فألقى نفسه في الماء مع بعضهم فغرّقوه. حروب الخوارج مع عبد الملك والحجاج ولما استقرّ عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب بعث على البصرة خالد بن عبد الله وكان المهلّب يحارب الأزارقة فولّاه على خراج الأهواز وبعث أخاه عبد العزيز بن عبد إلى قتال الخوارج، ومعه مقاتل بن مسمع، وأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى داربجرد وبعث قطريّ بن الفجاءة صالح بن مخراق [1] في تسعمائة فاستقبل عبد العزيز ليلا على غير تعبية فانهزم وقتل مقاتل بن مسمع وأسرت بنت المنذر بن الجارود امرأة عبد العزيز فقتلها الخوارج. وتغيّر عبد العزيز إلى رامهرمز. وكتب خالد بالخبر إلى عبد الملك فكتب إليه [2] على ولاية أخيه الحرب وولاية المهلّب جباية الخراج وأمره بأن يسرّح المهلّب بحربهم. وكتب إلى بشر بالكوفة بإمداده بخمسة آلاف مع من يرضاه، فإذا فرغوا من قتال الخوارج ساروا إلى الري، فكانوا هنالك مسلحة فأنفذ بشر العسكر وعليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكتب له عهده على الريّ. وخرج خالد بأهل البصرة ومعه المهلّب واجتمعوا بالأهواز. وجاءت الازارقة فأحرقوا السفن. ومرّ المهلّب بعبد الرحمن بن الأشعث وأمره أن يخندق عليه وأقاموا كذلك عشرين ليلة. ثم زحف الخوارج بالناس فهال الخوارج كثرتهم وانصرفوا. وبعث خالد داود بن قحدم في آثارهم وانصرف إلى البصرة وكتب بالخبر إلى عبد الملك فكتب إلى أخيه بشر أن يبعث أربعة آلاف من أهل الكوفة إلى فارس، ويلحقوا بداود بن قحدم في طلب الأزارقة. فبعث بهم بشر بن عتاب ولحقوا بداود واتبعوا الخوارج حتى أصابهم الجهد ورجع عامتهم مشاة إلى الأهواز.   [1] صالح بن مخارق: ابن الأثير ج 4 ص 342. [2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 343: فكتب اليه عبد الملك: قد عرفت ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني انه عامل على الأهواز، فقبّح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 (ثم خرج أبو فديك) من بني قيس بن ثعلبة فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفيّ كما مرّ. وهزم خالدا فكتب إلى عبد الملك بذلك، وأمر عبد الملك عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير لقتال أبي فديك. فانتدب معه عشرة آلاف وسار بهم وأهل الكوفة على ميمنته عليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة في ميسرته عليهم عمر بن موسى أخيه، وهو في القلب وانتهوا إلى البحرين واصطفوا للقتال وحملوا على أبي فديك وأصحابه فكشفوا ميسرته حتى أبعدوا إلا المغيرة بن المهلب ومجاعة وعبد الرحمن وفرسان الناس فإنّهم مالوا إلى أهل الكوفة بالميمنة ورجع أهل الميسرة. وحمل أهل الميمنة على الخوارج فهزموهم واستباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر حتى نزلوا على الحكم فقتل منهم ستة آلاف وأسر ثمانمائة وذلك سنة ثلاث وسبعين. ثم ولّى عبد الملك أخاه بشرا على البصرة فسار إليها وأمره أن يبعث المهلّب إلى حرب الأزارقة وأن ينتخب من أهل البصرة من أراد ويتركه ورأيه في الحرب ويمدّه بعسكر كثيف من أهل الكوفة مع رجل معروف بالنجدة. فبعث المهلّب لانتخاب الناس جديع بن سعيد بن قبيصة وشق على بشر أن ولاية المهلّب من عبد الملك وأوغرت صدره فبعث على عسكر الكوفة عبد الرحمن ابن مخنف وأغراه بالمهلّب في ترك مشورته وتنغّصه. وسار المهلّب إلى رامهرمز وبها الخوارج وأقبل ابن مخنف في أهل الكوفة فنزل على ميل منه بحيث يتراءى العسكران. ثم أتاهم نبأ بشر ابن مروان وأنه استخلف خالد بن عبد الله بن خالد على البصرة وخليفته على الكوفة عمر بن حريث فافترق ناس كثيرة من أهل البصرة وأهل الكوفة فنزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدّدهم فلم يلتفتوا إليه. وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة وكتب إليهم عمر بن حريث بالنكير والعود إلى المهلّب ومنعهم الدخول فدخلوا ليلا إلى بيوتهم (ثم قدم الحجّاج) أميرا على العراقين سنة خمس وسبعين فخطب بالكوفة خطبته المعروفة كان منها: «ولقد بلغني رفضكم المهلّب وإقبالكم إلى مصركم عاصين مخالفين، وأيم الله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه وأنهب داره» . ثم دعا العرفاء وقال ألحقوا الناس بالمهلّب وأتوني بالبراءة بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر. ووجد عمر بن ضابىء من المتخلفين وأخبر أنه من قتلة عثمان فقتله فأخر جند المهلّب وازدحموا على الجسر وجاء العرفاء إلى المهلّب برامهرمز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 فأخذوا كتابه بموافاة الناس، وأمرهم الحجّاج بمناهضة الخوارج فقاتلوهم شيئا ثم انزاحوا إلى كازرون وسار المهلّب وابن مخنف فنزلوا بهم وخندق المهلّب ولم يخندق ابن مخنف وبيّتهم الخوارج فوجدوا المهلّب حذرا فمالوا إلى ابن مخنف فانهزم عنه أصحابه وقاتل حتى قتل وفي حديث أهل الكوفة أنّهم لما ناهضوا الخوارج مالوا إلى المهلّب واضطروه إلى معسكره وأمدّه عبد الرحمن بعامة عسكره وبقي في خفّ من الجند. فمال إليه الخوارج فنزل ونزل معه القرّاء واحد وسبعون من أصحابه فقتلوا. وجاء المهلّب من الغد فدفنه وصلى عليه وكتب بالخبر إلى الحجّاج فبعث على معسكره عتاب بن ورقاء وأمره بطاعة المهلّب، فأجاب لذلك وفي نفسه منه شيء. وعاتبه المهلب يوما ورفع إليه القضيب فردّه ابنه المغيرة عن ذلك وكتب عتاب يشكو المهلّب إلى الحجّاج ويسأله العود وصادف ذلك أمر شبيب فاستقدمه وبقي المهلّب. حروب الصفرية وشبيب مع الحجاج ثم خرج صالح بن مسرّح التميمي من بني امرئ القيس بن زيد مناة وكان يرى رأي الصغريّة وكان عابدا ومسكنه أرض الموصل والجزيرة وله أصحاب يقرئهم القرآن والفقه وكان يأتي الكوفة ويلقى أصحابه ويعدّ ما يحتاج إليه فطلبه الحجّاج فترك الكوفة وجاء إلى أصحابه بالموصل ودار فدعاهم إلى الخروج وحثّه عليه. وجاءه كتاب شبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانيّ من رءوسهم يحثّه على مثل ذلك. فكتب إليه إني في انتظارك فاقدم. فقدم شبيب في نفر من أصحابه منهم أخوه المضّاد والمحلّل ابن وائل اليشكريّ ولقيه بدارا، وأجمع صالح الخروج. وبث إلى أصحابه وخرجوا في صفر سنة ست وسبعين. وأمر بالدعاء قبل القتال وخيّر في الدماء والأموال وعرضت لهم دواب لمحمد بن مروان بالجزيرة فأخذوها وحملوا عليها أصحابهم. وبلغ محمد بن مروان وهو أمير الجزيرة خروجهم فسرّح إليهم عدي بن عدي الكندي في ألف فسار من حرّان وكان ناسكا فكره حروبهم وبعث إليهم بالخروج فحبسوا الرسول. فساروا إليه فطلعوا عليه وهو يصلي الضحى وشبيب في الميمنة وسويد بن سليم في الميسرة وركب عديّ على غير تعبية فانهزم واحتوى الخوارج على معسكره ومضوا إلى آمد وسرّح محمد بن مروان خالد بن حرّ السلمي في ألف وخمسمائة، والحرث بن جعونة العامريّ في مثلها، وقال: أيكما سبق فهو أمير على صاحبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وبعث صالح شبيبا إلى الحرث وتوجه نحو خالد وقاتلوهم أشدّ القتال واعتصم أصحاب محمد بخندقهم فسارت الخوارج عنهم وقطعوا أرض الجزيرة والموصل إلى الدسكرة. فسرّح إليهم الحجّاج الحرث بن عميرة ابن ذي الشعار في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة فلقيهم على تخم ما بين الموصل وصرصر والخوارج في تسعين رجلا. فانهزم سويد بن سليم وقتل صالح وصرع شبيب. ثم وقف على صالح قتيلا فنادى بالمسلمين فلاذوا به ودخلوا حصنا هنالك وهم سبعون. وعاث الحرث بهم وأحرق عليهم الباب ورجع حتى يصحبهم من الغداة. فقال لهم شبيب بايعوا من شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا إليهم فبايعوه وأطفئوا النار بالماء في اللبود وخرجوا إليه فبيتوا وصرّح الحرث فحملوا أصحابه وانهزموا نحو المدائن وحوى شبيب عسكرهم. وسار شبيب إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سنان التميمي من تميم شيبان [1] إلا أخاه فضالة من أكابر الخوارج. وكان خرج قبل صالح في ثمانية عشر رجلا ونزل على ماء لبني عنزة فقتلوهم، وأتوا برءوسهم إلى عبد الملك يتقرّبون له بهم. فلما دعا شبيب سلامة إلى الخروج شرط عليه أن ينتخب ثلاثين فارسا ويسير بهم إلى عنزة فيثأر منهم بأخيه فقبل شرطه وسار إلى عنزة فأثخن فيهم وجعل يقتل الحلّة بعد الحلّة [2] . ثم أقبل شبيب إلى داران [3] في نحو سبعين رجلا ففرّت منهم طائفة من بني شيبان نحو ثلاثة آلاف فنزلوا ديرا خرابا وامتنعوا منه، وسار في بعض حاجاته واستخلف أخاه مضاد بن يزيد بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين، فقتل منهم ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد وأشرف بنو شيبان على مضّاد وأصحابه، وسألوا الأمان ليخرجوا إليهم ويسمعوا دعوتهم فأخرجوا وقبلوا ونزلوا إليهم واجتمعوا بهم وجاء شبيب فاستصوب فعلهم وسار بطائفة نحو أذربيجان. وكان الحجّاج قد بعث سفيان بن أبي العالية الخثعميّ إلى طبرستان يحاصرها في ألف فارس، فكتب إليه الحجّاج أن يرجع فصالح أهل طبرستان ورجع فأقام بالدسكرة يطلب المدد وبعث الحجّاج أيضا إلى الحرث بن عميرة الهمدانيّ قاتل صالح أن يأتيه بجيش الكوفة والمدائن وإلى سورة   [1] سلامة بن سنان التيمي من تيم شيبان: ابن الأثير ج 4 ص 397. [2] فجعل يقتل محلّة بعد محلّة. ابن الأثير ج 4 ص 397. [3] رأذان: ابن الأثير ج 4 ص 398. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 ابن أبجر التميمي [1] في خيل المناظر. ويعجّل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين فاستطردهم وأكمن كمينا لهم مع أخيه، واتبعوه في سفح الجبل فخرج عليهم الكمين فانهزموا بغير قتال، وثبت سفيان وقاتل ثم حمل شبيب فانكشف ونجا إلى بابل مهرود، وكتب إلى الحجّاج بالخبر وبوصول العساكر إلّا سورة بن أبجر فكتب الحجّاج إلى سورة يتهدّده ويأمره أن يتّخذ من المدائن خمسمائة فارس ويسير إلى شبيب فسار. وانتهى شبيب إلى المدائن ثم إلى الهندوان فترحّم على أصحابه هنالك وبيّتهم سورة هنالك وهم حذرون فلم يصب منهم الغرة ورجع نحو المدائن وشبيب في اتّباعه. وخرج ابن أبي العصغي [2] عامل المدائن فقاتلهم وهرب الكثير من جنده إلى الكوفة ومضى شبيب إلى تكريت ووصل سورة إلى الكوفة بالغلّ فحبسه الحجّاج ثم أطلقه. وسرّح عثمان بن سعيد بن شرحبيل الكنديّ [3] ويلقب الجزل في أربعة آلاف ليس فيهم من المنهزمين أحد وساروا لحرب شبيب وأصحابه. وقدّم بين يديه عيّاض بن أبي لبنة الكنديّ وجعلوا يتبعون شبيبا من رستاق إلى رستاق وهو على غير تعبية والجزل على التعبية ويخندق على نفسه متى نزل وطال ذلك على شبيب وكان في مائة وستين فقسمه على أربع فرق وثبت الجزل ومشايخه فلم يصب منهم فرجع عنهم. ثم صحبهم ثانية فلم يظفر منهم بشيء. وسار الجزل في التعبية كما كان وشبيب يسير في أرض الخوارج وغيرها يكسب الخراج. وكتب الحجّاج إلى الجزل ينكر عليه البطء ويأمره بالمناهضة وبعث سعيد بن المجالدي على جيش الجزل فجاءهم بالهندوان [4] ووبّخهم وعجّزهم وجاءهم الخبر بأنّ شبيبا قد دخل قطيطيا والدهقان يصلح لهم الغداء، فنهض سعيد في الناس وترك الجزل مع العسكر وقد صفّ بهم خارج الخندق وجاء سعيد إلى قطيطيا وعلم به شبيب فأكل وتوضأ وصلى. وخرج فحمل على سعيد وأصحابه مستعرضا فانهزموا وثبت سعيد فقتله وسار في اتباعهم إلى الجزل فقاتلهم الجزل حتى وقع بين القتلى جريحا. وكتب إلى الحجّاج بالخبر وأقام بالمدائن وانتهى شبيب إلى الكرخ وعبر دجلة إليه وأرسل إلى سوق بغداد فأتاهم في يوم سوقهم   [1] سورة بن الحرّ التميمي: ابن الأثير ج 4 ص 398. [2] ابن أبي العصيفر: ابن الأثير ج 4 ص 401. [3] الجزل بن سعيد بن شرحبيل الكندي واسمه عثمان: ابن الأثير ج 4 ص 401. [4] النهروان: ابن الأثير ج 4 ص 403. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 واشترى منه حاجاته وسار إلى الكوفة فلما قرب منها بعث الحجّاج سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل فساروا إلى شبيب وأمر عثمان بن قطن فعسكر في السّبخة وخالفه شبيب إلى أهل السبخة فقاتلوه وجاء سويد في آثاره فمضى نحو الحيرة وسويد في إتباعه ثم رحل من الحيرة. وجاء كتاب الحجّاج إلى سويد يأمره باتباعه فمضى في إتيانه وشبيب يغير في طريقه وأخذ على القطقطانة ثم على قصر بني مقاتل ثم على الأنبار ثم ارتفع على أدنى أذربيجان. ولما أبعد سار الحجّاج إلى البصرة واستعمل على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فجاءه كتاب دهقان بابل مهرود يخبره بقصد شبيب الكوفة فبعث بالكتاب إلى الحجّاج. وأقبل شبيب حتى نزل عقرقوبا [1] ، ونزل وسار منها يسابق الحجّاج إلى الكوفة. وطوى الحجّاج المنازل فوصل الكوفة عند العصر ووصل شبيب عند المغرب فأراح وطعموا ثم ركبوا ودخلوا إلى السوق وضرب شبيب القصر بعموده. ثم اقتحموا المسجد الأعظم فقتلوا فيه من الصالحين ومروا بدار صاحب الشرطة فدعوه إلى الأمير ونكرهم فقتلوا غلامه ومرّوا بمسجد بني ذهل فقتلوا ذهل بن الحرث وكان يطيل الصلاة فيه. ثم خرجوا من الكوفة واستقبلهم النضر بن القعقاع بن شور الذهلي، وكان ممن أقبل مع الحجّاج من البصرة فتخلّف عنه فلما رآه قال: السلام عليك أيها الأمير، فقال له شبيب: قل أمير المؤمنين ويلك! فقالها. وأراد شبيب أن يلقّنه للقرابة بينهما. وكان النضر ناحية بيت هانئ بن قبيصة الشيبانيّ فقال له: يا نضر لا حكم إلا للَّه ففطن بهم وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 وشدّ عليه أصحاب شبيب فقتلوه. ونادى منادي الحجّاج بالكوفة يا خيل الله اركبي وهو بباب القصر وكان أوّل من أتاه عثمان بن قطن ابن عبد الله بن الحسين ذي القصّة [2] ، ثم جاء الناس من كل جانب، فبعث الحجاج خالد بن الأسدي [3] وزائدة بن قدامة الثقفيّ وأبا الضريس مولى بني تميم، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وزياد بن عبد الله العتكيّ [4] في ألفين ألفين وقال: إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة وبعث معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله من سجستان، وكان عبد الملك قد ولّاه عليها، وأمر الحجّاج أن   [1] عقرقوف: ابن الأثير ج 4 ص 406. [2] بن الحصين ذي الغصة: ابن الأثير ج 4 ص 407. [3] فبعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي: المرجع السابق. [4] زياد بن عمرو العتكيّ: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 يجهّزه ويبعثه في آلاف من الجنود إلى عمله، فجهّزه. وحدث أمر شبيب فقال له الحجّاج: تجاهد ويظهر اسمك ثم تمضي إلى عملك، فساروا جميعا ونزلوا أسفل الفرات. وأخذ شبيب نحو القادسية وجرّد الحجاج ألفا وثمانمائة من نقاوة الجند مع ذخر بن قيس [1] ، وأمره بمواقعة شبيب أينما أدركه، وإن ذهب فأتركه. فأدركه بالسلخين [2] وعطف عليه شبيب فقاتل ذخر حتى صرع وفيه بضعة عشر جرحا وانهزم أصحابه يظنون أنه قتل ثم أفاق من برد السحر فدخل قرية وسار إلى الكوفة ثم قصد شبيب وأعوانه وهم على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة فقال: إنّ هزمناهم فليس دون الحجّاج والكوفة مانع وانتهى إليهم وقد تعبوا للحرب وعلى الميمنة زياد بن عمر العتكيّ وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدي وكل أمير بمكانه. وعبّى شبيب أصحابه ثلاثة كتائب فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمر فانكشفوا وثبت زياد قليلا. ثم حمل الثانية فانهزموا وانهزم جريحا عند المساء. ثم حملوا على عبد الأعلى ابن عبد الله بن عامر فانهزم ولم يقاتل ولحق بزياد بن عمر وحملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن طلحة عند الغروب فقاتلوه وصبر لهم ثم حمل مضاد أخو شبيب على بشر بن غالب في الميسرة فصبر ونزل في خمسين رجلا فقاتلوه حتى قتلوا. وحملت الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم فهزموه حتى انتهى إلى أعين ثم حملوا عليه وعلى أعين فهزموهما إلى زائدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه نادى نزال [3] وقاتلهم إلى السحر ثم حمل شبيب عليه فقتله وقتل أصحابه ودخل أبو الضريس مع الفلّ إلى الجوسق بإزائهم. ورفع الخوارج عنهم السيف ودعوهم إلى البيعة لشبيب عند الفجر فبايعوه وكان فيمن بايعه أبو بردة وبقي محمد بن موسى لم ينهزم، فلما طلع الفجر سمع شبيب أذانهم وعلم مكانهم فأذّن وصلّى ثم حمل عليهم فانهزمت طائفة منهم وثبتت أخرى وقاتل محمد حتى قتل. وأخذ الخوارج ما في العسكر وانهزم الذين بايعوا شبيبا فلم يبق منهم أحد. وجاء شبيب إلى الجوسق الّذي فيه أعين وأبو الضريس فتحصنوا منه فأقام يوما عليهم وسار عنهم وأراده أصحابه على   [1] زحر بن قيس: ابن الأثير ج 8 صفحة 408. [2] السّيلحين: المرجع السابق. [3] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 410: «فلما انتهوا إليه نادى: يا أهل الإسلام الأرض الأرض» . ويعني النزول عن خيلهم إلى الأرض والقتال راجلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 الكوفة وازاءهم خوخى [1] فتركها وخرج على نفر وسمع الحجّاج بذلك فظنّ أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة وأكثر السواد لها فهاله ذلك وبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وخوخى والأنبار وعزل عنها عبد الله بن أبي عصيفير. وقيل في مقتل محمد بن موسى غير هذا وهو أنه كان شهد مع عمر بن عبد الله بن معمر قتال أبي فديك فزوّجه عمر ابنته، وكانت أخته تحت عبد الملك فولّاه سجستان فمرّ بالكوفة وقيل للحجّاج إن جاء إلى هذا أحد ممن تطلبه منعك منه فمره بقتال شبيب في طريقه لعل الله يريحك منه ففعل الحجّاج. وعدل محمد إلى قتال شبيب وبعث إليه شبيب بدهاء الحجّاج وخديعته إياه وأن يعدل عنه فأبى إلا شبيبا فبارزه وقتله شبيب. ولما انهزم الأمراء وقتل موسى بن محمد بن طلحة دعا الحجّاج عبد الرحمن بن الأشعث وأمره أن ينتخب ستة آلاف فارس ويسير في طلب شبيب أين كان، فسار لذلك. ثم كتب إليه وإلى أصحابه يتهدّدهم إن انهزموا ومرّ ابن الأشعث بالمدائن وعاد الجزل من جراحته فوصّاه وحذّره وحمله على فرسه وكانت لا تجاري. وسار شبيب على دقوقا وشهرزور وابن الأشعث في إتباعه إلى أن وقف على أرض الموصل وأقام يقاتله أهلها، فكتب إليه الحجّاج: أما بعد فاطلب شبيبا وأسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فأقتله أو تنفيه فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. فجعل ابن الأشعث يتبعه وشبيب يقصد به الأرض الخشنة الغليظة وإذا دنا منه رجع يبيته فيجده على حذرة حتى أتعب الجيش وأحفى دوابهم ونزل بطن أرض الموصل ليس بينه وبين سواد إلا نهر حولايا [2] في دادان الأعلى من أرض خوخى ونزل عبد الرحمن في عواقيل النهر وكانت أيام النحر، وطلب شبيب الموادعة فيها فأجابه قصدا للمطاولة وكتب عثمان بن قطن بذلك إلى الحجّاج فنكر وبعث إلى عثمان بن قطن بإمارة العسكر وأمره بالمسير وعزل عبد الرحمن بن الأشعث وبعث على المدائن مطرّف بن المغيرة مكان ابن قطن وقدم ابن قطن على عسكر الكوفة عشية يوم التروية وناداهم إلى الحرب فاستمهلوه وأنزله عبد الرحمن بن الأشعث وأصبحوا إلى القتال ثالث يومهم على تعبية وفي الميمنة خالد بن نهيك بن قيس وفي الميسرة عقيل بن شدّاد السّلوليّ وابن قطن في الرجالة   [1] جوخى: ابن الأثير ج 4 ص 411. [2] وفي الكامل ج 4 ص 414: «ثم اقبل البتّ وهي من قرى الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حولايا، وهو في راذان الأعلى من أرض جوص» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وعبر إليهم شبيب في مائة وثلاثين رجلا فوقف في الميمنة وأخوه مضاد في القلب وسويد بن سليم في الميسرة وحمل شبيب على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا ونزل عقيل بن شدّاد فقاتل حتى قتل وقتل معه مالك بن عبد الله الهمدانيّ وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وقاتل خالد بن نهيك فجاء شبيب من ورائه فقتله وتقدّم عثمان إلى مضاد في القلب فاشتدّ القتال وحمل شبيب من وراء عثمان وعطف عليهم سويد بن سليم ومضاد من القلب حتى أحاطوا به فقتلوه وانهزمت العساكر ووقع عبد الرحمن بن الأشعث فأتاه ابن أبي شثبة الجعفي [1] وهو على بغلة فأردفه ونادى في الناس باللحاق بدير أبي مريم ورفع شبيب السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه ولحق ابن الأشعث بالكوفة فاختفى حتى أمّنه الحجّاج ومضى شبيب إلى ماه نهرادان [2] فأقام فيه فصل الصيف فلحق به من كان للحجّاج عليه تبعة ثم أقبل إلى المدائن في ثمانمائة رجل وعليها مطرّف بن المغيرة وبلغ الخبر إلى الحجّاج فقام في الناس وتسخط وتوعد. فقال زهرة بن حويّة وهو شيخ كبير لا يستطيع القيام إلا معتمدا: أنت تبعث الناس متقطعين فيصيبون منهم فاستنفر الناس جميعا وابعث عليهم رجلا شجاعا مجرّبا يرى الفرار عارا والصبر مجدا وكرما. فقال الحجّاج: أنت ذلك الرجل! فقال: إنما يصلح من يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على الفرس ولا أطيق من هذا شيئا وقد ضعف بصري ولكن أكون مع أمير وأشير عليه. فقال له: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله أوّل أمرك وآخره. ثم قال للناس: سيروا فتجهّزوا بأجمعكم فتجهزوا وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بأنّ شبيبا شارف المدائن يريد الكوفة وهم عاجزون عن قتاله بما هزم جندهم وقتل أمراءهم ويستمدّه من جند الشام، فبعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبيّ في أربعة آلاف وحبيب بن عبد الرحمن الحكميّ في ألفين وذلك سنة ست وسبعين وكتب الحجّاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحيّ يستقدمه من عند المهلب وقد وقع بينهما كما مرّ فقدم عتاب وولّاه على الجيش فشكر زهرة بن حويّة له وقال: رميتهم بحجرهم والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. وبعث الحجّاج إلى جند الشام يحذّرهم البيات ويوصيهم   [1] ابن أبي سيرة الجعفي: ابن الأثير ج 4 ص 415. [2] ماه يهراذان: ابن الأثير ج 4 ص 419. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 الاحتياط وأن يأتوا على عين التمر. وعسكر عتاب بجماع أعين [1] ثم قطع شبيب دجلة الى المدائن وبعث إليه مطرّف أن يأتيه رجال من وجوههم ينظر في دعوتهم فرجا منه وبعث اليه بغيث بن سويد [2] في جماعة مكثوا عنده أربعا ولم يرجعوا من مطرّف بشيء. ونزل عتاب الصراة وخرج مطرف إلى الجبال خوفا أن يصل خبره مع شبيب إلى الحجّاج فخلا لهم الجوّ. وجاء مضّاد إلى المدائن فعقد الجسر ونزل عتاب سوق حكم [3] في خمسين ألفا وسار شبيب بأصحابه في ألف رجل، فصلى الظهر بساباط وأشرف على عسكر عتاب عند المغرب وقد تخلف عنه أربعمائة من أصحابه فصلى المغرب، وعبّى أصحابه ستمائة سويد بن سليم في مائتين في الميسرة، والمحلّل بن وائل في مائتين في الميمنة وهو في مائتين في القلب. وكان على ميمنة عتاب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد وعلى ميسرته نعيم بن عليم وعلى الرجّالة حنظلة بن الحرث اليربوعي وهو ابن عمه وهم ثلاثة صفوف بين السيوف والرماح والرماة. ثم حرّض الناس طويلا وجلس في القلب ومعه زهرة بن مرتد [4] وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وابو بكر بن محمد بن أبي جهم العدويّ وأقبل شبيب حين أضاء القمر بين العشاءين فحمل على الميسرة وفيها ربيعة فانقضوا وثبت قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم على رايتهم حتى قتلوا. ثم حمل شبيب على عتاب بن ورقاء وحمل سويد بن سليم على محمد بن سليم في الميمنة في تميم وهمدان واشتدّ القتال وخالط شبيب القلب وانفضوا وتركوا عتابا وفرّ ابن الأشعث في ناس كثيرين وقتل عتاب بن ورقاء وركب زهرة بن حويّة فقاتل ساعة ثم طعنه عامر بن عمر الثعلبي من الخوارج ووطأته الخيل فقتله الفضل بن عامر الشيبانيّ منهم، ووقف عليه شبيب وتوجع له ونكر الخوارج ذلك وقالوا: أتتوجع لرجل كافر؟ فقال: أعرف قديمه. ثم رفع السيف عن الناس ودعا للبيعة فبايعوه وهربوا تحت ليلهم وحوى ما في العسكر وأتاه أخوه من المدائن وأقام يومين ثم سار نحو الكوفة ولحق سفيان بن الأبرد وعسكر الشام بالحجّاج، فاستغنى بهم عن أهل الكوفة واشتدّ بهم وخطب فوبّخ أهل الكوفة   [1] حمام أعين: ابن الأثير ج 4 ص 421. [2] قعنب بن سويد: ابن الأثير ج 4 ص 421. [3] سوق حكمة: ابن الأثير ج 4 ص 422. [4] زهرة بن حوية: ابن الأثير ج 4 ص 423. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وعجّزهم وجاء شبيب فنزل حمام أعين فسرّح الحجّاج إليه الحرث بن معاوية الثقفي في نحو ألف من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب فبادر إليه شبيب فقتله وانهزم أصحابه إلى الكوفة وأخرج الحجّاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك وجاء شبيب فنزل السّبخة ظاهر الكوفة وبنى بها مسجدا وسرّح الحجّاج مولاه أبا الورد في غلمان لقتاله فحمل عليه شبيب وقتله يظنه الحجّاج ثم أخرج إليه مولاه طهمان كذلك فقتله. فركب الحجّاج في أهل الشام وجعل سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك وقعد على كرسيه ونادى في أهل الشام وحرّضهم فغضوا الأبصار وجثوا على الركب وشرّعوا الرماح وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس معه ومع سويد بن سليم ومع المحلّل بن وائل وحمل سويد وبيتوا وطاعنوه حتى انصرف وقدّم الحجّاج كرسيّه وحمل المحلّل ثانية فكذلك وقدّم الحجّاج كرسيّه فثبتوا له وألحقوه بأصحابه. وسرب شبيب سويد بن سليم إلى أهل السكك وكان عليها عروة بن المغيرة بن شعبة فلم يطق دفاعه ثم حمل شبيب فطاعنوه وردّوه وانتهى الحجّاج إلى مسجده وصعده وملك العرصة. وقال له خالد ابن عتاب ائذن لي في قتالهم فإنّي موتور فأذن له، فجاءهم من ورائهم وقتل أخا شبيب وغزالة امرأته وخرّق عسكرهم وحمل الحجّاج عليهم فانهزموا، وتخلّف شبيب ردءا لهم. فأمر الحجّاج أصحابه بموادعتهم ودخل الكوفة فخطب وبشّر الناس. ثم سرّح حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ثلاثة آلاف فارس لاتباعه وحذّره بيانه فانتهى في أثره إلى الأنبار وقد افترق عن شبيب كثير من أصحابه للأمان الّذي نادى الحجاج به، فجاءه شبيب عند الغروب وقد قسّم حبيب جنده أرباعا وتواصوا بالاستماتة فقاتلهم شبيب طائفة بعد طائفة فما زالت قدم إنسان عن موضعها إلى آخر الليل. ثم نزل شبيب وأصحابه واشتدّ القتال وكثر القتلى وسقطت الأيدي وفقئت الأعين، وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين ومن أهل الشام نحو مائة وأدركهم الإعياء والفشل جميعا فانصرف شبيب بأصحابه وقطع دجلة ومرّ في أرض خوخى. ثم قطع دجلة أخرى عند واسط ومضى على الأهواز وفارس إلى كرمان ليريح بها. (وقد قيل) في هذه الحرب غير هذا، وهو أنّ الحجاج بعث إليه أمراء واحدا بعد واحد فقتلهم وكان منهم أعين صاحب حمام أعين وكان غزالة امرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين [1] بالبقرة وآل عمران فجاء شبيب ودخل الكوفة ليلا   [1] ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وأوفت بنذرها. ثم قاتلهم الناس وخرجوا وقام الحجّاج في الناس يستشيرهم وبرز إليه قتيبة وعذله في بعث الرعاع ينهزمون ويموت قائدهم والرأي أن تخرج بنفسك فتحالمه [1] فخرج من الغد إلى السّبخة وبها شبيب واختفى مكانه عن القوم ونصب أبا الورد مولاه تحت اللواء فحمل عليه شبيب فقتله. ثم حمل على خالد بن عتاب في الميسرة ثم على مطرف بن ناجية [2] في الميمنة فكشفهما ونزل عند ذلك الحجّاج وأصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد وبينما هم على ذلك إذ اختلف الخوارج وقال مصقلة بن مهلهل الضبيّ لشبيب: ما تقول في صالح بن مسرّح؟ قال: برئت منه. فبرئ مصقلة منه، وفارقه. وشعر الحجّاج باختلافهم فسرّح خالد بن عتاب لقتالهم فقاتلهم في عسكرهم وقتل غزالة وبعث برأسها إلى الحجّاج فأمر شبيب من اعترضه فقتل حامله، وجاء به فغسله ودفنه. وانصرف الخوارج وتبعهم خالد وقتل مضاد أخو شبيب ورجع خالد عنهم بعد أن أبلى. وسار شبيب إلى كرمان. وكتب الحجّاج إلى عبد الملك يستمدّه فبعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبيّ في العساكر فأنفق فيهم المال، وسرّحه بعد انصراف الخوارج بشهرين وكتب إلى عامل البصرة وهو الحكم بن أيّوب زوج ابنته أن يبعث بأربعة آلاف فارس من جند البصرة إلى سفيان فبعثهم مع زياد بن عمر العتكيّ فلحقه [3] انقضاء الحرب. وكان شبيب بعد أن استجم بكرمان أقبل راجعا فلقي سفيان بالأهواز فعبر إليه جسر دجيل وزحف في ثلاثة كراديس فقاتلهم أشدّ قتال وحملوا عليهم أكثر من ثلاثين حملة وسفيان وأهل الشام مستميتين يزحفون زحفا حتى اضطرّ الخوارج إلى الجسر فنزل شبيب في مائة من أصحابه، وقاتل إلى المساء حتى إذا جاء الليل انصرف وجاء إلى الجسر فقدّم أصحابه وهو على أثرهم فلما مرّ بالجسر اضطرب حجر تحت حافر فرسه وهو على حرف السفينة فسقط في الماء وغرق وهو يقول: وكان أمر الله مفعولا، ذلك تقدير العزيز العليم. وجاء صاحب الجسر إلى سفيان وهو يريد الانصراف بأصحابه فقال: إنّ رجلا من الخوارج سقط فتنادوا بينهم غرق أمير   [1] فتحاكمه: ابن الأثير ج 4 ص 429. [2] مطر بن ناجية: المرجع السابق. [3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 431: «فسيّرهم مع زياد بن عمرو العتكيّ، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 المؤمنين ومرّوا وتركوا عسكرهم فكبّر سفيان وأصحابه وركب إلى الجسر وبعث إلى عسكرهم فحوى ما فيه وكان كثير الخيرات ثم استخرجوا شبيبا من النهر ودفنوه. خروج المطرف والمغيرة بن شعبة لما ولى الحجّاج الكوفة وقدمها وجد بني المغيرة صلحاء أشرافا فاستعمل عروة على الكوفة ومطرّفا على المدائن وحمزة على همذان فكانوا أحسن العمّال سيرة وأشدّهم على المريب. ولما جاء شبيب إلى المدائن نزل نهر شير [1] ومطرّف بمدينة الأبواب فقطع مطرّف الجسر وبعث إلى شبيب أن يرسل إليه من يعرض عليه الدعوة، فبعث إليه رجلا من أصحابه فقالوا نحن ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأنّا نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتبسط بالجزية فقال مطرّف دعوتم إلى حق [2] جورا ظاهرا وأنا لكم متابع فبايعوني على قتال هؤلاء الظلمة بإحداثهم وعلى الدعاء إلى الكتاب والسنة على الشورى كما تركها عمر بن الخطّاب حتى يولّي المسلمون من يرضونه، فإنّ العرب إذا علمت أنّ المراد بالشورى الرضا من قريش رضوا فكثر مبايعكم فقالوا: لا نجيبك إلى هذا! وأقاموا أربعة أيام يتناظرون في ذلك ولم يتفقوا وخرجوا من عنده. ثم دعا مطرّف أصحابه وأخبرهم بما دار بينه وبين أصحاب شبيب وأنّ رأيه خلع عبد الملك والحجّاج فوجموا من قوله وأشاروا عليه بالكتمان فقال له يزيد بن أبي زياد مولى أبيه لن والله يخفى على الحجاج شيء مما وقع ولو كنت في السحاب لاستنزلك فالنجاء بنفسك، ووافقه أصحابه فسار عن المدائن إلى الجبال ولما كان في بعض الطريق دعا أصحابه إلى الخلع والدعاء إلى الكتاب والسنّة، وأن يكون الأمر شورى فرجع عنه بعض إلى الحجّاج منهم سبرة بن عبد الرحمن مخنف وسار مطرّف ومرّ بحلوان وبها سويد بن عبد الرحمن السعدي مع الأكراد فاعترضوه فأوقع مطرّف بهم وأثخن في الأكراد ومال عن همذان ذات اليمين وبها أخوه حمزة واستمدّه بمال وسلاح فأمدّه سرّا. وسار إلى قم وقاشان فبعث عماله في نواحيه وفزع إليه كل جانب فجاء سويد بن سرحان الثقفي وبكير بن هارون   [1] بهرسير: ابن الأثير ج 4 ص 434. [2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 434: «ما دعوتم إلّا إلى حق، وما نقمتم إلّا جورا ظاهرا» وكذلك الطبري ج 7 ص 260. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 النّخعيّ من الري في نحو مائة رجل. وكان على الريّ عديّ بن زياد الأيادي وعلى أصبهان البرّاء بن قبيصة فكتب إلى الحجّاج بالخبر واستمدّه فأمدّه بالرجال، وكتب إلى عديّ بالري أن يجتمع مع البرّاء على حرب مطرّف فاجتمعوا في ستة آلاف وعديّ أميرهم. وكتب الحجّاج إلى قيس بن سعد البجليّ [1] وهو على شرطة حمزة بهمذان بأن يقبض على حمزة ويتولى مكانه فجاءه في جمع من عجل وربيعة وأقرأه كتاب الحجّاج فقال سمعا وطاعة. وقبض قيس عليه وأودعه السجن وسار عديّ والبرّاء نحو مطرّف فقاتلوه وانهزم أصحابه وقتل يزيد مولى أبيه وكان صاحب الراية. وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي وكان ناسكا صالحا وكان الّذي تولى قتل مطرّف عمر بن هبيرة الفزاريّ. وبعث عديّ أهل البلاء إلى الحجّاج وأمر بكير بن هارون وسويد بن سرحان، وكان الحجّاج يقول مطرّف ليس بولد للمغيرة وإنما هو ابن مصقلة الحر، لأن أكثر الخوارج كانوا من ربيعة لم يكن فيهم من قيس. اختلاف الازارقة قد تقدّم لنا مقام المهلّب في قتال الأزارقة على سابور بعد مسير عتاب عنه إلى الحجّاج وأنه أقام في قتالهم سنة، وكانت كرمان لهم وفارس للمهلّب فانقطع عنهم المدد وضاقت حالهم فتأخروا إلى كرمان وتبعهم المهلّب ونزل خيررفت [2] مدينة كرمان وقاتلهم حتى أزالهم عنها وبعث الحجّاج العمال على نواحيها وكتب إليه عبد الملك بتسويغ [3] للمهلّب معونة له على الحرب. وبعث الحجّاج إلى المهلّب البرّاء بن قبيصة يستحثه لقتال الخوارج فسار وقاتلهم والبرّاء مشرف عليه من ربوة واشتدّ قتاله، وجاء البرّاء من الليل فتعجّب لقتاله وانصرف إلى الحجّاج وأنهى غدر المهلّب وقاتلهم ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شيء. ثم وقع الاختلاف بينهم فقيل في سببه انّ المقعطر الضبيّ وكان عاملا لقطريّ على بعض نواحي كرمان قتل   [1] قيس بن سعد العجليّ: ابن الأثير ج 4 ص 436. [2] جيرفت: ابن الأثير ج 4 ص 437. [3] بياض في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 437: «فكتب اليه عبد الملك يأمره ان يترك بيد المهلب فسا ودارابجرد وكورة إصطخر تكون له معونة على الحرب.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 بعض الخوارج فطلبوا القود منه فمنعه قطري وقال: تأول فأخطأ، وهو من ذوي السابقة فاختلفوا وقيل بل كان رجل في عسكرهم يصنع النصول مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلّب فكتب المهلّب كتابا مع رجل وامرأة أن يلتقيه في عسكرهم وفيه وصلت نصالك وقد أنفذت إليك ألف درهم. فلما وقف على الكتاب سأل الصانع فأنكر فقتله فأنكر عليه عبد ربه الكبير واختلفوا. (وقيل) بعث المهلّب نصرانيا وأمره بالسجود لقطريّ فقتله بعض الخوارج وولّوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطريا فبقي في نحو الخمسين منهم وأقاموا يقتتلون شهرا، ثم لحق قطريّ بطبرستان وأقام عبد ربه بكرمان وقاتلهم المهلّب وحاصرهم بخيرفت [1] ولما طال عليهم الحصار خرجوا بأموالهم وحريمهم وهو يقاتلهم حتى أثخن فيهم. ثم دخل خيرفت وسار في اتباعهم فلحقهم على أربعة فراسخ فقاتلهم هو وأصحابه حتى أعيوا وكفّ عنهم. ثم استمات الخوارج ورجعوا فقاتلوه حتى يئس من نفسه. ثم نصره الله عليهم وهزمهم وقتل منهم نحوا من أربعة آلاف كان منهم عبد ربه الكبير ولم ينج إلا القليل. وبعث المهلّب المبشر إلى الحجّاج فأخبره وسأله عن بني المهلّب فأثنى عليهم واحدا واحدا قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلى المهلّب يشكره ويأمره أن يولّي على كرمان من يراه وينزل حامية ويقدّم عليه، فولّى عليها ابنه يزيد وقدم على الحجّاج فاحتفل لقدومه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلّب! وسرّح سفيان بن الأبرد الكلبي في جيش عظيم نحو طبرستان لطلب قطريّ وعبيدة بن هلال ومن معهم من الخوارج. والتقوا هنالك بإسحاق بن محمد بن الأشعث في أهل الكوفة واجتمعا على طلبهم، فلقوهم في شعب من شعب طبرستان وقاتلوهم فافترقوا عن قطريّ ووقع عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب ومرّ به علج فاستقاه على أن يعطيه سلاحه، فعمد إلى أعلى الشعب وحدّر عليه حجرا من فوق الشعب فأصابه في رأسه فأوهنه ونادى بالناس فجاء في أوّلهم نفر من أهل الكوفة فقتلوه [2] منهم سورة بن أبجر التميمي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف والسياح بن محمد بن الأشعث [3] وحمل رأسه أبو الجهم إلى   [1] جيرفت: ابن الأثير ج 4 ص 439 وقد مرّ ذكرها من قبل. [2] هنا بياض بالأصل وبعد مراجعة الكامل تبين انه لا يوجد اي نقص. (ابن الأثير ج 4 ص 442) : «فقتلوه، منهم سورة بن الحر التميمي..» [3] الصبّاح بن محمد بن الأشعث: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 إسحاق بن محمد فبعث به إلى الحجّاج، وبعثه الحجّاج إلى عبد الملك وركب سفيان فأحاط بالخوارج وحاصرهم حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا إليه واستماتوا فقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى الحجّاج ودخل دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجّاج قبل دير الجماجم. قال بعض العلماء وانقرضت الأزارقة بعد قطريّ وعبيدة آخر رؤسائهم وأوّل رؤسائهم نافع بن الأزرق. واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة إلى أن افترقوا كما ذكرناه سنة سبع وسبعين فلم تظهر لهم جماعة، إلى رأس المائة. خروج سودب خرج سودب [1] هذا أيام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة واسمه بسطام وهو من بني يشكر فخرج في مائتي رجل وسار في خوخى [2] وعامل الكوفة يومئذ عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب. فكتب إليه عمر أن لا يعرض لهم حتى يقتلوا أو يفسدوا فيوجه إليهم الجند مع صليب حازم فبعث عبد الحميد بن جرير بن عبد الله البجليّ في ألفين فأقام بإزائه لا يحرّكه. وكتب عمر إلى سودب: بلغني أنك خرجت غضبا للَّه ولرسوله، وكنت أولى بذلك مني، فهلمّ إليّ أناظرك فإن كان الحق معنا دخلت مع الناس، وإن كان الحق معك نظرنا في أمرك. فبعث إليه عاصما الحبشيّ مولى بني شيبان ورجلا من بني يشكر فقدما عليه بخاصر [3] فسألهما ما أخرجكم وما الّذي نقمتم؟ فقال عاصم ما نقمنا سيرتك إنك لتتحرى العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر مشورة من الناس أم غلبت عليه؟ قال عمر: ما سألته ولا غلبت عليه وعهد إليّ رجل قبلي فقمت ولم ينكر أحد، ومذهبكم الرضا لكل من عدل، وإن أنا خالفت الحق فلا طاعة لي عليكم. قالا: فقد خالفت أعمال أهل بيتك وسمّيتها مظالم فتبرّأ منهم والعنهم فقال عمر: أنتم تريدون الآخرة وقد أخطأتم طريقها، وإنّ الله لم يشرع اللعن. وقد قال إبراهيم: ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقال: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وبقي تسمية أعمالهم مظالم ذما، ولو كان لعن أهل الذنوب فريضة لوجب عليكم لعن فرعون، أنتم لا تلعنونه وهو أخبث   [1] شوذب: ابن الأثير ج 5 ص 45. [2] جوخى: ابن الأثير ج 5 ص 45 وقد مرّ ذكرها من قبل. [3] خناصرة: ابن الأثير ج 5 ص 45. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 الخلق، فكيف ألعن أنا أهل بيتي وهم مصلّون صائمون ولم يكفروا بظلمهم! لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإيمان والشريعة، فمن عمل بها قبل منه، ومن أحدث حدثا فرض عليه الحدّ. فقالا: فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد والإقرار بما نزل عليه. فقال عمر: وليس أحد ينكر ما نزل عليه ولا يقول لا أعمل بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن القوم أسرفوا على أنفسهم. قال عاصم: فابرأ منهم وردّ أحكامهم. قال عمر: أتعلمان أنّ أبا بكر سبى أهل الردّة وأنّ عمر ردّها بالفدية ولم يبرأ من أبي بكر وأنتم لا تبرءون من واحد منهما. قال: فأهل النهروان خرج أهل الكوفة منهم فلم يقتتلوا ولا استعرضوا وخرج أهل البصرة فقتلوا عبد الله بن حبّاب وجارية حاملا، ولم يتبرّأ من لم يقتل ممن قتل واستعرض، ولا أنتم تتبرّءون من واحد منهما. وكيف ينفعكم ذلك مع علمكم باختلاف أعمالكم؟ ولا يسعني أنا البراءة من أهل بيتي والدين واحد فاتقوا الله ولا تقبلوا المردود وتردّوا المقبول، وقد أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد شهادة الإسلام وعصم ماله ودمه، وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر الأديان وتحرّمون دماءهم وأموالهم فقال اليشكريّ من استأمن على قوم وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلى رجل غير مأمون أتراه أدّى الحق الّذي لزمه؟ فكيف تسلم هذا الأمر بعدك إلى يزيد مع علمك أنه لا يعدل فيه؟ فقال: إنما ولّاه غيري والمسلمون أولى بذلك بعدي. قال: فهو حق ممن فعله وولّاه، قال أنظراني ثلاثا ثم جاءه عاصم فرجع عن رأي الخوارج وقال له اليشكري: أعرض عليهم ما قلت واسمع حجّتهم. وأقام عاصم عند عمرو وأمر له بالعطاء وتوفي عمر لأيام قلائل ومحمد بن جرير ينتظر عود الرسل. ولما مات عمر كتب عبد الحميد إلى محمد بن جرير بمناجزة سودب قبل أن يصل إليهم خبر عمر، فقالت الخوارج ما خالف هؤلاء ميعادهم إلّا وقد مات الرجل الصالح. واقتتلوا فانهزم محمد بن جرير واتبعه الخوارج إلى الكوفة، ورجعوا وقدم على سودب صاحباه وأخبراه بموت عمر، وسرّح يزيد تميم بن الحباب في ألفين فهزمه أصحابه، ثم بعث إليهم الشجاع بن وداع [1] في ألفين فقتلوه وهزموه بعد أن قتل منهم هدبة ابن عم سودب وبقي الخوارج بمكانهم. وجاء مسلمة إلى الكوفة فأرسل سعيد بن عمرو   [1] السمّاج بن وداع: ابن الأثير ج 5 ص 69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 الحريشيّ [1] في عسكر [2] آلاف فاستماتت الخوارج وكشفوا العساكر مرارا ثم حملوا عليهم فطحنوهم طحنا. وقتل سودب وأصحابه ولم يبق منهم أحد، وضعف أمر الخوارج إلى ظهور [3] أيام هشام سنة عشرين ومائة بهلول بن بشر بن شيبان وبلغت كنارة، وكان لما عزم على الخوارج حج ولقي بمكة من كان على رأيه، فأبعدوا إلى قرية من قرى الموصل واجتمعوا بها وهم أربعون وأمّروا عليهم البهلول وأخفوا أنفسهم بأنهم قدموا من عند هشام ومرّوا بقرية كان بهلول ابتاع منها خلّا فوجده خمرا وأبى البائع من ردّه واستعدى عليه عامل القرية، فقال: الخمر خير منك ومن قومك فقتلوه وأظهروا أمرهم وقصدوا خالد القسري بواسط وتعلّلوا عليه بأنه يهدم المساجد ويبني الكنائس ويولّي المجرّد على المسلمين. وجاء الخبر إلى خالد فتوجه من واسط إلى الحيرة وكان بها جند من بني العين نحو ستمائة بعثوا مددا لعامل الهند، فبعثهم خالد مع مقدمهم لقتال بهلول وأصحابه وضمّ إليهم مائتين من الشرط والتقوا على الفرات، فقتل مقدمهم وانهزموا إلى الكوفة، وبعث خالد عابدا الشيبانيّ من بني حوشب بن يزيد بن رويم فلقيه بين الموصل والكوفة فهزمهم إلى الكوفة وارتحل يريد الموصل. ثم بدا له وسار يريد هشاما بالشام وبعث خالد جندا من العراق وعامل الجزيرة جندا، وبعث هشام جندا فاجتمعوا بين الجزيرة والموصل بكحيل وهم في عشرين ألفا وبهلول في سبعين فقاتلوا واستماتوا وصرع بهلول وسأله أصحابه العهد فعهد إلى دعامة الشيبانيّ ثم إلى عمر اليشكريّ من بعده. ومات بهلول من ليلته وهرب دعامة وتركهم ثم خرج عمر اليشكريّ فلم يلبث أن قتل. (ثم خرج) على خالد بعد ذلك بسنتين الغفريّ صاحب الأشهب وبهذا كان يعرف فبعث اليه السمط بن مسلم البجليّ في أربعة آلاف فالتقوا بناحية الفرات فانهزمت الخوارج ولقيهم عبيد أهل الكوفة وغوغاؤهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم. ثم خرج وزير السختيانيّ على خالد بالحيرة فقتل وأحرق القرى فوجّه إليه خالد جندا فقتلوا أصحابه، وأثخن بالجراح وأتى به خالد فوعظه فأعجبه وعظه فأعفاه من القتل. وكان يسامره بالليل وسعى بخالد إلى هشام وأنه أخذ حروريا يستحق القتل فجعله سميرا، فكتب إليه   [1] سعيد بن عمر والحرشيّ: ابن الأثير ج 5 ص 70. [2] في عشرة الاف: ابن الأثير ج 5 ص 70 والعبارة هنا غير واضحة وربما يكون قد سقطت كلمة «من عشرة» أثناء النسخ فتصبح العبارة: في عسكر من عشرة الاف. [3] العبارة هنا غير واضحة والأصح: الى ان ظهر أيام هشام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 هشام بقتله فقتله. ثم خرج بعد ذلك الصخاري بن شبيب بالفريضة فمضى وندم خالد فطلبه فلم يرجع، وأتى جبل وبها نفر من اللّات بن ثعلبة فأخبرهم وقال: إنما أردت التوصل إليه لأقتله بفلان من قعدة الصغرية كان خالد قتله صبرا. ثم خرج معه ثلاثون منهم فوجه إليهم خالد جندا فلقوهم بناحية المناذر فاقتتلوا فقتل الصحاري وأصحابه أجمعون. وردّ أمر الخوارج بعد ذلك مرّة فلما وقعت الفتن أيام هشام بالعراق والشام وشغل مروان بمن انتقض عليه فخرج بأرض كفريموتا سعيد بن بهدل الشيبانيّ في مائتين من أهل الجزيرة وكان على رأي الحرورية، وخرج بسطام البهسيّ في مثل عدّتهم من ربيعة، وكان مخالفا لرأيه، فبعث إليه من الصغريّة أربعة آلاف أو يزيدون. وولّى مروان على العراق النضر بن سعيد الحريشيّ وعزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فامتنع عبد الله بالحيرة، وسار إليه النضر وتحاربا أشهرا. وكانت الصغريّة مع النضر عصبة لمروان لطلبه بدم الوليد وأمه قيسية. فلما علم الضحّاك والخوارج باختلافهم، أقبل إلى العراق سنة سبع وعشرين وزحف إليهم فتراسل ابن عمر والنّضر وتعاقدا واجتمعا لقتاله بالكوفة، وكل واحد منهما يصلى بأصحابه وابن عمر أمير على الناس وجاء الخوارج فقاتلوهم فهزموهم إلى خندقهم ثم قاتلوهم في اليوم الثاني كذلك فسلك الناس إلى واسط منهم النّضر بن سعيد الحريشيّ ومنصور ابن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وغيرهم من الوجوه. فلحق ابن عمر بواسط واستولى الضحّاك على الكوفة وعادت الحرب بين ابن عمر والنضر. ثم زحف إليهما الضحّاك فاتفقا وقاتلا حتى ضرّستهما الحرب، ولحق منصور بن جمهور بالضحّاك والخوارج وبايعهم ثم صالحهم ابن عمر ليشغلوا مروان عنه، وخرج إليهم وصلّى خلف الضحّاك وبايعه وكان معه سليمان بن هشام وصل إليه هاربا من حمص لما انتقض بها وعليه عليها مروان فلحق بابن عمر وبايع معه الضحّاك وصار معه وحرّضه على مروان انما لحق بالضحّاك وهو يحاصر نضيرا وتزوّج أخت شيبان الحروري. فرجع الضحّاك إلى الكوفة وسار منها إلى الموصل بعد عشرين شهرا من حصار واسط، بعد أن دخل أهل الموصل وعليهم القطرن أم أكمه من بني شيبان عامل لمروان فأدخلهم أهل البلد وقاتلهم القطرن فقتل ومن معه وبلغ الخبر إلى مروان وهو يحاصر حمص فكتب إلى ابنه عبد الله أن يسير إلى يمانع الضحّاك عن توسط الجزيرة فسار في ثمانية آلاف فارس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 والضحّاك في مائة ألف وحاصره بنصيبين. ثم سار مروان بن محمد إليه فالتقيا عند كفريموتا من نواحي ماردين فقاتله عامّة يومه إلى الليل وترجّل الضحّاك في نحو ستة آلاف وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وعثر على الضحّاك في القتلى فبعث مروان برأسه إلى [1] الجزيرة وأصبح الخوارج فبايعوا الخبيريّ قائد الضحّاك وعاودوا الحرب مع مروان فهزموه وانتهوا إلى خيامه فقطعوا أطنابهم وجلس الخبيريّ على فرشه والجناحان ثابتان وعلى الميمنة عبد الله بن مروان وعلى الميسرة إسحاق بن مسلم العقيليّ فلما انكشف قلّة الخوارج أحاطوا بهم في مخيم مروان فقتلوهم جميعا والخبيريّ معهم. ورجع مروان من نحو ستة أميال وانصرف الخوارج وبايعوا شيبان الحروريّ وهو شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ ويكنى أبا الدلقاء وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ وأقام في قتالهم أياما وانصرف عن شيبان كثير منهم وارتحلوا إلى الموصل بإشارة سليمان بن هشام وعسكروا شرقي دجلة، وعقدوا الجسور واتبعهم مروان فقاتلهم لتسعة أشهر، وقتل من الطائفتين خلق كثير وأسر ابن أخ لسليمان بن هشام اسمه أمية بن معاوية فقطعه ثم ضرب عنقه وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة وهو بقرقيسياء يأمره بالسير إلى العراق وولّاه عليها وعلى الكوفة يومئذ المثنّى بن عمران العائدي من قريش خليفة للخوارج فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا وانهزمت الخوارج. ثم تجمّعوا له بالنخيلة ظاهر الكوفة فهزمهم، ثم تجمعوا بالبصرة فأرسل شيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة فهزمهم ابن هبيرة وقتل عبيدة واستباح عسكرهم، واستولى على العراق وكان منصور بن جمهور مع الخوارج فمضى إلى الماهين وغلب عليها وعلى الخيل جميعا، وسار ابن هبيرة إلى واسط فحبس ابن عمر وكان سليمان بن حبيب عامل ابن عمر على الأهواز فبعث ابن هبيرة إليه نباتة بن حنظلة، وبعث هو داود بن حاتم والتقيا على دجلة   [1] هنا اربع بياضات بالأصل كما ترى، وان الكلام الّذي بين البياضات غير مترابط وكثير الاغلاط لذلك نقلنا ما ورد في تاريخ الطبري ج 9 ص 76: فذكر هشام عن أبي مخنف ان الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقي مروان بكفرثوثى من أرض الجزيرة فقتل الضحاك يوم التقوا. وابو هاشم مخلد بن محمد بن صالح قال: فيما حدثني احمد بن زهير قال حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم عنه ان الضحاك، لما قتل عطية التغلبي صاحبه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة السليحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بن عمر بواسط وجّه مكانه من أصحابه رجلا يقال له مطاعن، واصطلح عبد الله بن عمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فانهزم داود وقتل وكتب مروان إلى ابن هبيرة أن يبعث إليه عامر بن ضبابة المزنيّ فبعثه في ثمانية آلاف وبعث شيبان لاعتراضه الجون بن كلاب الخارجي في جمع فانهزم عامر وتحصّن بالسند وجعل مروان يمدّه بالجنود وكان منصور بن جمهور بالجبل يمدّ شيبان بالأموال. ثم كثرت جموع عامر فخرج إلى الجون والخوارج اللذين يحاصرونه فهزمهم وقتل الجون وسار قاصدا الخوارج بالموصل، فارتحل شيبان عنها وقدم عامر على مروان فبعثه في اتباع شيبان، فمرّ على الجبل وخرج على بيضاء   [ () ] والضحاك على أن يدخل في طاعته. فدخل وصلى خلفه وانصرف إلى الكوفة. وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط. ودخل الضحّاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكنوه منها، فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهرا حتى انتهى اليها، وعليها يومئذ عامل لمروان وهو رجل من بني شيبان من أهل الجزيرة، يقال له القطران بن أكمه. ففتح أهل الموصل المدينة للضحّاك، وقاتلهم القطران في عدّة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا. واستولى الضحّاك على الموصل وكورها، وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص مشتغل بقتال أهلها. فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه إلى مدينة نصيبين يشغل الضحّاك عن توسط الجزيرة فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلف بحرّان قائدا في ألف أو نحو ذلك. وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين فقاتله فلم يكن له قوّة لكثرة من مع الضحّاك، فهو فيما بلغنا عشرون ومائة ألف.. وأقام الضحّاك على نصيبين محاصرا لها ووجّه قائدين من قواده ( ... ) حتى وردا الرقة فقاتلهم من بها من خيل مروان وهم نحو من خمسمائة فارس. ووجه مروان حين بلغه نزولهم الرقة خيلا من روابطه، فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضحّاك منصرفين إليه فاتبعتهم خيله فاستسقطوا من ساقتهم نيّفا وثلاثين رجلا، فقطعهم مروان حين قدم الرقة ومضى صامدا إلى الضحّاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغزّ من أرض كفرتوثا فقاتله يومه ذلك. فلما كان عند المساء ترجّل الضحاك وترجل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف، وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه وأحدقت بهم خيول مروان، فالحّوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة. وانصرف من بقي من أصحاب الضحّاك إلى عسكرهم، ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحّاك أن الضحّاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل. وجاءهم بعض من عيانه حين ترجل فأخبرهم بخبره ومقتله فبكوه وناحوا عليه. وخرج عبد الملك بن بشر التغلبيّ القائد الّذي كان وجهه في عسكرهم إلى الرقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فاعلمه أن الضحاك قتل. فأرسل معه رسلا من حرسه معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلبا القتلى حتى استخرجوه فاحتملوه حتى أتوا به مروان وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحّاك أنهم قد علموا بذلك. وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها. وقيل: إن الخيبريّ والضحّاك انما قتلا سنة 129. راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 5 ص 348- 349. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 فارس وبها يومئذ عامر بن عبد الله بن حطويه بن جعفر [1] في جموع كثيرة، فسار ابن معاوية إلى كرمان وقاتله عامر فهزمه ولحق بهراة وسار عامر بمن معه فلقي شيبان والخوارج بخيرفت [2] فهزمهم واستباح عسكرهم ومضى شيبان إلى سجستان فهلك بها سنة ثلاثين ومائة، وقيل بل كان قتال مروان وشيبان على الموصل شهرا، ثم انهزم شيبان ولحق بفارس وعامر بن صراة [3] في اتباعه، ثم سار شيبان إلى جزيرة ابن كاوان، وأقام بها. ولما ولي السفّاح بعث حارثة بن خزيمة لحرب الخوارج هنالك لموجدة وجدها عليه، فأشير عليه ببعثه لذلك. فسار في عسكر إلى البصرة وركب السفن إلى جزيرة ابن كاوان، وبعث فضالة بن نعيم النهيليّ في خمسمائة، فانهزم شيبان إلى عمان وقاتل هناك وقتله جلندي بن مسعود بن جعفر بن جلندي ومن معه سنة أربع وثلاثين. وركب سليمان بن هشام السفن بأهله ومواليه إلى الهند بعد مسير شيبان إلى جزيرة ابن كاوان حتى إذ بويع السفّاح قدم عليه وأنشده سديف البيتين المعروفين وهما: لا يغرّنّك ما ترى من رجال ... إنّ بين الضّلوع داء دويّا فضع السيف وارفع الصوت حتّى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا فقتله السفّاح وانصرف مروان بعد مسير شيبان إلى الموصل الى منزله بحرّان. فلم يزل بها حتى سار إلى الزاب، ومضى شيبان بعد سلمة إلى خراسان والفتنة بها يومئذ بين نصر ابن سيّار والكرماني والحرث بن شريح وقد ظهر أبو مسلم بالدعوة العباسية فكان له من الحوادث معهم ما ذكرناه واجتمع مع علي بن الكرماني على قتال نصر بن سيّار فلما صالح الكرماني أبا مسلم كما مرّ وفارق شيبان تنحّى شيبان عن عمر لعلمه أنه لا يقاومه. ثم هرب نصر بن سيّار إلى سرخس واستقام أمر أبي مسلم بخراسان، فأرسل إلى شيبان يدعوه إلى البيعة ويأذنه بالحرب، واستجاش بالكرماني فأبى، فسار إلى سرخس واجتمع إليه الكثير من بكر بن وائل، وأرسل إليه أبو مسلم في الموادعة، فحبس الرسل، فكتب أبو مسلم إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني ليث بالمسير إلى شيبان   [1] عبد الله بن معاوية بن حبيب بن جعفر: ابن الأثير ج 5 ص 355. [2] جيرفت: المرجع السابق وقد مر ذكرها من قبل. [3] عامر بن ضبارة: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فسار إليه فهزمه وقتل في عدّة من بكر بن وائل. ويقال إنّ خزيمة بن حازم حضر مع بسّام في ذلك. خبر أبى حمزة وطالب وإسحق كان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي البصري [1] وكان من الخوارج الإباضية وكان يوافي مكة كل موسم يدعو إلى خلاف مروان، وجاء عبد الله ابن يحيي المعروف بطالب الحق سنة ثمان وعشرين وهو من حضرموت فقال له: انطلق معي فإنّي مطاع في قومي. فانطلق معه إلى حضرموت وبايعه على الخلافة وبعثه عبد الله سنة تسع وعشرين مع بلخ بن عقبة الأزدي [2] في سبعمائة فقدموا مكة وحكموا بالموقف وعامل المدينة يومئذ عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، فطلبهم في الموادعة حتى ينقضي الموسم. وأقام للناس حجّهم ونزل بمعنى وبعث إلى أبي حمزة عبيد الله بن حسن بن الحسن ومحمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد وعبيد الله ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر [3] بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن في أمثالهم، فكشّر في وجه العلويّ والعثمانيّ وانبسط إلى البكريّ والعمريّ، وقال لهما: ما خرجنا إلا بسيرة أبويكما! فقال له عبيد الله بن حسن: ما جئنا للتفضيل بين آبائنا وإنما جئنا برسالة من الأمير وربيعة يخبرك بها. ثم أحكموا معه الموادعة إلى مدتها. ونفر عبد الواحد في النفر الأوّل فمضى إلى المدينة وضرب على أهلها البعث وزادهم في العطاء عشرة، وبعث عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ابن عثمان، فانتهوا إلى فديك. وجاءتهم رسل أبي حمزة يسألونهم التجافي عن حربهم وأن يخلوا بينهم وبين عدوّهم فلما نزلوا قديد وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب، فطلع عليهم أصحاب أبي حمزة من الغياض فأثخنوا فيهم وكان قتلاهم نحو سبعمائة من قريش. وبلغ الخبر إلى عبد الواحد فلحق بالشام ودخل أبو حمزة المدينة منتصف صفر سنة ثلاثين وخطب على المنبر وأعلن بدعوته ووعظ، وذكر وردّ مقالات من عليهم وسفّه رأيهم وأحسن السيرة في أهل المدينة واستمالهم حتى سمعوه   [1] المختار بن عوف الازدي السلّمي البصري: ابن الأثير ج 5 ص 351. [2] بلج بن عقبة الازدي: ابن الأثير ج 5 ص 373. [3] وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم وعمر بن ربيعة: ابن الأثير ج 5 ص 374. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 يقول: من زنا فهو كافر ومن سرق فهو كافر وأقام ثلاثة أشهر، ثم ودّعهم وسار نحو الشام. وكان مروان قد سرّح إليهم عبد الملك بن محمد بن عطيّة بن هوازن في أربعة آلاف ليقاتل الخوارج حتى يبلغ اليمن فلقي أبا حمزة في وادي القرى، فانهزمت الخوارج وقتل أبو حمزة ولحق فلّهم بالمدينة. وسار عطية في أثرهم إلى المدينة فأقام بها شهرا، ثم سار إلى اليمن واستخلف على المدينة الوليد ابن أخيه عروة، وعلى مكّة رجلا من أهل الشام. وبلغ عبد الله طالب الحق مسيره إليه وهو بصنعاء فخرج للقائه، واقتتلوا، وقتل طالب الحق وسار ابن عطيّة إلى صنعاء وملكها. وجاء كتاب مروان بإقامة الحج بالناس، فسار في اثني عشر رجلا ومعه أربعون ألف دينار وخلّف ثقله بصنعاء ونزل الحرف فاعترضه ابن حماية المرادي في جمع، وقال له ولأصحابه: أنتم لصوص فاستظهروا بعهد مروان فكذّبوه وقاتلهم فقتلوه. وركد ريح الخوارج من يومئذ إلى أن ظهرت الدولة العبّاسية وبويع المنصور بعد السفّاح (فخرج سنة سبع وثلاثين) بالجزيرة ملبد بن حرملة الشيبانيّ فسارت اليه روابط الجزيرة في ألف فارس فهزمهم وقاد منهم. ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلّبيّ ومهلّل بن صفوان مولى المنصور، ثم نزار من قوّاد خراسان، ثم زياد بن مسكان ثم صالح بن صبيح فهزمهم كلهم واحدا بعد واحد، وقتل منهم. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو عامل الجزيرة فهزمه وتحصّن حميد منه، فبعث المنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبّار في الجيوش، ومعه زياد بن مسكان فأكمن له الملبّد، وقاتلهم. ثم خرج الكعبين [1] فانهزم عبد العزيز وقتل عامّة أصحابه فبعث المنصور حازم بن خزيمة في ثمانية آلاف من أهل خراسان فسار إلى الموصل وعبر إليه الملبّد دجلة فقاتله فانهزم أهل الميمنة وأهل الميسرة من أصحاب حازم، وترجّل حازم وأصحابه، وترجّل ملبّد كذلك. وأمر حازم أصحابه فنضحوهم بالنبل، واشتدّ القتال وتزاحفت الميمنة والميسرة ورشقوهم، فقتل ملبّد في ثمانمائة ممن ترجل معه، وثلاثمائة قبل أن يترجل. وتبعهم فضالة صاحب الميمنة فقتل منهم زهاء مائة وخمسين. ثم خرج سنة ثمان وأربعين أيام المنصور بنواحي الموصل حسّان بن مخالد [2] بن مالك بن الأجدع   [1] حسب مقتضى السياق «الكمين» . [2] حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمدانيّ: ابن الأثير ج 5 ص 584. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 الهمدانيّ أخو مسروق. وكان على الموصل الصغر بن يجدة [1] وليها بعد حرب بن عبد الله، فسار إليهم فهزموه إلى الدجلة. وسار حسّان إلى العمّال ثم إلى البحر وركب إلى السند وقاتل، وكاتب الخوارج بعمان يدعوهم ويستأذنهم في اللحاق بهم فأبوا، وعاد إلى الموصل فخرج إليه الصّفر بن الحسن ابن صالح بن جنادة الهمذاني وهلال، فقتل هلالا واستبقى ابن الحسن فاتهمه بعض أصحابه بالعصبيّة وفارقوه. وقد كان حسّان أمّه من الخوارج وخاله حفص بن أشتم من فقهائهم ولما بلغ المنصور خروجه قال: خارجي من همذان فقيل له إنه ابن أخت حفص بن أشتم. قال: من هناك وإنما أنكر المنصور ذلك لأنّ عامّة همذان شيعة. وعزم المنصور على الفتك بأهل الموصل، فإنّهم عاهدوه على أنهم إن خرجوا فقد فلت ديارهم وأموالهم وأحضر أبا حنيفة وابن أبي ليلى بن شبرمة واستفتاهم فتلطّفوا له في العفو فأشار إلى أبي حنيفة فقال: أباحوا ما لا يملكون كما لو أباحت امرأة، فزوّجها بغير عقد شرعيّ فكف عن أهل الموصل. ثم خرج أيام المهدي بخراسان يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرّة واجتمع شركس فبعث إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيبانيّ ابن أخي معن فاقتتلوا قتالا شديدا وأسره يزيد وبعث به إلى المهدي موثقا، وحمل من النهروان على بعير وحوّل وجهه إلى ذنبه كذلك فدخلوا إلى الرصافة وقطعوا ثم صلبوا [2] . وكان حروبا متعودا فغلب على بوشنج ومروالروذ والطالقان والجوزجان، وكان على بوشنج مصعب بن زريق جدّ طاهر بن الحسين فهرب منه وكان من أصحابه معاذ الفارياني وقبض معه ثم خرج معه أيام المهدي بالجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي سنة تسع وستين وهزم منصور بن زياد وصاحب الخراج وقوي أمره، ثم اغتاله بعض أصحابه فقتله. ثم خرج آخر أيام المهدي بأرض الموصل خارجيّ من بني تميم اسمه ياسين يميل إلى مقاتلة صالح بن مسرّح فهزم عسكر الموصل وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فبعث إليه المهدي القائد أبا هريرة محمد بن مروخ وهزيمة بن أعين مولى بني ضبّة فحارباه حتى قتل في عدّة من أصحابه وانهزم الباقون. ثم خرج بالجزيرة أيام الرشيد سنة ثمان وسبعين الوليد بن طريف من بني مغلب، وقتل إبراهيم بن خالد ابن خزيمة بنصيبين، ثم دخل أرمينية وحاصر خلاط عشرين يوما وافتدوا بثلاثين   [1] الصقر بن نجدة: المرجع السابق. [2] حسب مقتضى السياق: فقطّعوه ثم صلبوه والضمير يعود إلى يوسف بن إبراهيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 ألفا. ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى حلوان وأرض السواد، وعبر إلى غرب دجلة وعاث في أرض الجزيرة، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيبانيّ، وهو ابن أخي معن في العساكر فمكث يقاتله، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فاغروا به الرشيد وأنه أبقى على الوليد برجم وائل. فكتب إليه الرشيد يتهدّده فناجزه يزيد الحرب في رمضان سنة تسع وسبعين وقاتلهم قتالا شديدا فقتل الوليد وجيء برأسه. ثم أصبحت أخته مستلئمة للحرب فخرج إليها يزيد وضربها على رأسها بالرمح وقال لها اعدي فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت وهي تقول في رثائه الأبيات المشهورة التي منها: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحبّ الزاد إلّا من التقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف وانقرضت كلمة هؤلاء بالعراق والشام، فلم يخرج بعد ذلك إلّا شذاذ متفرّقون يستلحمهم الولاة بالنواحي إلّا ما كان من خوارج البربر بإفريقية، فإنّ دعوة الخارجية فشت فيهم من لدن مسيرة الظّفريّ سنة ثلاث وعشرين ومائة. ثم فشت دعوة الإباضيّة والصّفريّة منهم في هوارة ولماية ونفزة ومغيلة وفي مغراوة وبني يفرن من زناتة حسبما يذكر في أخبار البربر لسي رستم من الخوارج بالغرب دولة في تاهرت من الغرب الأوسط نذكرها في أخبار البربر أيضا. ثم سار بإفريقية منهم على دولة العبيديّين خلفاء القيروان أبو يزيد بن مخلد المغربيّ، وكانت له معهم حروب وأخبار تذكرها في موضعها. ثم لم يزل أمرهم في تناقص إلى أن اضمحلّت ديانتهم وافترقت جماعتهم وبقيت آثار نحلتهم في أعقاب البربر الذين دانوا بها أوّل الأمر. ففي بلاد زناتة بالصحراء منها أثر باق لهذا العهد في قصور ربع وواديه، في مغراوة من شعوب زناتة ويسمّون الراهبية نسبة إلى عبد الله بن وهب الراهبي. أوّل من بويع منهم أيام عليّ بن أبي طالب. وهم في قصور هنالك مظهرين لبدعتهم لبعدهم عن مقال أهل السنّة والجماعة، وكذلك في جبال طرابلس وزناتة أثر باق تلك النحلة تدين بها أولئك البربر في المجاورة لهم مثل ذلك وتطير إلينا هذا العهد من تلك البلاد دواوين ومجلّدات من كلامهم في فقه الدين، وتمهيد عقائده، وفروعه مباينة لمناحي السنّة وطرقها بالكلية، إلّا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف والترتيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة. وكان بنواحي البحرين وعمان إلى بلاد حضرموت وشرقي اليمن ونواحي الموصل آثار تفشي وعروق في كل دولة، إلى أن خرج عليّ بن مهدي من خولان باليمن ودعا إلى هذه النحلة. وغلب يومئذ من كان من الملوك باليمن واستلحم بني الصليحيّ القائمين بدعوة العبيديّين من الشيعة وغلبوهم على ما كان بأيديهم من ممالك اليمن، واستولوا أيضا على زبيد ونواحيها من يد موالي بني نجاح ومولى ابن زياد كما نذكر ذلك كله في أخبارهم إن شاء الله سبحانه وتعالى. فلتصفح في أماكنها. ويقال إنّ باليمن لهذا العهد شيعة من هذه الدعوة ببلاد حضرموت، والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. الدولة الإسلامية بعد افتراق الخلافة لم يزل أمر الإسلام جميعا دولة واحدة أيام الخلفاء الأربعة وبني أمية من بعدهم لاجتماع عصبية العرب. ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة، وهم الدعاة لأهل البيت، فغلب دعاة بني العبّاس على الأمر واستقلوا بخلافة الملك، ولحق الفلّ من بني أمية بالأندلس، فقام بأمرهم فيها من كان هنالك من مواليهم، ومن هرب، فلم يدخلوا في دعوة بني العبّاس، وانقسمت لذلك دولة الإسلام بدولتين لافتراق عصبية العرب. ثم ظهر دعاة أهل البيت بالمغرب والعراق من العلويّة ونازعوا خلفاء بني العبّاس واستولوا على القاصية من النواحي كالأدارسة بالمغرب الأقصى، والعبيديّين بالقيروان ومصر، والقرامطة بالبحرين، والدواعي بطبرستان والديلم والأطروش فيها من بعده. وانقسمت دولة الإسلام بذلك دولا متفرّقة نذكرها واحدة بعد واحدة. ونبدأ منها أوّلا بذكر الشيعة ومبادئ دولهم، وكيف انساقت إلى العبّاسية ومن بعدهم إلى آخر دولهم. ثم نرجع إلى دولة بني أمية بالأندلس. ثم نرجع إلى دولة الدعاة للدولة العبّاسية في النواحي من العرب والعجم كما ذكرناه في برنامج الكتاب، والله الموفق للصواب. مبدأ دولة الشيعة (أعلم) أن مبدأ هذه الدولة أنّ أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر وأنّ الخلافة لرجالهم دون من سواهم من قريش. وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 الصحيح أنّ العبّاس قال لعليّ في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي توفي فيه: اذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال له عليّ: إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده. وفي الصحيح أيضا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الّذي توفي فيه: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا فاختلفوا عنده في ذلك، وتنازعوا ولم يتم الكتاب. وكان ابن عبّاس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم، حتى لقد ذهب كثير من الشيعة إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى في مرضه ذلك لعليّ، ولم يصح ذلك من وجه يعوّل عليه. وقد أنكرت هذه الوصية عائشة وكفى بإنكارها. وبقي ذلك معروفا من أهل البيت وأشياعهم. وفيما نقله أهل الآثار أنّ عمر قال يوما لابن العبّاس: إنّ قومكم يعني قريشا ما أرادوا أن يجمعوا لكم، يعني بني هاشم بين النبوّة والخلافة فتحموا عليهم، وأنّ ابن عبّاس نكر ذلك، وطلب من عمر إذنه في الكلام فتكلّم بما عصب له. وظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أنّ في نفوس أهل البيت شيئا من أمر الخلافة والعدول عنهم بها. وفي قصّة الشورى: أنّ جماعة من الصحابة كانوا يتشيعون لعليّ ويرون استحقاقه على غيره، ولما عدل به إلى سواه تأفّفوا من ذلك وأسفوا له مثل الزبير ومعه عمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود وغيرهم. إلا أنّ القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الألفة، لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفّف والأسف. ثم لما فشا التكبّر على عثمان والطعن في الآفاق كان عبد الله ابن سبإ ويعرف بابن السوداء، من أشدّ الناس خوضا في التشنيع لعليّ بما لا يرضاه من الطعن على عثمان وعلى الجماعة في العدول إليه عن عليّ، وأنه وليّ بغير حق، فأخرجه عبد الله بن عامر من البصرة ولحق بمصر فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحوا إلى الغلوّ في ذلك وانتحال المذاهب الفاسدة فيه، مثل خالد بن ملجم وسوذان بن حمدان وكنانة بن بشر وغيرهم. ثم كانت بيعة عليّ وفتنة الجمل وصفين، وانحراف الخوارج عنه بما أنكروا عليه من التحكيم في الدين. وتمحّضت شيعته للاستماتة معه في حرب معاوية مع عليّ، وبويع ابنه الحسن وخرج عن الأمر لمعاوية، فسخط ذلك شيعة عليّ منه وأقاموا يتناجون في السرّ باستحقاق أهل البيت والميل إليهم، وسخطوا من الحسن ما كان منه، وكتبوا إلى الحسين بالدعاء له فامتنع، وأوعدهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 إلى هلاك معاوية. فساروا إلى محمد بن الحنفيّة وبايعوه في السرّ على طلب الخلافة متى أمكنه، وولّى على كل بلد رجلا، وأقاموا على ذلك ومعاوية يكف بسياسة من غربهم، ويقتلع الداء إذا تعيّن له منهم، كما فعل بحجر بن عديّ وأصحابه، ويروّض من شماس أهل البيت ويسامحهم في دعوى تقدّمهم واستحقاقهم. ولا يهيّج أحدا منهم بالتثريب عليه في ذلك، إلى أن مات ووليّ يزيد، وكان من خروج الحسين وقتله ما هو معروف، فكانت من أشنع الوقائع في الإسلام. عظمت بها الشحناء، وتوغّل الشيعة في شأنهم، وعظم النكير والطعن على من تولّى ذلك أو قعد عنه ثم تلاوموا على ما أضاعوه من أمر الحسين وأنهم دعوه ثم لم ينصروه فندموا ورأوا أن لا كفّارة في ذلك إلا الاستماتة دون ثأره، وسمّوا أنفسهم التوّابين. وخرجوا لذلك يقدمهم سليمان بن صرد الخزاعيّ، ومعه جماعة من خيار أصحاب عليّ. وكان ابن زياد قد انتقض عليه العراق ولحق بالشام وجمع وزرينج [1] قاصدا العراق فزحفوا إليه وقاتلوه حتى قتل سليمان وكثير من أصحابه كما ذكرنا في خبره وذلك سنة خمس وستين. ثم خرج المختار بن أبي عبيد ودعا لمحمد بن الحنفية كما قدّمناه في خبره، وفشا التعصّب لأهل البيت في الخاصة والعامة بما خرج عن حدود الحق، واختلفت مذاهب الشيعة فيمن هو أحق بالأمر من أهل البيت، وبايعت كل طائفة لصاحبها سرّا ورسخ الملك لبني أمية وطوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على عقائدهم فيها، وتستّروا بها مع تعدّد فرقهم وكثرة اختلافهم كما ذكرناه عند نقل مذاهبهم في فصل الإمامة من الكتاب الأوّل. ونشأ زيد بن عليّ بن الحسين وقرأ على واصل بن عطاء إمام المعتزلة في وقته، وكان واصل متردّدا في إصابة عليّ في حرب صفين والجمل، فنقل ذلك عنه وكان أخوه محمد الباقر يعذله في الأخذ عمن يرى سخطيّة جدّه، وكان زيد أيضا مع قوله بأفضلية عليّ على أصحابه، يرى أنّ بيعة الشيخين صحيحة وأنّ إقامة المفضول جائزة خلاف ما عليه الشيعة. ويرى أنهما لم يظلما عليّا. ثم دعته الحال إلى الخروج بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة، واجتمع له عامّة الشيعة ورجع عنه بعضهم لما سمعوه يثني على الشيخين وأنهما لم يظلما عليّا. وقالوا: لم يظلمك هؤلاء ورفضوا دعوته فسمّوا الرافضة من أجل ذلك. ثم قاتل يوسف بن عمر   [1] العبارة مبتورة وغير واضحة وفي الكامل ج 4 ص 164: «وكان مروان قد سيّر ابن زياد إلى الجزيرة، ثم إذا فرغ منها سار الى العراق» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 فقتله يوسف وبعث برأسه إلى هشام وصلب شلوه بالكناسة ولحق ابنه يحيى بخراسان فأقام بها، ثم دعته شيعة إلى الخروج فخرج هنالك سنة خمس وعشرين، وسرّح إليه نصر بن سيّار العساكر مع سالم بن أحور المازنيّ فقتلوه وبعث برأسه إلى الوليد وصلب شلوه بالجوزجان وانقرض شأن الزيدية. وأقام الشيعة على شأنهم وانتظار أمرهم، والدعاء لهم في النواحي يدعون على الأحجال [1] للرضا من آل محمد، ولا يصرّحون بمن يدعون له حذرا عليه من أهل الدولة. وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت، وكانوا يرون أنّ الأمر بعد محمد بن الحنفيّة لابنه أبي هشام عبد الله. وكان كثيرا ما يغدو على سليمان بن عبد الملك فمرّ في بعض أسفاره محمد بن علي ابن عبد الله بن عبّاس بمنزله بالحميمة من أعمال البلقاء فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات، وأوصى له بالأمر. وقد كان أعلم شيعته بالعراق وخراسان أنّ الأمر صائر إلى ولد محمد بن عليّ هذا، فلما مات قصدت الشيعة محمد بن عليّ وبايعوه سرّا. وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق على رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز، وأجابه عامّة أهل خراسان وبعث عليهم النقباء وتداول أمرهم هنالك. وتوفي محمد سنة أربع وعشرين وعهد لابنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلك وكانوا يسمّونه الإمام. ثم بعث أبو مسلم إلى أهل دعوته بخراسان ليقوم فيهم بأمره فهلك، وكتب إليهم بولايته ثم قبض مروان بن محمد على إبراهيم الإمام وحبسه بخراسان فهلك هنالك لسنة. وملك أبو مسلم خراسان وزحف إلى العراق فملكها كما ذكرنا ذلك كله من قبل وغلبوا بني أمية على أمرهم وانقرضت دولتهم. الخبر عن بني العبّاس من دول الإسلام في هذه الطبقة الثالثة للعرب وأولية أمرهم وإنشاء دولتهم والإلمام بنكت أخبارهم وعيون أحاديثهم هذه الدولة من دولة الشيعة كما ذكرناه وفرقها منهم يعرفون بالكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن عليّ بن الحنفية بعد عليّ، ثم بعده إلى ابنه أبي هشام عبد الله. ثم   [1] الأحجال: ج حجل وهو القيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 بعده إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بوصيته كما ذكرنا. ثم بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد، ثم بعده إلى أخيه أبي العبّاس السفّاح وهو عبد الله بن الحارثية، هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية ويسمّون أيضا الحرماقيّة نسبة إلى أبي مسلم لأنه كان يلقب بحرماق. ولبني العبّاس أيضا شيعة يسمّون الراوندية من أهل خراسان يزعمون أنّ أحق الناس بالإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم هو العبّاس، لأنه وارثه وعاصبه لقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وأنّ الناس منعوه من ذلك وظلموه إلى أن ردّه الله إلى ولده، ويذهبون إلى البراءة من الشيخين وعثمان ويجيزون بيعة عليّ لأنّ العباس قال له يا ابن أخي هلم أبايعك فلا يختلف عليك اثنان ولقول داود بن عليّ (عم الخليفة العبّاسي) على منبر الكوفة يوم بويع السفّاح: يا أهل الكوفة إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب وهذا القائم فيكم يعني السفّاح. دولة السفاح قد تقدّم لنا كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم، ثم استيلاء شيعتهم على خراسان والعراق، ثم بيعة السفّاح بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ثم قتل مروان بن محمد وانقراض الدولة الأموية. ثم خرج بعض أشياعهم وقوّادهم وانتقضوا على أبي العبّاس السفّاح، وكان أوّل من انتقض حبيب بن مرّة المرّيّ من قوّاد مروان، وكان بخولان والبلقاء خاف على نفسه وقومه، فخلع وبيض ومعناه لبس البياض ونصب الرايات البيض مخالفة لشعار العبّاسية في ذلك. وتابعته قيس ومن يليهم والسفّاح يومئذ بالحيرة بلغه أنّ أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابيّ انتقض بقنّسرين، وكان من قوّاد مروان، ولما انهزم مروان وقدم عليه عبد الله بن عليّ بايعه ودخل في دعوة العبّاسية وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فبعث بهم وبنسائهم القائد الّذي جاءهم من قبل عبد الله بن عليّ. وشكوا ذلك إلى أبي الورد فقتل القائد، وخلع معه أهل قنّسرين، وكاتبوا أهل حمص في الخلاف وقدّموا عليهم أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية، وقالوا هو السفياني الّذي يذكر. ولما بلغ ذلك عبد الله بن عليّ وادع حبيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 ابن مرّة وسار إلى أبي الورد بقنّسرين ومرّ بدمشق، فخلع بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه وأثقاله، وسار إلى حمص فبلغه أنّ أهل دمشق خلعوا وبيّضوا وقام فيهم بذلك عثمان بن عبد الأعلى ابن سراقة الأزدي. وأنّهم هزموا أبا غانم وعسكره وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وانتهبوا ما خلف عندهم فأعرض عن ذلك وسار للقاء السفياني وأبي الورد، وقدّم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف فكشف ورجع إلى أخيه عبد الله منهزما، فزحف عبد الله في جماعة القوّاد ولقيهم بمرج الأحزم وهم في أربعين ألفا فانهزموا، وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه فقتلوا جميعا. وهرب أبو محمد إلى ترمذ وراجع أهل قنّسرين طاعة العبّاسيّة ورجع عبد الله بن علي إلى قتال أهل دمشق ومن معهم. فهرب عثمان بن سراقة ودخل أهل دمشق في الدعوة وبايعوا لعبد الله بن عليّ، ولم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز متغيبا إلى أيام المنصور فقتله زياد بن عبد الله الحارثي عامل الحجاز يومئذ، وبعث برأسه إلى المنصور مع ابنين له أسيرين فأطلقهما المنصور. ثم خلع أهل الجزيرة وبيّضوا وكان السفّاح قد بعث إليهما ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعب من قواده وأنزلهم بحرّان. وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية، فلما بلغته هزيمة مروان سار عنها واجتمع إليه أهل الجزيرة، وحاصروا موسى بن كعب بحرّان شهرين فبعث السفّاح أخاه أبا جعفر إليهم وكان محاصرا لابن هبيرة بواسط، فسار لقتال إسحاق بن مسلم، ومرّ بقرقيسياء والرقّة وأهلهما قد خلعوا وبيّضوا. وسار نحو حرّان فأجفل إسحاق بن مسلم عنها، ودخل الرها وبعث أخاه بكّار بن مسلم إلى قبائل ربيعة بنواحي ماردين، ورئيسهم يومئذ برمكة من الحروريّة، فصمد إليهم أبو جعفر فهزمهم وقتل برمكة في المعركة وانصرف بكّار إلى أخيه إسحاق، فخلعه بالرها وسار إلى شمشاط بمعظم عسكره. وجاء عبد الله بن عليّ فحاصره، ثم جاء أبو جعفر فحاصروه سبعة أشهر وهو يقول: لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقّن موت صاحبها. ثم تيقّن موت مروان فطلب الأمان واستأذنوا السفّاح، فأمرهم بتأمينه وخرج إسحاق إلى أبي جعفر فكان من آثر أصحابه. واستقام أهل الجزيرة والشام وولّى السفّاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فلم يزل عليها حتى استخلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 حصار ابن هبيرة بواسط ومقتله ثم تقدّم لنا هزيمة يزيد بن هبيرة امام الحسن بن قحطبة وتحصنه بواسط وكان جويرة [1] وبعض أصحابه أشاروا عليه بعد الهزيمة باللحاق بالكوفة فأبى. وأشار عليه يحيي بن حصين [2] باللحاق بمروان وخوّفه عاقبة الحصار فأبى خشية على نفسه من مروان واعتصم بواسط. وبعث أبو مسلمة [3] الحسن بن قحطبة في العسكر لحصاره وعلى ميمنته ابنه داود [4] فانهزم أهل الشام واضطرّوا إلى دجلة وغرق منهم كثير. ثم تحاجزوا ودخل ابن هبيرة المدينة وخرج لقتالهم ثانية بعد سبعة أيام فانهزم كذلك، ومكثوا أياما لا يقتتلون إلا رميا. وبلغ ابن هبيرة أن أبا أمية الثعلبيّ [5] قد سوّد فحبسه فغضبت لذلك ربيعة ومعن بن زائدة وحبسوا ثلاثة نفر من فزارة رهنا في أبي أمية، واعتزل معن وعبد الله بن عبد الرحمن بن بشير العجليّ فيمن معهما فخلّى ابن هبيرة سبيل أبي أمية وصالحهم وعادوا إلى اتفاقهم. ثم قدم على الحسن بن قحطبة من ناحية سجستان أبو نصر مالك بن الهيثم فأوقد [6] غيلان بن عبد الله الخزاعي على السفّاح يخبره بقدوم أبي نصر، وكان غيلان واجدا على الحسن، فرغب من السفّاح أن يبعث عليهم رجلا من أهل بيته، فبعث أخاه أبا جعفر، وكتب إلى الحسن العسكر لك والقوّاد قوّادك ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرا فأحسن طاعته ومؤازرته. وقدم أبو جعفر فأنزله الحسن في خيمته وجعل على حرسه عثمان بن نهيك. ثم تقدّم مالك بن الهيثم لقتال أهل الشام وابن هبيرة فخرجوا لقتاله وأكمنوا معن بن زائدة وأبا يحيى الجرافي [7] ثم استطردوا لابن الهيثم وانهزموا للخنادق فخرج عليهم معن وأبو يحيى فقاتلوهم إلى الليل وتحاجزوا   [1] حوثرة: ابن الأثير ج 5 ص 438. [2] يحيي بن حضين: ابن الأثير ج 5 ص 438. [3] ابو سلمة: ابن الأثير ج 5 ص 438. [4] «وخرج ابن هبيرة وعلى ميمنته ابنه داود، فالتقوا وعلى ميمنة الحسن خازم بن خزيمة» ابن الأثير ج 5 438. [5] ابا أمية التغلبي: المرجع السابق. [6] اي الحسن بن قحطبة هو الّذي أوفد. [7] ابا يحيي الجذامي: ابن الأثير ج 5 ص 440. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وأقاموا بعد ذلك أياما. ثم خرج أهل واسط مع معن ومحمد بن نباتة، فهزمهم أصحاب الحسن إلى دجلة فتساقطوا فيها وجاء مالك بن الهيثم فوجد ابنه قتيلا في المعركة، فحمل على أهل واسط حتى أدخلهم المدينة. وكان مالك يملأ السفن حطبا ويضرمها نارا فتحرق ما تمرّ به فيأمر ابن هبيرة بأن تجر بالكلاليب، ومكثوا كذلك أحد عشر شهرا. وجاء إسماعيل بن عبد الله القسريّ إلى ابن هبيرة بقتل مروان وفشلت اليمانية عن القتال معهم، وتبعهم الفزاريّة فلم يقاتل معه إلا الصعاليك. وبعث ابن هبيرة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى بأن يبايع له فأبطأ عنه جوابه، وكاتب السفّاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحرثيان، ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له جهة السفّاح ولم يفعلا وتردّد الشعراء بين أبي جعفر وابن هبيرة في الصلح، وأن يكتب له كتاب أمان على ما اختاره ابن هبيرة وشاور فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه وأنفذه إلى أبي جعفر فأنفذه إلى السفّاح وأمر بإمضائه، وكان لا يقطع أمرا دون أبي مسلم، فكتب إليه يحي بن هبيرة قد خرج بعد الأمان إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة فلقيه الحاجب سلّام بن سليم فأنزله وأجلسه على وسادة وأطاف بحجرة أبي جعفر عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن لابن هبيرة فدخل على المنصور وحادثة وخرج عنه ومكث يأتيه يوما ويغبه يوما. ثم أغرى أبا جعفر أصحابه بأنه يأتي في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل فيهتز له العسكر فأمر أبو جعفر أن يأتي في حاشيته فقط. فكان يأتي في ثلاثين ثم آخرا في ثلاثة ثم الحّ السفّاح على أبي جعفر في قتله، وهو يراجعه للأمان الّذي كتب له حتى كتب إليه السفّاح والله لتقتلنه أو لأبعثنّ من يخرجه من حجرتك فيقتله. فبعث أبو جعفر إلى وجوه القيسيّة والمضرية وقد أعدّ لهم ابن نهيك في مائة من الخراسانية في بعض حجره. وجاء القوم في اثنين وعشرين رجلا يقدمهم محمد بن نباتة وجويرة [1] بن سهيل فدعاهم سلّام الحاجب رجلين رجلين وعثمان بن نهيك يقيدهما إلى أن استكملهم وبعث أبو جعفر لحازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة في مائة إلى ابن هبيرة فقالوا: نريد حمل المال فدلّهم حاجبه على الخزائن فأقاموا عندها الرجال وأقبلوا نحوه فقام حاجبه في وجوههم، فضربه الهيثم فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل في جماعة من مواليه ثم قتل ابن هبيرة آخرا وحملت رءوسهم   [1] حوثرة بن سهيل: ابن الأثير ج 5 ص 441. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 إلى أبي جعفر. ونادى بالأمان للناس إلّا الحكم بن عبد الملك أبي بشر وخالد بن مسلمة المخزومي وعمر بن در [1] فهرب الحكم وأمن أبو جعفر خالدا فلم يجز السفّاح أمانه وقتله واستأمن زياد بن عبيد الله لابن در فأمنه. مقتل أبي مسلمة بن الخلال وسليمان بن كثير قد تقدّم لنا ما كان من أبي مسلمة الخلال في أمر أبي العباس السفّاح واتهام الشيعة في أمره وتغير السفّاح عليه وهو بعكوة أعين [2] ظاهر الكوفة. ثم تحوّل إلى مدينة الهاشمية ونزل قصرها وهو يتنكر لأبي مسلمة، وكتب إلى أبي مسلم ببغيته وبرأيه فيه، فكتب إليه أبو مسلم بقتله. وقال له داود بن عليّ لا تفعل فيحتج بها أبو مسلم عليك والذين معك أصحابه وهم له أطوع، ولكن أكتب إليه يبعث من يقتله ففعل. وبعث أبو مسلم مرار بن أنس الضّبيّ فقتله. فلما قدم نادى السفّاح بالرضا عن أبي مسلمة ودعا به وخلع عليه ثم دخل عنده ليلة أخرى فسهر عامّة ليله، ثم انصرف إلى منزله فاعترضه مرار بن أنس وأصحابه فقتلوه وقالوا قتله الخوارج. وصلى عليه من الغد يحيى أخو السفّاح وكان يسمّى وزير آل محمد وأبو مسلم أمير آل محمد. وبلغ الخبر إلى أبي مسلم، وسرّح سليمان بن كثيّر بالنكير لذلك فقتله أبو مسلم، وبعث على فارس محمد بن الأشعث وأمره أن يقتل ابن أبي مسلمة ففعل. عمال السفاح ولما استقام الأمر للسفّاح ولّى على الكوفة والسواد عمّه داود بن عليّ ثم عزله وولّاه على الحجاز واليمن واليمامة وولّى مكانه على الكوفة عيسى ابن أخيه موسى بن محمد. ثم توفي داود سنة ثلاث وثلاثين فولّى مكانه على الحجاز واليمامة خالد بن زياد بن عبيد الله بن عبيد وعلى اليمن محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد [3]   [1] عمر بن ذرّ: ابن الأثير ج 5 ص 442. [2] العبارة هنا غير واضحة وفي الكامل ج 5 ص 436: «وتغيّر السفّاح عليه وهو بعسكره، بحمّام أعين.» [3] بياضان بالأصل، وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 147: لا وفيها مات داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، وكانت ولايته فيما ذكر محمد بن عمر ثلاثة أشهر، واستخلف داود بن علي حين حضرته الوفاة على عمله ابنه موسى. ولمّا بلغت ابا العباس وفاته وجه على المدينة ومكة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثيّ، ووجه محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان على اليمن.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وولّى السفّاح على البصرة سفيان بن معاوية المهلّبيّ، ثم عزله وولى مكانه عمّه سليمان بن عليّ وأضاف إليه كور دجلة والبحرين وعمان. وولّى عمّه إسماعيل بن عليّ الأهواز وعمّه عبد الله بن عليّ على الشام، وأبا عون عبد الملك ابن يزيد على مصر، وأبا مسلم على خراسان، وبرمك على ديوان الخراج. وولى عمّه عيسى بن عليّ على فارس، فسبقه إليها محمد بن الأشعث من قبل أبي مسلم. فلما قدم عليه عيسى همّ محمد بقتله، وقال أمرني أبو مسلم أن أقتل من جاءني بولاية من غيره. ثم أقصر عن قتله واستحلفه بأيمان لا مخارج لها أن لا يعلو منبرا ما عاش ولا يتقلد سيفا إلا في جهاد فوفّى عيسى بذلك بقية عمره. واستعمل بعده على فارس عمّه إسماعيل بن علي واستعمل على الموصل محمّد بن صول فطرده أهلها وقالوا: بل علينا تولّى خثعم، وكانوا منحرفين عن بني العبّاس، فاستعمل السفّاح عليهم أخاه يحيى وبعثه في اثني عشر ألفا، فنزل قصر الإمارة وقتل منهم اثني عشر رجلا، فثاروا به وحمل السلاح فنودي فيهم بالأمان لمن دخل المسجد الجامع فتسايل الناس إليه، وقد أقام الرجال على أبوابه فقتلوا كل من دخل. يقال: قتل أحد عشر ألفا ممن لبس وما لا يحصى من غيرهم. وسمع صياح النساء بالليل فأمر من الغد بقتل النساء والصبيان، واستباحهم ثلاثة أيام. وكان في عسكره أربعة آلاف من الزنوج فعانوا في النساء. وركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته وقالت له: ألست من بني هاشم؟ ألست ابن عمّ الرسول؟ أما تعلم أنّ المؤمنات المسلمات ينكحهنّ الزنوج؟ فأمسك عنها وجمع الزنج من الغد للعطاء، وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم. وبلغ السفّاح سوء أمره في أهل الموصل فعزله، وولّى مكانه إسماعيل بن عليّ، وولّى يحيى مكان إسماعيل بالأهواز وفارس. وملك الروم ملطية وقاليقلا. وفي سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم فحصر ملطية والفتن يومئذ بالجزيرة، وعاملها يومئذ موسى بن كعب بن أسان. فلم يزل حاصرهم حتى نزلوا على الأمان وانتقلوا إلى بلاد الجزيرة، وحملوا ما قدروا عليه. وخرّب الروم ملطية وسار عنها إلى مرج الحصى [1] ، وأرسل قسطنطين العساكر إلى قاليقلا من نواحي ماردين مع قائده كوشان الأرمنيّ فحصرها وداخل بعض الأرمن من أهل المدينة فنقبوا له السور فاقتحم البلد من ذلك النقب واستباحها.   [1] مرج الخصبي: ابن الأثير ج 5 ص 447. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 الثوّار بالنواحى [1] كان المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة قد ولّاه أبو عليّ اليمامة، فلما قتل يزيد أبوه امتنع هو باليمامة فبعث إليه زياد بن عبيد المدن [2] بالعساكر من المدينة مع إبراهيم بن حبّان [3] السلميّ فقتله وقتل أصحابه وذلك سنة ثلاث وثلاثين (وفيها) خرج شريك بن شيخ اسحارا على أبي مسلم ونقض أفعاله واجتمع إليه أكثر من ثلاثين ألفا فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعيّ فقاتله وقتله. (وفيها) توجه أبو داود وخالد بن إبراهيم إلى الختّل فتحصن ملكهم ابن السبيل [4] منهما ومنعه الدهاقين فحاصره أبو داود حتى جهد الحصار فخرج من حصنه مع الدهاقين ولحق بفرغانة ثم سار منها إلى بلد الصين وأخذ أبو داود من ظفر به في الحصن فبعث بهم إلى أبي مسلم (وفيها) الفتنة بين إخشيد فرغانة وملك الشاش، واستمدّ الإخشيد ملك الصين فأمدّه بمائة ألف مقاتل وحصروا ملك الشاش حتى نزلوا على حكم ملك الصين، فلم يعرض له ولا لقومه بسوء. وبعث أبو مسلم زياد بن صالح لاعتراضهم فلقيهم على نهر الطراز فظفر بهم وقتل منهم نحوا من خمسين ألفا وأسر نحوا من عشرين ألفا ولحق بهم بالصين، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين. ثم انتقض بسّام بن إبراهيم ابن بسّام من فرسان أهل خراسان وسار من عسكر السفّاح وجماعة على رأيه سرّا إلى المدائن، فبعث السفّاح في أثرهم خازم بن خزيمة فقاتلهم وقتل أكثرهم واستباحهم، وبلغ ماه. وانصرف، فمرّ بذات المطامير، وبها أخوال السفّاح من بني عبد المدان في نحو سبعين من قرابتهم ومواليهم. وقيل له إنّ المغيرة من أصحاب بسّام عندهم فسألهم عنه فقالوا مرّ بنا مجتازا فهدّدهم إن لا يأخذه فأغلظوا له في القول فقتلهم أجمعين، ونهب أموالهم وهدم دورهم، وغضبت اليمانية لذلك ودخل بهم زياد بن عبيد الله الحرثي على السفّاح وشكوا إليه ما فعل بهم فهمّ بقتله وبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة فدخلا على السفّاح وذكراه سابقة الشيعة وطاعتهم وأنهم آثروكم على الأقارب والأولاد وقتلوا من خالفكم، فإن كان لا بدّ من   [1] المراد بالثوار الخارجون عن الطاعة المحاربون للخليفة «من خط الشيخ العطار أهـ.» [2] زياد بن عبد الله بن عبد المدان: ابن الأثير ج 5 ص 448. [3] إبراهيم بن حسّان: المرجع السابق. [4] ابن الشّبل. الكامل في التاريخ لابن الأثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 قتله فابعثه لوجه من الوجوه، فإن قتل فهو الّذي تريد وإن ظفر فلك، بعثه إلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان من عمان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فبعث معه سبعمائة رجل فحملهم سليمان بن عليّ من البصرة في السفن وقد انضمّ إليه من أهله وعشيرته ومواليه وعدّة من بني تميم من البصرة، فلما أرسوا بجزيرة ابن كاوان قدّم خازم فضلة بن نعيم المنشلي [1] في خمسمائة إلى شيبان فانهزم هو وأصحابه وكانوا صفريّة، وركبوا إلى عمان فقاتلهم الجلندي في الإباضيّة، فقتل شيبان ومن معه كما مرّ، وشيبان هذا غير شيبان بن سلمة الّذي قتل بخراسان فربما يشتبهان. ثم ركب خازم البحر إلى ساحل عمان فنزل وقاتل الجلندي أياما أمر خازم أصحابه في آخرها أن يجعلوا على أطراف أسنّتهم المشاقة ويدوّروها [2] بالنفط ويشعلوها بالنيران ويرموها في بيوت القوم، وكانت من خشب فلما اضطرمت فيها النار شغلوا بأهليهم وأولادهم عن القتل، فحمل عليهم خازم وأصحابه فاستلحموهم وقتل الجلندي وعشرة آلاف، فبعث خازم برءوسهم إلى البصرة فبعثها سليمان إلى السفّاح فندم أهـ، ثم غزا خالد بن إبراهيم أهل كشّ فقتل الاخريد [3] ملكها وهو مطيع واستباحهم وأخذ من الأواني الصينية المنقوشة المذهّبة، ومن الديباج والسروج ومتاع الصين وظرفه ما لم ير مثله، وحمله إلى أبي مسلم بسمرقند. وقتل عدّة من دهاقين كشّ وملك طازان [4] أخا الأخريد على كش، ورجع أبو مسلم إلى مرو بعد أن فتك في الصغد وبخارى وأمر ببناء سور سمرقند. واستخلف زياد بن صالح على بخارى وسمرقند ورجع أبو داود إلى بلخ. ثم بلغ السفّاح انتقاض منصور ابن جمهور بالسّند فبعث صاحب شرطته موسى بن كعب واستخلف مكانه على الشرطة المسيّب بن زهير. وسار موسى لقتال ابن جمهور فلقيه بتخوم الهند وهو في نحو اثني عشر ألفا فانهزم ومات عطشا في الرمال ورحل عامله على السّند بعياله وثقلته فدخل بهم بلاد الخزر. ثم انتقض سنة خمس وثلاثين زياد بن صالح وراء النهر. فسار أبو مسلم إليه من مرو وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى   [1] فضلة بن نعيم النّهشليّ: ابن الأثير ج 5 452. [2] ويرووها بالنفط: ابن الأثير ج 5 ص 452. [3] وفي نسخة ثانية الإخشيد. [4] طاران: ابن الأثير ج 5 ص 453. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 ترمذ ليمنعها من زياد فلما وصل إليها خرج عليه ناس من الطّالقان فقتلوه فبعث مكانه عيسى بن ماهان فسمع قتلة نصر فقتلهم. وسار أبو مسلم فانتهى إلى آمد ومعه سباع ابن النعمان الأزديّ وكان السفّاح قد دسّ معه إلى زياد بن صالح الأزدي أن ينتهز فرصة في أبي مسلم فيقتله. ونمي الخبر إلى أبي مسلم فحبس سباعا بآمد، وسار عنها وأمر عامله بقتله. ولقيه قوّاد زياد في طريقه وقد خلعوا زيادا فدخل أبو مسلم بخارى ونجا زياد إلى دهقان هناك فقتله وحمل رأسه إلى أبي مسلم. وكتب أبو مسلم إلى أبي داود فقتله، وكان قد شغل بأهل الطّالقان فرجع إلى كشّ وبعث عيسى بن ماهان إلى بسّام فلم يظفر منها بشيء، وبعث إلى بعض أصحاب أبي مسلم يعيب أبا داود عيسى، فضربه وحبسه، ثم أخرجه فوثب عليه الجند فقتلوه ورجع أبو مسلم إلى مرو. حج أبي جعفر وأبي مسلم وفي سنة ست وثلاثين استأذن أبو مسلم السفّاح في القدوم عليه للحج، وكان منذ ولي خراسان لم يفارقها فأذن له في القدوم مع خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم إني قد عاديت الناس ولست أمن على نفسي فاذن له في ألف، وقال: إنّ طريق مكة لا تحتمل العسكر فسار في ثمانية آلاف فرّقهم ما بين نيسابور والريّ، وخلّف أمواله وخزائنه بالريّ وقدم في ألف وخرج القواد بأمر السفّاح لتلقيه، فدخل على السفّاح وأكرمه وأعظمه واستأذن في الحج فأذن له، قال: لولا أنّ أبا جعفر يريد الحج لاستعملتك على الموسم، فأنزله بقرية وكان قد كتب إلى أبي جعفر أنّ أبا مسلم استأذنني في الحج وأذنت له وهو يريد ولاية الموسم، فاسألني أنت في الحج، فلا تطمع أن يتقدّمك، وأذن له فقدم الأنبار وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدا من حيث بعث السفّاح أبا جعفر إلى خراسان ليأخذ البيعة له ولابي جعفر من بعده ويولي أبا مسلم على خراسان فاستخلى [1] أبو مسلم بأبي جعفر. فلما قدم ألان أبو جعفر السفّاح بقتله وأذن له فيه ثم ندم وكفه عن ذلك، وسار أبو جعفر إلى الحج ومعه أبو مسلم واستعمل على حرّان مقاتل بن حكيم العكيّ.   [1] فاستخفّ ابو مسلم بابي جعفر: ابن الأثير ج 5 ص 458. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 موت السفاح وبيعة المنصور كان أبو العبّاس السفّاح قد تحوّل من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين فأقام بها سنتين ثم توفي في ذي الحجة سنة ست وثلاثين لثلاث عشرة ليلة خلت منه ولأربع سنين وثمانين أشهر من لدن بويع وصلى عليه عمّه عيسى ودفن بالأنبار. وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة وكان قبل موته قد عهد بالخلافة لأخيه أبي جعفر ومن بعده لعيسى ابن أخيهما موسى، وجعل العهد في ثوب وختمه بخواتيمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى، ولما توفي السفّاح وكان أبو جعفر بمكّة فأخذ البيعة على الناس عيسى بن موسى، وكتب إليه بالخبر فجزع واستدعى أبا مسلم وكان متأخرا عنه فاقرأه الكتاب فبكى واسترجع، وسكن أبا جعفر عن الجزع فقال: أخاف شرّ عبد الله بن عليّ. فقال أنا أكفيكه وعامة جنده أهل خراسان وهم أطوع لي منه فسرّي عنه. وبايع له أبو مسلم والناس وأقبلا حتى قدما الكوفة. ويقال إنّ أبا مسلم كان متقدما على أبي جعفر، فإنّ الخبر قد أتاه قبله فكتب أبو مسلم إليه يعزّيه ويهنّيه بالخلافة، وبعد يومين كتب له ببيعته وقدم أبو جعفر الكوفة سنة سبع وثلاثين وسار منها إلى الأنبار فسلّم إليه عيسى بيوت الأموال والدواوين واستقام أمر أبي جعفر. انتقاض عبد الله بن علي وهزيمته كان عبد الله بن عليّ قدم على السفّاح قبل موته فبعثه إلى الصائفة في جنود أهل الشام وخراسان فانتهى إلى دلوك ولم يدر حتى جاءه كتاب عيسى بن موسى بوفاة السفّاح وأخذ البيعة لأبي جعفر وله من بعده كما عهد به السفّاح، فجمع عبد الله الناس وقرأ عليهم الكتاب وأعلمهم أنّ السفّاح حين أراد أن يبعث الجنود إلى حرّان تكاسل بنو أبيه عنها فقال لهم: من انتدب منكم فهو وليّ عهدي فلم يندب غيري! وشهد له أبو غانم الطائي وخفاف المروزيّ وغيرهما من القوّاد وبايعوه، وفيهم حميد بن حكيم بن قحطبة وغيره من خراسان والشام والجزيرة. ثم سار عبد الله حتى نزل حرّان وحاصر مقاتل بن حكيم العكّيّ أربعين يوما وخشي من أهل خراسان فقتل منهم جماعة، وولى حميد بن قحطبة على حلب وكتب معه إلى عاملها زفر بن عاصم بقتله فقرأ الكتاب في طريقه وسار إلى العراق وجاء أبو جعفر من الحج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 فبعث أبا مسلم لقتال عبد الله ولحقه حميد بن قحطبة نازعا عن عبد الله فسار معه وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي. ولما بلغ عبد الله خبر إقباله وهو على حرّان بذل الأمان لمقاتل بن حكيم ومن معه وملك حرّان. ثم بعث مقاتلا بكتابة إلى عثمان بن عبد الأعلى، فلما قرأ الكتاب قتله وحبس ابنيه حتى إذا هزم عبد الله قتلهما. وأمر المنصور محمد بن صول وهو على أذربيجان أن يأتي عبد الله بن علي ليمكر به، فجاء وقال: إني سمعت السفّاح يقول الخليفة بعدي عمّي عبد الله فشعر بمكيدته وقتله. وهو جدّ إبراهيم بن العبّاس الصولي الكاتب. ثم أقبل عبد الله بن عليّ حتى نزل نصيبين وخندق عليه وقدم أبو مسلم فيمن معه. وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة عامله على أرمينية بأن يوافي أبا مسلم، فقدم عليه بالموصل، وسار معه ونزل أبو مسلم ناحية نصيبين وكتب إلى عبد الله: إني قد وليت الشام ولم أومر بقتالك فقال أهل الشام لعبد الله: سر بنا إلى الشام لنمنع نساءنا وأبناءنا. فقال لهم عبد الله ما يريد إلّا قتالنا وإنما قصد المكر بنا، فأبوا إلا الشام. فارتحل بهم إلى الشام ونزل أبو مسلم في موضع معسكره وغوّر ما حوله من المياه فوقف أصحاب عبد الله بكّار بن مسلم العقيليّ وعلى ميسرته حبيب بن سويد الاسدي وعلى الخيل عبد الصمد بن عليّ أخو عبد الله وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة وعلى ميسرته خازم بن خزيمة، فاقتتلوا شهرا. ثم حمل أصحاب عبد الله على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم وحمل عبد الصمد فقتل منهم ثمانية عشر رجلا. ثم حمل عليهم ثانية فأزالوا صفهم. ثم نادى منادي أبي مسلم في أهل خراسان فتراجعوا وكان يجلس إذا لقي الناس على عريش ينظر منه إلى الحومة فإن رأى خللا أرسل بسدّه فلا تزال رسله تختلف بينه وبين الناس حتى ينصرفوا. فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين اقتتلوا وأمر أبو مسلم الحسن بن قحطبة أن يضمّ إلى الميسرة وينزل في الميمنة حماة أصحابه، فانضمّ أهل الشام من الميسرة إلى الميمنة كما أمرهم. وأمر أبو مسلم أهل القلب فحطموهم [1] وركبهم أصحاب أبي مسلم   [1] الحادثة هنا غير واضحة وعن ابن الأثير ج 5 ص 467: «فلما كان يوم الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا فاقتتلوا، فمكر بهم ابو مسلم، وأمر الحسن بن قحطبة ان يعرّي الميمنة ويضمّ أكثرها إلى الميسرة وليترك في الميمنة جماعة أصحابه وأشدّائهم، فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم، وأمر أبو مسلم أهل القلب ان يحملوا مع من بقي في ميمنته على ميسرة أهل الشام فحطّموهم، وجال القلب والميمنة وركبهم أصحاب أبي مسلم، فانهزم أصحاب عبد الله ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فانهزم أصحاب عبد الله فقال لابن سراقة ما ترى؟ قال: الصبر إلى أن تموت فالغرار فيكم بمثلك قبيح. قال: بل آتي العراق فأنا معك فانهزموا وحوى أبو مسلم عسكرهم. وكتب بذلك إلى المنصور ومضى عبد الله وعبد الصّمد. فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى، وأمّنه المنصور وقيل بل أقام بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مروان العجليّ في خيول أرسلها المنصور، فبعث به موثقا مع أبي الخطيب، فأطلقه المنصور. وأمّا عبد الله فقدم البصرة وأقام عند أخيه سليمان متواريا حتى طلبه وأشخص إليه. ثم إنّ أبا مسلم أمّن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكفّ عنهم. ذكر قتل أبي مسلم الخراساني كان أبو مسلم لما حج مع المنصور يؤيد نفسه عليه ويتقدّم بالإحسان للوفود وإصلاح الطريق والمياه، وكان الذكر له وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه ولما صدروا عن الموسم تقدّم أبو مسلم ولقيه الخبر بوفاة السفاح فبعث إلى أبى جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة ولا رجع اليه ولا أقام ينتظره فغضب أبو جعفر وكتب اليه وأغلظ في العتاب فكتب يهنّئه بالخلافة ويقدم إلى [1] فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له فأبى وقدم أبو جعفر، وقد خلع عبيد الله بن عليّ، فسرّح أبا مسلم لقتاله فهزمه كما مرّ، وجمع الغنائم من عسكره. فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها، فغضب أبو مسلم وقال: أنا أعين على الدعاء فكيف أخون الأموال؟ وهمّ   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 468 وتحت عنوان قتل أبي مسلم الخراساني: «وفي هذه السنة- 137- قتل ابو مسلم الخراساني، قتله المنصور، وكان سبب ذلك ان ابا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج، على ما تقدّم، وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية وآذربيجان: إن ابا مسلم كتب الي يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يريد ان يسألني ان اوليّة الموسم، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك، فانّك إن كنت بمكة لم يطمع ان يتقدمك. فكتب المنصور الى أخيه السفاح يستأذنه في الحجّ، فأذن له، فقدم الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا؟ وحقدها عليه، وحجّا معا، فكان أبو مسلم يكسوا الأعراب ويصلح الآبار، وكان الذكر له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه. فلما قدم مكّة ورأى أهل اليمن قال: اي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة!. فلما صدر الناس عن الموسم تقدّم ابو مسلم في الطريق على أبي جعفر خبر وفاة السفّاح، فكتب إلى أبي جعفر يعزّيه عن أخيه ولم يهنّئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع. فغضب أبو جعفر وكتب إليه كتابا غليظا. فلمّا أتاه الكتاب كتب إليه يهنّئه بالخلافة وتقدّم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى بن موسى إلى ان يبايع له ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 بقتل الخصيب ثم خلّى عنه. وخشي المنصور أن يمضي إلى خراسان فكتب إليه بولاية مصر والشام فازداد نفارا، وخرج من الجزيرة يريد خراسان وسار المنصور إلى المدائن، وكتب إليه يستقدمه، فأجابه بالامتناع والمسك بالطاعة عن بعد، والتهديد بالخلع إن طلب منه سوى ذلك. فكتب إليه المنصور ينكر عليه هذا الشرط وأنه لا يحسن طاعة. وبعث إليه عيسى بن موسى برسالة يؤنسه ويسليه. وقيل بل كتب إليه أبو مسلم يعرّض له بالخلع وأنه قد تاب إلى الله مما جناه من القيام بدعوتهم، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان وأمر المنصور عمّه عيسى ومشيخة بني هاشم بالكتاب على أبي مسلم يحرّضونه على التمسّك بالطاعة ويحذّرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالمراجعة. وبعث الكتب مع مولاه أبي حميد المروروذي، وأمره بملاينته والخضوع له بالقول حتى ييأس منه، فإذا يئس يخبره بقسم أمير المؤمنين لأوكلت أمرك إلى غيري ولو خضت البحر لخضته وراءك ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت. فأوصل أبو حميد الكتب وتلطّف له في القول ما شاء واحتجّ عليه بما كان منه في التحريض على طاعتهم، فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم فأبى له من الإصغاء إلى هذا القول وقال والله لئن أتيته ليقتلنك. ثم بعث إلى نيزك صاحب الريّ يستشيره فأبى له من ذلك، وأشار عليه بنزول الريّ وخراسان من ورائه فيكون أمكن لسلطانه. فأجاب أبا حميد بالامتناع فلما يئس منه أبلغه مقالة المنصور فوجم طويلا ورعب من ذلك القول وأكبره. وكان المنصور قد كتب إلى عامل أبي مسلم بخراسان يرغّبه في الانحراف عنه بولاية خراسان فأجاب سرّا وكتب إلى أبي مسلم يحذّره الخلاف والمعصية فزاده ذلك رعبا وقال لأبي حميد قبل انصرافه: قد كنت عزمت على المضيّ إلى خراسان ثم رأيت أنّ أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين يأتيني برايته فإنّي أثق به. ولما قدم أبو إسحاق تلقاه بنو هاشم وأهل الدولة بكل ما يجب وداخله المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهة خراسان ووعده بولايتها، فرجع إليه وأشار عليه بلقاء المنصور، فاعتزم على ذلك واستخلف مالك بن الهيثم على عسكره بحلوان، وسار فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخشي أبو أيوب وزير المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك فدعا بعض إخوانه وأشار عليه بأن يأتي أبا مسلم ويتوسل به إلى المنصور في ولاية كسكر ليعيب فيها مالا عظيما. وأن يشكر أخاه في ذلك، فإنّ أمير المؤمنين عازم أن يولّيه ما ورى به ويريح نفسه. واستأذن له المنصور في لقاء أبي مسلم فأذن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 له، فلقي أبا مسلم وتوسل إليه وأخبره الخبر فطابت نفسه وذهب عنه الحزن. ولما قرب أمر الناس بتلقيه ثم دخل على المنصور فقبّل يده وانصرف ليريح ليلته، ودعا المنصور من الغد حاجبه عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس منهم شبيب بن رواح وابن حنيفة حرب بن قيس، وأجلسهم خلف الرواق، وأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفّق بيديه. واستدعى أبا مسلم، فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمّه عبد الله بن عليّ وكان متقلدا بأحدهما فقال: هذا أحدهما! فقال: أرني فانتضاه أبو مسلم وناوله إياه فأخذ يقلبه بيده ويهزّه. ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل يعاتبه فقال: كتبت إلى السفّاح تنهاه عن الموت كأنك تعلمه: قال: ظننت أنه لا يحلّ، ثم اقتديت بكتاب السفّاح وعلمت أنكم معدن العلم. قال فتوركك عني بطريق مكة! قال كرهت مزاحمتك على الماء قال فامتناعك من الرجوع إليّ حين بلغك موت السفّاح أو الإقامة حتى ألحقك! قال: طلبت الرّفق بالناس والمبادرة إلى الكوفة! قال: فجارية عبد الله بن عليّ أردت أن تتخذها لنفسك! قال: لا إنما وكانت بها من يحفظها. قال: فمراغمتك ومسيرك إلى خراسان قال: خشيت منك فقلت آتي خراساني وأكتب بعذري فأذهب ما في نفسك مني! قال فالمال الّذي جمعته بحرّان! قال أنفقته في الجند تقوية لكم. قال ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك وتخطب آسية بنت عليّ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عبّاس؟ لقد ارتقيت لا أمّ لك مرتقى صعبا. ثم قال له: وما الّذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثيّر مع أثره في دعوتنا، وهو أحد نقبائنا من قبل أن ندخلك في هذا الأمر؟ قال: أراد الخلافة فقتلته. ثم قال أبو مسلم: كيف يقال هذا بعد بلائي وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة لو كانت أمة مكانك لأغنت إنما ذلك بدولتنا وربحنا. وأكبّ أبو مسلم يقبل يده ويعتذر فازداد المنصور غضبا. ثم قال أبو مسلم دع هذا فقد أصبحت لا أخاف إلا الله فشتمه المنصور وصفّق بيديه فخرج الحرس وضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه فقال: استبقني لعدوّك فقال: لا أبقاني الله إذا وأي عدوّ أعدى منك وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه، بذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين. وخرج الوزير أبو الجهم فصرف الناس، وقال: الأمير قائل عند أمير المؤمنين فانصرفوا وأمر لهم بالجوائز وأعطى إسحاق مائة ألف ودخل عيسى بن موسى على المنصور فسأل عنه وأخذ في الثناء على طاعته وبلائه وذكر رأي الإمام إبراهيم فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 فقال المنصور: والله ما أعلم على وجه الأرض عدوّا أعدى لكم منه هو ذا في البساط فاسترجع عيسى، فأنكر عليه المنصور وقال: وهل كان لكم ملك معه؟ ثم دعا جعفر بن حنظلة واستشاره في أمر أبي مسلم فأشار بقتله فقال له المنصور وفقك الله ثم نظر إليه قتيلا فقال له يا أمير المؤمنين عدّ خلافتك من هذا اليوم. ثم دعا أبا إسحاق عن متابعة أبي مسلم وقال تكلّم بما أردت وأخرجه قتيلا فسجد أبو إسحاق ثم رفع رأسه يقول الحمد للَّه أميت هو والله ما جئته قطّ إلا تكفّنت وتحنّطت ورفع ثيابه وأراه كفنه وحنوطه فرحمه. وقال له استقبل طاعتك واحمد الله الّذي أراحك. وكتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر بن الهيثم على لسان أبي مسلم يأمره بحمل أثقاله، وقد كان أبو مسلم أوصاه إن جاءك كتاب بخاتمي تامّا فاعلم أني لم أكتبه، فلما رآه كذلك فطن وانحدر إلى همذان يريد خراسان، فكتب له المنصور بولاية شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركي بهمذان يحبسه فمرّ أبو نصر بهمذان وخادعه زهير ودعاه إلى طعامه وحبسه وجاء كتاب العهد بشهرزور لأبي نصر فأطلقه زهير ثم جاءه بعد ذلك الكتاب بقتله فقال: جاءني كتاب عهده فخلّيت سبيله. وقدم أبو نصر على المنصور فعذله في إشارته على أبي مسلم بخراسان فقال: نعم استنصحني فنصحت له وان استنصحني أمير المؤمنين نصحت وشكرت، واستعمله على الموصل. وخطب أبو جعفر الناس بعد قتل أبي مسلم وانسهم وافترق أصحابه وخرج منهم بخراسان رجل اسمه سنباد ويسمّى فيروز أصبهبذ وتبعه أكثر الجيال يطلبون بدم أبي مسلم وغلب على نيسابور والريّ وأخذ خزائن أبي مسلم التي خلفها بالريّ حين شخص إلى السفّاح وسبى الحرم ونهب الأموال ولم يعرض إلى التجّار وكان يظهر أنه قاصد إلى الكعبة يهدمها فسرّح إليه المنصور جمهور بن مرّار العجليّ والتقوا على طرق المفازة بين همذان والريّ، فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم نحوا من ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم ولحق سنباد بطبرستان فقتله بعض عمّال صاحبها وأخذ ما معه وكتب إلى المنصور بذلك فكتب إليه المنصور في الأموال فأنكر فسرّح إليه الجنود فهرب إلى الديلم ثم إنّ جمهور بن مرّار لما حوى ما في عسكر سنباد ولم يبعث به خاف من المنصور فخلع واعتصم بالريّ فسرّح إليه محمد بن الأشعث في الجيوش، فخرج من الريّ إلى أصبهان فملكها وملك محمد الريّ. ثم اقتتلوا وانهزم جمهور فلحق بأذربيجان، وقتله بعض أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور، وذلك سنة ثمان وثلاثين . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 حبس عبد الله بن علي كان عبد الله بن علي بعد هزيمته أمام أبي مسلم لحق بالبصرة، ونزل على أخيه سليمان. ثم إنّ المنصور عزل سليمان سنة تسع وثلاثين فاختفى عبد الله وأصحابه، فكتب المنصور إلى سليمان وأخيه عيسى بأمان عبد الله وقوّاده ومواليه وإشخاصهم إلى المنصور منهما فشخصوا. ولما قدما عليه فأذن لهما فأعلماه بحضور عبد الله واستأذناه له فشغلهما بالحديث وأمر بحبسه في مكان قد هيئ له في القصر، فلما خرج سليمان وعيسى لم يجدا عبد الله فعلما أنه قد حبس وأن ذمّتهما قد أخفرت، فرجعا إلى المنصور فحبسا عنه وتوزع أصحاب عبد الله بين الحبس والقتل، وبعث ببعضهم إلى أبي داود خالد ابن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها. ولم يزل عبد الله محبوسا حتى عهد المنصور إلى المهدي سنة تسع وأربعين وأمر موسى بن عيسى فجعله بعد المهدي ودفع إليه عبد الله، وأمره بقتله، وخرج حاجا وسارّ عيسى كاتبه يونس بن فروة في قتل عبد الله بن علي فقال: لا تفعل فإنه يقتلك به، وإن طلبه منك فلا تردّه إليه سرّا فلما قفل المنصور من الحج دسّ على أعمامه من يحرّضهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله فشفعهم، وقال لعيسى جئنا به فقال: قتلته كما أمرتني فأنكر المنصور وقال خذوه بأخيكم فخرجوا به ليقتلوه حتى اجتمع الناس واشتهر الأمر فجاء به وقال: هو ذا حي سويّ، فجعله المنصور في بيت أساسه ملح وأجرى عليه الماء فسقط ومات. وقعة الراوندية كان هؤلاء القوم من أهل خراسان ومن أتباع أبي مسلم يقولون بالتناسخ والحلول، وأن روح آدم في عثمان بن نهيك وأنّ الله حلّ في المنصور وجبريل في الهيثم بن معاوية. فحبس المنصور نحوا من مائتين منهم فغضب الباقون واجتمعوا وحملوا بينهم نعشا كأنهم في جنازة وجاءوا إلى السجن فرموا بالنعش وأخرجوا أصحابهم وحملوا على الناس في ستمائة رجل وقصدوا قصر المنصور وخرج المنصور من القصر ماشيا وجاء معن بن زائدة الشيبانيّ وكان مستخفيا من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة وقد اشتدّ طلب المنصور له فحضر عنده هذا اليوم متلثّما وترجّل وأبلى. ثم جاء إلى المنصور ولجام بغلته في يد الربيع حاجبه وقال: تنح ذا أنا أحق بهذا اللجام في هذا الوقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 وأعظم فنازل وقاتل حتى ظفر بالراوندية. ثم سأله فانتسب فأمّنه واصطنعه. وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم ووقف على باب المنصور وقال أنا اليوم بوّاب. ثم قاتلهم أهل السوق وفتح باب المدينة ودخل الناس وحمل عليهم خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة حتى قتلوهم عن آخرهم. وأصاب عثمان بن نهيك في الحومة سهم فمات منه بعد أيام وجعل على الحبس بعده أخاه عيسى ثم بعده أبا العبّاس الطوسي وذلك كله بالهاشمية. ثم أحضر معنا ورفع منزلته وأثنى عليه بما كان منه في ذلك اليوم مع عمّه عيسى، فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت إلى الحومة وجلا حتى رأيت شدّتك فحملني ذلك على ما رأيت مني. وقيل إنه كان مختفيا عند أبي الخصيب حاجب المنصور وأنه جاء يوم الراوندية فاستأذن أبو الخصيب وشاوره المنصور في أمرهم فأشار ببث المال في الناس، وأبى المنصور إلا الركوب إليهم بنفسه فخرج بين يديه وأبلى حتى قتلوا. ثم تغيّب فاستدناه وأمّنه وولّاه على اليمن. انتقاض خراسان ومسير المهدي إليها كان السفّاح قد ولّى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الدّهليّ بعد انتقاض بسّام ابن إبراهيم ومهلكه. فلما كان سنة أربعين ثار به بعض الجند وهو بكشماهن وجاءوا إلى منزله فأشرف عليهم ليلا من السطح فزلت قدمه فسقط ومات ليومه. وكان عصام صاحب شرطته فقام بالأمر بعده. ثم ولّى المنصور على خراسان عبد الجبّار بن عبد الرحمن فقدم عليها وحبس جماعة من القوّاد اتهمهم بالدعاء للعلويّة، منهم مجاشع ابن حريث الأنصاري عامل بخارى وأبو المعرة خالد بن كثيّر مولى بني تميم عامل قهستان والحريش بن محمد الذهليّ ابن عم أبي داود في آخرين. ثم قتل هؤلاء وألحّ على عمال أبي داود في استخراج المال وانتهت الشكوى إلى المنصور بذلك فقال لأبي أيوب: إنما يريد بفناء شيعتنا الخلع، فأشار عليه أبو أيوب أن تبعث من جنود خراسان لغزو الروم فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت واستمكن منه. فكتب إليه بذلك فأجاب بأنّ الترك قد جاشت وإن فرّقت الجنود خشيت على خراسان فقال له أبو أيوب: اكتب إليه بأنك ممدّه بالجيوش وابعث معها من شئت يستمكن منه، فأجاب عبد الجبّار بأنّ خراسان مغلّبة في عامها ولا تحتمل زيادة العسكر فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله فبعث ابنه المهدي فسار ونزل الريّ وقدم خازم بن خزيمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 لحرب عبد الجبّار فقاتلوه، فانهزم وجاء إلى مقطنة [1] وتوارى فيها. فعبر إليه المحشد [2] بن مزاحم من أهل مروالرّوذ وجاء به إلى خازم فحمله على بعير وعليه جبّة صوف، ووجهه إلى عجز البعير وحمله إلى المنصور في ولده وأصحابه فبسط إليهم العذاب حتى استخرج الأموال ثم قطع يديه ورجليه وقتله وذلك سنة اثنتين وأربعين وبعث بولده إلى دهلك [3] فعزلهم بها وأقام المهدي بخراسان حتى رجع إلى العراق سنة تسع وأربعين. [4] وفي سنة اثنتين وأربعين انتقض عيينة بن موسى بن كعب بالسّند، وكان عاملا عليها من بعد أبيه، وكان أبوه يستخلف المسيّب بن زهير على الشرط فخشي المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن يولّيه على الشرط، فحذّره المنصور وحرّضه على الخلاف فخلع الطاعة وسار المنصور إلى البصرة وسرّح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكيّ لحرب عيينة وولاه على السند والهند فورد السند وغلب عليها. وفي هذه السنة انتقض الأصبهبد بطبرستان وقتل من كان في أرضه من المسلمين فبعث المنصور مولاه أبا الخطيب وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم في العساكر فحاصروه في حصنه مدّة ثم تحيّلوا ففتح لهم الحصن من داخله وقتلوا المقاتلة وسبى الذرية وكان مع الأصبهبد سم فشربه فمات. أمر بني العباس بنو هاشم [5] حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه وتشاوروا فيمن يعقدون   [1] مقطنة: ابن الأثير ج 5 ص 506. [2] المجشّر: ابن الأثير ج 5 ص 506. [3] دهلك: جزيرة باليمن. [4] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 506: «وامر بتسيير ولده إلى دهلك- وهي جزيرة باليمن- فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند فسبوهم فيمن سبوا» . [5] ربما يكون قد سقطت بعض الجمل أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 513 وتحت عنوان «ذكر استعمال رياح بن عثمان المري على المدينة وامر محمد بن عبد الله بن الحسن» وفيها (144) استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري وعزل محمد بن خالد بن عبد الله القسري عنها. وكان سبب عزله وعزل زياد قبله ان المنصور أهمّه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عام حجّ أيام السفاح سنة ست وثلاثين، وذكر ان محمد بن عبد الله كان يزعم ان المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 له الخلافة فاتفقوا على محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى بن عليّ. وكان يقال: إنّ المنصور ممن بايعه تلك الليلة. ولما حج أيام أخيه السفّاح سنة ست وثلاثين تغيب عنه محمد وأخوه إبراهيم، ولم يحضرا عنده مع بني هاشم. وسأل عنهما فقال له زياد ابن عبيد الله الحرثى أنا آتيك بهما وكان بمكة فردّه المنصور إلى المدينة. ثم استخلف المنصور وطفق يسأل عن محمد ويختص بني هاشم بالسؤال سرّا، فكلهم يقول: إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر فخافك على نفسه، ويحسن العذر عنه إلا الحسن ابن زيد بن الحسن بن عليّ. فإنه قال له: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه لا ينام عنك، فكان موسى بن عبد الله بن حسن يقول بعد هذا: اللَّهمّ اطلب الحسن بن زيد بدمائنا. ثم إنّ المنصور حج سنة [1] وألحّ على عبد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد فاستشار عبد الله سليمان بن علي في إحضاره فقال له: لو كان عافيا عفى عن عمّه! فاستمرّ عبد الله على الكتمان وبث المنصور العيون بين الأعراب في طلبه بسائر بوادي الحجاز ومياهها ثم كتب كتابا على لسان الشيعة إلى محمد بالطاعة والمسارعة وبعثه مع بعض عيونه إلى عبد الله وبعث معه بالمال والإلطاف كأنه من عندهم. وكان للمنصور كاتب على سرّه يتشيع، فكتب إلى عبد الله بن حسن بالخبر وكان محمد بجهينة، وألحّ عليه صاحب الكتاب أمر محمد ليدفع إليه كتاب الشيعة فقال له: اذهب إلى عليّ بن الحسن المدعو بالأغرّ يوصلك إليه في جبل جهينة فذهب وأوصله إليه. ثم جاءهم حقيقة خبره من كاتب المنصور وبعثوا أبا هبّار إلى محمد وعليّ بن حسن يحذرهما الرجل، فجاء أبو هبّار إلى عليّ بن حسن وأخبره ثم سار إلى محمد فوجد العين عنده جالسا مع أصحابه فخلا به وأخبره، فقال: وما الرأي؟ قال: تقتله. قال: لا أقارف دم مسلم. قال: تقيّده وتحمله معك. قال: لا آمن عليه لكثرة الخوف والإعجال. قال: فودعه عند بعض أهلك من جهينة. قال: هذه إذن. ورجع فلم يجد الرجل ولحق بالمدينة. ثم قدم على المنصور وأخبره الخبر وسمّى اسم أبي هبّار وكنيته، وقال: معه وبر فطلب أبو جعفر وبرا المرّيّ فسأله عن أمر محمد فأنكره وحلف فضربه وحبسه. ثم دعا عقبة بن سالم الأزدي وبعثه منكرا بكتاب والطاف من بعض الشيعة بخراسان إلى   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 500: «وفيها حجّ المنصور ... » اما الطبري فقد ذكر حج المنصور في حوادث سنة أربع وأربعين ومائة. «ج 9 ص 180» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 عبد الله بن حسن ليظهر على أمره، فجاءه بالكتاب فانتهره وقال لا أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل يتردّد إليه حتى قبله وأنس به وسأله عقبة الجواب فقال: لا أكتب لأحد ولكن أقرئهم مني سلاما وأعلمهم أنّ ابنيّ خارجان لوقت كذا. فرجع عقبة إلى المنصور فأنشأ الحج، فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم وعبد الله إلى جنبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه. ثم قال لعبد الله بن حسن قد أعطيتني العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطانا فقال: وأنا على ذلك. فلحظ المنصور عقبة بن سالم فوقف بين عبد الله حتى ملأ عينه منه فبادر المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل، وأمر بحبسه وكان محمد يتردّد في النواحي وجاء إلى البصرة فنزل في بني راهب وقيل في بني مرّة بن عبيد، وبلغ الخبر إلى المنصور فجاء إلى البصرة وقد خرج عنها محمد، فلقي المنصور عمر بن عبيد فقال له: يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ فقال: لا، فانصرف واشتدّ الخوف على محمد وإبراهيم وسار إلى عدن ثم إلى السّند ثم إلى الكوفة، ثم إلى المدينة وكان المنصور حج سنة أربعين وحج محمد وإبراهيم وعزما على اغتيال المنصور وأبي محمد من ذلك. ثم طلب المنصور عبد الله بإحضار ولديه وعنّفه وهمّ به، فضمنه زياد عامل المدينة. وانصرف المنصور وقدم محمد المدينة قدمة فتلطف له زياد وأعطاه الأمان له. ثم قال له: الحق بأيّ بلاد شئت وسمع المنصور فبعث أبا الأزهر إلى المدينة في جمادى سنة إحدى وأربعين ليستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطّلب ويقبض زيادا وأصحابه. فسار بهم فحبسهم المنصور، وخلف زياد ببيت المال ثمانين ألف دينار ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ، وأمره بطلب محمد وإنفاق المال في ذلك فكثرت نفقته واستبطأه المنصور واستشار في عزله، فأشار عليه يزيد بن أسيد السلميّ من أصحابه باستعمال رباح بن عثمان بن حسّان المزنيّ فبعثه أميرا على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين، وأطلق يده في محمد بن خالد القسريّ. فقدم المدينة وتهدّد عبد الله بن حسن في إحضار ابنيه. وقال له عبد الله يومئذ: إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة، فاستشعر ذلك ووجد فقال له حاجبه أبو البختري: إنّ هذا ما اطلع على الغيب فقال: ويلك! والله ما قال إلا ما سمع، فكان كذلك. ثم حبس رباح محمد بن خالد وضربه وجدّ في طلب محمد فأخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع وهو جبل جهينة، فبعث عامله في طلبه فأفلت منه. ثم إنّ رباح بن مرّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 حبس بني حسن وقيّدهم وهم عبد الله بن حسن بن الحسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر وابنه موسى بن عبد الله، وبنو أخيه داود وإسماعيل وإسحاق بنو إبراهيم بن الحسن، ولم يحضر معهم أخوه عليّ العائد. ثم حضر من الغد عند رباح وقال: جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه، وكتب إليه المنصور أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان المعروف بالديباجة. وكان أخا عبد الله لأمّه أمّهما فاطمة بنت الحسين. وكان عامل مصر قد عثر على علي بن محمد بن عبد الله ابن حسن بعثه أبوه إلى مصر يدعو له فأخذه وبعث به إلى المنصور فلم يزل في حبسه وسمّى من أصحاب أبيه عبد الرحمن بن أبي المولى وأبا جبير فضربهما المنصور وحبسهما. وقيل عبد الله حبس أولا وحده وطال حبسه. فأشار عليه أصحابه بحبس الباقين فحبسهم. ثم حج المنصور سنة أربع وأربعين، فلما قدم مكة بعث إليهم وهم في السجن محمد بن عمران بن إبراهيم بن طلحة ومالك بن أنس يسألهم أن يرفعوا إليه محمدا وإبراهيم ابني عبد الله، فطلب عبد الله الإذن في لقائه فقال المنصور: لا والله حتى يأتيني به وبابنيه، وكان محسنا مقبولا لا يكلم أحدا إلّا أجابه إلى رأيه. ثم إنّ المنصور قضى حجّه وخرج إلى الرَّبَذَة، وجاء رباح ليودعه فأمر باشخاص بني حسن ومن معهم إلى العراق فأخرجهم في القيود والأغلال وأردفهم في محامل بغير وطء، وجعفر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي. وجاء محمد إبراهيم مع أبيهما عبد الله يسايرانه مستترين بزيّ الأعراب ويستأذنه في الخروج فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما وإن منعتما أن تعيشا كريمين تمنعا أن تموتا كريمين، وانتهوا إلى الزيدية. وأحضر العثماني الديقا عند المنصور فضربه مائة وخمسين سوطا بعد ملاحاة جرت بينهما أغضبت المنصور. ويقال: إنّ رباحا أغرى المنصور به وقال له: إنّ أهل الشام شيعته ولا يتخلف عنه منهم أحد. ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلى المنصور بأنّ أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عبد الله واحذر منهم. فأمر المنصور بقتل العثماني وبعث برأسه إلى خراسان، وبعث من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله وأنّ أمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قدم المنصور بهم الكوفة وحبسهم بقصر ابن هبيرة، يقال: انه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن منهم على أسطوانة وهو حيّ فمات. ثم بعده عبد الله بن حسن ثم علي بن حسن، ويقال: إنّ المنصور أمر بهم فقتلوا، ولم ينج منهم إلا سلمان وعبد الله ابنا داود وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن حسن وجعفر بن حسن والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 ظهور محمد المهدي ومقتله ولما سار المنصور إلى العراق وحمل معه بني حسن رجع رباح [1] إلى المدينة وألحّ في طلب محمد وهو مختف يتنقل في اختفائه من مكان إلى مكان وقد أرهقه الطلب حتى تدلى في بئر. فتدلى فغمس في مائها وحتى سقط ابنه من جبل فتقطع ودلّ عليه رباح بالمداد، فركب في طلبه فاختفى عنه ولم يره. ولما اشتدّ عليه الطلب أجمع الخروج وأغراه أصحابه بذلك. وجاء الخبر إلى رباح بأنه الليلة خارج فأحضر العبّاس بن عبد الله بن الحرث بن العبّاس ومحمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة وغيرهما، وقال لهم: أمير المؤمنين يطلب محمدا شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم. والله لئن خرج ليقتلنّكم أجمعين. وأمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة فجاءوا في جمع كثير وأجلسهم بالباب. ثم أحضر نفرا من العلويّين فيهم جعفر بن محمد بن الحسين وحسين بن علي بن حسين بن علي ورجال من قريش فيهم إسماعيل ابن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد، وبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير وقيل قد خرج محمد فقال له: ابن مسلم بن عقبة أطعني واضرب أعناق هؤلاء فأبى، وأقبل من المداد [2] في مائة وخمسين رجلا وقصد السجن، فأخرج محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ وابن أخيه النّذير بن يزيد ومن كان معهم وجعل على الرجّالة خوّات بن جبير [3] وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل فدخلوا من باب المقصورة وقبضوا على رباح وأخيه عبّاس وابن مسلم بن عقبة فحبسهم، ثم خرج إلى المسجد وخطب الناس وذكر المنصور بما نقمه عليه ووعد الناس واستنصر بهم واستعمل على المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطّلب بن عبد الله المخزومي، وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوَرْديّ، وعلى الشرط أبا الغلمش [4] عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأرسل إلى محمد بن عبد العزيز يلومه على القعود عنه فوعده بالبصرة وسار   [1] رياح: ابن الأثير ج 5 ص 529. [2] المذار: ابن الأثير ج 5 ص 530 [3] خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير: المرجع السابق. [4] ابا القلمّس: ابن الأثير ج 5 ص 531. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 الى مكة، ولم يتخلف عن محمد من وجوه الناس إلّا نفر قليل منهم: الضحّاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حرام [1] وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد وأبو سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وحبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير. واستفتى أهل المدينة مالكا [2] في الخروج مع محمد وقالوا: في أعناقنا بيعة المنصور، فقال: إنما بايعتم مكرهين فتسارع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر يدعوه إلى بيعته، وكان شيخا كبيرا فقال: أنت والله وابن أخي مقتول فكيف أبايعك؟ فرجع الناس عنه قليلا وأسرع بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى محمد فجاءت جمادة [3] أختهم إلى عمها إسماعيل وقالت: يا عم إنّ مقالتك ثبّطت الناس عن محمد وإخوتي معه، فأخشى أن يقتلوا فردّها، فيقال: إنها عدت عليه فقتلته، ثم حبس محمد بن خالد القسري بعد أن أطلقه واتهمه بالكتاب إلى المنصور فلم يزل في حبسه. ولما استوى أمر محمد ركب رجل من آل أويس بن أبي سرح اسمه الحسين بن صخر، وجاء إلى المنصور في تسع [4] فخبّره الخبر فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم. وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تتابع الخبر وأشفق المنصور من أمره واستشار أهل بيته ودولته. وبعث إلى عمّه عبد الله وهو محبوس يستشيره فأشار عليه بأن يقصد الكوفة فإنّهم شيعة لأهل البيت فيملك عليهم أمرهم ويحفّها بالمسالح حتى يعرف الداخل والخارج، ويستدعي سالم بن قتيبة من الريّ فيتحشّد معه كافة أهل الشام ويبعثه وأن يبعث العطاء في الناس، فخرج المنصور إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع بن عبد الله بن عبد المدان. ولما قدم الكوفة أرسل إلى يزيد يحيي وكان السفّاح يشاوره فأشار عليه بأن يشحن الأهواز بالجنود وأشار عليه جعفر بن حنظلة الهرّاني [5] بأن يبعث الجند إلى البصرة. فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبيّن وجه إشارتهما. وقال المنصور لجعفر: كيف خفت البصرة؟ قال: لأنّ أهل المدينة ليسوا أهل حرب حبسهم أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء الطالبيّين، ولم   [1] ابن حزام: ابن الأثير ج 5 ص 532. [2] اي مالك بن أنس بن مالك. [3] حمّادة: ابن الأثير ج 5 ص 532. [4] اي في تسعة أيام. [5] جعفر بن حنظلة البهراني: ابن الأثير ج 5 ص 535. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 يبق إلا البصرة. ثم إنّ المنصور كتب إلى محمد المهدي كتاب أمان فأجابه عنه بالردّ والتعريض بأمور في الأنساب والأحوال، فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك وانتصف كل واحد منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري في كتاب الكامل فمن أراد الوقوف فليلتمسها في أماكنها [1] . ثم إنّ محمدا المهدي استعمل على مكة محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر وعلى اليمن القاسم بن إسحاق وعلى الشام موسى بن عبد الله. فسار محمد بن الحسن إلى مكة والقاسم معه ولقيهما السريّ بن عبد الله عامل مكة ببطن أذاخر فانهزم. وملك محمد مكّة حتى استنفره المهدي لقتال عيسى بن موسى فنفر هو والقاسم بن عبيد الله، وبلغهما قتل محمد بنواحي قديد فلحق محمد بإبراهيم، فكان معه بالبصرة واختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له الأمان امرأة عيسى، وهي بنت عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر. وأمّا موسى بن عبد الله فسار إلى الشام فلم يقبلوا منه فرجع إلى المدينة ثم لحق بالبصرة مختفيا وعثر عليه محمد بن سليمان بن عليّ وعلى ابنه عبد الله وبعث بهما إلى المنصور فضربهما وحبسهما. ثم بعث المنصور عيسى ابن موسى إلى المدينة لقتال محمد فسار في الجنود ومعه محمد بن أبي العبّاس بن السفّاح وكثيّر بن حصين العبديّ وحميد بن قحطبة وهوازمرّد [2] وغيرهم، فقال له: إن ظفرت فأغمد سيفك وابذل الأمان وإن تغيب فخذ أهل المدينة فإنّهم يعرفون مذاهبه ومن لقيك من آل أبي طالب فعرفني به ومن لم يلقك فاقبض ماله. وكان جعفر الصادق فيمن تغيب، فقبض ماله. ويقال إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلك فقال: قبضه مهديّكم. ولما وصل عيسى إلى فئته كتب إلى نفر من أهل المدينة ليستدعيهم منهم: عبد العزيز بن المطّلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمعيّ وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب فخرج إليه عبد الله هو وأخوه عمر وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل. واستشار المهدي أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها، فأمر بذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وحفر الخندق الّذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب. ونزل عيسى الأعرض [3] ، وكان محمد قد منع الناس من الخروج   [1] وهما مرويان أيضا في الكامل لابن الأثير ج 5 ص 536- 542. [2] هزارمرد: ابن الأثير ج 5 ص 544. [3] الأعرض: ابن الأثير ج 5 ص 545. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 فخيّرهم، فخرج كثير منهم بأهلهم إلى الجبال وبقي في شرذمة يسيرة. ثم تدارك رأيه وأمر أبا الغلمش بردّهم فأعجزوه ونزل عيسى على أربعة أميال من المدينة وبعث عسكرا إلى طريق مكة يعترضون محمدا إن انهزم إلى مكة، وأرسل إلى المهدي بالأمان والدعاء الى الكتاب والسنّة ويحذّره عاقبة البغي. فقال: إنما أنا رجل فررت من القتل. ثم نزل عيسى بالحرف لاثنتي عشرة من رمضان سنة خمس وأربعين، فقام يومين، ثم وقف على مسلم [1] ونادى بالأمان لأهل المدينة وأن تخلوا بينه وبين صاحبه، فشتموه فانصرف وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات المدينة وبرز محمد في أصحابه ورايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وشعارهم أحد أحد. وطلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه أخو أسد فقتله. ثم آخر فقتلوا [2] وقال أنا ابن الفاروق. وأبلى محمد المهدي يومئذ بلاء عظيما وقتل بيده سبعين رجلا. ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة فتقدّم في مائة من الرجال إلى حائط دون الخندق فهدمه، وأجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه، وصابرهم أصحاب محمد إلى العصر. ثم أمر عيسى أصحابه فرموا الخندق بالحقائب ونصبوا عليها الأبواب وجازت الخيل واقتتلوا وانصرف محمد فاغتسل وتحنّط. ثم رجع فقال [3] : أترك أهل المدينة والله لا أفعل أو أقتل وأنت مني في سعة فمشى قليلا معه، ثم رجع وافترق عنه جل أصحابه، وبقي في ثلاثمائة أو نحوها. فقال له بعض أصحابه: نحن اليوم في عدّة أهل بدر وطفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في اللحاق بالبصرة أو غيرها، فيقول والله لا تبتلون بي مرّتين. ثم جمع بين الظهر والعصر ومضى فأحرق الديوان الّذي فيه أسماء من بايعهم [4] . وجاء إلى السجن وقتل رياح بن عثمان وأخاه عبّاسا وابن مسلم بن عقبة وتوثق محمد بن القسريّ بالأبواب فلم يصلوا إليه. ورجع ابن حصين إلى محمد فقاتل معه وتقدّم محمد إلى بطن سلع ومعه بنو شجاع من الخمس. فعرقبوا دوابهم وكسروا جفون سيوفهم واستماتوا وهزموا أصحاب عيسى مرّتين أو ثلاثة. وصعد نفر من أصحاب عيسى الجبل وانحدروا منه إلى المدينة. ورفع بعض نسوة إلى العبّاس خمارا لها اسود على منارة المسجد. فلما رآه أصحاب محمد وهم   [1] سلع: ابن الأثير ج 5 ص 546. [2] الأصح فقتله. [3] القول موجه إلى عبد الله بن جعفر. [4] الأصح: أسماء من بايعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 يقاتلون هربوا، وفتح بنو غفّار طريقا لأصحاب عيسى فجاءوا من وراء أصحاب محمد ونادى حميد بن قحطبة للبراز فأبى، ونادى ابن حصين بالأمان فلم يصغ إليه [1] ، وكثرت فيه الجراح ثم قتل وقاتل محمد على شلوه فهدّ الناس عنه هدا حتى ضرب فسقط لركبته وطعنه ابن قحطبة في صدره، ثم أخذ رأسه وأتى به عيسى فبعثه إلى المنصور مع محمد بن الكرام عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن، وأرسل معه رءوس بني شجاع، وكان قتل محمد منتصف رمضان. وأرسل عيسى الألوية فنصبت بالمدينة للأمان وصلب محمد وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة، واستأذنت زينب أخته في دفنه بالبقيع، وقطع المنصور الميرة في البحر عن المدينة، حتى أذن فيها المهديّ بعده، وكان مع المهدي سيف عليّ ذو الفقار فأعطاه يومئذ رجلا من التجار في دين كان له عليه. فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة أخذه منه وأعطاه من دينه ثم أخذه منه المهدي، وكان الرشيد يتقلده وكان فيه ثمان عشرة فقرة، وكان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى وحمزة بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن الحسين وحسين وعلي ابنا زيد بن علي، وكان المنصور يقول عجبا خرجا عليّ ونحن أخذنا بثأر أبيهما. وكان معه علي وزيد ابنا الحسن بن زيد بن الحسن وأبوهما الحسن مع المنصور والحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر والمرجى علي بن جعفر بن إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن جعفر وأبوه عليّ مع المنصور، ومن غير بني هاشم محمد بن عبد الله بن عمر بن سعيد بن العاص ومحمد ابن عجلان وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وأبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، أخذ أسيرا فضرب وحبس في سجن المدينة، فلم يزل محبوسا إلى أن نازل السودان بالمدينة على عبد الله بن الربيع الحارثي، وفرّ عنها إلى بطن نخل وملكوا المدينة ونهبوا طعام المنصور. فخرج ابن أبي سبرة مقيّدا وأتى المسجد وبعث إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما، وبعثوا إلى السودان وردّوهم عما   [1] المعنى هنا غير واضح تماما وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 548: ونادى محمد حميد بن قحطبة: ابرز الي فأنا محمد بن عبد الله. فقال حميد: قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم، لا والله لا أبرز إليك وبين يديّ من هؤلاء الأغمار أحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك. وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشحّ به على الموت، وابن خضير يحمل على الناس لا يصغي الى امانه ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 كانوا فيه، فرجعوا ولم يصلّ الناس يومئذ جمعة. ووقف الأصبغ بن أبي سفيان بن عاصم بن عبد العزيز لصلاة العشاء ونادى أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين، وصلى ثم أصبح ابن أبي سبرة وردّ من العبيد ما نهبوه، ورجع ابن الربيع من بطن نخل وقطع رؤساء [1] العبيد وكان مع محمد بن عبد الله أيضا عبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء ابن يعقوب مولى بني سباع وبنوه تسعة وعيسى وعثمان ابنا خضير وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير قتله المنصور من بعد ذلك لما أخذ بالبصرة وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وعليّ بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب [2] وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير وهشام بن عميرة بن الوليد بن [3] بن عبد الجبار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم. شأن إبراهيم بن عبد الله وظهوره ومقتله كان إبراهيم بن عبد الله أخو المهديّ محمد قد اشتدّ الطلب عليه وعلى أخيه منذ خمس سنين، وكان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس وبكرمان والجبل والحجاز واليمن والشام، وحضر مرّة مائدة المنصور بالموصل، وجاء أخرى إلى بغداد حين خطها المنصور مع النظّار على قنطرة الفرات حين شدّها وطلبه فغاض في الناس فلم يوجد ووضع عليه الرصد بكل مكان ودخل بيت سفيان بن حيّان العميّ [4] وكان معروفا بصحبته فتحيل على خلاصه بأن أتى المنصور وقال: أنا آتيك بإبراهيم فأحملني وغلامي على البريد وابعث معي الجند ففعل. وجاء بالجند إلى البيت وأركب معه إبراهيم في زيّ غلامه وذهب بالجند إلى البصرة ولم يزل يفرّقهم على البيوت ويدخلها موهما أنه يفتشه حتى بقي وحده فاختفى وطلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه، وكان قدم قبل ذلك الأهواز فطلبه محمد بن حصين واختفى منه عند   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 557: «ورجع ابن الربيع من بطن نخل فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما. [2] علي بن عبد المطلب بن عبد الله بن جنطب: ابن الأثير ج 5 ص 553. [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 557: «هشام بن عمارة بن الوليد بن عدي ابن الخيار. [4] سفيان بن حيان القمّيّ: ابن الأثير ج 5 ص 561. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 الحسن بن حبيب ولقي من ذلك غيّا. ثم قدم إبراهيم البصرة سنة خمس وأربعين بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة يحيى بن زياد بن حيّان النبطيّ وأنزله بداره في بني ليث فدعا الناس إلى بيعة أخيه وكان أوّل من بايعه نميلة بن مرّة العبسيّ وعبد الله بن سفيان وعبد الواحد بن زياد وعمر بن سلمة الهجيميّ وعبد الله بن حي بن حصين الرّقاشي وبثوا دعوته في الناس، واجتمع لهم كثير من الفقهاء وأهل العلم وأحصى ديوانه أربعة آلاف. واشتهر أمره ثم حوّلوه إلى وسط البصرة ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر ليقرب من الناس وولّاه سفيان أمير البصرة على أمره، وكتب إليه أخوه محمد يأمره بالظهور وكان المنصور بظاهر، وأرسل من القوّاد مددا لسفيان علي إبراهيم إن ظهر، ثم إنّ إبراهيم خرج أوّل رمضان من سنة خمس وأربعين وصلى الصبح في الجامع وجاء دار الإمارة بابن سفيان وحبسه وحبس القوّاد معه، وجاء جعفر ومحمد ابنا سليمان بن عليّ في ستمائة رجل وأرسل إبراهيم إليها المعين بن القاسم الحدروري [1] في خمسين رجلا فهزمهما إلى باب زينب بنت سليمان بن علي وإليها ينسب الزينبيّون من بني العبّاس فنادى بالأمان وأخذ من بيت المال ألفي ألف درهم، وفرض لكل رجل من أصحابه خمسين. ثم أرسل المغيرة على الأهواز في مائة رجل فغلب عليها محمد بن الحصين وهو في أربعة آلاف. وأرسل عمر بن شدّاد إلى فارس وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي، فتحصّنا في دار بجرد وملك عمر نواحيها، فأرسل هارون بن شمس العجليّ في سبعة عشر ألفا إلى واسط فغلب عليها هارون بن حميد الإيادي وملكها. وأرسل المنصور لحربه عامر ابن إسماعيل في خمسة آلاف وقيل في عشرين فاقتتلوا أياما ثم تهادنوا يروا مآل الأميرين المنصور وإبراهيم. ثم جاء نعي محمد إلى أخيه إبراهيم قبل الفطر فصلى يوم العيد وأخبرهم فازدادوا حنقا على المنصور. ونفر في حره وعسكر من الغد، واستخلف على البصرة غيلة وابنه حسنا معه. وأشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام وإرسال الجنود وأمدادهم واحدا بعد واحد، وأشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأنّ الناس في انتظارك ولو رأوك ما توانوا عنك، فسار وكتب المنصور إلى عيسى بن موسى بإسراع العود وإلى مسلم بن قتيبة بالريّ وإلى سالم بقصد إبراهيم وضم إليه غيرها من القوّاد. وكتب إلى المهدي بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز وفارس والمدائن وواسط   [1] المضاء بن القاسم الجزري: ابن الأثير ج 5 ص 564. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 والسواد وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف يتربصون به. ثم رمى كل ناحية بحجرها وأقام خمسين يوما على مصلاه ويجلس ولم ينزع عنه جبته ولا قميصه وقد توسخا ويلبس السواد إذا ظهر للناس، وينزعه إذا دخل بيته. وأهديت له من المدينة امرأتان فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله وأمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد فلم يحفل بهما. وقال: ليست هذه أيام نساء حتى انظر رأس إبراهيم إليّ أو رأسي له. وقدم عليه عيسى بن موسى فبعثه لحرب إبراهيم في خمسة عشر ألفا وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف وسار إبراهيم من البصرة ومائة ألف حتى نزلا بإزاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخا من الكوفة، وأرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالف عيسى إلى المنصور فهو في حف من الجنون. ويكون أسهل عليك فعرض ذلك إبراهيم على أصحابه فقالوا: نحن هارون وأبو جعفر في أيدينا! فأسمع ذلك رسول سالم فرجع، ثم تصافوا للقتال وأشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس ليكون أثبت والصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فأبى إبراهيم إلّا الصف صف أهل الإسلام، ووافقه بقية أصحابه. ثم اقتتلوا وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم معه الناس وعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فقال لهم حميد: لا طاعة في الهزيمة ولم يبق مع عيسى إلّا فلّ قليل فثبت واستمات وبينما هو كذلك إذ قدم جعفر ومحمد بن سليمان بن عليّ وجاء من وراء إبراهيم وأصحابه فانعطفوا لقتالهم واتبعهم أصحاب عيسى ورجع المنهزمون من أصحابه بأجمعهم اعترضهم إمامهم، فلا يطيقون ومخافة ولا وثوبه، فانهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابه وحميد يقاتله. ثم أصابه سهم بنحره فأنزلوه واجتمعوا عليه. وقال حميد شدّوا على تلك الجماعة فاحصروهم عن إبراهيم وقطعوا رأسه وجاءوا به إلى عيسى فسجد وبعثه إلى المنصور، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة الحرام سنة خمس وأربعين، ولما وضع رأسه بين يدي المنصور بكى، وقال: والله إني كنت لهذا كارها ولكني ابتليت بك وابتليت بي. ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا ومنهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور حتى دخل جعفر بن حنظلة النهراني فسلّم ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك وغفر له ما فرّط فيه من حقّك، فتهلل وجه المنصور وأقبل عليه وكنّاه بابي خالد واستدناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 بناء مدينة بغداد وابتدأ المنصور سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد وسبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية، ولأنه كان يكره أهل الكوفة ولا يأمن على نفسه منهم. فتجافى عن جوارهم وسار إلى مكان بغداد اليوم، وجمع من كان هنالك من البطارقة فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحرّ والبرد والمطر والوحل والهوام، واستشارهم فأشاروا عليه بمكانها وقالوا تجيئك الميرة في السفن من الشام والرقّة ومصر والمغرب إلى المصرات. ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل في دجلة. ومن أرمينية وما اتصل بها في تامرّا حتى يتصل بالزاب. وأنت بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطر والجسور وإذا قطعتها لم يكن لعدوّك مطمع وأنت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل قريب من البرّ والبحر والجبل. فشرع المنصور في عمارتها وكتب إلى الشام والجبل [1] والكوفة وواسط والبصرة في الصنّاع والفعلة واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفّة والأمانة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذلك، منهم: الحجّاج بن أرطاة وأبو حنيفة الفقيه وأمر بخطها بالرماد فشكلت أبوابها وفصلانها وطاقاتها ونواحيها، وجعل على الرماد حب القطن فأضرم نارا ثم نظر إليها وهي تشتعل فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم. ووكّل بها أربعة من القوّاد يتولى كل واحد منهم ناحية، ووكّل أبا حنيفة بعدّ الآجر واللبن. وكان أراده على القضاء والمظالم فأبى فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملا فكان هذا. وأمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين وجعل في البناء القصب والخشب ووضع بيده أوّل لبنة وقال: «بسم الله والحمد للَّه والأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ثم قال ابنوا على بركة الله، فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهديّ، فقطع البناء وسار إلى الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه ورجع من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد واستمرّ في بنائها، واستشار خالد بن برمك في نقض المدائن والإيوان فقال: لا أرى ذلك لأنه من آثار الإسلام [2] وفتوح العرب وفيه مصلى عليّ بن أبي طالب فاتهمه بمحبة العجم وأمر   [1] هي بلاد طبرستان فإنها تسمى بلاد الجبل وبلاد الديلم أهـ. (من خط الشيخ العطار) . [2] قوله لأنه من آثار الإسلام وفتوح العرب ... هو في الحقيقة من بناء الاكاسرة وآثارهم بحسب الإنشاء، ومعنى كونه من آثار الإسلام انه دل على ان الإسلام أباد هذه الدولة التي بنت هذا البناء وملكوا ملكهم وأذلّوهم أهـ. (من خط الشيخ العطار) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 بنقض القصر الأبيض فإذا الّذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه. فقال خالد: لا أرى إقصارك عنه لئلا يقال عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم، فأعرض عنه ونقل الأبواب إلى بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة، وجعل المدينة مدوّرة وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حدّ سواء. وجعل المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين والداخل أعلى من الخارج. ووضع الحجّاج ابن ارطاة قبلة المسجد، وكان وزن اللبنة التي يبنى بها مائة رطل وسبعة عشر رطلا وطولها ذراع في ذراع، وكانت بيوت جماعة من الكتاب والقوّاد تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع، وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلى ناحية الكرخ لما كان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها، وجعل الطرق أربعين ذراعا وكان مقدار النفقة عليها في المسجد والقصر والأسواق والفضلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف وثلاثة وثلاثين ألف درهم. وكان الأستاذ من البناءين يعمل يومه بقيراط، والروز كاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلّا بما بقي عنده وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهما بعد أن حبسه عليها. العهد للمهدي وخلع عيسى بن موسى كان السفّاح قد عهد إلى عيسى بن موسى بن علي وولّاه على الكوفة فلم يزل عليها، فلما كبر المهدي أراه المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى، وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهديّ عن يساره فكلّمه في التأخر عن المهديّ في العهد فقال: يا أمير المؤمنين كيف بالإيمان التي عليّ وعلى المسلمين وأبى من ذلك، فتغيّر له المنصور وباعده بعض الشيء. وصار يأذن للمهدي قبله ولعمّه عيسى بن عليّ وعبد الصمد. ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهدي واستمرّ المنصور على التنكّر له وعزله عن الكوفة لثلاث عشرة سنة من ولايته، وولّى مكانه محمد بن سليمان بن علي، ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد وجعل عيسى من بعده. ويقال إنه أعطاه أحد عشر ألف ألف درهم ووضع الجند في الطرقات لأذاه وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 خروج استادسيس [1] كان رجل ادّعى النبوّة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلاثمائة ألف مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان وسار إليه الأخثم [2] عامل مروالرّوذ في العساكر فقاتل الأخثم وعامة أصحابه، وتتابع القوّاد في لقائه فهزمهم وبعث المنصور وهو بالبرادق [3] خازم بن خزيمة إلى المهديّ في اثني عشر ألفا فولاه المهديّ حربه فزحف إليه في عشرين ألفا وجعل على ميمنته الهيثم بن شعبة بن ظهير، وعلى ميسرته نهار بن حصن السعدي [4] وفي مقدمته بكّار بن مسلم العقيليّ، ودفع لواءه للزّبرقان. ثم راوغهم في المزاحفة وجاء إلى موضع فخندق عليه وجعل له أربعة أبواب، وأتى أصحاب أستادسيس بالفئوس والمواعيل ليطموا الخندق فبدءوا بالباب الّذي يلي بكّار بن مسلم فقاتلهم بكّار وأصحابه حتى ردّوهم عن بابهم فأقبلوا على باب خازم وتقدّم منهم الحريش من أهل سجستان فأمر خازم الهيثم بن شعبة أن يخرج من باب بكّار ويأتي العدوّ من خلفهم وكانوا متوقعين قدوم أبي عون وعمر بن مسلم بن قتيبة وخرج خازم على الحريش واشتدّ قتاله معهم. وبدت أعلام الهيثم من ورائهم فكبّر أهل العسكر وحملوا عليهم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم فاستمرّ فيهم القتل فقتل سبعون ألفا وأسر أربعة عشر، وتحصّن أستادسيس على حكم أبي عون فحكم بأن يوثق هو وبنوه ويعتق الباقون، وكتب إلى المهدي بذلك فكتب المهديّ إلى المنصور ويقال إنّ أستادسيس أبو مراجل أمّ المأمون وابنه غالب خال المأمون الّذي قتل الفضل بن سهل. ولاية هشام بن عمر الثعلبي على السند كان على السّند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة ويلقب مرامي ألف رجل [5] ولما كان من أمر المهديّ ما قدّمناه بعث ابنه عبد الله   [1] استاذسيس: ابن الأثير ج 5 ص 591. [2] الاجشم: ابن الأثير ج 5 ص 591. [3] الراذان: ابن الأثير ج 5 ص 591. [4] نهار بن حصين السعدي: ابن الأثير ج 5 ص 591. [5] هزارمرد (يعني ألف رجل) ابن الأثير ج 5 ص 595. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 الأشتر إلى البصرة ليدعو له، فسار من هنالك إلى عمر بن حفص وكان يتشيّع فأهدى له خيلا ليتمكن بها من لقائه. ثم دعاه فأجاب وبايع له وأنزله عنده مختفيا ودعا القوّاد وأهل البلد فأجابوا فمزق الأعلام وهيأ لبسة من البياض يخطب فيها، وهو في ذلك إذ فجأه الخبر بقتل المهدي فدخل على ابنه أشتر وعزّاه فقال له: الله في دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السّند عظيم المملكة، كان يعظّم جهة النّبي صلى الله عليه وسلم، وكان معروفا بالوفاء، فأرسل إليه بعد أن عاهده عليه، واستقر عند ذلك الملك. وتسلّل إليه جماعة من الزيدية نحوا من أربعمائة، وبلغ ذلك المنصور فغاظه وكتب إلى عمر بن حفص بعزله وأقام يفكر فيمن يوليه السّند، وعرض له يوما هشام بن عمر الثعلبي [1] وهو راكب ثم اتبعه إلى بيته وعرض عليه أخته، فقال للربيع: لو كانت لي حاجة في النكاح لقبلت، فجزاك الله خيرا، وقد ولّيتك السّند فتجهّز لها وأمره أن يحارب ملك السّند ويسلّم إليه الأشتر ففعل، وأقام المنصور يستحثّه. ثم خرجت خارجة بالسّند فبعث هشام أخاه سفيحا لحسم الداء عنها، فمر بنواحي ذلك الملك فوجد الأشتر يتنزه في شاطئ همذان في عشرة من الفرسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه جميعا. وكتب هشام بذلك إلى المنصور فشكره وأمر بمحاربة ذلك الملك فظفر به وغلب على مملكته، وبعث بسراري عبد الله الأشتر ومعه ولد منه اسمه عبد الله بعث بهم المنصور إلى المدينة وأسلمه إلى أهله ولما ولّى هشام بن عمر على السّند وعزل عمر بن حفص عنها ثم حدثت فتق بإفريقية بعثه إلى سدّه كما سيأتي في أخبارها. بناء الرصافة للمهدي ولما رجع المهدي من خراسان قدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة فأجازهم وكساهم وجملهم وكذلك المنصور. ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم قثم بن العبّاس بن عبيد الله بن العبّاس بأن يفرّق بينهم ويستكفيه في ذلك، وأمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة ويسأله بحق الله ورسله والعبّاس وأمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر؟ فقال: مضر كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها كتاب الله وعندها بيت الله ومنها خليفة الله فغضب اليمن إذ لم يذكر لها   [1] هشام بن عمر الثعلبي: ابن الأثير ج 5 ص 595. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 فضلا. ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر وقطعوا الّذي كبحها فتشاجر الحيّان وتعصبت لليمن ربيعة والخراسانية للدولة وأصبحوا أربع فرق، وقال قثم للمنصور: اضرب كل واحدة بالأخرى وسيّر لابنك المهدي فلل أنير له [1] بجنده فيتناظرون أهل مدينتك فقبل رأيه وأمر صالحا صاحب المصلى ببناء الرّصافة للمهدي. مقتل معن بن زائدة كان المنصور قد ولّى على سجستان معن بن زائدة الشيبانيّ وأرسل إلى رتبيل في الضريبة التي عليه فبعث بها عروضا زائدة الثمن فغضب معن وسار إلى الرّخّج على مقدمته يزيد [2] ابن أخيه يزيد ففتحها وسبى أهلها وقتلهم ومضى رتبيل إلى عزمه وانصرف معن إلى بست فشتى بها ونكر قوم من الخوارج سيرته فهجموا عليه وفتكوا به في بيته وقام يزيد بأمر سجستان وقتل قاتليه واشتدّت على أهل البلاد وطأته فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور على لسانه كتابا يتضجر من كتب المهدي إليه ويسأله أن يعفى من معاملته، فأغضب ذلك المنصور وأقرأ المهدي كتابه وعزله وحبسه ثم شفع فيه شخص إلى مدينة السلام فلم يزل مجفوا حتى بعث إلى يوسف البرم بخراسان كما يذكر بعد. العمال على النواحي أيام السفاح والمنصور كان السفاح قد ولّى عند بيعته على الكوفة عمّه داود بن علي وجعل على حجابته عبد الله بن بسّام وعلى شرطته موسى بن كعب وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك وبعث عمه عبد الله لقتال مروان مع أبي عون بن يزيد بن قحطبة تقدمة، وبعث يحيى ابن جعفر ابن تمام بن العبّاس إلى المدائن، وكان أحمد بن قحطبة تقدمة وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمّار بن ياسر إلى الأهواز مددا لبسام بن إبراهيم،   [1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 604: وقال قثم للمنصور: قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف ان يحدث عليك حدثا فتضربه بالحزب الآخر. وقد بقي عليك في التدبير بقية، وهي ان تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا. فان فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء ... فقبل رأيه واستقام ملكه وبنى الرّصافة وتولى صالح المصلّى ذلك.» [2] مزيد ابن أخيه يزيد: ابن الأثير ج 5 ص 606. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 ودفع ولاية خراسان إلى أبي مسلم، فولّى أبو مسلم عليها إيادا وخالد بن إبراهيم وبعث عمّه عبد الله في مقدمته لحرب مروان أخاه صالحا ومعه أبو عون بن يزيد، فلما ظفر وانصرف ترك أبا عون يزيد بمصر واستقل عبد الله بولاية الشام وولّى السفاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فولّى على أرمينية يزيد بن أسد وعلى أذربيجان محمد بن صول ونزل الجزيرة. وكان أبو مسلم ولّى على فارس محمد بن الأشعث حين قتل أبا مسلمة الخلّال، فبعث السفّاح عليها عيسى فمنعه محمد بن الأشعث واستخلفه على الولاية فبعث عليها عمه إسماعيل. وولّى على الكوفة ابن أخيه موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية المهلّبيّ وعلى السّند منصور بن جمهور ونقل عمه داود إلى ولاية الحجاز واليمن واليمامة. ثم ولّى على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان وتوفي داود بن عليّ سنة ثلاث وثلاثين، فولّى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان وعلى مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد ابن عبد الله بن عبد المدان الحارثي وهو عمّ محمد بن يزيد. وفيها بعث محمد بن الأشعث إلى إفريقية ففتحها وفي سنة أربع وثلاثين بعث صاحب الشرطة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور، وولّاه مكانه على السّند، فاستخلف مكانه على الشرطة المسيّب بن زهير. وتوفي عامل اليمن محمد بن يزيد، فولّى مكانه عليّ بن الربيع بن عبيد الله الحارثي. ولما استخلف المنصور وانتقض عبد الله بن علي وأبو مسلم ولّى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الشام عبد الله بن عليّ. ثم هلك خالد ابن إبراهيم سنة أربعين فولّى مكانه عبد الجبّار ابن عبد الرّحمن فانتقض لسنة من ولايته، فبعث المنصور ابنه المهدي على خراسان وفي مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبّار. وتوفي سليمان عامل البصرة سنة أربعين فولّى مكانه سفيان بن معاوية، ومات موسى بن كعب بالسّند وولّى مكانه ابنه عيينة فانتقض، فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي صفرة وولّى مصر في هذه السنة حميد بن قحطبة. وولّى على الجزيرة والثغور والعواصم أخاه العبّاس ابن محمد وكان بها يزيد بن أسيد وعزل عمه إسماعيل عن الموصل، وولّى مكانه مالك ابن الهيثم الخزاعيّ. وفي سنة ست وأربعين عزل الهيثم بن معاوية وولّى على مكة والطائف مكانه السريّ بن عبد الله بن الحرث بن العبّاس نقله إليها من اليمامة، وولّى مكانه من اليمن قثم بن العبّاس بن عبد الله بن العبّاس، وعزل حميد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 قحطبة عن مصر وولّى مكانه نوفل بن الفرات، ثم عزله وولّى مكانه يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة. وولى على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ ثم اتهمه في أمر ابن أبي الحسن فعزله، وولّى مكانه رباح بن عثمان المزنيّ ولما قتله أصحاب محمد المهدي ولّى مكانه عبد الله بن الربيع الحارثيّ. ولما قتل إبراهيم أخو المهدي سنة خمس وأربعين ولّى المنصور على البصرة سالم بن قتيبة الباهليّ، وولّى على الموصل ابنه جعفرا مكان مالك بن الهيثم وبعث معه حرب بن عبد الله من أكابر قوّاده. ثم عزل سالم بن قتيبة عن البصرة سنة ست وأربعين، وولّى مكانه محمد بن سليمان، وعزل عبد الله بن الربيع عن المدينة، وولّى مكانه جعفر بن سليمان، وعزل السريّ بن عبد الله عن مكة وولّى مكانه عمه عبد الصمد بن عليّ. وولى سنة سبع وأربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكان عيسى بن موسى لما سخطه بسبب العهد. وولّى مكان محمد بن سليمان على البصرة محمد بن السفّاح فاستعفاه ورجع إلى بغداد فمات، واستخلف بها عقبة بن سالم فأقرّه. وولّى على المدينة جعفر بن سليمان، وولّى سنة ثمان وأربعين على الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكراد في نواحيها، وعزل سنة تسع وأربعين عمه عبد الصمد عن مكة، وولّى مكانه محمد بن إبراهيم. وفي سنة خمسين عزل جعفر بن سليمان عن المدينة، وولّى مكانه الحسن بن زيد بن الحسن. وفي سنة إحدى وخمسين عزل عمر بن حفص عن السّند وولّى مكانه هشام بن عمر والثعلبيّ، وولّى عمر بن حفص على إفريقية. ثم بعث يزيد بن حاتم من مصر مددا له، وولّى مكانه بمصر محمد بن سعيد. وفي هذه السنة قتل معن بن زائدة بسجستان كما تقدّم فقام بأمره يزيد ابن أخيه يزيد، فأقرّه المنصور ثم عزله وفي هذه السنة سار عقبة بن سالم من البصرة واستخلف نافع ابن عقبة فغزا البحرين وقتل ابن حكيم العدويّ واستقصره المنصور بإطلاق أسراهم فعزله وولّى جابر بن مومة الكلابيّ، ثم عزله وولّى مكانه عبد الملك بن طيبان النهيري. ثم عزله وولّى الهيثم بن معاوية العكّيّ. وفيها ولّى على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام، ثم عزله وولّى مكانه إبراهيم ابن أخيه يحيى بن محمد، وولّى على الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسريّ. ومات أسيد بن عبد الله أمير خراسان فولّى مكانه حميد بن قحطبة وفي سنة ثلاث وخمسين توفي عبيد الله بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة فاستقضى شريك بن عبد الله النخعيّ وكان على اليمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 يزيد بن منصور وفي سنة خمس وأربعين بل أربع وخمسين عزل عن الجزيرة أخاه العبّاس وأغرمه مالا، وولّى مكانه موسى بن كعب الخثعميّ، وكان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه، ولم يزل ساخطا على العبّاس حتى غضب على عمه إسماعيل، فشفع فيه إخوته عمومة المنصور فقال عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين شفعوا في أخيهم وأنت ساخط على أخيك العبّاس منذ كذا! ولم يكلمك فيه أحد منهم فرضي عنه. وفي سنة خمس وخمسين عزل محمد بن سليمان عن الكوفة وولّى مكانه عمر بن زهير الضبّي أخا المسيّب صاحب الشرطة، وكان من أسباب عزله، أنه حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة، وكتب إليه أن يتبين أمره فقتله قبل وصول الكتاب، فغضب عليه المنصور وقال: لقد هممت أن أقيده به. وعزل عمه عيسى في أمره لأنه الّذي كان أشار بولايته. وفيها عزل الحسن بن زيد عن المدينة وولّى مكانه عمه عبد الصمد بن علي، وكان على الأهواز وفارس عمارة بن حمزة. وفي سنة سبع وخمسين ولّى على البحرين سعيد بن دعلج صاحب الشرطة بالبصرة، فأنفذ إليها ابنه تميما ومات سوار بن عبد الله قاضي البصرة فولّى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العيريّ. وعزل محمد بن الكاتب عن مصر وولّى مكانه مولاه مطرا وعزل هشام بن عمر عن السّند وولّى مكانه معبد بن الخليل. وفي سنة ثمان وخمسين عزل موسى بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمر ابنه المهديّ أن يسير إلى الرقّة موريا بزيارة القدس ويكفل طريقة على الموصل فقبض عليه، وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجّله في إحضارها ثلاثا وإلا قتله، فبعث ابنه يحيى إلى عمارة بن حمزة ومبارك التركي وصالح صاحب المصلّى وغيرهم من القوّاد ليستقرض منهم، قال يحيى: فكلهم بعث إلا أنّ منهم من منعني الدخول ومنهم من يجيبني بالردّ إلا عمارة بن حمزة فإنه أذن لي ووجهه إلى الحائط، ولم يقبل عليّ، وسلّمت فردّ خفيفا، وسأل كيف خالد فعرّفته واستقرضته فقال: إن أمكنني شيء يأتيك فانصرفت عنه. ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين وتعذرت ثلاثمائة ألف. وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة وانتشار الأكراد بها، وسخط موسى بن كعب فأشار عليه المسيّب بن زهير بخالد بن برمك فقال: كيف يصلح بعد ما فعلنا؟ فقال: أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه، وعقد له على الموصل، ولابنه يحيى على أذربيجان. وسارا مع المهدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 فعزل موسى بن كعب وولاهما. قال يحيى: وبعثني خالد إلى عمارة بقرضه وكان مائة ألف، فقال لي: أكنت لأبيك صديقا؟ قم عني لا قمت. ولم يزل خالد على الموصل إلى وفاة المنصور. وفي هذه السنة عزل المنصور المسيّب بن زهير عن شرطته وحبسه مقيدا لأنه ضرب أبان بن بشير الكاتب بالسياط حتى قتله، وكان مع أخيه عمر بن زهير بالكوفة، وولّى المنصور على فارس نصر بن حرب بن عبد الله. ثم على الشرطة ببغداد عمر بن عبد الرحمن أخا عبد الجبّار، وعلى قضائها عبد الله بن محمد بن صفوان. ثم شفع المهدي في المسيّب وأعاده إلى شرطته. الصوائف كان أمر الصوائف قد انقطع منذ سنة ثلاثين بما وقع من الفتن، فلما كانت سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطية ونواحيها فنازل حصن بلخ [1] ، واستنجدوا أهل ملطية فأمدّوهم بثمانمائة مقاتل، فهزمهم الروم وحاصروا ملطية والجزيرة مفتوحة وعاملها موسى بن كعب بخراسان [2] فسلّموا البلد على الأمان لقسطنطين. ودخلوا إلى الجزيرة وخرّب الروم ملطية، ثم ساروا إلى قاليقلا ففتحوها. وفي هذه السنة سار أبو داود وخالد بن إبراهيم إلى الجتن [3] فدخلها فلم تمتنع عليه، وتحصّن منه السبيل [4] ملكهم، وحاصره مدّة، ثم فرض الحصن ولحق بفرغانة. ثم دخلوا بلاد الترك وانتهوا إلى بلد الصين، وفيها بعث صالح بن علي بن فلسطين سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدروب. وفي سنة خمس وثلاثين غزا عبد الرحمن بن حبيب عامل إفريقية جزيرة صقلّيّة فغنم وسبى وظفر بما لم يظفر به أحد قبله. ثم سفل [5] ولاة إفريقية بفتن البربر فأمّن أهل صقلّيّة وعمّر الحصون والمعاقل وجعلوا الأساطيل تطوف بصقلية للحراسة، وربما صادفوا تجّار المسلمين في البحر فأخذوهم وفي سنة ثمان وثلاثين خرج قسطنطين ملك الروم فأخذ ملطية عنوة وهدم سورها وعفا عن أهلها. فغزا العبّاس بن محمد الصائفة ومعه عماه صالح وعيسى،   [1] كمخ: ابن الأثير ج 5 ص 447. [2] بحرّان: ابن الأثير ج 5 ص 447 [3] الختّل: ابن الأثير ج 5 ص 448 [4] حبيش بن الشبل: ابن الأثير ج 5 ص 449 [5] حسب مقتضى السياق: وشغل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 وبني ما خرّبه الروم من سور ملطية من سورة الروم، وردّ إليها أهلها وأنزل بها الجند ودخل دار الحرب من درب الحرث وتوغّل في أرضهم. ودخل جعفر بن حنظلة البهراني من درب ملطية. وفي سنة تسع وثلاثين كان الفداء بين المسلمين والروم في أسرى قاليقلا وغيرهم. ثم غزا بالصائفة سنة أربعين عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام ومعه الحسن بن قحطبة، وسار إليهم قسطنطين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان وسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم ورجع، ولم تكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين، لاشتغال المنصور بفتنة بني حسن. وفي سنة ست وأربعين خرج الترك والحدر بن باب الأبواب وانتهوا إلى أرمينية وقتلوا من أهلها جماعة ورجعوا. وفي سنة سبع وأربعين أغار أستر خان الخوارزمي في جمع من الترك على أرمينية فغنم وسبى ودخل تفليس فعاث فيها. وكان حرب بن عبد الله مقيما بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارزمي بالجزيرة، فأمره المنصور بالمسير لحرب الترك مع جبريل بن يحيى، فانهزموا وقتل حرب في كثير من المسلمين. وفيها غزا بالصائفة مالك بن عبد الله الخثعميّ من أهل فلسطين، ويقال له ملك الصوائف فغنم غنائم كثيرة وقسّمها بدرب الحرث [1] وفي سنة تسع وأربعين غزا بالصائفة العبّاس بن محمد ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فدخلوا أرض الروم وعاثوا ورجعوا. ومات محمد بن الأشعث في طريقه في سنة إحدى وخمسين وقتل أخوه محمد ولم يدر. ثم غزا بالصائفة سنة أربع وخمسين زفر بن عاصم الهلالي. وفي سنة خمس بعدها طلب ملك الروم الصلح على أن يؤدي الجزية، وغزا بالصائفة يزيد بن أسيد السلميّ وغزا بها سنة ست وخمسين وغزا بالصائفة معيوب بن يحيى من درب الحرثى ولقي العدوّ فاقتتلوا ثم تحاجزوا. وفاة المنصور وبيعة المهدي وفي سنة ثمان وخمسين توفي المنصور منصرفا من الحج ببئر ميمون لست خلت من ذي الحجة وكان قد أوصى المهدي عند وداعه فقال: لم أدع شيئا إلا تقدّمت إليك فيه   [1] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة ولكن في حوادث ستة وأربعين ومائة وليس سبعة وأربعين ج 5 ص 576 «وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعميّ، الّذي يقال له مالك الصوائف (وهو من أهل فلسطين) بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة ثم قفل، فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلا بموضع يدعى الرهوة نزل بها ثلاثا وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة. فسحبت تلك الرهوة، رهوة مالك.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل واحدة منها، وله سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدي: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به فإنّ فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلّا ففي الثاني والثالث حتى تبلغ سبعة. فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل. فانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذريّة ومصلحة البيوت. فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك وأن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدّمهم وتوطئ الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإنّ عزّك عزّهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنّهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك وأن لا تخرج محبتك من قلوبهم، وأن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقيّة فإنك لا تتمّ بناءها وأظنك ستفعل. وإياك أن تستعين برجل من بني سليم وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل. وقيل قال له: إني ولدت في ذي الحجة وولّيت في ذي الحجة وقد يحس في نفسي أن أموت في ذي الحجة في هذه السنة، وإنما حدّ لي الحج على ذلك. فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجا ومخرجا ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. يا بني احفظ محمدا صلى الله عليه وسلم في أمّته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود فإنّ فيها صلاحك في الآجل وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإنّ الله تعالى لو علم أنّ شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه. واعلم أنّ من شدّة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ادّخر له من العذاب الأليم فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَساداً 5: 33 الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه المقيم فاحفظه وحصّنه وذبّ عنه، وأوقع بالملحدين اقمع المارقين منه، وقابل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 ولا تشطط فإنّ ذلك أقطع للشعث وأحسم للعدوّ وأنجع في الدواء، واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك وافتتح بصلة الرحم وبرّ القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعيّة واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمّن السبيل وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم وارفع المكاره عنهم وأعدّ الأموال واخزنها، وإياك والتبديد فإنّ النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان. وأعدّ الأكراع والرجال والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع، وخذ في أحكام الأمور والنازلات في أوقاتها أوّلا أوّلا، واجتهد وشمّر فيها وأعدّ رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظنّ وأسئ الظنّ بعملك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ وتفقّد من يبيت على بابك وسهّل إذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك وكل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير ساهية. ولا تنم فإنّ أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم ودّعه وسار إلى الكوفة فأحرم منها قارنا، وساق الهدي وأشعره وقلّده لأيام خلت من ذي القعدة. ولما سار منازل عرض له وجعه الّذي مات به. ثم اشتدّ فجعل يقول للربيع وكان عديله بادر بي إلى حرم ربّي هاربا من ذنوبي فلما وصل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجة لم يحضر إلا خدمه والربيع مولاه. فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم، فدعا عيسى بن عليّ العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد، ثم الأكابر وذوي الأنساب، ثم عامّتهم، فبايعهم الربيع للمهدي ثم بايع القوّاد وعامّة الناس. وسار العبّاس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة فبايعا الناس للمهدي بين الركن والمقام وجهزوه إلى قبره وصلى عليه عيسى بن موسى وقيل إبراهيم ابن يحيى، ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من خلافته. وذكر علي بن محمد النوفليّ عن أبيه وهو من أهل البصرة وكان يختلف إلى المنصور تلك الأيام قال: جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر، فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق والقاسم بن المنصور في ناحية فعلمت أنه قد مات. ثم أقبل الحسن بن زيد العلويّ والناس حتى ملئوا السرادق وسمعنا همس البكاء. ثم خرج أبو العنبر الخادم مشقوق الأقبية وعلى رأسه التراب وهو يستغيث، وقام القاسم فشق ثيابه. ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه على الناس وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بني هاشم وشيعة من أهل خراسان وعامة المسلمين. ثم بكى وبكى الناس ثم قال: البكاء أمامكم فأنصتوا رحمكم الله: ثم قرأ: أمّا بعد فإنّي كتبت كتابي هذا وأنا حيّ في آخر يوم من أيام الدنيا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعا ولا يذيق بعضكم بأس بعض. ثم أخذ في وصيتهم للمهدي وحثّهم على الوفاء بعهده. ثم تناول الحسن بن زيد وقال: قم فبايع، فبايع موسى بن المهدي لأبيه ثم بايع الناس الأوّل فالأوّل. ثم دخل بنو هاشم وهو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام، فحملوه على ثلاثة أميال من مكّة فدفنوه. وكان عيسى بن موسى لما بايع الناس أبى من الشيعة فقال له علي بن عيسى بن ماهان: والله لتبايعنّ وإلّا ضربنا عنقك. ثم بعث موسى بن المهدي والربيع بالخبر والبردة والقضيب وخاتم الخلافة إلى المهدي وخرجوا من مكة. ولما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي الحجة اجتمع إليه أهل بغداد وبايعوه، وكان أوّل ما فعله المهدي حين بويع أنه أطلق من كان في حبس المنصور إلّا من كان في دم أو مال أو ممن يسعى بالفساد، وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود وكان محبوسا مع الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن. فلما أطلق ساء ظن إبراهيم وبعث إلى من يثق به بحفر سرب يفضي إلى محبسه وبلغ ذلك يعقوب بن داود فجاء إلى ابن علاثة القاضي وأوصله إلى أبي عبيد الله الوزير ليوصله إلى المهدي فأوصله واستخلاه فلم يحدّثه حتى قام الوزير والقاضي وأخبره بتحقيق الحال، فأمره بتحويل الحسن، ثم هرب بعد ذلك ولم يظفر به. وشاور يعقوب بن داود في أمره فقال أعطه الأمان وأنا أحضره وأحضره. ثم طلب من المهدي أن يجعل له السبيل في رفع أمور الناس وراء بابه إليه فأذن له وكان يدخل كلما أراد ويرفع إليه النصائح في أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وترويح العذاب وفكاك الأسرى والمحبوسين، والقضاء عن الغارمين والصدقة على المتعفّفين فحظي بذلك وتقدّمت منزلته وسقطت منزلة أبي عبد الله، ووصله المهدي بمائة ألف وكتب له التوقيع بالإخاء في الله. ظهور المقنّع ومهلكه كان هذا المقنّع من أهل مرو ويسمى حكيما وهاشميّا، وكان يقول بالتناسخ وأنّ الله خلق آدم فتحوّل في صورته ثم في صورة نوح ثم إلى أبي مسلم ثم إلى هاشم وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 المقنع. فظهر بخراسان وادّعى الإلهيّة واتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه فسمّي المقنّع، وأنكر قتل يحيى بن زيد وزعم أنه يأخذ بثأره، وتبعه خلق عظيم من الناس وكانوا يسجدون له. وتحصّن بقلعة بسّام [1] من رساتيق كشّ وكان قد ظهر بخارى والصغد جماعة من المبيّضة فاجتمعوا معه على الخلاف، وأعانهم كفّار الأتراك وأغاروا على المسلمين من ناحيتهم، وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر بن سيّار، فقتلوا أخاه محمد بن نصر وحسّان ابن أخيه تميم. وأنفذ المهدي إليهم جبريل بن يحيى وأخاه يزيد لقتال المبيّضة فقاتلوهم أربعة أشهر في بعض حصون بخارى وملكوه عنوة، فقتل منهم سبعمائة ولحق فلّهم بالمقنّع وجبريل في اتباعهم. ثم بعث المهديّ أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله فبعث معاذ بن مسلم في جماعة القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحريشيّ، وأتاه عقبة بن مسلم من ذمّ فاجتمعوا بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنّع فهزموهم، ولحق فلّهم بالمقنع في بسّام فتحصنوا بها. وجاء معاذ فنازلهم وفسد ما بينه وبين الحريشيّ، فكتب الحريشيّ إلى المهدي بالسعاية في معاذ ويضمن الكفاية إن أفرد بالحرب، فأجابه المهديّ إلى ذلك وانفرد بحرب المقنّع وأمدّه معاذ بابنه وجاءوا بآلات الحرب حتى طلب أصحاب المقنّع الأمان سرّا فأمّنهم، وخرج إليه ثلاثون ألفا وبقي معه زهاء ألفين، وضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك وجمع نساءه وأهله فيقال سقاهم السمّ، ويقال بل أحرقهم وأحرق نفسه بالنار ودخلوا القلعة وبعث الحريشيّ برأس المقنّع إلى المهدي فوصل إليه بحلب سنة ثلاث وتسعين. الولاة أيام المهدي وعزل المهدي سنة تسع وخمسين عمه إسماعيل عن الكوفة وولّى عليها إسحاق بن الصفّاح الكندي ثم الأشعي، وقتل عيسى بن لقمان بن محمد بن صاحب الجمحيّ وعزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة، وولّى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن طيبان الفهيري. ثم جعل الأحداث إلى عمارة بن حمزة فولاها للسود بن عبد الله الباهليّ. وعزل قثم بن العبّاس عن اليمامة وولّى مكانه الفضل بن صالح، وعزل مطرا مولى المنصور عن مصر   [1] قلعة بسنام: ابن الأثير ج 6 ص 39. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وولّى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان. وعزل عبد الصمد بن علي عن المدينة وولّى مكانه محمد بن عبد الله الكثيريّ ثم عزله وولّى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان، ثم عزله وولّى مكانه زفر بن عاصم الهلالي. وتوفي معبد بن الخليل عامل السّند فولّى مكانه روح بن حاتم بإشارة وزيره أبي عبد الله. وتوفي حميد بن قحطبة بخراسان فولّى عليها مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد، ثم سخطه سنة ستين فعزله، وولّى معاذ بن مسلم. وولّى على سجستان حمزة بن يحيى وعلى سمرقند جبريل بن يحيى فبنى سورها وحصّنها وكان على اليمن رجاء بن روح وولّى على قضاء الكوفة شريك [1] وولّى على فارس والأهواز ودجلة قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن ثم عزله وولّى مكانه محمد بن سليمان، وولى على السّند بسطام بن عمر وولّى على اليمامة بشر بن المنذر وفي سنة إحدى وتسعين [2] ولّى على السّند محمد بن الأشعث واستقضى عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة وعزل الفضل بن صالح عن الجزيرة، وولّى مكانه عبد الصمد بن علي، وولّى عيسى بن لقمان على مصر ويزيد بن منصور على سواد الكوفة وحسّان السروري على الموصل وبسطام بن عمر والثعلبي على أذربيجان، وعزله عن السّند. وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة فولّى مكانه حمزة بن مالك وكان الأبان بن صدقة كاتبا للرشيد، فصرفه وجعل مع الهادي، وجعل هو مع هارون يحيى ابن خالد وعزل محمد بن سليمان أبا ضمرة عن مصر وولّى مكانه سليمان بن رجاء، وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحاق بن منصور. وفي سنة ست وستين عزل علي بن سليمان عن اليمن وولّى مكانه عبد الله بن سليمان، وعزل مسلمة بن رجاء عن مصر وولّى مكانه عيسى بن لقمان ثم عزله لأشهر. وولّى مكانه مولاه واضحا، ثم عزله وولّى مكانه يحيى الحريشيّ، وكان على طبرستان عمر بن العلاء وسعيد بن دعلج وعلى جرجان مهليل بن صفوان ووضع ديوان الأرمة وولى عليها عمر بن يزيع مولاه. العهد للهادي وخلع عيسى كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 41: «وعلى احداث الكوفة إسحاق بن الصّباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك. [2] حسب مقتضى السياق احدى وستين، راجع ابن الأثير ج 6 ص 55. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 العهد والبيعة لموسى الهادي بن المهدي، ونمي ذلك إلى المهدي فسرّ به واستقدم عيسى بن موسى من منزله بالرحبة من أعمال الكوفة فامتنع من القدوم. فاستعمل المهدي على الكوفة روح بن حاتم وأوصاه بالإضرار فلم يجد سبيلا إلى ذلك. وكان عيسى لا يدخل الكوفة إلا يوم جمعة أو عيد. وبعث إليه المهدي يتهدّده فلم يجب، ثم بعث عمه العبّاس يستقدمه فلم يحضر، فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه، وقدم على عسكر المهدي وأقام أياما يختلف إليه ولا يكلّم بشيء. وحضر الدار يوما وقد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه فثاروا به وأغلق الباب الّذي كان خلفه فكسروه، وأظهر المهدي النكير عليهم فلم يرجعوا إلى أن كاشفه أكابر أهل بيته وأشدّهم محمد بن سليمان واعتذر بالإيمان التي عليه. فأحضر المهدي القضاة والفقهاء وفيهم محمد بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجيّ، فأفتوه بمخارج الإيمان وخلع نفسه وأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم [1] وضياعا بالزّاب وكسكر وبايع لابنه موسى الهادي بالعهد. ثم جلس المهدي من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم وخرج إلى الجامع وعيسى معه فخطب وأعلم الناس ببيعة الهادي ودعاهم إليها فبادروا وأشهد عيسى بالخلع. فتح باربد من السند وبعث المهدي سنة تسع وخمسين عبد الملك بن شهلب المسمعي في جمع كثير من الجند والمقطوعة إلى بلاد الهند فركبوا البحر من فارس ونزلوا بأرض الهند، وفتحوا باربد فافتتحوها عنوة، ولجأ أهلها إلى البدّ فأحرقوه عليهم فاحترق بعض وقتل الباقون، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون وأقاموا بعض أيام إلى أن يطيب الريح فوقع فيهم موتان فهلك ألف فيهم إبراهيم بن صبيح. ثم ركبوا البحر إلى فارس فلما انتهوا إلى ساحل حرّان عصفت بهم الريح فانكسرت عامّة مراكبهم وغرق الكثير منهم. حج المهدي وفي سنة ستين حج المهدي واستخلف على بغداد ابنه الهادي، وخاله يزيد بن منصور، واستصحب ابنه هارون وجماعة من أهل بيته، وكان معه الوزير يعقوب بن   [1] عشرة آلاف ألف درهم: ابن الأثير ج 6 ص 45 وهو الأصح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 داود، فجاء في مكة بالحسن بن إبراهيم الّذي ضمنه على الأمان فوصله المهدي وأقطعه. ولما وصل إلى مكّة اهتمّ بكسوة الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها. وكانت فيها كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين، وقسّم مالا عظيما هنالك في مصارف الخير فكان منه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار ومن اليمن مائة ألف دينار ففرّق ذلك كله، وفرّق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسّع المسجد، ونقل خمسمائة من الأنصار إلى العراق جعلهم في حرسه وأقطع لهم وأجرى الأرزاق. ولما رجع أمر ببناء القصور بطريق مكة أوسع من قصور المنصور من القادسية إلى زبالة، وأمر باتخاذ المصانع في كل منها منهل، وبتحديد الأميال وحفر الآبار، وولى على ذلك بقطير بن موسى، وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتصغير المنابر إلى مقدار منبر النّبي صلى الله عليه وسلم. وأمر في سنة سبع وستين بالزيادة في الحرمين على يد بقطير فدخلت فيه دور كثيرة، ولم يزل البناء فيهما إلى وفاة المهدي. نكبة الوزير أبي عبد الله كان أبو عبد الله الأشعري قد اتصل بالمهديّ أيام أبيه المنصور فلطفت عنده منزلته واستوزره وسار معه إلى خراسان وعظمت به بطانة المهديّ فأكثروا فيه السعاية، وكان الربيع يدرأ عنه ويعرض كتبه على المنصور ويحسن القول فيه. فكتب المنصور إلى المهدي بالوصاة به وأن لا يقبل فيه السعاية، ولما مات المنصور قام الربيع ببيعة المهدي، وقدموا إلى بغداد جاء الربيع إلى باب أبي عبد الله قبل المهدي وقبل أهله فعذله ابنه الفضل على ذلك، فقال: هو صاحب الرجل وينبغي أن نعامله بغير ما كنا نعامله، وإياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أو تمنن بذلك في نفسك. فلما وقف ببابه أمهله طويلا من المغرب إلى العشاء ثم أذن له فدخل عليه وهو متكئ فلم يجلس ولا أقبل عليه. وشرع الربيع يذكر أمر البيعة فكفه وقال: قد بلغنا أمركم. فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب. فقال له: ليس الصواب إلّا ما عملته، ولكن والله لأنفقنّ مالي وجاهي في مكروهة، وجدّ في السعاية فيه فلم يجد طريقا إليها لاحتياطه في أمر دينه وأعماله. فأتاه من قبل ابنه محمد ودسّ إلى المهدي بعرضه لحرمة وأنه زنديق، حتى لا استحكمت التهمة فيه أحضره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 المهدي في غيبة من أبيه، ثم قال له: اقرأ فلم يحسن فقال لأبيه: ألم تقل أنّ ابنك يقرأ القرآن؟ فقال: فارقني منذ سنين وقد نسي، فأمر به المهدي فقتل. واستوحش من أبي عبد الله وساءت منزلته إلى أن كان من أمره ما نذكره وعزله عن ديوان الرسائل وردّه إلى الربيع، وارتفعت منزلة يعقوب بن داود عند المهدي وعظم شأنه وأنفذ عهده إلى جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب، وكان لا ينفذ كتاب المهدي حتى يكتب يعقوب إلى يمينه بإنفاذ ذلك. ظهور دعوة العباسية بالأندلس وانقطاعها وفي سنة إحدى وستين أجاز عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ من إفريقية إلى الأندلس داعية لبني العباس، ونزل بساحل مرسية، وكاتب سليمان بن يقطن [1] عامل سرقسطة في طاعة المهدي فلم يجبه. وقصد بلاده فيمن معه من البربر فهزمه سليمان وعاد إلى تدبير [2] . وسار إليه عبد الرحمن صاحب الأندلس وأحرق السفن في البحر تضييقا على ابن حبيب في النجاة فاعتصم بجبل منيع بنواحي بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه المال فاغتاله بعض البربر وحمل رأسه إليه فأعطاه ألف دينار وذلك سنة اثنتين وستين. وهمّ عبد الرحمن صاحب الأندلس أمر ذلك لغزو الشام من الأندلس على العدوة الشمالية لأخذ ثأره فعصى عليه سليمان بن يقطن والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري في سرقسطة فشغلوه عما اعتزم عليه من ذلك. غزو المهدي تجهّز المهدي سنة ثلاث وستين لغزو الروم وجمع الأجناد من خراسان ومن الآفاق وتوفي عمه عيسى بن علي آخر جمادى الأخيرة بعسكره، وسار من الغد واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي واستصحب هارون، ومرّ في طريقه بالجزيرة والموصل، فعزل عبد الصمد بن علي وحبسه ثم أطلقه سنة ست وستين. ولما جاز ببني مسلمة بن عبد الملك ذكّره عمه العباس بما فعله مسلمة مع جدّهم محمد بن عليّ، وكان أعطاه مرّة في اجتيازه عليه ألف دينار فأحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه وأعطاهم عشرين ألف دينار وأجرى عليهم الأرزاق، وعبر الفرات إلى حلب، فأقام بها وبعث ابنه   [1] سليمان بن يقظان: ابن الأثير ج 6 ص 54. [2] تدمير: ابن الأثير ج 6 ص 54. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 هارون للغزو وأجاز معه الدروب إلى جيحان مشيّعا، وبعث معه عيسى بن موسى وعبد الملك بن صالح والحسن بن قحطبة والربيع بن يونس ويحيى بن خالد بن برمك وكان إليه أمر العسكر والنفقات، وحاصروا حصن سمالوا أربعين يوما ثم فتحوه بالأمان وفتحوا بعده فتوحات كثيرة، وعادوا إلى المهدي وقد أثخن في الزنادقة وقتل من كان في تلك الناحية منهم. ثم قفل إلى بغداد ومرّ ببيت المقدس وصلّى في مسجده ورجع إلى بغداد. العهد لهارون وفي سنة ست وستين أخذ المهدي البيعة لابنه هارون بعد أخيه الهادي ولقبه الرشيد. نكبة الوزير يعقوب بن داود كان أبو داود بن طهمان كاتبا لنصر بن سيّار هو وإخوته وكان شيعيّا وعلى رأي الزيديّة ولما خرج يحيى بن زيد بخراسان كان يكاتبه بأخبار نصر فأقصاه نصر، فلما طلب أبو مسلم بدم يحيى جاءه داود فأمّنه في نفسه وأخذ ما اكتسبه من المال أيام نصر، وأقام بعد ذلك عاطلا. ونشأ له ولد أهل أدب وعلم وصحبوا أولاد الحسن. وكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله فورثوا ذلك عنه، ولما قتل إبراهيم طلبهم المنصور وحبس يعقوب وعليّا مع الحسن بن إبراهيم حتى توفي، وأطلقهما المهدي بعده مع من أطلق. وداخله المهدي في أمر الحسن لما فرّ من الحبس فكان ذلك سببا لوصلته بالمهديّ حتى استوزره، فجمع الزيديّة وولّاهم شرقا وغربا وكثرت السعاية فيه من البطانة بذلك وبغيره وكان المهدي يقبل سعايتهم حتى يروا أنها قد تمكنت، فإذا غدا عليه تبسّم وسأله. وكان المهدي مشتهرا بالنساء فيخوض معه في ذلك وفيما يناسبه ويتغلّب برضاه وسامره في بعض الليالي وجاء ليركب دابّته وقد نام الغلام، فلما ركب نفرت الدابة من قعقعة ردائه فسقط ورمحته فانكسر فانقطع عن المهدي وتمكن أعداؤه من السعاية حتى سخطه وأمر به فحبس وحبس عمّاله وأصحابه. ويقال بل دفع إليه علويّا ليقتله فأطلقه، ونمي ذلك إلى المهدي فأرسل من أحضره، وقال ليعقوب أين العلويّ؟ فقال: قتلته فأخرجه إليه حتى رآه. ثم حبس في المطبق ودلّي في بئر فيه. وبقي أيام المهدي والهادي ثم أخرج وقد عمي وسأل من الرشيد المقام بمكة فأذن له. وقيل في سبب تغيّره أنه كان ينهى المهدي عن شرب أصحابه النبيذ عنده، ويكثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 عليه في ذلك ويقول: أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ لا والله لا على هذا استوزرتني ولا عليه صحبتك! مسير الهادي إلى جرجان وفي سنة سبع وستين عصى وتداهر من شرو بن ملكا طبرستان [1] من الديلم فبعث المهدي ولي عهده موسى الهادي وجعل على جنده محمد بن حميد [2] وعلى حجابته نفيعا مولى المنصور وعلى حرسه عيسى بن ماهان وعلى رسائله أبان بن صدقة وتوفي أبان بن صدقة فبعث المهدي مكانه أبا خالد الأجرد [3] . فسار المهدي وبعث الجنود في مقدمته وأمّر عليهم يزيد فحاصرهما حتى استقاما وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان وما كان إليه وولّى مكانه عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه ثم بعث سنة ثمان وستين يحيى الحريشيّ في أربعين ألفا إلى طبرستان. العمال بالنواحي وفي سنة ثلاث وستين ولّى المهدي ابنه هارون على المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى وعلى الرسائل يحيى بن خالد بن برمك وعزل زفر بن عاصم عن الجزيرة وولّى مكانه عبد الله بن صالح، وعزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولّى مكانه المسيّب بن زهير الضبيّ، وعزل يحيى الحريشيّ عن أصبهان وولّى مكانه الحكم بن سعيد، وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان وولّى مكانه عمر بن العلاء، ومهلهل بن صفوان عن جرجان وولّاها هشام بن سعيد. وكان على الحجاز واليمامة جعفر بن سليمان، وعلى الكوفة إسحاق بن الصّباح، وعلى البحرين والبصرة وفارس والأهواز محمد بن سليمان، فعزله سنة أربع وستين وولّى مكانه صالح بن داود. وكان على السّند محمد بن الأشعث. وفي سنة خمس وستين عزل خلف بن عبد الله عن الريّ وولاها عيسى مولى جعفر، وولّى على البصرة روح بن حاتم وعلى البحرين وعمان والأهواز وفارس وكرمان النعمان مولى المهدي. وعزل محمد بن الفضل عن الموصل وولّى مكانه أحمد بن إسماعيل. وفي سنة ست وستين   [1] ونّداد هرمز وشروين صاحبي طبرستان: ابن الأثير ج 6 ص 75. [2] محمد بن حميل: المرجع السابق. [3] ابا خالد الأحول: ابن الأثير ج 6 ص 76. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة واستقضى مكانه خالد بن طليق ابن عمران بن حصين فاستعفى أهل البصرة منه. وولّى المهدي على قضائه أبا يوسف حين سار إلى جرجان. واضطربت في هذه السنة خراسان على المسيّب بن زهير فولّاها أبا العباس الفضل بن سليمان الطوسيّ، وأضاف إليه سجستان، فولّى هو على سجستان سعيد بن دعلج. وولّى على المدينة إبراهيم ابن عمه وعزل منصور بن يزيد عن اليمن وولّى مكانه عبد الله بن سليمان الربعيّ. وكان على مصر إبراهيم بن صالح وتوفي في هذه السنة عيسى بن موسى بالكوفة وهي سنة سبع وستين. وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان والرويان وما كان إليه وولّاه عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه. وحج بالناس إبراهيم ابن عمه يحيى وهو على المدينة ومات بعد قضاء الحج، فولّى مكانه إسحاق بن موسى بن علي وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثيّ وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري وعلى البصرة محمد بن سليمان وعلى قضائها عمر بن عثمان التميمي وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي. وقتل موسى بن كعب ووقع الفساد في بادية البصرة من الأعراب بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطرق وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة. الصوائف وفي سنة تسع وخمسين أغزى المهدي عمه العبّاس بالصائفة وعلى مقدمته الحسن الوصيف فبلغوا أهرة [1] وفتحوا مدينة أوهرة ورجعوا سالمين ولم يصب من المسلمين أحد. وفي سنة إحدى وستين غزا بالصائفة يمامة بن الوليد [2] فنزل دابق وجاشت الروم مع ميخاييل في ثمانين ألفا ونزل عمق مرعش فقتل وسبى وغنم، وحاصر مرعش وقتل من المسلمين عددا، وانصرف إلى جيحان فكان عيسى بن عليّ مرابطا بحصن مرعش فعظم ذلك على المهديّ وتجهّز لغزو الروم. وخرجت الروم سنة اثنتين وستين إلى الحرث [3] فهدموا أسوارها وغزا بالصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا من المرتزقة فبلغ جهة أدرركبه [4] وأكثر التحريق والتخريق ولم يفتح حصنا ولا لقي   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 41: أنقرة. [2] ثمامة بن الوليد: ابن الأثير، ج 6 ص 55 [3] الحدث: ابن الأثير ج 6 ص 58. [4] حمّة ازرولية: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 جمعا ورجع بالناس سالما. وغزا يزيد بن أسيد السلميّ من ناحية قاليقلا فغنم وسبى وفتح ثلاثة حصون. ثم غزا المهدي بنفسه سنة ثلاث وستين كما مرّ ثم غزا سنة أربع وستين عبد الكبير بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب من درب الحرث فخرج إليه ميخاييل وطارد الأرمني [1] البطريقان في تسعين الفا فحام عن لقائهم ورجع بالناس، فغضب عليه المهدي وهمّ بقتله فشفع فيه وحبسه. وفي سنة خمس وستين بعث المهدي ابنه هارون بالصائفة وبعث معه الربيع فتوغّل في بلاد الروم ولقيه عسكر نقيطا من القواميس فبارزه يزيد بن مزيد فهزمهم، وغلب على عسكرهم ولحقوا بالدمشق [2] صاحب المسالح، فحمل لهم مائتي ألف دينار واثنتين وعشرين ألف درهم، وسار الرشيد بعساكره وكانت نحوا من مائة ألف فبلغ خليج قسطنطينية وعلى الروم يومئذ غسطة [3] امرأة إليوك كافلة لابنها منه صغيرا، فجرى الصلح على الفدية وأن تقيم له الأدلّاء والأسواق في الطريق لأنّ مدخله كان ضيّقا مخوفا فأجابت لذلك، وكان مقدار الفدية سبعين ألف دينار كل سنة ومدّة الصلح ثلاث سنين وكان ما سباه المسلمون قبل الصلح خمسة آلاف رأس وستمائة رأس وقتل من الروم في وقائع هذه الغزوات أربعة وخمسون ألفا ومن الأسرى ألفان. ثم نقض الروم هذا الصلح سنة ثمان وستين ولم يستكملوا مدّته بقي منها أربعة أشهر وكان على الجزيرة وقنّسرين علي ابن سليمان فبعث يزيد بن البدر بن البطّال في عسكر فغنموا وسبوا وظفروا ورجعوا. وفاة المهدي وبيعة الهادي وفي سنة تسع وستين اعتزم المهدي على خلع ابنه موسى الهادي من العهد والبيعة للرشيد به، وتقديمه على الهادي وكان بجرجان فبعث إليه بذلك فاستقدمه فضرب الرسول وامتنع، فسار إليه المهدي فلما بلغ ماسبدان توفي هنالك. يقال مسموما من بعض جواريه، ويقال سمّت إحداهما الأخرى في كثرى فغلط وأكلها ويقال حاز صيدا فدخل وراءه إلى خربة فدق الباب ظهره وكان موته في المحرّم وصلى عليه ابنه الرشيد وبويع ابنه موسى الهادي لما بلغه موت أبيه وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان. وكان الرشيد لما توفي المهدي والعسكر بماسبدان نادى في الناس بإعطاء   [1] طاراذ الارمني: ابن الأثير ج 6 ص 63 [2] الدمستق: ابن الأثير ج 6 ص 66 [3] عطسة امرأة أليون: ابن الأثير ج 6 ص 66 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 تسكينا وقسم فيهم مائتين مائتين، فلما استوفوها تنادوا بالرجوع إلى بغداد وتشايعوا إليها واستيقنوا موت المهدي، فأتوا باب الربيع وأحرقوه وطالبوا بالأرزاق ونقبوا السجون. وقدم الرشيد بغداد في أثرهم فبعثت الخيزران إلى الربيع فامتنع يحيى خوفا من غيرة الهادي وأمرت الربيع بتسكين الجند فسكنوا وكتب الهادي إلى الربيع يتهدّده فاستشار يحيى في أمره وكان يثق بودّه فأشار عليه بأن يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه وتصحبه الهدايا والتحف ففعل ورضى الهادي عنه وأخذت البيعة ببغداد للهادي. وكتب الرشيد بذلك إلى الآفاق وبعث نصيرا الوصيف إلى الهادي بجرجان فركب اليزيد إلى بغداد فقدمها في عشرين يوما. فاستوزر الربيع وهلك لمدّة قليلة من وزارته. واشتدّ الهادي في طلب الزنادقة وقتلهم، وكان منهم عليّ بن يعطى ويعقوب بن الفضل من ولد ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، كان قد أقرّ بالزندقة عند المهدي إلا أنه كان مقسما أن لا يقتل هاشميّا فحبسه وأوصى الهادي بقتله وبقتل ولد عمهم داود بن علي فقتلهما (وأمّا عماله) فكان على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعلى مكّة والطائف عبد الله بن قثم وعلى اليمن إبراهيم بن مسلم بن قتيبة وعلى اليمامة والبحرين سويد القائد الخراساني وعلى عمان الحسن بن سليم الحواري وعلى الكوفة موسى بن عيسى بن موسى، وعلى البصرة ابن سليمان وعلى جرجان الحجّاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسّان وعلى طبرستان والرّويان صالح بن عمير مولى [1] وعلى الموصل هاشم بن سعيد بن خالد، وعزله الهادي لسوء سيرته وولّى مكانه عبد الملك وصالح بن علي (وأمّا الصائفة) فغزا بها في هذه السنة وهي سنة تسع وتسعين معيوب [2] بن يحيى وقد كان الروم خرجوا مع بطريق لهم إلى الحرث فهرب الوالي ودخلها الروم وعاثوا فيها فدخل معيوب وراءهم من درب الراهب وبلغ مدينة استة وغنم وسبى وعاد. ظهور الحسين المقتول بفتح [3] وهو الحسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط، كان الهادي   [1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 32: صالح بن عميرة الاسدي وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي. [2] معيوف بن يحيى: ابن الأثير ج 6 ص 94، الطبري ج 10 ص 32 [3] المقتول بفخ: ابن الأثير ج 6 ص 90، الطبري ج 10 ص 24 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 قد استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز كما مرّ فأخذ يوما الحسن بن المهدي بن محمد بن عبد الله بن الحسين الملقّب أبا الزفت، ومسلم بن جندب الهذليّ الشاعر، وعمر بن سلام مولى العمريين على شراب لهم، فضربهم وطيف بهم بالمدينة بالحبال في أعناقهم، وجاء الحسين إليه فشفع فيهم وقال: ليس عليهم حدّ فإنّ أهل العراق لا يرون به بأسا وليس من الحدّ أن نطيفهم فحبسهم. ثم جاء ثانية ومعه من عمومته يحيى بن عبد الله بن الحسن صاحب الديلم بعد ذلك فكفلاه وأطلقه من الحبس. وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضا ويعرضون فغاب الحسن عن العرض يومين، فطلب به الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله كافليه وأغلظ لهما، فحلف يحيى أنه يأتي به من ليلته أو يدق عليه الباب يؤذنه به. وكان بين الطالبيين ميعاد للخروج في الموسم فأعجلهم ذلك عنه وخرجوا من ليلتهم. وضرب يحيى على العمري في باب داره بالسيف واقتحموا المسجد فصلوا الصبح وبايع الناس الحسين المرتضى من آل محمد على كتاب الله وسنّة رسوله. وجاء خالد اليزيدي في مائتين من الجند والعمري وابن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد في ناس كثيرين فقاتلوهم وهزموهم من المسجد، واجتمع يحيى وإدريس بن عبد الله بن حسن فقتلاه وانهزم الباقون وافترق الناس. وأغلق أهل المدينة أبوابهم وانتهب القوم من بيت المال بضعة عشر ألف دينار وقيل سبعين ألفا، واجتمعت شيعة بني العبّاس من الغد وقاتلوهم إلى الظهر وفشت الجراحات وافترقوا. ثم قدم مبارك التركيّ من الغد حاجا فقاتل مع العبّاسية إلى منتصف النار وافترقوا، وواعدهم مبارك الرواح إلى القتال واستغفلهم وركب رواحله راجعا واقتتل الناس المغرب ثم افترقوا. ويقال إنّ مباركا دسّ إلى الحسين بذلك تجافيا عن أذية أهل البيت، وطلب أن يأخذ له عذرا في ذلك بالبيات فبيته الحسين واستطرد له راجعا. وأقام الحسين وأصحابه بالمدينة واحدا وعشرين يوما آخر ذي القعدة، ولما بلغها نادى في الناس بعتق من أتى إليه من العبيد فاجتمع إليه جماعة. وكان قد حجّ تلك السنة رجال من بني العبّاس منهم سليمان بن المنصور ومحمد بن سليمان بن علي والعبّاس بن محمد بن علي وموسى وإسماعيل أبناء عيسى بن موسى. ولما بلغ خبر الحسين إلى الهادي كتب إلى محمد بن سليمان وولّاه على حربه وكان معه رجال وسلاح وقد أغذ بهم عن البصرة خوف الطريق، فاجتمعوا بذي طوى، وقدموا مكة فحلّوا من العمرة التي كانوا أحرموا بها. وانضمّ إليهم من حجّ من شيعتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 ومواليهم وقوادهم، واقتتلوا يوم التروية، فانهزم الحسين وأصحابه وقتل كثير منهم، وانصرف محمد بن سليمان وأصحابه إلى مكة ولحقهم بذي طوى رجل من خراسان برأس الحسين ينادي من خلفهم بالبشارة، حتى ألقى الرأس بين أيديهم مضروبا على قفاه وجبهته، وجمعت رءوس القتلى فكانت مائة ونيفا وفيها رأس سليمان أخي المهدي ابن عبد الله، واختلط المنهزمون بالحاج. وجاء الحسن بن المهدي أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعبّاس بن محمد فأخذه موسى بن عيسى وقتله وغضب محمد بن سليمان من ذلك وغضب الهادي لغضبه وقبض أمواله وغضب على مبارك التركي وجعله سائس الدواب فبقي كذلك حتى مات الهادي. وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله أخو المهدي فأتى مصر وعلي يريدها، وأصبح مولى صالح بن المنصور وكان يتشيع لآل عليّ فحمله على البريد إلى المغرب ووقع بمدينة وليلة من أعمال طنجة واجتمع البريد على دعوته وقتل الهادي وأصحابه بذلك وصلبه [1] وكان لإدريس وابنه إدريس وأعقابهم حروب نذكرها بعده. حديث الهادي في خلع الرشيد كان الهادي يبغض الرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره، وكان رأى في منامه أنه دفع إليهما قضيين فأورق قضيب الهادي من أعلاه وأورق قضيب الرشيد كله، وتأوّل ذلك بقصر مدّة الهادي وطول مدّة الرشيد وحسنها. فلما ولي الهادي أجمع خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر مكانه، وفاوض في ذلك قوّاده فأجابه يزيد بن مزيد وعلي بن عيسى وعبد الله بن مالك، وحرّضوا الشيعة على الرشيد لينقصوه ويقولوا لا نرضى به، ونهى الهادي أن يشاور بين يديه بالحرب فاجتنبه الناس، وكان يحيى بن خالد يتولّى أموره فاتهمه الهادي بمداخلته وبعث إليه وتهدّده فحضر عنده مستميتا وقال: يا أمير المؤمنين أنت أمرتني بخدمته من بعد المهدي! فسكن غضبه وقال له في أمر الخلع فقال: يا أمير المؤمنين أنت إن حملت الناس على نكث الإيمان فيه هانت عليهم فيمن توليه، وإن بايعت بعده كان ذلك أوثق للبيعة، فصدّقه وسكت عنه،   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 93: «وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ، فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور، وكان شيعيا لعليّ، فحمله على البريد الى ارض المغرب، فوقع بأرض طنجة، بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر. فضرب الهادي عنق واضح وصلبه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وعاد أولئك الذين جفلوه من القوّاد والشيعة فأغروه بيحيى وأنه الّذي منع الرشيد من خلع نفسه، فحبسه الهادي فطلب الحضور للنصيحة، وقال له يا أمير المؤمنين أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو صبي ويرضون به لصلاتهم وحجّهم وغزوهم، وتأمن أن يسمو إليها عند ذلك أكابر أهل بيتك فتخرج من ولد أبيك، والله لو لم يعقده المهدي لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذرا من ذلك، وإني أرى أن تعقده لأخيك، فإذا بلغ ابنك أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له فقبل الهادي قوله وأطلقه. ولم يقنع القوّاد ذلك لأنهم كانوا حذرين من الرشيد في ذلك وضيّق عليه واستأذنه في الصيد فمضى إلى قصر مقاتل ونكره الهادي وأظهر خفاءه [1] وبسط الموالي والقوّاد فيه ألسنتهم. وفاة الهادي وبيعة الرشيد ثم خرج الهادي إلى حديقة الموصل فمرض واشتدّ مرضه هنالك واستقدم العمّال شرقا وغربا. ولما ثقل تآمر القوّاد الذين بايعوا جعفرا في قتل يحيى بن خالد، ثم أمسكوا خوفا من الهادي. ثم توفي الهادي في شهر ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة، وقيل توفي بعد أن عاد من حديقة الموصل. ويقال إنّ أمّه الخيزران وصت بعض الجواري عليه فقتلته لأنها كانت أوّل خلافته تستبد عليه بالأمور فعكف الناس واختلفت المواكب، ووجد الهادي لذلك فكلمته يوما في حاجة فلم يجبها فقالت: قد ضمنتها لعبد الله بن مالك. فغضب الهادي وشتمه وحلف لاقضيتها فقامت مغضبة، فقال: مكانك وإلّا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لئن بلغني أنّ أحدا من قوّادي وخاصتي وقف ببابك لأضربنّ عنقه ولأقبضنّ ماله، ما للمواكب تغدو وتروح عليك؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك إياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمّي! فانصرفت وهي لا تعقل. ثم قال لأصحابه: أيكم يحب أن يتحدّث الرجال بخبر أمّه، ويقال فعلت أمّ فلان وصنعت؟ فقالوا لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمّي فتتحدّثون معها؟ فيقال: إنه لما جدّ في خلع الرشيد خافت عليه منه، فلما ثقل مرضه وصت بعض الجواري فجلست على وجهه فمات، وصلى عليه الرشيد. وجاء هرثمة بن أعين إلى   [1] لعلها جفاءه حسب مقتضى السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة، وأحضر يحيى فاستوزره وكتب إلى الأطراف بالبيعة. وقيل: إنّ يحيى هو الّذي جاءه وأخرجه فصلى على الهادي ودفنه [1] إلى يحيى وأعطاه خاتمه. وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أمّ الرشيد. وعزل لأوّل خلافته عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة وولّى مكانه إسحاق بن سليمان، وتوفي يزيد بن حاتم عامل إفريقية، فولّى مكانه روح بن حاتم، ثم توفي فولّى مكانه ابنه الفضل، ثم قتل فولّى هرثمة بن أعين كما يذكر في أخبار إفريقية. وأفرد الثغور كلها عن الجزيرة وقنّسرين وجعلها عمالة واحدة وسمّاها العواصم، وأمره بعمارة طرسوس ونزلها الناس. وحجّ لأوّل خلافته وقسّم في الحرمين مالا كثيرا. وأغزى بالصائفة سليمان بن عبد الله البكائي، وكان على مكة والطائف عبد الله بن قثم وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البحرين والبصرة واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي، وعلى خراسان أبو الفضل العبّاس بن سليمان الطوسي ثم عزله وولّى مكانه جعفر بن محمد بن الأشعث. فسار إلى خراسان وبعث ابنه العبّاس إلى كابل فافتتحها وافتتح سابهار وغنم ما كان فيها. ثم استقدمه الرشيد فعزله وولّى مكانه ابنه العبّاس، وكان على الموصل عبد الملك بن صالح فعزله وولّى مكانه إسحاق بن محمد بن فروخ، فبعث إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحضره إلى بغداد وقتله، وولّى مكانه [2] وكان على أرمينية يزيد بن مزيد بن زائدة بن أخي معن فعزله وولىّ مكانه أخاه عبد الله بن المهدي. وولّى سنة إحدى وسبعين على صدقات بني ثعلب [3] روح بن صالح الهمدانيّ فوقع بينه وبين ثعلب خلاف وجمع لهم الجموع فبيتوه وقتلوه في جماعة من أصحابه. وتوفي سنة ثلاث وسبعين محمد بن سليمان والي البصرة وكان أخوه جعفر كثير السعاية فيه عند الرشيد وأنه يحدّث نفسه بالخلافة! وأنّ أمواله كلها فيء من أموال المسلمين   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 106: وقيل لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في فراشه فقال له: قم يا أمير المؤمنين! فقال: كم تروعني! إعجابا منك بخلافتي، فكيف يكون حالي مع الهادي إن بلغه هذا؟ فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه، فبينما هو يكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشّره بمولود، فسمّاه عبد الله وهو المأمون، ولبس ثيابه وخرج، فصلّى على الهادي بعيساباذ. [2] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 50: «وفيها قتل هارون ابا هريرة محمد بن فروخ وكان على الجزيرة، فوجه اليه هارون ابا حنيفة حرب بن قيس فقدم به عليه مدينة السلام فضرب عنقه في قصر الخلد» . ابن الأثير ج 6 ص 113- 114. [3] بني تغلب: ابن الأثير ج 6 ص 113 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 فاستصفاها الرشيد وبعث من قبضها، وكان لا يعبر عنها من المال والمتاع والدواب، واحضروا من العين فيها ستين ألف ألف دينار ولم يكن إلا أخوه جعفر فاحتج عليه الرشيد بإقراره أنها فيء. وتوفي سنة أربع وسبعين والي الرشيد إسحاق بن سليمان على السّند ومكران، واستقضى يوسف بن أبي يوسف في حياة أبيه، وفي سنة خمس وسبعين عقد لابنه محمد بن زبيدة ولاية العهد ولقّبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين بسعاية خاله عيسى بن جعفر بن المنصور ووساطة الفضل بن يحيى، وفيها عزل الرشيد العبّاس بن جعفر عن خراسان وولّاها خاله الغطريف بن عطاء الكنديّ. خبر يحيى بن عبد الله في الديلم وفي سنة خمس وسبعين خرج يحيى بن عبد الله بن حسن أخو المهدي بالديلم واشتدّت شوكته وكثر جمعه وأتاه الناس من الأمصار فندب اليه الرشيد الفضل بن يحيى في خمسين ألفا وولاه جرجان وطبرستان والري وما إليها ووصل معه الأموال فسار ونزل بالطالقان وكاتب يحيى وحذره وبسط أمله وكتب إلى صاحب الديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم فأجاب يحيى على الأمان بخط الرشيد وشهادة الفقهاء والقضاة واجلة بني هاشم ومشايخهم عن عبد الصمد منهم فكتب له الرشيد بذلك وبعثه مع الهدايا والتحف وقدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد بكل ما أحب وأفاض عليه العطاء وعظمت منزلة الفضل عنده ثم أنّ الرشيد حبس يحيى إلى أن هلك في حبسه. ولاية جعفر بن يحيى مصر كان موسى بن عيسى قد ولاه الرشيد مصر فبلغه أنه عازم على الخلع فردّ أمرها إلى جعفر بن يحيى وأمره بإحضار عمر بن مهران وأن يولّيه عليها، وكان أحول مشوّه الخلق خامل البزّة يردف غلامه خلفه. فلما ذكرت له الولاية قال على شرطيّة أن يكون أمري بيدي إذا صلحت البلاد انصرفت فأجابه إلى ذلك. وسار إلى مصر وأتى مجلس موسى فجلس في أخريات الناس حتى إذا افترقوا رفع الكتاب إلى موسى فقرأه وقال: متى يقدم أبو حفص؟ فقال: أنا أبو حفص! فقال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: أليس لي ملك مصر ثم سلّم له العمل. فتقدّم عمر إلى كاتبه أن لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 يقبل من الهدية إلا ما يدخل في الكيس، فبعث الناس بهداياهم وكانوا يمطلون بالخراج. فلما حضر النجم الأوّل والثاني وشكوا الضيق في الثالث أحضر الهدايا وحسبها لأربابها واستوفى خراج مصر ورجع إلى بغداد. الفتنة بدمشق وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية ورأس المضريّة أبو الهيدام عامر بن عمارة من ولد خارجة بن سنان بن أبي حارثة المرّيّ، وكان أصل الفتنة بين القيس وبين اليمانية أنّ اليمانية قتلوا منهم رجلا فاجتمعوا لثأره، وكان على دمشق عبد الصّمد بن علي فجمع كبار العشائر ليصلحوا بينهم فأمهلتهم اليمانية وبيتوا المضريّة فقتلوا منهم ثلاثمائة أو ضعفها، فاستجاشوا بقبائل قضاعة وسليم فلم ينجدوهم وأنجدتهم قيس، وساروا معهم إلى البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة وطال الحرب بينهم. وعزل عبد الصّمد عن دمشق وولّى مكانه إبراهيم بن صالح بن عليّ. ثم اصطلحوا بعد سنين ووفد إبراهيم على الرشيد وكان هواه مع اليمانية فوقع في قيس عند الرشيد واعتذر عنهم عبد الواحد بن بشر واستخلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحاق فحبس جماعة من قيس وضربهم. ثم وثبت غسّان برجل من ولد قيس بن العبسيّ فقتلوه، واستنجد أخوه بالدواقيل من حوران فأنجدوه وقتلوا من اليمانية نفرا. ثم وثبت اليمانية بكليب بن عمر بن الجنيد بن عبد الرحمن وعنده ضيف له فقتلوهم، فجاءت أمّ الغلام سابّة إلى أبي الهيدام، فقال انظريني حتى ترفع دماؤنا إلى الأمير، فإن نظر فيها وإلا فأمير المؤمنين ينظر فيها. وبلغ ذلك إسحاق وحضر عنده أبو الهيدام فلم يأذن له ثم قتل بعض الدواقيل رجلا من اليمانية وقتلت اليمانية رجلا من سليم ونهبوا جيران محارب، وركب أبو الهيدام معهم إلى إسحاق فوعده بالنظر لهم، وبعث إلى اليمانية يغريهم به فاجتمعوا وأتوا إلى باب الجابية فخرج إليهم أبو الهيدام وهزمهم واستولى على دمشق وفتح السجون. ثم اجتمعت اليمانيّة واستنجدوا كلبا وغيرهم فاستمدّوهم، واستجاش أبو الهيدام المضريّة فجاءوه وهو يقاتل اليمانية عند باب توما فهزمهم أربع مرّات. ثم أمره إسحاق بالكفّ وبعث إلى اليمانيّة يخبرهم بغرّته، وجاء الخبر وركب وقاتلهم فهزمهم، ثم هزمهم أخرى على باب توما. ثم جمعت اليمانيّة أهل الأردنّ والجولان من كلب وغيرهم فأرسل من يأتيه بالخبر فأبطئوا ودخل المدينة فأرسل إسحاق من دلّهم على مكمنه وأمرهم بالعبور إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 المدينة، فبعث من أصحابه من يأتيهم من ورائهم فانهزموا. ولما كان مستهل صفر جمع إسحاق الجنود عند قصر الحجّاج وجاء أصحاب الهيدام من أراد نهب القرى التي لهم بنواحي دمشق. ثم سألوا الأمان من أبي الهيدام فأمّنهم وسكن الناس. وفرّق أبو الهيدام أصحابه وبقي في نفر يسير من أهل دمشق، فطمع فيه إسحاق وسلّط عليه العذافر السكسكيّ مع الجنود فقاتلهم فانهزم العذافر وبقي الجند يحاربونه ثلاثا. ثم إنّ إسحاق قاتله في الثالثة والجند في اثني عشر ألفا ومعهم اليمانية، فخرج أبو الهيدام من المدينة وقاتلهم على باب الجابية حتى أزالهم عنه. ثم أغار جمع من أهل حمص على قرية لأبي الهيدام فقاتلهم أصحابه وهزموهم وقتلوا منهم خلقا وأحرقوا قرى وديارا لليمانيّة في الغوطة، ثم توادعوا سبعين يوما أو نحوها وقدم السّندي في الجنود من قبل الرشيد وأغزته [1] اليمانية بأبي الهيدام فبعث هو إليه بالطاعة فأقبل السّندي إلى دمشق وإسحاق بدار الحجّاج، وبعث قائده في ثلاثة آلاف وأخرج إليهم أبو الهيدام ألفا وأحجم القائد عنهم ورجع إلى السّندي فصالح أبا الهيدام وأمّن أهل دمشق. وسار أبو الهيدام إلى حوران وأقام السّندي بدمشق ثلاثا وقدم موسى بن عيسى واليا عليها فبعث الجند يأتونه بأبي الهيدام فكبسوا داره وقاتلهم هو وابنه وعبده فانهزموا وجاء أصحابه من كل جهة وقصد بصرى. ثم بعث إليه موسى فسار إليه في رمضان سنة سبع وسبعين وقيل إنّ سبب الفتنة بدمشق أنّ عامل الرشيد بسجستان قتل أخا الهيدام فخرج هو بالشام وجمع الجموع. ثم بعث الرشيد أخا له ليأتيه به فتحيّل حتى قبض عليه وشدّه وثاقا وأتى به إلى الرشيد فمنّ عليه وأطلقه. وبعث جعفر ابن يحيى سنة ثمانين إلى الشام من أجل هذه الفتن والعصبيّة فسكن الثائرة وأمّن البلاد وعاد. فتنة الموصل ومصر وفي سنة سبع وثمانين تغلّب العطّاف بن سفيان الأزديّ على خراسان وأهل الموصل على العامل بها محمد بن العبّاس الهاشمي وقيل عبد الملك بن صالح فاجتمع عليه أربعة آلاف رجل وجبى الخراج وبقي العامل معه مغلبا إلى أن سار الرشيد إلى الموصل وهدم سورها ولحق العطّاف بأرمينية ثم بالرقم فاتخذها وطنا. وفي سنة ثمان وسبعين   [1] لعلها أغرته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 ثارت الحوفيّة بمصر وهم من قيس وقضاعة على عاملها إسحاق بن سليمان وقاتلوه. وكتب الرشيد إلى هرثمة بن أعين وكان بفلسطين فسار إليهم وأذعنوا بالطاعة، وولي على مصر ثم عزله لشهر وولىّ عبد الملك بن صالح عليها. وكان على خراسان أيام المهدي والهادي أبو الفضل العبّاس بن سليمان الطوسي فعزله الرشيد، وولّى على خراسان جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعيّ فأبوه من النقباء من أهل مصر ومقدم ابنه العبّاس سنة ثلاث وسبعين، ثم قدم فغزا طخارستان وبعث ابنه العبّاس إلى كابل في الجنود وافتتح سابهار ورجع إلى مرو. ثم سار إلى العراق سنة ثلاث في رمضان وكان الأمين في حجره قبل أن يجعله في حجر الفضل بن يحيى. ثم ولىّ الرشيد ابنه العبّاس بن جعفر ثم عزله عنها فولى خالدا الغطريف بن عطاء الكنديّ سنة خمس وسبعين على خراسان وسجستان وجرجان فقدم خليفة داود بن يزيد وبعث عامل سجستان، وخرج في أيامه حصين الخارجيّ من موالي قيس بن ثعلبة من أهل أوق وبعث عامل سجستان عثمان بن عمارة الجيوش إليه فهزمهم حصين وقتل منهم وسار إلى باذغيس وبوشنج وهراة فبعث إليه الغطريف اثني عشر ألفا من الجند فهزمهم حصين وقتل منهم خلقا، ولم يزل في نواحي خراسان إلى أن قتل سنة سبع وسبعين. وسار الفضل إلى خراسان سنة ثمان وسبعين وغزا ما وراء النهر سنة ثمانين ثم ولىّ الرشيد على خراسان علي بن عيسى بن ماهان وقدم إليه يحيى [1] فأقام بها عشرين سنة وخرج عليه في ولايته حمزة بن أترك وقصد بوشنج وكان على هراة عمرويه بن يزيد الأزدي فنهض إليه في ستة آلاف فارس فهزمهم حمزة وقتل جماعة منهم ومات عمرويه في الزحام، فبعث عليّ بن عيسى ابنه الحسن في عشرة آلاف ففضّ [2] حربه فعزله، وبعث ابنه الآخر عيسى فهزمه حمزة فأمدّه بالعساكر وردّه فهزم حمزة وقتل أصحابه، ونجا إلى قهستان في أربعين وأثخن عيسى في الخوارج بارق وجوين [3] وفيمن كان يعينهم من أهل القرى حتى قتل ثلاثين ألفا. وخلف عبد الله بن العبّاس النسيقي [4] بزرنج فجبى الأموال وسار بها ومعه الصفّة ولقيه حمزة   [1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 68: «وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدا الرقة على طريق الوصل، فلما نزل البروان ولّى عيسى بن جعفر خراسان وعزل عنها جعفر بن يحيى وكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة» راجع ابن الأثير ج 6 ص 150. [2] حسب مقتضى السياق فرفض حربه. [3] أوق وجوين: ابن الأثير ج 6 ص 151. [4] النسفي: ابن الأثير ج 6 ص 151. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فهزموه وقتلوا عامّة أصحابه. وسار حمزة في القرى فقتل وسبى وكان عليّ قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج فخرج إلى حمزة وقصد قرية [1] ففرّ الخوارج وهم الذين يرون التحكيم ولا يقاتلون والمحكّمة هم الذين يقاتلون وشعارهم لا حكم إلا للَّه فكتب العقد إلى حمزة بالكفّ وواعدهم، ثم انتقض وعاث في البلاد وكانت بينه وبين أصحاب عليّ حروب كثيرة. ثم ولى الرشيد سنة اثنتين وثمانين ابنه عبد الله العهد بعد الأمين ولقبه المأمون وولّاه على خراسان وما يتصل بها إلى همذان واستقدم عيسى ابن علي من خراسان وردّها إليه من قبل المأمون وخرج عليه بنسا أبو الخصيب وهب ابن عبد الله النّسائي وعاث في نواحي خراسان ثم طلبه الأمان فأمّنه. ثم بلغه أنّ حمزة الخارجيّ عاث بنواحي باذغيس فقصده وقتل من أصحابه نحوا من عشرة آلاف وبلغ كل من وراء غزنة. ثم غدر أبو الخصيب ثانية وغلب أبيورد ونسا وطوس ونيسابور، وحاصر مرو وانهزم عنها وعاد إلى سرخس، ثم نهض إليه ابن ماهان سنة ست وثمانين فقتله في نسا وسبى أهله. ثم نمي إلى الرشيد سنة تسع وثمانين أنّ عليّ بن عيسى مجمع على الخلاف وأنه قد أساء السيرة في خراسان وعنّفهم، وكتب إليه كبراء أهلها يشكون بذلك، فسار الرشيد إلى الريّ فأهدى له الهدايا والكثيرة والأموال ولجميع من معه من أهل بيته وولده وكتّابه وقوّاده وتبين للرشيد من مناصحته خلاف ما أنهى إليه فردّه إلى خراسان وولّى على الري وطبرستان ودنباوند وقومس وهمذان وبعث عليّ ابنه عيسى لحرب خاقان سنة ثمان وثماني فهزمه وأسر إخوته، وانتقض على عليّ بن عيسى رافع بن اللّيث بن نصر بن سيّار بسمرقند وطالت حروبه معه وهلك في بعضها ابنه عيسى. ثم إنّ الرشيد نقم على عليّ بن عيسى أمورا منها استخفافه بالناس وإهانته أعيانهم، ودخل عليه يوما الحسين بن مصعب والد طاهر فأغلظ له في القول وأفحش في السبّ والتهديد وفعل مثل ذلك بهشام بن [2] فأمّا الحسين فلحق بالرشيد شاكيا ومستجيرا وأمّا هشام فلزم بيته وادّعى أنه بعلّة الفالج حتى عزل عليّ، وكان مما نقم عليه أيضا أنه لم قتل ابنه عيسى في حرب رافع بن الليث أخبر بعض جواريه أنه دفن في بستانه ببلخ ثلاثين ألف   [1] فأتى قرية فيها قعد الخوارج: ابن الأثير ج 6 ص 151. [2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير: «فمن ذلك انه دخل عليه يوما الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين وهشام بن فرخسرو ... » ج 6 ص 203. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 دينار [1] . وتحدّث الجواري بذلك فشاع في الناس، ودخلوا البستان ونهبوا المال، وكان يشكو إلى الرشيد بقلّة المال ويزعم أنه باع حليّ نسائه. فلما سمع الرشيد هذا المال استدعى هرثمة بن أعين وقال له: ولّيتك خراسان، وكتب له بخطّه وقال له: اكتم أمرك وامض كأنك مدد. وبعث معه رجاء الخادم. فسار إلى نيسابور وولّى أصحابه فيها ثم سار إلى مرو ولقيه عليّ بن عيسى فقبض عليه وعلى أهله وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف، وبعث إلى الرشيد من المتاع وقر خمسمائة بعير وبعث إليه بعليّ بن عيسى على بعير من غير غطاء ولا وطاء، وخرج هرثمة إلى ما وراء النهر وحاصر رافع بن الليث بسمرقند إلى ان استأمن فأمّنه، وأقام هرثمة بسمرقند وكان قدم مرو سنة ثلاث وتسعين. إيداع كتاب العهد وفي سنة ست وثمانين حجّ الرشيد وسار من الأنبار ومعه أولاده الثالثة محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم، وكان قد ولّى الأمين العهد وولّاه العراق والشام إلى آخر. الغرب. وولّى المأمون العهد بعده وضم إليه من همذان إلى آخر المشرق، وبايع لابنه القاسم من بعد المأمون ولقبه المؤتمن وجعل خلعه وإثباته للمأمون. وجعل في حجر عبد الملك صالح وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم. ومرّ بالمدينة فأعطاه فيها ثلاثة أعطية عطاء منه ومن الأمين ومن المأمون فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. ثم سار إلى مكة فأعطى مثلها، وأحضر الفقهاء والقضاة والقوّاد وكتب كتابا أشهد فيه على الأمين بالوفاء للمأمون وآخر على المأمون بالوفاء للأمين وعلّق الكتابين في الكعبة وجدّد عليها العهود هنالك. ولما شخص إلى طبرستان سنة تسع وثمانين وأقام بها أشهد من حضره أنّ جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع للمأمون وجدّد له البيعة عليهم وأرسل إلى بغداد فجدّد له البيعة على الأمين. أخبار البرامكة ونكبتهم قد تقدّم لنا أن خالد بن برمك كان من كبار الشيعة وكان له قدم راسخ في الدولة وكان يلي الولايات العظام وولّاه المنصور على الموصل، وعلى أذربيجان، وولّى ابنه   [1] ذكر ابن الأثير المبلغ ثلاثين ألف ألف: المرجع السابق. ولكنه لم يذكر أهي دراهم أم دنانير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 يحيى على أرمينية ووكله المهدي بكفالة الرشيد فأحسن تربيته ودفع عنه أخاه الهادي أراده على الخلع وتولية العهد ابنه وحبسه الهادي لذلك. فلما ولي الرشيد استوزر يحيى وفوّض إليه أمور ملكه وكان أوّلا يصدر عن رأي الخيزران أمّ الرشيد، ثم استبدّ بالدولة. ولما ماتت وكان بيتهم مشهورا بالرجال من العمومة والقرابة، وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد شابهوا آباءهم في عمل الدولة واستولوا على حظّ من تقريب السلطان واستخلاصه. وكان الفضل أخاه من الرضاع أرضعت أمّه الرشيد وأرضعته الخيزران وكان يخاطب يحيى يا أبت واستوزر الفضل وجعفرا وولّى جعفرا على مصر وعلى خراسان وبعثه إلى الشام عند ما وقعت الفتنة بين المضريّة واليمانيّة، فسكّن الأمور ورجع. وولّى الفضل أيضا على مصر وعلى خراسان وبعثه لاستنزال يحيى بن عبد الله العلويّ من الديلم ودفع المأمون لما ولّاه العهد إلى كفالة جعفر بن يحيى فحسنت آثارهم في ذلك كله. ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولة وكثرت السعاية فيهم وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم، يقال بسبب أنه دفع إليه يحيى بن عبد الله لما استنزله أخوه الفضل من الديلم، وجعل حبسه عنده فأطلقه استبدادا على السلطان ودالة وأنهى الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فسأله فصدّقه الخبر فأظهر له التصويب وحقدها عليه، وكثرت السعاية فيهم فتنكّر لهم الرشيد. ودخل عليه يوما يحيى بن خالد بغير إذن فنكر ذلك منه، وخاطب به طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفا به من مواجهته وكان حاضرا فقال يحيى: هو عادتي يا أمير المؤمنين، وإذ قد نكرت مني فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها! فاستحيى هارون وقال: ما أردت ما يكره. وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد ليحيى إذ دخل، فتقدّم لهم مسرور الخادم بالنهي عن ذلك فصاروا يعرضون عنه إذا أقبل، وأقاموا على ذلك زمانا. فلما حجّ الرشيد سنة سبعة وثمانين ورجع من حجّه ونزل الأنبار أرسل مسرورا الخادم في جماعة من الجند ليلا فأحضر جعفرا بباب الفسطاط وأعلم الرشيد فقال: ائتني برأسه فطفق جعفر يتذلّل ويسأله المراجعة في أمره حتى قذفه الرشيد بعصي كانت في يده وتهدّده فخرج وأتاه برأسه وحبس الفضل من ليلته وبعث من احتاط على منازل يحيى وولده وجميع موجودهم وحبسه في منزله وكتب من ليلته إلى سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم، وبعث من الغد بشلو جعفر وأمر أن يقسم قطعتين.. وبنصبان على الجسر، وأعفى محمد بن خالد من النكبة ولم يضيّق على يحيى ولابنه الفضل ومحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وموسى ثم تجرّدت عنه التهمة بعبد الملك بن صالح بن علي، وكانوا أصدقاء له، فسعى فيه ابنه عبد الرحمن بأنه يطلب الخلافة فحبسه عنه الفضل بن الربيع، ثم أحضره من الغداة وقرّعه ووبّخه فأنكر وحلف واعترف لحقوق الرشيد وسلفه عليه، فأحضر كاتبه شاهدا عليه فكذّبه عبد الملك، فأحضر ابنه عبد الرحمن فقال هو مأمور معذور أو عاق فاجر، فنهض الرشيد من مجلسه وهو يقول سأصبر حتى أعلم ما يرضي الله فيك، فإنه الحكم بيني وبينك، فقال عبد الملك: رضيت باللَّه حكما وبأمير المؤمنين حاكما فإنه لا يؤثر هواه على رضا ربه. ثم أحضره الرشيد يوما آخر فأرعد له وأبرق وجعل عبد الملك يعدّد وسائله ومقاماته في طاعته ومناصحته فقال له الرشيد: لولا إبقائي على بني هاشم لقتلتك وردّه إلى محبسه. وكلّمه عبد الله بن مالك فيه، وشهد له بنصحه فقال: أطلقه إذا، قال: أمّا في هذا القرب فلا ولكن سهّل حبسه ففعل. وأجرى عليه مؤنه حتى مات الرشيد وأطلقه الأمين. وعظم حقده على البرامكة بسبب ذلك، فضيّق عليهم وبعث إلى يحيى يلومه فيما ستر عنه من أمر عبد الملك. فقال: يا أمير المؤمنين كيف يطلعني عبد الملك على ذلك وأنا كنت صاحب الدولة، وهل إذا فعلت ذلك يجازيني بأكثر من فعلك؟ أعيذك باللَّه أن تظنّ هذا الظنّ إلا أنه كان رجلا متجمّلا يسرني أن يكون في بيتك مثله، فوليته ولا خصصته. فعاد إليه الرسول يقول: إن لم تقر قتلت الفضل ابنك. فقال: أنت مسلّط علينا فافعل ما أردت. وجذب الرسول الفضل وأخرجه فودّع أباه وسأله في الرضا عنه فقال: رضي الله عنك، وفرّق بينهما ثلاثة أيام ولم يجد عندهما شيئا فجمعهما واحتفظ [1] إبراهيم بن عثمان بن نهيك لقتل جعفر فكان يبكيه ويبكي قومه حزنا عليهم. ثم انتهى به إلى طلب الثأر بهم فكان يشرب النبيذ مع جواريه ويأخذ سيفه وينادي وا جعفراه وا سيداه والله لأثأرنّ بك ولأقتلنّ قاتلك، فجاء ابنه وحفص كان مولاه إلى الرشيد فأطلعاه على أمره، فأحضر إبراهيم وأظهر له الندم على قتله جعفرا والأسف عليه، فبكى إبراهيم وقال: والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله فانتهره الرشيد وأقامه. ثم دخل عليه ابنه بعد ليال قلائل فقتله يقال بأمر الرشيد. وكان يحيى بن خالد محبوسا بالكوفة ولم يزل بها كذلك إلى أن مات سنة تسعين ومائة ومات بعده ابنه الفضل سنة ثلاث وتسعين. وكانت البرامكة من محاسن العالم ودولتهم من أعظم الدول وهم كانوا نكتة محاسن الملّة وعنوان دولتها.   [1] بمعنى غضب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 الصوائف وفتوحاتها كان الرشيد على ما نقله الطبري وغيره يغزو عاما ويحجّ عاما، ويصلّي كل يوم مائة ركعة ويتصدّق بألف درهم، وإذا حجّ حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم، وإذا لم يحجّ أنفق على ثلاثمائة حاج نفقة شائعة. وكان يتحذى بآثار المنصور إلا في بذل المال فلم ير خليفة قبله أبذل منه للمال. وكان إذا لم يغز غزا بالصائفة كبار أهل بيته وقوّاده، فغزا بالصائفة سنة سبعين سليمان بن عبد الله البكائيّ، وقيل غزا بنفسه. وغزا بالصائفة سنة اثنتين وسبعين إسحاق بن سليمان بن عليّ فأثخن في بلاد الروم وغنم وسبى. وغزا في سنة أربع وسبعين بالصائفة عبد الملك بن صالح وقيل أبوه عبد الملك فبلغ في نكاية الروم ما شاء، وأصابهم برد سديد سقطت منه أيدي الجند. ثم غزا بالصائفة سنة سبع وسبعين عبد الرزاق بن عبد الحميد الثعلبي. وفي سنة ثمان وسبعين زفر بن عاصم وغزا سنة إحدى وثمانين بنفسه فافتتح حصن الصفصاف وأغزى عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة. وكان الفداء بين المسلمين والروم وهو أوّل فداء في دولة بني العبّاس، وتولّاه القاسم بن الرشيد وأخرج له من طرسوس الخادم الوالي عليها، وهو أبو سليمان فرج فنزل المدامس [1] على اثني عشر فرسخا، وحضر العلماء والأعيان وخلق من أهل الثغور وثلاثون ألفا من الجند المرتزقة فحضروا هنالك وجاء الروم بالأسرى ففودي بهم من كان لهم من الأسرى، وكان أسرى المسلمين ثلاثة آلاف وسبعمائة. وغزا بالصائفة سنة اثنتين وثمانين عبد الرحمن ابن عبد الملك بن صالح دقشوسوس [2] مدينة أصحاب الكهف. وبلغهم أنّ الروم سلوا [3] ملكهم قسطنطين بن أليون وملكوا أمّه ربى [4] وتلقّب عطشة، فأثخنوا في البلاد ورجعوا. وفي سنة ثلاث وثمانين حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل ابن يحيى فماتت ببردعة، ورجع من كان معها فأخبروا أباها أنها قتلت غيلة، فتجهّز إلى بلاد الإسلام، وخرج من باب الأبواب وسبى أكثر من مائة ألف فارس وفعلوا ما لم يسمع بمثله. فولّى الرشيد يزيد بن مزيد أمر أرمينية مضافة إلى أذربيجان وأمره   [1] اللامس: ابن الأثير ج 6 ص 159. [2] أفسوس: ابن الأثير ج 6 ص 159. [3] سملوا: ابن الأثير ج 6 ص 159. [4] ريني: ابن الأثير ج 6 ص، وتلقب عطسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 بالنهوض إليهم وأنزل خزيمة بن خازم بنصيبين ردءا لهم. وقيل إنّ سبب خروجهم أنّ سعيد بن مسلم قتل الهجيم السلمي [1] فدخل ابنه إلى الخزر مستجيشا بهم على سعيد، ودخلوا أرمينية وهرب سعيد والخزر ورجعوا [2] . وفي سنة سبع وثمانين غزا بالصائفة القاسم بن الرشيد وجعله قربانا للَّه وولّاه العواصم، فأناخ على قرّة وضيّق عليها وبعث عليها ابن جعفر بن الأشعث فحاصر حصن سنان حتى جهد أهله وفادى الروم بثلاثمائة وعشرين أسيرا من المسلمين على أن يرحل عنهم، فأجابهم وتمّ بينهم الصلح ورحل عنهم، وكان ملك الروم يومئذ ابن زيني وقد تقدّم ذكره فخلعه الروم وملّكوا يقفور [3] وكان على ديوان خراجهم ومات [4] زيني بعد خمسة أشهر. ولما ملك يقفور كتب إلى الرشيد بما استفزّه فسار إلى بلاد الروم وغازيا، ونزل هرقّل وأثخن في بلادهم حتى سأل يقفور الصلح، ثم نقض العهد وكان البرد شديد الكلب وظنّ يقفور أنّ ذلك يمنعه من الرجوع، فلم يمنعه ورجع حتى أثخن في بلاده ثم خرج من أرضهم. وغزا بالصائفة سنة ثمان وثمانين إبراهيم بن جبريل ودخل من درب الصفصاف فخرج إليه يقفور ملك الروم وانهزم وقتل من عسكره نحوا من أربعين ألفا. وفي هذه السنة رابط القاسم بن الرشيد أبق [5] وفي سنة تسع وثمانين كتب الرشيد وهو بالري كتب الأمان لشروين أبي قارن، ونداهرمز [6] جدمازيار، مرزبان خستان صاحب الديلم [7] . وبعث بالكتب مع حسين الخادم إلى طبرستان فقدم خستان ونداهرمز فأكرمهما الرشيد وأحسن إليهما وضمن ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان وذكرا كيف توجه الهادي لهما وحاصرهما. وفي سنة ست وثمانين كان فداء بين المسلمين حتى لم يبق بأرض الروم مسلم إلّا فودي. وفي سنة تسعين سار الرشيد إلى بلاد الروم بسبب ما قدمناه من غدر يقفور في مائة وخمسة وثلاثين ألفا من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوّعة ومن ليس له ذكر في الديوان، واستخلف المأمون   [1] المنجّم السّلميّ: ابن الأثير ج 6 ص 163. [2] المعنى غير واضح تماما وفي الكامل ج 6 ص 163: «فانهزم سعيد، وأقاموا نحو سبعين يوما، فوجّه الرشيد خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد، فأصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر وسدّا الثّلمة» . [3] نقفور: ابن الأثير ج 6 ص 185. [4] الأصح ماتت ريني وهي أم الملك قسطنطين كما مرّ معنا. [5] أوق: مرّ ذكرها سابقا. [6] لوندا هرمز: ابن الأثير ج 6 ص 191. [7] وأمانا لمرزبان بن جستان صاحب الديلم: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 بالرقّة وفوّض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بذلك، فنزل على هرقل [1] فحاصرها ثلاثين يوما وافتتحها وسبى أهلها وغنم ما فيها. وبعث داود بن عيسى بن موسى في سبعين ألفا غازيا في أرضهم ففتح الله عليه وخرّب ونهب ما شاء. وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصّقالبة وديسة [2] وافتتح يزيد بن مخلد حصن الصّفصاف وقونية [3] ، وأناخ عبد الله بن مالك على حصن ذي الكلاع واستعمل الرشيد حميد بن معيوب [4] على الأساطيل ممن بسواحل الشام ومصر إلى قبرس، فهزم وحرّق وسبى من أهلها نحوا من سبعة عشر ألفا وجاء بهم إلى الواقعة [5] فبايعوا بها وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار. ثم سار الرشيد إلى حلوانة [6] فنزل بها وحاصرها، ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر وبعث يقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن ابنه دينارين وعن بطارقته كذلك، وبعث يقفور في جارية من بني هرقلة [7] وكان خطبها ابنه فبعث بها إليه. ونقض في هذه السنة قبرس فغزاهم معيوب بن يحيى فأثخن فيهم وسباهم ولما رجع الرشيد من غزاته خرجت الروم إلى عين زربة والكنيسة السوداء وأغاروا ورجعوا فاستنقذ أهل المصيصة ما حملوه من الغنائم. وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف فأخذت الروم عليه المضايق فانهزم، وقتل في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس. واستعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يولّيه خراسان وضمّ إليه ثلاثين ألفا من أهل خراسان، وأخرجه إلى الصائفة وسار بالعساكر الإسلامية في أثره ورتّب بدرب الحرث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيد بن مسلم بن قتيبة، وأغارت الروم عليه فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرّك من مكانه. وبعث الرشيد محمد بن زيد بن مزيد إلى طرسوس وأقام هو بدرب الحرث وأمر قوّاده بهدم الكنائس في جميع الثغور وأخذ أهل الذمّة بمخالفة زيّ المسلمين في ملبوسهم   [1] هرقلة: ابن الأثير ج 6 ص 195. [2] دلسة: ابن الأثير ج 6 ص 196. [3] ملقونية: ابن الأثير ج 6 ص 196. [4] حميد بن معيوف: ابن الأثير ج 6 ص 196. [5] الرافقة: ابن الأثير ج 6 ص 196. [6] طوانة: ابن الأثير ج 6 ص 196. [7] الجارية هي من سبي هرقلة: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وأمر هرثمة ببناء هرطوس [1] وتولّى ذلك، فخرج الخادم بأمر الرشيد وبعث إليها جندا من خراسان ثلاثة أيام، وأشخص ألفا من أهل المصيصة وألفا من أنطاكية فتمّ بناؤها سنة اثنتين وتسعين. وفي هذه السنة تحرّكت الخرميّة بناحية أذربيجان فبعث إليهم عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وأسر، ووافاه بقرملين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي. وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن مالك الخزاعيّ فافتتح مطمورة وكان الفداء على يديه بالبرذون. ثم كان الفداء الثاني وكان عدّة أسرى المسلمين فيه ألفين وخمسمائة. الولاية على النواحي كان على إفريقية مزيد بن حاتم كما قدّمناه ومات سنة إحدى وسبعين بعد أن استخلف ابنه داود فبعث الرشيد على إفريقية أخاه روح بن حاتم فاستقدمه من فلسطين وبعثه إلى إفريقية. وعزل أبا هريرة محمد بن فروج عن الجزيرة وقتله وولى مكانه [2] وفي سنة ست وسبعين ولّى الرشيد على الموصل الحكم بن سليمان، وقد كان خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين وغنم وسار إلى داريا وآمد وأرزق وخلاط فقفل لذلك ورجع إلى نصيبين، فأتى الموصل وخرج إليه الفضل في عساكرها فهزمهم على الزاب. ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه. وفي سنة ست وسبعين مات روح بن حاتم بإفريقية واستخلف حبيب بن نصر المهلّبيّ فسار الفضل إلى الرشيد فولّاه على إفريقية، وعاد إليها فاضطرب عليه الخراسانية من جند إفريقية ولم يرضوه، فولّى مكانه هرثمة بن أعين وبعث في العساكر فسكن الاضطراب، ورأى ما بإفريقية من الاختلاف فاستعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه، وقدم إلى العراق بعد سنتين ونصف من مغيبه. وفي هذه ولّى الفضل بن يحيى على مصر مكان أخيه جعفر مضافا إلى ما بيده من الريّ وسجستان وغيرهما. ثم عزله عن مصر وولّى عليها إسحاق بن سليمان فثارت به الجوقيّة من مصر وهم جموع من قيس وقضاعة فأمدّه بهرثمة بن أعين فأذعنوا وولّاه عليهم شهرا، ثم عزله وولى عبد الملك بن   [1] هي مدينة طرسوس. [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 114: «وفيها- 171- قتل الرشيد ابا هريرة محمد ابن فروخ، وكان على الجزيرة، فوجّه إليه الرشيد ابا حنيفة حرب بن قيس، فأحضره إلى بغداد وقتله» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 صالح مكانه، وفيها فوّض أمر دولته إلى يحيى بن خالد. وفي سنة ثمانين بعث جعفر ابن يحيى إلى الشام في القوّاد والعساكر ومعه السلاح والأموال والعصبية التي كانت بها فسكنت الفتنة ورجع، فولّاه خراسان وسجستان فاستعمل عليها عيسى بن جعفر، وولّى جعفر بن يحيى المريس وقدم هرثمة بن أعين من إفريقية فاستخلفه جعفر على الحرد [1] وعزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرّويان وولّاها عبد الله بن حازم، وولّى على الجزيرة سعيد بن مسلم وولّى على الموصل يحيى بن سعيد الحريشيّ فأساء السيرة وطالبهم بخراج سنين ماضية، فانجلا أكثر أهل البلد، وعزله الرشيد وولّى عليها يحيى بن خالد. وفي سنة إحدى وثمانين ولّى على إفريقية محمد بن مقاتل بن حكيم العكّيّ وكان أبوه من قوّاد الشيعة ومحمد رضيع الرشيد وتلاده فلما استعفى هرثمة ولّاه مكانه، واضطربت عليه إفريقية، وكان إبراهيم بن الأغلب بها واليا على الزاب، وكان جند إفريقية يرجعون إليه فأعانه وحمل الناس على طاعته بعد أن أخرجوه فكرهوا ولاية محمد بن مقاتل وحملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلى الرشيد يطلب ولاية إفريقية على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت تحمل من مصر معونة إلى والي إفريقية ويحمل هو كل سنة أربعين ألف دينار فاستشار الرشيد بطانته فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب، وولّاه الرشيد في محرّم سنة أربعة وثمانين، فضبط الأمور وقبض على المؤمنين وبعث بهم إلى الرشيد فسكنت البلاد. وابتنى مدينة بقرب القيروان وسماها العباسية وانتقل إليها بأهله وخاصّته وحشمه، وصار ملك إفريقية في عقبه كما يذكر في أخبارها إلى أن غلبهم عليها الشيعة العبيديّون. وكان يزيد بن مزيد على أذربيجان فولّاه الرشيد سنة ثمان وثمانين على أرمينية مضافة إليها، وولّى خزيمة بن خازم على نصيبين. وولّى الرشيد سنة أربع وثمانين على اليمن ومكّة حمادا البربريّ وعلى السّند داود بن يزيد بن حاتم وعلى الجبل يحيى الحريشيّ، وعلى طبرستان مهرويّة الزاي، وقتله أهل طبرستان سنة خمس وثمانين، فولّى مكانه عبد الله بن سعيد الحريشيّ. وفيها توفي يزيد بن زائدة الشيطاني [2] ببردعة وكان على أذربيجان وأرمينية فولّى مكانه ابنه أسد بن يزيد بن حاتم. وفي سنة تسع وثمانين سار الرشيد إلى الري وولّى على طبرستان والريّ ودنباوند   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 152: أنه ولّى جعفر بن يحيى الحرس. [2] يزيد بن مزيد بن زائدة الشيبانيّ: ابن الأثير ج 6 ص 169. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وقوس [1] وهمذان عبد الملك بن مالك. وفي سنة تسعين ولّى على الموصل خالد بن يزيد بن حاتم وقد تقدّم لنا ولاية هرثمة على سليمان ونكبة علي بن عيسى. في سنة إحدى وتسعين ظفر حمّاد البربري بهيصيم اليماني [2] وجاء به إلى الرشيد فقتله، وولّى في هذه السنة على الموصل محمد بن الفضل ابن سليمان وكان على مكة الفضل بن العبّاس أخي المنصور والسفّاح. خلع رافع بن الليث بما وراء النهر كان رافع بن نصر [3] بن سيّار من عظماء الجند فيما وراء النهر وكان يحيى بن الأشعث قد تزوّج ببعض النساء المشهورات الجمال وتسرّى عليها وأكثر ضرارها وتشوّقت إلى التخلّص منه، فدسّ إليها رافع بن الليث بأن تحاول من يشهد عليها بالكفر لتخلص منه وتحل للأزواج ثم ترجع وتتوب، فكان وتزوّجها وشكا يحيى بن الأشعث إلى الرشيد وأطلعه على جلّ الأمر، فكتب إلى علي بن عيسى أن يفرّق بينهما ويقيم الحدّ على رافع ويطوف به في سمرقند مقيّدا على حمار ليكون عظة لغيره، ففعل ذلك ولم يجده [4] رافع وحبس بسمرقند فهرب من الحبس ولحق بعلي بن عيسى في بلخ فهمّ بضرب عنقه، فشفع فيه ابنه عيسى فأمره بالانصراف إلى سمرقند فرجع إليها ووثب بعاملها فقتله وملكها وذلك سنة تسعين. فبعث عليّ لحربه ابنه عيسى فلقيه رافع وهزمه وقتله، فخرج علي بن عيسى لقتله وسار من بلخ إلى مرو مخافة عليها من رافع ابن الليث. ثم كانت نكبة علي بن عيسى وولاية هرثمة بن أعين على خراسان وكان مع رافع بن الليث جماعة من القوّاد ففارقوه إلى هرثمة منهم عجيف بن عنبسة وغيره. وحاصر هرثمة رافع بن الليث في سمرقند وضايقه، واستقدم طاهر ابن الحسين من خراسان فحضر عنده وعاث حمزة الخارجي في نواحي خراسان لخلائها من الجند، وحمل إليه عمال هراة وسجستان الأموال. ثم خرج عبد الرحمن إلى نيسابور سنة أربع وتسعين وجمع نحوا من عشرين ألفا، وسار إلى حمزة فهزمه وقتل من أصحابه خلقا وأتبعه إلى هراة حتى كتب المأمون إليه وردّه عن   [1] قومس: المرجع السابق. [2] هيصم اليماني: المرجع السابق. [3] رافع بن الليث بن نصر: ابن الأثير ج 6 ص 195. [4] مقتضى السياق: ولم يحدّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 ذلك. وكانت سنة ثلاث وتسعين بين هرثمة وبين أصحاب رافع وقعة كان الظفر فيها لهرثمة وأسر بشرا أخا رافع وبعث به إلى الرشيد وافتتح بخارى. وكان الرشيد قد سار من الرقّة بعد مرجعه من الصائفة التي بني فيها طرسوس على اعتزام خراسان لشأن رافع، وكان قد أصابه المرض، فاستخلف على الرقّة ابنه القاسم وضمّ إليه خزيمة بن خازم، وجاء إلى بغداد، ثم سار منها إلى خراسان في شعبان سنة اثنتين وتسعين واستخلف عليها ابنه الأمين، وأمر المأمون بالمقام معه فأشار عليه الفضل بن سهل بأن يطلب المسير مع الرشيد، وحذّره البقاء مع الأمين فأسعفه الرشيد بذلك وسار معه. وفاة الرشيد وبيعة الأمين ولما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في سفر سنة ثلاث وتسعين وقد اشتدّت عليه، فبعث ابنه المأمون إلى مرو ومعه جماعة من القوّاد عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن خزيمة [1] والعبّاس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسديّ والحريشيّ [2] ونعيم بن خازم، ثم سار الرشيد إلى موسى واشتدّ به الوجع وضعف عن الحركة وثقل فأرجف الناس بموته، وبلغه ذلك فأراد الركوب ليراه الناس فلم يطق النهوض فقال: ردّوني. ووصل إليه وهو بطوس بشير أخو رافع أسيرا بعث به هرثمة بن أعين فأحضره وقال: لو لم يبق من أجلي إلا حركة شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم أمر قصّابا ففصل أعضاءه ثم أغمي عليه وافترق الناس. ولما يئس من نفسه أمر بقبره فحفر في الدار التي كان فيها وأنزل فيه قوما قرءوا فيه القرآن حتى ختموه وهو في محفة على شفيره ينظر إليه وينادي وا سوأتاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مات وصلّى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة أو تزيد وترك في بيت المال تسعمائة ألف ألف دينار. ولما مات الرشيد بويع الأمين في العسكر صبيحة يومه، والمأمون يومئذ بمرو وكتب حمويّة مولى المهدي صاحب البريد إلى نائبة ببغداد وهو سلام أبو مسلم يعلمه بوفاة الرشيد وهنأه بالخلافة فكان أوّل من فعل ذلك. وكتب صالح إلى أخيه الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد، وبعث معه بالخاتم والبردة   [1] أسد بن يزيد: ابن الأثير ج 6 ص 212. [2] السندي الحرشيّ: ابن الأثير ج 6 ص 212. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 والقضيب، فانتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة وصلّى بالناس الجمعة وخطب ثم نعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، وبايعته جملة أهله ووكّل سليمان بن المنصور وهم [1] عم أبيه وأمّه بأخذ البيعة على القوّاد وغيرهم. ووكّل السّنديّ بأخذ البيعة على الناس سواهم، وفرّق في الجند ببغداد رزق سنين. وقدمت أمّه زبيدة من الرقّة فلقيها الأمين بالأنبار في جمع من بغداد من الوجوه، وكان معها خزائن الرشيد، وكان قد كتب إلى معسكر الرشيد وهو حيّ مع بكر بن المعتمر لما اشتدت علّة الرشيد وإلى المأمون بأخذ البيعة لهم وللمؤتمن أخيهما، وإلى أخيه صالح بالقدوم بالعسكر والخزائن والأموال برأي الفضل. وإلى الفضل بالاحتفاظ على ما معه من الحرم والأموال، وأقر كل واحد على عمله كصاحب الشرطة والحرس والحجابة. وكان الرشيد قد سمع بوصول بكر بالكتاب فدعاه ليستخرجها سنه فجحدها فضربه وحبسه. ثم مات الرشيد وأحضره الفضل فدفعها إليه ولما قرءوا الكتاب تشاوروا في اللحاق بالأمين وارتحل الفضل بالناس لهواهم في وطنهم وتركوا عهود المأمون. فجمع المأمون من كان عنده من قوّاد أبيه وهم عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعلاء مولى الرشيد وكان على حجابته والعبّاس بن المسيّب بن زهير وكان على شرطته وأيوب بن أبي سمير وهو على كتابته وعبد الرحمن بن عبد الملك ابن صالح وذو الرئاستين الفضل بن سهل وهو أخصهم به وأحظاهم عنده، فأشار بعضهم أن يركب في أثرهم ويردّهم ومنعه الفضل من ذلك وقال: أخشى عليك منهم ولكن تكتب وترسل رسولك إليهم تذكّرهم البيعة والوفاء، وتحذّرهم الحنث، فبعث سهل بن صاعد ونوفلا الخادم بكتابه إليهم بنيسابور فقرأ الفضل كتابة وقال: أنا واحد من الجند. وشدّ عبد الرحمن برجليه على سهل ليطعنه بالرمح وقال: لو كان صاحبك حاضرا لوضعته فيه وسبّ المأمون وانصرفوا، ورجع سهل ونوفل بالخبر إلى المأمون فقال له الفضل بن سهل: هؤلاء أعداء استرحت منهم وأنت بخراسان، وقد خرج بها المقنّع وبعده يوسف البر فتضعضعت لهما الدولة ببغداد، وأنت رأيت عند خروج رافع بن الليث كيف كان الحال، وأنت اليوم نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، فاصبر وأنا أضمن لك الخلافة. فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقال: إنّ عبد الله بن مالك والقوّاد أنفع مني لشهرتهم وقوّتهم وأنا خادم   [1] لعلها هو عم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 لمن يقوم بأمرك منهم حتى ترى رأيك. وجاءهم الفضل في منازلهم وعرض عليهم البيعة للمأمون، فمنهم من امتنع ومنهم من طرده، فرجع إلى المأمون وأخبره فقال أنت بالأمر وأشار عليه الفضل أن يبعث على الفقهاء ويدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السّنة وردّ المظالم ويعقد على الصفوف ففعل جميع ذلك، وأكرم القوّاد. وكان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى ابن كعب وللربعيّ مكان أبي داود وخالد بن إبراهيم، ولليماني مكان قحطبة ومالك بن الهيثم، وكل هؤلاء نقباء الدولة. ووضع عن خراسان ربع الخراج فاغتبط به أهلها وقالوا: ابن أختنا وابن عم نبيّنا. وأقام المأمون يتولّى ما كان بيده من خراسان والريّ وأهدى إلى الأمين وكتب إليه وعظّمه. ثم إنّ الأمين عزل لأوّل ولايته أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة واستعمل عليها خزيمة بن خازم وأقرّ المؤتمن على قنّسرين والعواصم. وكان على مكّة داود بن عيسى بن موسى ابن محمد، وعلى حمص إسحاق بن سليمان فخالف عليه أهل حمص وانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين وولّى مكانه عبد الله بن سعيد الحريشيّ، فقتل عدّة منهم وحبس عدّة، واضرم النار في نواحيها، وسألوا الأمان فأجابهم، ثم انتقضوا فقتل عدّة منهم ثم ولّى عليهم إبراهيم بن العبّاس. أخبار رافع وملوك الروم وفي سنة ثلاث وتسعين دخل هرثمة بن أعين سمرقند وملكها وقام بها ومعه طاهر ابن الحسين فاستجاش رافع بالترك فأتوه وقوي بهم. ثم انصرفوا وضعف أمره، وبلغه الحسن سيرة المأمون فطلب الأمان وحضر عند المأمون فأكرمه. ثم قدم هرثمة على المأمون فولّاه الحرس وأنكر الأمين ذلك كله. وفي هذه السنة قتل يقفور [1] ملك الروم في حرب برجان لسبع سنين من ملكه، وملك بعده ابنه استبراق وكان جريا فمات لشهرين وملك بعده صهره على أخته ميخاييل بن جرجيس، ووثب عليه الروم سنة أربع وتسعين بعد اثنتين من ملكه فهرب وترهّب وولّوا بعده إليوق [2] القائد.   [1] هو نقفور وقد مرّ في مكان آخر من هذا الكتاب. [2] أليون القائد: ابن الأثير ج 6 ص 236. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 الفتنة بين الأمين والمأمون ولما قدم الفضل بن الربيع على الأمين ونكث عهد المأمون خشي غائلته، فأجمع قطع علائقه من الأمور وأغرى الأمين بخلعه والبيعة للعهد لابنه موسى، ووافقه في ذلك علي بن عيسى بن ماهان والسّنديّ وغيرهما ممن يخشى المأمون. وخالفهم خزيمة بن خازم وأخوه عبد الله وناشدوا الأمين في الكفّ عن ذلك وأن لا يحمل الناس على نكث العهود فيطرقهم لنكث عهده. ولجّ الأمين في ذلك، وبلغه أنّ المأمون عزل العبّاس بن عبد الله بن مالك عن الريّ وأنه ولىّ هرثمة بن أعين على الحرس وأنّ رافع بن الليث استأمن له فآمنه وسار في جملته فكتب إلى العمّال بالدعاء لموسى ابنه بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فبلغ ذلك المأمون فأسقط اسم الأمين من الطرد وقطع البريد عنه. وأرسل الأمين إليه العبّاس بن موسى بن عيسى وخاله عيسى بن جعفر بن المنصور وصالحا صاحب الموصل، ومحمد بن عيسى بن نهيك يطلب منه تقديم ابنه موسى عليه في العهد ويستقدمه. فلما قدموا على المأمون استشار كبراء خراسان فقالوا: إنما بيعتنا لك على أن لا تخرج من خراسان فأحضر الوفد وأعلمهم بامتناعه مما جاءوا فيه. واستعمل الفضل بن سهل العبّاس بن موسى ليكون عينا لهم عند الأمين ففعل، وكانت كتبه تأتيهم بالأخبار. ولما رجع الوفد عاودوه بطلب بعض كور خراسان وأن يكون له بخراسان صاحب بريد يكاتبه، فامتنع المأمون من ذلك وأوعد إلى قعوده بالريّ ونواحيها يضبط الطرق وينقذها من غوائل الكتب والعيون، وهو مع ذلك يتخوّف عاقبة الخلاف. وكان خاقان ملك التبت قد التوى عليه وجيفونة فارق الطاعة، وملوك الترك منعوا الضريبة، فخشي المأمون ذلك وحفظ عليه الأمر بأن يولّى خاقان وجيفونة بلادهما، ويوادع ملك كابل، ويترك الضريبة لملوك الترك الآخرين. وقال له بعد ذلك ثم أضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال فان ظفرت وإلا لحقت بخاقان مستجيرا فقبل إشارته وفعلها، وكتب إلى الأمين يخادعه بأنه عامله على هذا الثغر الّذي أمره الرشيد بلزومه وأنّ مقامه به أشدّ غناء ويطلب إعفاء من الشخوص إليه، فعلم الأمين أنه لا يتابعه على مراده فخلعه وبايع لولده في أوائل سنة خمس وتسعين وسمّاه الناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن من المنابر وجعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 وعلى حرسه أخوه عيسى، وعلى رسائله صاحب القتلى. وكان يدعى له على المنابر ولابنه الآخر عبد الله ولقبه القائم بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاء بكتابي العهد للأمين والمأمون اللذين وضعهما الرشيد هنالك، وسارت الكتب من ذلك إلى المأمون ببغداد من عيونه بها، فقال المأمون: هذه أمور أخبر الرائي عنها وكفاني أنا أن أكون مع الحق وبعث الفضل بن سهل إلى جند الريّ بالأقوات والإحسان، وجمع إليهم من كان بأطرافهم. ثم بعث على الريّ طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق أسعد الخزاعيّ أبا العباس أميرا وضمّ إليه القوّاد والأجناد فنزلها ووضع المسالح والمراصد، وبعث الأمين عصمة بن حمّاد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وأمره أن يقيم بهمذان ويبعث مقدمته إلى ساوة. خروج ابن ماهان لحرب طاهر ومقتله ثم جهّز الأمين علي بن ماهان إلى خراسان لحرب المأمون، يقال دسّ بذلك الفضل ابن سهل العين له عند الفضل بن الربيع، فأشار به عليهم لما في نفوس أهل خراسان من النفرة عن ابن ماهان فجدّوا في حربه. ويقال حرّض أهل خراسان على الكتب إلى ابن ماهان ومخادعته إن جاء. فأمره الأمين بالمسير وأقطعه نهاوند وهمذان وقم وأصبهان وسائر كور الجبل حربا وخراجا، وحكّمه في الخزائن وأعطاه الأموال وجهّز معه خمسين ألف فارس. وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجليّ وهلال بن عبد الله الحضرميّ في الانضمام، وركب إلى باب زبيدة ليودّعها فأوصته بالمأمون بغاية ما يكون أن يوصى به، وأنه بمنزلة ابنها في الشفقة والموصلة وناولته قيدا من فضة وقالت له: إن سار إليك فقيّده به مع المبالغة في البرّ والأدب معه. ثم سار عليّ بن عيسى من بغداد في شعبان وركب الأمين يشيعه في القوّاد والجنود ولم ير عسكر مثل عسكره. ولقي السفر بالسابلة فأخبروه أنّ طاهرا بالريّ يعرض أصحابه، وهو مستعدّ للقتال. وكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان يعدهم ويمنّيهم، وأهدى لهم التيجان والأسورة على أن يقطعوا الطرق عن خراسان فأجابوا، ونزل أوّل بلاد الريّ فأشار عليه أصحابه باذكاء العيون والطلائع، والتحصن بالخندق فقال: مثل طاهر لا يستعدّ له، وهو إمّا أن يتحصن بالريّ فيثب إليه أهلها، وإمّا أن يفرّ إذا قربت منه خيلنا. ولما كان من الريّ على عشرة فراسخ استشار أصحاب طاهر في لقائه فمالوا إلى التحصّن بالريّ فقال: أخاف أن يثب بنا أهلها. وخرج فعسكر على خمسة فراسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 منها في أقل من أربعة آلاف فارس. وأشار عليه أحمد بن هشام كبير جند خراسان أن ينادي بخلع الأمين و بيعة المأمون لئلا يخادعه عليّ بن عيسى بطاعة الأمين وأنه عامله ففعل، وقال عليّ لأصحابه بادروهم فإنّهم قليل ولا يصبرون على حدّ السيوف وطعن الرماح، وأحكم تعبية جنده وقدّم بين يديه عشر رايات مع كل راية ألف رجل، وبين كل رايتين غلوة سهم ليقاتلوا نوبا. وعبّى طاهر أصحابه كراديس وحرّضهم وأوصاهم، وهرب من أصحاب طاهر جماعة فجلدهم عليّ وأهانهم، فأقصر الباقون وجدّوا في قتاله. وأشار أحمد بن هشام على طاهر بأن يرفع كتاب البيعة على رمح ويذكّر علي بن عيسى بها نكثه. ثم اشتدّ القتال وحملت ميمنة عليّ فانهزمت ميسرة طاهر وكذلك ميسرته على ميمنة طاهر فأزالوها، واعتمد طاهر القلب فهزموهم ورجعت المجنبتان منهزمة وانتهت الهزيمة إلى علي وهو ينادي بأصحابه فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله وجاء برأسه إلى طاهر، وحمل شلوه على خشبة وألقي في بئر بأمر طاهر. وأعتق طاهر جميع غلمانه شكرا للَّه وتمت الهزيمة. واتبعهم أصحاب طاهر فرسخين واقفوهم فيها اثنتي عشرة مرّة يقتلونهم في كلها ويأسرونهم حتى جنّ الليل بينهم. ورجع طاهر إلى الريّ وكتب إلى الفضل: كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بين يدي وخاتمة في إصبعي، وجنده متصرّفون تحت أمري والسلام. وورد الكتاب على البريد في ثلاثة أيام فدخل الفضل على المأمون وهنّأه بالفتح ودخل الناس فسلّموا عليه بالخلافة ووصل رأس عليّ بعدها بيومين وطيف به في خراسان، ووصل الخبر إلى الأمين بمقتل علي وهزيمة العسكر فأحضر الفضل بن الربيع وكيل المأمون ببغداد وهو نوفل الخادم فقبض ما بيده من ضياعه وغلّاته وخمسين ألف ألف درهم كان الرشيد وصّاه بها وندم الأمين على فعله، وسعت الجند والقوّاد في طلب الأرزاق فهمّ عبد الله بن حاتم بقتالهم فمنعه الأمين وفرّق فيهم أموالا. مسير ابن جبلة إلى طاهر ومقتله ولما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عبد الرحمن بن الأنباري في عشرين ألف فارس إلى همذان، وولّاه عليها وعلى كل ما يفتحه من بلاد خراسان وأمدّه بالمال، فسار إلى همذان وحصّنها وجاءه طاهر فبرز إليه ولقيه، فهزمه طاهر إلى البلد. ثم خرج عبد الرحمن ثانية فانهزم إلى المدينة وحاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة وطلب الأمان من طاهر وخرج من همذان. وكان طاهر عند نزوله عليها قد خشي من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 صاحب قزوين أن يأتيه من ورائه فجهّز العسكر على همذان وسار إلى قزوين في ألف فارس ففرّ عاملها وملكها ثم ملك همذان وسار أعمال الجبل وأقام عبد الرحمن بن جبلة في أمانه. ثم أصاب منه بعض الأيام غرّة فركب وهجم عليه في عسكر فقاتله طاهر أشدّ القتال حتى انهزم أصحابه وقتل ولحق فلّهم بعبد الله وأحمد ابني الحريشيّ في عسكر عظيم بعثهما الأمين مددا لعبد الرحمن فانهزموا جميعا إلى بغداد. وأقبل طاهر نحو البلاد وحده وأخذه إلى حلوان فخندق بها وجمع أصحابه. بيعة المأمون وأمر المأمون عندها بأن يخطب له على المنابر ويخاطب بأمير المؤمنين وعقد للفضل بن سهل على المشرق كلّه من جبل همذان إلى البيت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضا وحمل له عمّاله ثلاثة آلاف ألف درهم. وعقد له لواء ذا شعبتين ولقّبه ذا الرئاستين يعني الحرب والعلم، وحمل اللواء علي بن هشام، وحمل العلم نعيم بن حازم وولّى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج. ظهور السفياني هو عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ويلقّب أبا العميطر لأنه زعم أنها كنية الحردون فلقّبوه بها، وكانت أمّه نفيسة بنت عبد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب وكان يقول أنا ابن شيخي صفّين يعني عليا ومعاوية، وكان من بقايا بني أمية بالشام وكان من أهل العلم والرواية فادّعى لنفسه بالخلافة آخر سنة خمس وتسعين وأعانه الخطّاب بن وجه العلس [1] مولى بني أمية، كان متغلّبا على صيدا فملك دمشق من يد سليمان بن المنصور، وكان أكثر أصحابه من كلب. وكتب إلى محمد بن صالح بن بيهس يدعوه ويتهدّده فأعرض عنه وقصد السفيانيّ القيسية فاستجاشوا بمحمد بن صالح فجاءهم في ثلاثمائة فارس من الصبات [2] ومواليه. وبعث السفيانيّ يزيد بن هشام للقائهم في اثني عشر ألفا فانهزم يزيد وقتل من أصحابه ألفان وأسر ثلاثة آلاف أطلقهم ابن بيهس وحلقهم. ثم جمع جمعا مع ابنه القاسم وخرجوا   [1] الخطاب بن وجه الفلس: ابن الأثير ج 6 ص 249. [2] الضباب ومواليه: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 إلى ابن بيهس فانهزموا وقتل القاسم وبعث برأسه إلى الأمين. ثم جمع جمعا آخر وخرجوا مع مولاه المعتمر فانهزموا وقتل المعتمر فوهن أمر السفيانيّ وطمعت فيه قيس. ثم إنّ ابن بيهس مرض فجمع رؤساء بني نمير وأوصاهم بيعة مسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعد بن مسلمة عبد الملك بالخلافة. وقال لهم: تولوه وكيدوا به السفيانيّ فإنكم لا تتقون بأهل بيته. وعاد ابن بيهس إلى حوران واجتمعت نمير على مسلمة فبايعوه فقتل منهم وجمع مواليه ودخل على السفيانيّ فقيّده وحبس رؤساء بني أمية، وأدنى القيسيّة وجعلهم بطانة. وأفاق ابن بيهس من مرضه فجاء إلى دمشق وحاصرها وسلّمها له القيسية في محرّم سنة ثمان وتسعين وهرب مسلمة والسفيانيّ إلى المزّة وملك ابن بيهس دمشق إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق وسار إلى مصر ثم عاد إليها فاحتمل ابن بيهس معه إلى العراق ومات بها. مسير الجيوش إلى طاهر ورجوعهم بلا قتال ولما قتل عبد الرحمن بن جبلة أرسل الفضل بن الربيع إلى أسد بن يزيد بن مزيد ودعاه لحرب طاهر بعد أن ولي الأمين الخلافة، وشكر لأسد فضل الطاعة والنصيحة وشدّة البأس ويمن التقيّة، وطلب منه أرزاق الجند من المال لسنة، وألف فرس تحمل من معه بعد إزاحته عللهم بالأموال، وأن لا يطلب بحسبان ما يفتتح. فقال قد أشططت ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركب ودخل على الأمين فأمر بحبسه، وقيل إنه طلب ولدي المأمون كانا عند أمّهما ابنة الهادي ببغداد بحملهما معه، فإن أطاعه المأمون وإلّا قتلهما. فغضب الأمين لذلك وحبسه، واستدعى عبد الله بن حميد بن قحطبة فاشتط وكذلك فاستدعى أحمد بن مزيد واعتذر له عبس أسد وبعثه لحرب طاهر، وأمر الفضل بأن يجهّز له عشرين ألف فارس وشفع في أسد ابن أخيه فأطلقه. ثم سار وسار معه عبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفا أخرى، وانتهوا إلى حلوان وأقاموا [1] وطاهر بموضعه ودس المرجفين في عسكرهم بأنّ العطاء والمنع ببغداد والجند يقبضون أرزاقهم. حتى مشى الجند بعضهم إلى بعض، واختلفوا واختلفوا واقتتلوا ورجعوا من غير لقاء. وتقدّم طاهر فنزل   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 256: «واقام أحمد وعبد الله بخانقين واقام طاهر بموضعه، ودس الجواسيس والعيون، وكانوا يرجفون في عسكر أحمد وعبد الله» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 حلوان وجاءه هرثمة في جيش من عند المأمون ومعه كتاب بأن يسلّم إلى هرثمة ما ملكه من المدن ويتقدّم إلى الأهواز ففعل ذلك. أمر عبد الملك بن صالح وموته قد تقدّم لنا حبس عبد الملك بن صالح إلى أن مات الرشيد وأخرجه الأمين، ولما كان أمر طاهر جاء عبد الملك إلى الأمين وأشار عليه بأن يقدّم أهل الشام لحربه، فهم أجرأ من أهل العراق وأعظم نكاية في العدوّ، وضمن طاعتهم بذلك، فولّاه الأمين أهل الشام والجزيرة وقرّ له بالمال والرجال واستحثه، فسار إلى الرقّة وكاتب أهل الشام فتسالموا إليه فأكرمهم وخلع عليهم وكثرت جموعه. ثم مرض واشتدّ مرضه ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيّين وأهل الشام بسبب دابة أخذت لبعضهم في وقعة سليمان بن أبي جعفر وعرفها عند بعض أهل الشام، فاقتتلوا وأرسل إليهم عبد الملك بالقتل فلم يقتلوا، وكثر القتل وأظهر عبد الملك النصرة للشاميّين وانتقض الحسين ابن عليّ للخراسانيين، وتنادى الناس بالرجوع إلى بلادهم فمضى أهل حمص وقبائل كلب فانهزم أهل الشام وأقام عبد الملك بن صالح بالرقّة، توفي بها. خلع الأمين وإعادته ولما مات عبد الملك بن صالح نادى الحسين بن عليّ في الجند بالرحيل إلى بغداد وقدمها فلقيه القوّاد ووجوه الناس ودخل منزله واستدعاه الأمين من جوف الليل فامتنع وأصبح، فوافى باب الجسر وأغراهم بخلع الأمين وحذّرهم من نكثة ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا ولقيه أصحاب الأمين فانهزموا، وذلك منتصف رجب سنة ست، وأخذ البيعة للمأمون من الغد ووثب العبّاس بن عيسى بن موسى بالأمين فأخرجه من قصر الخلد وحبسه بقصر المنصور ومعه أمّه زبيدة، فلما كان من الغد طلب الناس أرزاقهم من الحسين وماج بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد فنكر استبداد الحسين بخلع الأمين وليس بذي منزلة ولا حسب ولا نسب ولا غنائم. وقال أسد الحربي قد ذهب أقوام بخلع الأمين فاذهبوا أنتم بفكّه يا معشر الحربيّة، فرجع الناس على أنفسهم باللائمة وقالوا ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف. ثم نهضوا إلى الحسين وتبعهم أهل الأرض فقاتلوه قتالا شديدا وأسروه ودخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 أسد الحربي إلى الأمين وكسر قيوده وأجلسه على أريكته، وأمرهم الأمين بلبس السلاح فانتهبه الغوغاء وجيء بالحسين إليه أسيرا، فاعتذر إليه وأطلقهم وأمره بجمع الجند والمسير إلى طاهر وخلع عليه ما وراء بابه ووقف الناس يهنئونه بباب الجسر حتى إذا خف عنه الناس قطع الجسر وهرب. وركب الجند في طلبه وأدركوه على فرسخ من بغداد وقتلوه وجاءوا برأسه إلى الأمين واختفى الفضل بن الربيع عند ذلك فلم يوقف له على خبر. استيلاء طاهر على البلاد ولما جاء كتاب المأمون بالمسير إلى الأهواز قدم إليها الحسين بن عمر الرستميّ وسار في أثره وأتته عيونه بأنّ محمد بن يزيد بن حاتم قد توجّه من قبل الأمين في جند ليحمي الأهواز من أصحاب طاهر، فبعث من أصحابه محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعبّاس بن بخاراخذاه مددا للرستمي. ثم أمدّهم بقريش بن شبل ثم سار بنفسه حتى كان قريبا منهم وأشرفوا على محمد بن يزيد مكرم وقد أشار إليه أصحابه بالرجوع إلى الأهواز والتحصّن بها حتى تأتيه قومه الأزد من البصرة، فرجع وأمر طاهر قريش شبل باتّباعه قبل أن يتحصّن بالأهواز، فخرج لذلك وفاته محمد بن يزيد إلى الأهواز وجاء على أثره فاقتتلوا قتالا شديدا، وفرّ أصحاب محمد واستمات هو ومواليه حتى قتلوا. وملك طاهر الأهواز وولّى على اليمامة والبحرين وعمان ثم سار إلى واسط وبها السّنديّ بن يحيى الحريشيّ والهيثم بن شعبة خليفة خزيمة بن حازم، فهربا عنها وملكها طاهر وبعث قائدا من قوّاده إلى الكوفة وبها العبّاس بن الهادي، فخلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب بذلك إلى طاهر وكذلك فعل المنصور بن المهدي بالبصرة والمطّلب بن عبد الله بن مالك بالموصل، وأقرّهم طاهر على أعمالهم. وبعث الحرث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة وأقام بجرجابا [1] ولما بلغ الخبر بذلك إلى الأمين بعث محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري إلى قصر ابن هبيرة فقاتلهم الحرث وداود قتالا شديدا وهزموهم إلى بغداد. وبعث الأمين أيضا الفضل بن موسى على الكوفة، فبعث إليه طاهر بن العلاء في جيش فلقيه في طريقه فأراد مسالمته بطاعة المأمون كيادا ثم قاتله فانهزم إلى بغداد. ثم سار طاهر إلى المدائن   [1] جرجرايا: ابن الأثير ج 6 ص 264، طرنايا: الطبري ج 10 ص 168. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وعليها البرمكي والمدد متصل له كل يوم، فقدم قريش بن شبل، فلما أشرف عليهم وأخذ البرمكي في التعبية فكانت لا تتمّ له، فأطلق سبيل الناس وركب بعضهم بعضا نحو بغداد، وملك طاهر لمدائن ونواحيها ثم نزل صرصر وعقد بها جسرا. بيعة الحجاز للمأمون ولما أخذ الأمين كتب العهد من مكة وأمر داود بن عيسى، وكان على مكة والمدينة بخلع المأمون قام في الناس ونكر نقض العهد، وذكّرهم ما أخذ الرشيد عليهم من الميثاق لابنيه في المسجد الحرام أن يكونوا على الظالم، وأنّ محمدا بدأ بالظلم والنكث وخلع أخويه وبايع لطفل صغير رضيع، وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما ظلما ثم دعا إلى خلعه والبيعة للمأمون فأجابوه، ونادى بذلك في شعاب مكّة وخطبهم. وكتب إلى ابنه سليمان بالمدينة بمثل ذلك ففعله، وذلك في رجب سنة ست وتسعين. وسار من مكة على البصرة وفارس وكرمان إلى المأمون وأخبره فسرّ بذلك وولّاه مكانه وأضاف إليه ولاية عكّ وأعطاه خمسمائة ألف درهم وسيّر معه ابن أخيه العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى على الموسم ويزيد بن جرير بن مزيد بن خالد القسريّ في جند كثيف عاملا على اليمن ومرّوا بطاهر وهو محاصر بغداد فأكرمهم وأقام يريد اليمن فبايعوه للمأمون وأطاعوه. حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها ومقتل الأمين ولما اتصلت بالأمين هذه الأحوال وقتل الحسين بن علي بن عيسى، شمّر لحرب طاهر واستعدّ له وعقد في شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة [1] شتى وأمر عليهم عليّ بن محمد بن عيسى نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة فساروا إليه والتقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموا وأسر قائدهم عليّ بن محمد فبعث به هرثمة إلى المأمون وترك النهروان، وأقام طاهر بصرصر والجيوش تتعاقب من قبل الأمين فيهزمها. ثم بذل الأمين الأموال ليستفسد بها عساكرهم فسار إليه من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف ففرّق فيهم الأموال وقوّد جماعة من الحربيّة ودسّ إلى رؤساء   [1] بياض في الأصل وفي الكامل ج 6 ص 267: «وفي هذه السنة اي سنة ست وتسعين ومائة عقد محمد الأمين في رجب وشعبان، نحوا من اربعمائة لواء لقوّاد شتى، وأمّر عليهم عليّ بن محمّد بن عيسى بن نهيك ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 الجند في عسكر طاهر ورغّبهم فشغبوا على طاهر وسار كثير منهم إلى الأمين، وانضموا إلى قوّاد الحربية وقوّاد بغداد وساروا إلى صرصر. فعبّى أصحابه كراديس وحرّضهم ووعدهم. ثم تقدّم فقاتلهم مليّا من النهار وانهزم أصحاب الأمين، وغنم أصحاب طاهر عسكرهم. ولما وصلوا إلى الأمين فرّق فيهم الأموال وقوّد منهم جماعة ولم يعط المنهزمين شيئا ودس إليهم طاهر واستمالهم فشغبوا على الأمين فأمر هؤلاء المحدثين بقتالهم وطاهر يراسلهم وقد أخذ رهائنهم على الطاعة، وأعطاهم الأموال. فسار فنزل باب الأنبار بقوّاده وأصحابه واستأمن إليه كثير من جند الأمين، وثارت العامّة وفتقت السجون، ووثب الشطّار على الأخيار ونزل زهير بن مسيّب الضبيّ من ناحية، ونصب المجانيق والعرّادات، وحفر الخنادق ونزل هرثمة بناحية أخرى وفعل مثل ذلك. ونزل عبيد الله بن الوضّاح بالشماسيّة ونزل طاهر بباب الأنبار فضيّق على الأمين بمنزله ونفد ما كان بيد الأمين من الأموال، وأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة وضرب آنية الذهب والفضة ليفرّقها في الجند، وأحرق الحديثة فمات بها خلق، واستأمن سعيد ابن مالك بن قادم إلى طاهر فولّاه الأسواق وشاطئ دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان وكل ما غلب عليه من الدروب، وأمده بالرجال والأموال. ووكّل الأمين بقصر صالح وقصر سليمان بن المنصور إلى دجلة بعض قوّاده فألحّ في إحراق الدور والرمي بالمجانيق وفعل طاهر مثل ذلك. وكثر الخراب ببغداد وصار طاهر يخندق على ما يمكنه من النواحي ويقاتل من لم يجبه، وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقوّاد وعجز الأجناد عن القتال. وقام به الباعة والعيّارون وكانوا ينهبون أموال الناس. واستأمن إليه القائد الموكّل بقصر صالح فأمّنه وسلّم إليه ما كان بيده من تلك الناحية في جمادى الأخيرة من سنة سبع. واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب الشرطة فوهن الأمين. واجتمع العيّارون والباعة والأجناد وقاتلوا أصحاب طاهر في قصر صالح، وقتلوا منهم خلقا وكاتب طاهر القوّاد بالأمان وبيعة المأمون فأجابه بنو قحطبة كلّهم ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العبّاس الطائي وغيرهم. وفشل الأمين وفوّض الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الحسن الهرش، ومعهم الغوغاء يتولون أمر تلك الفتنة. وأجفل الناس من بغداد وافترقوا في البلاد. ولما وقع بطاهر في قصر صالح ما وقع بأصحابه شرع في هدم المباني وتخريبها ثم قطع الميرة عنهم وصرف السفن التي تحمل فيها إلى الفرات. فغلت الأسعار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وضاق الحصار واشتدّ كلب العيّارين فهزموا عبيد الله بن الوضّاح وغلبوه على الشماسية. وجاء هرثمة ليعينه فهزموه أيضا وأسروه ثم خلصه أصحابه. وعقد طاهر جسرا فوق الشماسية وعبر إليهم وقاتلهم أشدّ قتال فردّهم على أعقابهم، وقاتل منهم بشرا كثيرا وعاد ابن الوضّاح إلى مركزه وأحرق منازل الأمين بالخيزرانيّة، وكانت النفقة فيها بلغت عشرين ألف درهم. وأيقن الأمين بالهلاك وفرّ منه عبد الله بن حازم ابن خزيمة إلى المدائن لأنه اتّهمه وحمل عليه السفلة والغوغاء. ويقال بل كاتبه طاهر وقبض ضياعه فخرج عن الأمين وقصد الهرش ومن معه جزيرة العبّاس من نواحي بغداد فقاتلهم بعض أصحاب طاهر وهزموهم وغرق منهم خلق كثير وضجر الأمين وضعف أمره وسار المؤتمن بن الرشيد إلى المأمون فولّاه جرجان وكاتب طاهر خزيمة بن حازم ومحمد بن علي بن موسى بن ماهان وأدخلهما في خلع الأمين فأجاباه ووثبا آخر محرّم من سنة ثمان وتسعين فقطعا جسر دجلة وخلع الأمين وبعث إلى هرثمة وكان بإزائهما فسار إليهما من ناحيته ودخل عسكر المهدي وملكه وقدم طاهر من الغد إلى المدينة والكرخ فقاتلهم وهزمهم وملكها عنوة ونادى بالأمان ووضع الجند بسوق الكرخ وقصر الوضّاح وأحاط بمدينة المنصور وقصر زبيدة وقصر الخلد من باب الجسر إلى باب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة ونصب عليها المجانيق. واعتصم الأمين في أمّه وولده بمدينة المنصور، واشتدّ عليه الحصار وثبت معه حاتم بن الصقر والحريشيّ والأفارقة. وافترق عامّة الجنود والخصيان والجواري في الطرق وجاء محمد بن حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي إلى الأمين وقالا له بقي من خيلك سبعة آلاف فرس نختار سبعة آلاف فنجعلهم عليها ونخرج على بعض الأبواب ولا يشعر بنا أحد ونلحق بالجزيرة والشام فيكون ملك جديد، وربما مال إليك الناس ويحدث الله أمرا فاعتزم على ذلك وبلغ الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك يتهدّدهم إن لم يصرفوه عن ذلك الرأي. فدخلوا على الأمين وحذّروه من ابن الصقر وابن الأغلب أن يجعل نفسه في أيديهم فيتقرّبوا به إلى طاهر وأشاروا عليه بطلب الأمان على يد هرثمة بن أعين والخروج إليه وخالفهم إليه ابن الصقر وابن الأغلب. وقالوا له إذا ملت إلى الخوارج فطاهر خير لك من هرثمة فأبى وتطيّر من طاهر وأرسل إلى هرثمة يستأمنه. فأجابه أنه يقاتل في أمانة المأمون فمن دونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وبلغ ذلك طاهرا فعظم عليه أن يكون الفتح لهرثمة واجتمع هو وقوّاده لهرثمة وقوّاده في منزل خزيمة بن حازم، وحضر سليمان والسنديّ وابن نهيك وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا وأنه يخرج إلى هرثمة ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة وهو الخلافة فرضي. ثم جاء الهرش وأسرّ إليه أنهم يخادعونه وأنهم يحملونها مع الأمين إلى هرثمة فغضب وأعدّ رجالا حول قصور الأمين، وبعث إليه هرثمة لخمس بقين من محرّم سنة ثمان وتسعين بأن يتربص ليلة لأنه رأى أولئك الرجال بالشط فقال: قد افترق عني الناس ولا يمكنني المقام لئلا يدخل عليّ طاهر فيقتلني. ثم ودّع ابنيه وبكى وخرج إلى الشط وركب حراقة هرثمة. وجعل هرثمة يقبل يديه ورجليه وأمر بالحراقة أن تدفع وإذا بأصحاب طاهر في الزواريق فشدّوا عليها ونقبوها ورموهم بالآجر والنشّاب فلم يرجعوا ودخل الماء إلى الحراقة فغرقت. قال أحمد بن سالم صاحب المظالم: فسقط الأمين وهرثمة وسقطنا فتعلق الملاح بشعر هرثمة وأخرجه وشق الأمين ثيابه. قال: وخرجت إلى الشطّ فحملت إلى طاهر فسألني عن نفسي فانتسبت وعن الأمين فقلت غرق فحملت إلى بيت وحبست فيه حتى أعطيتهم مالا فاديتهم به على نفسي. فبعد ساعة من الليل فتحوا عليّ الباب وأدخلوا عليّ الأمين عريان في سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة فاسترجعت وبكيت. ثم عرفني فقال: ضمّني إليك فإنّي أجد وحشة شديدة، فضممته وقلبه يخفق فقال: يا أحمد ما فعل أخي؟ فقلت: حيّ قال: قبح الله بريدهم كان يقول قد مات، يريد بذلك العذر عن محاربته فقلت: بل قبّح الله وزراءك، فقال: تراهم يفون لي بالأمان؟ قلت: نعم إن شاء الله. ثم دخل محمد بن حميد الطاهري فاستثبتنا حتى عرفه وانصرف، ثم دخل علينا منتصف الليل قوم من العجم منتضين سيوفهم فدافع عن نفسه قليلا ثم ذبحوه ومضوا برأسه إلى طاهر ثم جاءوا من السحر فأخذوا جثته. ونصب طاهر الرأس حتى رآه الناس ثم بعث به إلى المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن بن مصعب ومعه الخاتم والبردة والقضيب وكتب معه بالفتح فلما رآه المأمون سجد. ولما قتل الأمين نادى طاهر بالأمان ودخل المدينة يوم الجمعة فصلّى بالناس وخطب للمأمون وذمّ الأمين، ووكّل بحفظ القصور الخلافيّة، وأخرج زبيدة أمّ الأمين وابنيه موسى وعبد الله إلى بلاد الزاب الأعلى. ثم أمر بحمل الولدين إلى المأمون وندم الجند على قتله وطالبوا طاهر بالأموال فارتاب بجند بغداد وبجنده أنهم تواطئوا عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وثاروا به لخمس من قتل الأمين. فهرب إلى عقرقوبا [1] ومعه جماعة من القوّاد ثم تعبّى لقتالهم فجاءوا واعتذروا وأحالوا على السفهاء والأحداث فصفح عنهم وتوعّدهم أن يعودوا لمثلها، وأعطاهم أربعة أشهر. واعتذر إليه مشيخة بغداد وحلفوا أنهم لم يدخلوا الجند في شيء من ذلك، فقبل منهم ووضعت أهل الحرب أوزارها واستوسق [2] لأمر للمأمون في سائر الأعمال والممالك. ثم خرج الحسن الهرش في جماعة من السفلة واتبعه كثير من بوادي الأعراب ودعا إلى الرضا من آل محمد وأتى النيل فجبى الأموال ونهب القرى وولّى المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما افتتحه طاهر من كور الجبل والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، فقدم سنة تسعة وتسعين وفرّق العمّال وولّى طاهرا على الجزيرة والموصل والشام والمغرب وأمره أن يسير إلى قتال نصر بن شبيب، وأمر هرثمة بالمسير إلى خراسان وكان نصر بن شبيب من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر في كيسوم شمالي حلب، وكان له ميل إلى الأمين. فلما قتل أظهر الوفاء له بالبيعة وغلب على ما جاوره من البلاد، وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وعبر إلى شرقي العراق وحصر حرّان. وسأل منه شيعة الطالبيّين أن يبايعوا لبعض آل عليّ لما رأوه من بني العبّاس ورجالهم وأهل دولتهم وقال: والله لا أبايع أولاد السوداوات، فيقول: إنه خلقني ورزقني. قالوا: فبعض بني أمية قال قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل ولو سلم عليّ رجل مدبر لأعداني بإدباره، وإنما هو اي في بني العباس، وإنما حاربتهم لتقديمهم العجم على العرب. ولما سار إليه طاهر نزل الرقّة وأقام بها وكتب إليه يدعوه إلى الطاعة وترك الخلاف فلم يجبه وجاء الخبر إلى طاهر في الرقّة وفاة أبيه الحسين بن زريق بن مصعب بخراسان وأنّ المأمون حضر جنازته، ونزل الفضل قبره وجاءه كتاب المأمون يعزّيه فيه. وبعد قتل الأمين كانت الوقعة بالموصل بين اليمانية والنزارية وكان عليّ بن الحسن الهمدانيّ متغلّبا على الموصل فعسف بالنزارية وسار عثمان بن نعيم البرجميّ إلى ديار مصر وشكا إلى أحيائهم واستنفرهم فسار معه من مصر عشرون ألفا وأرسل إليهم عليّ بن الحسن بالرجوع إلى ما يريدون، فأبى عثمان فخرج عليّ في أربعة آلاف فهزمهم وأثخن فيهم وعادا إلى البلد.   [1] عقرقوف: ابن الأثير ج 6 ص 296. [2] لعلها استوثق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 ظهور ابن طباطبا العلوي ّ لما بعث المأمون الحسن بن سهل إلى العراق وولّاه على ما كان افتتحه طاهر من البلاد والأعمال تحدّث الناس أنّ الفضل بن سهل غلب على المأمون واستبدّ عليه وحجبه عن أهل بيته وقوّاده، فغضب بنو هاشم ووجوه الناس واجترءوا على الحسن بن سهل وهاجت الفتنة وكان أبو السرايا السريّ بن منصور يذكر أنه من بني شيبان من ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وقيل من بني تميم بالجزيرة وطلب فعبر إلى شرقي الفرات وأقام هنالك يخيف السابلة، ثم لحق بيزيد بن مزيد بأرمينية في ثلاثين فارسا فقوّده وقاتل معه الحرمية [1] وأسر منهم وأخذ منهم غلامه أبا الشوك. ومات يزيد بن مزيد فكان مع ابنه أسد وعزل أسد فسار إلى أحمد بن مزيد. ولما بعث الأمين أحمد بن مزيد لحرب هرثمة بعثه طليعة إلى عسكره، فاستماله هرثمة فمال إليه ولحق به وقصد بني شيبان مع الجزيرة واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة واجتمع إليه أزيد من ألفي فارس. فلما قتل الأمين تعصى هرثمة عن أرزاقهم فغضب واستأذن في الحج فأذن له وأعطاه عشرين ألف درهم ففرّقها في أصحابه ومضى وأوصاهم باتباعه، فاجتمع له منهم نحو مائتين وسار إلى عين التمر فأخذوا عاملها وقسّموا ماله ولقوا عاملا آخر بمال موقور على ثلاثة أنفار فاقتسموه وأرسل هرثمة عسكرا خلفه فهزمهم ودخل البرية ولحق به من تخلّف من أصحابه فكثر جمعه وسار نحو دقوقا وعليها أبو ضرغامة في سبعمائة فارس فخرج وقاتله فهزمه ورجع إلى القصر فحاصره أبو السرايا حتى نزل على الأمان وأخذ أمواله. وسار إلى الأنبار وعليها إبراهيم الشّرويّ مولى المنصور، فقتله وأخذ ما فيها وعاد إليها عند إدراك الغلال فافتتحها. ثم قصد الرقّة ومرّ بطوق بن مالك الثعلبي فاستجاشه على قيس فأقام عنده أربعة أشهر يقاتل قيسا بعصبية ربيعة حتى انقادت قيس إلى طوق. وسار أبو السرايا إلى الرقّة فلقي محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط بن عليّ وتلقّب أبوه إبراهيم طباطبا فدعاه إلى الخروج، وأنفذ إلى الكوفة فدخلاها وبايعهم أهلها على بيعة الرضا من آل محمد، ونهب أبو السرايا قصر العبّاس بن موسى بن عيسى، وأخذ ما فيه من الأموال والجواهر ما لا يحصى، وذلك منتصف جمادى الأخيرة سنة تسعة   [1] الخرّميّة: ابن الأثير ج 6 ص 303. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 وتسعين، وقيل إنّ أبا السرايا مطله هرثمة بأرزاق أصحابه فغضب ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا. ولما ملك الكوفة هرع إليه الناس والأعراب من النواحي فبايعوه، وكان عليها سليمان بن المنصور من قبل الحسن بن سهل فبعث إليه زهير بن المسيّب الضبّي في عشرة آلاف وخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فهزموه واستباحوا عسكره وأصبح محمد بن طباطبا من الغد ميتا فنصب أبو السرايا مكانه غلاما من العلويّة، وهو محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين واستبد عليه، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة فأقام به وبعث الحسن بن سهل عبدوس ابن محمد بن خالد المروروذي في أربعة آلاف فلقيه أبو السرايا منتصف رجب وقتله ولم يفلت من أصحابه أحد كانوا بين قتيل وأسير، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة وبعث جيوشا إلى البصرة وواسط، وولّى على البصرة العبّاس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفري، وعلى مكة الحسين الأفطس بن الحسين بن عليّ بن زين العابدين وجعل إليه الموسم. وعلى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق، وعلى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر الصادق، وعلى الأهواز زيد بن موسى الصادق، فسار إلى البصرة وأخرج عنها العبّاس بن محمد بن داود بن الحسن المثنّى إلى المدائن وأمره أن يأتي بغداد من الجانب الشرقيّ ففعل. وكان بواسط عبد الله بن سعد الخرشي من قبل الحسن بن سهل ففرّ أمامهم وبعث الحسن بن سهل إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا، وكان قد سار إلى خراسان مغاضبا له، فرجع بعد امتناع، وسار إلى الكوفة في شعبان وبعث الحسن إلى المدائن وواسط عليّ بن أبي سعيد وأبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة فوجه جيشا إلى المدائن فملكوها في رمضان. وتقدّم فنزل نهر صرصر وعسكر هرثمة بإزائه غدوة. وسار عليّ بن أبي سعيد في سؤال المدائن فحاصر بها أصحاب أبي السرايا، ورجع هو من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وهرثمة وأتباعه، ثم حصره وقتل جماعة من أصحابه فانجاز إلى الكوفة ووثب الطالبيّون على دور بني العبّاس وشيعتهم فنهبوها وخرّبوها وأخرجوهم واستخرجوا ودائعهم عند الناس، وكان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ، فلما بلغه قدوم حسين الأفطس جمع شيعة بني العبّاس. وكان مسرور الكبير قد حجّ في مائة فارس فتعبّى للحرب ودعا داود إلى حربهم فقال: لا أستحلّ ذلك في الحرم وخرج إلى العراق وتبعه مسرور وكان حسين الأفطس بسرف يخاف دخول مكة فبلغه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 الخبر ان مكة قد خلت من بني العبّاس عنها فدخل في عشرة أنفس وطاف وسعى ووقف بعرفة ليلا وأتم الحجّ. وأقام هرثمة بنواحي الكوفة يحاصرها، واستدعى منصور بن المهدي وكاتب رؤساء الكوفة وسار عليّ بن سعيد من المدائن إلى واسط فملكها، ثم توجه إلى البصرة واشتدّ الحصار على أبي السرايا بالكوفة فهرب عنها في ثمانمائة فارس ومعه صاحبه الّذي نصبه وهو محمد بن جعفر بن محمد ودخلها هرثمة منتصف محرم فأقام بها يوما وولّى عليها غسّان صاحب الحرس بخراسان وعاد وقصد أبو السرايا القادسية وسار منها إلى السوس ولقي بخراسان مالا حمل من الأهواز فقسّمه في أصحابه. وكان على الأهواز الحسن بن علي المأموني، فخرج إليه فقاتله فهزمه وافترق أصحابه وجاء إلى منزله برأس عين من جلولاء ومعه صاحبه محمد وغلامه أبو الشوك فظفر بهم حمّاد الكندغوش وجاء بهم إلى الحسن بن سهل في النهروان فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إلى المأمون، وبصاحبه محمد معه، ونصب شلوه على جسر بغداد. وسار عليّ بن أبي سعيد إلى البصرة فملكها من يد زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يسمّى زيد النار لكثرة ما أحرق من دور العبّاسيين وشيعتهم فاستأمن إليه زيد فأمّنه وأخذه، وبعث الجيوش إلى مكّة والمدينة واليمن لقتال من بها من العلويين، وكان إبراهيم بن موسى بن جعفر بمكة فلما بلغه خبر أبي السرايا ومقتله ولّى وسار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى فهرب إلى مكة، واستولى إبراهيم على اليمن وكان يسمى الجزّار لكثرة قتله وفتكه. ثم بعث رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب إلى مكة ليحجّ بالناس وقد جاء لذلك أبو الحسن المعتصم في جماعة من القوّاد فيهم حدوية بن علي بن عيسى بن ماهان، واليا على اليمن من قبل الحسن بن سهل، فخام العقيلي عن لقائهم واعترض قافلة الكسوة فأخذها ونهب أموال التجّار ودخل الحجاج إلى مكة عراة فبعث الخلودي من القوّاد فصبحهم وهزمهم وأسر منهم وتفقد أموال التجّار وكسوة الكعبة وطيبها وضرب الأسراء عشرة أسواط لكل واحد وأطلقهم وحجّ المعتصم بالناس. بيعة محمد بن جعفر بمكة هو محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ بن زين العابدين ويلقّب الديباجة، وكان عالما زاهدا ويروى عن أبيه وكان الناس يكتبون عنه. ولما ملك الحسين الأفطس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 مكة كما ذكرناه عاث فيها ونزع كسوة الكعبة وكساها بأخرى من الغد أنفذها أبو السرايا من الكوفة وتتبع ودائع بني العباس وجعلها ذريعة لأخذ أموال الناس فخرجوا من مكة. وقلع أصحابه شبابيك الحرم وقلع ما على الأساطين من الذهب واستخرج ما كان في الكعبة من المال فقسمه في أصحابه وساء أثره في الناس. فلما قتل أبو السرايا تنكروا له فخشي على نفسه فجاء إلى محمد بن جعفر ليبايع له بالخلافة فلم يزل به هو وابنه حسن واستعانا عليه بابنه علي حتى بايعوه ودعوه بأمير المؤمنين. واستبدّ عليه ابنه عليّ وابن الأفطس بأسوا مما كان قبل، وأفحشوا في الزنا واللواط واغتصاب النساء والصبيان، فاجتمع الناس على خلع محمد بن جعفر أو يردّ إليهم ابن القاضي كان مغتصبا ببيت ابنه عليّ، فاستأمنهم حتى ركب إلى بيت ابنه وسلّم إليهم الغلام. وجاء إسحاق بن موسى بن عيسى من اليمن فاجتمع الناس وخندقوا مكة وقاتلهم إسحاق وامتنعوا عليه فسار نحو العراق ولقي الجند الذين بعثهم هرثمة إلى مكة مع الجلودي ورجاء بن جميل، وهو ابن عم الحسين بن سهل. فرجع بهم وقاتل الطالبيّين فهزمهم وافترقوا، واستأمن إليه محمد بن جعفر فأمّنه وملك مكة وسار محمد ابن جعفر إلى الجحفة، ثم إلى بلاد جهينة فجمع وقاتل هارون بن المسيّب والي المدينة، فانهزم محمد وفقئت عينه وقتل خلق من أصحابه ورجع إلى موضعه. ولما انقضى الموسم استأمن الجلودي ورجاء بن جميل فأمّناه ودخل مكة وخطب واعتذر عما فعله بأنه بلغه موت المأمون ثم صح أنه حيّ، وخلع نفسه وسار إلى الحسن والي المأمون بمرو فلم يزل عنده إلى أن سار المأمون إلى العراق فمات بجرجان في طريقه. مقتل هرثمة لما فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع، وكان الحسن بن سهل بالمدائن فلم يعرج عليه وسار على عقرقوبا إلى النهروان قاصدا خراسان، ولقيته كتب المأمون متلاحقة أن يرجع إلى الشام والحجاز، فأبى إلّا لقاءه دالة عليه بما سبق له من نصحه له ولآبائه. وكان قصد أن يطلع المأمون على حال الفضل بن سهل في طيّه الأخبار عنه وما عند الناس من القلق بذلك، وباستبداده عليه ومقامه بخراسان وعلم الفضل بذلك فأغرى به المأمون وألقى إليه انه سلّط أبا السرايا وهو من جنده وقد خالف كتبك وجاء معاندا سيّئ القالة، وإن سومح في ذلك اجترأ غيره فسخطه المأمون وبقي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 انتظاره، ولما بلغ مرو قرع طبوله يسمعها لئلا يطوى خبره عن المأمون، وسأل المأمون عنها فقيل هرثمة أقبل يرعد ويبرق، فاستدعاه وقال هرثمة [1] مالأت العلويين وأبا السرايا ولو شئت إهلاكهم جميعا لفعلت، فذهب يعتذر فلم يمهله وأمر فربس [2] بطنه وشدخ أنفه وسحب إلى السجن ثم دسّ إليه من قتله. انتقاض بغداد على الحسن بن سهل ولما بلغ خبر هرثمة إلى العراق كتب الحسن بن سهل إلى عليّ بن هشام والي بغداد من قبله أن يتعلّل على الجند الحربية والبغداديين في أرزاقهم، لأنه كان بلغه عنهم قبل مسير هرثمة أنهم عازمون على خلعه وطرد عمّاله، وولوا عليهم إسحاق بن الهادي خليفة المأمون. فلم يزل الحسين يتلطّف إليهم ويكاتبهم حتى اختلفوا فأنزل عليّ بن هشام ومحمد ابن أبي خالد في أحد جانبيها، وزهير بن المسيّب في الجانب الآخر، وقاتلوا الحربية ثلاثة أيام، ثم صالحهم على العطاء وشرع فيه. وكان زيد بن موسى ابن جعفر قد أخذه عليّ بن أبي سعيد من البصرة وحبسه كما ذكرناه قبل، فهرب من محبسه وخرج بناحية الأنبار ومعه أخ لأبي السرايا. ثم تلاشى أمره وأخذوا [3] إلى عليّ بن هشام ثم جاء خبر هرثمة وقد انتقض محمد بن أبي خالد على عليّ بن هشام بما كان يستحق به، وغضب يوما مع زهير بن المسيّب فقنعه بالسوط، فسار إلى الحربية ونصب لهم الحرب، وانهزم عليّ بن هشام إلى صرصر. وقيل إنّ ابن هشام أقام الحدّ على عبد الله بن علي بن عيسى فغضب الحربية وأخرجوه. واتصل ذلك بالحسن بن سهل وهو بالمدائن كما قلناه فانهزم إلى واسط أوّل سنة إحدى ومائتين، والفضل بن الربيع وقد ظهر من اختفائه من لدن الأمين. وجاء عيسى بن محمد بن أبي خالد من الرقّة من عند طاهر، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن وهزموا كل من تعرّض للقائهم من أصحابه. وكان زهير بن المسيّب عاملا للحسن على جوخى من السواد وكان يكاتب بغداد فركب إليه محمد بن أبي خالد   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 315: « ... فظنّ هرثمة ان قوله المقبول فأمر المأمون بإدخاله، فلما دخل عليه قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة العلويين، ووضعت أبا السرايا ولو شئت ان تأخذهم جميعا لفعلت» . [2] فديس: المرجع السابق. [3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 316: «فبعثوا إليه فأتي به إلى علي بن هشام» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وأخذه أسيرا وانتهب ماله وحبسه ببغداد عند ابنه جعفر. ثم تقدّم إلى واسط وبعثه ابنه هارون إلى النيل فهزم نائب الحسن بها إلى الكوفة فلحق بواسط ورجع هارون إلى أبيه وتقدّم نحو واسط فسار الحسن عنها. واقام الفضل بن الربيع مختفيا بها واستأمن لمحمد وبعثه إلى بغداد. وسار إلى الحسن على البقية ولقيتهم عساكر الحسن وقوّاده، وانهزم محمد وأصحابه وتبعهم الحسن إلى تمام الصلح، ثم لحقوا بجرجايا. ووجه محمد ابن ابنه هارون إلى [1] فأقام بها وسار محمد ابن ابنه أبو رتيل وهو جريح إلى بغداد فمات بها ودفن في داره سرّا. ومحمد أبو رتيل إلى زهير بن المسيّب فقتله من ليلته [2] . وقام خزيمة بن خازم بأمر بغداد، وبعث إلى عيسى بن محمد بأن يتولّى حرب الحسن مكان أبيه، وبلغ الحسن موت محمد فبعث عسكره إلى هارون بالنيل فغلبوا وانتهبوها، ولحق هارون بالمدائن. ثم اجتمع أهل بغداد وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد والعراق انحرافا عن الحسن ابن سهل. وقيل إنّ الحسن لما ساعد أهل بغداد عيسى بن محمد بن أبي خالد على حربه خام [3] عنه فلاطفه ووعده بالمصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية النواحي [4] ، فقبل وطلب خط المأمون بذلك، وكتب إلى أهل بغداد إني شغلت بالحرب عن جباية الخراج فولّوا رجلا من بني هاشم، فولّوا المنصور بن المهدي وأحصى عيسى أهل عسكره فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا. وبعث منصور غسّان بن الفرج إلى ناحية الكوفة فغزاه حميد الطوسي من قوّاد الحسن بن سهل وأخذ أسيرا ونزل النيل. فبعث منصور بن محمد يقطين في العساكر إلى حميد فلقيه حميد بكونا [5] فهزمه وقتل من أصحابه ونهب ما حول كوثا ورجع إلى النيل وأقام ابن يقطين بصرصر.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 322: «ووجه محمد ابنه عيسى إلى عرنايا فأقام بها، وأقام محمد بجرجرايا، فاشتدت جراحات محمد فحمله ابنه أبو زنبيل إلى بغداد» . [2] المعنى غير واضح وفي الطبري ج 10 ص 239: «وأقام محمد بجرجرايا فلما اشتدت الجراحات خلف قواده في عسكره وحمله ابنه أبو زنبيل حتى ادخله بغداد، ومات محمد بن أبي خالد من ليلية من تلك الجراحات، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيّب فأخرجه من حبسه فضرب عنقه» . [3] خام: نكص وجبن. [4] وولاية أي النواحي أحبّ: ابن الأثير ج 6 ص 323 والطبري ج 10 ص 241. [5] كوثى: ابن الأثير ج 6 ص 324. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 أمر المطوعة ولما كثر الهرج ببغداد وامتدّت أيدي الدعاوي [1] باذاية الناس في أموالهم وأفشى المناكير فيهم وتعذر ذلك، فخرجوا إلى القرى فانتهبوها. «واستعدى الناس أهل الأمر فلم يغدوا عليهم فتمشّى الصلحاء من عمل ريظ وكل بينهم ورأوا أنهم في كل درب قليلون بالنسبة إلى خيارهم فاعتزموا على مدافعتهم واشتدّ خالد المدريوش من أهل، بغداد فدعا جيرانه وأهل محلته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن يغيروا على السلطان. فشدّ على من كان عندهم من أدعار وحبسهم ورفعهم إلى السلطان وتعدّى ذلك إلى غير محلته. ثم قام بعده سهل بن سلامة الأنصاري من الحريشيّة من أهل خراسان ويكنّى أبا حاتم فدعا إلى مثل ذلك وإلى العمل بالكتاب والسنة وعلق في عنقه مصحفا وعبر على العامّة وعلى أهل الدولة فبايعوه على ذلك وعلى قتال من خالف» . [2] وبلغ خبرهما إلى منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد فنكروا ذلك لأنّ أكثر الدعّار كانوا يشايعونهم على أمرهم، فدخلوا بغداد بعد أن عقد عليه الصلح مع الحسن بن سهل على الأمان له ولأهل بغداد، وانتظروا كتاب المأمون ورضي أهل البلد بذلك، فسهل عليهم أمر المدريوش وسهل.   [1] وفي الكامل ج 6 ص 324: وفي هذه السنة (201) تجردت المتطوعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان سبب ذلك ان فسّاق بغداد والشطّار آذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق، وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية ... » [2] العبارات بين القوسين مبهمة والأسماء محوّرة، وفي الكامل ج 6 ص 325: فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب، ومشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنّما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفسّاق، ولعجزوا عن الّذي يفعلونه، فقام رجل يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلّته، على ان يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفأجابوه إلى ذلك، فشد على من يليه من الفسّاق وحبسهم، ورفعهم إلى السلطان إلا أنه كان لا يرى ان يغيّر على السلطان شيئا. ثم قام بعده رجل من الحربيّة يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ويكنّى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بالكتاب والسنّة، وعلّق مصحفا في عنقه، وأمر أهل محلّته ونهاهم، فقبلوا منه، ودعا الناس جميعا، الشريف والوضيع من بني هاشم وغيرهم، فأتاه خلق عظيم فبايعوه على ذلك، وعلى القتال معه لمن خالفه، وطاف ببغداد وأسواقها، وكان قيام سهل لأربع خلون من رمضان، وقيام الدريوش قبله بيومين أو ثلاثة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 العهد لعليّ الرضا والبيعة لإبراهيم بن مهدي ولما بلغ أهل بغداد أنّ المأمون قد بايع بالعهد لعليّ بن موسى الكاظم ولقبه الرضا من آل محمد، وأمر الجند بطرح السواد ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد ببغداد يعلمه بذلك في رمضان من سنة إحدى ومائتين، وأمره أن يأخذ من عنده من الجند وبني هاشم بذلك، فأجاب بعض وامتنع بعض، وكبر عليهم إخراج الخلافة من بني العبّاس. وتولى كبر ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي وشايعهم عليه المطّلب بن عبد الله بن مالك والسدّي ونصر الوصيف وصالح صاحب المصلّى ومنعوا [1] يوم الجمعة من نادى في الناس بخلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن المهدي ومن بعده لإسحاق بن الهادي. ثم بايعوه في المحرم سنة اثنتين ومائتين ولقبوه المبارك ووعد الجند بأرزاق ستة أشهر، واستولى على الكوفة والسواد، وخرج فعسكر بالمدائن وولّى بها على الجانب الغربيّ العباس بن الهادي، وعلى الجانب الشرقيّ إسحاق بن الهادي. وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل، ومعه القوّاد سعيد بن الساحور وأبو البطّ وغسّان بن الفرج [2] ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب كانوا منحرفين عن حميد فداخلوا إبراهيم بن الهادي في أن يهلكوه في قصر ابن هبيرة وشعر بذلك الحسن بن سهل فاستقدم حميدا وخلا لهم الجوّ منه فبعث إبراهيم بن المهدي عيسى ابن محمد بن أبي خالد وملك قصر ابن هبيرة وانتهب عسكر حميد ولحق به ابنه بجواريه. ثم عاد إلى الكوفة فاستعمل عليها العبّاس بن موسى الكاظم وأمره أن يدعو لأخيه فامتنع غلاة الشيعة من إجابته وقالوا: لا حاجة لنا بذكر المأمون وقعدوا عنه. وبعث إبراهيم بن المهدي من القوّاد سعيدا وأبا البطّ لقتاله، فسرّح إليهم العبّاس بن عمه وهو عليّ بن محمد الديباجة فانهزم، ونزل سعيد وأبو البطّ الحيرة ثم تقدّموا لقتال أهل الكوفة، وقاتلهم شيعة بني العبّاس ومواليهم. ثم سألوا الأمان للعبّاس وخرجوا من داره. ثم قاتل أصحابه أصحاب سعيد فهزموهم وأحرقوا دور عيسى بن موسى، وبلغ الخبر إلى سعيد بالحيرة بأن العبّاس قد نقض ورجع عن الأمان فركب وجاء إلى   [1] لعلها وجهوا. [2] غسان بن أبي الفرج: ابن الأثير ج 6 ص 342. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 الكوفة وقتل من ظفر به ولقيه أهله فاعتذروا إليه بأنّ هذا فعل الغوغاء، وأنّ العبّاس باق على عهده. ودخل سعيد وأبو البطّ ونادوا بالأمان وولّوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصبّاح الكنديّ، ثم عزلوه وولّوا مكانه غسّان بن الفرج فقتل أخا السرايا. ثم عزلوه وولّوا الهول ابن أخي سعيد القائد وقدم حميد بن عبد الحميد لحربهم بالكوفة، فهرب الهول وبعث إبراهيم بن المهدي بن عيسى بن محمد بن أبي خالد لحصار الحسن بواسط على طريق النيل وكان الحسن متحصّنا بالمدينة، فسرّح أصحابه لقتالهم فانهزموا وغنم عسكرهم، ورجع عيسى إلى بغداد فقاتل سهل بن سلامة المطوّع حتى غلبه على منزله فاختفى في غمار النظّار وأخذوه بعد ليال وأتوا به إسحاق فقال: كل ما كنت أدعو إليه باطل فقالوا: أخرج فأعلم الناس بذلك فخرج وقال: قد كنت أدعوكم إلى الكتاب والسّنّة ولم أزل على ذلك فضربوه وقيّدوه وبعثوا به إلى إبراهيم المهدي فضربه وحبسه، وظهر أنه قتل في محبسه خفية لسنة من قيامه. ثم أطلقه فاختفى إلى أن انقرض أمر إبراهيم. وزحف حميد بن عبد الحميد سنة ثلاث ومائتين إلى قتال إبراهيم بن المهدي وأصحابه وكان عيسى بن محمد بن أبي خالد هو المتولّي لقتالهم بأمر إبراهيم، فداخلهم في الغدر بإبراهيم وصار يتعلّل عليه في المدافعة عنه، ونمي ذلك إلى إبراهيم بن هارون أخي عيسى فتنكر له، ونادى عيسى في الناس بمسالمة حميد فاستدعاه إبراهيم وعاتبه بذلك فأنكر واعتذر، فأمر به فضرب وحبس عدّة من قوّاده وأفلت العبّاس خليفته، فمشى بعض الناس إلى بعض ووافقوا العبّاس على خلع إبراهيم وطردوا عامله من الجسر والكرخ. وثار الرعاع والغوغاء. وكتب العبّاس إلى حميد يستقدمه ليسلم إليه بغداد ونزل صرصر وخرج إليه العبّاس والقوّاد وتواعدوا لخلع إبراهيم على أن يدفع لهم العطاء. وبلغ الخبر إلى إبراهيم فأخرج عيسى وإخوته، وسأله قتال حميد فامتنع. ودخل حميد فصلّى الجمعة وخطب للمأمون وشرع في العطاء ثم قطعه عنهم فغضب الجند. وعاود إبراهيم سؤال عيسى في قتال حميد ومدافعته فقاتل قليلا، ثم استأسر لهم وانفض العسكر راجعين إلى إبراهيم. وارتحل حميد فنزل في وسط المدينة وتسلّل أصحاب إبراهيم إلى المدائن فملكوها وقاتل بقيّتهم حميد، وكان الفضل بن الربيع مع إبراهيم فتحوّل إلى حميد وكاتب المطّلب بن عبد الله بن مالك بأن يسلّموه إليه. وكان سعيد بن الساحور والبطّ وغيرهم من القوّاد يكاتبون عليّ بن هشام بمثل ذلك. ولما علم إبراهيم بما اجتمعوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 عليه أقبل على مداراتهم إلى أن جنّ الليل. ثم تسرّب في البلد واختفى منتصف ذي الحجة من سنة ثلاث، وبلغ الخبر إلى حميد وعليّ بن هشام، فأقبلوا إلى دار إبراهيم فلم يجدوه، وذلك لسنتين من بيعته. وأقام عليّ بن هشام على شرقي بغداد وحميد على غربيها وأظهر سهل بن سلامة ما كان يدعو إليه فقرّبه حميد ووصله. قدوم المأمون إلى العراق لما وقعت هذه الفتن بالعراق بسبب الحسن بن سهل ونفور الناس من استبداده وأخيه على المأمون ثم من العهد لعليّ الرضا بن موسى الكاظم وإخراج الخلافة من بني العبّاس، وكان الفضل بن سهل يطوي ذلك عن المأمون ويبالغ في اخفائه حذرا من أن يتغيّر رأي المأمون فيه وفي أخيه. ولما جاء هرثمة للمأمون وعلم أنه يخبره بذلك وأنّ المأمون يثق بقوله، أحكم السعاية فيه عند المأمون حتى تغيّر له فقتله ولم يصغ إلى كلامه، فازدادت نفرة الشيعة وأهل بغداد وكثرت الفتن وتحدث القوّاد في عسكر المأمون بذلك، ولم يقدروا على إبلاغه، فجاءوا إلى عليّ الرضا وسألوه إنهاء ذلك إلى المأمون، فأخبره بما في العراق من الفتنة والقتال، وأنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي فقال المأمون: إنما جعلوه أميرا يقوم بأمرهم! فقال: ليس كذلك وإنّ الحرب الآن قائمة بين ابن سهل وبينه، وإنّ الناس ينقمون عليك مكان الفضل والحسن ومكاني وعهدك لي، فقال له المأمون: ومن يعلم هذا غيرك؟ فقال يحيى بن معاذ وعبد العزيز ابن عمران وغيرهما من وجوه قوّادك. فاستدعاهم فكتموا حتى استأمنوا إليه ثم أخبروه بما أخبره به الرضا، وأنّ الناس بالعراق يتّهمونه بالرفض لعهده لعلي الرضا وأنّ طاهر ابن الحسين مع علم أمير المؤمنين ببلائه قد دفع إلى الرقّة وضعف أمره، والبلاد تفتّقت من كل جانب، وإن لم يتدارك الأمر ذهبت الخلافة منهم. فاستيقن المأمون ذلك وأمر بالرحيل واستخلف على خراسان غسّان بن عبّاد وهو ابن عم الفضل بن سهل، وعلم الفضل بن سهل بذلك فشرع في عقاب أولئك القوّاد فلم يغنه. ولما نزل المأمون شرحبيل وثب بالفضل أربعة نفر فقتلوه في الحمام وهربوا، وجعل المأمون جعلا لمن جاء بهم، فجاء بهم العبّاس بن الهيثم الدينَوَريّ. فلما حضروا عند المأمون قالوا له: أنت أمرتنا بقتله! وقيل بل اختلفوا في القول فقال بعضهم: أمرنا بقتله ابن أخيه، وقال آخرون بل عبد العزيز بن عمران من القوّاد وعلي وموسى وغيرهم، وأنكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 آخرون. فأمر المأمون بقتلهم وقتل من أقرّوا عليه من القوّاد، وبعث إلى الحسن بن سهل وسار إلى العراق. وجاءه الخبر بأنّ الحسن بن سهل أصابته الماليخوليا واختلط فبعث دينارا مولاه ووكّله بأمور العسكر وكان إبراهيم بن المهدي وعيسى بالمدائن وأبو البطّ وسعيد بالنيل والحرب متصلة بينهم. والمطّلب بن عبد الله بن مالك قد اعتلّ بالمدائن فرجع إلى بغداد وجعل يدعو إلى المأمون سرّا وإلى خلع إبراهيم وأن يكون منصور بن المهدي خليفة للمأمون وداخله في ذلك خزيمة بن خازم وغيره من القوّاد. وكتب إلى عليّ بن هشام وحميد أن يتقدّما فنزل حميد نهر صرصر وعليّ النهروان، وعاد إبراهيم بن المهدي من المدائن إلى بغداد منتصف صفر، وقبض على منصور وخزيمة ومنع المطّلب مواليه، فأمر إبراهيم بنهب داره ولم يظفر، ونزل حميد وعلي بن هشام المدائن وأقاما بها. وزوّج المأمون في طريقه ابنته من علي الرضا وبعث أخاه إبراهيم بن موسى الكاظم على الموسم، وولّاه اليمن وكان به حمدويه بن عليّ ابن عيسى بن ماهان قد غلب عليه. ولما نزل المأمون مدينة طوس مات عليّ الرضا فجأة آخر صفر من سنة ثلاث من عنب أكله، وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل بذلك، وإلى أهل بغداد وشيعته يعتذر من عهده إليه، وأنه قد مات ويدعوهم إلى الرجوع لطاعته. ثم سار إلى جرجان وأقام بها أشهرا وعقد على جرجان لرجاء بن أبي الضحّاك قاعدا وراء النهر، ثم عزله سنة أربع وعقد لغسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن سهل على خراسان وجرجان وطبرستان وسجستان وكرمان وروبان ودهارير، ثم عزله بطاهر كما نذكره. ثم سار إلى النهروان فلقيه أهل بيته وشيعته والقوّاد ووجوه الناس وكان قد كتب إلى طاهر أن يوافيه بها، فجاء من الرقّة ولقيه هنالك. وسار المأمون فدخل بغداد منتصف صفر من سنة أربعة فنزل الرصافة ثم نزل قصره بشاطئ دجلة، وبقي القوّاد في العسكر وانقطعت الفتن وبقي الشيعة يتكلّمون في لبس الخضرة، وكان المأمون قد أمر طاهر بن الحسين أن يسأل حوائجه فأوّل شيء سأل لبس السواد فأجابه، وقعد للناس وخلع عليه وعليهم الثياب السود واستقامت الأمور [1] كانت الفتنة قد وقعت بالموصل بين بني شامة وبني ثعلبة وكان علي بن الحسن الهمدانيّ متغلبا عليها في قومه فاستجارت ثعلبة بأخيه محمد فأمرهم بالخروج إلى البرية ففعلوا، وتبعهم بنو شامة في ألف رجل وحاصروهم بالقوجاء   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 357: وذلك لسبع بقين من صفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 ومعهم بنو ثعلب، وبعث علي ومحمد إليهم بالمدد فقتلوا جماعة من بني شامة وأسروا منهم، ومن بني ثعلب، فجاء أحمد بن عمر بن الخطّاب الثعلبي إلى عليّ فوادعه وسكنت الفتنة. ثم إنّ عليّ بن الحسين سطا بمن كان في الموصل من الأزد عسفا في الحكم عليهم، وقال لهم يوما: ألحقوا بعمان. فاجتمعت الأزد إلى السيد بن أنس كبيرهم وقاتلوه. وكان في تلك النواحي مهدي بن علوان من الخوارج فادخله عليّ ابن الحسين وبايعه وصلّى بالناس، واشتدّت الحرب. ثم كانت اصرا [1] على عليّ وأصحابه وأخرجهم الأزد عن البلد إلى الحديثة ثم اتبعوهم فقتلوا عليّا وأخاه أحمد في جماعة، ولجأ محمد إلى بغداد وملك السيد بن أنس والأزد الموصل وخطب للمأمون. ولما قدم المأمون بغداد وفد عليه السيّد بن أنس فشكاه محمد بن الحسين بن صالح واستعداءه عليه بقتل أخويه وقومه، فقال: نعم يا أمير المؤمنين! أدخلوا الخارجي بلدك وأقاموه على منبرك وأبطلوا دعوتك فأهدر المأمون دماءهم. ولاية طاهر على خراسان ووفاته كان المأمون بعد وصوله إلى العراق قد ولّى طاهر بن الحسين الجزيرة والشرطة بجانبي بغداد والسواد، ودخل عليه يوما في خلوته فأذن له بالجلوس وبكى ففداه. فقال المأمون أبكي لأمر ذكره ذلّ وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن، وقضى طاهر حديثه وانصرف. وكان حسين الخادم حاضرا فدسّ إليه على يد كاتبه محمد بن هارون أن يسأل المأمون عن مكاتبته على مائة ألف درهم ومثلها للكاتب، وخلا حسين بالمأمون وسأله ففطن وقال له: إنّ الثناء مني ليس برخيص، والمعروف عندي ليس بضائع فعيبي عن غير المأمون [2] . فأجابه وركب إلى المأمون وفاوضه في أمر خراسان وأنها يخشى عليها من الترك وأنّ غسّان بن عبّاد ليس بكفء لها. فقال: لقد فكّرت في ذلك فمن ترى يصلح لها؟ قال: طاهر بن الحسين قال: هو خالع، قال: أنا ضامنه. فاستدعاه وعقد له من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق من حلوان إلى خراسان، وعسكر من يومه خارج بغداد وأقام شهرا تحمل إليه كل يوم عشرة آلاف ألف درهم عادة صاحب خراسان. وولّى المأمون مكانه بالجزيرة ابنه عبد الله، وكان   [1] الإصر: الكسر. [2] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 361: « ... فركب طاهر إلى احمد بن أبي خالد فقال له: ان الثناء مني ليس برخيص، وان المعروف عندي ليس بضائع، فغيّبني عن عينه (أي عين المأمون) » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 ينوب عن أبيه بالشرطة، فحملها إلى ابن عمه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وخرج إلى عمله ونزل الرقّة لقتال نصر بن شيث. ثم سار طاهر إلى خراسان آخر ذي القعدة سنة خمس ومائتين. وقيل في سبب ولاية طاهر خراسان أنّ عبد الرحمن المطوّع جمع جموعا كثيرة بنيسابور لقتال الحروريّة، ولم يستأذن غسّان بن عبّاد وهو الوالي على خراسان، فخشي أن يكون ذلك من المأمون فاضطرب وتعصّب له الحسن بن سهل. وخشي المأمون على خراسان فولّى طاهرا وسار إلى خراسان فأقام بها إلى سنة سبع، ثم اعتزم على الخلاف وخطب يوما فأمسك عن الدعاء للمأمون ودعا بصلاح الأمّة، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون بخلعه، فدعا بأحمد بن أبي خالد فقال: أنت ضمنته! فسر وائتني به ثم جاء من الغد الخبر بموته فقال المأمون للبريد ونعم الحمد للَّه الّذي قدّمه وأخّرنا، وولّى طلحة من قبله وبعث إليه المأمون أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره فعبر أحمد إلى ما وراء النهر وافتتح أشر وسنة وأسر كاووس بن خالد حدّد وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون ووهب طلحة لأحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألف ألف ولمكاتبته خمسمائة ألف درهم. ثم خالف الحسين بن الحسين بن مصعب بكرمان فسار إليه أحمد بن أبي خالد وأتى به إلى المأمون فعفا عنه. ولاية عبد الله بن طاهر الرقة ومصر ومحاربته نصر بن شيث وفي سنة ست ومائتين بلغ الخبر بوفاة يحيى بن معاذ عامل الجزيرة، وأنه استخلف ابنه أحمد، فولّى المأمون عبد الله بن طاهر مكانه وجعل له ما بين الرقّة ومصر، فأمره بحرب نصر بن شيث وقيل ولّاه سنة خمس، وقيل سنة سبع، واستخلف على الشرطة ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب وهو ابن عمّه، وكتب إليه أبو طاهر كتابا بالوصية جمع فيه محاسن الآداب والسياسة ومكارم الأخلاق، وقد ذكرناه في مقدّمة كتابنا، فسار عبد الله بن طاهر لذلك وبعث الجيوش لحصار نصر ابن شيث بكيسوم في نواحي جانب، ثم سار إليه بنفسه سنة تسع ومائتين، وأخذ بمخنقه. وبعث إليه المأمون محمد بن جعفر العامري يدعوه إلى الطاعة، فأجاب على شرط أن لا يحضر عنده. فتوقف المأمون وقال: ما باله ينفر مني؟ فقال أبو جعفر: لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 تقدّم من ذنبه. فقال: أفتراه أعظم ذنبا من الفضل بن الربيع وقد أخذ جميع ما أوصى له به الرشيد من الأموال والسلاح وذهب مع القوّاد إلى أخي، وأسلمني وأفسد عليّ حتى كان ما كان، ومن عيسى بن أبي خالد وقد خالف عليّ ببلدي وأخرب داري، وبايع لإبراهيم دوني فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين هؤلاء لهم سوابق ودالّة يبقون بها، ونصر ليست له في دولتكم سابقة وإنما كان من جند بني أمية، وأنا لا أجيب إلى هذا الشرط، ولحّ نصر في الخلاف حتى جهده الحصار واستأمن فأمّنه عبد الله بن طاهر وخرج إليه سنة عشرة وبعث به إلى المأمون وأخرب حصن كيسوم لخمس سنين من حصاره ورجع عبد الله بن طاهر إلى الرقّة ثم قدم بغداد سنة إحدى عشرة فتلقّاه العبّاس بن المأمون والمعتصم وسائر الناس. الظفر بابن عائشة وبإبراهيم بن المهدي كان إبراهيم بن محمد بن عبد الوهّاب بن إبراهيم الإمام ويعرف بابن عائشة ممن تولّى كبر البيعة لإبراهيم بن المهدي ومعه إبراهيم بن الأغلب ومالك بن شاهين وكانوا قد اختفوا عند قدوم المأمون في نواحي بغداد. ولما وصل نصر بن شيث وخرجت النظارة أنفذوا للخروج في ذلك اليوم ثم غلبهم بعض الناس فأخذوا في صفر من سنة عشرة، ثم ضربوا حتى أقرّوا على من كان معهم في الأمر فلم يعرض لهم المأمون وحبسهم فضاق عليهم المحبس وأرادوا أن ينقبوه، فركب المأمون بنفسه وقتلهم وصلب ابن عائشة ثم صلّى عليه ودفنه. ثم أخذ في هذه السنة إبراهيم بن المهدي وهو متنقب في زيّ امرأة يمشي بين امرأتين واستراب به بعض العسس وقال أين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت في يده فازداد ريبة ورفعهنّ إلى صاحب المسلحة، وجاء بهنّ إلى صاحب الجسر فذهب به إلى المأمون، وأحضره والغل في عنقه والملحبة [1] على صدره ليراه بنو هاشم والناس. ثم حبسه عند أحمد بن أبي خالد، ثم أخرجه معه عند ما سار الحسن بن سهل ليغنم الصلح، فشفع فيه الحسن وقيل ابنته بوران، وقيل إنّ إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار المعتصم وكان عند المأمون فأدخله عليه وأنّبه فيما كان منه. واعتذر بمنظوم من الكلام ومنثور أتى فيه من وراء الغاية وهو منقول في كتب التاريخ فلا نطيل بنقله.   [1] الملحبة: كل ما يقطع به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 انتقاض مصر والاسكندرية كان السريّ بن محمد بن الحكم واليا على مصر وتوفي سنة خمس ومائتين، وبقي ابنه عبد الله، فانتقض وخلع الطاعة وأنزل بالإسكندرية جالية من الأندلس أخرجهم الحكم بن هشام من ربضي قرطبة وغرّبهم إلى المشرق. ولما نزلوا بالإسكندرية ثاروا وملكوها وولّوا عليهم أبا حفص عمر البلوطي. وفشل عبد الله بن طاهر عنهم بمحاربة نصر بن شيث، فلما فرغ منه ثار من الشام إليهم، وقدّم قائدا من قوّاده ولقيه ابن السريّ وقاتله وأغذّ ابن طاهر المسير فلحقهم وهم في القتال، وانهزم ابن السريّ إلى مصر وحاصره عبد الله بن طاهر حتى نزل على الأمان، وذلك سنة عشرة. ثم بعث إلى الجالية الذين ملكوا الاسكندرية بالحرب، فسألوا الأمان على أن يرتحلوا إلى بعض الجزائر في بحر الروم مما يلي الاسكندرية ففعل. ونزلوا جزيرة أقريطش واستوطنوها وأقامت في مملكة المسلمين من أعقابهم دهرا إلى أن غلب عليها الإفرنجة. العمّال بالنواحي لما استقرّ المأمون ببغداد وسكن الهيج وذلك سنة أربع، ولّى على الكوفة أخاه أبا عيسى، وعلى البصرة أخاه صالحا، وعلى الحرمين عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب، وعلى الموصل السيّد بن أنس الأزدي، وولّى على الشرطة ببغداد ومعاون السواد طاهر بن الحسين استقدمه من الرقّة، وكان الحسن بن سهل ولّاه عليها فقدم واستخلف ابنه عبد الله عليها. ثم ولّاه المأمون سنة خمس خراسان وأعمال المشرق كلّها واستقدم ابنه عبد الله فجعله على الشرطة ببغداد مكان أبيه. وولّى يحيى بن معاذ على الجزيرة وعيسى بن محمد بن أبي خالد على أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. ومات عامل مصر السري بن محمد بن الحكم فولّى ابنه عبيد الله مكانه. ومات داود بن يزيد عامل السند فولّى بشر بن داود مكانه على أن يحمل ألف ألف درهم كل سنة. ثم مات يحيى بن معاذ سنة ست واستخلف ابنه أحمد فعزله المأمون وولّى مكانه عبد الله بن طاهر وضاف إليه مصر، وسيّره لمحاربة نصر بن شيث وولّى عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزطّ سنة خمس، ثم عزله سنة ست وولّى داود بن منحور [1] مع أعمال البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين، وولّى   [1] داود بن ماسحور: ابن الأثير ج 6 ص 379، وفي الطبري ج 10 ص 258 داود بن ماسجور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 في سنة سبع محمد بن حفص على طبرستان والرويان ودنباوند. وفيها أوقع السيد بن أنس بجماعة من عرب بني شيبان ووديعة بما فشا من إفسادهم في البلاد، فكبسهم بالدسكرة واستباحهم بالقتل والنهب. وفي سنة تسع ولّى صدقة بن عليّ ويعرف بزريق على أرمينية وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك، وقام بأمره أحمد بن الجنيد الاسكافي فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل أذربيجان. وكان على جبال طبرستان شهريار بن شروين فمات سنة عشر وقام مكانه ابنه سابور، فقتله مازيار بن قارن في حرب أسره فيها وملك جبال طبرستان وفي سنة إحدى عشرة قتل زريق بن عليّ بن صدقة الأزدي السيد بن أنس صاحب الموصل، وقد كان زريق تغلّب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان وولّاه المأمون عليها، فجمع وقصد الموصل لحرب السيد فخرج إليه أربعة آلاف فاشتدّ القتال بينهم وقتل السيد في المعركة فغضب المأمون لقتله، وولّى محمد بن حميد الطوسي على الموصل وأمره بحرب زريق وبابك الخرّمي فسار إلى الموصل واستولى عليها سنة اثنتي عشرة. ومات موسى بن حفص عامل طبرستان فولّى المأمون مكانه ابنه، وولّى حاجب بن صالح على الهند فوقعت بينه وبين بشر بن داود صاحب السند حرب، وانهزم بشر إلى كرمان ثم قتل محمد بن حميد الطوسي سنة أربع عشرة قتله بابك الخرّمي وذلك أنه لما فرغ من أمر المتغلبين بالموصل سار إلى بابك في العساكر الكاملة الحشد وتجاوز إليه المضايق ووكل بحفظها حتى انتهى إلى الجبل، فصعد وقد أكمن بابك الرجال في الشعراء فلما جاز ثلاثة فراسخ خرجت عليهم الكمائن فانهزموا وثبت محمد بن حميد حتى إذا لم يبق معه إلّا رجل واحد فتسلل يطلب النجاة فعثر في جماعة من الحربية يقاتلون طائفة من أصحابه فقصدوه وقتلوه، وعظم ذلك على المأمون واستعمل عبد الله بن طاهر على خراسان لأنه كان بلغه أن أخاه طلحة بن طاهر مات وقام عليّ أخوه مكانه خليفة لعبد الله، وعبد الله بالدينور يجهّز العساكر إلى بابك فولّى على نيسابور محمد بن حميد فكثر عيث الخوارج بخراسان فأمره المأمون بالمسير إليها فسار ونزل نيسابور وسأل عن سيرة محمد بن حميد فسكتوا فعزله لسكوتهم وفي سنة اثنتي عشرة خلع أحمد بن محمد العمريّ، يعرف بالأحمر العين باليمن، فولّى المأمون ابنه العبّاس على الجزيرة والثغور والعواصم وأخاه أبا إسحاق المعتصم على الشام ومصر وسيّر عبد الله بن طاهر إلى خراسان وأعطى لكل واحد منهم خمسمائة ألف درهم، وبعث المعتصم أبا عميرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 الباذغيسي عاملا على مصر فوثب به جماعة من القيسية واليمانية فقتلوه سنة أربع عشرة، فسار المعتصم إلى مصر فقاتلهم وافتتح مصر وولّى عليها واستقامت الأمور. وفي سنة ثلاث عشرة ولّى المأمون غسّان بن عبّاس على السند لما بلغه خلاف بشر بن داود. وفي سنة أربع عشرة استقدم المأمون أبا دلف وكان بالكرخ من نواحي همذان منذ سار مع عيسى بن ماهان لحرب طاهر، وقتل عيسى فعاد إلى همذان وراسله طاهر يدعوه إلى البيعة فامتنع. وقال له ولا أكون مع أحد وأقام بالكرخ. فلما خرج المأمون إلى الريّ أرسل إليه يدعوه فسار نحوه وجلا بعد أن أغرى عليه أصحابه الامتناع. وفي سنة أربع عشرة قتل باليمن. وفيها ولّى المأمون عليّ بن هشام الجبل وقمّ وأصبهان وأذربيجان وخلع أهل قم وكانوا سألوا الحطيطة من خراجهم وهو ألف ألف درهم لأنّ المأمون لما جاء من العراق أقام بالريّ أياما وخفّف عنهم من الخراج فطمع أهل قم في مثلها فأبى فامتنعوا من الأداء فسرّح إليهم عليّ بن هشام وعجيف بن عنبسة وظفروا بهم وقتلوا يحيى بن عمران وهدموا سورها وجبوها على سبعة آلاف ألف. وفي سنة ست عشرة ظهر عبدوس الفهريّ بمصر وقتل بعض عمّال المعتصم، فسار المأمون إلى مصر وأصلحها وأتى بعبدوس فقتله وقدم من برقة وأقام بمصر وفيها غضب المأمون على علي بن هشام ووجّه عجيفا وأحمد بن هشام لقبض أمواله وسلامه لما بلغه من عسفه وظلمه وأراد قتل عجيف واللحاق ببابك فلم يقدر وظفر به عجيف وجاء به إلى المأمون فأمر بقتله وطيف برأسه في الشام والعراق وخراسان ومصر ثم ألقي في البحر. وقدم غسّان بن عبّاد من السند ومعه بشر بن داود مستأمنا، فولّى على السند عمران بن موسى العكيّ وهرب جعفر بن داود القمي إلى قم فخلع وكان محبوسا بمصر منذ عزله المأمون عن قمّ فهرب الآن وخلع فغلبه عليّ بن عيسى القميّ وبعث به إلى المأمون فقتل. الصوائف وفي سنة مائتين قتل الروم ملكهم إليون لسبع سنين ونصف من ملكه، وأعادوا ميخاييل بن جرجس المخلوع، وبقي عليهم تسع سنين. ثم مات سنة خمس عشرة وملك ابنه نوفل وفتح عبد الله بن حرداويه والي طبرستان البلاد والسيرن من بلاد الديلم وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون وأسرا ياليل ملك الديلم وذلك سنة إحدى ومائتين. وفيها ظهر بابك الخرّمي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 الجاوندانيّة أصحاب جاوندان سهل، وتفسيره الدائم الباقي وتفسير خرم فرح، وكانوا يعتقدون مذاهب المجوس وفي سنة أربع عشرة خرج أبو بلال الصابي الشاري، فسرّح إليه المأمون ابنه العبّاس في جماعة من القوّاد وقتلوه. وفي سنة خمس عشرة دخل المأمون بلاد الروم بالصائفة وسار عن بغداد في المحرّم واستخلف عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وهو ابن عم طاهر، وولّاه السواد وحلوان وكور دجلة، ولما وصل تكريت لقيه محمد بن عليّ الرضا فأجازه وزفّ إليه ابنته أمّ الفضل، وسار إلى المدينة فأقام بها وسار المأمون على الموصل إلى منبج ثم دابق، ثم أنطاكية ثم المصيصة وطرطوس. ودخل من هناك فافتتح حصن قرّة عنوة وهدمه. وقيل بل فتحه على الأمان، وفتح قبله حصن ماجد كذلك. وبعثه أشناس إلى حصن سدس، ودخل ابنه العبّاس ملطية ووجه المأمون عجيفا وجعفر الخيّاط إلى حصن سنان فأطاع. وعاد المعتصم من مصر فلقي المأمون قبل الموصل، ولقيه العبّاس ابنه برأس عين. وجاء المأمون منصرفه من العراق إلى دمشق، ثم بلغه أنّ الروم أغاروا على طرطوس والمصيصة وأثخنوا فيهم بالقتل. وكتب إليه ملك الروم فيه بنفسه فرجع إليهم وافتتح كثيرا من معاقلهم وأناخ على هرقلة حتى استأمنوا وصالحوه، وبعث المعتصم فافتتح ثلاثين حصنا منها مطمورة، وبعث يحيى بن أكثم فأثخن في البلاد وقتل وحرق وسبى. ثم رجع المأمون إلى كيسوم فأقام بها يومين ثم ارتحل إلى دمشق. وفي سنة سبع عشرة رجع المأمون إلى بلاد الروم فأناخ على لؤلؤة فحاصرها مائة يوم، ثم رحل عنها وخلّف عجيفا على حصارها. وجاء نوفل ملك الروم فأحاط به فبعث إليه المأمون بالمدد فارتحل نوفل واستأمن أهل لؤلؤة إلى عجيف، وبعث نوفل في المهادنة والمأمون على سلوين فلم يجبه. ثم رجع المأمون سنة ثمان عشرة وبعث ابنه العبّاس إلى بناء طوانة فبنى بها ميلا في ميل ودورها أربعة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب ونقل إليها الناس من البلدان. وفاة المأمون وبيعة المعتصم ثم مرض المأمون على نهر البربرون واشتدّ مرضه ودخل العراق وهو مريض فمات بطرسوس وصلّى عليه المعتصم وذلك لعشرين سنة من خلافته، وعهد لابنه المعتصم وهو أبو إسحاق محمد فبويع له بعد موته، وذلك منتصف رجب من سنة ثمان عشرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 ومائتين. وشغب الجند وهتفوا باسم العبّاس بن المأمون فأحضره وبايع فسكتوا وخرّب لوقته ما كان بناه من مدينة طوانة وأعاد الناس إلى بلادهم وحمل ما أطاق حمله من الآلة وأحرق الباقي. ظهور صاحب الطالقان وهو محمد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ زين العابدين بن الحسين، كان ملازما للمسجد بالمدينة فلزمه شيطان من أهل خراسان وزيّن له أنه أحق بالإمامة، وصار يأتيه بحجّاج خراسان يبايعونه. ثم خرج به إلى الجوزجان وأخفاه وأقبل على الدعاء له، ثم حمله على إظهار الدعوة للرضا من آل محمد على عادة الشيعة في هذا الإبهام كما قدّمناه. وواقعه قوّاد عبد الله بن طاهر بخراسان المرّة بعد المرّة فهزموه وأصحابه، وأخرج ناجيا بنفسه ومرّ بنسا، فوشي به إلى العامل فقبض عليه وبعثه إلى عبد الله بن طاهر، فبعثه إلى المعتصم منتصف ربيع أوّل سنة تسع عشرة، فحبسه عند الخادم مسرور الكبير، ووكّل بحفظه فهرب من محبسه ليلة الفطر من سنته ولم يوقف له على خبر. حرب الزط ّ وهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد وولّوا عليهم رجلا منهم اسمه محمد بن عثمان، وقام بأمره آخر منهم اسمه سماق. وبعث المعتصم لحربهم في هذه السنة عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة فسار إلى واسط وحاربهم، فقتل منهم في معركة ثلاثمائة وأسر خمسمائة، ثم قتلهم وبعث برءوسهم إلى باب المعتصم وأقام قبالتهم سبعة أشهر. ثم استأمنوا إليه في ذي الحجة آخر السنة وجاءوا بأجمعهم في سبعة وعشرين ألفا، المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا فعبّاهم عجيف في السفن على هيئتهم في الحرب ودخل بهم بغداد في عاشوراء سنة عشرين، وركب المعتصم إلى الشماسة في سفينة حتى رآهم، ثم غرّبهم إلى عين زربة فأغارت عليهم الروم فلم يفلت منهم أحد. بناء سامرا كان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحرف بمصر وسمّاهم المطاربة وقوما من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 سمرقند وأشر وسنّة وفرغانة وسمّاهم الفرغانة، وأكثر من صبيانهم، وكانوا يركضون الدواب في الطرق ويختلفون بها ركضا، فيصدمون النساء والصبيان فتتأذى العامة بهم، وربما انفرد بعضهم فقتلوه وتأذى الناس من ذلك ونكروه وربما أسمعوا النكير للمعتصم، فعمد إلى بناء القاطون، وكانت مدينة بناها الرشيد ولم يستتمها وخربت، فجدّدها المعتصم وبناها سنة عشرين وسماها سرّ من رأى فرخّمها الناس سامرا وسارت دارا لملكهم من لدن المعتصم ومن بعده واستخلف ببغداد حتى انتقل إليها ابنه الواثق. نكبة الفضل بن مروان كان للمعتصم في ولاية أخيه كاتب يعرف بيحيى الجرمقاني [1] ، واتصل به الفضل بن مروان وهو من البردان، وكان حسن الخط. فلما هلك الجرمقاني استكتبه المعتصم وسار معه إلى الشام فأثرى. ولما استخلف المعتصم استولى على هواه واستتبع الدواوين واحتجر الأموال ثم صار يرد أوامر المعتصم في العطايا ولا ينفّذها، واختلفت فيه السعايات عند المعتصم ودسّوا عليه عنده من ملأ مجلسه ومساخره من يعيّر المعتصم باستبداده عليه وردّ أوامره فحقد له ذلك. ثم نكبه سنة عشرين وصادره وجميع أهل بيته، وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات وغرّب الفضل إلى بعض قرى الموصل [2] قد تقدّم لنا حديث بابك الخرّمي (محاربة بابك الخرمي) وظهوره سنة اثنتين ومائتين بدعوة جاوندان بن سهل، واتّخذ مدينة البرّ [3] لامتناعه وولى المأمون حروبه، فهزم عساكره وقتل جماعة من قوّاده وخرب الحصون فيما بين أردبيل وزنجان، فلما ولي المعتصم بعث أبا سعيد محمد بن يوسف فبنى الحصون التي خرّبها وشحنها بالرجال والأقوات، وحفظ السابلة لجلب الميرة. وبينما هو في ذلك أغارت بعض سرايا بابك بتلك النواحي فخرج في طلبهم واستنقذ ما أخذوه، وقتل كثيرا وأسر أكثر، وبعث بالرءوس والأسرى إلى المعتصم. وكان ابن البعيث أيضا في قلعة له حصينة من كور أذربيجان ملكها من يد   [1] الجرمقاني: ابن الأثير ج 6 ص 453. [2] بياض في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 454: «فنفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل تعرف بالسنّ وصار محمد وزيرا كاتبا.» [3] وفي نسخة اخرى مدينة البذّ (وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 457.) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 ابن الرواد، وكان يصانع بابك ويضيف سراياه إذا مرّوا به. ومرّ به في هذه الأيام قائده عصمة، وأضافه على العادة، ثم قبض عليه وقتل أصحابه وبعث به إلى المعتصم، فسأله عن عورات بلاد بابك فدلّه عليها. ثم حبسه وعقد لقائده الأفشين حيدر بن كاوس على الجبال، ووجّهه لحرب بابك، فسار إليها ونزل بساحتها وضبط الطرقات ما بينه وبين أردبيل، وأنزل قوّاده في العساكر ما بينه وبين أردبيل يتلقّون الميرة من أردبيل من واحد إلى الآخر حتى تصل عسكر الأفشين. وكان إذا وقع بيده أحد من جواسيس بابك يسأله عن إحسان بابك إليه فيضاعفه ويطلقه. ثم إنّ المعتصم بعث بغا الكبير بمدد الأفشين بالنفقات وسمع بابك فاعتزم على اعتراضه وأخبر الأفشين بذلك بعض جواسيسهم، فكتب إلى بغا أن يرتحل من حصن النهر قيلا [1] ثم يرجع إلى أردبيل ففعل ذلك. وجاءت الأخبار إلى بابك وركب الأفشين في يوم مواعدته لبغا واغذّ المسير، وخرجت سريّة بابك فلقيت قافلة النهر ولم يصادفوا بغا فيها فقتلوا من وجدوا فيها من الجند وفاتهم المال. ولقوا في طريقهم الهيثم من قوّاد الأفشين فهزموه وامتنع بحصنه، ونزل بابك عليه يحاصره وإذا بالأفشين قد وصل، فأوقع بهم وقتل الكثير من جنده، ونجا بابك إلى موقان وأرسل إلى عسكره في البرّ فلحقت به، وخرج معهم من موقان إلى البذّ. ولما رجع الأفشين إلى عسكره استمرّ على حصار بابك وانقطعت عنه الميرة من سائر النواحي، ووجه صاحب مراغة إليه ميرة فلقيتها سرية من سرايا بابك فأخذوها، ثم خلص إليه بغا بما معه من المال ففرّقه في العساكر، وأمر الأفشين قوّاده فتقدّموا ليضيّقوا الحصار على بابك في حصن البذّ، ونزل على ستة أميال منه. وسار بغا الكبير حتى أحاط بقرية البذّ وقاتلهم وقتلوا منهم جماعة فتأخر إلى خندق محمد بن حميد من القوّاد، وبعث إلى الأفشين في المدد، فبعث إليه أخاه الفضل وأحمد بن الخليل بن هشام وأبا خوس وصاحب شرطة الحسن بن سهل، وأمره بمناجزتهم إلى الحرب في يوم عيّنه له، فركبوا في ذلك اليوم، وقصدوا البذّ وأصابهم برد شديد ومطر، وقاتل الأفشين فغلب من بإزائه من أصحاب بابك واشتدّ عليهم المطر فنزلوا واتخذ بغا دليلا أشرف به على جبل يطل منه على الأفشين ونزل عليهم الثلج والضباب فنزلوا منازلهم. وعمد بابك إلى الأفشين ففضّ معسكره وضجر أصحاب بغا من مقامهم في رأس الجبل فارتحل بهم ولا يعلم   [1] هو اسم الحصن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 ما تمّ على الأفشين، وقصد حصن البذّ فتعرّف خبر الافشين ورجع على غير الطريق الّذي دخلوا منه لكثرة مضايقه وعقباته وتبعته طلائع بابك فلم يلتفت إليهم مسابقة للمضايق أمامه. وأجنهم الليل وخافوا على أثقالهم وأموالهم فعسكر بهم بغا من رأس جبل وقد تعبوا وفنيت أزوادهم وبيّتهم بابك ففضهم ونهبوا ما كان معهم من المال والسلاح ونجوا إلى خندقهم الأوّل في أسفل الجبل وأقام بغا هنالك. وكان طرخان كبير قوّاد بابك قد استأذنه أن يشتوا بقرية في ناحية مراغة، فأرسل الأفشين إلى بعض قوّاده بمراغة فأسرى إليه وقتله وبعث برأسه. ودخلت سنة اثنتين وعشرين فبعث المعتصم جعفر الخيّاط بالعساكر مددا للأفشين، وبعث إتياخ بثلاثين ألف ألف درهم لنفقات الجند فأرسلها وعاد، ورحل الأفشين لأوّل فصل الربيع، ودنا من الحصن وخندق على نفسه. وجاءه الخبر بأنّ قائد بابك واسمه أدين [1] قد عسكر بإزائه وبعث عياله إلى بعض حصون الجبل، فبعث الأفشين بعض قوّاده لاعتراضهم فسلكوا مضايق وتملّقوا وأغاروا إلى أن لقوا العيال فأخذوهم وانصرفوا، وبلغ الخبر أدين فركب لاعتراضهم وحاربهم واستنقذ بعض النساء. وعلم بشأنهم الأفشين من علامات كان أمرهم بها إن رأى بهم ريبا فركب إليهم فلما أحسوا به فرجوا عن المضيق ونجا القوم، وتقدّم الأفشين قليلا قليلا إلى حصن البذّ وكان يأمر الناس بالركوب ليلا للحراسة خوف البيات فضجر الناس من التعب وارتاد في رءوس تلك الجبال أماكن يتحصّن فيها الرجالة فوجد ثلاثة فأنزل فيها الرجالة بأزوادهم وسدّ الطرق إليها بالحجارة وأقام يحاصرهم. وكان يصلّي الصبح بغلس، ثم يسير زحفا ويضرب الطبول الناس لزحفه في الجبال والأودية على مصافهم، وإذا أمسك وقفوا وكان إذا أراد أن يتقدّم المضيق الّذي أتى منه عام أوّل خلّف به عسكرا على رأس العقبة يحفظونه لئلا يأخذه الحرسة منه عليهم. وكان بابك متى زحفوا عليه كمن عسكرا تحت تلك العقبة، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان الكمين فلم يطق وكان يأمر أبا سعيد وجعفرا لخيّاط وأحمد بن الخليل بن هشام فيتقدّمون إلى الوادي في ثلاثة كراديس، ويجلس على تلك ينظر إليهم وإلى قصر بابك ويقف بابك قبالته في عسكر قليل وقد أكمن بقية العسكر فيشربون الخمر ويلعبون بالسرياني، فإذا صلّى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذالروذ مصافا بعد مصاف، الأقرب إلى العدوّ ثم الّذي يليه،   [1] آذين: ابن الأثير ج 6 ص 461. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وآخرين ترجع العسكر الّذي عقبه المضيق حتى ضجرت الخرّمية من المطاولة، وانصرف بعض الأيام وتأخر جعفر فخرج الخرّمية من البذّ على أصحابه فردّهم جعفر على أعقابهم، وارتفع الصياح ورجع الأفشين وقد نشبت الحرب. وكان مع أبي دلف من أصحاب جعفر قوم من المطوعة فضيقوا على أصحاب بابك وكانوا يصدعون البذّ، وبعث جعفر إلى الأفشين يستمدّه خمسمائة راجل من الناشبة فأتى له وأمره بالتحيّل في الانصراف، وتعلق أولئك المطّوعة بالبذّ وارتفع الصياح وخرج الكمناء من تحت العقبة، وتبين الأفشين أماكنهم واطّلع على خدعتهم. وانصرف جعفر إلى الأفشين وعاتبه فاعتذر إليه يستأمن الكمين وأراه مكانه، فانصرف عن عتابه وعلم أنّ الرأي معه. وشكا المطوعة ضيق العلوفة والزاد فأذن لهم في الانصراف وتناولوه بألسنتهم، ثم طلبوه في المناهضة فأذن لهم ووادعهم ليوم معلوم، وجهّز وحمل المال والزاد والماء والمحامل لجرجان، وتقدّم إلى مكانه بالأمس وجهّز العسكر على العقبة على عادته، وأمر جعفرا بالتقدّم بالمطوعة وأن يأتوا من أسهل الوجوه وأطلق يده بمن يريده من الناشبة والنفاطين، وتقدّم جعفر إلى مكانه بالأمس والمتطوعة معه، فقاتلوا وتعلّقوا بسور البذّ حتى ضرب جمعهم ما به وجاء الفعلة بالفئوس وطيف عليهم بالمياه والأزودة ثم جاء الخرّمية من الباب وكسروا على المطوعة وطرحوهم على السور ورموهم بالحجارة فنالت منهم وضعفوا عن الحرب، ثم تحاجزوا آخر يومهم وأمرهم الافشين بالانصراف وداخلهم اليأس من الفتح تلك السنة، وانصرف أكثر المطوعة. ثم عاود الأفشين الحرب بعد أسبوعين وبعث من جوف الليل ألفا من الناشبة إلى الجبل الّذي وراء البذّ حتى يعاينوا الأفشين من هذه الناحية فيرمون على الخرّمية. وبعث عسكرا آخر كمينا تحت ذلك الجبل الّذي وراء البذّ، وركب هو من الغداة إلى المكان الّذي يقف فيه على عادته. وتقدّم جعفر الخيّاط والقوّاد حتى صاروا جميعا حول ذلك الجبل، فوثب كمين بابك من أسفل الجبل بالعسكر الّذي جاء إليه لما فضحهم الصبح، وانحدر الناشبة من الجبل وقد ركّبوا الأعلام على رماحهم، وقصدوا جميعا أدين قائد بابك في جفلة، فانحدر إلى الوادي، فحمل عليه جماعة من أصحاب القوّاد فرمى عليهم الصخور من الجبل وتحدّرت إليهم ولما رأى ذلك بابك استأمن للأفشين على أن يحمل عياله من البذّ، وبينما هم في ذلك إذ جاء الخبر إلى الأفشين بدخول البذّ، وأنّ الناس صعدوا بالأعلام فوق قصور بابك حتى دخل واديا هنالك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 وأحرق الأفشين قصور بابك وقتل الخرّمية عن آخرهم، وأخذ أمواله وعياله، ورجع إلى معسكره عند المساء، وخالفه بابك إلى الحصن فحمل ما أمكنه من المال والطعام وجاء الأفشين من الغد فهدم القصور وأحرقها وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم بإذكاء العيون عليه في نواحيهم حتى يأتوه به، ثم عثر على بابك بعض العيون في واد كثير الغياض يمرّ من أذربيجان إلى أرمينية فبعث من يأتي به فلم يعثروا عليه لكثرة الغياض والشجر. وجاء كتاب المعتصم بأمانه فبعث به الأفشين بعض المستأمنة من أصحاب بابك فامتنع من قبوله. وقتل بعضهم، ثم خرج من ذلك الوادي هو وأخوه عبد الله ومعاوية وأمّه يريدون أرمينية، ورآهم الحرس الذين جاءوا لأخذه وكان أبو السفاح هو المقدّم عليهم فمرّوا في اتباعهم وأدركوهم على بعض المياه، فركب ونجا وأخذ أبو السفاح معاوية وأمّ بابك وبعث بهم إلى الأفشين وسار بابك في جبال أرمينية مختفيا وقد أذكوا عليه العيون حتى إذا مسّه الجوع بعث بعض أصحابه بدنانير لشراء قوتهم فعثر به بعض المسلحة. وبعث إلى سهل بن ساباط [1] فجاء واجتمع بصاحب بابك الّذي كانت حراسة الطريق عليه، ودلّه على بابك فأتاه وخادعه حتى سار إلى حصنه وبعث بالخبر إلى الأفشين فبعث إليه بقائدين من قبله وأمرهما بطاعة ابن ساباط، فأكمنهما في بعض نواحي الحصن وأغرى بابك بالصيد وخرج معه فخرج القائدان من الكمين فأخذاه وجاء به إلى الأفشين ومعهما معاوية بن سهل بن ساباط فحبسه ووكّل بحفظه وأعطى معاوية ألف درهم، وآتى سهلا ألف ألف درهم ومنطقة مفرّقة بالجوهر. وبعث إلى عيسى بن يوسف بن أسطقانوس [2] ملك البيلقان يطلب منه عبد الله أخا بابك، وقد كان لجأ إلى حصنه عند ما أحاط به ابن ساباط فأنفذه إليه، وحبسه الأفشين مع أخيه. وكتب إلى المعتصم فأمره بالقدوم بهما وذلك في شوّال من سنة اثنتين وعشرين، وسار الأفشين بهما إلى سامرا فكان يلقاه في كل رحلة رسول من المعتصم بخلعة وفرس. ولما قرب من سامرا تلقّاه الواثق وكبّر لقدومه وأنزل الأفشين وبابك عنده بالمطيرة، وتوّج الأفشين وألبسه وشاحين ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف درهم يفرّقها في عسكره، وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين. وجاء أحمد ابن أبي داود إلى بابك متنكرا وكلّمه، ثم جاء المعتصم أيضا   [1] سهل بن سنباط: ابن الأثير ج 6 ص 473. [2] عيسى بن يونس بن اصطفانوس: المرجع السابق ص 474. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 متنكّرا فرآه. ثم عقد من الغد واصطف النظارة سماطين وجيء ببابك راكبا على فيل، فلما وصل أمر المعتصم بقطع أطرافه ثم بذبحه، وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب شلوه بسامراء وبعث بأخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد ليفعل به مثل ذلك ففعل. وكان الّذي أنفق الأفشين في مدّة حصاره لبابك سوى الأرزاق والأنزال والمعاون عشرة آلاف ألف درهم يوم ركوبه لمحاربته، وخمسة آلاف يوم قعوده. وجميع من قتل بابك في عشرين سنة أيام قتيبة مائة ألف وخمسة وخمسين ألف [1] ، وهزم من القوّاد يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد ابن الجنيد وزريق بن عليّ بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث. وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة والّذي استنقذ من يديه من المسلمات وأولادهنّ سبعة آلاف وستمائة إنسان جعلوا في حظيرة، فمن أتى من أوليائهم وأقام بيّنة على أحد منهم أخذه، والّذي صار في يد الأفشين من بني بابك وعياله سبعة عشر رجلا وثلاثا وعشرين امرأة. فتح عمّورية وفي سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل [2] ملك الروم إلى بلاد المسلمين، فأوقع بأهل زبطرة، لأنّ بابك لما أشرف على الهلاك كتب إليه أنّ المعتصم قد وجّه عساكره حتى خيّاطه يعني جعفر بن دينار وطبّاخه يعنى إيتاخ ولم يبق عنده أحد، فانتهز الفرصة ثلاثا أو دونها. وظنّ بابك أنّ ذلك يدعو المعتصم إلى إنفاذ العساكر لحرب الروم، فيخفّ عنه ما هو فيه، فخرج نوفل في مائة ألف وفيهم من المجمّرة [3] الذين كانوا خرجوا بالجبال وهزمهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلحق بالروم، وبلغ زبطرة فاستباحها قتلا وسبيا وأعاد على ملطية وغيرها، ومثّل بالأسرى. وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه وبلغه أنّ هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وا معتصماه! فأجاب وهو على سريره لبيك، لبيك! ونادى بالنفير ونهض من ساعته فركب دابته واحتقب شكالا وسكة من حديد فيها رداؤه. وجمع العساكر وأحضر قاضي بغداد عبد الرحمن بن إسحاق ومعه ابن سهل في ثلاثمائة   [1] وفي الكامل ج 6 ص 478: مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمس مائة إنسان» . [2] توفيل بن ميخائيل. ابن الأثير ج 6 ص 479. [3] المحمّرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 وثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من الضياع، ثلثا لولده وثلثا لمواليه، وثلثا لوجه الله. وسار فعسكر بقرى دجلة لليلتين من جمادى الأولى وبعث عجيف بن عنبسة وعمر الفرغانيّ وجماعة من القوّاد مددا لأهل زبطرة، فوجدوا الروم قد ارتحلوا عنها فأقاموا حتى تراجع الناس واطمأنوا. ولما ظفر ببابك سأل أيّ بلاد الروم أعظم عندهم فقيل له عمّورية، فتجهّز إليها بما لا يماثله أحد قبله من السلاح والآلة والعدد، وحياض الأدم والقرب والروايا وجعل مقدّمته أشناس، وبعده محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى الميمنة إيتاخ، وعلى الميسرة جعفر بن دينار الخيّاط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة، وجاء إلى بلاد الروم فأقام بسلوقيّة على نهر السنّ قريبا من البحر، وعلى مسيرة يوم من طرطوس [1] وبعث الأفشين إلى سروج وأمره بالدخول من درب الحرث [2] وبعث أشناس من درب طرطوس وأمره بانتظاره بالصفصاف، وقدّم وصيفا في أثر أشناس وواعدهم يوم اللقاء. ورحل المعتصم لست بقين من رجب. وبلغه الخبر أنّ ملك الروم عازم على كبس مقدمته فبعث إلى أشناس بذلك وأن يقيم ثلاثة أيام ليلحق به. ثم كتب إليه أن يبعث إليه من قوّاده من يأتيه بخبر الروم وملكهم فبعث عمر الفرغاني في مائتي فارس، فطاف في البلاد وأحضر جماعة عند أشناس أخبروه بأنّ ملك الروم بينما هو ينتظر المقدمة ليواقعها إذ جاءه الخبر بأنّ العساكر دخلت من جهة أرمينية [3] يعني عسكر الأفشين، فاستخلف ابن خاله على عسكره وسار إلى تلك الناحية فوجه أشناس بهم إلى المعتصم. وكتب المعتصم إلى الأفشين بالمقام حذرا عليه وجعل لمن يوصل الكتاب عشرة آلاف درهم، وأوغل في بلاد الروم فلم يدركه الكتاب. وكتب المعتصم إلى أشناس بأن يتقدّم والمعتصم في أثره حتى إذا كانوا على ثلاث مراحل من أنقرة أسر أشناس في طريقه جماعة من الروم فقتلهم، وقال لهم شيخ منهم: أنا أدلك على قوم هربوا من أنقرة معهم الطعام والشعيرة فبعث معه مالك بن كرد [4] في خمسمائة فارس فدلّ بهم إلى مكان أهل أنقرة فغنموا منهم ووجدوا فيهم جرحى قد حضروا وقعة ملك الروم مع الأفشين، وقالوا: لما استخلف على عسكره سار إلى ناحية أرمينية فلقينا   [1] طرسوس: ابن الأثير ج 6 ص 481. [2] درب الحدث: ابن الأثير ج 6 ص 481. [3] الارمذياق: ابن الأثير ج 6 ص 481. [4] مالك بن كيدر: ابن الأثير ج 6 ص 482. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 المسلمين صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجالهم وافترقت عساكرنا في طلبهم، ثم رجعوا بعد الظهر فقاتلونا وحرقوا عسكرنا وفقدنا الملك وانهزمنا، ورجعنا إلى العسكر فوجدناه قد انتقض وجاء الملك من الغد فقتل نائبة الّذي استخلفه، وكتب إلى بلاده بعقاب المنهزمين ومواعدتهم بمكان كذا ليلقى المسلمين بها. ووجّه خصيّا له إلى أنقرة ليحفظها فوجد أهلها قد أجلوا فأمره الملك بالمسير إلى عمّورية، فوعى مالك ابن كرد خبرهم ورجع بالغنيمة والأسرى إلى أشناس وأطلق الأمير الّذي دلّه. وكتب أشناس بذلك إلى المعتصم ثم جاء البشير من ناحية الأفشين بالسلامة، وأنّ الوقعة كانت لخمس بقين من شعبان. وقدم الأفشين على المعتصم بأنقرة ورحل بعد ثلاث والأفشين في ميمنته وأشناس في ميسرته وهو في القلب، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمرهم بالتخريب والتحريق ما بين أنقرة وعمّورية. ثم وافى عمّورية وقسّمها على قوّاده، وخرج إليه رجل من المنتصرة فدلّه على عورة من السور بني ظاهره وأخلّ باطنه فضرب المعتصم خيمته قبالته ونصبت عليه المجانيق، فتصدّع السور. وكتب بطريقها باطيس [1] والخصي إلى الملك يعلمانه بشأنهما في السور وغيره، فوقع في يد المسلمين مع رجلين. وفي الكتاب أنّ باطيس عازم على أن يخرج ليلا ويمرّ بعسكر المسلمين ويلحق بالملك فنادى المعتصم حرسه، ثم انثلمت فوهة من السور بين برجين وقد كان الخندق طمّ بأوعية الجلود المملوءة ترابا ثم ضرب بالذبالات [2] عليها فدحرجها الرجال إلى السور فنشبت في تلك الأوعية وخلص من فيها بعد الجهد. ولما جاء من الغد بالسلالم والمنجنيقات فقاتلوهم على تلك الثلمة وحارب وبدر بالحرب أشناس وجمعت المنجنيقات على تلك الثلمة وحارب في اليوم الثاني الأفشين والمعتصم راكب إزاء الثلمة، وأشناس وأفشين وخواص الخدّام معه. ثم كانت الحرب في اليوم الثالث على المعتصم وتقدّم اتياخ [3] بالمغاربة والأتراك واشتدّ القتال على الروم إلى الليل وفشت فيهم الجراحات، ومشى بطريق تلك الناحية إلى رؤساء الروم، وشكا إليهم واستمدّهم فأبوا. فبعث إلى المعتصم يستأمن فأمّنه وخرج من الغد إلى المعتصم وكان اسمه وبدوا [4] فبينما هو والمعتصم يحادثه أومأ عبد الوهاب   [1] ناطيس: ابن الأثير ج 6 ص 485. [2] لعلها الدبابات كما في الكامل ج 6 ص 485. [3] ايتاخ: ابن الأثير ج 6 ص 487. [4] وندوا: ابن الأثير ج 6 ص 487. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 ابن علي من بين يديه إلى المسلمين بالدخول فافتتحوا من الثلمة ورآهم وبدوا فخاف فقال له المعتصم: كل شيء تريده هو لك. ودخل المسلمون المدينة وامتنع الروم بكنيستهم وسطها فأحرقها المسلمون عليهم. وامتنع باطيس البطريق في بعض أبراجها حتى استنزله المعتصم بالأمان، وجاء الناس بالأسرى والسبي من كل جانب، واصطفى الأشراف وقتل من سواهم وبيعت مغانمهم في خمسة أيام وأحرق الباقي. ووثب الناس على المغانم في بعض الأيام ينهبونها فركب المعتصم وسار نحوهم فكفئوا بعمورية فهدمت وأحرقت وحاصرها خمسة وخمسين يوما من سادس رمضان إلى آخر شوّال، وفرّق الأسرى على القوّاد ورجع نحو طرطوس [1] . ولم يزل نوفل مملكا على الروم إلى أن هلك سنة تسع وعشرين ومائتين في ولاية الواثق، ونصبوا ابنه ميخاييل في كفالة أمّه ندورة فأقامت عليهم ست سنين ثم اتهمها ابنها ميخاييل بقمط من أقماطها عليها وألزمها بيتها سنة ثلاث وثلاثين. حبس العباس بن المأمون ومهلكه كان المعتصم يقدّم الأفشين على عجيف بن عنبسة ولما بعثه إلى زبطرة لم يطلق يده في النفقات كما أطلق للأفشين وكان يستقصر شأن عجيف وأفعاله، فطوى عجيف على النكث ولقي العباس بن المأمون فعذله على قعوده عند وفاة المأمون عن الأمر حتى بويع المعتصم وأغراه قبلا في ذلك فقبل العباس منه، ودسّ رجلا من بطانته يقال له السّمرقندي قرابة عبد الله بن الوضّاح وكان له أدب ومداراة فاستأمن له جماعة من القوّاد ومن خواص المعتصم فبايعوه وواعد كل واحد منهم أن يثب بالقائد الّذي معه فيقتله من أصحاب المعتصم والأفشين وأشناس بالرجوع إلى بغداد فأبى من ذلك وقال: لا أفسد العراق. فلما فتحت عمّورية وصعب التدبير بعض الشيء أشار عجيف بأن يضع من ينهب الغنائم فإذا ركب المعتصم وثبوا به ففعلوا مثل ما ذكرنا. وركب فلم يتجاسروا عليه. وكان للفرغاني قرابة غلام أمرد في جملة المعتصم فجلس مع ندمان الفرغاني تلك الليلة وقص عليهم ركوب المعتصم فأشفق الفرغاني وقال يا بني أقلل من المقام عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، وإن سمعت هيعة فلا   [1] طرسوس: ابن الأثير ج 6 ص 487. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 تخرج فأنت غلام غرّ. ثم ارتحل المعتصم إلى الثغور وتغيّر أشناس على عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل وأساء عليهما فطلبا من المعتصم أن يضمّهما إلى من شاء وشكيا من أشناس فقال له المعتصم أحسن أدبهما فحبسهما وحملهما على بغل، فلما صار بالصفصاف حدّث الغلام ما سمع من قريبه عمر الفرغاني فأمر بغا أن يأخذه من عند أشناس ويسأله عن تأويل مقالته فأنكر وقال إنه كان سكران، فدفعه إلى إتياخ. ثم دفع أحمد بن الخليل إلى أشناس [1] عنده نصيحة للمعتصم وأخبره خبر العبّاس بن المأمون والقوّاد والحرث السّمرقندي فأنفذ أشناس إلى الحرث وقيّده وبعث به إلى المعتصم، وكان في المقدمة فأخبر الحرث المعتصم بجلية الأثر فأطلقه وخلع عليه، ولم يصدقه على القواد لكثرتهم. ثم حضر العبّاس بن المأمون واستحلفه أن لا يكتم عنه شيئا فشرح له القصة فحبسه عند الأفشين وتتبع القوّاد بالحبس والتنكيل وقتل منهم المشاء بن سهيل [2] ثم دفع العبّاس للأفشين، فلما نزل منبج طلب الطعام فأطعم ومنع الماء. ثم أدرج في نبج [3] فمات. ولما وصل المعتصم إلى نصيبين احتفر لعمر الفرغاني بئرا وطمت عليه، ولما دخلوا بلاد الموصل قتل عجيف بمثل ما قتل به العبّاس واستلحم جميع القوّاد في تلك الأيام وسمّوا العبّاس اللعين. ولما وصل إلى سامرا جلس أولاد المأمون في داره حتى ماتوا. انتقاض مازيار وقتله كان مازيار بن قارن بن وندا هرمز [4] صاحب طبرستان وكان منافرا لعبد الله بن طاهر فلا يحمل إليه الخراج وقال: لا أحمله إلا للمعتصم فيبعث المعتصم من يقبضه من أصحابه ويدفعه إلى وكيل عبد الله بن طاهر يردّه إلى خراسان. وعظمت الفتنة بين مازيار وعبد الله وعظمت سعاية عبد الله في مازيار عند المعتصم حتى استوحش منه. ولما ظفر الأفشين ببابك وعظم محله عند المعتصم وطمع في ولاية خراسان ظن أنّ انتقاض مازيار وسيلة لذلك فجعل يستميل مازيار ويحرّضه على عداوة ابن طاهر وإن   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 491: «وسار المعتصم، فأنفذ احمد بن الخليل إلى أشناس يقول له: ان عندي نصيحة لأمير المؤمنين.» [2] الشاه بن سهل: ابن الأثير ج 6 ص 492. [3] في مسح: ابن الأثير ج 6 ص 492. [4] مازيار بن قارن بن ونداد هرمز: ابن الأثير ج 6 ص 495. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 أدّت إلى الخلاف ليبعثه المعتصم لحربه فيكون ذلك وسيلة له إلى استيلائه على خراسان ظنّا بأنّ ابن طاهر لا ينهض لمحاربته. فانتقض مازيار وحمل الناس على بيعته كرها وأخذ رهائنهم وعجّل جباية الخراج فأستكثر منه وخرّب سور آمد وسور سابة [1] وفتل [2] أهلها إلى جبل يعرف بهرمازا بارونى [3] وسرخاشان سور طمس منها إلى البحر على ثلاثة أميال وهي على حد جرجان وكانت تبنيه سدّا بين الترك وطبرستان [4] وجعل عليه خندقا ومن أهل جرجان إلى نيسابور، وأنفذ عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين في جيش كثيف لحفظ جرجان، فعسكر على الخندق، ثم بعث مولاه حيّان بن جبلة إلى قومس فعسكر على جبال شروين، وبعث المعتصم من بغداد محمد بن إبراهيم بن مصعب وبعث منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري، وبعث ابا الساج إلى دنباوند وأحاطت العساكر بحياله من كل ناحية، وداخل أصحاب الحسن بن الحسين أصحاب سرخاشان [5] في تسليم سورهم وليس بينهما إلا عرض الخندق، فكلّموه وسار الآخرون إليه على حين غفلة من القائدين، وركب الحسن بن الحسين وقد ملك أصحابه السور ودخلوا منه فهرب سرخاشان وقبضوا على أخيه شهريار فقتل. ثم قبض على سرخاشان على خمسة فراسخ من معسكره وجيء به إلى الحسن بن الحسين فقتله أيضا. ثم وقعت بين حيّان بن جبلة وبين فارق بن شهريار [6] وهو ابن أخي مازيار ومن قوّاده، مداخلة استمالت حيّان، فأجاب أن يسلّم مدينة سارية إلى حد جرجان على أن يملّكوه جبال آبائه، وبعث حيّان إلى ابن طاهر فسجل لقارن بما سأل، وكان قارن في جملة عبد الله بن قارن أخي مازيار ومن قوّاده فأحضر جميعهم لطعامه وقبض عليهم، وبعث بهم إلى حيّان فدخل جبال قارن في جموعه واعتصم [7] لذلك مازيار، وأشار عليه أخوه القوهيار أن يخلّي سبيل من عنده من أصحاب ينزلون من الجبل إلى مواطنهم لئلا يؤتى من قبلهم، فصرف   [1] وأمر بتخريب سور آمل، وسور سارية، وسور طميس، فخرّبت الأسوار: ابن الأثير ج 6 ص 496. [2] لعلها ونقل أهلها. [3] هرمزاباذ: ابن الأثير ج 6 ص 496. [4] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 496: «وبنى سرخاستان سورا من طميس إلى البحر، مقدار ثلاثة أميال، كانت الاكاسرة بنته لتمنع الترك من الغارة على طبرستان.» [5] سرخاستان: ابن الأثير ج 6 ص 496. [6] قارن بن شهريار: ابن الأثير ج 6 ص 498. [7] مقتضى السياق واغتمّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 صاحب شرطته وخراجه وكاتبه حميدة، فلحقوا بالسهل ووثب أهل سارية بعامله عليهم مهرستان بن شهرين فهرب ودخل حيّان سارية. ثم بعث قوهيار أخو مازيار محمد بن موسى بن حفص عامل طبرستان وكانوا قد حبسوه عند انتقاضهم، فبعثه إلى حيّان ليأخذ له الأمان وولاية جبال آبائه على أن يسلم إليه مازيار، وعذل قوهيار بعض أصحابه في عدو له بالاستئمان عن الحسن إلى حيّان فرجع إليهم وكتبوا إلى الحسن يستدعونه قوهيار من أخيه مازيار [1] فركب من معسكره بطمس وجاء لموعدهم ولقي حيّان على فرسخ فردّه إلى جبال شروين التي افتتحها، ووبخه على غيبته عنها فرجع الى سارية وتوفي، وبعث عبد الله مكانه بن الحسين بن مصعب وعهد إليه أن لا يمنع قارن ما يريده، ولما وصل الحسن إلى خرّم آباذ وسط جبال مازيار لقيه قوهيار هنالك، واستوثق كل منهما من صاحبه، وكاتب محمد بن إبراهيم ابن مصعب من قوّاد المعتصم قوهيار بمثل ذلك، فركب قاصدا إليه، وبلغ الحسن خبره فركب في العسكر وحازم يسابق محمد بن إبراهيم إلى قوهيار فسبقه ولقي قوهيار وقد جاء بأخيه مازيار فقبض عليه وبعثه مع اثنين من قوّاده إلى خرّم آباذ ومنها إلى مدينة سارية. ثم ركب واستقبل محمد بن إبراهيم بن مصعب وقال: أين تريد؟ فقال: إلى المازيار فقال هو بسارية، ثم حبس الحسن أخوي المازيار ورجع إلى مدينة سارية فقيّد المازيار بالقيد الّذي قيّد به محمد بن محمد بن موسى بن حفص، وجاء كتاب عبد الله بن طاهر بأن يدفع المازيار وأخويه وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم يحملهم إلى المعتصم. وسأل الحسن المازيار عن أمواله فذكر أنها عند قوم من وجوه سارية سمّاهم وأمر الحسن القوهيار بحمل هذه الأموال، وسار إلى الجبل ليحملها، فوثب به مماليك المازيار من الديلم وكانوا ألفا ومائتين فقتلوه بثأر أخيه وهربوا إلى الديلم، فاعترضتهم جيوش محمد بن إبراهيم وأخذوهم فبعث بهم إلى مدينة سارية. وقيل إنّ الّذي غدر بالمازيار ابن عمّ له كان يتوارث جبال طبرستان والمازيار يتوارث سهلها، وكانت جبال طبرستان ثلاثة أجبل فلما انتقض واحتاج إلى الرجال دعا ابن عمه من السهل وولّاه على أصعبها وظنّ أنه قد توثق به فكاتب هو الحسن وأطلعه على مكاتبة الأفشين لمازيار وداخله [2] في الفتك على أن يولّيه ما كان لآبائه، وأنّ المازيار   [1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 500: «وكتب احمد بن الصقر ومحمد بن موسى بن حفص الى الحسن بن الحسين وهو بطميس: أن أقدم علينا لندفع إليك مازيار والخيل وإلّا فاتك ... » [2] داخله: شاوره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 لما ولّاه الحسن بن سهل طبرستان انتزع الجبل من يده فأفضى له الحسن كتاب ابن طاهر وتوثق له فيه، وأوعده ليوم معلوم ركب فيه الحسن إلى الجبل فأدخله ابن عمّ مازيار وحاصروه حتى نزل على حكمه. ويقال أخذه أسيرا في الصيد. ومضى الحسن به ولم يشعر صاحب الجبل الآخر وأقام في قتاله لمن كان بإزائه فلم يشعر إلّا والعساكر من ورائه فانهزم، ومضى إلى بلاد الديلم فأتبعوه وقتلوه. ولما صار المازيار في يده طلبت منه كتب الأفشين فأحضرها، وأمر ابن طاهر أن يبعث بها معه إلى المعتصم، فلما وصل إلى المعتصم ضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك وذلك سنة أربع وعشرين. ولاية ابن السيد على الموصل وفي سنة أربع وعشرين ولّى المعتصم على الموصل عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي وكان سبب ولايته أنّ رجلا من مقدّمي الأكراد يعرف بجعفر بن فهرجس كان قد عصى بأعمال الموصل، وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم، وأفسدوا البلاد فبعث المعتصم لحربه عبد الله بن السيد بن أنس فقاتله وغلبه [1] وأخرجه منها بعد أن كان استولى عليها ولحق بجبل دانس وامتنع بأعاليه، وقاتله عبد الله وتوغّل في مضايق ذلك الجبل، فهزمه الأكراد وأثخنوا في أصحابه بالقتل، وقتل إسحاق بن أنس عم عبد الله فبعث المعتصم مولاه إتياخ في العساكر إلى الموصل سنة خمس وعشرين وقصد جبل داسن فقاتل جعفرا وقتله وافترق أصحابه، وأوقع بالأكراد واستباحهم وفروا أمامه إلى تكريت. نكبة الأفشين ومقتله كان الأفشين من أهل اشروسنة تبوّأها ونشأ ببغداد عند المعتصم وعظم محلّه عنده ولما حاصر بابك كان يبعث إلى أشر وسنة بجميع أمواله، فيكتب ابن طاهر بذلك إلى المعتصم، فيأمره المعتصم بأن يجعل عيونه عليه في ذلك. وعثر مرّة ابن طاهر على تلك الأموال فأخذها وصرفها في العطاء، وقال له حاملوها: هذا مال الأفشين، فقال: كذبتم لو كان ذلك لأعلمني أخي أفشين به، وإنما أنتم لصوص، وكتب إلى   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 506: وكان جعفر بمانعيس قد استولى عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 الأفشين بذلك بأنه دفع المال إلى الجند ليوجّههم إلى الترك فكتب إليه أفشين مالي ومال أمير المؤمنين واحد، وسأله في إطلاق القوم فأطلقهم واستحكمت الوحشة بينهما وتتابعت السعاية فيه من طاهر، وربما فهم الأفشين أن المعتصم يعزله عن خراسان فطمع في ولايتها، وكان مازيار يحسن له الخلافة ليدعو المعتصم ذلك إلى عزله وولاية الأفشين لحرب مازيار. فكان من أمر مازيار ما ذكرناه وسيق إلى بغداد مقيّدا، وولّى المعتصم الأفشين على أذربيجان فولّى عليها من قبله منكجور من بعض قرابته فاستولى على مال عظيم لبابك. وكتب به صاحب البريد إلى المعتصم فكذّبه منكجور وهمّ بقتله، فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم، وسمع ذلك المعتصم فأمر الأفشين بعزل منكجور وبعث قائدا في عسكره مكانه، فخلع منكجور وخرج من أردبيل فهزمه القائد ولحق ببعض حصون أذربيجان كان بابك خرّبه، فأصلحه وتحصّن فيه شهرا ثم وثب فيه أصحاب وأسلموه إلى القائد، فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم واتّهم الأفشين في أمره وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين بأنّ القائد كان بغا الكبير وأنه خرج إليه بالأمان انتهى ولما أحس الأفشين بتغير المعتصم أجمع أمره على الفرار واللحاق بأرمينية، وكانت في ولايته ويخرج منها إلى بلاد الخزر ويرجع إلى بلاد أشر وسنّة، وصعب عليه ذلك بمباشرة المعتصم أمره فأراد أن يتّخذ لهم صنيعا يشغلهم فيه نهارهم، ثم يسير من أوّل الليل. وعرض له في أثناء ذلك غضب على بعض مواليه وكان سيّئ الملكة فأيقن مولاه بالهلكة، وجاء إلى إتياخ فأحضره إلى المعتصم وخبّره الخبر فأمره بإحضاره وحبسه بالجوسق، وكان ابنه الحسن عاملا على بعض ما وراء النهر فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال عليه، وكان يشكو من نوح بن أسد صاحب بخارى. فكتب ابن طاهر إلى الحسن بولاية بخارى وكتب إلى نوح بذلك وأن يستوثق منه إذا وصل إليه ويبعث به، ثم يبعث به إلى ابن طاهر، ثم إلى المعتصم. ثم أمر المعتصم بإحضار الأفشين ومناظرته فيما قيل عنه، فأحضر عند الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيّات وعنده القاضي أحمد بن أبي دواد وإسحاق بن إبراهيم وجماعة القوّاد والأعيان، وأحضر المازيار من محبسه والمؤيد والمرزبان بن تركش [1] أحد ملوك الصغد، ورجلان من أهل الصغد يدّعيان أنّ الأفشين ضربهما وهما إمام ومؤذن بمسجد. فكشفا عن ظهورهما وهما عاريان من   [1] الموبذ، والمرزبان بن بركش: ابن الأثير ج 6 ص 513. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 اللحم، فقال ابن الزيات للأفشين: ما بال هذين؟ قال: عهدا إلى معاهدين فوثبا على بيت أصنامهم فكسراها، واتخذ البيت مسجدا فعاقبتهما على ذلك. وقال ابن الزيات: ما بال الكتاب المحلى بالذهب والجوهر عندك وفيه الكفر؟ وقال: كتاب ورثته من آبائي وأوصوني بما فيه من آدابهم فكنت آخذها منه وأترك كفرهم، ولم أحتج إلى نزع حلبته، وما ظننت أنّ مثل هذا يخرج عن الإسلام. ثم قال المؤيد أنه يأكل لحم المخنقة ويحملني على أكلها ويقول: هو أرطب من لحم المذبوحة! ولقد قال لي يوما حملت على كل مكروه لي حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، إلى هذه الغاية لم أختتن ولم تسقط عني شعرة العانة. فقال الأفشين: أثقة هذا عندكم في دينه؟ وكان مجوسيّا قالوا: لا! قال: فكيف تقبلونه عليّ؟ ثم قال للمؤيد: أنت ذكرت أني أسررت إليك ذلك، فلست بثقة في دينك ولا بكريم في عهدك ثم قال له المرزبان: كيف يكاتبك أهل أشر وسنّة؟ قال: ما أدري! قال: أليس يكاتبونك بما تفسّره بالعربي إلى إله الآلهة من عبده فلان؟ قال: بلى! فقال ابن الزيات: فمات أبقيت لفرعون؟ قال هذه عادة منهم لأبي وجدّي ولي قبل الإسلام، ولو منعتهم لفسدت عليّ طاعتهم. ثم قال له: أنت كاتبت هذا وأشار إلى المازيار. كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لن ينصر هذا الدين غيري وغيرك وغير بابك، فأما بابك فقد قتل نفسه بجمعه، ولقد عهدت أن أمنعه فأبى إلّا خنقه، وأنت إن خالفت لم يرمك القوم بغيري ومعي أهل النجدة، وإن توجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا العرب والمغاربة والترك، والعربيّ كلب تناوله لقمة وتضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك لهم صدمة ثم تجول الخيل جولة فتأتي عليهم، ويعود هذا الدين إلى ما كان عليه أيام العجم. فقال الأفشين: هذا يدعى أن أخي كتب إلى أخيه فما يجب عليّ؟ ولو كتب فأنا أستميله مكرا به لأحظى عند الخليفة كما حظي به ابن طاهر، فزجره ابن أبي دؤاد فقال له الأفشين: ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة فقال: أمتطهّر أنت؟ قال: لا! قال: فما يمنعك وهو شعار الإسلام؟ قال: خشيت على نفسي من قطعه! قال: فكيف وأنت تلقى الرماح والسيوف؟ قال تلك ضرورة أصبر عليها وهذا أستجلبه. فقال ابن أبي دؤاد لبغا الكبير: قد بان لكم أمره يا بغا عليك به. فدفعه بيديه وردّه إلى محبسه، وضرب مازيار أربعمائة سوط فمات منها، وطلب أفشين من المعتصم أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 ينفذ إليه من يثق به، فبعث حمدون بن إسماعيل فاعتذر له عن جميع ما قيل فيه وحمل إلى دار إتياخ فقتل بها وصلب على باب العامة، ثم أحرق وذلك في شعبان من سنة ست وعشرين، وقيل قطع عنه الطعام والشراب حتى مات. ظهور المبرقع كان هذا المبرقع يعرف بأبي حرب اليماني وكان بفلسطين، وأراد بعض الجند النزول في داره فمنعه بعض النساء فضربها الجندي، وجاء فشكت إليه بفعل الجندي، فسار إليه وقتله، ثم هرب إلى جبال الأردن فأقام به واختفى ببرقع على وجهه وصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعيب الخليفة ويزعم أنه أموي، واجتمع له قوم من تلك الناحية وقالوا: هو السفياني ثم أجابه جماعة من رؤساء اليمانية منهم ابن بهيس [1] وكان مطاعا في قومه وغيره فاجتمع له مائة ألف، وسرّح المعتصم رجاء بن أيوب في ألف من الجند فخام عن لقائه لكثرة من معه، وعسكر قبالته ينتظر أوان الزراعة وانصراف الناس عنه لأعمالهم. وبينما هم في الانصراف توفي المعتصم وثارت الفتنة بدمشق، فأمره الواثق بقتل من أثار الفتنة والعود إلى المبرقع، ففعل وقاتله فأخذه أسيرا وابن بهيس معه، وقتل من أصحابه عشرين ألفا وحمله وذلك سنة سبع وعشرين ومائتين. وفاة المعتصم وبيعة الواثق وتوفي المعتصم أبو إسحاق محمد بن المأمون بن الرشيد منتصف ربيع الأوّل سنة سبع وعشرين لثمان سنين وثمانية أشهر من خلافته، وبويع ابنه هارون الواثق صبيحته وتكنّى أبا جعفر. فثار أهل دمشق بأميرهم وحاصروه وعسكروا بمرج واسط [2] وكان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال المبرقع، فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة ومن أصحابه نحو ثلاثمائة، وصلح أمر دمشق، ورجع رجاء إلى قتال المبرقع حتى جاء به أسيرا [3] بيعة   [1] ابن بيهس: ابن الأثير ج 6 ص 522. [2] مرج راهط: ابن الأثير ج 6 ص 528. [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 9: «وفي هذه السنة (528) اعطى الواثق أشناس تاجا ووشاحين» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 الواثق توّجه أشناس ووشحه وكان للواثق سمر يجلسون عنده ويفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة واستبدادهم على الرشيد واحتجابهم الأموال فأغراه ذلك بمصادرة الكتاب فحبسهم وألزمهم الأموال. فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه، ومن سليمان بن وهب كاتب إتياخ أربعمائة ألف، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألفا، ومن إبراهيم بن رباح وكاتبه مائة ألف، ومن أبي الوزر مائة وأربعين ألفا وكان على اليمن إتياخ وولّاه عليها المعتصم بعد ما عزل جعفر بن دينار، وسخطه وحبسه ثم رضي عنه وأطلقه، فلما ولي الواثق ولّى إتياخ على اليمن من قبله سار بأميان، فسار إليها وكان الحرس إسحاق بن يحيى بن معاذ ولّاه المعتصم بعد عزل الأفشين، وولّى الواثق على المدينة سنة إحدى وعشرين محمد بن صالح بن العبّاس وبقي محمد بن داود على مكة، وتوفي عبد الله بن طاهر سنة ثلاثين وكان على خراسان وكرمان وطبرستان والري وكان له الحرب والشرطة والسواد فولّى الواثق على أعماله كلها ابنه طاهرا. وقعة بغا في الاعراب كان بنو سليم يفسدون بنواحي المدينة ويتسلّطون على الناس في أموالهم وأوقعوا بناس من كنانة وباهلة، وبعث محمد بن صالح إليهم مسلحة المدينة ومعهم متطوّعة من قريش والأنصار فهزمهم بنو سليم وقتلوا عامتهم وأحرقوا لباسهم وسلاحهم وكراعهم ونهبوا القرى ما بين مكّة والمدينة وانقطع الطريق، فبعث الواثق بغا الكبير، وقدم المدينة في شعبان فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم خمسين رجلا وأسر مثلها، واستأمنوا له على حكم الواثق، فقبض على ألف منهم ممن يعرف بالفساد فحبسهم بالمدينة وذلك سنة ثلاثين. ثم حجّ وسار إلى ذات عرق وعرض على بني هلال مثل بني سليم فأخذ من المفسدين منهم نحو ثلاثمائة رجل وحبسهم بالمدينة وأطلق الباقين. ثم خرج بغا إلى بني مرّة فنقب أولئك الأسرى الحبس وقتلوا الموكّلين، فاجتمع عليهم أهل المدينة ليلا ومنعوهم من الخروج فقاتلوهم إلى الصبح ثم قتلوهم، وشق ذلك على بغا وكان سبب غيبته أنّ فزارة وبني مرّة تغلبوا على فدك، فخرج إليهم وقدّم رجلا من قوّاده يعرض عليهم الأمان، فهربوا من سطوته إلى الشام واتّبعهم إلى تخوم الحجاز من الشام، وأقام أربعين ليلة ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر منهم. وجاءه قوم من بطون غفار وفزارة وأشجع وثعلبة فاستحلفهم على الطاعة ثم سار إلى بني كلاب فأتوه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 ثلاثة آلاف رجل فحبس أهل الفساد منهم ألفا بالمدينة وأطلق الباقين، وأمره الواثق سنة اثنين وثلاثين بالمسير إلى بني نمير باليمامة وما قرب منها لقطع فسادهم، فسار إليهم ولقي جماعة الشريف منهم فحاربهم وقتل منهم خمسين وأسر أربعين. ثم سار إلى مرّة وبعث إليهم في الطاعة فامتنعوا وساروا إلى جبال السند وطف اليمامة [1] وبعث سراياهم فأوقع بهم في كل ناحية ثم سار إليهم في ألف رجل فلقيهم قريبا من أضاخ فكشفوا مقدمته وميسرته وأثخنوا في عسكره بالقتل والنهب. ثم ساروا تحت الليل وهو في اتباعهم يدعوهم إلى الطاعة وبعث طائفة من جنده يدعون بعضهم وأصبح وهو في قلة، فحملوا عليه وهزموه إلى معسكره، وإذا بالطائفة الذين بعثهم قد جاءوا من وجهتهم فلما رآهم بنو نمير من خلفهم ولوا منهزمين وأسلموا رجالهم وأموالهم ونجوا على خيلهم ولم يفلت من رجالتهم أحد، وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة، وأقام بمكان الوقعة واستأمن له أمراؤهم فقيّدهم وحبسهم بالبصرة. وقدم عليه واجن الأشروسنيّ في سبعمائة مقاتل مددا فبعثه إلى اتباعهم إلى أن بلغ تبالة من أعمال اليمن ورجع، وسار بغا إلى بغداد بمن معه منهم وكانوا نحو ألفي رجل ومائتي رجل، وكتب إلى صالح أمير المدينة أن يوافيه ببغداد من عنده منهم فجاء بهم وسلّموا جميعا. مقتل أحمد بن نصر وهو أحمد بن مالك وهو أحد النقباء كما تقدّم وكان أحمد هذا نسيبة لأهل الحديث ويغشاه جماعة منهم مثل ابن حصين وابن الدورقي وأبي زهير، ولقّن منهم النكير على الواثق بقوله بخلق القرآن. ثم تعدّى ذلك إلى الشتم وكان ينعته بالخنزير والكافر، وفشا ذلك عنه وانتدب رجلان ممن كان يغشاه هما أبو هارون السرّاج وطالب وغيرهما فدعوا الناس له وبايعه خلق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرّقوا الأموال في الناس دينارا لكل رجل، وأنفذوا لثلاث تمضي من شعبان من سنة إحدى وثلاثين يظهرون فيها دعوتهم. واتفق أنّ رجالا ممن بايعهم من بني الأشرس جاءوا قبل الموعد بليلة وقد نال منهم السكر فضربوا الطبل وصاحب الشرطة إسحاق بن إبراهيم غائب، فارتاع خليفته محمد أخوه فأرسل من يسأل عن ذلك فلم يوجد [2]   [1] وسار بعضهم إلى جبال السّود، وهي خلف اليمامة: ابن الأثير ج 7 ص 27. [2] الصحيح: فلم يجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 أحد، وأتوه برجل أعور اسمه عيسى وجدوه في الحمّام فدلّهم على بني الأشرس وعلى أحمد بن نصر وعلى أبي هارون وطالب، ثم سيق خادم أحمد بن نصر فذكر القصة، فقبض عليه وبعث بهم جميعا إلى الواثق بسامراء مقيّدين، وجلس لهم مجلسا عامّا وحضر فيه أحمد بن أبي دؤاد، ولم يسأله الواثق عن خروجه وإنما سأله عن خلق القرآن فقال: هو كلام الله. ثم سأله عن الرؤية فقال: جاءت بها الأخبار الصحيحة ونصيحتي أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم سأل الواثق العلماء حوله عن أمره، فقال عبد الرحمن بن إسحاق قاضي الجانب الغربيّ: هو حلال الدّم! وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب. فدعا الواثق بالصمصامة فانتضاها ومشى إليه فضربه على حبل عاتقه ثم على رأسه، ثم وخزه في بطنه، ثم أجهز سيما الدمشقيّ عليه وحزّوا رأسه ونصب ببغداد وصلب شلوه عند بابها. الفداء والصائفة وفي سنة إحدى وثلاثين عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن مسلم بن قتيبة على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء هو وجانمان الخادم، وأمرهما أن تمتحن الأسرى باعتقاد القرآن والرؤية. وجاء الروم بأسراهم والمسلمون كذلك والتقوا على نهر اللامس على مرحلة من طرطوس [1] وكان عدّة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين والنساء والصبيان ثمانمائة وأهل الذمّة مائة. فلما فرغوا من الفداء غزا أحمد بن سعيد بن مسلم شاتيا وأصاب الناس ثلج ومطر وهلك منهم مائة نفس، وأسر منهم نحوها وخرق بالنبل قرون خلق، ولقيه بطريق من الروم فخام عن لقائه ثم غنم ورجع، فعزله الواثق وولّى مكانه نصر بن حمزة الخزاعي. وفاة الواثق وبيعة المتوكل وتوفي الواثق أبو جعفر هارون بن المعتصم محمد لست بقين من سنة اثنتين وثلاثين، وكانت علّته الاستسقاء وأدخل في تنور مسجر [2] فلقي خفة، ثم عاوده في اليوم الثاني أكثر من الأوّل فأخرج في محفّة فمات فيها، ولم يشعروا به. وقيل إن ابن أبي دؤاد غمّضه ومات لخمس سنين وتسعة أشهر من خلافته، وحضر في الدار أحمد بن أبي   [1] هي طرسوس. [2] مسخّن: ابن الأثير ج 7 ص 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 دؤاد وإتياخ [1] ووصيف وعمر بن فرح وابن الزيّات، وأراد البيعة لمحمد بن واثق وهو غلام إمّر [2] فألبسوه، فإذا هو قصير فقال وصيف: أما تتقون الله تولّون الخلافة مثل هذا! ثم تناظروا فيمن يولونه وأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة وعمّمه وسلّم عليه بامارة المؤمنين ولقبه المتوكل، وصلّى على الواثق ودفنه. ثم وضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وولّى على بلاد فارس إبراهيم بن محمد بن مصعب، وكان على الموصل غانم بن محمد الطويس فأقرّه وعزل ابن العبّاس محمد بن صول عن ديوان النفقات وعقد لابنه المنتصر على الحرمين واليمن والطائف. نكبة الوزير ابن الزيات ومهلكه كان محمد بن عبد الملك بن الزيّات قد استوزره الواثق فاستمكن من دولته وغلب على هؤلاء، وكان لا يحفل بالمتوكل ولا يوجب حقّه، وغضب الواثق عليه مرّة فجاء إلى ابن الزيّات ليستنزله فأساء معاملته في التحية والملاقاة فقال: اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك. وقام عنه حزينا فجاء إلى القاضي أحمد بن دؤاد [3] فلم يدع شيئا من البرّ إلا فعله وحيّاه وفدّاه، وخطب حاجته فقال: أحب أن ترضي عني أمير المؤمنين فقال: أفعل ونعمة عين! ولم يزل بالواثق حتى رضي عنه. وكان ابن الزيّات كتب إلى الواثق عند ما خرج عنه المتوكل أنّ جعفرا أتاني فسأل الرضا عنه وله وفرة شبه زي المخنّثين، فأمره الواثق أن يحضره من شعر قفاه فاستحضره فجاء يظن الرضا عنه وأمر حجّاما أخذ من شعره وضرب به وجهه فحقد له ذلك وأساء له. ولما ولي الخلافة بقي شهرا ثم أمر إتياخ أن يقبض عليه ويقيّده بداره ويصادره، وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين، فصادره واستصفى أمواله وأملاكه وسلّط عليه أنواع العذاب، ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة وتزعج من فيه لضيقه، ثم مات منتصف ربيع الأوّل، وقيل إنه مات من الضرب وكان لا يزيد على التشهّد وذكر الله. وكان عمر بن الفرح الرحجي [4] يعامل المتوكل بمثل ذلك فحقد له، ولما استخلف قبض عليه في رمضان واستصفى أمواله ثم صودر على أحد عشر ألف ألف.   [1] اسمه الحقيقي إيتاخ وقد مرّ معنا في فصل سابق من هذا الكتاب. [2] أمرد: ابن الأثير ج 7 ص 33. [3] هو أحمد بن أبي دؤاد. [4] عمر بن الفرج الرخّجي: ابن الأثير ج 7 ص 39. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 نكبة اتياخ ومقتله كان اتياخ مولى السلام الأبرص [1] وكان عنده ناخوريا طبّاخا، وكان شجاعا فاشتراه المعتصم منه سنة تسع وتسعين وارتفع في دولته ودولة الواثق ابنه وكان له المؤنة بسامراء مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب. وكانت نكبة العظماء في الدولة على يديه وحبسهم بداره، مثل أولاد المأمون وابن الزيّات وصالح وعجيف وعمر بن الفرج وابن الجنيد وأمثالهم، وكان له البريد والحجابة والجيش والمغاربة والأتراك. وشرب ذات ليلة مع المتوكل فعربد على إتياخ وهمّ إتياخ بقتله، ثم غدا عليه فاعتذر له ودسّ عليه من زيّن له الحجّ فاستأذن المتوكل فأذن له وخلع عليه وجعله أمير كل بلد يمرّ به. وسار لذلك في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وسار العسكر بين يديه وجعلت الحجابة إلى وصيف الخادم ولما عاد إتياخ من الحج بعث إليه المتوكل بالهدايا والالطاف، وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره بحبسه. فلما قارب بغداد كتب إليه إسحاق بأنّ المتوكل أمر أن يدخل بغداد وأن تلقاه بنو هاشم ووجوه الناس وأن يقعد بدار خزيمة بن خازم فيأمر للناس بالجوائز على قدر طبقاتهم ففعل ذلك، ووقف إسحاق على باب الدار فمنع أصحابه من الدخول إليه ووكّل بالأبواب ثم قبض على ولديه منصور ومظفّر وكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد، وبعث إتياخ إليه يسأله الرّفق بالولدين ففعل، ولم يزل إتياخ مقيدا بالسجن إلى أن مات فقيل إنهم منعوه الماء وبقي ابناه محبوسين إلى أن أطلقهما المنتصر بعد المتوكل. شأن ابن البغيث [2] كان محمد بن البغيث بن الحليس ممتنعا في حصونه بأذربيجان وأعظمها مرند، واستنزل من حصنه أيام المتوكّل وحبس بسامراء فهرب من حبسه ولحق بمرند، وقيل إنه في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وشفع فيه بغا الشرابيّ، فأطلقه إسحاق في كفالة محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ، وكان يتردّد إلى سامرّا حتى   [1] الأبرش: ابن الأثير ج 7 ص 43. [2] ابن البعيث: ابن الأثير ج 7 ص 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 مرض المتوكّل ففرّ ولحق بمرند وشحنها بالأقوات، وجاءه أهل الفتنة من ربيعة وغيرهم فاجتمع له نحو ألفين ومائتي رجل، والوالي بأذربيجان يومئذ محمد بن حاتم ابن هرثمة فلم يقامعه فعزله المتوكل وولى حمدويه بن علي بن الفضل السعديّ، فسار إليه وحاصره بمرند مدّة وبعث إليه المتوكل بالمدد، وطال الحصار فلم يقن [1] فيه، فبعث بغا الشرابي في ألفى فارس فجاء لحصاره. وبعث إليه عيسى ابن الشيخ بن السلسل بالأمان له ولوجوه أصحابه أن ينزلوا على حكم المتوكل، فنزل الكثير منهم وانفض جمعه ولحق ببغا وخرج هو هاربا، ونهبت منازله وأسرت نساؤه وبناته. ثم أدرك بطريقة وأتي به أسيرا وبأخويه صقر وخالد وأبنائه حليس وصقر والبغيث، وجاء بهم بغا إلى بغداد وحملهم على الحجال [2] يوم قدومه حتى رآهم الناس وحبسوا. ومات البغيث لشهر من وصوله سنة خمس وثلاثين وجعل بنوه في الشاكرية مع عبد الله بن يحيى خاقان. بيعة العهد وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين عقد المتوكّل البيعة والعهد وكانوا ثلاثة محمدا وطلحة وإبراهيم، ويقال في طلحة ابن الزبير وجعل محمدا أوّلهم ولقبه المستنصر وأقطعه إفريقية والمغرب وقنّسرين والثغور الشاميّة والخزريّة، وديار مضر وديار ربيعة، وهيت والموصل وغانة والخابور، وكور دجلة والسواد والخرمين [3] وحضرموت والحرمين [4] والسند ومكران وقندابيل وكور الأهواز والمستغلّات بسامراء وماء الكوفة وماء البصرة. وجعل طلحة ثانيهم ولقبه المعتزّ وأقطعه أعمال خراسان وطبرستان والريّ وأرمينية وأذربيجان وأعمال فارس، ثم أضاف إليه سنة أربعين [5] خزن الأموال ودور الضرب في جميع الآفاق وأمر أن يرسم اسمه في السكة. وجعل الثالث إبراهيم [6] وأقطعه حمص ودمشق وفلسطين وسائر الأعمال الشامية وفي هذه السنة أمر الجند بتغيير   [1] أوقف الرجل إذا اصطاد الطير من وقته وهي محضنة. [2] مقتضى السياق: الجمال. [3] الجزرية- عانة- الحرمين: ابن الأثير ج 7 ص 49. [4] البحرين: المرجع السابق. [5] اي سنة أربعين ومائتين. [6] ولقبه المؤيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 الزي فلبسوا الطيالسة العسلية وشدّوا الزنانير في أوساطهم [1] وجعلوا الطراز في لباس المماليك ومنع من لباس المناطق وأمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمّة ونهى أن يستغاث بهم في الأعمال وأن يظهروا في شعابهم الصلبان وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب. ملك محمد بن إبراهيم كان محمد بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب على بلاد فارس، وهو ابن أخي طاهر وكان أخوه إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد منذ أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وكان ابنه محمد بباب الخليفة بسامراء نائبا عنه. فلما مات إسحاق سنة خمس وثلاثين ولّاه المتوكل وضمّ إليه أعمال أبيه، واستخلفه المعتز على اليمامة والبحرين ومكة وحمل إلى المتوكّل وبنيه من الجواهر والذخائر كثيرا، وبلغ ذلك محمد بن إبراهيم فتنكّر للخليفة ولمحمد بن أخيه، وشكا ذلك محمد إلى المتوكّل فسرّحه إلى فارس وولّاه مكان عمه محمد، فسار وعزل عمّه محمدا وولّى مكانه ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن مصعب، وأمره بقتل عمه محمد فأطعمه ومنعه الشراب فمات. انتقاض أهل أرمينية كان على أرمينية يوسف بن محمد فجاءه البطريق بقراط بن أسواط [2] وهو بطريق البطارقة يستأمن فقبض عليه وعلى ابنه وبعث بهما إلى المتوكل، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخيه وصهره موسى بن زرارة وتحالفوا على قتله وحاصروه بمدينة طرون في رمضان سنة سبع وثلاثين، وخرج لقتالهم فقتلوه ومن كان معه. فسرّح المتوكل بغا الكبير فسار على الموصل والجزيرة وأناخ على أردن [3] حتى أخذها وحمل موسى وإخوته إلى المتوكّل وقتل منهم ثلاثين ألفا وسبى خلقا وسار إلى مدينة دبيل فأقام بها شهرا ثم سار إلى تفليس فحاصرها، وبعث في مقدمته ربزك التركي [4] وكان بتفليس   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 52: «وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين في مؤخر السروج» . [2] بقراط بن أشوط: ابن الأثير ج 7 ص 58. [3] أرزن: ابن الأثير ج 7 ص 59. [4] زيرك التركي: ابن الأثير ج 7 ص 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 إسحاق بن إسماعيل بن إسحاق مولى بني أمية فخرج وقاتلهم، وكانت المدينة كلّها مشيدة من خشب الصنوبر، فأمر بغا أن يرمى عليها بالنفط فاضطرمت النار في الخشب، واحترقت قصور إسحاق وجواريه وخمسون ألف إنسان وأسر الباقون، وأحاطت الأتراك والمغاربة بإسحاق فأسروه وقتله بغا لوقته، ونجا أهل إسحاق بأمواله إلى صعدنيل [1] مدينة حذاء تفليس على نهر الكرّمن [2] من شرقيه بناها أنوشروان وحصنها إسحاق وجعل أمواله فيها فاستباحها بغا، ثم بعث الجند إلى قلعة أخرى بين بردعة وتفليس ففتحوها وأسروا بطريقها. ثم سار إلى عيسى بن يوسف في قلعة كيس [3] من كور البيلقان ففتحها وأسره وحمل معه جماعة من البطارقة، وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائتين. عزل ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم وفي سنة سبع وثلاثين غضب المتوكّل على أحمد بن أبي دؤاد وقبض ضياعه وحبس أولاده، فحمل أبو الوليد منهم مائة وعشرين ألف دينار وجواهر تساوي عشرين ألفا، ثم صولح عن ستة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم ببيع أملاكهم وفلح أحمد، فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم وولّاه قضاء القضاء، وولّى أبا الوليد بن أبي دؤاد المظالم ثم عزله. وولّى أبا الربيع محمد بن يعقوب ثم عزله، وولّى يحيى بن أكثم على المظالم ثم عزله سنة أربعين، وصادره على خمسة وسبعين ألف دينار وأربعة آلاف حربو [4] ، وولّى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن عليّ. وتوفي في هذه السنة أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوما وكان معتزليّا أخذ مذهبهم عن بشر المريسيّ وأخذه بشر عن جهم بن صفوان وأخذه جهم عن الجعد بن دهم معلّم مروان.   [1] صغدبيل: ابن الأثير ج 7 ص 68. [2] نهر الكرّ: المرجع السابق. [3] قلعة كبيش: المرجع السابق. [4] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 74: «وفي هذه السنة (240) عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وأربعة آلاف جريب بالبصرة.» وفي الطبري ج 11 ص 50: «وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء في صفر وقبض منه ما كان له ببغداد ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار وفي أسطوانة في داره ألف دينار واربعة آلاف جريب بالبصرة.» والجريب من الأرض مقدار معلوم الذراع والمساحة (لسان العرب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 انتقاض أهل حمص [1] وفي سنة سبع وثلاثين وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعيّ بسبب أنه قتل بعض رؤسائهم فأخرجوه وقتلوا من أصحابه، فولّى مكانه محمد بن عبدويه الأنباري فأساء إليهم وعسف فيهم فوثبوا به، وأمره المتوكّل بجند من دمشق والرملة فظفر بهم وقتل منهم جماعة، وأخرج النصارى منها وهدم كنائسهم وأدخل منها بيعة في الجامع كانت تجاوره. اغارة البجاة على مصر كانت الهدنة بين أهل مصر والبجاة من لدن الفتح، وكان في بلادهم معادن الذهب يؤدّون منها الخمس إلى أهل مصر، فامتنعوا أيام المتوكّل وقتلوا من وجدوه من المسلمين بالمعادن، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المتوكّل فشاور الناس في غزوهم فأخبروه أنهم أهل إبل وشاء وأن بين بلادهم وبلاد المسلمين مسيرة شهر ولا بدّ فيها من الزاد، إن فنيت الأزواد هلك العسكر فأمسك عنهم. وخاف أهل الصغد [2] من شرّهم، فولى المتوكل محمد بن عبد الله القمّيّ على أسوان وقفط والأقصر وأستا وأرمنت، وأمره بحرب البجاة. وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبّيّ عامل مصر بتجهيز العساكر معه وأزاحه عليهم فسار في عشرين ألفا من الجند والمتطوّعة، وحملت المراكب من القلزم بالدقيق والتمر والأدم إلى سواحل بلاد البجاة وانتهى إلى حصونهم وقلاعهم. وزحف إليه ملكهم واسمه علي بابا في أضعاف عساكرهم على المهاري [3] ، وطاولهم علي بابا رجاء أن تفنى أزوادهم فجاءت المراكب وفرّقها القمّيّ في أصحابه، فناجزهم البجاة الحرب وكانت إبلهم نفورة، فأمر القمّيّ جنده باتخاذ الأجراس بخيلهم. ثم حملوا عليهم فانهزموا وأثخن فيهم قتلا وأسرا حتى استأمنوا على أداء الخراج لما سلف ولما يأتي وأن يرد إلى مملكته، وسار مع القمّيّ إلى المتوكل واستخلف ابنه، فخلع القمّيّ عليه وعلى أصحابه، وكسا أرجلهم الجلال   [1] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة في حوادث سنة 240 وسنة 241. [2] مقتضى السياق: أهل الصعيد كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 78. [3] المهاري: إبل فره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 المديحة وولّاهم طريق ما بين مصر ومكة، وولّى عليهم سعدا الإتياخي [1] الخادم فولى سعد محمد القمّيّ فرجع معهم واستقامت ناحيتهم. الصوائف وفي سنة ثمان وثلاثين ورد على دمياط اسطول الروم في مائة مركب [2] فكبسوها وكانت المسلحة الذين بها قد ذهبوا إلى مصر باستدعاء صاحب المعونة عنبسة بن إسحاق الضبيّ فانتهزوا الفرصة في مغيبهم وانتهبوا دمياط وأحرقوا الجامع بها وأوقروا سفنهم سبيا ومتاعا، وذهبوا إلى تنّيس ففعلوا فيها مثل ذلك وأقطعوا. وغزا بالصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرميني [3] صاحب الصوائف. وفي سنة إحدى وأربعين كان الفداء بين الروم وبين المسلمين وكانت تدورة ملكة الروم قد حملت أسرى المسلمين على التنصّر فتنصّر الكثير منهم. ثم طلبت المفاداة فيمن بقي فبعث المتوكل سيفا [4] الخادم بالفداء ومعه قاضي بغداد جعفر بن عبد الواحد واستخلف على القضاء ابن أبي الشوارب وكان الفداء على نهر اللامس ثم أغارت الروم بعد ذلك على روبة [5] فأسروا من كان هنالك من الزط وسبوا نساءهم وأولادهم ولما رجع علي بن يحيى الأرميني من الصائفة خرجت الروم في ناحية سميساط فانتهوا إلى آمد واكتسحوا نواحي الثغور والخزرية [6] نهبا وأسروا نحوا من عشرة آلاف ورجعوا واتبعهم قرشاس [7] وعمر بن عبد الأقطع وقم من المتطوّعة فلم يدركوهم وأمر المتوكّل علي بن يحيى أن يدخل بالثانية في تلك السنة ففعل. وفي سنة أربع وأربعين جاء المتوكل من بغداد إلى دمشق وقد اجتمع نزولها ونقل الكرسي إليها فأقام بها شهرين، ثم استوبأها ورجع بعد أن بعث بغا الكبير في العساكر للصائفة فدخل بلاد الروم فدوّخها واكتسحها من سائر النواحي ورجع. وفي سنة خمس وأربعين أغارت الروم على   [1] الإيتاخي: ابن الأثير ج 7 ص 79. [2] ثلاثمائة مركب: ابن الأثير ج 7 ص 68. [3] علي بن يحيى الأرمني: ابن الأثير ج 7 ص 70. [4] شنيفا الخادم: ابن الأثير ج 7 ص 77. [5] عين زربة: ابن الأثير ج 7 ص 80. [6] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 81: «خرجت الروم من ناحية سميساط بعد خروج عليّ بن يحيى الارمني من الصائفة، حتى قاربوا آمد، وخرجوا من الثغور والجزرية ... » وكذلك في الطبري ج 11 ص 55. [7] قريباس: ابن الأثير ج 7 ص 81، قريباس: الطري ج 11 ص 55. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 سميساط فغنموا وغزا علي بن يحيى الأرمني بالصائفة كركرة وانتقض أهلها على بطريقهم فقبضوا عليه وسلّموه إلى بعض موالي المتوكّل، فأطلق ملك الروم في فداء البطريق ألف أسير من المسلمين وفي سنة ست وأربعين غزا عمر بن عبيد الله الأقطع بالصائفة فجاءوا بأربعة آلاف رأس [1] ، وغزا قرشاس فجاء بخمسة آلاف رأس، وغزا الفضل بن قاران في الاسطول بعشرين مركبا فافتتح حصن أنطاكية وغزا ملكها دورهم وسبى، وغزا علي بن يحيى فجاء بخمسة آلاف رأس ومن الظهر بعشرة آلاف وكان على يده في تلك السنة الفداء في ألفين وثلاثمائة من الأسرى. الولاية في النواحي ولّى المتوكل سنة اثنتين على بلاد فارس محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان على الموصل غانم بن حميد الطوسي، واستوزر لأوّل خلافته محمد بن عبد الله بن الزيّات. وولّى على ديوان الخراج يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد وعزل الفضل بن مروان. وولّى على ديوان النفقات إبراهيم بن محمد بن حتول. وولّى سنة ثلاث وثلاثين على الحرمين واليمن والطائف ابنه المستنصر، وعزل محمد بن عيسى. وولّى على حجابة بابه وصيفا الخادم عند ما سار إتياخ للحج. وفي سنة خمس وثلاثين عهد لأولاده كما مرّ، وولّى على الشرطة ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسين ابن مصعب مكان ابنه إبراهيم عند ما توفي، وكانت وفاته ووفاة الحسن بن سهل في سنة واحدة. وفي سنة ست وثلاثين استكتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان ثم استوزره بعد ذلك، وولّى على أرمينية وأذربيجان حربا وخراجا يوسف بن أبي سعيد محمد بن يوسف المروذوذي [2] عند ما توفي أبوه فجاءه فسار اليها وضبطها، وأساء إلى البطارقة بالناحية فوثبوا به كما مرّ وقتلوه. وبعث المتوكّل بغا الكبير في العساكر فأخذ ثأره منهم، وولّى معادن السواد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم. وفي سنة تسع وثلاثين عزل ابن أبي دؤاد عن القضاء وصادره، وولّى مكانه يحيى بن أكثم. وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان فولّاه الشرطة والجزية وأعمال السواد، وكان على مكة علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور فحجّ بالناس، ثم ولّى مكانه في السنة القابلة عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى. وولّى على الأحداث بطريق مكة   [1] وفي الكامل لابن الأثير سبعة عشر ألف رأس (ج 7 ص 93) . [2] المروزيّ: ابن الأثير ج 7 ص 56. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 والمواسم جعفر بن دينار، وكان على حمص أبو المغيب موسى بن إبراهيم الرافقي وثبوا به سنة تسع وثلاثين، فولّى مكانه محمد بن عبدويه. وفي سنة تسع وثلاثين عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وولّى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان وفي سنة اثنتين وأربعين ولّى على مكة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام، وولّى على ديوان النفقات الحسن بن مخلد بن الجرّاح عند ما توفي إبراهيم بن العبّاس الصوليّ وكان خليفته فيها من قبل. وفي سنة خمس وأربعين اختط المتوكل مدينته وأنزلها القوّاد والأولياء وأنفق عليها ألف ألف دينار، وبنى فيها قصر اللؤلؤة لم ير مثله في علوّه وأجرى له الماء في نهر احتفره وسمّاها المتوكليّة وتسمى الجعفري والماخورة وفيها ولّى على طريق مكة أبا الساج مكان جعفر بن دينار لوفاته تلك السنة. وولّى على ديوان الضياع والتوقيع نجاح بن سلمة وكانت له صولة على العمّال، فكان ينام المتوكل فسعى عنده في الحسن بن مخلد وكان معه على ديوان الضياع ولّى موسى بن عقبة عبد الملك وكان على ديوان الخراج، وضمن للمتوكل في مصادرتهما أربعين ألفا. وأذن المتوكل وكانا منقطعين إلى عبيد الله بن خاقان، فتلطّف عند نجاح وخادعه حتى كتب على الرقعتين، وأشار إليه بأخذ ما فيهما معا وبدأ بنجاح فكتبه وقبض منه مائة وأربعين ألف دينار سوى الغلّات والفرش والضياع، ثم ضرب فمات وصودر أولاده في جميع البلاد على أموال جمة. مقتل المتوكل وبيعة المنتصر ابنه كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم وأبغضه لما كان يتوهّم فيه من استعجاله الأمر لنفسه، وكان يسمّيه المنتصر والمستعجل لذلك. وكان المنتصر تنكّر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال والتشيّع لعليّ، وربما كان الندمان في مجلس المتوكّل يفيضون في ثلب عليّ فينكر المنتصر ذلك ويتهدّدهم ويقول للمتوكل: إنّ عليّا هو كبير بيننا وشيخ بني هاشم، فإن كنت لا بدّ ثالبه فتولّ ذلك بنفسك ولا تجعل لهؤلاء الصفّاعين سبيلا إلى ذلك فيستخف به ويشتمه، ويأمر وزيره عبيد الله بصفعه ويتهدّده بالقتل ويصرّح بخلعه. وربما استخلف ابنه الحبر [1] في الصلاة والخطبة مرارا وتركه فطوى من ذلك على النكث. وكان المتوكل قد   [1] المعتزّ: ابن الأثير ج 7 ص 95. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 استفسد إلى بغا ووصيف الكبير ووصيف الصغير ودواجن، فأفسدوا عليه الموالي. وكان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار وأمره بالمقام بسميساط لتعهّد الصوائف، فسار لذلك واستخلف مكانه ابنه موسى في الدار وكان ابن خالة المتوكل، واستخلف على الستر بغا الشرابي الصغير. ثم تغيّر المتوكل لوصيف وقبض ضياعه بأصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فتغيّر وصيف لذلك وداخل المنتصر في قتل المتوكّل، وأعدّ لذلك جماعة من الموالي بعثهم مع ولده صالح وأحمد وعبد الله ونصر، وجاءوا في الليلة اتعدوا فيها. وحضر المنتصر ثم انصرف على عادته، وأخذ زرافة الخادم معه، وأمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا الفتح وأربعة من الخاصّة، وأغلق الأبواب إلا باب دجلة فأدخل منه الرجال وأحس المتوكل وأصحابه بهم فخافوا على أنفسهم، واستماتوا وابتدروا إليه فقتلوه. والقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه. وبعث إلى المنتصر وهو ببيت زرافة فأخبره وأوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر، وبايع له زرافة وركب إلى الدار فبايعه من حضر وبعث إلى وصيف إنّ الفتح قتل أبي فقتلته، فحضر وبايع. وبعث عن أخويه المعتز والمؤيد فحضرا وبايعا له. وانتهى الخبر إلى عبيد الله بن يحيى فركب من ليله وقصد منزل المعتزّ فلم يجده واجتمع عليه عشرة آلاف من الأزد والأرمن والزواقيل، وأغروه بالحملة على المنتصر وأصحابه فأبى وخام عن ذلك، وأصبح المنتصر فأمر بدفن المتوكّل والفتح، وذلك لأربع خلون من شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين. وشاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند وتبعهم [1] وركب بعضهم بعضا، وقصدوا باب السلطان فخرج إليهم بعض الأولياء فأسمعوه، ورجع فخرج المنتصر بنفسه وبين يديه المغاربة فشرّدوهم عن الأبواب فتفرّقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 105: «ولما أصبح الناس شاع الخبر في الماخورة، وهي المدينة التي كان بناها المتوكّل، وفي أهل سامرّاء بقتل المتوكل فتوافى الجند والشاكرية بباب العامّة وبالجعفرية، وغيرهم من الغوغاء والعامّة، وكثر الناس وتسامعوا وركب بعضهم بعضا ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 الخبر عن الخلفاء من بني العبّاس أيام الفتنة وتغلب الأولياء وتضايق نطاق الدولة باستبداد الولاة في النواحي من لدن المنتصر إلى أيام المستكفي كان بنو العبّاس حين ولوا الخلافة قد امتدّت إيالتهم على جميع ممالك الإسلام، كما كان بنو أمية من قبلهم. ثم لحق بالأندلس من فل بني أمية من ولدها هاشم بن عبد الملك حافده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ونجا من تلك الهلكة فأجاز البحر ودخل الأندلس فملكها من يد عبد الرحمن بن يوسف الفهري، وخطب للسفّاح فيها حولا ثم لحق به أهل بيته من المشرق فعزلوه في ذلك فقطع الدعوة عنهم وبقيت بلاد الأندلس مقتطعة من الدولة الإسلامية عن بني العبّاس. ثم لما كانت وقعة فتح أيام الهادي عليّ بن الحسن بن عليّ سنة تسع وتسعين ومائة، وقتل داعيتهم يومئذ حسين ابن عليّ بن حسن المثنى وجماعة من أهل بيته ونجا آخرون، وخلص منهم إدريس بن عبد الله بن حسن إلى المغرب الأقصى، وقام بدعوته البرابرة هنالك، فاقتطع المغرب عن بني العبّاس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم. ثم ضعفت الدولة العبّاسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل المتوكّل وحدثت الفتن ببغداد، وصار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم، فدعا أبو عبد الله الشيعي سنة ست وثمانين ومائتين بإفريقية في طامة لعبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وبايع له، وانتزع إفريقية من يد بني الأغلب استولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العبّاس واستحدثوا له دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر في أخبارهم. ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط ويعرف بالداعي، خرج سنة خمسين ومائتين أيام المستعين ولحق بالديلم فأسلموا على يديه وملك طبرستان ونواحيها، وصار هنالك دولة أخذها من يد أخيه سنة إحدى وثلاثمائة الأطروش من بني الحسين، ثم من بني على عمر داعي الطالقان أيام المعتصم وقد مرّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 خبره واسم هذه الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر، وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الحسين، واستولى عليها الديلم وصارت لهم دولة أخرى. وظهر باليمن الرئيس وهو ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن المثنّى فأظهر هنالك دعوة الزيديّة، وملك صعدة وصنعاء وبلاد اليمن، وكانت لهم هنالك دولة ولم تزل حتى الآن. وأوّل من ظهر منهم يحيى بن الحسين بن القاسم سنة تسعين ومائتين، ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج ادّعى أنه أحمد [1] بن عيسى بن زيد الشهيد وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي، وطعن الناس في نسبه فادّعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجان، وقيل إنه انتسب إلى طاهر بن الحسين بن عليّ والّذي ثبت عند المحقّقين أنه علي بن عبد الرحيم بن عبد القيس، فكانت له ولبنيه دولة بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد أيام السبعين ومائتين. ثم ظهر القرظ بنواحي البحرين وعمان فسار إليها من الكوفة سنة تسع وسبعين أيام المعتضد، وانتسب إلى بني إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق دعوى كاذبة، وكان من أصحابه الحسن الجمالي وزكرونة القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة ودعوا لعبد الله المهدي وغلبوا على البصرة والكوفة، ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان، وكانت لهم هنالك دولة انقرضت آخر المائة الرابعة، وتغلب عليهم العرب من بني سليم وبني عقيل. وفي خلال ذلك استبدّ بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين ومائتين وأقاموا على الدعوة إلّا أنهم لا ينفذون أوامر الخلفاء، وأقامت دولتهم إلى آخر المائة الرابعة. ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بغزنة إلى منتصف المائة السادسة، وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة أخرى بمصر والشام بالاستبداد من لدن الخمسين والمائتين أيام الفتنة إلى آخر المائة الثالثة ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين والثلاثمائة. وفي خلال هذا كلّه تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي السواد والجزيرة فقط، إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم. ثم كانت للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي وملكوا الأعمال ثم ساروا إلى بغداد وملكوها وصيّروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلاثمائة، وكانت من أعظم الدول. ثم أخذها من أيديهم السلجوقية من الغزّ إحدى شعوب الترك، فلم تزل دولتهم من لدن القائم سنة أربعين وأربعمائة إلى آخر المائة   [1] قوله أحمد في المروج انه عليّ بن احمد أهـ قاله وصحّحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 السادسة، وكانت دولتهم من أعظم الدول في العالم. وتشعبت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في مكانه ثم استبدّ الخلفاء من بني العبّاس آخرا في هذا النطاق الضيق ما بين دجلة والفرات وأعمال السواد وبعض أعمال فارس، إلى أن خرج التتار من مفازة الصين وزحفوا إلى الدولة السلجوقية وهم على دين المجوسية، وزحفوا إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم، وانقرض أمر الخلافة وذلك سنة ست وخمسين وستمائة. ثم أسلموا بعد ذلك وكانت لهم دولة عظيمة، وتشعبت عنها دول لهم ولأشياعهم في النواحي وهي باقية لهذا العهد آخذة في الثلاثين كما نذكر ذلك كله في أماكنه. دولة المنتصر ولما بويع المنتصر كما ذكرناه ولّى على المظالم أبا عمر وأحمد بن سعيد، وعلى دمشق عيسى بن محمد النوشريّ وكان على وزارته أحمد بن الخصيب، واستقامت أموره وتفاوض وصيف وبغا وأحمد بن الخصيب في شأن المعتزّ والمؤيد لما توقعوا من سطوتهما بسبب قتل المتوكل، فحملوا المنتصر على خلعهما الأربعين يوما من خلافته وبعث إليهما بذلك فأجاب المؤيد وامتنع المعتز فأغلظوا عليه وأوهموه القتل فخلا به المؤيد وتلطّف به حتى أجاب وخلع نفسه وكتبا ذلك بخطهما. ثم دخلا على المنتصر فأجلسهما واعتذر لهما بسمع من الأمراء بأنهم الذين حملوه على خلعهما فأجبتهم إلى ذلك خشية عليكما منهم، فقبّلا يده وشكرا له وشهد عليهما القضاة وبنو هاشم والقوّاد ووجوه الناس، وكتب بذلك المنتصر إلى الآفاق وإلى محمد بن طاهر ببغداد. ثم إنّ أحمد بن الخصيب أخا المنتصر أمر بإخراج وصيف للصائفة وإبعاده عن الدولة لما بينهما من الشحناء، فأحضره المنتصر وقال له: قد أتانا من طاغية الروم أنه أفسد الثغر فلا بدّ من مسيرك أو مسيري، فقال بل أنا أشخص يا أمير المؤمنين! فأمر أحمد بن الخصيب أن يجهّزه ويزيح علل العسكر معه، وأمره أن يوافي ثغر ملطية فسار وعلى مقدمته مزاحم بن خاقان أخو الفتح، وعلى نفقات العساكر والمغانم والمقاسم أبو الوليد القروالي أن يأتيه رأيه. وفاة المنتصر وبيعة المستعين ثم أصابت المنتصر علة الذبحة فهلك لخمس بقين من ربيع الأوّل من سنة ثمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 وأربعين ومائتين لستة أشهر من ولايته، وقيل بل أكثر من ذلك فجعل السم في مشرطة الطبيب فاجتمع الموالي في القصر وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش وغيرهم فاستحلفوا قوّاد الأتراك والمغاربة والأشروسيّة على الرضا بمن يرضونه لهم، ثم خلصوا للمشورة ومعهم أحمد بن الخصيب فعدلوا عن ولد المتوكّل خوفا منهم ونظروا في ولد المعتصم فبايعوه واستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أتامش وغدا على دار العامة في زيّ الخلافة، وإبراهيم بن إسحاق يحمل بين يديه الحربة، وصفّت الممالك والأشروسية صفين بترتيب دواجن [1] ، وحضر أصحاب المراتب من العبّاسيين والطالبيين، وثار جماعة من الجند وقصدوا الدار يذكرون أنهم من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، والغوغاء [2] فشهروا السلاح وهتفوا باسم المعتز وشدّوا على أصحاب دواجن فتضعضعوا، ثم جاءت المبيّضة والشاكرية، وحمل عليهم المغاربة والأشروسية [3] فنشبت الحرب وانتهبت الدروع والسلاح من الخزائن بدار العامة، وجاء بغا الصغير فدفعهم عنها وقتل منهم عدّة وفتقت السجون وتمت بيعة الأتراك للمستعين، ووضع العطاء على البيعة وبعث إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبايع له هو والناس ببغداد. ثم جاء الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان وهلك عمه الحسين بن طاهر بمرو فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر مكانه وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر على خراسان سنة ثمان وأربعين ومائتين، وولّى عمه طلحة على نيسابور، وابنه منصور بن طلحة على مرو وسرخس وخوارزم، وعمه الحسين بن عبد الله على هراة وأعمالها، وعمه سليمان بن عبد الله على طبرستان، والعبّاس ابن عمه على الجوزجان والطالقان. ومات بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله كلها وبعث أناجور من قواد الترك إلى العمرّط الثعلبي فقتله [4] . واستأذنه عبد الله بن يحيى بن خان في الحجّ فأذن له، ثم بعث خلفه من نفاه إلى برقة، وحبس المعتز والمؤيد في حجره بالجوسق بعد أن أراد قوّاد الأتراك قتلهما فمنعهم أحمد بن الخصيب من ذلك. ثم قبض على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفاه إلى قرطيش [5]   [1] واجن: ابن الأثير ج 7 ص 117. [2] كذا بالأصل ومقتضى السياق: واما الغوغاء فشهروا السلاح ... [3] الاشروسنية: ابن الأثير ج 7 ص 118. [4] وفي الكامل ج 7 ص 119: «وفيها- اي سنة 248- وجه انوجور التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله بكفرثوثى ... » [5] أقريطش: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 واستوزر أتامش وعقد له على مصر والمغرب وعقد لبغا الصغير على حلوان وماسبذان ومهر جا تعرف، وجعل شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخاصة أموره وخادمه، وأشناس على جميع الناس. وعزل علي بن يحيى الأرمني عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. وكان على حمص كندر فوثب به أهلها فأخرجوه فبعث المستعين الفضل بن قارن وهو أخو مازيار فاستباحهم وحمل أعيانهم إلى سامرّا وبعث المستعين إلى وصيف وهو بالثغر الشامي بأن يغزو بالصائفة، فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قرورية ثم غزا بالصائفة سنة تسع وأربعين جعفر بن دينار وافتتح مطامير واستأذنه عمر بن عبد الله الأقطع في تدويخ بلاد الروم فأذن له فدخل في جماعة من أهل ملطية ولقي ملك الروم، فخرج الأسقف في خمسين ألفا أحاطوا به وقتل عمر في ألفين من المسلمين. وكان على الثغور الجزرية فأغار عليها الروم وبلغ ذلك عليّ بن يحيى وهو قابل من أرمينية إلى ميافارقين ومعه جماعة من أهلها فنفر إليهم وهو في نحو أربعمائة فقتلوا وقتل. فتنة بغداد وسامرا ولما اتصل الخبر ببغداد وسامرّا بقتل عمر بن عبد الله وعليّ بن يحيى شقّ ذلك على الناس لما كانوا عليه من عظيم الغناء في الجهاد، واشتدّ نكيرهم على الترك في غفلتهم عن المصالح وتذكّروا قتل المتوكّل واستيلاءهم على الأمور فاجتمعت العامة وتنادوا بالنفير إلى الجهاد. وانضمّ إليهم الشاكريّة يطلبون أرزاقهم ثم فتقوا السجون وقطعوا الجسور وانتهبوا دور كتاب محمد بن عبد الله بن طاهر. ثم أخرج أهل اليسار من بغداد الأموال ففرّقوها في المجاهدين وجاءت العامة من الجبال وفارس والأهواز فنفروا للغزو، ولم يظهر للمستعين ولا لأهل الدولة في ذلك أثر. ثم وثب العامة بسامرّا وفتقوا السجون وخرج من كان فيها وجاء جماعة من الموالي في طلبهم فوثب العامة بهم وهزموهم وركب بغا ووصيف وأتامش في الترك فقتلوا من العامة خلقا وانتهبوا منازلهم وسكنت الفتنة. مقتل أتامش كان المستعين لما ولي أطلق يد أمّه وأتامش وشاهك الخادم في الأموال وما فضل عنهم فلنفقات العبّاس بن المستعين، وكان في حجر أتامش فبعث ذلك عليه بغا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 ووصيف وضاق حال الأتراك والفراغنة ودسّهم عليهم بغا ووصيف فخرج منهم أهل الكرخ والدور وقصدوه في الجوسق مع المستعين وأراد الهرب فلم يطق، واستجار بالمستعين فلم يجره وحاصروه يومين، ثم افتتحوا عليه الجوسق وقتلوه وكاتبه شجاع بن القاسم ونهبت أموالهم واستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن علي على الأهواز ولبغا الصغير على فلسطين. ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح فهرب إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني وولّى على ديوان الرسائل سعيد بن حميد. ظهور يحيى بن عمر ومقتله كان على الطالبيين بالكوفة يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد الشهيد ويكنى أبا الحسين وأمّه من ولد عبد الله بن جعفر وكان من سراتهم ووجوههم وكان عمر بن فرج يتولّى أمر الطالبيّين أيام المتوكل، فعرض له أبو الحسين عند مقدمه من خراسان يسأله صلة لدين لزمه فأغلظ له عمر القول وحبسه حتى أخذ عليه الكفلاء وانطلق إلى بغداد. ثم جاء إلى سامرّا وقد أملق فتعرّض لوصيف في رزق يجرى له، فأساءه عليه وإليها فرجع إلى الكوفة وعاملها يومئذ أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر، فاعتزم على الخروج والتفّ عليه جمع من الأعراب وأهل الكوفة، ودعا للرضى من آل محمد ففتق السجون ونهبه وطرد العمّال، وأخذ من بيت المال ألفي دينار وسبعين ألف درهم، وكان صاحب البريد قد طيّر بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب إلى عامله بالسواد عبد الله بن محمود السرخسيّ أن يصير مددا إلى الكوفة فلقيه وقاتله فهزمهم يحيى وانتهب ما معهم، وخرج إلى سواد الكوفة واتبعه خلق من الزيدية، وانتهى إلى ناحية واسط وكثرت جموعه. وسرّح محمد بن عبد الله بن طاهر إلى محاربة الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في العساكر فسار إليه. وقد كان يحيى قصد الكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطّاب المعروف بوجه الفلس فهزمه يحيى إلى ناحية شاهي ودخل الكوفة واجتمعت عليه الزيدية، واشتمل عليه عامة أهل الكوفة وأمداد الزيدية من بغداد، وجاء الحسين بن إسماعيل وانضمّ إليه عبد الرحمن بن الخطّاب وخرج يحيى من الكوفة ليعاجلهم الحرب فأسرى ليلته وصبح العساكر فساروا إليه فهزموه ووضعوا السيف في أصحابه، وأسروا الكثير من اتباعه، كان منهم الهيصم العجليّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وغيره، وانجلت الحرب عن يحيى بن عمر قتيلا فبعثوا برأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المستعين وجعل في صندوق في بيت السلاح وجيء بالأسرى فحبسوا وكان ذلك منتصف رجب سنة خمس ومائتين [1] . ابتداء الدولة العلوية بطبرستان لما ظهر محمد بن عبد الله بن طاهر بيحيى بن عمر وكان له من الغناء في حربه ما قدّمناه، أقطعه المستعين قطائع من صوافي السلطان بطبرستان كانت منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس [2] وفيها أرض موات ذات غياض وأشجار وكلأ، مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب والرعي، وكان عامل طبرستان يومئذ من قبل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمّه سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد صاحب القطائع، وكان سليمان مكفولا لأمّه وقد حظي عندها وتقدّم وفرّق أولاده في أعمال طبرستان وأساءوا السيرة في الرعايا ودخل محمد بن أوس بلاد الديلم وهم مسالمون فسبى منهم وانحرفوا لذلك. وجاء نائب محمد بن عبد الله لقبض القطائع فحاز فيها تلك الأرض الموات المرصدة لمرافق الناس، فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض وهما محمد وجعفر ابنا رستم واستنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلك، فخافهما النائب ولحق بسليمان صاحب طبرستان. وبعث ابنا رستم إلى الديلم يستنجدانهم على حرب سليمان، وبعثا إلى محمد بن إبراهيم من العلويّين بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره، فامتنع ودلّهما على كبير العلويّة بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط، فشخص إليهما وقد اجتمع أهل كلار وسالوس ومقدّمهم ابنا رستم وأهل الريان ومعهم الديلم بأسرهم، فبايعوه جميعا وطردوا عمّال سليمان وابن أوس. ثم انضمّ إليهم جبال طبرستان وزحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد، وخرج ابن أوس من سارية لمدافعته فانهزم ولحق بسليمان في سارية فخرج سليمان لحرب الحسن. ولما التقى الجمعان بعث الحسن بعض قوّاده خلف سليمان إلى سارية وسمع بذلك سليمان فانهزم، وملك الحسن سارية، وبعث بعيال سليمان وأولاده في البحر إلى جرجان. وقيل إنّ سليمان انهزم اختيارا لما   [1] الصحيح خمسين. مائتين كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 128. [2] وفي الكامل ج 7 ص 130: منها مطيعة قرب ثغر الديلم وهما كلار وشالوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 كان بنو طاهر يتّهمون به من التّشييع [1] ثم بعث الحسن إلى الري ابن عمه وهو القاسم ابن علي بن إسماعيل ويقال محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين فملكها، وبعث المستعين جندا إلى همذان ليمنعها. ولما ملك محمد بن جعفر قائد الحسن بن زيد الريّ أساء السيرة، وبعث محمد بن طاهر قائد محمد بن ميكال أخو الشاه فغلبه على الريّ، وانتزعها منه وأسره، فبعث إليه الحسن بن زيد قائده دواجن فهزم ابن ميكال وقتله واسترجع الريّ ثم رجع سليمان بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها ولحق الحسين بالديلم وسار سليمان إلى سارية وآمد، ومعهم أبناء قارن بن شهرزاد فصفح عنهم ونهى أصحابه عن الفتك والأذى. ثم جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الريّ من يدي أبي دلف وبعث مصلحا إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد وهزمه واستولى على طبرستان ولحق الحسن بالديلم ودخل مفلح آمد وخرب منازل الحسن ورجع إلى موسى بالريّ. مقتل باغر وكان باغر هذا من قواد الترك ومن جملة بغا الصغير، ولما قتل المتوكّل زيد في أرزاقه وأقطعوه قرى بسواد الكوفة وضمنها له بعض أهل باروسما بألفي دينار فطلبه ابن مارمّة وكيل باغر، وحبسه ثم تخلّص وسار إلى سامرّا، وكانت له ذمّة من نصراني عند بغا الصغير فأجاره النصراني من كيد بغا وأغراه عليه فغضب لذلك باغر وشكى إلى بغا فأغلظ له القول، وقال: إني مستبدل من النصراني وأفعل فيه بعد ذلك ما تريد، ودسّ إلى النصراني بالحذر من باغر وأظهر عزله، وبقي باغر يتهدّده وقد انقطع عن المستعين، وقد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطان فسأل المستعين وصيفا عن أعمال إتياخ وقلّدها لباغر، فعذل وصيفا في الشأن فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة. وتنكّر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين بايعوه على المتوكّل وجدّد عليهم العهد في قتل المستعين وبغا ووصيف، وأن ينصّبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لهم. ونما الخبر على الترك إلى المستعين فأحضر بغا ووصيفا وأعلمهما بالخبر، فحلفا له على العلم وأمروا بحبس باغر ورجلين معه من الأتراك فسخطوا ذلك، وثاروا فانتهبوا الإصطبل وحضروا الجوثق وأمر بغا ووصيف وشاهك الخادم وكاتبه أحمد بن صالح   [1] الصحيح التشيّع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 ابن شيزاده [1] ونزل على محمد بن طاهر في بيته في المحرّم سنة إحدى وخمسين ولحق به القوّاد والكتاب والعمّال وبنو هاشم وتخلّف جعفر الخيّاط وسليمان بن يحيى بن معاذ فندم الأتراك، وركب جماعة من قوّادهم إلى المستعين وأصحابه ليردّوهم فأبوا ورجعوا آيسين منه وتفاوضوا في بيعة المعتز. بيعة المعتز وحصار المستعين كان قوّاد الأتراك لما جاءوا إلى المستعين ببغداد يعتذرون من فعلهم ويتطارحون في الرضا عنهم والرجوع إلى دار مكّة وهو يوبّخهم ويعدّد عليهم إحسانه وإساءتهم ولم يزالوا به حتى صرّح لهم بالرضا، فقال بعضهم: فإن كنت رضيت فقم واركب معنا إلى سامرّا فكلّمه ابن طاهر لسوء خطابهم، وضحك المستعين لعجمتهم وجهلهم بآداب الخطاب، وأمر باستمرار أرزاقهم ووعدهم بالرجوع، فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر، وأخرجوا المعتز من محبسه وبايعوا له بالخلافة، وأعطى للناس شهرين. وحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد فامتنع منها وقال: قد خلعت نفسك! فقال: أكرهت، فقال: ما علمنا ذلك ولا مخلص لنا في إيماننا فتركه. وولّوا على الشرطة إبراهيم البربرح [2] وأضيفت له الكتابة والدواوين وبيت المال، وهرب عتّاب ابن عتّاب من القوّاد إلى بغداد وقال محمد بن عبد الله بن طاهر بالاحتشاد واستقدم مالك بن طوق في أهل بيته وجنده، وأمر حوبة بن قيس [3] وهو على الأنبار وبالاحتشاد وكتب إلى سليمان بن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة عن سامرّا، وشرع في تحصين بغداد وأدار عليها الأسوار والخنادق من الجانبين وجعل على كل باب قائدا، ونصب على الأبواب المجانيق والعدادات [4] ، وشحن الأسوار بالرماة   [1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 139: «وانتهى الخبر إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف وقال لهما: أنتما جعلتماني خليفة ثم تريدان قتلي! فحلفا انّهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر، فاتفق رأيهم على أخذ باغر ورجلين من الأتراك معه، وحبسهم، فاحضروا باغرا فأقبل في عدة، فعدل به إلى حمّام وحبس فيه، وبلغ الخبر الأتراك، فوثبوا على إصطبل الخليفة فانتهبوه وركبوا ما فيه، وحصروا الجوسق بالسلاح، فأمر بغا ووصيف بقتل باغر فقتل.» «فلما قتل باغر وانتهى خبر قتله إلى الأتراك المشغبين أقاموا على ما هم عليه، فانحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك الخادم واحمد بن صالح بن شيرزاد ... » [2] إبراهيم الديرج: ابن الأثير ج 7 ص 143. [3] نجوبة بن قيس: ابن الأثير ج 7 ص 143. [4] الصحيح العرّادات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 والمقاتلة وبلغت النفقة في ذلك ثلاثمائة وثلاثين ألف دينار وفوّض للعيّارين الرزق واغدق عليهم، وأنفذ كتب المستعين إلى العمّال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد. وكتب المستعين إلى الأتراك يأمرهم بالرجوع عمّا فعلوا وكتب المعتز إلى محمد يدعوه إلى بيعته، وطالت المراجعات في ذلك وكان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص، فاختلفت إليه وهو بالشام كتب المستعين والمعتزّ يدعوه كل واحد منهما إلى نفسه، فاختار المعتز ورجع إليه، وهرب إليه عبد الله بن بغا الصغير من بغداد بعد أن هرب عنه فقتله. وهرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلع عليه المستعين وضمّ إليه الأشروسية. ثم عقد المعتز لأخيه إلى أحمد الواثق عن حرب بغداد وضمّ إليه الجنود مع باكليال [1] من قوّادهم، فسار في خمسين ألفا من الأتراك والفراغنة والمغاربة، وانتهبوا ما بين عكبرا وبغداد من القرى والضياع وخرّبوها، وهرب إليهم جماعة من أصحاب بغا الصغير ووصلوا إلى باب الشماسية. وولّى المستعين على باب الشماسية الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب، وجعل القوّاد هنالك تحت يده ووافقت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه، وأمدّه ابن طاهر بالشاه بن ميكال وبيدار الطبري [2] . ثم ركب محمد بن عبد الله بن طاهر من الغد ومعه بغا ووصيف والفقهاء والقضاة، وذلك عاشر صفر، وبعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعة على المعتزّ ولي عهده فلم يجيبوا، فانصرفوا، وبعث إليه القوّاد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال. وقدم ذلك اليوم عبد الله بن سليمان خليفة بغا من مكة في ثلاثمائة رجل. ثم جاء الأتراك من الغد فاقتتلوا مع القوّاد وانهزم القوّاد وبلغ ابن طاهر أنّ جماعة من الأتراك ساروا نحو النهروان، فبعث قائدا من أصحابه إليهم فرجع منهزما، واستولى الأتراك على طريق خراسان وقطعوها عن بغداد. ثم بعث المعتز عسكرا آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجانب الغربي، وبعث ابن طاهر إليهم الشاه ابن ميكال فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع إلى بغداد فخلع عليه وعلى سائر القوّاد أربع خلع وطوقا وسوارا من ذهب لكل واحد. ثم أمر ابن طاهر بهدم الدور والحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحرب، وقدمت عليه أموال فارس والأهواز مع مكحول الأشروسي [3]   [1] كلبا تكين التركي: ابن الأثير ج 7 ص 145. [2] بندار الطبري: ابن الأثير ج 7 ص 146. [3] منكجور الاشروسني: ابن الأثير ج 7 ص 148. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وخرج الأتراك لاعتراضه وبعث ابن طاهر لحفظه فقدموا به بغداد، ولم يظفر به الأتراك، ومضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن الجسر. وكان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد واليا على الثغور الجزرية، وأقام ينتظر الجند والمال، فلما بلغه خبر هذه الفتنة جاء على طريق الرقّة إلى بغداد فخلع عليه ابن طاهر وبعثه في جيش كثيف لمحاربتهم، وصار إلى ضبيعة بالسواد فأقام بها فقال ابن طاهر: لن يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به! ثم ذهب الأتراك وقاتلوا واتصل الحصار واشتدّت الحرب وانتهبت الأسواق، وورد الخبر من الثغور بأنّ بلكاجور حمل الناس على بيعة المعتز فقال ابن طاهر: لعله ظنّ موت المستعين فكان كذلك، ووصل كتابه بأنه جدّد البيعة، وكان موسى بن بغا مع الأتراك كما قدّمنا، فأراد الرجوع على المستعين فامتنع أصحابه وقاتلوه فلم يتم له أمره وفرّ القعّاطون [1] من البصرة ورموا على الأتراك فأحرقوهم، فبعث ابن طاهر إلى المدائن ليحفظها، وأمده بثلاثة آلاف فارس، وبعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشق الماء إلى خندقها من الفرات، وجاء إلى الإسحاقي من قبل المعتز فسبق المدد الّذي جاء من قبل ابن طاهر، وملك الأنبار. ورجع حوبة إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر الحسين بن إسماعيل في جماعة من القوّاد والجند، فاعترضه الأتراك وحاربوه، وعاد الأنبار وتقدّم هو لينزل عليهما، وبينما هو يحطّ الأثقال إذا بالأتراك فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وكانوا قد كمنوا له فخرج الكمين وانهزم الحسين وغرق كثير من أصحابه في الفرات، وأخذ الأتراك عسكره، ووصل إلى الياسرية آخر جمادى الآخرة ومنع ابن طاهر المنهزمين من دخول بغداد وتوعدهم على الرجوع إليه، وأمدّه بجند آخر، فدخل من الياسرية وبعث على المخاض الحسين بن علي بن يحيى الأرميني في مائتي مقاتل ليمنع الأتراك من العبور إليه من عدوة الفرات، فوافوه وقاتلوه عليها فهزموه، وركب الحسين في زورق منحدرا وترك عسكره وأثقاله، فاستولى عليها الأتراك ووصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم، ولحق من عسكره جماعة من القوّاد والكتّاب بالمعتزّ وفيهم عليّ ومحمد ابنا الواثق، وذلك أوّل رجب. ثم كانت بينهم عدّة وقعات وقتل من الفريقين خلق ودخل الأتراك في كثير من الأيام بغداد وأخرجوا عنها ثم ساروا إلى المدائن وغلبوا عليها ابن أبي السفّاح وملكوها. وجاء الأتراك الذين بالأنبار إلى الجانب الغربي وانتهوا إلى   [1] مقتضى السياق: النغّاطون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 صرصر وقصر ابن هبيرة، واتصل الحصار إلى شهر ذي القعدة وخرج ابن طاهر في بعض أيامه في جميع القوّاد والعساكر، فقاتلهم وانهزموا وقتل منهم خلق وارتقم الذين كانوا مع بغا ووصيف لذلك فلحقوا بالأتراك. ثم تراجع الأتراك وانهزم أهل بغداد. ثم خرج في ذي الحجة رشيد بن كاووس أخو الأفشين ساعيا في الصلح بين الفريقين، واتهم الناس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين. فلما جاء رشيد وأبلغهم سلام المعتز وأخيه أبي أحمد شتموه وشتموا ابن طاهر وعمدوا إلى دار رشيد ليهدموها، وسأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم، فخرج إليهم ونهاهم وبرّأ ابن طاهر مما اتهموه به، فانصرفوا، وتردّدت الرسل بين ابن طاهر وبين أبي أحمد فتجدّد للعامة والجند سوء الظنّ، وطلب الجند أرزاقهم فوعدهم بشهرين وأمرهم بالنزول، فأبوا إلا أن يعلمهم الصحيح من رأيه في المستعين. وخاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائن والأنبار، فأصعد المستعين على سطح دار العامة حتى رآه الناس وبيده البردة والقضيب، وأقسم عليهم فانصرفوا. واعتزم ابن طاهر على التحوّل إلى المدائن، فجاءه وجوه الناس واعتذروا له بالغوغاء فأقصروا بنقل المستعين عن دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم بالرصافة. وأمر القوّاد وبني هاشم بالكون مع ابن طاهر، فركب في تعبية وحلف لهم على المستعين وعلى قصد الإصلاح فدعوا له، وسار إلى المستعين وأغراه به وأمر بغا ووصيفا بقتله فلم يفعلا. وجاءه أحمد بن إسرائيل والحسين بن مخلد بمثل ذلك في المستعين، فتغيّر له ابن طاهر. فلما كان يوم الأضحى وقد حضر الفقهاء والقضاة طالبه ابن طاهر بإمضاء الصلح، فأجاب وخرج إلى باب الشماسية، فجلس هناك ابن طاهر إلى المستعين وأخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه، ويبتذلوا له خمسين ألف دينار، ويعطوه غلّة ثلاثين ألف دينار، ويقيم بالحجاز متردّدا بين الحرمين، ويكون بغا واليا على الحجاز، ووصيف على الجبل، ويكون ثلث الجباية لابن طاهر وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك. فامتنع المستعين أوّلا من الخلع ظنّا منه أنّ وصيفا وبغا معه. ثم تبين موافقتهما عليه فأجاب وكتب بما أراد من الشروط، وأدخل الفقهاء والقضاة واشهدهم بأنه قد صيّر أمره إلى ابن طاهر. ثم أحضر القوّاد وأخبرهم بأنه ما قصد بهذا الإصلاح إلّا حقن الدماء، وأخرجهم إلى المعتزّ ليوافقهم بخطه على كتاب الشرط ويشهدوا على إقراره، فجاءوا بذلك لست خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 خلع المستعين ومقتله والفتن خلال ذلك ولما تمّ ما عقده ابن طاهر ووافى القوّاد بخط المعتز على على كتاب الشروط، أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد، وخطب له بها وبايع له المستعين وأشهد على نفسه بذلك، فنقله من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل ومعه عياله وأهله، وأخذ البردة والقضيب والخاتم ومنع من الخروج إلى مكّة، فطلب البصرة فمنع منها وبعث إلى واسط. فاستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل ورجع أخوه أبو أحمد إلى سامرّا. وفي آخر المحرّم انصرف أبو الساج دبواز بن درموسب [1] إلى بغداد فقلّده ابن طاهر معاون السواد فبعث معه مؤنه [2] إليها لطرد الأتراك والمغاربة عنها، وسار هو إلى الكوفة. ثم كتب المعتز إلى ابن طاهر بإسقاط بغا ووصيف ومن معهما من الدواوين وكان محمد أبو عون من قوّاد ابن طاهر قد تكفّل لأبى إسحاق بقتلهما، وعقد له المعتز على اليمامة والبحرين والبصرة. ونمى الخبر إليهما بذلك فركبا إلى ابن طاهر وأخبراه الخبر وأنّ القوم قد نقضوا العهد. ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد وكان في حجرها فاستوهن له الرضا من المعتز وكذا فعل أبو أحمد مع بغا وكتب لهما المعتز جميعا بالرضا. ثم رغب الأتراك في إحضارهما بسامرّا، فكتب بذلك ودسّ إلى ابن طاهر بمنعهما. فخرجا فيمن معهما ولم يقدر ابن طاهر على منعهما. وحضرا بسامرّا فعقد إليهما المعتز على أعمالهما، وردّ البريد إلى موسى بن بغا الكبير. ثم كانت فتنة بين جند بغداد وابن طاهر في شهر رمضان، جاءوا إليه يطلبون أرزاقهم قال: كتبت إلى أمير المؤمنين في ذلك فكتب إليّ إن كنت تريد الجند لنفسك فأعطهم، وإن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم. فشغبوا ففرّق فيهم ألفي دينار فسكنوا. ثم اجتمعوا ثانية ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا الخيام بباب الشماسية وبنوا البيوت من الأعواد والقصب. وجمع محمد بن إبراهيم أصحابه وشحن داره بالرجال، وأرادوا يوم الجمعة أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعد واعتذر بالمرض، فخرجوا إلى الجسر ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر ودفعوهم عنه. ثم دفعوا أصحاب ابن طاهر بإعانة أهل الجانب الشرقي، وجاء العامّة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهر بإحراق الحوانيت إلى باب الجسر ومات أصحاب تعبية الحرب وجاء من دلّه على عورة الجند فسرّح الشاه   [1] ابو الساج ديوداد بن ديودست: ابن الأثير ج 7 ص 168. [2] نوابة: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 بن ميكال وعرض القواد فسار إلى ناحيتهم، وافترقوا وقتل بينهم ابن الخليل. وحمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عبدون بن الموفق إلى ابن طاهر ومات في خلال ذلك. وأخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد، وذلك أنّ العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار فأخذها عيسى بن فرخان شاه، فأغرى المؤيد بعيسى الأتراك والمغاربة فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد فحبسهما وقتل [1] المؤيد، فأخذ خطّه بخلع نفسه. ثم نمي إليه أنّ الأتراك يرومون إخراجه من الحبس، فسأل عن ذلك موسى بن بغا فأنكر علم ذلك، وأخرج المؤيد من الغد ميتا ودفنته أمّه. فيقال غطّى على أنفه فمات، وقيل أقعد في الثلج ووضع على رأسه. ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى مجلسه. ثم اعتزم المعتزّ على قتل المستعين فكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر أن يسلّمه إلى سيما الخادم، وكتب محمد في ذلك إلى الموكلين به بواسط، يقال بل أرسل بذلك أحمد بن طولون، فسار به في القاطون وسلّمه إلى سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وقيل ألقاه في دجلة بحجر في رجله، وكانت معه دابته فقتلت معه وحمل رأسه إلى المعتز فأمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولّاه معونة البصرة. ثم وقعت فتنة بين الأتراك والمغاربة مستهلّ رجب، بسبب أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرخان شاه فضربوه وأخذوا دابته لما أمرهم المؤيد، فامتعضت المغاربة له ونكروا على الأتراك وغلبوهم على الجوسق، وأخذوا دوابهم وركبوها وملكوا بيت المال. واستجاش الأتراك بمن كان منهم في الكرخ والدور وانضم الغوغاء والشاكريّة إلى المغاربة فضعفت الأتراك عن لقائهم وسعى بينهم جعفر بن عبد الواحد في الصلح فتوادعوا أياما ثم اجتمع الأتراك على حين افتراق المغاربة فقصد محمد بن راشد ونصر ابن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان عنده حتى تسكن الهيعة، فدسّ للأتراك بخبرهما وجاءوا فقتلوهما في منزله وبلغ ذلك المعتز فهمّ بقتل! ابن عون ثم نفاه. أخبار مساور الخارجي كان الوالي على الموصل عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هاني الخزاعيّ، وكان صاحب الشرطة بالحديثة من أعمالها حسين بن بكير، وكان مساور   [1] وفي نسخة اخرى: قيّد المؤيد وكذلك عند ابن الأثير ج 7 ص 172. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 ابن عبد الله بن مساور البجليّ من الخوارج يسكن البواريخ [1] . وحبس صاحب الشرطة حسين بن بكير بالحديثة ابنا للمساور هذا يسمى جوثرة وكان جميلا، فكتب إلى أبيه مساور بأنّ حسين بن بكير نال منه الفاحشة، فغضب لذلك وخرج فقصد الحديثة، فاختفى حسين وأخرج ابنه من الحبس. ثم كثر جمعه من الأكراد والأعراب وقصد الموصل فقاتلها أياما، ثم رجع فكان تحت طريق خراسان، وكانت لنظر بندأر ومظفر بن مشبك [2] فسار إليه بندار في ثلاثمائة مقاتل والخوارج مع مساور في سبعمائة فهزموه وقتلوه، ولم ينج منهم إلا نحو خمسين رجلا وفرّ مظفر إلى بغداد. وجاء الخوارج إلى جلولاء وكانت فيهم حرب هلك فيها من الجانبين خلق. ثم سار خطرمش في العساكر فلقيهم بجلولاء وهزمه مساور، ثم استولى مساور على أكثر أعمال الموصل، ثم ولّى الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطّاب التغلبي سنة أربع وخمسين، فاستخلف عليها ابنه الحسن، فجمع عسكرا كان فيهم حمدون بن الحرث بن لقمان جدا لأمراء من بني حمدان ومحمد بن عبد الله بن السيد بن أنس، وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب فتأخر عن موضعه. وسار الحسن في طلبه فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل وقتل محمد بن السيد الأزدي، ونجا الحسن بن أيوب إلى أعمال اربل. ثم كانت الفتنة سنة خمس وخمسين خلع المعتز وبويع للمهتدي وولّى على الموصل عبد الله بن سليمان فزحف إليه مساور، وخام عبد الله عن لقائه فملك مساور البلد وأقام بها جمعة وصلى وخطب، ثم خرج منها إلى الحديثة وكانت دار هجرته. ثم انتقض عليه سنة ست وخمسين رجل من الخوارج اسمه عبيدة بن زهير العمريّ [3] بسبب الخلاف في توبة الخاطئ وقال عبيدة: لا تقبل واجتمع معه جماعة وخرج إليهم مساور من الحديثة واقتتلوا قتالا شديدا ثم قتل عبيدة وانهزم أصحابه وخرج إليه آخر من بني زهر اسمه طوق، فجمع له الحسن بن أيوب بن أحمد العدوي جمعا كثيرا وحاربه فقاتله سنة خمس أو سبع، واستولى مساور على أكثر العراق ومنع الأموال، فسار إليه موسى بن بغا بابكيال في العساكر فانتهوا إلى [4]   [1] وفي نسخة اخرى البوازيج وكذلك عند ابن الأثير ج 7 ص 174. [2] مظفر بن سيسل: ابن الأثير ج 7 ص 175. [3] عبيدة من بني زهير العمروي: ابن الأثير ج 7 ص 226. [4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 226: «واستولى مساور على كثير من العراق ومنع الأموال عن الخليفة فضاقت على الجند أرزاقهم، فاضطرهم ذلك إلى ان سار اليه موسى بن بغا وبابكيال وغيرهما في عسكر عظيم، فوصلوا إلى السفّ فأقاموا به، ثم عادوا إلى سامرّا.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وبلغهم خبر الأتراك مع المهتدي فأقاموا ثم زحفوا بخلع المهتدي، فلما ولي المعتمد سيّر مفلحا إلى قتال مساور في عسكر كبير وخرج مساور عن الحديثة إلى جبلين حذاءها وقاتله مفلح في أتباعه، ولحق الجبل فاعتصم به وأقام مفلح في حصاره، فكانت بينهما وقعات وكثرت الجراحة في أصحاب مساور من لدن حربه مع عبيدة إلى هذه الحروب فسار عن الجبل وتركه وأصبح مفلح وقد فقدهم فسار إلى الموصل ثم إلى ديار ربيعة وسنجار ونصيبين والخابور، فأصلح أمورها وخرج من الموصل إلى الحديثة ففارقها عنه فرجع مساور في اتباعهم يتخطّف من أعقابهم ويقاتلهم حتى وصل الحديثة فأقام بها أياما، ثم سار إلى بغداد في رمضان سنة ست وخمسين فرجع مساور الحديثة واستولى على البلاد واشتدّت شوكته، ثم أوقع به مسرور البلخي سنة ثمان وخمسين، وجهّز العسكر بالحديثة مع جعلان من قوّاد الترك. ثم قتل سنة إحدى وستين يحيى بن جعفر من ولاة خراسان، وسار مسرور في طلبه وتبعه الموفّق فلم يدركاه. مقتل وصيف ثم بغا وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز اجتمع الجند من الأتراك والفراغنة والأشروسية فطلبوا أرزاقهم منهم لأربعة أشهر وشغبوا، فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الطويل، وكلّمهم وصيف واعتذر بعدم المال وقال: خذوا الزاب في أرزاقكم. ونزلوا بدار أشناس يتناظرون في ذلك، ومضى بغا وسيما إلى المعتزّ يسألانه في أمرهم، وبقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فقتله وقطعوا رأسه ونصبوه. ثم انقادوا وأهدر لهم ذلك، وجعل المعتز لبغا الشرابي ما كان لوصيف وألبسه التاج والوشاحين، ثم تغيّر له المعتز لما عليه من الاستبداد على الدولة، وخشي غائلته ومال باطنا إلى بابكيال وداخله في أمره واعتده لذلك. ثم زوّج بغا ابنته آمنة من صالح بن وصيف وشغل بجهازها، فركب المعتز في تلك الغفلة ومعه حمدان بن إسرائيل إلى بابكيال في كرخ سامرّا وكانت بينه وبين بغا وحشة شديدة وبلغ ذلك بغا فركب في خمسمائة من غلمانه وولده وقوّاده، وكان أكثرهم منحرفين عنه ولحق بالسنّ، وأقام المعتزّ على وجل لا ينام إلا بسلاحه. ثم تعلّل أصحاب بغا عليه فأعرض عنهم وركب البحر راجعا إلى بغداد، وجاء الجسر ليلا لئلا يفطن به الموكّلون هنالك، وبعثوا إلى المعتزّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 بخبره [1] ، فأمر بقتله وحمل إليه رأسه ونصب بسامرّا وأحرقت المغاربة شلوه وكان قصد دار صالح بن وصيف ليثبوا على المعتز. ابتداء دولة الصفار كان يعقوب بن الليث عمر [2] : الصفر بسجستان وكان صالح بن النضر الكناني من أهل البيت قد ظهر بتلك الناحية وقام يقاتل الخوارج وسمّى أصحابه المتطوّعة حتى قيل له صالح المطّوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث هذا وغلبوا على سجستان، ثم أخرجهم عنها طاهر بن عبد الله أمير خراسان. وهلك صالح إثر ذلك وقام بأمر المتطوّعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث شهما وكان درهم مضعفا، واحتال صاحب خراسان حتى ظفر به وحبس ببغداد، فاجتمعت المتطوّعة على يعقوب بن الليث، وقام بقتال السراة وأتيح له الظفر عليهم وأثخن فيهم وخرّب قراهم، وكانت له شرية في أصحابه لم تكن لأحد قبله، فحسنت طاعتهم له وعظم أمره وملك سجستان مظهرا طاعة الخليفة وكاتبه وقلّده حرب السراة، فأحسن الغناء فيه وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم سار من سجستان إلى نواحي خراسان وعليها يومئذ محمد بن عبد الله بن طاهر، وعلى هراة من قبله محمد بن أوس الأنباري، فجمع لمحاربة يعقوب وسار إليهم في التعبية، فاقتتلوا وانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج، وعظم أمره وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطراف. وكان المعتز قد كتب له بولاية سجستان، فكتب له الآن بولاية كرمان، وكان على فارس علي بن الحسين بن شبل، وأبطأ عامل الخراج واعتذر، فكتب له المعتز بولاية كرمان يريد إعداء كل منهما بصاحبه لأنّ طاعتهما مهوضة [3] فأرسل عليّ   [1] يبدو من سياق المعنى ان جملة سقطت أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 187: «فسار بغا الى الجسر في الثلث الأول من الليل، فبعث الموكلون بالجسر ينظرون من هو، فصاح بالغلام فرجع، وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدة من الموكلين فوقف لهم بغا وقال: انا بغا، اما ان تذهبوا معي إلى صالح بن وصيف واما ان تصيروا معي حتى أحسن إليكم. فتوكّل به بعضهم وأرسلوا إلى المعتز بالخبر ... » [2] بياضان في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 184: «وكان يعقوب بن الليث وأخوه عمر ويعملان الصّغر بسجستان. [3] إذا كانت من فعل «هاض» فينبغي ان تكون «مهيضة» اي مكسورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 ابن الحسين بفارس طوق بن الغلس خليفة على كرمان، وسار يعقوب الصفّار من سجستان فسبقه طوق واستولى عليها وأقام يعقوب بمكانه قريبا منها يترقب خروج طوق إليه. وبعد شهرين ارتحل إلى سجستان فوضع طوق أوزار الحرب وأقبل على اللهو، واتصل ذلك بيعقوب في طريقه، فكرّ راجعا وأغذّ السير فصادفه بعد يومين، وركب أصحابه وقد أحيط بهم ففرّوا ناجين بأنفسهم، وملك يعقوب كرمان وحبس طوق. وبلغ الخبر إلى عليّ بن الحسين وهو على شيراز، فجمع جيشه ونزل على مضيق شيراز، وأقبل عليه يعقوب حتى نزل قبالته، والمضيق متوعّر بين جبل ونهر ضيق المسلك بينهما، فاقتحم يعقوب النهر بينهما وأجاز إلى عليّ بن الحسين وأصحابه فانهزموا، وأخذ عليّ أسيرا واستولى على جميع عسكره، ودخل شيراز وملكها وجبى الخراج ورجع إلى سجستان وذلك سنة خمس وخمسين. ويقال بل وقع بينهما بعد عبور النهر حرب شديدة انهزم آخرها عليّ وكان عسكره نحوا من خمسة عشر ألفا من الموالي والأكراد، ورجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم وازدحموا في الأبواب وافترقوا في نواحي فارس وانتهوا إلى الأهواز، وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف. ولما دخل يعقوب وملك فارس امتحن عليّا وأخذ منه ألف بردة [1] ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحدّ، وكتب إلى الخليفة بطاعته وأهدى هدية جليلة يقال منها عشر بازات بيض وباز أبلق صيني ومائة نافجة من المسك وغير ذلك من الطرف ورجع إلى سجستان، ثم استعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها. ابتداء دولة ابن طولون بمصر كان بابكيال من أكابر قوّاد الأتراك مع بغا ووصيف وسيما الطويل، ولمّا حدثت هذه الفتن وتغلبوا على الخلفاء أخذوا الأعمال والنواحي في اقطاعهم، فاقطع المعتز بابكيال هذا أعمال مصر وبها يومئذ ابن مدبّر، وكان بابكيال مقيما بالحفيدة فنظر فيمن يستخلفه عليها وكان أحمد بن طولون من أبناء الأتراك وأبوه من سبي فرغانة وربّي في دار الخلفاء، ونشأ ابنه أحمد بها على طريقة مستقيمة لبابكيال خاله، وأشير عليه بتوليته فبعثه على مصر فاستولى عليها أوّلا دون أعمالها والاسكندرية، ثم قتل المعتز بابكيال وصارت مصر في اقطاع بارجوع الترك [2] وكان بينه وبين أحمد بن طولون   [1] بدرة كما في ابن الأثير ج 7 ص 194. [2] ياركوج التركي: ابن الأثير ج 7 ص 187. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 مودّة متأكدة فكتب إليه واستخلفه على مصر جميعها، ورسخت قدمه فيها وأصارها تراثا لبنيه فكانت لهم فيها الدولة المعروفة. استقدام سليمان بن طاهر لولاية بغداد قد تقدّم لنا أنّ محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان على العراق والسواد، وكانت لهم الشرطة وغيرها، وكان مقيما ببغداد وكان في المدافعة عن المستعين لما لجأ إليه. ثم صلح ما بينه وبين المعتز، واستقل المعتز بالخلافة والآثار المذكورة. ثم هلك آخر سنة ثلاث وثمانين أيام المعتز وفوّض ما كان بيده من الولاية إلى أخيه عبيد الله، نازعه ابنه طاهر في الصلاة عليه ومالت العامّة مع أصحاب طاهر والقوّاد مع عبيد الله لوصية أخيه. ثم أمضى المعتز عهد أخيه وخلع عليه، وبذل لصاحب الخلع خمسين ألف درهم. ثم بعث المعتز عن سليمان بن عبد الله بن طاهر من خراسان، وولّاه على العراق والشرطة وغيرها مكان أخيه محمد، وعزل أخاهما عبيد الله. فلمّا علم عبيد الله تقدّم سليمان أخذ ما في بيت المال وانتقل إلى غربيّ دجلة، وجاء سليمان وقائده محمد ابن أوس ومعه جند من خراسان فأساءوا السيرة في أهل بغداد فحنق الناس عليهم وأعطى أرزاقهم مما بقي في بيت المال وقدمهم على جند بغداد وشاكريّها، فاتفق الجند على الثورة وفتقوا السجون، وعبر ابن أوس إلى الجزيرة واتبعه الجند والعامّة، فحاربهم وانهزم وأخرجوه من باب الشماسية، ونهب من منزله قيمة ألفي ألف درهم، ومن الأمتعة ما لا يحصر ونهب منازل جنده. ورأى سليمان أن يسكن الثائرة فأمره بالخروج إلى خراسان، ثم كانت الفتنة في خلع المعتز وولاية المهدي كما يذكر، وبعث المهتدي سلخ رجب من سنة خمس وخمسين إلى سليمان ليأخذ البيعة له ببغداد. وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد قد بعثه إليها المعتز، فنقله سليمان إلى داره ووثب الجند والعامّة لذلك واجتمعوا بباب سليمان، وقاتلهم أصحابه مليا، ثم انصرفوا وخطب من الغد للمعتز فسكنوا ثم ساروا ودعوا إلى بيعة أبي أحمد، وطلبوا رؤيته فأظهره لهم ووعدهم بما طلبوا، فافترقوا ووكّل بحفظ أبي أحمد ثم بايع للمهتدي في شعبان من تلك السنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 خبر كرخ أصبهان وأبي دلف قد تقدّم لنا شأن أبي دلف أيام المأمون وأنه كان مقيما بكرخة وأن المأمون عفا له عما وقع منه في القعود عن نصره، وأقام بتلك الناحية وهلك، فقام ابنه عبد العزيز مكانه. ولما كانت أيام الفتنة تمسك بطاعة المستعين وولّى وصيف على الجبل وأصبهان، فكتب إلى عبد العزيز باستخلافه عليها وبعث عليه بالخلع، وعقد المعتز لموسى بن بغا الكبير في شهر رجب من سنة ثلاث وخمسين على الجبل وأصبهان، فسار لذلك وفي مقدمته مفلح، فلقيه عبد العزيز بن أبي دلف في عشرين ألفا خارج همذان، فتحاربا وانهزم عبد العزيز وقتل أصحابه. وسار مفلح إلى الكرخ، فخرج إليه عبد العزيز وقاتله ثانية، فانهزم واستولى مفلح على الكرخ. ومضى عبد العزيز إلى قلعة نهاوند فتحصّن بها وأخذ مفلح أهله وأمّه. ثم عقد له وصيف سنة اثنين وخمسين على أعمال الجبل، ثم عقد لموسى بن بغا، فسار وفي مقدّمته مفلح، فقاتله عبد العزيز فانهزم وملك مفلح الكرخ وأخذ ماله وعياله. ثم ملك عبد العزيز وقام مكانه ابنه دلف وقاتله القاسم بن صبهاه من أهالي أصبهان. ثم قتل القاسم أصحاب أبي دلف وولّوا أخاه أحمد بن عبد العزيز سنة خمس وستين. وولّاه عمر الصفّار من قبله على أصبهان عند ما ولّاه عليها المعتمد سنة ست وستين، وحاربه كغليغ التركي سنة تسع وستين، فغلبه أحمد وأخرجه إلى الصميرة، وبعث إليه عمر سنة ثمان وستين في المال فبعث إليه. ثم سار الموفّق سنة ست وسبعين يريد أحمد بأصبهان فشاغله أحمد عن البلد وترك داره بفرشها لنزول الموفّق. ثم مات أحمد سنة ثمانين وولّى أخوه عمر وأخوه بكير يرادفه وقاتلا رافع بن الليث بأمر المعتضد فهزمهما كما يأتي ذكره. ثم قلّده المعتضد أصبهان ونهوند والكرخ عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وثمانين ثم راجعا الطاعة. خلع المعتز وموته وبيعة المهتدي كان صالح بن وصيف بن بغا متغلبا على المعتز، وكان كاتبه أحمد بن إسرائيل، وكانت أمّه قبيحة ووزيرها الحسن بن مخلد، وكان أبو نوح عيسى بن إبراهيم من كبار الكتّاب وجباة الأموال. وطلب الأتراك أرزاقهم وشغبوا، فقال صالح للمعتز: هذه الأموال قد ذهب بها الكتّاب والوزراء، وليس في بيت المال شيء فردّ عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 أحمد بن إسرائيل وأفحش في ردّه وتفاوضا في الكلام فسقط صالح مغشيا عليه، وتبادر أصحابه بالباب فدخلوا منتضين سيوفهم فدخل إلى قصره، فأمر صالح بالوزراء الثلاثة فقيّدوا وشفع المعتز في أمر وزيره فلم يقبل شفاعته، وصادرهم على مال جليل حملوه فلم يسدّ شيئا، فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا من المصادرة اتّهم الجند أنهم حملوا على مال ولم يكن ذلك، فشفعوا في طلب أرزاقهم وضمنوا للمعتز قتل صالح بن وصيف على خمسين ألفا يبذلها لهم. وسألها من أمّه فاعتذرت فاتفقت كلمتهم على خلعه. ودخل إليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر وبابكيال وطلبوه في الخروج إليهم، فاعتذر لهم وأذن لبعضهم في الدخول فدخلوا، وجرّوه إلى الباب وضربوه وأقاموه في الشمس في صحن الدار وكلما مرّ به أحد منهم لطمه. ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب في جماعة فأشهدهم على خلعه، وعلى صالح بن وصيف بأمانه وأمان أمّه وأخته وولده [1] . وفرّت أمّه قبيحة من سرب كانت اتخذته بالدار، ثم عذّبوا المعتز ثم جعلوه في سرب وطمّوا عليه، وأشهدوا على موته بني هاشم والقوّاد، وذلك آخر رجب من سنة خمس وخمسين، وبايعوا لمحمد ابن عمه الواثق ولقّبوه المهتدي باللَّه عند ما خلع المعتز نفسه وأقرّ بالعجز والرغبة في تسليمها إلى المهتدي، بايعه الخاصّة والعامّة. وكانت قبيحة أم المعتز لما فعل صالح بالكتاب ما فعل قد [2] نفرا منهم على الفتك بذلك بصالح، ونمي ذلك إليه، فجمع الأتراك على الثوران، وأيقنت قبيحة بالهلاك فأودعت ما في الخزائن من الأموال والجواهر، وحفرت سربا في حجرتها هربت منه لما أحيط بالمعتزّ، ولما قتل خشيت على نفسها فبعثت إلى صالح تستأمنه فأحضرها في رمضان وظفر منها بخمسمائة ألف دينار، وعذّبها على خزائن تحت الأرض فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ومقدار مكوك من الزبرجد لم ير مثله، ومقدار مكوك آخر من اللؤلؤ العظيم وجراب من الياقوت الأحمر القليل النظير، وذمّها الناس بأنها عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار ومعها هذا المال، ثم سارت إلى مكة فأقامت هنالك، وقبض صالح على أحمد بن إسرائيل وزيد بن المعتز وعذّبه وصادره. ثم قبض على   [1] الضمير يعود للمعتز: [2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 199: «وكان السبب في هربها وظهورها انها كانت قد واطأت النفر من الكتّاب الذين أوقع بهم صالح على الفتك بصالح ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 أبي نوح وفعل به مثله، وقبض على الحسن بن مخلد كذلك ولم يمت. وبلغ المهتدي ذلك فنكره وقال: كان الحبس كافيا في العقوبة. ولأوّل ولاية المهتدي أخرج القيان والمغنّين من سامرّا ونفاهم عنها، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وردّ المظالم وجلس للعامة، وكانت الفتن قائمة، والدولة مضطربة، فشمّر لإصلاحها لو أمهل واستوزر سليمان بن وهب وغلب على أمره صالح بن وصيف وقام بالدولة. مسير موسى بن بغا إلى سامرا ومقتل صالح بن وصيف كان موسى بن بغا غائبا بنواحي الريّ وأصبهان منذ ولاية المعتز عليها سنة ثلاث وخمسين، ومعه مفلح غلام أبي الساج، وكانت قبيحة أم المعتز لما رأت اضطراب أموره كتبت إلى موسى قبل أن يفوت في أمره، فجاءه كتابها، وقد بعث مفلحا لحرب الحسن بن زيد العلويّ فحربه [1] بطبرستان فغلبه، وأحرق قصوره بآمد وخرج في اتباعه إلى الديلم، فكتب إلى موسى بالرجوع لمداهمة من شاء وبينما هو في استقدامه وانتظاره قتل المعتزّ وبويع المهتدي، وبلغ أصحابه ما حواه صالح من أموال المعتز وكتّابه وأمّه، فشرهوا إلى مثل ذلك، وأغروا موسى بالمسير إلى سامرّا، ورجع مفلح من بلاد الديلم إليه وهو بالريّ، فسار نحو سامرّا وسمع المهتدي بذلك فكتب إليه بالمقام ويحذّره على ما وراءه من العلويين فلم يصغ لذلك، وأفحش أصحابه في إساءة الرسل الواصلين بالكتب. فكتب بالاعتذار واحتج بما عاينه الرسل وأنه يخشى أن يقتله أصحابه إن عادوا إلى الريّ وصالح بن وصيف في خلال ذلك يغري به المهتدي وينسبه إلى المعصية والخلاف، إلى أن قدم في المحرّم سنة ست وخمسين ودخل في التبعية، فاختفى صالح بن وصيف ومضى موسى إلى الجوسق والمهتدي جالس للمظالم فأعرض له عن الإذن ساعة ارتاب فيها هو وأصحابه وظنّوا أنه ينتظر قدوم صالح بالعساكر. ثم أذن لهم فدخلوا وقبضوا على المهتدي وأودعوه دار باجورة [2] وانتهبوا ما كان في الجوسق. واستغاث المهتدي بموسى فعطف عليه ثم   [1] لعلها فحاربه. [2] دار ياجور: ابن الأثير ج 7 ص 218. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 أخذ عليه العهود والإيمان أن لا يوالي صالحا وأنّ باطنه وظاهره في موالاتهم سواء، فجدّدوا له البيعة واستبد موسى بالأمر، وبعث إلى صالح للمطالبة بما احتجبه من الأموال فلم يوقف له على أثر، وأخذوا في البحث عنه. وفي آخر المحرّم أحضر المهتدي كتابا رفعه إليه سيما الشرابيّ، زعم أنّ امرأة دفعته إليه وغابت فلم يرها، وحضر القوّاد وقرأه سليمان بن وهب عليهم وهو بخط صالح يذكر ما صار إليه من الأموال، وأنه إنما استتر خشية على نفسه وحسما للفتنة وإبقاء على الموالي. ولما قرأ الكتاب حثّهم المهتدي على الصلح والاتفاق، فاتهمه الأتراك بالميل إلى صالح وأنه مطلع على مكانه، وطال الكلام بينهم بذلك ثم اجتمعوا من الغد بدار موسى بن بغا داخل الجوسق واتفقوا على خلع المهتدي، إلا أخا بابكيال فإنه أبى من ذلك وتهدّدهم بأنه مفارقهم إلى خراسان، واتصل الخبر بالمهتدي فاستدعاه إليه وقد نظّف ثيابه وتطيب وتقلّد سيفه فأرعد وأبرق وتهدّدهم بالاستماتة، ثم حلف لا يعلم مكان صالح، وقال لمحمد بن بغا وبابكيال قد حضرتما مع صالح في أمر المعتز وأموال الكتّاب وأنتم شركاؤه في ذلك كلّه. وانتشر الخبر في العامة بأنهم أرهقوه وأرادوا خلعه فطفقوا يحاذرون على الدعاء في المساجد والطرقات ويبغون على القوّاد بغيهم على الخليفة، ويرمون الرقاع بذلك في الطرقات. ثم إنّ الموالي بالكرخ والدور دسوا إلى المهتدي أن يبعثوا إليه أخاه أبا القاسم عبد الله بعد أن ركبوا وتحرّكوا فقالوا لأبي القاسم: بلغنا ما عليه موسى وبابكيال وأصحابهما ونحن شيعة للخليفة فيما يريده، وشكوا مع ذلك تأخّر أرزاقهم وما صاروا من الاقطاع والزيادات إلى قوّادهم وما أخذه النساء والدخلاء حتى أصحب ذلك كله بالخراج والضياع، وكتبوا بذلك إلى المهتدي، فأجابهم بالثناء على التشيّع له والطاعة والوعد الجميل في الرزق، والنظر الجميل في شأن الاقطاعات للقوّاد والنساء، فأفاضوا في الدعاء وأجمعوا على منع الخليفة من الحجر الاستبداد عليه، وأن ترجع الرسوم إلى عادتها أيام المستعين على كل عشرة عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادة في الاقطاع ويوضع العطاء في كل شهرين. وكتبوا بذلك إلى المهتدي وأنهم صائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم، وإن أحد اعترض عليه أخذوا رأسه وإن تعرّض له أحد قتلوا موسى بن بغا وبابكيال وماجور. فجاء أبو القاسم بالكتاب وقد قعد المهتدي للمظالم وعنده الفقهاء والقضاة والقوّاد قائمون في مراتبهم فقرأ كتابهم على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 القوّاد فاضطربوا وكتب جوابهم بما سألوا، وطلب أبو القاسم من القوّاد أن يبعثوا معه رسولا بالعذر عنهم ففعلوا، ومضى أبو القاسم إليهم بكتاب الكتّاب وبرسل القوّاد وأعذارهم. فكتبوا إلى المهتدي يطلبون التوقيعات بحط الزيادات وردّ الاقطاعات وإخراج الموالي البرّانيين من الخاصة، وردّ الرسوم إلى عاداتها أيام المستعين، ومحاسبة موسى بن بغا وصالح بن وصيف على ما عندهم من الأموال ووضع العطاء على كل شهرين وصرف النظر في الجيش إلى بعض إخوته أو قرابته وإخراجه من الموالي، وكتبوا بذلك إلى المهتدي والقوّاد فأجابهم إلى جميع ما سألوه. وكتب إليهم موسى بن بغا بالإجابة في شأن صالح والإذن في ظهوره فقرءوا الكتابين ووعدوا بالجواب، فركب إليهم أبو القاسم واتبعه موسى في ألف وخمسمائة فوقف في طريقهم، وجاءهم أبو القاسم فاضطربوا في الجواب ولم يتّفقوا فرجع وردّ موسى بن بغا فأمرهم المهتدي بالرجوع وأن يتقدّم إليهم محمد بن بغا مع أبي القاسم، ويدفعوا إليهم كتاب الأمان لصالح بن وصيف، وقد كان من طلبتهم أن يكون موسى في مرتبة أبيه وصالح كذلك والجيش في يده، وأن يظهر على الأمان فأجيبوا إلى ذلك. وافترق الناس إلى الكرخ والدور وسامرّا، فلما كان من الغد ركب بنو وصيف في جماعة ولبسوا السلاح فنهبوا دواب العامة وعسكروا بسامرّا وتعلقوا بأبي القاسم يطلبون صالحا فأنكر المهتدي أن يكون علم بمكانه، وقال: إن كان عندهم فليظهروه. ثم ركب ابن بغا في القوّاد ومعه أربعة آلاف فارس وعسكر، وافترق الأتراك ولم يظهر للكرخيين ولا لأهل الدور وسامرّا في هذا اليوم حركة، وجدّ موسى في طلب صالح ونادى عليه وعثر عليه بعض الغوغاء فجاء به إلى الجوسق والعامة في اتباعه فضربه بعض أصحاب مفلح فقتله وطيف برأسه على قناة وخرج موسى بن بغا لقتال السراة بناحية السنّ. الصوائف منذ ولاية المنتصر إلى آخر أيام المهتدي في سنة ثمان وأربعين أيام المستعين خرج بناحية الموصل محمد بن عمر الشاربي وحكم فسرّح المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني فأسره في عدّة من أصحابه وقتلوا وصلبوا وفي هذه السنة غزا بالصائفة وصيف وأمره المنتصر بالمقام بملطية أربع سنين يغزو في أوقات الغزو إلى أن يأتيه رأيه، وكان مقيما بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قدورية. وفي سنة تسع وأربعين غزا بالصائفة جعفر بن دينار فافتتح مطامير واستأذنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 عمر بن عبد الله الأقطع في الدخول إلى بلاد الروم فأذن له، فدخل في جموع من أهل ملطية، ولقي ملك الروم بمرج الأسقف في خمسين ألفا فأحاطوا به وقيل في ألفين من المسلمين، وخرج الروم إلى الثغور الخزريّة [1] فاستباحوها وبلغ ذلك عليّ ابن يحيى الأرمني وقد كان صرف عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. فلما سمع بخبرهم نفر إليهم وقاتلهم فانهزم وقتل في أربعمائة من المسلمين، وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز غزا محمد بن معاذ من ناحية ملطية فانهزم وأسر (الولاة) لما ولي المنتصر استوزر أحمد بن الخصيب وولّى على المظالم أبا عمر أحمد بن سعيد مولى بني هاشم. ثم ولي المستعين ومات طاهر بن عبد الله بخراسان فولّى المستعين مكانه ابنه محمدا وولّى محمد بن عبد الله على العراق وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد، واستخلف أخاه سليمان بن عبد الله على طبرستان. وتوفي بغا الكبير فولّى ابنه موسى على أعماله وضاف إليه ديوان البريد، وشغب أهل حمص على عاملهم وأخرجوه، فبعث عليهم المستعين الفضل بن قارن أخا مازيار فقتل منهم خلقا وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرّا. واستوزر المستعين أتامش بعد أن عزل أحمد بن الخصيب، واستصفى بقي إلى أقريطش، وعقد لأتامش على مصر والمغرب، ولبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجا بعده [2] . ثم قتل أتامش فاستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن داود وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولّاه عيسى بن فرخان شاه، وولّى وصيفا على الأهواز وبغا الصغير على فلسطين، ثم غضب بغا على أبي صالح ففرّ إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني، وولى ديوان الرسائل سعيد بن حميد وعزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء ونفاه إلى البصرة، وولّى جعفر بن محمد بن عمّار البرجمي، وفي خمسين عقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف بساسان على مكة ووثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه فسرّح إليهم المستعين موسى بن بغا وحاربوه فهزمهم، وافتتحت حمص وأثخن فيهم وأحرقها، وفيها وثب الشاكريّة والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن وهرب عبد الله بن إسحاق وفيها كان ظهور العلويّة بنواحي طبرستان. وفي سنة إحدى   [1] الثغور الجزرية وقد مرّ ذكرها من قبل. [2] مهرجان قذق: ابن الأثير ج 7 ص 120. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 وخمسين عقد المعتز لبغا ووصيف على أعمالها، وردّ البريد إلى موسى بن بغا الكبير، وعقد محمد بن طاهر لأبي الساج وقدّم بين يديه عبد الرحمن كما قلنا، وأظهر أنه إنما جاء لحرب الأعراب وتلطّف لأبي أحمد حتى خالطه وقيّده وبعث به إلى بغداد في سنة اثنتين وخمسين. وولّى المعتز الحسين بن أبي الشوارب على القضاء وبعث محمد ابن عبد الله بن طاهر أبا الساج على طريق مكة، وعقد المعتز لعيسى الشيخ بن السليل الشيبانيّ من ولد جسّاس بن مرّة على الرملة فاستولى على فلسطين وعلى دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام. وكان إبراهيم بن المدبّر على مصر فبعث إلى بغداد من المال بسبعمائة ألف دينار فاعترضها عيسى وأخذها، وطولب بالمال فقال: الفتنة على الجند! فولّاه المعتمد على أرمينية يقيم بها دعواه. وبعث المعتمد إلى الشام ما جور على دمشق وأعمالها، وبلغ الخبر إلى عيسى فبعث ابنه منصورا في عشرين ألف مقاتل، فانهزم وقتل وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل. وفيها عقد وصيف لعبد العزيز بن أبي دلف العجليّ على أعمال الجبل. وفي سنة ثلاث وخمسين عقد لموسى بن بغا على الجبل، فسار وفي مقدمته مفلح مولى بني الساج، وقاتله عبد العزيز بن أبي دلف فانهزم ولجأ إلى قلعة لهادر [1] وملك مفلح الكرخ، وأخذ أهله وعياله، وفيها مات ابن عبد الله بن طاهر ببغداد وولّى أخوه عبيد الله بعهده. ثم بعث المعتز عن أخيه سليمان بطبرستان فولّاه مكانه، وكان على الموصل سليمان بن عمران الأزدي، وكانت بينه وبين الأزد حروب بنواحي الموصل. وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر. وفيها ملك يعقوب الصفّار سجستان وفارس وهراة، وكان ابتداء دولته، وولى بابكيال أحمد بن طولون على برّ مصر من قبله فكان ابتداء دولته. ثم أقطعها المعتمد سنة سبع وخمسين ليارجوج [2] فولى عليها أحمد بن طولون من قبله وفي سنة خمس وخمسين أيام المهتدي استولى مساور الخارجي على الموصل وفيها ظهر صاحب الزنج وكان ابتداء فتنته. أخبار صاحب الزنج وابتداء فتنته كان أكثر دعاة العلوية الخارجين بالعراق أيام المعتصم وما بعده أكثرهم من   [1] هكذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 178: «ومضى إلى قلعة له يقال لها: زرّ فتحصّن بها ودخل مفلح كرج» . [2] ياركوج: ابن الأثير ج 7 ص 241. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 الزيديّة، وكان من أئمتهم عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير وكان نازلا بالبصرة، ولما وقع البحث عليه من الخلفاء ظفروا بابن عمّه عليّ بن محمد بن الحسين، فقتل بغدك ولأيام من قتله خرج رجل بالريّ يدّعي أنه عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى المطلوب وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي. ولما ملك البصرة لقي عليّا هذا حيّا معروف النسب، فرجع عن ذلك وانتسب إلى يحيى قتيل الجوزجان أخي عيسى المذكور. ونسبه المسعوديّ إلى طاهر بن الحسين وأظنّه الحسين ابن طاهر بن يحيى المحدّث بن الحسين بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن عليّ، لأن ابن حزم قال في الحسين السبط أنه لا عقب له إلا من عليّ بن الحسين، وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر. وقال الطبريّ وابن حزم وغيرهم من المحقّقين أنه من عبد القيس، واسمه عليّ بن عبد الرحيم من قرية من قرى الريّ، ورأى كثرة خروج الزيديّة فحدّثته نفسه بالتوثّب فانتحل هذا النسب، ويشهد لذلك أنه كان على رأي الأزارقة من الخوارج، ولا يكون ذلك من أهل البيت. وسياقة خبره أنه كان اتصل بجماعة من حاشية المنتصر ومدحهم. ثم شخص من سامرّا إلى البحرين سنة تسع وأربعين ادّعى أنه من ولد العبّاس بن أبي طالب من ولد الحسن بن عبد الله بن العبّاس، ودعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهل حجر وغيرها، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه وعظمت فتنته، فتحوّل عنهم إلى الأحساء ونزل على بني الشمّاس من سعد بن تميم، وصحبه جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع، فكانا قائدين له، وقاتل أهل البحرين فانهزم وافترقت العرب عنه واتبعه عليّ بن أبان وسار إلى البصرة ونزل في بني ضبيعة وعاملها يومئذ محمد بن رجاء، والفتنة فيها بين البلاليّة والسعديّة، وطلبه ابن رجاء فهرب وحبس ابنه وزوجته وجماعة من أصحابه، فسار إلى بغداد وأقام بها حولا وانتسب إلى محمد بن أبي أحمد بن عيسى كما قلناه، واستمال بها جماعة منهم جعفر ابن محمد الصوحانيّ من ولد زيد بن ضوحان ومسروق ورفيق غلامان ليحيى بن عبد الرحمن وسمّى مسروقا حمزة وكنّاه أبا أحمد، وسمّى رفيقا جعفرا وكنّاه أبا الفضل. ثم وثب رؤساء البلاليّة والسعديّة بالبصرة وأخرجوا العامل محمد بن رجاء، فبلغه ذلك وهو ببغداد، وأنّ أهله خلعوه فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع ومسروق ورفيق، فنزل بقصر القرش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 ودعا الغلمان من الزنوج ووعدهم بالعتق فاجتمع له منهم خلق وخطبهم ووعدهم بالملك ورغّبهم في الإحسان وحلف لهم وكتب لهم في خرقة إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآية. واتخذها راية وجاءه موالي الزنوج في عبيدهم فأمر كل عبد أن يضرب مولاه وحبسهم ثم أطلقهم، ولم يزل هذا رأيه والزنوج في متابعته والدخول في أمره وهو يخطبهم في كل وقت ويرغّبهم. ثم عبر دجيلا إلى نهر ميمون، فأخرج عند الحميريّ وملكه وسار إلى الأيلّة وبها ابن أبي عون فخرج إليه في أربعة آلاف فهزمهم ونال منهم. ثم سار إلى القادسية فنهبها وكثر سلاحهم، وخرج جماعة من أهل البصرة لقتاله، فبعث إليهم يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فهزمهم وأخذ سلاحهم. ثم طائفة أخرى كذلك وأخرى، وخرج قائدان من البصرة فهزمهما وقتل منهما، وكانت معهما سفن ألقتها الريح إلى الشطّ فغنموا ما فيها وقتلوا وكثر عيثه وفساده. وجاء أبو هلال من قوّاد الأتراك في أربعة آلاف مقاتل فلقيه على نهر الريان فهزمه الزنج واستلحموا أكثر أصحابه، ثم خرج أبو منصور أحد موالي الهاشميين في عسكر عظيم من المطوعة والبلاليّة والسعديّة فسرّح للقائهم علي بن أبان فلقي طائفة منهم فهزمهم، ثم أرسل طائفة أخرى إلى مرفأ السفن وفيه نحو من ألفي سفينة فهرب عنها أهلها ونهبوها، ثم جاءت عساكر أبي منصور وقعد الزنوج لهم بين النخل وعليهم عليّ بن أبان، ومحمد بن مسلم، فهزموا العسكر وقتلوا منهم وأخذوا سلاحهم. ثم سار فنهب القرى حتى امتلأت أيديهم بالنهب. ثم سار يريد البصرة ولقيته عساكرها فهزمهم الزنج وأثخنوا فيهم. ثم سار من الغد نحو البصرة وخرج إليه أهلها واحتشدوا وزحفوا إليه برّا وبحرا فلقيهم بالسدّ وانهزموا هزيمة شنعاء كثر فيها القتل. ووهن أهل البصرة وكتبوا إلى الخليفة فبعث إليهم جعلان التركي مددا وولّى على الأبلّة أبا الأحوص الباهلي وأمّه بجند من الأتراك، وقد بثّ صاحب الزنج أصحابه يمينا وشمالا للغارة والنهب. ولما وصل جعلان إلى البصرة، نزل على فرسخ منهم وخندق عليه، وأقام ستة أشهر يسرّح لحربهم الزيني مع بني هاشم ومرجف. ثم بيته الزنج فقتلوا جماعة من أصحابه، وتحوّل عن مكانه ثم انصرف عن حربهم وظفر صاحب الزنج بعده من المراكب غنم فيها أموالا عظيمة، وقتل أهلها وألحّ بالغارات على الأبلّة إلى أن دخلها عنوة آخر رجب سنة ست وخمسين، وقتل عاملها أبا الأخوص عبيد الله ابن حميد الطوسي وخلقا من أهلها واستباحها وأحرقها وبلغ ذلك أهل عبّادان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 فاستأمنوا له وملكها، واستولى على ما فيها من الأموال والعبيد والسلاح إلى الأهواز وبها إبراهيم بن المدبّر على الخراج، فهرب أهلها ودخلها الزنج ونهبوا وأسروا ابن المدبّر فخاف أهل البصرة وافترق كثير منهم من البلدان. وبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع وخمسين فهزمهم وأخذ ما معهم وأثخن فيهم وكان ابن المدبر أسيرا عندهم في بيت يحيى بن محمد البحراني وقد ضمن لهم مالا كثيرا ووكّل به رجلين فداخلهم حتى حفر سربا من البيت وخرج منه ولحق بأهله. خلع المهتدي وقتله وبيعة المعتمد وفي أوّل رجب من سنة ست وخمسين شعف الأتراك من الترك والدور بطلب أرزاقهم وبعث المهتدي أخاه أبا القاسم ومعه كفقا [1] وغيره فسكّنوهم وعادوا وبلغ محمد بن بغا أنّ المهتدي قال للأتراك أنّ الأموال عند محمد وموسى ابني بغا، فهرب إلى أخيه بالسّند وهو في مقاتلة موسى الشاربي فأمّنه المهتدي ورجع ومعه أخوه حنون وكيغلغ فكتب له المهتدي بالأمان ورجع إلى أصحابه وحبسه وصادره على خمسة عشر ألف دينار، ثم قتله وبعث بابكيال بكتابه إلى موسى بن بغا بأن يتسلّم العسكر وأوصاه بمحاربة الشاربي [2] وقتل موسى بن بغا ومفلح، فقرأ الكتاب على موسى وتواطئوا على أن يرجع بابكيال فيتدبر على قتل المهتدي، فرجع ومعه يارجوج واساتكين [3] وسيما الطويل، ودخلوا دار الخلافة منتصف رجب فحبس بابكيال من بينهم واجتمع أصحابه ومعهم الأتراك وشغبوا. وكان عند المهتدي صالح بن عليّ بن يعقوب بن المنصور فأشار بقتله ومناجزتهم، فركب في المغاربة والأتراك والفراغنة على التعبية. ومشى والبلخي [4] في الميمنة ويارجوج في الميسرة ووقف هو في القلب ومعه أساتكين وغيره من القوّاد وبعث برأس بابكيال إليهم مع عتّاب بن عتّاب، ولحق الأتراك من صفّه بإخوانهم الأتراك وانقضّ الباقون على المهتدي وولّى منهزما ينادي بالناس ولا يجيبه أحد وسار إلى السجن فأطلق المحبوسين ودخل دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة، وافتتحوا عليه وحملوه على بغل إلى الجوسق، وحبس عند أحمد   [1] كيغلغ: ابن الأثير ج 7 ص 228. [2] هو مساور الشاري وليس الشاربي. [3] ياركوج واسارتكين: ابن الأثير ج 7 ص 229. [4] هو مسرور البلخي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 ابن خاقان، وأرادوه على الخلع فأبى واستمات فأخرجوا رقعة بخطّه لموسى بن بغا وبابكيال وجماعة القوّاد أنه لا يغدر بهم ولا يقاتلهم ولا يهمّ بذلك، ومتى فعل شيئا من ذلك فقد جعل أمر الخلافة بأيديهم يولّون من شاءوا فاستحلّوا بذلك أمره وقتلوه. وقيل في سبب خلعه غير هذا وهو أنّ أهل الكرخ والدور من الأتراك طلبوا الدخول على المهتدي ليكلّموه فأذن لهم وخرج محمد بن بغا إلى المحمديّة ودخلوا في أربعة آلاف، فطلبوا أن يعزل عنهم قوّاده ويصادرهم وكتّابهم على الأهواز، ويصير الأمر إلى إخوته فوعدهم بالإجابة وأصبحوا من الغد يطلبون الوفاء بما وعدهم به، فاعتذر لهم بالعجز عن ذلك إلا بسياسة ورفق فأبوا إلّا المعاجلة، فاستخلفهم على القيام معه في ذلك بإيمان البيعة فحلفوا، ثم كتبوا إلى محمد بن بغا عن المهتدي وعنهم يعذلونه في غيبته عن مجلسهم مع المهتدي، وأنهم إنما جاءوا بشكوى حالهم ووجدوا الدار خالية فأقاموا ورجع محمد بن بغا فحبسوه في الأموال وكتبوا إلى موسى بن بغا ومفلح بالقدوم وتسليم العسكر إلى من ذكروه لهم، وبعثوا من يقيدهما إن لم يأتمرا ذلك. ولما قرئت الكتب على موسى وأصحابه امتنعوا لذلك وساروا نحو سامرّا، وخرج المهتدي لقتالهم على التعبية وتردّدت الرسل بينهم بطلب موسى أن يولّى على ناحية ينصرف إليها، ويطلب أصحاب المهتدي أن يحضر عندهم فيناظرهم على الأموال إلى أن انفضّ عنهم أصحابه وسار هو ومفلح على طريق خراسان، ورجع بابكيال وجماعة من القوّاد إلى المهتدي فقتل بابكيال ثم أنف الأتراك من مساواة الفراغنة والمغاربة لهم وأرادوا طردهم فأبى المهتدي ذلك، فخرج الأتراك عن الدار بأجمعهم طالبين ثأر بابكيال فركب المهتدي على التعبية في ستة آلاف من الفراغنة والمغاربة ونحو ألف من الأتراك أصحاب صالح بن وصيف، واجتمع الأتراك للحرب في عشرة آلاف فانهزم المهتدي وكان ما ذكرناه من شأنه. ثم أحضر أبو العبّاس أحمد بن المتوكل وكان محبوسا بالجوسق فبايعه الناس. وكتب الأتراك إلى موسى بن بغا وهو غائب فحضر وكملت البيعة لأحمد بن المتوكل ولقب المعتمد على الله، واستوزر عبيد الله بن خاقان فأصبح المهتدي ثانى يوم البيعة ميتا منتصف رجب من سنة ست وخمسين على رأس سنة من ولايته. ولم يزل ابن خاقان في وزارته إلى أن هلك سنة ثلاث وستين من سقطة بالميدان سال فيها دماغه من منخريه، فاستوزر محمد بن مخلد، ثم سخط عليه موسى بن بغا واختلفا فاستوزر مكانه سليمان بن وهب، ثم عزله وحبسه وولّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 الحسن ابن مخلد وغضب الموفّق لحبسه ابن وهب وعسكر بالجانب الغربي وتردّدت الرسل بينهما فاتفقا وأطلقه وذلك سنة أربع وستين. ظهور العلوية بمصر والكوفة وفي سنة ست وخمسين ظهر بمصر إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن الحنفية ويعرف بالصولي يدعو إلى الرضا من آل محمد وملك أشياء من بلاد الصعيد. وجاءه عسكر أحمد بن طولون من مصر فهزمهم وقتل قائدهم، فجاء جيش آخر فانهزم أمامهم إلى أبو خات وجمع هنالك جموعا وسار إلى الأشمومين [1] فلقيه هنالك أبو عبد الرحمن العمري وهو عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر كان قد أخذ نفسه بحرب البجاة وغزوا بلادهم لما كان منهم في غزو بلاد المسلمين، فاشتدّ أمره في تلك الناحية وكثر اتباعه، وبعث إليه ابن طولون عسكرا فقال لقائده أنا ألبث هناك لدفع الأذى عن بلاد المسلمين، فشاور أحمد بن طولون فأبى القائد إلا من أجزته [2] فهزمه العمريّ. ولما سمع ابن طولون خبره أنكر عليهم أن لا يكونوا بذكره، فبقي على حاله من الغارة على البجاة حتى أدوا الجزية. فلما جاء الصولي من الأشمونين لقيه العمري فهزمه، وعاد العمري إلى أسوان واشتدّ عيثه، فبعث إليه ابن طولون العساكر فهرب إلى عيذاب وأجاز البحر إلى مكة وافترق أصحابه، وقبض عليه والي مكة وبعث به إلى ابن طولون فحبسه مدّة ثم أطلقه، فرجع إلى المدينة ومات بها. وفي هذه السنة ظهر عليّ بن زيد، وجاءه الشاه بن ميكال من قبل المعتمد في جيش كثيف فهزمه وأثخن في أصحابه. فسرّح المعتمد إلى حربه كيجور التركي فخرج عليّ عن الكوفة إلى القادسية وملك كيجور الكوفة أوّل شوّال، وأقام عليّ بن زيد ببلاد بني أسد. ثم غزا كيجور آخر ذي الحجة فأوقع به وقتل وأسر من أصحابه ورجع إلى الكوفة، ثم إلى سرّ من رأى، وبقي عليّ هنالك إلى أن بعث المعتمد سنة تسع [3]   [1] الاشمونين: ابن الأثير ج 7 ص 263. [2] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 264: «فاكتب إلى الأمير أحمد عرّفه كيف حالي، فان أمرك بالانصراف فانصرف، وإلا فان أمرك بغير ذلك كنت معذورا. فلم يجبه إلى ذلك، وقاتله فانهزم جيش ابن طولون» . [3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 240: «فوجه اليه الخليفة نفرا من القوّاد، فقتلوه بعكبرا في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائتين» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 عسكرا فقتلوه بعكبر وانقطع أمره وقيل سار إلى صاحب الزنج فقتله سنه ستين وفي هذه السنة غلب الحسين بن زيد الطالبي على الريّ وسار موسى بن بغا إليه. بقية أخبار الزنج قد تقدّم لنا أنّ المعتمد بعث سعيد بن صالح الحاجب لحربهم فأوقع بهم، ثم عاودوه فأوقعوا به وقتلوا من أصحابه وأحرقوا عسكره، ورجع إلى سامرّا فعقد المعتمد على حربهم لجعفر بن منصور الخيّاط فقطع عنهم ميرة السفن. ثم سار إليهم في البحر فهزموه إلى البحرين، ثم بعث الخبيث عليّ بن أبان من قوّاده إلى اربل [1] لقطع قنطرتها، فلقي إبراهيم بن سيما منصرفا من فارس، فأوقع بهم إبراهيم وخرج عليّ بن أبان وسار إبراهيم إلى نهر جيّ وأمر كاتبه شاهين بن بسطام باتباعه وجاء الخبر إلى علي ابن أبان بإقبال شاهين فسار ولقيه وهزمه أشدّ من الأوّل، وانصرف إلى جيّ. وكان منصور بن جعفر الخيّاط منذ انهزم في البحر، لم يعد لقتال الزنج واقتصر على حفر الخنادق وإصلاح السفن، فزحف عليّ بن أبان لحصاره بالبصرة، وضيّق على أهل البلد وأشرف على دخولها، وبعث لاحتشاد العرب، فوافاه منهم خلق فدفعهم لقتال أهل البصرة وفرّقهم على نواحيها فقاتلهم كذلك يومين، ثم افتتحها عليّ بن أبان منتصف شوّال وأفحش في القتل والتخريب، ورجع ثم عاودهم ثانية وثالثة حتى طلبوا الأمان فأمّنهم وأحضرهم في بعض دور الامارة فقتلهم أجمعين، وحرق عليّ ابن أبان الجامع ومواضع من البصرة واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل وعمّ النهب وأقام كذلك أياما، ثم نادى بالأمان فلم يظهر أحد وانتهى الخبر إلى الخبيث فصرف عليّ بن أبان وولّى عليها يحيى بن محمد البحراني. مسير المولد لحربهم لما دخل الزنج البصرة وخرّبوها، أمر المعتمد محمدا المعروف بالمولد بالمسير إلى البصرة، وسار إلى الأبلّة، ثم نزل البصرة واجتمع إليه أهلها، وأخرج الزنج عنها إلى نهر معقل، ثم بعث الخبيث قائده يحيى بن محمد لحرب المولد فقاتله عشرة أيام   [1] قنطرة أربك: ابن الأثير ج 7 ص 243. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 ووطن المولد نفسه على المقام، وبعث الخبيث إلى يحيى بن محمد أبا الليث الأصبهاني مددا وأمرهم بتبييت المولد، فبيتوه وقاتلوه تلك الليلة والغد إلى المساء، ثم هزموه وغنم الزنج عسكره واتبعه البحراني إلى الجامدة وأوقع بأهلها، ونهب تلك القرى أجمع وعاث فيها ورجع إلى نهر معقل. مقتل منصور الخياط كان الزنج لما فرغوا من البصرة سار عليّ بن أبان إلى جيّ وعلى الأهواز يومئذ منصور ابن جعفر الخياط قد ولّاه عليها المعتمد بعد مواقعته الزنج بالبحرين، فسار إلى الأهواز ونزل جيّ وسار عليّ بن أبان قائد الزنج لحربه. وجاء أبو الليث الأصبهاني في البحر مددا له وتقدّم إلى منصور من غير أمر عليّ فظفر منصور وقتل الكثير ممن معه وأفلت منهزما إلى الخبيث. ثم تواقع عليّ بن أبان مع منصور فهزمه واتبعه الزنج فحمل عليهم وألقى نفسه في النهر ليعبر إليهم فغرق، وقيل تقدّم إليه بعض الزنج لما رآه فقتله في الماء. ثم قتل أخوه خلف وغيره من العسكر وولّى يارجوج على عمل منصور اصطيخور [1] من قوّاد الأتراك. مسير الموفق لحرب الزنج كان أبو أحمد الموفّق وهو أخو المعتمد بمكة، وكان المعتمد قد استقدمه عند ما اشتدّ أمر الزنج وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز، وأمره أن يعقد ليارجوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح. ولما انهزم سعيد بن سعيد بن صالح عقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه على البصرة وكور دجلة والأهواز ثم قتله كما قلناه فعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الموفّق على مصر وقنّسرين والعواصم وخلع على مفلح، وذلك في ربيع سنة ثمان وخمسين وسيّرهما لحرب الزنج فساروا في عدّة كاملة. وخرج المعتمد يشيع أخاه وكان عليّ بن أبان بجيّ ويحيى بن محمد البحراني بنهر العبّاس والخبيث في قلّة من الناس، وأصحابه متردّدون إلى البصرة لنقل ما نهبوه. فلما نزل الموفق نهر معقل أجفل الزنج إلى صاحبهم مرتاعين، فأمر عليّ بن أبان بالمسير إليهم ولقي مفلحا في مقدمة الموفق فاقتتلوا وبينما هم يقتتلون إذ أصاب مفلحا   [1] اصعجور: ابن الأثير ج 7 ص 254. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 سهم غرب فقتل، وانهزم أصحابه وأسر الكثير منهم. ثم رحل الموفق نحو الأبلّة ليجمع العساكر ونزل نهر أبي الأسد ووقع الموتان في عسكره، فرجع إلى بادرود، وأقام لتجهيز الآلة وإزاحة العلل وإصلاح السفن، ثم عاد إلى عسكر الخبيث فالتقوا واشتدّ الحرب بينهم على نهر أبي الخصيب وقتل جماعة من الزنج، واستنقذ كثير من النساء المسبيّات ورجع إلى عسكره ببادرود فوقع الحريق في عسكره، ورحل إلى واسط وافترق أصحابه فرجع إلى سامرّا واستخلف على واسط. مقتل البحراني قائد الزنج كان اصطيخور لما ولي الأهواز بعد منصور الخياط بلغه مسير يحيى بن محمد قائد الزنج إلى نهر العباس عند مسير الموفّق إليهم، فخرج إليه اصطيخور فقاتله وعبر يحيى النهر وغنم سفن الميرة التي كانت عند اصطيخور، وبعث طلائعه إلى دجلة فلقوا جيش الموفّق فرجعوا هاربين، وطلائع الموفّق في اتباعهم وعبروا النهر منهزمين. وبقي يحيى فقاتل وانهزم ودخل في بعض السفن جريحا وغنم [1] طلائع الموفّق غنائمهم والسفن وأحرقوا بعضها وعبروا الماخورة على يحيى فأنزلوه من سفنهم خشية على أنفسهم، فسعى به طبيب كان يداوي جراحة وقبض عليه وحمل إلى سامرّا وقطّع ثم قتل. ثم أنفذ الخبيث عليّ بن أبان وسليمان بن موسى الشعراني من قوّاده إلى الأهواز، وضم إليهما الجيش الّذي كان مع يحيى ومحمد البحراني وذلك سنة تسع وخمسين فلقيهما اصطيخور بدستميسان [2] وانهزم أمامهما وغرق، وهلك من أصحابه خلق وأسر الحسن بن هزيمة والحسن بن جعفر وغيرهما وحبسوا ودخل الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون في نواحيها ويغنمون إلى أن قدم موسى بن بغا. مسير ابن بغا لحرب الزنج ولما ملك الزنج الأهواز سنة تسع وخمسين سرّح المعتمد لحربهم موسى بن بغا وعقد له على الأعمال، فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح وإلى البصرة إسحاق بن كنداجق وإلى بادرود [3] إبراهيم بن سيما وأمرهم بمحاربة الزنج. فسار عبد الرحمن إلى   [1] الصحيح وغنمت طلائع الموفق. [2] دشت ميسان: ابن الأثير ج 7 ص 259. [3] باذاورد: ابن الأثير ج 7 ص 260. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 عليّ بن أبان فهزمه أوّلا ثم كانت لعبد الرحمن الكرّة ثانيا فأثخن فيهم، ورجعوا إلى الخبيث وجاء عبد الرحمن إلى حصن نهدي [1] فعسكر به وزحف إليه عليّ بن أبان فامتنع عليه، فسار إلى إبراهيم بن سيما ببادرود فواقعه فانهزم أوّلا إبراهيم، ثم كانت له الكرّة ثانيا. وسار ابن أبان في الغياض فاضرموها عليهم نارا ففرّوا هاربين وأسر منهم جماعة وسار عبد الرحمن إلى عليّ بن أبان وجاءه المدد من الخبيث في البحر، فبينما عبد الرحمن في حربه إذ بعث عليّ جماعة من خلفه وشعر بهم، فرجع القهقرى ولم يصب منهم شيء إلا بعض السفن البحريّة. ثم راجع حرب عليّ بن أبان وفي مقدّمته طاشتمر فأوقعوا بعليّ بن أبان ولحق بالخبيث صاحب الزنج، وأقام عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم يتناوبان حرب الخبيث ويوقعان به، وإسحاق بن كنداجق بالبصرة يقطع عنه المدد، وهو يبعث لكل منهما طائفة يقاتلونهم، وأقاموا على ذلك سبعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حربهم ووليها مسرور البلخي كما نذكر. استيلاء الصفّار على فارس وطبرستان قد تقدّم استيلاء يعقوب بن الليث الصفّار على فارس أيام المعتز من يد عليّ بن الحسين بن مقبل. ثم عادت فارس إلى الخلفاء، ووليها الحرث بن سيما، وكان بها من رجال العراق محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي فاتفق مع أحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها ووثبوا بالحرث بن سيما فقتلوه، واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين، وقام بدعوة المعتمد وبعث عليها المعتمد الحسن بن الفيّاض، فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين، وبلغ ذلك المعتمد فكتب إليه بالنكير، وبعث إليه الموفّق بولاية بلخ وطخارستان فملكهما وقبض على رتبيل، وبعث إلى المعتمد برسله وهداياه. ثم رجع إلى بست، واعتزم على العود إلى سجستان فعجّل بعض قوّاده الرحيل قبله، فغضب وأقام سنة ثم رجع إلى سجستان.   [1] حصن مهدي: ابن الأثير ج 7 ص 260. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 استيلاء الصفار على خراسان وانقراض أمر بنى طاهر منها ثم استيلاؤه على طبرستان ثم جاء إلى هراة وحاصر مدينة نيسابور حتى ملكها ثم سار إلى بوشنج وقبض على الحسين بن علي بن طاهر بن الحسين، وبعث إليه محمد بن طاهر بن عبد الله شافعا فيه فأبى من إطلاقه، ثم ولّى على هراة وبوشنج وباذغيس ورجع إلى سجستان وكان بها عبد الله السخريّ [1] ينازعه. فلما قوي عليه يعقوب فر منه إلى خراسان وحاصر محمد بن طاهر في نيسابور، ورجع إليه الفقهاء فأصلحوا بينه وبين محمد، وولّاه الطبسين وقهستان، وأرسل يعقوب في طلبه فأجاره محمد فسار يعقوب إليه بنيسابور فلم يطق لقاءه، ونزل يعقوب بظاهرها، فبعث محمد بعمومته وأهل بيته فتلقوه. ثم خرج إليه فوبّخه على التفريط في عمله وقبض عليه وعلى أهل بيته، ودخل نيسابور واستعمل عليها، وأرسل إلى الخليفة بأن أهل خراسان استدعوه لتفريط ابن طاهر في أمره، وغلبه العلويّ على طبرستان فبعث إليه المعتمد بالنكير والاقتصار على ما بيده وإلا سلك به سبيل المخالفين وذلك سنة تسع وخمسين. وقيل في ملكه نيسابور غير ذلك وهو أن محمد بن طاهر أصاب دولته العجز والإدبار، فكاتب بعض قرابته يعقوب بن الصفّار واستدعوه، فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحية موريا بقصد الحسن ابن زيد في طبرستان، وأن المعتمد أمره بذلك، وأنه لا يعرض شيئا من أعمال خراسان. وبعث بعض قوّاده عينا عليه يمنعه من البراح عن نيسابور، وجاء بعده وقدّم أخاه عمرا إلى محمد بن طاهر فقبض عليه وعنّفه على الأعمال والعجز، وقبض على جميع أهل بيته نحو من مائة وستين رجلا، وحملهم جميعا إلى سجستان واستولى على خراسان، ووثب نوّابه في سائر أعمالها وذلك لإحدى عشرة سنة وشهرين من ولاية محمد. ولما قبض يعقوب على ابن طاهر واستولى على خراسان هرب منازعة عبد الله السخريّ إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان فبعث إليه فيه فأجاره، وسار إلى يعقوب سنة ستين وحاربه فانهزم الحسن إلى أرض الديلم، وملك يعقوب سارية وآمل ومضى في اثر الحسين من عسكره نحو من أربعين ألفا من الرجل والظهر ونجا بعد مشقة شديدة، وكتب إلى المعتمد بذلك وكان عبد الله السخري قد هرب بعد هزيمة الحسن   [1] وفي نسخة اخرى: عبد الله السجزيّ. وكذلك ابن الأثير ج 7 ص 268. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 العلويّ إلى الريّ، فسار يعقوب في طلبه، وكتب إلى عامل الريّ يؤذنه بالحرب إن لم يدفعه إليه، فبعث به إليه وقتله ورجع إلى سجستان. استيلاء الحسن بن زيد على جرجان ولما هرب الحسن بن زيد أمام مفلح من طبرستان، ورجع مفلح اعتزم الحسن على الرجوع إلى جرجان، فبعث محمد بن طاهر إليها العساكر لحفظها فلم يغنوا عنها، وجاء الحسن فملكها وضعف أمر ابن طاهر في خراسان، وانتقض عليه كثير من أعمالها وظهر المتغلّبون في نواحيها وعاث السراة من الخوارج في أعمالها ولم يقدر على دفعهم، وآل ذلك إلى تغلّب الصفّار على ابن طاهر وانتزاع خراسان من يده كما ذكرنا [1] . فتنة الموصل كان المعتمد قد ولّى على الموصل أساتكين من قوّاد الأتراك فبعث عليها هو ابنه اذكرتكين [2] وسار إليها في جمادى سنة تسع وخمسين، فأساء السيرة وأظهر المنكر وعسف بالناس في طلب الخوارج، وتعرّض بعض الأيام رجل من حاشيته إلى امرأة في الطريق وتخلّصها من يده بعض الصالحين، فأحضره أذكوتكين وضربه ضربا شديدا، فاجتمع وجوه البلد وتآمروا في رفع أمرهم إلى المعتمد، فركب إليهم ليوقع بهم فقاتلوه وأخرجوه واجتمعوا على يحيى بن سليمان، وولّوه أمرهم، ولما كانت سنة إحدى وستين ولّى أستاكين عليها الهيثم بن عبد الله بن العمد الثعلبي العدوي [3] وأمره أن يزحف لحربهم ففعل، وقاتلوه أياما وكثرت القتلى بينهم، ورجع عنهم الهيثم وولّى أستاكين مكانه إسحاق بن أيوب الثعلبي [4] جدّ بني حمدان وغيره،   [1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 11 ص 260: «وذكر أنه- أي يعقوب الليث- كتب إلى السلطان كتابا يذكر فيه مسيره إلى الحسن بن زيد، وأنه سار من جرجان إلى طحيس فافتتحها ثم سار إلى سارية، وقد أخرب الحسن بن زيد القناطر ورفع المعابر وعور الطريق، وعسكر الحسن بن زيد على باب سارية متحصنا بأودية عظام، وقد مالأه خرشاد بن جيلا وصاحب الديلم فزحف باقتدار فيمن جمع اليه من الطبرية والديالمة والخراسانية والقمية والجبلية والشامية والجزرية فهزمته وقتلت عدة لم يبلغها بعهدي عدة، وأسرت سبعين من الطالبيين وذلك في رجب وسار الحسن بن زيد إلى الشرر ومعه الديلم» . [2] اذكوتكين: ابن الأثير ج 7 ص 269. [3] الهيثم بن عبد الله بن المعمر التغلبي ثم العدوي: ابن الأثير ج 7 ص 270. [4] التغلبي: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 وحاصرها مدّة ومرض يحيى بن سليمان الأمير وفي أثنائها، فطمع إسحاق في البلد وجدّ في الحصار، واقتحمها من بعض الجهات فأخرجوه، وحملوا يحيى بن سليمان في قبّة وألقوه أمام الصفّ، واشتدّ القتال ولم يزل إسحاق يراسلهم ويعدهم حسن السيرة إلى أن أجابوه على أن يقيم بالربض فأقام أسبوعا، ثم حدثت ممن بايعه بعض الفعلات فوثبوا به وأخرجوه، واستقرّ يحيى بن سليمان بالموصل. حروب ابن واصل بفارس قد تقدّم لنا وثوب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي بالحرث بن سيما عامل فارس وتغلبه عليها سنة ست وخمسين، فلما بلغ ذلك إلى المعتمد أضاف فارس إلى عبد الرحمن بن مفلح وبعثه إلى الأهواز وأمدّه بطاشتمر، وزحفوا من الأهواز إلى ابن واصل سنة إحدى وستين، فسار معهم من فارس ومعه أبو داود العلوس [1] ولقيهم برام هرمز فهزمهم وقتل طاشتمر وأسر ابن مفلح وغنم عسكرهم. وبعث إليه المعتمد في إطلاق ابن مفلح فقتله خفية، وسار لحرب موسى بن بغا بواسط، وانتهى إلى الأهواز وبها إبراهيم بن سيما في جموع كثيرة. ولما رأى موسى بن بغا اضطراب هذه الناحية استعفى المعتمد من ولايتها فأعفاه، وكان عند انصراف ابن مفلح عن الأهواز إلى فارس قد ولّى مكانه بالساج وأمره بمحاربة الزنج، فبعث صهره عبد الرحمن لذلك، فلقيه عليّ بن أبان قائد الزنج، فهزمه عليّ وقتله، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، وملك الزنج الأهواز فعاثوا فيها. ثم عزل أبو الساج عن ذلك وولّى مكانه إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف موسى بن بغا عن الأعمال كلها، ولما هزم إبراهيم بن سيما بن واصل عبد الرحمن بن مفلح وقتله طمع يعقوب الصفّار في ملك فارس، فسار من سجستان مجدّا، ورجع ابن واصل من الأهواز وترك محاربة ابن سيما، وأرسل خاله أبا بلال مرداس إلى الصفّار، وراجعه بالكتب والرسل بحبس ابن واصل رسله، ورحل بعد السير ليفجأه [2] على بغتة، وشعر به الصفّار فقال لخاله مرداس: إنّ صاحبك قد غدر بنا! وسار إليهم وقد أعيوا وتعبوا من شدّة السير ومات أكثرهم عطشا. فلما تراءى الجمعان انهزم ابن واصل دون قتال، وغنم الصفّار ما في عسكره وما كان لابن مفلح، واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العمّال وأوقع بأهل زمّ لأعانتهم ابن واصل، وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها.   [1] ابو داود الصعلوك: ابن الأثير ج 7 ص 275. [2] لعلها ليفاجئه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 مبدأ دولة بني سامان وراء النهر كان جدّهم أسد بن سامان من أهل خراسان وبيوتها وينتسبون في الفرس تارة وإلى سامة بن لؤيّ بن غالب أخرى، وكان لأسد أربعة من الولد: نوح وأحمد ويحيى وإلياس. وتقدّموا عند المأمون أيام ولايته خراسان واستعملهم، ولما انصرف المأمون إلى العراق ولىّ على خراسان غسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن سهل، فولّى نوحا منهم على سمرقند وأحمد على فرغانة ويحيى على الشاش وأشروسنة وإلياس على هراة. فلما ولي طاهر بن الحسين بعده أقرّهم على أعمالهم ثم مات نوح بن أسد فأقر إخوته يحيى وأحمد على عمله، وكان حسن السيرة ومات إلياس بهراة، فولّى عبد الله ابن طاهر مكانه ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس، وكان لأحمد بن أسد من البنين سبعة: نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد وكنيته أبو الأشعث وحميد وكنيته أبو غانم. فلما توفي أحمد استخلف ابنه نصرا على أعماله بسمرقند وما إليها، وأقام إلى انقراض أيام بني طاهر وبعدهم، وكان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أيام بني طاهر. واستولى الصفّار على خراسان فعقد المعتمد لنصر هذا على أعماله من قبله سنة إحدى وستين، ولما ملك يعقوب الصفّار خراسان كما قلنا بعث نصر جيوشه إلى شطّ جيحون مسلحة من الصفّار، فقتلوا مقدّمهم ورجعوا إلى بخارى، وخشيهم واليها على نفسه ففرّ عنها، فولّوا عليهم ثم عزلوا ثم ولّوا ثم عزلوا، فبعث نصر أخاه إسماعيل لضبط بخارى. ثم ولي خراسان بعد ذلك رافع بن هرثمة بدعوة بني طاهر، وغلب الصفّار عليها، وحصلت بينه وبين إسماعيل صاحب بخارى موالاة اتفقا فيها على التعاون والتعاضد، وطلب منه إسماعيل أعمال خوارزم، فولّاه إيّاها، وفسد ما بين إسماعيل وأخيه نصر، وزحف نصر إليه سنة اثنتين وسبعين، واستجاش إسماعيل برافع بن هرثمة فسار إليه بنفسه مددا، ووصل إلى بخارى، ثم أوقع الصلح بينه وبين أخيه خوفا على نفسه، وانصرف رافع ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين، وظفر إسماعيل بنصر. ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيل وقبّل يده وردّه إلى كرسي إمارته بسمرقند، وأقام نائبا عنه ببخارى، وكان إسماعيل خيرا مكرّما لأهل العلم والدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 مسير الموفق إلى البصرة لحرب الزنج وولاية العهد ولما استعفى موسى بن بغا من ولاية الناحية الشرقيّة عزم المعتمد على تجهيز أخيه أبي أحمد الموفق، فجلس في دار العامّة وأحضر الناس على طبقاتهم، وذلك في شوّال من سنة إحدى وستين وعقد لابنه جعفر العهد من بعده، ولقّبه المفوّض إلى الله، وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ونهر تصدق، وعقد لأخيه أبي أحمد العهد بعده ولقّبه الناصر لدين الله الموفّق، وولّاه المشرق وبغداد وسواد الكوفة وطريق مكّة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والريّ وزنجان والسند. وعقد لكل واحد منهما لواءين أبيض وأسود، وشرط أنه إن مات وجعفر لم يبلغ بتقدّم الموفق عليه، ويكون هو بعده وأخذت البيعة بذلك على الناس، وعقد جعفر لموسى بن بغا على أعمال العرب، واستوزر صاعد بن مخلد، ثم نكبه سنة اثنتين وسبعين، واستصفاه واستكتب مكانه الصّفر إسماعيل بن بابل، وأمر المعتمد أخاه الموفق بالمسير لحرب الزنج، فبعثه في مقدّمته واعتزم على المسير بعده. وقعة الصفار والموفق لما كان يعقوب الصفّار ملك فارس من يد واصل وخراسان من يد ابن طاهر وقبض عليه صرّح المعتمد بأنه لم يولّه ولا فعل ما فعل باذنه، وبعث ذلك مع حاج خراسان وطبرستان. ثم سار إلى الأهواز يريد لقاء المعتمد، وذلك سنة اثنتين وسبعين فأرسل إليه المعتمد إسماعيل بن إسحاق وفهواج [1] من قوّاد الأتراك ليردّوه على ذلك وبعث معهما من كان في حبسه من أصحابه الذين حبسوا عند ما قبض على محمد بن طاهر، وعاد إسماعيل من عند الصفّار بعزمه على الموصل، فتأخر الموفق لذلك عن المسير لحرب الزنج. ووصل مع إسماعيل من عند الصفّار حاجبه درهم يطلب ولاية طبرستان وخراسان وجرجان والريّ وفارس، والشرطة ببغداد، فولاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى ما بيده من سجستان وكرمان، وأعاد حاجبه إليه بذلك ومعه عمر بن سيما فكتب يقول: لا بدّ من الحضور بباب المعتمد. وارتحل من عسكر مكرم حاما وسار إليه أبو   [1] بفراج: ابن الأثير ج 7 ص 290. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 الساج من الأهواز لدخوله تحت ولايته، فأكرمه ووصله وسار إلى بغداد. ونهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانيّة وأخاه مسرور البلخي، فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة الموفّق، وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد. ثم تراجعوا واشتدّت الحرب وجاء إلى الموفق محمد بن أوس والدارانيّ مددا من المعتمد، وفشل أصحاب الصفّار لمّا رأوا مدد الخليفة فانهزموا، وخرج الصفّار وأتبعهم أصحاب الموفق وغنموا من عسكره نحوا من عشرة آلاف من الظهر، ومن الأموال ما يؤد حمله. وكان محمد بن طاهر معتقلا معه في العسكر منذ قبض عليه بخراسان، فتخلّص ذلك اليوم وجاء إلى الموفّق وخلع عليه وولّاه الشرطة ببغداد، وسار الصفّار إلى خوزستان فنزل جنديسابور، وأرسله صاحب الزنج يحثّه على الرجوع ويعده المساعدة، فكتب إليه: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ 109: 1- 2 (السورة) . وكان ابن واصل قد خالف الصفّار إلى فارس وملكها، فكتب إليه المعتمد بولايتها، وبعث الصفّار إليه جيشا مع عمر بن السري من قوّاده، فأخرجه عنها وولّى على الأهواز محمد بن عبد الله بن طاهر. ثم رجع المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط واعتزم الموفّق على اتباع الصفّار، فقعد به المرض عن ذلك، وعاد إلى بغداد ومعه مسرور البلخيّ سار بعد موسى وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وقدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد. سياقة أخبار الزنج قد ذكر أنّ مسرورا البلخي سار بعد موسى بن بغا لحرب الزنج، ثم سار مسرور للقاء المعتمد وحضر الموفق حرب الصفّار، وبلغ صاحب الزنج جاءوا تلك النواحي من العساكر، فبعث سراياه فيها للنهب والحرق والتخريب في بعث سليمان بن جامع إلى البطيحة، وسليمان بن موسى إلى القادسية. وجاء أبو التركي في السفن يريد عسكر الزنج، فأخذ عليه سليمان بن موسى وقاتله شهرا حتى تخلّص وانحاز إلى سليمان بن جامع، وبعث إليهما الخبيث بالمدد، وكان مسرور قد بعث قبل مسيره من واسط جندا في البحر إلى سليمان فهزمهم وأوقع بهم وقتل أسراهم، ونزل بقرّة مروان قريبا من يعقوب متحصّنا بالغياض والأغوار. وزحف إليه قائدان من بغداد وهما أغرتمش وحشيش في العساكر برّا وبحرا وأمر سليمان أصحابه بالاختفاء في تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 الغياض حتى يسمعوا أصوات الطبول. وأقبل أغرتمش ونهض شرذمة من الزنج فواقعوا أصحابه وشاغلوهم، وسار سليمان من خلفهم وضرب طبوله وعبروا إليهم في الماء، فانهزم أصحاب أغرتمش وظهر ما كان مختفيا، وقتل حشيش، واتبعوهم إلى العسكر وغنموا منه، وأخذوا من القطع البحرية، ثم استردّها أغرتمش من أيديهم، وعاد سليمان ظافرا وبعث برأس حشيش إلى الخبيث صاحبه، فبعث به إلى عليّ بن أبان في نواحي الأهواز. وكان مسرور البلخي قد بعث إلى كور الأهواز أحمد بن كيتونة، فنزل السوس وكان صاحب الأهواز من قبل الصفّار يكاتب صاحب الزنج ويداريه، ويطلب له الولاية عنه، فشرط عليه أن يكون خليفة لابن أبان، واجتمعا بتستر. ولما رأى أحمد تظافرهما رجع إلى السوس، وكان علي بن أبان يروم خطبة محمد له بعمله، فلما اجتمعا بتستر خطب للمعتضد والصفّار ولم يذكر الخبيث، فغضب عليّ وسار إلى الأهواز. وجاء أحمد بن كيتونة إلى تستر، فأوقع بمحمد بن عبد الله وتحصّن منه بتستر. وأقبل علي بن أبان إليه فاقتتلا واشتدّ القتال بينهما، وانهزم علي بن أبان وقتل جماعة من أصحابه، ونجا بنفسه جريحا في الساريات بالنهر، وعاد إلى الأهواز. وسار منها إلى عسكر الخبيث، واستخلف على عسكره بالأهواز حتى داوى جراحة ورجع. ثم بعث أخاه الخليل إلى أحمد بن كيتونة بعسكر مكرم فقاتله، وقد أكمن لهم فانهزموا، وقتل من الزنج خلق ورجع المنهزمون إلى علي بن أبان، وبعث مسلحة إلى السرقان فاعترضهم جيش من أعيان فارس أصحاب أحمد بن كيتونة، وقتلهم الزنج جميعا فحظي عنده بذلك وبعث في أثر إبراهيم من قتله في سرخس. ولما أراد الصفّار العود إلى سجستان ولّى على نيسابور عزيز بن السري، وعلى هراة أخاه عمرو بن الليث، فاستخلف عمر وعليها طاهر بن حفص الباذغيسي وسار إلى سجستان سنة إحدى وستين، فجاء الخبيث إلى أخيه عليّ وزيّن له أن يقيم نائبا عنه في أموره بخراسان، وطلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له. ولما ارتحلوا جمع جمعا وحارب عليّا فأخرجه من بلده. ثم غلب عزيز بن السري على نيسابور وملكها أوّل اثنتين وستين، وقام بدعوة بني طاهر. واستقدم رافع بن هرثمة من رجالاتهم فجعله صاحب جيشه، وكتب إلى يعمر بن سركب وهو يحاصر بلخ يستقدمه، فلم يثق إليه، وسار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص، وقتله وزحف إليه أحمد وكانت بينهما مواساة، ثم داخل بعض قوّاد أحمد الخجستاني في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 الغدر بيعمر على أن يمكنه من أخيه أبي طلحة، فكلف ذلك القائد به فتمّ ذلك، وكبسهم أحمد وقبض على يعمر وبعثه إلى نائبة بنيسابور فقتله، وقتل أبا طلحة القائد الّذي غدر بأخيه. وسار إلى نيسابور في جماعة، فلقي بها الحسين بن طاهر مردودا من أصبهان طمعا أن يدعو له أحمد الخجستاني كما كان يزعم حين أورد فلم يخطب، فخطب له أبو طلحة وأقام معه بنيسابور، فسار إليهما الخجستاني من هراة في اثني عشر ألفا، وقدم أخاه العبّاس فخرج إليه أبو طلحة وهزمه، فرجع أحمد إلى هراة ولم يقف على خبر أخيه، وانتدب رافع وهرثمة إلى استعلام خبره واستأمن إلى أبي طلحة فأمّنه ووثق إليه، وبعث رافع إلى أحمد بخبر أخيه العبّاس، ثم أنفذه طاهر إلى بيهق لجباية مالها، وضمّ معه قائدين لذلك، فجبى المال وقبض على القائدين وانتقض. وسار إلى الخجستاني ونزل في طريقه بقرية وبها عليّ بن يحي الخارجيّ، فنزل ناحية عنه، وركب ابن طاهر في أتباعه فأدركه بتلك القرية، فأوقع بالخارجيّ يظنّه رافعا ونجا رافع إلى الخجستاني. وبعث ابن طاهر إسحاق الشاربي إلى جرجان لمحاربة الحسن بن زيد والديلم منتصف ثلاث وستين فأثخن في الديلم ثم انتقض على ابن طاهر، فسار إليه وكبسه إسحاق في طريقه فانهزم إلى نيسابور، واستضعفه أهلها فأخرجوه، فأقام على فرسخ منها وجمع جمعا وحاربهم، ثم كتب على أهل نيسابور إلى إسحاق باستدعائه ومساعدته على ابن طاهر وأبي طلحة، وكتب إلى أهل نيسابور عن إسحاق بالمواعدة. وسار إسحاق أبو محمد في قلّة من الجند، فاعترضه أبو طلحة وقتله وحاصر نيسابور، فاستقدموا الخجستاني من هراة وأدخلوه. وسار أبو طلحة إلى الحسن بن زيد مستنجدا فأنجده ولم يظفر، وعاد إلى بلخ وحاصرها سنة خمس وستين، وخرج للخجستاني من نيسابور به، وحاربه الحسن بن زيد لما عدته أبا طلحة. وجاء أهل جرجان مددا للحسن، فهزمهم الخجستاني وأغرمهم أربعة آلاف ألف درهم. ثم جاء عمرو بن الليث إلى هراة بعد وفاة أخيه يعقوب الصفّار وعاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور، وسار إليه عمرو من هراة فاقتتلا وانهزم عمرو ورجع إلى هراة، وأقام أحمد بنيسابور. وكانت الفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إياه، فأوقع الخجستاني بينهم الفتنة ليشغلهم بها، ثم سار إلى هراة سنة سبع وستين وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر منه بشيء، فسار نحو سجستان وترك نائبة بنيسابور، فأساء السيرة وقوي أهل الفساد، فوثب به أهل نيسابور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 واستعانوا بعمرو بن الليث وبعث إليهم جندا يقبض على نائب الخجستاني وأقاموا بها، ورجع من سجستان فأخرجهم وملكها، وأقام إلى تمام سبع وستين، وكاتب عمرو أبا طلحة وهو يحاصر بلخ فقدم عليه وأعطاه أموالا واستخلفه بخراسان، وسار إلى سجستان، وسار أحمد إلى سرخس ولقيه أبو طلحة فهزمه أحمد ولحق بسجستان، وأقام أحمد بطخارستان. ثم جاء أبو طلحة إلى نيسابور فقبض على أهل الخجستاني وعياله، وجاء أحمد من طخارستان إلى نيسابور وأقام بها. ثم تبين لابن طاهر أنّ الخجستاني إنما يروم لنفسه وليس على ما يدّعيه من القيام بأمرهم وكان على خوارزم أحمد بن محمد بن طاهر فبعث قائده أبا العبّاس النوفلي إلى نيسابور في خمسة آلاف مقاتل، وخرج أحمد أمامهم وأقام قريبا منهم وأفحش النوفليّ في القتل والضرب والتشويه، وبعث إليه الخجستاني فنهاه عن مثل ذلك فضرب الرسل، فلحق أهل نيسابور بالخجستاني واستدعوه وجاءوا به وقبض على النوفليّ وقتله. ثم بلغه أنّ إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن طاهر بمرو، فسار إليه من أسورد في يوم وليلة وقبض عليه وولّى عليها موسى البلخيّ، ثم وافاها الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة ووصل إليه نحو عشرين ألف درهم، وكان الخجستاني لما بلغه أخذ والدته من نيسابور وهو بطخارستان سار مجدّا، فلما بلغ هراة أتاه غلام لأبي طلحة مستأمنا فأمّنه وقرّبه، فغص به وغلامه الخالصة عنده والجنود، وطلب الفرصة في قتل الخجستاني، وكان قد غور ساقية قطلغ، فاتفقا على قتله فقتلاه في شوّال سنة ثمان وستين. وأنفذ دامجور خاتمه إلى الإسطبل مع جماعة فركبوا الدواب وساروا بالخبر إلى أبي طلحة ليستقدموه، وأبطأ ظهوره على القوّاد فدخلوا فوجدوه قتيلا، وأخبرهم صاحب الإسطبل بخبر الخاتم والدواب، وطلبوا دامجور فلم يجدوه، ثم عثروا عليه بعد أيام فقتلوه، واجتمعوا على رافع بن هرثمة وكان من خبره ما نذكره. استيلاء الصفّار على الأهواز ثم سار يعقوب الصفّار من فارس إلى الأهواز وأحمد بن كيتونة قائد مسرور البلخيّ على الأهواز مقيم على تستر فرحل عنها ونزل يعقوب جنديسابور، ففرّ كل من كان في تلك النواحي من عساكر السلطان، وبعث إلى الأهواز من أصحابه الخضر بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 المعير [1] ، فأفرج عنها عليّ بن أبان والزنج ونزلوا السّدرة ودخل خضر الأهواز، وأقام أصحاب الخضر وابن أبان يغير بعضهم على بعض. ثم فرّ ابن أبان وسار إلى الأهواز فأوقع بالخضر وفتك في أصحابه وغنم، ولحق الخضر بعسكر مكرم، واستخرج ابن أبان ما كان بالأهواز ورجع إلى نهر السّدرة. وبعث يعقوب إلى الخضر مددا وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز، فأبى ابن أبان من ذلك إلا أن ينقل طعاما ما كان هناك فنقله وتوادعوا. استيلاء الزنج على واسط قد تقدّم لنا واقعة أغرتمش مع سليمان بن جامع، وظفر سليمان به فلما انقضى أمره سار سليمان إلى صاحب الخبيث ومرّ في طريقه بعسكر تكين البخاريّ وهو ببردود [2] ، فلما حاذاه قريبا أشار عليه الجناني [3] أن يغير على العسكر في البحر ويستطرد لهم لينتهزوا منهم الفرصة ففعل وجاء مستطردا وقد أكمنوا لهم الكمناء حتى أجازوا موضع الكمائن. وركب سليمان إليهم وعطف الجناني على من في النهر وخرجت الكمائن من خلفهم فأثخنوا فيهم إلى معسكرهم، ثم بيّتوهم ليلا فنالوا منهم، وانكشف سليمان قليلا، ثم عبر أصحابه وأتاهم من وجوه عديدة برّا وبحرا، فانهزم تكين وغنم الزنج عسكره. ثم استخلف سليمان على عسكره الجناني وسار إلى صاحب الخبيث سنة ثلاث وستين. ومضى الجناني بالعسكر لطلب الميرة فاعترضه جعلان من قوّاد السلطان وهزمه وأخذ سيفه [4] . ثم زحف منجور ومحمد بن علي بن حبيب من القوّاد وبلغ الحجّاجيّة فرجع سليمان مجدّا إلى طهثا يريد جعلان وفي مقدمته الجنانيّ. ثم كرّ إلى ابن خبيث فهزمه وقتل أخاه وغنم ما معه. ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان فأوقع بالقائد هناك جيش ابن خمار تكين وهزمه ونهب القرية وأحرقها. ثم بعث العساكر في الجهات للنهب برّا وبحرا، واعترض جعلان بعضهم فأوقع بهم، ثم سار سليمان إلى الرّصافة فأوقع بالقائد بها واستباحها وغنم ما فيها ورجع إلى منزله بمدينة الخبيث، وجاء مطر إلى الحجّاجيّة فعاث فيها وأسر جماعة منها كان منهم القاضي سليمان، فحمله إلى   [1] الخضر بن العنبر: ابن الأثير ج 7 ص 308. [2] بيزود: ابن الأثير ج 7 ص 313. [3] الحياتي: المرجع السابق. [4] سفنه: ابن الأثير ج 7 ص 314. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 واسط [1] . ثم سار إلى طهثا وكتب الجناني بذلك إلى سليمان فوافاه لاثنتين من ذي الحجّة، وجاء أحمد بن كيتونة بعد أن كان سار إلى الكوفة وجبيل [2] ، فعاد إلى البريدية [3] وصرف جعلان وضبط تلك الأعمال، وأوقع تكين بسليمان وقتل جماعة من قوّاده. ثم ولّى الموفّق على مدينة واسط محمد بن الوليد وجاءه في العساكر واستمدّ سليمان صاحبه بالخليل بن أبان في ألف وخمسمائة مقاتل، فزحف إلى ابن المولّد وهزمه واقتحم واسط بها منكجور البخاري فقاتله عامة يومه، ثم قتل ونهب البلد وأحرقها وانصرف سليمان إلى جبيل واستدعوه في نواحيها تسعين ليلة. استيلاء ابن طولون على الشام كان على دمشق أيام المعتمد ماجور [4] من قوّاد الأتراك، فتوفي سنة أربع وستين وقام ابنه عليّ مكانه. وتجهّز أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق وكتب إلى ابن ماجور بأنّ المعتمد أقطعه الشام والثغور، فأجاب بالطاعة، وسار أحمد واستخلف على مصر ابنه العبّاس ولقيه ابن ماجور بالرملة فولّاه عليها، وسار إلى دمشق فملكها وأقرّ القوّاد على أقطاعهم. ثم سار إلى حمص فملكها ثم حماة ثم حلب، وكان على أنطاكية وطرسوس سيما الطويل من قوّاد الأتراك، فبعث إليه ابن طولون بالطاعة وأن يقرّه على ولايته فامتنع، فسار إليه ودلّوه على عورة في سور البلد نصب عليها المجانيق، وقاتله فملكها عنوة وقتل سيما في الحرب، فسار ثم قصد طرسوس فدخلها واعتزم على المقام بها ويريد الغزو. وشكا أهلها غلاء السعر وسألوه الرحيل فرحل عنهم إلى الشام، ومضى إلى حرّان وبها محمد بن أتامش فحاربه وهزمه، واستولى عليها. ثم جاءه الخبر بانتقاض ابنه العبّاس بمصر وأنه أخذ الأموال وسار إلى برقة فلم يكترث لذلك، وأصلح أحوال الشام وأنزل بحرّان عسكرا، وولّى مولاه لؤلؤا على الرقّة وأنزل معه عسكرا، وبلغ موسى بن أتامش خبر أخيه محمد فجمع العساكر وسار نحو   [1] «وأسر جماعة وكان بها قاض لسليمان فأسره مطر وحمله إلى واسط» المرجع السابق ص 315. [2] جنبلاء: المرجع السابق. [3] الشديدية: المرجع السابق. [4] أماجور: ابن الأثير ج 7 ص 316. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 جرجان [1] وبها أحمد بن جيفونة [2] من قوّاد ابن طولون فأهمل مسيره وقال له بعض الأعراب واسمه أبو الأعز [3] : لا يهمك أمره فإنه طيّاش قلق وأنا آتيك به! فقال: افعل وزاده عشرين رجلا، وسار إلى عسكر موسى بن أتامش، فأكمن بعض أصحابه ودخل العسكر بالباقي على زيّ الأعراب وقصد الخيل المرتبطة عند خيام ابن موسى فأطلقها وصاحوا فيها فنفرت واهتاج العسكر وركبوا واستطرد لهم أبو الأعز حتى جاوز الكمين وموسى في أوائلهم، فخرج الكمين وانهزم أصحاب موسى من ورائه، وعطف عليه أبو الأعز فأخذه أسيرا وجاء به إلى ابن جيفونة، وبعث به إلى ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر وذلك سنة ست وستين. (ومن أخبار الزنج) أنّ سليمان احتفر نهرا يمرّ إلى سواد الكوفة ليتهيأ له الغارة على تلك النواحي وكان أحمد بن كيتونة [4] فكبسهم وهم يعلمون، وقد جمّروا عساكرهم لذلك فأوقع بهم وقتل منهم نحوا من أربعين قائدا وأحرق سفنهم، ورجع سليمان مهزوما إلى طهتا. ثم عدّت عساكر الزنج النعمانيّة واستباحوها وصار أهلها الى جرجرايا وأحفل أهل السواد إلى بغداد، وزحف عليّ بن أبان بعسكر الزنج إلى تستر فحاصرها وأشرف على أخذها. وكان الموفّق استعمل على كور الأهواز مسرورا البلخيّ فولّى عليها تكين البخاريّ فسار إليها ووافاها أهل تستر في تلك الحال فأغزى عليّ ابن أبان وهزمه وقتل من الزنج خلقا ونزل تستر. وبعث ابن أبان جماعة من قوّاد الزنج ليقيموا بقنطرة فارس، وجاء عين بخبرهم إلى تكين فكبسهم وهزمهم وقتل منهم جماعة. وسار ابن أبان فانهزم أمامه، وكتب ابن أبان إلى تكين يسأله الموادعة فوادعه بعض الشيء واتهمه مسرور فسار وقبض عليه وحبسه عند عجلان بن أبان، وفرّ منه أصحابه وطائفة إلى الزنج وطائفة إلى محمد بن عبد الله الكرخيّ ثم أمّن الباقين فرجعوا إليه. موت يعقوب الصفار وولاية عمر وأخيه وفي سنة خمس وستين أخريات شوّال منها مات يعقوب الصفّار وقد كان افتتح   [1] حسب مقتضى السياق ينبغي ان تكون حرّان، راجع ابن الأثير ج 7 ص 318. [2] احمد بن جيعويه: المرجع السابق. [3] ابو الأغر: المرجع السابق. [4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 322: «أحمد بن ليثويه، وهو عامل الموفّق بجنبلاء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 الرحج [1] وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده، وكانت مملكة واسعة الحدود وافتتح زابلستان وهي غزنة، وكان المعتمد قد استماله وقلّده أعمال فارس، ولما مات قام أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى المعتمد بطاعته، فولاه الموفّق من قبله ما كان له من الأعمال، خراسان وأصبهان والسّند وسجستان والشرطة ببغداد وسرمن رأى وقبله عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وخلع الموفّق عمرو بن الليث وولّى على أصبهان من قبله أحمد بن عبد العزيز. أخبار الزنج مع أغرتمش قد كان تقدّم لنا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش وحربه بعد ذلك مع تكين وجعلان ومطر ابن جامع وأحمد بن كيتونة واستيلاؤه على مدينة واسط، ثم ولي أغرتمش مكان تكين البخاري ما يتولاه من أعمال الأهواز فدخل تستر في رمضان ومعه مطر بن جامع، وقتل جماعة من أصحاب أبان كانوا مأسورين بها. ثم سار إلى عسكر مكرم، ووافاه هناك عليّ ابن أبان والزنج، فاقتتلوا ثم تجازوا لكثرة الزنج، ورجع عليّ إلى الأهواز وسار أغرتمش إلى الخليل بن أبان ليعبروا إليه من قنطرة اربل [2] وجاءه أخوه عليّ وخاف أصحابه المخلّفون بالأهواز، فارتحلوا إلى نهر السروة [3] وتحارب عليّ وأغرتمش يوما ثم رجع عليّ إلى الأهواز ولم يجد أصحابه، فبعث من يردّهم إليه فلم يرجعوا. وجاء أغرتمش وقتل مطر بن جامع في عدّة من القوّاد. وجاء المدد لابن أبان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش وتركه. ثم بعث محمد بن عبيد الله إلى أبكلاى [4] ابن الخبيث في أن يرفع عنه يد ابن أبان فزاد ذلك في غيظه، وبعث يطالبه محمد بالخراج ودافعه فسار إليه، وهرب محمد من رامهرمز إلى أقصى معاقلة، ودخل عليّ والزنج رامهرمز وغنموا ما فيها. ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم، وترك أعماله. ثم استنجده محمد بن عبيد الله على الأكراد على أنّ لعليّ غنائمهم، فاستخلف عليّ على ذلك مجلز وطلب منه الرهن فمطل وبعث إليه الجيش فزحف بهم إلى الأكراد. فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج   [1] الرخّج كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 326. [2] قنطرة أربك: ابن الأثير ج 7 ص 329. [3] نهر السدرة: المرجع السابق. [4] انكلاي: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وأثخن الأكراد فيهم، وبعث عليّ من يعترضهم فاستلبوهم وكتب عليّ إلى محمد يتهدّده فاعتذر وردّ عليهم كثيرا من أسلابهم، وخشي من الخبيث وبعث إلى أصحابه مالا ليسألوه في الرضا عنه، فأجابهم إلى ذلك على أن يقيم دعوته في أعماله ففعل كذلك. ثم سار ابن أبان لحصار موتة [1] واستكثر من آلات الحصار، وعلم بذلك مسرور البلخي وهو بكور الأهواز، فسار إليه ووافاه عليها، فانهزم ابن أبان وترك ما كان حمله هناك، وقتل من الزنج خلق وجاء الخبر بمسير الموفّق إليهم. استرجاع ابن الموفق ما غلب عليه الزنج من أعمال دجلة لما دخل الزنج واسط وعاثوا فيها كما ذكرناه بعث الموفّق ابنه أبا العبّاس، وهو الّذي وليّ الخلافة بعد المعتمد ولقّب المعتضد، فبعثه أبوه بين يديه في ربيع سنة ست وستين في عشرة آلاف من الخيل والرجال. وركب لتشييعه وبعث معه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصر، فسار حتى وافى الخيل والرجل والسفن النهرية، وعلى مقدّمته الجناني [2] وانهم نزلوا الجزيرة قريبا من بردرويا، وجاءهم سليمان بن موسى الشعراني مددا بمثل ذلك وأنّ الزنج اختلفوا في الاحتشاد، ونزلوا من السفح إلى أسفل واسط ينتهزون الفرصة في ابن الموفّق لما يظنون من قلّة دراسيته بالحرب، فركب أبو العباس لاستعلام أمرهم ووافى نصيرا، فلقيهم جماعة من الزنج فاستطرد لهم أوّلا، ثم كرّ في وجوههم وصاح بنصير فرجع، وركب أبو العبّاس السفن النهرية فهزم الزنج وأثخن فيهم واتبعهم ستة فراسخ، وغنم من سعيهم وكان ذلك أوّل الفتح. ورجع سليمان بن جامع إلى نهر الأمين [3] وسليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس، وأبو العبّاس على فرسخ من واسط يغاديهم القتال ويراوحهم. ثم احتشد سليمان وجاء من ثلاثة وجوه، وركب في السفن النهرية وبرز إليه نصير في سفنه، وركب معه أبو العبّاس في خاصّته، وأمر الجند بمحاذاته من الشطّ، ونشب الحرب فوقعت الهزيمة على الزنج وغنمت سفنهم، وأفلت سليمان والجناني من   [1] مثّوث: المرجع السابق. [2] الجناتي وقد مر ذكره من قبل. [3] نهر الأمير: ابن الأثير ج 7 ص 339. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 الهلكة، وبلغوا طهتا، ورجع أبو العبّاس إلى معسكره وأمر بإصلاح السفن المغنومة، وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار وغطوها، فوقع بعض الفرسان فيها، فعدل جند السلطان عن ذلك الطريق. وأمر الخبيث أصحابه بالسفن في النهر وأغاروا على سفن أبي العبّاس وغنموا بعضها، وركب في اتباعهم واستنقذ سفنهم وغنم من سفنهم نحوا من ثلاثين، وجدّ في قتالهم وتحصّن ابن جامع بطهتا، وسمّى مدينته المنصورة. والشعراني بسوق الخميس وسمّى مدينته المنيعة. وكان أبو العبّاس يغير على الميرة التي تأتيهم من سائر النواحي، وركب في بعض الأيام إلى مدينة الشعراني التي سمّاها المنيعة، وركب نصير في النهر، وافترقوا في مسيرهم واعترضت أبا العبّاس جماعة من الزنج فمنعوه من طريق المدينة وقاتلوه مقدار نهاره، وأشاعوا قتل نصير، وخالفهم نصير إلى المدينة فأثخن فيها وأضرموا النار في بيوتها. وجاء الخبر بذلك إلى أبي العبّاس بسبرة. ثم جاء نصير ومعه أسرى كثيرون فقاتلوا الزنج وهزموهم، ورجع أبو العبّاس إلى عسكره وبعث الخبيث إلى ابن أبان وابن جامع فأمرهما بالاجتماع على حرب أبي العبّاس. وصول الموفق لحرب الزنج وفتح المنيعة والمنصورة كان الموفّق لما بعث ابنه أبا العبّاس لحرب الزنج تأخر لإمداده بالحشود والعدد وإزاحة علله ومسارقة أحواله، فلما بلغه اجتماع ابن أبان وابن جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأوّل من سنة سبع وستين، ولقيه ابنه وأخبره بالأحوال، ورجع إلى عسكره. ونزل الموفّق على نهر شدّاد ونزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور [1] فأقام يومين ثم رحل إلى المنيعة بسوق الخميس، سار إليها في النهر ونادى بالمقامة، ولقيه الزنج فحاربوه، ثم جاء الموفّق فانهزموا واتبعهم أصحاب أبي العبّاس فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا خلقا وأسروا آخرين، وهرب الشعراني، واختفى في الآجام آخرون. ورجع الموفّق إلى عسكره وقد استنقذ من المسلمات نحو خمس عشرة امرأة [2] ، ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها وهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما بقي من   [1] هكذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 344: «وامر ابنه ان يسير بما معه من آلات الحرب الى فوهه نهر مساور» . [2] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 344: خمسة آلاف امرأة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 السفن فيها، وببعث الأقوات التي أخذت، فكانت لا حدّ لها، فصرفت في الجند. وكتب الخبيث إلى ابن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني، وجاءت العيون إلى الموفّق أنّ ابن جامع بالحوانيت، فسار إلى الضبيّة [1] وأمر ابنه بالسير في النهر إلى الحوانيت، فلم يلق ابن جامع بها، ووجد قائدين من الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلّات، ولحق بمدينته المنصورة بطهتا، فقاتل ذلك الجند ورجع إلى أبيه بالخبر فأمره بالمسير إليه، وسار على أثره برّا وبحرا حتى نزلوا على ميلين من طهتا. وركب لبيوني مقاعد القتال على المنصور [2] فلقيه الزنج وقاتلوه وأسروا جماعة من غلمانه. ورمى أبو العبّاس بن الموفّق أحمد بن مهدي الجناني فمات وأوهن موته [3] ، ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع وعبّى عسكره وبعث السفن في البحر الّذي يصل إلى المنصورة، ثم صلّى وابتهل بالدعاء، وقدّم ابنه أبا العبّاس إلى السور، واعترضه الجند فقاتلهم عليه واقتحموا وولّوا منهزمين إلى الخنادق وراءه، فقاتلوه عندها واقتحمها عليهم كلّها، ودخلت السفن المدينة من النهر فقتلوا وأسروا، وأجلوهم عن المدينة وما اتصل بها، وهو مقدار فرسخ وملكه الموفق، وأفلت ابن جامع في نفر من أصحابه، وبلغ الطلّاب في أثره إلى دجلة، وكثر القتل في الزنج والأسر، واستنقذ العبّاس من نساء الكوفة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف [4] وأعطى ما وجد في المنصورة من الذخائر والأموال للأجناد، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدّة. ولما جاء جماعة من الزنج إلى الآجام اختفوا، فأمر بطلبهم وهدم سور المدينة وطمّ خنادقها وأقام سبعة عشر يوما في ذلك ثم رجع إلى واسط. حصار مدينة الخبيث المختارة وفتحها ثم إنّ الموفق عرض عساكره وأزاح عللهم، وسار ومعه ابنه أبو العبّاس إلى مدينة   [1] الصينيّة: المرجع السابق. [2] المعنى غير واضح وما يذكره ابن الأثير ج 7 ص 346: «ومطرت السماء مطرا شديدا، فشغل (أبو العباس) عن القتال، ثم ركب لينظر موضعا للحرب، فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثا، وهي التي سمّاها المنصورة، فتلقّاه خلق كثير، وخرج عليهم كمناء من مواضع شتّى، واشتدت الحرب، وترجّل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الّذي كانوا فيه، وأسروا من غلمان الموفّق جماعة.» [3] اي أوهن موته الزنج. [4] عشرين الفا عند ابن الأثير ج 7 ص 347. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 الخبيث، فأشرف عليها ورأى من حصانتها بالأسوار والخنادق ووعر الطرق، وما أعد من الآلات للحصار ومن كثرة المقاتلة ما استعظمه، ولما عاين الزنج عساكر الموفّق دهشوا. وقدّم ابنه العبّاس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق والمقاليع والأيدي، ورأوا من صبره وأصحابه ما لم يحتسبوه، ثم رجعوا وتبعهم مستأمنة من المقاتلة والملّاحين نزعوا إلى الموفّق، فقبلهم وأحسن إليهم، فتتابع المستأمنون في النهر فوكّل الخبيث بفوهة النهر من معهم، وتعبّى أهل السفن للحرب مع بهبود قائد الخبيث، فزحف إليه أبو العبّاس في السفن وهزمه، وقتل الكثير من أصحابه ورجع فاستأمن إليه بعض تلك السفن النهرية وكثير من المقاتلة فأمّنهم وأقام شهرا لم يقاتلهم. ثم عبّى عساكره منتصف شعبان في البرّ والبحر وكانوا نحوا من خمسين ألفا، وكان الزنج في نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، فأشرف عليهم ونادى بالأمان إلا للخبيث، ورمى بالرقاع في السهام بالأمان، فجاء كثير منهم ولم يكن حرب. ثم رحل من مكانه ونزل قريبا من المختارة، ورتّب المنازل من إنشاء السفن، وشرع في اختطاط مدينة لنزله سمّاها الموفّقيّة. فأكمل بناءها وشيّد جامعها وكتب بحمل الأموال والميرة إليها وأغب الحرب شهرا فتتابعت الميرة إلى المدينة، ورحل إليها التجار بصنوف البضائع، واستجر فيها العمران ونفقت الأسواق وجلبت صنوف الأشياء. ثم أمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بقتال من كان من الزنج خارج المختارة فقاتلهم وأثخن فيهم، فاستأمن إليه كثير منهم فأمّنهم ووصلهم، وأقام الموفّق أياما يحاصر المحاربين ويصل المستأمنين، واعترض الزنج بعض الوفاد الجائية بالميرة، فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار، ووكّل ابنه أبا العبّاس بحفظها، وجاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر نصير يريدون الإيقاع به، فأوقع بهم وظفر ببعض القوّاد منهم، فقتل رشقا بالسهام، وتتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخر رمضان خمسين ألفا. ثم بعث الخبيث عسكرا من الزنج مع عليّ بن أبان ليأتوا من وراء الموفّق إذا ناشبهم الحرب، ونمي إليه الخبر بذلك فبعث ابنه أبا العبّاس فأوقع بهم، وحملت الأسرى والرءوس في السفن النهرية ليراها الخبيث وأصحابه، وظنّوا أنّ ذلك تمويه فرميت الرءوس في المجانيق حتى عرفوها، فظهر منهم الجزع وتكرّرت الحرب في السفن بين أبي العبّاس وبين الزنج، وهو يظهر عليهم في جميعها حتى انقطعت الميرة عنهم، فاشتدّ الحصار عليهم وخرج كثير من وجوه أصحابه مستأمنين، مثل محمد بن الحرث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 القمّيّ وأحمد اليربوعي. وكان من أشجع رجاله القمّيّ منهم موكلا بحفظ السور فأمّنهم الموفق ووصلهم، وبعث الخبيث قائدين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البطيحة من ثلاثة وجوه، فيعبروا من تلك النواحي ويقطعوا الميرة عن الموفّق. وبلغ الموفق خبرهم فبعث إليهم عسكرا مع مولاه، ونزل فأوقع بهم وقتل وأسر، وأخذ منهم أربعمائة سفينة. ولما تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها، وجهدهم الحصار فبعث جماعة من قوّاده إلى الموفّق يستأمنون وان يناشبهم الحرب ليجدوا السبيل إليه، فأرسل ابنه أبا العبّاس إلى نهر الغربي وبه عليّ بن أبان فاشتدّ الحرب وظهر أبو العبّاس على بن أبان، وأمدّه الخبيث بابن جامع ودامت الحرب عامّة يومهم، وكان الظفر لأبي العبّاس، وسار إليه المستأمنة الذين وأعدوه. وانصرف أبو العبّاس إلى مدينة الخبيث وقاتل بعض الزنج طمعا فيهم فتكاثروا عليه، ثم جاءه المدد من قبل أبيه فظهر عليهم. وكان ابن جامع قد صعد في النهر وأتى أبا العبّاس من ورائه، وخفقت طبوله فانكشف أصحاب أبي العبّاس، ورجع منهزمة الزنج فأجبت جماعة من غلمان الموفّق وعدّه من أعلامهم، وحامي أبو العبّاس عن أصحابه حتى خلصوا، وقوي الزنج بهذه الواقعة، فأجمع الموفّق العبور إلى مدينتهم بعسكره. فعبّى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجة واستكثر من المعابر والسفن وقصدوا حصن أو كان بالمدينة وفيها أنكلاي بن الخبيث وابن جامع وابن أبان وعليه المجانيق والآلات، فأمر غلمانه بالدنو منه فخاموا لاعتراض نهر الأتراك بينهم وبينه، فصاح بهم فقطعوا النهر سبحا، وتناولوا الركن بالسلاح يهدمونه، ثم صعدوا عليه وملكوه ونصبوا به علم الموفّق، وأحرقوا ما كان عليه من الآلات وقتلوا من الزنج خلقا عظيما، وكان أبو العبّاس يقاتلهم من الناحية الأخرى وابن أبان قبالته فهزمه، ووصل أصحاب أبي العبّاس إلى السور فثلموه ودخلوا، ولقيهم ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواقفهم. ثم توافي الفعلة فثلموا السور في مواضع، ونصبوا على الخندق جسرا عبر عليه المقاتلة، فانهزم الزنج عن السور واتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان، فملكه أصحاب الموفّق وأحرقوه، وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث، فركب من هنالك وانهزم عنه أصحابه، وأظلم الليل ورجع الموفّق بالناس، وتأخّر أبو العبّاس لحمل بعض المستأمنين في السفن، واتبعه بعض الزنج ونالوا من آخر السفن. وكان بهبود بإزاء مسرور البلخيّ فنال من أصحابه واستأمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 بعض المنهزمين من الزنج والأعراب بعثوا بذلك من عبادان والبصرة، وكان منهم قائده ريحان أبو صالح المعريّ فأمّنهم الموفّق وأحسن إليهم وضم ريحان إلى أبي العبّاس. وخرج في المحرّم إلى الموفّق من قوّاد الخبيث وثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجّان فأحسن إليه الموفّق وحمله في بعض السفن إلى قصر الخبيث، فوقف وكلّم الزنج في ذلك، وأقام الموفّق أياما استجمّ فيها أصحابه، فلما كان منتصف ربيع الثاني قصد مدينة، وفرّق القوّاد على جهاتها ومعهم النقّابون للسور ومن ورائهم الرماة يحمونهم. وتقدّم إليهم أن لا يدخلوا بعد الهزم إلّا بإذنه، فوصلوا إلى السور وثلموه وحاربوا الزنج من ورائه وهزموهم، وبلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمس. ثم تراجع الزنج وحاربوا من المكامن فرجع أصحاب الموفق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج، ورجع الموفّق إلى مدينته، ولام أصحابه على تقدمهم بغير إذنه، ثم بلغ الموفّق أنّ بعض الأعراب من بني تميم يجلبون الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكرا أثخنوا فيهم قتلا وأسرا، وجيء بالأسرى فقتلهم، وأوعز إلى البصرة بقطع الميرة فانقطعت عن الزنج بالكلية، وجهدهم الحصار وكثر المستأمنة وافترق كثير من الزنج في القرى والأمصار البعيدة، وبث الموفّق دعاته فيهم ومن أبى قتلوه وعرض المستأمنين وأحسن إليهم ليستميل غيرهم وتابع الموفّق وابنه قتال الزنج، وقتل بهبود بن عبد الواحد من قوّاد الخبيث في تلك الحروب، فكان قتله من أعظم الفتوح، وكان قتله في السفن البحرية ينصب فيها أعلاما كأعلام الموفّق ويخايل أطراف العسكر فيصيب منهم. وأفلت في بعض الأيام من يد أبي العبّاس بعد أن كان حصل في قبضته، ثم خيل أخرى لبعض السفن طامعا فيها فحاربوه وطعنه بعض الغلمان منها فسقط في الماء، وأخذه أصحابه فمات بين أيديهم. وخلع الموفق على الغلام الّذي طعنه وعلى أهل السفينة. ولما هلك بهبود قبض الخبيث على بعض أصحابه وضربهم على ماله، فاستفسد قلوبهم، وهرب كثير منهم إلى الموفق، فوصلهم ونادى بالأمان لبقيتهم. ثم اعتزم على العبور إلى الزنج من الجانب الغربي وكانت طرقه ملتفة بالنخيل فأمر بقطعها، وأدار الخنادق على معسكره حذرا من البيات. ثم صعب على الموفق القتال من الجانب الغربي لكثرة أوعاره وصعوبة مسالكه وما يتوجه فيها على أصحابه من خيل الزنج لقلّة خبرتهم بها، فصرف قصده إلى هدم أسوارهم وتوسعت الطرق فهدم طائفة من السور من ناحية نهر سلمى، وباشر الحرب بنفسه، واشتدّ القتال وكثرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 القتلى في الجانبين وفشت الجراح، وكانت في النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال، ويأتون أصحاب الموفق من ورائهم فأمر بهدمهما فهدمتا، ثم هدم طائفة من السور ودخلوا المدينة وانتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث ودواوينه. ثم تقدّموا إلى الجامع فخرّبوه وجاءوا بمنبره إلى الموفّق بعد أن استمات الزنج دونه، فلم يغنوا به. ثم أكثروا من هدم السور وظهرت علامات الفتح، ثم أصاب الموفّق في ذلك اليوم سهم في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع وستين، فعاد إلى عسكره. ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس. ثم لزم الفراش واضطرب العسكر، وأشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى فاحتجب عن الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه. ثم ركب إلى الحرب فوجد الزنج قد سدّدوا ما تثلّم من الأسوار، فامر بهدمها كلّها، واتصل القتال مما يلي نهر سلمى كما كان، والزنج يظنّون أنهم لا يأتون إلا منها، فركب يوما لقتالهم وبعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب، فانتهوا إلى قصر من قصور الزنج فأحرقوه وانتهبوا ما فيه واستنقذوا كثيرا من الساكن فيه. ورجع الموفّق آخر يومه ظافرا. ثم بكر لحربهم فوصلت المقدّمات دار أنكلاي بن الخبيث وهي متّصلة بدار أبيه، وأشار ابن أبان بإجراء المياه على الساج وحفر الخنادق بين يدي العساكر، وأمر الموفّق بطم الخنادق والأنهار، ورام إحراق قصره وقصده من دجلة فمنع من ذلك كثرة الحماة عنه، فأمر أن تسقف السفن بالأخشاب، وتطلى بالأدوية المانعة من الإحراق. ورتّب فيها أنجاد أصحابه، وباتوا على أهبة الزحف من الغد. وجاء كاتب الخبيث وهو محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمنا، وبكروا إلى الحرب وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بإحراق منازل القوّاد المتصلة بقصر الخبيث ليشغلهم عن حمايته، وقصدت السفن المطليّة قصر الخبيث فأحرقوا الرواشن والأبنية الخارجة وعلت النار فيه ورموا بالنار على السفن فلم تؤثر فيها. ثم حصر الماء من النهر فزحفت السفن، فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتا كانت تشرع على دجلة، واشتعلت النار فيها وقويت وهرب الخبيث وأصحابه وتركوها وما فيها. واستولى أصحاب الموفّق على ذلك كلّه واستنقذوا جماعة من النساء، وأحرق قصر أنكلاي ابنه، وجرحا، وعاد الموفّق عشاء يومه مظفرا، ثم بكر من الغد للقتال وأمر نصيرا قائد السفن بقصد القنطرة التي كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب دون القنطرة التي كان اتخذها، وفرّق العسكر في الجهات فدخل نصير في أوّل المدّ ولصق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 بالقنطرة، واتصل الشدّ من ورائه فلم يقدر على الرجوع حتى حسر الماء عنها، وفطن لها الزنج فقصدوها فألقى الملّاحون أنفسهم في الماء وألقى نصير نفسه وقاتل ابن جامع ذلك اليوم أشدّ قتال. ثم انهزم وسقط في الحريق فاحترق، ثم خلص بعد الجهد. وانصرف الموفّق سالما وأصابه مرض المفاصل واتّصل به إلى شعبان من سنته فأمسك في هذه المدّة عن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير وزاد فيها وأحكمها، وجعل أمامها سكرا من الحجارة ليضيق المدخل على السفن، فبعث الموفّق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب، وطائفة من بحريه ومعهم الفعلة لقطع القنطرة، وجعل أمامها سفنا مملوءة من القصب لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر، وفرّق جنده على القتال وساروا لما أمرهم عاشر شوّال، وتقدّموا إلى الجسر ولقيهم أنكلاي بن الخبيث وابن أبان وابن جامع وحاموا عن القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرّة عليهم، ودامت الحرب عليها إلى العشيّ ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليها، ونقضها النجّارون ونقضوا الأثقال التي دونها وأدخلوا السفن بالقصب، وأضرموها نارا ووافت القنطرة فأحرقتها ووصل النجّارون بذلك إلى ما أرادوا. وسهل سبيل السفن في النهر وقتل من الزنج خلق واستأمن آخرون، وانتقل الخبيث بعد حرق قصوره ومساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ونقل أسواقه إليه وتبين ضعفه فانقطعت عنه الميرة وفقدت الأقوات وغلت حتى أكل بعضهم بعضا، وأجمع الموفّق أن يحرق الجانب الشرقي كما أحرق الغربي فقصد دار الهمذان وكان حصينا وعليه الآلات فلما انتهى إليها تعذّر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب ونشبت في أعلام الخبيث وجذبوها فتساقطت، فانهزم المقاتلة وصعد النفّاطون فأحرقوا ما كان عليها من الآلة، ونهبوا الأثاث والمتاع. واتصل الحريق بما حولها من الدور واستأمن للموفّق جماعة من خاصة الخبيث فأمّنهم ودلّوه على سوق عظيمة متّصلة بالجسر الأوّل تسمى المباركة، وبها التجّار الذين بهم قوامهم، فقصدها لإحراقها وحاربه الزنج عندها، واضرم أصحابه النار فيها فاتصلت وبقي التحريق عامّة اليوم. ثم رجع الموفّق ثم انتقل التجار بأمتعتهم وأموالهم إلى أعلى المدينة، ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من حفر الخنادق وتغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي، واحتفر خندقا عريضا حصّن به منازل أصحابه على النهر الغربي. ثم خرّق الموفق باقي السور إلى النهر الغربي بعد حرب شديدة كانت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 عليه، وكان للخبيث جمع من الزنج وهم أشجع أصحابه، قد تحصّنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفّق عند الحرب فيعوقونهم فأجمع على تخريبه وجمع المقاتلة عليه برّا وبحرا وفرّقهم على سائر جهاته وجهات الخبيث، وأمدّ الخبيث الحصن بالمهلّبيّ وابن جامع، فلم يغنوا عنه وانهزموا، وتركوا الحصن في يدي أصحاب الموفّق وهزموه وقتلوا من الزنج خلقا، وخلّصوا من الحصن كثيرا من النساء والصبيان، ورجع الموفّق إلى عسكره ظافرا. استيلاء الموفق على الجهة الغربية ولما هدم الموفق سور دار الخبيث أمر بتوسعة الطرق للحرب، وأحرق الجسر الأوّل الّذي على نهر أبي الخصيب ليمنع من مدد بعضهم بعضا، فكان في إحراقه حرب عظيمة. وأعدّت لذلك سفينة ملئت قصبا وجعل فيها النفط، وأرسلت في قوّة المدد فتبادر الزنج إليها وغرقوها فركب الموفّق إلى فوهة نهر أبي الخصيب وقصدهم من غربي النهر وشرقيّه إلى أن انتهوا إلى الجسر من غربيّه وعليه أنكلاي بن الخبيث وابن جامع فأحرقوه، وفعل مثل ذلك من الجانب الشرقي، فاحترق الجسر والحظيرة التي كانت لإنشاء السفن، وسجن كان هناك للخبيث. وانحاز هو وأصحابه من الجانب الغربي واستأمن كثير من قوّاده فأمّنهم وأخرجوا أرسالا وخرج قاضيه هاربا، ووكّل بالجسر الثاني من يحفظه وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بأن يتجهّز لإحراقه فزحف في أنجاد غلمانه ومعه الفعلة والآلات. وكان في الجانب الغربي قبالة أبي العبّاس أنكلاي وابن جامع، وفي الجانب الغربي قبالة أسد مولى الموفّق الخبيث نفسه والمهلّبيّ، وجاءت السفن في النهر وقاتلوا حامية الجسر فانهزم ابن جامع وأنكلاي وأضرمت النار في الجسر، ولما وافياه وهو مضطرم نارا ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق من أصحابهما خلق، واحترق الجسر واتصل الحريق بدورهم وقصورهم وأسواقهم، وافترق الجيش في الجانبين ونهبت دار الخبيث واستنفذ من كان في حبسه من النسوة والرجال. وأخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة ونهبها أصحاب الموفّق واستأمن أنكلاي بن الخبيث وعلم أبوه فثنّاه عن ذلك. واستأمن سليمان بن موسى الشعراني من رؤساء قوّاده فأجيب بعد توقف. ولما خرج تبعه أصحاب الخبيث فقاتلهم، ووصل إلى الموفّق فأحسن إليه واقتفى أثره في ذلك شبل ابن سالم من قوّاده، وعظم على الخبيث وأوليائه استئمان هؤلاء، وصار شبل بن سالم يخرج في السرايا إلى عسكر الخبيث ويكثر النكاية فيهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 استيلاء الموفق على الجهة الشرقية وفي خلال هذه الحروب واتصالها مرن أصحاب الموفّق على تخلّل تلك المسالك والشعاب مع تضايقها ووعرها، وأجمع الموفّق على قصد الجانب الشرقي في نهر أبي الخصيب، وندب لذلك قوّاد المستأمنة لخبرتهم بذلك دون غيرهم، ووعدهم بالإحسان والزيادة فأبوا وسألوه الإقالة فأبى لتتميز مناصحتهم. وجمع سفن دجلة من كل جانب، وكان فيها عشرة آلاف ملّاح من المرتزقة. وأمر ابنه أبا العبّاس بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتها، فسار إلى دار المهلّبيّ وهو في مائة وخمسين قطعة من السفن قد شحنها بأنجاد غلمانه، وانتخب عشرة آلاف مقاتل وأمرهم بالمسير حفا في النهر يشاهد أحوالهم. وبكّر الموفّق لثمان خلون من ذي القعدة زاحفا للحرب، فاقتتلوا مليّا وصبروا. ثم انهزم الزنج وقتل منهم خلق، وأسر آخرون فقتلوا، وقصد الموفّق بجمعه دار الخبيث، وقد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا عنه وانهزموا وأسلموها فنهبها أصحاب الموفق، وسبوا حريمه وبنيه وكانوا عشرين. ونجا إلى دار المهلّبيّ ونهبها واشتغل أصحابهم جميعا بنقل الغنائم إلى السفن، فأطمع ذلك الزنج فيهم وتراجعوا وردوا الناس إلى مواقفهم. ثم صدق الموفّق الحملة عشيّ النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث ورجع الناس إلى عسكره، ووصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في القدوم عليه فأخّر القتال إلى حضوره. مقتل صاحب الزنج ولما وصل غلام ابن طولون في ثالث المحرم من سنة سبعين جاء في جيش عظيم، فأحسن إليهم الموفّق وأجرى لهم الأرزاق على مراتبهم، وأمره بالتأهّب لقتال الخبيث. وقد كان لما غلب على نهر أبي الخصيب وقطعت القناطر والجسور التي عليه، أحدث فيه سكرا وضيّق جرية الماء ليمنع السفن من دخوله إذا حضر، ويتعذّر خروجها أمامه. وبقي جريه لا يتهيأ إلّا بإزالة ذلك السكر، فحاول ذلك مدّة والزنج يدافعون عنه، ودفع الموفق لذلك لؤلؤا في أصحابه ليتمرّنوا على حرب الزنج في تلك المسالك والطرق فأحسنوا البلاء فيها ووصلهم، وألح على العسكر، وهو كل يوم يقتل مقاتلهم ويحرق مساكنهم ويقتل المستأمنة منهم. وقد كان بقي بالجهة الغربية بقية من أبنية ومزارع وبها جماعة يحفظونها، فسار إليهم أبو العبّاس وأوقع بهم، ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 يسلم منهم إلا الشريد. ثم غلبهم على السكر وأحرقه واعتزم على لقاء الخبيث وقدّم ابنه أبا العبّاس إلى دار المهلّب وأضاف المستأمنة إلى شبل بن سالم وأمرهم أن ينتظروا بالقتال نفخ البوق، ونصب علمه الأسود على دار الكرمانيّ. ثم صمد إليهم وزحف الناس في البر والنهر، ونفخت الأبواق وذلك لثلاث بقين من المحرّم سنة سبعين. واشتدّ القتال وانهزم الزنج ومات منهم قتلا وغرقا ما لا يحصى، واستولى الموفّق على المدينة واستنقذوا الأسرى وأسروا الخليل وابن أبان وأولادهما وعيال أخيهما، ومضى الخبيث ومعه ابنه أنكلاي وابن جامع وقوّاد من الزنج إلى موضع بنهر السّفيانيّ كانوا أعدّوه ملجأ إذا غلب على المدينة، واتبعه الموفّق في السفن ولؤلؤ في البر. ثم اقتحم النهر بفرسه واتّبعه أصحابه فأوقعوا بالخبيث ومن معه حتى عبروا نهر السامان [1] واعتصموا بجبل وراءه، ورجع لؤلؤ عنهم وشكر له الموفّق ورفع منزلته واستبشر الناس بالفتح. وجمع الموفّق أصحابه فوبّخهم على انقطاعهم عنه فاستعذروا بأنهم ظنّوا انصرافه. ثم تحالفوا على الإقدام والثبات حتى يظفروا وسألوه أن تردّ المعابر التي يعبرون فيها ليستميت الناس في حرب عدوّهم، فوعدهم بذلك وأصبح ثالث صفر فعبّى المراكب وبعثهم إلى المراكز وردّ المعابر التي عبروا فيها وتقدّم سرعان العسكر فأوقعوا بالخبيث وأصحابه ففضّوا جماعة وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، وافترقوا كل ناحية. وثبت مع الخبيث لمّة من أصحابه فيهم المهلّبيّ وذهب ابنه أنكلاي وابن جامع واتبع كلّا منهم طائفة من العسكر بأمر أبي العبّاس ابن الموفّق. ثم أسر إبراهيم بن جعفر الهمذاني فاستوثقوا منه. ثم كرّ الخبيث والمنهزمون معه على من اتّبعهم من أهل العسكر فأزالوهم عن مواقفهم. ثم رجعوا ومضى الموفّق في اتباع الخبيث إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه غلام من أصحاب لؤلؤ برأس الخبيث وسار أنكلاي نحو الديناريّ ومعه المهلّبىّ وبعث الموفّق أصحابه في طلبهم فظفر بهم وبمن معهم، وكانوا زهاء خمسة آلاف، فاستوثق منهم ثم استأمن إليه ورمونة [2] وكان عند البطيحة قد اعتصم بمغايض وآجام هنالك يخيف السابلة، ويغير على تلك النواحي وعلى الواردين إلى مدينة الموفّق. فلما علم بموت الخبيث سقط في يده وبعث يستأمن فأمّنه الموفّق فحسنت توبته وردّ الغصوبات إلى أهلها ظاهرا،   [1] نهر السفياني: ابن الأثير ج 7 ص 403. [2] درمويه الزنجيّ: المرجع السابق ص 404. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وأمر الموفّق بالنداء برجوع الزنج إلى موطنهم فرجعوا وأقام الموفّق بمدينة الموفّقية ليأمن الناس بمقامه، وولّى على البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد وقدم ابنه أبا العبّاس إلى بغداد فدخلها منتصف جمادى من سنة سبعين وكان خروج صاحب الزنج آخر رمضان سنة خمس وخمسين وقتله أوّل صفر سنة سبعين لأربع عشرة سنة وأربعة أشهر من دولته. ولاية ابن كنداج على الموصل لما سار أحمد بن موسى بن بغا إلى الجزيرة وولّى موسى بن أتامش على ديار ربيعة فتغيّر لذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره وأوقع بالأكراد اليعقوبيّة وانتهب أموالهم ثم لقي ابن مساور الخارجيّ فقتله، وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مال، وكان عليهم عليّ بن داود قائدا، فدفعه وسار ابن كنداج إليه، فخرج عليّ بن داود واجتمع حمدان بن حمدون الثعلبيّ وإسحاق بن عمر بن أيوب بن الخطّاب الثعلبيّ العدويّ، فكانوا خمسة عشر، وجاءهم عليّ بن داود فلقيهم إسحاق في ثلاثة آلاف فهزمهم بدسيسة من أهل مسيرتهم، وسار حمدان وعليّ بن داود إلى نيسابور، وابن أيّوب إلى نصيبين، وابن كنداج في اتّباعه، فسار عنها واستجار بعيسى ابن الشيخ الشيبانيّ وهو بآمد، وأبي العزّ موسى بن زرارة وهو عامل أردن، فأنجداه وبعث المعتمد إلى إسحاق بن كنداج بولاية الموصل فدخلها، وأرسل إليه ابن الشيخ وابن زرارة مائة ألف دينار على أن يقرّهم على أعمالهم فأبى، فاجتمعوا على حربه، فرجع إلى إجابتهم. ثم حاربوه سنة سبع وستين. واجتمع لحربه إسحاق بن أيوب وعيسى ابن الشيخ وأبو العزّ بن حمدان بن حمدون في ربيعة وثعلب وبكر واليمن فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين، ثم إلى آمد وحمر [1] عسكرا لحصار ابن الشيخ بآمد وكانت بينهم حروب. حروب الخوارج بالموصل كان مساور الخارجي قد هلك في حروبه مع العساكر سنة ثلاث وستين بالبوارسح [2]   [1] حمر الرجل: تحرق غضبا، وحمره: قال له يا حمار (قاموس) . [2] البوازيج: ابن الأثير ج 7 ص 309. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 وأراد أصحابه ولاية محمد بن حرداد [1] بشهرزور فامتنع، وبايعوا أيوب بن حيّان المعروف بالغلام فقتل، فبايعوا هارون بن عبد الله البجلي وكثر أتباعه واستولى على بلد الموصل، وخرج عليه من أصحابه محمد بن حرداد، وكان كثير العبادة والزهد يجلس على الأرض ويلبس الصوف الغليظ ويركب البقر لئلا يفرّ في الحرب، فنزل واسط وجاء وجوه أهل الموصل، فسار إليهم وهارون غائب في الأحشاد، فبادر إليه واقتتلا، وانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتين، وقصد بني ثعلب [2] مستنجدا بهم فأنجدوه وسار معه حمدان بن حمدون ودخل معه الموصل، ودخل ابن حرداد، واستمال هارون أصحابه، ورجع إلى الحديثة، ولم يبق مع ابن حرداد إلا قليل من الأكراد فمالوا إلى هارون بالموصل، فخرج وأوقع بابن حرداد فقتله وأوقع بالأكراد الجلاليّة وكثر أتباعه، وغلب على القرى والرساتيق، وجعل على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المصعّدة والمنحدرة، ووضع في الرساتيق من يقبض اعتبار الغلّات، واستقام أمره. ثم جاء بنو ساسان لقتاله سنة ست وسبعين واستنجد بحمدان بن حمدون فجاءه بنفسه، وسار إلى نهر الخازن وانهزمت طليعتهم، وانهزموا بانهزامها، وجاء بنو شيبان إلى فسا فانجفل أهلها وأقام هارون وأصحابه بالحديثة. أخبار رافع بن هرثمة من بعد الخجستاني لما قتل أحمد الخجستاني سنة ثمان وستين كما قدّمناه اجتمع أصحابه على رافع بن هرثمة من قوّاد محمد بن طاهر، وكان رافع هذا لما استولى يعقوب الصفّار على نيسابور، وزال بنو طاهر، صار رافع في جملته، وصحبه إلى سجستان. ثم أقصاه عن خدمته وعاد إلى منزله بنواحي جيّ حتى استخدمه الخجستانيّ وجعله صاحب جيشه. فلما قتل الخجستانيّ اجتمع الجيش عليه بهراة وأمّروه وسار إلى نيسابور فحاصر بها أبا طلحة بن شركب وقد كان وصل إليها من جرجان، فضيّق عليه المخنق ففارقها أبو طلحة إلى مرو، وولّى على هراة ابن المهدي وخطب لمحمد بن طاهر بمرو وهراة وزحف إليه عمرو بن الليث فهزمه وغلبه على ما بيده. واستخلف على   [1] محمد بن خرزاد: ابن الأثير ج 7 ص 309. [2] هم بنو تغلب وقد لاحظنا ان ابن خلدون يكنيهم بالثعالبة بدل التغالبة أو ان ذلك عائد لتحريف الناسخ! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 مرو محمد بن سهل بن هاشم، وخرج أبو طلحة إلى مكمد [1] واستعان بإسماعيل بن أحمد السامانيّ، فأمدّه بعسكر وأخرج محمد بن سهل، وخطب بها لعمرو بن الليث سنة إحدى وسبعين. ثم قلّد الموفّق تلك السنة أعمال خراسان لمحمد ابن طاهر، وهو ببغداد، فاستخلف عليها رافع بن الليث وأقرّ على ما وراء النهر نصر بن أحمد. ووردت كتب الموفّق بعزل عمرو بن الليث ولعنه، فسار رافع إلى هراة وقد كان بها محمد بن المهدي خليفة أبي طلحة، فثار عليه يوسف بن معبد. فلما جاء رافع استأمن إليه فأمّنه واستعمل على هراة مهدي بن محسن. ثم سار رافع إلى أبي طلحة بمرو بعد أن استمدّ إسماعيل بن أحمد وأمدّه بنفسه في أربعة آلاف فارس، واستقدم عليّ بن محسن المروروذيّ فقدم عليه في عسكره، وساروا جميعا إلى أبي طلحة بمرو سنة اثنتين وسبعين، فهزموه وعاد إسماعيل إلى بخارى ولحق بأبي طلحة وبها مهدي، فاجتمع معه على مخالفة رافع فهزمهما رافع، ولحق أبو طلحة بعمرو بن الليث وقبض على مهدي سنة اثنتين وسبعين ثم خلّى سبيله وسار رافع إلى خوارزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور. مغاضبة المعتمد للموفّق ومسيرة ابن طولون وما نشأ من الفتنة لأجل ذلك كان الموفّق حدثت بينه وبين ابن طولون وحشة وأراد عزله، وبعث موسى بن بغا في العساكر إليه سنة اثنتين وستين فأقام بالرقّة عشرة أشهر، واختلف عليه العسكر فرجع، وكان الموفق مستبدّا على أخيه المعتمد منذ قيامه بأمر دولته مع ما كان من الكفاية والغناء، إلّا أنه كان المعتمد يتأفّف من الحجر، وكتب إلى أحمد بن طولون في السرّ يشكو ذلك وأشار عليه باللحاق إليه بمصر لينصره، وبعث عسكرا إلى الرقّة في انتظاره، وكان الموفّق مشغولا بحرب الزنج، فسار المعتمد منتصف سنة تسع وستين في القوّاد مظهرا أنه يتصيّد، ثم سار إلى أعمال الموصل وعليها يومئذ وعلى سائر الجزيرة أصحاب كنداج [2] وكتب صاعد بن مخلّد وزير الموفّق عن الموفّق إلى   [1] بيكند: ابن الأثير ج 7 ص 368. [2] إسحاق بن كنداجيق: ابن الأثير ج 7 ص 394. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 إسحاق بردّه عن طريقه، والقبض على من معه من القوّاد. فلمّا وصل المعتمد إلى عمله أظهر إسحاق طاعته، فارتحل في خدمته إلى أوّل عمل ابن طولون. ثم اجتمع بالمعتمد والقوّاد وفيهم نيزك وأحمد بن خاقان وغيرهم فعذلهم في المسير إلى ابن طولون والمقام تحت يده، وطال الكلام بينهم مليّا ثم دعاهم إلى خيمته للمناظرة في ذلك أدبا مع المعتمد، وقيّدهم وجاء إلى المعتمد فعذله في المسير عن دار خلافته ومغاضبة أخيه، وهو في دفاع عدوّه ومن يريد خراب ملكه، وحمل الجميع إلى سامرّا. وقطع ابن طولون الدعاء للموفق على منابره وأسقط اسمه من الطرز [1] وغضب الموفّق بسبب ذلك على أحمد بن طولون، وحمل المعتمد على أن يشار بلعنه على المنابر. وولّى إسحاق بن كنداج على أعماله وفوّض إليه من باب الشماسية إلى إفريقية، وكان لؤلؤ مولى ابن طولون عاملا على حمص وحلب وقنّسرين وديار مصر من الجزيرة. وكان منزله بالرقّة فانتقض عليه في هذه السنة، وسار إلى بالس فنهبها، وكتب إلى الموفّق فمرّ بقرقيسياء وبها ابن صفوان العقيليّ فحاربه وغلبه عليها وسلّمها إلى أحمد بن مالك بن طوق. ووصل إلى الموفّق في عسكر عظيم وهو يقاتل صاحب الزنج فأكرمه الموفّق وأحسن هو الغناء في تلك الحرب. ثم بعث ابن طولون في تلك السنة جيشه إلى مكة لإقامة الموسم، وعامل مكة هارون بن محمد ففارقها خوفا منهم، وبعث الموفّق جعفرا في عسكر فقوي بهم هارون ولقوا أصحاب ابن طولون فهزموهم وصادروا القائد على ألف دينار. وقرئ الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون وانقلب أهل مصر إلى بلدهم آمنين. ولم يزل لؤلؤ في خدمة الموفّق إلى أن قبض عليه سنة ثلاث وسبعين وصادره على أربعمائة ألف وأدبر أمره ثمّ، ثم عاد إلى مصر آخر أيام هارون بن حماديه [2] . وفاة ابن طولون ومسير ابن كنداج إلى الشام وفي سنة سبعين انتقض بازمان [3] الخادم بطرسوس وقبض على نائبة، وسار إليه أحمد بن طولون في العساكر وحاصروه فامتنع عليه، فرجع إلى أنطاكية فمرض هنالك ومات لست وعشرين سنة من ولايته على مصر وولي بعده ابنه خمارويه،   [1] الطرر: حواشي الكتب. [2] هارون بن خمارويه: ابن الأثير ج 7 ص 425. [3] بازمار الخادم: ابن الأثير ج 7 ص 408. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 وانتقضت عليه دمشق فبعث إليها العساكر وعادت إلى طاعته. وكان يومئذ بالموصل والجزيرة إسحاق بن كنداج وعلى الأنبار والرحبة وطريق الفرات محمد بن أبي الساج، فكاتبا الموفّق في المسير إلى الشام واستمدّاه، فأذن لهما ووعدهما بالمدد، فسارا وملكا ما يجاورهما من بلاده، واستولى إسحاق على أنطاكية وحلب وحمص، وكاتبه نائب دمشق واجتمع الخلاف على خمارويه فسار إليه فهرب إلى شيزر وهي في طاعة خمارويه، ودمشق. وجاء أبو العبّاس بن الموفّق وهو المعتضد من بغداد بالعساكر فكبس شيزر وقتل من جند ابن طولون مقتله عظيمة، ولحق فلّهم بدمشق وأبو العبّاس في اتباعهم، فجلوا عنها، وملكها في شعبان سنة إحدى وسبعين. ورجعت عساكر خمارويه إلى الرّملة فأقاموا بها. وزحف إسحاق بن كنداج إلى الرقّة وعليها وعلى الثغور والعواصم ابن دعاص [1] من قبل خمارويه فقاتله وكان الظهور لإسحاق. ثم زحف أبو العبّاس المعتضد من دمشق إلى الرملة، وسار خمارويه من مصر واجتمع بعساكره في الرملة على ماء الطواحين، وكان المعتضد قد استفسد لابن كنداج وابن أبي الساج ونسبهما إلى الجبن في انتظارهما إياه في محاربة خمارويه. وعبّى المعتضد عساكره ولقي خمارويه وقد أكمن له، فانهزم خمارويه أولا وملك المعتضد خيامه، وشغل أصحابه بالنهب فخرج عليهم الكمين فانهزم المعتضد إلى دمشق، فلم يفتح له أهلها، فراح إلى طرسوس وأقام العسكران يقتتلان دون أمير، وأقام أصحاب خمارويه عليهم أخاه سعدا مكانه، وذهبوا إلى الشام فملكوه أجمع، وأذهبوا منه دعوة الموفّق وابنه. وبلغ الخبر إلى خمارويه فسرّ وأطلق الأسرى الذين كانوا معه. ثم ثار أهل طرسوس بأبي العبّاس فأخرجوه، وسار إلى بغداد وولّوا عليهم مازيار، فاستبدّ بها ثم دعا لخمارويه بعد أن وصله بمال جليل يقال أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحا كثيرا، فدعا له ثم بعث إليه بخمسين ألف دينار. وفاة صاحب طبرستان وولاية أخيه ثم توفي الحسن بن زيد العلويّ صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين لعشرين سنة من ولايته وولّي مكانه أخوه وكان على قزوين أتكوتكين [2] فسار إلى الريّ في أربعة   [1] ابن دعباس: ابن الأثير ج 7 ص 411. [2] اذكوتكين: ابن الأثير ج 7 ص 418. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 آلاف فارس، وسار إليه محمد بن زيد في عالم كثير من الديلم والخراسانيّة، والتقوا فانهزم محمد بن زيد وقتل من عسكره نحو من ستة آلاف وأسر ألفان، وغنم أتكوتكين عسكرا وملك الريّ وأغرم أهلها مائة ألف دينار، وفرّق عمّاله عليها، وسار محمد بن زيد إلى جرجان، ثم عزل عمرو بن الليث عن خراسان وولّى عليها محمد بن طاهر، واستخلف محمد بن رافع بن هرثمة، وسار سنة خمس وسبعين إلى جرجان وهرب عنها ليلا إلى استرياد [1] فحاصره رافع فيها سنتين حتى أجهده الحصار، ففرّ عنها ليلا إلى سارية، فاتبعه فهرب عن طبرستان سنة سبع وسبعين، واستأمن رستم بن قارن إلى رافع بطبرستان فأمنه، وبعث إلى سالوس محمد بن هارون نائبا عنه وأتاه بها عليّ ابن كاني مستأمنا. ثم جاءه محمد وحاصرهما بسالوس، وانقطعت أخبارهما عن نافع. ثم جاءه الخبر بحصارهما فسار إليهما فارتحل محمد بن زيد إلى أرض الديلم، فدخل رافع خلفه وأثخن فيها نهبا وتخريبا إلى حدود قزوين، وعاد إلى الريّ إلى أن توفي المعتمد سنة تسع وتسعين. [2] فتنة ابن كنداج وابن أبي الساج وابن طولون كان ابن أبي الساج في أعماله بقنّسرين والفرات والرحبة ينافس إسحاق وهو على الجزيرة، ويريد التقدّم عليه، فحدثت لذلك منهما فتنة. فخطب ابن أبي الساج لخمارويه بن طولون [3] . وبعث ابنه ديواداد رهينة إليه، فبعث إليه خمارويه أموالا جمّة وسار إلى الشام، واجتمع بابن أبي الساج ببالس، ثم عبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقّة، وهزم إسحاق بن كنداج، واستولى على أعماله. وعبر خمارويه ونزل الرقّة ومضى إسحاق إلى قلعة ماردين وحاصره ابن أبي الساج بها، ثم أفرج عنها وسار إلى سنجار لقتال بعض الأعراب فسار ابن كنداج من ماردين إلى الموصل، فاعترضه ابن أبي الساج، وهزمه فعاد إلى ماردين، واستولى ابن أبي الساج على الجزيرة والموصل، وخطب فيهما لخمارويه ثم لنفسه بعد، وبعث غلامه فتحا إلى أعمال الموصل لجباية الخراج. وكان اليعقوبيّة من السّراة قريبا منه، فهادنهم، ثم   [1] أستراباذ: ابن الأثير ج 7 ص 434. [2] الصحيح ان المعتمد توفي سنة تسع وسبعين ومائتين وليس تسع وتسعين كما يذكر ابن خلدون. [3] هو خمارويه بن احمد بن طولون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 غدر بهم فكسبهم، وجاءهم أصحابهم من غير شعور بالواقعة، فحملوا على أصحاب فتح فاستلحموهم. ثم انتقض ابن أبي الساج واستبيح عسكره. وكان له بحمص مخلف من أثقاله، فقدّم خمارويه طائفة من العسكر إليها، فاستولوا على ما فيها، ومنعوا ابن أبي الساج من دخولها، فسار إلى حلب، ثم إلى الرقة وخمارويه في اتباعه، فعبر الفرات إلى الموصل، وجاء خمارويه إلى بلد وأقام بها وسار ابن أبي الساج إلى الحديثة وكان إسحاق بن كنداج قد لحق بخمارويه من ماردين فبعث معه جيشا وجماعة من القوّاد، وسار في طلب ابن أبي الساج، وقد عبر دجلة فجمع ابن كنداج السفن ليوطئ جسرا للعبور. وبينما هو في ذلك أسرى ابن أبي الساج من تكريت إلى الموصل، فوصلها لرابعة وسار ابن كنداج في اتّباعه، فاقتتلوا بظاهر الموصل وابن أبي الساج في ألفين، فصبر واشتدّ القتال، وانهزم ابن كنداج وهو في عشرين ألفا. فخلص إلى الرقة ومحمد بن أبي الساج في اتباعه. وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفرات إلى بلاد خمارويه بالشام، فأمره بالتوقّف إلى وصول المدد من عنده، ومضى ابن كنداج إلى خمارويه فجاء بجيوشه إلى الفرات، وتوافق مع ابن أبي الساج والفرات بينهما. ثم عبرت طائفة من عسكر ابن كنداج فأوقعوا بطائفة من عسكر ابن أبي الساج فانهزموا إلى الرقّة، فسار ابن أبي الساج عن الرقّة إلى بغداد سنة ست وسبعين في ربيع منها، فأكرمه الموفّق ووصله واستولى ابن كنداج على ديار ربيعة من أعمال الجزيرة، وأقام بها وولّى الموفق محمد بن أبي الساج على أذربيجان، فسار إليها فخرج إليه عبد الله بن الحسين الهمذاني عامل مراغة ليصدّه فهزمه ابن أبي الساج فحاصره وأخذ منه مراغة سنة ثمان وسبعين وقتله. واستقرّ ابن أبي الساج في عمله بأذربيجان. أخبار عمرو بن الليث كان عمرو بن الليث بعد مهلك أخيه يعقوب قد ولّاه الموفّق خراسان وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد كما كان أخوه، وقد ذكرنا ذلك قبل. وكان عامله على فارس ابن الليث فانتقض عليه سنة ثمان وستين فسار عمر ولحربه فهزمه واستباح عسكره ونهب إصطخر ثم ظفرت جيوشه بمحمّد وأسره وحبسه بكرمان، فأقام بها ثم بعث إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وهو بأصبهان يطلبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 بالمال. فبعث إليه بالأموال، وبعث عمرو إلى الموفق بثلاثمائة ألف دينار، وبخمسين منّا من المسك ومثلها من العنبر ومائتين من العود، وثلاثمائة ثوب من الوشي ومن آنية الذّهب والفضّة والدواب والغلمان قيمة مائة ألف دينار. واستأذنه في غزو محمد ابن عبيد الكرديّ في رامهرمز فأذن له، فبعث قائدا من جيشه إليه فأسره وجاء به إلى عمرو، ثم عزل المعتمد سنة إحدى وستين عمرو بن الليث عما كان قلّده من الأعمال، وأدخل إليه الحاج من أهلها عند منصرفهم من مكة، فأعلمهم بعزله، وأنه قد ولّى على خراسان محمد بن طاهر، وأمر بلعن عمرو على المنابر. وجهّز مخلّد ابن صاعد إلى فارس لحرب عمرو، واستخلف محمد بن طاهر على خراسان رافع بن هرثمة، وكتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بقتاله، وبعث إليه الجيوش فاقتتلوا مع عمرو، وكان في خمسة عشر ألف مقاتل، فانهزم عمرو وخرج قائده الديلميّ وقتل مائة من أعيانهم وأسر ثلاثة آلاف، فاستأمن منهم وغنموا من عسكره ما لا يحصى. ثم زحف الموفّق سنة أربع وسبعين إلى فارس لحرب عمرو فأنفذ عمرو ابنه محمدا إلى أرّجان في العساكر، وعلى مقدّمته أبو طلحة بن شركب وعبّاس بن إسحاق إلى سيراف، واستأمن أبو طلحة إلى الموفّق ففتّ ذلك في عضد عمرو، وعاد إلى كرمان واستراب الموفّق بأبي طلحة فقبض عليه قريبا من شيراز، وجعل ماله لابنه أبي العبّاس المعتضد، وسار في طلب عمرو، فخرج من كرمان إلى سجستان ومات ابنه محمد بالمفازة، ورجع عنه الموفّق وسار رافع بن الليث من خراسان وغلب محمد بن زيد على طبرستان كما قدّمناه، (وقدم عليه هنالك عليّ بن الليث هو وابناه المعدّل والليث بن حسن أخيه عليّ بكرمان ثم قتله رافع سنة ثمان وستين) [1] . مسير الموفق إلى أصبهان والجبل كان كاتب أتوتكين [2] أنهى إلى المعتضد أن له مالا عظيما ببلاد الجبل فتوجّه لذلك فلم يجد شيئا ثم سار إلى الكرخ ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف   [1] المعنى غير واضح والعبارة مشوشة ويذكر ابن الأثير في احداث 278: «وفيها قتل علي بن الليث أخو الصفّار، قتله رافع بن هرثمة، وكان قد حنق به، وترك أخاه» . والمعدل والليث هما ابنا عليّ بن الليث. [2] اذكوتكين: وقد مرّ ذكره من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 فتنحّى أحمد عن البلد بعسكره، وترك داره بفرشها لنزل الموفّق عند قدومه، ثم رجع الموفّق إلى بغداد. قبض الموفق على ابنه أبي العبّاس المعتضد ثم وفاته وقيام ابنه أبي العباس بالأمر بعده كان الموفّق بعد رجوعه من أصبهان نزل واسط، ثم عاد إلى بغداد وترك المعتمد بالمدائن، وأمر ابنه أبا العبّاس وهو المعتضد بالمسير إلى بعض الوجوه فأبى، فأمر بحبسه، ووكّل به. وركب القوّاد من أصحابه واضطربت بغداد فركب الموفّق إلى الميدان وسكّن الناس، وقال: إني احتجت إلى تقويم ابني فقوّمته، فانصرف الناس وذلك سنة ست وسبعين. وكان عند منصرفه من الجبل قد اشتدّ به وجع النّقرس ولم يقدر على الركوب، فكان يحمل في المحفّة، ووصل إلى داره في صفر من سنة سبع، وطال مرضه وبعث كاتبه أبا الصقر ابن بلبل إلى الميدان، فجاء بالمعتمد وأولاده وأنزله بداره، ولم يأت دار الموفّق، فارتاب الأولياء لذلك، وعمد غلمان أبي العبّاس فكسروا الأقفال المغلقة عليه وأخرجوه وأقعدوه عند رأس أبيه وهو يجود بنفسه، فلما فتح عينه قرّبه وأدناه وجمع أبو الصقر عنده القواد والجند. ثم تسامع الناس أنّ الموفّق حيّ، فتسلّلوا عن أبي الصقر وأوّلهم محمد بن أبي الساج، فلم يسع أبا الصقر إلا الحضور بدار الموفّق، فحضر هو وابنه وأشاع أعداء أبي الصقر أنه هرب بمال الموفّق إلى المعتمد، فنهبوا داره، وأخرجت نساؤه حفاة عراة، ونهب ما يجاوره من الدور، وفتقت السجون، ثم خلع الموفق على ابنه أبي العبّاس وأبي الصقر، وركب إلى منزلهما وولّى أبو العبّاس غلامه بدار الشرطة. ثم مات لثمان بقين من صفر سنة ثمان وسبعين ودفن بالرصافة. واجتمع القوّاد فبايعوا ابنه أبا العبّاس المعتضد باللَّه، واجتمع عليه أصحاب أبيه، ثم قبض المعتضد على أبي الصقر ابن بلبل وأصحابه، وانتهبت منازلهم، وولّى عبد الله بن سليمان بن وهب الوزارة، وبعث محمد بن أبي الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد فأبى وصيف وسار إلى السوس فأقام بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 ابتداء أمر القرامطة كان ابتداء أمرهم فيما زعموا أنّ رجلا ظهر بسواد الكوفة سنة ثمان وسبعين ومائتين يتّسم بالزهد، وكان يدعى قرمط يقال لركوبه على ثور كان صاحبه يدعى كرميطة فعرب وقيل بل اسمه حمدان ولقبه قرمط. يقال وزعم أنه داعية لأهل البيت للمنتظر منهم واتّبعه العبّاس فقبض عليه الهيصم عامل الكوفة وحبسه، ففرّ من حبسه وزعم أنّ الإغلاق لا يمنعه. ثم زعم أنه الّذي بشّر به أحمد بن محمد ابن الحنفية، وجاء بكتاب تناقله القرامطة فيه بعد البسملة: يقول الفرح بن عثمان من قرية نصرانه أنه داعية المسيح وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهديّ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفيّة، وهو جبريل. وإنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان فقال له إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك يحيى بن زكريا وإنك روح القدس، وعرّفه أنّ الصلاة أربع ركعات قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها، وأنّ الأذان بالتكبير في افتتاحه وشهادة التوحيد مرّتين، ثم شهادة بالرسالة لآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمّد صلوات الله عليهم، ثم لأحمد بن محمد بن الحنفية ويقرأ الاستفتاح في كل ركعة وهو من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، والقبلة بيت المقدس والجمعة يوم الإثنين، ولا يعمل فيه شيء. والسورة التي تقرأ فيها: الحمد للَّه بكلمته وتعالى باسمه المنجد لأوليائه، قل إنّ الأهلّة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرّفوا عبادي سبيلي، اتقوني يا أولى الألباب، وأنا الّذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم، وأنا الّذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنّتي وفي نعمتي، ومن زال عن أمري وكذّب رسلي أخلدته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي. فأنا الّذي لم يعل جبار إلا وضعته وأذللته، فبئس الّذي أصرّ على أمره، ودام على جهالته. وقال: لن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين أولئك هم الكافرون. ثم يركع ويقول في ركوعه: مرتين سبحان ربي وربّ العزة وتعالى عما يصف الظالمون، وفي سجوده الله أعلى مرّتين، الله أعظم مرّة، والصوم مشروع يوم المهرجان، والنّيروز. والنبيذ حرام والخمر حلال، والغسل من الجنابة كالوضوء. ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخالب، ومن خالفهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 وحارب وجب قتله، وإن لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوى شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا، وتشهد عليهم بالكذب، وهذا الفرح ابن يحيى الّذي ذكر هذا أوّل الكتاب أنه داعية القرامطة يلقّب عندهم ذكرويه بن مهرويه. ويقال إنّ ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج، وإنه سار إليه على الأمان، وقال له: إنّ ورائي مائة سيف، فتعال نتناظر فلعلّنا نتفق ونتعاون. ثم تناظرا فاختلفا وانصرف قرمط عنه، وكان يسمّي نفسه القائم بالحق. وزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج. فتنة طرسوس قد تقدّم لنا انتقاض بازمان [1] بطرسوس على مولاه أحمد بن طولون، وأنه حاصره فامتنع عليه، وأنه راجع بعد طاعة ابنه خمارويه مما حمل إليه من الأموال والأمتعة والسلاح، فاستقام أمره بطرسوس مدّة، وغزا سنة ثمان وسبعين بالصائفة مع أحمد الجعفيّ [2] وحاصروا اسكندا فأصيب بحجر منجنيق، فرجع وهلك في طريقه ودفن بطرسوس. وكان استخلف ابن عجيف فأقرّه خمارويه وأمدّه بالخيل والسلاح والمال، ثم عزله واستعمل عليها ابن عمه ابن محمد بن موسى بن طولون. ولما توفي الموفّق نزع خادم من خواصه اسمه راغب إلى الشكّ، وطلب المقام بالثغر للجهاد، فأذن له المعتضد، فسار إلى طرسوس وحطّ أثقاله بها وسار إلى لقاء خمارويه بدمشق فأكرمه واستجلب أنسه، فطال مقامه وألهم أصحابه بطرسوس أنه قبض عليه، فأوصلوا أهل البلد في ذلك، فوثبوا بأميرهم محمد بن موسى حتى يطلق لهم راغب، وبلغ الخبر إلى خمارويه فأطلقه فجاء إليهم ووبّخهم على فعلهم، فأطلقوا محمد بن موسى وسار عنهم إلى بيت المقدس فأعادوا ابن عجيف إلى ولايته. فتنة أهل الموصل مع الخوارج قد تقدّم لنا أنّ هارون بن سليمان كان على الشراة من الخوارج، وكان بنو شيبان يقاتلونهم ويغيرون على الموصل. فلما كانت سنة تسع وسبعين جاء بنو شيبان لذلك وأغاروا على نينوى وغيرها من الأعمال، فاجتمع هارون الشاربي في الخوارج وحمدان   [1] هو بازمار الخادم وقد مرّ معنا من قبل. [2] العجيفي: ابن الأثير ج 7 ص 450. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 ابن حمدون الثعلبي على مدافعتهم. وكان مع بني شيبان هارون بن سيما مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيبانيّ، بعثه محمد بن إسحاق بن كنداجق واليا على الموصل عند ما مات أبوه إسحاق، وولّى مكانه على أعماله بالموصل وديار ربيعة فلم يرضه أهل الموصل وطردوه، فسار إلى بني شيبان مستنجدا بهم، فلما التقى الجمعان انهزم بنو شيبان أوّلا واشتغل أصحاب حمدان والخوارج بالنهب، فكرّ عليهم بنو شيبان وظفروا بهم. وكتب هارون بن سيما إلى محمد بن إسحاق بن كنداجق يستمدّه فسار بنفسه، وخشيه أهل الموصل فسار بعضهم إلى بغداد يطلبون عاملا يكفيهم أمر ابن كنداجق، ومرّوا في طريقهم بمحمد بن يحيى المجروح الموكّل بحفظ الطريق فألفوه وقد وصل إليه بولاية العهد الموصل، فبادر وملكها، وتواثق ابن كنداجق في مكانه، وبعث إلى خمارويه بالهدية، ويسأل إمارة الموصل كما كان من قبل، فلم يجبه إلى ذلك، ثم عزل المجروح وولّى بعده عليّ بن داود الكردي. الصوائف أيام المعتمد وصل الخبر في سنة سبع وخمسين بأنّ ملك الروم بالقسطنطينية ميخاييل بن روفيل وثب عليه قريبه مسك، ويعرف بالصقلي [1] فقتله لأربع وعشرين سنة من ملكه، وملك مكانه. وفي سنة تسع وخمسين خرجت عساكر الروم فنازلوا سميساط ثم نازلوا مليطة [2] وقاتلهم أهلها فانهزموا، وقتل بطريق من بطارقتهم. وفي سنة ثلاث وستين استولى الروم على قلعة الصقالبة، وكانت ثغرا لطرسوس وتسمّى قلعة كركرة [3] فردّ المعتمد ولاية ثغر طرسوس لابن طولون، وكان أحمد بن طولون قد خطب ولايتها من الموفّق يريد أن يجعلها ركابا لجهاده لخبرته بأحوالها. وكان يردّد الغزو من طرسوس إلى بلاد الروم قبل ولاية مصر، فلم يجبه الموفّق، وولّى عليها الموفّق محمد بن هارون الثعلبيّ، واعترضه الشراة أصحاب مساور وهو مسافر في دجلة فقتلوه، فولّى مكانه أماجور بن أولغ بن طرخان من الترك، فسار إليها وكان غرّا جاهلا، فأساء السيرة ومنع أقران أهل كركرة ميرتهم، وكتبوا إلى أهل طرسوس يشكون فجمعوا لهم خمسة عشر ألف دينار فأخذها أماجور لنفسه، وأبطأ على أهل القلعة شأنها. فنزلوا   [1] بسيل المعروف بالصقلبيّ: ابن الأثير ج 7 ص 248. [2] هي ملطية: المرجع السابق. [3] لؤلؤة: ابن الأثير ج 7 ص 309. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 عنها وأعطوها الروم، وكثر أسف أهل طرسوس لذلك بما كانت ثغرهم وعينا لهم على العدوّ، وبلغ ذلك المعتمد، فكتب لأحمد بن طولون بولايتها وفوّض إليه أمر الثغور، فوليها واستعمل فيها من يحفظ الثغر ويقيم الجهاد، وقارن ذلك وفاة أماجور عامل دمشق، وملك ابن طولون الشام جميعها كما ذكرناه قبل. وفي سنة أربع وستين غزا بالصائفة عبد الله بن رشيد بن كاوس في أربعين ألفا من أهل الثغور الشامية، فأثخن فيهم وغنم ورجع، فلما رحل عن البدندون خرج عليه بطريق سلوقية، وقرّة كوكب وحرسيه [1] ، وأحاطوا بالمسلمين فاستمات المسلمون واستلحمهم الروم بالقتل، ونجا فلّهم إلى الثغر، وأسر عبد الله بن كاوس وحمل إلى القسطنطينية وفي سنة خمس وستين خرج خمسة من بطارقة الروم إلى أذنة فقتلوا وأسروا والي الثغور أوخرد [2] فعزل عنها وأقام مرابطا، وبعث ملك الروم بعبد الله بن كاوس ومن معه من الأسرى إلى أحمد بن طولون، وأهدى إليه عدّة مصاحف. وفي سنة ست وستين لقي أسطول المسلمين أسطول الروم عند صقيلة [3] فظفر الروم بهم، ولحق من سلم منهم بصقيلة، وفيها خرجت الروم على ديار ربيعة، واستنفر الناس ففرّوا ولم يطيقوا دخول الدرب لشدّة البرد فيها. وغزا عامل ابن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة من أهل طرسوس واعترضهم أربعة آلاف من الروم من بلاد هرقل، فنال المسلمون منهم أعظم النيل. وفي سنة ثمان وستين خرج ملك الروم، وفيها غزا بالصائفة خلف الفرغانيّ عامل ابن طولون على الثغور الشامية فأثخن ورجع. وفي سنة سبعين زحف الروم في مائة ألف ونزلوا قلمية على ستة أميال من طرسوس، فخرج إليهم بازيار [4] فهزمهم وقتل منهم سبعين ألفا وجماعة من البطارقة، وقتل مقدّمهم بطريق البطارقة، وغنم منهم سبع صلبان ذهبا وفضّة، وكان أعظمها مكلّلا بالجواهر. وغنم خمسة عشر ألف دابة، ومن السروج والسيوف مثل ذلك، وأربع كراسي من ذهب، ومائتين من فضّة وعشرين علما من الديباج وآنية كثيرة. وفي سنة ثلاث وسبعين غزا بالصائفة بازيار وتوغّل في أرض الروم وقتل وغنم وأسر وسبى وعاد إلى طرسوس. وفي سنة ثمان وسبعين دخل أحمد الجعفي [5] طرسوس وغزا مع بازيار   [1] خرشنة: ابن الأثير ج 7 ص 312. [2] أرجوز: ابن الأثير ج 7 ص 327. [3] هي صقلّيّة. [4] بازمار: ابن الأثير ج 7 ص 406. [5] احمد الجعيفي: ابن الأثير ج 7 ص 449. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 بالصائفة ونازلوا إسكندا [1] فأصيب بازيار عليها بحجر منجنيق فرجع ومات في طريقه ودفن بطرسوس. الولايات بالنواحي أيام المعتز كانت الفتنة قد ملأت نواحي الدولة من أطرافها وأوساطها واستولى بنو سامان على ما وراء النهر، والصفّار على سجستان وكرمان وملك فارس من يد عمّال الخليفة، وانتزع خراسان من بني طاهر وكلّهم مع ذلك يقيمون دعوة الخليفة. وغلب الحسن بن زيد على طبرستان وجرجان منازعا بالدعوة ومحاربا بالديلم لابن سامان والصفّار، وعساكر الخليفة بأصبهان، واستولى صاحب الزنج على البصرة والأبلّة إلى واسط وكور دجلة منازعا للدعوة ومشاققا، وأضرم تلك النواحي فتنة. ولم يزل الموفّق في محاربته حتى حسم علّته وقطع أثره واضطرمت بلاد الموصل والجزيرة فتنة بخوارج السراة [2] وبالقرب من بني شيبان وتغلب بالأكراد، واستولى ابن طولون على مصر والشام مقيما لدعوة الخلافة العبّاسيّة، وابن الأغلب بإفريقية كذلك. وأمّا المغرب الأقصى والأندلس فاقتطعا عن المملكة العبّاسيّة منذ أزمان كما قلنا، ولم يكن للمعتمد مدّة خلافته كلّها حكم ولا أمر ونهي، إنما كان مغلبا لأخيه الموفّق وتحت استبداده، ولم يكن لهما جميعا كبير ولاية في النواحي باستيلاء من استولى عليها ممن ذكرناه إلّا بعض الأجناس، فلنذكر ما وصل إلينا من هذه الولايات أيام المعتمد، فلأوّل ولايته استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان وبعث جعلان لحرب الزنج بالبصرة فكان أمره معهم كما مرّ. ثم ولّى عيسى بن الشيخ من بني شيبان على دمشق فاستأثر بها ومنع الخراج، وجاءه حسين الخادم من بغداد يطلب المال فاعتذر بأنه أنفقه على الجند، فكتب له المعتمد عهده في أرمينية ليقيم بها دعوته وقلّد أماجور دمشق وأعمالها فسار إليها، وأنفذ عيسى بن الشيخ ابنه منصورا لقتال أماجور في عشرين ألفا، فانهزموا وقتل منصور وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل ودخل أماجور دمشق. وفي سنة ست وخمسين سار موسى بن بغا لحرب مساور الخارجي فلقيه (ساحة جائعين) [3] فنال الخوارج منهم. وفيها كان وثوب محمد بن واصل بن   [1] شكند: ابن الأثير ج 7 ص 449. [2] هم الشراة وهي فرقة من الخوارج وقد مرّت سابقا عدة مرات باسم السراة. [3] هي ناحية خانقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 إبراهيم التميميّ على الحرث بن سيما عامل فارس، فقتله وغلب عليها كما مرّ. وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبيّ على الريّ فسار إليها موسى بن بغا وغلب على عساكر الحسن، وظهر عليّ بن زيد بالكوفة وملكها، وبعث المعتمد لمحاربته كيجور التركيّ فخرج عنها إلى القادسية، ثم إلى ختان [1] ثم إلى بلاد بني أسد. وغزاه كيجور من الكوفة فأوقع به وعاد إلى الكوفة، ثم إلى سرّ من رأى. وفي سنة سبع وخمسين عقد المعتمد لأخيه الموفق على الكوفة والحرمين واليمن ثم على بغداد والسواد إلى البصرة والأهواز وأمره أن يعقد ليارجوج [2] على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد الحاجب. وعقد يارجوج على ذلك لمنصور بن جعفر الخيّاط ونزل الأهواز ثم عقد المعتمد حرب الزنج بالبصرة لأحمد بن المولّد، فسار إليها وقاتل الزنج. وكان بالبطائح سعيد بن أحمد الباهليّ متغلّبا عليها فأخذه ابن المولّد وبعث به إلى سامرّا. وفيها تغلّب يعقوب الصفّار على فارس وبعض أعمال خراسان، وولّاه المعتمد ما غلب عليها [3] وفيها غلب الحسن بن زيد على خراسان، وانتقضت على ابن طاهر أعمال خراسان، وفيها اقتطع المعتمد مصر وأعمالها ليارجوج التركي فولّى عليها أحمد بن طولون، ومات يارجوج لسنة بعدها فاستبدّ ابن طولون بها، وكان عبد العزيز بن أبي دلف على الريّ، فخرج عليها خوفا من جيوش ابن زيد صاحب طبرستان، فبعث الحسن من قرابته القاسم بن عليّ القاسم، فأساء فيها السيرة. وفي سنة ثمان وخمسين قتل منصور بن جعفر الخيّاط في حرب الزنج، وولي يارجوج على أعمال منصور، فولّى عليها أصطيخور، وهلك في حرب الزنج، وعقد المعتمد للموفّق على ديار مصر وقنّسرين والعواصم. وبعثه لحرب الزنج ومعه مفلح فهلك في تلك الحرب. وعقد المعتمد على الموصل والجزيرة لمسرور البلخيّ فكانت بينه وبين مساور الشيبانيّ حروب وكذلك بين الأكراد واليعقوبية، وأوقع بهم كما مرّ. وفيها رجع أحمد بن واصل إلى طاعة السلطان وسلّم فارس للحسن بن الفيّاض. وفي سنة تسع وخمسين كان مهلك أصطيخور بالأهواز، فأمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير   [1] خفان: ابن الأثير ج 7 ص 239. [2] ياركوج: ابن الأثير ج 7 ص 241. [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 247: «وفي هذه السنة- 257- سار يعقوب بن الليث إلى فارس، فأرسل اليه المعتمد ينكر ذلك عليه، فكتب اليه الموفق بولاية بلخ، وطخارستان، وسجستان.. السند فقبل ذلك وعاد، وسار إلى بلخ وطخارستان ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 لحرب الزنج كما مرّ. وفيها ملك يعقوب الصفّار خراسان وقبض على محمد بن طاهر، وكان لمنكجور على الكوفة، فسار عنها إلى سامرّا بغير إذن، وأمر بالرجوع فأبى، فبعث المعتمد عدّة من القوّاد فلقوه بعكبر فقتلوه وحملوا رأسه. وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس وملكها، وكانت وقعة بين محمد بن الفضل بن نيسان وبين دهشودان ابن حسّان الديليّ فهزمه محمد، وفيها غلب شركب الحمّال على مرو ونواحيها. وفي سنة ستين أقام يعقوب بن الصفّار الحسن بن زيد فهزمه وملك طبرستان كما مرّ. وأخرج أهل الموصل عاملهم أتكوتكين بن أساتكين، فبعث عليهم أساتكين إسحاق ابن أيّوب في عشرين ألفا ومعه حمدان بن حمدون الثعلبي فامتنع أهل الموصل منهم وولّوا عليهم يحيى بن سليمان، فاستولى عليها، وفيها قتلت الأعراب منجور وإلى حمص فولّى بكتر، وولّى على أذربيجان الرذيني عمر بن عليّ لما بلغه أنّ عاملها العلاء بن أحمد الأزدي فلج، فلما أتى الرذيني حاربه العلاء فانهزم وقتل، واستولى الرذيني على مخلّفه قريبا من ألفي ألف وسبعمائة ألف درهم. وفيها سار عليّ بن زيد القائد بالكوفة إلى صاحب الزنج فقتله. وفي سنة إحدى وستين عقد المعتمد لموسى بن بغا على الأهواز والبصرة والبحرين واليمامة، مضافا لما بيده. فولّاها موسى عبد الرحمن بن مفلح وبعثه لحرب ابن واصل، فهزمه ابن واصل وأسره كما مرّ، ورأى موسى بن بغا اضطراب تلك الناحية، فاستعفى منها ووليها أبو الساج، وملك الزنج الأهواز من يده، فصرف عن ولايتها ووليها إبراهيم بن سيما وولي محمد بن أوس البلخيّ طريق خراسان. ثم جاء الصفّار إلى فارس، فغلب عليها ابن واصل كما مرّ، فجهّز المعتمد أخاه الموفّق إلى البصرة بعد أن ولّاه المعتمد عهده بعد ابنه جعفر كما ذكرناه. وبعث الموفّق ابنه أبا العبّاس لحرب الزنج فتقدّما بين يديه، وفيها فارق محمد بن زيد ولاية يعقوب الصفّار، وسار ابن أبي الساج إلى الأهواز وطلب أن يوجّه الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان، وفيها استبدّ نصر بن أحمد بن سامان بسمرقند وما وراء النهر، وولّى أخاه إسماعيل بخارى وفيها ولّى المعتمد على الموصل الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطّاب، وفيها رجع الحسين بن زيد إلى طبرستان وأخرج منها أصحاب الصفّار، وأحرق سالوس لممالأة أهلها الصفّار وأقطع ضياعهم للديلم، وفيها نادى المعتمد في حاج خراسان والريّ وطبرستان وجرجان بالنكير على ما فعله الصفّار في خراسان وابن طاهر، وانه لم يكن عن أمره ولا ولّاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 وفيها قتل مساور الشاربي يحيى ابن جعفر من ولاة خراسان، فسار مسرور البلخيّ في طلبه والموفّق من ورائه. وفي سنة اثنتين وستين كانت الحرب بين الموفّق والصفّار، واستولى الزنج على البطيحة ودسيميسان [1] وولّى على الأهواز كما ذكرنا، وبعث مسرور البلخي أحمد بن ليتونة [2] لحربهم كما مرّ. وفيها ثار أحمد بن عبد الله الخجستاني في خراسان بدعوة بني طاهر، وغلب عليها الصفّار إلى أن قتل كما مرّ ذكره. وفيها وقعت مغاضبة بين الموفّق وابن طولون فبعث إليه الموفق موسى بن بغا فأقام بالرقّة حولا، وعجز عن المسير لقلّة الأموال فرجع إلى العراق. وفيها انصرف عامل الموصل وهو القطّان صاحب مفلح فقتله الأعراب بالبريّة. وفي سنة ثلاث وستين استولى الصفّار على الأهواز، ومات مساور الشاربي [3] وهو قاصد لقاء العساكر السلطانية بالتواريخ [4] . فولّى الخوارج مكانه هارون بن عبد الله البلخيّ، فاستولى على الموصل. وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل. وفيها هزم ابن أوس من طريق خراسان وعاد إلى الموصل. وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل وأسروه، ومات عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد فاستوزر مكانه الحسن بن مخلّد، وكان موسى بن بغا غائبا في غزو العرب، فلما قدم خافه الحسين [5] وتغيّب، فاستوزر مكانه سليمان بن وهب وفيها غلب أخو شركب الحمّال على نيسابور وخرج عنها الحسين بن طاهر إلى مرو وبها خوارزم شاه يدعو لأخيه محمد. وفيها ملك صاحب الزنج مدينة واسط وقاتله دونها محمد بن المولّد فهزمه ودخلها واستباحها. وفيها قبض المعتمد على وزيره سليمان بن وهب وولّى مكانه الحسن بن مخلّد، وجاء الموفّق مع عبد الله بن سليمان شفيعا فلم يشفعه، فتحوّل إلى الجانب الغربي مغاضبا واختلفت الرسل بينه وبين المعتمد، وكان مع الموفّق مسرور كيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا. ثم أطلق سليمان ودعا إلى الجوسق وهرب محمد بن صالح ابن شيرزاده والقوّاد الذين كانوا بسامرّا مع المعتمد خوفا من الموفّق، فوصلوا إلى الموصل وكتب الموفّق لأحمد بن أبي الأصبغ في قبض أموالهم. وفيها مات أماجور   [1] دست ميسان: ابن الأثير ج 7 ص 292. [2] احمد بن ليثويه: ابن الأثير ج 7 ص 322. [3] مساور الشاري وقد مرّ ذكره من قبل. [4] البوازيج: ابن الأثير ج 7 ص 309. [5] حسب مقتضى السياق الحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 عامل دمشق وملك ابن طولون الشام وطرسوس وقتل عاملها سيما. وفي سنة خمس وستين ولي مسرور البلخيّ على الأهواز، وهزم الزنج. وفيها مات يعقوب الصفّار وقام بأمره أخوه عمر، ولّاه الموفّق مكان أخيه بخراسان وأصبهان وسجستان والسّند وكرمان والشّرطة ببغداد. وفيها وثب القاسم بن مهان [1] بدلف ابن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فوثب جماعة من أصحاب دلف بالقاسم فقتلوه. فولي أصبهان أحمد بن عبد العزيز أخو دلف، وفيها لحق محمد بن المولّد بيعقوب الصفّار وقبضت أمواله وعقاره ببغداد. وفيها حبس الموفّق سليمان بن وهب وابنه عبد الله وصادرهما على تسعمائة ألف دينار، وفيها ذهب موسى بن أتامشّ وإسحاق بن كنداجق والفضل بن موسى بن بغا مغاضبين، وبعث الموفّق في أثرهم صاعد بن مخلّد فردّهم من صرصر وفيها استوزر الموفّق أبا الصقر إسماعيل بن بلبل. وفي سنة ست وستين ملك الزنج رامهرمز وغلب أساتكين على الريّ وأخرج عنها عاملها فطلقت [2] . ثم مضى إلى قزوين وبها أخوه كيغلغ فصالحه ملكها. وفيها ولّى عليّ بن الليث على الشرطة ببغداد عبيد الله بن عبد الله طاهر، وعلى أصبهان أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وعلى الحرمين وطريق مكة محمد بن أبي الساج، وولّى الموفق على الجزيرة أحمد بن موسى بن بغا فولّى من قبله على ديار ربيعة موسى بن أتامش، فغضب لذلك إسحاق ابن كنداجق وفارق عسكر موسى، وسار إلى بلد، وأوقع بالأكراد اليعقوبيّة، ثم لقي ابن مساور الخارجيّ فقاتله وسار إلى الموصل، وطلب من أهلها المال، وخرج على ابن داود لقتاله مع إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون، وكانت بينهم حروب أخّرها المعتمد لإسحاق بن كنداجق على الموصل، وقد مرّ ذلك من قبل، وفيها قتل أهل حمص عاملها عيسى الكرخيّ. وفيها كانت بين لؤلؤ غلام ابن طولون وبين موسى بن أتامش وقعة برأس عين، وأسره لؤلؤ وبعث به إلى الرقّة، ثم لقيه أحمد بن موسى فاقتتلوا، وغلب أحمد أوّلا ثم كرّ لؤلؤ فغلبهم وانتهوا إلى قرقيسيا. ثم ساروا إلى بغداد وسامرّا. وفيها أوقع أحمد بن عبد العزيز ببكتم [3] فانهزم ولحق ببغداد وأوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان فلحق بآمد، وملك الخجستاني جرجان وأقطعه من طبرستان واستخلف على سارية الحسن ابن محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن   [1] القاسم بن مهاة: ابن الأثير ج 7 ص 327. [2] اسم العامل خطلنخجور كما في الكامل ج 7 ص 332. [3] بكتمر: ابن الأثير ج 7 ص 335. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 حسين الأصفر بن زين العابدين، فلما انهزم الحسن بن زيد أظهر الحسن بن محمد أنه قتل، ودعا لنفسه وحاربه الحسن بن زيد فظفر به وقتله. وفيها ملك الخجستاني نيسابور من يد عامل ابن عمرو بن الليث، وفيها في صفر زحف الموفّق لقتال صاحب الزنج، فلم يزل يحاصره حتى اقتحم عليه مدينته وقتله منتصف سنة سبعين. وفيها كانت الحرب بالمدينة بين بني حسن وبني جعفر. وفي سنة سبع وستين كانت الفتنة بالموصل بين الخوارج. وفيها حبس السلطان محمد بن عبد الله بن طاهر وجماعة من بيته، اتهمه عمرو بن الليث بممالأة الخجستاني والحسين بن طاهر أخيه، فكتب إلى المعتمد وحبسه. وفيها كانت بين كيقلغ [1] التركي وأحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وانهزم أحمد وملك كيقلغ همذان، فزحف إليه أحمد بن عبد العزيز فهزمه، وملك همذان. وسار كيقلغ إلى الصحيرة [2] . وفيها أزال الخجستاني ذكر محمد بن طاهر من المنابر ودعا لنفسه بعد المعتمد، وضرب السكة باسمه، وجاء يريد العراق فانتهى إلى الريّ. ثم رجع وفيها أوقع أصحاب أبي الساج بالهيثم العجليّ صاحب الكوفة، وغنموا عسكره. وفيها أوقع أبو العباس بن الموفّق بالأعراب الذين كانوا يجلبون الميرة بالزنج من بين تميم وغيرهم. وفي سنة ثمان وستين كان مقتل الخجستاني و [3] أصحابه بعده على رافع بن هرثمة من قوّاد بني طاهر وملك بلاد خراسان وخوارزم، وفيها انتقض محمد بن الليث بفارس على أخيه عمرو، فسار إليه وهزمه واستباح عسكره، وملك أصطيخور [4] وشيراز وظفر به، فحبسه كما مرّ. وفيها كانت وقعة بين أتكوتكين [5] بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف فهزمه اتكوتكين وغلبه على قمّ. وفيها بعث عمرو بن الليث عسكرا إلى محمد بن عبد الله الكرديّ. وفيها انتقض لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون، وسار إلى الموفّق وقاتل معه الزنج. وفيها سار المعتمد إلى ابن طولون بمصر مغاضبا لأخيه الموفّق، وكتب الموفّق إلى إسحاق بن كنداجق بالموصل بردّه، فسار معه إلى آخر عمله، ثم   [1] تردد هذا الاسم مرات عديدة وفي الكامل كيغلغ: ج 7 ص 361. [2] الصّيمرة: ابن الأثير ج 7 ص 362. [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 372: «وفيها قتل احمد بن عبد الله الخجستاني في ذي الحجة، قتله غلام له» . [4] هي مدينة إصطخر. [5] اسمه أذكوتكين وقد مرّ معنا في السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 قبض على القوّاد الذين معه، وردّه إلى سامرّا. وفيها وثب العامة ببغداد بأميرهم الخلنجيّ وكان كاتب عبيد الله بن طاهر، وقتل غلام له امرأة بسهم، فلم يعدهم عليه، فوثبوا به وقتلوا من أصحابه ونهبوا منزله وخرج هاربا، فركب محمد بن عبد الله واستردّ من العامة ما نهبوه. وفيها وثب بطرسوس خلق من أصحاب ابن طولون وعامله على الثغور الشامية، فاستنقذه أهل طرسوس من يده، وزحف إليهم ابن طولون فامتنعوا عليه، ورجع إلى حمص، ثم إلى دمشق، وفيها كانت وقعة بين العلويّين والجعفريّين بالحجاز، فقتل ثمانية من الجعفريين وخلّصوا عامل المدينة من أيديهم. وفيها عقد هارون بن الموفّق لأبي الساج على الأنبار والرحبة وطريق الفرات، وولّى محمد بن أحمد على الكوفة وسوادها ودافعه عنها محمد بن الهيثم فهزمه محمد ودخلها. وفيها مات عيسى بن الشيخ الشيبانيّ عامل أرمينية وديار بكر. وفيها عظمت الفتنة بين الموفّق وابن طولون، فحمل المعتمد على لعنه وعزله، وولّى إسحاق بن كنداجق على أعماله إلى إفريقية، وعلى شرطة الخاصّة. وقطع ابن طولون الخطبة للموفّق واسمه من الطرر [1] وفيها ملك ابن طولون الرحبة بعد مقاتلة أهلها، وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم سار إلى ابن الشمّاخ بقرقيسياء. وفي سنة سبعين كان مقتل صاحب الزنج وانقراض دعوته، ووفاة الحسن بن زيد العلويّ صاحب طبرستان، وقيام أخيه محمّد بأمره، ووفاة أحمد بن طولون صاحب مصر وولاية ابنه خمارويه ومسير إسحاق بن كنداجق بابن دعامس عامل الرقّة والثغور والعواصم لابن طولون. وفي سنة إحدى وسبعين ثار بالمدينة محمد وعليّ ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم وقتلا جماعة من أهلها، ونهبا أموال الناس، ومنعا الجمعة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا. وفيها عزل المعتمد عمرو بن الليث من خراسان فقاتله أحمد بن عبد الله بن أبي دلف بأصبهان وهزمه. وفيها استعاد خمارويه الشام من يد أبي العبّاس بن الموفّق، وفرّ إلى طرسوس كما تقدّم. وفيها عقد المعتمد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة، وكان يوسف بن أبي الساج والي مكة. وجاء بدر غلام الطائي أميرا على الحاج فحاربه يوسف على باب المسجد الحرام وأسره، فسار الجند والحاج بيوسف وأطلقوا بدرا من يده وحملوا يوسف أميرا إلى بغداد. وفي منتصف سنة اثنتين وسبعين غلب أتكوتكين على الريّ من يد محمد بن   [1] الطرر: حواشي الكتب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 زيد العلويّ. سار هو من قزوين في أربعة آلاف، ومحمد بن زيد من طبرستان في الديلم، وأهل خراسان، فانهزموا وقتل منهم ستة آلاف. وفيها ثار أهل طرسوس بأبي العبّاس بن الموفّق وأخرجوه إلى بغداد وولّوا عليهم بازيار [1] . وفيها توفي سليمان ابن وهب في حبس الموفق. وفيها دخل حمدان بن حمدون وهارون مدينة الموصل. وفيها قدم صاعد بن مخلّد الوزير من فارس، وقد كان بعثه الموفّق إليها لحرب [2] فرجع إلى واسط وركب القوّاد لاستقباله فترجّلوا إليه وقبّلوا يده، ولم يكلّمهم. ثم قبض الموفّق على جميع أصحابه وأهله ونهب منازلهم، وكتب إلى بغداد بقبض ابنه أبي عيسى وصالح وأخيه عبدون، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة. وفيها جاء بنو شيبان إلى الموصل فعاثوا في نواحيها وأجمع هارون الشاربي وأصحابه على قصدهم، وكتب إلى أحمد بن حمدون الثعلبي فجاءه وساروا إلى الموصل وعبروا الجانب الشرقي من دجلة، ثم ساروا إلى نهر الحادر [3] فلما تراءى الجمعان انهزم هارون وأصحابه وانجلى سوى [4] عنها. وفي سنة ثلاث وسبعين وقعت الفتنة بين ابن كنداجق وبين ابن أبي الساج وسار ابن أبي الساج إلى ابن طولون واستولى على الجزيرة والموصل، وخطب له فيها. وقاتل الشراة كما ذكرنا. وفيها قبض الموفّق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره على أربعمائة ألف دينار وبقي في إدبار إلى أن عاد إلى مصر أيام هارون بن خمارويه. وفي سنة أربع وسبعين سار الموفّق إلى فارس فاستولى عليها من يد عمرو بن الليث ورجع عمرو إلى كرمان وسجستان، وعاد الموفّق إلى بغداد. وفي سنة خمس وسبعين نقض ابن أبي الساج طاعة خمارويه وقاتله خمارويه فهزمه، وملك الشام من يده وسار إلى الموصل، وخمارويه في اتباعه إلى بغداد. ولحق ابن أبي الساج بالحديثة فأقام بها إلى أن رجع خمارويه. وكان إسحاق ابن كنداج قد جاء إلى خمارويه فبعث معه جيشا وقوّاد في طلب ابن أبي الساج. واشتغل بعمل السفن للعبور إليه فسار ابن أبي الساج عنها إلى الموصل، وأتبعه ابن   [1] اسمه مازيار وقد مرّ معنا من قبل عدة مرّات. [2] بياض بالأصل وفي الطبري ج 11 ص 331: «وفيها قدم صاعد بن مخلّد من فارس ودخل واسط في رجب» وعند ابن الأثير ج 7 ص 419- 420: «وفيها قدم صاعد من فارس إلى واسط وكان يتولى على فارس في هذه الفترة عمرو ابن الليث وقد بعث الموفق صاعد بن مخلد لقتاله. [3] نهر الخازر: ابن الأثير ج 7 ص 419. [4] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 7 ص 419: «وجلا أهل نينوى عنها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 كنداج وسار إلى الرقّة فاتبعه ابن أبي الساج، وكتب إلى الموفّق يستأذنه في اتباعه إلى الشام. وجاء ابن كنداج بالعساكر من عند خمارويه وأقام على حدود الشام ثم هزم ابن أبي الساج فسار إلى الموفّق وملك ابن كنداج ديار ربيعة وديار مضر، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفيها خرج أحمد بن محمد الطائي من الكوفة لحرب فارس العبديّ وكان يخيف السابلة فهزمه العبديّ، وكان الطائي على الكوفة وسوادها وطريق خراسان وسامرّا وشرطة بغداد، وخراج بادر دباد قطربُّل [1] وفيها قبض الموفّق على ابنه أبي العبّاس وحبسه. وفيها ملك رافع بن هرثمة جرجان من يد محمد بن زيد وحاصره في أستراباذ نحوا من سنتين، ثم فارقها الجيش لحربه فسار عن سارية وعن طبرستان سنة سبع وسبعين. واستأمن رستم بن قارن إلى رافع وقدم عليه عليّ بن الليث من حبس أخيه بكرمان هو وابناه العدل والليث. رافع على سالوس محمد بن هارون وجاء إليه علي بن كاني مستأمنا فحصرهما محمد بن زيد، وسار إليه رافع ففرّ إلى أرض الديلم ورافع في اتباعه إلى حدود قزوين فسار فيها وأحرقها وعاد إلى الريّ. وفي سنة ست وسبعين رضي المعتمد عن عمرو بن الليث وولّاه وكتب اسمه على الأعلام، وولّى على الشرطة ببغداد من قبله عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر. ثم انتقض فأزيل. وفيها كان مسير الموفّق إلى الجبل لأتكوتكين ومحاربة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وقد تقدّم ذلك. وفيها ولّى الموفّق ابن أبي الساج على أذربيجان فسار إليها ودافعه عبد الله ابن حسن الهمذاني صاحب مراغة فهزمه ابن أبي الساج، واستقرّ في عمله. وفيها زحف هارون الشاري من الحديثة إلى الموصل يريد حربها، ثم صانعه أهل الموصل ورحل عنهم. وفي سنة سبع وسبعين دعا مازيار بطرسوس لخمارويه بن أحمد بن طولون، وكان أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحا كثيرا. وبعث إليه بعد الدعاء بخمسين ألف دينار. وفي سنة ثمان وسبعين كانت وفاة الموفّق وبيعة المعتضد بالعهد كما مرّ. وفيها كان ابتداء أمر القرامطة وقد تقدّم. وفي سنة تسع وسبعين خلع جعفر بن المعتمد وقدّم عليه المعتضد وكانت الحرب بين الخوارج وأهل الموصل، وبين بني شيبان وعلى بني شيبان هارون بن سيما من قبل محمد ابن إسحاق بن كنداج، ولّاه عليها فطرده أهلها، فزحف إليهم مع بني شيبان ودافع عن أهل الموصل هارون الشاري وحمدان بن حمدون فهزمهم بنو شيبان، وخاف أهل   [1] بادوريا، وقطربُّل: ابن الأثير ج 7 ص 432. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 الموصل من ابن سيما وبعثوا إلى بغداد يطلبون واليا، فولّى المعتمد عليهم محمد بن يحيى المجروح الموكّل بحفظ الطريق، وكان ينزل الحديثة فأقام بها أياما ثم استبدل منه بعليّ بن داود الكردي. وفاة المعتمد وبيعة المعتضد توفى المعتمد على الله أبو العبّاس أحمد بن المتوكّل لعشر بقين من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين لثلاث وعشرين سنة من ولايته، ودفن بسامرّا، وهو أوّل من انتقل إلى بغداد وكان في خلافته مغلبا عاجزا وكان أخوه الموفّق مستبدّا عليه، ولم يكن له معه حكم في شيء. ولما مات الموفّق سنة ثمان وسبعين كما قدّمناه أقام مكانه ابنه أبا العبّاس أحمد المعتضد وحجر المعتمد كما كان أبوه يحجره، وولّاه عهده كما كان أبوه. ثم قدّمه في العهد على ابنه جعفر، ثم هلك فبايع الناس للمعتضد بالخلافة صبيحة موته، فولّى غلامه بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة، ومحمد بن الشاري بن ملك الحرس. ووفد عليه لأوّل خلافته رسول عمرو بن الليث بالهدايا وسأل ولاية خراسان فعقد له عليها، وبعث إليه بالخلع واللواء، ولأوّل خلافته مات نصر بن أحمد الساماني ملك ما وراء النهر، وقام مكانه أخوه إسماعيل. مقتل رافع بن الليث [1] كان رافع بن الليث قد وضع يده على قرى السلطان بالريّ، وكتب إليه المعتضد برفع يده عنها، فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بإخراجه عن الريّ فقاتله وأخرجه، وسار إلى جرجان ودخل نيسابور سنة ثلاث وثمانين، فوقعت بينه وبين عمرو حرب وانهزم رافع إلى أبيورد وخلص عمرو ابني أخيه من حبسه، وهما العدل والليث ابنا عليّ بن الليث، وقد تقدّم خبرهما. ثم سار رافع إلى هراة ورصده عمرو بسرخس فشعر به ورجع إلى نيسابور في مسالك صعبة، وطرق ضيّقة، واتبعه عمرو فحاصره في نيسابور. ثم تلاقيا وهرب عن رافع بعض قوّاده إلى عمرو فانهزم رافع، وبعث أخاه محمد بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمدّه كما شرط له فلم يفعل. وافترق عن رافع أصحابه وغلمانه، وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن إسماعيل في   [1] رافع بن هرثمة: ابن الأثير ج 7 ص 457. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 بخارى، ولحق رافع بخوارزم في فلّ من العسكر ومعه بقية أمواله وآلته، ومرّ في طريقه بأبي سعيد الدرعاني ببلد فاستغفله وغدر به وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور وذلك في شوّال سنة ثلاث وثمانين. خبر الخوارج بالموصل قد تقدّم لنا أنّ خوارج الموصل من الشراة استفدر عليهم بعد مساور هارون الشاري وذكرنا شيئا من أخبارهم. ثم خرج عليه سنة ثمانين محمد بن عبادة ويعرف بأبي جوزة من بني زهير من البقعاء، وكان فقيرا ومعاشه ومعاش بنيه في التقاط الكمأة وغيرها وأمثال ذلك، وكان يتديّن ويظهر الزهد، ثم جمع الجموع وحكم واستجمع إليه الأعراب من تلك النواحي، وقبض الزكوات والأعشار من تلك الأعمال، وبنى عند سنجار حصنا ووضع فيه أمتعته وما عونه، وأنزل به ابنه أبا هلال في مائة وخمسين، فجمع هارون الشاري أصحابه وبدأ بحصار الحصن فأحاط به ومحمد بن عبادة في داخله. وجدّ في حصاره حتى أشرف على فتحه وقيّد أبا هلال ابنه ونفرا معه وبعث بنو ثعلب وهم مع هارون إلى من كان بالحصن من بني زهير فأمّنوهم، وملك هارون الحصن. ثم ساروا إلى محمد فلقيهم وهزمهم أوّلا ثم كرّوا عليه مستميتين فهزموه، وقتلوا من أصحابه ألفا وأربعمائة، وقسّم هارون ماله ولحق محمد بآمد، فحاربه صاحبها أحمد بن عيسى بن الشيخ فظفر به وبعثه إلى المعتضد فسلخه حيّا. إيقاع المعتضد ببني شيبان واستيلاؤه على ماردين وفي سنة ثمانين سار المعتضد إلى بني شيبان بأرض الجزيرة ففرّوا أمامه، وأثار على طوائف من العرب عند السّند فاستباحهم، وسار إلى الموصل فجاءه بنو شيبان وأعطوه رهنهم على الطاعة، فغلبهم وعاد إلى بغداد. وبعث إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ في أموال ابن كنداج التي أخذها بأحمد، فبعث بها وبهل أياما كثيرة معها [1] . ثم بلغه أنّ أحمد بن حمدون ممالئ لهارون الشاري، وداخل في دعوته، فسار المعتضد إليه سنة إحدى وثمانين واجتمع الأعراب من بني ثعلب وغيرهم للقائه، وقتل منهم   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 462: «وأرسل إلى احمد بن عيسى بن الشيخ يطلب منه ما اخذه من أموال كنداجيق بآمد، فبعثه اليه ومعه هدايا كثيرة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 وغرق في الزاب كثيرا، وسار إلى الموصل. ثم بلغه أنّ أحمد هرب عن ماردين وخلف بها ابنه، فسار المعتضد إليه ونازلة وقاتله يوما، ثم صعد من الغد إلى باب القلعة، وصاح بابن حمدان واستفتح الباب ففتح له دهشا وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها، وبعث في طلب حمدان وأخذ أمواله. الولاية على الجبل وأصبهان عقد المعتضد سنة إحدى وثمانين لابنه عليّ وهو المكتفي على الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ وهمذان والدينور فاستأمن إليه عامل الريّ لرافع بن الليث، وهو الحسن بن عليّ كورة فأمّنه وبعث به إلى أبيه. عود حمدان إلى الطاعة وفي سنة اثنتين وثمانين سار المعتضد إلى الموصل واستقدم إسحاق بن أيّوب وحمدان ابن حمدون، فبادر إسحاق بقلاعه وأودع حرمه وأمواله، فبعث إليه المعتضد العساكر مع وصيف ونصر القسوريّ [1] ، فمرّوا بذيل الزعفران من أرض الموصل وبه الحسن ابن علي كورة، ومعه الحسين بن حمدان. فاستأمن الحسين وبعثوا له إلى المعتضد فأمر بهدم القلعة. وسار وصيف في اتباع حمدان. فواقعه وهزمه وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة وسار في ديار ربيعة، وعبرت إليه العساكر وحبسوه فأخذوا ماله، وهرب وضاقت عليه الأرض فقصد خيمة إسحاق بن أيّوب في عسكر المعتضد مستجيرا به فأحضره عند المعتضد فوكّل به وحبسه. هزيمة هارون الشاري ومهلكه كان المعتضد قد ترك بالموصل نصر القسرويّ لإعادته العمّال على الجباية، وخرج بعض العمّال لذلك فأغارت عليهم طائفة من أصحاب هارون الشاري وقتل بعضهم، فكثر عيث الخوارج. وكتب نصر القسروي إلى هارون يهدّده، فأجابه وأساء في الردّ وعرّض بذكر الخليفة فبعث نصر بالكتاب إلى المعتضد فأمره بالجدّ في طلب هارون، وكان على الموصل يكتم طاتشمر من مواليهم فقبض عليه وقيّده، وولّى على الموصل الحسن كورة، وأمر ولاة الأعمال بطاعته، فجمعهم وعسكر بالموصل،   [1] القشوري: ابن الأثير ج 7 ص 469. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 وخندق على عسكره إلى أن أوقع بالناس غلاتهم. ثم سار إلى الخوارج وعبر الزاب إليهم فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم وقتل منهم وافترقوا، وسار الكثير منهم إلى أذربيجان ودخل هارون البريّة واستأمن وجوه أصحابه إلى المعتضد فأمّنهم. ثم سار المعتضد سنة ثلاث وثمانين في طلب هارون فانتهى إلى تكريت، وبعث الحسين بن حمدون في عسكر نحو من ثلاثمائة فارس، واشترط إن جاء به إطلاق ابنه حمدان! وسار معه وصيف وانتهى إلى بعض مخايض دجلة فأرصد بها وصيفا وقال: لا تفارقوها حتى تروني! ومضى في طلبه فواقعه وهزمه، وقتل من أصحابه. وأقام وصيف ثلاثة أيام فأبطأ عليه الأمر فسار في اتباع ابن حمدان، وجاء هارون منهزما إلى تلك المخاضة فعبر، وابن حمدان في أثره إلى حيّ من أحياء العرب قد اجتاز بهم هارون، فدلّوا ابن حمدان عليه فلحقه وأسره وجاء به إلى المعتضد. فرجع المعتضد آخر ربيع الأوّل وخلع على الحسين وإخوته وطوقه، وأدخل هارون على الفيل وهو ينادي: لا حكم إلا للَّه ولو كره المشركون، وكان صغديّا [1] . ثم أمر المعتضد بحلّ القيود عن حمدان ابن حمدون والإحسان إليه وبإطلاقه. وفي سنة اثنتين وثمانين سار المعتضد من الموصل إلى الجبل فبلغ الكرخ فهرب عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بين يديه فأخذ أمواله وبعث إليه في طلب جدّ كان عنده فوجهه إليه. ثم بعث المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه بالريّ ليسير من هناك إلى عمر بن عبد العزيز بالأمان، فسار وأمّنه ورجع إلى الطاعة فخلع عليه وعلى أهل بيته، وكان أخوه بكر بن عبد العزيز قد استأمن قبل ذلك إلى عبيد الله بن سليمان وبدر فولّاه عمله، على أن يسير إلى حربه. فلما وصل عمر في الأمان قال لبكر: إنما ولّيناك وأخوك عاص فامضيا إلى أمير المؤمنين المعتضد وولى عيسى النوشريّ على أصبهان من قبل عمرو هرب بكر إلى الأهواز وسار عبيد الله بن سليمان الوزير إلى عليّ بن المعتضد بالريّ. ولما بلغ الخبر إلى المعتضد بعث وصيفا موسكين [2] إلى بكر بن عبد العزيز بالأهواز فلحقه بحدود فارس، فمضى بكر إلى أصبهان ليلا ورجع وصيف إلى بغداد، وكتب المعتضد إلى بدر مولاه بطلب بكر بن عبد العزيز وحربه، فأمر بذلك عيسى النوشريّ فقام به ولقي بكرا بنواحي أصبهان فهزمه بكر، ثم عاد النوشريّ لقتاله سنة أربع وثمانين فهزمه بنواحي أصبهان   [1] صغريا: ابن الأثير ج 7 ص 477. [2] وصيف بن موشكير: المرجع السابق ص 476. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 واستباح عسكره ولجأ بكر إلى محمد بن زيد العلويّ بطبرستان وهلك بها سنة خمس وثمانين، وكان عمر لما مات أبوه قبض على أخيه الحرث ويكنّى أبا ليلى، وحبسه في قلعة ردّ، ووكل به شفيعا الخادم. فلما جاء المعتضد واستأمن عمر وهرب بكر وبقيت القلعة بيد شفيع بأموالها، رغب إليه الحرث في إطلاقه فلم يفعل، وكان شفيع يسامره كل ليلة وينصرف فحادثه ليلة ونادمه وقام شفيع لبعض حاجته فجعل الحرث في فراشه تمثالا وغطّاه وقال لجاريته: قولي لشفيع إذا عاد هو نائم، ومضى فاختفى في الدار وفكّ القيد عن رجله بمبرد أدخل إليه وبرد به مسماره. ولما أخبر شفيع بنومه مضى إلى مرقده وقصده أبو ليلى على فراشه فقتله، وأمر أهل الدار واجتمع عليه الناس فاستحلفهم ووعدهم، وجمع الأكراد وغيرهم وخرج من القلعة ناقضا للطاعة. فسار إلى عيسى النوشريّ وحاربه فأصاب أبا ليلى سهم فمات، وحمل رأسه إلى أصبهان ثم إلى بغداد. خبر ابن الشيخ بآمد وفي سنة خمس وثمانين توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ وقام بأمره في آمد وأعمالها ابنه محمد فسار المعتضد إليه في العساكر ومعه ابنه أبو محمد علي المكتفي، ومرّ بالموصل وحاصر المعتمد إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ونصب عليها المجانيق حتى استأمن لنفسه ولأهل آمد، وخرج إلى المعتمد فخلع عليه وهدم سورها ثم بلغه أنه يروم الهرب فقبض عليه وعلى أهله. خبر ابن أبي الساج قد تقدّم لنا ولاية محمد بن أبي الساج على أذربيجان ومدافعة الحسين إياه عن مراغة، ثم فتحها واستيلاؤه على أعمال أذربيجان، وبعث المعتضد سنة اثنتين وثمانين أخاه يوسف بن أبي الساج إلى الصّيمرة مددا لفتح القلانسي [1] غلام الموفّق، فخرج يوسف فيمن أطاعه فولّاه المعتضد على أعماله، وبعث إليه بالخلع وأعطاه الرهن بما ضمن من الطاعة والمناصحة وبعث بالهدايا.   [1] القلابسي: ابن الأثير ج 7 ص 473. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 ابتداء أمر القرامطة بالبحرين والشام كان في سنة احدى وثمانين قد جاء إلى القطيف بالبحرين رجل تسمّى بيحيى بن المهدي وزعم أنه رسول من المهدي، وأنه قد قرب خروجه، وقصد من أهل القطيف علي بن المعلّى بن حمدان الرباديني، وكان متغاليا في التشيع، فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدي ليشيع الخبر في سائر قرى البحرين، فأجابوا كلّهم وفيهم أبو سعيد الجنابي وكان من عظمائهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدّة ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم وأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين عن كل رجل منهم ففعلوا. ثم غاب وجاء بكتاب آخر بأن يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا، وأقام يتردّد في قبائل قيس، ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبحرين سنة ست وثمانين واجتمع إليه القرامطة والأعراب، وقتل واستباح وسار إلى القطيف طالبا البصرة، وبلغت النفقة فيه أربعة عشر ألف دينار. ثم قرب أبو سعيد من نواحي البصرة، وبعث المعتضد إليهم المدد مع عبّاس بن عمر الغنويّ وعزله عن فارس وأقطعه اليمامة والبحرين، وضمّ إليه ألفين من المقاتلة، وسار إلى البصرة وأكثر من الحشد جندا ومتطوّعة. فسار ولقي أبا سعيد الجنابي، ورجع من كان معه بني ضبّة إلى البصرة. ثم كان اللقاء فهزمه الجنابي وأسره واحتوى على معسكره وحرق الأسرى بالنار وذلك في شعبان من هذه السنة. وسار إلى هجر فملكها وأمّن أهلها ورجع إلى أهل البصرة، وبعثوا إليهم بالرواحل عليها الطعام والماء، فاعترضهم بنو أسد وأخذوا الرواحل وقتلوا الفلّ، واضطربت البصرة وتشوف أهلها إلى الانتقال فمنعهم الواثقي. ثم أطلق الجنابي العبّاس الغنويّ فركب إلى الأبلّة وسار منها إلى بغداد، فخلع عليه المعتضد. وأمّا ظهورهم بالشام فان داعيتهم ذكرويه بن مهرويه الّذي جاء بكتاب المهدي إلى العراق لما رأى الجيوش متتابعة إلى القرامطة بالسواد، وأبادهم القتل، لحق بأعراب أسد وطيِّئ، فلم يجبه فبعث أولاده في كلب بن وبرة فلم يجبه منهم إلّا بنو القليظي بن ضمضم بن عديّ بن جناب، فبايعوا ذكرويه ويسمّى بيحيى ويكنّى بأبي القاسم، ولقّبوه الشيخ، وأنه من ولد إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق. وأنه يحيى بن عبد الله بن يحيى بن إسماعيل، وزعم أنّ له مائة ألف تابع، وانّ ناقته التي يركبها مأمورة فمن تبعها كان منصورا. فقصدهم شبل مولى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 المعتضد في العساكر من ناحية الرصافة فقتلوه. فسار إليهم شبل مولى أحمد بن محمد الطائي فأوقع بهم. وجاء ببعض رؤسائهم أسيرا فأحضره المعتضد وقال له هل تزعمون أنّ روح الله وأنبيائه تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل، وتوفّقكم لصالح العمل؟ فقال له: يا هذا أرأيت إن حلّت روح إبليس فما ينفعك؟ فاترك ما لا يعنيك إلى ما يعنيك. قال له: فقل فيما يعنيني! فقال له: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوكم العبّاس حيّ فلم يطلب الأمر ولا بايعه. ثم مات أبو بكر واستخلف عمر وهو يرى العبّاس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى، وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد، وهذا إجماع منهم على دفع جدّك عنها. فبماذا تستحقون أنتم الخلافة؟ فأمر به المعتضد فعذب وخلعت عظامه، ثم قطع مرّتين ثم قتل. ولما أوقع شبل بالقرامطة بسواد الكوفة ساروا إلى الشام فانتهوا إلى دمشق وعليها طغج بن جفّ مولى أحمد بن طولون من قبل ابنه هارون، فخرج إليهم فقاتلهم مرارا، هزموه في كلها. هذه أخبار بدايتهم ونقبض العنان عنها إلى أن نذكر سياقتها عند ما نعدّد أخبارهم على شريطتنا في هذا الكتاب كما تقدّم. استيلاء ابن ماسان على خراسان من يد عمرو بن الليث وأسره ثم مقتله لما تغلب عمرو بن الليث الصفّار على خراسان من يد رافع بن الليث، وقتله وبعث برأسه إلى المعتضد، وطلب منه أن يولّيه ما وراء النهر مضافا إلى ولاية خراسان، كتب له بذلك فجهّز الجيوش لمحاربة إسماعيل بن أحمد صاحب ما وراء النهر، وجعل عليهم محمد بن بشير من أخصّ أصحابه. وبعث معه القوّاد فانتهوا إلى آمد من شطّ جيحون، وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتل محمد بن بشير في ستة آلاف، ولحق الفلّ بعمرو في نيسابور، فتجهّز وسار إلى بلخ، وكتب إليه إسماعيل يستعطفه ويقول: أنا في ثغر وأنت في دنيا عريضة فاتركني واستفد ألفتي فأبى. وصعب على أصحابه عبور النهر لشدّته فعبر إسماعيل وأخذ الطرق على بلخ وصار عمرو محصورا. واقتتلوا فانهزم عمرو وتسرّب من بعض المسالك عن أصحابه فوجد في أجمة وأخذ أسيرا، وبعث به إسماعيل إلى سمرقند ومن هناك إلى المعتضد سنة ثمان وثمانين، فحبسه إلى أن مات المعتضد سنة تسع بعدها فقتله ابنه المكتفي وعقد لإسماعيل على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 خراسان كما كانت لعمرو، وكان عمرو عظيم السياسة، وكان يستكثر من المماليك ويجرى علي الأرزاق ويفرّقهم على قوّاد ليطالعوه بأخبارهم. وكان شديد الهيبة، ولم يكن أحد يتجاسر أن يعاقب غلاما ولا خادما إلا أن يرفعه إلى حجّابه. استيلاء ابن سامان على طبرستان من يد العلويّ ومقتله ولما بلغ محمد بن زيد العلويّ صاحب طبرستان والديلم ما وقع بعمر وبن الليث وأنه أسر طمع هو في خراسان وظنّ أنّ ابن إسماعيل لا يتجاوز عمله، فسار إلى جرجان وبعث إليه إسماعيل بالكف فأبى، فجهّز لحربه محمد بن هارون، وكان من قوّاد رافع بن الليث. واستأمن إلى عمرو ثم إلى إسماعيل فنظّمه في قوّاده وندبه الآن لحرب محمد بن زيد، فسار لذلك. ولقيه على باب خراسان، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم محمد بن هارون أوّلا وافترقت عساكر محمد بن زيد على النهب ثم رجع هو وأصحابه، وانهزم محمد بن زيد وجرح جراحات فاحشة هلك منها لأيام، وأسر ابنه زيد، وبعث به إسماعيل إلى بخارى واجترأ عليه وغنم ابن هارون معسكرهم، ثم سار إلى طبرستان فملكها وصار خراسان وطبرستان لبني سامان، واتصلت لهم دولة نذكر سياقة أخبارها عند إفراد دولتهم بالذكر كما شرطناه في تأليفنا. ولاية علي بن المعتضد على الجزيرة والثغور ولما ملك المعتضد آمد من يد ابن الشيخ كما قدّمناه، سار إلى الرقّة وتسلّم قنّسرين والعواصم من يد عمّال هارون بن خمارويه لأنه كان كتب إليه أن يقاطعه على الشام ومصر ويسلّم إليه أعمال قنّسرين، ويحمل إليه أربعمائة ألف دينار وخمسين ألفا فأجابوه وسار من آمد إلى الرقّة فأنزل ابنه عليّا الّذي لقّبه بعد ذلك بالمكتفي وعقد له على الجزيرة وقنّسرين والعواصم سنة ست وثمانين. واستكتب له الحسن بن عمر النصراني واستقدم وهو بالرقّة راغبا مولى الموفّق من طرسوس، فقدم عليه وحبسه وحبس ملنون غلامه، واستصفى أموالهما، ومات راغب لأيام من حبسه وقد كان راغب استبدّ بطرسوس وترك الدعاء لهارون بن خمارويه، ودعا لبدر مولى المعتضد. ولما جاء أحمد بن طبان للغزّ سنة ثلاث وثمانين تنازع معه راغب، فركب أحمد البحر في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 رجوعه ولم يعرّج على طرسوس وترك بها دميانة غلام بازيار [1] وأمدّه فقوي وأنكر على راغب أفعاله بحمل دميانة إلى بغداد، واستبدّ راغب إلى استدعاء المعتضد ونكبه كما قلناه، وولّى ابن الأخشاء على طرسوس فمات لسنة. واستخلف أبا ثابت وخرج سنة سبع وثمانين غازيا فأسر وولّى الناس عليهم مكانه علي بن الأعرابيّ، ولحق بملطية في هذه السنة وصيف مولى محمد بن أبي الساج صاحب بردعة، وكتب إلى المعتمد يسأله ولاية الثغور وقد وطأ صاحبه أن يسير إليه إذا وليها فيقصدان ابن طولون ويملكان مصر من يده، وظهر المعتضد على ذلك فسار لاعتراضه، وقدّم العساكر بين يديه، فأخذوه بعين زربة وجاءوا به إلى المعتضد فحبسه، وأمّن عسكره ورحل إلى قرب طرسوس، واستدعى رؤساءها وقبض عليهم بمكاتبتهم وصيفا، وأمر بإحراق مراكب طرسوس بإشارة دميانة، واستعمل على أهل الثغور الحسن بن علي كورة وسار إلى أنطاكية وحلب ورجع منها إلى بغداد وقتل وصيفا وصلبه. واستقدم المكتفي بعد وفاة المعتضد الحسن بن عليّ، وولّى على الثغور مظفّر بن حاج. ثم شكا أهل الثغر منه فعزله وولّى أبا العشائر بن أحمد بن نصر سنة تسعين. حرب الأعراب وفي سنة ست وثمانين اعترضت طيِّئ ركب الحاج بالاجيعر، وقاتلوه ونهبوا أموال التجّار ما قيمته ألف ألف دينار، ثم اعترضوا الحاج كذلك سنة تسع وثمانين بالقرن فهزمهم الحاج وسلموا. تغلب ابن الليث على فارس وإخراج بدر إياه وفي فاتح ثمان وثمانين جاء طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث في العساكر إلى بلاد فارس، وأخرج منها عامل المعتضد وهو عيسى النوشريّ كان على أصبهان فولّاه المعتضد فارس، فسار إليها فجاءه طاهر وملكها. وكتب إليه إسماعيل صاحب ما وراء النهر بأن المعتضد ولّاه سجستان لذلك، وعقد المعتضد لبدر مولاه على فارس، وهرب عمّال طاهر عنها وملكها بدر وجبى خراجها. ثم مات المعتضد وسار مغرّبا عن فارس فقتل بواسط وقاطع طاهر بلاد فارس على مال يحمله، فقلّده المكتفي ولايتها سنة تسعين.   [1] مازيار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 الولايات في النواحي كان أكثر النواحي في دولة المعتضد مغلبا عليها كخراسان وما وراء النهر لابن سامان، والبحرين للقرامطة ومصر لابن طولون وإفريقية لابن الأغلب، وقد ذكرنا من ولي الموصل. وفي سنة خمس وثمانين ولّى المعتضد عليها وعلى الجزيرة والثغور الشامية [1] مولاه، ثم ملك آمد من يد ابن الشيخ وجعلها لابنه عليّ المكتفي وأنزله الرقّة كما ذكرناه وعقد له على الثغور. ثم عقد بعده للحسن بن عليّ كورة وولّى على فارس بدرا مولاه. ومات إسحاق بن أيّوب بن عمر بن الخطّاب الثعلبي العدويّ أمير ديار ربيعة، فولّى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعمر. وفي سنة ثمان وثمانين ظهر باليمن بعض العلويّين وتغلّب على صنعاء، فجمع له بنو يعفر وقاتلوه فهزموه وأسروا ابنه، وتجافى نحو خمسين فارسا، وملك بنو يعفر صنعاء وخطبوا فيها للمعتضد، وهلك ابن أبي الساج في هذه السنة، فولّى أصحابه ابنه ديوداد. ونازعه عمّه يوسف بن رافع بابن أخيه وهزمه ومضى إلى بغداد على طريق الموصل، واستقل يوسف بملك أذربيجان، وعرض على ابن أخيه المقام عنده فأبى، وقلّد المعتضد لأول خلافته ديوان المشرق لمحمد بن داود بن الجرّاح، عوضا عن أحمد بن محمد بن الفرات، وديوان المغرب عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح، ومات وزيره عبيد الله بن سليمان بن وهب فولى ابنه أبا القاسم مكانه. الصوائف وفي سنة خمس وثمانين غزا راغب مولى الموفّق من طرسوس في البحر، فغنم مراكب الروم، قتل فيها نحوا من ثلاثة آلاف وأحرقها. وخرج الروم سنة سبع وثمانين ونازلوا طرسوس فقاتلهم أميرها واتبعهم إلى نهر الرحال فأسروه. وفي سنة ثمان وثمانين بعث الحسن بن علي كورة صاحب الثغور بالصائفة، فغزا وفتح حصونا كثيرة وعاد بالأسرى، فخرج الروم في أثره برا وبحرا إلى كيسوم من نواحي حلب فأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا ورجعوا.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 490: «وفيها- 285- سار فاتك مولى المعتضد إلى الموصل لينظر في أعمالها وأعمال الجزيرة والثغور الشامية والجزرية وإصلاحها، مضافا إلى ما كان يتقلّده من البريد بها.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وفاة المعتضد وبيعة ابنه كان بدر مولى المعتضد عظيم دولته، وكان القاسم بن عبيد الله الوزير يروم نقل الخلافة في غير بني المعتضد، وفاوض في ذلك بدرا أيام المعتضد فأبى، ولم يمكن القاسم مخالفته. فلما مات المعتضد كان بدر بفارس بعثه إليها المعتضد لما بلغه أن طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث غلب عليها فبعث بدرا وولّاه. فلما مات عقد الوزير البيعة لابنه المكتفي وخشي من بدر فيما اطلع عليه منه، فأعمل الحيلة في أمره. وكان المكتفي أيضا يحقد لبدر كثيرا من منازعة معه أيام أبيه، فدسّ الوزير إلى القوّاد الذين مع بدر بمفارقته، ففارقه العبّاس بن عمر الغنويّ ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخاقان العلجى [1] وغيرهم، فأحسن الملتقى إليهم وسار بدر إلى واسط، فوكّل المكتفي بداره وقبض على أصحابه وأمر بمحو اسمه من الفراش [2] والأعلام وبعث الحسن بن علي كورة في جيش إلى واسط، وعرض على بدر ما شاء من النواحي، فقال: لا بدّ لي أن أشافه مولاي بالقول! فخوف الوزير المكتفي خائنته ومنعه من ذلك، وشعر أن بدرا بعث عن ابنه هلال فوكّل به. ثم بعث الوزير عن القاضي أبي عمر المالكيّ وحمّله الأمان إلى بدر، فجاء بأمانه وبعث الوزير من اعترضه بالطريق فقتله لست خلون من رمضان، وحمل أهله شلوه إلى مكّة فدفن بها لوصيته بذلك، وحزن القاضي أبو عمر لاخفار ذمّته. استيلاء محمد بن هارون على الري ثم أسره وقتله قد تقدّم لنا ذكر محمد بن هارون وأنه كان من قوّاد رافع بن هرثمة، ونظّمه إسماعيل بن أحمد صاحب ما وراء النهر في قوّاده وبعثه لحرب محمد بن زيد فهزمه واستولى على طبرستان، وولّاه إسماعيل عليها. ثم انتقض ودعا بدعوة العلويّة وبيّض [3] وساعده ابن حسّان الديلميّ. وبعث إسماعيل العساكر لقتال ابن حسّان فهزموه. وكان على الري من قبل المكتفي أغرتمش التركيّ، فأساء السيرة فبعث أهل الريّ إلى محمّد بن هارون أن يسير إليهم ويولّوه، فسار وحارب أغرتمش فهزمه وقتله، وقتل ابنيه وأخاه   [1] خاقان المفلحيّ: ابن الأثير ج 7 ص 518. [2] التراس: المرجع السابق. [3] اي أنه لبس ثيابا بيضاء بعكس العباسيين الذين كان شعارهم السواد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 كيغلغ من القوّاد واستولى على الريّ وبعث المكتفي مولاه خاقان المفلحيّ لولاية الريّ في جيش كثيف فلم يصلها، وبعث المكتفي إلى إسماعيل بولايته ومحاربة محمد بن هارون فسار إسماعيل إليه وهزمه، فخرج عن الريّ إلى قزوين وزنجان. ثم لحق بطبرستان واستقرّ مع ابنه مستجيزا، ولما ملك إسماعيل الريّ ولّى على جرجان مولاه نارس الكبير [1] ، والزمه إحضار محمد بن هارون فكاتبه نارس وضمن له صلاح الحال، فقبل وانصرف عن الديلم إلى بخارى، فبعث إسماعيل من اعترضه وحمل إلى بخارى مقيّدا فمات في الحبس بعد شهر وذلك في شعبان سنة تسعين. استيلاء المكتفي على مصر وانقراض دولة ابن طولون كان محمد بن سليمان من قوّاد بني طولون وكاتب جيشهم واستوحش منهم، فلحق بالمعتضد وصرفوه في الخدم، وكانت القرامطة عاثوا في بلاد الشام وحاصروا عامل بني طولون بدمشق وهو طغج بن جفّ، وقتلوا قوّاده. وسار المكتفي إليهم فنزل الرقّة وبعث محمد بن سليمان لحربهم ومعه الحسن بن حمدان والعساكر وبنو شيبان، فلقيهم قرب حماة فهزمهم واتبعهم إلى الكوفة، وقبض في طريقه على أميرهم صاحب الشامة فبعث به إلى المكتفي، فرجع إلى بغداد وخلّف محمد بن سليمان في العساكر فتبعهم وأسر جماعة منهم. وبينما هو يروم العود إلى بغداد جاءه كتاب بدر الحماميّ مولى هارون بن خمارويه ومحمد فائق صاحب دمشق يستقدمانه إلى البلاد لعجز هارون عنها، فأنهى ذلك محمد بن سليمان عند عوده إلى المكتفي فأعاده وأمدّه بالجنود والأموال، وبعث دميانة غلام بازيار في الأسطول ليدخل من فوهة النيل ويحاصر مصر، ولما وصل ودنا من مصر كاتب القوّاد، وخرج إليه رئيسهم بدر الحماميّ وتتابع منهم جماعة، وبرز هارون لقتاله فحاربه أياما. ثم وقعت بعض الأيام في عسكره هيعة ركب لها ليسكنها فأصابته حربة مات منها، واجتمع أصحابه على عمّه شيبان وبذل الأموال فقاتلوا معه. ثم جاءهم كتاب محمد بن سليمان بالأمان فأجابوه، وخالف شيبان إلى مصر فاستولى عليها واستأمن إليه شيبان سرّا فأمّنه ولحق به. ثم قبض على بني طولون وحبسهم واستصفى أموالهم وذلك في صفر سنة اثنتين وتسعين، وأمره المكتفي بإزالة آل طولون وأشياعهم من مصر والشام ففعل.   [1] بارس الكبير: ابن الأثير ج 7 ص 527. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 وسار بهم إلى بغداد وولّى المكتفي على مصر عيسى النوشريّ وخرج عليه إبراهيم الخليجي من قوّاد بني طولون يخلف عن محمد بن سليمان، فخلّفه وكثر جمعه وسار النوشريّ إلى الإسكندرية عجزا عن مدافعته، واستولى الخليجي على مصر وبعث المكتفي بالجنود مع فاتك مولى المعتضد وأحمد بن كيغلغ وبدر الحمامي من قوّاد بني طولون، فوصلوا سنة ثلاث وتسعين، وتقدّم أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد، فلقيهم قرب العريش فهزمهم وقوي الأمر، وبلغ الخبر إلى المكتفي فعسكر ظاهر بغداد، وانتهى مدّه إلى تكريت فلقيه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنهم هزموا الخليجي بعد حروب متّصلة، وغنموا عسكره. ثم هرب واختفى بفسطاط مصر وجاء من دلّ عليه فأمر المكتفي بحمله ومن معه إلى بغداد فبعثوا بهم وحبسوا. ابتداء دولة بني حمدان وفي سنة اثنتين وتسعين عقد المكتفي على الموصل وأعمالها لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون العدويّ الثعلبيّ فقدمها أوّل المحرّم وجاء الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهدبانيّة ومقدّمهم محمد بن سلّال [1] قد أغاروا على البلاد وعانوا، فخرج في العساكر وعبر الجسر إلى الجانب الشرقيّ، ولقيهم على الحارد [2] فقاتلهم وقتل من قوّاد سليمان الحمداني [3] ورجع عنهم، وبعث إلى الخليفة يستمدّه، فأبطأ عليه المدد إلى ربيع من سنة أربع [4] ، فلما جاءه المدد سار إلى الهدبانيّة وهم مجتمعون في خمسة آلاف بيت، فارتحلوا أمامه واعتصموا بجبل السّلق المشرف على الزاب، فحاصرهم وعرفوا حقّه فخذله أميرهم محمد بن سلال بالمراسلة في الطاعة والرهن، وحثّ أصحابه خلال ذلك في المسير إلى أذربيجان، واتّبعهم أبو الهيجاء فلحقهم صاعدا إلى جبل القنديل فنال منهم، وامتنعوا بذروته. ورجع أبو الهيجاء عنهم فلحقوا بأذربيجان، ووفد أبو الهيجاء على المكتفي فأنجده بالعسكر وعاد إلى الموصل. ثم سار إلى الأكراد بجبل السّلق فدخله وحاصرهم بقنّته، وطال حصارهم واشتدّ البرد وعدمت الأقوات، وطلب محمد بن سلال النجاة بأهله   [1] محمد بن بلال: ابن الأثير ج 7 ص 538. [2] الخازر: ابن الأثير ج 7 ص 538. [3] وقتل من قواده سيما الحمداني المرجع السابق. [4] اي من سنة اربع وتسعين ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 وولده، فنجا واستولى ابن حمدان على أموالهم وأهليهم وأمّنهم. ثم استأمن محمد بن سلال فأمّنه وحضر عنده وأقام بالموصل وتتابع الأكراد الحميديّة مستأمنين، واستقام أمر أبي الهيجاء بالموصل. ثم انتقض سنة إحدى وثلاثمائة فبعث إليه المقتدر مؤنسا الخادم فجاء بنفسه مستأمنا ورجع إلى بغداد، فقبله المقتدر وأكرمه. وبقي ببغداد إلى أن انتقض أخوه الحسين بديار ربيعة سنة ثلاث وثلاثمائة. وسارت العساكر فجاءوا به أسيرا. فحبس المقتدر عند ذلك أبا الهيجاء وأولاده، وجمع إخوته بداره ثم أطلقهم سنة خمس وثلاثمائة. أخبار ابن الليث بفارس قد تقدّم لنا استقلال طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث ببلاد فارس وأن المكتفي عقد له عليها سنة تسعين، ثم أنه تشاغل باللهو والصيد، وأعرض عن أمور ملكه. ومضى في بعض الأيام إلى سجستان فوثب على فارس الليث بن عليّ بن الليث، وسيكرى مولى عمرو بن الليث، فاستوحش منها بعض قوّادهما يعرف بأبي قابوس، وفارقهما إلى بغداد وأحسن المكتفي إليه. ثم كتب إليه طاهر في ردّ أبي قابوس إليه، ويحتسب له ما معه من أموال الجباية فأعرض الخليفة عن ذلك. الصوائف وفي سنة إحدى وتسعين خرج الروم إلى الثغور في مائة ألف، وقصد جماعة منهم الحدث. ثم غزا بالصائفة من طرسوس القائد المعروف غلام زرافة، ففتح مدينة أنطاكية وفتحها عنوة فقتل خمسة آلاف من مقاتلتهم وأسر مثلها. واستنقذ من أسرى المسلمين مثلها، وغنم ستين من مراكب الروم بما فيها من المال والمتاع والرقيق، فقسّمها مع غنائم أنطاكية، فكان السهم ألف دينار. وفي سنة اثنتين وتسعين أغار الروم على مرعش ونواحيها، فخرج أهل المصيصة وأهل طرسوس فأصيب منهم جماعة، فعزل المكتفي أبا العشائر عن الثغور وولّى رستم بن برد، فكان على يديه الفداء، وفودي ألف من المسلمين. ثم أغارت الروم سنة ثلاث وتسعين على موارس من أعمال حلب، وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتل منهم خلق، ودخلها الروم فأحرقوا جامعها وأخذوا من بقي فيها. وفي سنة أربع وتسعين غزا ابن كيغلغ من طرسوس فأصاب من الروم أربعة آلاف سبيا، واستأمن بطريق من الروم فأسلم. ثم عاود ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 كيغلغ الغزو وبلغ سكند [1] وافتتحها، وسار إلى الليس فبلغ خمسين ألف رأس. وقتل من الروم خلقا ثم استأمن البطريق المتولي الثغور من جهة الروم إلى المكتفي، وخرج بمائتي أسير من المسلمين. وكان ملك الروم قد شعر بأمره وبعث من يقبض عليه، فقتل الأسرى المسلمون من جاء للقبض عليه وغنموا عسكرهم. واجتمع الروم على محاربة البطريق انذوقس [2] وزحف المسلمون لخلاصه وخلاص من معه من الأسرى، فبلغوا قونية وخرّبوها وانصرف الروم، ومرّ المسلمون في طريقهم بحصن أندوس فخرج معهم بأهله وسار إلى بغداد. وفي سنة إحدى وتسعين خرج الترك إلى ما وراء النهر في خلق لا يحصون، فبعث إليهم إسماعيل عسكرا عظيما من الجند والمطوّعة فكبسوهم واستباحوهم. وفي سنة ثلاث وتسعين افتتح إسماعيل مدائن كثيرة من بلاد الترك والديلم. الولايات بالنواحي قد ذكرنا ولايات خاقان المفلحيّ على الريّ، ثم إسماعيل بن أحمد بن سامان بعده، وولاية عيسى النوشريّ على مصر بعد انتزاعها من بني طولون، وولاية أبي العشائر أحمد بن نصر على طرسوس وعزل مظفّر بن حاج عنها سنة تسعين، ثم عزل أبي العشائر وولاية رستم بن برد، وسنة اثنتين وتسعين. وانتزاع الليث بن عليّ بن الليث بلاد فارس من يد طاهر بن محمد سنة ثلاث وتسعين بعد أن كان المكتفي عقد له عليها سنة تسعين، وولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة ثلاث وتسعين. وفي هذه السنة ثار داعية القرامطة باليمن إلى صنعاء فملكها واستباحها وتغلب على كثير من مدن اليمن وبعث المكتفي المظفّر بن الحاج في شوّال من هذه السنة إلى عمله باليمن فأقام به وفي سنة إحدى وتسعين توفي الوزير أبو القاسم بن عبيد الله واستوزر مكانه العبّاس بن الحسن. وفاة المكتفي وبيعة المقتدر ثم توفي المكتفي باللَّه أبو محمد علي بن المعتضد في شهر جمادى سنة خمس وتسعين لست سنين ونصف من ولايته، ودفن بدار محمد بن طاهر من بغداد بعد أن عهد   [1] هي مدينة بيكند وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 552 شكند. [2] اندرونقس: ابن الأثير ج 7 ص 552. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 بالأمر إلى أخيه جعفر. وكان الوزير العبّاس بن الحسن قد استشار أصحابه فيمن يولّيه، فأشار محمد بن داود بن الجرّاح بعبد الله بن المعتز، ووصفه بالعقل والرأي والأدب، وأشار أبو الحسين بن محمد بن الفرات بجعفر بن المعتضد بعد أن أطال في مفاوضته وقال له: اتّق الله ولا توال إلّا من خبرته ولا تولّ البخيل فيضيق على الناس في الأرزاق، ولا الطمّاع فيشره إلى أموال الناس، ولا المتهاون بالدين فلا يجتنب المآثم ولا يطلب الثواب. ولا تولّ من خبر الناس وعاملهم واطلع على أحوالهم، فيستكثر على الناس نعمهم، وأصلح الموجودين مع ذلك جعفر بن المعتضد. قال: ويحك وهو صبيّ! فقال: وما حاجتنا بمن لا يحتاج إلينا ويستبد علينا؟ ثم استشار عليّ بن عيسى فقال: اتّق الله وانظر من يصلح. فمالت نفس الوزير إلى جعفر كما أشار ابن الفرات، وكما أوصى أخوه، فبعث صائفا الخدمي [1] فأتى به من داره بالجانب الغربي، ثم خشي عليه غائلة الوزير فتركه في الحرّاقة، وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية. ثم جاء به من الحرّاقة وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية. ثم جاء به من الحرّاقة وأقعده على الأريكة وجاء الوزير والقوّاد فبايعوه، ولقّب المقتدر باللَّه وأطلق يد الوزير في المال وكان خمسة عشر ألف ألف دينار فأخرج منه حق البيعة واستقام الأمر. خلع المقتدر بابن المعتز وإعادته ولما بويع المقتدر وكان عمره ثلاث عشرة سنة استصغره الناس وأجمع الوزير خلعه والبيعة لأبي عبد الله محمد بن المعتز وراسله في ذلك، فأجاب وانتظر قدوم نارس حاجب إسماعيل بن سامان، كان قد انتقض إلى مولاه وسار عنه، فاستأذن في القدوم إلى بغداد وأذن له. وقصد الاستعانة به على موالي المعتضد. وأبطأ نارس عليه، وهلك أبو عبد الله بن المقتدر خلال ذلك فصرف الوزير وجهة لأبي الحسين بن الموكّل فمات، فأقرّ المقتدر، ثم بدا له وأجمع عزله، واجتمع لذلك مع القوّاد والقضاة والكتّاب وراسلوا عبد الله بن المعتز فأجابهم على أن لا يكون قتال. فأخبروه باتفاقهم وأن لا منازع لهم. وكان المتولّون لذلك الوزير العبّاس بن الحسين ومحمد بن داود بن الجرّاح وأبا المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي، ومن القوّاد الحسين بن حمدان   [1] صافي الحرميّ: ابن الأثير ج 8 ص 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 وبدر الأعجمي ووصيف بن صوارتكين. ثم رأى الوزير أمره صالحا المقتدر فبدا له في ذلك فأجمع الآخرون أمرهم، واعترضه الحسين بن حمدان وبدر الأعجمي ووصيف في طريق لستانة فقتلوه لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، وخلعوا المقتدر من الغد وبايعوا لابن المعتز، وكان المقتدر في الحلبة يلعب الأكرة، فلما بلغه قتل الوزير دخل الدار وأغلق الأبواب، وجاء الحسين بن حمدان إلى الحلبة ليفتك به فلم يجده، فقدم وأحضروا ابن المعتز فبايعوه، وحضر الناس والقوّاد وأرباب الدواوين سوى أبي الحسن بن الفرات وخواص المقتدر فلم يحضروا. ولقّب ابن المعتز المرتضى باللَّه، واستوزر محمد بن داود بن الجرّاح، وقلّد عليّ بن موسى الدواوين، وبعث إلى المقتدر بالخروج من دار الخلافة، فطلب الإمهال إلى الليل، وقال مؤنس الخادم ومؤنس الخازن: وعربت الحال وسائر الحاشية لا بد أن يبدي عذرا فيما أصابنا. وباكر الحسين بن حمدان من الغد دار الخلافة فقاتله الغلمان والخدم من وراء السور وانصرف. فلما جاء الليل سار إلى الموصل بأهله، وأجمع رأي أصحاب المقتدر على قصد ابن المعتز في داره فتسلّحوا وركبوا في دجلة، فلما رآهم أصحاب ابن المعتز اضطربوا وهربوا واتهموا الحسين بن حمدان أنه قد واطأ المقتدر عليهم، وركب ابن المعتز ووزيره محمد بن داود بن الجرّاح وخرجوا إلى الصحراء ظنّا منهم أن الجند الذين بايعوهم يخرجون معهم، وأنهم يلحقون بسامرّا فيمتنعون، فلما تفرّدوا بالصحراء رجعوا إلى البلد وتسرّبوا في الدور، واختفى ابن الجرّاح في داره، ودخل ابن المعتز ومولاه دار أبي عبد الله بن الجصّاص مستجيرا به. وثار العيّارون والسفل [1] ينتهبون. وفشا القتل وركب ابن عمرويه صاحب الشرطة، وكان ممن بايع ابن المعتز، فنادى بثأر المقتدر مغالطا، فقاتله فهرب واستتر، وأمر المقتدر مؤنسا الخازن فزحف في العسكر وقبض على وصيف بن صوارتكين فقتله، وقبض على القاضي أبي عمر عليّ بن عيسى والقاضي محمد بن خلف، ثم أطلقهم وقبض على القاضي أبي المثنّى أحمد بن يعقوب، قال له: بايع المقتدر! قال: هو صبي! فقتله وبعث المقتدر إلى أبي الحسن بن الفرات كان مختفيا فأحضره واستوزره. وجاء سوسن خادم ابن الجصّاص فأخبر صافيا الخرّميّ مولى المقتدر بمكانه عندهم، فكبست الدار وأخذ ابن المعتز وحبس إلى الليل، ثم خصيت خصيتاه فمات وسلّم إلى أهله وأخذ   [1] الأصح ان يقول السفلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 ابن الجصّاص وصودر على مال كثير، وأخذ محمد بن داود وزير ابن المعتز وكان مستترا فقتل. ونفى عليّ بن عيسى بن عليّ إلى واسط، واستأذن من ابن الفرات في المسير إلى مكة فسار إليها على طريق البصرة واقام بها، وصودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار، وسارت العساكر في طلب الحسين بن حمدان إلى الموصل فلم يظفروا به، وشفع الوزير ابن الفرات في ابن عمرويه صاحب الشرطة وإبراهيم بن كيغلغ وغيرهم. وبسط ابن الفرات الإحسان وأدرّ الأرزاق للعبّاسيين والطالبيّين وأرضى القوّاد بالأموال، ففرّق معظم ما كان في بيت المال، وبعث المقتدر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حمدان، فبلغوا قرقيسيا والرحبة ولم يظفروا به، وكتب المقتدر إلى أخيه أبي الهيجاء وهو عامل الموصل بطلبه، فسار مع القاسم بن سيما والقوّاد ولقوة عند تكريت فهزموه، وبعث مع أخيه إبراهيم يستأمن فأمّنوه وجاءوا به إلى بغداد، فخلع عليه المقتدر وعقد له على قمّ وقاشان، وعزل عنها العبّاس بن عمر الغنويّ فسار إليها الحسين، ووصل نارس مولى إسماعيل بن سامان فقلّده المقتدر ديار ربيعة. ابتداء دولة العبيديّين من الشيعة بإفريقية نسبة هؤلاء العبيديّين إلى أوّل خلفائهم، وهو عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر المصدّق بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، ولا يلتفت لإنكار هذا النسب، فكتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسلجماسة يغريهم بالقبض عليه لمّا سار إلى المغرب شاهد بصحّة نسبهم وشعر الشريف الرضي في قوله: ألبس الذلّ في بلاد الأعادي ... وبمصر الخليفة العلويّ من أبوه أبي ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ لفّ عرقي بعرقه سيّدا لناس ... جميعا، محمّد وعليّ وأما المحضر الّذي ثبت ببغداد أيام القادر بالقدح في نسبهم، وشذّ فيه أعلام الأئمّة مثل القدوري والصهيريّ [1] وأبي العبّاس الأبيورديّ وأبي حامد الأسفراينيّ وأبي الفضل النسويّ وأبي جعفر النسفيّ، ومن العلويّة المرتضى وابن   [1] الصيمري: ابن الأثير ج 7 ص 26. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 البطحاوي، وابن الأزرق، وزعيم الشيعة أبو عبد الله بن النعمان، فهي شهادة على السماع. وكان ذلك متّصلا في دولة العبّاسية منذ مائتين من السنين فاشيا في أمصارهم وأعصارهم. والشهادة على السماع في مثله جائزة على أنّها شهادة نفي، ولا تعارض ما ثبت في كتاب المعتضد مع أن طبيعة الوجود في الانقياد لهم، وظهور كلمتهم أدل شيء على صدق نسبهم. وأمّا من جعل نسبهم في اليهودية أو النصرانيّة لميمون القدّاح أو غيره فكفاه إثما تعرّضه لذلك. وأما دعوتهم التي كانوا يدعون لها فقد تقدّم ذكرها في مذاهب الشيعة من مقدّمة الكتاب، وانقسمت مذاهب الشيعة مع اتفاقهم على تفضيل عليّ على جميع الصحابة إلى الزيديّة القائلين بصحة إمامة الشيخين مع فضل عليّ، ويجوّزون إمامة المفضول وهو مذهب زيد الشهيد وأتباعه، والرافضة ويدعون بالإمامية المتبرّءين من الشيخين بإهمالهما وصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلافة عليّ. مع أنّ هذه الوصية لم تنقل من طريق صحيح، قال بها أحد من السلف الذين يقتض بهم، وإنما هي من أوضاع الرّافضة. وانقسم الرافضة بعد ذلك إلى اثني عشريّة نقلوا الخلافة من جعفر بعد الحسن والحسين وعليّ زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم وولده على سلسلة واحدة إلى تمام الاثني عشر، وهو محمد المهدي وزعموا أنه دخل سردابا وهم في انتظاره إلى الآن. وإلى الإسماعيلية نقلوا الخلافة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، ثم ساقوها في عقبة فمنهم من انتهى بها إلى عبيد الله هذا المهدي، وهم العبيديّون، ومنهم من ساقها إلى يحيى بن عبيد الله بن محمد المكتوم. وهؤلاء طائفة من القرامطة وهي من كذباتهم، ولا يعرف لمحمد بن إسماعيل ولد اسمه عبيد الله. وكان شيعة هؤلاء العبيديّين بالمشرق واليمن وإفريقية. وسار بها إلى إفريقية رجلان يعرف أحدهما بالحلوانيّ والآخر بالسفيانيّ أنفذهما الشيعة إلى هنالك وقالوا لهما: إنّ العرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يحيا صاحب البذر، وسارا لذلك ونزلا أرض كتامة، أحدهما ببلد يسمّى سوق حمار. وفشت هذه الدعوة منهما في أهل تلك النواحي من البربر وخصوصا في كتامة، وكانوا يزعمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ بالخلافة بالنصوص الجليّة وعدل عنها الصحابة إلى غيره فوجب البراءة ممن عدل عنها. ثم أوصى عليّ إلى ابنه الحسن ثم الحسن إلى أخيه الحسين، ثم الحسين إلى ابنه عليّ زين العابدين، ثم زين العابدين إلى ابنه محمد الباقر، ثم محمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 الباقر إلى ابنه جعفر الصادق، ثم جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل الإمام، ومنه إلى ابنه محمّد، ويسمّونه المكتوم لأنهم كانوا يكتمون اسمه حذرا عليه. ثم اوصى محمد المكتوم إلى ابنه جعفر المصدق، وجعفر المصدق إلى ابنه محمد الحبيب، ومحمد الحبيب إلى ابنه عبيد الله المهدي الّذي دعا له أبو عبد الله الشيعي. وكانت شيعهم منتشرين في الأرض من اليمن إلى الحجاز والبحرين والطرق وخراسان والكوفة والبصرة والطالقان. وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص، وكان عادتهم في كل ناحية يدعون للرضا من آل محمد، ويرومون إظهار الدعوة بحسب ما عليهم. وكان الشيعة من النواحي يعملون مكيهم في أكبر الأوقات لزيارة قبر الحسين، ثم يعرجون على سلمية لزيارة الأئمة من ولد إسماعيل وكان باليمن من شيعتهم. ثم بعده لأئمة قوم يعرفون ببني موسى ورجل آخر يعرف بمحمّد بن الفضل أصله من جند. وجاء محمد إلى زيارة الإمام محمد الحبيب، فبعث معه أصحابه رستم بن الحسين بن حوشب بن داود النجّار، وهو كوفيّ الأصل وأمره بإقامة الدعوة، وأنّ المهديّ خارج في هذا الوقت، فسار إلى اليمن ونزل على بني موسى وأظهر الدعوة هنالك للمهدي من آل محمد الّذي ينعتونه بالنعوت المعروفة عندهم، فاتّبعه واستولى على كثير من نواحي اليمن. وكان أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب، وكان محتسبا بالبصرة. وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العبّاس المخطوم وأبو عبد الله يعرف بالعلم. لأنه كان يعرف مذهب الإمامية الباطنية، قد اتّصل بالإمام محمد الحبيب وخبر أهليته، فأرسله إلى أبي حوشب، ولزم مجالسته وأفاد علمه. ثم بعثه مع الحاج اليمني إلى مكّة، وبعث معه عبد الله بن أبي ملّا، فأتى الموسم ولقي به رجالات كتامة مثل حريث الحميليّ وموسى بن مكاد، فاختلط بهم وعكفوا عليه لما رأوا عنده من العبادة والزهد، ووجّه إليهم بدرا من ذلك المذهب، فاغتبط واغتبطوا وارتحل معهم إلى بلدهم ونزل بها منتصف ربيع سنة ثمان وثلاثين، وعيّن لهم مكان منزله بفتح الأحار وأن النصّ عنده من المهديّ بذلك، ولجهره المهدي وأنّ أنصاره الأخيار من أهل زمانه، وأنّ اسم أنصاره مشتق من الكتمان ولم يعيّنه، واجتمع لمناظرته كثير من أهل كتامة فأبى، ثم أطاعوه بعد فتن وحروب. واجتمعوا على دعوته وكانوا يسمّونه أبا عبد الله المشرفي والشيعيّ، ولما اختلف كتامة عليه واجتمع كثير منهم على قتله قام بنصرته الحسن بن هارون، وسار به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 إلى جبل إيكجان وأنزله مدينة تاصروت من بلد زرارة، وقاتل من لم يتبعه بمن تبعه حتى استقاموا جميعا على طاعته. وبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب عامل إفريقية بالقيروان، فأرسل إلى عامل ميلة يسأله عن أمره فحقّره وذكر أنه رجل يلبس الخشن، ويأمر بالعبادة والخير فأعرض عنه حتى إذا اجتمع لأبي عبد الله أمره، زحف في قبائل كتامة إلى بلد ميلة فملكها على الأمان بعد الحصار، فبعث إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ابنه الأحوال في عسكرهم يجاوز عشرين ألفا، فهزم كتامة وامتنع أبو عبد الله بجبل إيكجان، وأحرق الأحول مدينة تاصروت ومدينة ميلة، وعاد إلى إفريقية، وبنى أبو عبد الله بجبل إيكجان [1] مدينة سمّاها دار الهجرة. ثم توفي إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية وولّى ابنه أبو العبّاس، وقتل واستقرّ الأمر لزيادة الله، وكان الأحول حمل العساكر لحضوره فاستقدمه زيادة الله وقتله. وفاة الحبيب وايصاؤه لابنه عبيد الله ولما توفي محمد الحبيب وأوصى لابنه عبيد الله، وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرة بعيدة، وترى محنا شديدة. فقام عبيد الله بالأمر وانتشرت دعوته وأرسل إليه أبو عبد الله الشيعيّ رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم، وأنّهم في انتظاره. وشاع خبره وطلبه المكتفي فهرب هو وولده نزار الّذي ولي بعده وتلقّب بالقائم. وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب. وانتهى إلى مصر وعليها يومئذ عيسى النوشريّ، فلبس عبيد الله زي التجّار يتستّر به. وجاء كتاب المكتفي للنوشري بالقبض عليه، وفيه صفته وحليته، فبعث العيون في طلبه. ونمي الخبر بذلك إلى عبيد الله من بعض خواص النوشريّ فخرج في رفقة، ورآه النوشريّ وأحضره ودعاه للمؤاكلة فاعتذر بالصوم، ثم امتحنه فلم تشهد له أحواله بشيء مما ذكر له عنه. وقارن ذلك رجوع ابنه أبي القاسم يسأل عن كلب للصيد ضاع له، فلمّا رآه النوشريّ وأخبر أنه ولد عبد الله علم أنّ هذه الدالة في طلب الضائع منافية للرقبة والخوف، فخلّى سبيله. وجدّ المهدي في السير وكان له كتب من الملاحم ورثها منقولة عن أبيه سرقت من رحله في تلك الطريق، ويقال إنّ ابنه أبا القاسم لما زحف إلى مصر أخذها من بلاد برقة. ولما انتهى المهدي وابنه إلى طرابلس وفارقه التجّار أهل الرفقة، قدّم أبا   [1] إنكجان: ابن الأثير ج 8 ص 34. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 العبّاس أخا أبي عبيد الله الشيعيّ إلى أخيه بكتامة، ومرّ بالقيروان، وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله وهو يسأل عنهم، فقبض على أبي العبّاس وسأله فأنكر فحبسه، وكتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته، وسار إلى قسطنطينية فعدل عنها خشية على أبي العبّاس أخي الشيعيّ المعتقل بالقيروان، وذهب إلى سجلماسة وبها أليشع بن مدرار فأكرمه. ثم جاءه كتاب زيادة الله ويقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الّذي داعيه في كتامة فحبسه، وبعث زيادة الله العساكر، الى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حيش [1] ، وكانوا أربعين ألفا، فانتهى إلى قسطنطينية [2] فأقام بها وهم متحصّنون بخيلهم ستة أشهر. ثم زحف إليهم ودافعهم عند مدينة بلزمة فانهزم إلى القيروان. وكتب أبو عبد الله بالفتح إلى المهدي وهو في محبسه. ثم زحف إلى مدينة طبنة فحاصرها وملكها بالأمان، ثم إلى مدينة بلزمة فملكها عنوة، فبعث زيادة الله العساكر مع هارون الطبنيّ فانتهوا إلى مدينة دار ملوك، وكانوا قد أطاعوا الشيعي فهدمها هارون، وقتل أهلها، وسار إلى الشيعي فانهزم من غير قتال وقتل. وفتح الشيعي مدينة عيسى فزحف زيادة الله في العساكر سنة خمس وتسعين ونزل الأربس ثم أشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءا للعساكر، فبعث الجيوش مع إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته ورجع، وزحف أبو عبد الله إلى باغاية فهرب عاملها وملكها. ثم إلى مدينة مرماجنّة فافتتحها عنوة وقتل عاملها ثم إلى مدينة تيفاش فملكها على الأمان، واستأمن إليه القبائل من كل جهة فأمّنهم وسار بنفسه إلى مسلبابة [3] ثم إلى تبسة ثم إلى مجانة ففتحها على الأمان، ثم سار إلى القصرين من قمودة وأمّن أهلها وسار يريد قادة وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب وهو بالأربس أميرا على الجيش، فخشي على زيادة الله برقادة لقلة عسكره، وارتحل ذاهبا إليه، وسار أبو عبد الله إلى قسطنطينية فحاصرها وافتتحها على الأمان ورجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا وعاد الى ايكجان فسار إبراهيم بن أبي الأغلب إلى باغاية وحاصر أصحاب أبي عبد الله بها، فبعث أبو عبد الله عساكره إلى مج [4] العرعار فألفوا   [1] خنيش: ابن الأثير ج 8 ص 40. [2] هكذا في الأصل وكذلك عند ابن الأثير وفي نسخة اخرى قسنطينه. [3] مسكياتة: ابن الأثير ج 8 ص 43. [4] فج: ابن الأثير ج 8 ص 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 إبراهيم قد عاد عنها إلى الأربس. ثم زحف أبو عبد الله إلى إبراهيم سنة ست وتسعين في مائة ألف مقاتل وبعث من عسكره من يأتي إبراهيم من خلفه، وسار إليه فانهزم وأثخن فيهم أبو عبد الله بالقتل والأسر، وغنم أموالهم وخيلهم وظهرهم. ودخل الأربس فاستباحها، ثم سار فنزل قمودة، وبلغ الخبر إلى زيادة الله فهرب إلى مصر. وافترق أهل مدينة رقادة إلى القيروان وسوسة ونهب قصور بني الأغلب ووصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان، فنزل قصر الإمارة وجمع الناس ووعدهم الحماية، وطلب المساعدة بطاعتهم وأموالهم، فاعتذروا وخرجوا إلى الناس فأخبروهم، فثاروا به وأخرجوه. وبلغ أبا عبد الله الشيعيّ هرب زيادة الله وهو يشبه [1] فدخل إلى رقادة وقدم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمّنوا الناس. وخرج أهل القيروان للقاء أبي عبد الله فأكرمهم وأمّنهم، ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين، ونزل قصورها وفرّق دورها على كتامة ونادى بالأمان. وتراجع الناس فأخرج العمّال وطلب أهل الشرّ فهربوا، وجمع أموال زيادة الله وسلاحه وأمر بحفظها وبحفظ جواريه، واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعيّن لهم أحدا. ونقش على السكّة من أحد الوجهين بلغت حجة الله، ومن الآخر تفرّق أعداء الله، وعلى السلاح عدّة في سبيل الله، ورسم أفخاذ الخيل بالملك للَّه. بيعة المهدي بسجلماسة ولما ملك أبو عبد الله إفريقية لقيه أخوه أبو العبّاس منطلقا من اعتقاله، فاستخلفه عليها وترك معه أبا زاكي تمام بن معارك من قوّاد كتامة. وسار إلى المغرب ففرّق القبائل من طريقه، وخافته زناتة فدخلوا في طاعته. ولما قرب من سجلماسة أرسل إلى المهدي بمحبسه يسأله عن حاله فأنكر، ثم سأل ولده كذلك فأنكر، وضرب رجاله فأنكروا، ونمي الخبر إلى أبي عبد الله فخشي عليهم وأرسل إلى أليسع يتلطّفه فقتل الرسل فأغذ أبو عبد الله السير وحاصره يوما وهرب أليسع من الليل هو وأصحابه وبنو عمّه. وخرج أهل البلد إلى أبي عبد الله فجاء إلى مجلس المهدي   [1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 46: «ولما بلغ ابا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سبيبة فرحل ونزل بوادي النمل، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، في ألف فارس الى رقادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 فأخرجه هو وابنه أبا القاسم، وأركبهما ومشى مع رؤساء القبائل بين يديها وهو يقول: هذا مولاكم ويبكي من شدّة الفرح، ثم أنزله بالمخيم وبعث في أثر أليسع فجيء به فجلد، ثم قتل، وأقام بسجلماسة أربعين يوما ورجع إلى إفريقية، ووصل إلى رقادة في ربيع من سنة ست وتسعين وجدّد البيعة للمهدي واستولى على ملك بني الأغلب بإفريقية. وملك مدرار سجلماسة ونزل برقادة وتلقّب بالمهديّ أمير المؤمنين وبعث دعاته في الناس فحملوهم على مذهبهم فأجابوا إلّا قليلا عرض عليهم السيف، وقسّم الأموال والجواري في رجال كتامة، وأقطعهم الأموال والأعمال، ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث العمّال على البلاد. فبعث على صقلّيّة الحسن بن أحمد بن أبي خنزير فوصل إلى مازر في عيد الأضحى من سنة تسع وتسعين، فاستقضى بها إسحاق بن المنهال، وأجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى بسط قلورية [1] فأثخن فيها وعاد وثار به أهل صقلّيّة سنة تسع وتسعين فحبسوه واعتذروا إلى المهدي لسوء سيرته، فعذرهم وولّى عليهم علي بن عمر البلويّ فوصل إليهم خاتمة السنة المذكورة. أخبار ابن الليث بفارس قد ذكرنا من قبل استيلاء الليث بن عليّ بن الليث وسيكرى [2] مولى عمر بن الليث على فارس من يد طاهر بن محمد. ثم أخرج سيكرى بعد ذلك الليث وانفرد بها، وسار إليه طاهر بن محمد بن عمرو، فواقعه وانهزم طاهر وأسر سيكرى وأسر أخاه يعقوب، وبعث بهما إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي، وقد أمّره على ما يحمله وذلك سنة ست وتسعين، ثم سار إليه الليث بن عليّ من سجستان سنة سبع وتسعين، فغلبه وملك فارس، وهرب سيكرى إلى أرجان وأمدّه المقتدر بمؤنس الخادم في العساكر، فجاء إلى أرجان وجاء الحسين بن حمدان من قمّ إلى البيضاء في إعانته، فسار لملاقاته وأضلّ الطريق إلى مسالك صعبة أشرف على عسكر مؤنس. وكان سيكرى قد بعث أخاه إلى شيراز ليحفظها، فلما أشرف على العسكر ظنّه عسكر أخيه فثاروا إليه واقتتلوا وانهزم عسكر الليث وأخذ أسيرا. وأشار عليه   [1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 50: «وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين ومائتين، فسار في عسكره إلى دمنش فغنم وسبى وأحرق» [2] شبكرى: ابن الأثير ج 8 ص 56- الطبري ج 12 ص 17. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 أصحابه أن يقبض على سيكرى ويطلب من المقتدر ولاية فارس مكانه فوافقهم طاهر ودسّ إليه، فلحق بشيراز وعاد مؤنس إلى بغداد بالليث أسيرا، والحسين بن حمدان إلى عمله بقمّ. ثم إنّ عبد الرحمن بن جعفر كاتب سيكرى استولى على أمره، وحسده أصحابه وأكثروا السعاية فيه عند سيكرى فحبسه، واستكتب مكانه إسماعيل ابن إبراهيم اليمن [1] ، فحمله على العصيان ومنع الحمل ودسّ عبد الرحمن بن جعفر من محبسه إلى الوزير ابن الفرات بذلك، فكتب إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى فارس، فسار وأرسله سيكرى وأنسه وسأل منه الوساطة في أمره، وشعر ابن الفرات بميل مؤنس إلى بغداد، وسار محمد بن جعفر فهزم سيكرى على شيراز فخلص إلى قمّ وتحصن بها، وحاصره محمد بن جعفر ثم خرج إليه فهزمه ثانية، ودخل مغارة خراسان فلقيته عساكر، إسماعيل إلى بغداد، فحبسا هنالك واستولى محمد بن جعفر من القوّاد على فارس وولّى عليها قبيجا [2] خادم الأفشين، ثم صارت ولايتها لبدر ابن عبد الله الحمامي [3] وفي آخر سنة تسع وتسعين ومائتين قبض حرمه وقامت الهيعة ببغداد ثلاثة أيام، ثم سكنت وذلك لثلاث سنين وثلاثة أشهر من وزارته. فاستوزر مكانه أبا عليّ محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى، فرتّب الأمور على الدواوين. ثم زاد قرفه لضيق صدره وطيشه وعدوله عن مذاهب الرئاسة إلى الوضاعة ومراجعة أصحاب الحاجات والحقوق إلى ما يريد قضاءه منها، وكثرة التولية والعزل وتبجّح أصحابه عليه في إطلاق الأموال وانبساط الجاه بإفساد الأحوال. واعتزم المقتدر على عزله بأبي الحسين بن أبي الفضل، فاستدعاه من أصبهان، ثم قبض عليه وعلى أبي الحسن ببغداد، وأهمل رأي الوزراء وصار يرجع إلى قول النساء والخدم، فطمع العمّال في الأطراف، ثم أخرج ابن الفرات من محبسه وجعله في بعض الحجر، وأحسن إليه وصار يعرض عليه مطالعات العمّال، وأراد أن يستوزره ثم بدا له واستدعى عليّ بن عيسى من مكّة فاستوزره لأوّل سنة إحدى وثلاثمائة، وقبض على الخاقاني وحبسه وعين حرسيا عليه. وقام علي بن عيسى بالوزارة وأصلح ما أفسده الخاقاني واستقامت الأمور.   [1] إسماعيل بن إبراهيم البمّيّ: ابن الأثير ج 8 ص 57. [2] قنبجا: ابن الأثير ج 8 ص 58. [3] بياض بالأصل وفي الطبري ج 12 ص 19: «وفيها خالف سيكرى والتوى بما عليه فندب لمحاربته وصيف كأمه غلام الموقف وشخص معه وجوه القواد وفيهم الحسين بن حمدان وبدر غلام النوشري وبدر الكبير المعروف بالحمامي فواقعوا سبكرى في باب شيراز وهزموه.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 قيام أهل صقلّيّة بدعوة المقتدر ثم رجوعهم إلى طاعة المهدي قد ذكرنا ولاية عليّ بن عمر على صقلّيّة من عبد الله المهدي سنة تسع وتسعين. ثم إنّ أهل صقلّيّة انتقضوا عليه وولّوا عليهم أحمد بن موهب [1] ثم انتقضوا عليه وأرادوا قتله فدعا إلى طاعة المقتدر وخطب له بصقلية، وقطع خطبة المهدي وبعث أسطولا إلى ناحية ساحل إفريقية، فلقوا أسطول المهدي، وعليه الحسن بن أبي خنزير، فأحرقوه وقتلوا الحسن ووصلت خلع السواد وألويته لابن موهب من بغداد ثم جاءت أساطيل المهدي في البحر وفسد أمر ابن موهب ثم ثارت أهل صقلّيّة به سنة ثلاثمائة وأسروه وبعثوا به إلى المهدي مع جماعة من أصحابه فأمرهم بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير. ولاية العهد وفي سنة إحدى وثلاثمائة ولّى المقتدر ابنه أبا العبّاس العهد وهو الّذي ولي الخلافة بعد القاهر وسمّي بالرافضي فولّاه أبو المقتدر العهد وهو ابن سنين [2] وقلّده مصر والمغرب، واستخلف له عليها مؤنسا الخادم وولّى ابنه الآخر عليّا على الريّ ودنباوند وقزوين وأذربيجان [3] وأبهر. ظهور الأطروش وملكه خراسان كان هذا الأطروش من ولد عمر بن عليّ زين العابدين وهو الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن عمر وكان قد دخل إلى الديلم بعد قتل محمد بن زيد، ولبث فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم على يديه منهم خلق كثير وبنى لهم المساجد، وزحف بهم إلى ثغور المسلمين، أراهم مثل قزوين وسالوس فأطاعوه، وهدم حصن سالوس. ثم   [1] احمد بن موهر: ابن الأثير ج 8 ص 71. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 76: في هذه السنة- 301- خلع على الأمير أبي العبّاس بن المقتدر باللَّه، وقلّد أعمال مصر والمغرب وعمره أربع سنين. [3] زنجان: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 دعاهم إلى غزو طبرستان وهي في طاعة ابن سامان، وكان إسماعيل بن أحمد لما انتقض بها محمد بن هارون، وقبض عليه إسماعيل وولى عليها أبا العبّاس عبد الله بن محمد بن نوح، فأحسن السيرة وأظهر العدل، وبالغ في الإحسان إلى العلوية الذين بها، واستمال الديلم بالمهاداة والإحسان، فاشتمل الناس عليه. فلما دعاهم الحسن إلى غزو طبرستان، لم يجيبوه من أجل ابن نوح. ثم إنّ أحمد بن إسماعيل عزل ابن نوح عنها، وولّى عليها سلاما فأساء السيرة ولم يحسن سياسة الديلم، فهاجوا عليه فقاتلهم وهزمهم، واستعفى من ولايتها فعاد إليها ابن نوح وصلحت الحال كما كانت إلى أن مات، فولّى عليها محمد بن إبراهيم بن صعلوك، فأساء السيرة وتنكّر للديلم فصادف الحسن منها الغرّة ودعاهم إلى غزو طبرستان فأجابوه، وسار إليه ابن صعلوك على من يرحّله من سالوس بشاطئ البحر، فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلاف، ولجأ الباقون إلى سالوس، فحاصرهم الأطروش حتى استأمنوا، ورجع عنهم إلى آمد. ثم جاء الحسن بن القاسم العلويّ الداعي صهر الأطروش إلى أولئك المستأمنين فقتلهم، واستولى الأطروش على طبرستان، ولحق ابن صعلوك بالريّ سنة إحدى وثلاثمائة، وسار منها إلى بغداد وكان الأطروش زيديّ المذهب، وجميع الذين أسلموا على يده فيما وراء أسعيدولى إلى آمد [1] كلهم على مذهب الشيعة. ثم إن الأطروش العلويّ تنحّى عن آمد إلى سالوس بعد أن غلب عليها، فبعث إليه صعلوك الريّ من قبل ابن سامان جيشا فهزمهم وعاد إلى آمد. ثم زحفت إليه عساكر السعيد [2] صاحب خراسان سنة أربع وثلاثمائة فقتلوه. وكان هذا الأطروش عادلا حسن السيرة لم ير مثله في أيامه وأصابه الصمم من ضربة في رأسه بالسيف في الحرب. وقال ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم ويقال فيه الحسن بن عليّ الداعي وليس به، وإنّما الداعي الحسن بن القاسم صهره، وسنذكره فيما بعد. وكان له من الولد أبو الحسن، وكان قوّاده من الديلم جماعة منهم ابن النعمان وكانت له ولاية جرجان، وما كان بن كالي وكان على أستراباذ ومعرّا. ثم كان من قوّاد ولده من الديلم جماعة آخرون منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان بن كالي ومرداويج بن   [1] هكذا بالأصل العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 82: «الذين هم وراء اسفيدروذ الى ناحية آمل.» [2] بياض بالأصل وهو السعيد نصر بن سامان كما سيمرّ معنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 زياد من أصحاب أسفار، واسكرى من أصحابه أيضا، وبنو بويه من أصحاب مرداويج، وسيأتي الخبر عن جميعهم إن شاء الله تعالى. غلب المهدي على الاسكندرية ومسير مؤنس إلى مصر وفي سنة اثنتين وثلاثمائة بعث عبد الله المهدي عساكره من إفريقية إلى الإسكندرية مع قائده خفاشة الكتابي فغلب عليها وسار إلى مصر، وبلغ المقتدر فبعث مؤنسا الخادم في العساكر لمحاربته، وأمدّه بالأموال والسلاح. وسار إليهم وقاتلهم فهزمهم بعد وقائع متعدّدة، قتل فيها من الفريقين، وبلغ القتل والأسر من المغاربة سبعة آلاف ورجعوا إلى المغرب. انتقاض الحسين على ابن حمدان بديار ربيعة وأسره كان الحسين بن حمدان واليا على ديار ربيعة وطالبه الوزير عليّ بن عيسى بالمال، فدافعه وأمره بتسليم البلاد إلى عمّال السلطان، فامتنع وكان مؤنس الخادم بمصر في محاربة عساكر المهدي صاحب إفريقية، فجهّز الوزير إلى ابن حمدان رائقا الكبير في عسكر سنة ثلاث وثلاثمائة، وكتب إلى مؤنس أن يسير إلى الجزيرة لقتاله بعد فراغه من أصحاب العلويّ بمصر، فسار رائق أوّلا هزمه الحسين، ولحق بمؤنس فأمره بالمقام بالموصل. وسار نحو الحسين وتبعه أحمد بن كيغلغ، وانتهى إلى جزيرة ابن عمر والحسين بأرمينية. ورجع الكثير من عسكره إلى مؤنس. ثم بعث مؤنس عسكرا في أثره عليهم بليق ومعه سيما الجزريّ. وجاء الصفواني واتبعوه فأدركوه، وقاتلوه فهزموه، وجاءوا به أسيرا ومعه ابنه عبد الوهاب وأهله وكثير من أصحابه. وعاد مؤنس إلى بغداد على الموصل، فحبسه المقتدر وأغار على أبي الهيجاء بن حمدان وجميع إخوته وحبسهم. ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس وقتل الحسين سنة ست تقريبا كما نذكر إن شاء الله تعالى. وزارة ابن الفرات الثانية كان الوزير أبو الحسن بن الفرات محبوسا كما ذكرنا وكان المقتدر يشاوره ويرجع إلى رأيه، ويبغي بعض أصحاب المقتدر إعادته. وبلغ ذلك الوزير عليّ بن عيسى فاستعفى ومنعه المقتدر. ثم جاءت في بعض الأيام قهرمانة القصر تناظره في نفقات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 الحرم والحاشية وكسوتهم، فألفته نائما فلم يوقظه لها أحده. فرجعت وشكت إلى المقتدر وأمّه فقبض عليه في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثمائة، وأعاد ابن الفرات على أن يحمل إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينار في كل يوم. وقبض على الوزير من قبله عليّ بن عيسى والخاقاني وأصحابهما، وصادرهم أبو علي بن مقلة وكان مختفيا منذ قبض على ابن الفرات فقدّمه الآن واستخلصه. خبر ابن أبي الساج بأذربيجان قد ذكرنا استقرار يوسف بن أبي الساج على أرمينية وأذربيجان منذ مهلك أخيه محمد سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكان على الحرب والصلاة والأحكام، وكان عليه مال يؤديه. فلما ولي الخاقاني وعليّ بن عيسى الوزارة، والتأمت أمور يوسف في الاستبداد، وأخّر بعض المال واجتمع له ما يريده لذلك، وبلغته نكبة الوزير عليّ ابن عيسى، فأظهر أنّ العهد وصل إليه بولاية الريّ على يد عليّ بن عيسى. وكان حميد بن صعلوك من قوّاد ابن سامان قد بعث على الريّ وما يليها، وقاطع عليها بمال يحمله فسار إليه يوسف سنة أربع وثلاثمائة، فهرب إلى خراسان واستولى يوسف على الريّ وقزوين وزنجان، وكتب إلى الوزير ابن الفرات بالفتح ويعتذر بأنه طرد المتغلبين، ويذكر كثرة ما أنفق من ذلك، وأنه كان بأمر الوزير علي بن عيسى وعهده إليه بذلك، فأستعظم المقتدر ذلك، وسئل عليّ بن عيسى فأنكر وقال: سلوا الكتّاب والحاشية والعهد واللواء اللذين كان يسير بهما مع بعض القوّاد والخدّام. فكتب ابن الفرات بالنكير على يوسف، وجهّز العساكر لحربه مع خاقان المفلحيّ، ومعه أحمد بن مسرور البلخيّ، وسيما الجزريّ، ونحرير الصغير، وساروا سنة خمس وثلاثمائة فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة، فبعث المقتدر مؤنسا الخادم في جيش كثيف لمحاربته وعزل خاقان المفلحيّ عن أعمال الجبل، وولّاها نحريرا الصغير. وسار مؤنس واستأمن له أحمد بن عليّ أخو صعلوك فأمّنه وأكرمه، وبعث ابن أبي الساج في المقاطعة على أعمال الريّ بسبعمائة ألف دينار سوى أرزاق الجند والخدم، فأبى له المقتدر من ذلك عقوبة على ما أقدم عليه، وولّى على ذلك العمل وصيفا البكتمري، وطلب ابن أبي الساج أن يقاطعه على ما كان بيده قبل الريّ من أذربيجان وأرمينية، فأبى المقتدر إلا أن يحضر في خدمته. فلما يئس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 ابن أبي الساج زحف إلى مؤنس وقاتله، فانهزم مؤنس إلى زنجان وقتل من قوّاده جماعة، وأسر هلال بن بدر وغيره فحبسهم يوسف في أردبيل، وأقام مؤنس بزنجان بجميع العساكر يستمدّ من المقتدر وابن أبي الساج يراسله في الصلح، والمقتدر لا يجيب إلى ذلك. ثم قاتله مؤنس في فاتح سنة سبع وثلاثمائة عند أردبيل فهزمه وأسره وعاد به إلى بغداد أسيرا، فحبسه المقتدر وولّى مؤنس على الريّ ودنبوند وقزوين وأبهر وزنجان علي بن وهشودان وجعل أموالها لرجاله، وولّى مؤنس على أصبهان وقمّ وقاشان أحمد بن علي بن صعلوك، وسار عن أذربيجان فوثب سبك مولى يوسف بن أبي الساح فملكها واجتمع عليه عسكر فولى مؤنس بن محمد بن عبيد الفارقيّ وسار بمحاربة سبك فانهزم وعاد إلى بغداد. وتمكّن سبك في أذربيجان وسأل المقاطعة على مائتي ألف وعشرين ألف دينار في كل سنة. فأجيب وعقد له عليها، وكان مقيما بقزوين فقتله على مراسة ولحق ببلده، فولّى المقتدر وصيفا البكتمري مكانه على أعمال الريّ، وولّى محمد بن سليمان صاحب الجيش على الخوارج بها، ثم وثب أحمد بن عليّ بن صعلوك صاحب أصبهان وقمّ على الريّ، فملكها وكتب إليه المقتدر بالنكير، وأن يعود إلى قمّ، فعاد ثم أظهر الخلاف وأجمع المسير إلى الريّ، وسار وصيف البكتمري لحربه. وأمر نحريرا الصغير أن يسير مددا لبكتمري، فسبقهم أحمد بن صعلوك إلى الريّ وملكها، وقتل محمد بن سليمان صاحب الخوارج، وبعث إلى نصر الحاجب ليصلح أمره بالمقاطعة على أعمال الريّ بمائة وستين ألف دينار، وينزل عن قمّ فكتب له بذلك وولّى غيره على قمّ. خبر سجستان وكرمان كانت سجستان قد صارت لابن سامان منذ سنة ثمان وتسعين ومائتين، ثم تغلب عليها كثير بن أحمد بن صهفود من يده، فكتب المقتدر إلى عامل فارس وهو بدر ابن عبد الله الحمامي أن يرسل العساكر لمحاربته، ويؤمّر عليهم دركا، ويجعل على الخراج بها زيد بن إبراهيم. فسارت العساكر وحاربوا أهل سجستان فهزموهم وأسروا زيد بن إبراهيم، وكتب كثير إلى المقتدر بالبراءة من ذلك، وطوية أهل سجستان. وأرسل المقتدر أن يسير لقتاله بنفسه، فخاف كثير وطلب المقاطعة على خمسمائة ألف دينار في كل سنة، فأجيب وقرّرت البلاد عليه، وذلك سنة اربع وثلاثمائة. وانتقض في هذه السنة بكرمان صاحب الخوارج بها أبو زيد خالد بن محمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 المارداني، وسار منها إلى شيراز يروم التغلّب على فارس فسار إليه بدر الحمامي العامل، وحاربه فقتله وحمل رأسه إلى بغداد. وزارة حامد بن العباس وفي سنة ست وثلاثمائة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات بسبب شكوى الجند بمطله أرزاقهم، واعتذر بضيق الأموال للنفقة في حروب ابن أبي الساج، ونقص الارتياع بخروج الريّ عن ملكه. فشغب الجند وركبوا، وطلب ابن الفرات من الخليفة إطلاق مائتي ألف دينار من خاصته يستعين بها، فنكر ذلك عليه لأنه كان ضمن القيام بأرزاق الأحشاد وجميع النفقات المرتبة، فاحتجّ بنقص الارتياع وبالنفقة في الحرب كما تقدّم، فلم يقبل. ويقال سعى فيه عند المقتدر بأنه يروم إرسال الحسين بن حمدان إلى أبي الساج فيحاربه، وإذا سار عنده اتفقا على المقتدر، فقتل المقتدر ابن حمدان وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة، وكان حامد بن العبّاس على الأعمال بواسط، وكان منافرا لابن الفرات، وسعى به عنده بزيادة ارتياعه على ضمانه، فخشيه حامد على نفسه. وكتب إلى نصر الحاجب والي والده المقتدر سعة نفسه وكثرة أتباعه، وذلك عند استيحاشه من ابن الفرات، فاستقدمه من واسط، وقبض على ابن الفرات وابنه المحسن وأتباعهما، واستوزر حامدا فلم يوف حقوق الوزارة ولا سياستها، وتحاشى عليه الدواوين فأطلق المقتدر علي ابن عيسى وأقامه على الدواوين كالنائب عن حامد. فكان يزاحمه واستبدّ بالأمور دونه ولم يبق لحامد أمر عليه فأجابه ابن الفرات بأسفه منه وقال لشفيع اللؤلؤي: قل لأمير المؤمنين حامد إنما حمله على طلب الوزارة، أني طالبته بأكثر من ألفي ألف دينار من فضل ضمانه، فاستشاط حامد وزاد في السفه، فأنفذ المقتدر من ردّ ابن الفرات إلى محبسه، ثم صودر وضرب ابنه الحسن وأصحابه وأخذت منهم الأموال. ثم إنّ حامدا لما رأى استطالة علي بن عيسى عليه وكثرت تصرّفه في الوزارة دونه، ضمن للمقتدر أعمال الخوارج والضياع الخاصة والمستحدثة والقرارية، بسواد بغداد والكوفة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان، واستأذنه في الانحدار إلى واسط لاستخراج ذلك فانحدر واسم الوزارة له وأقام علي بن عيسى يدبّر الأمور، فأظهر حامد سوء تصرف في الأموال، وبسط المقتدر يده حتى خافه علي بن عيسى. ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 تحرّك السعر ببغداد فشغبت العامّة ونهبوا الغلال، لأنّ حامدا وغيره من القوّاد كانوا يخزنون الغلال. وأحضر حامد لمنعهم فحضر فقاتلوه، وفتقوا السجون ونهبوا دار الشرطة. وأنفذ المقتدر غريب الحال في العسكر، فسكن الفتنة وعاقب المتصدّين للشرّ، وأمر بفتح المخازن التي للحنطة وببيعها، فرخص السعر وسكن إلى منع الناس من بيع الغلال في البيادر وخزنها فرفع الضمان عن حامد، وصرف عمّاله عن السواد وردّ ذلك لعليّ بن عيسى وسكن الناس. وصول ابن المهدي وهو أبو القاسم إلى ابنه وفي سنة سبع وثلاثمائة بعث المهدي صاحب إفريقية أبا القاسم في العساكر إلى مصر فوصل إلى الإسكندرية في ربيع الآخر وملكها، ثم سار إلى مصر ونزل بالجيزة واستولى على الصعيد، وكتب إلى أهل مكة في طاعته فلم يجيبوا. وبعث المقتدر مؤنسا الخادم إلى مصر لمدافعته، فكانت بينهم حروب كثر فيها القتلى من الجانبين، وكان الظهور لمؤنس ولقّب يومئذ بالمظفّر. ووصل من إفريقية أسطول من ثمانين مركبا مددا للقائهم، وعليهم سليمان الخادم ويعقوب الكتاميّ، وأمر المقتدر بأن يسير إليهم أسطول طرسوس فسار في خمسة وعشرين مركبا وعليهم أبو اليمن، ومعهم العدد والأنفاط، فغلبوا أسطول إفريقية وأحرقوا أكثر مراكبه. وأسر سليمان الخادم ويعقوب الكتامي في جماعة قتل أكثرهم، وحبس سليمان بمصر، وحمل يعقوب إلى بغداد. ثم هرب وعاد إلى إفريقية وانقطع المدد عن عسكر المغاربة، فوقع الغلاء عندهم وكثر الموتان في الناس والخيل فارتحلوا راجعين إلى بلادهم وسار عساكر مصر في أثرهم حتى أبعدوا. بقية خبر ابن أبي الساج قد تقدّم لنا أنّ مؤنسا حارب يوسف بن أبي الساج عامل أذربيجان فأسره وحمله إلى بغداد فحبس بها، واستقرّ بعده في عمله سبك مولاه. ثم إنّ مؤنسا شفع فيه سنة عشر. فأطلقه المقتدر وخلع عليه ثم عقد له أذربيجان وعلى الريّ وقزوين أبهر وزنجان وعلى خمسمائة ألف دينار في كل سنة سوى أرزاق العساكر. وسار يوسف إلى أذربيجان ومعه وصيف البكتمري في العساكر، ومرّ بالموصل فنظر في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 أعمالها وأعمال ديار ربيعة. وقد كان المقتدر تقدّم إليه بذلك. ثم سار إلى أذربيجان وقد مات مولاه سبك، فاستولى عليها وسار سنة إحدى عشرة إلى الريّ وكان عليها أحمد بن علي أخو صعلوك، وقد اقتطعها كما قدّمنا، ثم انتقض على المقتدر وهادن ما كان بن كالي من قوّاد الديلم القائم بدعوة أولاد الأطروش في طبرستان وجرجان. فلما جاء يوسف إلى الريّ حاربه أحمد فقتله يوسف، وأنفذ رأسه إلى بغداد، واستولى على الريّ في ذي الحجة وأقام بها مدّة، ثم سار عنها إلى همذان فاتح ثلاث عشرة، واستخلف بها مولاه مفلحا وأخرجه أهل الريّ عنهم، فعاد يوسف إليهم في جمادى من سنته، واستولى عليها ثانية. ثم قلّده المقتدر سنة أربع عشرة نواحي المشرق وأذن له في صرف أموالها في قوّاده وأجناده وأمره بالمسير إلى واسط، ثم منها إلى هجر لمحاربة أبي طاهر القرمطيّ، فسار يوسف إلى طاهر وكان بها مؤنس المظفّر، فرجع إلى بغداد وجعل له أموال الخراج بنواحي همذان وساوة وقمّ وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة وماسبذان لينفقها في عسكره، ويستعين بها على حرب القرامطة، ولما سار من الريّ كتب المقتدر إلى السعيد نصر بن سامان بولاية الريّ وأمره بالمسير إليها وأخذها من فاتك مولى يوسف، فسار إليها فاتح أربع عشرة، فلما انتهى إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من العبور، وبذل له ثلاثين ألف دينار فترك سبيله وسار إلى الريّ فملكها من يد فاتك وأقام بها شهرين، وولّى عليها سيمجور الدواني [1] وعاد إلى بخارى. ثم استعمل على الريّ محمد بن أبي صعلوك فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة وأصابه مرض، وكان الحسن بن القاسم الداعي وما كان ابن كالي أميري الديلم في تسليم الريّ إليهما، فقدما وسار عنها ومات في طريقه، واستولى الداعي والديلم عليها. بقية الخبر عن وزراء المقتدر قد تقدّم الكلام في وزارة حامد بن العبّاس وأنّ عليّ بن عيسى كان مستبدّا عليه في وزارته، وكان كثيرا ما يطرح جانبه ويسيء في توقعاته [2] على عمّاله. وإذا اشتكى إليه أحد من نوّابه يوقّع على القصّة: إنما عقد الضمان على الحقوق الواجبة فليكفّ   [1] سيمجور الدواتي. [2] الصحيح: توقيعاته ج توقيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 الظلم عن الرعيّة. فأنف حامد من ذلك واستأذن في المسير إلى واسط للنظر في ضمانه، فأذن له ثم كثرت استغاثة الخدم والحاشية من تأخّر أرزاقهم وفسادها، فإنّ عليّ بن عيسى كان يؤخّرها وإذا اجتمعت عدّة شهور أسقطوا بعضها، وكثرت السعاية واستغاث العمّال وجميع أصحاب الأرزاق بأنه حطّ من أرزاقهم شهرين من كل سنة، فكثرت الفتنة على حامد، وكان الحسن ابن الوزير ابن الفرات متعلّقا بمفلح الأسود خالصة [1] الخليفة المقتدر وكان شقيقه لأبيه، وجرى بينه وبين حامد يوما كلام، فأساء عليه حامد وحقد له. وكتب ابن الفرات إلى المقتدر وضمن له أموالا فأطلقه واستوزره، وقبض على عليّ بن عيسى وحبسه في مكانه، وذلك سنة إحدى عشرة، وجاء حامد من واسط فبعث ابن الفرات من يقبض عليه، فهرب من طريقه واختفى ببغداد. ثم مضى إلى نصر بن الحاجب سرّا وسأل إيصاله إلى المقتدر، وأن يحبسه بدار الخلافة، ولا يمكّن ابن الفرات منه. فاستدعى نصر الحاجب مفلحا الخادم حتى وقفه على أمره وشفع له في رفع المؤاخذة بما كان منه، فمضى إلى المقتدر وفاوضه بما أحبّ، وأمر المقتدر بإسلامه [2] لابن الفرات فحبسه مدّة ثم أحضره وأحضر له القضاة والعمّال، وناظره فيما وصل إليه من الجهات فأقرّ بنحو ألف ألف دينار. وضمنه المحسن بن الفرات بخمسمائة ألف دينار فسلّم إليه وعذّبه أنواعا من العذاب، وبعثه إلى واسط ليبيع أمواله هناك فهلك في طريقه بإسهال أصابه. ثم صودر عليّ بن عيسى على ثلاثمائة ألف دينار وعذّبه المحسن بعد ذلك عليها فلم يستخرج منه شيئا وسيّره ابن الفرات أيام عطلته وحبسه بعد أن كان ربّاه وأحسن إليه، فقبض عليه مدّة ثم أطلقه، وقبض على ابن الجوزي وسلّمه إلى ابنه المحسن، فعذّبه ثم بعثه إلى الأهواز لاستخراج الأموال، فضربه الموكّل به حتى مات. وقبض أيضا على الحسين بن أحمد، وكان تولّى مصر والشام وعلى محمد بن علي المارداني وصادرهما على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وصادر جماعة من الكتّاب سواهم ونكبهم. وجاء مؤنس من غزاته فأنهى إليه أفعال ابن الفرات وما هو يعتمد من المصادرات والنكايات وتعذيب ابنه للناس، فخافه ابن الفرات وخوّف المقتدر منه. وأشار بسيره إلى الشام ليقيم هنالك بالثغر، فبعثه   [1] هي كلمة عامية بلغة أهل المغرب ومعناها الصديق الحميم. [2] الأصح ان يقول وتسليمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 المقتدر وأبعده. ثم سعى ابن الفرات بنصر الحاجب وأغراه به وأطمعه في ماله وكان مكثرا واستجار نصر بأمّ المقتدر. ثم كثر الإرجاف بابن الفرات، فخاف وانهى إلى المقتدر بأنّ الناس عادوه لنصحه للسلطان واستيفاء حقوقه، وركب هو وابنه المحسن إلى المقتدر فأوصلهما إليه وأسهمهما، وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب، ودخل مفلح على المقتدر وأشار إليه بعزله، فأسرّ إليه وفاقه على ذلك، وأمر بتخلية سبيلهما. واختفى المحسن من يومه. وجاء نازوك وبليق من الغد في جماعة من الجند إلى دار ابن الفرات فأخرجوه حافيا حاسرا، وحمل إلى مؤنس المظفّر ومعه هلال بن بدر، ثم سلّم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده وصودر على ألف ألف دينار، وذلك سنة اثنتي عشرة. وكان عبد الله أبو القاسم بن عليّ بن محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لما تغير حال ابن الفرات سعى في الوزارة، وضمن في ابن الفرات وأصحابه ألفي ألف دينار على يد مؤنس الخادم وهارون بن غريب الحال ونصر الحاجب، فاستوزره المقتدر على كراهية فيه، ومات أبوه عليّ على وزارته. وشفع إليه مؤنس الخادم في إعادة عليّ بن عيسى من صنعاء، فكتب له في العود وبمشارفة أعمال مصر والشام، وأقام المحسن بن الفرات مختفيا مدّة. ثم جاءت امرأة إلى دار المقتدر تنادي بالنصيحة، فأحضرها نصر الحاجب فدلّت على المحسن، فأحضره نازوك صاحب الشرطة، فسلّم للوزير وعذّب بأنواع العذاب، فلم يستخرج منه شيء فأمر المقتدر بحمله إلى أبيه بدار الخلافة، وجاء الوزير أبو القاسم الخاقاني إلى مؤنس وهارون ونصر فحذّرهم شأن ابن الفرات وغائلته بدار الخلافة، وأغراهم به، فوضعوا القوّاد والجند وقالوا: لا بدّ من قتل ابن الفرات وولده، ووافق هؤلاء على ذلك فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما. وجاء هارون إلى الوزير الخاقاني يهنّئه بذلك فأغمي عليه، ثم أفاق وأخذ منه ألفي دينار وشفع مؤنس المظفّر في ابنيه عبد الله وأبي نصر فأطلقهما ووصلهما بعشرين ألف دينار. ثم عزل الخاقاني سنة ثلاث عشرة لأنه أصابه المرض وطال به، وشغب الجند في طلب أرزاقهم فوقفت به الأحوال، وعزله المقتدر وولّى مكانه أبا العبّاس الخصيّ [1] وكان كاتبا لأمّه فقام بالأمر، وأقرّ علي بن عيسى على أعمال مصر والشام، فكان يتردّد إليهما من مكّة، ثم أنّ الخصي اضطربت أموره وضاقت الجباية، وكان مدمنا للسكر مهملا للأمور، ووكّل من يقوم عنه فآثروا مصالحهم   [1] الخصيبيّ: ابن الأثير ج 8 ص 163. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 وأضاعوا مصلحته. وأشار مؤنس المظفّر بعزله وولاية ابن عيسى، فعزل لسنة وشهرين. واستقدم عليّ بن عيسى من دمشق وأبو القاسم عبد الله بن محمد الكلواذي بالنيابة عنه إلى أن يحضر، فحضر أوّل سنة خمس عشرة واستقل بأمر الوزارة، وطلب كفالات المصادرين والعمّال، وما ضمن من الأموال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب، فاستحضرها شيئا بعد شيء وأدرّ الأرزاق وبسط العطاء وأسقط أرزاق المغنّين والمسامرة والندمان والصفاعنة، وأسقط من الجند أصاغر الأولاد ومن ليس له سلاح والهرمي والزمنى، وباشر الأمور بنفسه واستعمل الكفاة وطلب أبا العبّاس الخصي في المناظرة، وأحضر له الفقهاء والقضاة والكتاب، وسأله عن أموال الخوارج والنواحي والمصادرات وكفالاتها، وما حصل من ذلك وما الواصل والبواقي، فقال لا أعلم فسأله عن المال الّذي سلّمه لابن أبي الساج كيف سلّمه بلا مصرف ولا منفق، وكيف سلّم إليه أعمال المشرق، وكيف بعثه لبلاد الصحراء بهجر هو وأصحابه من أهل الغلول والخصب، فقال: ظننت منهم القدرة على ذلك. وامتنع ابن أبي الساج من المنفق فقال: وكيف استجزت ضرب حرم المصادرين؟ فسكت، ثم سئل عن الخراج فخلط فقال: أنت غررت أمير المؤمنين من نفسك فهلا استعذرت بعدم المعرفة. ثم أعيد إلى محبسه واستمرّ عليّ بن عيسى في ولايته. ثم اضطربت عليه الأحوال واختلفت الأعمال، ونقص الارتياع نقصا فاحشا، وزادت النفقات، وزاد المقتدر تلك الأيام في نفقات الخدم والحرم ما لا يحصى، وعاد الجند من الأنبار فزادهم في أرزاقهم مائتين وأربعين ألف دينار. فلمّا رأى ذلك عليّ بن عيسى ويئس من انقطاعه أو توقّفه، وخشي من نصر الحاجب، فقد كان انحرف عنه لميل مؤنس إليه وما بينهما من المنافرة في الدولة، فاستعفى من الوزارة وألحّ في ذلك وسكنه مؤنس فقال له: أنت سائر إلى الرقّة، وأخشى على نفسي بعدك. ثم فاوض المقتدر نصر الحاجب بعد مسير مؤنس فأشار بوزارة أبي عليّ ابن مقلة، فاستوزره المقتدر سنة ست عشرة وقبض على عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن، وأقام ابن مقلة بالوزارة وأعانه فيها أبو عبد الله البريدي لمودّة كانت بينهما واستمرّت حاله على ذلك. ثم عزله المقتدر ونكبه بعد سنتين وأربعة أشهر حين استوحش من مؤنس كما نذكره، وكان ابن مقلة متّهما بالميل إليه فاتّفق مغيبه في بعض الوجوه فيقبض عليه المقتدر. فلمّا جاء مؤنس سأل في إعادته فلم يجبه المقتدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 وأراد قتله فمنعه، واستوزر المقتدر سليمان بن الحسن وأمر عليّ بن عيسى بمشاركته في الاطلاع على الدواوين، وصودر ابن مقلة على مائتي ألف دينار، وأقام سليمان في وزارته سنة وشهرين وعليّ بن عيسى يشاركه في الدواوين، وضاقت عليه الأحوال إضاقة شديدة، وكثرت المطالبات ووقفت وظائف السلطان. ثم أفرد السواد بالولاية فانقطعت مواد الوزير لأنه كان يقيم من قبله من يشتري توقعات الأرزاق ممن لا يقدر على السعي في تحصيلها من العمّال والفقهاء وأرباب البيوت، فيشتريها بنصف المبلغ فتعرّض بعض من كان ينتمى لمفلح الخادم لتحصيل ذلك للخليفة، وتوسّط له مفلح فدافع لذلك وجاهر في تحصيله من العمّال، فاختلت الأحوال بذلك وفضح الديوان ودفعت الأحوال لقطع منافع الوزراء والعمّال التي كانوا يرتفقون بها، وإهمالهم أمور الناس بسبب ذلك. وعاد الخلل على الدولة وتحرّك المرشحون للوزارة في السعاية وضمان القيام بالوظائف وأرزاق الجند. وأشار مؤنس بوزارة أبي القاسم الكلواذي فاستوزره المقتدر في رجب من سنة تسع عشرة وأقام في وزارته شهرين. وكان ببغداد رجل من المخرّفين يسمّى الدانيالي، وكان ورّاقا ذكيا محتالا يكتب الخطوط في الورق ويداويها حتى تتمّ بالبلى. وقد أودعها ذكر من يراه من أهل الدولة برموز وإشارات، ويقسّم له فيها من حظوظ الملك والجاه والتمكين قسمة من عالم الغيب، يوهم أنها من الحدثان القديم المأثور عن دانيال وغيره، وأنها من الملاحم المتوارثة عن آبائه، ففعل مثل ذلك بمفلح. وكتب له في الأوراق م م م بأن يكون له كذا وكذا، وسأله مفلح عن الميم فقال: هو كناية عنك لأنك مفلح مولى المقتدر. وناسب بينه وبين علامات مذكورة في تلك الأوراق حتى طبّقها عليه، فشغف به مؤنس وأغناه. وكان يداخل الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب، فرمز اسمه في كتاب وذكر بعض علاماته المنطبقة عليه، وذكر أنه يستوزره الخليفة الثامن عشر من بني العبّاس، وتستقيم الأمور على يديه، ويقهر الأعادي وتعمر الدنيا في أيّامه وخلط ذلك في الكتاب بحدثان كثير وقع بعضه ولم يقع الآخر. وقرأ الكتاب على مفلح فأعجبه، وجاء بالكتاب إلى المقتدر فأعجب به الآخر، وقال لمفلح: من تعلم بهذه القصة؟ فقال لا أراه إلا الحسين بن القاسم. قال: صدقت وإني لأميل إليه، وقد كان المقتدر أراد ولايته قبل ابن مقلة وقبل الكلواذي، فامتنع مؤنس. ثم قال المقتدر لمفلح: إن جاءتك رقعة منه بالسعي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 الوزارة فأعرضها عليّ. ثم سأل مفلح الدانيالي من أين لك الكتاب؟ قال: وراثة من آبائي وهو من ملاحم دانيال. فأنهى ذلك إلى المقتدر واغتبطوا بالحسين وبلغ الخبر إليه، فكتب إلى مفلح بالسعي في الوزارة، فعرض كتابه على المقتدر فأمره بإصلاح مؤنس. واتفق أنّ الكلواذي عمل حسابا بما يحتاج إليه من النفقات الزائدة على الحاصل، فكاتب سبعمائة ألف دينار وكتب عليه أهل الديوان خطوطهم، وقال ليس لهذه جهة إلّا ما يطلقه أمير المؤمنين. فعظم ذلك على المقتدر، وأمر الحسين بن القاسم أن يضمن جميع النفقات وزيادة ألف ألف دينار لبيت المال. وعرض كتابه على الكلواذي فاستقال، وأذن للكلواذي لشهرين من وزارته، وولّى الحسين بن القاسم واشترط أن لا يشاركه عليّ بن عيسى في شيء من أموره، وإخراجه الصافية. واختصّ به الحسين بن اليزيدي وابن الفرات. ولمّا ولي واطلع على نقصان الارتياع وكثرة الإنفاق وضاق عليه الأمر فتعجّل الجباية المستقبلة، وصرفها في الماضية. وبلغ ذلك هارون بن غريب الحال فأنهاه إلى المقتدر، فرتّب معه الخصيّ واطلع على حسابه، فألقى له حسبة ليس فيها رمزه. فأظهر ذلك للمقتدر وجميع الكتّاب واطلعوا عليها وقابلوا الوزير بتصديق الخصيّ فيما قاله، وقبض على الحسين ابن القاسم في شهر ربيع من سنة عشرين لسبعة أشهر من ولايته. واستوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر وسلّم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءته ولم يزل على وزارته. أخبار القرامطة في البصرة والكوفة كان القرامطة قد استبدّ طائفة منهم بالبحرين وعليهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجناني [1] ، ورث ذلك عن أبيه واقتطعوا ذلك العمل بأسره عن الدولة، كما يذكر في أخبار دولتهم عند إفرادها بالذكر، فقصد أبو طاهر البصرة سنة إحدى عشرة ومائتين وبها سبط مفلح، فكبسها ليلا في ألفين وسبعمائة، وتسنّموا الأسوار بالجبال، وركب سبك فقتلوه ووضعوا السيف في الناس فأفحشوا في القتل وغرق كثير في الماء، وأقام أبو طاهر بها سبعة عشر يوما، وحمل ما قدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان وعاد إلى هجر. وولّى المقتدر على البصرة محمد بن عبد الله الفارقيّ فانحدر إليها بعد انصرافهم عنها. ثم سار أبو طاهر القرمطيّ سنة اثنتين عشرة   [1] الجنابي: ابن الأثير ج 8 ص 83. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 معترضا للحاج في رجوعهم من مكّة، فاعترض أوائلهم ونهبهم، وجاء الخبر إلى الحاج وهم بعيد، وقد فنيت أزوادهم وكان معهم أبو الهيجاء بن حمدان صاحب طريق الكوفة. ثم أغار عليهم أبو طاهر فأوقع بهم وأسر أبا الهيجاء أحمد بن بدر من أخوال المقتدر، ونهب الأمتعة وسبى النساء والصبيان، ورجع إلى هجر. وبقي الحجّاج ضاحين في القفر إلى أن هلكوا، ورجع كثير من الحرم إلى بغداد، وأشغبوا واجتمع معهم حرم المنكوبين أيام ابن الفرات، فكان ذلك من أسباب نكبته. ثم أطلق أبو طاهر الأسرى الذين عنده ابن حمدان وأصحابه، وأرسل إلى المقتدر يطلب البصرة والأهواز، فلم يجبه وسار من هجر لاعتراض الحاج، وقد سار بين أيديهم جعفر بن ورقاء الشيبانيّ في ألف رجل من قومه، وكان صاحب أعمال الكوفة وعلى الحاج بمثل صاحب البحر وجنا الصفواني وطريف اليشكريّ وغيرهم في ستة آلاف رجل، فقاتل جعفر الشيبانيّ أوّلا وهزمه. ثم اتبع الحاج إلى الكوفة فهزم عسكرهم وفتك فيهم، وأسرجنا الصفواني، وهرب الباقون. وملك الكوفة، وأقام بظاهرها ستة أيام يقيم في المسجد إلى الليل ويبيت في عسكره وحمل ما قدر عليه من الأموال والمتاع ورجع إلى هجر. ووصل المنهزمون إلى بغداد فتقدّم المقتدر إلى مؤنس بالخروج إلى الكوفة فسار إليها بعد خروجهم عنها، واستخلف عليها ياقوتا ومضى إلى واسط ليمانع أبا طاهر دونها، ولم يحج أحد هذه السنة وبعث المقتدر سنة أربع عشرة عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وسيّره إلى واسط لحرب أبي طاهر. ورجع مؤنس إلى بغداد وخرج أبو طاهر سنة خمس عشرة وقصد الكوفة، وجاء الخبر إلى ابن أبي الساج فخرج من واسط آخر رمضان يسابق أبا طاهر إليها، فسبقه أبو طاهر وهرب العمّال عنها واستولى على الأتراك والعلوفات التي أعدّت بها. ووصل ابن أبي الساج ثامن شوّال بعد وصول أبي طاهر بيوم وبعث يدعوه إلى الطاعة للمقتدر، فقال لا طاعة إلّا للَّه فآذنه بالحرب وتزاحفوا يوما إلى الليل. ثم انهزم أصحاب ابن أبي الساج وأسروا ووكّل أبو طاهر طبيبا يعالج جراحته، ووصل المنهزمون ببغداد فأرجفوا بالهرب، وبرز مؤنس المظفّر لقصد الكوفة. وقد سار القرامطة إلى عين التمر فبعث مؤنس من بغداد خمسمائة سرية ليمنعهم من عبور الفرات. ثم قصد القرامطة الأنبار ونزلوا غربي الفرات، وجاءوا بالسفن من الحديثة، فأجاز فيها ثلاثمائة منهم، وقاتلوا عسكر الخليفة فهزموهم واستولوا على مدينة الأنبار. وجاء الخبر إلى بغداد فخرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 الحاجب في العساكر ولحق بمؤنس المظفّر واجتمعوا في نيف وأربعين ألف مقاتل إلى عسكر القرامطة ليخلّصوا ابن أبي الساج فقاتلهم القرامطة وهزموهم. وكان أبو طاهر قد نظر إلى ابن أبي الساج وهو يستشرف إلى الخلاص، وأصحابه يشيرونه، فأحضره وقتله وقتل جميع الأسرى من أصحابه، وكثر الهرج ببغداد واتّخذوا السفن بالانحدار إلى واسط ومنهم من نقل متاعه إلى حلوان. وكان نازوك صاحب الشرطة فأكثر التطواف بالليل والنهار، وقتل بعض الدعّار فأقصروا عن [1] ثم سار القرامطة عن الأنبار فاتحة سنة ست عشرة ورجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو طاهر إلى الرحبة فملكها واستباحها، واستأمن إليه أهل قرقيسيا فأمّنهم، وبعث السرايا إلى الأعراب بالجزيرة فنهبوهم وهربوا بين يديه، وقدّر إليهم الإتاوة في كل سنة يحملونها إلى هجر. ثم سار أبو طاهر إلى الرقّة وقاتلها ثلاثا، وبعث السرايا إلى رأس عين، وكفرتوثا وسنجار فاستأمنوا إليهم، وخرج مؤنس المظفّر من بغداد في العسكر وقصد الرقّة، فسار أبو طاهر عنها إلى الرحبة ووصلها مؤنس، وسار القرامطة إلى هيت، فامتنعت عليهم فساروا إلى الكوفة. وخرج من بغداد نصر الحاجب وهارون بن غريب وبنّيّ بن قيس في العساكر إليها، ووصلت جند القرامطة إلى قصر ابن هبيرة. ثم مرض نصر الحاجب واستخلف على عسكره أحمد بن كيغلغ، وعاد فمات في طريقه، وولّى مكانه على عسكره هارون بن غريب، وولّى مكانه في الحجة ابنه أحمد. ثم انصرف القرامطة إلى بلادهم ورجع هارون إلى بغداد في شوّال من السنة. ثم اجتمع بالسواد جماعات من أهل هذا المذهب بواسط وعين التمر، وولّى كل جماعة عليهم رجلا منهم، فولى جماعة واسط حريث بن مسعود، وجماعة عين التمر عيسى بن موسى وسار إلى الكوفة ونزل بظاهرها وصرف العمّال عن السواد، وجبى الخراج. وسار حريث إلى أعمال الموفّق وبنى بها دارا سمّاها دار الهجرة، واستولى على تلك الناحية. وكان صاحب الحرب بواسط بني بن قيس فهزموه، فبعث إليه المقتدر هارون بن غريب في العساكر، وإلى قرامطة الكوفة صافيا البصريّ، فهزموهم من كل جانب وجاءوا بأعلامهم بيضاء عليها مكتوب: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ 28: 5 الآية، وأدخلت إلى بغداد منكوسة، واضمحلّ أمر القرامطة بالسواد.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 173: «وسلمت بغداد من نهب العيّارين، لأن نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلا ونهارا، ومن وجدوه بعد العتمة قتلوه فامتنع العيّارون ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 استيلاء القرامطة على مكة وقلعهم الحجر الأسود ثم سار أبو طاهر القرمطي سنة تسع عشرة إلى مكّة وحج بالناس منصور الديلميّ، فلما كان يوم التروية، ونهب أبو طاهر أموال الحجّاج وفتك فيهم بالقتل حتى في المسجد والكعبة، واقتلع الحجر الأسود وحمله إلى هجر، وخرج إليه أبو مخلب [1] أمير مكة في جماعة من الأشراف، وسألوه فلم يسعفهم، وقاتلوه فقتلهم وقلع باب البيت، وأصعد رجلا يقتلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في زمزم ودفن الباقين في المسجد حيث قتلوا، ولم يغسلوا ولا صلى عليهم ولا كفّنوا. وقسّم كسوة البيت على أصحابه ونهب بيوت أهل مكّة. وبلغ الخبر إلى المهدي عبيد الله بإفريقية وكانوا يظهرون الدعاء له، فكتب إليه بالنكير واللعن ويتهدّده على الحجر الأسود، فردّه وما أمكنه من أموال الناس واعتذر عن بقية ما أخذوه بافتراقه في الناس. خلع المقتدر وعوده كان من أوّل الأسباب الداعية لذلك أنّ فتنة وقعت بين ماجوريه هارون الحال ونازوك صاحب الشرطة [2] في بعض مذاهب الفواحش، فحبس نازوك ماجوريه هارون، وجاء أصحابه إلى محبس الشرطة ووثبوا بنائبه وأخذوا أصحابهم من الحبس. ورفع نازوك الأمر إلى المقتدر فلم يعد أحدا منهما لمكانهما منه، فعاد الأمر بينهما إلى المقاتلة وبعث المقتدر إليهما بالنكير فأقصرا، واستوحش هارون، وخرج بأصحابه ونزل البستان النجمي وبعث إليه المقتدر يسترضيه، فأرجف الناس أنّ المقتدر جعله أمير الأمراء، فشقّ ذلك على أصحاب مؤنس، وكان بالرقّة فكتبوا إليه فأسرع العود إلى بغداد ونزل بالشّمّاسيّة مستوحشا من المقتدر ولم يلقه، وبعث ابنه أبا العبّاس ووزيره ابن مقلة لتلقّيه وإيناسه فلم يقبل، وتمكّنت الوحشة وأسكن المقتدر ابن خاله هارون معه في داره فازداد نفور مؤنس. وجاء أبو العبّاس بن حمدان من بلاده في عسكر كبير، فنزل عند مؤنس وتردّد الأمراء بين المقتدر ومؤنس، وسار إليه نازوك صاحب   [1] ابن محلب: ابن الأثير ج 8 ص 207. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 200: «وكان سبب ذلك ما ذكرنا في السنة التي قبلها (ص 187) من استيحاش مؤنس ونزوله بالشّمّاسيّة وخرج إليه نازوك صاحب الشرطة» والفتنة حصلت بين نازوك صاحب الشرطة وهارون بن غريب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 الشرطة، وجاءه بنّيّ بن قيس، وكان المقتدر قد أخذ منه الدّينور وأعادها إليه مؤنس، واشتمل عليه. وجمع المقتدر في داره هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجال المصافيّة، ثم انتقض أصحاب المقتدر وجاءوا إلى مؤنس وذلك في فتح سنة سبع عشرة. فكتب مؤنس إلى المقتدر بأنّ الناس ينكرون سرفه فيما أقطع الحرم والخدم من الأموال والضياع ورجوعه إليهم في تدبير ملكه، ويطالبه بإخراجهم من الدار وإخراج هارون بن غريب معهم، وانتزاع ما في أيديهم من الأموال والأملاك. فأجاب المقتدر إلى ذلك، وكتب يستعطفه ويذكّره البيعة ويخوّفه عاقبة النكث، وأخرج هارون إلى الثغور الشامية والجزريّة، فسكن مؤنس ودخل إلى بغداد ومعه ابن حمدان ونازوك والناس يرجفون بأنه خلع المقتدر. فلمّا كان عشر محرّم من هذه السنة، ركب مؤنس إلى باب الشمّاسيّة وتشاور مع أصحابه قليلا، ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم، وكان المقتدر قد صرف أحمد بن نصر القسوري عن الحجابة وقلّدها ياقوتا وكان على حرب فارس، فاستخلف مكانه ابنه أبا الفتح المظفّر. فلما جاء مؤنس إلى الدار هرب ابن ياقوت وسائر الحجبة والخدم والوزير وكل من بالدار، ودخل مؤنس فأخرج المقتدر وأمّه وولده وخواصّ جواريه، فنقلهم إلى داره واعتقلهم بها، وبلغ الخبر هارون بن غريب بقطربّل فدخل إلى بغداد واستتر، ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد، وبايعوه ولقّبوه القاهر باللَّه. وأحضروا القاضي أبا عمر المالكي عند المقتدر للشهادة عليه بالخلع، وقام ابن حمدان يتأسّف له ويبكي ويقول: كنت أخشى عليك مثل هذا ونصحتك فلم تقبل، وآثرت قول الخدم والنساء على قولي، ومع هذا فنحن عبيدك وخدمك، وأودع كتاب الخلع عند القاضي أبي عمر ولم يظهر عليه أحدا حتى سلّمه إلى المقتدر بعد عوده، فحسن موقع ذلك منه وولّاه القضاء. ولما تمّ الخلع عمد مؤنس، إلى دار الخليفة فنهبها ومضى ابن نفيس إلى تربة أمّ المقتدر فاستخرج من بعض قبورها ستمائة ألف دينار وحملها إلى القاهر، وأخرج مؤنس عليّ ابن عيسى الوزير من الحبس وولّى عليّ بن مقلة الوزارة، وأضاف إلى نازوك الحجابة مع الشرطة، وأقطع ابن حمدان حلوان والدّينور وهمذان وكرمان والصيمرة ونهوند وشيراز وماسبذان مضافا إلى ما بيده من أعمال طريق خراسان، وكان ذلك منتصف المحرّم. ولما تقلّد نازوك الحجابة أمر الرجّالة بتقويض خيامهم من الدار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 وأدالهم ابن جالة من أصحابه فأسفهم بذلك وتقدّموا إلى خلفاء الحجاب بأن يمنعوا الناس من الدخول إلا أصحاب المراتب فاضطربت الحجرية لذلك [1] . فلما كان سابع عشر المحرّم وهو يوم الإثنين بكّر الناس إلى الخليفة لحضور الموكب وامتلأت الرحاب وشاطئ دجلة بالناس، وجاء الرجّالة المصافيّة شاكي السلاح يطالبون بحق البيعة ورزق سنة، وقد بلغ منهم الحنق على نازوك مبالغه، وقعد مؤنس عن الحضور ذلك اليوم، وزعق الرجّالة المصافيّة فنهى نازوك أصحابه أن يعرضوا لهم، فزاد شغبهم وهجموا على الصحن المنيعي، ودخل معهم من كان على الشطّ من العامة بالسلاح، والقاهر جالس وعنده عليّ بن مقلة الوزير ونازوك، فقال لنازوك أخرج إليهم فسكّنهم! فخرج وهو متحامل من الخمار فتقدّم إلى الرجّالة للشكوى بحالهم ورأى السيوف في أيديهم فهرب، فحدث لهم الطمع فيه وفي الدولة، واتّبعوه فقتلوه وخادمه عجيفا ونادوا بشعار المقتدر. وهرب كل من في الديار من سائر الطبقات وصلبوا نازوك وعجيفا على شاطئ دجلة. ثم ساروا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر، وأغلق الخادم أبواب دار الخليفة، وكانوا كلّهم صنائع المقتدر، وقصد أبو الهيجاء حمدان الفرات فتعلق به القاهر واستقدم به، فقال له: أخرج معي إلى عشيرتي أقتل دونك! فوجد الأبواب مغلقة فقال له ابن حمدان: قف حتى أعود إليك ونزع ثيابه ولبس بعض الخلقان، وجاء إلى الباب فوجده مغلقا والناس من ورائه، فرجع إلى القاهر وتمالأ بعض الخدّام على قتله، فقاتلهم حتى كشفهم، ودخل في بعض مسارب البستان فجاءوه إليهم فقتلوه وحملوا رأسه. وانتهى الرّجالة إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر فسلّمه إليهم وحملوه على رقابهم إلى دار الخلافة، فلما توسّط الصحن المنيعي اطمأنّ وسأل عن أخيه القاهر وابن حمدان وكتب لهما الأمان بخطّه، وبعث فيهما فقيل له إنّ ابن حمدان قد قتل، فعظم عليه وقال: والله ما كان أحمد بسيف في هذه الأيام غيره، وأحضر القاهر فاستدناه وقبّل رأسه وقال له: لا ذنب لك ولو لقّبوك المقهور لكان أولى من القاهر! وهو يبكي ويتطارح عليه حتى حلف له على الأمان، فانبسط وسكن. وطيف برأس نازوك وابن حمدان،   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 202: «ولمّا تقلّد نازوك حجبة الخليفة أمر الرجّالة المصافية بقلع خيامهم من دار الخليفة، وأمر رجاله وأصحابه أن يقيموا بمكان المصافيّة، فعظم ذلك عليهم، وتقدّم إلى خلفاء الحجاب ان لا يمكنوا أحدا من الدخول إلى دار الخليفة، إلا من له مرتبة، فاضطربت الحجبة من ذلك» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 وخرج أبو نفيس هاربا من مكان استتاره إلى الموصل، ثم إلى أرمينية، ولحق بالقسطنطينية فتنصّر، وهرب أبو السرايا أخو أبي الهيجاء إلى الموصل، وأعاد المقتدر أبا عليّ بن مقلة إلى الوزارة، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم. وبيع ما في الخزائن بأرخص الأثمان وأذن في بيع الأملاك لتتمة الأعطيات، وأعاد مؤنسا إلى محلّه من تدبير الدولة والتعويل عليه في أموره. ويقال إنه كان مقاطعا للمقتدر وإنه الّذي دسّ إلى المصافيّة والحجرية بما فعلوه، ولذلك قعد عن الحضور إلى القاهر. ثم إن المقتدر حبس أخاه القاهر عند أمّه فبالغت في الإحسان إليه والتوسعة عليه في النفقة والسراري. أخبار قوّاد الديلم وتغلبهم على أعمال الخليفة قد تقدّم لنا الخبر عن الديلم في غير موضع من الكتاب، وخبر افتتاح بلادهم بالجبال والأمصار التي تليها، مثل طبرستان وجرجان وسارية وآمد وأستراباذ، وخبر إسلامهم على يد الأطروش، وأنّه جمعهم وملك بهم بلاد طبرستان سنة إحدى وثلاثمائة، وملك من بعده أولاده والحسن بن القاسم الداعي صهره، واستعمل منهم القوّاد على ثغورها فكان منهم ليلى بن النعمان، كانت إليه ولاية جرجان عن الحسن ابن القاسم الداعي سنة ثمان ثلاثين. وكانت بين بني سامان وبين بني الأطروش والحسن بن القاسم الداعي وقوّاد الديلم حروب هلك فيها ليلى بن النعمان سنة تسع وثلاثمائة، لأنّ أمر الخلفاء كان قد انقطع عن خراسان، وولّوها لبني سامان فكانت بسبب ذلك بينهم وبين أهل طبرستان من الحروب ما أشرنا إليه. ثم كانت بعد ذلك حرب مع بني سامان فولّاها من قوّاد الديلم شرخاب بن بهبودان وهو ابن عم ما كان ابن كالي وصاحب جيش أبي الحسن الأطروش، وقاتله سيمجور صاحب جيش بني سامان، فهزمه وهلك شرخاب، وولّى ابن الأطروش ما كان بن كالي على أستراباذ، فاجتمع إليه الديلم وقدّموه على أنفسهم، واستولى على جرجان كما يذكر ذلك كله في أخبار العلويّة. وكان من أصحاب ما كان هذا أسفار ابن شيرويه من قوّاد الديلم عن ما كان إلى قوّاد بني سامان. فاتصل ببكر بن محمد بن أليسع بنيسابور، وبعثه في الجنود لافتتاح جرجان، وبها أبو الحسن بن كالي نائبا عن أخيه ما كان وهو بطبرستان. فقتل أبو الحسن وقام بأمر جرجان عليّ بن خرشيد. ودعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 أسفار بن شيرويه إلى حمايتها من ما كان، فزحف إليهم من طبرستان فهزموه وغلبوه عليها ونصبوا أبا الحسن وعليّ بن خرشيد. فزحف ما كان إلى أسفار وهزمه وغلبه على طبرستان، ورجع إلى بكر بن محمد بن أليسع بجرجان. ثم توفي بكر سنة خمس عشرة، فولّى نصر بن أحمد بن سامان أسفار بن شيرويه مكانه على جرجان، وبعث أسفار عن مرداويج بن زيار الجبليّ وقدّمه على جيشه، وقصدوا طبرستان فملكوها. وكان الحسن بن القاسم الداعي قد استولى على الريّ وأعمالها من يد نصر بن سامان، ومعه قائده ما كان بن كالي. فلمّا غلب أسفار على طبرستان زحف إليه الداعي وقائده ما كان فانهزما وقتل الداعي ورجع ما كان إلى الريّ، واستولى أسفار ابن شيرويه على طبرستان وجرجان، ودعا النصر بن أحمد بن سامان، ونزل سارية واستعمل على آمد هارون بن بهرام. ثم سار أسفار إلى الريّ، فأخذها من يد ما كان ابن كالي وسار ما كان إلى طبرستان واستولى أسفار على سائر أعمال الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ، وعظمت جيوشه وحدّثته نفسه بالملك، فانتقض على نصر بن سامان صاحب خراسان، واعتزم على حربه وحرب الخليفة. وبعث المقتدر هارون بن غريب الحال في عسكر إلى قزوين، فحاربه أسفار وهزمه وقتل كثيرا من أصحابه. ثم زحف إليه نصر بن سامان من بخارى فراسله في الصلح وضمان أموال الجباية، فأجابه وولّاه ورجع إلى بخارى، فعظم أمر أسفار وكثر عيثه وعسف جنده، وكان قائده مرداويج من أكبر قوّاده قد بعثه أسفار إلى سلار صاحب سميرم، والطرم يدعوه إلى طاعته. فاتفق مع سلار على الوثوب بأسفار، وقد باطن في ذلك جماعة من قوّاد أسفار ووزيره محمد بن مطرف الجرجاني. ونمي الخبر إلى أسفار وثار به الجند، فهرب إلى بيهق. وجاء مرداويج من قزوين إلى الريّ، وكتب إلى ما كان بن كالي يستدعيه من طبرستان ليظاهره على أسفار، فقصد ما كان أسفار، فهرب أسفار إلى الريّ ليتّصل بأهله وماله، وقد كان أنزلهم بقلعة المرت. وركب المفازة إليها، ونمي الخبر إلى مرداويج فسار لاعتراضه وقدّم بعض قوّاده أمامه فلحقه القائد وجاء به إلى مرداويج فقتله ورجع إلى الريّ ثم إلى قزوين، وتمكن في الملك وافتتح البلاد وأخذ همذان والدّينور وقمّ وقاشان وأصبهان، وأساء السيرة في أهل أصبهان وصنع سريرا من ذهب لجلوسه. فلما قوي أمره نازع ما كان في طبرستان فغلبه عليها ثم سار إلى جرجان فملكها وعاد إلى أصبهان ظافرا. وسار ما كان على الديلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 مستنجدا بأبي الفضل الثائر بها، وسار معه إلى طبرستان فقاتلهم عاملها من قبل مرداويج بالقسم بن بايحين وهزمهم، ورجع الثائر إلى الديلم وسار ما كان إلى نيسابور، ثم سار إلى الدامغان فصدّه عنها القسم فعاد إلى خراسان. وعظم أمر مرداويج واستولى على بلد الريّ والجبل واجتمع إليه الديلم وكثرت جموعه وعظم خرجه. فلم يكف ما في يده من الأعمال فسما إلى التغلّب على النواحي، فبعث إلى همذان الجيوش مع ابن أخته، وكانت بها عساكر الخليفة مع محمد بن خلف، فحاربهم وهزمهم وقتل ابن أخت مرداويج. فسار من الريّ إلى همذان وهرب عسكر الخليفة عنها وملكها مرداويج عنوة واستباحها. ثم أمّن بقيتهم. وأنفذ المقتدر هارون بن غريب الحال في العساكر فلقيه مرداويج وهزمهم واستولى على بلاد الجبل وما وراء همذان، وبعث قائده إلى الدينور ففتحها عنوة، وانتهت عساكره إلى حلوان فقتل وسبى. وسار هارون إلى قرقيسيا فأقام بها واستمدّ المقتدر وكان معه اليشكريّ من قوّاد أسفار، وكان قد استأمن بعد أسفار إلى الخليفة وسار في جملته. وجاء مع هارون في هذه الغزاة إلى نهاوند لحمل المال إليه منها. فلمّا دخلها استمدّت [1] عينه إلى ثروة أهلها، فصادرهم على ثلاثة آلاف ألف دينار، واستخرجها في مدّة أسبوع، وجنّد بها جندا ومضى إلى أصبهان، وبها يومئذ ابن كيغلغ قبل استيلاء مرداويج عليها، فقاتله أحمد وانهزم وملك اليشكري أصبهان، ودخل إليها أصحابه، وقام بظاهرها. وسار أحمد بن كيغلغ في ثلاثين فارسا إلى بعض قرى أصبهان وركب اليشكري ليتطوّف على السور، فنظر إليهم فسار نحوهم فقاتلوه، وضربه أحمد بن كيغلغ على رأسه بالسيف فقدّ المغفر وتجاوزه إلى دماغه فسقط ميتا. وقصد أحمد المدينة ففرّ أصحاب اليشكري، ودخل أحمد إلى أصبهان وذلك قبل استيلاء عسكر مرداويج عليها، فاستولى عليها وجدّدوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجليّ وبساتينه، وجاء مرداويج في أربعين أو خمسين ألفا، فنزلها وبعث جمعا إلى الأهواز فاستولوا عليها، وعلى خوزستان كذلك، وجبى أموالها وقسّم الكثير منها في أصحابه، وادّخر الباقي وبعث إلى المقتدر يطلب ولاية هذه الأعمال وإضافة همذان وماه الكوفة إليها على مائتي ألف دينار في كل سنة، فأجابه وقاطعه وولّاه وذلك سنة تسع عشرة. ثم دعا مرداويج   [1] الأصح ان يقول: امتدت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 سنة عشرين أخاه وشكمير من بلاد كيلان، فجاء إليه بدويا حافيا بما كان يعاني من أحوال البداوة والتبذّل في المعاش ينكر كل ما يراه من أحوال الترف ورقة العيش. ثم صار إلى ترف الملك وأحوال الرئاسة فرقت حاشيته وعظم ترفهه. وأصبح من عظماء الملوك وأعرفهم بالتدبير والسياسة. ابتداء حال أبي عبد الله البريدي كان بداية أمره عاملا على الأهواز وضبط ابن ماكر لأن هذا الاسم بالموحدة والراء المهملة نسبة إلى البريد. وضبطه ابن مسكويه بالياء المثناة التحتانيّة والزاي نسبة إلى يزيد بن عبد الله بن المنصور الحميريّ، كان جدّه يخدمه ولما ولي عليّ بن عيسى الوزارة واستعمل العمّال، وكان أبو عبد الله قد ضمن الخاصة بالأهواز وأخوه أبو يوسف على سوق فائق من الاقتصارية وأخوه علي هذا. فلما وزر أبو علي بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على أن يقلّده أعمالا فائقة، فقلّده الأهواز جميعها غير السوس وجنا سابور [1] وقلّد أخاه أبا الحسن القرانية [2] وأخاهما أبا يوسف الخاصة والأسافل، وضمن المال أبا يوسف السمسار، وجعل الحسين بن محمد المارداني مشرفا على أبي عبد الله، فلم يلتفت إليه. وكتب إليه الوزير بن مقلة بالقبض على بعض العمّال ومصادرته، فأخذ منه عشرة آلاف دينار واستأثر بها على الوزير، فلما نكب ابن مقلة كتب المقتدر بخطّه إلى الحاجب أحمد بن نصر القسوري بالقبض على أولاد البريدي، وأن لا يطلقهم إلا بكتابه، فقبض عليهم وجاء أبو عبد الله بكتاب المقتدر بخطّه بإطلاقهم وظهر تزويره فأحضرهم إلى بغداد وصودروا على أربعمائة ألف دينار فأعطوها. الصوائف أيام المقتدر ساره مؤنس المظفّر سنة ست وتسعين في العساكر من بغداد إلى الفرات، ودخل من ناحية ملطية ومعه أبو الأغرّ السلميّ، فظفر وغنم وأسر جماعة، وفي سنة سبع وتسعين بعث المقتدر أبا القاسم بن سيما لغزو الصائفة سنة ثمان وتسعين. وفي سنة تسع وتسعين غزا بالصائفة رستم أمير الثغور، ودخل من ناحية طرسوس ومعه دميانة،   [1] هي جنديسابور. [2] الفراتية: ابن الأثير ج 8 ص 185. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وحاصر حصن مليح الأرمني ففتحه وأحرقه. وفي سنة ثلاثمائة مات إسكندروس بن لاور ملك الروم، وملك بعده ابنه قسطنطين ابن اثنتي عشرة سنة. وفي سنة اثنتين وثلاثمائة سار عليّ بن عيسى الوزير في ألف فارس لغزو الصائفة مددا لبسر الخادم عامل طرسوس، ولم يتيسر لهم الدخول في المصيف، فدخلوا شاتية في كلب البرد وشدّته، وغنموا وسبوا. وفي سنة اثنتين وثلاثمائة غزا بسر الخادم والي طرسوس بلاد الروم، ففتح وغنم وسبى وأسر مائة وخمسين. وكان السبي نحوا من ألفي رأس. وفي سنة ثلاث وثلاثمائة أغارت الروم على ثغور الجزيرة ونهبوا حصن منصور وسبوا أهله بتشاغل عسكر الجزيرة بطلب الحسين بن حمدان مع مؤنس، حتى قبض عليه كما مرّ. وفي هذه السنة خرج الروم إلى ناحية طرسوس والفرات فقاتلوا وقتلوا نحوا من ستمائة فارس، وجاء مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في نواحيها، ولم يكن للمسلمين في هذه السنة صائفة. وفي سنة أربع بعدها سار مؤنس المظفّر بالصائفة ومرّ بالموصل فقلّد سبكا المفلحيّ باريدى وقردى من أعمال الفرات، وقلّد عثمان العبودي مدينة بلد وسنجار ووصيفا البكتمري باقي بلاد ربيعة، وسار إلى ملطية فدخل منها وكتب إلى أبي القاسم عليّ بن أحمد بن بسطام أن يدخل من طرسوس في أهلها، ففتح مؤنس حصونا كثيرة وغنم وسبى ورجع إلى بغداد فأكرمه المعتضد وخلع عليه. وفي سنة خمس وثلاثمائة وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر في المهادنة والفداء، فتلقيا بالإكرام وجلس لهما الوزير في الابهة، وصفّ الأجناد بالسلاح العظيم الشأن والزينة الكاملة، فأدّيا إليه الرسالة وأدخلهما من الغد على المقتدر وقد احتفل في الأبهة ما شاء، فأجابهما إلى ما طلب ملكهم. وبعث مؤنسا الخادم للفداء، وجعله أميرا على كل بلد يدخله إلى أن ينصرف. وأطلق الأرزاق الواسعة لمن سار معه من الجنود، وأنفذ معه مائة وعشرين ألف دينار للفدية. وفيها غزا الصائفة جنا الصفواني فغنم وغزا وسيّر نمالي الخادم في الأسطول فغنم. وفي السنة بعدها غزا نمالي في البحر كذلك، وجنا الصفواني فظفر وفتح وعاد وغزا بشر الأفشين بلاد الروم، ففتح عدّة حصون وغنم وسبى. وفي سنة سبع غزا نمالي في البحر فلقي مراكب المهدي صاحب إفريقية فغلبهم وقتل جماعة منهم، وأسر خادما للمهدي. وفي سنة عشرة وثلاثمائة غزا محمد بن نصر الحاجب من الموصل على قاليقلا، فأصاب من الروم، وسار أهل طرسوس من ملطية فظفروا واستباحوا وعادوا. وفي سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 إحدى عشرة غزا مؤنس المظفّر بلاد الروم فغنم وفتح حصونا، وغزا نمالي في البحر فغنم ألف رأس من السبي وثمانية آلاف من الظهر ومائة ألف من الغنم وشيئا كثيرا من الذهب والفضّة. وفي سنة اثني عشرة جاء رسول ملك الروم بالهدايا ومعه أبو عمر بن عبد الباقي يطلبان الهدنة وتقرير الفداء، فأجيبا إلى ذلك. ثم غدروا بالصائفة فدخل المسلمون بلاد الروم فأثخنوا ورجعوا. وفي سنة أربع عشرة خرجت الروم إلى ملطية ونواحيها مع الدمستق ومليح الأرمني صاحب الدروب وحاصروا ملطية وهربوا إلى بغداد واستغاثوا، فلم يغاثوا. وغزا أهل طرسوس بالصائفة فغنموا ورجعوا. وفي سنة خمس عشرة دخلت سرية من طرسوس إلى بلاد الروم فأوقع بهم الروم وقتلوا أربعمائة رجل صبرا، وجاء الدمستق في عساكر من الروم إلى مدينة دبيل، وبها نصر السبكي فحاصرها وضيّق مخنقها واشتدّ في قتالها حتى نقب سورها، ودخل الروم إليها ودفعهم المسلمون فأخرجوهم وقتلوا منهم بعد أن غنموا ما لا يحصى وعاثوا في أنعامهم، فغنموا من الغنم ثلاثمائة ألف رأس فأكلوها. وكان رجل من رؤساء الأكراد يعرف بالضحّاك في حصن له يعرف بالجعبريّ فتنصّر وخدم ملك الروم، فلقيه المسلمون في سنة الغزاة فأسروه وقتلوا من معه. وفي سنة ست عشرة وثلاثمائة خرج الدمستق في عساكر الروم فحاصر خلاط وملكها صلحا، وجعل الصليب في جامعها، ورحل إلى تدنيس ففعل بها كذلك، وهرب أهل أردن إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا. وفيها ظهر أهل ملطية على سبعمائة رجل من الروم والأرمن، دخلوا بلدهم خفية وقدّمهم مليح الأرمني ليكونوا لهم عونا إذا حاصروها، فقتلهم أهل ملطية عن آخرهم. وفي سنة سبع عشرة بعث أهل الثغور الجزرية مثل ملطية وفارقين وآمد وأرزا يستمدّون المقتدر في العساكر وإلّا فيعطوا الإتاوة للروم فلم يمدّهم، فصالحوا الروم وملكوا البلاد. وفيها دخل مفلح الساجيّ بلاد الروم. وفي سنة عشرين غزا نمالي بلاد الروم من طرسوس ولقي الروم فهزمهم وقتل منهم ثلاثمائة وأسر ثلاثة آلاف، وغنم من الفضّة والذهب شيئا كثيرا وعاد بالصائفة في سنته في حشد كثير، وبلغ عمّوريّة فهرب عنها من كان تجمّع إليها من الروم، ودخلها المسلمون فوجدوا من الأمتعة والأطعمة كثيرا، فغنموا وأحرقوا وتوغّلوا في بلاد الروم يقتلون ويكتسحون ويخرّبون حتى بلغوا انكمورية التي مصّرها أهله وعادوا سالمين. وبلغت قيمة السبي مائة ألف وستة وثلاثين ألف دينار. وفي هذه السنة راسل ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 الزيداني وغيره من الأرمن في نواحي أرمينية وحثّوا الروم على قصد بلاد الإسلام، فساروا وخرّبوا نواحي خلاط وقتلوا وأسروا فسار إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج من أذربيجان في جموع من الجند والمتطوّعة، فأثخن في بلاد الروم حتى يقال إنّ القتلى بلغوا مائة ألف، وخرّب بلاد ابن الزيداني ومن وافقه، وقتل ونهب. ثم جاءت الروم إلى سميساط فحصروها وأمدّهم سعيد بن حمدان، وكان المقتدر ولّاه الموصل وديار ربيعة على أن يسترجع ملطية من الروم. فلما جاء رسول أهل سميساط إليهم فأجفل الروم عنها فسار إلى ملطية وبها عساكر الروم ومليح الأرمني صاحب الثغور الروميّة، وبنّيّ بن قيس صاحب المقتدر الّذي تنصّر. فلما أحسوا بإقبال سعيد هربوا وتركوها خشية أن يثب بهم أهلها وملكها سعيد فاستخلف عليها وعاد إلى الموصل. الولايات على النواحي أيام المقتدر كان بأصبهان عبد الله بن إبراهيم المسمعي عاملا عليها، خالف الأوّل ولاية المقتدر وجمع من الأكراد عشرة آلاف، وأمر المقتدر بدرا الحمامي عامل أصبهان بالمسير إليه. فسار إليه في خمسة آلاف من الجند وأرسل من يخوّفه عاقبة المعصية، فراجع الطاعة وسار إلى بغداد واستخلف على أصبهان. وكان على اليمن المظفّر بن هاج. ففتح ما كان غلب عليه الحرثي باليمن وأخذ الحلتمي من أصحابه. وكان على الموصل أبو الهيجاء بن حمدان، وسار أخوه الحسين بن حمدان وأوقع بأعراب كلب وطيِّئ، وأسر سنة أربع وتسعين. ثم سار إلى الأكراد المتغلّبين على نواحي الموصل سنة خمس وتسعين فاستباحهم وهربوا إلى رءوس الجبال. وخرج بالحاج في سنة أربع وتسعين وصيف بن سوارتكين فحصره أعراب طيِّئ بالقتال وأوقعهم فهزمهم، ومضى إلى وجهه. ثم أوقع بهم هنالك الحسن بن موسى فأثخن فيهم. وكان على فارس سنة ست وتسعين اليشكري [1] غلام عمرو بن الليث، فلمّا تغلّب وكان على الثغور الشامية أحمد بن كيغلغ في سنة سبع وتسعين ملك الليث فارس من يد اليشكري، ثم جاءه مؤنس فغلبه وأسره ورجع اليشكري إلى عمله كما مرّ في خبره. وفي سنة ست وتسعين وصل ناسر موسى بن سامان وقلد ديار ربيعة وقد مرّ ذكره.   [1] سبكرى: ابن الأثير ج 8 ص 56. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 وفيها رجع الحسين بن حمدان من الخلاف وعقد له على قمّ وقاشان، فسار إليها ونزل عنها العبّاس بن عمر الغنويّ. وفي سنة سبع وتسعين توفي عيسى النوشري عامل مصر وولّى المقتدر مكانه تكين الخادم. وفي سنة ثمان وتسعين توفي منيح خادم الأفشين وهو عامل فارس وكان معه محمد بن جعفر الفريابيّ فماتا معا. وولي على فارس عبد الله بن إبراهيم المسمعي وأضيفت إليه كرمان وفيها وليت أمّ موسى الهاشمية قهرمة دار المقتدر وكانت تؤدّي الرسائل عن المقتدر وأمّه إلى الوزراء وعن الوزراء إليهما. وفي سنة تسع وتسعين كان على البصرة محمد بن إسحاق بن كنداج وجاء إليه القرامطة فقاتلهم فهربوا. وفي سنة ثلاثمائة عزل عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن فارس وكرمان ونقل إليها بدر الحمامي عامل أصبهان، وولّى على أصبهان عليّ بن وهشودان وفيها ولّى بشير الأفشين [1] طرسوس وفيها قلّد أبو العبّاس بن المقتدر مصر والمغرب وهو ابن أربع سنين، واستخلف له على مصر مؤنس المظفّر وقلّد معين الطولوني المعونة بالموصل، ثم عزل واستعمل مكانه نحرير الصغير. وفيها خالف أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بالموصل فسار إليه مؤنس وجاء به على الأمان، ثم قلّد الموصل سنة اثنتين وثلاثمائة فاستخلف عليها وهو ببغداد. ثم خالف أخوه الحسين سنة ثلاثمائة وسار إليه مؤنس وجاء به أسيرا فحبس وقبض المقتدر على أبي الهيجاء وإخوته جميعا فحبسوا. وفيها ولي الحسين بن محمد بن عينونة عامل الخراج والضياع بديار ربيعة بعد وفاة أبيه محمد بن أبي بكر. وفي سنة أربع عزل عليّ بن وهشودان صاحب الحرب بأصبهان بمنافرة وقعت بينه وبين أحمد بن شاه صاحب الخراج، وولّى مكانه أحمد ابن مسرور البلخي. وأقام ابن وهشودان بنواحي الجبل. ثم تغلّب يوسف بن أبي الساج عليها كما مرّ. وسار إليه مؤنس سنة سبع فهزمه وأسره، وولّى على أصبهان وقمّ وقاشان وساوة أحمد بن علي بن صعلوك، وعلى الريّ ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان عليّ بن وهشودان استدعاه من الجبل فولّاه، ووثب به عمه أحمد بن مسافر صاحب الكرم فقتله بقزوين. فاستعمل مكانه على الحرب وصيفا البكتمري، وعلى الخراج محمد بن سليمان. ثم سار أحمد بن صعلوك إليها فقتل محمد بن سليمان وطرد وصيفا، ثم قاطع على الأعمال بمال معلوم كما مرّ. وكان على أعمال سجستان كثيّر بن أحمد مهقور متغلّبا عليها، فسار إليه أبو الحمامي عامل فارس، فخافه كثير وقاطع   [1] بشر الأفشيني: ابن الأثير ج 8 ص 74. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 على البلاد وعقد له عليها. وكان على كرمان سنة أربع وثلاثمائة أبو زيد خالد بن محمد المارداني، فانتقض وسار إلى شيراز فقاتله بدر الحمامي وقتله. وفي هذه السنة قلّد مؤنس المظفّر عند مسيره إلى الصائفة وانتهائه إلى الموصل، فولّوا على بلد باريدى وقردى سبكا المفلحيّ وعلى مدينة بلد وسنجار وباكرى عثمان العبودي صاحب الحرب بديار مصر، فولّى مكانه وصيف البكتمري فعجز عن القيام بها، فعزل وولّى مكانه جنا الصفواني. وكان على البصرة في هذه السنة الحسن بن الخليل، تولّاها منذ سنين ووقعت فتن بينه وبين العامّة من مضر وربيعة، واتّصلت وقتل منهم خلق. ثم اضطرّوه إلى الالتحاق بواسط فاستعمل عليها أبا دلف هاشم بن محمد الخزاعي، ثم عزل لسنة وولّى سبكا المفلحيّ نيابة عن شفيع المقتدري. وفي سنة ست وثلاثمائة عزل عن الشرطة نزار وجعل فيها نجيح الطولوني، فأقام في الأرباع فقهاء يعمل أهل الشرطة بفتواهم، فضعفت الهيبة بذلك، وكثر اللصوص والعيّارون، وكبست دور التجّار واختطفت ثياب الناس. وفي سنة سبع وثلاثمائة ولي إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وولّي بنّيّ بن قيس بلاد شهرزور، واتسعت عليه فاستمدّ المقتدر وحاصرها. ثم قلّد الحرب بالموصل وأعمالها، وكان على الموصل قبله محمد بن إسحاق بن كنداج، وكان قد سار لإصلاح البلاد فوقعت فتنة بالموصل فرجع إليها فمنعوه الدخول فحاصرهم. وعزله المقتدر سنة ثلاث وثلاثمائة وولّى مكانه عبد الله بن محمد الغسّاني. وفي سنة ثمان وثلاثمائة ولّى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على طريق خراسان والدرّنور، وفيها ولي على دقوقا وعكبرا وطريق الموصل بدرا الشرابي. وفي سنة تسع ولّى المقتدر على حرب المصول ومعونتها محمد بن نصر الحاجب، فسار إليها وأوقع بالمخالفين من الأكراد المادرانية. وفيها ولّى داود بن حمدان على ديار ربيعة. وفي سنة عشر عقد ليوسف بن أبي الساج على الريّ وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان على تقدير العلوية كما مرّ. وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة لأنها كانت كثيرة المال، وزوّجت بنت أختها من بعض ولد المتوكّل، كان مرشّحا للخلافة، وكان محسنا فلما صاهرته أوسعت في الشوار [1] واليسار والعرس، وسعى بها إلى المقتدر أنها استخلصت القوّاد فقبض عليها وصادرها على أموال عظيمة وجواهر نفيسة. وفيها قتل خليفة نصر بن محمد الحاجب بالموصل، قتله العامّة فجهّز العساكر من بغداد،   [1] جهاز العروس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 وسار إليها. وفي سنة إحدى عشرة ملك يوسف بن أبي الساج الريّ من يد أحمد بن علي صعلوك، وقتله المقتدر وقد مرّ خبره. وفيها ولّى المقتدر بنّيّ بن قيس على حرب أصبهان، وولّى محمد بن بدر المعتضدي على فارس مكان ابنه بدر عند ما هلك. وفي سنة اثنتي عشرة ولّى على أصبهان يحيى الطولوني، وعلى المعاون والحرب بنهاوند سعيد بن حمدان. وفيها توفي محمد بن نصر الحاجب صاحب الموصل وتوفي شفيع اللؤلؤي صاحب البريد، فولي مكانه شفيع المقتدري. وفي سنة ثلاث عشرة فتح إبراهيم المسمعي [1] عامل فارس ناحية القفص من حدود كرمان، وأسر منهم خمسة آلاف، وكان في هذه السنة ولي على الموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وابنه ناصر الدولة خليفة فيها، فأفسد الأكراد والعرب بأرض الموصل وطريق خراسان وكانت إليه، فكتب إليه ابنه ناصر الدولة سنة أربع عشرة بالانحدار إلى تكريت للقائه، فجاءه في الحشد وأوقع بالعرب والأكراد الخلالية وحسم علّتهم. وفيها قلّد المقتدر يوسف بن أبي الساج أعمال الشرق وعزله عن أذربيجان وولّاه واسط، وأمدّه بالسير إليها لحرب القرامطة، وأقطعه همذان وساوة وقمّ وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة وماسبذان للنفقة في الحرب، وجعل على الريّ من أعماله نصر بن سامان، فوليها وصار من عمّاله كما مرّ. وفيها ولي أعمال الجزيرة والضياع بالموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأضيف إليه باريدى وقردى وما إليهما. وفيها قتل ابن أبي الساج كما مرّ. وفي سنة خمس عشرة مات إبراهيم المسمعي بالنوبندجان، وولّى المقتدر على مكانه ياقوت، وعلى كرمان أبا طاهر محمد بن عبد الصمد. وفي سنة ست عشرة عزل أحمد بن نصر القسوري عن حجبة الخليفة ووليها ياقوت وهو على الحرب بفارس واستخلف عليها ابنه أبا الفتح المظفّر. وفيها ولي على الموصل وأعمالها يونس المؤنسيّ، وكان على الحرب بالموصل ابن عبد الله بن حمدان، وهو ناصر الدولة فغضب وعاد إلى الخلافة. وقتل في تلك الفتنة نازوك، وأقرّ على أعمال قردى وباريدى التي كانت بيد أبي الهيجاء ابنه ناصر الدولة الحسن، وعلى أعمال الموصل نحريرا الصغير. ثم ولّى عليها سعيدا ونصرا ابني حمدان، وهما أخوا أبي الهيجاء. وولّى ناصر الدولة على ديار ربيعة ونصّيبين وسنجار والخابور ورأس عين وميافارقين من ديار بكر وأرزن على مقاطعة معلومة. وفي سنة ثمان عشرة صرف ابنا رائق عن الشرطة، ووليها أبو بكر محمد بن ياقوت عن الحجبة وقلّد أعمال فارس وكرمان. وقلّد   [1] هو عبد الله بن إبراهيم المسمعي كما في الكامل ج 8 ص 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 ابنه المظفّر أصبهان وابنه أبا بكر محمدا سجستان وجعل مكان ياقوت وولده في الحجبة والشرطة إبراهيم ومحمد ابنا رائق، فأقام ياقوت بشيراز وكان عليّ بن خلف بن طيّان على الخوارج، فتعاقدا على قطع الحمل عن المقتدر إلى أن ملك عليّ بن بويه بلاد فارس سنة ثلاث وعشرين. وفي هذه السنة غلب مرداويج على أصبهان وهمذان والريّ وحلوان، وقاطع عليها بمال معلوم وصارت في ولايته. استيحاش مؤنس من المقتدر الثانية ومسيره إلى الموصل كان الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب وزيرا للمقتدر، وكان مؤنس منحرفا عنه قبل الوزارة حتى أصلح بليق حاله عند مؤنس، فوزر واختص به بنو البريدي وابن الفرات. ثم بلغ مؤنسا أن الحسين قد واطأ جماعة من القوّاد في التدبير عليه، فتنكّر له مؤنس وضاقت الدنيا على الحسين وبلغه أنّ مؤنسا يكبسه، فانتقل إلى الخلافة وكتب الحسين إلى هارون بن غريب الحال يستقدمه، وكان مقيما بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويج، وكتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه من الأهواز فاستوحش مؤنس. ثم جمع الحسين الرجال والغلمان الحجرية في دار الخلافة، وأنفق فيهم فعظمت نفرة مؤنس، وقدم هارون من الأهواز فخرج مؤنس مغاضبا للمقتدر وقصد الموصل، وكتب الحسين إلى القوّاد الذين معه بالرجوع فرجع منهم جماعة، وسار مؤنس في أصحابه ومواليه ومعه من الساجية ثمانمائة من رجالهم، وتقدّم الوزير بقبض أملاكه وأملاك من معه وأقطاعهم فحصل منه مال كثير، واغتبط المقتدر به لذلك ولقّبه عميد الدولة ورسم اسمه في السكّة وأطلق يده في الولاية والعزل، فولّى على البصرة وأعمالها أبا يوسف يعقوب بن محمد البريدي على مبلغ ضمنه، وكتب إلى سعيد وداود ابني حمدان وابن أخيهما ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بمحاربة مؤنس، فاجتمعوا على حربه إلّا داود فإنّه توقف لإحسان مؤنس إليه وتربيته إياه. ثم غلبوا عليه فوافقهم على حربه، وجمع مؤنس في طريقه رؤساء العرب وأوهمهم أنّ الخليفة ولّاه الموصل وديار ربيعة، فنفر معه بعضهم واجتمع له من العسكر ثمانمائة وزحف إليه بنو حمدان في ثلاثين ألفا فهزمهم وملك مؤنس الموصل في صفر من سنة عشرين، وجاءته العساكر من بغداد والشام ومصر رغبة في إحسانه. وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى خدمته وأقام معه بالموصل ولحق سعيد ببغداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 مقتل المقتدر وبيعة القاهر ولما ملك مؤنس الموصل أقام بها تسعة واجتمعت العساكر فانحدر إلى بغداد لقتال المقتدر، وبعث المقتدر الجنود مع أبي محمد بن ياقوت وسعيد بن حمدان، فرجع عنهم العسكر إلى بغداد ورجعوا وجاء مؤنس فنزل بباب الشمّاسيّة والقوّاد قبالته، وندب المقتدر ابن خاله هارون بن غريب إلى الخوارج لقتاله، فاعتذر ثم خرج، وطالبوا المقتدر بالمال لنفقات الجند فاعتذر وأراد أن ينحدر إلى واسط ويستدعي العساكر من البصرة والأهواز وفارس وكرمان، فردّه ابن ياقوت عن ذلك وأخرجه للحرب وبين يديه الفقهاء والقوّاد والمصاحف مشهورة وعليه البردة والناس يحدّقون به، فانهزم أصحابه ولقيه عليّ بن بليق من أصحاب مؤنس، فعظمه وأشار عليه بالرجوع ولحقه قوم من المغاربة والبربر فقتلوه وحملوا رأسه وتركوه بالعراء، فدفن هنالك. ويقال إنّ عليّ بن بليق أشار إليهم بقتله. ولما رأى مؤنس ذلك ندم وسقط في يده وقال: والله لنقتلنّ جميعا، وتقدّم إلى الشمّاسيّة وبعث من يحتاط على دار الخلافة وكان ذلك لخمس وعشرين سنة من خلافة المقتدر. فاتسع الخرق وطمع أهل القاصية في الاستبداد وكان مهملا لأمور خلافته محكّما للنساء والخدم في دولته مبذرا لأمواله. ولما قتل لحق ابنه عبد الواحد بالمدائن ومعه هارون بن غريب الحال ومحمد بن ياقوت وإبراهيم بن رائق. ثم اعتزم مؤنس على البيعة لولده أبي العبّاس وكان صغيرا، فعذله وزيره أبو يعقوب إسماعيل النويحي في ولاية صغير في حجر أمّه وأشار بأخيه أبي منصور محمد بن المعتضد، فأجاب مؤنس إلى ذلك على كره، وأحضر وبويع آخر شوّال من سنة عشرين، ولقّبوه القاهر باللَّه. واستحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق وابنه عليّ، واستقدم أبا عليّ بن مقلة من فارس فاستوزره، واستحجب عليّ بن بليق. ثم قبض على أمّ المقتدر وضربها على الأموال فحلفت فأمرها بحل أوقافها فامتنعت، فأحضر هو القضاة وأشهد بحل أوقافها ووكّل في بيعها، فاشتراها الجند من أرزاقهم، وصادر جميع حاشية المقتدر، واشتدّ في البحث عن ولده وكبس عليهم المنازل إلى أن ظفر بأبي العبّاس الراضي وجماعة من إخوته وصادرهم وسلّمهم عليّ بن بليق إلى كاتبه الحسين بن هارون، فأحسن صحبتهم وقبض الوزير ابن مقلة على البريدي واخوته وأصحابه وصادرهم على جملة من المال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 خبر ابن المقتدر وأصحابه قد ذكرنا أنّ عبد الواحد بن المقتدر لحق بعد مقتل أبيه بالمدائن، ومعه هارون بن غريب الحال ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق. ثم انحدروا منها إلى واسط وأقاموا بها، وخشيهم القاهر على أمره واستأمن هارون بن غريب على أن يبذل ثلاثمائة ألف دينار وتطلق له أملاكه، فأمّنه القاهر ومؤنس وكتب له بذلك وعقد له على أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهروبان، وسار إلى بغداد وسار عبد الواحد بن المقتدر فيمن معه من واسط، ثم إلى السوس وسوق الأهواز، وطردوا العمّال وجبوا الأموال. وبعث مؤنس إليهم بليقا في العساكر وبذل أبو عبد الله البريدي في ولاية الأهواز خمسين ألف دينار فأنفقت في العساكر. وسار معهم وانتهوا إلى واسط ثم إلى السوس، فجاز عبد الواحد ومن معه من الأهواز إلى تستر، ثم فارقه جميع القوّاد واستأمنوا إلى بليق إلا ابن ياقوت ومفلحا ومسرورا الخادم، وكان محمد بن ياقوت مستبدّا على جميعهم في الأموال والتصرّف، فنفروا لذلك واستأمنوا لأنفسهم ولابن المقتدر إلى بليق، فأمّنهم بعد أن استأمنوا محمد بن ياقوت وأذن لهم، ثم استأمن هو على بليق إلى أمان القاهر ومؤنس، وساروا إلى بغداد جميعهم فوفّى لهم القاهر وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لأمّه المصادرة التي صاردها، واستولى أبو عبد الله البريدي على أعمال فارس وأعاد إخوته إلى أعمالهم. مقتل مؤنس وبليق وابنه لما رجع محمد بن ياقوت من الأهواز واستخلصه القاهر واختصه لخلواته وشواره، وكانت بينه وبين الوزير ابن عليّ بن مقلة عداوة، فاستوحش لذلك ودسّ إلى مؤنس أنّ محمد بن ياقوت يسعى به عند القاهر، وأنّ عيسى الطبيب سفيره في ذلك، فبعث مؤنس عليّ بن بليق لإحضار عيسى، وتقدّم عليّ بن بليق بالاحتياط على القاهر، فوكّل به أحمد بن زيرك وضيّق على القاهر وكشف وجوه النساء المختلفات إلى القصر خشية إيصالهم الرقاع إلى القاهر حتى كشفت أواني الطعام، ونقل بليق المحابيس من دار الخلافة إلى داره وفيهم أمّ المقتدر فأكرمها عليّ بن بليق وأنزلهم عند أمّه فماتت في جمادى من سنة إحدى وعشرين. وعلم القاهر أنّ ذلك من مؤنس وابن مقلة فشرع في التدبير عليهم وكان طريف السبكري ونشرى من خدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 مؤنس قد استوحشا من مؤنس لتقدّم بليق وابنه عليهما. وكان اعتماد مؤنس على الساجيّة وقد جاءوا معه من الموصل ولم يوف لهم فاستوحشوا لذلك، فداخلهم القاهر جميعا وأغراهم بمؤنس وبليق، وبعث إلى أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله وكان مختصا بابن مقلة وصاحب رأيه، فوعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار. وشعر ابن مقلة بذلك فأبلغوا إلى مؤنس وبليق، وأجمعوا على خلع القاهر، واتفق بليق وابنه عليّ وابن مقلة والحسن بن هارون على البيعة لأبي أحمد بن المكتفي فبايعوه، وحلفوا له وأطلعوا مؤنسا على ذلك، فأشار بالمهل وتأنيس القاهر حتى يعرفوا من واطأه من القوّاد والساجيّة [1] والحجرية فأبوا وهوّنوا عليه الأمر في استعجال خلفه فأذن لهم، فأشاعوا أن أبا طاهر القرمطيّ ورد الكوفة، وندبوا عليّ بن بليق للمسير إليه ليدخل للوداع ويقبض على القاهر وابن مقلة كان نائما فلما استيقظ أعاد الكتاب إلى القاهر فاستراب. ثم جاءه طريف السيكري [2] غلام مؤنس في زي امرأة مستنصحا، فأحضره وأطلعه على تدبيرهم وبيعتهم لأبي أحمد بن المكتفي فأخذ القاهر حذره، وأكمن الساجيّة في دهاليز القصر وممرّاته، وجاء عليّ بن بليق في خف من أصحابه، واستأذن فلم يؤذن له، وكان ذا خمار فغضب وأفحش في القول فأخرج الساجيّة في السلاح وشتموه وردّوه، وفرّ عنه أصحابه وألقى بنفسه في الطيار وعبر إلى الجانب الغربي. واختفى الوزير ابن مقلة والحسن بن هارون، وركب طريف إلى دار القاهر، فأنكر بليق ما جرى لابنه وشتم الساجيّة وقال: لا بدّ أن أستعدي الخليفة عليهم، وجاء إلى القاهر ومعه قوّاد مؤنس، فلم يأذن له وقبض عليه وحبسه، وعلى أحمد بن زيرك صاحب الشرطة، وجاء العسكر منكرين لذلك فاسترضاهم ووعدهم بالزيارة وبإطلاق هؤلاء المحبوسين فافترقوا، وبعث إلى مؤنس بالحضور عنده ليطالعه برأيه فأبى فعزله، وولّى طريف السيكرى مكانه وأعطاه خاتمه وقال: قد فوّضت إلى ابني عبد الصمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمد، وقلّدتك خلافته ورياسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان مؤنس وأمض إليه وأحمله إلى دار الخلافة مرفّها عليه لئلا يجتمع إليه أهل الشرّ ويفسد ما بيننا   [1] الساجية أو الساجة فرقة من عسكر الخلافة مسماة بهذا الاسم على ما هو اصطلاح الملوك في تلقيب كل جماعة من العسكر تمييزا لهم عمن عداهم أهـ. من خط الشيخ العطّار. [2] طريف السكريّ وقد مرّ ذكره من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 وبينه، فسار طريف إلى مؤنس وأخبره بأمان القاهر له ولأصحابه، وحمله على الحضور عنده وهوّن عليه أمره، وأنّ القاهر لا يقدر على مكروهة. فركب وحضر فقبض عليه القاهر وحبسه قبل أن يراه، وندم طريف على ما فعل واستوحش. واستوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله، ووكّل بدور مؤنس وبليق وابنه عليّ وابن مقلة وابن زيرك وابن هارون ونقل ما فيها، وأحرقت دار ابن مقلة، وجاء محمد بن ياقوت وقام بالحجبة، فتنكّر له طريف السيكري والساجيّة فاختفى ولحق بابنه بفارس، وكتب إليه القاهر بالعتب على ذلك وولّاه الأهواز، وكان الّذي دعا طريفا السيكري إلى الانحراف عن مؤنس وبليق أن مؤنسا رفع رتبة بليق وابنه عليه بعد أن كانا يخدمانه، فأهملا جانبه. ثم اعتزم بليق على أن يولّيه مصر وفاوض في ذلك الوزير ابن مقلة، فوافق عليه. ثم أراد عليّ بن بليق عمل مصر لنفسه، ومنع من إرسال طريف فتربّص بهم. وأما الساجيّة فكانوا مع مؤنس بالموصل وكان يعدهم ويمنّيهم. ولما ولي القاهر واستبدّ بأمره لم يف لهم. وكان من أعيانهم الخادم صندل، وكان له بدار القاهر خادم اسمه مؤتمن باعه واتصل بالقاهر قبل الخلافة، فاستخلفه، فلمّا شرع في التدبير على مؤنس وبليق بعث مؤنسا هذا إلى صندل يمتّ إليه تقديمه ويدخله في أمر القاهر وإزالة الحجر عنه. فقصد إلى صندل وزوجته وتلطّف ووصف القاهر بما شاء من محاسن الأخلاق، وحمل زوجته على الدخول إلى دار القاهر حتى شافهها بما أراد إبلاغه إلى صندل، وداخل صندل في ذلك سيما من قوّاد الساجيّة، واتفقوا على مداخلة طريف السيكري في ذلك لعلمهم باستيحاشه من مؤنس، فأجابهم على شريطة الإبقاء على مؤنس وبليق وابنه، وأن لا يزال مؤنس من مرتبته وتحالفوا على ذلك من الجانبين. وطلب طريف عهد القاهر بخطّه، فكتب وزاد فيه أنه يصلّي بالناس ويخطب لهم ويحج بهم ويغزو معهم ويتّئد لكشف المظالم وغير ذلك من حسن السيرة، وكان جماعة من الحجرية قد أبعدهم ابن بليق وأدال منهم بأصحابه، فداخلهم طريف في أمر القاهر فأجابوه، ونمي الخبر بذلك إلى ابن مقلة وإلى بليق، وأرادوا القبض على قوّاد الساجيّة والحجرية. ثم خشوا الفتنة ودبّروا على القاهر فلم يصلوا إليه لاحتجابه عنهم بالمرض. فوضعوا أخبار القرامطة كما قدّمناه. ولمّا قبض القاهر على مؤنس ولّى الحجابة سلامة الطولوني. وعلى الشرطة أحمد بن خاقان، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله مكان ابن مقلة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 وأمر بالنداء على المتسترين والوعيد لمن أخفى، وطلب أبا أحمد بن المكتفي فظفر به، وبنى عليه حائطا فمات. ثم ظفر بعليّ فقتله. ثم شغب الجند في شعبان ومعهم أصحاب مؤنس، وثاروا ونادوا بشعاره، وطلبوا إطلاقه وأحرقوا روشن دار الوزير أبي جعفر. فعمد القاهر إلى بليق في محبسه وأمر به فذبح وحمل الرأسين إلى مؤنس، فلما رآهما مؤنس استرجع ولعن قاتلهما فأمر به فذبح وطيف بالرءوس. ثم أودعت بالخزانة. وقيل إن قتل عليّ بن بليق تأخّر عن قتل أبيه ومؤنس لأنه كان مختفيا، فلمّا ظفر به بعدهما قتله. ثم بعث القاهر إلى أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل اليوصحي فأخذ من محبس الوزير محمد بن القاسم وحبسه، وارتاب الناس من شدّة القاهر، وندم الساجيّة والحجريّة على مداخلته في ذلك الأمر. ثم قبض القاهر على وزيره أبي جعفر وأولاده وأخيه عبيد الله وخدمه لثلاثة أشهر ونصف من ولايته، ومات لثمان عشرة ليلة من حبسه، واستوزر مكانه أبا العبّاس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الحصيبي. ثم استبدّ القاهر على طريف السيكري واستخف به، فخافه وتنكّر. ثم أحضره بعد أن قبض على الوزير أبي جعفر فقبض عليه وأودعه السجن إلى أن خلع القاهر. ابتداء دولة بني بويه كان أبوهم أبو شجاع بويه من رجالات الديلم، وكان له أولاد: علي والحسن وأحمد، فعلي أبو الحسن عماد الدولة، والحسن أبو علي ركن الدولة، وأحمد أبو الحسن معزّ الدولة. ونسبهم ابن ماكولا في الساسانية إلى بهرام جور بن يزدجرد، وابن مسكويه إلى يزدجرد بن شهريار، وهو نسب مدخول، لأنّ الرئاسة على قوم لا تكون في غير أهل بلدهم كما ذكرنا في مقدّمة الكتاب. ولما أسلم الديلم على يد الأطروش وملك بهم طبرستان وجرجان، وكان من قوّاده ما كان بن كالي وليلى بن النعمان وأسفار بن شيرويه ومرداويج بن وزيار، وكانوا ملوكا عظاما وازدحموا في طبرستان، فساروا لملك الأرض عند اختلاط الدولة العبّاسية وضعفها، وقصدوا الاستيلاء على الأعمال والأطراف. وكان بنو بويه من جملة قوّاد ما كان بن كالي. فلمّا وقع بينه وبين مرداويج من الفتنة والخلاف ما تقدّم، وغلبه مرداويج على طبرستان وجرجان عادوا إلى مرداويج لتخفّ عنه مؤنتهم على أن يرجعوا إليه إذا صلح أمره، فساروا إلى مرداويج فقبلهم وأكرمهم، واستأمن إليه جماعة من قوّاد ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 كان فقتلهم وأولادهم. وولّى عليّ بن بويه على الكرج، وكان أكبر إخوته. وسار جميعهم إلى الريّ وعليها وشمكير بن وزيار أخو مرداويج ومعه وزيره الحسين بن محمد الملقّب بالعميد، فاتّصل به عليّ بن بويه وأهدى إليه بغلة كانت عنده ومتاعا، وندم مرداويج على ولاية هؤلاء المستأمنة من قوّاد ما كان، فكتب إلى أخيه وشمكير بالقبض على الباقين، وأراد أن يبعث في أثر عليّ بن بويه فخشي الفتنة تركه. ولمّا وصل عليّ بن بويه إلى الكرج استقام أمره وفتح قلاعا للخرمية ظفر منها بذخائر كثيرة، واستمال الرجال وعظم أمره، وأحبه الناس، ومرداويج يومئذ بطبرستان. ثم عاد إلى الريّ وأطلق مالا لجماعة من القوّاد على الكرج فوصلوا إلى عليّ ابن بويه فأحسن إليهم واستمالهم، وبعث إليهم مرداويج فدافعه فندم على إطلاقهم، وبعث فيهم مرداويج أمراء الكرج فاستأمن إليه شيرزاد من أعيان قوّاد الديلم. فقويت نفسه وسار إلى أصبهان وبها المظفّر بن ياقوت على الحرب في عشرة آلاف مقاتل، وأبو عليّ بن رستم على الخوارج، فأرسل عليّ بن بويه يستعطفهما في الانحياز إلى طاعة الخليفة وخدمته، والمسير إلى الحضرة فلم يجيباه. وكان أبو عليّ أشدّ كراهة له فمات تلك الأيام. وسار ابن ياقوت ثلاثة فراسخ عن أصبهان، وكان في أصحابه حسل وديلم، واستأمنوا إلى ابن بويه، ثم اقتتلوا فانهزم ابن ياقوت واستولى عليّ بن بويه على أصبهان، وهو عماد الدولة، وكان عسكره نحوا من تسعمائة، وعسكر ابن ياقوت نحوا من عشرة آلاف. وبلغ ذلك القاهر فاستعظمه وبلغ مرداويج فأقلقه وخاف على ما بيده، وبعث إلى عماد الدولة يخادعه يطلب الطاعة منه ليطمئن للرسالة، ويخالفه أخوه وشمكير في العساكر. وشعر ابن بويه بذلك فرحل عن أصبهان وقصد أرجان وبها أبو بكر بن ياقوت، فانهزم أبو بكر من غير قتال ولحق برامهرمز. واستولى ابن بويه على أرجان وخالفه وشمكير أخو مرداويج إلى أصبهان فملكها، وأرسل القاهر إلى مرداويج بأن يسلّم أصبهان لمحمد بن ياقوت ففعل. وكتب أبو طالب يستدعيه ويهوّن عليه أمر ابن ياقوت ويغريه به، فخشي ابن بويه من كثرة عساكر ياقوت وأمواله، وأن يحصل بينه وبين ابنه تأهبات فتوقف، فأعاد عليه أبو طالب وأراه أن مرداويج طلب الصلح من ابن ياقوت وخوّفه اجتماعهما عليه. فسار ابن بويه إلى أرجان في ربيع سنة إحدى وعشرين، ولقيتهم هنالك مقدّمة ابن ياقوت فانهزمت، فزحف ابن ياقوت إليهم وبعث عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 كازرون وغيرها من أعمال فارس، فجبى أموالها ولقي عسكر ابن ياقوت هنالك فهزمهم ورجع إلى أخيه، وخشي عماد الدولة من اتفاق مرداويج مع ابن ياقوت فسار إلى إصطخر، واتّبعه ابن ياقوت وشيعه إلى قنطرة بطريق كرمان اضطرّوا إلى الحرب عليها. فتزاحفوا هنالك واستأمن بعض قوّاده إلى ابن ياقوت فقتلهم، فاستأمن أصحابه وانهزم ابن ياقوت واتّبعه ابن بويه واستباح معسكره، وذلك في جمادى سنة اثنتين وعشرين. وأبلى أخوه معزّ الدولة أحمد في ذلك اليوم بلاء حسنا، ولحق ابن ياقوت بواسط، وسار عماد الدولة إلى شيراز فملكها وأمّن الناس واستولى على بلاد فارس، وطلب الجند، أرزاقهم فعجز عنها وعثر على صناديق [1] من مخلّف ابن ياقوت وذخائر بني الصفّار فيها خمسمائة ألف دينار فامتلأت خزائنه وثبت ملكه. واستقرّ ابن ياقوت بواسط وكاتبه أبو عبد الله اليزيدي [2] حتى قتل مرداويج عاد إلى الأهواز ووصل عسكر مكرم، وكانت عساكر ابن بويه سبقته فالتقوا بنواحي أرّجان وانهزم ابن ياقوت فأرسل أبو عبد الله اليزيدي في الصلح فأجابه ابن بويه، واستقرّ ابن ياقوت بالأهواز ومعه ابن اليزيدي وابن بويه ببلاد فارس. ثم زحف مرداويج إلى الأهواز وملكها من يد ابن ياقوت، ورجع إلى واسط وكتب إلى الراضي. وكان بعد القاهر كما نذكره، وإلى وزيره أبي علي بن مقلة بالطاعة والمقاطعة فيما بيده من البلاد بأعمال فارس على ألف ألف درهم، فأجيب إلى ذلك وبعث إليه باللواء والخلع وعظم شأنه في فارس وبلغ مرداويج شأنه فخاف غائلته، وكان أخوه وشمكير قد رجع إلى أصبهان بعد خلع القاهر وصرف محمد بن ياقوت عنها، فسار إليها مرداويج للتدبير على عماد الدولة وبعث أخاه وشمكير على الريّ وأعمالها. خلع القاهر وبيعة الراضي ولما قتل القاهر مؤنسا وأصحابه أقام يتطلب الوزير أبا عليّ بن مقلة والحسن بن هارون وهما مستتران، وكانا يراسلان قوّاد الساجيّة والحجريّة ويغريانهم بالقاهر، فإنّهم غرّوه   [1] قوله وعثر على صناديق، ذكر صاحب الفرج بعد الشدة حكاية غريبة في ذلك ملخصها ان الجند ضايقوه بطلب المال فنام في دار الامارة مستلقيا على قفاه مفكرا، فرأى حية دخلت في السقف، فاستدعى بعض الخدم ليكشف الحقيقة فرأى تلك الصناديق. وعثر أيضا على مال كان وديعة وله حكاية أيضا في ذلك الكتاب انتهى. من خط الشيخ العطّار. [2] البريدي: ابن الأثير ج 8 ص 286. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 كما فعل بأصحابه قبلهم. وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ويراسلهم ويجيء إليهم متنكرا ويغريهم، ووضعوا على سيما أنّ منجّما أخبره أنه ينكب القاهر ويقتله، ودسّوا إلى معبر كان عنده أموالا على أن يحذّره من القاهر، فنفر واستوحش، وحفر القاهر مطامير في داره، فقيل لسيما والقوّاد إنما صنعت لكم فازدادوا نفرة. وكان سيما رئيس الساجيّة فارتاب بالقاهر وجمع أصحابه وأعطاهم السلاح، وبعث إلى الحجريّة فجمعهم عنده وتحالفوا على خلع القاهر، وزحفوا إلى الدور وهجموا عليه فقام من النوم ووجد الأبواب مشحونة بالرجال فهرب إلى السطح، ودلّهم عليه خادم فجاءوه واستدعوه للنزول فأبى فتهدّدوه بالرشق بالسهام فنزل وجاءوا به إلى محبس طريف السيكري فحبسوه مكانه وأطلقوه حتى سمل بعد ذلك، وذلك لسنة ونصف من خلافته. وهرب الحصيبي وزيره وسلامة حاجبه. وقد قيل في خلعه غير هذا وهو أنّ القاهر لمّا تمكن من الخلافة اشتدّ على الساجيّة والحجريّة واستهان بهم، فتشاكوا ثم خافه حاجبه سلامة لأنه كان يطالبه بالأموال ووزيره الخصيبي كذلك، وحفر المطامير في داره فارتابوا به كما ذكرنا. وأسر جماعة من القرامطة فحبسهم بتلك المطامير وأراد أن يستظهر بهم على الحجريّة والساجيّة فتنكروا ذلك وقالوا فيه للوزير وللحاجب، فأخرجهم من الدار وسلّمهم لمحمد بن ياقوت صاحب الشرطة وأوصاه إليهم فازداد الساجيّة والحجريّة ريبة. ثم تنكّر لهم القاهر وصار يعلن بذمّهم وكراهتهم فاجتمعوا لخلعه كما ذكرنا. ولما قبض القاهر بحثوا عن أبي العبّاس بن المقتدر وكان محبوسا مع أمّه، فأخرجوه وبايعوه في جمادى سنة اثنتين وعشرين، وبايعه القوّاد والناس، وأحضر عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما، وأراد عليّ ابن عيسى على الوزارة فامتنع واعتذر بالنكير، وأشار بابن مقلة فأمّنه واستوزره. وبعث القضاة إلى القاهر ليخلع نفسه فأبى فسمل وأمّن ابن مقلة الخصيبي وولّاه وولى الفضل بن جعفر بن الفرات نائبا عنه عن أعمال الموصل وقردى وباريدى وماردين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزرية والشاميّة وأجناد الشام وديار مصر يعزل ويولي من يراه في الخراج والمعادن والنفقات والبريد وغير ذلك. وولّى الراضي على الشرطة بدرا الحمامي وأرسل إلى محمد بن رائق يستدعيه، وكان قد استولى على الأهواز ودفع عنها ابن ياقوت من تلك الولاية إلى السوس وجنديسابور، وقد ولّى على أصبهان وهو يروم المسير إليها. فلما ولي الراضي استدعاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 للحجابة فسار إلى واسط، وطلب محمد بن ياقوت الحجابة فأجيب إليها فسار في أثر ابن رائق، وبلغ ابن رائق الخبر فسار من واسط مسابقا لابن ياقوت بالمدائن توقيع الراضي بالحرب، والمعادن في واسط مضافا إلى ما بيده من البصرة والمعادن، فعاد منحدرا في دجلة ولقيه ابن ياقوت مصعدا ودخل بغداد وولّى الحجبة وصارت إليه رياسة الجيش ونظر في أمر الدواوين وأمرهم بحضور مجلسه، وأن لا ينفذوا توقيعا في ولاية أو عزل أو اطلاق إلّا بخطّه، وصار نظر الوزير في الحقيقة له وابن مقلة مكابر مجلسه مع جملتهم ومتميز عنهم في الإيثار والمجلس فقط. مقتل هارون كان هارون بن غريب الحال على ماه الكوفة والدّينور وماسبذان وسائر الأعمال التي ولّاها القاهر إيّاه، فلمّا خلع القاهر واستخلف الراضي رأى هارون أنه أحق بالدولة من غيره لأنه ابن خال المقتدر، فكاتب القوّاد ووعدهم وسار من الدّينور إلى خافقين وشكا ابن مقلة وابن ياقوت والحجريّة والساجيّة إلى الراضي فأذن لهم في منعه، فراسلوه أوّلا بالممانعة. والزيادة على ما في يده من الأعمال، فلم يلتفت إليهم وشرع في الجباية فقويت شوكته، فسار إليه محمد بن ياقوت في العساكر وهرب عنه بعض أصحابه إلى هارون، وكتب إلى هارون يستميله فلم يجب، وقال: لا بدّ من دخول بغداد. ثم تزاحفوا لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين، فانهزم أوّلا أصحاب ابن ياقوت ونهب سوادهم وسار محمد حتى قطع قنطرة تبريز، وسار هارون منفردا لاعتراضه، فدخل في بعض المياه وسقط عن فرسه، ولحقه غلام لمحمد بن ياقوت فقطع رأسه وانهزم أصحابه وقتل قوّاده وأسر بعضهم ورجع ابن ياقوت إلى بغداد ظافرا. نكبة ابن ياقوت قد ذكرنا أنه كان نظر في أمر الدواوين وصيّر ابن مقلة كالعاطل، فسعى به عند القاضي وأوهمه خلافه حتى أجمع القبض عليه في جمادى سنة ثلاثة وعشرين، فجلس الخليفة على عادته وحضر الوزير وسائر الناس على طبقاتهم يريد تقليد جماعة من القوّاد للأعمال. واستدعى ابن ياقوت للخدمة في الحجبة على عادته، فبادر وعدل به إلى حجرة فحبس فيها وخمّار. وبعث الوزير ابن مقلة إلى دار محمد من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 يحفظها من النهب وأطلق يده في أمور الدولة واستبد بها وكان ياقوت مقيما بواسط، فلما بلغه القبض على ابنه انحدر إلى فارس لمحاربة ابن بويه، وكتب يستعطف الراضي ويسأله إبقاء ابنه ليساعده على شأنه. ولم يزل محمد محبوسا إلى أن هلك سنة أربع عشرة في محبسه. خبر البريدي كان أبو عبد الله البريدي أيام ابن ياقوت ضامنا للأهواز، فلما استولى عليها مرداويج وانهزم ابن ياقوت كما مرّ رجع البريدي إلى البصرة وصار يتصرّف في أسافل الأهواز مع كنانة ياقوت. ثم سار إلى ياقوت فأقام معه بواسط، فلما قبض على ابن ياقوت وكتب ابن مقلة إليه وإلى ياقوت يعتذر عن قبض ابن ياقوت ويأمرهما بالمسير لفتح فارس، فسار ياقوت على السوس والبريدي على طريق الماء حتى انتهيا إلى الأهواز. وكان إلى أخويه أبي الحسن وأبي يوسف ضمان السوس وجنديسابور، وادعيا أن دخل البلاد أخذه مرداويج. وبعث ابن مقلة ثانيا لتحقّق ذلك، فوافاهم وكتب بصدقهم، فاستولى ابن البريدي ما بين ذلك على أربعة آلاف ألف دينار، ثم أشار أبو عبد الله عليّ بن ياقوت بالمسير لفتح فارس، وأقام هو لجباية الأموال فحصل منها بغيته. وسار ياقوت فلقيه ابن بويه على أرّجان فهزمه وسار إلى عسكر مكرم. واتّبعه ابن بويه إلى رامهرمز وأقام بها إلى أن اصطلحا. مقتل ياقوت قد تقدّم لنا انهزام ياقوت من فارس أمام عماد الدولة ابن بويه إلى عسكر مكرم واستيلاء ابن بويه على فارس. وكان أبو عبد الله البريدي بالأهواز ضامنا كما تقدّم. وكان مع ذلك كاتبا لياقوت، وكان ياقوت يستنيم إليه ويثق به، وكان مغفّلا ضعيف السياسة فخادعه أبو عبد الله البريدي وأشار عليه بالمقام بعسكر مكرم وأن يبعث إليه بعض جنده الواصلين من بغداد تخفيفا للمئونة وتحذيرا من شغبهم. وبعث إليه أخاه بذلك أبا يوسف ودفع له من مال الأهواز خمسين ألف دينار. ثم قطع عنه فضاق الحال عليه وعلى جنده، وكان قد نزع إليه من أصحاب ابن بويه طاهر الحمل وكاتبه أبو جعفر الصهيري، ثم انصرف عنه لضيق حاله إلى غربي تستر ليتغلّب على ماه البصرة، فكبسه ابن بويه وغنم معسكره وأسر الصهيري فشفع فيه وزيره وأطلقه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 فلحق بكرمان واتصل بعد ذلك بمعزّ الدولة ابن بويه واستكتبه. ولما انصرف طاهر عن ياقوت كتب إلى البريدي يشكو ضعفه واستطالة أصحابه، فأشار عليه بإرسالهم إلى الأهواز متعرّفين لقومهم. فلما وصلوا إليه انتقى خيارهم وردّ الباقين، وأحسن إلى من عنده وبعث ياقوت إليه في طلب المعزّ فلم يبعث إليه، فجاءه بنفسه فتلقّاه وترجّل إليه وقبّل يده، وأنزله بداره وقام في خدمته أحسن مقام، ووضع الجند على الباب يشغبون ويرومون قتله، فأشار إليه بالنجاة، فعاد إلى عسكر مكرم فكتب إليه يحذّره اتباعهم، وأنّ عسكر مكرم على ثمانية فراسخ من الأهواز، وأرى أن تتأخّر بتستر فتتحصّن بها. وكتب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار، وعذله خادمه مؤنس في شأن ابن البريدي وأراه خديعته وأشار عليه باللحاق ببغداد، وأنّه شيخ الحجريّة، وقد كاتبوك فسر إلى رياسة بغداد وإلّا فتعاجل إلى البريدي وتخريجه عن الأهواز، فصمّ عن نصيحته وأبى من قبول السعاية فيه، وتسايل أصحابه إلى ابن البريدي حتى لم يبق معه إلّا نحو الثمانمائة. وجاءه ابنه المظفّر ناجيا من حبس الراضي بعد أسبوع، فأطلقه وبعثه إلى أبيه فأشار عليه بالمسير إلى بغداد، فإن حصل على ما يريد وإلّا فإلى الموصل وديار ربيعة ويتملكها، فأبى عليه أبوه ففارقه إلى ابن البريدي فأكرمه ووكّل به. ثم حذر ابن البريدي غائلة ياقوت فبعث إليه بأن الخليفة أمره بإزعاجه [1] من البلاد اما إلى بغداد وإما إلى بلاد الجبل ليولّيه بعض أعمالها، فكتب يستمهله فأبى من المهلة وبعث العساكر من الأهواز. وسار ياقوت إلى عسكر مكرم ليكبس ابن البريدي هنالك فصبح البلد ولم يجده، وجاءت عساكر ابن البريدي مع قائد أبي جعفر الجمّال، فقاتله من أمامه وأكمن آخرين من خلفه فانهزم وافترق أصحابه، وحسا إلى حائط متنكرا فمرّ به قوم ابن البريدي فكشفوا وجهه وعرفوه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر، فدفنه الجمّال وبعث البريدي إلى تستر فحمل ما كان لياقوت هنالك، وقبض على ابنه المظفّر وبعثه إلى بغداد واستبدّ بتلك الأعمال وذلك سنة أربع وعشرين.   [1] هكذا بالأصل ولعلها بإخراجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 مسير ابن مقلة إلى الموصل واستقرارها لابن حمدان كان ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان عاملا على الموصل فجاء عمه أبو العلاء سعيد فضمن الموصل وديار ربيعة سرّا وسار إليها فظهر أنه في طلب المال من ابن أخيه. وشعر ناصر الدولة بذلك فخرج لتلقّيه، فخالفه إلى بيته فبعث من قبله واهتم الراضي بذلك وأمر الوزير أبا عليّ بن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار في العساكر من شعبان سنة ثلاث وعشرين، فرحل عنها ناصر الدولة ودخل الزوران واتبعه الوزير إلى حمل السنّ. ثم عاد عنها إلى الموصل وأقام في جبايتها وبعث ناصر الدولة إلى بغداد بعشرة آلاف دينار لابن الوزير ليستحث أباه في القدوم، فكتب إليه بما أزعجه، فسار من الموصل واستخلف عليها عليّ بن خلف بن طبّاب وما ترد الديلميّ [1] من الساجيّة. ودخل بغداد منتصف شوّال، وجمع ناصر الدولة ولقي ما ترد الديلميّ على نصيبين فهزمه إلى الرقّة وانحدر منها إلى بغداد ولحقه ابن طباب، واستولى ناصر الدولة حمدان على الموصل وكتب في الرضا وضمان البلاد فأجيب وتعذرت عليه. نكبة ابن مقلة وخبر الوزارة كان الوزير بن مقلة قد بعث سنة ثلاث وعشرين إلى محمد بن رائق بواسط يطالبه بارتفاع أعمال واسط والبصرة، وكان قد قطع الجبل. فلما جاءه كتاب ابن مقلة، كتب إليه جوابه يغالطه وكتب إلى الراضي بالسعي في الوزارة، وأنّه يقوم بنفقات الدار وأرزاق الجند، فجهّز الوزير ابنه سنة أربع وعشرين لقصده وورى بالأهواز، وأنفذ رسوله إلى ابن رائق بهذه التوراة يؤنسه بها، وباكر القصر لانفاذ الرسول فقبض عليه المظفّر بن ياقوت والحجرية وكان المظفّر قد أطلق من محبسه وأعيد إلى الحجبة، فاستحسن الراضي فعلهم، واختفى أبو الحسين ابن الوزير وسائر أولاده وحرمه وأصحابه، وأشار إلى الحجرية والساجيّة بوزارة عليّ بن عيسى فامتنع وسار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره الراضي وصادر ابن مقلة. ثم عجز عن تمشية الأمور وضاقت عليه الجباية فاستعفى من الوزارة، فقبض عليه الراضي وعلى أخيه على ثلاثة أشهر من وزارته، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخيّ فصادر عليّ بن عيسى على   [1] ماكرد الديلميّ: ابن الأثير ج 8 ص 310. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 مائة ألف دينار، ثم عجز عن الوزارة وضاقت الأموال وانقطعت، وطمع أهل الأعمال فيما بأيديهم، فقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة وقطع ابن البريدي حمل الأهواز وأعمالها، وانقطع حمل فارس لغلب ابن بويه عليها، ولم يبق غير هذه الأعمال ونطاق الدولة قد تضايق إلى الغاية، وأهل الدولة مستبدّون على الخلافة والأحوال متلاشية، فتحيّر أبو جعفر وكثرت عليه المطالبات وذهبت هيبته، فاختفى لثلاثة أشهر ونصف من وزارته واستوزر الراضي مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن، فكان حاله مثل حال من قبله في قلّة المال ووقوف الحال. استيلاء ابن رائق على الخليفة ولما رأى الراضي وقوف الحال من الوزراء استدعى أبا بكر محمد بن رائق من واسط وكاتبه بأنه قد أجابه إلى ما عرض من السعي في الوزارة على القيام بالنفقات وأرزاق الجند، فسرّ ابن رائق بذلك وشرع يتجهّز للمسير. ثم أنفذ إليه الراضي الساجيّة وقلّده إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وفوّض إليه الخراج والدواوين والمعادن في جميع البلاد، وأمر بالخطبة له على المنابر، وانحدر إليه الدواوين والكتّاب والحجّاب. ولما جاءه الساجيّة قبض عليهم بواسط في ذي الحجة من سنة أربع وعشرين، ونهب رجالهم ودوابهم ومتاعهم ليوفّر أرزاقهم على الحجرية، فاستوحشوا لذلك وخيّموا بدار الخلافة، وأصعد ابن رائق إلى بغداد وفوّض الخليفة إليه أمرهم. وأمر الحجريّة بتقويض خيامهم والرجوع إلى منازلهم، وأبطل الدواوين وصيّر النظر إليه، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور. وبقي ابن رائق وكتّابه ينظرون في جميع الأمور فبطلت الدواوين وبيوت الأموال من يومئذ وصارت لأمير الأمراء، والأموال تحمل إلى خزانته، ويتصرّف فيها كما يريد، ويطلب من الخليفة ما يريد. وتغلّب أصحاب الأطراف وزال عنهم الطاعة. ولم يبق للخليفة إلّا بغداد وأعمالها وابن رائق مستبد عليه. وأمّا باقي الأعمال فكانت البصرة في يد ابن رائق، وخوزستان والأهواز في يد ابن البريدي، وفارس في يد عماد الدولة ابن بويه، وكرمان في يد عليّ بن الياس، والري وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة ابن بويه، ووشمكير أخو مرداويج ينازعه في هذه الأعمال، والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد حمدان، ومصر والشام في يد ابن طغج، والمغرب وإفريقية في يد العبيديين، والأندلس في يد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 عبد الرحمن بن الناصر من ولد عبد الرحمن الداخل وما وراء النهر في يد بني سامان، وطبرستان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد أبي الطاهر القرمطيّ، ولم يبق لنا من الأخبار إلّا ما يتعلق بالخلافة فقط في نطاقها المتضايق أخيرا، وإن كانت مغلبة وهي أخبار ابن رائق والبريدي، وأمّا غير ذلك من الأعمال التي اقتطعت كما ذكرناه، فنذكر أخبارها منفردة ونسوق المستبدّين دولا كما شرطناه أوّل الكتاب ثم كتب ابن رائق عن الراضي إلى أبي الفضل بن جعفر بن الفرات وكان على الخراج بمصر والشام، وظنّ أنه بوزارته تكون له تلك الجباية، فوصل إلى بغداد وولي وزارة الراضي وابن رائق جميعا. وصول يحكم مع ابن رائق كان يحكم هذا من جملة مرداويج قائد الديلم ببلاد الجبل، وكان قبله في جملة ما كان بن كالي ومن مواليه، وهبه له وزيره أبو عليّ الفارض، ثم فارق ما كان مع من فارقه إلى مرداويج. وكان مرداويج قد ملك الريّ وأصبهان والأهواز، وضخم ملكه وصنع كراسيّ من ذهب وفضة للجلوس عليها هو وقوّاده، ووضع على رأسه تاجا تظنّه تاج كسرى. وأمر أن يخاطب بشاهنشاه واعتزم على قصد العراق والاستيلاء عليه، وتجديد قصور كسرى بالمدائن. وكان في خدمته جماعة من الترك ومنهم يحكم. فأساء ملكهم وعسكرهم فقتلوه سنة ثلاث وعشرين بظاهر أصبهان كما نذكره في أخبارهم. واجتمع الديلم والجبل بعده على أخيه وشمكير بن وزيار وهو والد قابوس، ولما قتل مرداويج افترق الأتراك فرقتين ففرقة سارت إلى عماد الدولة بن بويه بفارس، والأخرى وهي الأكثر سارت نحو الجبل عند يحكم، فجبوا خراج الدّينور وغيرها. ثم ساروا إلى النهروان وكاتبوا الراضي في المسير إليه، فأذن لهم وارتاب الحجريّة بهم، فأمرهم الوزير بالرجوع إلى بلد الجبل فغضبوا واستدعاهم ابن رائق صاحب واسط والبصرة فمضوا إليه وقدم عليهم يحكم وكان الأتراك والديلم من أصحاب مرداويج فجاءته جماعة منهم فأحسن إليهم وإلى يحكم وسمّاه الرائقي نسبة إليه وأذن له أن يكتبه في مخاطباته . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 مسير الراضي وابن رائق لحرب ابن البريدي ثم اعتزم ابن رائق سنة خمس وعشرين على الراضي في المسير إلى واسط لطلب ابن البريديّ في المال ليكون أقرب لمناجزته، فانحدر في شهر محرّم وارتاب الحجريّة بفعله مع الساجيّة، فتخلفوا ثم تبعوه فاعترضهم وأسقط أكثرهم من الديوان، فاضطربوا وثاروا فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم جماعة ولجأ فلّهم إلى بغداد، فأوقع بهم لؤلؤ صاحب الشرطة ونهبت دورهم وقطعت أرزاقهم وقبضت أملاكهم، وقتل ابن رائق من كان في حبسه من الساجيّة، وسار هو والراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريديّ منها. وقدّم إليه في طلب الاستقامة وتوعّده فجدّد ضمان الأهواز بألف دينار في كل شهر، ويحمل في كل يوم قسطه [1] . وأجابه إلى تسليم الجيش لمن يسير إلى قتال ابن بويه لنفرتهم عن بغداد. وعرض ذلك على الراضي، فأشار الحسين بن عليّ القونجي وزير ابن رائق بأن لا تقبل لأنه خداع ومكر وأشار أبو بكر بن مقاتل بإجابته، وعقد الضمان على ابن البريدي، وعاد ابن رائق والراضي إلى بغداد فدخلاها أوّل صفر، ولم يف ابن البريدي بحمل المال، وأنفذ ابن رائق جعفر بن ورقاء ليسير بالجيش إلى فارس، ودسّ إليهم ابن البريدي أن يطلبوا منه المال ليتجهّزوا به، فاعتذر فشتموه وتهدّدوه بالقتل. وأتى ابن البريدي فأشار عليه بالنجاء. ثم سعى ابن مقاتل لابن البريدي في وزارة ابن رائق عوضا عن الحسين القونجي [2] وبذل عنه ثلاثين ألف دينار، فاعتذر له بسوابق القونجي عنده وسعيه له، وكان مريضا فقال له ابن مقاتل: إنه هالك! فقال ابن رائق: قد أعلمني الطبيب أنه ناقة، فقال: الطبيب يراجيك فيه لقربه منك، ولكن سل ابن أخيه عليّ بن حمدان. وكان القونجي قد استناب ابن أخيه في مرضه، فأشار عليه ابن مقاتل أن يعرف الأمير إذا سأله بمهلكه، وأشار عليه أن يستوزره. فلما سأله ابن رائق أيأسه منه فقال ابن رائق: عند ذلك لابن مقاتل: أكتب لابن البريدي يرسل من ينوب عنه في الوزارة، فبعث أحمد بن الكوفي واستولى مع ابن مقاتل على ابن رائق، وسعوا لابن البريدي أبي يوسف في ضمان البصرة. وكان عامل البصرة من قبل ابن رائق محمد بن   [1] وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 330: « ... جدّد ضمان الأهواز كل سنة بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل كلّ شهر بقسطه. [2] الحسين بن علي النونجتي: المرجع السابق ص 331. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 يزداد وكان شديد الظلم والعسف بهم، فخادعه ابن البريدي وأنفذ أبو عبد الله مولاه إقبالا في ألفي رجل، وأقاموا في حصن مهدي قريبا. فعلم ابن يزداد أنه يروم التغلّب على البصرة، وأقاما على ذلك وأقام ابن رائق شأن هذا العسكر في حصن مهدي. وبلغه أيضا أنه استخدم الحجريّين الذين أذن لهم في الانسياح في الأرض، وأنهم اتفقوا مع عسكره على قطع الحمل، وكاتبه يطردهم عنه فلم يفعل. فأمر ابن الكوفي أن يكتب إلى ابن البريدي بالكتاب على ذلك. ويأمر بإعادة العسكر من حصن مهدي، فأجاب باعدادهم للقرامطة وابن يزداد عاجز عن الحماية. وكان القرامطة قد وصلوا إلى الكوفة في ربيع الآخر وخرج ابن رائق في العساكر إلى حصن ابن هبيرة ولم يستقرّ بينهم أمر. وعاد القرمطي إلى بلده وسار ابن رائق إلى واسط. فكتب ابن البريدي إلى عسكره بحصن مهدي أن يدخلوا البصرة ويملكوها من يد ابن يزداد، وأمدّهم جماعة من الحجريّة فقصدوا البصرة وقاتلوا ابن يزداد فهزموه، ولحق بالكوفة، وملك إقبال مولى ابن البريدي وأصحابه البصرة، وكتب ابن رائق إلى البريدي يتهدّده ويأمره بإخراج أصحابه من البصرة فلم يفعل. استيلاء يحكم [1] على الأهواز ولما امتنع ابن البريدي من الإفراج عن البصرة بعث ابن رائق العساكر مع بدر الحريشيّ [2] ويحكم مولاه، وأمرهم بالمقام بالجامدة فتقدّم يحكم عن بدر وسار إلى السوس، وجاءته عساكر البريدي مع غلامه محمد الجمّال [3] في ثلاثة آلاف ومع يحكم مائتان وسبعون من الترك، فهزمهم يحكم ورجع محمد بن الجمال إلى ابن البريدي فعاقبه على انهزامه، وحشد له العسكر فسار في ستة آلاف ولقيهم يحكم عند نهر تستر فانهزموا من غير قتال، وركب ابن البريدي السفن ومعه ثلاثمائة ألف دينار ففرّق أصحابه وماله ونجا إلى البصرة، وأقام بالأبلّة وبعث غلامه إقبالا فلقي جماعة من أصحاب ابن رائق فهزمهم، وبعث ابن رائق مع جماعة من أهل البصرة يستعطفه فأبى، فطلبوا البصرة فحلف ليحرقنّها ويقتل كل من فيها، فرجعوا مستبصرين في قتاله. وأقام ابن البريدي بالبصرة، واستولى يحكم على الأهواز ثم   [1] بحكم: ابن الأثير ج 8 ص 334. [2] بدر الخرشنيّ: المرجع السابق. [3] الحمّال بدل الجمّال: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 بعث ابن رائق جيشه في البحر والبر فانهزم عسكر البر واستولى عسكر الماء على الكلا، فهرب ابن البريدي في السفن إلى جزيرة أوال، وترك أخاه أبا الحسين في عسكر بالبصرة فدفع عسكر ابن رائق عن الكلا فسار ابن رائق من واسط، واستولى يحكم على الأهواز، وقاتلوا البصرة فامتنعت عليهم، وسار أبو عبد الله بن البريدي من أوال إلى عماد الدولة بن بويه بفارس، فاطعمه في العراق وبعث معه أخاه معزّ الدولة إلى الأهواز فسير إليها ابن رائق مولاه يحكم على أن يكون له الحرب والخراج، وأقام ابن البريدي على البصرة وزحفت إليه عساكرهم فأعجلوه عن تقويض خيامه فأحرقها وسار إلى الأهواز مجردا، وسبقته عساكره إلى واسط وأقام عند يحكم أياما وأشير عليه بحبسه فلم يفعل ورجع ابن رائق إلى واسط. استيلاء معز الدولة على الأهواز لما سار أبو عبد الله بن البريدي من جزيرة أوال إلى عماد الدولة ابن بويه بفارس مستجيرا به من ابن رائق ويحكم ومستنجدا عليهم، طمع عماد الدولة في الاستيلاء على العراق. فسيّر معه أخاه معز الدولة أحمد بن بويه في العسكر، ورهن ابن البريدي عنده ولديه أبا الحسين محمدا وأبا جعفر الفيّاض. وسار يحكم للقائهم فلقيهم بأرجان فانهزم أمامهم وعاد إلى الأهواز، وخلّف جيشا بعسكر مكرم. فقاتلهم معزّ الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انفضوا ولحقوا بتستر، وملك معزّ الدولة عسكر مكرم وذلك سنة ست وعشرين وسار يحكم من الأهواز إلى تستر، وبلغ الخبر إلى ابن رائق بواسط، فسار إلى بغداد وجاء يحكم من تستر إلى واسط. ولما استولى معزّ الدولة وابن البريدي على عسكر مكرم، ولقيهم أهل الأهواز وساروا معهم إليها فأقاموا شهرا. ثم طلب معزّ الدولة من ابن البريدي عسكره الّذي بالبصرة ليسير بهم إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان لحرب وشمكير، فأحضر منهم أربعة آلاف. ثم طلب من عسكره الذين بحصن مهدي ليسير بهم في الماء إلى واسط فارتاب ابن البريدي وهرب إلى البصرة. وبعث إلى عسكرها الذين ساروا إلى أصبهان وكانوا متوقفين بالسوس، فرجعوا إليه، ثم كتب إلى معز الدولة أن يفرج له عن الأهواز ليتمكن من الجباية والوفاء بها لأخيه عماد الدولة، وكان قد ضمن له الأهواز والبصرة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل معز الدولة إلى عسكر مكرم وأنفذ ابن البريدي عامله إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 الأهواز. ثم بعث إلى معزّ الدولة بأن يتأخر إلى السوس فأبى، وعلم يحكم بحالهم فبعث جيشا استولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد ابن البريدي ومعزّ الدولة بعسكر مكرم، وقد ضاقت أحوال جنده. ثم بعث إليه أخوه عماد الدولة بالمدد فسار إلى الأهواز وملكها. ورجع ابن البريدي إلى البصرة ويحكم في ذلك مقيم بواسط، وقد صرف همه إلى الاستيلاء على رتبة ابن رائق ببغداد. وقد أنفذ له ابن رائق عليّ بن خلف بن طبّاب ليسيروا إلى الأهواز ويخرجوا ابن بويه. ويكون يحكم على الحرب وابن خلف على الخراج، فلم يلتفت يحكم لذلك واستوزر عليّ بن خلف ويحكم في أحوال واسط. ولما رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأحوال أطمع ابن رائق في مصر والشام، وقال: أنا أجبيهما لك، وعقد بينه وبين ابن طغج صهرا. وسار أبو الفتح إلى الشام في ربيع الآخر وشعر ابن رائق بمحاولة يحكم عليه، فبعث إلى ابن البريدي بالاتّفاق على يحكم على أن يضمن ابن البريدي واسط بستمائة ألف، فنهض يحكم إلى ابن البريدي قبل ابن رائق وسار إلى البصرة، فبعث إليه ابن البريدي أبا جعفر الجمال في عشرة آلاف فهزمهم يحكم وارتاع ابن البريدي لذلك، ولم يكن قصد يحكم إلا الألفة فقط، والتضرّع لابن رائق، فبعث إليه بالمسالمة وأن يقلّده واسط إذا تم أمره، فاتفقا على ذلك وصرف نظره إلى أمر بغداد. وزارة ابن مقلة ونكبته ولما انصرف أبو الفتح بن الفرات إلى الشام استوزر الراضي أبا عليّ بن مقلة على سنن من قبله والأمر لابن رائق، وابن مقلة كالعارية. وكتب له في أمواله وأملاكه فلم يردّها. فشرع في التدبير عليه، فكتب إلى ابن رائق بواسط ووشمكير بالريّ يطمع كلّا منهما في مكانه، وكتب الراضي يشير بالقبض على ابن رائق وأصحابه، واستدعى يحكم لمكانه وأنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار، فأطعمه الراضي على كره. فكتب هو إلى يحكم يستحثّه وطلب من الراضي أن ينتقل إلى دار الخلافة حتى يتم الأمر فأذن له وحضر متنكرا آخر ليلة من رمضان سنة ست وعشرين، فأمر الراضي باعتقاله وأطلع ابن رائق من الغد على كتبه فشكر ذلك له ابن رائق، وأمر بابن مقلة في منتصف شوال فقطع ثم عولج، وبريء وعاد إلى السعي في الوزارة والتظلّم من ابن رائق والدعاء عليه، فأمر بقطع لسانه وحبسه إلى أن مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 استيلاء يحكم على بغداد لم يزل يحكم يظهر التبعية لابن رائق ويكتب على أعلامه وتراسه يحكم الرائقيّ إلى أن وصلته كتب ابن مقلة بأنّ الراضي قلّده إمرة الأمراء، فطمع وكاشف ابن رائق ومحا نسبه إليه من أعلامه وسلاحه. وسار من واسط إلى بغداد في ذي القعدة سنة ست وعشرين. وكتب إليه الراضي بالرجوع فأبى، ووصل إلى نهر دبالي وأصاب ابن رائق في غربيه فانهزموا وعبروا النهر سبحا. وسار ابن رائق إلى عكبرا، ودخل يحكم بغداد منتصف ذي القعدة ولقي الراضي من الغد، وولّاه أمير الأمراء، وكتب عن الراضي إلى القوّاد الذين مع ابن رائق بالرجوع عنه فرجعوا، وعاد ابن رائق إلى بغداد فاختفى بها لسنة وأحد عشر شهرا من إمارته، ونزل يحكم بدار مؤنس واستقر ببغداد متحكما في الدولة مستبدّا على الخليفة. دخول آذربيجان في طاعة وشمكير كان من عمّال وشمكير على أعمال الجبل السيكري [1] بن مردي، وكان مجاورا لأعمال أذربيجان وعليها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب ابن أبي الساج، فحدّثت السيكري نفسه بالتغلّب عليها، فجمع وسار إليها. وخرج إليه ديسم فانهزم فاستولى على سائر بلاده إلّا أردبيل وهي كرسي أذربيجان، فحاصرها السيكري وضيّق حصارها، فراسلوا ديسم بالمثنى لقتال السيكري من ورائه ففعل، وجاءه يوم قتالهم من خلف، فانهزم السيكري إلى موقان فأعانه أصبهبذها ابن دوالة وسار معه نحو ديسم، فانهزم ديسم وقصد وشمكير بالريّ واستمدّه على أن يدخل في طاعته ويضمن له مالا في كل سنة. فأجابه وبعث معه العسكر وبعث أصحاب السيكري إلى وشمكير بأنهم على الطاعة، وشعر بذلك السيكري فسار في خاصته إلى أرمينية واكتسح في نواحيها. ثم سار إلى الزوزان من بلاد الأرمن، فاعترضوه وقتلوه ومن معه، ورجع فلّهم وقد ولّوا عليهم سان بن السيكري، وقصدوا بلد طرم الأرمني ليثأروا منهم بأصحابهم، فقاتلهم طرم وأثخن فيهم، وساروا إلى ناصر الدولة بن حمدان وانحدر بعضهم إلى بغداد، وكان على المعادن بأذربيجان   [1] السبكري وقد مرّ ذكره من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 الحسين بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمّه ناصر الدولة، فلما جاء إلى الموصل أصحاب السيكري مع ابنه بعثهم ابن عمّه بأذربيجان لقتال ديسم، فلم تكن له به طاقة ورجع إلى الموصل واستولى ديسم على أذربيجان في طاعة وشمكير. ظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة سار يحكم إلى الموصل وديار ربيعة بسبب أنّ ناصر الدولة بن حمدان أخّر المال الّذي عليه من ضمان البلاد، فأقام الراضي بتكريت وسار يحكم، ولقيه ناصر الدولة على ستة فراسخ من الموصل، فانهزم واتّبعه يحكم إلى نصيبين ثم إلى آمد، وكتب إلى الراضي بالفتح. فسار من تكريت في الماء إلى الموصل، وفارقه جماعة من القرامطة كانوا في عسكره، وكان ابن رائق يكاتبهم من مكان اكتفائه، فلما وصلوا بغداد خرج ابن رائق إليهم واستولى، وطار الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء وسار إلى الموصل، وكتب إلى يحكم بذلك. فرجع عن نصيبين بعد أن استولى عليها، وشرع أهل العسكر يتسلّلون إلى بغداد فأهمّ ذلك يحكم. ثم جاءت رسالة ابن حمدان في الصلح وتعجيل خمسمائة ألف درهم، فأجابوه وقرّره ورجعوا إلى بغداد، ولقيهم أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد رسولا عن ابن رائق في الصلح على أن يقلّده الراضي طريق الفرات وديار مضر حرّان والرها وما جاورها جندي قنّسرين والعواصم. فأجابه الراضي وقلّده وسار إلى ولايته في ربيع الآخر. وكان يحكم قد استناب بعض قوّاد الأتراك على الأنبار واسمه بالبان، وطلب تقليد طريق الفرات فقلّد وسار إلى الرحبة. ثم انتقض وعاد لابن رائق وعصى على يحكم، فسار إليه غازيا بالرحبة على حين غفلة لخمسة أيام من مسيره، فظفر به وأدخله بغداد على جمل وحبسه وكان آخر العهد به. وزارة ابن البريدي قد تقدّم لنا مسير الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات إلى الشام، ولمّا سار استناب بالحضرة عبد الله بن عليّ البصريّ، وكان يحكم قد قبض على وزيره خلف ابن طبّاب، واستوزر أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرازاد، فسعى في وزارة ابن البريدي ليحكم حتى تمّ ذلك. ثم ضمن ابن البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار كل سنة. ثم جاء الخبر بموت أبي الفتح بن الفرات بالرملة، فسعى أبو جعفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 ابن شيرزاد في وزارة أبي عبد الله للخليفة، فعقد له الراضي بذلك واستخلف بالحضرة عبد الله بن عليّ البصري كما كان مع أبي الفتح. مسير ركن الدولة إلى واسط ورجوعه عنها لما استقرّ ابن البريدي بواسط بعث جيشا إلى السوس وبها أبو جعفر الظهيري وزير معزّ الدولة أحمد بن بويه ومعزّ الدولة بالأهواز. فتحصّن أبو جعفر بقلعة السوس، وعاث الجيش في نواحيها وكتب معزّ الدولة إلى أخيه ركن الدولة وهو على إصطخر قد جاء من أصبهان لمّا غلبه وشمكير عليها. فلمّا جاء كتاب أخيه معز الدولة سار محمد إلى السوس وقد رجع عنه جيش ابن البريدي. ثم سار إلى واسط يحاول ملكها فنزل في جانبها الشرقي، وابن البريدي في الجانب الغربي، واضطرب عسكر ابن بويه واستأمن جماعة منهم إلى ابن البريدي. ثم سار الراضي ويحكم من بغداد إلى واسط للإمداد، فرجع ركن الدولة إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز. وبلغه أن وشمكير قد أنفذ عسكره مددا لما كان بن كالي وأنّ أصبهان خالية، فسار إليها من رامهرمز وأخرج من بقي منها من أصحاب وشمكير وملكها فاستقرّ بها. مسير يحكم إلى بلد الجبل وعوده إلى واسط واستيلاؤه عليها كان يحكم قد أرسل ابن البريدي وصاهره واتفقا على أن يسير يحكم إلى بلاد الجبل لفتحها من يد وشمكير، وأبو عبد الله بن البريدي إلى الأهواز لأخذها من يد معزّ الدولة ابن بويه، فسار يحكم إلى حلوان وبعث إليه ابن البريدي بخمسمائة رجل مددا. وبعث يحكم بعض أصحابه إلى ابن البريدي يستحثّه إلى السوس والأهواز، فأقام يماطله ويدافعه ويبيّن له أنّه يريد مخالفة يحكم إلى بغداد. فكتب إليه بذلك فرجع عن قصده إلى بغداد، وعزل ابن البريدي من الوزارة، وولّى مكانه أبا القاسم بن سليمان بن الحسين بن مخلّد، وقبض على ابن شيرزاد الّذي كان ساعيا له، وتجهّز إلى واسط وانحدر في الماء آخر ذي الحجّة سنة ثمان وعشرين. وبعث عسكرا في البرّ، وبلغ الخبر ابن البريدي فسار عن واسط إلى البصرة واستولى عليها يحكم وملكها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 استيلاء ابن رائق على الشام قد تقدّم لنا مسير ابن رائق إلى ديار مضر وثغور قنّسرين والعواصم فلما استقرّ بها حدّثته نفسه بملك الشام فسار إلى حمص فملكها ثم سار إلى دمشق وبها بدر بن عبد الله الإخشيدي ويلقّب بدير، فملكها من يده. ثم سار إلى الرملة ومنها إلى عريش مصر يريد ملك الديار المصرية، ولقيه الإخشيد محمد بن طغج وانهزم أوّلا وملك أصحاب ابن رائق خيامه. ثم خرج كمين الإخشيد فانهزم ابن رائق إلى دمشق وبعث الإخشيد في أثره أخاه أبا نصر بن طغج، وسار إليهم ابن رائق من دمشق فهزمهم وقتل أبو نصر، فكفّنه ابن رائق وحمله مع ابنه مزاحم إلى أخيه الإخشيد بمصر. وكتب يعزّيه ويعتذر فأكرم الإخشيد مزاحما، واصطلح مع أبيه على أن تكون مصر للإخشيد من حد الرملة وما وراءها من الشام لابن رائق ويعطى الإخشيد عن الرملة في كل سنة مائة وأربعين ألف دينار. الصوائف أيام الراضي وفي سنة اثنتين وعشرين سار الدمستق إلى سميساط في خمسين ألفا من الروم، ونازل ملطية وحاصرها مدة طويلة حتى فتحها بالأمان، وبعثهم إلى مأمنهم مع بطريق من بطارقته. وتنصّر الكثير منهم محبّة في أهليهم وأموالهم. ثم افتتحوا سميساط وخرّبوا أعمالها وأفحشوا في أسطوله في البحر. ففتحوا بلد جنوة ومروا بسردانية فأوقعوا بأهلها، ثم مروا بقرقيسياء من ساحل الشام فأحرقوا مراكبها، وعادوا سالمين. وفي سنة ست وعشرين كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة على يد ابن ورقاء الشيبانيّ البريدي في ستة آلاف وثلاثمائة أسير. الولايات أيام الراضي والقاهر قبله قد تقدّم لنا أنه لم يبق من الأعمال في تصريف الخلافة لهذا العهد إلا أعمال الأهواز والبصرة وواسط والجزيرة، وذكرنا استيلاء بني بويه على فارس وأصبهان، ووشمكير على بلاد الجبل، وابن البريدي على البصرة، وابن رائق على واسط، وأن عماد الدولة بن بويه على فارس، وركن الدولة أخوه يتنازع مع وشمكير على أصبهان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 وهمذان وقمّ وقاشان والكرج والريّ وقزوين. واستولى معزّ الدولة أخوهما على الأهواز وعلى كرمان واستولى ابن البريدي على واسط وسار ابن رائق إلى الشام فاستولى عليها. وفي سنة ثلاث وعشرين قلّد الراضي ابنيه أبا جعفر وأبا الفضل ناحية المشرق والمغرب. وفي سنة إحدى وعشرين ورد الخبر بوفاة تكين الخاصكي بمصر وكان أميرا عليها، وولّى القاهر مكانه ابنه محمدا وثار به الجند، فظفر بهم. وفيها وقعت الفتنة بين بني ثعلب وبني أسد ومعهم طيِّئ، وركب ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان ومعه أبو الأعزّ بن سعيد بن حمدان ليصلح بينهم، فوقعت ملاحاة قتل فيها أبو الأعز على يد رجل من ثعلب، فحمل عليهم ناصر الدولة واستباحهم إلى الحديثة. فلقيهم يأنس غلام مؤنس واليا على الموصل، فانضم إليه بنو ثعلب وبنو أسد وعادوا إلى ديار ربيعة. وفي سنة أربع وعشرين قلّد الراضي محمد بن طغج أعمال مصر مضافا إلى ما بيده من الشام وعزل عنها أحمد بن كيغلغ. وفاة الراضي وبيعة المتقي وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة توفي الراضي أبو العبّاس أحمد بن المقتدر في ربيع الأوّل منها لسبع سنين غير شهر من خلافته. ولما مات أحضر يحكم ندماءه وجلساءه لينتفع بما عندهم من الحكمة فلم يفهم عنهم لعجمته. وكان آخر خليفة خطب على المنبر وان خطب غيره فنادر. وآخر خليفة جالس السّمر وواصل الندماء. ودولته آخر دول الخلفاء في ترتيب النفقات والجوائز والجرايات والمطابخ والخدم والحجّاب، وكان يحكم يوم وفاته غائبا بواسط حين ملكها من يد ابن البريدي، فانتظر في الأمور وصول مراسمه، فورد كتابه مع كتابه أبي عبد الله الكوفيّ يأمر فيه باجتماع الوزراء وأصحاب الدواوين والقضاة والعلويّين والعبّاسيين ووجوه البلد عند الوزير أبي القاسم سليمان بن الحسن، ويشاورهم الكوفيّ فيمن ينصّب للخلافة ممن يرتضي مذهبه وطريقه، فاجتمعوا وذكروا إبراهيم بن المقتدر، واتّفقوا عليه وأحضروه من الغد وبايعوا له آخر ربيع الأوّل من سنة تسع وعشرين. وعرضت عليه الألقاب فاختار المتقي للَّه وأقرّ سليمان على وزارته كما كان، والتدبير كله للكوفيّ كاتب يحكم، وولّى سلامة الطولوني على الحجبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 مقتل يحكم كان أبو عبد الله البريدي بعد هربه إلى البصرة من واسط أنفذ جيشا إلى المدار، فبعث إلى لقائهم جيشا من واسط عليهم توزون انتخب له الكرة، فظفر بجيش ابن البريدي ولقي يحكم خبره في الطريق فسرّ بذلك، وذهب يتصيّد فبلغ نهر جور، وعثر في طريقه ببعض الأكراد فشره [1] لغزوهم، وقصدهم في خفّ من أصحابه وهربوا بين يديه وهو يرشقهم بسهامه، وجاءه غلام منهم من خلفه فطعنه فقتله. واختلف عسكره فمضى الديلم فكانوا ألفا وخمسمائة إلى ابن البريدي، وقد كان عزم على الهرب من البصرة، فبعث لقدومهم وضاعف أرزاقهم وأدرّها عليهم، وذهب الأتراك إلى واسط وأطلقوا بكتيك [2] من حبسه وولّوه عليهم، فسار بهم إلى بغداد في خدمة المتقي وحصر ما كان في دار يحكم من الأموال والدواوين فكانت ألف ألف ومائة ألف دينار ومدّة إمارته سنتان وثمانية أشهر. امارة البريدي ببغداد وعوده إلى واسط لما قتل يحكم قدّم الديلم عليهم بكشوار بن ملك بن مسافر [3] ومسافر هو ابن سلا وصاحب الطرم الّذي ملك ولده بعده أذربيجان، وقاتلهم الأتراك فقتلوه، فقدّم الديلم عليهم مكانه كورتين منهم. وقدّم الأتراك عليهم بكتيك مولى يحكم، وانحدر الديلم إلى أبي عبد الله بن البريدي فقوي بهم، وأصعدوا إلى واسط. وأرسل المتّقي إليهم مائة وخمسين ألف دينار على أن يرجعوا عنها. ثم قسّم في الأتراك في أجناد بغداد أربعمائة ألف دينار من مال يحكم. وقدّم عليهم سلامة الطولوني وبرز بهم المتّقي إلى نهر دبالي [4] آخر شعبان سنة ست وعشرين. وسار ابن البريدي من واسط فأشفق أتراك يحكم، ولحق بعضهم بابن البريدي، وسار آخرون إلى الموصل منهم توزون وجحجح. واختفى سلامة الطولوني. وأبو عبد الله الكوفيّ، ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد أوّل رمضان ونزل بالشفيعي ولقيه الوزير أبو الحسين بن ميمون   [1] الأصح: شرهت نفسه لغزوهم. [2] تكينك: ابن الأثير ج 8 ص 371. [3] بلسواز بن مالك بن مسافر المرجع السابق ص 372 وفي تجارب الأمم بلسوار. [4] نهر ديالى: ابن الأثير ج 8 ص 373. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 والكتّاب والقضاة وأعيان الناس، وبعث إليه المتّقى بالتهنئة والطعام، وكان يخاطب بالوزير. ثم قبض على الوزير أبي الحسين لشهرين من وزارته وحبسه بالبصرة وطلب من المتّقي خمسمائة ألف دينار للجند، وهدّده بما وقع للمعتزّ والمستعين والمهتدي، فبعث بها إليه ولم يلقه مدّة مقامه ببغداد. ولمّا وصله المال من المتّقي شغب الجند عليه في طلبه وجاء الديلم إلى دار لأخيه أبي الحسين، ثم انضم إليهم الترك، وقصدوا دار أبي عبد الله، فقطع الجسر ووثب العامّة على أصحابه، وهرب هو وأخوه وابنه أبو القاسم وأصحابهم، وانحدروا إلى واسط وذلك سلخ رمضان لأربعة وعشرين يوما من قدومه. امارة كورتكين الديلمي ّ ولما هرب ابن البريدي استولى كورتكين على الأمور ببغداد ودخل إلى المتقي، فقلّده إمارة الأمراء، وأحضر عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن فدبّر الأمور ولم يسمّهما بوزارة واستوزر أبا إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي القراريطي، وولّى على الحجبة بدرا الجواشيني. ثم قبض كورتكين على بكتيك مقدّم الأتراك خامس شوّال، وغرّقه واقتتل الأتراك والديلم وقتل بينهما خلق، وانفرد كورتكين بالأمر وقبض على الوزير أبي إسحاق القراريطي لشهر ونصف من وزارته، وولّى مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخيّ. عود ابن رائق إلى بغداد قد تقدّم لنا أن جماعة من أتراك يحكم لما انفضوا عن المتّقي ساروا إلى الموصل، ثم ساروا منها إلى ابن رائق بالشام، وكان من قوّادهم توزون وجحجح وكورتكين وصيقوان [1] فأطمعوه في بغداد. ثم جاءته كتب المتّقي يستدعيه، فسار آخر رمضان واستخلف بالشام أبا الحسن أحمد بن عليّ بن مقاتل وتنحّى ناصر الدولة بن حمدان على طريقه. ثم حمل إليه مائة ألف دينار وصالحه، وبلغ الخبر إلى أبي عبد الله بن البريدي، فبعث إخوته إلى واسط وأخرج الديلم عنها وخطبوا له بها. وخرج   [1] هناك بعض الاختلاف والتحريف في الأسماء وفي الكامل ج 8 ص 375: «توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 كورتكين عن بغداد إلى عكبرا فقاتله ابن رائق أياما ثم أسرى له ليلة عرفة فأصبح ببغداد من الجانب الغربيّ ولقي الخليفة وركب معه في دجلة، ووصل كورتكين آخر النهار فركب ابن رائق لقتاله وهو مرجل، واعتزم على العود إلى الشام [1] ، ثم طائفة من عسكره ليعبروا دجلة ويأتوا من ورائهم، وصاحت العامّة مع ابن رائق بكورتكين وأصحابه ورجموهم، فانهزموا واستأمن منهم نحو أربعمائة فقتلوا وقتل قوّاده، وخلع المتّقي على ابن رائق وولّاه أمير الأمراء، وعزل الوزير أبا جعفر الكرخيّ لشهر من ولايته، وولّى مكانه أحمد الكوفيّ وظفر بكورتكين فحبسه بدار الخلافة. وزارة ابن البريدي واستيلاؤه على بغداد وفرار المتقي الى الموصل لما استقرّ ابن رائق في إمارة الأمراء بدمشق ببغداد أخّر ابن البريدي حمل المال من واسط، فانحدر إليه في العساكر في عاشوراء من سنة ثلاثين، وهرب بنو البريدي إلى البصرة. ثم سعى أبو عبد الله الكوفيّ بينهم وبين ابن رائق، وضمن واسط بستمائة ألف دينار وبقاياها بمائتي ألف. ورجع ابن رائق إلى بغداد فشغبت عليه الجند، وفيهم تورون وأصحابه. ثم انفضوا آخر ربيع إلى أبي عبد الله بواسط، فقوي بهم وذهب ابن رائق إلى مداراته، فكاتبه بالوزارة واستخلف عليها أبا عبد الله بن شيرزاد. ثم انتقض واعتزم على المسير إلى بغداد في جميع الأتراك والديلم. وعزم ابن رائق على التحصّن بدار الخلافة، ونصب عليها المجانيق والعرّادات، وجنّد العامّة، فوقع الهرج، وخرج بالمتّقي إلى نهر دبالي منتصف جمادى الآخرة. وأتاهم أبو الحسين في الماء والبرّ فهزمهم ودخل دار الخلافة، وهرب المتّقي وابنه أبو منصور وابن رائق إلى الموصل لستة أشهر من إمارته. واختفى الوزير القراريطي ونهبت دار الخليفة، ودور الحرم، وعظم الهرج، وأخذ كورتكين من محبسه فأنفذ إلى واسط، ولم يتعرّضوا للقاهر. وكان نزل أبو الحسن بدار الخلافة وجعل توزون على الشرطة بالجانب الغربيّ، وأخذ رهائن القوّاد توزون وغيره وبعث بنسائهم وأولادهم إلى   [1] يبدو هنا انه حذفت عبارة أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 376: «ثم انه عزم ان يناوشهم شيئا من قتال قبل مسيره فأمر طائفة من عسكره ان يعبروا دجلة ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 أخيه عبد الله بواسط. وعظم النهب ببغداد وترك دورهم وفرضت المكوس في الأسواق خمسة دنانير على الكرّ فغلت الأسعار، وانتهى إلى ثلاثمائة دينار الكرّ، وجاءت ميرة من الكوفة وأخذت فقيل إنها لعامل الكوفة، وأخذها عامل بغداد وكان معه جماعة من القرامطة فقاتلهم الأتراك وهزموهم، ووقعت الحرب بين العامّة والديلم فقتل خلق من العامة، واختفى العمّال لمطاولة الجند إلى الضواحي ينتهبون الزرع بسنبله عند حصاده، وساءت أحوال بغداد وكثرت نقمات الله فيهم. مقتل ابن رائق وولاية ابن حمدان مكانه كان المتّقي قد بعث إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمدّه على ابن البريدي عند ما قصد بغداد، فأمدّه بعسكر مع أخيه سيف الدولة، فلقيه بتكريت منهزما ورجع معه إلى الموصل. وخرج ناصر الدولة عن الموصل حتى حلف له ابن رائق واتفقا، فجاء وتركه شرقي دجلة وعبر إليه أبو منصور المتّقي وابن رائق فبالغ في تكرمتهما. فلما ركب ابن المتّقي قال لابن رائق: أقم نتحدّث في رأينا فذهبا إلى الاعتذار، وألحّ عليه ناصر الدولة فاستراب وجذب يده وقصد الركوب، فسقط فأمر ناصر الدولة بقتله وإلقائه في دجلة، وبعث إلى المتّقي بالعذر وأحسن القول، وركب إليه فولّاه أمير الأمراء ولقّبه ناصر الدولة وذلك مستهل شعبان من سنة ثلاثين، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقّبه بسيف الدولة، فلمّا قتل ابن رائق سار الإخشيد من مصر إلى دمشق وبها محمد بن يزداد من قبل ابن رائق فاستأمن إليه وملك الإخشيد دمشق وأقر ابن يزداد عليها ثم نقله إلى شرطة مصر. عود المتّقي إلى بغداد وفرار البريدي لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد وأساء السيرة كما مرّ، امتلأت القلوب منه نفرة، فلما قتل ابن رائق أخذ الجند في الفرار عنه والانتقاض عليه، ففرّ جحجح إلى المتّقي واعتزم تورون وأنوش تكين والأتراك على كبس أبي الحسين البريدي. وزحف تورون لذلك في الديلم فخالفه أنوش تكين في الأتراك فذهب تورون إلى الموصل فقوي بهم ابن حمدان والمتّقي وانحدروا إلى بغداد، وولّى ابن حمدان على أعمال الخراج والضياع بديار مضر، وهي الرها وحرّان. ولقيا أبا الحسن أحمد بن عليّ بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 مقاتل، فاقتتلوا وقتل ابن مقاتل واستولى ابن طبّاب عليها. ولمّا وصل المتّقي وابن حمدان إلى بغداد هرب أبو الحسين ابن البريدي منها إلى واسط لثلاثة أشهر وعشرين يوما من دخوله، واضطربت العامّة وكثر النهب ودخل المتّقي وابن حمدان في العساكر في شوّال من السنة. وأعاد أبا إسحاق القراريطي إلى الوزارة، وولّى توزون على الشرطة. ثم سار إليهم أبو الحسين البريدي، فخرج بنو حمدان للقائهم وانتهوا إلى المدائن، فأقام بها ناصر الدولة، وبعث أخاه سيف الدولة وابن عمّه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فاقتتلوا عنده أياما، وانهزم سيف الدولة أوّلا، ثم أمدّهم ناصر الدولة بالقوّاد الذين كانوا معه وجحجح بالأتراك، وعاودوا القتال فانهزم أبو الحسين إلى واسط، وأقصر سيف الدولة عن اتباعه لما أصاب أصحابه من الوهن والجراح. وعاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة. ثم سار سيف الدولة إلى واسط وهرب بنو البريدي عنها إلى البصرة فملكها وأقام بها. استيلاء الديلم على أذربيجان كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري من الخوارج. ولما قتل هارون لحق بأذربيجان وشرّد في الأكراد فولد له ديسم هذا فكبر وخدم ابن أبي الساج، وتقدّم عنده إلى أن ملك بعدهم أذربيجان. وجاء السيكري خليفة وشمكير في الجبل سنة ست وعشرين وغلبه على أذربيجان. ثم سار هو إلى وشمكير وضمن له طاعة ومالا، واستمدّه فأمدّه بعسكر من الديلم وساروا معه، فغلب السيكري وطرده وملك البلاد، وكان معظم جيشه الأكراد فتغلّبوا على بعض قلاعه فاستكثر من الديلم وفيهم صعلوك بن محمد بن مسافر بن الفضل وغيرهما [1] . فاستظهر بهم وانتزع من الأكراد ما تغلّبوا عليه، وقبض على جماعة من رؤسائهم. وكان وزيره أبو القاسم عليّ ابن جعفر قد ارتاب منه، فهرب إلى الطرم وبها محمد بن مسافر من أمراء الديلم وقد انتقض عليه ابناه وهشودان والمرزبان واستوليا على بعض قلاعه، ثم قبض على أبيهما محمد وانتزعا أمواله وذخائره وتركاه في حصنه سليبا فريدا، فقصد عليّ بن جعفر   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 386: «وفيهم صعلوك بن محمد بن مسافر وعلي بن الفضل وغيرهما» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 المرزبان وأطمعه في أذربيجان، فقلّده وزارته وكانت نحلتهما في التشيّع واحدة، لأنّ عليّ بن جعفر كان من الباطنيّة والمرزبان من الديلم وهم شيعة. وكاتب عليّ بن جعفر أصحاب ديسم واستمالهم واستفسدهم عليه وخصوصا الديلم، ثم التفتوا للحرب وجاء الديلم إلى المرزبان واستأمن معهم كثير من الأكراد، وهرب ديسم في فلّ من أصحابه إلى أرمينية واستجار بجاحق بن الديوانيّ فأجاره وأكرمه، وندم على ما فرّط في إبعاد الأكراد وهم على مذهبه في الخارجيّة. وملك المرزبان أذربيجان واستولى عليها. ثم استوحش منه عليّ بن جعفر وزير ديسم وتنكّر له أصحاب المرزبان، فأطمعه المرزبان فأخذ أموالهم وحملهم على طاعة ديسم، وقتل الديلم عندهم من جند المرزبان ففعلوا. وجاء ديسم فملكها وفرّ إليه من كان عند المرزبان حتى اشتدّ عليه الحصار، واستصلح أثناء ذلك الوزير عليّ بن جعفر، ثم خرجوا من توزير [1] ، ولحق ديسم بأردبيل، وجاء عليّ بن جعفر إلى المرزبان. ثم حاصر المرزبان أردبيل حتى نزل له ديسم على الأمان وملكها صلحا. وملك توزير كذلك، ووفّى له، ثم طلب ديسم أن يبعثه إلى قلعته بالطرم فبعثه بأهله وولده وأقام هنالك. خبر سيف الدولة بواسط لما فرّ بنو البريدي عن واسط إلى البصرة ونزل بها سيف الدولة أراد الانحدار خلفهم لانتزاع البصرة منهم، واستمدّ أخاه ناصر الدولة فأمدّه بمال مع أبي عبد الله الكوفيّ، وكان تورون وجحجح يستطيلان عليه، فأراد الاستئثار بالمال فردّه سيف الدولة مع الكوفيّ إلى أخيه، وأذن لتورون في مال الجامدة ولجحجح في مال المدار. وكان من قبل يراسل الأتراك وملك الشام ومصر معه فلا يجيبونه. ثم ثاروا عليه في شعبان من سنة إحدى وثلاثين، فهرب من معسكره ونهب سواده وقتل جماعة من أصحابه. وكان ناصر الدولة لما أخبره أبو عبد الله الكوفي بخبر أخيه في واسط، برز يسير إلى الموصل، وركب إليه المتّقي يستمهله، فوقف حتى عاد وأغذّ السير لثلاثة عشر شهرا من إمارته، فثار الديلم والأتراك ونهبوا داره، ودبّر الأمور أبو إسحاق القراريطي من غير لقب الوزارة. وعزل أبو العبّاس الأصبهاني لأحد وخمسين يوما من وزارته، ثم تنازع الإمارة بواسط بعد سيف الدولة تورون وجحجح، واستقرّ الحال   [1] تبريز: ابن الأثير ج 8 ص 387. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 أن يكون تورون أميرا وجحجح صاحب الجيش. ثم طمع ابن البريدي في واسط وأصعد إليها وطلب من تورون أن يضمّنه إيّاها، فردّه ردّا جميلا. وكان قد سار جحجح لمدافعته فمرّ به الرسول في طريقه وحادثة طويلا، وسعى إلى تورون بأنه لحق بابن البريدي فأسرى إليه وكبسه منتصف رمضان، فقبض عليه وجاء به إلى واسط فسمله، وبلغ الخبر إلى سيف الدولة وكان لحق بأخيه، فعاد إلى بغداد منتصف رمضان، وطلب المال من المتّقي لمدافعة تورون، فبعث أربعمائة ألف درهم وفرّقها في أصحابه وظهر له من كان مستخفيا ببغداد وجاء تورون من واسط بعد أن خلّف بها كيغلغ. فلمّا أحس به سيف الدولة رحل فيمن انضم إليه من أجناد واسط وفيهم الحسن بن هارون، وسار إلى الموصل ولم يعاود بنو حمدان بعدها بغداد. امارة تورون ثم وحشته مع المتقي لما سار سيف الدولة عن بغداد دخلها تورون آخر رمضان سنة إحدى وثلاثين، فولّاه المتّقي أمير الأمراء، وجعل النظر في الوزارة لأبي جعفر الكرخيّ كما كان الكوفيّ. ولما سار تورون عن واسط خالفه إليها البريدي فملكها. ثم انحدر تورون أوّل ذي القعدة لقتل البريدي، وقد كان يوسف بن وجيه صاحب عمان سار في المراكب إلى البصرة، وحارب ابن البريدي حتى أشرفوا على الهلاك. ثم احترقت مراكب عمان بحيلة دبّرها بعض الملّاحين ونهب منها مال عظيم. ورجع يوسف بن وجيه مهزوما في المحرّم سنة اثنتين وثلاثين، وهرب في هذه الفتنة أبو جعفر بن شيرزاد من تورون فاشتمل عليه، وكان تورون عند إصعاده من بغداد استخلف مكانه محمد بن ينال الترجمان. ثم تنكّر فارتاب محمد، وارتاب الوزير أبو الحسن بن مقلة بمكان ابن شيرزاد من تورون وخافا غائلته وخوّفا المتّقي كذلك، وأوهماه أنّ البريدي ضمنه من تورون بخمسمائة ألف دينار التي أخذها من تركة يحكم، وأنّ ابن شيرزاد جاء عن البريدي ليخلفه ويسلّمه، فانزعج لذلك وعزم على المسير إلى ابن حمدان، وكتبوا إليه أن ينفذ عسكرا يسير صحبته. مسير المتقي إلى الموصل ولما تمت سعاية ابن مقلة وابن ينال بتورون مع المتّقي اتّفق وصول ابن شيرزاد إلى بغداد أوّل اثنتين وثلاثين في ثلاثمائة فارس، وأقام بدست الأمر والنهي لا يعرج على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 المتّقي في شيء. وكان المتّقي قد طلب من ناصر الدولة بن حمدان عسكرا يصحبه إلى الموصل، فبعثهم ابن عمّه ابو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلمّا وصلوا بغداد اختفى ابن شيرزاد وخرج المتّقي إليهم في حرمه وولده، ومعه وزيره وأعيان دولته مثل سلامة الطولوني وأبي زكريا يحيى بن سعيد السوسي وأبي محمد المارداني وأبي إسحاق القراريطي وأبي عبد الله الموسوي وثابت بن سنان بن ثابت بن قرّة الطبيب، وأبي نصر بن محمد بن ينال الترجمان. وساروا إلى تكريت وظهر ابن شيرزاد في بغداد، وظلم الناس وصادرهم، وبعث إلى تورون في واسط بخبر المتّقي، فعقد ضمان واسط على ابن البريدي، وزوّجه ابنته، وسار إلى بغداد. وجاء سيف الدولة إلى المتّقي بتكريت. ثم بعث المتّقي إلى ناصر الدولة يستحثّه، فوصل اليه في ربيع الآخر، وركب المتّقي من تكريت إلى الموصل، وأقام هو بتكريت. وسار تورون لحربه فتقدّم إليه أخوه سيف الدولة فاقتتلوا أياما. ثم انهزم سيف الدولة وغنم تورون سواده وسواد أخيه، ولحقوا بالموصل وتورون في اتّباعهم. ثم ساروا عنها مع المتّقي إلى نصيبين، ودخل تورون الموصل ولحق المتّقي بالرقّة، وراسل تورون بأنّ وحشته لأجل ابن البريدي، وأنّ رضاه في إصلاح بني حمدان، فصالحهما تورون وعقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين بثلاثة آلاف وستمائة ألف درهم لكل سنة، وعاد تورون إلى بغداد وأقام المتّقي وبنو حمدان بالرقّة. مسير ابن بويه الى واسط وعوده عنها ثم استيلاؤه عليها كان معزّ الدولة بن بويه بالأهواز، وكان ابن البريدي يطمعه في كل وقت في ملك العراق، وكان قد وعده أن يمدّه واسط. فلمّا أصعد تورون إلى الموصل خالفه معزّ الدولة إلى واسط وأخلف ابن البريدي وعده في المدد. وعاد تورون من الموصل إلى بغداد، وانحدر منها للقاء معزّ الدولة منتصف ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين، واقتتلوا بقباب حميد بضعة عشر يوما. ثم تأخر تورون إلى نهر ديالى فعبره ومنع الديلم من عبوره بمن كان معه من المقاتلة في الماء، وذهب ابن بويه ليصعد ويتمكن من الماء، فبعث تورون بعض أصحابه فعبروا ديالى وكمنوا له حتى إذا صار مصعدا خرجوا عليه على غير أهبه، فانهزم هو ووزيره الصهيري [1] وأسر منهم أربعة عشر   [1] الصيمري وقد مرّ ذكره من قبل راجع ابن الأثير ج 8 ص 408. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 قائدا واستأمن كثير من الديلم إلى تورون، ولحق ابن بويه والصهيري بالسوس. ثم عاد إلى واسط ثانية فملكها ولحق أصحاب بني البريدي بالبصرة. قتل ابن البريدي أخاه ثم وفاته كان أبو عبد الله بن البريدي قد استهلك أمواله في هذه النوائب التي تنوبه، واستقرض من أخيه أبي يوسف مرّة بعد مرّة، وكان أثرى منه ومال الجند إليه لثروته. وكان يعيب على أخيه تبذيره وسوء تدبيره. ثم نمي الخبر إليه أنه يريد المكر به، والاستبداد بالأمر. وتنكّر كل واحد منهما للآخر، ثم أكمن أبو عبد الله غلمانه في طريق أبي يوسف فقتلوه، وشغب الجند لذلك فأراهم شلوه فافترقوا، ودخل دار أخيه وأخذ ما فيها من الأموال، وجواهر نفيسة كان باعها له بخمسين ألف درهم، وكان أصلها ليحكم وهبها لبنته حين زوّجها له، وأخذ يحكم من دار الخلافة، فاحتاج إليها أبو عبد الله بعد فباعها له وبخسه أبو يوسف في قيمتها. وكان ذلك من دواعي العداوة بينهما. ثم هلك أبو عبد الله بعد مهلك أخيه بثمانية أشهر، وقام بالأمر بعده بالبصرة أخوهما أبو الحسن، فأساء السيرة في الجند فثاروا به ليقتلوه، فهرب منهم إلى هجر مستجيرا بالقرامطة، وولّوا عليهم بالبصرة أبا القاسم ابن أخيه أبي عبد الله، وأمدّ أبو طاهر القرمطيّ أبا الحسن، وبعث معه أخويه لحصار البصرة فامتنعت عليهم، وأصلحوا بين أبي القاسم وعمّه، ودخل البصرة وسار منها إلى تورون ببغداد. ثم طمع يأنس مولى أبي عبد الله في الرئاسة وداخل بعض قوّاد الديلم في الثورة بأبي القاسم، واجتمع الديلم إلى القائد وبعث أبو القاسم وليه يأنس فهمّ به ليفرد بالأمر، فهرب يأنس واختفى وتفرّق الديلم واختفى القائد. ثم قبض عليه ونفاه وقبض على يأنس بعد أيام وصادره على مائة ألف دينار، وقتله. ولما قدم أبو الحسين البريدي إلى بغداد مستأمنا إلى تورون فأمّنه وطلب الإمداد على ابن أخيه، وبذل في ذلك أموالا. ثم بعث ابن أخيه من البصرة بالأموال فأقرّه على عمله وشعر أبو الحسن بذلك فسعى عند ابن تورون في ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه، وضرب واستظهر أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي بفتاوى الفقهاء والقضاة بإباحة دم أبي الحسين، كانت عنده من أيام ناصر الدولة، وأحضروا بدار المتّقي وسئلوا عن فتاويهم، فاعترفوا بأنهم أفتوا بها، فقتل وصلب ثم أحرق ونهب داره. وكان ذلك منتصف ذي الحجة من السنة، وكان ذلك آخر أمر البريديين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 الصوائف أيام المتّقي خرج الروم سنة ثلاثين أيّام المتّقي وانتهوا إلى قرب حلب فعاثوا في البلاد وبلغ سبيهم خمسة آلاف. وفيها دخل ثمل من ناحية طرسوس فعاث في بلاد الروم، وامتلأت أيدي عسكره من الغنائم، وأسر عدّة من بطارقتهم. وفي سنة إحدى وثلاثين بعث ملك الروم إلى المتّقي يطلب منه منديلا في بيعة الرّها زعموا أنّ المسيح مسح به وجهه، فارتسمت فيه صورته، وأنه يطلق فيه عددا كثيرا من أسرى المسلمين، واختلف الفقهاء والقضاة في إسعافه بذلك، وفيه غضاضة أو منعه ويبقى المسلمون بحال الأسر. فأشار عليه عليّ ابن عيسى بإسعافه لخلاص المسلمين، فأمر المتّقي بتسليمه إليهم. وبعث إلى ملك الروم من يقوم بتسليم الأسرى. وفي سنة اثنتين وثلاثين خرجت طوارق من الروس [1] في البحر إلى نواحي أذربيجان، ودخلوا في نهر اللكز إلى بردعة. وبها نائب المرزبان ابن محمد بن مسافر ملك الديلم بأذربيجان، فخرج في جموع الديلم والمطوعة فقتلوهم، وقاتلوهم فهزموهم الروس وملكوا البلد، وجاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية لقتالهم فامتنعوا بها، ورماهم بعض العامّة بالحجارة فأخرجوهم من البلد وقاتلوا من بقي، وغنموا أموالهم واستبدّوا بأولادهم ونساءهم. واستنفر المرزبان الناس وزحف إليهم في ثلاثين ألفا، فقاتلوهم فامتنعوا عليه فأكمن لهم بعض الأيام فهزمهم وقتل أميرهم، ونجا الباقون إلى حصن البلد، وحاصرهم المرزبان وصابرهم. ثم جاءه الخبر بأنّ أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان بلغ سلماس موجها إلى أذربيجان بعثه إليها ابن عمّه ناصر الدولة ليتملكها، فجهّز عسكرا لحصار الروس في بردعة، وسار إلى قتال ابن حمدان. فارتحل ابن حمدان راجعا إلى ابن عمه باستدعائه بالانحدار إلى بغداد. لما مات تورون وأقام العسكر على حصار الروس ببردعة، حتى هربوا من البلد وحملوا ما قدروا عليه، وطهّر الله البلد منهم. وفيها ملك الروم رأس عين واستباحوها ثلاثا وقاتلهم الأعراب ففارقوها.   [1] الروس وهم المسمون الآن بالموسقو وهم عدد كثير (أهـ-) من خط الشيخ العطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 الولايات أيام المتقى قد تقدّم لنا أنه لم يكن بقي في تصريف الخليفة إلّا أعمال الأهواز والبصرة وواسط والجزيرة والموصل لبني حمدان. واستولى معزّ الدولة على الأهواز ثم على واسط، وبقيت البصرة بيد أبي عبد الله بن البريدي واستولى على بغداد مع المتّقى يحكم، ثم ابن البريدي، ثم تورتكين الديلميّ، ثم ابن رائق ثانية، ثم ابن البريدي ثانية، ثم حمدان، ثم تورون. يختلفون على المتّقى واحدا بعد واحد، وهو مغلب لهم والحلّ والعقد والإبرام والنقض بأيديهم، ووزير الخليفة عامل من عمّالهم متصرّف تحت أحكامهم، وآخر من دبّر الأمور أبو عبد الله الكوفي كاتب تورون، وكان قبله كاتب ابن رائق، وكان على الحجبة بدر بن الجرسيّ، فعزل عنها سنة ثلاثين وجعل مكانه سلامة الطولوني وولي بدر طريق الفرات ففزع إلى الإخشيد واستأمن إليه فولّاه دمشق. وكان من المستبدّين في النواحي يوسف بن وجيه، وكان صاحب الشرطة ببغداد أبا العبّاس الديلميّ. خلع المتّقي وولاية المستكفي لم يزل المتّقي عند بني حمدان من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين إلى آخر السنة، ثم آنس منهم الضجر واضطرّ لمراجعة تورون، فأرسل إليه الحسن بن هارون وأبا عبد الله بن أبي موسى الهاشميّ في الصلح، وكتب إلى الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه، فجاءه وانتهى إلى حلب وبها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمّه ناصر الدولة، فارتحل عنها وتخلّف عنه ابن مقاتل، وقد كان صادره ناصر الدولة على خمسين ألف دينار، فاستقدم الإخشيد وولّاه خراج مصر. وسار الإخشيد من حلب ولقي المتّقي بالرقّة، وأهدى إليه والي الوزير بن الحسين بن مقلة وسائر الحاشية، واجتهد به أن يسير معه إلى مصر ليقيم خلافته هنالك فأبى، فخوّفه من تورون فلم يقبل. وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر فيحكّمه في البلاد فأبى، وكانوا ينتظرون عود رسلهم من تورون، فبعثوا إليهم بيمين تورون والوزير ابن شيرزاد بمحضر القضاة والعدول والعبّاسيّين والعلويّين وغيرهم من طبقات الناس. وجاء الكتاب بخطوطهم بذلك وتأكيد اليمين، ففارق المتّقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 الإخشيد وانحدر من الوقت في الفرات آخر المحرّم سنة ثلاث وثلاثين، ولقيه تورون بالسندية فقبّل الأرض وقال: قد وفّيت بيميني! ووكّل به وبأصحابه وأنزله في خيمته. ثم سمله لثلاث سنين ونصف من خلافته، وأحضر أبا القاسم عبد الله بن المكتفي فبايعه الناس على طبقاتهم، ولقّب المستكفي، وجيء بالمتّقي فبايعه وأخذت منه البردة والقضيب واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامريّ، فكان له اسم الوزارة على سنن من قبله، والأمور راجعة لابن شيرزاد كاتب تورون. ثم خلع المستكفي على تورون وتوجه وحبس المتّقي. وطلب أبا القاسم الفضل بن المقتدر الّذي لقّب فيما بعد بالمطيع، فاختفى سائر أيامه وهدمت داره. وفاة توزون وامارة ابن شيرزاد وفي المحرّم من سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة مات توزون ببغداد لست سنين وخمسة أشهر من إمارته، وكان ابن شيرزاد كاتبه أيامه كلّها، وبعثه قبل موته لاستخلاص الأموال من هيت. فلما بلغه خبر الوفاة عزم على عقد الإمارة لناصر الدولة بن حمدان، فأبى الجند من ذلك واضطربوا وعقدوا له الرئاسة عليهم، واجتمعوا عليه وحلفوا، وبعث إلى المستكفي ليحلف له، فأجابه وجلف له بحضرة القضاة والعدول، ودخل إليه ابن شيرزاد فولّاه أمير الأمراء، وزاد في الأرزاق زيادة متّسعة فضاقت عليه الأموال، فبعث أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشميّ إلى ابن حمدان يطالبه بالمال ويعده بإمارة الأمراء، فأنفذ إليه خمسمائة ألف درهم وطعاما. وفرّقها في الجند فلم تكف ففرض الأموال على العمّال والكتّاب والتجّار لأرزاق الجند، ومدّت الأيدي إلى أموال الناس، وفشا الظلم وظهرت اللصوص وكبسوا المنازل، وأخذ الناس في الخلاص من بغداد. ثم استعمل على واسط ينال كوشه، وعلى تكريت الفتح السيكري، فسار إلى ابن حمدان ودعا له شكرا فولّاه عليها من قبله. استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد واندراج أحكام الخلافة في سلطانهم قد تقدّم لنا استبداد أهل النواحي على الخلافة منذ أيام المتوكّل، ولم يزل نطاق الدولة العبّاسية يتضايق شيئا فشيئا، وأهل الدولة يستبدّون واحدا بعد واحد إلى أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 أحاطوا ببغداد وصاروا ولاة متعدّدة يفرد كل واحد منهم بالذكر وسياقة الخبر إلى آخرها. وكان من أقرب المستبدّين إلى مقر الخلافة بنو بويه بأصبهان وفارس، ومعزّ الدولة منهم بالأهواز. وقد تغلّب على واسط، ثم انتزعت منه. وبنو حمدان بالموصل والجزيرة، وقد تغلب على هيت وصارت تحت ملكهم، ولم يبق للخلفاء إلّا بغداد ونواحيها ما بين دجلة والفرات وأمراؤهم مع ذلك مستبدّون عليهم، ويسمّون القائم بدولتهم أمير الأمراء كما مرّ في أخبارهم إلى أن انتهى ذلك إلى دولة المتّقي والقائم بها ابن شيرزاد. وولي على واسط ينال كوشه كما قلنا فانحرف عن ابن شيرزاد وكاتب معزّ الدولة، وقام بدعوته في واسط واستدعاه لملك بغداد. فزحف في عساكر الديلم إليها ولقيه ابن شيرزاد والأتراك وهربوا إلى ابن حمدان بالموصل، واختفى المستكفي وقدّم معزّ الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلّبيّ إلى بغداد، فدخلها وظهر الخليفة، فظهر عنده المهلبيّ وجدّد له البيعة عن معزّ الدولة أحمد بن بويه، وعن أخويه عماد الدولة عليّ وركن الدولة الحسن. وولّاهم المستكفي على أعمالهم ولقبهم بهذه الألقاب ورسمها على سكّته. ثم جاءه معزّ الدولة إلى بغداد وملكها، وصرف الخليفة في حكمه، واختصّ باسم السلطان. فبقيت أخبار الدولة إنما تؤثر عنهم، وإن كان منها ما يختص بالخليفة فقليل. فلذلك صارت أخبار هؤلاء الخلفاء منذ المستكفي إلى المتّقي مندرجة في أخبار بني بويه والسلجوقيّة من بعدهم لعطلهم من التصرّف إلا قليلا يختصّ بالخلفاء نحن ذاكروه ونرجئ بقية أخبارهم إلى أخبار الديلم والسلجوقيّة الغالبين على الدولة عند ما نفرد دولتهم كما شرطناه. الخبر عن الخلفاء من بني العباس المغلبين لدولة بني بويه من السلجوقية من بعدهم من لدن المستكفي إلى المتقي وما لهم من الأحوال الخاصة بهم ببغداد ونواحيها لما دخل معزّ الدولة بن بويه إلى بغداد غلب على المستكفي وبقي في كفالته، وكان المستكفي في سنة ثلاث وثلاثين قبلها قبض على كاتبه أبي عبد الله بن أبي سليمان، وعلى أخيه، واستكتب أبا أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي في خاص أمره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 وكان قبله كاتبا لابن حمدان، وكان يكتب للمستكفي قبل الخلافة. فلما نصّب للخلافة قدم من الموصل فاستكتبه المستكفي في هذه السنة على وزيره أبي الفرج لاثنتين وأربعين يوما من وزارته، وصادره على ثلاثمائة ألف درهم. ولما استولى معزّ الدولة ببغداد على الأمر وبعث أبو القاسم البريدي صاحب البصرة ضمن واسط وأعمالها وعقد له عليها. خلع المستكفي وبيعة المطيع وأقام المستكفي بعد استيلاء معزّ الدولة على الأمر أشهرا قلائل، ثم بلغ معزّ الدولة أنّ المستكفي يسعى في إقامة غيره، فتنكّر له، ثم أجلسه في يوم مشهود لحضور رسول من صاحب خراسان، وحضر هو في قومه وعشيرته، وأمر رجلين من نقباء الديلم جاءا ليقبّلا يد المستكفي، ثم جذباه عن سريره وساقاه ماشيا. وركب معزّ الدولة وجاء به إلى داره فاعتقله بها، واضطرب الناس وعظم النهب ونهب دار الخلافة، وقبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المستكفي، وكان ذلك في جمادى الآخرة لسنة وأربعة أشهر من خلافته. ثم بويع أبو القاسم الفضل بن المقتدر، وقد كان المستكفي طلبه حين ولي لاطلاعه على شأنه في طلب الخلافة، فلم يظفر به واختفى. فلما جاء معزّ الدولة تحوّل إلى داره واختفى عنده، فلما قبض على المستكفي بويع له ولقّب المطيع للَّه، ثم أحضر المستكفي عنده فأشهد على نفسه بالخلع، وسلّم عليه بالخلافة، ولم يبق للخليفة من الأمر شيء البتة منذ أيام معزّ الدولة. ونظر وزير الخليفة مقصور على أقطاعه ونفقات داره والوزارة منسوبة إلى معزّ الدولة وقومه من الديلم شيعة للعلويّة منذ إسلامهم على يد الأطروش، فلم يكونوا من شيعة العبّاسية في شيء ولقد يقال بأنّ معزّ الدولة اعتزم على نقل الخلافة منهم إلى العلويّة، فقال له بعض أصحابه. لا تولّ أحدا يشركك قومك كلّهم في محبته والاشتمال عليه، وربما يصير لهم دونك، فأعرض عن ذلك وسلبهم الأمر والنهي، وتسلّم عمّاله وجنده من الديلم وغيرهم أعمال العراق وسائر أراضيه، وصار الخليفة إنما يتناول منه ما يقطعه معزّ الدولة ومن بعده فما يسدّ بعض حاجاته. نعم إنهم كانوا يفردونهم بالسرير والمنبر والسكّة والختم على الرسائل والصكوك والجلوس للوفد وإجلالهم في التحية والخطاب، وكل ذلك طوع القائم على الدولة، وكان يفرد في كل دولة بني بويه والسلجوقية بلقب السلطان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 مما لا يشاركه فيه أحد، ومعنى الملك من تصريف القدرة وإظهار الأبهة والعزّ حاصل له دون الخليفة وغيره، وكانت الخلافة حاصلة للعبّاسيّ المنصوب لفظا مسلوبة معنى، والله المدبّر للأمور لا إله غيره. انقلاب حال الدولة بما تجدّد في الجباية والأقطاع لما استولى معزّ الدولة طلب الجند أرزاقهم على عادتهم وأكثر لسبب ما تجدّد من الاستيلاء الّذي لم يكن له، فاضطرّ إلى ضرب المكوس وأخذ أموال الناس من غير وجهها، وأقطع قوّاده وأصحابه من أهل عصبيته وغير المساهمين له في الأمر جميع القرى التي بجانب السلطان، فارتفعت عنها أيدي العمّال وبطلت الدواوين واختلف حال القرى في العمارة عما كان في أيدي القوّاد والرؤساء، حصل بهم لأهلها الرّفق فزادت عمارتها وتوفّر دخلها. ولم تكن مناظرتهم في ذلك ولا تقديره عليهم، وما كان بأيدي العامّة والأتباع عظم خرابه لما كان يعدم من الغلاء والنهب واختلاف الأيدي وما يزيد الآن من الظلم ومصادرات الرعايا والحيف في الجباية وإهمال النظر في تعديل القناطر والمشارب، وقسّم المياه على الأرضين فإذا خربت قراهم ردّوها وطلبوا العوض عنها فيصير الآخر منها لما صار إليه الأوّل. ثم أمر معزّ الدولة قوّاده وأصحابه بحماية الأقطاع والضياع وولاتها، وصارت الجبايات لنظرهم والتعويل في المرتفع على أخبارهم. فلا يقدر أهل الدواوين والحسابات على تحقيق ذلك عليهم، ولم يقف عند ذلك على غاية. فبطلت الأموال وصار جمعها من المكوس والظلامات، وعجز معزّ الدولة عن ذخيرة يعدّها لنوائب سلطانه. ثم استكثر من الموالي الأتراك ليجدع بهم من أنوف قومه، وفرض لهم الأرزاق وزاد لهم الأقطاع، فعظمت غيرة قومه من ذلك وآل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في طبيعة الدول. دولة بني حمدان مسير ابن حمدان الى بغداد ولما استولى معزّ الدولة على بغداد وخلع المستكفي، بلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان، فشقّ ذلك عليه، وسار من الموصل إلى بغداد وانتهى الى سامرّا في شعبان سنة أربع. وكان معزّ الدولة حين سمع قدوم عساكره مع ينال كوشه وقائد آخر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 فقتل القائد ولحق بناصر الدولة [1] . وجاء ناصر الدولة إلى بغداد فأقام بها وخالفه معزّ الدولة إلى تكريت فنهبها لأنها من أعماله. ثم عاد معزّ الدولة والمطيع فنزلوا بالجانب الغربي من بغداد، وقاتلوا ناصر الدولة بالجانب الشرقي وتقدّم ناصر الدولة إلى الأعراب بالجانب الغربي بقطع الميرة عن معزّ الدولة فغلت الأسعار وعزّت الأقوات، ومنع ناصر الدولة من الخطبة للمطيع والمعاملة بسكّته، ودعا للمتّقي وبيّت معز الدولة مرارا. وضاق الأمر به، واعتزم على ترك بغداد والعود إلى الأهواز. ثم أظهر الرحيل ذات ليلة وأمر وزيره أبا جعفر الصهيري [2] بالعبور في أكثر العساكر، وأقام بالكينة مكانه، وجاء ينال كوشه لقتاله فانهزم واضطرب عسكر ناصر الدولة وأجفلوا، وغنم الديلم أموالهم وأظهرهم. ثم أمّن معزّ الدولة الناس وعاد المطيع إلى داره في محرّم سنة خمس وثلاثين وقام التورونية عليه، فلمّا شعروا به نكروه وهمّوا بقتله، فأسرى هاربا ومعه ابن شيرزاد، وفرّ إلى الجانب الغربي. ثم لحق بالقرامطة فأجاروه وبعثوه إلى الموصل. ثم استقرّ الصلح بينه وبين الدولة كما طلب، ولما فرّ عن الأتراك اتفقوا على تكين الشيرازي فولّوه عليهم وقبضوا على من تخلّف من كتابه وأصحابه، وساروا في اتّباعه إلى نصيبين، ثم إلى سنجار، ثم إلى الحديثة، ثم إلى السن، ولحق هنالك عسكر معزّ الدولة مع وزيره أبي جعفر الصهيري، وقد كان استمدّه ناصر الدولة. وسار ناصر الدولة وابن الصهيري إلى الموصل، فنزلوا عليها وأخذ الصهيري من ناصر الدولة ابن شيرزاد وحمله إلى معزّ الدولة وذلك سنة خمس وثلاثين. استيلاء معزّ الدولة على البصرة وفي هذه السنة انتقض أبو القاسم البريدي بالبصرة، فجهّز معز الدولة الجيش جماعة أعيانهم إلى واسط، ولقيهم جيش ابن البريدي في الماء على الظهر، فانهزموا إلى البصرة وأسروا من أعيانهم جماعة. ثم سار معزّ الدولة سنة ست وثلاثين إلى البصرة   [1] العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 453: «وفيها- 334- في رجب سيّر معزّ الدولة عسكرا فيهم موسى فيادة وينال كوشة الى الموصل في مقدمته، فلما نزلوا عكبرا أوقع ينال كوشة بموسى فيادة ونهب سواده، ومضى هو ومن معه الى ناصر الدولة، وكان قد خرج من الموصل نحو العراق، ووصل ناصر الدولة الى سامرّا في شعبان، ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب معزّ الدولة بعكبرا.» [2] الصميري: وقد مرّ ذكره قبل ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 ومعه المطيع لاستنقاذها من يد أبي القاسم بن البريدي وسلكوا إليها البرية، فبعث القرامطة يعذلون في ذلك معزّ الدولة فكتب يهدّدهم. ولما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم، وهرب هو إلى القرامطة فأجاروه، وملك معزّ الدولة البصرة. ثم سار منها إلى الأهواز لتلقي أخيه عماد الدولة، وترك المطيع وأبا جعفر الصهيري بالبصرة. ولقي أخاه بأرّجان. ثم عاد إلى بغداد والمطيع معه وأراد السير إلى الموصل فأرسل إليه ناصر الدولة في الصلح وحمل المال فتركه. ثم انتقض سنة سبع وثلاثين فسار إليه معزّ الدولة، وملك الموصل، ولحق ناصر الدولة بنصيبين، وأخذ معزّ الدولة في ظلم الرعايا وعسفهم. ثم بعث إليه أخوه ركن الدولة بأصبهان بأنّ عسكر خراسان قصدت جرجان والريّ، واستمدّه فاضطرّ معزّ الدولة إلى صلح ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة وما ملكه سيف الدولة من الشام ودمشق وحلب على ثمانية آلاف ألف ألف درهم، ويخطب لعماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة بني بويه، فاستقرّ الصلح على ذلك وعاد إلى بغداد. ابتداء أمر بني شاهين بالبطيحة كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة، وحصلت عنده جبايات، فهرب إلى البطيحة خوفا من الحكّام، وأقام بين القصب والآجام يقتات بصيد السمك والطير وكشف سابلة البطيحة. واجتمع عليه جماعة من الصيّادين واللصوص. ثم اشتدّ خوفه فاستأمن إلى أبي القاسم بن البريدي صاحب البصرة نقله جماعة الجامدة ونواحي البطائح. وجمع السلاح واتخذ مقاتل على تلال البطيحة وغلب على نواحيها، وسرّح معزّ الدولة وزيره أبا جعفر الصهيري سنة ثمان وثلاثين فقاتله وهرب واستأمن أهله وعياله. ثم جاء الخبر إلى معزّ الدولة بموت أخيه عماد الدولة بفارس، واضطراب أحواله بها. فكتب إلى الصهيري بالفرار إلى شيرزاد لإصلاح الأمور، فسار إليها وعاد عمران بن شاهين إلى البطيحة، واجتمع إليه أصحابه وقوي أمره. وبعث معزّ الدولة إلى قتاله روزبهان من أعيان عسكره، فأطال حصاره في مضايق البطيحة. ثم ناجزه الحرب فهزمه عمران وهرب عسكره، وصار أصحابه يطلبون البذرقة والخفارة من جند السلطان في السابلة، وانقطع طريق البصرة إلّا على الظهر. وكان الصهيري قد هلك وولّى مكانه المهلّبيّ، فكتب معزّ الدولة إلى المهلّبيّ وهو بالبصرة، فصعد إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 واسط وأمدّه بالقوّاد والسلاح، وأطلق يده في الإنفاق. فزحف إلى البطيحة وضيّق على عمران فانتهى إلى مضايق خفيّة، وأشار عليه روزبهان بمعاجلة القوم، وكتب إلى معزّ الدولة يشكو المطاولة من المهلّبيّ، فكتب إليه معزّ الدولة بالاستبطاء فبادر إلى المناجزة وتوغّل في تلك المضايق، فانهزم وقتل من أصحابه وأسر ونجا هو سباحة في الماء، وأسر عمران أكابر القوّاد حتى صالحه معزّ الدولة وقلّده البطائح وأطلق له أهله على أن يطلق القوّاد الذين في أسره فأطلقهم. موت الصهيري ووزارة المهلبي كان أبو جعفر محمد بن أحمد الصهيري وزيرا لمعزّ الدولة، وكان قد سار لقتال عمران واستخلف مكانه أبا محمد الحسن بن محمد المهلّبيّ، فعرفت كفايته وإصلاحه وأمانته، وتوفي أبو جعفر الصهيري محاصرا لعمران، فولّى معزّ الدولة مكانه أبا محمد المهلبيّ، فأحسن السيرة وأزال المظالم وخصوصا عن البصرة فكان فيها شعب كثيرة من المظالم من أيام أبي البريدي، وتنقّل في البلاد لكشف المظالم وتخليص الحقوق، فحسن أثره ونقم عليه معزّ الدولة بعض الأمور فنكبه سنة إحدى وأربعين وحبسه في داره ولم يعزله. حصار البصرة قد تقدّم لنا أنّ القرامطة أنكروا على معز الدولة مسيره إلى البصرة على بلادهم. وذكرنا ما دار بينهم في ذلك. ولمّا علم يوسف بن وجيه استيحاشهم بعث إليهم يطمعهم في النصرة، واستمدّهم فأمدّوه. وسار في البحر سنة إحدى وأربعين، وبلغ الخبر إلى الوزير المهلبيّ، وقد قدم من شأن الأهواز. فسار إلى البصرة وسبق إليها ابن وجيه وقاتله فهزمه وظفر بمراكبه. استيلاء معز الدولة على الموصل وعوده قد تقدّم لنا صلح معزّ الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة. فلما كانت سنة سبع وأربعين أخرج حمل المال، فسار معزّ الدولة إلى الموصل في جمادى ومعه وزيره المهلبي، فاستولى على الموصل ولحق ناصر الدولة بنصيبين ومعه كتابه وجميع أصحابه، وحاشيته، ومن يعرف وجوه المنافع، وأنزلهم في قلعة كواشي وغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 وأمر الأعراب بقطع الميرة عن الموصل فضاقت الأبواب على عسكر معزّ الدولة، فسار عن الموصل إلى نصيبين واستخلف عليها سبكتكين الحاجب الكبير، وبلغه في طريقه أنّ أولاد ناصر الدولة بسنجار في عسكر، فبعث عسكرا فكبسوهم واشتغلوا بالنهب، فعاد إليهم أولاد ناصر الدولة وهم غازون فاستلحموهم، وسار ناصر الدولة عن نصيبين إلى ميافارقين. ورجع أصحابه إلى معزّ الدولة مستأمنين، فسار هو إلى أخيه سيف الدولة بحلب فتلقّاه وأكرمه وتراسلوا في الصلح على ألفي ألف درهم وتسعمائة ألف درهم، وإطلاق من أسر بسنجار وأن يكون ذلك في ضمان سيف الدولة فتمّ بينهما، وعاد معزّ الدولة إلى العراق في محرّم سنة ثمان وأربعين. بناء معز الدولة ببغداد أصاب معزّ الدولة سنة خمسين مرض أشفي منه حتى وصّى، واستوخم بغداد فارتحل إلى كلواذا ليسر إلى الأهواز، وأسف أصحابه لمفارقة بغداد، فأشاروا عليه أن يبني لسكناه في أعاليها. فبنى دارا أنفق عليها ألف ألف دينار، وصادر فيها جماعة من الناس. ظهور الكتابة على المساجد كان الديلم كما تقدّم لنا شيعة لإسلامهم على يد الأطروش، وقد ذكرنا ما منع بني بويه من تحويل الخلافة عن العبّاسية إليهم. فلما كان سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة أصبح مكتوبا على باب الجامع ببغداد: لعن صريح في معاوية ومن غصب فاطمة فدك، ومن منع من دفن الحسن عند جدّه ومن نفى أبا ذر، ومن أخرج العبّاس من الشورى، ونسب ذلك إلى معزّ الدولة. ثم محى من الليلة القابلة، فأراد معزّ الدولة إعادته، فأشار المهلبيّ بأن يكتب مكان المحو: لعن معاوية فقط والظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة أمر الناس بإظهار الزينة والفرح لعبد العزيز من أعيان الشيعة. وفي السنة بعدها أمر الناس في يوم عاشوراء أن يغلقوا دكاكينهم ويقعدوا عن البيع والشراء ويلبسوا المسوح، ويعلنوا بالنياحة، وتخرج النساء مسبّلات الشعور مسوّدات الوجوه قد شققن ثيابهنّ ولطمن خدودهنّ حزنا على الحسين، ففعل الناس ذلك. ولم يقدر أهل السنّة على منعه لأنّ السلطان للشيعة وأعيد ذلك سنة ثلاث وخمسين فوقعت فتنة بين أهل السنة والشيعة ونهب الأموال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 استيلاء معز الدولة على عمان وحصاره البطائح انحدر معز الدولة سنة خمس وخمسين إلى واسط لقتال عمران بن شاهين بالبطائح فأنفذ الجيش من هنالك مع أبي الفضل العبّاس بن الحسن، وسار إلى الأبلّة فأنفذ الجيش إلى عمان، وكان القرامطة قد استولوا عليها وهرب عنها صاحبها نافع، وبقي أمرها فوضى، فاتفق قاضيها وأهل البلد أن ينصّبوا عليهم رجلا منهم فنصّبوه، ثم قتله بعضهم فولّوا آخر من قرابة القاضي يعرف بعبد الرحمن بن أحمد بن مروان، واستكتب عليّ بن أحمد الّذي كان وصل مع القرامطة كاتبا، وحضر وقت العطاء، فاختلف الزنج والبيض في الرضا بالمساواة وبعدمها واقتتلوا، فغلب الزنج وأخرجوا عبد الوهاب واستقرّ علي بن أحمد أميرا. فلمّا جاء معزّ الدولة إلى واسط هذه السنة، قدم عليه نافع الأسود صاحب عمان مستنجدا به، فانحدر به من الأبلّة، وجهّز له المراكب لحمل العساكر، وعليهم أبو الفرج محمد بن العبّاس بن فسانجس وهي مائة قطعة، فساروا إلى عمان وملكوها تاسع ذي الحجة من سنة خمس وخمسين، وقتلوا من أهلها وأحرقوا مراكبها، وكانت تسعة وثمانين، وعاد معزّ الدولة إلى واسط، وحاصر عمران، وأقام هنالك فاعتلّ وصالح عمران وانصرف عنه. وفاة الوزير المهلبي سار الوزير المهلبي في جمادى سنة اثنتين وخمسين إلى عمان ليفتحها فاعتلّ في طريقه ورجع إلى بغداد فمات في شعبان قبل وصوله، وحمل فدفن بها لثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر من وزارته. وقبض معزّ الدولة أمواله وذخائره وصارت إليه وحواشيه، ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العبّاس بن فسانجس ولم يلقّب أحد منهما بوزارة. وفاة معز الدولة وولاية ابنه بختيار ولما رجع معزّ الدولة إلى بغداد اشتدّ مرضه فعهد بالسلطنة إلى ابنه عزّ الدولة، وتصدّق وأعتق. وتوفي في ربيع من سنة ست وخمسين لاثنتين وعشرين سنة من سلطنته، وولّى ابنه عز الدولة بختيار وقد كان أوصاه بطاعة عمّه ركن الدولة، وبطاعة ابنه عضد الدولة، لأنه كان أكبر سنا، وأخبر بالسياسة ووصّاه بحاجبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 سبكتكين وبكاتبيه أبي الفضل العبّاس وأبي الفرج، فخالف وصاياه وعكف على اللهو وأوحش هؤلاء، ونفى كبار الديلم شرها في أقطاعاتهم. وشغب عليه الأصاعد فذادهم واقتدى بهم الأتراك، وجاء أبو الفرج محمد بن العبّاس من عمان بعد أن سلّمها إلى نوّاب عضد الدولة الذين كانوا في أمداده، وخشي أن يؤمر بالمقام بها وينفرد أبو الفضل صاحبه بالوزارة ببغداد، فكان كما ظنّ. ثم انتقض بالبصرة حبشيّ بن معز الدولة على أخيه بختيار سنة ست وخمسين، فبعث الوزير أبو الفضل العبّاس فسار موريا بالأهواز ونزل واسط وكتب إلى حبشي بأنه جاء ليسلمه البصرة وطلب منه المعونة على أمره فأنفذ اليه مائتي ألف درهم وأرسل الوزير خلال ذلك إلى عسكر الأهواز أن يوافوه بالأبلّة لموعد ضربه لهم، فوافوه وكبسوا حبشيا بالبصرة وحبسوه برامهرمز ونهبوا أمواله، وكان من جملة ما أخذ له عشرة آلاف مجلّد من الكتب وبعث ركن الدولة بتخليص حبشي ابن أخيه وجعله عند عضد الدولة فأقطعه إلى أن مات سنة سبع وستين. عزل أبي الفضل ووزارة ابن بقية لما ولى أبو الفضل وزارة بختيار كثر ظلمه وعسفه، وكان محمد بن بقية من حاشية بختيار، وكان يتولّى له المطبخ. فلما كثر شغب الناس من أبي الفضل عزله بختيار سنة اثنتين وستين وولّى مكانه محمد بن بقية، فانتشر الظلم أكثر، وخربت النواحي وظهرت العيّارون ووقعت الفتن بين الأتراك وبختيار، فأصلح ابن بقية بينهم وركب سبكتكين بالأتراك إلى بختيار، ثم أفسد بينهم وتحرّك الديلم على سبكتكين وأصحابه فأرضاهم بختيار بالمال ورجعوا عن ذلك. [1] كان ناصر الدولة بن حمدان قد قبض عليه ابنه أبو ثعلب وحبسه سنة ست وخمسين وطمع في المسير إلى بغداد، وجاء أخوه حمدان وإبراهيم فازعين إلى بختيار ومستنجدين به فشغل عنهما بما كان فيه من شأن البطيحة وعمان، حتى إذا قضى وطره من ذلك وعزل أبا الفضل   [1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 631: «في هذه السنة- 363- في ربيع الأول سار بختيار الى الموصل ليستولي عليها وعلى اعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان. وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم الى بختيار، واستجارتهما به وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب. فوعدهما ان ينصرهما ويخلّص أعمالهما وأموالهما منه، وينتقم لهما، واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة وغيرها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 الوزير واستوزر ابن بقية حمله على ذلك وأغراه به. فسار إلى الموصل ونزلها في ربيع الآخر سنة ثلاث وستين. ولحق ابو ثعلب بسنجار بأصحابه وكتّابه ودواوينه. ثم سار إلى بغداد وبعث بختيار في أثره الوزير ابن بقية وسبكتكين فدخل ابن بقية بغداد وأقام سبكتكين يحاربه في ظاهرها. ووقعت الفتنة داخل بغداد في الجانب الغربي بين أهل السنّة والشيعة. واتّفق سبكتكين وأبو ثعلب على أن يقبضا على الخليفة والوزير وأهل بختيار، ويعود سبكتكين إلى بغداد مستوليا وأبو ثعلب إلى الموصل. ثم أقصر سبكتكين عن ذلك وتوقّف، وجاءه الوزير ابن بقية وأرسلوا إلى أبي ثعلب في الصلح. وأن يضمن البلاد ويردّ على أخيه حمدان أقطاعه وأملاكه إلّا ماردين، وعاد أبو ثعلب إلى الموصل ورحل بختيار، وسار سبكتكين للقائه واجتمع بختيار وأبو ثعلب على الموصل، وطلب أبو ثعلب زوجته ابنة بختيار وأن يحطّ عنه من الضمان ويلقّب لقبا سلطانيا فأجيب إلى ذلك خشية منه، ورحل بختيار إلى بغداد. وسرّ أهل الموصل برحيله لما نالهم منه، وبلغه في طريقه أنّ أبا ثعلب قتل قوما من أصحابه. وكانوا استأمنوا البختيار وزحفوا لنقل أهلهم وأموالهم فاشتدّ ذلك عليه، وكتب إلى الوزير أبي طاهر بن بقية والحاجب ابن سبكتكين يستقدمهما في العساكر، فجاءوا وعادوا إلى الموصل، وعزم على طلبه حيث سار. فأرسل أبو ثعلب في الصلح. وجاء الشريف أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي وحلف على العلم في قتل أولئك المستأمنة، وعاد الصلح والاتفاق كما كان، ورجع بختيار إلى بغداد وبعث ابنته إلى زوجها أبي ثعلب. الفتنة بين بختيار وسبكتكين والأتراك كان بختيار قد قلّت عنده الأموال وكثرت مطالب الجند وشغبهم، فكان يحاول على جمع الأموال فتوجه إلى الموصل لذلك، ثم رجع فتوجه إلى الأهواز ليجدّد ريعه إلى مصادرة عاملها، وتخلّف عنه سبكتكين والأتراك الذين معه، ووقعت فتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز واقتتلوا ولجّ الأتراك في طلب ثأرهم، وأشار عليه أصحاب الديلم بقبض رؤساء الأتراك وقوّادهم ففعل، وكان من جملتهم عامل الأهواز وكاتبه، ونهبت أموالهم وبيوتهم، ونودي في البلد باستباحتهم، وبلغ الخبر إلى سبكتكين وهو ببغداد فنقض طاعة بختيار وركب في الأتراك وحاصر داره يومين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 وأحرقها وأخذ أخويه وأمّهما فبعثهم إلى واسط في ذي القعدة سنة ثلاث وستين، وانحدر المطيع معهم فردّه وترك الأتراك في دور الديلم ونهبوها وثارت العامة مع سبكتكين لأنّ الديلم كانوا شيعة وسفكت الدماء وأحرق الكرخ وظهر أهل السنّة. خلع المطيع وولاية الطائع كان المطيع قد أصابه الفالج وعجز عن الحركة وكان يتستّر به وانكشف حاله بسبكتكين في هذه الواقعة، فدعاه إلى أن يخلع نفسه ويسلّم الخلافة عبد الكريم ففعل ذلك منتصف ذي القعدة سنة ثلاث وستين لست وعشرين سنة ونصف من خلافته، وبويع ابنه عبد الكريم ولقب الطائع. الصوائف وعادت الصوائف منذ استبدّ ناصر الدولة بن حمدان بالموصل وأعمالها، وملك سيف الدولة أخوه مدينتي حلب وحمص سنة ثلاث وثلاثين، فصار أمر الصوائف إليه فنذكرها في أخبار دولتهم. فقد كان لسيف الدولة فيها آثار وكان للروم في أيامه جولات حسنت فيها مدافعته. وأمّا الولايات فانقطعت منذ استيلاء معزّ الدولة على العراق، وانقسمت الدولة الإسلامية دولا نذكر ولايات كلّ منها في أخبارها عند انفرادها على ما شرطناه. فتنة سبكتكين وموته وامارة افتكين [1] لما وقع بختيار في الأتراك بالأهواز ما وقع وانتقض سبكتكين ببغداد عمد بختيار إلى من حبسه من الأتراك فأطلقهم، وولّى منهم على الأتراك زادويه الّذي كان عامل الأهواز، وسار إلى واسط للقائه وأخويه، وكتب إلى عمه ركن الدولة وابن عمه عضد الدولة يستنجدهما، وإلى أبي ثعلب بن حمدان في المدد بنفسه، ويسقط عنه مال الأقطاع، وإلى عمران بن شاهين بالبطيحة كذلك، فجهّز إليه عمّه ركن الدولة العسكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وكتب إلى ابن عمّه عضد الدولة بالمسير معه فتثاقل وتربّص بختيار طمعا في ملك العراق. وأمّا عمران بن شاهين فدافع واعتذر   [1] ألفتكين: ابن الأثير ج 8 ص 648. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 بأنّ عسكره لا يفتكون في الديلم لما كان بينهم، وأمّا أبو ثعلب فبعث أخاه أبا عبد الله الحسين في عسكر إلى تكريت. فلما سار الأتراك عن بغداد إلى واسط لقتال بختيار وجاء هو إليها ليقيم الحجة في سقوط الأقطاع عنه، ووجد الفتنة حامية بين العيّارين فكفّ القسامة وانتظر ما يقع ببختيار فيدخل بغداد ويملكها. ولمّا سار الأتراك إلى واسط حملوا معهم خليفتهم الطائع للَّه وأباه المطيع المخلوع، وانتهوا إلى دير العاقول فهلك المطيع وسبكتكين معا، وولى الأتراك عليهم أفتكين من أكابر قوّادهم ومولى معزّ الدولة، فانتظم أمرهم وساروا إلى واسط وحاصروا بها بختيار خمسين يوما حتى اشتدّ عليه الحصار وهو يستحثّ عضد الدولة. نكبة بختيار على يد عضد الدولة ثم عوده الى ملكه لما تتابعت كتب بختيار إلى عضد الدولة باستحثاثه سار في عساكر فارس، وجاءه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه إلى الأهواز في عساكر الريّ وساروا إلى واسط، وأجفل عنها أفتكين والأتراك إلى بغداد ورجع أبو ثعلب إلى الموصل. ولما جاء عضد الدولة إلى واسط سار إلى بغداد في الجانب الشرقي، وسار بختيار في الجانب الغربي وحاصروا الأتراك ببغداد من جميع الجهات. وأرسل بختيار إلى ضبّة بن محمد الأسدي من أهل عين النمر وإلى أبي سنان وأبي ثعلب بن حمدان بقطع الميرة والإغارة على النواحي فغلا السعر ببغداد وثار العيّارون ووقع النهب، وكبس أفتكين المنازل في طلب الطعام فعظم الهرج، وخرج أفتكين والأتراك للحرب فلقيهم عضد الدولة فهزمهم وقتل أكثرهم واستباحهم، ولحقوا بتكريت وحملوا الخليفة معهم، ودخل عضد الدولة إلى بغداد في جمادى سنة أربع وستين. وحاول في ردّ الخليفة الطائع فردّه وأنزله بداره وركب للقائه الماء في يوم مشهود. ثم وضع الجند على بختيار فشغبوا عليه في طلب أرزاقهم وأشار عليه بالغلظة عليهم، والاستعفاء من الإمارة، وأنّه عند ذلك يتوسّط في الإصلاح فأظهر بختيار التخلّي، وصرف الكتّاب والحجّاب ثقة بعضد الدولة، وتردّد السفراء بينهم ثلاثا ثم قبض عضد الدولة على بختيار وإخوته ووكّل بهم، وجمع الناس وأعلمهم بعجز بختيار ووعدهم بحسن النظر وقام بواجبات الخلافة. وكان المرزبان بن بختيار أميرا بالبصرة فامتنع فيها على عضد الدولة، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على أبيه بختيار من ابنه عضد الدولة ووزيره ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 العميد، فأصابه من ذلك المقيم المقعد حتى لقد طرقه المرض الّذي لم يستقل منه. وكان ابن بقية وزير بختيار قد سار إلى عضد الدولة وضمّنه واسط وأعمالها فانتقض عليه بها، وداخل عمران بن شاهين في الخلافة فأجابه، وكتب إلى مهل بن بشر وزير أفتكين بالأهواز وقد كان عضد الدولة ضمّنه إياها وبعثه إليها مع جيش بختيار فاستماله ابن بقية، وخرجت إليه جيوش عضد الدولة فهزمهم، وكاتب أباه ركن الدولة بالأحوال، وأوعز ركن الدولة إليه وإلى المرزبان بالبصرة على المسير بالعراق لإعادة بختيار. واضطربت النواحي على عضد الدولة لإنكار أبيه، وانقطع عن مدد فارس وطمع فيه الأعداء، فبعث أبا الفتح بن العميد إلى أبيه يعتذر عمّا وقع، وأنّ بختيار عجز ولا يقدر على المملكة وأنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم، ويبعث بختيار وإخوته إليه لينزله بأيّ الأعمال أحب، ويخبر أباه في نزوله العراق لتدبير الخلافة ويعود هو إلى فارس، وتهدد أباه بقتل بختيار وإخوته وجميع شيعهم إن لم يوافق على واحدة من هذه. فخاف ابن العميد غائلة هذه الرسالة وأشار بإرسال غيره وأن يمضي هو بعدها كالمصلح فبعث عضد الدولة غيره. فلمّا ألقى الرسالة غضب ركن الدولة ووثب إلى الرسول ليقتله، ثم ردّه بعد أن سكن غضبه، وحمله إلى عضد الدولة من الشتم والتقريع على ما فعله وعلى ما يطلب منه من كل صعب من القول. وجاء ابن العميد على أثر ذلك فحجبه وتهدّده، ثم لم يزل يسترضيه بجهده واعتذر بأن قبوله لهذه الرسالة حيلة على الوصول إليه والخلاص من عضد الدولة، وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس وتقرير بختيار بالعراق، فأجاب عضد الدولة إلى ذلك وأفرج عن بختيار وردّه إلى السلطنة على أن يكون نائبا عنه ويخطب عنه، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لعجز بختيار، وردّ عليهم ما أخذ لهم وسار إلى فارس وأمر ابن العميد أن يلحق به بعد ثلاث فتشاغل مع بختيار باللذات ووعده أن يصير إلى وزارته بعد ركن الدولة. وأرسل بختيار عن ابن بقية فقام بأمر الدولة واحتجن الأموال فإذا طولب بها دسّ للجند فشغبوا حتى تنكّر له بختيار واستوحش هو. خبر افتكين ولما انهزم أفتكين من عضد الدولة بالمدائن لحق بالشام ونزل قريبا من حمص، وقصد ظالم بن موهوب أمير بني عقيل العلويّة بالشام فلم يتمكن منه، وسار أفتكين إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 دمشق وأميرها ريّان خادم المعز لدين الله العلويّ وقد غلب عليه الأحداث فخرج إليه مشيخة البلد وسألوه أن يملكهم ويكفّ عنهم سرّ الأحداث وظلم العمّال، واعتقاد الرافضة فاستحلفهم على ذلك ودخل دمشق وخطب فيها للطائع في شعبان سنة أربع وستين. ورجع أيدي العرب من ضواحيها وفتك فيهم وكثرت جموعه وأمواله وكاتب المعزّ بمصر يداريه بالانقياد، فكتب يشكره ويستدعيه ليولّيه من جهته، فلم يثق إليه فتجهّز لقصده، ومات في طريقه سنة خمس وستين كما نذكر بقية خبره في دولتهم. ملك عضد الدولة بغداد وقتل بختيار ولما انصرف عضد الدولة إلى فارس كما ذكرناه أقام بها قليلا ثم مات أبوه ركن الدولة سنة ست وستين بعد أن رضي عنه وعهد له بالملك كما نذكره في خبره. فلمّا مات شرع بختيار ووزيره ابن بقية في استمالة أهل أعماله مثل أخيه فخر الدولة وحسنويه الكردي وطلب ابن حمدان وعمران بن شاهين في عدوانه فسار عضد الدولة لطلب العراق واستمدّ حسنويه وابن حمدان فواعداه ولم يبعداه فسار إلى الأهواز، ثم سار إلى بغداد، ولقيه بختيار فهزمه عضد الدولة واستولى على أمواله وأثقاله ولحق بواسط، وحمل إليه ابن شاهين أموالا وهدايا ودخل إليه مؤكدا للاستجارة به. ثم صعد إلى واسط، وبعث عضد الدولة عسكرا إلى البصرة فملكوها، وكانت مصر شيعة له دون ربيعة. وجمع بختيار ما كان له ببغداد والبصرة في واسط وقبض على ابن بقية وأرسل عضد الدولة في الصلح واختلفت الرسائل، وجاءه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه في ألف فارس مددا فانتقض وسار إلى بغداد وسار عضد الدولة إلى واسط ثم إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر بعد اختلافهم مائة وعشرين سنة. ثم دخلت سنة سبع وستين فقبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميدي وزير أبيه وجدع أنفه وسمل إحدى عينيه لما بلغه عنه في مقامه بالفرات عند بختيار. ولما اطلع عليه من مكاتبته إيّاه فبعث إلى أخيه فخر الدولة بالريّ بالقبض عليه وعلى أهله فقبض عليه وأخذ داره بما فيها. ثم سار عضد الدولة إلى بغداد سنة وسبع وستين. وبعث إلى بختيار يخيّره في الأعمال فأجاب إلى طاعته، وأمره بإنفاذ ابن بقية إليه ففقأ عينيه وأنفذه، وخرج عن بغداد بقصد الشام، ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له بها وضرب على بابه ثلاث توتات ولم يكن شيء من ذلك لمن قبله، وأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 بابن بقية فرمي بين الفيلة فقتلته. ولما سار بختيار إلى الشام ومعه حمدان أخو أبي ثعلب وانتهوا إلى عكبرا أحسن له حمدان وقصد الموصل. وكان عضد الدولة قد استحلفه أن لا يدخل ولاية أبي ثعلب فنكث وقصدها، وجاءته رسل أبي ثعلب بتكريت في إسلام أخيه حمدان إليه فيمدّه بنفسه، ويعيده إلى ملكه فقبض على حمدان وبعثه مع نوّابه فحبسه وسار أبو ثعلب إليه في عشرين ألف مقاتل [1] . وزحفوا إلى بغداد ولقيهما عضد الدولة فهزمهما وأمر ببختيار فقتل صبرا في عدّة من أصحابه لإحدى عشرة سنة من ملكه. استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدان ثم سار عضد الدولة بعد الهزيمة ومقتل بختيار إلى الموصل فملكها منتصف ذي القعدة من سنة سبع وستين، وكان حمل معه الميرة والعلوفات فأقام في رغد، وبثّ السراة في طلب أبي ثعلب، وراسله في ضمان البلاد على عادته فلم يجبه، فسار إلى نصيبين ومعه المرزبان بن بختيار وأبو إسحاق وطاهر أخو بختيار وأمّهم، فبعث عضد الدولة عسكرا إلى جزيرة ابن عمر مع حاجبه أبي عمر لحرب طغان [2] ، وعسكرا إلى نصيبين مع أبي الوفاء طاهر بن محمد ففارقها أبو ثعلب إلى ميافارقين واتّبعه أبو الوفاء إليها فامتنعت عليه. ولحق أبو ثعلب بأردن الروم ثم بالحسنيّة من أعمال الجزيرة، وتتبع أبو ثعلب قلاعه وأخذ أمواله في كواشي وغيرها، وعاد إلى ميافارقين. ثم سار عضد الدولة إليه بنفسه واستأمن إليه كثير من أصحابه، ورجع إلى الموصل وبعث العسكر في اتباعه فدخل بلاده فصاهره وردّ الرومي المملك عليهم في غير بيت الملك ليستعين به على أمره، واتبعه عسكر عضد الدولة فهزمهم ونجا إلى بلاد الروم لمساعدة   [1] العبارة مشوشة وغير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 691: «فسار بختيار نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلّفه أنه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودّة ومكاتبة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار الى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله ان يقبض على أخيه حمدان ويسلّمه إليه، وإذا فعل سار بنفسه وعساكره اليه، وقاتل معه عضد الدولة وإعادة الى ملكه بغداد، فقبض بختيار على حمدان وسلّمه الى نواب أبي تغلب، وسارا جميعا نحو العراق، وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل» والملاحظ ان ابن خلدون يذكر ابن تغلب ابن ثعلب والثعلبي بدل التغلبي وقد أشرنا الى هذا في مكان سابق من هذا الكتاب. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 692: «فسيّر عضد الدولة سرية عليها حاجبه ابو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 ورد على شأنه لما يؤمّل من نصرته إياه. واتفق أن وردا انهزم فيئس منه أبو ثعلب وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد شهرين، حتى فتح عضد الدولة جميع بلاده كما يذكر في أخبار دولتهم، واستخلف أبا الوفاء على الموصل وعاد إلى بغداد وانقطع ملك بني حمدان عن الموصل حينا من الدهر. وفاة عضد الدولة وولاية ابنه صمصام الدولة ثم توفي عضد الدولة في شوّال سنة اثنتين وسبعين لخمس سنين ونصف من ملكه، واجتمع القوّاد والأمراء على ولاية ابنه كاليجار المرزبان وبايعوه ولقّبوه صمصام الدولة. وجاءه الطائع معزيا في أبيه، وبعث أخويه أبا الحسين أحمد وأبا طاهر فيروز شاه فانتقض أخوهم شرف الدولة بكرمان في فارس، وسبق إليها أخويه وملكها وأقاما بالأهواز، وقطع خطبة صمصام الدولة أخيه وخطب لنفسه، وتلقّب تاج الدولة. وبعث إليه صمصام الدولة عسكرا صحبة علي بن دنقش حاجب أبيه، وبعث شرف الدولة عسكره مع الأمير أبي الأغر دفليس بن عفيف الأسدي، والتقيا عند قرقوب، فانهزم ابن دنقش في ربيع سنة ثلاث وسبعين وأسر واستولى أبو الحسن على الأهواز ورامهرمز، وطمع في الملك. ثم إنّ أسفار بن كردويه من أكابر الديلم قام بدعوة شرف الدولة ببغداد سنة خمس وسبعين، واستمال كثيرا من العسكر، واتّفقوا على ولاية أبي نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه شرف الدولة، وراسلهم صمصام الدولة في الرجوع عن ذلك فلم يزدهم إلا تماديا. وأجابه فولاد بن مابدرار أنفة من متابعة أسفار وقاتله فهزمه. وأخذ أبا مضلّ أسيرا وأحضره عند أخيه صمصام الدولة، واتّهم وزيره ابن سعدان بمداخلتهم فقتله، ومضى أسفار إلى أبي الحسين بن عضد الدولة وباقي الديلم إلى شرف الدولة. وسار شرف الدولة إلى الأهواز فملكها من يد أخيه الحسين. ثم ملك البصرة من يده أخيه أبي طاهر وراسله صمصام الدولة في الصلح فاتفقوا على الخطبة لشرف الدولة بالعراق، وبعث إليه بالخلع والألقاب من الطائع. نكبة صمصام الدولة وولاية أخيه شرف الدولة لما ملك شرف الدولة من يد أخيه أبي طاهر سار إلى واسط فملكها، وعمد صمصام الدولة إلى أخيه أبي نصر وكان محبوسا عنده فأطلقه وبعثه إلى أخيه شرف الدولة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 بواسط يستعطفه به، فلم يلتفت إليه. وجزع صمصام الدولة واستشار أصحابه في طاعة أخيه شرف الدولة فخوّفوه عاقبته، وأشار بعضهم بالصعود إلى عكبرا ثم منها إلى الموصل وبلاد الجبل حتى يحدث من أمر الله في فتنة بين الأتراك والديلم أو غير ذلك ما يسهل العود، وأشار بعضهم بمكاتبة عمّه فخر الدولة والمسير على طريق أصبهان فيخالف شرف الدولة إلى فارس فربّما يقع الصلح على ذلك. فأعرض صمصام الدولة عن ذلك كله وركب البحر إلى أخيه شرف الدولة فتلقاه وأكرمه. ثم قبض عليه لأربع سنين من إمارته، وسار إلى بغداد في شهر رمضان من سنة ست وسبعين فوصلها وأخوه صمصام الدولة في اعتقاله. واستفحل ملكه واستطال الديلم على الأتراك بكثرتهم فإنّهم بلغوا خمسة عشر ألفا، والأتراك ثلاثة آلاف. ثم كثرت المنازعات بينهم وعضّ الديلم وقتلوا منهم وغنموا أموالهم وسار بعضهم فذهب في الأرض، ودخل الآخرون مع شرف الدولة إلى بغداد، وخرج الطائع لتلقّيه وهنّأه وأصلح شرف الدولة بين الفريقين، وبعث صمصام الدولة إلى فارس فاعتقل بها واستوزر شرف الدولة أبا منصور بن صالحان. ابتداء دولة باد وبني مروان بالموصل قد تقدّم لنا أنّ عضد الدولة استولى على ملك بني حمدان بالموصل سنة سبع وستين، ثم استولى على ميافارقين وآمد وسائر ديار بكر من أعمالهم، وعلى ديار مضر أيضا من أعمالهم سنة ثمان وستين وولّى عليها أبا الوفاء من قوّاده، وذهب ملك بني حمدان من هذه النواحي وكان في ثغور ديار بكر جماعة من الأكراد الحميدية مقدّمهم أبو عبد الله الحسين بن دوشتك، ولقبه باد وكان كثير الغزو بتلك البلاد وإخافة سبلها. وقال ابن الأثير حدّثني بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية أنّ اسمه باد وكنيته أبو شجاع وأنّ الحسين هو أخوه وأنّ أوّل أمره أنه ملك أرجيش من بلاد أرمينية فقوي أهـ-. ولما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده وهمّ بقبضه، ثم سأل عنه فافتقده وكفّ عن طلبه. فلما مات عضد الدولة استفحل أمره واستولى على ميافارقين، وكثير من ديار بكر، ثم على نصيبين. وقال ابن الأثير: سار من أرمينية إلى ديار بكر فملك ثم ميافارقين، وبعث صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام بن أردشير فهزمهم وأسر جماعة منهم، فبعث عساكر أخرى مع أبي القاسم سعيد بن الحاجب فلقيهم في بلد كواشى وهزمهم، وقتل منهم وأسر، ثم قتل الأسرى صبرا. ونجا سعيد إلى الموصل وباد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 في اتباعه فثار به [1] أهل الموصل نفورا من سوء سيرة الديلم فهرب منها ودخل باد وملك الموصل. وحدّث نفسه بالمسير إلى صمصام الدولة ببغداد وانتزاع بغداد من يد الديلم واحتفل فيه ولقيهم باد في صفر من سنة أربع وسبعين فهزموه وملكوا الموصل. ولحق باد بديار بكر وجمع عليه عساكر. وكان بنو سيف الدولة بن حمدان بحلب قد ملكها معهم سعد الدولة ابنه بعد مهلكه، فبعث إليه صمصام الدولة أن يكفيه أمر باد على أن يسلّم إليه ديار بكر، فبعث سعد الدولة إليه جيشا فلم يكن لهم طاقة، وزحفوا إلى حلب فبعث سعد الدولة من اغتاله في مرقده بخيمته من البادية وضربه فاعتل وأشفى على الموت، وبعث إلى سعد وزياد الأميرين بالموصل فصالحهما على أن تكون ديار بكر والنصف من طور عبدين لباد، ورجع زياد إلى بغداد وهو الّذي جاء بعساكر الديلم وانهزم باد أمامه. ثم توفي سعد الحاجب بالموصل سنة سبع وسبعين فتجدّد لباد الطمع في ملكها، وبعث شرف الدولة على الموصل أبا نصر خواشاذه فدخل الموصل واستمدّ العساكر والأموال فأبطأت عنه فدعا العرب من بني عقيل وبني نمير وأقطعهم البلاد ليدافعوا عنها. واستولى باد على طور عبدين وأقام بالجبل، وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فانهزم وقتل. وبينما خواشاذه يتجهّز لقتال باد جاءه الجند بموت شرف الدولة. ثم جاء أبو إبراهيم وأبو الحسين [2] ابنا ناصر الدولة بن حمدان أميرين على الموصل من قبل بهاء الدولة، وبقيت في ملكهما إلى سنة إحدى وثمانين، فبعث بهاء الدولة عسكرا مع أبي جعفر الحجّاج بن هرمز فملكها، وزحف إليه أبو الرواد محمد بن المسيّب أمير بني عقيل فقاتله وبالغ في مدافعته واستمدّ بهاء الدولة فبعث إليه الوزير أبا القاسم عليّ بن أحمد وسار أوّل سنة اثنتين وثمانين وكتب إلى أبي جعفر بالقبض عليه بسعاية ابن المعلم، وشعر الوزير بذلك فصالح أبا الرواد ورجع ووجد بهاء الدولة قد قبض على ابن المعلّم وقتله. وفاة شرف الدولة وملك بهاء الدولة ثم توفي شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك [3] بن عضد الدولة في جمادى سنة تسع. وسبعين لسنتين وثمانية أشهر من إمارته ودفن بمشهد على بعد أن طالت علّته   [1] الضمير يعود الى سعيد. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 66: «ابو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين» . [3] أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة: ابن الأثير ج 9 ص 61. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 بالاستسقاء، وبعث وهو عليل إلى أخيه صمصام الدولة بفارس فشمله، وبعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس ومعه الخزائن والعدد وجملة من الأتراك. وسئل شرف الدولة في العهد فملكه وأبي أن يعهد [1] واستخلف أخاه بهاء الدولة لحفظ الأمور في حياته. فلما مات قعد في المملكة وجاء الطائع للعزاء وخلع عليه للسلطنة فأقرّ أبا منصور بن صالحان على وزارته، وبعث أبا طاهر إبراهيم وأبا عبد الله الحسين ابني ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل، وكان في خدمته شرف الدولة فاستأذنا بهاء الدولة بعد موته في الإصعاد إلى الموصل فأذن لهما. ثم ندم على ما فرّط في أمرهما وكتب إلى خواشاذه بمدافعتهما فامتنعا وجاءا ونزلا بظاهر الموصل. وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك وخرجوا إلى بني حمدان، وقاتلوا الديلم فهزموهم، وقتل الديلم كثيرا منهم واعتصم الباقون بدار الإمارة فأخرجوهم على الأمان ولحقوا ببغداد، وملك بنو حمدان الموصل. وكان أبو علي بن شرف الدولة لما انصرف إلى فارس بلغه موت ابنه بالبصرة، فبعث العيال والأموال في البحر إلى أرّجان وسار هو إليها. ثم سار إلى شيراز فوافاه بها عمّه صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر قد أطلقهما الموكّلون بهما ومعهما قولاد، وجاءوا إلى شيراز، واجتمع عليهم الديلم وخرج أبو علي إلى الأتراك فاجتمعوا عليه، وقاتل صمصام الدولة والديلم أياما. ثم سار إلى نسا [2] فملكها وقتل الديلم بها. ثم سار إلى أرّجان وبعث الأتراك إلى شيراز لقتال صمصام الدولة فنهبوا البلد وعادوا إليه بأرّجان. ثم بعث بهاء الدولة إلى علي ابن أخيه يستقدمه، واستمال الأتراك سرّا فحملوا أبا علي على المسير إليه فسار في جمادى سنة ثمانين فأكرمه ثم قبض عليه وقتله. ثم وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم واقتتلوا خمسة أيام. ثم راسلهم بهاء الدولة في الصلح فلم يجيبوا وقتلوا رسله فظاهر الأتراك عليهم فغلبوهم، واشتدّت شوكة الأتراك من يومئذ وضعف أمر الديلم وصالح بينهم على ذلك وقبض على بعض الديلم وافترقوا.   [1] المعنى غير واضح والجملة مرتبكة وفي الكامل ج 9 ص 62: «فلما أيس أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه ان يملّك أحدا، فقال: انا في شغل عمّا تدعونني اليه» . [2] فسا: المرجع السابق. ج 63. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 خروج القادر الى البطيحة كان إسحاق بن المقتدر لما توفي ترك ابنه أبا العبّاس أحمد الّذي لقّب بالقادر، فجرت بينه وبين أخت له منازعة في ضيعة، ومرض الطائع مرضا مخوفا ثم أبلّ فسعت تلك الأخت بأخيها، وأنه طلب الخلافة في مرض الطائع فأنفذ أبا الحسين بن حاجب النعمان في جماعة للقبض عليه، وكان بالحريم الظاهري فغلبهم النساء عليه، وخرج من داره متسترا ثم لحق بالبطيحة ونزل على مهذب الدولة فبالغ في خدمته إلى أن أتاه بشير الخلافة. فتنة صمصام الدولة لما تغلّب صمصام الدولة على بلاد فارس وجاء أبو علي شرف الدولة إلى عمّه بهاء الدولة فقتله كما ذكرنا، سار بهاء الدولة من بغداد إلى خوزستان سنة ثمانين وثلاثمائة قاصدا بلاد فارس. واستخلف أبا نصر خواشاذه على بغداد، ولما بلغ خوزستان أتاه نعي أخيه أبي طاهر فجلس للعزاء به. ثم سار إلى أرّجان فملكها وأخذ ما فيها من الأموال وكان ألف ألف دينار وثمانية آلاف درهم، وكثيرا من الثياب والجواهر، وشغب الجند لذلك فأطلق تلك الأموال كلّها لهم، ثم سارت مقدّمته وعليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان، وبها عسكر صمصام الدولة فانهزموا وثبت أبو العلاء ابن الفضل في نواحي فارس. ثم بعث صمصام الدولة عسكره وعليهم قولاد بن مابدان فهزموا أبا العلاء وعاد إلى أرّجان، وجاءه صمصام الدولة من شيراز إلى قولاد، ثم وقع الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرّجان ولبهاء الدولة خوزستان وما وراءها من ملك العراق، وأن يكون لكل واحد منهما أقطاع في بلد صاحبه، وتعاقدا على ذلك، ورجع بهاء الدولة إلى بغداد فوجد الفتنة بين أهل السنّة والشيعة بجانب بغداد، وقد كثر القتل والنهب والتخريب فأصلح ذلك. وكان قبل سيره إلى خوزستان قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير، وكان الحكم والتدبير في دولته لأبي الحسين بن المعلّم. خلع الطائع وبيعة القادر ثم إنّ بهاء الدولة قلّت عنده الأموال وكثر شغب الجند ومطالباتهم، وقبض على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 وزيره سابور فلم يغن عنه، وامتدّت عيناه إلى أموال الطائع وهمّ بالقبض عليه، وحسّن له ذلك أبو الحسين بن المعلّم الغالب على هواه فتقدّم إلى الطائع بالجيوش لحضوره في خدمته فجلس وجلس بهاء الدولة على كرسيّ، ثم جاء بعض الديلم يقبّل يد الطائع فجذبه عن سريره وأخرجه، ونهب قصور الخلافة وفشا النهب في الناس، وحمل الطائع إلى دار بهاء الدولة فأشهد عليه بالخلع سنة إحدى وثمانين لسبع عشرة سنة وثمانية أشهر من خلافته. وأرسل بهاء الدولة خواص أصحابه إلى البطيحة ليحضروا القادر باللَّه أبا العبّاس أحمد ابن إسحاق بن المقتدر ليبايعوه، فجاءوا به بعد أن بايع مهذّب الدولة صاحب البطيحة في خدمته وسار بهاء الدولة وأعيان الناس لتلقّيه فتلقّوه برحيل، ودخل دار الخلافة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، وخطب له صبيحتها وكانت مدّة إقامته بالبطيحة ثلاث سنين غير شهر، ولم يخطب له بخراسان وأقاموا على بيعة الطائع فأنزله بحجرة من قصره، ووكّل عليه من يقوم بخدمته على أتمّ الوجوه، وأجرى أحواله على ما كان عليه في الخلافة إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين فصلّى عليه ودفنه. ملك صمصام الدولة الأهواز وعودها لبهاء الدولة ثم استيلاؤه ثانيا عليها قد تقدّم لنا ما وقع بين بهاء الدولة وصمصام الدولة من الصلح على أن يكون له فارس ولبهاء الدولة خوزستان وما وراءها، وذلك سنة ثمان. ولما كانت سنة ثلاث وثمانين تحيّل بهاء الدولة فبعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز على أن يبعث إليه الجيوش مفترقة، فإذا اجتمعت كبس بلاد فارس على حين غفلة. وشعر صمصام الدولة بذلك قبل اجتماع العساكر، فبعث عساكره إلى خوزستان، ثم جاءت عساكر العراق والتقوا فانهزم ابو العلاء، وحمل إلى صمصام الدولة أسيرا فاعتقله، وبعث بهاء الدولة وزيره أبا نصر بن سابور إلى واسط يحاول له جمع المال فهرب إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة. ثم كثر شغب الديلم على بهاء الدولة ونهبوا دار الوزير نصر بن سابور واستعفى واستوزر أبا القاسم عليّ بن أحمد. ثم هرب وعاد سابور إلى الوزارة وأصلح الديلم، ثم أنفذ بهاء الدولة عسكره إلى الأهواز سنة أربع وثمانين وعليهم طغان التركي، وانتهوا إلى السوس فارتحل عنها أصحاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 صمصام الدولة وملكها طغان، وكان أكثر أصحابه الترك وأكثر أصحاب صمصام الدولة الديلم ومعه تميم وأسد، فزحف إلى طغان بالأهواز، وأسرى من تستر ليكبس الأتراك الذين مع طغان فقتل في طريقه [1] وأصبح دونهم بمرأى منهم فركبوا لقتاله وأكمنوا له ثم قاتلوه فهزموه وفتكوا في الديلم بالقتل حربا وصبرا. وجاء الخبر إلى بهاء الدولة بواسط فسار إلى الأهواز فترك بها طغان، ورجع ولحق صمصام الدولة بفارس فاستلحم من وجد بها من الأتراك وهرب فلّهم إلى كرمان، واستأذنوا ملك السّند في اللحاق بأرضه فأذن لهم، ثم ركب لتلقيهم فقتلهم عن آخرهم. ثم جهّز صمصام الدولة عساكره إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن وكان أفتكين برامهرمز من قبل بهاء الدولة مكان أبي كاليجار المرزبان بن سفهيعون [2] وجاء بهاء الدولة إلى خوزستان للعلاء قائد صمصام الدولة، وكاتبه وكاتب أفتكين وابن مكرم إلى أن قرب منهم، وملك البلد من أيديهم وأقاموا بظاهرها، واستمدّوا بهاء الدولة فأمدّهم بثمانين من الأتراك فقتلوهم عن آخرهم، وسار بهاء الدولة نحو الأهواز، ثم عاد إلى البصرة وعاد ابن مكرم إلى عسكر مكرم والعلاء والديلم في اتّباعه إلى أن جاوزوا تستر إليه فاقتتلوا طويلا وأصحاب بهاء الدولة من تستر إلى رامهرمز وهم الأتراك وأصحاب صمصام لدولة من تستر إلى أرّجان فاقتتلوا ستة أشهر ورجعوا إلى الأهواز ثم رحل الأتراك إلى واسط واتبعهم العلاء قليلا ثم رجع وأقام بعسكر مكرم. ملك صمصام الدولة البصرة لما رحل بهاء الدولة إلى البصرة استأمن كثير من الديلم الذين معه إلى العلاء نحو من أربعمائة، فبعثهم مع قائده السكرستان [3] الى البصرة وقاتلوا أصحاب بهاء الدولة.   [1] الظاهر من المعنى ان صمصام الدولة هو الّذي قتل ولكن المقصود غير ذلك وفي الكامل ج 9 ص 104: «وتوجه صمصام الدولة الى الأهواز ومعه عساكر الديلم وتميم وأسد. فلما بلغ تستر وصل ليلا ليكبس الأتراك من عسكر بهاء الدولة. فضلّ الأولاء في الطريق. فأصبح على بعد منهم. ورأتهم طلائع الأتراك فعادوا بالخبر، فحذروا واجتمعوا. واصطفوا وجعل مقدّمهم واسمه طغان كمينا. فلما التقوا واقتتلوا خرج الكمين على الديلم فكانت الهزيمة. وانهزم صمصام الدولة ومن معه من الديلم. وكانوا الوفاء كثيرة. واستأمن منهم أكثر من ألفي رجل، وغنم الأتراك من اثقالهم شيئا كثيرا» . [2] أبي كاليجار المرزبان بن شهفيروز: ابن الأثير ج 9 ص 112. [3] لشكرستان: ابن الأثير ج 9 ص 123. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 ومال إليهم أهل البلد ومقدّمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلويّ وارتاب بهم بهاء الدولة فهرب الكثير منهم إلى السكرستان وحملوه في السفن فأدخلوه البصرة. وخرج بهاء الدولة وأصحابه فكتب إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة يغريه بالبصرة، فبعث إليها جيشا مع قائده عبد الله بن مرزوق فغلب عليها السكرستان، وملكها المهذّب الدولة، ثم عاد السكرستان وقاتلها وكاتب مهذب الدولة بالصلح والطاعة والخطبة له بالبصرة، وأعطى ابنه رهينة على ذلك، فأجابه وملك البصرة وعسف بهم، وكان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذّب الدولة. ثم إنّ العلاء ابن الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان توفي بعسكر مكرم فبعث مكانه أبا علي إسماعيل بن أستاذهرمز وسار الى جنديسابور فدفع عنها أصحاب بهاء الدولة وأزاح الأتراك عن ثغر خراسان جملة وعادوا إلى واسط وكاتب جماعة منهم ففزعوا إليه، ثم زحف إليهم أبو محمد مكرم، والأتراك وجرت بينهم وقائع، ثم انتقض أبو عليّ إسماعيل بن أستاذ هرمز ورجع إلى طاعة بهاء الدولة وهو بواسط سنة ثمان وثمانين فاستوزره ودبّر أمره واستدعاه إلى مظاهرة قائده ابن مكرم بعسكر مكرم، فسار إليه وكانت من إسماعيل خديعة تورّط فيها بهاء الدولة واستمدّ بدر بن حسنويه، فأمدّه بعض الشيء وكاد يهلك، ثم جاءه الفرج بقتل صمصام الدولة. مقتل صمصام الدولة كان صمصام الدولة بن عضد الدولة مستوليا على فارس كما ذكرناه، وكان أبو القاسم وأبو نصر ابنا بختيار محبوسين ببعض قلاع فارس، فجرّد الموكّلين بهما في القلعة وأخرجوا عنها واجتمع إليهما من الأكراد وكان جماعة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لما أسقطهم من الديوان، فلحقوا بابني بختيار وقصدوا أرّجان وتجهّز صمصام الدولة إليهم وكان أبو علي بن استاذ هرمز مقيما بنسا فثار به الجند، وحبسه ابنا بختيار ثم نجا. وقصد صمصام الدولة القلعة التي على شيراز ليتمنع فيها إلى أن يأتيه المدد، فلم يمكنه أن يأتيها من ذلك، وأشار عليه باللحاق بأبي علي بن أستاذ هرمز أو بالأكراد، وجاءته منهم طائفة فخرج معهم بأمواله فنهبوه وسار إلى الرودمان على مرحلتين من شيراز. وجاء أبو النصر بن بختيار إلى شيراز فقبض صاحب الرودمان على صمصام الدولة، وأخذه منه أبو نصر وقتله في ذي الحجّة سنة ثمان وثمانين لتسع سنين من إمارته على فارس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 استيلاء بهاء الدولة على فارس ولما قتل صمصام الدولة وملك ابنا بختيار بلاد فارس، كتبا إلى أبي علي بن أستاذ هرمز في الأهواز بأخذ الطاعة لهما من الديلم، ومحاربة بهاء الدولة فخافهما أبو علي بما كان من قتله أخويهما، وأغرى الديلم بطاعة بهاء الدولة. وراسله واستحلفه لهم فحلف وضمن لهم غائلة الأتراك الذين معه، وأغراهم بثأر أخيه من ابني بختيار فدخلوا في طاعته، وجاءه وفد من أعيانهم فاستوثقوا منه وكتبوا إلى من كان بالسوس منهم بذلك. وركب بهاء الدولة إلى نائب السوس فقاتلوه أوّلا ثم اجتمعوا عليه وساروا إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز وأرّجان، وملكوا سائر بلاد خوزستان. وسار أبو علي ابن إسماعيل إلى شيراز وقاتلهم وتسرّب إليه أصحاب ابني بختيار فاستولى على شيراز سنة تسع وثمانين، ولحق أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم وأبو القاسم ببدر بن حسنويه، ثم بالبطيحة، وكتب أبو علي إلى بهاء الدولة بالفتح فجاءه وترك شيراز وأحرق قرية الرودمان حيث قتل أخوه صمصام الدولة، واستأصل أهلها وبعث عسكرا مع أبي الفتح إلى جعفر بن أستاذ هرمز إلى كرمان فملكها. ولما لحق أبو القاسم بن بختيار ببلاد الديلم، كاتب من هنالك الديلم الذين بكرمان وفارس تسلمهم فأجابوه وسار إلى بلاد فارس، واجتمع عليه كثير من الزطّ والديلم والأتراك. ثم سار إلى كرمان وبها أبو جعفر بن أستاذ هرمز فهزمه إلى السرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها وأكثر كرمان، وبعث بهاء الدولة الموفّق بن علي بن إسماعيل في العساكر إلى جيرفت فاستأمن إليه من كان بها من أصحاب بختيار، وملكها، وتجرّد في جماعة من شجعان أصحابه لاتباع ابن بختيار فلحقه بدارين، وقاتله فغدر به بعض أصحابه فقتله وحمل رأسه إلى الموفّق، واستولى على بلاد كرمان وإسماعيل عليها، وعاد إلى بهاء الدولة فتلقّاه وعظّمه واستعفى الموفّق من الخدمة فلم يعفه، ولجّ الموفق في ذلك فقبض عليه بهاء الدولة، وكتب إلى وزيره سابور بالقبض على ذويه، ثم قتله سنة اربع وتسعين واستعمل بهاء الدولة أبا محمد مكرما على عمان. الخبر عن وزراء بهاء الدولة قد ذكرنا أنّ بهاء الدولة كان استوزر أبا نصر بن سابور بن أردشير ببغداد وقبض على وزيره أبي منصور بن صالحان قبل مسيره إلى خوزستان، وأنّ أبا الحسن بن المعلّم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 كان يدبّر دولته وذلك منذ سنة ثمانين، فاستولى ابن المعلّم على الأمور وانصرفت إليه الوجوه، فأساء السيرة وسعى في أبي نصر خواشاده وأبي عبد الله بن طاهر فقبضهما بهاء الدولة مرجعه من خوزستان، وشغب الجند وطلبوا تسليمه إليهم، ولاطفهم فلم يرجعوا فقبض عليه وسلّمه إليهم فقتلوه وذلك سنة اثنتين وثمانين. ثم قبض على وزيره أبي نصر بالأهواز سنة إحدى وثمانين، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، ثم استوزر بعده أبا القاسم علي بن أحمد وقبض عليه سنة اثنتين وثمانين لاتّهامه بمداخلة الجند في أمر ابن المعلّم، واستوزر أبا نصر بن سابور وأبا منصور بن صالحان جميعا. وشغب الجند على أبي نصر ونهبوا داره سنة ثلاث وثمانين فاستعفى رفيقه ابن صالحان فاستوزر أبا القاسم علي بن أحمد، ثم هرب وعاد أبو نصر إلى الوزارة بعد أن أصلح أمور الديلم فاستوزر مكانه الفاضل، وقبض عليه سنة ست وثمانين واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير فبقي شهرين، وفرّق أموال بهاء الدولة في القوّاد ثم هرب إلى البطيحة فاستوزر بهاء الدولة مكانه عيسى بن ماسرخس. ولاية العراق كان بهاء الدولة منذ استولى على فارس سنة تسع وثمانين أقام بها وولّى على خوزستان والعراق أبا جعفر الحجّاج بن هرمز فنزل بغداد ولقيه عميد الدولة فساءت سيرته وفسدت أموال البلاد وعظمت الفتنة ببغداد بين الشيعة وأهل السنّة وتطاول الدعّار والعيّارون فعزله بهاء الدولة سنة تسعين، وولّى مكانه أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز، ولقيه عميد الجيوش فأحسن السيرة وحسم الفتنة، وحمل إلى بهاء الدولة أموالا جليلة. ثم ولّى مكانه سنة إحدى وتسعين أبا نصر سابور، وثار به الأتراك ببغداد فهرب منهم ووقعت الفتنة بين أهل الكرخ والأتراك، وكان أهل السنّة مع الأتراك ثم مشى الأعلام بينهم في الصلح فتهادنوا. انقراض دول وابتداء أخرى في النواحي وفي سنة ثمانين ابتدأت دولة بني مروان بديار بكر بعد مقتل خالهم باد، وقد مرّ ذكره. وفي سنة اثنتين وثمانين انقرضت دولة بني حمدان بالموصل وابتدئت دولة بني المسيّب من عقيب كما نذكرها. وفي سنة أربع وثمانين انقرضت دولة بني سامان من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 خراسان وابتدئت دولة بني سبكتكين فيها. وفي سنة تسع وثمانين انقرضت دولة بني سامان مما وراء النهر وانقسمت بنو سبكتكين وملك الخاقان ملك الترك. وفي سنة ثمان وثمانين ابتدئت دولة بني حسنويه الأكراد بخراسان. وفي سنة تسع وتسعين كان ابتداء دولة بني صالح بن مرداس من بني كلاب بحلب كما نستوفي سياقة أخبارهم في دولهم منفردة كما شرطناه. ظهور بني مزيد وفي سنة سبع وثمانين خرج أبو الحسن عليّ بن مزيد في قومه بني أسد ونقض طاعة بهاء الدولة، فبعث إليه العساكر فهرب أمامهم وأبعد حتى امتنع عليهم. ثم بعث في الصلح والاستقامة، وراجع الطاعة، ثم رجع إلى انتقاضه سنة اثنتين وتسعين. واجتمع مع قراوش بن المقلّد صاحب الموصل وقومه بني عقيل فحاصروا المدائن. ثم بعث إليهم أبو جعفر الحجّاج وهو نائب بغداد العساكر فدفعوهم عنها، وخرج الحجّاج واستنجد خفاجة فجاء من الشام وقاتل بني عقيل وبني أسد فهزموه. ثم خرج إليهم ولقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم وأثخن فيهم بالقتل والأسر، واستباح ملك بني مزيد وظهر في بغداد في مغيب أبي جعفر من الفتنة والفساد والقتل والنهب ما لا يحصى فكان ذلك السبب في أن بعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر أستاذ هرمز كما مرّ. ولقيه عميد الجيوش فسكن الفتنة وأمّن الناس. ولما عزل أبو جعفر أقام بنواحي الكوفة وارتاب به أبو عليّ فجمع الديلم والأتراك وخفاجة. وسار إليه واقتتلوا بالنعمانيّة وذلك سنة ثلاث وتسعين، فانهزم أبو جعفر وسار أبو عليّ إلى خوزستان، ثم إلى السوس، فعاد أبو جعفر إلى الكوفة ورجع أبو علي في اتباعه فلم تزل الفتنة بينهما، وكلّ واحد منهما يستنجد ببني عقيل وبني أسد وخفاجة، حتى أرسل بهاء الدولة عن أبي علي وبعثه إلى البطيحة لفتنة بني واصل كما نذكره في دولتهم. ولما كانت سنة سبع وتسعين جمع أبو جعفر وسار لحصار بغداد وأمدّه ابن حسنويه أمير الأكراد، وذلك أنّ عميد الجيوش ولّى على طريق خراسان أبا الفضل بن عنّان، وكان عدوّا لبدر بن حسنويه فارتاب لذلك، واستدعى أبا جعفر وجمع له جموعا من أمراء الأكراد منهم هندي بن سعد وأبو عيسى شادي بن محمد، ورزام بن محمد وكان أبو الحسن عليّ بن مزيد الأسدي انصرف عن بهاء الدولة مغاضبا له، فسار معهم وكانوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 عشرة آلاف وحاصروا بغداد وبها أبو الفتح بن عنّان شهرا. ثم جاءهم الخبر بانهزام ابن واصل بالبطيحة الّذي سار عميد الجيوش إليه فافترقوا، وعاد ابن مزيد إلى بلده وسار أبو جعفر إلى حلوان وأرسل بهاء الدولة في الطاعة وحضر عنده بتستر فأعرض عنه رغبا لعميد الجيوش. فتنة بني مزيد وبني دبيس كان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيما عند أصهاره بني دبيس في جزيرتهم بخوزستان، فقتل أبو الغنائم بعض رجالاتهم ولحق بأخيه أبي الحسن، فانحدر أبو الحسن إليهم في ألفي فارس، واستمدّ عميد الجيوش فأمدّه بعسكر من الديلم ولقيهم فانهزم أبو الحسن، وقتل أخوه أبو الغنائم. ظهور دعوة العلوية بالكوفة والموصل وفي أوّل المائة الخامسة خطب قرواش بن المقلّد أمير بني عقيل لصاحب مصر الحاكم العلويّ في جميع أعماله: وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة، فبعث القادر القاضي أبا بكر الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرّفه فأكرمه، وكتب إلى عميد الجيوش بمحاورة قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار يستعين بها. وسار عميد الجيوش لذلك فراجع قرواش الطاعة وقطع خطبة العلويين، وكان ذلك داعيا في كتابه المحضر بالطعن في نسب العلويّة بمصر، شهد فيه الرضي والمرتضى وابن البطحاوي وابن الأزرق والزكي وأبو يعلى عمر بن محمد، ومن العلماء والقضاة ابن الأكفاني وابن الجزري وأبو العبّاس الأبي وردي وأبو حامد الأسفرايني والكستلي والقدوري والصهيري وأبو عبد الله البيضاوي وأبو الفضل النسويّ وأبو عبد الله النعمان فقيه الشيعة. ثم كتب ببغداد محضر آخر بمثل ذلك سنة أربع وأربعين وزيد فيه انتسابهم إلى الديصانية من المجوس وبني القدّاح من اليهود، وكتب فيه العلويّة والعبّاسيّة والفقهاء والقضاة وعملت به نسخ وبعث بها إلى البلاد. وفاة عميد الجيوش وولاية فخر الملك كان عميد الجيوش أبو علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز وكان أبو جعفر هذا من حجّاب عضد الدولة، وجعل ابنه أبا عليّ في خدمة ابن صمصام الدولة، فلما قتل رجع إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 خدمة بهاء الدولة، ولما استولى الخراب على بغداد وظهر العيّارون بعثه بهاء الدولة عليها فأصلحها وقمع المفسدين. ومات لثمان سنين ونصف من ولايته إلى أوّل المائة الخامسة. وولّى بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب. فوصل بغداد وأحسن السياسة واستقامت الأمور به. واتفق لأوّل قدومه وفاة أبي الفتح محمد بن عنّان صاحب طريق خراسان بحلوان لعشرين سنة من إمارته. وكان كثير الأجلاب على بغداد. فلما توفي ولّى ابنه أبو الشوك وقام مقامه فبعث فخر الملك العساكر لقتاله فهزموه إلى حلوان. ثم راجع الطاعة وأصلح حاله. مقتل فخر الملك وولاية ابن سهلان كان فخر الملك أبو غالب من أعظم وزراء بني بويه، وولى نيابة بغداد لسلطان الدولة خمس سنين وأربعة أشهر. ثم قبض عليه وقتله في ربيعة سنة ست وأربعمائة، وولّى مكانه أبا محمد الحسن بن سهلان ولقبه عميد أصحاب الجيوش. وسار سنة تسع إلى بغداد وجرد من الطريق مع طراد بن دشير الأسديّ في طلب مهارش ومضر ابني دشير. وكان مضر قد قبض عليه قديما بأمر فخر الملك. فأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد منه ويولّيها طرادا. فساروا عن المدار واتبعهم ولحق الحسن بن دبيس آخرهم فأوقع به واستباحة. ثم استأمن له مضر ومهارش فأمّنهما وأشرك معهما طرادا في الجزيرة، ورجع وأنكر عليه سلطان الدولة فعله. ووصل إلى واسط والفتنة قائمة فأصلحها. ثم بلغه اشتداد الفتن ببغداد فسار وأصلحها وكان أمر الديلم قد ضعف ببغداد وخرجوا إلى واسط. الفتنة بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس قد ذكرنا ان سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس على كرمان. فلما سار إليها اجتمع إليه الديلم وحملوه على الانتقاض وانتزاع الملك من يد أخيه. فسار سنة ثمان إلى شيراز. ثم سار منها ولقيه سلطان الدولة فهزمه وعاد إلى كرمان. واتبعه سلطان الدولة فخرج هاربا من كرمان. ولحق محمود بن سبكتكين مستنجدا به فأكرمه وأمدّه بالعساكر. وعليهم أبو سعيد الطائي من أعيان قوّاده. فسار إلى كرمان وملكها. ثم إلى شيراز كذلك. وعاد سلطان الدولة لحربه فهزمه وأخرجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 من بلاد فارس إلى كرمان، وبعث الجيوش في أثره فانتزعوا كرمان منه. ولحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه صاحب همذان، وترك ابن سبكتكين لأنه أساء معاملة قائده أبي سعيد الطائي. ثم فارق شمس الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة فأكرمه، وبعث إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالا وثيابا وعرض عليه المسير إليه فأبى وأرسل أخاه سلطان الدولة في المراجعة وأعاده إلى ولاية كرمان، وقبض سلطان الدولة سنة تسع على وزير بن فانجس وإخوته، وولّى مكانه أبا غالب الحسن بن منصور. خروج الترك من الصين وفي سنة ثمان وأربعين خرجت من المفازة التي بين الصين وما وراء النهر أمّة عظيمة من الترك تزيد على ثلاثمائة ألف خيمة ويسمّون الخيمة (جذكان) ، ويتخذونها من الجلود. وكان معظمهم من الخطا قد ظهروا في ملك تركستان، فمرض ملكها طغان فساروا إليها وعاثوا فيها. ثم أبلّ طغان واستنفر المسلمين من جميع النواحي وسار إليهم في مائة وعشرين ألفا فهزموا أمامه واتّبعهم مسيرة ثلاثة أشهر، ثم كبسهم فقتل منهم نحوا من مائتي ألف وأسر مائة ألف، وغنم من الدواب والبيوت وأواني الذهب والفضّة من معمول الصين ما لا يعبّر عنه. ملك مشرف الدولة وغلبه على سلطان الدولة لم يزل سلطان الدولة ثابت القدم في ملكه بالعراق إلى سنة إحدى عشرة وأربعمائة فشغب عليه الجند ونادوا بشعار أخيه مشرف الدولة فأشير عليه بحبسه فعفّ عن ذلك وأراد الانحدار إلى واسط فطلبه الجند في الاستخلاف فاستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق، وسار إلى الأهواز، فلمّا بلغ تستر استوزر سهلان، وقد كان اتفق مع أخيه مشرف الدولة الوزير ابن سهلان أن لا يستوزره، فاستوحش لذلك مشرف الدولة، وبعث سلطان الدولة الوزير ابن سهلان ليخرجه من العراق فجمع أتراك واسط وأبا الأغر دبيس بن عليّ بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط فهزمه وحاصره بها حتى اشتدّ حصاره، وجهده الحصار فصالحه ونزل عن واسط فملكها في ذي الحجّة من سنة إحدى عشرة. وسار الديلم الذين بواسط في خدمته، وسار أخوه جلال الدولة أبو طاهر صاحب البصرة إلى وفاته وخطب له ببغداد، وقبض على ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 سهلان وكحّله. وسار سلطان الدولة إلى أرّجان ثم رجع إلى الأهواز وثار عليه الأتراك الذين هنالك، ودعوا بشعار مشرف الدولة، وخرجوا إلى السابلة فأفسدوها، وعاد مشرف الدولة إلى بغداد فخطب له بها سنة اثنتي عشرة، وطلب منه الديلم أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان فبعث معهم وزيره أبا غالب، فلمّا وصلوا إلى الأهواز انتقضوا ونادوا بشعار سلطان الدولة، وقتلوا أبا غالب لسنة ونصف من وزارته. ولحق الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس بالجزيرة. وبلغ سلطان الدولة قتل أبي غالب وافتراق الديلم فأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز وملكها. ثم وقع الصلح بينهما على يد أبي محمد بن أبي مكرم ومؤيد الملك الرخّجي على أن تكون العراق لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة واستوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخّجي ولقّبه مؤيد الملك بعد قتل أبي غالب ومصادرة ابنه أبي العبّاس. ثم قبض عليه سنة أربع عشرة بعد حول من وزارته بسعاية الأثير الخادم فيه واستوزر مكانه أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، كان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، وهرب إلى مصر وخدم الحاكم فقتله وهرب ابنه أبو القاسم هذا إلى الشام، وحمل حسّان بن الفرج الجرّاح الطائي على نقض طاعة الحاكم والبيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر العلويّ أمير مكة، فاستقدمه إلى الرملة وبايعه. ثم خلفه وعاد إلى مكة وقصد أبو القاسم العراق، واتصل بالوزير فخر الملك وأمره القادر بإبعاده، فلحق بقرواش أمير الموصل، وكتب له ثم عاد إلى العراق وتنقّلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخّجي، وكان خبيثا محتالا حسودا. ثم قدم مشرف الدولة إلى بغداد سنة أربع عشرة ولقيه القادر ولم يلق أحدا قبله. الخبر عن وحشة الأكراد وفتنة الكوفة كان الأثير عنبر الخادم مستوليا في دولة مشرف الدولة الوزير أبي القاسم المغربي عديله في حملها فنقم الأتراك عليهما، وطلب من مشرف الدولة الخراج [1] من بغداد خوفا على أنفسهما، فخرج معهما غضبا على الأتراك، ونزلوا على قرواش بالسّندية. واستعظم الأتراك ذلك، وبعثوا بالاعتذار والرغبة. وقال أبو   [1] مقتضى السياق: الخروج من بغداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 القاسم المغربي دخل بغداد إنما هو أربعمائة ألف وخرجها ستمائة فاتركوا مائة واحتمل مائة فأجابوه إلى ذلك خداعا. وشعر بوصولهم فهرب لعشرة أشهر من وزارته. ثم كانت فتنة بالكوفة بين العلويّة والعبّاسيّة. وكان لأبي القاسم المغربي صهر وصداقة في العلويّة فاستعدى العبّاسيون المغربيّ عليهم فلم يعدهم [1] لمكان المغربي. وأمرهم بالصلح فرجعوا إلى الكوفة. واستمدّ كل واحد منهم خفاجة فأمدوهم وافترقوا عليهم. واقتتل العلويّة والعبّاسيّة فغلبهم العلويّة ولحقوا ببغداد. ومنعوا الخطبة يوم الجمعة. وقتلوا بعض قرابة العلويّة الذين بالكوفة. فعهد القادر للمرتضى أن يصرف أبا الحسن عليّ بن أبي طالب ابن عمر عن نقابة الكوفة. ويردّها إلى المختار صاحب العبّاسيّة. وبلغ ذلك المغربي عند قرواش بسرّ من رأى فشرع في إرغام القادر. وبعث القادر إلى قرواش بطرده فلحق بابن مروان في ديار بكر. وفاة مشرف الدولة وولاية أخيه جلال الدولة ثم توفي مشرف الدولة أبو عليّ بن بهاء الدولة سنة ست عشرة في ربيع لخمس سنين من ملكه، وولّى مكانه بالعراق أخوه أبو طاهر جلال الدولة صاحب البصرة وخطب له ببغداد، واستقدم فبلغ واسط ثم عاد إلى البصرة فقطعت خطبته وخطب ببغداد في شوّال لابن أخيه أبي كاليجار بن سلطان الدولة، وهو بخوزستان يحارب عمّه أبا الفوارس صاحب كرمان. وسمع جلال الدولة بذلك فبادر إلى بغداد ومعه وزيره أبو سعد ابن ماكولا. ولقيه عسكرها فردّوه أقبح ردّ ونهبوا خزائنه فعاد إلى البصرة، واستحثوا أبا كاليجار فتباطأ لشغله بحرب عمّه، وسار إلى كرمان لقتال عمّه فملكها واعتصم عمّه بالجبال. ثم تراسلا واصطلحا على أن تبقى كرمان لأبي الفوارس وتكون بلاد فارس لأبي كاليجار. قدوم جلال الدولة إلى بغداد ولما رأى الأتراك اختلال الأحوال وضعف الدولة بفتنة العامّة وتسلط العرب والأكراد بحصار بغداد، وطمعهم فيها وأنّهم بقوا فوضى، وندموا على ما كان منهم في ردّ جلال الدولة، اجتمعوا إلى الخليفة يرغبون إلى ان يحضر جلال الدولة من البصرة   [1] أي لم يغيثهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 ليقيم أمر الدولة فبعث إليه القاضي أبا جعفر السمناني بالعهد عليه. وعلى القوّاد فسار جلال الدولة إلى بغداد في جمادى من سنة ثمان عشرة. وركب الخليفة في الطيار لتلقّيه فدخل ونزل التجيبي وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات. ومنعه الخليفة من ذلك فقطعه مغاضبا. ثم أذن له الخليفة فيه فأعاده. وأرسل مؤيد الملك أبا علي الرخّجي إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش يستدعيه يعتذر عن الأتراك. ثم شغب الأتراك عليه سنة تسع عشرة وحاصروه بداره وطلبوا من الوزير أبي علي بن ماكولا أرزاقهم. ونهبوا دوره ودور الكتّاب والحواشي. وبعث القادر من أصلح بينهم وبينه فسكن شغبهم. ثم خالفوا أبا كاليجار بن سلطان الدولة إلى البصرة فملكها، ثم ملك كرمان بعد وفاة صاحبها قوام الدولة أبي الفوارس بن بهاء الدولة كما نذكر في أخبارهم في دولتهم عند إفرادها بالذكر فنستوفي أخبارهم ودول سائر بني بويه وبني وشمكير وبني المرزبان وغيرهم من الديلم في النواحي. مسير جلال الدولة إلى الأهواز كان نور الدولة دبيس بن عليّ بن مزيد صاحب الحلّة، ولم تكن الحلّة يومئذ بمدينة، قد خطب لأبي كاليجار لمضايقة المقلّد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد وجمع عليه منيعا أمير بني خفاجة وعساكر بغداد، فخطب هو لأبي كاليجار واستدعاه لملك واسط وبها الملك العزيز بن جلال الدولة فلحق بالنعمانيّة وتركها وضيّق عليه نور الدولة من كل جهة فتفرق ناس من أصحابه وهلك الكثير من أثقاله واستولى أبو كاليجار على واسط ثم خطب له في البطيحة وأرسل إلى قرواش صاحب الموصل وعنده الأثير عنبر يستدعيهما إلى بغداد، فانحدر عنبر إلى الكحيل ومات به. وقعد قرواش وجمع جلال الدولة عساكره ببغداد، واستمدّ أبا الشوك وغيره، وانحدر إلى واسط وأقام هنالك من غير قتال، وضاقت عليه الأحوال. واعتزم أبو كاليجار على مخالفته إلى بغداد، وجاءه كتاب أبي الشوك بزحف عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق، ويشير بالصلح والاجتماع لمدافعتهم، فأنفذ أبو كاليجار الكتاب لجلال الدولة فلم ينته عن قصده، ودخل الأهواز فنهبها، وأخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار، واستباح العرب والأكراد سائر البلد وحمل حريم كاليجار إلى بغداد سبيا فماتت أمه في الطريق. وسار أبو كاليجار لاعتراض جلال الدولة وتخلّف عنه دبيس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 لدفع خفاجة عن أصحابه. واقتتلوا في ربيع سنة إحدى وعشرين ثلاثة أيام فانهزم أبو كاليجار، وقتل من أصحابه ألفان. ودبيس لما فارق أبا كاليجار وصل الى بلده وجمع إليه جماعة من قومه، وكانوا منتقضين عليه بالجامعين فأوقع بهم وحبس منهم وردّهم إلى وفاقه. ثم لقي المقلّد بن أبي الأغر وعساكر جلال الدولة فانهزم أمامهم وأسر جماعة من أصحابه، وسار منهزما إلى أبي سنان غريب بن مكين فأصلح حاله مع جلال الدولة وأعاده إلى ولايته على ضمان عشرة آلاف دينار، وسمع بذلك المقلّد فجمع خفاجة ونهبوا النيل وسورا وأحرقوا منازلها. ثم عبر المقلّد إلى أبي الشوك فأصلح أمره مع جلال الدولة. ثم بعث جلال الدولة سنة إحدى وعشرين عسكره إلى المدار فملكها من يد أصحاب أبي كاليجار، واستباحوها، وبعث أبو كاليجار عسكره لمدافعتهم فهزموهم وثار أهل البلد بهم فقتلوهم، ولحق من نجا منهم بواسط وعادت المدار إلى أبي كاليجار. استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا وانتزاعها منه لما استولى جلال الدولة على واسط نزل بها ولده وبعث وزيره أبا عليّ بن ماكولا إلى البطائح فملكها. ثم بعثه إلى البصرة وبها أبو منصور بختيار بن عليّ من قبل أبي كاليجار. فسار في السفن وعليهم أبو عبد الله الشرابي صاحب البطيحة فلقى بختيار وهزمه. ثم سار الوزير أبو علي في أثره في السفن فهزمه بختيار. وسيق إليه أسيرا فأكرمه وبعثه إلى أبي كاليجار فأقام عنده، وقتله غلمانه خوفا منه لقبيح منهم اطلع عليه. وكان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة ومكوسا فاضحة. ولما أصيب الوزير أبو علي بعث جلال الدولة من كان عنده من جند البصرة فقاتلوا عسكر أبي كاليجار، وهزموهم وملكوا البصرة ونجا من كان بها إلى أبي منصور بختيار بالأبلّة. وبعث السفن لقتال من بالبصرة فظفر بهم أصحاب جلال الدولة فسار بختيار بنفسه وقاتلهم، وانهزم وقتل وأخذ كثير من السفهاء. وعزم الأتراك بالبصرة على المسير إلى الأبلّة وطلبوا المال من العامل فاختلفوا وتنازعوا وافترقوا، ورجع صاحب البطيحة، واستأمن آخرون إلى أبي الفرج ابن مسافجس وزير أبي كاليجار. وجاء إلى البصرة فملكها. ثم توفي بختيار نائب الملك أبي كاليجار في البصرة، وقام بعده صهره أبو القاسم بطاعة أبي كاليجار في البصرة. ثم استوحش وانتقض وبعث بالطاعة لجلال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 الدولة وخطب له، وبعث إلى ابنه العزيز بواسط يستدعيه فسار إليه وأخرج عساكر أبي كاليجار وأقام معه إلى سنة خمس وعشرين والحكم لأبي القاسم. ثم أغراه الديلم به وأنه يتغلّب عليهم، فأخرجه العزيز وامتنع بالأبلّة وحاربهم أياما، وأخرج العزيز عن البصرة، ولحق بواسط وعاد أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار. وفاة القادر ونصب القائم ثم توفي القادر باللَّه سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة لإحدى وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته، وكانت الخلافة قبلها قد ذهب رونقها بجسارة الديلم والأتراك عليها، فأعاد إليها أبهتها وجدّد ناموسها، وكان له في قلوب الناس هيبة. ولما توفي نصّب للخلافة ابنه أبو جعفر عبد الله، وقد كان أبوه بايع له بالعهد في السنة قبلها لمرض طرقه وأرجف الناس بموته، فبويع الآن واستقرّت له الخلافة ولقّب القائم بأمر الله. وأوّل من بايعه الشريف المرتضى. وبعث القاضي أبا الحسن الماوردي إلى أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة ويخطب له في بلاده. فأجاب وبعث بالهدايا. ووقعت لأوّل بيعته فتنة بين أهل السنّة والشيعة، وعظم الهرج والنهب والقتل وخربت فيها أسواق وقتل كثير من جباة المكوس. وأصيب أهل الكرخ وتطرّق الدعّار إلى كبس المنازل ليلا، وتنادى الجند بكراهية جلال الدولة وقطع خطبته. ولم يجبهم القائم إلى ذلك وفرّق جلال الدولة فيهم الأموال فسكنوا، وقعد في بيته وأخرج دوابه من الإصطبل وأطلقها بغير سائس ولا حافظ لقلّة العلف. وطلب الأتراك منه أن يحملهم في كل وقت فأطلقها، وكانت خمسة عشر وفقد الجاري فطرد الطواشي والحواشي والأتباع وأغلق باب داره والفتنة تتزايد إلى آخر السنة. وثوب الجند بجلال الدولة وخروجه من بغداد ثم جاء الأتراك سنة ست وعشرين إلى جلال الدولة فنهبوا داره وكتبه ودواوينه، وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهيليّ فهرب إلى حلّة غريب بن مكين، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا وخطبوا ببغداد لأبي كاليجار وهو بالأهواز واستقدموه فأشار عليه بعض أصحابه بالامتناع فاعتذر إليهم فأعادوا لجلال الدولة. وساروا إليه معتذرين وأعادوه بعد ثلاثة وأربعين يوما واستوزر أبا القاسم بن ماكولا، ثم عزله واستوزر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 عميد الملك أبا سعيد عبد الرحيم. ثم أمره بمصادرة أبي المعمّر بن الحسين البساسيري فاعتقله في داره، وجاء الأتراك لمنعه فضربوا الوزير ومزّقوا ثيابه وأدموه. وركب جلال الدولة فأطفأ الفتنة وأخذ من البساسيري ألف دينار وأطلقه، واختفى الوزير. ثم شغب الجند ثانيا في رمضان وأنكروا تقديم الوزير أبي القاسم من غير علمهم وأنه يريد التعرّض لأموالهم فوثبوا به ونهبوا داره وأخرجوه إلى مسجد هنالك فوكّلوا به فوثب العامّة مع بعض القوّاد من أصحابه فأطلقوه وأعادوه إلى داره. وذهب هو في الليل إلى الكرخ بحرمة ووزيره أبو القاسم معه. واختلف الجند في أمره وأرسلوا إليه بأن يملّكوا بعض أولاده الأصاغر، وينحدر هو إلى واسط، وهو في خلال ذلك يستميلهم حتى فرّق جماعتهم، وجاء الكثير إليه فأعادوه إلى داره، واستخلف البساسيري في جماعة للجانب الغربي سنة خمس وعشرين لاشتداد أمر العيّارين ببغداد، وكثرة الهرج وكفايته هو ونهضته [1] . ثم عاد أمر الخلافة والسلطنة إلى أن اضمحل وتلاشى، وخرج بعض الجند إلى قرية فلقيهم أكراد وأخذوا دوابهم وجاءوا إلى بستان القائم فتعلّلوا على عمّاله بأنهم لم يدفعوا عنهم، ونهبوا ثمرة البستان، وعجز جلال الدولة عن عتاب الأكراد وعقاب الجند، وسخط القائم أمره وتقدّم إلى القضاة والشهود والفقهاء بتعطيل المراتب الدينية، فرغب جلال الدولة من الجند أن يحملهم إلى ديوان الخلافة فحملوا وأطلقوا، وعظم أمر العيّارين وصاروا في حماية الجند وانتشر العرب في النواحي فنهبوها وأفسدوا السابلة. وبلغوا جامع المنصور من البلد، وسلبوا النساء في المقبرة. ولحق الوزير أبو سعيد وزير جلال الدولة بابي الشوك مفارقا للوزارة، ووزر بعده أبا القاسم فكثرت مطالبات الجند عليه فهرب وأخذه الجند وجاءوا به الى دار الملك حاسرا عاريا إلّا من قميص خلق، وذلك لشهرين من وزارته، وعاد سعيد بن عبد الرحيم إلى الوزارة. ثم ثار الجند سنة سبع وعشرين بجلال الدولة وأخرجوه من بغداد بعد ان استمهلهم ثلاثا فأبوا ورموه بالحجارة فأصابوه، ومضى الى دار المرتضى بالكرخ. وسار منها إلى رافع بن الحسين بن مكن بتكريت، ونهب الأتراك داره، وقلعوا أبوابها، ثم أصلح القائم شأنه مع الجند، وأعاده وقبض على وزيره أبي سعيد   [1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وغير مفهومة وفي الكامل لابن الأثير ج 9 ص 437: «وفيها استخلف البساسيري في حماية الجانب الغربي ببغداد لأن العيارين اشتد أمرهم وعظم فسادهم، وعجز عنهم نواب السلطان، فاستعملوا البساسيري لكفايته ونهضته.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 ابن عبد الرحيم، وهي وزارته السادسة. وفي هذه السنة نهى القائم عن التعامل بالدنانير المعزيّة، وتقدّم إلى الشهود أن لا يذكروها في كتب التعامل. الصلح بين جلال الدولة وأبي كاليجار ترددت الرسل سنة ثمان وعشرين بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار حتى انعقد بينهما الصلح على يد القاضي أبي الحسن الماوردي وأبي عبد الله المردوسي، واستحلف كل واحد منهما للآخر، وأظهر جلال الدولة سنة تسع وعشرين من القائم الخطاب بملك الملوك فردّ ذلك الى الفتيا، وأجازه القاضي أبو الطيّب الطبريّ، والقاضي أبو عبد الله الصهيري، والقاضي ابن البيضاوي وأبو القاسم الكرخي، ومنع منه القاضي أبو الحسن الماوردي وردّ عليهم فأخذ بفتواهم، وخطب له بملك الملوك. وكان الماوردي من أخصّ الناس بجلال الدولة، وكان يتردّد إليه. ثم انقطع عنه بهذه الفتيا، ولزم بيته من رمضان الى النحر فاستدعاه جلال الدولة وحضر خائفا، وشكره على القول بالحق، وعدم المحاباة، وقد عدت إلى ما تحب فشكره ودعا له، وأذن للحاضرين بالانصراف معه، وكان الاذن لهم تبعا له. استيلاء أبي كاليجار على البصرة وفي سنة إحدى وثلاثين بعث ابو كاليجار عساكره الى البصرة مع العادل أبي منصور ابن مافنّة، وكانت في ولاية الظهير أبي القاسم بن [1] وليها بعد بختيار، انتقض عليه مرّة ثم عاد، وكان يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة سبعين ألف دينار، وكثرت أمواله ودامت دولته. ثم تعرّض ملا الحسين بن أبي القاسم بن مكرم صاحب عمان فكاتب ابا كاليجار وضمن البصرة بزيادة ثلاثين ألف دينار، وبعث ابو كاليجار العساكر مع ابن مسافيه [2] كما ذكرنا. وجاء المدد من عمان إلى البصرة، وملكوها وقبض على الظهير أبي القاسم، وأخذت أمواله وصودر على مائتي ألف دينار فأعطاها، وجاء الملك أبو كاليجار البصرة فأقام بها أياما وولّى فيها ابنه عزّ الملوك ومعه الوزير أبو الفرج بن فسانجس، ثم عاد الى الأهواز وحمل معه الظهير.   [1] بياض بالأصل وهو ابو القاسم بن مكرم. [2] هذا وقد ورد اسمه خطأ: ابن ما فنّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 شغب الأتراك على جلال الدولة ثم شغب الأتراك على جلال الدولة سنة اثنتين وثلاثين وخيّموا بظاهر البلد ونهبوا منها مواضع. وخيّم جلال الدولة بالجانب الغربي وأراد الرحيل عن بغداد فمنعه أصحابه فاستمد دبيس بن مزيد وقرواشا صاحب الموصل فأمدّوه بالعساكر. ثم صلحت الأحوال بينهم وعاد إلى داره وطمع الأتراك وكثر نهبهم وتعدّيهم وفسدت الأمور بالكلية. ابتداء دولة السلجوقية قد تقدّم لنا أنّ أمم الترك في الربع الشرقي الشمالي من المعمور، ما بين الصين إلى تركستان إلى خوارزم والشاش وفرغانة، وما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ، وأن المسلمين أزاحوهم أوّل الملّة عن بلاد ما وراء النهر وغلبوهم عليها، وبقيت تركستان وكاشغر والشاش وفرغانة بأيديهم يؤدّون عليها الجزاء [1] . ثم أسلموا عليها فكان لهم بتركستان ملك ودولة، نذكرها فيما بعد، فإن استفحالها كان في دولة بني سامان جيرانهم فيما وراء النهر. وكان في المفازة بين تركستان وبلاد الصين أمم من الترك لا يحصيهم إلا خالقهم لاتساع هذه المفازة وبعد أقطارها فإنّها فيما يقال مسيرة شهر من كل جهة، فكان هنالك أحياء بادون منتجعون رجالة غذاؤهم اللحوم والألبان والذرة في بعض الأحيان ومراكبهم الخيل، ومنها كسبهم وعليها قيامهم وعلى الشاء والبقر من بين الأنعام، فلم يزالوا بتلك القفار مذودين عن العمران بالحامية، المالكين له في كل جهة. وكان من أممهم الغز والخطا والتتر وقد تقدّم ذكر هؤلاء الشعوب. فلما انتهت دولة ملوك تركستان وكان شغر [2] إلى غايتها، وأخذت في الاضمحلال والتلاشي كما هو شأن الدول وطبيعتها. تقدّم هؤلاء إلى بلاد تركستان فأجلبوا عليها بما كان غالب معاشهم في تخطّف الناس من السبل، وتناول الرزق بالرماح شأن أهل القفر البادين، وأقاموا بمفازة بخارى. ثم انقرضت دولة بني سامان ودولة أهل تركستان. واستولى محمود بن سبكتكين من قوّاد بني سامان وصنائعهم على ذلك كله. وعبر بعض الأيام إلى بخارى فحضر عنده أرسلان بن سلجوق فقبض عليه.   [1] جمع جزية. [2] شغر الناس تفرقوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 وبعث به إلى بلاد الهند فحبسه، وسار إلى أحيائه فاستباحها، ولحق بخراسان وسارت العساكر في اتّباعهم فلحقوا بأصبهان وهمّ صاحبها علاء الدولة بن كالويه بالغدر بهم، وشعروا بذلك فقاتلوه بأصبهان فغلبهم، فانصرفوا إلى أذربيجان فقاتلهم صاحبها وهشودان من بني المرزبان. وكانوا لمّا قصدوا أصبهان بقي فلّهم بنواحي خوارزم فعاثوا في البلاد، وخرج إليهم صاحب طوس وقاتلهم. وجاء محمود بن سبكتكين فسار في اتّباعهم من رستاق إلى جرجان، ورجع عنهم، ثم استأمنوا فاستخدمهم وتقدّمهم يغمر، وأنزل ابنه بالريّ. ثم مات محمود وولي أخوه مسعود، وشغل بحروب الهند فانتقضوا وبعث إليهم قائدا في العساكر، وكانوا يسمّون العراقية وأمراؤهم يومئذ كوكاش ومرقا وكول ويغمر وباصعكي، ووصلوا إلى الدامغان فاستباحوها، ثم سمنان، ثم عاثوا في أعمال الريّ واجتمع صاحب طبرستان وصاحب الريّ مع قائد مسعود وقاتلوهم فهزمهم الغزّ وفتكوا فيهم وقصدوا الريّ فملكوه، وهرب صاحبه إلى بعض قلاعه فتحصّن بها، وذلك سنة ست وعشرين وأربعمائة. واستألفهم علاء الدولة بن كالويه ليدافع بهم ابن سبكتكين فأجابوه أوّلا، ثم انتقضوا. وأمّا الذين قصدوا أذربيجان منهم، ومقدّموهم بوقا وكوكباش [1] ومنصور ودانا فاستألفهم وهشودان ليستظهر بهم، فلم يحصل على بغيته من ذلك. وساروا إلى مراغة سنة تسع وعشرين فاستباحوها، ونالوا من الأكراد الهديانيّة فحاربوهم وغلبوهم وافترقوا فرقتين، فرجع بوقا إلى أصحابهم الذين بالريّ، وسار منصور وكوكباش إلى همذان، وبها أبو كاليجار بن علاء الدولة بن كالويه فظاهرهم على حصاره متّى خسرو بن مجد الدولة فلمّا جهده الحصار لحق بأصبهان وترك البلد فدخلوها واستباحوها، وفعلوا في الكرخ مثل ذلك، وحاصروا قزوين حتى أطاعوهم وبذلوا لهم سبعة آلاف دينار. وسار طائفة منهم إلى بلد الأرمن فاستباحوها وأثخنوا فيها ورجعوا إلى أرمينية. ثم رجعوا من الريّ إلى حصار همذان فتركها أبو كاليجار وملكوها سنة ثلاثين ومعهم متى خسرو المذكور فاستباحوا تلك النواحي إلى أستراباذ، وقاتلهم أبو الفتح بن أبي الشوك صاحب الدّينور فهزمهم وأسر منهم وصالحوه على إطلاق أسراهم. ثم مكروا بأبي كاليجار أن يكون معهم ويدبّر أمرهم، وغدروا به ونهبوه. وخرج علاء الدولة من أصبهان فلقي طائفة منهم فأوقع بهم وأثخن فيهم وأوقع وهشودان بمن كان منهم في أذربيجان وظفر بهم الأكراد وأثخنوا فيهم. وفرّقوا   [1] وفي الكامل ج 9 ص 379: كوكتاش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 جماعتهم. ثم توفي كول أمير الفرق الذين بالري، وكانوا لما أجازوا من وراء النهر إلى خراسان بقي بمواطنهم الأولى هنالك طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق وإخوته داود وسعدان وينال وهمغري فخرجوا إلى خراسان من بعدهم. وكانوا اشدّ منهم شوكة وأقوى عليهم سلطانا فسار ينال أخو طغرلبك إلى الريّ فهربوا إلى أذربيجان ثم إلى جزيرة ابن عمر وديار بكر. ومكر سليمان بن نصير الدولة بن مروان صاحب الجزيرة بمنصور بن غزّ علي منهم فحبسه وافترق أصحابه، وبعث قرواش صاحب الموصل إليهم جيشه فطردهم وافترقت جموعهم، ولحق الغزّ بديار بكر وأثخنوا فيها، وأطلق نصير الدولة أميرهم منصورا من يد ابنه فلم ينتفع منهم بذلك. وقاتلهم صاحب الموصل فحاصروه ثم ركب في السفين ونجا إلى السّند وملكوا البلد وعاثوا فيها. وبعث قراوش إلى الملك جلال الدولة يستنجده، وإلى دبيس بن مزيد وأمراء العرب. وفرض الغزّ على أهل الموصل عشرين ألف دينار فثار الناس بهم، وكان كوكباش قد فارق الموصل فرجع ودخلها عنوة في رجب سنة خمس وثلاثين، وأفحش في القتل والنهب. وكانوا يخطبون للخليفة ولطغرلبك بعده، فكتب الملك جلال الدولة إلى طغرلبك يشكو له بأحوالهم، فكتب إليه أنّ هؤلاء الغز كانوا في خدمتنا وطاعتنا حتى حدث بيننا وبين محمود بن سبكتكين ما علمتم، ونهضنا إليه، وساروا في خدمتنا في نواحي خراسان فتجاوزوا حدود الطاعة وملكة الهيبة، ولا بدّ من إنزال العقوبة بهم. وبعث إلى نصير الدولة بعده يكفّهم عنه. وسار دبيس بن مزيد وبنو عقيل إلى قرواش حاجب الموصل وقعد جلال الدولة عن إنجاده لما نزل به من الأتراك. وسمع الغزّ بجموع قرواش فبعثوا إلى من كان بديار بكر منهم واجتمعوا إليهم، واقتتل الفريقان فانهزم العرب أوّل النهار، ثم أتيحت لهم الكرّة على الغزّ فهزموهم واستباحوهم وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، واتّبعهم قرواش إلى نصيبين ورجع عنهم فساروا إلى ديار بكر وبلاد الأرمن والروم، وكثر عيثهم فيها وكان طغرلبك وإخوته لما جاءوا إلى خراسان طالت الحروب بينهم وبين عساكر بني سبكتكين حتى غلبوهم وحصل لهم الظفر، وهزموا سياوشي حاجب مسعود آخر هزائمهم، وملكوا هراة فهرب عنها سياوشي الحاجب ولحق بغزنة، وزحف إليهم مسعود ودخلوا البرية، ولم يزل في اتّباعهم ثلاث سنين. ثم انتهزوا فيه الفرصة باختلاف عسكره يوما على الماء فانهزموا وغنموا عسكره وسار طغرلبك إلى نيسابور سنة إحدى وثلاثين فملكها وسكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 السادياج، وخطب له بالسلطان الأعظم العمّال في النواحي. وكان الدعار قد اشتدّ ضررهم بنيسابور فسدّ أمرهم وحسم عللهم، واستولى السلجوقية على جميع البلاد. وسار بيقو إلى هراة فملكها وسار داود إلى بلخ وبها القوتباق حاجب مسعود فحاصره، وعجز مسعود عن إمداده فسلّم البلد لداود، واستقلّ السلجوقية بملك البلاد أجمع. ثم ملك طغرلبك طبرستان وجرجان من يد أنوشروان بن متوجهر قابوس، وضمنها أنوشروان بثلاثين ألف دينار، وولّى على جرجان مرداويج من أصحابه بخمسين ألف دينار، وبعث القائم القاضي أبا الحسن الماوردي إلى طغرلبك فقرّر الصلح بينه وبين جلال الدولة القائم بدولته ورجع بطاعته. فتنة قرواش مع جلال الدولة كان قرواش قد أنفذ عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت، واستغاث بجلال الدولة، وأمر قرواشا بالكفّ عنه فلم يفعل وسار لحصاره بنفسه. وبعث إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم على جلال الدولة فاطلع على ذلك فبعث أبا الحرث أرسلان البساسيري في صفر سنة اثنتين وثلاثين للقبض على نائب قرواش بالسندسيّة، واعترضه العرب فمنعوه ورجع وأقاموا بين صرصر وبغداد يفسدون السابلة، وجمع جلال الدولة العساكر وخرج إلى الأنبار وبها قرواش فحاصرها. ثم اختلفت عقيل على قرواش فرجع إلى مصالحة جلال الدولة. وفاة جلال الدولة وملك أبي كاليجار لمّا قلّت الجبايات ببغداد مدّ جلال الدولة يده إلى الجوالي فأخذها وكانت خاصة بالخليفة. ثم توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشرة من ملكه. ولما مات خاف حاشيته من الأتراك والعامّة فانتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم وأصحابه الأكابر إلى حرم دار الخلافة، واجتمع القوّاد للمدافعة عنهم وكاتبوا الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة في واسط بالطاعة واستقدموه وطلبوا حتى البيعة فراوضهم فيها، فكاتبهم أبو كاليجار عنها فعدلوا إليه، وجاء العزيز من واسط وانتهى إلى النعمانيّة فغدر به عسكره، ورجعوا إلى واسط وخطبوا لأبي كاليجار. وسار العزيز إلى دبيس بن مزيد، ثم إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 قرواش بن المقلّد، ثم فارقه إلى أبي الشوك فغدر به فسار إلى ينال أخي طغرلبك فأقام عنده مدّة. ثم قصد بغداد مختفيا فظهر على بعض أصحابه فقتله، ولحق هو بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين سنة إحدى وأربعين. وأمّا أبو كاليجار فخطب له ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين. وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار وبأموال أخرى فرقت إلى الجند ولقّبه القائم بمحي الدين، وخطب له أبو الشوك ودبيس بن مزيد ونصير الدولة بن مروان بأعمالهم. وسار إلى بغداد ومعه وزيره أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس. وهمّ القائم لاستقباله فاستعفى من ذلك، وخلع على أرباب الجيوش، وهم البساسيري والنساوري والهمّام أبو اللقاء. وأخرج عميد الدولة أبا سعيد من بغداد فمضى إلى تكريت، وعاد أبو منصور بن علاء الدولة بن كالويه صاحب أصبهان إلى طاعته، وخطب له على منبره انحرافا عن طغرلبك. ثم راجعه بعد الحصار واصطلحا على مال يحمله، وبعث أبو كاليجار إلى السلطان طغرلبك في الصلح وزوّجه ابنته فأجاب وتمّ بينهما سنة تسع وثلاثين. وفاة أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم كان أبو كاليجار والمرزبان بن سلطان الدولة قد سارا سنة أربعين إلى نواحي كرمان، وكان صاحبها بهرام بن لشكرستان من وجوه الديلم قد منع الحمل فتنكّر له أبو كاليجار، وبعث إلى أبي كاليجار يحتمي به، وهو بقلعة برد شير فملكها من يده، وقتل بهرام بعض الجند الذين ظهر منهم على الميل لأبي كاليجار فسار إليه ومرض في طريقه، ومات بمدينة جنايا في سنة أربعين لأربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه. ولما توفي نهب الأتراك معسكره وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور، وأرادوا نهبه فمنعهم الديلم، وساروا إلى شيراز فملكها أبو منصور واستوحش الوزير منه فلحق ببعض قلاعه، وامتنع بها، ووصل خبر وفاة أبي كاليجار إلى بغداد وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز فبايع له الجند وبعث إلى الخليفة في الخطبة والتلقّب بالملك الرحيم فأجابه إلى ما سأل إلّا اللقب بالرحيم للمانع الشرعي من ذلك. واستقرّ ملكه بالعراق وخوزستان والبصرة، وكان بها أخوه أبو علي، واستولى أخوه أبو منصور كما ذكرنا على شيراز فبعث الملك الرحيم أخاه أبا سعد في العساكر فملكها، وقبض على أخيه أبي منصور، وسار العزيز جلال الدولة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 عند قرواش إلى البصرة فدافعه أبو علي بن كاليجار عنها. ثم سار الملك الرحيم إلى خوزستان. وأطاعه من بها من الجند وكثرت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة. مسير الملك الرحيم الى فارس ثم سار الملك الرحيم من الأهواز إلى فارس سنة إحدى وأربعين، وخيّم بظاهر شيراز. ووقعت فتنة بين أتراك شيراز وبغداد فرحل أتراك بغداد إلى العراق. وتبعهم الملك الرحيم لانحرافه عن أتراك شيراز. وكان أيضا منحرفا عن الديلم بفارس لميلهم إلى أخيه فلاستون بإصطخر، وانتهى إلى الأهواز فأقام بها واستخلف بأرّجان أخويه أبا سعد وأبا طالب فزحف إليهما أخوهما فلاستون، وخرج الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز للقائهم فلقيهم وانهزم إلى البصرة، ثم إلى واسط. وسارت عساكر فارس إلى الأهواز فملكوها وخيّموا بظاهرها. ثم شغبوا على أبي منصور، وجاء بعضهم إلى الملك الرحيم فبعث إلى بغداد واستقرّ الجند الذين بها، وسار إلى الأهواز فملكها وأقام ينتظر عسكر بغداد. ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة اثنتين وأربعين. ثم تقدّم سنة ثلاث وأربعين ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما. وسار هزارشب بن تنكير ومنصور بن الحسين الأسدي فيمن معهما من الديلم والأكراد من أرّجان إلى تستر فسبقهم الملك الرحيم إليها وغلبهم عليها. ثم زحف في عسكر هزارشب فوافاه أميره أبو منصور بمدينة شيراز فاضطربوا ورجعوا. ولحق منهم جماعة بالملك الرحيم فبعث عساكر إلى رامهرمز وبها أصحاب أبي منصور فحاصرها وملكها في ربيع سنة ثلاث وأربعين. ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر إلى بلاد فارس لأنّ أخاه أبا نصر خسرو كان بإصطخر، ضجر من تغلّب هزارشب بن تنكير صاحب أخيه أبي منصور فكتب إلى أخيه الملك الرحيم بالطاعة فبعث إليه أخاه أبا سعد فأدخله إصطخر وملكه. ثم اجتمع أبو منصور فلاستون وهزارشب ومنصور بن الحسين الأسدي، وساروا للقاء الملك الرحيم بالأهواز، واستمدّوا السلطان طغرلبك وأبوا طاعته، فبعث إليهم عسكرا، وكان قد ملك أصبهان واستطال وافترق كثير من أصحاب الملك الرحيم عنه، مثل البساسيري ودبيس بن مزيد والعرب والأكراد وبقي في الديلم الأهوازية وبعض الأتراك من بغداد ورأى أن يعود من عسكر مكرم إلى الأهواز ليتحصّن بها وينتظر عسكر بغداد. ثم بعث أخاه أبا سعد إلى فارس كما ذكرنا ليشغل أبا منصور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 وهزارشب ومن معهما عن قصده فلم يعرجوا على ذلك. وساروا إليه بالأهواز وقاتلهم فانهزم الى واسط ونهب الأهواز وفقد في الواقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي عبد الرحيم فلم يوقف له على خبر. وسار أبو منصور وأصحابه إلى شيراز لأجل أبي سعد وأصحابه فلقيهم قريبا منها، وهزمهم مرّات واستأمن إليه الكثير منهم، واعتصم أبو منصور ببعض القلاع وأعيدت الخطبة بالأهواز للملك الرحيم، واستدعاه الجند بها وعظمت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة في غيبة الملك الرحيم واقتتلوا، وبعث القائم نقيب العلويين ونقيب العبّاسيّين لكشف الأمر بينهما فلم يوقف على يقين في ذلك. وزاد الأمر وأحرقت مشاهد العظماء من أهل البيت، وبلغ الخبر إلى دبيس ابن مزيد فاتّهم القائم بالمداهنة في ذلك فقطع الخطبة له ثم عوتب فاستعتب وعاد إلى حاله. مهادنة طغرلبك للقائم قد تقدّم لنا شأن الغزّ واستيلائهم على خراسان من يد بني سبكتكين عام اثنتين وثلاثين، ثم استيلاء طغرلبك على أصبهان من يد ابن كالويه سنة اثنتين وأربعين. ثم بعث السلطان طغرلبك أرسلان بن أخيه داود إلى بلاد فارس فافتتحها سنة اثنتين وأربعين، واستلحم من كان بها من الديلم، ونزل مدينة نسا وبعث إليه القائم بأمر الله بالخلع والألقاب، وولّاه على ما غلب عليه فبعث إليه طغرلبك بعشرة آلاف دينار، وأعلاق نفيسة من الجواهر والثياب والطيب، وإلى الحاشية بخمسة آلاف دينار، وللوزير رئيس الرؤساء بألفين، وحضروا العيد في سنة ثلاث وأربعين ببغداد فأمر الخليفة بالاحتفال في الزينة والمراكب والسلاح. ثم سار الغزّ سنة أربع وأربعين إلى شيراز وبها الأمير أبو سعد أخو الملك الرحيم فقاتلهم وهزمهم كما نذكر في أخبارهم. استيلاء الملك الرحيم على البصرة من يد أخيه ثم بعث الملك الرحيم سنة أربع وأربعين جيوشه إلى البصرة مع بصيرة البساسيري فحاصروا بها أخاه أبا عليّ وقاتلوا عسكره في السفن فهزموهم وملكوا عليهم دجلة والأنهر. وجاء الملك الرحيم فالعسكر في البرّ واستأمن إليه قبائل ربيعة ومضر فأمّنهم وملك البصرة، وجاءته رسل الديلم بخوزستان بطاعتهم. ومضى أخوه أبو علي إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 شطّ عمان وتحصّن به فسار إليه الملك الرحيم، وملك عليه شط عمان ولحق بعبادان، وسار منها إلى أرّجان. ثم لحق بالسلطان طغرلبك بأصبهان فأكرمه وأصهر إليه، وأقطع له وأنزله بقلعة من أعمال جرباذقان. وولّى الملك الرحيم وزيره البساسيري على البصرة، وسار إلى الأهواز وأرسل منصور بن الحسين وهزارشب في تسليم أرّجان وتستر فتسلمها واصطلحا. وكان المقدّم على أرّجان فولاذ بن خسرو من الديلم فرجع إلى طاعة الملك الرحيم سنة خمس وأربعين. فتنة ابن أبي الشوك ثم طاعته كان سعدي بن أبي الشوك قد أعطى طاعته للسلطان طغرلبك بنواحي الريّ، وسار في خدمته، وبعثه سنة أربع وأربعين في العساكر إلى نواحي العراق فبلغ النعمانيّة وكثر عيثه، وراسله ملد [1] من بني عقيل قرابة قريش بن بدران في الاستظهار له على قريش ومهلهل أخي أبي الشوك فوعدهم، فسار إليهم مهلهل وأوقع بهم على عكبرا فساروا الى سعدى وشكوا اليه وهو على سامرا فسار وأوقع بعمّه مهلهل وأسره وعاد إلى حلوان وهمّ الملك الرحيم بتجهيز العساكر إليه بحلوان واستقدم دبيس بن مزيد لذلك. ثم عظمت الفتنة سنة خمس وأربعين ببغداد من أهل الكرخ وأهل السنّة، ودخلها طوائف من الأتراك، وعمّ الشرّ واطرحت مراقبة السلطان، وركب القوّاد لحسم العلّة فقتلوا علويا من أهل الكرخ فنادت نساؤه بالويل فقاتلهم العامّة، وأضرم النار في الكرخ بعض الأتراك فاحترق جميعه. ثم بعث القائم وسكن الأمر، وكان مهلهل لما أسر سار ابنه بدر إلى طغرلبك وابن سعدي كان عنده رهينة، وبعث إلى سعدي بإطلاق مهلهل عند ذلك، فامتنع سعدي من ذلك وانتقض على طغرلبك، وسار من همذان إلى حلوان وقاتلها فامتنعت عليه، فكاتب الملك الرحيم بالطاعة ولحقه عساكر طغرلبك فهزموه، ولحق ببعض القلاع هنالك وسار بدر في اتباعه إلى شهرزور، ثم جاءه الخبر بأنّ جمعا من الأكراد والأتراك قد أفسدوا السابلة وأكثروا العيث، فخرج إليهم البساسيري واتبعهم إلى البواريج وأوقع بالطوائف منهم واستباحهم وعبروا الزاب فلم يمكنه العود إليهم ونجوا.   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 590: «فأرسل إليه ولده مع أولاد الزّرير ومطر يشكون إليه ما عاملهم به عمّه مهلهل وقريش بن بدران» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 فتنة الأتراك وفي سنة ست وأربعين شغب الأتراك على وزير الملك الرحيم في مطالبة أرزاقهم واستعدوه عليه فلم يعدهم فشكوا من الديوان وانصرفوا مغضبين، وباكروا من الغد لحصار دار الخليفة، وحضر البساسيري واستكشف حال الوزير فلم يقف له على خبر. وكبست الدور في طلبه فكان ذلك وسيلة للأتراك في نهب دور الناس. واجتمع أهل المحال لمنعهم، ونهاهم الخليفة فلم ينتهوا فهمّ بالرحلة عن بغداد. ثم ظهر الوزير وأنصفهم في أرزاقهم فتمادوا على بغيهم وعسفهم، واشتدّ عيث الأكراد والأعراب في النواحي فخربت البلاد، وتفرّق أهلها، وأغار أصحاب ابن بدران بالبرد وكبسوا حلل كامل بن محمد بن المسيّب ونهبوها. ونهبوا في جملتها ظهرا وأنعاما للبساسيري وانحل أمر الملك والسلطنة بالكلية. استيلاء طغرلبك على أذربيجان وعلى أرمينية والموصل سار طغرلبك سنة أربعين إلى أذربيجان فأطاعه صاحب قبرير أبو منصور وشهودان ابن محمد [1] وخطب له ورهن ولده عنده. ثم أطاعه صاحب جنده [2] أبو الأسوار ثم تبايع سائر النواحي على الطاعة وأخذ رهنهم. وسار إلى أرمينية فحاصر ملازكرد [3] وامتنعت عليه فخرّب ما جاورها من البلاد. وبعث إليه نصير الدولة بن مروان بالهدايا وقد كان دخل في طاعته من قبل وسار السلطان طغرلبك لغزو بلاد الروم واكتسحها الى أن أردن الروم، ورجع إلى أذربيجان ثم إلى الريّ، وخطب له قريش بن بدران صاحب الموصل في جميع أعماله وزحف إلى الأنبار ففتحها ونهب ما فيها البساسيري فانتقض لذلك وسار في العساكر إلى الأنبار فاستعاده من يده.   [1] بياض بالأصل والأسماء محرفة وفي الكامل ج 9 ص 598: «في هذه السنة- 445- سار طغرلبك الى آذربيجان، فقصد تبريز وصاحبها الأمير أبو منصور وهسوذان بن محمد الرواديّ، فأطاعه وخطب له وحمل اليه ما أرضاه به.» [2] جنزة: المرجع السابق. [3] ملازكرد: المرجع السابق ص 599. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 وحشة البساسيري كان أبو الغنائم وأبو سعد ابنا المجلبان صاحبي قريش بن بدران وبعثهما إلى القائم سرّا من البساسيري بما فعل بالأنبار فانتقض البساسيري لذلك، واستوحش من القائم ومن رئيس الرؤساء، وأسقط مشاهراتهم ومشاهرة حواشيهم، وهمّ بهدم منازل بني المجلبان. ثم أقسر وسار إلى الأنبار وبها أبو القاسم بن المجلبان، وجاءه دبيس بن مزيد ممدّا له فحاصر الأنبار وفتحها عنوة ونهبها وأسر من أهلها خمسمائة، ومائة من بني خفاجة وأسر أبا الغنائم وجاء به إلى بغداد فأدخله على جمل، وشفع دبيس بن مزيد في قتله، وجاء إلى مقابل التاج من دار الخليفة فقبل الأرض وعاد إلى منزله. وصول الغز الى الدسكرة ونواحي بغداد وفي شوّال من سنة ست وأربعين وصل صاحب حلوان من الغزّ وهو إبراهيم بن إسحاق إلى الدسكرة فافتتحها ونهبها وصادر النساء. ثم سار إلى رسغباد [1] وقلعة البردان وهي لسعدي ابن أبي الشوك، وبها أمواله فامتنعت عليه فخرّب ما حولها من القرى ونهبها. وقوي طمع الغزّ في البلاد وضعف أمر الديلم والأتراك. ثم بعث طغرلبك أبا عليّ بن أبي كاليجار الّذي كان بالبصرة في جيش من الغزّ إلى خوزستان فاستولى على الأهواز وملكها ونهب الغزّ الذين معه أموال الناس ولقوا منهم عناء. استيلاء الملك الرحيم على شيراز وفي سنة سبع وأربعين سار فولاذ الّذي كان بقلعة إصطخر من الديلم. وقد ذكرناه إلى شيراز فملكها من يد أبي منصور فولاستون بن أبي كاليجار. وكان خطب بها للسلطان طغرلبك فخطب فولاذ بها للملك الرحيم ولأخيه أبي سعد يخادعهما بذلك. وكان أبو سعد بأرّجان فاجتمع هو وأخوه أبو منصور على حصار شيراز في طاعة أخيهما الملك واشتدّ الحصار على فولاذ وعدمت الأقوات فهرب عنها إلى قلعة إصطخر وملك الأخوان شيراز وخطبا لأخيهما الملك الرحيم.   [1] روشنقباذ: ابن الأثير ج 9 ص 603. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 وثوب الأتراك ببغداد بالبساسيري قد ذكرنا تأكد الوحشة بين البساسيري ورئيس الرؤساء. ثم تأكدت سنة سبع وأربعين وعظمت الفتنة بالجانب الشرقي بين العامّة وبين أهل السنّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحضروا الديوان حتى أذن لهم في ذلك وتعرّضوا لبعض سفن البساسيري منحدرة إليه بواسط، وكشفوا فيها عن جرار خمر، فجاءوا إلى أصحاب الديوان الذين أمروا بمساعدتهم واستدعوهم لكسرها فكسروها، واستوحش لذلك البساسيري ونسبه إلى رئيس الرؤساء. واستفتى الفقهاء في أنّ ذلك تعدّ على سفينته فأفتاه الحنفية بذلك. ووضع رئيس الرؤساء الأعيان على البساسيري بإذن من دار الخلافة، وأظهر معايبه. وبالغوا في ذلك، ثم قصدوا في رمضان دور البساسيري بإذن من دار الخلافة فنهبوها وأحرقوها، ووكّلوا بحرمة وحاشيته وأعلن رئيس الرؤساء بذمّ البساسيري وأنه يكاتب المستنصر صاحب مصر فبعث القائم إلى الملك الرحيم فأمره بإبعاده فأبعده. استيلاء السلطان طغرلبك على بغداد والخلعة والخطبة له قد ذكرنا من قبل رجوع السلطان طغرلبك من غزو الروم إلى الريّ، ثم رجع إلى همذان، ثم سار إلى حلوان عازما على الحجّ والاجتياز بالشام لإزالته من يد العلوية. وأجفل الناس إلى غربيّ بغداد، وعظم الإرجاف ببغداد ونواحيها، وخيّم الأتراك بظاهر البلد. وجاء الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد البساسيري عنه كما أمره القائم فسار إلى بلد دبيس بن مزيد لصهر بينهما. وبعث طغرلبك إلى لقائهما بالطاعة وإلى الأتراك بالمقاربة والوعد فلم يقبلوا، وطلبوا من القائم إعادة البساسيري لأنه كبيرهم. ولما وصل الملك الرحيم سأل من الخليفة إصلاح أمره مع السلطان طغرلبك فأشار القائم بأن يقوّض الأجناد خيامهم ويخيّموا بالحريم الخلافي، ويبعثوا جميعا إلى طغرلبك بالطاعة، فقبلوا إشارته وبعثوا إلى طغرلبك بذلك فأجاب بالقبول والإحسان. وأمر القائم بالخطبة لطغرلبك على منابر بغداد فخطب آخر رمضان من سنة سبع وأربعين، واستأذن في لقاء الخليفة وخرج إليه رؤساء الناس في موكب من القضاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 والفقهاء والأشراف وأعيان الديلم. وبعث طغرلبك للقائم وزيره أبا نصر الكندريّ وأبلغه رسالة القائم واستخلفه له وللملك الرحيم وأمراء الأجناد. ودخل طغرلبك بغداد ونزل بباب الشمّاسيّة لخمس بقين من رمضان، وجاء هنالك قريش بن بدران صاحب الموصل وكان من قبل في طاعته. القبض على الملك الرحيم وانقراض دولة بني بويه ولما نزل طغرلبك بغداد وافترق أهل عسكره في البلد يقضون بعض حاجاتهم، فوقعت بينهم وبين بعض العامّة منازعة فصاحوا بهم ورجموهم، وظنّ الناس أنّ الملك الرحيم قد اعتزم على قتال طغرلبك فتواثبوا بالغزّ من كل جهة. إلّا أهل الكرخ فإنهم سألوا [1] من وقع إليهم من الغز. وأرسل عميد الملك وزير طغرلبك عن عدنان ابن الرضي نقيب العلويّين، وكان مسكنه بالكرخ فشكره عن السلطان طغرلبك. ودخل أعيان الديلم وأصحاب الملك الرحيم إلى دار الخلافة نفيا للتهمة عنهم. وركب أصحاب طغرلبك فقاتلوا العامّة وهزموهم وقتلوا منهم خلقا ونهبوا سائر الدروب ودور رئيس الرؤساء وأصحابه والرصافة، ودور الخلفاء، وكان بها أموال الناس نقلت إليها للحرمة فنهب الجميع، واشتدّ البلاء وعظم الخوف وأرسل طغرلبك إلى القائم بالعتاب ونسبة ما وقع إلى الملك الرحيم والديلم، وأنهم انحرفوا، وكانوا برآء من ذلك. وتقدّم إليهم الخليفة بالحضور عند طغرلبك مع رسوله، فلمّا وصلوا إلى الخيام نهبها الغزّ ونهبوا رسل القائم معهم، ثم قبض طغرلبك على الملك الرحيم ومن معه، وبعث بالملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وكان ذلك لست سنين من ملكه. ونهب في تلك الهيعة قريش بن بدران صاحب الموصل، ومن معه من العرب، ونجا سليبا إلى خيمة بدر بن المهلهل، واتصل بطغرلبك خبره فأرسل إليه وخلع عليه وأعاده الى مخيّمه، وبعث القائم إلى طغرلبك بإنكار ما وقع في إخفار ذمّته في الملك الرحيم وأصحابه، وأنه يتحوّل عن بغداد فأطلق له بعضهم   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 611: «وأقبلوا من كل حدب ينسلون يقتلون من الغزّ من وجد في محال بغداد، إلا أهل الكرخ فإنّهم لم يتعرّضوا الى الغزّ، بل جمعوهم وحفظوهم.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 بلكسكسالربه [1] وأنزع الاقطاعات من يد أصحابه الملك الرحيم فلحقوا بالبساسيري وكثر جمعه، وبعث طغرلبك إلى دبيس بالطاعة وإنفاذ البساسيري فخطب له في بلاده، وطرد البساسيري فسار إلى رحبة ملك، وكاتب المستنصر العلويّ صاحب مصر وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك الجند وأهملهم وانتشر الغزّ السلجوقية في سواد بغداد فنهبوا الجانب الغربي من تكريت إلى النيل، والجانب الشرقي إلى النهر وأنات [2] وخرّب السواد وانجلى أهله وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من هزارشب بن شكر بن عياض [3] بثلاثمائة وستين ألف دينار، وأقطعه أرّجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز دون ما سواها. وأقطع أبا علي بن كاليجار ويسين [4] وأعمالها وأمر أهل الكرخ بزيادة الصلاة خير من النوم في نداء الصبح، وأمر بعمارة دار المملكة وانتقل إليها في شوّال. وتوفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن القائم باللَّه في ذي القعدة من هذه السنة. ثم انكح السلطان طغرلبك من القائم باللَّه خديجة بنت أخيه داود واسمها أرسلان خاتون، وحضر للعقد عميد الملك الكندي وزير طغرلبك وأبو علي بن أبي كاليجار وهزارشب بن شكر بن عياض الكرديّ وابن أبي الشوك وغيرهم من أمراء الأتراك من عسكر طغرلبك. وخطب رئيس الرؤساء وولي العقد وقبل الخليفة بنفسه. وحضر نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمّام، ونقيب العلويّين عدنان ابن الرضي [5] والقاضي أبو الحسن الماوردي وغيرهم. انتقاض أبي الغنائم بواسط كان رئيس الرؤساء سعى لأبي الغنائم بن المجلبان في ولاية واسط وأعمالها، فوليها وصادر أعيانها، وجنّد جماعة وتقوّى بأهل البطيحة، وخندق على واسط، وخطب   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 613: «وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر ما جرى من قبض الرحيم وأصحابه ونهب بغداد، ويقول: إنهم إنما خرجوا إليك بأمري وأماني، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد، فاني إنما اخترتك واستدعيتك اعتقادا مني أنّ تعظيم الأوامر الشريفة يزداد، وحرمة الحريم تعظم، وأرى الأمر بالضد، فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر الرحيم، وأمرهم بالسعي في أرزاق يحصّلونها لأنفسهم. فتوجه كثير منهم الى البساسيري ولزموه، فكثر جمعه ونفق سوقه.» [2] ومن الشرقي الى النهروان: المرجع السابق. [3] هزارسب بن بنكير بن عياض: المرجع السابق. [4] قرميسين: المرجع السابق ص 614. [5] وهو عدنان بن الشريف الرضي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 للمستنصر العلويّ بمصر فسار أبو نصر عميد العراق لحربه فهزمه وأسر من أصحابه. ووصل الى السور فحاصره حتى تسلّم البلد. ومرّ أبو الغنائم ومعه الوزير ابن فسانجس ورجع عميد العراق إلى بغداد بعد أن ولّى على واسط منصور بن الحسين فعاد ابن فسانجس إلى واسط وأعاد خطبة العلويّ وقتل من وجده من الغزّ. ومضى منصور بن الحسين إلى المدار وبعث يطلب المدد فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء بحصار واسط فحاصرها، وقاتله ابن فسانجس فهزمه وضيّق حصاره. واستأمن إليه جماعة من أهل واسط فملكها وهرب فسانجس واتبعوه فأدركوه وحمل إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين فشهّر وقتل. الوقعة بين البساسيري وقطلمش وفي سلخ شوّال من سنة ثمان وأربعين سار قطلمش وهو ابن عم السلطان طغرلبك وجدّ بني قليج أرسلان ملوك البلاد الروم، فسار ومعه قريش بن بدران صاحب الموصل لقتال البساسيري ودبيس، وسار بهم إلى الموصل وخطبوا بها للمستنصر العلويّ صاحب مصر وبعث إليهم بالخلع. وكان معهم جابر بن ناشب وأبو الحسن وعبد الرحيم [1] وأبو الفتح ابن ورائر [2] ونصر بن عمر ومحمد بن حمّاد. مسير طغرلبك إلى الموصل لما كان السلطان طغرلبك قد ثقلت وطأته على العامّة ببغداد، وفشا الضرر والأذى فيهم من معسكره فكاتبه القائم يعظه ويذكّره، ويصف له ما الناس فيه فأجابه السلطان بالاعتذار بكثرة العساكر. ثم رأى رؤيا في ليلته كأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يوبّخه على ذلك. فبعث وزيره عميد الملك إلى القائم بطاعة أمره فيما أمر، وأخرج الجند من وراء العامّة ورفع المصادرات. ثم بلغه خبر وقعة قطلمش مع البساسيري وانحراف قريش صاحب الموصل إلى العلويّة، فتجهز وسار عن بغداد ثلاثة عشر شهر من نزوله عليها، ونهبت عساكره أوانا وعكبرا، وحاصر تكريت حتى رجع صاحبها نصر بن عيسى إلى الدعوة العبّاسيّة، وقتله السلطان، ورجع   [1] هو أبو الحسن بن عبد الرحيم. [2] ابو الفتح بن ورّام: ابن الأثير ج 9 ص 626. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 عنه إلى البواريج فتوفي نصر وخافت أمّه غريبة بنت غريب بن حكن [1] أن يملك البلد أخوه أبو الغشّام، فاستخلفت أبا الغنائم بن المجلبان ولحقت بالموصل، ونزلت على دبيس بن مزيد. وأرسل أبو الغنائم رئيس الرؤساء فأصلح حاله ورجع إلى بغداد وسلّم له تكريت، وأقام السلطان بالبواريخ [2] إلى سنة تسع وأربعين، وجاءه أخوه ياقوتي في العساكر فسار إلى الموصل، وأقطع مدينة بلد هزارشب بن شكر الكردي، وأراد العسكر نهبها فمنعهم السلطان. ثم أذن لهم في اللحاق إلى الموصل، وتوجه إلى نصيبين، وبعث هزارشب إلى البرّيّة في ألف فارس ليصيب من العرب، فسار حتى قارب رحالهم، وأكمن الكمائن، وقاتلهم ساعة. ثم استطرهم واتّبعوه فخرجت عليهم الكمائن فانهزموا وأثخن فيهم الغزّ بالقتل والأسر. وكان فيهم جماعة من بني نمير أصحاب حرّان والرقّة، وحمل الأسرى إلى السلطان فقتلهم أجمعين. ثم بعث دبيس وقريش إلى هزارشب يستعطف لهم السلطان فقبل السلطان ذلك منهما، وورد أمر البساسيري إلى الخليفة ومعه الأتراك البغداديون، وقتل ابن المقلّد وجماعة من عقيل إلى الرحبة، وأرسل السلطان إليهما أبا الفتح بن ورّام يستخبرهما فجاء بطاعتهما، وبمسير هزارشب إليهما فأذن له السلطان في المسير، وجاء إليهما واستحلفهما وحثّهما على الحضور فخافا. وأرسل قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر، ودبيس ابنه منصورا فأكرمهما السلطان، وكتب لهما بأعمالهما. وكان لقريش نهر الملك وباذروبا والأنبار وهيت ودجيل ونهر بيطر وعكبرا وأوانا وتكريت والموصل ونصيبين. ثم سار السلطان إلى ديار بكر فحاصر جزيرة ابن عمر، وبعث إليه يستعطفه ويبذل له المال، وجاء إبراهيم ينال أخو السلطان وهو محاصر، ولقيه الأمراء والناس، وبعث هزارشب إلى دبيس وقريش يحذرهما فانحدر دبيس إلى بلده بالعراق. وأقام قريش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم، وشكا قطلمش ما أصاب أهل سنجار منه عند هزيمته أمام قريش ودبيس، فبعث العساكر إليها، وحاصرها ففتحها عنوة واستباحها، وقتل أميرها عليّ بن مرجى [3] وشفع إبراهيم في الباقين فتركها وسلّمها الله وسلّم معها الموصل وأعمالها ورجع إلى بغداد في سنة تسع وأربعين فخرج رئيس   [1] اميرة بنت غريب بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 627. [2] تردد هذا الاسم في محلات عديدة البواريخ وهي البواريج كما عند ابن الأثير ج 9 ص 627. [3] مجلى بن مرجا: ابن الأثير ج 9 ص 631. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 الرؤساء للقائه عن القائم، وبلغه سلامه وهديته، وهي جام من ذهب فيه جواهر، وألبسه لباس الخليفة وعمامته فقبل السلطان ذلك بالشكر والخضوع والدعاء، وطلب لقاء الخليفة، فأسعف وجلس له جلوسا فخما. وجاء السلطان في البحر فقرّب له لما نزل من السهيرية من مراكب الخليفة، والقائم على سرير علوّه سبعة أذرع متوشحا البردة وبيده القضيب، وقبالته كرسيّ لجلوس السلطان فقبّل الأرض وجلس على الكرسي، وقال له رئيس الرؤساء عن القائم: أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك، وولّاك ما ولّاه الله من بلاده، وردّ إليك مراعاة عباده فاتق الله فيما ولّاك واعرف نعمته عليك، واجتهد في نشر العدل وكفّ الظلم وإصلاح الرعيّة، فقبّل الأرض، وأفيضت عليه الخلع وخوطب بملك المشرق والمغرب، وقبّل يد الخليفة ووضعها على عينيه ودفع إليه كتاب العهد، وخرج فبعث إلى القائم خمسين ألف دينار وخمسين مملوكا من الأتراك منتقين بخيولهم وسلاحهم، إلى ما في معنى ذلك من الثياب والطيب وغيرهما. فتنة ينال مع أخيه طغرلبك ومقتله كان إبراهيم ينال قد ملك بلاد الجبل وهمذان واستولى على الجهات من نواحيها إلى حلوان أعوام سنة سبع وثلاثين. ثم استوحش من السلطان طغرلبك بما طلب منه أن يسلّم إليه مدينة همذان والقلاع فأبى من ذلك ينال، وجمع جموعا وتلاقيا فانهزم ينال وتحصّن بقلعة سرماج فملكها عليه بعد الحصار، واستنزله منها، وذلك سنة إحدى وأربعين. وأحسن إليه طغرلبك وخيّره بين المقام معه أو اقطاع الأعمال فاختار المقام. ثم لمّا ملك طغرلبك بغداد وخطب له بها سنة سبع وأربعين، أخرج إليه البساسيري مع قريش بن بدران صاحب الموصل ودبيس بن مزيد صاحب الحلّة، وسار طغرلبك إليهم من بغداد، ولحقه أخوه إبراهيم ينال فلمّا ملك الموصل سلّمها إليه وجعلها لنظره مع سنجار والرحبة وسائر تلك الأعمال التي لقريش، ورجع إلى بغداد سنة تسع وأربعين. ثم بلغه سنة خمسين بعدها أنّه سار إلى بلاد الجبل فاستراب به وبعث إليه يستقدمه بكتابه وكتاب القائم مع العهد الكندي فقدم معه. وفي خلال ذلك قصد البساسيري وقريش بن بدران الموصل فملكاها جفلوا عنها فاتبعهم إلى نصيبين، وخالفه أخوه إبراهيم ينال إلى همذان في رمضان سنة خمسين. يقال إنّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 العلويّ صاحب مصر والبساسيري كاتبوه واستمالوه وأطمعوه في السلطنة، فسار السلطان في اتباعه من نصيبين، وردّ وزيره عميد الملك الكندي وزوجته خاتون إلى بغداد، ووصل إلى همذان ولحق به من كان ببغداد من الأتراك فحاصر همذان في قلعة من العسكر، واجتمع لأخيه خلق كثير من الترك وحلف لهم أن لا يصالح طغرلبك ولا يدخل بهم العراق لكثرة نفقاته. وجاءه محمد وأحمد ابنا أخيه أرباش بأمداد من الغزّ فقوي بهم، ووهن طغرلبك فأفرج عنه إلى الريّ، وكاتب إلى أرسلان ابن أخيه داود، وقد كان ملك خراسان بعد أبيه سنة إحدى وخمسين كما يذكر في أخبارهم، فزحف إليه في العساكر ومعه أخواه ياقوت وقاروت بك، ولقيهم إبراهيم فيمن معه فانهزم، وجيء به وبابني أخيه محمد وأحمد أسرى إلى طغرلبك فقتلهم جميعا ورجع إلى بغداد لاسترجاع القائم. دخول البساسيري بغداد وخلع القائم ثم عوده قد ذكرنا أنّ طغرلبك سار إلى همذان لقتال أخيه وترك وزيره عميد الملك الكندي ببغداد مع الخليفة، وكان البساسيري وقريش بن بدران فارقا الموصل عند زحف السلطان طغرلبك إليهما، فلما سار عن بغداد لقتال أخيه بهمذان خالفه البساسيري وقريش إلى بغداد فكثر الإرجاف بذلك، وبعث عن دبيس بن مزيد حاجبه ببغداد ونزلوا بالجانب الشرقي، وطلب من القائم الخروج معه إلى إحيائه، واستدعى هزارشب من واسط للمدافعة، واستمهل في ذلك فقال العرب: لا نشير فأشيروا بنظركم، وجاء البساسيري ثامن ذي القعدة سنة خمسين في أربعمائة غلام على غاية من سوء الحال ومعه أبو الحسين بن عبد الرحيم، وجاء حسين بن بدران في مائة فارس وخيّموا مفترقين عن البلد، واجتمع العسكر والقوم إلى عميد العراق، وأقاموا إزاء البساسيري وخطب البساسيري ببغداد للمستنصر العلويّ صاحب مصر بجامع المنصور، ثم بالرصافة، وأمر بالأذان بحيّ على خير العمل، وخيّم بالزاهر، وكان هوى البساسيري لمذاهب الشيعة، وترك أهل السنّة للانحراف عن الأتراك فرأى الكندي المطاولة لانتظار السلطان، ورأى رئيس الرؤساء المناجزة وكان غير بصير بالحرب، فخرج لقتالهم في غفلة من الكنديّ، فانهزم وقتل من أصحابه خلق، ونهب باب الأزج وهو باب الخلافة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 وهرب أهل الحريم الخلافي فاستدعى القائم العميد الكندي للمدافعة عن دار الخلافة فلم يرعهم إلّا اقتحام العدوّ عليهم من الباب النوبي، فركب الخليفة ولبس السواد، والنهب قد وصل باب الفردوس، والعميد الكندي قد استأمن الى قريش فرجع ونادى بقريش من السور فاستأمن إليه على لسان رئيس الرؤساء، واستأمن هو أيضا معه، وخرجا إليه وسارا معه ونكر البساسيري على قريش نقضه لما تعاهدا عليه، فقال: إنما تعاهدنا على الشركة فيما يستولي عليه، وهذا رئيس الرؤساء لك والخليفة لي. ولما حضر رئيس الرؤساء عند البساسيري وبّخه وسأله العفو فأبى منه، وحمل قريش القائم الى معسكره على هيئته، ووضع خاتون بنت أخي السلطان طغرلبك في يد بعض الثقات من خواصّه وأمره بخدمتها، وبعث القائم ابن عمّه مهارش فسار به إلى بلده حديثة خان وأنزله بها. وأقام البساسيري ببغداد وصلّى عيد النحر بالألوية المصريّة وأحسن إلى الناس وأجرى أرزاق الفقهاء ولم يتعصّب المذهب. وأنزل أمّ القائم بدارها وسهّل جرايتها، وولى محمود بن الأفرم على الكوفة، وسعى الفرات وأخرج رئيس الرؤساء من محبسه آخر ذي الحجة فصلبه عند التجيبيّ لخمسين سنة من تردّده في الوزارة. وكان ابن ماكولا قد قبل شهادته سنة أربع عشرة، وبعث البساسيري الى المستنصر العلويّ بالفتح والخطبة له بالعراق، وكان هنالك أبو الغرج ابن أخي أبي القائم المغربي، فاستهان بفعله وخوّفه عاقبته، وأبطأت أجوبته مدّة، ثم جاءت بغير ما أمل، وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها، وأراد قصر الأهواز فبعث صاحبها هزارشب بن شكر فأصلح أمره على مال يحمله. ورجع البساسيري إلى واسط في شعبان سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي إلى هزارشب، وقد كان ولّى بغداد أباه على ما يذكر. ثم جاء الخبر إلى البساسيري بظفر طغرلبك بأخيه، وبعث إليه والي قريش في إعادة الخليفة إلى داره، ويقيم طغرلبك، وتكون الخطبة والسكّة له فأبى البساسيري من ذلك، فسار طغرلبك إلى العراق، وانتهى إلى قصر شيرين، وأجفل الناس بين يديه. ورحل أهل الكرخ بأهليهم وأولادهم برّا وبحرا، وكثر عيث بني شيبان في الناس، وارتحل البساسيري بأهله وولده ساوس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين لحول كامل. من دخوله وكثر الهرج في المدينة والنهب والإحراق. ورحل طغرلبك إلى بغداد بعد أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 أرسل من طريقه الأستاذ أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران بالشكر على فعله في القائم وفي خاتون بنت أخيه زوجة القائم، وأنّ أبا بكر بن فورك جاء بإحضارهما والقيام بخدمتهما، وقد كان قريش بعث إلى مهارش بأن يدخل معهم إلى البريّة بالخليفة ليصدّ ذلك طغرلبك عن العراق، ويتحكّم عليه بما يريد فأبى مهارش لنقض البساسيري عهوده، واعتذر بأنه قد عاهد الخليفة القائم بما لا يمكن نقضه ورحل بالخليفة إلى العراق، وجعل طريقه على بدران بن مهلهل. وجاء أبو فورك إلى بدر فحمله معه إلى الخليفة وأبلغه رسالة طغرلبك وهداياه، وبعث طغرلبك للقائه وزيره الكنديّ والأمراء والحجّاب بالخيام والسرادقات والمقرّبات بالمراكب الذهبيّة فلقوه في بلد بدر. ثم خرج السلطان فلقيه بالنهروان واعتذر عن تأخّره بوفاة أخيه داود بخراسان وعصيان إبراهيم بهمذان، وأنه قتله على عصيان. وأقام حتى رتّب أولاد داود في مملكته وقال إنه يسير إلى الشام في اتّباع البساسيري. وطلب صاحب مصر فقلّده القائم سيفه إذ لم يجد سواه، وأبدى وجهه للأمراء فحيّوه وانصرفوا. وتقدّم طغرلبك إلى بغداد فجلس في الباب النوبي مكان الحاجب، وجاء القائم فأخذ طغرلبك بلجام بغلته إلى باب داره وذلك لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسار السلطان إلى معسكره وأخذ في تدبير أموره. مقتل البساسيري ثم أرسل السلطان طغرلبك خمارتكين في ألفين إلى الكوفة، واستقرّ معه سرايا بن منيع في بني خفاجة، وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس وقريش والبساسيري- وقد كانوا نهبوا الكوفة- إلّا والعساكر قد طلعت عليهم من طريق الكوفة، فأجفلوا نحو البطيحة. وسار دبيس ليردّ العرب إلى القتال فلم يرجعوا، ومضى معهم، ووقف البساسيري وقريش فقتل من أصحابهما جماعة وأسر أبو الفتح ابن ورّام ومنصور بن بدران وحمّاد بن دبيس، وأصاب البساسيري سهم فسقط عن فرسه، وأخذ رأسه لمتنكيرز [1] وأتى العميد الكندريّ وحمله إلى السلطان، وغنم العسكر جميع أموالهم وأهليهم، وحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فعلّق قبالة   [1] كمشتكين: ابن الأثير ج 9 ص 649. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 النوبي في منتصف ذي الحجة. ولحق دبيس بالبطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم، وكان هذا البساسيري من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة اسمه أرسلان وكنيته أبو الحرث ونسبه في الترك. وهذه النسبة المعروفة له نسبة إلى مدينة بفارس حرفها الأوّل متوسّط بين الفاء والباء، والنسبة إليها فسوي، ومنها أبو علي الفارسيّ صاحب الإيضاح. وكان أوّلا ينسب إليها فلذلك قيل فيه هو بساسيري [1] . مسير السلطان الى واسط وطاعة دبيس ثم انحدر السلطان الى واسط أول سنة اثنتين وخمسين وحضر عنده هزارشب بن شكر من الأهواز، وأصلح حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين، أحضرهما عند السلطان وضمن واسط أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار، وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفّر، وأصعد السلطان إلى بغداد، واجتمع بالخليفة، ثم سار إلى بلد الجبل في ربيع سنة اثنتين وخمسين. وأنزل ببغداد الأمير برسو شحنة، وضمن أبو الفتح المظفّر بن الحسين في ثلاث سنين بأربعمائة ألف دينار، وردّ إلى محمود الأخرم إمارة بني خفاجة، وولّاه الكوفة وسقى الفرات وخواصّ السلطان بأربعة آلاف دينار في كل سنة. وزارة القائم ولما عاد القائم إلى بغداد ولّى أبا تراب الأشيري على الأنهار وحضور المراكب، ولقّبه حاجب الحجّاب، وكان خدمه بالحديثة ثم سعى الشيخ أبو منصور في وزارة أبي الفتح بن أحمد بن دارست على أن يحمل مالا فأجيب وأحضر من الأهواز في منتصف ربيع من سنة ثلاث وخمسين فاستوزره وكان من قبل تاجرا لأبي كاليجار، ثم ظهر عجزه في استيفاء الأموال فعزله، وعاد إلى الأهواز. وقدّم أثر ذلك أبو نصر بن جهير وزير نصير الدولة بن مروان نازعا منه إلى الخليفة القائم فقبله واستوزره، ولقّبه فخر الدولة.   [1] عبارة أبي الفداء بسا، وهي بالعربية فسا من اللباب. بفتح الباء الموحدة والسين المهملة، ثم ألف. ومدينة فسا عن ابن حوقل أكبر مدينة في كورة دارابجرد، وتقارب في الكبر شيراز. وفي اللباب ينسب إليها بالعربية فسوي، وأهل فارس ينسبون اليها البساسيري، وسيد أرسلان التركي من فسا فنسب الغلام اليه، واشتهر بالبساسيري، والبساسيري المذكور له ذكر مشهور في التواريخ وهو الّذي خطب لخلفاء مصر في بغداد، وطرد القائم العباسي عن بغداد، أهـ. باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 عقد طغرلبك على ابنه الخليفة كان السلطان طغرلبك قد خطب من القائم ابنته على يد أبي سعد قاضي الريّ سنة ثلاث وخمسين، فاستنكف من ذلك. ثم بعث أبا محمد التميمي في الاستعفاء من ذلك وإلّا فيشترط ثلاثمائة ألف دينار وواسط وأعمالها. فلما ذكر التميمي ذلك للوزير عميد الملك بنى الأمر على الإجابة قال: ولا يحسن الاستعفاء، ولا يليق بالخليفة طلب المال، وأخبر السلطان بذلك فسرّ به وأشاعه في الناس ولقّب وزيره عميد الملك وأتى أرسلان خاتون زوجة القائم ومعه مائة ألف ألف دينار وما يناسبها من الجواهر والجوار، وبعث معهم قرامرد بن كاكويه [1] وغيره من أمراء الريّ، فلمّا وصلوا إلى القائم استشاط وهمّ بالخروج من بغداد. وقال له العميد: ما جمع لك في الأوّل بين الامتناع والاقتراح وخرج مغضبا إلى النهروان فاستوقفه قاضي القضاة والشيخ أبو منصور بن يوسف. وكتب من الديوان إلى خمارتكين من أصحاب السلطان بالشكوى من عميد الملك وجاءه الجواب بالرفق. ولم يزل عميد الملك يريّض الخليفة وهو يتمنّع إلى أن رحل في جمادى من سنة أربع وخمسين. ورجع إلى السلطان وعرّفه بالحال، ونسب القضية إلى خمارتكين فتنكر له السلطان وهرب، واتّبعه أولاد ينال فقتلوه بثأر أبيهم، وجعل مكانه سارتكين [2] وبعث للوزير بشأنه. وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف بالعتب، وطلب بنت أخي زوجة القائم فأجاب الخليفة حينئذ إلى الإصهار، وفوّض إلى الوزير عميد الكندريّ عقد النكاح على ابنته للسلطان، وكتب بذلك إلى أبي الغنائم المجلبان فعقد عليها في شعبان من تلك السنة بظاهر تبريز. وحمل السلطان للخليفة أموالا كثيرة وجواهر لوليّ العهد وللمخطوبة، وأقطع ما كان بالعراق لزوجته خاتون المتوفاة للسيدة بنت الخليفة. وتوجّه السلطان في المحرم سنة خمس وخمسين من أرمينية إلى بغداد ومعه من الأمراء أبو علي بن أبي كاليجار وسرخاب بن بدر وهزار وأبو منصور بن قرامرد بن كاكويه، وخرج الوزير ابن جهير فتلقّاه، وترك عسكره بالجانب الغربي، ونادى الناس بهم. وجاء الوزير ابن العميد لطلب المخطوبة فأفرد له القائم دورا لسكناه وسكنى   [1] فرامرز بن كاكويه: ابن الأثير ج 10 ص 21. [2] ساوتكين: ابن الأثير ج 10 ص 22. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 حاشيته، وانتقلت المخطوبة إليها وجلست على سرير ملبّس بالذهب، ودخل السلطان فقبّل الأرض، وحمل لها مالا كثيرا من الجواهر وأولم أياما، وخلع على جميع أمرائه وأصحابه، وعقد ضمان بغداد على أبي سعد الفارسيّ بمائة وخمسين ألف دينار، وأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس، وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة، وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن فضلان بمائتي ألف. وفاة السلطان طغرلبك وملك ابن أخيه داود ثم سار السلطان طغرلبك من بغداد في ربيع الآخر إلى بلد الجبل، فلمّا وصل الريّ أصابه المرض وتوفي ثامن رمضان من سنة خمس وخمسين، وبلغ خبر وفاته إلى بغداد فاضطربت، واستقدم القائم مسلم بن قريش صاحب الموصل ودبيس بن مزيد وهزارشب صاحب الأهواز وبني ورّام وبدر بن مهلهل فقدموا، وأقام أبو سعد الفارسيّ ضامن بغداد سورا على قصر عيسى، وجمع الغلال، وخرج مسلم بن قريش من بغداد فنهب النواحي، وسار دبيس بن مزيد وبنو خفاجة وبنو ورّام والأكراد لقتاله. ثم استتيب ورجع إلى الطاعة وتوفي أبو الفتح بن ورّام مقدّم الأكراد والجاوانيّة، وحمل العامّة السلاح لقتال الأعراب فكانت سببا لكثرة الذعّار. ولما مات طغرلبك بايع عميد الدولة الكندريّ بالسلطنة لسليمان بن داود، وجعفر بك، وكان ربيب السلطان طغرلبك خلّف أخاه جعفر بك داود على أمّه، وعهد إليه بالملك، فلما خطب له اختلف عليه الأمر وسار باغي سيان وأرذم إلى قزوين فخطب لأخيه ألب أرسلان وهو محمد بن داود، وهو يومئذ صاحب خراسان ووزيره نظام الملك سار إلى المذكور، وسأل الناس إليه وشعر الكندري باختلال أمره فخطب بالريّ للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان. وزحف ألب أرسلان في العساكر من خراسان إلى الريّ فلقيه الناس جميعا ودخلوا في طاعته، وجاء عميد الملك الكندريّ إلى وزيره نظام الملك فخدمه وهاداه فلم يغن عنه، وخشي السلطان غائلته فقبض عليه سنة ست وخمسين وحبسه بمروالروذ. ثم بعث بعد سنة من محبسه بقتله في ذي الحجة من سنة سبع وخمسين، وكان من أهل نيسابور كاتبا بليغا. فلمّا ملك طغرلبك نيسابور، وطلب كاتبا فدلّه عليه الموفّق والد أبي سهل فاستكتبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 واستخلصه، وكان خصيّا يقال إنّ طغرلبك خصاه لأنه تزوّج بامرأة خطبها له، وغطّى عليه فظفر به فحاصره وأقرّه على خدمته. وقيل أشاع عند أعدائه أنه تزوّجها ولم يكن ذلك فخصى نفسه ليأمن من غائلته، وكان شديد التعصّب على الشافعيّة والأشعريّة. واستأذن السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان، ثم أضاف إليهم الأشعرية فاستعظم ذلك أئمة السنة. وفارق خراسان أبو القاسم القشيري ثم أبو المعالي إلى مكّة فأقام أربعة سنين يتردّد بين الحرمين يدرّس ويفتي حتى لقّب إمام الحرمين. فلمّا جاء دولة ألب أرسلان أحضرهم نظام الملك وزيره فأحسن إليهم وأعاد السلطان ألب أرسلان السيدة بنت الخليفة التي كانت زوجة طغرلبك إلى بغداد، وبعث في خدمتها الأمير أيتكين السليماني، وولّاه شحنة ببغداد، وبعث معها أيضا أبا سهل محمد بن هبة الله المعروف بابن الموفّق لطلب الخطبة ببغداد فمات في طريقه، وكان من رؤساء الشافعيّة بنيسابور. وبعث السلطان مكانه العميد أبا الفتح المظفّر بن الحسين فمات أيضا في طريقه، فبعث وزيره نظام الملك، وخرج عميد الملك ابن الوزير فخر الدولة بن جهيّر لتلقّيهم، وجلس لهم القائم جلوسا فخما في جمادى الأولى من سنة ست وخمسين، وساق الرسل بتقليد ألب أرسلان السلطنة، وسلّمت إليهم الخلع بمشهد من الناس، ولقّب ضياء الدولة، وأمر بالخطبة له على منابر بغداد، وأن يخاطب بالولد المؤيد حسب اقتراحه، فأرسل إلى الديوان لأخذ البيعة النقيب طراد الزينبي، فأرسل إليه بنقجوان من أذربيجان، وبايع وانتقض على السلطان ألب أرسلان من السلجوقية صاحب هراة وصغانيان، فسار إليهم وظفر بهم كما نذكر في أخبارهم ودولتهم عند إفرادها بالذكر انتهى. فتنة قطلمش والجهاد بعدها كان قطلمش هذا من كبار السلجوقية وأقربهم نسبا إلى السلطان طغرلبك، ومن أهل بيته، وكان قد استولى على قومة واقصراي [1] وملطية، وهو الّذي بعثه السلطان طغرلبك أوّل ما ملك بغداد سنة تسع وأربعين لقتال البساسيري وقريش بن بدران صاحب الموصل، ولقيهم على سنجار الريّ. فجهّز ألب أرسلان العساكر من نيسابور في المحرّم من سنة سبع وخمسين، وساروا على المفارقة فسبقوا قطلمش إلى   [1] قونية وأقصرا: ابن الأثير ج 10 ص 36. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 الريّ وجاء كتاب السلطان إليه ولقيه فلم يثبت ومضى منهزما واستباح السلطان عسكره قتلا وأسرا وأجلت الواقعة عنه قتيلا، فحزن له السلطان ودفنه. ثم سار إلى بلاد الروم معتزما على الجهاد، ومرّ بأذربيجان ولقيه طغرتكين [1] من أمراء التركمان في عشيرة، وكان ممارسا للجهاد فحثّه على قصده، وسلك دليلا بين يديه فوصل إلى نجران على نهر أرس وأمر بعمل السفن لعبوره، وبعث عساكر لقتال خويّ وسلماس من حصون أذربيجان، وسار هو في العساكر فدخل بلاد الكرخ وفتح قلاعها واحدة بعد واحدة كما نذكر في أخبارهم. ودوّخ بلادهم وأحرق مدنهم وحصونهم، وسار إلى مدينة آي من بلاد الديلم فافتتحها وأثخن فيها وبعث بالبشائر إلى بغداد وصالحه ملك الكرخ على الجزية ورجع إلى أصبهان. ثم سار منها إلى كرمان فأطاعه أخوه قاروت بن داود جعفر بك. ثم سار إلى مرو وأصهر إليه خاقان ملك ما وراء النهر بابنته لابنه ملك شاه، وصاحب غزنة بابنته لابنه الآخر انتهى. العهد بالسلطنة لملكشاه بن ألب ارسلان وفي سنة ثمان وخمسين عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه ملك شاه، واستخلف له الأمراء وخلع عليهم وأمر بالخطبة له في سائر أعماله، وأقطع بلخ لأخيه سليمان وخوارزم لأخيه ازعزا. [2] ومرو لابنه أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس ومازنداران للأمير ابتايخ وبيغوا [3] وجعل ولاية نقشوان [4] ونواحيها لمسعود بن ازناس [5] وكان وزيره نظام الملك قد ابتدأ سنة سبع وخمسين بناء المدرسة النظاميّة ببغداد، وتمّت عمارتها في ذي القعدة سنة تسع وخمسين، وعيّن للتدريس بها الشيخ إسحاق الشيرازي، واجتمع الناس لحضور درسه، وتخلّف لأنه سمع أن في مكانها غصبا. وبقي الناس في انتظاره حتى يئسوا منه، فقال الشيخ أبو منصور: لا ينفصل هذا الجمع إلا عن تدريس، وكان أبو منصور الصبّاغ حاضرا فدرّس وأقام مدرّسا عشرين يوما حتى سمع أبو إسحاق الشيرازي بالتدريس فاستقرّ بها.   [1] طغركين: ابن الأثير ج 10 ص 37. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 50: «وخوارزم لأخيه أرسلان ارغو.» [3] إينانج تيغو: ابن الأثير ج 10 ص 50. [4] ولاية بغشور: ابن الأثير ج 10 ص 50. [5] مسعود بن أرتاش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 وزراء الخليفة كان فخر الدولة بن جهير وزير القائم كما ذكرناه، ثم عزله سنة ستين وأربعمائة فلحق بنور الدولة دبيس بن مزيد بالقلوجة، وبعث القائم عن أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع، وكان يكتب لهزارسب بن عوض صاحب الأهواز فاستقدمه ليولّيه الوزارة، فقدم ومات في طريقه، ونفع دبيس بن مزيد في فخر الدولة بن جهيّر فأعيد إلى وزارته سنة إحدى وستين في صفر. الخطبة بمكة وفي سنة اثنتين وستين خطب محمد بن أبي هاشم بمكّة للقائم وللسلطان ألب أرسلان، وأسقط خطبة العلويّ صاحب مصر وترك حيّ على خير العمل من الأذان، وبعث ابنه وافدا على السلطان بذلك فأعطاه ثلاثين ألف دينار، وخلعا نفيسة ورتّب كل سنة عشرة آلاف دينار. طاعة دبيس ومسلم بن قريش كان مسلم بن قريش منتقضا على السلطان، وكان هزارشب بن شكر بن عوض قد أغرى السلطان بدبيس بن مزيد ليأخذ بلاده فانتقض. ثم هلك هزارشب سنة اثنتين وستين بأصبهان منصرفا من وفادته على السلطان بخراسان، فوفد دبيس على السلطان ومعه مشرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل، وخرج نظام الملك لتلقّيهما وأكرمهما السلطان ورجعا إلى الطاعة. الخطبة العباسية بحلب واستيلاء السلطان عليها كان محمود بن صالح بن مراد قد استولى هو وقومه على مدينة حلب، وكانت للعلويّ صاحب مصر. فلمّا رأى إقبال دولة ألب أرسلان وقوّتها خافه على بلده فحملهم على الدخول في دعوة القائم، وخطب له على منابر حلب سنة ثلاث وستين، وكتب بذلك إلى القائم، فبعث إليه نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبيّ بالخلع، ثم سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب ومرّ بديار بكر فخرج إليه صاحبها ابن مروان، وخدمه بمائة ألف دينار. ومرّ بآمد فامتنعت عليه وبالرها كذلك. ثم نزل على حلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 وبعث إليه صاحبها محمود مع نقيب النقباء طراد بالاستعفاء من الحضور فألحّ في ذلك، وحاصره فلما اشتدّ عليه الحصار خرج ليلا إلى السلطان، ومعه أمّه منيعة بنت وثاب النميري ملقيا بنفسه فأكرمه السلطان وخلع عليه وأعاده إلى بلده فقام بطاعته. واقعة السلطان مع ملك الروم وأسره كان ملك الروم في القسطنطينية وهو أرمانوس قد خرج سنة اثنتين وستين إلى بلاد الشام في عساكر كثيفة، ونزل على منبج ونهبها وقتل أهلها، وزحف إليه محمود بن صالح بن مرداس وابن حسّان الطائي في بني كلاب وطيِّئ ومن إليهم من جموع العرب فهزمهم، وطال عليه المقام على منبج وعزّت الأقوات فرجع إلى بلاده، واحتشد وسار في مائتي ألف من الزنج والروم والروس والكرخ، وخرج في احتفال إلى أعمال خلاط ووصل الى ملاذجرد. وكان السلطان ألب أرسلان بمدينة خويّ من أذربيجان عند عوده من حلب فتشوّق إلى الجهاد، ولم يتمكن من الاحتشاد، فبعث أثقاله وزوجته مع نظام الملك إلى همذان وسار فيمن حضره من العساكر. وكانوا خمسة عشر ألفا ووطّن نفسه على الاستماتة، فلقيت مقدّمته عند خلاط جموع الروسية في عشرة آلاف فانهزموا وجيء بملكهم إلى السلطان فحبسه، وبعث بالأسلاب إلى نظام الملك ليرسلها الى بغداد. ثم تقارب العسكران وجنح السلطان للمهادنة فأبى ملك الروم فاعتزم السلطان وزحف وأكثر من الدعاء والبكاء. وعفّر وجهه بالتراب. ثم حمل عليهم فهزمهم وامتلأت الأرض باشلائهم وأسر الملك أرمانوس، جاء به بعض الغلمان أسيرا فضربه السلطان على رأسه ثلاثا ووبّخه. ثم فاداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وعلى أن يطلق كل أسير عنده، وأن تكون عساكر الروم مددا للسلطان متى يطلبها. وتمّ الصلح على ذلك لمدّة خمسين سنة. وأعطاه السلطان عشرة آلاف دينار وخلع عليه وأطلقه، ووثب ميخاييل على الروم فملك عليهم مكان أرمانوس فجمع ما عنده من الأموال فكان مائتي ألف دينار، وجيء بطبق مملوء بجواهر قيمته تسعون ألفا. ثم استولى أرمانوس بعد ذلك على أعمال الأرمن وبلادهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 شحنة بغداد قد ذكرنا أنّ السلطان ألب أرسلان ولّى لأوّل ملكه أيتكين السليماني شحنة ببغداد سنة ست وخمسين فأقام فيها مدّة، ثم سار إلى السلطان في بعض مهمّاته، واستخلف ابنه مكانه فأساء السيرة، وقتل بعض المماليك الداريّة فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان، وخوطب بعزله. وكان نظام الملك يعنى به فكتب فيه بالشفاعة، وورد سنة أربع وستين فقصد دار الخلافة وسأل العفو فلم يجب، وبعث إلى تكريت ليسوغها [1] بإقطاع السلطان فبرز المرسوم من ديوان الخلافة بمنع ذلك. ولما رأى السلطان ونظام الملك إصرار القائم على عزله، بعث السلطان مكانه سعد الدولة كوهرابين [2] أتباعا لمرضاة الخليفة. ولما ورد بغداد خرج الناس للقائه وجلس له القائم واستقرّ شحنة. مقتل السلطان ألب أرسلان وملك ابنه ملك شاه سار السلطان ألب أرسلان محمد إلى ما وراء النهر، وصاحبه شمس الملك تكين، وذلك سنة خمس وستين، وعبر على جسر عقده على جيحون في نيّف وعشرين يوما، وعسكره تزيد على مائتي ألف. وجيء له بمستحفظ القلاع، ويعرف بيوسف الخوارزمي فأمر بعقابه على ارتكابه فأفحش في سبّ السلطان فغضب وأمر بإطلاقه، ورماه بسهم فأخطأه، فسيّر إليه يوسف، وقام السلطان عن سريره فعثر ووقع فضربه بسكينة، وضرب سعد الدولة، ودخل السلطان خيمته جريحا. وقتل الأتراك يوسف هذا، ومات السلطان من جراحته عاشر ربيع سنة خمس وستين لتسع سنين ونصف من ملكه، ودفن بمرو عند أبيه، وكان كريما عادلا كثير الشكر لنعمة الله والصدقة، واتّسع ملكه حتى قيل فيه سلطان العالم. ولما مات وقد أوصى بالملك لابنه ملك شاه فجلس للملك، وأخذ له البيعة وزيره نظام الملك، وأرسل إلى بغداد فخطب له على منابرها، وكان ألب أرسلان اوصى أن يعطي أخوه قاروت بك أعمال فارس وكرمان وشيئا عيّنه من المال، وكان بكرمان. وأن يعطي ابنه إياس بن ألب أرسلان   [1] هكذا بالأصل ويسوغ بمعنى يسهل ولا يلتئم. وفي الكامل ج 10 ص 70: «وكان نظام الملك يعنى بالسليماني فأضاف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب واليها من ديوان الخلافة بالتوقف عن تسليمها.» [2] كوهرائين: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وعهد بقتال من لم يقض بوصيّته. وعاد ملك شاه من بلاد ما وراء النهر فعبر الجسر في ثلاثة أيام، وزاد الجند في أرزاقهم سبعمائة ألف دينار، ونزل نيسابور وأرسل إلى ملوك الأطراف بالطاعة والخطبة فأجابوا. وأنزل أخاه إياس بن ألب أرسلان ببلخ وسار إلى الريّ. ثم فوّض إلى نظام الملك وأقطعه مدينة طوس التي هي منشؤه وغيرها، ولقّبه ألقابا منها أتابك ومعناها الأمير الوالد، فحمل الدولة بصرامة وكفاية وحسن سيرة، وبعث كوهرابين الشحنة إلى بغداد سنة ست وستين لاقتضاء العهد، فجلس له القائم وعلى رأسه حافده ووليّ عهده المقتدي بأمر الله، وسلم الى سعد الدولة كوهرابين عهد السلطان ملك شاه بعد ان قرأ الوزير أوّله في المحفل وعقد له اللواء بيده ودفعه إليه. وفاة القائم ونصب المقتدي للخلافة ثم توفي القائم بأمر الله أبو جعفر بن القادر افتصد منتصف شعبان من سنة سبع وستين ونام فانفجر فصاده، وسقطت قوّته، ولما أيقن بالموت أحضر حافده أبا القاسم عبد الله ابن ابنه ذخيرة الدين محمد، وأحضر الوزير ابن جهير والنقباء والقضاة وغيرهم، وعهد له بالخلافة. ثم مات لخمس وأربعين سنة من خلافته. وصلّى عليه المقتدي، وبويع بعهد جده، وحضر بيعته مؤيد الملك بن نظام الملك، والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة، وأبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر بن الصبّاغ، ونقيب النقباء طراد، والنقيب الطاهر المعمر بن محمد، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغانيّ، وغيرهم من الأعيان والأماثل. ولما فرغوا من البيعة صلّى بهم العصر ولم يكن للقائم عقب ذكر غيره لأنّ ابنه ذخيرة الدين أبا العبّاس محمدا توفي في حياته ولم يكن له غيره فاعتمد القائم لذلك. ثم جاءت جاريته أرجوان بعد موته لستة أشهر بولد ذكر فعظم سرور القائم به، ولما كانت حادثة البساسيري حمله أبو الغنائم بن المجلبان إلى حرّان وهو ابن أربع سنين، وأعاده عند عود القائم إلى داره. فلما بلغ الحلم عهد له القائم بالخلافة ولما تمت بيعته لقّب المقتدي وأقرّ فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية جدّه القائم بذلك. وبعث ابن عميد الدولة إلى السلطان ملك شاه لأخذ البيعة في رمضان من سنة سبع وستين، وبعث معه من الهدايا ما يجلّ عن الوصف. وقدم سعد الدولة كوهرابين سنة ثمان وستين إلى بغداد شحنة، ومعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 العميد أبو نصر ناظرا في أعمال بغداد، وقدم مؤيد الملك بن نظام الملك سنة سبعين للإقامة ببغداد، ونزل بالدار التي بجوار مدرستهم. عزل الوزير ابن جهير ووزارة أبي شجاع كان أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيريّ قد حجّ سنة تسع وستين، فورد بغداد منصرفا من الحجّ، ووعظ الناس بالنظاميّة، وفي رباط شيخ الشيوخ، ونصر مذهب الأشعريّ فأنكر عليه الحنابلة، وكثر التعصّب من الجانبين، وحدثت الفتنة والنهب عند المدرسة النظاميّة، فأرسل مؤيد الملك إلى العميد والشحنة فحضروا في الجند، وعظمت الفتنة ونسب ذلك إلى الوزير فخر الدولة بن جهير، وعظم ذلك على عضد الدولة فأعاد كوهرابين إلى الشحنة ببغداد وأوصاه المقتدي بعزل فخر الدولة من الوزارة، وأمر كوهرابين بالقبض على أصحابه ونمي الخبر إلى بني جهير فبادر عميد الدولة ابن الوزير إلى نظام الملك يستعطفه. ولما بلغ كوهرابين رسالة الملك إلى المقتدى أمر فخر الدولة بلزوم منزله. ثم جاء ابنه عميد الدولة، وقد استصلح نظام الملك في الشفاعة لهم، فأعيد عميد الملك إلى الوزارة دون أبيه فخر الدولة وذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين. استيلاء تتش بن ألب أرسلان على دمشق وابتداء دولته ودولة نفيه فيها كان أتسز بهمزة وسين وزاي بن أبق [1] الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه وقد سار سنة ثلاث وستين إلى فلسطين من الشام ففتح مدينة الرملة، ثم حاصر بيت المقدس وفتحها من يد العلويين أصحاب مصر، وملك ما يجاورها ما عدا عسقلان. ثم حاصر دمشق حتى جهدها الحصار فرجع وبقي يردّد الغزوات إليها كل سنة. ثم حاصرها سنة سبع وستين وبها المعلّى بن حمدرة [2] من قبل المنتصر العبيدي   [1] أتسز بن اوق الخوارزمي: ابن الأثير ج 10 ص 68. [2] المعلّى بن حيدرة: ابن الأثير ج 10 ص 99. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 فأقام عليها شهرا. ثم أقلع ديار أهل دمشق [1] بالمعلّى لسوء سيرته فهرب إلى بانياس ثم إلى صور، ثم أخذ إلى مصر وجلس بها ومات محبوسا واجتمع المصامدة بعد هربه من دمشق وولّوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي ولقّبوه زين الدولة. ثم اختلفوا عليه ووقعت الفتنة، وغلت الأسعار ورجع أتسز إلى حصارها فنزل له عنها انتصار على الأمان، وعوّضه عنها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل، وخطب فيها أتسز للمقتدي العبّاسي في ذي القعدة سنة ثمان وستين. وتغلّب على أكثر الشام ومنع من الأذان بحيّ على خير العمل. ثم سار سنة تسع وستين إلى مصر وحاصرها حتى أشرف على أخذها. ثم انهزم من غير قتال ورجع إلى دمشق وقد انتقض عليه أكثر بلاد الشام، فشكر لأهل دمشق صونهم لمخلّفه وأمواله، ورفع عنهم خراج سنة وبلغه أنّ أهل القدس وثبوا بأصحابه ومخلفه وحصروهم في محراب داود عليه السلام، فسار إليهم وقاتلهم فملكهم عنوة وقتلهم في كل مكان إلّا من كان عند الصخرة. ثم إنّ السلطان ملك شاه أقطع أخاه تاج الدولة تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام وما يفتحه من نواحيها، فسار إلى حلب سنة إحدى وسبعين وحاصرها وضيّق عليها، وكانت معه جموع كثيرة من التركمان. وكان صاحب مصر قد بعث عساكره مع قائده نصير الدولة لحصار دمشق فأحاطوا بها، وبعث أتسز إلى تتش وهو على حلب يستمدّه فسار إليه، وأجفلت العساكر المصرية عن دمشق، وجاء إليها تتش فخرج أتسز للقائه بظاهر البلد فتجنى عليه حيث لم يستعد للقائه، وقبض عليه وقتله لوقته، وملك البلد وأحسن السيرة فيها وذلك سنة إحدى وسبعين فيما قال الهمذاني. وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر إنّ ذلك كان سنة اثنتين وسبعين. وقال ابن الأثير والشاميّون في هذا الاسم افسلس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي [2] .   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 99: «فلما كان رمضان سنة سبع وستين سار الى دمشق فحصرها وأميرها المعلّى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر، فلم يقدر عليها، فانصرف عنها في شوال، فهرب أميرها المعلّى في ذي الحجة. وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم، فكثر الدعاء عليه، وثار به العسكر، وأعانهم العامة فهرب منها الى بانياس، ثم منها الى صور، ثم أخذ الى مصر فحبس بها فمات محبوسا» . [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 103: «هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم أقسيس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 سفارة الشيخ أبى إسحاق الشيرازي عن الخليفة كان عميد العراق أبو الفتح بن أبى الليث قد أساء السيرة وأساء إلى الرعيّة وعسفهم، واطرح جانب الخليفة المقتدي وحواشيه فاستدعى المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وبعثه إلى السلطان ملك شاه والوزير نظام الملك بالشكوى من ابن العميد، فسار لذلك ومعه جماعة من أعيان الشافعيّة منهم أبو بكر الشاشي وغيره، وذلك سنة خمس وخمسين. وتنافس أهل البلاد في لقائه والتمسّح بأطرافه والتماس البركة في ملبوسه ومركوبة، وكان أهل البلاد إذا مرّ بهم يتسايلون إليه ويزدحمون على ركابه، وينشدون على موكبه كل أحد ما يناسب ذلك، وصدر الأمر بإهانة ابن العميد ورفع يده عما يتعلق بحواشي المقتدي، وجرى بينه وبين إمام الحرمين مناظرة بحضرة نظام الملك ذكرها الناس في كتبهم انتهى. عزل ابن جهير عن الوزارة وإمارته على ديار بكر ثم إنّ عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير عزله الخليفة المقتدي عن الوزارة ووصل يوم عزل رسول من قبل السلطان ونظام الملك يطلب بني جهير فأذن لهم وساروا بأهلهم إلى السلطان فلقّاهم كرامة وبرّا، وعقد لفخر الدولة على ديار بكر وكان بني مروان وبعث معه العساكر سنة وأعطاه الآلة وأذن له أن يخطب فيها لنفسه، ويكتب اسمه في السكّة فسار لذلك سنة ست وسبعين ثم بعث إليه السلطان سنة سبع وسبعين بمدد العساكر مع الأمير أرتق بن اكسب جلّ أصحاب ماردين لهذا العهد، وكان ابن مروان قد استمدّ فخر الدولة بن جهير بنواحيها، وكان معه جماعة من التركمان فتقدّموا إلى قتل مشرف الدولة، وانهزم أمامهم وغنم التركمان من كان معه من أحياء العرب، ودخل آمد فحصره بها فخر الدولة وأرتق، فراسل أرتق وبذل له مالا على الخروج من ناحيته، فأذن له وخرج. ورجع ابن جهير الى ميافارقين ومعه بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب الحلّة والنيل والجامعين وابنه سيف الدولة صدقة ففارقوه إلى العراق، وسار هو إلى خلاط. وكان السلطان لما بلغه انهزام مشرف الدولة وحصاره بآمد بعث عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير في عسكره إلى الموصل ومعه قسيم الدولة آق سنقر جدّ نور الدين العادل، وكاتب أمراء التركمان بطاعته وساروا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 إلى الموصل فملكوها. وسار السلطان بنفسه إليها وقارن ذلك خلوص مشرف الدولة من حصار آمد فراسل مؤيد الدولة بن نظام الملك وهو على الرحبة، وأهدى له فسعى له عند السلطان وأحضره وأهدى للسلطان سوابق خيله وصالحه وأقرّه على بلاده، وعاد إلى خراسان. ولم يزل فخر الدولة بن جهير في طلب ديار بكر حتى ملكها. فأنفذ إليه زعيم الرؤساء القاسم سنة ثمان وسبعين، وحاصرها وضيّق عليها حتى غدر بها بعض أهل العسكر من خارج وملكها. وعمد أهل البلد إلى بيوت النصارى بينهم فنهبوها بما [1] كانوا عمّال بني مروان، وكان لهم جور على الناس. وكان فخر الدولة مقيما على ميافارقين محاصرا لها، وجاءه سعد الدولة كوهرابين في العسكر مددا من عند السلطان فخرج في حصارها وسقط بعض الأيام جانب من سورها فدهش أهل البلد وتنادوا بشعار السلطان ملك شاه، واقتحم فخر الدولة البلد واستولى على ما كان لبني مروان، وبعث بأموالهم إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء فلحقه بأصبهان سنة ثمان وسبعين. ثم بعث فخر الدولة أيضا عسكرا إلى جزيرة ابن عمر وحاصروها حتى جهدهم الحصار، فوثب طائفة من أهل البلد بعاملها، وفتحوا الباب، ودخل مقدّم العسكر فملك البلد ودخل سنة ثمان وسبعين. وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر واستولى عليها فخر الدولة بن جهير، ثم أخذها السلطان من يده وسار إلى الموصل فتوفي بها، وكان مولده بها واستخدم لبرلة بن مقلة [2] وسفر عنه إلى ملك الروم. ثم سار إلى حلب ووزر لمعزّ الدولة أبي هال بن صالح. ثم مضى إلى ملطية ثم إلى مروان بديار بكر، فوزر له ولولده. ثم سار إلى بغداد ووزر للخليفة كما مرّ في آخر ما ذكرنا، وتوفي سنة ثلاث وثمانين انتهى. خبر الوزارة لما عزل الخليفة المقتدي عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين رتّب في الديوان أبا الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء. ثم استوزر أبا شجاع محمد بن الحسين فلم يزل في الوزارة إلى سنة أربع وثمانين فتعرّض لأبي سعد بن سمحاء اليهودي كان وكيلا للسلطان، ونظام الملك، وسار كوهرابين الشحنة إلى السلطان بأصبهان، فمضى   [1] مقتضى السياق لأنهم كانوا. [2] بركة بن المقلد: ابن الأثير ج 10 ص 182. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 اليهودي في ركابه، وسمع المقتدي بذلك فخرج توقيعه بإلزام أهل الذمة بالغيار فأسلم بعضهم وهرب بعضهم. وكان ممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب وقرابته، ولما وصل كوهرابين وأبو سعد إلى السلطان وعظمت سعايتهما في الوزير أبي شجاع فكتب السلطان ونظام الملك إلى المقتدي في عزله فعزله، وأمره بلزوم بيته، وولّى مكانه أبا سعد بن موصلايا الكاتب، وبعث المقتدي اليهما في عميد الدولة بن جهير فبعثا به إليه واستوزره سنة أربع وثمانين، وركب إليه نظام الدولة فهنّأه بالوزارة في بيته، وتوفي الوزير أبو شجاع سنة ثمان وثمانين. استيلاء السلطان على حلب قد ذكرنا من قبل استيلاء السلطان ألب أرسلان على حلب، وخطبة صاحبها محمود ابن صالح بن مرداس على منابره باسمه سنة ثلاث وستين. ثم عاد بعد ذلك إلى طاعة العلويّة بمصر. ثم انتقضت دولة بني مرداس بها، وعادت رياستها شورى في مشيختها، وطاعتهم لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكبيرهم ابن الحثيثي. واستقرّ ملك سليمان بن قطلمش ببلاد الروم، وملك أنطاكية سنة سبع وسبعين. وتنازع مع مشرف الدولة ابن قريش ملك حلب وتزاحفا فقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش سنة تسع وسبعين. وكتب إلى أهل حلب يستدعيهم إلى طاعته فاستمهلوه إلى أن يكاتبوا السلطان ملك شاه. فإنّ الكل كانوا في طاعته وكتبوا إلى تتش أخي السلطان وهو بدمشق أن يملّكوه فسار إليهم ومعه أرتق بن أكسب، كان قد لحق به عند ما جاء السلطان إلى الموصل وفتحها خشية مما فعله في خلاص مسلم بن قريش من حصار آمد فأقطعه تتش بيت المقدس. فلما جاء تتش إلى حلب وحاصر القلعة، وبها سالم بن مالك بن بدران ابن عمّ مشرف الدولة مسلم بن قريش، وكان ابن الحثيثي وأهل حلب قد كاتبوا السلطان ملك شاه أن يسلّموا إليه البلد، فسار من أصبهان في جمادى سنة تسع وستين، ومرّ بالموصل ثم بحرّان فتسلّمها وأقطعها محمد بن مسلم بن قريش، ثم بالرها فملكها من يد الروم، ثم بقلعة جعفر فحاصرها وملكها من يد بعض بني قشير، ثم بمنبج فملكها ثم عبر الفرات إلى حلب فأجفل أخوه تتش إلى البريّة ومعه أرتق. ثم عاد إلى دمشق وكان سالم بن مالك ممتنعا بالقلعة فاستنزله منها وأقطعه قلعة جعبر فلم تزل بيده ويد بنيه حتى ملكها منهم نور الدين العادل، وبعث إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 السلطان بالطاعة على شيراز، وولّى السلطان على حلب قسيم الدولة صاحب شيراز نصر بن عليّ بن منقذ الكناني وسلّم إليه اللاذقية وكفر طاب وفامية، فأقرّ على شيراز، وولّى السلطان على حلب قسيم الدولة آق سنقر جدّ نور الدين العادل، ورحل إلى العراق وطلب أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فحمله معه وأنزله بديار بكر فتوفي فيها بحلل إملاق. ودخل السلطان بغداد في ذي الحجة من سنة تسع وسبعين وأهدى إلى المقتدي وخلع عليه الخليفة، وقد جلس له في مجلس حفل ونظام الملك قائم يقدّم أمراء السلطان واحدا بعد واحد آخر للسلام للخليفة، ويعرّف بأسمائهم وأنسابهم ومراتبهم. ثم فوّض الخليفة المقتدي إلى السلطان أمور الدولة، وقبّل يده وانصرف. ودخل نظام الملك إلى مدرسته فجلس في خزانة الكتب وأسمع جزء حديث وأملى آخر. وأقام السلطان ببغداد شهرا ورحل في صفر من سنة ثمانين إلى أصبهان وجاء إلى بغداد مرّة أخرى في رمضان من سنة أربع وثمانين ونزل بدار الملك وقدّم عليه أخوه تاج الدولة تتش وقسيم الدولة آق سنقر من حلب، وغيرهما من أمراء النواحي. وعمل ليلة الميعاد من سنة خمس وثمانين، لم ير أهل بغداد مثله وأخذ الأمراء في بناء الدور ببغداد لسكناهم عند قدومهم فلم تمهلهم الأيام لذلك. فتنة بغداد كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في العالم منذ مبدإ الخليفة فيما علمناه، واضطربت آخر الدولة العبّاسيّة بالفتن، وكثر فيها المفسدون والدعّار والعيارون من الرّها، وأعيا على الحكّام أمرهم، وربما أركبوا العساكر لقتالهم ويثخنون فيهم فلم يحسم ذلك من عللهم شيئا وربما حدثت الفتن من أهل المذاهب ومن أهل السنّة والشيعة من الخلاف في الإمامة ومذاهبها، وبين الحنابلة والشافعية وغيرهم من تصريح الحنابلة بالتشبيه في الذات والصفات، ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد، وحاشاه منه، فيقع الجدال والنكير ثم يفضي إلى الفتنة بين العوام. وتكرّر ذلك منذ حجر الخلفاء. ولم يقدر بنو بويه ولا السلجوقيّة على حسم ذلك منها لسكنى أولئك بفارس، وهؤلاء بأصبهان، وبعدهم عن بغداد والشوكة التي تكون بها حسم العلل لاتفاقهم. وإنما تكون ببغداد شحنة تحسم ما خفّ من العلل ما لم ينته إلى عموم الفتنة، ولم يحصل من ملوكهم اهتمام لحسم ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 لاشتغالهم بما هو أعظم منه في الدولة والنواحي. وعامة بغداد أهون عليهم من أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم فاستمرّت هذه العلّة ببغداد، ولم يقلع عنها إلى أن اختلفت جدّتها وتلاشى عمرانها، وبقي طراز في ردائها لم تذهبه الأيام. مقتل نظام الملك وأخباره كان من أبناء الدهاقين بطوس أبو علي الحسين بن عليّ بن إسحاق، فشبّ وقرأ بها وسمع الحديث الكبير وتعلّق بالأحكام السلطانية وظهرت فيها كفايته، وكان يعرف بحسن الطوسي. وكان أميره الّذي يستخدمه يصادره كل سنة فهرب منه إلى داود وحفري بك، وطلبه مخدومه الأمير فمنعه، وخدم أبا علي بن شادان متولّي الأعمال ببلخ لحفري بك أخي السلطان طغرلبك، وهو والد السلطان ألب أرسلان. ولما مات أبو علي وقد عرف نظام الملك هذا بالكفاية والأمانة أوصى به ألب أرسلان فأقام بأمور دولته ودولة ابنه ملك شاه من بعده، وبلغ المبالغ كما مرّ واستولى على الدولة. وولّى أولاده الأعمال وكان فيمن ولّاه منهم ابن ابنه عثمان جمال. وولّى على مرو، وبعث السلطان إليها شحنة من أعظم أمرائه، وقع بينه وبين عثمان نزاع فحملته الحداثة والإدلال بجاهه على أن قبض على الأمير وعاقبه، فانطلق إلى السلطان مستغيثا، وامتعض لها السلطان وبعث إلى نظام الملك بالنكير مع خواصه وثقاته فحملته الدالة على تحقيق تعديد حقوقه على السلطان، وإطلاق القول في العتاب والتهديد بطوارق الزمن. وأرادوا طي ذلك عن السلطان فوشى به بعضهم. فلما كان رمضان من سنة خمس وثمانين، والسلطان على نهاوند عائدا من أصبهان إلى بغداد، وقد انصرف الملك يومه ذلك من خيمة السلطان إلى خيمته، فاعترضه صبيّ قيل إنه من الباطنة في صورة مستغيث فطعنه بسكينة فمات، وهرب الصبي فأدرك وقتل، وجاء السلطان إلى خيمة نظام الملك يومه، وسكن أصحابه وعسكره، وذلك لثلاثين سنة من وزارته سوى ما وزر لأبيه ألب أرسلان أيام إمارته بخراسان. وفاة السلطان ملك شاه وملك ابنه محمود لما قتل نظام الملك على نهاوند كما ذكرناه سار السلطان لوجهه، ودخل بغداد آخر رمضان من سنته، ولقيه الوزير عميد الدولة بن جهير واعتزم السلطان أن يولّي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 وزارته تاج الملك وهو الّذي سعى بنظام الملك، وكانت قد ظهرت كفايته. فلما صلّى السلطان العيد عاد إلى بيته وقد طرقه المرض، وتوفي منتصف شوّال، فكتمت زوجته تركمان خاتون موته وأنزلت أموالها وأموال أهل الدولة بحريم دار الخلافة، وارتحلت إلى أصبهان، وسلّوا السلطان معها في تابوته وقد بذلت الأموال للأمراء على طاعة ابنها محمود والبيعة له فبايعوه، وقدمت من طريق قوام الدولة كربوقا الّذي ملك الموصل من بعد ذلك، فسار بخاتم السلطان لنائب القلعة وتسلّمها. ولما بايعت لولدها محمود وعمره يومئذ أربع سنين بعثت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة له فأجابها على شرط أن يكون أنز من أمراء أبيه هو القائم بتدبير الملك، وأن يصدر عن رأي الوزير تاج الملك، ويكون له ترتيب العمّال وجباية الأموال فأبت أوّلا من قبول هذا الشرط، حتى جاءها الإمام أبو حامد الغزالي وأخبرها أنّ الشرع لا يجير تصرفاته فأذعنت لذلك، فخطب لابنها آخر شوّال من السنة، ولقّب ناصر الدولة والدين، وكتب إلى الحرمين الشريفين فخطب له بهما. ثورة بركيارق بملك شاه كانت تركمان خاتون عند موت السلطان ملك شاه قد كتمت موته وبايعت لابنها محمود كما قلناه، وبعثت إلى أصبهان سرّا في القبض على بركيارق ابن السلطان ملك شاه خوفا من أن ينازع ابنها محمود فحبس. فلما ظهر موت ملك شاه وثب مماليك بركيارق ونظام الملك على سلاح كان له بأصبهان وثاروا في البلد وأخرجوا بركيارق في محبسه وبايعوه وخطبوا له بأصبهان. وكانت أمّه زبيدة بنت عم ملك شاه وهو ياقولي خائفة على ولدها من خاتون أمّ محمود، وكان تاج الملك قد تقدّم إلى أصبهان وطالبه العسكر بالأموال فطلع إلى بعض القلاع لينزل منها المال وامتنع منها خوفا من مماليك نظام الملك. ولما وصلت تركمان خاتون إلى أصبهان جاءها فقبلت عذره. وكان بركيارق لما أقامت خاتون ابنها محمودا بأصبهان خرج فيمن معه من النظامية إلى الريّ واجتمع معه بعض أمراء أبيه وبعثت خاتون العساكر إلى قتاله، وفيهم أمراء ملك شاه. فلما تراءى الجمعان هرب كثير من الأمراء إلى بركيارق واشتدّ القتال فانهزم عسكر محمود وخاتون، وعادوا إلى أصبهان وسار بركيارق في أثرهم فحاصرهم بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 مقتل تاج الملك كان الوزير تاج الملك قد حضر مع عسكر خاتون وشهد وقعة بركيارق. فلما انهزموا سار إلى قلعة يزدجرد فحبس في طريقه، وحمل إلى بركيارق وهو محاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته فأجمع أن يستوزره، وأصلح هو النظاميّة وبذل لهم مائتي ألف دينار واسترضاهم بها. ونمي ذلك إلى عثمان نائب نظام الملك فوضع الغلمان الأصاغر عليه الطالبين ثأر سيدهم وأغراهم فقتلوه وقطعوه قطعا [1] وذلك في المحرّم سنة ست وثمانين. ثم خرج إلى بركيارق من أصبهان وهو محاصر لها عزّ الملك أبو عبد الله بن الحسين بن نظام الملك وكان على خوارزم، ووفد على السلطان ملك شاه قبل مقتل أبيه. ثم كان ملكهما فأقام هو بأصبهان وخرج إلى بركيارق وهو يحاصرها فاستوزره وفوّض إليه أمر دولته انتهى. الخطبة لبركيارق ببغداد ثم قدم بركيارق بغداد سنة ست وثمانين، وطلب من المقتدي الخطبة فخطب له على منابرها ولقّب ركن الدين وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير إليه الخلع فلبسها وتوفي المقتدي وهو مقيم ببغداد. وفاة المقتدي ونصب المستظهر للخلافة ثم توفي المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله في منتصف محرّم سنة سبع وثمانين، وكان موته فجأة، أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم عليه فقرأه ووضعه. ثم قدّم إليه طعام فأكل منه ثم غشي عليه فمات، وحضر الوزير فجهزوا جنازته وصلّى عليه ابنه أبو العبّاس أحمد ودفن وذلك لتسع عشرة سنة وثمانية أشهر من خلافته. وكانت له قوّة وهمّة لولا أنه كان مغلبا، وعظمت عمارة بغداد في أيامه، وأظنّ ذلك لاستفحال دولة بني طغرلبك. ولما توفي المقتدي وحضر الوزير أحضر ابنه أبا العباس أحمد الحاشية فبايعوه ولقّبوه المستظهر، وركب الوزير إلى بركيارق وأخذ بيعته للمستظهر. ثم حضر بركيارق لثالثة من وفاته ومعه وزيره عزّ الملك بن نظام الملك وأخوه بهاء الملك، وأمر السلطان بأرباب   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 216: «فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة وان لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا وفصّلوه أجزاء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 المناصب فجمعوا وحضر النقيبان طراد العبّاسى والمعمّر العلويّ، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغانيّ والغزالي والشاشي وغيرهم فحبسوا في العراء وبايعوا. أخبار تتش وانتقاضه وحروبه ومقتله قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ تتش بن السلطان ألب أرسلان استقل بملك دمشق وأعمالها، وأنه وفد على السلطان ملك شاه ببغداد قبل موته وانصرف، وبلغه خبر وفاته بهيت فملكها وسار إلى دمشق فجمع العساكر، وزحف إلى حلب فأطاعه صاحبها قسيم الدولة آق سنقر. وسار معه، وكتب إلى ناعيسان صاحب أنطاكية وإلى برار صاحب الرها وحرّان يشير عليهما بطاعة تتش حتى يصلح حال أولاد ملك شاه فقبلوا منه، وخطبوا له في بلادهم وساروا معه فحضر الرحبة وملكها في المحرّم سنة ست وثمانين، وخطب فيها لنفسه. ثم فتح نصيبين عنوة وعاث فيها وسلّمها لمحمد بن مشرف الدولة وسار يريد الموصل ولقيه الكافي فخر الدولة بن جهير وكان في جزيرة ابن عمر فاستوزره وبعث إلى إبراهيم بن مشرف الدولة مسلم بن قريش وهو يومئذ ملك الموصل يأمره بالخطبة له، وتسهيل طريقه إلى بغداد فأبى من ذلك وزحف إليه تتش وهو في عشرة آلاف وآق سنقر على ميمنته وتوزران [1] على ميسرته، وإبراهيم في ستين ألفا والتقوا فانهزم إبراهيم وأخذ أسيرا وقتل جماعة من أمراء العرب صبرا، وملك تاج الدولة تتش الموصل، وولّى عليها عليّ بن مشرف الدولة. وفوّض إليه أمر صفيّة عمة تتش وبعث إلى بغداد يطلب مساعدة كوهرابين الشحنة فجاء العذر بانتظار الرسل من العسكر، فسار إلى ديار بكر وملكها، ثم إلى أذربيجان، وبلغ خبره إلى بركيارق، وقد استولى على همذان والريّ فسار لمدافعته، فلمّا التقى العسكران جنح آق سنقر إلى بركيارق وفاوض توران في ذلك، وأنهما إنّما اتّبعا تتش حتى يظهر أمر أولاد ملك شاه، فوافقه على ذلك، وسارا معا إلى بركيارق فانهزم تتش وعاد إلى دمشق، واستفحل بركيارق وجاءه كوهرابين يعتذر من مساعدته لتتش في الخطبة فلم يقبله، وعزله وولّى الأمير نكبرد شحنة بغداد مكانه. ثم خطب لبركيارق ببغداد كما قدّمناه. ومات المقتدي ونصب المستظهر، ولما عاد تتش من أذربيجان إلى الشام جمع العساكر وسار إلى حلب لقتال آق سنقر، وبعث بركيارق كربوقا الّذي صار أمير الموصل مددا لآقسنقر، ولقيهم تتش قريبا من حلب فهزمهم وأسر آق سنقر فقتله صبرا. ولحق   [1] توزون: الكامل في التاريخ ج 8 ص 301 ووردت أيضا توران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 توران وكربوقا بحلب، وحاصرهما تتش فملكها وأخذهما أسيرين، وبعث إلى حرّان والرّها في الطاعة، وكانتا لتوران فامتنعوا، فبعث برأسه إليهم وأطاعوه، وحبس كربوقا في حمص إلى أن أطاعه رضوان بعد قتل أبيه تتش. ثم سار تتش إلى الجزيرة فملكها، ثم ديار بكر ثم خلاط وأرمينية، ثم أذربيجان. ثم سار إلى همذان فملكها، وكان بها فخر الدولة نظام الملك، سار من حرّان لخدمة بركيارق فلقيه الأمير تاج من عسكر محمود بن ملك شاه بأصبهان، فنهب ماله ونجا بنفسه إلى همذان، وصادف بها تتش وشفع فيه باغسيان وأشار بوزارته فاستوزره، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من المستظهر وبعث يوسف بن أبق التركماني شحنته إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخولها. وكان بركيارق قد سار إلى نصيبين وعبر دجلة فوق الموصل إلى أربل، ثم إلى بلد سرخاب بن بدر حتى إذا كان بينه وبين عمّه تسعة فراسخ، وهو في ألف رجل وعمّه في خمسين ألفا، فبيّته بعض الأمراء من عسكر عمّه فانهزم إلى أصبهان، وبها محمود ابن أخيه، وقد ماتت أمّه تركمان خاتون فأدخله أمراء محمود، واحتاطوا عليه. ثم مات محمود سلخ شوّال من سنة سبع وثمانين، واستولى بركيارق على الأمر، وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره في ذي الحجّة، واستمال الأمراء فرجعوا إليه وكثر جمعه. وكان تتش بعد هزيمة بركيارق قد اختلف عليه الأمراء وراسل أمراء أصبهان يدعوهم إلى طاعته فواعدوه انتظار بركيارق، وكان قد أصابه الجدري، فلمّا أبلّ نبذوا إليه عهده، وساروا مع بركيارق من أصبهان، وأقبلت إليهم العساكر من كل مكان وانتهوا إلى ثلاثين ألفا والتقوا قريبا من الريّ فانهزم تتش وقتله بعض أصحاب آق سنقر، وكان قد حبس وزيره فخر الملك بن نظام الملك فأطلق ذلك اليوم، واستفحل أمر بركيارق وخطب له ببغداد. ظهور السلطان ملك شاه والخطبة له ببغداد كان السلطان بركيارق قد ولّى على خراسان وأعمالها أخاه لأبيه سنجر فاستقل بأعمال خراسان كما يذكر في أخبار دولتهم عند انفرادها بالذكر. وإنما نذكر هنا من أخبارهم ما يتعلّق بالخلافة والخطبة لهم ببغداد، لأنّ مساق الكلام هنا إنما هو عن أخبار دولة بني العبّاس، ومن وزر لهم أو تغلّب خاصة. وكان لسنجر بن ملك شاه أخ شقيق اسمه محمد، ولمّا هلك السلطان ملك شاه سار مع أخيه محمود وتركمان خاتون إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 أصبهان. فلمّا حاصرهم بركيارق لحق به أخوه محمد هذا وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين، وأقطعه دجلة وأعمالها وبعث معه قطلغ تكين أتابك. فلمّا استوى على أمره قتله أنفة من حجره. ثم لحق به مؤيد الملك بن عبيد الله بن نظام الملك، كان مع الأمير أنز وداخله في الخلاف على السلطان بركيارق. فلما قتل أنز كما نذكر في أخبارهم لحق مؤيد الملك بمحمد بن السلطان ملك شاه، وأشار عليه ففعل وخطب لنفسه. واستوزر مؤيد الملك، وقارن ذلك أنّ السلطان بركيارق قتل خاله مجد الملك البارسلاني فاستوحش منه أمراؤه، ولحقوا بأخيه محمد وسار بركيارق إلى الريّ واجتمع له بها عساكر وجاء عزّ الملك منصور بن نظام الملك في عساكر، وبينما هو في الريّ إذ بلغه مسير أخيه محمد إليه فأجفل راجعا إلى أصبهان فمنعه أهلها الدخول، فسار إلى خوزستان. وجاء السلطان محمد إلى الريّ أوّل ذي القعدة من سنة اثنتين وتسعين، ووجد أم بركيارق بها وهي زبيدة خاتون فحبسها مؤيد الملك وقتلها، واستفحل ملك محمد، وجاءه سعد الدولة كوهرابين شحنة بغداد وكان مستوحشا من بركيارق، وجاء معه كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، وسرخاب ابن بدر صاحب كركور فلقوه جميعا بقمّ وسار كربوقا وجكرمش معه إلى أصبهان، وردّ كوهرابين إلى بغداد في طلب الخطبة من الخليفة، وأن يكون شحنة [1] بها فأجابه المستظهر إلى ذلك وخطب له منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين ولقب غياث الدنيا والدين. اعادة الخطبة لبركيارق لما سار بركيارق مجفلا من الريّ إلى خوزستان أمام أخيه محمد، وأمير عسكره يومئذ ينال بن أنوش تكين الحسامي، ومعه جماعة من الأمراء، أجمع المسير إلى العراق، فسار إلى واسط، وجاءه صدقة بن مزيد صاحب الحلّة. ثم سار إلى بغداد فخطب له بها منتصف صفر من سنة ثلاث وتسعين. ولحق سعد الدولة كوهرابين ببعض الحصون هنالك ومعه أبو الغازي بن أرتق وغيره من الأمراء، وأرسل إلى السلطان محمد ووزيره مؤيد الملك يستحثّهما في الوصول، فبعث إليه كربوقا صاحب   [1] الشحنة: الحامية وقد استعملها ابن خلدون بمعنى القائد أو رئيس الشرطة وفي لسان العرب: وبالبلد شحنة من الخيل اي رابطة. قال ابن بري: وقول العامة في الشحنة إنه الأمير غلط. وقال الأزهري شحنة الكورة من فيهم الكفاية لضبطها من أولياء السلطان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 الموصل وجكرمش صاحب الجزيرة فلم يرضه. وطلب جكرمش العود إلى بلده فأطلقه. ثم نزع كوهرابين ومن معه من الأمراء إلى بركيارق باغزاء كربوقا صاحب الموصل، وكاتبوه فخرج إليهم ودخلوا معه بغداد واستوزره الأغرّ ابو المحاسن عبد الجليل بن عليّ بن محمد الدهستانيّ، وقبض على عميد الدولة ابن جهير وزير الخليفة وطالبه بأموال ديار بكر والموصل في ولايته وولاية أبيه، وصادره على مائة وستين ألف دينار فحملها إليه وخلع المستظهر على السلطان بركيارق واستقرّ أمره. المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد وقتل كوهرابين والخطبة لمحمد ثم سار بركيارق من بغداد إلى شهرزور لقتال أخيه محمد، واجتمع إليه عسكر عظيم من التركمان، وكاتبه رئيس همذان بالمسير إليه فعدا عنه، ولقي أخاه محمدا على فراسخ من همذان ومحمد في عشرين ألف مقاتل، ومعه الأمير سرخو شحنة أصبهان وعلى ميمنته أمير آخر وابنه أياز، وعلى ميسرته مؤيد الملك والنظامية. ومع بركيارق في لقلب وزيره أبو المحاسن، وفي ميمنته كوهرابين وصدقة بن مزيد وسرخاب بن بدر. وفي ميسرته كربوقا وغيره من الأمراء. فحمل كوهرابين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد فانهزموا حتى نهبت خيامهم. ثم حملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزمت، وحمل محمد معهم فانهزم بركيارق، ورجع كوهرابين للمنهزمين فكبا به فرسه وقتل، وافترقت عساكر بركيارق وأسر وزيره أبو المحاسن فأكرمه مؤيد الملك وأنزله وأعاده إلى بغداد ليخاطب المستظهر في إعادة الخطبة للسلطان محمد ففعل، وخطب له ببغداد منتصف رجب سنة ثلاث وتسعين. وابتداء أمر كوهرابين أنه كان لامرأة بخوزستان وصار خادما للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة. وحظي عنده وكان يستعرض حوائج تلك المرأة وأصاب أهلها منه خيرا. وأرسله أبو كاليجار مع ولده أبي نصر إلى بغداد، فلمّا قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى محبسه بقلعة طبرك. ولمّا مات أبو نصر سار إلى خدمة السلطان ألب أرسلان فحظي عنده وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد، وكان حاضرا معه يوم قتله يوسف الخوارزمي ووقّاه بنفسه. ثم بعثه ابنه ملك شاه إلى بغداد لإحضار الخلع والتقليد، واستقرّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 شحنة ببغداد إلى أن قتل، ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الكلمة وكمال القدرة وخدمة الأمراء والأعيان وطاعتهم انتهى. مصاف بركيارق مع أخيه سنجر ولما انهزم السلطان بركيارق من أخيه محمد لحق بالريّ واستدعى شيعته وأنصاره من الأمراء فلحقوا به. ثم ساروا إلى أسفراين وكاتب الأمير داود حبشر بن التونطاق يستدعيه وهو صاحب خراسان وطبرستان ومنزله بالدامغان، فأشار عليه باللحاق بنيسابور حتى يأتيه. فدخل نيسابور وقبض على رؤسائها، ثم أطلقهم وأساء التصرّف. ثم أعاد الكتاب إلى داود حبشي بالاستدعاء فاعتذر بأنّ السلطان سنجر زحف إليه في عساكر بلخ. ثم سأل منه المدد فسار بركيارق إليه في ألف فارس وهو في عشرين ألفا والتقوا بسنجر عند النوشجان وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته كوكر، ومعه في القلب رستم. فحمل بركيارق على رستم فقتله وانهزم أصحابه ونهب عسكرهم، وكادت الهزيمة تتم عليهم. ثم حمل برغش وكوكر على عسكر بركيارق وهم مشتغلون بالنهب فانهزموا، وانهزم بركيارق. وجاء بعض التركمان بالأمير داود حبشي أسيرا إلى برغش فقتله ولحق بركيارق بجرجان ثم بالدامغان، وقطع البريّة إلى أصبهان بمراسلة أهلها فسبقه أخوه محمد إليها فعاد أسيرهم انتهى. عزل الوزير عميد الدولة بن جهير ووفاته قد ذكرنا أنّ وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن أسر في المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد، وأنّ مؤيد الملك بن نظام الملك وزير محمد أطلقه واصطنعه وضمنه عمارة بغداد، وحمله طلب الخطبة لمحمد ببغداد من المستظهر فخطب له، وكان فيما حمله للمستظهر عزل وزيره عميد الدولة بن جهير. وبلغ ذلك عميد الدولة فأرسل من يعترض الأغر ويقتله فامتنع بعقر باب. ثم صالحه ذلك الّذي اعترضه وطلب لقاءه فلقيه، ودسّ الأغر إلى أبي الغازي بن أرتق، وكان وصل معه وسبقه إلى بغداد، فرجع إليه ليلا ويئس منه ذلك الّذي اعترضه، ووصل الأغرّ بغداد، وبلغ إلى المستظهر رسالة مؤيد الدولة في عزل عميد الدولة فقبض عليه في رمضان من سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 ثلاث وتسعين، وعلى إخوته، وصودر على خمسة وعشرين ألف دينار، وبقي محبوسا بدار الخلافة إلى أن هلك في محبسه. المصاف الثاني بين بركيارق وأخيه محمد ومقتل مؤيد الملك والخطبة لبركيارق قد ذكرنا أنّ بركيارق لمّا انهزم أمام أخيه محمد في المصاف الأوّل سار إلى أصبهان، ولم يدخلها فمضى إلى عسكر مكرم إلى خوزستان وجاءه الأميران زنكي وألبكي ابنا برسق. ثم سار إلى همذان فكاتبه أياز من كبار أمراء محمد بما كان استوحش منه فجاءه في خمسة آلاف فارس وأغراه باللقاء فارتحل لذلك. ثم استأمن إليه سرخاب ابن كنخسرو صاحب آوة فاجتمع له خمسون ألفا من المقاتلة، وبقي أخوه في خمسة عشر ألفا. ثم اقتتلوا أول جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين، وأصحاب محمد يغدون على محمد شيئا فشيئا مستأمنين. ثم انهزم آخر النهار وأسر وزيره مؤيد الملك، وأحضره عند بركيارق غلام لمجد الملك البارسلاني ثار منه مولاه، فلمّا حضر وبّخه بركيارق وقتله وبعث الوزير أبو المحاسن من يسلم إليه أمواله، وصادر عليها قرابته، في بغداد وفي غير بغداد من بلاد العجم. ويقال كان فيما أخذ له قطعة من البلخش زنة إحدى وأربعين مثقالا. ثم سار بركيارق إلى الريّ ولقيه هناك كربوقا صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد، واجتمعت إليه نحو من مائة ألف فارس حتى ضاقت بهم البلاد ففرق العساكر. وعاد دبيس إلى أبيه وسار كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن إسماعيل بن ياقوتا، كان خرج على السلطان هنالك وسار أياز إلى همذان ليقضي الصوم عند أهله ويعود، فبقي بركيارق في خفّ من الجنود. وكان محمد أخوه لما انهزم لجهات همذان سار إلى شقيقه بخراسان فانتهى إلى جرجان، وبعث يطلب منه المدد فأمدّه بالمال أوّلا. ثم سار إليه بنفسه إلى جرجان وسار معه إلى الدامغان وخرّب عسكر خراسان ما مروا به من البلاد، وانتهوا إلى الريّ، واجتمعت إليهم النظامية وبلغهم افتراق العساكر عن بركيارق فأغذّوا إليه السير فرحل إلى همذان فبلغه أن أياز راسل محمدا، فقصد خوزستان وانتهى إلى تستر، واستدعى بني برسق فقعدوا عنه لما بلغهم مراسلة أياز للسلطان، فسار بركيارق نحو العراق، وكان أياز راسل محمدا في الكون معه فلم يقبله فسار من همذان، ولحق بركيارق إلى حلوان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 وساروا جميعا إلى بغداد. واستولى محمد على مخلّف أياز بهمذان وحلوان وكان شيئا مما لا يعبّر عنه. وصادر جماعة من أصحاب أياز من أهل همذان، ووصل بركيارق إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة أربع وتسعين، وبعث المستظهر لتلقّيه أمين الدولة بن موصلايا في المراكب، وكان بركيارق مريضا فلزم بيته، وبعث المستظهر في عيد الأضحى إلى داره منبرا خطب عليه باسمه، وتخلّف بركيارق عن شهود العيد لمرضه، وضاقت عليه الأموال فطلب الإعانة من المستظهر، وحمل إليه خمسين ألف دينار بعد المراجعات، ومد يده إلى أموال الناس وصادرهم فضجّوا، وارتكب خطيئة شنعاء في قاضي جبلة وهو أبو محمد عبد الله بن منصور. وكان من خبره أنّ أباه منصورا كان قاضيا بجبلة في ملكة الروم، فلما ملكها المسلمون وصارت في يد أبي الحسن عليّ بن عمّار صاحب طرابلس أقرّه على القضاء بها. وتوفي فقام ابنه أبو محمد هذا مقامه ولبس شعار الجنديّة وكان شهما، فهمّ ابن عمّار بالقبض عليه، وشعر فانتقض وخطب للخلفاء العبّاسية. وكان ابن عمّار يخطب للعلويّة بمصر، وطالت منازلة الفرنج بحصن جبلة إلى أن ضجر أبو محمد هذا، وبعث إلى صاحب دمشق وهو يومئذ طغتكين الأتابك أن يسلّم إليه البلد، فبعث ابنه تاج الملوك موري وتسلّم منه البلد، وجاء به إلى دمشق وبذل لهم فيه ابن عمّار ثلاثين ألف دينار دون أمواله، فلم يرضوا بإخفار ذمتهم وسار عنهم إلى بغداد، ولقي بها بركيارق فأحضره الوزير أبو المحاسن وطلبه في ثلاثين ألف دينار، فأجاب وأحالهم على منزله بالأنبار، فبعث الوزير من أتاه بجميع ما فيه، وكان لا يعبّر فكانت من المنكرات التي أتاها بركيارق. ثم بعث الوزير إلى صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب حلب يطلب منه ألف ألف دينار متخلّفة من مال الجباية، وتهدّده عليها فغضب وانتقض وخطب لمحمد، وبعث إليه بركيارق الأمير أياز يستقدمه فلم يجب، وبعث إلى الكوفة وطرد عنها نائب بركيارق واستضافها إليه. استيلاء محمد على بغداد قد ذكرنا استيلاء محمد على همذان في آخر ذي الحجة من سنة أربع وتسعين، ومعه أخوه سنجر. وذهب بركيارق إلى بغداد فاستولى عليها وأساء السيرة بها، وبلغ الخبر إلى محمد فسار من همذان في عشرة آلاف فارس، ولقيه بحلوان أبو الغازي بن أرتق شحنته ببغداد في عساكره وأتباعه. وكان بركيارق في شدّة من المرض، قد أشرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 على الهلاك فاضطرب أصحابه وعبروا به إلى الجانب الغربي حتى إذا وصل محمد بغداد وتراءى الجمعان من عدوتي دجلة ذهب بركيارق وأصحابه إلى واسط ودخل محمد بغداد، وجاءه توقيع المستظهر بالانتقاض مما وقع به بركيارق، وخطب له على منابر بغداد، وجاءه صدقة بن منصور صاحب الحلّة فأخرج الناس للقائه ونزل سنجر بدار كوهرابين، واستوزر محمد بعد مؤيد الملك خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين، فقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين انتهى. المصاف الثالث والرابع وما تخلل بينهما من الصلح ولم يتم ثم ارتحل السلطان وأخوه سنجر عن بغداد منتصف المحرّم من سنة خمس وتسعين، وقصد سنجر خراسان ومحمد همذان، فاعترض بركيارق خاص الخليفة المستظهر، وأبلغه القبيح فاستدعى المستظهر محمدا لقتال بركيارق فجاء إليه وقال: انا أكفيكه. ورتّب أبا المعالي شحنة ببغداد، وكان بركيارق بواسط كما قلنا، فلما أبلّ من مرضه عبر إلى الجانب الشرقي بعد جهد وصعوبة لفرار الناس من واسط لسوء سيرتهم. ثم سار إلى بلاد بني برسق حتى أطاعوا واستقاموا وساروا معه فاتبع أخاه محمدا إلى نهاوند وتصافوا يومين ومنعهما شدّة البرد من القتال. ثم اجتمع أياز والوزير الأغر من عسكر بركيارق وبلد أجى وغيرهم من الأمراء من عسكر محمد. تفاوضوا في شكوى ما نزل بهم من هذه الفتنة، ثم اتفقوا على أن تكون السلطنة بالعراق لبركيارق ويكون لمحمد من البلاد الحيرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل على أن يمدّه بركيارق بالعسكر متى احتاج إليه على من يمتنع عليه منها. وتحالفا على ذلك وافترقا في ربيع الأوّل سنة خمس وتسعين، ثم سار بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى قزوين، وبدا له في الصلح واتّهم الأمراء الذين سعوا فيه، وأسرّ إلى رئيس قزوين أن يدعوهم إلى صنيع عنده، وغدر بهم محمد فقتل بعضا وسمل بعضا وأظهر الفتنة. وكان الأمير ينال بن أنوش تكين قد فارق بركيارق، وأقام مجاهدا للباطنية في الجبال والقلاع فلقي محمدا وسار معه إلى الريّ، وبلغ الخبر إلى بركيارق فأغذّ إليه السير في ثمان ليال واصطفّوا في التاسع وكلا الفريقين في عشرة آلاف مقاتل. وحمل سرخاب بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 كنجسرو الديلميّ صاحب آوة [1] ومن أصحاب بركيارق على ينال بن أنوش تكين فهزمه، وانهزم معه عسكر محمد، وافترقوا فلحق فريق بطبرستان وآخر بقزوين، ولحق محمد بأصبهان في سبعين فارسا، واتّبعه أياز وألبكي بن برسق فنجا إلى البلد وبها نوّابه، فلمّ ما تشعّث من السور، وكان من بناء علاء الدين بن كاكويه سنة تسع وعشرين لقتال طغرلبك وحفر الخنادق وأبعد مهواها وأجرى فيها المياه، ونصب المجانيق، واستعدّ للحصار. وجاء بركيارق في جمادى ومعه خمسة عشر ألف فارس ومائة ألف من الرجل والأتباع، فحاصرها حتى جهدهم الحصار وعدمت الأقوات والعلوفة، فخرج محمد عن البلد في عيد الأضحى من سنته في مائة وخمسين فارسا، ومعه ينال، ونزل في الأمراء، وبعث بركيارق في اتباعه الأمير أياز. وكانت خيل محمد ضامرة من الجوع، فالتفت إلى أياز يذكّره العهود فرجع عنه بعد أن نهب منه خيلا ومالا، وأخذ علمه وجنده وعاد إلى بركيارق. ثم شدّ بركيارق في حصار أصبهان، وزحف بالسلاليم والذبابات، وجمع الأيدي على الخندق فطمّه، وتعلّق الناس بالسور فاستمات أهل البلد ودفعوهم. وعلم بركيارق امتناعها فرحل عنها ثامن عشر ذي الحجّة. وجمّر عسكرا مع ابنه ملك شاه وترشك الصوالي على البلد القديم الّذي يسمّى شهرستان، وسار إلى همذان بعد أن كان قتل على أصبهان وزيره الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني، اعترضه في ركوبه من خيمته إلى خدمة السلطان متظلم فطعنه وأشواه، ورجع إلى خيمته فمات، وذهب للتجّار الذين كانوا يعاملونه أموال عظيمة لأنّ الجباية كانت ضاقت بالفتن، فاحتاج إلى الاستدانة، ونفر منه التجّار لذلك. ثم عامله بعضهم فذهب ما لهم بموته، وكان أخوه العميد المهذّب أبو محمد قد سار إلى بغداد لينوب عنه حين عقد الأمراء الصلح بين بركيارق ومحمد، فقبض عليه الشحنة ببغداد أبو الغازي بن أرتق وكان على طاعة محمد. الشحنة ببغداد والخطبة لبركيارق كان أبو الغازي [2] بن أرتق شحنة ببغداد وولّاه عليها السلطان محمد عند استيلائه في المصاف الأوّل، وكان طريق خراسان إليه فعاد بعض الأيام منها إلى بغداد، وضرب   [1] سرخاب بن كيخسرو الديلميّ صاحب أبة: ابن الأثير ج 10 ص 332. [2] إيلغازي: ابن الأثير ج 10 ص 337. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 فارس من أصحابه بعض الملّاحين بسهم في ملاحاة وقعت بينهم عند العبور فقتله فثارت بهم العامة وأمسكوا القاتل، وجاءوا به إلى باب النوبة في دار الخلافة ولقيهم ولد أبي الغازي فاستنقذه من أيديهم فرجموه، وجاء إلى أبيه مستغيثا وركب إلى محلة الملّاحين فنهبها وعطف عليه العيّارون فقتلوا من أصحابه، وركبوا السفين للنجاة فهرب الملّاحون وتركوهم فغرقوا، وجمع أبو الغازي التركماني لنهب الجانب الغربي، فبعث إليه المستظهر قاضي القضاة والكيا الهرّاسي مدرّس النظامية بالامتناع من ذلك فاقتصر ابو الغازي أثناء ذلك متمسكا بطاعة السلطان محمد. فلمّا انهزم محمد وانطلق من حصار أصبهان واستولى بركيارق على الريّ بعث في منتصف ربيع الأوّل من سنة ست وتسعين من همذان كمستكين القيصراني شحنة إلى بغداد. فلما سمع أبو الغازي بعث إلى أخيه سقمان بحصن كيفا يستدعيه للدفاع. وجاءه سقمان ومرّ بتكريت فنهبها، ووصل كمستكين ولقيه شيعة بركيارق وأشاروا عليه بالمعاجلة، ووصل إلى بغداد منتصف ربيع. وخرج ابو الغازي وأخوه سقمان إلى دجيل ونهبا بعض قراها، واتبعهما طائفة من عسكر كمستكين. ثم رجعوا عنهما وخطب للسلطان بركيارق ببغداد وبعث كمستكين إلى سيف الدولة صدقة بالحلّة عنه وعن المستظهر بطاعة بركيارق فلم يجب، وكشف القناع وسار إلى جسر صرصر فقطعت الخطبة على منابر بغداد فلم يذكر أحد عليها من السلاطين. واقتصر على الخليفة فقط. وبعث سيف الدولة صدقة إلى أبي الغازي وسقمان بأنه جاء لنصرتهما فعادوا إلى دجيل وعاثوا في البلاد، واجتمع لذلك حشد العرب والأكراد مع سيف الدولة، وبعث إليه المستظهر في الإصلاح، وخيّموا جميعا بالرملة وقاتلهم العامّة وبعث الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغانيّ وتاج رؤساء الرئاسة ابن الموصلايا إلى سيف الدولة بكفّ الأيدي عن الفساد، فاشترطوا خروج كمستكين القيصراني شحنة بركيارق وإعادة الخطبة للسلطان محمد، فتم الأمر على ذلك، وعاد سيف الدولة إلى الحلّة وعاد القيصراني إلى واسط، وخطب بها لبركيارق فسار إليه صدقة وأبو الغازي، وفارقها القيصراني فاتّبعه سيف الدولة. ثم استأمن ورجع إليه فأكرمه وخطب للسلطان محمد بواسط، وبعده لسيف الدولة وأبي الغازي واستناب كل واحد ولده، ورجع ابو الغازي إلى بغداد وسيف الدولة إلى الحلّة، وبعث ولده منصورا إلى المستظهر يخطب رضاه بما كان منه في هذه الحادثة فأجيب إلى ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 استيلاء ينال على الريّ بدعوة السلطان محمد ومسيره إلى العراق كانت الخطبة بالريّ للسلطان بركيارق، فلما خرج السلطان محمد من الحصار بأصبهان، بعث ينال بن أنوش تكين الحسامي إلى الريّ ليقيم الخطبة له بها فسار ومعه أخوه عليّ، وعسف الرعايا. ثم بعث السلطان بركيارق إليه برسق بن برسق في العساكر فقاتله على الريّ، وانهزم ينال وأخوه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين، وذهب عليّ إلى قزوين وسلك ينال على الجبال إلى بغداد وتقطّع أصحابه في الأوعار وقتلوا، ووصل إلى بغداد في سبعمائة رجل، وأكرمه المستظهر واجتمع هو وأبو الغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة، فاستحلفوه على طاعة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة واستحلفوه على ذلك. واستقرّ ينال ببغداد في طاعة السلطان محمد، وتزوّج أخت أبي الغازي كانت تحت تاج الدولة تتش. وعسف بالناس وصادر العمّال واستطال أصحابه على العامّة بالضرب والقتل. وبعث إليه المستظهر مع القاضي الدامغانيّ بالنهي عن ذلك وتقبيح فعله، ثم مع إيلغازي فأجاب وحلف على كفّ أصحابه ومنعهم. واستمرّ على قبح السيرة فبعث المستظهر إلى سيف الدولة صداقة يستدعيه لكفّ عدوانه، فجاء إلى بغداد في شوّال من سنة ست وتسعين، وخيّم بالمنجمي ودعا ينالا للرحمة عن العراق على أن يدفع إليه. وعاد إلى الحلّة وسار ينال مستهل ذي القعدة إلى أوانا ففعل من النهب والعسف أقبح مما فعل ببغداد، فبعث المستظهر إلى صدقة في ذلك، فأرسل ألف فارس، وساروا إليه مع جماعة من أصحاب المستظهر وأبي الغازي الشحنة، وذهب ينال أمامهم إلى أذربيجان قاصدا إلى السلطان محمد ورجع أبو الغازي والعساكر عنه. المصاف الخامس بين السلطانين كانت كنجة وبلاد أرزن [1] للسلطان محمد وعسكره مقيم بها مع الأمير عز علي [2] فلما طال حصاره بأصبهان جاءوا لنصرته، ومعهم منصور بن نظام الملك ومحمد بن   [1] كنجة وبلاد ارّان: ابن الأثير ج 10 ص 359. [2] غزغلي: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 أخيه مؤيد الملك، ووصلوا إلى الريّ آخر ذي الحجّة سنة خمس وتسعين، وفارقه عسكر بركيارق. ثم خرج محمد من أصبهان فساروا إليه ولقوة بهمذان، ومعه ينال وعلي ابنا أنوش تكين فاجتمعوا في ستة آلاف فارس. وسار ينال وأخوه على الريّ وأزعجتهم عنها عساكر بركيارق كما مرّ. ثم جاءهم الخبر في همذان بزحف بركيارق إليهم، فسار محمد إلى بلاد شروان. ولما انتهى إلى أردبيل بعث إليه مودود بن إسماعيل ابن ياقوتي، وكان أميرا على بيلقان من أذربيجان، وكان أبوه إسماعيل خال بركيارق، وانتقض عليه أوّل أمره فقتله فكان مودود يطالبه بثأر أبيه، وكانت أخته تحت محمد فبعث إليه وجاءه الى بيلقان. وتوفي مودود اثر قدومه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين، فاجتمع عسكره على الطاعة لمحمد وفيهم سقمان القطبي [1] صاحب خلاط وأرمينية ومحمد بن غاغيسا، كان أبوه صاحب أنطاكية. وكان ألب أرسلان ابن السبع الأحمر. ولما بلغ بركيارق اجتماعهم لحربه أغذّ السير إليهم فوصل وقاتلهم على باب خوي من أذربيجان من المغرب إلى العشاء. ثم حمل أياز من أصحاب بركيارق على عسكر محمد فانهزموا، وسار إلى خلاط ومعه سقمان القطبي ولقيه الأمير عليّ صاحب أرزن الروم، ثم سار إلى [2] وبها منوجهر أخو فضلون الروادي. ثم سار إلى تبريز ولحق محمد بن مؤيد الملك بديار بكر، وسار منها إلى بغداد وكان من خبره أنه كان مقيما ببغداد مجاورا للمدرسة النظامية فشكا الجيران منه إلى أبيه، فكتب إلى كوهرابين بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة. ثم سار سنة اثنتين وتسعين إلى محمد الملك الباسلاني [3] وأبوه حينئذ بكنجة عند السلطان محمد قبل أن يدعو لنفسه. ثم سار بعد أن قتل محمد الملك إلى والده مؤيد الملك، وهو وزير السلطان محمد. ثم قتل أبوه واتصل هو بالسلطان، وحضر هذه الحروب كما ذكرنا. وأمّا السلطان بركيارق بعد هزيمة محمد فإنه نزل جبل بين مراغة وتبريز وأقام به حولا، وكان خليفة المستظهر سديد الملك أبو المعالي كما ذكرناه. ثم قبض عليه منتصف رجب سنة ست وتسعين وحبس بدار الخليفة مع أهله كانوا قد وردوا عليه من أصبهان. وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة لأنه كان يتصرّف   [1] سكمان القبطي: ابن الأثير ج 10 ص 361. [2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 361: «وتوجه الى آني، وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي.» [3] مجد الملك البلاساني: ابن الأثير ج 10 ص 361. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 في أعمال السلاطين، وليست فيها هذه القوانين. ولما قبض عاد أمين الدولة أبو سعد ابن الموصلايا إلى النظر في الديوان وبعث المستظهر عن زعيم الرؤساء أبي القاسم بن جهير من الحلّة، وكان ذهب إليها في السنة قبلها مستجيرا بسيف الدولة صدقة لأنّ خاله أمين الدولة أبا سعد بن الموصلايا كان الوزير الأعز وزير بركيارق يشيع عنه أنه الّذي يحمل المستظهر على موالاة السلطان محمد، والخطبة له دون بركيارق، فاعتزل أمين الدولة الديوان وسار ابن أخته هذا أبو القاسم بن جهير مستجيرا بصاحب الحلّة فاستقدمه الخليفة الآن. وخرج أرباب الدولة لاستقباله، وخلع عليه للوزارة ولقيه قوام الدولة، ثم عزله على رأس المائة الخامسة. واستجار سيف الدولة صدقة بن منصور ببغداد فأجاره وبعث عنه إلى الحلّة وذلك لثلاث سنين ونصف من وزارته، وناب في مكانه القاضي أبو الحسن بن الدامغانيّ أياما. ثم استوزر مكانه أبا المعالي بن محمد بن المطلب في المحرّم سنة إحدى وخمسمائة، ثم عزله سنة اثنتين بإشارة السلطان محمد، وأعاده بإذنه على شرطية العدل وحسن السيرة، وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمّة. ثم عزل في رجب من سنة اثنتين وخمسين، واستوزر أبا القاسم بن جهير سنة تسع وخمسين، واستوزر بعده الربيع أبا منصور بن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان. الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ولما تطاولت الفتنة بين السلطانين، وكثر النهب والهرج وخربت القرى، واستطال الأمر عليهم وكان السلطان بركيارق بالريّ والخطبة له بها وبالجبل وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين، وكان السلطان محمد بأذربيجان والخطبة له بها وببلاد أرّان وأرمينية وأصبهان والعراق جميعه إلّا تكريت. وأمّا البطائح فبعضها لهذا وبعضها لهذا، والخطبة بالبصرة لهما جميعا وأمّا خراسان من جرجان إلى ما وراء النهر، فكان يخطب فيها لسنجر بعد أخيه السلطان محمد. فلمّا استبصر بركيارق في ذلك، ورأى تحكّم الأمراء عليه، وقلّة المال، جنح إلى الصلح وبعث القاضي أبا المظفّر الجرجاني الحنفيّ وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفّار الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين إلى أخيه محمد في الصلح، فوصلا إليه بمراغة وذكراه ووعظاه فأجاب إلى الصلح على أنّ السلطان لبركيارق، ولا يمنع محمدا من اتخاذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 الآلة، ولا يذكر أحد منهما مع صاحبه في الخطبة في البلاد التي صارت إليه وتكون المكاتبة من وزيريهما في الشؤون لا يكاتب أحدهما الآخر، ولا يعارض أحد من العسكر في الذهاب إلى أيهما شاء، ويكون للسلطان محمد من نهر اسبيدروذ إلى الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام، وأن يدخل سيف الدولة صدقة بأعماله في خلفه وبلاده والسلطنة كلّها، وبقية الأعمال والبلاد كلها للسلطان بركيارق. وبعث محمد إلى أصحابه بأصبهان بالإفراج عنها لأصحاب أخيه، وجاءوا بحريم محمد إليه بعد أن دعاهم السلطان بركيارق إلى خدمته فامتنعوا فأكرمهم، وحمل حريم أخيه وزوّدهم بالأموال، وبعث العساكر في خدمتهم. ثم بعث السلطان بركيارق إلى المستظهر بما استقرّ عليه الحال في الصلح بينهم، وحضر أبو الغازي بالديوان وهو شحنة محمد وشيعته، إلا أنه وقف مع الصلح، فسأل الخطبة لبركيارق فأمر بها المستظهر، وخطب له على منابر بغداد وواسط في جمادى سنة سبع وتسعين، ونكر الأمير صدقة صاحب الحلّة الخطبة لبركيارق وكان شيعة لمحمد. وكتب إلى الخليفة بالنكير على أبي الغازي وأنه سائر لإخراجه عن بغداد، فجمع أبو الغازي التركمان، وفارق بغداد الى عقرقوبا [1] وجاء سيف الدولة صدقة ونزل مقابل التاج وقبّل الأرض وخيّم بالجانب الغربي. وأرسل إليه أبو الغازي يعتذر عن طاعة بركيارق بالصلح الواقع، وأنّ إقطاعه بحلوان في جملة بلاده التي وقع الصلح عليها وبغداد التي هو شحنه فيها قد صارت له فقبل ورضي، وعاد إلى الحلّة وبعث المستظهر في ذي القعدة من سنة سبع وتسعين الخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والخطير وزير بركيارق، وبعث معهما العهد له بالسلطنة واستحلفه الرسل على طاعة المستظهر ورجعوا. وفاة السلطان بركيارق وملك ابنه ملك شاه كان السلطان بركيارق بعد الصلح وانعقاده أقام بأصبهان أشهرا وطرقه المرض فسار إلى بغداد، فلمّا بلغ بلد يزدجرد اشتدّ مرضه وأقام بها أربعين يوما حتى أشفى على الموت، فأحضر ولده ملك شاه وجماعة الأمراء، وولّاه عهده في السلطنة، وهو ابن خمس سنين وجعل الأمير أياز أتابكه، وأوصاهم بالطاعة لهما واستحلفهم على ذلك، وأمرهم بالمسير إلى بغداد وتخلّف عنهم ليعود إلى أصبهان فتوفي في شهر ربيع   [1] يعقوبا: ابن الأثير ج 10 ص 372. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 الآخر سنة ثمان وتسعين. وبلغ الخبر إلى ابنه ملك شاه والأمير أياز على اثني عشر فرسخا من بلد يزدجرد [1] فرجعوا، وحضروا لتجهيزه وبعثوا به إلى أصبهان للدفن بها في تربة أعدّها، وأحضر أياز السرادقات والخيام والخفر والشمسة، وجميع آلات السلطنة فجعلها الملك شاه. وكان أبو الغازي شحنة ببغداد وقد حضر عند السلطان بركيارق بأصبهان في المحرّم وحثّه على المسير إلى بغداد، فلما مات بركيارق سار مع ابنه ملك شاه والأمير أياز ووصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر في خمسة آلاف فارس، وركب الوزير أبو القاسم عليّ بن جهير لتلقّيهم فلقيهم بديالى، وأحضر أبو الغازي والأمير طما يدل [2] بالديوان وطلبوا الخطبة لملك شاه بن بركيارق فأجاب المستظهر إلى ذلك وخطب له ولقّب بألقاب جدّه ملك شاه ونثرت الدنانير عند الخطبة. وصول السلطان محمد الى بغداد واستبداده بالسلطنة والخطبة ومقتل أياز كان محمد بعد صلحه مع أخيه بركيارق قد اعتزم على المسير الى الموصل ليتناولها من يد جكرمش لما كانت من البلاد التي عقد عليها وكان بتبريز ينتظر وصول أصحابه من أذربيجان، فلمّا وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره في حفظ أصبهان. ثم رحل في صفر سنة ثمان وتسعين يريد الموصل وسمع جكرمش فاستعدّ للحصار وأمر أهل السواد بدخول البلد. وجاء محمد فحاصره وبعث إليه كتب أخيه بأنّ الموصل والجزيرة من قسمته، وأراه إيمانه بذلك، ووعده بأن يقرّه على ولايتها فقال جكرمش: قد جاءتني كتب بركيارق بعد الصلح بخلاف هذا فاشتدّ محمد في حصاره، وقتل بين الفريقين خلق، ونقب السور ليلة فأصبحوا وأعادوه، ووصل الخبر إلى جكرمش بوفاة بركيارق عاشر جمادى فاستشار أصحابه ورأى المصلحة في طاعة السلطان محمد فأرسل إليه بالطاعة، وأن يدخل إليه وزيره بعد الملك فدخل، وأشار عليه بالحضور عند السلطان فحضر، وأقبل السلطان عليه وردّه لجيشه لما توقع من ارتياب أهل البلد بخروجه، وأكثر من الهدايا والتحف للسلطان ولوزيره. ولما بلغ وفاة أخيه بركيارق سار إلى بغداد ومعه سقمان القطبي نسبة إلى قطب الدولة   [1] بروجرد: ابن الأثير ج 10 ص 380 وقد مرّ ذكرها من قبل. [2] طغايرك: ابن الأثير ج 10 ص 382. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 إسماعيل بن ياقوتا بن داود، وداود هو حقربيك وأبو ألب أرسلان، وسار معه جكرمش وصاحب الموصل وغيرهما من الأمراء. وكان سيف الدولة صاحب الحلة قد جمع عسكرا خمسة عشر ألفا من الفرسان وعشرة آلاف رجل، وبعث ولديه بدران ودبيس إلى السلطان محمد يستحثّه على بغداد. ولمّا سمع الأمير أياز بقدومه، خرج هو وعسكره وخيّموا خارج بغداد واستشار أصحابه فصمّموا على الحرب، وأشار وزيره أبو المحاسن بطاعة السلطان محمد وخوّفه عاقبة خلافه وسفّه آراءهم في حربه، وأطمعه في زيادة الأقطاع، وتردّد أياز في أمره وجمع السفن عنده، وضبط المثار ووصل السلطان محمد آخر جمادى من سنة ثمان وتسعين، ونزل بالجانب الغربي وخطب له هنالك، ولملك شاه بالجانب الشرقي. واقتصر خطيب جامع المنصور على الدعاء للمستظهر ولسلطان العالم فقط. وجمع أياز أصحابه لليمين فأبوا من المعاودة وقالوا لا فائدة فيها والوفاء إنما يكون بواحدة فارتاب أياز بهم، وبعث وزيره المصفى أبا المحاسن إلى السلطان محمد في الصلح، وتسليم الأمر فلقي أوّلا وزيره سعد الملك أبا المحاسن سعد بن محمد وأخبر فأحضره عند السلطان محمد وأدى رسالة أياز والعذر عما كان منه أيام بركيارق فقبله السلطان وأعتبه، وأجابه إلى اليمين وحضر من الغد القاضي والنقيبان واستحلف الكيا الهرّاسي مدرس النظامية بمحضر القاضي وزير أياز بمحضرهم لملك شاه ولأياز وللأمراء الذين معه، فقال: أمّا ملك شاه فهو ابني وأمّا أياز والأمراء فأحلف لهم إلّا ينال بن أنوش، وسار واستحلفه الكيا الهرّاسي مدرّس النظامية بمحضر القاضي والنقيبين. ثم حضر أياز من الغد ووصل سيف الدولة صدقة وركب السلطان للقائهما وأحسن إليهما، وعمل أياز دعوة في داره وهي دار كوهرابين وحضر عنده السلطان وأتحفه بأشياء كثيرة منها حبل البلخش الّذي كان أخذه من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك. وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد. وكان أياز قد تقدّم إلى غلمانه يلبس السلاح ليعرضهم على السلطان، وحضر عندهم بعض الصفاعين فأخذوا معه في السخرية وألبسوه درعا تحت قميصه، وجعلوا يتناولونه بأيديهم فهرب منهم إلى خواص السلطان، ورآه السلطان متسلحا فأمر بعض غلمانه فالتمسوه وقد وجدوا السلاح فارتاب ونهض من دار أياز. ثم استدعاه بعد أيام ومعه جكرمش وسائر الأمراء فلما حضر وقف عليهم بعض قوّاده وقال لهم أن قليج أرسلان ابن سليمان بن قطلمش قصد ديار بكر ليملكها فأشيروا بمن نسيّر لقتاله، فأشاروا جميعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 بالأمير أياز، وطلب هو مسير سيف الدولة صدقة معه فاستدعى أياز وصدقة ليفاوضهم في ذلك فنهضوا إليه، وقد أعدّ جماعة من خواصه لقتل أياز فلما دخلوا ضرب أياز فقطع رأسه ولف شلوه في مشلح وألقي على الطريق. وركب عسكره فنهبوا داره وأرسل السلطان لحمايتها فافترقوا واختفى وزيره. ثم حمل إلى دار الوزير سعد الملك وقتل في رمضان من سنته. وكان من بيت رياسة بهمذان وكان أياز من مماليك السلطان ملك شاه، وصار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولدا، وكان شجاعا حسن الرأي في الحرب واستبدّ السلطان محمد بالسلطنة وأحسن السيرة، ورفع الضرائب، وكتب بها الألواح ونصبت في الأسواق وعظم فساد التركمان بطريق خراسان، وهي من أعمال العراق فبعث أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد بدل ابن أخيه بهرام بن أرتق على ذلك البلد فحماه وكفّ الفساد منه. وسار إلى حصن من أعمال سرخاب بن بدر فحصره وملكه. ثم ولّى السلطان محمد سنقر البرسقي شحنة بالعراق وكان معه في حروبه وأقطع الأمير قاياز الكوفة وأمر صدقة صاحب الحلّة أن يحمي أصحابه من خفاجة. ولما كان شهر رمضان من سنة ثمانية وتسعين عاد السلطان محمد إلى أصبهان وأحسن فيهم السيرة وكفّ عنهم الأيدي العادية. الشحنة ببغداد كان السلطان قد قبض سنة اثنتين وخمسين على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد صاحب المخزن، وعلي بن الفرج ابن رئيس الرؤساء واعتقلهما وصادرهما على مال يحملانه، وأرسل مجاهد الدين لقبض المال، وأمره بعمارة دار الملك فاضطلع بعمارتها، وأحسن السيرة في الناس وقدم السلطان أثر ذلك إلى بغداد فشكر سيرته، وولّاه شحنة بالعراق وعاد إلى أصبهان. وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة من سنة إحدى وخمسمائة، وقد كان عهد لولده محمود وهو يومئذ غلام محتلم، وأمره بالجلوس على التخت بالتاج والسوارين وذلك لاثنتي عشرة سنة ونصف من استبداده بالملك واجتماع الناس عليه بعد أخيه. وولي بعده ابنه محمود وبايعه أمراء السلجوقية، ودبّر دولته الوزير الرسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير أبيه، وبعث إلى المستظهر في الخطبة فخطب له على منابر بغداد منتصف المحرّم سنة اثنتي عشرة، وكان آق سنقر البرسقي مقيما بالرحبة استخلف بها ابنه مسعودا، وسار إلى السلطان محمد يطلب الزيادة في الأقطاع والولاية ولقيه خبر وفاته قريبا من بغداد فمنعه بهروز الشحنة من دخولها، وسار إلى أصبهان فلقيه بحلوان توقيع السلطان محمود بأن يكون شحنة بغداد لسعي الأمراء له في ذلك تعصبا على مجاهد الدين بهروز وغيره منه لمكانه عند السلطان محمد. ولما رجع آق سنقر إلى بغداد هرب مجاهد الدين بهروز إلى تكريت وكانت من أعماله. ثم عزل السلطان محمود آق سنقر وولّى شحنة بغداد الأمير منكبرس حاكما في دولته بأصبهان، فبعث نائبا عنه ببغداد والعراق الأمير حسين بن أروبك أحد أمراء الأتراك. ورغب البرسقي من المستظهر بالعدة فلم يتوقّف فسار آق سنقر إليه وقاتله، وانهزم الأمير حسين وقتل أخوه وعاد إلى عسكر السلطان وذلك في ربيع الأوّل من سنة اثنتي عشرة. وفاة المستظهر وخلافة المسترشد ثم توفي المستظهر باللَّه أبو العبّاس أحمد بن المقتدي باللَّه أبو القاسم عبد الله بن القائم باللَّه في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة لأربع وعشرين سنة وثلاثة أشهر من خلافته، وبويع بعده ابنه المسترشد باللَّه الفضل، وكان ولي عهده منذ ثلاث وعشرين سنة وبايعه أخوه عبد الله محمد وهو المقتدي، وأبو طالب العبّاس وعمومته بنو المقتدي وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان. وتولى أخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغانيّ، وكان نائبا عن الوزارة فأقرّه المسترشد عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا للمسترشد، وأحمد بن أبي داود [1] للواثق والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق للمعتضد. ثم عزل المسترشد قاضي القضاة عن نيابة الوزارة واستوزر أبا شجاع محمد بن الرسب أبي منصور، خاطبه أبوه وزير السلطان محمود وابنه محمد في شأنه فاستوزره، ثم عزله سنة عشر واستوزر مكانه جلال الدين عميد الدولة أبا علي بن صدقة، وهو عمّ جلال الدين أبي الرضى بن صدقة وزير الراشد.   [1] احمد بن أبي دؤاد: وهو اياد، وكان ذو نفوذ وجاه في دولتي المعتصم والواثق (البيان والتبيين للجاحظ ج 2 ص 190) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 ولما شغل الناس ببيعة المسترشد ركب أخوه الأمير أبو الحسن في السفن مع ثلاثة نفر وانحدر إلى المدائن، ومنها إلى الحلّة فأكرمه دبيس، وأهمّ ذلك المسترشد وبعث إلى دبيس في إعادته مع النقيب علي بن طراد الرثيني فاعتذر بالذمام، وأنه لا يكرهه فخطب النقيب أبا الحسن أخا الخليفة في الرجوع فاعتذر بالخوف، وطلب الأمان. ثم حدث من البرسقي ودبيس ما نذكره فتأخر ذلك إلى صفر من سنته وهي سنة ثلاث عشرة، فسار أبو الحسن بن المستظهر إلى واسط وملكها، فبادر المسترشد إلى ولاية العهد لابنه جعفر المنصور ابن اثنتي عشر سنة، فخطب له وكتب إلى البلاد بذلك، وكتب إلى دبيس بمعاجلة أخيه أبي الحسن فإنه فارق ذمامه فبعث دبيس العساكر إلى واسط فهرب منها، وصادفوه عند الصبح فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد والأتراك عنه، وقبض عليه بعض الفرق وجاءوا به إلى دبيس فأكرمه المسترشد وأمّنه وأنزله أحسن نزل. انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود ثم مصالحته واستقرار جكرمش شحنة ببغداد كان السلطان محمد قد أنزل ابنه مسعودا بالحلّة وجعل معه حيوس بك أتابك، فلما ملك السلطان محمود بعده وفاة أبيه، ثم ولي المسترشد الخلافة بعد أبيه، وكان دبيس صاحب الحلة ممرضا في طاعته، وكان آق سنقر البرسقي شحنة بالعراق كما ذكرناه، أراد قصد الحلّة وأخلى دبيس عنها، وجمع لذلك جموعا من العرب والأكراد، وبرز من بغداد في جمادى سنة اثنتي عشرة، وبلغ الخبر إلى الملك مسعود بالموصل وأنّ العراق خال من الحامية، فأشار عليه أصحابه بقصد العراق للسلطنة فلا مانع دونها. فسار في جيوش كثيرة ومعه وزيره فخر الملك أبو علي بن عمّار صاحب طرابلس، وسيأتي خبره، وقسيم الدولة زنكي بن آق سنقر ابن الملك العادل، وصاحب سنجار، وأبو الهيجاء صاحب اربل، وكربادي بن خراسان التركماني صاحب البواريج. ولما قربوا من العراق خافهم آق سنقر البرسقي بمكان حيوس بك من الملك المسعود، وأمّا هو فقد كان أبوه محمد جعله أتابك لابنه مسعود فسار البرسقي لقتالهم، وبعثوا إليه الأمير كربادي في الصلح، وأنهم إنما جاءوا بحدّة له على دبيس فقبل، وتعاهدوا ورجعوا إلى بغداد كما مرّ خبره، وسار البرسقي لقتاله فاجتمع مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 دبيس بن صدقة واتفقا على المعاضدة، وسار الملك مسعود ومن معه إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس. ثم بلغهم كثرة جموعهما فعاد الملك مسعود والبرسقي وحيوس بك، وعبروا نهر صرصر وحفظ المخاضات وأفحش الطائفتان في نهب السواد واستباحته بنهر الملك ونهر صرصر ونهر عيسى ودجيل. وبعث المسترشد إلى الملك مسعود والبرسقي بالنكير عليهم فأنكر البرسقي وقوع شيء من ذلك، واعتزم على العود إلى بغداد، وبلغه أنّ دبيس ومنكبرس قد جهّز العساكر إليها مع منصور أخي دبيس وحسن بن أو ربك ربيب منكبرس فأغذّ السير وخلّف ابنه عز الدين مسعودا على العسكر بصرصر، واستصحب عماد الدين زنكي بن آق سنقر. وجاءوا بغداد ليلا فمنعوا عساكر منكبرس ودبيس من العبور. ثم انعقد الصلح بين منكبرس والملك مسعود وكان سببه أنّ حيوس بك كاتب السلطان محمود وهو بالموصل في طلب الزيادة له وللملك مسعود، فجاء كتاب الرسول بأنه أقطعهم أذربيجان. ثم بلغه قصدهم بغداد فاتهمهم بالانتقاض وجهّز العساكر إلى الموصل وسقط الكتاب بيد منكبرس، وكان على أم الملك مسعود فبعث به إلى حيوس بك وداخله في الصلح والرجوع عمّا هم فيه فاصطلحوا واتفقوا. وبلغ الخبر إلى البرسقي فجاء إلى الملك مسعود وأخذ ماله وتركه، وعاد إلى بغداد فخيّم بجانب منها، وجاء الملك مسعود وحيوس بك فخيّما في جانب آخر، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيّما كذلك، وتفرّق على البرسقي أصحابه وجموعه وسار عن العراق إلى الملك مسعود فأقام معه، واستقرّ منكبرس شحنة ببغداد وعاد دبيس إلى الحلة، وأساء منكبرس السيرة في بغداد بالظلم والعسف، وانطلاق أيدي أصحابه بالفساد حتى ضجر الناس، وبعث عنه السلطان محمود فسار إليه وكفى الناس شرّه. انتقاض الملك طغرل على أخيه السلطان محمود كان الملك طغرل قد أقطعه أبوه السلطان محمد سنة أربع وخمسين وخمسمائة ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شركير، وكان قد افتتح كثيرا من قلاع الإسماعيلية فاتسع ملك طغرل بها، ولما مات السلطان محمد بعث السلطان محمود الأمير كتبغري أتابك طغرل، وأمره أن يحمله إليه، وحسن له المخالفة فانتقض سنة ثلاث عشرة، فبعث إليه السلطان بثلاثين ألف دينار وتحف وودّعه بإقطاع كثيرة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 وطلبه في الوصول فمنعه كتبغري وأجاب بأننا في الطاعة، ومعنا العساكر وإلى أيّ جهة أراد السلطان قصدنا. فاعتزم السلطان على السير إليهم وسار من همذان في جمادى سنة ثلاث عشرة في عشرة آلاف غازيا وجاء النذير إلى كتبغري بمسيره، فأجفل هو وطغرل إلى قلعة سرجهان، وجاء السلطان إلى العسكر بزنجان فنهبه وأخذ من خزانة طغرل ثلاثمائة ألف دينار، وأقام بزنجان وتوجّه منها إلى الريّ وكتبغري من سرجهان بكنجة، وقصده أصحابه وقويت شوكته وتأكدت الوحشة بينه وبين أخيه السلطان محمود. الفتنة بين السلطان محمود وعمه سنجر صاحب خراسان والخطبة ببغداد لسنجر كان الملك سنجر أميرا على خراسان وما وراء النهر منذ أيام شقيقة السلطان محمد الأولى مع بركيارق. ولما توفي السلطان محمد جزع له جزعا شديدا حتى أغلق البلد للعزاء، وتقدّم للخطبة بذكر آثاره ومحاسن سيره من قتال الباطنية وإطلاق المكوس وغير ذلك. وبلغه ملك ابنه محمود مكانه وتغلب الأمراء عليه، فنكر ذلك واعتزم على قصد بلد الجبل والعراق، وأتى له محمود ابن أخيه، وكان يلقّب بناصر الدين فتلقّب بمعز الدين لقب أبيه ملك شاه. وبعث إليه السلطان محمود بالهدايا والتحف مع شرف الدولة أنوشروان بن خالد، وفخر الدولة طغايرك بن أكفر بن وبذل عن مازندران مائتي ألف دينار كل سنة فتجهّز لذلك، ونكر على محمود تغلّب وزيره أبي منصور وأمير حاجب عليّ بن عمر عليه، وسار وعلى مقدّمته الأمير أنز، وجهّز السلطان محمود عليّ بن عمر حاجبه وحاجب أبيه في عشرة آلاف فارس، وأقام هو بالري. فلما قارب الحاجب مقدّمة سنجر مع الأمير أنز بجرجان راسله باللين والخشونة، وأنّ السلطان محمد أوصانا بتعظيم أخيه سنجر واستحلفنا على ذلك إلا أنّا لا نقضي على زوال ملكنا. ثم تهدّده بكثرة العساكر وقوّتها فرجع أنز عن جرجان، واتبعه بعض العساكر فنالوا منه. وعاد عليّ بن عمر إلى السلطان محمود فشكره، وأشار عليه أصحابه بالمقام بالريّ فلم يقبل. ثم ضجر وسار إلى حرقان [1] وتوافت إليه الأمداد من العراق، منكبرس شحنة بغداد في عشرة آلاف فارس، ومنصور أخو دبيس وأمراء   [1] جرجان: ابن الأثير ج 10 ص 551. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 البلخية [1] وغيرهم. وسار إلى همذان فأقام بها وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر مكانه أبا طالب السميري [2] . ثم جاء السلطان سنجر إلى الريّ في عشرين ألفا وثمانية عشر فيلا ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد، والأمير أنز والأمير قماج، واتصل به علاء الدولة كرساسفا بن قرامرد بن كاكويه [3] صاحب يزد وكان صهر محمد وسنجر على أختهما. واختص بمحمد ودعاه محمود فتأخر عنه فأقطع بلده لقراجا الساقي الّذي ولي بعد ذلك فارس. وسار علاء الدولة إلى سنجر وعرفه حال السلطان محمود واختلاف أصحابه، وفساد بلاده فزحف إليه السلطان محمود من همذان في ثلاثين ألفا، ومعه علي بن عمر أمير حاجب ومنكبرس وأتابكه غزغلي وبنو برسق وسنجق البخاري [4] وقراجا الساقي ومعه تسعمائة حمل من السلاح والتقيا على ساوة في جمادى سنة ثلاث عشرة فانهزمت عساكر السلطان سنجر أولا وثبت هو بين الفيلة والسلطان محمود، واجتمع أصحابه إليه وبلغ الخبر إلى بغداد فأرسل دبيس بن صدقة إلى المسترشد في الخطبة للسلطان سنجر فخطب له آخر جمادى، وقطعت خطبة محمود بعد الهزيمة إلى أصبهان ومعه وزيره أبو طالب السميري والأمير علي بن عمر وقراجا، واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره. وسار السلطان سنجر من همذان ورأى قلّة عساكره فراسل ابن أخيه في الصلح، وكانت والدته وهي جدّة محمود تحرّضه على ذلك فأجاب إليه. ثم وصل إليه آق سنقر البرسقي الّذي كان شحنة ببغداد، وكان عند الملك مسعود من يوم انصرافه عنها، وجاء رسوله من عند السلطان محمود بأنّ الصلح إنما يوافق عليه الأمراء بعد عود السلطان سنجر إلى خراسان، فأنف من ذلك وسار من همذان الى الكرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح وأن يكون وليّ عهده فأجاب إلى ذلك، وتحالفا عليه وجاء السلطان محمود إلى عمّه سنجر ونزل في بيت والدته وهي جدّة محمود، وحمل إليه هدية حفلة. وكتب السلطان سنجر إلى أعماله بخراسان وغزنة وما وراء النهر وغيرها من الولايات بأن يخطب للسلطان محمود، وكتب إلى بغداد بمثل ذلك،   [1] البكجية: ابن الأثير ج 10 ص 551. [2] السميرمي: المرجع السابق. [3] علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه: ابن الأثير ج 10 ص 551. [4] سنقر البخاري: ابن الأثير ج 10 ص 552. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 وأعاد عليه جميع البلاد سوى الريّ لئلا تحدّث محمودا نفسه بالانتقاض. ثم قتل السلطان محمود الأمير منكبرس شحنة بغداد لأنه لما انهزم محمود وسار إلى بغداد ليدخلها منعه دبيس فعاد في البلاد، ورجع وقد استقرّ في الصلح فقصد السلطان مستجيرا به فأبى من إجارته ومؤاخذته، وبعثه إلى السلطان محمود فقتله صبرا لما كان يستبد عليه بالأمور. وسار شحنة إلى بغداد على زعمه فحقد له ذلك، وأمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز شحنة بالعراق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة فعزل به. ثم قتل السلطان محمود حاجبه علي بن عمر وكان قد استخلفه ورفع منزلته فكثرت السعاية فيه فهرب إلى قلعة عند الكرج، كان بها أهله وماله. ثم لحق بخوزستان وكان بيد بني برسق فاقتضى عهودهم وسار إليهم. فلما كان على تستر بعثوا من يقبض عليه فقاتلهم فلم يقرّ عنه وأسروه واستأذنوا السلطان محمودا في أمره فأمر بقتله وحمل رأسه إليه. انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود والفتنة بينهما كان الملك مسعود قد استقرّ بالموصل وأذربيجان منذ صالحه السلطان محمود عليها بأوّل ملكه، وكان آق سنقر البرسقي مع الملك مسعود منذ فارق شحنة بغداد، وأقطعه مراغة مضافة إلى الرحبة وكان دبيس يكاتب حيوس بك [1] الأتابك في القبض عليه وبعثه الى مولاه السلطان محمود، ويبذل لهم المال على ذلك. وشعر البرسقي ففارقه إلى السلطان محمود، وعاد إلى جميل رأيه فيه. وكان دبيس مع ذلك يغري الأتابك حيوس بك بالخلاف على السلطان محمود، ويعدهم من نفسه المناصرة لينال باختلافهم في تمهيد سلطانه ما ناله أبوه باختلاف بركيارق ومحمد. وكان أبو المؤيد محمد بن أبي إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني يكتب للملك محمود، ويرسم الطغري وهي العلامة على مراسيمه، ومنها هباته. وجاء والده أبو إسماعيل من أصبهان فعزل الملك مسعود وزيره أبا علي بن عمار صاحب طرابلس، واستوزره مكانه سنة ثلاث عشرة فحسن له الخلاف الّذي كان دبيس يكاتبهم فيه ويحسّنه لهم. وبلغ السلطان محمودا   [1] جيوش بك: ابن الأثير ج 10 ص 562. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 خبرهم فكتب يحذّرهم فلم يقبلوا وخلعوا، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النوب الخمس، وذلك سنة أربع عشرة. وكانت عساكر السلطان محمود مفترقة فبادروا إليه والتقوا في عقبة أستراباذ منتصف ربيع الأوّل. والبرسقي في مقدمة محمود، وأبلى يومئذ، واقتتلوا يوما كاملا وانهزمت عساكر مسعود في عشيته وأسر جماعة منهم، وفيهم الوزير الأستاذ أبو إسماعيل الطّغرائي، فأمر السلطان بقتله لسنة من وزارته، وقال هو فاسد العقيدة، وكان حسن الكتابة والشعر وله تصانيف في الكيمياء. وقصد الملك مسعود بعد الهزيمة جبلا على اثني عشر فرسخا من مكان الوقعة فاختفى فيه، وبعث يطلب الأمان من أخيه فبعث إليه البرسقي يؤمّنه ويحضره. وكان بعض الأمراء قد لحق به في الجبل وأشار عليه باللحاق بالموصل، واستمدّ دبيسا فسار لذلك وأدركه البرسقي على ثلاثين فرسخا من مكانه وأمّنه عن أخيه، وأعاده إليه فأريب العساكر للقائه وبالغ في إكرامه وخلطه بنفسه. وأمّا أتابكه حيوس بك فلما افتقد السلطان مسعود سار إلى الموصل وجمع العساكر، وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب. ثم جاء السلطان بهمذان فأمّنه وأحسن إليه. وأمّا دبيس فلما بلغه خبر الهزيمة عاث في البلاد وأخربها وبعث إليه المسترشد بالنكير فلم يقبل، فكتب بشأنه إلى السلطان محمود وخاطبه السلطان في ذلك فلم يقبل، وسار إلى بغداد وخيّم إزاء المسترشد وأظهر أنه يثأر منهم بأبيه. ثم عاد عن بغداد ووصل السلطان في رجب، فبعث دبيس إليه زوجته بنت عميد الدولة بن جهير بمال وهدايا نفيسة وأجيب إلى الصلح على شروط امتنع منها فسار إليه السلطان في شوّال ومعه ألف سفينة. ثم استأمن إلى السلطان فأمّنه وأرسل نساءه إلى البطيحة. وسار إلى أبي الغازي مستجيرا به، ودخل السلطان الحلّة وعاد عنها ولم يزل دبيس عند أبي الغازي. وبعث أخاه منصورا إلى أصحابه من أمراء النواحي ليصلح حاله مع السلطان فلم يتمّ ذلك. وبعث إليه أخوه منصور يستدعيه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى الحلّة سنة خمس عشرة وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان بالاعتذار والوعد بالطاعة، فلم يقبل منه، وسارت إليه العساكر مع سعد الدولة بن تتش ففارق الحلّة ودخلها سعد وأنزل بالحلّة عسكرا وبالكوفة آخر. ثم راجع دبيس الطاعة على أن يرسل أخاه منصورا رهينة فقبل، ورجع العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 اقطاع الموصل للبرسقي وميافارقين لابي الغازي ثم أقطع السلطان محمود الموصل وأعمالها، والجزيرة وسنجار وما يضاف إلى ذلك للأمير آق سنقر البرسقي شحنة بغداد، وذلك أنه كان ملازما للسلطان في حروبه ناصحا له وهو الّذي حمل السلطان مسعودا على طاعة أخيه محمود وأحضره عنده، فلما حضر حيوس بك وزيره عند السلطان محمود من الموصل بقيت بدون أمير، فولّى عليها البرسقي سنة خمس عشرة وخمسمائة، وأمره بمجاهدة الفرنج فأقام في إمارتها دهرا هو وبنوه كما يأتي في أخبارهم. ثم بعث الأمير أبو الغازي بن أرتق ابنه حسام الدين تمرتاش شافعا في دبيس بن صدقة، وأن يضمن الحلّة بألف دينار وفرس في كل يوم، ولم يتمّ ذلك. فلمّا انصرف عن السلطان أقطع أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين وتسلّمها من يد سقمان صاحب خلاط سنة خمس عشرة، وبقيت في يده ويد بنيه إلى أن ملكها منهم صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة كما يذكر في أخبارهم. طاعة طغرل لأخيه السلطان محمود قد تقدّم ذكر انتقاض الملك طغرل بساوة وزنجان على أخيه السلطان محمود بمداخلة أتابكه كتبغري [1] ، وأنّ السلطان محمود المشار إليه أزعجه إلى كنجة، وسار إلى أذربيجان يحاول ملكها. ثم توفي أتابكه كتبغري في شوّال سنة خمس عشرة، وكان آق سنقر الأحمديلي صاحب مراغة فطمع في رتبة كتبغري، وسار إلى طغرل واستدعاه إلى مراغة وقصدوا أردبيل فامتنعت عليهم، فجاءوا إلى تبريز، وبلغهم أنّ السلطان أقطع أذربيجان لحيوس بك، وبعثه في العساكر وأنه سبقهم إلى مراغة فعدلوا عنها وكافئوا صاحب زنجان فأجابهم وسار معهم إلى أبهر، فلم يتمّ لهم مرادهم، وراسلوا السلطان في الطاعة واستقرّ حالهم، وأمّا حيوس بك فوقعت بينه وبين الأمراء من عسكره منافرة، فسعوا به عند السلطان فقتله بتبريز في رمضان من سنته، وكان تركيا من مماليك السلطان محمد، وكان حسن السيرة مضطلعا بالولاية. ولمّا ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد قد عاثوا في نواحيها، وأخافوا سبلها فأوقع بهم وحصر قلاعهم، وفتح الكثير منها ببلد الهكّاريّة وبلد الزوزان وبلد النسوية [2] وبلد النحسة، حتى خاف الأكراد واطمأن الناس وأمنت السبل.   [1] كنتغدي: ابن الأثير ج 10 ص 597. [2] البشنوية: ابن الأثير: ج 10 ص 604. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 أخبار دبيس مع المسترشد قد ذكرنا مسير العساكر إلى دبيس مع برسق الكركوي [1] سنة أربع عشرة وكيف وقع الاتفاق وبعث دبيس أخاه منصورا رهينة فجاء برتقش به بغداد سنة ست عشرة، ولم يرض المسترشد ذلك، وكتب إلى السلطان محمود بأنّ دبيس لا يصلحه شيء لأنه مطالب بثأر أبيه، وأشار بأن يبعث عن البرسقي من الموصل لتشديد دبيس ويكون شحنة ببغداد فبعث اليه السلطان وأنزله شحنة ببغداد، وأمره بقتال دبيس، فأقام عشرين شهرا ودبيس معمل في الخلافة. ثم أمره المسترشد بالمسير إليه وإخراجه من الحلّة، فاستقدم البرسقي عساكره من الموصل، وسار إلى الحلّة، ولقيه دبيس فهزم عساكره ورجع إلى بغداد في ربيع من سنة ست عشرة، وكان معه في العسكر مضر [2] بن النفيس بن مهذّب الدولة أحمد بن أبي الخير عامل البطيحة، فغدا عليه عمّه المظفّر بن عماد بن أبي الخير فقتله في انهزامهم. وسار إلى البطيحة فتغلّب عليها، وكاتب دبيس في الطاعة، وأرسل دبيس إلى المسترشد بطاعته، وأن يبعث عمّاله لقرى الخاص يقبضون دخلها على أن يقبض المسترشد على وزيره جلال الدين أبي عليّ بن صدقة فتمّ بينهما ذلك، وقبض المسترشد على وزيره، وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضى إلى الموصل، وبلغ الخبر بالهزيمة إلى السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس وحبسه، وأذن دبيس لأصحاب الإقطاع بواسط في المسير إلى إقطاعهم، فمنعهم الأتراك بها، فجهّز إليهم عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر وامر مظفر بن أبي الخير عامل البطيحة بمساعدته وبعث البرسقي المدد إلى أهل واسط فلقيهم مهلهل بن أبي المظفّر فهزموه وأسروه وجماعة من عسكره واستلحموا كثيرا منهم. وجاء المظفّر أبو الخير على أثره، وأكثر النهب والعيث، وبلغه خبر الهزيمة فرجع وبعث أهل واسط بتذكرة وجدوها مع مهلهل بخطّ دبيس فأمره بالقبض على المظفّر فمال إليهم وانحرف عن دبيس، ثم بلغ دبيس أنّ السلطان محمودا سمل أخاه منصورا، فانتقض ونهب ما كان للخليفة بأعماله، وسار أهل واسط الى   [1] يرنقش الزكوي: ابن الأثير ج 10 ص 598. [2] نصر بن النفيس: ابن الأثير ج 10 ص 599. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 النعمانيّة فأجلوا عنها أصحاب دبيس. وتقدّم المسترشد إلى البرسقي بالمسير لحرب دبيس فسار لذلك كما نذكر. ثم أقطع السلطان محمود مدينة واسط للبرسقي مضافة إلى ولاية الموصل فبعث عماد الدين زنكي بن آق سنقر ولد نور الدين العادل. نكبة الوزير ابن صدقة وولاية نظام الملك قد ذكرنا آنفا أنّ دبيس اشترط على المسترشد في صلحه معه القبض على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة، فقبض عليه في جمادى سنة ست عشرة، وأقام في نيابة الوزارة شرف الدين عليّ بن طراد الزينبيّ. وهرب جلال الدين أبو الرضي ابن أخي الوزير إلى الموصل. وبعث السلطان محمود إلى المسترشد في أن يستوزر نظام الدولة أبا نصر أحمد بن نظام الملك، وكان السلطان محمود قد استوزر أخاه شمس الملك عثمان عند ما قلّ الباطنية بهمذان [1] وزيره الكمال أبا طالب السميري فقبل المسترشد إشارته، واستوزر نظام الملك، وقد كان وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة، ثم عزل ولزم داره ببغداد. فلما وزر وعلم ابن صدقة أنه يخرجه طلب من المسترشد أن يسير إلى سليمان بن مهارش بحديثة غانة، فأذن له، فسار ونهب في طريقه وأسر، ثم خلص إلى مأمنه في واقعة عجيبة. ثم قتل السلطان محمود وزيره شمس الملك فعزل المسترشد أخاه نظام الدين أحمد عن وزارته، وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى مكانه. واقعة المسترشد مع دبيس كان دبيس في واقعته مع البرسقي قد أسر عفيفا الخادم، ثم أطلقه سنة سبع عشرة، وحمله إلى المسترشد رسالة بخروج البرسقي للقتال يتهدده بذلك على ما بلغه من سمل أخيه، وحلف لينهبنّ بغداد، فاستطار المسترشد غضبا وأمر البرسقي بالمسير لحربه، فسار في رمضان من سنته. ثم تجهّز للخليفة وبرز من بغداد واستدعى العساكر فجاءه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في بني عقيل، وقرواش بن مسلم وغيرهما. ونهب   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 602: «فأرسل السلطان إلى المسترشد باللَّه في معنى وزارة نظام الملك، وكان أخا شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود، فأجيب الى ذلك واستوزر في شعبان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 دبيس نهر الملك من خاص الخليفة ونودي في بغداد بالنفير فلم يتخلّف أحد، وفرّقت فيهم الأموال والسلاح وعسكر المسترشد خارج بغداد في عشر ذي الحجة، وبرز لأربع بعدها وعبر دجلة وعليه قباء أسود وعمامة سوداء، وعلى كتفه البردة وفي يده القضيب وفي وسطه منقطة حديد صيني، ووزيره معه نظام الدين ونقيب الطالبيّين ونقيب النقباء علي بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم. فنزل بخيمة، وبلغ البرسقي خروجه فعاد بعسكره إليه. ونزل المسترشد بالحديثة بنهر الملك واستحلف البرسقي والأمراء على المناصحة، وسار فنزل المباركة، وعبّى البرسقي أصحابه للحرب ووقف المسترشد وراء العسكر في خاصته، وعبّى دبيس أصحابه صفّا واحدا وبين يديهم الإماء تعزف وأصحاب الملاهي، وعسكر الخليفة تتجاذب القراءة والتسبيح مع جنباته، ومع أعلامه كرباوي بن خراسان وفي الساقة سليمان بن مهارش وفي ميمنة البرسقي أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البلخية، فحمل عنتر بن أبي العسكر من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي فدحرجها وقتل ابن أخي أبي بكر. ثم حمل ثانية كذلك فحمل عماد الدين زنكي بن آق سنقر في عسكر واسط على عنتر بن أبي العسكر فأسره ومن معه. وكان من عسكر المسترشد كمين متوار، فلما التحم الناس خرج الكمين واشتدّ الحرب وجرّد المسترشد سيفه وكبّر وتقدّم فانهزمت عساكر دبيس، وجيء بالأسرى فقتلوا بين يدي الخليفة وسبي نساؤهم، ورجع الخليفة إلى بغداد في عاشوراء من سنة سبع عشرة. وذهب دبيس وخفي أثره قصد غزية من العرب فأبوا من ذلك إيثارا لرضا المسترشد والسلطان، فسار إلى المشقر من البحرين فأجابوه وسار بهم إلى البصرة فنهبوها وقتلوا أميرها، وتقدّم المسترشد للبرسقي بالانحدار إليه بعد أن عنّفه على غفلته عنه، وسمع دبيس ففارق البصرة، وبعث البرسقي عليها زنكي بن آق سنقر فأحسن حمايتها وطرد العرب عن نواحيها، ولحق دبيس بالفرنج في جعبر وحاصر معهم حلب فلم يظفروا وأقلعوا عنها سنة ثمان عشرة، فلحق دبيس بطغرل ابن السلطان محمد وأغراه بالمسترشد وبملك العراق كما نذكر. ولاية برتقش شحنة بغداد ثم إنّ المسترشد وقعت بينه وبين البرسقي منافرة فكتب إلى السلطان محمود في عزله عن العراق، وإبعاده إلى الموصل فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى البرسقي بالمسير إلى الموصل لجهاد الإفرنج، وبعث إليه بابن صغير من أولاده يكون معه وولّى على شحنة بغداد برتقش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 الزكوي، وجاء نائبة إلى بغداد فسلّم إليه البرسقي العمل وسار إلى الموصل بابن السلطان، وبعث إلى عماد الدين زنكي أن يلحق به فسار إلى السلطان، وقدم عليه بالموصل فأكرمه وأقطعه البصرة وأعاده إليها. وصول الملك طغرل ودبيس إلى العراق قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة من الشام إلى الملك طغرل فأحسن إليه ورتبه في خاص أمرائه، وجعل دبيس يغريه بالعراق ويضمن له ملكه، فسار لذلك سنة تسع عشرة، ووصلوا دقوقا، فكتب مجاهد الدين مهروز من تكريت إلى المسترشد بخبرهما، فتجهّز إلى دفاعهما وسار إليهما. وأمر برتقش الزكوي الشحنة أن يستنفر ويستبعد فبلغت عدّة العسكر اثني عشر ألفا سوى أهل بغداد، وبرز خامس صفر سنة تسع عشرة، وسار فنزل الخالص، وعدل طغرل إلى طريق خراسان، وأكثرت عساكره النهب، ونزل رباط جلولاء وسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في العساكر، فنزل الدسكرة وجاء المسترشد فنزل معه، وتوجّه طغرل ودبيس فنزلا الهارونية، واتفقا أن يقطعا جسر النهروان فيقيم دبيس على المعابر، ويخالفهم طغرل إلى بغداد، ثم عاقتهم جميعا عوائق المطر وأصابت طغرل الحمّى، وجاء دبيس إلى النهروان ليعبر وقد لحقهم الجوع، فصادف أحمالا من البرّ، والأطعمة جاءت من بغداد للمسترشد فنهبها، وأرجف في معسكر المسترشد أنّ دبيس ملك بغداد فأجفلوا من الدسكرة إلى النهروان وتركوا أثقالهم. ولما حلوا بالنهروان وجدوا دبيس وأصحابه نياما فاستيقظ وقبل الأرض بين يدي المسترشد وتذلّل [1] فهمّ بصلحه ووصل الوزير ابن صدقة فثناه عن ذلك ثم مدّ المسترشد الجسر وعبر ودخل بغداد لفتنة خمسة وعشرين يوما [2] . وسار دبيس إلى طغرل ثم اعتزموا على المسير إلى السلطان سنجر، ومرّوا بهمذان فعاثوا في أعمالها وصادروا، واتبعهم السلطان فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر شاكين من المسترشد والشحنة برتقش.   [1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 10 ص 627: «ووصلت رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام، وتقدم الخليفة وأشرف على ديالى ودبيس نازل غرب النهروان، والجسر ممدود شرقي النهروان فلما أبصر دبيس شمسة الخليفة قبّل الأرض بين يدي الخليفة وقال: انا العبد المطرود، فليعف أمير المؤمنين عن عبده.» [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 628: «وسيّر الخليفة عسكرا مع الوزير في أثره، وعاد إلى بغداد فدخلها، وكانت غيبته خمسة وعشرون يوما.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 الفتنة بين المسترشد والسلطان محمود ثم وقعت بين برتقش الزكوي وبين نواب المسترشد نبوة فبعث إليه المسترشد يتهدّده فخافه على نفسه، وسار إلى السلطان محمود في رجب سنة عشرين فحذر منه، وأنه ثاور العساكر ولقي الحروب وقوت نفسه، وأشار بمعاجلته قبل أن يستفحل أمره، ويمتنع عليه فسار السلطان نحو العراق، فبعث إليه المسترشد بالرجوع عن البلاد لما فيها من الغلاء من فتنة دبيس، وبذل له المال، وأن يسير إلى العراق مرّة أخرى، فارتاب السلطان وصدّق ما ظنّه برتقش وأغذّ السير فعبر المسترشد إلى الجانب الغربي مغضبا يظهر الرحيل عن بغداد إذ قصدها السلطان. وصانعه السلطان بالاستعطاف وسؤاله في العود فأبى فغضب السلطان ودخل نحو بغداد. وأقام المسترشد بالجانب الغربي وبعث عفيفا الخادم من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان، فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آق سنقر وكان على البصرة كما ذكرناه، فسار إليه وهزمه وقتل من عسكره، ونجا عفيف إلى المسترشد برأسه فجمع المسترشد السفن وسدّ أبواب دار الخلافة إلّا باب النوبي، ووصل السلطان في عشر ذي الحجة من سنة عشرين، ونزل باب الشماسية، ومنع العسكر عن دور الناس. وراسل المسترشد في العود والصلح فأبى، ونجا جماعة من عسكر السلطان فنهبوا التاج في أوّل المحرّم سنة إحدى وعشرين فضج العامّة لذلك، واجتمعوا، وخرج المسترشد والشماسية على رأسه والوزير بين يديه، وأمر بضرب الطبول ونفخ الأبواق، ونادى بأعلى صوته يا لهاشم! ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة. وكان في الدار رجال مختفون في السراديب فخرجوا على العسكر وهم مشتغلون في نهب الدار فأسروا جماعة منهم ونهب العامّة دور أصحاب السلطان وعبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق فحفرت ليلا، ومنعوا بغداد عنهم، واعتزموا على كبس السلطان محمود. وجاء عماد الدين زنكي من البصرة في حشود عظيمة ملأت البرّ والبحر فاعتزم السلطان على قتال بغداد، وأذعن المسترشد إلى الصلح فاصطلحوا وأقام السلطان ببغداد إلى ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، ومرض فأشير عليه بمفارقة بغداد فارتحل إلى همذان ونظر فيمن يولّيه شحنة العراق مضافا إلى ما بيده، ويثق به في سدّ تلك الخلّة. وحمل إليه الخليفة عند رحيله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 الهدايا والتحف والألطاف فقبل جميعها. ولما أبعد السلطان عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم عليّ بن الناصر النشاباذي لاتهامه بممالأة المسترشد، واستوزر مكانه شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان مقيما ببغداد فاستدعاه وأهدى إليه الناس حتى الخليفة. وسار من بغداد في شعبان فوصل إلى السلطان بأصبهان وخلع عليه، ثم استعفى لعشرة أشهر وعاد إلى بغداد ولم يزل الوزير أبو القاسم محبوسا إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الريّ في السنة بعدها فأطلقه وأعاده إلى وزارة السلطان. أخبار دبيس مع السلطان سنجر لما وصل دبيس إلى السلطان سنجر ومعه طغرل أغرياه بالمسترشد والسلطان محمود، وأنهما عاصيان عليه، وسهّلا عليه أمر العراق فسار إلى الريّ واستدعى السلطان محمودا يختبر طاعته بذلك فبادر للقائه. ولما وصل أمر سنجر العساكر فتلقّوه وأجلسه معه على سريره، وأقام عنده مدّة وأوصاه بدبيس أن يعيده إلى بلده، ورجع سنجر إلى خراسان منتصف ذي الحجة ورجع محمود إلى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد فقدمها في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين واسترضى المسترشد لدبيس فرضى عنه، على شريطة أن يولّيه غير الحلّة فبذل في الموصل مائة ألف دينار. وشعر بذلك زنكي فجاء بنفسه إلى السلطان وهجم على الستر متذمما، وحمل الهدايا وبذل مائة ألف فأعاده السلطان إلى الموصل، وأعاد بهروز شحنة على بغداد، وجعلت الحلّة لنظره. وسار السلطان إلى همذان في جمادى سنة ثلاث وعشرين، ثم مرض السلطان فلحق دبيس بالعراق، وحشد المسترشد لمدافعته، وهرب بهروز من الحلة فدخلها دبيس في رمضان من سنة ثلاث وعشرين. وبعث السلطان في أثره الأميرين اللذين ضمناه له، وهما كزل والأحمديلي، فلما سمع دبيس بهما أرسل إلى المسترشد يستعطفه، وتردّد الرسل وهو يجمع الأموال والرجال حتى بلغ عسكره عشرة آلاف، ووصل الأحمديلي بغداد في شوّال وسار في أثر دبيس. ثم جاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بالهدايا وبذل الأموال على الرضا فأبى، ووصل إلى بغداد، ودخل دبيس البرية، وقصد البصرة فأخذ ما كان فيها للخليفة والسلطان، وجاءت العساكر في اتّباعه فدخل البرية انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود ثم منازعته عمومه واستقلال مسعود ثم توفي السلطان محمود في شوّال من سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه، واتفق وزيره أبو القاسم النشاباذي وأتابكه آق سنقر الأحمديلي على ولاية ابنه داود مكانه وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان، ووقعت الفتنة بهمذان ونواحيها ثم سكنت، فسار الوزير بأمواله إلى الريّ ليأمن في إيالة السلطان سنجر. ثم إنّ الملك داود سار في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين من همذان إلى ربكان، وبعث إلى المسترشد ببغداد في الخطبة، وأتاه الخبر بأنّ عمه مسعودا سار من جرجان إلى تبريز، وملكها فسار إليه وحصره في تبريز إلى سلخ المحرّم من سنة ست وعشرين، ثم اصطلحا وأفرج داود عن تبريز، وخرج السلطان مسعود منها، واجتمعت عليه العساكر فانتقض وسار إلى همذان. وأرسل الى المسترشد في الخطبة فأجابهم جميعا بأنّ الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان، ويعين بعده من يراه. وبعث إلى سنجر بأنّ الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان، ويعين بعده من يراه. وبعث إلى سنجر بأنّ الخطبة إنما ينبغي أن تكون لك وحدك فوقع ذلك منه أحسن موقع، وكاتب السلطان مسعود عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأجابه وسار إليه وانتهى إلى المعشوق. وبينما هم في ذلك إذ سار قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان بالملك سلجوق شاه ابن السلطان محمد، وكان أتابكه فدخل بغداد في عسكر كبير، ونزل دار السلطان واستخلفه المسترشد لنفسه، ووصل مسعود إلى عباسة فبرزوا للقائه، وجاءهم خبر عماد الدين زنكي فعبر قراجا إلى الجانب الغربي للقائه، وواقعه فهزمه، وسار منهزما إلى تكريت وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين، فهيّأ له الجسر للعبور، وعبر فأمن وسار لوجهه. وجاء السلطان مسعود من العبّاسة للقاء أخيه سلجوق ومن معه مدلا بمكان زنكي وعسكره من ورائهم، وبلغه خبر انهزامهم فنكص على عقبه، وراسل المسترشد بأنّ السلطان سنجر وصل إليّ وطلب الاتفاق من المسترشد وأخيه سلجوق شاه وقراجا على قتال سنجر، على أن يكون العراق للمسترشد يتصرّف فيه نوابه، والسلطنة لمسعود وسلجوق شاه ولي عهده فأجابوه إلى ذلك وجاء بغداد في جمادى الأولى سنة ست وعشرين، وتعاهدوا على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 واقعة مسعود مع سنجر وهزيمته وسلطنة طغرل لما توفي السلطان محمود وولي ابنه داود مكانه، نكر ذلك عمّه السلطان سنجر عليهم، وسار إلى بلاد الجبل ومعه طغرل ابن أخيه السلطان محمد، كان عنده منذ وصوله مع دبيس فوصل إلى الريّ، ثم إلى همذان، وسار السلطان مسعود وأخوه سلجوق وقراجا الساقي أتابك سلجوق للقائه. وكان المسترشد قد عاهدهم على الخروج وألزموه ذلك. ثم إنّ السلطان سنجر بعث إلى دبيس وأقطعه الحلّة وأمره بالمسير إلى بغداد، وبعث إلى عماد الدين زنكي بولاية شحنكيّة بغداد، والسير إليها فبلغ المسترشد خبر مسيرهما فرجع لمدافعتهما. وسار السلطان مسعود وأصحابه للقاء السلطان سنجر، ونزل أستراباذ في مائة ألف من العسكر فخاموا عن لقائه، ورجعوا أربع مراحل فاتبعهم سنجر، وتراءى الجمعان عند الدّينور ثامن رجب، فاقتتلوا وعلى ميمنة مسعود قراجا الساقي وكزل، وعلى ميسرته برتقش بازدار، ويوسف حاروس [1] فحمل قراجا الساقي في عشرة آلاف على السلطان سنجر، حتى تورّط في مضافه فانعطفوا عليه من الجانبين، وأخذ أسيرا بعد جراحات. وانهزم مسعود وأصحابه وقتل بعضهم، وفيهم يومئذ يوسف حاروس، وأسر آخرون فيهم قراجا فأحضر عند السلطان سنجر فوبّخه، ثم أمر بقتله. وجاء السلطان مسعود إليه فأكرمه وعاتبه على مخالفته وأعاده أميرا إلى كنجة. وولّى الملك طغرل ابن أخيه محمدا في السلطنة وجعل وزيره أبا القاسم النشاباذي وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان ووصل نيسابور في عاشر رمضان من سنته. وأمّا الخليفة فرجع إلى بغداد كما قلناه لمدافعة دبيس وزنكي، وبلغه الخبر بهزيمة السلطان مسعود، فعبر إلى الجانب الغربي وسار إلى العبّاسة [2] ، ولقيهما بحصن البرامكة آخر رجب. وكان في ميمنته جمال الدولة إقبال، وفي ميسرته مطر الخادم فانهزم إقبال لحملة زنكي، وحمل الخليفة ومطر على دبيس فانهزم، وتبعه زنكي فاستمرّت الهزيمة عليهم وافترقوا، ومضى دبيس إلى الحلّة وكانت بيد إقبال، وجاءه المدد من بغداد فلقي دبيس وهزمه، ثم تخلّص بعد   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 677: «وعلى ميمنته قراجة الساقي والأمير قزل، وعلى ميسرته يرنقش بازدار، ويوسف جاووش، وغيرهما، وكان قزل قد واطأ سنجر على الانهزام» . [2] العباسية: ابن الأثير ج 10 ص 678. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 الجهد، وقصد واسط وأطاعه عسكرها إلى أن خلت سنة سبع وعشرين، فجاءهم إقبال وبرتقش بازدار، وزحفوا في العساكر برّا وبحرا فانهزمت أهل واسط. ولمّا استقرّ طغرل بالسلطنة وعاد عمّه سنجر إلى خراسان لخلاف أحمد خان صاحب ما وراء النهر عليه، وكان داود ببلاد أذربيجان وكنجة فانتقض وجمع العساكر وسار إلى همذان وبرز إليه طغرل وفي ميمنته ابن برسق وفي ميسرته كزل وفي مقدّمته آق سنقر. وسار إليه داود في ميمنته برتقش الزكويّ والتقيا في رمضان سنة ست وعشرين فأمسك برتقش عن القتال، واستراب التركمان منه فنهبوا خيمته، واضطرب عسكر داود لذلك فهرب أتابكه آق سنقر الأحمديلي، واستمرّت الهزيمة عليهم وأسر برتقش الزكوي، ومضى داود ثم قدم بغداد ومعه أتابكه آق سنقر الأحمديلي فأنزله الخليفة بدار السلطان وأكرمه. ولمّا بلغ السلطان مسعودا هزيمة داود ووصوله الى بغداد قدم إليها وخرج داود لتلقيه، وترجّل له عن فرسه، ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر سنة سبع وعشرين، وخطب له على منابر بغداد ولداود بعده، واتفقا مع المسترشد بالسير إلى أذربيجان وأن يمدّهما، وسارا لذلك، وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وحاصر جماعة من الأمراء بأردبيل ثم هزمهم وقتل منهم، وسار إلى همذان وبرز أخو طغرل للقائه فانهزم، واستولى مسعود على همذان وقتل آق سنقر، قتله الباطنية ويقال بدسيسة السلطان محمود. ولما انهزم طغرل قصد الريّ وبلغ قمّ، ثم عاد إلى أصبهان ليمتنع بها وسار أخوه مسعود للحصار فارتاب طغرل بأهل أصبهان، وسار إلى بلاد فارس فاتبعه مسعود، واستأمن إليه بعض أمراء طغرل فارتاب بالباقين، وانهزم إلى الريّ في رمضان من سنته، واتّبعه مسعود فلحقه بالريّ، وقاتله فانهزم طغرل وأسر جماعة من أمرائه. وعاد مسعود إلى همذان ظافرا، وعند ما قصد طغرل الريّ من فارس قتل في طريقه وزيره أبا القاسم النشاباذي في شوّال من سنته لموجدة وجدها عليه. مسير المسترشد لحصار الموصل لما انهزم عماد الدين زنكي أمام المسترشد كما قلنا لحق بالموصل، وشغل سلاطين السلجوقية في همذان بالخلف الواقع بينهم، وجماعة من أمراء السلجوقية إلى بغداد فرارا من الفتنة فقوي بهم المسترشد، وبعث إلى عماد الدين زنكي بعض شيوخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 الصوفيّة من حضرته فأغلظ له في الموعظة فأهانه زنكي وحبسه، فاعتزم المسترشد على حصار الموصل وبعث بذلك إلى السلطان مسعود، وسار من بغداد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين في ثلاثين ألف مقاتل. ولما قارب الموصل فارقها زنكي ونزل بها نائبة نصير الدين حقر، ولحق بسنجر وأقام يقطع المدد والميرة عن عسكر المسترشد حتى ضاقت بهم الأمور، وحاصرها المسترشد ثلاثة أشهر فامتنعت عليه ورحل عائدا إلى بغداد، فوصل يوم عرفة من سنته. يقال إن مطرا الخادم جاء من عسكر السلطان مسعود لأنه قاصد العراق فارتحل لذلك. مصاف طغرل ومسعود وانهزام مسعود ولما عاد مسعود الى همذان بعد انهزام أخيه طغرل، بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه وحصره ببعض قلاعها، فخالفه طغرل إلى بلاد الجبل، واجتمعت عليه العساكر ففتح كثيرا من البلاد، وقصد مسعودا وانتهى إلى قزوين فسار مسعود للقائه، وهرب من عسكره جماعة كان طغرل قد داخلهم واستمالهم، فولّى مسعود منهزما آخر رمضان سنة ثمان وعشرين، واستأذن المسترشد في دخول بغداد وكان نائبة بأصبهان البقش السلاميّ، ومعه أخوه سلجوق شاه، فلمّا بلغهم خبر الهزيمة لحقوا ببغداد، ونزل سلجوق بدار السلطان، وبعث إليه الخليفة بعشرة آلاف دينار. ثم قدم مسعود بعدهم ولقي في طريقه شدة وأصحابه بين راجلين وركاب فبعث إليهم المسترشد بالمقام والخيام والأموال والثياب والآلات، وقرّب إليهم المنازل، ونزل مسعود بدار السلطنة ببغداد منتصف شوّال سنة ثمان، وأقام طغرل بهمذان. وفاة طغرل واستيلاء السلطان مسعود ولمّا وصل مسعود إلى بغداد أكرمه المسترشد، ووعده بالمسير معه لقتال أخيه طغرل، وأزاح علل عسكره واستحثه لذلك، وكان جماعة من أمراء السلجوقية قد ضجروا من الفتنة، ولحقوا بالمسترشد فساروا معه ودسّ إليهم طغرل بالمواعيد فارتاب المسترشد ببعضهم، واطلع على كتاب طغرل إليه، وقبض عليه ونهب ماله، فلحق الباقون بالسلطان، وبعث فيهم المسترشد فمنعهم السلطان فحدثت بينهم الوحشة لذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 وبعث السلطان إلى الخليفة يلزمه المسير معه [1] ، وبينا هما على ذلك إذ جاءه الخبر بوفاة طغرل، في المحرّم من سنة تسع وعشرين، فسار السلطان مسعود إلى همذان وأقبلت إليه العساكر فاستولى عليها، وأطاعه أهل البلاد، واستوزر شرف الدين أنوشروان خالدا، وكان قد سار معه بأهله. فتنة السلطان مسعود مع المسترشد لما استولى السلطان مسعود على همذان استوحش منه جماعة من أعيان الأمراء، منهم برتقش وكزل وسنقر والي همذان، وعبد الرحمن بن طغرلبك، ففارقوه ودبيس بن صدقة معهم، واستأمنوا إلى الخليفة ولحقوا بخوزستان وتعاهدوا مع برسق على طاعة المسترشد، وحذّر المسترشد من دبيس وبعث شديد الدولة ابن الأنباري بالأمان للأمراء دون دبيس، ورجع دبيس إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد فأكرمهم المسترشد، واشتدّت وحشة السلطان مسعود لذلك، ومنافرته للمسترشد فاعتزم المسترشد على قتاله، وبرز من بغداد في عاشر [2] رجب وأقام بالشفيع وعصي عليه صاحب البصرة فلم يجبه، وأمراء السلجوقية الذين بقوا معه يحرّضونه على المسير فبعث مقدّمته إلى حلوان. ثم سار من شعبان واستخلف على العراق إقبالا خادمه في ثلاثة آلاف فارس ولحقه برسق بن برسق فبلغ عسكره سبعة آلاف فارس، وكان أصحاب الأعراب يكاتبون المسترشد بالطاعة فاستصلحهم مسعود، ولحقوا به، وبلغ عسكره خمسة عشر ألفا، وتسلّل إليه كثير من عسكر المسترشد حتى بقي في خمسة آلاف، وبعث إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد الدّينور ليلقاه بها بعسكره فجفل للقاء السلطان مسعود، وسار وفي ميمنته برتقش بازدار وكور   [1] هكذا بالأصل والظاهر ان العبارة سقط منها فقره أثناء النسخ أو الطبع وفي الكامل ج 11 ص 19: «وكان قد اتّصل الأمير ألبقش السلاحيّ وغيره من الأمراء بالخليفة، وطلبوا خدمته، فاستخدمهم واتّفق معهم. واتّفق أن إنسانا أخذ فوجد معه ملطّفات من طغرل الى هؤلاء الأمراء وخاتمه بالإقطاع لهم، فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه أغلبك ونهب ماله، فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا الى عسكر السلطان مسعود، فأرسل الخليفة الى مسعود في إعادتهم اليه، فلم يفعل واحتجّ بأشياء، فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما وحشة أوجبت تأخّره عن المسير معه، وأرسل اليه يلزمه بالمسير معا أمرا جزما، فيما الأمراء على هذا، إذ جاءه الخبر بوفاة طغرل» [2] في العشرين من رجب: ابن الأثير ج 11 ص 25. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 الدولة سنقر [1] وكزل وبرسق بن برسق، وفي ميسرته جاولي برسقي وسراب سلار [2] وأغلبك الّذي كان قبض عليه من أمراء السلجوقية بموافقتهم السلطان وكان ذلك عاشر رمضان سنة تسع وعشرين. وانحازت ميسرة المسترشد إليه وانطبقت عساكره عليه، وانهزم أصحاب المسترشد وأخذ هو أسيرا بموكبه، وفيهم الوزير شرف الدين عليّ بن طراد الزينبي، وقاضي القضاة والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم. وأنزل المسترشد في خيمة، وحبس الباقون بقلعة سرحاب، وعاد السلطان إلى همذان وبعث الأمير بك آي المحمدي [3] إلى بغداد شحنة، فوصل سلخ رمضان، ومعه عميد [4] فقبضوا أملاك الخليفة وأخذوا غلّاته، وضج الناس ببغداد وبكوا على خليفتهم، وأعول النساء ثم عمد العامّة إلى المنبر فكسروه ومنعوا من الخطبة وتعاقبوا في الأسواق يحثون التراب على رءوسهم، وقاتلوا أصحاب الشحنة فأثخن فيهم بالقتل وهرب الوالي والحاجب وعظمت الفتنة، ثم بلغ السلطان في شوّال أن داود ابن أخيه محمود عصي عليه بالمراغة، فسار لقتاله والمسترشد معه وتردّد الرسل بينهما في الصلح. مقتل المسترشد وخلافة الراشد قد ذكرنا مسير المسترشد مع السلطان مسعود إلى مراغة وهو في خيمة موكل به. وتردّدت الرسل بينهما وتقرّر الصلح على أن يحمل مالا للسلطان ولا يجمع العساكر لحرب ولا فتنة، ولا يخرج من داره فانعقد على ذلك بينهما، وركب المسترشد وحملت الغاشية بين يديه وهو على العود إلى بغداد فوصل الخبر بموافاة رسول من السلطان سنجر فتأخّر مسيره لذلك، وركب السلطان مسعود للقاء الرسول، وكانت خيمة المسترشد منفردة العسكر فدخل عليه عشرون رجلا أو يزيدون من الباطنيّة فقتلوه وجدعوه وصلبوه، وذلك سابع عشر ذي القعدة من سنة تسع وعشرين، لسبع عشرة ونصف من خلافته. وقتل الرجال الذين قتلوه وبويع ابنه أبو جعفر بعهد أبيه اليه بذلك فجددت له البيعة ببغداد في ملأ من الناس، وكان إقبال خادم المسترشد في بغداد، فلمّا وقعت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي وأصعد إلى تكريت،   [1] نور الدولة سنقر: ابن الأثير ج 11 ص 25. [2] جاولي وبرسق شراب سلار: المرجع السابق. [3] الأمير بك أبه المحمودي: ابن الأثير ج 11 ص 26. [4] ليس لها معنى ولعلها عبيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 ونزل على مجاهد الدين بهروز. ثم بعد مقتل المسترشد بأيام قتل دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر مدينة خويّ، أمر السلطان مسعود غلاما أرمنيا بقتله فوقف على رأسه فضربه، وأسقط رأسه، واجتمع إلى أبيه صدقة بالحلّة عساكره ومماليكه واستأمن إليه قطلغ تكين، وأمر السلطان مسعود بك آي شحنة بغداد فأخذ الحلّة من يد صدقة فبعث بعض عسكره إلى المدائن، وخام عن لقائه حتى قدم السلطان إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين فقصده وصالحه ولزم بابه. الفتنة بين الراشد والسلطان مسعود ولحاقه بالموصل وخلعه وبعد بيعة الراشد واستقراره في الخلافة وصل برتقش الزكويّ من عند السلطان محمود يطلب من الراشد ما استقرّ على أبيه من المال أيام كونه عندهم، وهو أربعمائة ألف دينار فأجابه بأنه لم يخلف شيئا وأنّ ماله كان معه فنهب. ثم نمي إلى الراشد أنّ برتقش تهجّم على دار الخلافة، وفتّش المال فجمع الراشد العساكر وأصلح السور، ثم ركب برتقش ومعه الأمراء البلخيّة وجاءوا لهجم الدار، وقاتلهم عسكر الخليفة والعامّة فساروا إلى طريق خراسان وانحدر بك آي إلى خراسان، وسار برتقش إلى البندهجين، ونهبت العامّة دار السلطان واشتدّت الوحشة بين السلطان والراشد، وانحرف الناس عن طاعة السلطان إلى الخليفة، وسار داود ابن السلطان في عسكر أذربيجان إلى بغداد، ونزل بدار السلطان في صفر من سنة ثلاثين، ووصل عماد الدين زنكي من الموصل، ووصل برتقش بازدار صاحب قزوين، والبقش الكبير صاحب أصبهان، وصدقة بن دبيس صاحب الحلّة، وابن برسق وابن الأحمديلي وجفل الملك داود برتقش بازدار شحنة ببغداد، وقبض الراشد على ناصح الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير استادار، وعلى جمال الدين إقبال. وكان قدم إليه من تكريت فتنكّر له أصحابه وخانوه، وشفع زنكي في إقبال الخادم فأطلقه وصار عنده، وخرج الوزير جلال الدين أبو الرضا بن صدقة لتلقي زنكي فأقام عنده. ثم شفع فيه وأعاده إلى وزارته ولحق قاضي القضاة الزينبي بزنكي أيضا، وسار معه إلى الموصل، ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض بها بك آي ونهب ماله فانحدر زنكي إليه وصالحه ورجع إلى بغداد. ثم سار السلطان داود نحو طريق خراسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 ومعه زنكي لقتال السلطان مسعود، وبرز الراشد أوّل رمضان وسار إلى طريق خراسان ورجع بعد ثلاث وأرسل إلى داود والأمراء بالعود، وقتال مسعود من وراء السور، وراسلهم مسعود بالطاعة والموافقة فأبوا، وتبعهم الخليفة في ذلك. وجاء مسعود فنزل على بغداد وحصرهم فيها، وثار العيّارون وكثر الهرج وأقاموا كذلك نيفا وخمسين، وامتنعوا وأقلع السلطان عنهم. ثم وصله طرنطاني صاحب واسط بالسفن فعاد وعبر إلى الجانب الغربي فاضطرب الراشد وأصحابه، وعاد داود إلى بلاده، وكان زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد وسار معه إلى الموصل، ودخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين، وأمّن الناس. واستدعى القضاة والفقهاء والشهود وعرض عليهم يمين الراشد بخطّه: إني متى جنّدت جندا، وخرجت ولقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه. ووافقهم على ذلك أصحاب المناصب والولايات، واتفقوا على ذمّه فتقدّم السلطان لخلعه، وقطعت خطبته ببغداد وسائر البلاد في ذي القعدة من سنة ثلاثين لسنة من خلافته. خلافة المقتفي ولما قطعت خطبة الراشد استشار السلطان مسعود أعيان بغداد فيمن يولّيه، فأشاروا بمحمد بن المستظهر فقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد، وذكروا ما ارتكبه من أخذ الأموال ومن الأفعال القادحة في الإمامة، وختموا آخر المحضر بأن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماما. وحضر القاضي أبو طاهر بن الكرخي فشهدوا عنده بذلك وحكم بخلعه، ونفّذه القضاة الآخرون وكان قاضي القضاة غائبا عند زنكي بالموصل، وحضر السلطان دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي وصاحب المخزن ابن العسقلاني، وأحضر أبو عبد الله بن المستظهر فدخل إليه السلطان والوزير واستخلفاه. ثم أدخلوا الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء فبايعوه ثامن عشر ذي الحجّة ولقّبوه المقتفي. واستوزر شرف الدين عليّ بن طراد الزينبي وبعث كتاب الحكم بخلع الراشد إلى الآفاق، وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم عليّ بن الحسين فأعاده إلى منصبه، وكمال الدين حمزة بن طلحة صاحب المخزن كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 فتنة السلطان مسعود مع داود واجتماع داود للراشد للحرب ومقتل الراشد ولما بويع للمقتفي والسلطان مسعود ببغداد، وبعث عساكره بطلب الملك داود فلقيه عند مراغة فانهزم داود وملك قراسنقر أذربيجان. ثم قصد داود خوزستان، واجتمع عليه من عساكر التركمان وغيرهم نحو عشرة آلاف مقاتل، وحاصر تستر وكان السلطان سلجوق شاه بواسط بعث إلى أخيه مسعود يستنجده فأنجده بالعساكر وسار إلى تستر فقاتله داود وهزمه. وكان السلطان مسعود مقيما ببغداد مخافة أن يقصد الراشد العراق من الموصل، وكان قد بعث لزنكي فخطب للمقتفي في رجب سنة إحدى وثلاثين، وسار الراشد من الموصل، فلما بلغ خبر مسيره إلى السلطان مسعود أذن للعسكر في العود إلى بلادهم، وانصرف صدقة بن دبيس صاحب الحلّة بعد أن زوّجه ابنته. ثم قدم على السلطان مسعود جماعة الأمراء الذين كانوا مع الملك داود مثل البقش السلامي وبرسق بن برسق صاحب تستر وسنقر خمارتكين شحنة همذان، فرضي عنهم ووليّ البقش شحنة ببغداد فظلم الناس وعسفهم. ولما فارق الراشد زنكي من الموصل سار إلى أذربيجان وانتهى إلى مراغة، وكان بوزابة وعبد الرحمن طغرلبك [1] صاحب خلخال، والملك داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان مسعود فاجتمعوا الى منكبرس صاحب فارس وتعاهدوا على بيعة داود، وأن يردّوا الراشد إلى الخلافة فأجابهم الراشد إلى ذلك، وبلغ الخبر إلى السلطان فسار من بغداد في شعبان سنة اثنتين وثلاثين، وبلغهم قبل وصوله وصول الراشد إليهم فقاتلهم بخوزستان فانهزموا وأسر منكبرس صاحب فارس [2] فقتله السلطان مسعود صبرا، وافترقت عساكره للنهب وفي طلب المنهزمين، ورآه بوزابة وعبد الرحمن طغرلبك في قلّ من الجنود فحملوا عليه، وقتل بوزابة جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس وابن قراسنقر الأتابك صاحب أذربيجان وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم كان قبض عليهم لأوّل الهزيمة وأمسكهم عنده، فلمّا بلغه قتل منكبرس قتلهم جميعا وانصرف   [1] طغايرك: ابن الأثير ج 11 ص 60. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 60: «ووصل الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد باجتماعهم، فسار عنها في شعبان نحوهم، فالتقوا ببنجن كشت، فاقتتلوا فهزمهم السلطان مسعود وأخذ الأمير منكبرس أسيرا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 العسكران منهزمين، وقصد مسعود أذربيجان وداود همذان. وجاء إليه الراشد بعد الوقعة وأشار بوزابة وكان كبير القوم بمسيرهم، فسار بهم إلى فارس فملكها وأضافها إلى خوزستان. وسار سلجوق شاه ابن السلطان مسعود ليملكها فدافعه عنها البقش الشحنة ومطر الخادم أمير الحاج، وثار العيّارون أيام تلك الحرب، وعظم الهرج ببغداد، ورحل الناس عنها إلى البلاد. فلمّا انصرف سلجوق شاه واستقرّ البقش الشحنة فتك فيهم بالقتل والصلب. ولما قتل صدقة بن دبيس ولّى السلطان على الحلّة محمدا أخاه وجعل معه مهلهلا أخا عنتر بن أبي العسكر يدبره. ولما وصل الراشد والملك داود إلى خوزستان مع الأمراء على ما ذكرناه، وملكوا فارس، ساروا إلى العراق ومعهم خوارزم شاه. فلما قاربوا الجزيرة خرج السلطان مسعود لمدافعتهم فافترقوا، ومضى الملك داود إلى فارس وخوارزم شاه إلى بلاده، وبقي الراشد وحده، فسار إلى أصبهان فوثب عليه في طريقه نفر من الخراسانيّة الذين كانوا في خدمته فقتلوه في القيلولة خامس عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان. وعظم أمر هذه الفتنة واختلفت الأحوال والمواسم وانقطعت كسوة الكعبة في هذه السنة من دار الخلافة من قبل السلاطين، حتى قام بكسوتها تاجر فارسيّ من المترددين إلى الهند، أنفق فيها ثمانية عشر ألف دينار مصرية، وكثر الهرج من العيّارين حتى ركب زعماؤهم الخيول وجمعوا الجموع، وتستر الوالي ببغداد بلباس ابن أخيه سراويل الفتوّة عن زعيمهم ليدخل في جملتهم، وحتى همّ زعيمهم بنقش اسمه في سكة بانبار فحاول الشحنة والوزير على قتله فقتل، ونسب أمر العيّارين إلى البقش الشحنة لما أحدث من الظلم والعسف فقبض عليه السلطان مسعود وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز، ثم أمر بقتله فقتل. ثم قدم السلطان مسعود في ربيع سنة ثلاث وثلاثين في الشتاء، وكان يشتي بالعراق ويصيّف بالجبال. فلما قدم أزال المكوس وكتب بذلك في الألواح فنصبت في الأسواق وعلى أبواب الجامع ورفع عن العامّة نزول الجند عليهم فكثر الدعاء له والثناء عليه. وزارة الخليفة وفي سنة أربع وثلاثين وقع بين المقتفي ووزيره عليّ بن طراد الزينبي وحشة بما كان يعترض على المقتفي في أمره، فخاف واستجار بالسلطان مسعود فأجاره، وشفع إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 المقتفي في إعادته فامتنع وأسقط اسمه من الكتب، واستناب المقتفي ابن عمه قاضي القضاة والزينبي، ثم عزله واستناب شديد الدولة الأنباري. ثم وصل السلطان إلى بغداد سنة ست وثلاثين فوجد الوزير شرف الدين الزينبي في داره فبعث وزيره إلى المقتفي شفيعا في إطلاق سبيله إلى بيته فأذن له انتهى. الشحنة ببغداد وفي سنة ست وثلاثين عزل مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، وولّى كزل أمير آخر من مماليك السلطان محمود، فكان على البصرة فأضيف إليه شحنكية بغداد، ولمّا وصل السلطان مسعود إلى بغداد ورأى تبسط العيارين وفسادهم أعاد بهروز شحنة، ولم ينتفع الناس بذلك لأنّ العيارين كانوا يتمسّكون بالجاه من أهل الدول فلا يقدر بهروز على منعهم، وكان ابن الوزير وابن قاروت صهر السلطان يقاسمانهم فيما يأخذون من النهب. واتفق سنة ثمان وثمانين أنّ السلطان أرسل نائب الشحنكية ووبّخه على فساد العيّارين فأخبره بشأن صهره وابن وزيره فأقسم ليصلبنه إن لم يصلبهما فأخذ خاتمه على ذلك، وقبض على صهره ابن قاروت فصلبه وهرب ابن الوزير، وقبض على أكثر العيّارين وافترقوا وكفى الناس شرّهم. انتقاض الاعياص واستبداد الأمراء على الأمير مسعود وقتله إياهم وفي سنة أربعين سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان وعساكره إلى قاشان ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود، واتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، ولقي بوزاة الأمير عبّاس صاحب الريّ وتآمرا في الانتقاض على السلطان مسعود، وملكا كثيرا من بلاده فسار السلطان مسعود عن بغداد، ونزل بها الأمير مهلهل والخادم مطر وجماعة من غلمان بهروز. وسار معه الأمير عبد الرحمن طغرلبك، وكان حاجبه ومتحكما في دولته، وكان هواه مع ذينك الملكين، فسار السلطان وعبد الرحمن حتى تقارب العسكران، فلقي سليمان شاه أخاه مسعودا فحنق عليه، وجرى عبد الرحمن في الصلح بين الفريقين، وأضيفت وظيفة أذربيجان وأرمينية الى ما بيده. وسار أبو الفتح ابن هزارشب وزير السلطان مسعود ومعه وزير بوزابة فاستبدّوا على السلطان وحجروه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 عن التصرّف فيما يريده، وكان بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك خالصة صاحب خلخال وبعض أذربيجان، فلمّا عظم تحكّمه أسرّ السلطان إلى خاص بك بقتل عبد الرحمن، فدسّ ذلك الى جماعة من الأمراء وقتلوه في موكبه، ضربه بعضهم بمقرعة فسقط إلى الأرض ميتا وبلغ إلى السلطان مسعود ببغداد ومعه عبّاس صاحب الريّ في عسكر أكثر من عسكره فامتعض لذلك فتلطّف له السلطان، واستدعاه إلى داره، فلما انفرد عن غلمانه أمر به فقتل. وكان عبّاس من غلمان السلطان محمود وولي الريّ، وجاهد الباطنية وحسنت آثاره فيهم. وكان مقتله في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين. ثم حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت، وبلغ مقتل عبّاس إلى بوزابة فجمع عساكره من فارس وخوزستان: وسار إلى أصبهان فحاصرها، ثم سار إلى السلطان مسعود والتقيا بمرج قراتكين فقتل بوزابة قيل بسهم أصابه وقيل أخذ أسيرا وقتل صبرا، وانهزمت عساكره إلى همذان وخراسان. انتقاض الأمراء ثانية على السلطان ولما قتل السلطان من قتل من أمرائه استخلص الأمير خاص بك وأنفذ كلمته في الدولة، ورفع منزلته فحسده كثير من الأمراء وخافوا غائلته وساروا نحو العراق وهم: إيلدكز المسعودي صاحب كنجة وأرّانية، وقيصر والبقش كون صاحب أعمال الجبل. وقتل الحاجب وطرنطاي المحمودي شحنة واسط وابن طغايرك. ولما بلغوا حلوان خاف الناس بأعمال العراق وعني المقتفي بإصلاح السور، وبعث إليهم بالنهي عن القدوم فلم ينتهوا ووصلوا في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين، والملك محمد ابن السلطان محمود معهم، ونزلوا بالجانب الشرقي، وفارق مسعود جلال الشحنة ببغداد إلى تكريت، ووصل إليهم عليّ بن دبيس صاحب الحلّة، ونزل بالجانب الغربي وجنّد المقتفي أجنادا وقتلوهم مع العامّة فكانوا يستطردون للعامّة والجند حتى يبعدوا. ثم يكرّون عليهم فيثخنوا فيهم. ثم كثر عيثهم ونهبهم. ثم اجتمعوا مقابل التاج وقبّلوا الأرض واعتذروا، وتردّدت الرسل ورحلوا إلى النّهروان. وعاد مسعود جلال الشحنة من تكريت إلى بغداد، وافترق هؤلاء الأمراء وفارقوا العراق، والسلطان مع ذلك مقيم ببلد الجبل. وأرسل عمه سنجر إلى الريّ سنة أربع وأربعين فبادر إليه مسعود وترضّاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 فأعتبه وقبل عذره. ثم جاءت سنة أربع وأربعين جماعة أخرى من الأمراء وهم البقش كون والطرنطاي وابن دبيس وملك شاه ابن السلطان محمود فراسلوا المقتفي في الخطبة لملك شاه فلم يجبهم، وجمع العساكر وحصّن بغداد وكاتب السلطان مسعودا بالوصول الى بغداد فشغله عمه سنجر إلى الريّ، ولمّا علم البقش مراسلة المقتفي إلى مسعود نهب النهروان، وقبض على عليّ بن دبيس وهرب الطرنطاي إلى النعمانية، ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوّال، ورحل البقش كون من النهروان وأطلق ابن دبيس. وزارة المقتفي وفي سنة أربع وأربعين استوزر المقتفي يحيى بن هبيرة وكان صاحب ديوان الزمام وظهرت منه كفاية في حصار بغداد فاستوزره المقتفي. وفاة السلطان مسعود وملك ملك شاه ابن أخيه محمود ثم توفي السلطان مسعود أوّل رجب سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وعشرين سنة من بيعته. وعشرين من عوده بعد منازعة إخوته. وكان خاص بك بن سلمكري [1] متغلّبا على دولته. فبايع لملك شاه ابن أخيه السلطان محمود، وخطب له بالسلطنة في همذان، وكان هذا السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقية عن بغداد. وبعث السلطان ملك شاه الأمير شكار كرد [2] في عسكر إلى الحلّة فدخلها، وسار إليه مسعود جلال [3] الشحنة، وأظهر له الاتفاق. ثم قبض عليه وغرّقه واستبدّ بالحلّة وأظهر المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدولة والدين بن هبيرة فعبر الشحنة إليهم الفرات، وقاتلهم فانهزموا وثار أهل الحلّة بدعوة المقتفي ومنعوا الشحنة من الدخول فعاد إلى تكريت ودخل ابن هبيرة الحلّة وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها، وجاءت عساكر السلطان إلى واسط فغلبوا عليها عسكر المقتفي فتجهّز بنفسه، وانتزعها من أيديهم، وسار منها إلى الحلّة. ثم عاد إلى بغداد في عشر ذي   [1] خاصّ بك بن بلنكري: ابن الأثير ج 11 ص 161. [2] سلاركرد: ابن الأثير ج 11 ص 162. [3] مسعود بلال: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 القعدة. ثم إنّ خاص بك المتغلّب على السلطان ملك شاه استوحش وتنكّر وأراد الاستبداد فبعث عن الملك محمد ابن السلطان محمد بخوزستان سنة ثمان وأربعين فبايعه أوّل صفر وأهدى إليه وهو مضمر الفتك، فسبقه السلطان محمد لذلك وقتله ثاني يوم البيعة آيدغدي التركماني المعروف بشملة من أصحاب خاص بك ونهاه عن الدخول إلى السلطان محمد، فلم يقبل. فلما قتل خاص بك نهب شملة عسكره ولحق بخوزستان وكان خاص بك صبيّا من التركمان اتصل بالسلطان مسعود واستخلصه وقدّمه على سائر الأمراء. حروب المقتفى مع أهل الخلاف وحصار البلاد ثم بعث المقتفي عساكره لحصار تكريت مع ابن الوزير عون الدين والأمير ترشك من خواصه وغيرهما، ووقع بينه وبين ابن الوزير منافرة خشي لها ترشك على نفسه فصالح الشحنة صاحب تكريت، وقبض على ابن الوزير والأمراء، وحبسهم صاحب تكريت وغرق كثير منهم، وسار ترشك والشحنة إلى طريق خراسان فعاثوا فيها وخرج المقتفي في اتباعهم فهربا بين يديه، ووصل تكريت وحاصرها أياما. ثم رجع إلى بغداد وبعث سنة تسع وأربعين بتكريت في ابن الوزير وغيره من المأسورين، فقبض على الرسول فبعث إليهم عسكرا فامتنعوا عليه، فسار المقتفي بنفسه في صفر من سنته وملك تكريت، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها، ورجع في ربيع. ثم بعث الوزير عون الدين في العساكر لحصارها واستكثر من الآلات وضيق عليها. ثم بلغه الخبر بأنّ شحنة مسعود وترشك وصلا في العساكر ومعهم الأمير البقش كون وأنهما استحثّا الملك محمدا لقصد العراق، فلم يتهيأ له فبعث هذا العسكر معهم، وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان، فسار المقتفي للقائهم، وبعث الشحنة مسعود عن أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوسا بتكريت فأحضره عنده ليقاتل به المقتفي، والتقوا عند عقر بابل فتنازلوا ثمانية عشر يوما، ثم تناجزوا آخر رجب فانهزمت ميمنة المقتفي إلى بغداد، ونهبت خزائنه وثبت هو واشتد القتال وانهزمت عساكر العجم وظفر المقتفي بهم، وغنم أموال التركمان وسبى نساءهم وأولادهم. ولحق البقش كون ببلد المحلو وقلعة المهاكين وأرسلان بن طغرل، ورجع المقتفي إلى بغداد أوّل شعبان. وقصد مسعود الشحنة وترشك بلد واسط للعيث فيها، فبعث المقتفي الوزير ابن هبيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 في العساكر فهزمهم. ثم عاد فلقيه المقتفي سلطان العراق وأرسلان بن طغرل، وبعث إليه السلطان محمد في إحضاره عنده. ومات البقش في رمضان من سنته وبقي أرسلان مع ابن البقش، وحسن الخازندار فحملاه إلى الجبل ثم سارا به إلى الركن زوج أمّه، وهو أبو البهلوان وأرسلان وطغرل الّذي قتله خوارزم شاه، وكان آخر السلجوقيّة ثلاثتهم إخوة لأمّ. ثم سار المقتفي سنة خمسين إلى دقوقا فحاصرها أياما، ثم رجع عنها لأنه بلغه أنّ عسكر الموصل تجهّز لمدافعته عنها فرحل. استيلاء شمله على خوزستان قد ذكرنا من قبل شأن شملة وأنه من التركمان واسمه آيدغدي وأنه كان من أصحاب خاصّ بك التركماني، وهرب يوم قتل السلطان محمد صاحبه خاص بك بعد أن حذّره منه فلم يقبل، ونجا من الواقعة فجمع جموعا وسار يريد خوزستان وصاحبها يومئذ ملك شاه ابن السلطان محمود بن محمد. وبعث المقتفي عساكره لذلك فلقيهم شملة في رجب وهزمهم وأسر وجوههم. ثم أطلقهم وبعث إلى الخليفة يعتذر فقبل عذره، وسار إلى خوزستان فملكها من يد ملك شاه ابن السلطان محمود. إشارة إلى بعض أخبار السلطان سنجر بخوزستان ومبدإ دولة بني خوارزم شاه كان السلطان سنجر من ولد السلطان ملك شاه لصلبه، ولما استولى بركيارق بن ملك شاه على خوزستان سنة تسعين وأربعمائة من يد عمه أرسلان أرغون، كما نذكر في أخبارهم عند تفردها مستوفى، ولّى عليها أخاه سنجر، وولّى على خوارزم محمد بن أنوش تكين من قبل الأمير داود حبشي بن أليوساق. ثم لما ظهر السلطان محمد ونازع بركيارق وتعاقبا في الملك، وكان سنجر شقيقا لمحمد فولّاه على خراسان، ولم يزل عليها. ولما اختلف أولاد محمد من بعده كان عقيد أمرهم وصاحب شوراهم إذا خلّف له ببغداد مقدّما اسمه على اسم سلطان العراق منهم سنة [1] ثم خرجت أمم الخطا من الترك من مفازة الصين وملكوا ما وراء النهر من يد الجابية ملوك تركستان سنة ست وثلاثين كما نذكر في أخبارهم. وسار سنجر لمدافعتهم فهزموه فوهن   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 548 يذكر ابن الأثير أخبار سنجر سنة 513. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 لذلك فاستبدّ عليه خوارزم شاه بعض الشيء. وكان الخلفاء لما ملكوا بلاد تركستان أزعجوا الغز عنها إلى خراسان وهم بقية السلجوقية هناك. وأجاز السلجوقية لأول دولتهم إلى خراسان فملكوها، وبقي هؤلاء الغز بنواحي تركستان فأجازوا أمام الخطا إلى خراسان، وأقاموا السلطان بها حتى عتوا ونموا. ثم كثر عيثهم وفسادهم وسار إليهم السلطان سنجر سنة ثمان وأربعين فهزموه واستولوا عليه وأسروه، وملكوا بلاد خراسان وافترق أمراؤه على النواحي. ثم ملكوه وهو أسير في أيديهم ذريعة لنهب البلاد واستولوا به على كثير منها، وهرب من أيديهم سنة إحدى وخمسين ولم يقدر على مدافعتهم. ثم توفي سنة اثنتين وخمسين وافترقت بلاد خراسان على أمرائه كما يذكر في أخبارهم. ثم تغلب بنو خوارزم شاه عليها كلها وعلى أصبهان والريّ من ورائها وعلى أعمال غزنة من يد بني سبكتكين وشاركهم فيها النور [1] بعض الشيعة وقام بنو خوارزم شاه مقام السلجوقية إلى أن انقرضت دولتهم على يد جنكزخان ملك التتر من أمم الترك في أوائل المائة السابعة كما يذكر ذلك كله في أخبار كل منهم عند ما نفردها بالذكر إن شاء الله تعالى. الخطبة ببغداد لسليمان شاه ابن السلطان محمد وحروبه مع السلطان محمد بن محمود كان سليمان بن محمد عند عمّه سنجر بخراسان منذ أعوام وقد جعله ولي عهده، وخطب له بخراسان فلما غلب الغزّ على سنجر وأسروه تقدّم سليمان شاه على العساكر، ثم غلبتهم الغز فلحق بخوارزم شاه فصاهره أوّلا بابنة أخيه، ثم تنكّر فسار إلى أصبهان فمنعه شحنتها من الدخول فسار إلى قاشان، فبعث إليه السلطان محمد شاه بن محمود فقصد اللحف، ونزل على السيد محسن، وبعث إلى المقتفي ليستأذنه في القدوم، وبعث زوجته وولده رهنا على الطاعة والمناصحة فأذن له، وقدم في خفّ من العساكر ثلاثمائة أو نحوها، وأخرج الوزير عون الدين بن هبيرة ولده لتلقّيه ومعه قاضي القضاة والنقباء، ودخل وعلى رأسه الشمسية، وخلع عليه. ولما كان المحرّم من سنة إحدى وخمسين حضر عند المقتفي بمحضر قاضي القضاة وأعيان العبّاسيين   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 222: العسكر الفوري، واما قوله بعض الشيعة فهم الإسماعيلية وقد أورد ذكرهم ابن الأثير في حوادث 553. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 واستحلفه على الطاعة، وأن لا يتعرّض للعراق. ثم خطب له ببغداد وبلقب أبيه السلطان محمد، وبعث عسكرا نحو ثلاثة آلاف واستقدم داود صاحب الحلّة فجعل له أمر الحجابة، وسار نحو الجبل في ربيع. وسار المقتفي إلى حلوان وسار إلى ملك شاه بن محمود أخي سليمان صاحب خوزستان فاستحلفه لسليمان شاه وجعله وليّ عهده، وأمدّهما بالمال والأسلحة، وساروا إلى همذان وأصبهان، وجاءهم المذكر صاحب بلاد أرّان فكثر جمعهم وبلغ خبرهم السلطان محمد بن محمود فبعث إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل، ونائبة زين الدين ليستنجدهما فأجاباه، وسار للقاء سليمان شاه وأصحابه فالتقوا في جمادى، وانهزم سليمان شاه وافترقت عساكره. وسار المذكر إلى بلاده، وسار سليمان شاه إلى بغداد وسلك على شهرزور فاعترضه زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين بالموصل، وكان مقطع شهرزور الأمير بران من جهة زين الدين فاعترضاه وأخذاه أسيرا، وحمل زين الدين إلى الموصل فحبسه بقلعتها، وبعث إلى السلطان محمد بالخبر. حصار السلطان محمد بغداد كان السلطان محمد قد بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد فامتنع من إجابته، ثم بايع لعمّه سليمان وخطب له وكان ما قدّمناه من أمره معه. ثم سار السلطان محمد بن همذان في العساكر نحو العراق، فقدم في ذي الحجّة سنة إحدى وخمسين، وجاءته عساكر الموصل مددا من قبل قطب الدين ونائبة زين الدين، واضطربت الناس ببغداد، وأرسل المقتفي عن فضلوبواش [1] صاحب واسط فجاء عسكره. وملك مهلهل الحلّة فاهتمّ ابن هبيرة بأمر الحصار وجمع السفن تحت الناحي [2] ، وقطع الجسر، وأجفل الناس من الجانب الغربي، ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة، وفرّق المقتفي السلاح في الجند والعامّة، ومكثوا أياما يقتتلون، ومدّ السلطان جسرا على دجلة فعبر على الجانب الشرقي حتى كان القتال في الجانبين. ونفدت الأقوات في العسكر واشتدّ القتال والحصار على أهل بغداد لانقطاع الميرة والظهر [3] من عسكر الموصل لأنّ نور   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 212: «واضطرب الناس ببغداد وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش صاحب البصرة، وأخذ واسط ... » [2] تحت التاج: المرجع السابق ص 213. [3] الظهر: الركاب التي تحمل الأثقال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 الدين محمود بن زنكي وهو أخو قطب الدين الأكبر بعث إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة. ثم بلغ السلطان محمدا أنّ أخاه ملك شاه والمذكر صاحب بلاد أرّان، وأرسلان ابن الملك طغرل بن محمد ساروا إلى همذان وملكوها فارتحل عن بغداد في آخر ربيع سنة اثنتين وخمسين. وسار إلى همذان وعاد زين الدين كوجك إلى الموصل. ولما قصد السلطان محمد همذان صار ملك شاه والمذكر [1] ومن معهما إلى الريّ فقاتلهم شحنتها آبنايخ [2] وهزموه، وأمدّه السلطان محمد بالأمير سقمان بن قيمار [3] فسار لذلك ولقيهما منصرفين عن الريّ قاصدين بغداد فقاتلهما، وانهزم أمامهما فسار السلطان في أثرهما إلى خوزستان، فلما انتهى إلى حلوان جاءه الخبر بأنّ المذكر بالدّينور وبعث إليه آبنايخ بأنه استولى على همذان وأعاد خطبته فيها، فافترقت جموع ملك شاه والمذكر وفارقهم شملة صاحب خوزستان، فعادوا هاربين إلى بلادهم وعاد السلطان محمد إلى همذان. حروب المقتفي مع أهل النواحي كان سنقر الهمذاني صاحب اللحف، وكان في هذه الفتنة قد نهب سواد بغداد وطريق خراسان، فسار المقتفي لحربه في جمادى سنة ثلاث وخمسين وضمن له الأمير خلطوا برأس [4] إصلاحه، فسار إليه خاله على أن يشرك المقتفي معه في بلد اللحف الأمير أزغش المسترشدي فأقطعها لهما جميعا ورجع ثم عاد سنقر على أزغش وأخرجه، وانفرد ببلده وخطب للسلطان محمد فسار إليه خلطوا برأس من بغداد في العساكر وهزمه، وملك اللحف وسار سنقر إلى قلعة الماهكي للأمير قايماز العميدي ونزلها في أربعمائة ألف فارس. ثم سار إليه سنقر سنة أربع وخمسين فهزمه ورجع إلى بغداد فخرج المقتفي إلى النعمانية وبعث العساكر مع ترشك فهرب سنقر في الجبال ونهب ترشك مخلفه وحاصر قلعة الماهكي، ثم عاد إلى البندنجين وبعث بالخبر إلى بغداد. ولحق سنقر بملك شاه فأمدّه بخمسمائة فارس وبعث ترشك إلى المقتفي في المدد فأمدّه، وبعث إليه سنقر في الإصلاح فحبس رسوله، وسار إليه فهزمه   [1] ايلدكز: ابن الأثير ج 11 ص 215. [2] اينانج: المرجع السابق. [3] سقمس بن قيماز الحراميّ: المرجع السابق. [4] خطلبرس: (وقد مرّ معنا من قبل) ابن الأثير ج 11 ص 229. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 واستباح عسكره ونجا سنقر جريحا إلى بلاد العجم فأقام بها. ثم جاء بها سنة أربع وخمسين إلى بغداد، وألقى نفسه تحت التاج فرضي عنه المقتفي. وأذن له في دخول دار الخلافة. ثم زحف إلى قايماز السلطان في ناحية بادرايا سنة ثلاث وخمسين فهزمه وقتله وبعث المقتفي عساكره لقتال شملة فلحق بملك شاه. وفاة السلطان محمد بن محمود وملك عمه سليمان شاه ثم ارسلان بن طغرل ثم إنّ السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه لما رجع عن حصار بغداد أصابه مرض السل وطال به، وتوفي بهمذان في ذي الحجّة سنة أربع وخمسين لسبع سنين ونصف من ملكه، وكان له والد فيئس من طاعة الناس له، ودفعه لآقسنقر الأحمديلي وأوصاه عليه فرحل به إلى مراغة. ولما مات السلطان محمد اختلف الأمر فيمن يولّونه، ومال الأكثر إلى سليمان شاه عمّه، وطائفة إلى ملك شاه أخيه، وطائفة إلى أرسلان بن السلطان طغرل الّذي مع الدكز ببلاد أرّان. وبادر ملك شاه أخوه فسار من خوزستان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس، ورحل إلى أصبهان فأطاعه ابن الخجنديّ، وأنفق عليه الأموال وبعث إلى عساكر همذان في الطاعة فلم يجيبوه، وأرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في سليمان شاه المحبوس عنده ليولّوه عليهم، وذلك أوّل سنة خمس وخمسين فأطلقه على أن يكون أتابكا له وجمال الدين وزيره وزيرا وجهّزه بجهاز السلطنة وبعث معه نائبة زين الدين عليّ كوجك في عسكر الموصل. فلما قاربوا بلاد الجبل وأقبلت العساكر من كل جهة على السلطان سليمان فارتاب كوجك لذلك، وعاد إلى الموصل فلم ينتظم أمر سليمان، ودخل همذان وبايعوا له وخطب له ببغداد. وكثرت جموع ملك شاه بأصبهان وبعث إلى بغداد في الخطبة، وأن يقطع خطبة عمّه ويراجع القواعد بالعراق إلى ما كانت فوضع عليه الوزير عون الدين بن هبيرة جارية بعث بها إليه فسمّته، فمات سنة خمس وخمسين، فأخرج أهل أصبهان أصحابه وخطبوا لسليمان شاه. وعاد شملة إلى خراسان فملك كل ما كان ملك شاه تغلّب عليه منها. واستقرّ سليمان شاه بتلك البلاد، وشغل باللهو والسكر ومنادمة الصفّاعين، وفوض الأمور إلى شرف الدين دوا داره من مشايخ السلجوقيّة، كان ذا دين وعقل وحسن تربية، فشكا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 الأمراء إليه فدخل عليه وعذله وهو سكران فأمر الصفّاعين بالردّ عليه، وخرج مغضبا. وصحا سليمان فاستدرك أمره بالاعتذار فأظهر القبول، واجتنب الحضور عنده وبعث سليمان إلى ابنايخ صاحب الريّ يستقدمه فاعتذر بالمرض إلى أن يفيق ونمي الخبر إلى كربازة الخادم فعمل دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء وقبض عليه وعلى وزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوّال من سنة ست وخمسين فقتل وزيره وخواصّه وحبسه أياما. وخرج ابنايخ صاحب الريّ ونهب البلاد وحاصر همذان وبعث كردباز إلى إلدكز يستدعيه ليبايع لربيبه أرسلان شاه بن طغرل فسار في عشرين ألف فارس، ودخل همذان وخطب لربيبه أرسلان شاه بن طغرل بالسلطنة وجعل إلدكز أتابكا له، وأخاه من أمه البهلول بن إلدكز حاجبا. وبعث إلى المقتفي في الخطبة، وأن تعاد الأمور إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فطرد رسوله وعاد إليه على أقبح حالة. وبعث إلى ابنايخ صاحب الريّ فحالفه على الاتفاق، وصاهره في ابنته على البهلول وجاءت اليه بهمذان وكان إلدكز من مماليك السلطان مسعود، وأقطعه أرّان وبعض أذربيجان ولم يحضر شيئا من الفتنة، وتزوّج أم أرسلان شاه وزوّجه طغرل فولدت له محمدا البهلوان، وعثمان كزل أرسلان [1] . ثم بعث إلدكز إلى آقسنقر الأحمديليّ صاحب مراغة في الطاعة لأرسلان شاه ربيبه، فامتنع وهدّدهم بالبيعة للطفل الّذي عنده محمود بن ملك شاه. وقد كان الوزير ابن هبيرة أطمعه في الخطبة لذلك الطفل فيما بينهم، فجهز إلدكز العساكر مع ابنه البهلوان وسار إلى مراغة، واستمد آقسنقر ساهرمز صاحب خلاط فأمدّه بالعساكر، والتقى آقسنقر والبهلوان فانهزم البهلوان وعاد إلى همذان. وعاد آقسنقر إلى مراغة ظافرا. وكان ملك شاه بن محمود لما مات بأصبهان مسموما كما ذكرنا لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس، ومعه ابنه محمود، فقبض عليه صاحب فارس زنكي بن دكلا السلغري بقلعة إصطخر، ولما بعث إلدكز إلى بغداد في الخطبة لربيبه أرسلان وشرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة في التصريف بينهم بعث ابن دكلا وأطمعه في الخطبة لمحمود بن ملك شاه الّذي عنده إن ظفر بإلدكز فأطلقه ابن دكلا وبايع له، وضرب الطبل على بابه خمس نوب. وبعث إلى ابنايخ [2] صاحب الريّ فوافقه وسار إليه في عشرة آلاف، وبعث إليه   [1] البهلوان محمد وقزل أرسلان عثمان: ابن الأثير ج 11 ص 268. [2] إينانج: المرجع السابق ص 269. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 آقسنقر الأحديليّ، وجمع إلدكز العساكر، وسار إلى أصبهان يريد بلاد فارس، وبعث إلى صاحبها زنكي بن دكلا في الطاعة لربيبه أرسلان فأبى، وقال: إنّ المقتفي أقطعني بلاده وأنا سائر إليه. واستمد المقتفي وابن هبيرة فواعدوه وكاتبوا الأمراء الذين مع إلدكز بالتوبيخ على طاعته والانحراف عنه إلى زنكي بن دكلا صاحب فارس، وابنايخ صاحب الريّ، وبدأ إلدكز بقصد ابنايخ. ثم بلغه أنّ زنكي بن دكلا نهب سميرم ونواحيها، فبعث عسكرا نحوا من عشرة آلاف فارس لحفظها فلقيهم زنكي فهزمهم، فبعث إلدكز إلى عساكر أذربيجان فجاء بها ابنه كزل أرسلان. وبعث زنكي بن دكلا العساكر إلى ابنايخ ولم يحضر بنفسه خوفا على بلاد شملة صاحب خوزستان. ثم التقى إلدكز وابنايخ في شعبان سنة ست وخمسين فانهزم ابنايخ واستبيح عسكره وحاصره إلدكز ثم صالحه ورجع إلى همذان. وفاة المقتفي وخلافة المستنجد وهو أوّل الخلفاء المستبدّين على أمرهم من بني العبّاس عند تراجع الدولة وضيق نطاقها ما بين الموصل وواسط والبصرة وحلوان ثم توفي المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر في ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته، وهو أول من استبدّ بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أوّل أيام الديلم، فحكم على عسكره وأصحابه فيما بقي لمملكتهم من البلدان بعد استبداد الملوك في الأعمال والنواحي. ولما اشتدّ مرضه تطاول كل من أم ولده إلى ولاية ابنها. وكانت أم المستنجد تخاف عليه، وأمّ أخيه عليّ تروم ولاية ابنها، واعتزمت على قتل المستنجد واستدعته لزيارة أبيه وقد جمعت جواريها وآتت كل واحدة منهنّ سكينا لقتله وأمسكت هي وابنها سيفين، وبلغ الخبر إلى يوسف المستنجد فأحضر أستاذ دار أبيه، وجماعة من الفرّاشين وأفرغ السلاح ودخل معهم الدار، وثار به الجواري فضرب إحداهنّ وأمكنها فهربوا وقبض على أخيه عليّ وأمّه فحبسهما وقسم الجواري بين القتل والتغريق حتى إذا توفي المقتفي جلس للبيعة فبايعه أقاربه وأوّلهم عمّه أبو طالب، ثم الوزير عون الدين بن هبيرة وقاضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب له. وأقر ابن هبيرة على الوزارة وأصحاب الولايات على ولايتهم، وأزال المكوس والضرائب، وقرّب رئيس الرؤساء، وكان أستاذ دار فرفع منزلته عبد الواحد المقتفي، وبعث عن الأمير ترشك سنة ست وخمسين من بلد اللحف وكان مقتطعا بها فاستدعاه لقتال جمع من التركمان أفسدوا في نواحي البندنيجين فامتنع من المجيء وقال: يأتيني العسكر وأنا أقاتل بهم، فبعث إليه المستنجد العساكر مع جماعة من الأمراء فقتلوه وبعثوا برأسه إلى بغداد. ثم استولى بعد ذلك على قلعة الماهكي من يد مولى سنقر الهمذانيّ ولّاه عليها سنقر وضعف عن مقاومة التركمان والأكراد حولها فاستنزله المستنجد عنها بخمسة عشر ألف دينار، وأقام ببغداد. وكانت هذه القلعة أيام المقتدر بأيدي التركمان والأكراد. فتنة خفاجة اجتمعت خفاجة سنة ست وخمسين إلى الحلّة والكوفة وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر، وكان مقطع الكوفة أرغش وشحنة الحلّة قيصر، وهما من مماليك المستنجد فمنعوهما، فعاثوا في تلك البلاد والنواحي فخرجوا إليهم في أثرهم، واتّبعوهم إلى الرحبة، فطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغش ولا قيصر، فقاتلوهم فانهزمت العساكر، وقتل قيصر وخرج أرغش ودخل الرحبة، فاستأمن له شحنتها وبعثوه إلى بغداد. ومات أكثر الناس عطشا في البرّية وتجهّز عون الدين بن هبيرة في العساكر لطلب خفاجة فدخلوا البرية ورجع، وانتهت خفاجة إلى البصرة وبعثوا بالعدوّ وسألوا الصلح فأجيبوا. إجلاء بني أسد من العراق كان في نفس المستنجد باللَّه من بني أسد أهل الحلّة لفسادهم ومساعدتهم السلطان محمد في الحصار، فأمر يزدن بن قماج بإجلائهم من البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح، فجمع العساكر وأرسل إلى ابن معروف فقدّم السفن، وهو بأرض البصرة فجاءه في جموع وحاصرهم وطاولهم، فبعث المستنجد يعاتبه ويتّهمه بالتشيّع، فجهّز هو وابن معروف في قتالهم، وسدّ مسالكهم في الماء فاستسلموا، وقتل منهم أربعة آلاف ونودي عليهم بالملا من الحلّة فتفرّقوا في البلاد، ولم يبق بالعراق منهم أحد وسلّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 الفتنة بواسط وما جرت إليه كان مقطع البصرة منكبرس من موالي المستنجد، وقتله سنة تسع وخمسين، وولّى مكانه كمستكين، وكان ابن سنكاه ابن أخي شملة صاحب خوزستان، فانتهز الفرصة في البصرة ونهب قراها، وأمر كمستكين بقتاله فعجز عن إقامة العسكر وأصعد ابن سنكاه إلى واسط ونهب سوادها وكان مقطعها خلطوا برس [1] فجمع الجموع وخرج لقتاله، واستمال ابن سنكاه الأمراء الذين معه فخذلوه، وانهزم وقتله ابن سنكاه سنة إحدى وستين ثم قصد البصرة سنة اثنتين وستين ونهب جهتها الشرقية وخرج إليه كمستكين وواقعه، وسار ابن سنكاه إلى واسط وخافه الناس ولم يصل إليها. مسير شملة الى العراق سار شملة صاحب خوزستان إلى العراق سنة اثنتين وستين وانتهى إلى قلعة الماهكيّ وطلب من المستنجد إقطاع البلاد، واشتط في الطلب فبعث المستنجد العساكر لمنعه، وكتب إليه يحذّره عاقبة الخلاف فاعتذر بأنّ إلدكز وربيبه السلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الّذي عنده، وهو ابن ملك شاه بلاده البصرة وواسط والحلّة، وعرض التوقيع بذلك، وقال أنا أقنع بالثلث منه فأمر المستنجد حينئذ بلعنه، وأنه من الخوارج، وتعبّت العساكر إلى أرغمش المسترشدي بالنعمانيّة والى شرف الدين أبي جعفر البلدي ناظر واسط ليجتمعا على قتال شملة، وكان شملة أرسل مليح ابن أخيه في عسكر لقتال بعض الأكراد فركب إليه أرغمش وأسره وبعض أصحابه، وبعث إلى بغداد، وطلب شملة الصلح فلم يجب إليه. ثم مات أرغمش من سقطة سقطها عن فرسه وبقي العسكر مقيما ورجع شملة إلى بلاده لأربعة أشهر من سفره. وفاة الوزير يحيى ثم توفي الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن المظفّر بن هبيرة سنة ستين وخمسمائة في جمادى الأولى، وقبض المستنجد على أولاده وأهله وأقامت الوزارة بالنيابة. ثم استوزر المستنجد سنة ثلاث وستين شرف الدين، أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد   [1] هو خطلبرس وقد مرّ ذكره معنا من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 المعروف بابن البلديّ ناظر واسط وكان عضد الدين أبو الفرج بن دبيس قد تحكّم في الدولة فأمره المستنجد بكفّ يده وأيدي أصحابه، وطالب الوزير أخاه تاج الدين بحساب عمله بنهر الملك من أيام المقتفي، وكذلك فعل بغيره، فخافه العمّال وأهل الدولة وحصّل بذلك أموالا جمّة. وفاة المستنجد وخلافة المستضيء كان الخليفة المستنجد قد غلب على دولته استاذ دار عضد الدين ابو الفرج ابن رئيس الرؤساء، وكان أكبر الأمراء ببغداد، وكان يرادفه قطب الدين قايماز المظفري [1] ولما ولّى المستنجد أبا جعفر البلدي على وزارته غضّ من استاذ دار وعارضه في أحكامه فاستحكمت بينهما العداوة، وتنكّر المستنجد لأستاذ دار وصاحبه قطب الدين، فكانا يتّهمان بأنّ ذلك بسعاية الوزير. ومرض المستنجد سنة ست وستين وخمسمائة واشتدّ مرضه فتحيّلا في إهلاكه، يقال إنّهما واضعا [2] عليه الطبيب، وعلم أنّ هلاكه في الحمام فأشار عليه بدخوله فدخله، وأغلقوا عليه بابه فمات. وقيل كتب المستنجد إلى الوزير ابن البلدي بالقبض على أستاذ دار وقايماز وقتلهما، وأطلعهما الوزير على كتابه فاستدعيا يزدن وأخاه يتماش [3] وفاوضاهما وعرضا عليهما كتابه، واتفقوا على قتله فحملوه إلى الحمّام وأغلقوا عليه الباب وهو يصيح إلى أن مات تاسع ربيع من سنة ست وستين لإحدى عشرة سنة من خلافته. ولما أرجف بموته قبل أن يقبض ركب الأمراء والأجناد متسلّحين، وغشيتهم العامّة واحتفت بهم، وبعث إليه أستاذ دار بأنه إنما كان غشيا عرضا، وقد أفاق أمير المؤمنين وخفّ ما به، فخشي الوزير من دخول الجند إلى دار الخلافة، فعاد إلى داره وافترق الناس. فعند ذلك أغلق أستاذ دار وقايماز أبواب الدار وأحضرا ابن المستنجد أبا محمد الحسن وبايعاه بالخلافة ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه أن يكون عضد الدين وزيرا وابنه كمال الدين أستاذ دار وقطب الدين قايماز أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة. ثم توفي المستنجد وبايعه الناس من الغد في التاج البيعة العامّة، وأظهر   [1] قطب الدين قايماز المقتفوي: ابن الأثير ج 11 ص 360. [2] واضعه في الأمير: وافقه فيه، تقول: «هلم أواضعك الرأي» اي أطلعك على رأيي وتطلعني على رأيك. وفي الكامل ج 11 ص 360 «ووضعا الطبيب» . [3] تنامش: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 العدل وبذل الأموال وسقط في يد الوزير وندم ما فرّط، واستدعي للبيعة، فلما دخل قتلوه وقبض المستضيء على القاضي ابن مزاحم وكان ظلوما جائرا واستصفاه وردّ الظلامات منه على أربابها، وولّى أبا بكر بن نصر بن العطّار صاحب المخزن ولقّبه ظهير الدين. انقراض الدولة العلوية بمصر وعود الدعوة العبّاسية إليها ولأوّل خلافة المستضيء كان انقراض الدولة العلويّة بمصر، والخطبة بها للمستضيء من بني العبّاس في شهر المحرّم فاتح سنة سبع وستين وخمسمائة قبل عاشوراء، وكان آخر الخلفاء العبيديّين بها العاضد لدين الله من أعقاب الحافظ لدين الله عبد المجيد، وخافوا المستضيء معه ثامن خلفائهم، وكان مغلبا لوزارته. واستولى شاور منهم وثقلت وطأته عليهم فاستقدم ابن شوار من أهل الدولة من الإسكندرية. وفرّ شاور إلى الشام مستنجدا بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من آقسنقر، وكان من مماليك السلجوقية وأمرائهم المقيمين للدعوة العبّاسية. وكان صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن [1] الكردي هو وأبوه نجم الدين أيوب وعمّه أسد الدين شيركوه في جماعة من الأكراد في خدمة نور الدين محمود بالشام، فلما جاء شاور مستنجدا بعث معه هؤلاء الأمراء الأيوبيّة وكبيرهم أسد فأعاده إلى وزارته، وقتل الضرغام، ولم يوف له شاور بما ضمن له عند مسيره من الشام في نجدته. وكان الفرنج قد ملكوا سواحل مصر والشام وزاحموا ما يليها من الأعمال، وضيّقوا على مصر والقاهرة إلى أن ملكوا بلبيس وأيلة عند العقبة. واستولوا على الدولة العلويّة في الضرائب والطلبات وأصبحوا مأوى لمن ينحني عن الدولة. وداخلهم شاور في مثل ذلك فارتاب به العاضد وبعث عزّ الدين مستصرخا به على الفرنج في ظاهر أمره، ويسرحون في ارتعاء [2] من إبادة شاور والتمكّن منه فوصل لذلك، وولّاه العاضد وزارته وقلّده ما وراء بابه، فقتل الوزير شاور وحسم داءه وكان مهلكه قريبا من وزارته يقال لسنة ويقال لخمسين يوما فاستوزر العاضد مكانه صلاح الدين ابن أخيه   [1] كذا بياض بالأصل: وهو صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي ابن الأثير ج 11 ص 368. [2] العبارة غير واضحة ولم نهتد الى تصويبها في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 نجم الدين فقام بالأمر وأخذ في إصلاح الأحوال وهو يعدّ نفسه وعمّه من قبله نائبا عن نور الدين محمود بن زنكي الّذي بعثه وعمّه للقيام بذلك. ولما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين ضعف أمر العاضد وتحكّم صلاح الدين في أموره وأقام خادمه قراقوش للولاية عليه في قصره والتحكّم عليه، فبعث إليه نور الدين محمود الملك العادل بالشام أن يقطع الخطبة للعاضد ويخطب للمستضيء ففعل ذلك على توقّع النكير من أهل مصر. فلما وقع ذلك ظهر منه الاغتباط وانمحت آثار الدولة العلويّة، وتمكنت الدولة العبّاسية فكان ذلك مبدأ الدولة لبني أيوب بمصر ثم ملكوا من بعدها أعمال نور الدين بالشام واستضافوا اليمن وطرابلس الغرب واتسع ملكهم كما يذكر في أخبارهم. ولما خطب للمستضيء بمصر كتب له نور الدين محمود من دمشق مبشرا بذلك فضربت البشائر ببغداد، وبعث بالخلع إلى نور الدين وصلاح الدين مع عماد الدين صندل من خوّاص المقتفوية، وهو أستاذ دار المستضيء فجاء إلى نور الدين بدمشق، وبعث الخلع إلى صلاح الدين وللخطباء بمصر وبإسلام السواد. واستقرّت الدعوة العبّاسية بمصر إلى هذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ثم بعث نور الدين محمود إلى المستضيء رسوله القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده يطلب التقليد لما بيده من الأعمال، وهي مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما هو في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم التي لقليج أرسلان وأن يقطع صريعين ودرب هارون من بلاد سواد العراق كما كانتا لأبيه، فأكرمه الرسول وزاد في الإحسان إليه وكتب له بذلك. خبر يزدن من أمراء المستضيء كان يزدن قد ولّاه المستضيء الحلّة فكانت في أعماله، وكانت حمايتها لخفاجة وبني حزن منهم فجعلها يزدن لبني كعب منهم، وأمرهم الغضبان فغضب بنو حزن وأغاروا عليهم على السواد، وخرج يزدن في العسكر لقتالهم، ومعه الغضبان وعشيرة بنو كعب فبينما هم ليلة يسيرون رمي الغضبان بسهم فمات، فعادت العساكر إلى بغداد، وأعيدت حفاظة السواد إلى بني حزن. ثم مات يزدن سنة ثمان وستين، وكانت واسط من أقطاعه فاقتطعت لأخيه أيتامش ولقّب علاء الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 مقتل سنكاه بن أحمد أخي شملة قد ذكرنا في دولة المستنجد فتنة سنكاه هذا وعمّه شملة صاحب خوزستان. ثم جاء ابن سنكاه إلى قلعة الماهكيّ فبنى بإزائها قلعة ليتمكّن بها من تلك الأعمال، فبعث المستضيء العسكر من بغداد لمنعه فقاتلهم واشتدّ قتاله. ثم انهزم وقتل وعلّق رأسه ببغداد وهدمت القلعة. وفاة قايماز وهربه قد ذكرنا شأن قطب الدين قايماز وأنه الّذي بايع للمستضيء وجعله أمير العسكر وجعله عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وزيرا. ثم استفحل أمر قايماز وغلب على الدولة وحمل المستضيء على عزل عضد الدين أبي الفرج من الوزارة، فلم يمكّنه مخالفته، وعزله سنة سبع وستين فأقام معزولا. وأراد الخليفة سنة تسع وتسعين أن يعيده إلى الوزارة فمنعه قطب الدين من ذلك، وركب فأغلق المستضيء أبواب داره مما يلي بغداد، وبعث إلى قايماز ولاطفه بالرجوع فيما هم به من وزارة عضد الدين فقال: لا بدّ من إخراجه من بغداد! فاستجار برباط شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل فأجاره، واستطال قايماز على الدولة وأصهر على علاء الدين يتامش في أخته فزوّجها منه وحملوا الدولة جميعا. ثم سخط قايماز ظهير الدين ابن العطّار صاحب المخزن وكان خاصّا بالخليفة، وطلبه فهرب فأحرق داره. وجمع الأمراء فاستحلفهم على المظاهرة وأن يقصدوا دار المستضيء ليخرجوا منها ابن العطّار، فقصد المستضيء على سطح داره وخدّامه يستغيثون، ونادى ليخرجوا منها ابن العطّار، فقصد المستضيء على سطح داره وخدّامه يستغيثون، ونادى في العامّة بطلب قايماز ونهب داره فهرب من ظهر بيته، ونهبت داره وأخذ منها ما لا يحصى من الأموال واقتتل العامّة على [1] ولحق قايماز بالحلّة وتبعه الأمراء، وبعث إليه المستضيء شيخ الشيوخ عبد الرحيم ليسير عن الحلّة إلى الموصل تخوّفا من عوده إلى بغداد فيعود استيلاؤه لمحبّة العامة فيه، وطاعتهم له، فسار إلى الموصل   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 434: «فقصد الخلق كلّهم دار قطب الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامّة، فهرب من داره من باب فتحه في ظهرها لكثرة الخلق على بابها، وخرج من بغداد ونهبت داره.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 وأصابه ومن معه في الطريق عطش فهلك الكثير منهم، وذلك في ذي الحجة من سنة سبعين. وأقام صهره علاء الدين يتامش بالموصل. ثم استأذن الخليفة في القدوم إلى بغداد فقدم وأقام بها عاطلا بغير إقطاع، وهو الّذي حمل قايماز على ما كان منه، وولّى الخليفة أستاذ داره سنجر المقتفوي، ثم عزله سنة إحدى وسبعين وولّى مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي ابن الصاحب. فتنة صاحب خوزستان قد ذكرنا أنّ ملك شاه بن محمود ابن السلطان محمد استقرّ بخوزستان وذكرنا فتنة شملة مع الخلفاء. ثم مات شملة سنة سبعين وملك ابنه مكانه. ثم مات ملك شاه ابن محمود وبقي ابنه بخوزستان فجاء سنة اثنتين وسبعين إلى العراق، وخرج إلى البندنجين، وعاث في الناس وخرج الوزير عضد الدين أبو الفرج في العساكر ووصل عسكر الحلّة وواسط مع طاش تكين أمير الحاج وغز علي، وساروا للقاء العدوّ وكان معه جموع من التركمان فأجفلوا ونهبتهم عساكر بغداد. ثم ردّهم الملك ابن ملك شاه وأوقعوا بالعسكر أياما ثم مضى الملك إلى مكانه وعادت العساكر إلى بغداد. مقتل الوزير قد ذكرنا أخبار الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفّر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، كان أبوه أستاذ دار المقتفي. ولما مات ولي ابنه مكانه. ولما مات المقتفي أقرّه المستنجد ورفع قدره، ثم استوزره المستضيء وكان بينه وبين قايماز ما قدّمناه، وأعاده المستضيء للوزارة فلما كانت سنة ثلاث وسبعين استأذن المستضيء في الحجّ فأذن له وعبر دجلة فسافر في موكب عظيم من أرباب المناصب، واعترضه متظلّم ينادي بظلامته، ثم طعنه فسقط وجاء ابن المعوز صاحب الباب ليكشف خبره فطعن الآخر وحملا إلى بيتهما فماتا. وولي الوزير ظهير الدين أبو منصور بن نصر ويعرف بابن العطّار فاستولى على الدولة وتحكّم فيها. وفاة المستضيء وخلافة الناصر ثم توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد في ذي القعدة سنة خمس وسبعين لتسع سنين ونصف من خلافته، وقام ظهير الدين العطّار في البيعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 لابنه أبي العبّاس أحمد ولقّبه الناصر الدين الله فقام بخلافته، وقبض على ظهير الدين بن العطّار وحبسه واستصفاه. ثم أخرجه من عشر ذي القعدة من محبسه ميتا وفطن به العامّة. فتناوله العامّة وبعثوا به، وتحكّم في الدولة أستاذ دار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وكان تولّى أخذ البيعة للناصر مع ابن العطّار، وبعث الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة. وسار صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان صاحب همذان وأصبهان والريّ فامتنع من البيعة فأغلظ له صدر الدين في القول. وحرّض أصحابه على نقض طاعته إن لم يبايع! فاضطرّ إلى البيعة والخطبة. ثم قبض سنة ثلاث وثمانين على أستاذ دار أبي الفضل ابن الصاحب وقتله من أجل تحكّمه، وأخذ له أموالا عظيمة. وكان الساعي فيه عند الناصر عبيد الله بن يونس من أصحابه وصنائعه، فلم يزل يسعى فيه عند الناصر حتى أمر بقتله، واستوزر ابن يونس هذا ولقبه جلال الدين وكنيته أبو المظفر ومشى أرباب الدولة في خدمته حتى قاضي القضاة. هدم دار السلطنة ببغداد وانقراض ملوك السلجوقية قد ذكرنا فيما تقدّم ملك أرسلان شاه بن طغرل ربيب الدكز، واستيلاء إلدكز عليه وحروبه مع ابنايخ صاحب الريّ. ثم قتله سنة أربع وستين واستولى على الريّ. ثم توفي إلدكز الأتابك بهمذان سنة ثمان وستين، وقام مكانه ابنه محمد البهلوان، وبقي أخوه السلطان أرسلان بن طغرل في كفالته. ثم مات سنة ثلاث وستين ونصّب البهلوان مكانه ابنه طغرل. ثم توفي البهلوان سنة اثنتين وثمانين وفي مملكته همذان والريّ وأصبهان وأذربيجان وأرّانيه وغيرها، وفي كفالته السلطان طغرل بن أرسلان. ولما مات البهلوان قام مكانه أخوه كزل أرسلان ويسمّى عثمان، فاستبدّ طغرل وخرج عن الكفالة ولحق به جماعة من الأمراء والجند، واستولى على بعض البلاد ووقعت بينه وبين كزل حروب. ثم قوي أمر طغرل وكثر جمعه وبعث كزل إلى الناصر يحذره من طغرل ويستنجده ويبذل الطاعة على ما يختاره المستضيء رسوله، فأمر بعمارة دار السلطنة ليسكنها. وكانت ولايتهم ببغداد والعراق قد انقطعت منذ أيام المقتفي فأكرم رسول كزل ووعده بالنجدة، وانصرف رسول طغرل بغير حراب وأمر الناصر بهدم دار السلطنة ببغداد فمحى أثرها. ثم بعث الناصر وزيره جلال الدين أبا المظفّر عبيد الله بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 يونس في العساكر لإنجاد كزل ومدافعة طغرل عن البلاد، فسار لذلك في صفر لسنة أربع وثمانين، واعترضهم طغرل على همذان قبل اجتماعهم بكزل، واقتتلوا ثامن ربيع، وانهزمت عساكر ببغداد وأسروا الوزير. ثم استولى كزل على طغرل وحبسه ببعض القلاع، ودانت له البلاد وخطب لنفسه بالسلطنة وضرب النوب الخمس. ثم قتل على فراشه سنة سبع وثمانين ولم يعلم قاتله. استيلاء الناصر على النواحي توفي الأمير عيسى صاحب تكريت سنة خمس وثمانين قتله إخوته، فبعث الناصر العساكر فحصروها حتى فتحوها على الأمان وجاءوا بإخوة عيسى إلى بغداد فسكنوها وأقطع لهم السلطان. ثم بعث سنة خمس وثمانين عساكره إلى مدينة غانة فحاصروها مدّة وقاتلوها طويلا ثم جهدهم الحصار فنزلوا عنها على الأمان وإقطاع عيونها ووفّى لهم الناصر بذلك. نهب العرب البصرة كانت البصرة في ولاية طغرل مملوك الناصر، كان مقطعها واستناب فيها محمد بن إسماعيل، واجتمع بنو عامر بن صعصعة سنة ثمان وثمانين، وأميرهم عميرة وقصدوا البصرة للنهب والعيث. وخرج إليهم محمد بن إسماعيل في صفر فقاتلهم سائر يومه. ثم ثلموا في الليل ثلما في السور ودخلوا البلد وعاثوا فيها قتلا ونهبا. ثم بلغ بني عامر أنّ خفاجة والمشفق ساروا لقتالهم، فرحلوا إليهم وقاتلوهم فهزموهم، وغنموا أموالهم وعادوا إلى البصرة، وقد جمع الأمير أهل السواد فلم يقوموا للعرب وانهزموا، ودخل العرب البصرة فنهبوها ورحلوا عنها. استيلاء الناصر على خوزستان ثم أصبهان والريّ وهمذان كان الناصر قد استناب في الوزارة بعد أسر ابن يونس مؤيد الدين أبا عبد الله محمد بن علي المعروف بابن القصّاب، وكان قد ولي الأعمال في خوزستان وغيرها، وله فيها الأصحاب. ولما توفي صاحبها شملة واختلف أولاده راسله بعضهم في ذلك، فطلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 من الناصر أن يرسل معه العساكر ليملكها فأجابه وخرج في العساكر سنة إحدى وتسعين، وحارب أهل خوزستان فملك أوّلا مدينة تستر ثم ملك سائر الحصون والقلاع وأخذ بني شملة ملوكها فبعث بهم إلى بغداد، وولّى الناصر على خوزستان طاش تكين مجير الدين أمير الحاج. ثم سار الوزير إلى جهات الريّ سنة إحدى وتسعين، وجاءه قطلغ ابنايخ بن البهلوان وقد غلبه خوارزم شاه وهزمه عند زنجان، وملك الريّ من يده. وجاء قطلغ إلى الوزير مؤيد ورحل معه إلى همذان وبها ابن خوارزم شاه في العساكر فأجفل عنها إلى الريّ، وملك الوزير همذان ورحل في اتباعهم وملك كل بلد مرّوا بها إلى الري، وأجفل عسكر خوارزم إلى دامغان وبسطام وجرجان. ورجع الوزير إلى الريّ فأقام بها. ثم انتقض قطلغ بن البهلوان وطمع في الملك فامتنع بالريّ وحاصره الوزير فخرج عنها إلى مدينة آوه فمنعهم الوزير منها ورحل الوزير في أثرهم من الريّ إلى همذان، وبلغه أنّ قطلغ قصد مدينة الكرج فسار إليه وقاتله وهزمه، ورجع إلى همذان فجاءه رسول خوارزم شاه محمد تكش بالنكير على الوزير في أخذ البلاد، ويطلب إعادتها فلم يجبه الوزير إلى ذلك، فسار خوارزم شاه إلى همذان وقد توفي الوزير ابن القصّاب خلال ذلك في شعبان سنة اثنتين وتسعين، فقاتل العساكر التي كانت معه بهمذان وهزمهم، وملك همذان وترك ولده بأصبهان، وكانوا يبغضون الخوارزميّة فبعث صدر الدين الخجنديّ رئيس الشافعيّة إلى الديوان ببغداد يستدعي العساكر لملكها، فجهّز الناصر العساكر مع سيف الدين طغرل يقطع بلد اللحف [1] من العراق، وسار فوصل أصبهان، ونزل ظاهر البلد وفارقها عسكر الخوارزميّة فملكها طغرل وأقام فيها الناصر وكان من مماليك البهلوان. ولما رجع خوارزم شاه إلى خراسان، واجتمعوا واستولوا على الريّ وقدّموا عليهم كركجه من أعيانهم، وساروا إلى أصبهان فوجدوا بها عسكر الناصر وقد فارقها عسكر الخوارزميّة فملكوا أصبهان، وبعث كركجه إلى بغداد بالطاعة، وأن يكون له الريّ وساوة وقمّ وقاشان. ويكون للناصر أصبهان وهمذان وزنجان وقزوين فكتب له بما طلب وقوي أمره. ثم وصل إلى بغداد أبو الهيجاء السمين من أكابر أمراء بني أيوب وكان في إقطاعه بيت المقدس وأعماله، فلما ملك العزيز والعادل مدينة دمشق من الأفضل بن صلاح الدين عزلوا أبا الهيجاء عن القدس، فسار إلى بغداد فأكرمه   [1] هي بلدة تقع على حدود فارس وقد مرّ ذكرها معنا من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 الناصر وبعثه بالعساكر إلى همذان سنة ثلاث وتسعين فلقي بها أزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه قطلمش، وقد كاتبوا الناصر بالطاعة فداخل أمير علم وقبض على أزبك وابن قطلمش بموافقته، وأنكر الناصر ذلك على أبي الهيجاء وأمره بإطلاقهم. وبعث إليهم بالخلع فلم يأمنوا، وفارقوا أبا الهيجاء فخشي من الناصر ودخل إلى إربل لأنه كان من أكرادها، ومات قبل وصوله إليها. وأقام كركجه ببلاد الجبل واصطنع رفيقه إيدغمش، واستخلصه ووثق به فاصطنع إيدغمش المماليك وانتقض عليه آخر المائة السادسة، وحاربه فقتله واستولى على البلاد ونصب أزبك بن البهلوان للملك وكفله. ثم توفي طاش تكين أمير خوزستان سنة اثنتين وستمائة وولىّ الناصر مكانه صهره سنجر وهو من مواليه، وسار سنجر سنة ثلاث وستمائة إلى جبال تركستان جبال منيعة بين فارس وعمان وأصبهان وخوزستان وكان صاحب هذه الجبال يعرف بأبي طاهر وكان للناصر مولى اسمه قشتمر من أكابر مواليه ساءه وزير الدولة ببعض الأحوال فلحق بأبي طاهر صاحب تركستان فأكرمه وزوّجه بابنته. ثم مات أبو طاهر فأطاع أهل تلك الولاية قشتمر وملك عليهم، وبعث الناصر إلى سنجر صاحب خوزستان يعضده في العساكر فسار إليه وبذل له الطاعة على البعد. فلم يقبل منه فلقيه وقاتله فانهزم سنجر وقوي قشتمر على أمره وأرسل إلى ابن دكلا صاحب فارس، وإلى إيدغمش صاحب الجبل فاتفق معهما على الامتناع على الناصر واستمرّ حاله. عزل الوزير نصير الدين كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلويّ من أهل الريّ من بيت إمارة، وقدم إلى بغداد عند ما ملك الوزير ابن القصّاب الريّ فأقبل عليه الخليفة، وجعله نائب الوزارة. ثم استوزره وجعل ابنه صاحب المخزن فتحكّم في الدولة، وأساء إلى أكابر موالي الناصر، فلما حجّ مظفّر الدين سنقر المعروف بوجه السبع سنة ثلاث وستمائة وكان أميرا ففارق الحاج ومضى إلى الشام، وبعث إلى الناصر أنّ الوزير ينفي عليك مواليك ويريد أن يدّعي الخلافة فعزله الناصر وألزمه بيته. وبعث من كل شيء ملكه، ويطلب الإقامة بالمشهد فأجابه الناصر بالأمان والاتّفاق، وانّ المعزلة [1] لم   [1] اي العزل من الخدمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 تكن لذنب وإنما أكثر الأعداء المقالات فوقع ذلك. واحتز لنفسه موضعا ينتقل إليه موقرا محترما فاختار إيالة الناصر، خوفا أن يذهب الأعداء بنفسه. ولما عزل عاد سنقر أمير الحاج، وعاد أيضا قشتمر، وأقيم نائبا في الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن اسمينا الواسطيّ، ولم يكن له ذلك التحكّم، وقارن ذلك وفاة صاحب المخزن ببغداد أبو فراس نصر بن ناصر بن مكي المدائني فولّى مكانه أبو الفتوح المبارك بن عضد الدين أبي الفرج ابن رئيس الرؤساء، وأعلى محله، وذلك في المحرّم سنة خمس وستمائة. ثم عزل آخر السنة لعجزه. ثم عزل في ربيع من سنة ست وستمائة فخر الدين بن اسمينا، ونقل إلى المخزن وولّى نيابة الوزارة مكانه مكين الدين محمد ابن محمد بن محمد بن بدر القمر كاتب الإنشاء ولقّب مؤيد الدين. انتقاض سنجر بخوزستان قد ذكرنا ولاية سنجر مولى الناصر على خوزستان بعد طاش تكين أمير الحاج ثم استوحش سنة ست وستمائة واستقدمه الناصر فاعتذر فبعث إليه العساكر مع مؤيد الدين نائب الوزارة، وعزّ الدين بن نجاح الشرابيّ من خواصّ الخليفة. فلمّا قاربته العساكر لحق بصاحب فارس أتابك سعد بن دكلا فأكرمه ومنعه، ووصلت عساكر الخليفة خوزستان في ربيع من سنته وبعثوا إلى سنجر في الرجوع إلى الطاعة فأبى وساروا إلى أرجان لقصد ابن دكلا بشيراز، والرسل تتردّد بينهم. ثم رحلوا في شوّال يريدون شيراز فبعث ابن دكلا إلى الوزير والشرابي بالشفاعة في سنجر واقتضاء الأمان له فأجابوه إلى ذلك، وأعادوا سنجر إلى بغداد في المحرّم سنة ثمان وستمائة، ودخلوا به مقيّدا. وولّى الناصر مولاه ياقوتا أمير الحاج على خوزستان. ثم أطلق الناصر سنجر في صفر من سنة ثمان وستمائة وخلع عليه. استيلاء منكلى على بلاد الجبل وأصبهان وهرب ايدغمش ثم مقتله ومقتل منكلى وولاية اغلمش قد ذكرنا استيلاء إيدغمش من أمراء البهلوانية على بلاد الجبل همذان وأصبهان والريّ وما إليها فاستفحل فيها وعظم شأنه وتخطّى إلى أذربيجان وأرانيه فحاصر صاحبها أزبك بن البهلوان. ثم خرج سنة ثمان وستمائة منكلى من البهلوانيّة، ونازعه الملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 وأطاعه البهلوانيّة، فاستولى على سائر تلك الأعمال وهرب شمس الدين إيدغمش إلى بغداد، وأمر النّاصر بتلقيه، فكان يوما مشهودا وخشي منكلى من اتّصاله فأوفد ابنه محمدا في جماعة من العسكر، وتلقّاه الناس على طبقاتهم وقد كان الناصر شرع في إمداد إيدغمش، فأمدّه وسار إلى همذان في جمادى من سنة عشر، ووصل إلى بلاد ابن برجم من التركمان الأيوبيّة، وكان الناصر عزله عن إمارة قومه وولّى أخاه الأصغر، فبعث إلى منكلى بخبر إيدغمش، فبعث العساكر بطلبه فقتلوه وافترق جمعه، وبعث الناصر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأرانية يغريه به. وكان مستوحشا منه وأرسل أيضا إلى جلال الدين صاحب قلعة الموت وغيرها من قلاع الإسماعيليّة من بلاد العجم بمعاضدة أزبك على أن يقتسموا بلاد الجبل. وجمع الخليفة العساكر من الموصل والجزيرة وبغداد وقدم على عسكر بغداد مملوكه مظفر الدين وجه السبع واستقدم مظفّر الدين كوكبري بن زين الدين كوجك وهو على إربل وشهرزور وأعمالها، وجعله مقدّم العساكر جميعا وساروا إلى همذان فهرب منكلى إلى جبل قريب الكرج وأقاموا عليه يحاصرونه ونزل منكلي في بعض الأيام فقاتل أزبك وهزمه إلى مخيمه. ثم جاء من الغد وقد طمع فيهم فاشتدّوا في قتاله وهزموه فهرب عن البلاد أجمع، وافترقت عساكره واستولت العساكر على البلاد، وأخذ جلال الدين ملك الإسماعيلية منها ما عينته القسمة وولّى أزبك بن البهلوان على بقية البلاد أغلمش مملوك أخيه وعادت العساكر إلى بلادها ومضى منكلى منهزما إلى مدينة ساوة فقبض عليه الشحنة بها وقتله وبعث أزبك برأسه إلى بغداد وذلك في جمادى سنة اثنتي عشرة. ولاية حافد الناصر على خوزستان كان للناصر ولد صغير اسمه عليّ وكنيته أبو الحسن قد رشّحه لولاية العهد وعزل عنها ابنه الأكبر، وكان هذا أحبّ ولده إليه فمات في ذي القعدة سنة عشر فتفجّع له وحزن عليه حزنا لم يسمع بمثله. وشمل الأسف عليه الخاصّ والعام. وكان ترك ولدين لقبهما المؤيد والموفّق فبعثهما الناصر إلى تستر من خوزستان بالعساكر في المحرّم سنة ثلاث عشرة وبعث معهما مؤيد الدين نائب الوزارة، وعزل مؤيد الدين الشرابي فأقاما بها أياما. ثم أعاد الموفّق مع الوزير والشرابي إلى بغداد في شهر ربيع وأقام المؤيد بتستر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل وطلب الخطبة له ببغداد كان أغلمش قد استولى على بلاد الجبل كما ذكرناه واستفحل أمره وقوي ملكه فيها. ثم قتله الباطنيّة سنة أربع عشرة وستمائة. وكان علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه وارث ملك السلجوقيّة قد استولى على خراسان وما وراء النهر فطمع في إضافة هذه البلاد إليه فسار في عساكره واعترضه صاحب بلاد فارس أتابك سعد بن دكلا على أصبهان وقد ساقه من الطمع في البلاد مثل الّذي ساقه فقاتله وهزمه خوارزم وأخذه أسيرا. ثم سار إلى ساوة فملكها ثم قزوين وزنجان وأبهر، ثم همذان ثم أصبهان وقمّ وقاشان. وخطب له صاحب أذربيجان وأرانية وكان يبعث في الخطبة إلى بغداد ولا يجاب، فاعتزم الآن على المسير إليها وقدّم أميرا في خمسة عشر ألف فارس وأقطعه حلوان فنزلها. ثم أتبعه بأمير آخر، فلما سار عن همذان سقط عليهم الثلج وكادوا يهلكون، وتخطّف بقيتهم بنو برجم من التركمان وبنو عكا من الأكراد. واعتزم خوارزم شاه على الرجوع إلى خراسان، وولّى على همذان طابسين وجعل إمارة البلاد كلّها لابنه ركن الدين وأنزل معه عماد الملك المساوي متوليا أمور دولته، وعاد إلى خراسان سنة خمس عشرة وأزال الخطبة للناصر من جميع أعماله. إجلاء بني معروف عن البطائح كان بنو معروف هؤلاء من ربيعة ومقدّمهم معلّى، وكانت رحالهم غربيّ الفرات قرب البطائح، فكثر عيثهم وإفسادهم السابلة، وارتفعت شكوى أهل البلاد إلى الديوان منهم، فرسم للشريف سعد متولّي واسط وأعمالها أن يسير إلى قتالهم وإجلائهم، فجمع العساكر من تكريت وهيت والحديثة والأنبار والحلّة والكوفة وواسط والبصرة فهزمهم واستباحهم، وتقسّموا بين القتل والأسر والغرق، وحملت الرءوس إلى بغداد في ذي القعدة سنة عشر. ظهور التتر ظهرت هذه الأمة من أجناس الترك سنة ست عشرة وستمائة وكانت جبال طمغاج من أرض الصين بينها وبين بلاد تركستان ما يزيد على ستة أشهر وكان ملكهم يسمى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 جنكزخان، من قبيلة يعرفون نوحى [1] فسار إلى بلاد تركستان وما وراء النهر وملكها من أيدي الخطا، ثم حارب خوارزم شاه إلى أن غلبه على ما في يده من خراسان وبلاد الجبل، ثم تخطي أرّانيه فملكها. ثم ساروا إلى بلاد شروان وبلد اللّان واللكز فاستولوا على الأمم المختلفة بتلك الأصقاع. ثم ملكوا بلاد قفجاق وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان فملكوا ذلك كله في سنة أو نحوها، وفعلوا من العيث والقتل والنهب ما لم يسمع بمثله في غابر الأزمان. وهزموا خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش فلحق بجزيرة في بحر طبرستان فامتنع بها إلى أن مات سنة سبع عشر وستمائة لإحدى إحدى وعشرين سنة من ملكه. ثم هزموا ابنه جلال الدين بغزنة واتبعه جنكزخان إلى نهر السّند فعبر إلى بلاد الهند، وخلص منهم وأقام هنالك مدّة ثم رجع سنة اثنتين وعشرين إلى خوزستان والعراق. ثم ملك أذربيجان وأرمينية إلى أن قتله المظفّر حسبما نذكر ذلك كلّه مقسّما بين دولتهم ودولة بني خوارزم شاه أو مكرّرا فيهما. فهناك تفصيل هذا المحلّ من أخبارهم والله الموفق بمنّه وكرمه. وفاة الناصر وخلافة الظاهر ابنه ثم توفي أبو العبّاس أحمد الناصر بن المستضيء في آخر شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين سنة وستمائة لسبع وأربعين سنة من خلافته بعد أن عجز عن الحركة ثلاث سنين من آخر عمره وذهبت إحدى عينيه وضعف بصر الأخرى. وكانت حاله مختلفة في الجدّ واللعب وكان متفنّنا في العلوم وله تآليف في فنون منها متعدّدة، ويقال إنه الّذي أطمع التتر في ملك العراق لما كانت بينه وبين خوارزم شاه من الفتنة، وكان مع ذلك كثيرا ما يشتغل برمي البندق واللعب بالحمام المناسيب [2] ويلبس سراويل الفتوّة شأن العيّارين من أهل بغداد. وكان له فيها سند إلى زعمائها يقتصه على من يلبسه إياها، وكان ذلك كلّه دليلا على هرم الدولة وذهاب الملك عن أهلها بذهاب ملاكها منهم. ولما توفي بويع ابنه أبو نصر محمّد ولقّب الظاهر، وكان ولّي عهده عهد له أوّلا سنة خمس وثمانين وخمسمائة ثم خلعه من العهد وعهد لأخيه الصغير عليّ لميله   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 12 ص 361: «وكان السبب في ظهورهم ان ملكهم ويسمى بجنكزخان المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده وسار الى نواحي تركستان» . [2] بمعنى المختارة أو المتأصّلة وهي كلمة عاميّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 إليه. وتوفي سنة اثنتي عشرة فاضطرّ إلى إعادة هذا، فلما بويع بعد أبيه أظهر من العدل والإحسان ما حمد منه ويقال إنه فرّق في العلماء ليلة الفطر التي بويع فيها مائة ألف دينار. وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر ثم توفي الظاهر أبو نصر محمد في منتصف رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة لتسعة أشهر ونصف من ولايته وكانت طريقته مستقيمة وأخباره في العدل مأثورة. ويقال إنه قبل وفاة كتب بخطّه إلى الوزير توقيعا يقرؤه على أهل الدولة فجاء الرسول به، وقال: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم وأنفذ مثال، ثم لا يتبيّن له أثر، بل أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، ثم تناولوا الكتاب وقرءوه فإذا فيه بعد البسملة أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفالا، ولكن لنبلوكم أيّكم أحسن عملا وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا وتقبيح السنّة، وإظهار الباطل الجليّ في صورة الحق الخفيّ حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكا للأغراض، انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب، تنطقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، ما طلتم بحقّه فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن فقد بدّل الله سبحانه بخوفكم أمنا وفقركم غنى وباطلكم حقا ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصرّ، ولا ينتقم إلّا ممن استمرّ، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه يخاف الله فيخوّفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فان سلكتم مسالك نواب خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلّا هلكتم والسلام. ولما توفي بويع ابنه أبو جعفر المستنصر وسلك مسالك أبيه، إلّا أنه وجد الدولة اختلفت والأعمال قد انتقضت والجباية قد انتقصت أو عدمت، فضاقت عن أرزاق الجند وأعطياتهم فأسقط كثيرا من الجند، واختلفت الأحوال. وهو الّذي أعاد له محمد بن يوسف بن هود دعوة العبّاسية بالأندلس آخر دولة الموحّدين بالمغرب فولّاه عليها، وذلك سنة تسع وعشرين وستمائة كما يذكر في أخبارهم. ولآخر دولته ملك التتر بلاد الروم من يد غيّاث الدين كنجسرو آخر ملوك بني قليج أرسلان، ثم تخطّوها إلى بلاد أرمينية فملكوها. ثم استأمن إليهم غيّاث الدين فولّوه من قبلهم وفي طاعتهم كما يذكر في أخبارهم إن شاء الله تعالى انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد لم يزل هذا الخليفة المستنصر ببغداد في النطاق الّذي بقي لهم بعد استبداد أهل النواحي كما قدّمنا. ثم انحل أمرهم من هذا النطاق عروة، وتملك التتر سائر البلاد. وتغلّبوا على ملوك النواحي ودولهم أجمعين، ثم زاحموهم في هذا النطاق وملكوا أكثره، ثم توفي المستنصر سنة إحدى وأربعين لست سنة من خلافته، وبويع بالخلافة ابنه عبد الله ولقّب المستعصم، وكان فقيها محدّثا. وكان وزيره ابن العلقميّ رافضيّا، وكانت الفتنة ببغداد لا تزال متّصلة بين الشيعة وأهل السنّة، وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب، وبين العيّارين والدعّار والمفسدين مبدأ الأمراء الأول، فلا تتجدّد فتنة بين الملوك وأهل الدول، إلّا ويحدث فيها بين هؤلاء ما يعني أهل الدولة خاصّة زيادة لما يحدث منهم أيام سكون الدول واستقامتها، وضاقت الأحوال على المستعصم فأسقط أهل الجند وفرض أرزاق الباقين على البياعات والأسواق وفي المعايش. فاضطرب الناس وضاقت الأحوال وعظم الهرج ببغداد ووقعت الفتن بين الشيعة وأهل السنّة، وكان مسكن الشيعة بالكرخ في الجانب الغربي، وكان الوزير ابن العلقميّ منهم فسطوا بأهل السنّة، وأنفذ المستعصم ابنه أبا بكر وركن الدين الدوادار، وأمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ، ولم يراع فيه ذمّة الوزير فآسفه ذلك، وتربّص بالدولة وأسقط معظم الجند يموه بأنه يدافع التتر بما يتوفّر من أرزاقهم في الدولة. وزحف هلاكو ملك التتر سنة اثنتين وخمسين إلى العراق وقد فتح الريّ وأصبهان وهمذان وتتّبع قلاع الإسماعيلية، ثم قصد قلعة الموت سنة خمس وخمسين فبلغه في طريقه كتاب ابن الموصلايا صاحب إربل وفيه وصية من ابن العلقميّ وزير المستعصم الى هلاكو يستحثه لقصد بغداد، ويهوّن عليه أمرها، فرجع عن بلاد الإسماعيلية وسار إلى بغداد واستدعى أمراء التتر فجاءه بنحو مقدّم العسكر ببلاد الروم، وقد كانوا ملكوها. ولما قاربوا بغداد برز للقائهم أيبك الدوادار في العساكر فانكشف التتر أوّلا وتذامروا فانهزم المسلمون واعترضتهم دون بغداد أو حال مياه من بثوق انتفثت من دجلة، فتبعهم التتر دونها وقتل الدوادار وأسر الأمراء الذين معه. ونزل هولاكو بغداد وخرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقميّ فاستأمن لنفسه ورجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 بالأمان إلى المستعصم، وأنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم. فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان فقبض عليه لوقته، وقتل جميع من كان معه. ثم قتل المستعصم شدخا بالعمد ووطأ بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت، وذلك سنة ست وخمسين. وركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العيث بها أياما وخرج النساء والصبيان وعلى رءوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعين. ويقال إنّ الّذي أحصى ذلك اليوم من القتلى ألف ألف وستمائة ألف، واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يبلغه الوصف ولا يحصره الضبط والعدّ، وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعها في دجلة، وكانت شيئا لا يعبّر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأوّل الفتح في كتب الفرس وعلومهم. واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته. ثم بعث العساكر إلى ميافارقين فحاصروها سنين، ثم جهدهم الحصار واقتحموها عنوة وقتل حاميتها جميعا وأميرهم من بني أيوب، وهو الملك ناصر الدين محمد بن شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب وبايع له صاحب الموصل، وبعث بالهدية والطاعة وولّاه على عمله ثم بعث بالعساكر إلى إربل فحاصرها وامتنعت فرحل العساكر عنها، ثم وصل إليه صاحبها ابن الموصلايا فقتله واستولى على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة كلّها، وتاخم الشام جميع جهاته حتى زحف إليه بعد كما يذكر، وانقرض أمر الخلافة الإسلامية لبني العبّاس ببغداد وأعاد لها ملوك الترك رسما جديدا في خلفاء نصّبوهم هنالك من أعقاب الخلفاء الأوّلين، ولم يزل متصلا لها العهد على ما نذكر الآن. ومن العجب أنّ يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب في ذكر ملاحمه وكلامه على القرآن الّذي دلّ على ظهور الملّة الإسلامية العربية أنّ انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين والستمائة، فكان كذلك، وكانت دولة بني العبّاس من يوم بويع للسفّاح سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أن قتل المستعصم سنة خمس وستمائة، وخمسمائة سنة وأربعا وعشرين وعدد خلفائهم ببغداد سبعة وثلاثون خليفة. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 الخبر عن الخلفاء العباسيين المنصوبين بمصر من بعد انقراض الخلافة ببغداد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم لما هلك المستعصم ببغداد واستولى التتر على سائر الممالك الإسلامية فافترق شمل الجماعة وانتثر سلك الخلافة وهرب القرابة المرشّحون وغير المرشحين من قصور بغداد فذهبوا في الأرض طولا وعرضا، ولحق بمصر كبيرهم يومئذ أحمد ابن الخليفة الظاهر، وهو عمّ المستعصم وأخو المستنصر، وكان سلطانها يومئذ الملك الظاهر بيبرس ثالث ملوك الترك بعد بني أيوب بمصر والقاهرة، فقام على قدم التعظيم وركب لتلقّيه وسرّ بقدومه، وكان وصوله له سنة تسع وخمسين فجمع الناس على طبقاتهم بمجلس الملك بالقلعة، وحضر القاضي يومئذ تاج ابن بنت الأعز فاثبت نسبه في بيت الخلفاء بشهادة العرب الواصلين معه بالاستفاضة، ولم يكن شخصه خفيّا، وبايع له الظاهر وسائر الناس ونصّبه للخلافة الإسلامية ولقّبوه المستنصر، وخطب له على المنابر ورسم اسمه في السكّة. وصدرت المراسم السلطانية بأخذ البيعة له في سائر أعمال السلطان، وفوّض هو للسلطان الملك الظاهر سائر أعماله، وكتب تقليده بذلك وركب السلطان ثاني يومه إلى خارج البلد، ونصب خيمة يجتمع الناس فيها فاجتمعوا وقرأ كتاب التقليد. وقام السلطان بأمر هذا الخليفة ورتّب له أرباب الوظائف والمناصب الخلافية من كل طبقة، وأجرى الأرزاق السنيّة، وأقام له الفسطاط والآلة. ويقال أنفق عليه في معسكره ذلك ألف ألف دينار من الذهب العين، واعتزم على بعثه إلى بلاد العراق لاسترجاعه ممالك الإسلام من يد أهل الكفر. وقد كان وصل على أثر الخليفة صاحب الموصل وهو إسماعيل الصالح بن لؤلؤ أخرجه التتر من ملكه بعد مهلك أبيه فامتعض له الملك الظاهر، ووعده باسترجاع ملكه وخرج آخر هذه السنة مشيّعا للخليفة ولصالح بن لؤلؤ، ووصل بهما إلى دمشق فبالغ هناك في تكرمتهما وبعث معهما أميرين من أمرائه مددا لهما، وأمرهما أن ينتهيا معهما إلى الفرات. فلمّا وصلوا الفرات بادر الخليفة بالعبور وقصد الصالح بن لؤلؤ الموصل، واتصل الخبر بالتتر فجردوا العساكر للقائه والتقى الجمعان بعانة، وصدموه هنالك فصادمهم قليلا. ثم تكاثروا عليه فلم يكن له بهم طاقة وأبلى في جهادهم طويلا ثم استشهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 رحمه الله. وسارت عساكر التتر إلى الموصل فحاصروا الصالح إسماعيل سبعة أشهر، وملكوها عليه عنوة، وقتل رحمه الله. وتطلّب السلطان بمصر الملك الظاهر بعده آخر من أهل هذا البيت يقيم برسم الخلافة الإسلامية، وبينما هو يسائل الركبان عن ذلك، إذ وصل رجل من بغداد ينسب إلى الراشد بن المسترشد. قال صاحب حماة في تاريخه عن نسّابة مصر: إنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي عليّ ابن الأمير حسن بن الراشد. وعند العبّاسيين السليمانيين في درج نسبهم الثابت أنه أحمد بن أبي بكر بن عليّ بن أحمد بن الإمام المسترشد. انتهى كلام صاحب حماة. ولم يكن في آبائه خليفة فيما بينه وبين الراشد. وبايع له بالخلافة الإسلامية ولقبه الحاكم، وفوّض هو إليه الأمور العامّة والخاصة. وخرج هو له عن العهدة وقام حافظا لسياج الدين بإقامة رسم الخلافة. وعمرت بذكره المنابر وزيّنت باسمه السكّة، ولم يزل على هذا الحال أيام الظاهر بيبرس وولديه بعده. ثم أيام الصالح قلاون وابنه الأشرف، وطائفة من دولة ابنه الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن هلك سنة إحدى وسبعمائة، ونصّب ابنه أبو الربيع سليمان للخلافة بعده ولقبه المستكفي. وحفظ به الرسم وحضر مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون للقاء التتر في النوبتين اللتين لقيهم فيها، فاستوحش منه السلطان بعض أيامه وأنزله بالقلعة، وقطعه عن لقاء الناس عاما أو نحوه. ثم أذن له في النزول إلى بيته ولقائه الناس إذا شاء، وكان ذلك سنة ست وثلاثين. ثم تجدّدت له الوحشة وغرّبه إلى قوص سنة ثمان وثلاثين، ثم هلك الخليفة أبو الربيع سنة أربعين قبل مهلك الملك الناصر رحمهما الله تعالى. وكان عهد بالخلافة لابنه أحمد فبويع له ولقّب الحاكم. ثم بدا للسلطان في إمضاء عهد أبيه بذلك فعزله، واستبدل منه بأخيه إبراهيم ولقبه الواثق. وكان مهلك الناصر لأشهر قريبة من ذلك، فأعادوا أحمد الحاكم وليّ عهد أبيه سنة إحدى وأربعين، وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين. وهلك رحمه الله فولي من بعده أخوه بكر ولقّب المعتضد، ولم يزل مقيما لرسم الخلافة إلى أن هلك لعشرة أعوام من خلافته سنة ثلاث وستين، ونصّب بعده ابنه محمد ولقّب المتوكّل فأقام برسم الخلافة، وحضر مع السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر عام انتقض عليه الترك في طريقه إلى الحجّ. وفسد أمره ورجع الفلّ إلى مصر، وطلبه أمراء الترك في البيعة له بالسلطنة مع الخلافة فامتنع من ذلك. ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 خلعه أيبك من أمراء الترك المستبدّين أيام سلطانه بالقاهرة سنة تسع وتسعين لمغاضبة وقعت بينهما، ونصّب للخلافة زكريا ابن عمّه إبراهيم الواثق فلم يطل ذلك، وعزل زكريا لأيام قليلة، وأعاده إلى منصبه إلى أن كانت واقعة قرط التركماني من أمراء العساكر بمصر ومداخلته للمفسدين في الثورة بالسلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق سنة خمس وثمانين، وسعى عند السلطان بأنه ممن داخله قرط هذا فاستراب به وحبسه بالقلعة سنة ستين، وأدال منه بعمر ابن عمّه الواثق إبراهيم ولقبه [1] فأقام ثلاثا أو نحوها ثم هلك رحمه الله آخر عام ثمانية وثلاثين، ونصّب السلطان عوضه آخاه زكريا الّذي كان أيبك نصّبه كما قدّمنا ذكره، ثم حدثت فتنة بليقا الناصري صاحب حلب سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وتعالى على السلطان بحبسه الخليفة، وأطال النكير في ذلك فأطلق السلطان الخليفة محمد المتوكل من محبسه بالقلعة وأعاده إلى الخلافة على رسمه الأوّل، وبالغ في تكرمته وجرت فيما بين ذلك خطوب نذكر أخبارها مستوفاة في دولة الترك المقيمين لرسم هؤلاء الخلفاء بمصر. وإنما ذكرنا هنا من أخبارهم ما يتعلق بالخلافة فقط دون اخبار الدولة والسلطان. وهذا الخليفة المتوكّل المنصوب الآن لرسم الخلافة والمعيّن لإقامة المناصب الدينية على مقتضى الشريعة، والمبرك بذكره على منابر هذه الإيالة تعظيما لأبيهم الظاهر، وجريا على سنن التبرك بسلفهم، ولكمال الإيمان في محبتهم وتوفية لشروط الإمامة بينهم وما زال ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالنواحي يطلبون التقليد منه ومن سلفه بمصر ويكاتبون في ذلك ملوك الترك بها من بني قلاون وغيره فيجيبونهم إلى ذلك، ويبعثون إليهم بالتقليد والخلع والأبهة، ويمدّون القائمين بأمورهم بموادّ التأييد والإعانة بمنّ الله وفضله.   [1] كذا بياض بالأصل، ولم نهتد الى لقبه في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 [ المجلد الرابع ] بسم الله الرحمن الرحيم [تتمة الكتاب الثاني ... ] [تتمة القول في أجيال العرب ... ] [تتمة الطبقة الثالثة من العرب ... ] (أخبار الدولة العلوية المزاحمة لدولة بني العبّاس) ونبدأ منهم بدولة الأدارسة بالمغرب الأقصى. قد تقدّم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعليّ ابن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة، وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتى قتل المتولون كبر [1] ذلك منهم حجر بن عديّ وأصحابه، ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف، ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخرج عبيد الله بن زياد عن الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليه سليمان بن صرد ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم. ثم خرج المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبا بدم الحسين رضي الله عنه وداعيا لمحمد بن الحنفيّة وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسمّاهم شرطة الله، وزحف إليه عبيد الله بن زياد فهزمه المختار وقتله، وبلغ محمد بن الحنفيّة من   [1] الظاهر من سياق الجملة انها تعني الجزاء ولم نجد في الكتب اللغوية ما يشير الى هذا المعنى وقد جاء «الإثم الكبير» من جملة معانيها. وفي لسان العرب: وقوله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، 24: 11 قال ثعلب: يعني معظم الإفك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 أحوال المختار ما نقمه عليه، فكتب إليه بالبراءة منه فصار الى الدعاء لعبد الله بن الزبير. ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن عليّ بن الحسين الى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان فقتل وصلب كذلك، وطلت دماء أهل البيت في كل ناحية، وقد تقدّم ذلك كلّه في أخبار الدولتين. ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلويّة وذهبوا طرائق قددا، فمنهم الإمامية القائلون بوصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بالإمامة، ويسمّونه الوصيّ بذلك، ويتبرءون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم، وخاصموا زيدا بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمّوا بذلك رافضة. ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل عليّ وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة وإن كان عليّ أفضل، وهذا مذهب زيد واتباعه، وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو. ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفيّة وبنيه من بعد الحسن والحسين ومن هؤلاء كانت شيعة بني العبّاس القائلون بوصيّة أبي هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن عليّ بن عبد الله ابن عبّاس بالإمامة. وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان. ولما صار أمر بني أمية الى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة، وبايعوا بالخلافة سرّا لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنّى بن الحسن بن عليّ وسلّم له جميعهم. وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدّمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم، ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجّان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون أنّ إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربّما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصيّة من زيد بن عليّ. وكان أبو حنيفة يقول بفضله، ويحتج إلى حقّه فتأدّت إليهما المحنة بسبب أيام أبي جعفر المنصور، حتى ضرب مالك على الفتيا في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء. (ولما انقرضت) دولة بني أميّة وجاءت دولة بني العبّاس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور سعى عنده ببني حسن، وأنّ محمد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 عبد الله يروم الخروج وأنّ دعاته ظهروا بخراسان فحبس المنصور لذلك بني حسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر، وعلي القائم وابنه موسى بن عبد الله وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل وإسحاق بنو عمّه إبراهيم بن الحسن في خمسة وأربعين من أكابرهم وحبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا الطلب محمد بن عبد الله فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها، وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية الى مكة فملكها، وبعث عاملا إلى اليمن، ودعا لنفسه، وخطب على منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وتسمّى بالمهديّ وكان يدعى النفس الزكيّة، وحبس رباح بن عثمان المرّيّ عامل المدينة، فبلغ الخبر الى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور (ونصّه) بعد البسملة: من عبد الله أمير المؤمنين الى محمد بن عبد الله. أما بعد فإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلّا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم. وأنّ لك ذمة الله وعهده وميثاقه، إن تبت من قبل أن نقدر عليك أن نؤمّنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن تابعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من سجن من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه. وإن شئت أن تتوثّق لنفسك فوجّه إليّ من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت والسلام. (فأجابه) محمد بن عبد الله بكتاب نصّه بعد البسملة: من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ابن عبد الله محمد. أمّا بعد طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ من الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 1- 6، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الّذي أعطيتني فقد تعلم أنّ الحقّ حقّنا وأنّكم إنّما أعطيتموه بنا، ونهضتم فيه بسعينا وحزتموه بفضلنا، وأنّ أبانا عليّا عليه السلام، كان الوصيّ والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 وقد علمتم أنه ليس أحد من بني هاشم يشدّ بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا ونسيبنا، وإنّا بنو بنته فاطمة في الإسلام من بينكم فإنّا أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أمّا وأبا، لم تلدني العجم ولم تعرف في أمّهات الأولاد، وأنّ الله عزّ وجلّ لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيّين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه أقدمهم إسلاما وأوسعهم علما وأكثرهم جهادا عليّ بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهنّ خديجة بنت خويلد أوّل من آمن باللَّه وصلى إلى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المتولدين في الإسلام سيّدا شباب أهل الجنة، ثم قد علمت أن هاشما ولد عليّا مرتين من قبل جدّي الحسن والحسين فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في معنى النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنّة وأهون أهل النار عذابا يوم القيامة، فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار وابن خير أهل الجنّة وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمّنك على نفسك وولدك، وكل ما أصبته إلّا حدّا من حدود الله أو حقّا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك وأحرى بقبول الأمان منك. فأمّا أمانك الّذي عرضت عليّ فهو أيّ الأمانات هي؟ أأمان ابن هبيرة أم أمان عمّك عبد الله بن عليّ أم أمان أبي مسلم؟ والسلام. (فأجابه المنصور) بعد البسملة: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله! فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جلّ فخرك بالنساء لتضلّ به الحفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل الله العمّ أبا وبدأ به على الولد فقال جلّ ثناؤه عن نبيّه عليه السلام: واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. ولقد علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي وكفر به اثنان أحدهما أبوك. وأمّا ما ذكرت من النساء وقراباتهنّ فلو أعطى على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كلّه لآمنة بنت وهب، ولكنّ الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. وأمّا ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب فإنّ الله لم يهد أحدا من ولدها إلى الإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنّة غدا. ولكن الله أبى ذلك فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ 28: 56. وأمّا ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب، وفاطمة أمّ الحسين وأنّ هاشما ولد عليّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 مرّتين، وأنّ عبد المطلب ولد الحسن مرّتين، فخير الأوّلين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لم يلده هاشم إلّا مرّة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلّا مرّة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإنّ الله عزّ وجلّ قد أبى ذلك فقال: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ من رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، 33: 40 ولكنكم قرابة ابنته وأنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤمّ فكيف تورث الإمامة من قبلها ولقد طلب بها أبوك من كل وجه، وأخرجها تخاصم، ومرضها سرا ودفنها ليلا، وأبى الناس إلا تقديم الشيخين، ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأمر بالصلاة غيره. ثم أخذ الناس رجلا رجلا فلم يأخذوا أباك فيهم. ثم كان في أصحاب الشورى، فكل دفعه عنها، بايع عبد الرحمن عثمان، وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه. ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدّك إلى أبيك الحسن، فسلّمه إلى معاوية بخزف ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حلّه، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. فأمّا قولك إنّ الله اختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذابا فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هيّن، ولا ينبغي لمسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يفتخر بالنار، ستردّ فتعلم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. وأمّا قولك لم تلدك العجم ولم تعرف فيك أمهات الأولاد، وأنك أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا وقدّمت نفسك على من هو خير منك أوّلا وآخرا وأصلا وفصلا، فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعلى والد والده، فانظر ويحك أين تكون من الله غدا وما ولد قبلكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أفضل من عليّ بن الحسين، وهو لأم ولد، ولقد كان خيرا من جدّك حسن بن حسن. ثم ابنه محمد خير من أبيك، وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر وهو خير، ولقد علمت أنّ جدّك عليّا حكّم الحكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فأجمعا على خلعه. ثم خرج عمّك الحسين بن علي بن مرجانة فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب كالسبي المجلوب إلى الشام، ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرّقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا يسيركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار كل صلاة مكتوبة كما يلعن الكفرة، فسفّهناهم وكفّرناهم وبيّنا فضله، وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنّا بما ذكرنا من فضل عليّ قدّمناه على حمزة والعبّاس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلما منهم وابتلى أبوك بالدماء. ولقد علمت أنّ مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعبّاس من دون إخوته فنازعنا فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وليس من عمومته أحد حيّا إلّا العبّاس، وكان وارثه دون عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلّا ولده فاجتمع للعبّاس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب يفضل القديم والحديث ولولا أن العبّاس أخرج إلى بدر كرها لمات عمّاك طالب وعقيل جوعا أو يلحسان جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشنار. ولقد جاء الإسلام والعبّاس يمون به طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدّى عقيلا يوم بدر، فعززناكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثناه دونكم خاتم الأنبياء وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم والسلام. (ثم عقد) أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمّه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر، وقاتله بالمدينة فهزمه وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه عليّ بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استوفيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور، ورجع عيسى إلى المنصور فجهّزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه، وقتله حسبما مرّ ذكره لك، وقتل معه عيسى بن زيد بن عليّ فيمن قتل من أصحابه (وزعم ابن قتيبة) أنّ عيسى بن زيد ابن عليّ ثار على المنصور بعد قتل أبى مسلم، ولقيه. في مائة وعشرين ألفا، وقاتله أياما إلى أن همّ المنصور بالفرار، ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة فكان معه لك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر. (ثم خرج بالمدينة أيام المهدي) سنة تسع وستين من بني حسن الحسين بن عليّ بن حسن المثلّث، وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى، وعمّ المهدي، وبويع للرضا من آل محمد وسار الى مكة، وكتب الهادي الى محمد بن سليمان بن علي وقد كان قدم حاجّا من البصرة فولّاه حربه يوم التروية، فقاتله بفجّة على ثلاثة أميال من مكة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمّه إدريس بن عبد الله فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ، ولحق بمصر نازعا إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين، وكان يتشيّع، فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الّذي كان به مستخفيا، وحمله على البريد الى المغرب ومعه راشد مولاه فنزل بو ليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة من قبائل البربر، وكبيرهم لعهده فأجاره وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العبّاسية وكشف القناع واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا. وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين. ودخلت ملوك زناتة أجمع في طاعته، واستفحل ملكه، وخاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وخاطب الرشيد بذلك، فشدّ إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويعرف بالشمّاخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه ولحق بإدريس مظهرا للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئا من الدعوة العبّاسية ومنتحلا للطالبيين، واختصه الإمام إدريس وحلي بعينه، وكان قد تأَبَّط سمّا في سنون فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه فكان فيها فيما زعموا حتفه، ودفن ببو ليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشمّاخ ولحقه راشد بوادي ملوية فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيها راشد يده، وأجاز الشمّاخ الوادي فأعجزه وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام فأمره ولحق به كثير من العرب من إفريقية والأندلس، وعجز بنو الأغلب أمراء إفريقية عنه فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب الأقصى دولة إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديّين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر، ونعدّد ملوكهم هناك واحدا واحدا، وانقراض دولتهم وعودها، ونستوعب ذلك كلّه لأنه أمسّ بالبربر فإنّهم كانوا القائمين بدعوتهم. (ثم خرج يحيى) أخو محمد بن عبد الله بن حسن وإدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدّت شوكتهم وسرّح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطّه، فتمّ بينهما، وجاء به الفضل فوفّى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقا سنيّة، ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 فيه من آل الزبير، فيقال أطلقه بعدها، ووصله بمال، ويقال سمّه لشهر من اعتقاله، ويقال أطلقه جعفر بن يحيى افتياتا فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن وخفيت دعوة الزيديّة حينا من الدهر حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره. (الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد) كانت الدولة العبّاسية قد تمهدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم، وسكن أمر الخوارج والدعاة من الشيعة من كل جهة حتى إذا هلك الرشيد، ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع، وقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين، ووقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع، وبقي المأمون مقيما بخراسان تسكينا لأهلها عن ثائرة الفتن، وولي على العراق الحسن بن سهل، اتسع الخرق حينئذ بالعراق وأشيع عن المأمون أنّ الفضل بن سهل غلب عليه، وحجره فامتعض الشيعة لذلك، وتكلّموا، وطمع العلويّة في التوثّب على الأمر، فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنّى المقتول بالبصرة أيام المنصور. وكان منهم محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ولقبه أبوه طباطبا، لكنة كانت في لسانه، أيام مرباه بين داياته فلقّب بها، وكان شيعته من الزيديّة وغيرهم يدعون إلى إمامته لأنها كانت متوارثة في آبائه من إبراهيم الإمام جدّه على ما قلناه في خبره، فخرج سنة تسع وتسعين، ودعا لنفسه، ووافاه أبو السرايا السريّ بن منصور كبير بني شيبان فبايعه وقام بتدبير حربه، وملك الكوفة وكثر تابعوه من الأعراب وغيرهم، وسرّح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله فهزمه طباطبا واستباح معسكره، ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة، ويقال إنّ أبا السرايا سمّه لما منعه من الغنائم فبايع أبو السرايا يومه ذلك لمحمد بن محمد بن زيد بن عليّ زين العابدين، واستبدّ عليه، وزحفت عليه جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا وملك البصرة وواسط والمدائن. وسرّح الحسن بن سهل لحربه هرثمة بن أعين وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 مغضبا فاسترضاه وجهّز له الجيوش، وزحف إلى أبي السرايا وأصحابه فغلبهم على المدائن، وهزمهم وقتل منهم خلقا، ووجّه أبو السرايا إلى مكّة الحسين الأفطس ابن الحسن بن عليّ زين العابدين، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن حسن المثنّى ابن الحسن، وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يقال له زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة فملكوا مكة والمدينة والبصرة، وكان بمكّة مسرور الخادم الأكبر، وسليمان بن داود بن عيسى، فلما أحسوا بقدوم الحسين فرّوا عنها، وبقي الناس في الموقف فوضى، ودخلها الحسين من الغد فعاث في أهل الموسم ما شاء الله. واستخرج الكنز الّذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وقدره فيما قيل مائتا قنطار ثنتان من الذهب فأنفقه وفرّقه في أصحابه ما شاء الله. ثم إنّ هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه، ثم بحث عن منصور ابن المهدي فكان أميرا معه، واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة، وخرج الى القادسية، ثم الى واسط، ولقيه عاملها وهزمه، ولحق بجلولاء مغلولا جريحا فقبض عليه عاملها وقدمه الى الحسن بن سهل بالنهروان فضرب عنقه، وذلك سنة مائتين. وبلغ الخبر الطالبيّين بمكة فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق، وسمّوه أمير المؤمنين، وغلب عليه ابناه عليّ وحسين فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئا، ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم ابن جعفر الصادق باليمن في أهل بيته فدعا لنفسه هنالك، وتغلّب على الكثير من بلاد اليمن، وسمّي الجزار لكثرة ما قتل من الناس. وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون فجهّزه لحرب هؤلاء الطالبيين فتوجّه إلى مكة وغلبهم عليها، وخرج محمد بن جعفر الصادق إلى الأعراب بالساحل فاتبعهم إسحاق وهزمهم، ثم طلبهم وطلب محمد الأمان فأمّنه، ودخل مكّة وبايع للمأمون وخطب على المنبر بدعوته، وسابقته الجيوش إلى اليمن فشرّدوا عنه الطالبيّين وأقاموا فيه الدعوة العباسية، ثم خرج الحسين الأفطس ودعا لنفسه بمكة، وقتله المأمون وقتل ابنيه عليّا ومحمدا. ثم إنّ المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعاتهم وكان يرى مثل رأيهم أو قريبا منه في شأن عليّ والسبطين فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة احدى ومائتين، وكتب بذلك إلى الآفاق، وتقدّم إلى الناس فنزع السواد ولبس الخضرة، فحقد بنو العبّاس ذلك من أمره وبايعوا بالعراق لعمّه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين، وخطب له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 ببغداد وعظمت الفتنة وشخص المأمون من خراسان متلافيا أمر العراق، وهلك عليّ بن موسى في طريقه فجأة، ودفن بطوس سنة ثلاث ومائتين. ووصل المأمون إلى بغداد سنة أربع، وقبض على عمّه إبراهيم وعفا عنه وسكن الفتنة. (وفي سنة تسع) بعدها خرج باليمن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يدعو للرّضا من آل محمد، وبايعه أهل اليمن، وسرّح إليه المأمون مولاه دينارا، واستأمن له فأمّنه وراجع الطاعة. (ثم كثر خروج الزيدية) من بعد ذلك بالحجاز والعراق والجبال والديلم وهرب إلى مصر خلق، وأخذ منهم خلق، وتتابع دعاتهم. (فأوّل) من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن زين العابدين، هرب خوفا من المعتصم سنة تسع عشرة ومائتين، وكان بمكان من العبادة والزهد فلحق بخراسان، ثم مضى إلى الطالقان ودعا بها لنفسه، واتبعته أمم الزيدية كلهم. ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه، وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات، ويقال إنه مات مسموما (ثم خرج) من بعده بالكوفة أيضا الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي ابن زين العابدين، واجتمع إليه الناس من بني أسد وغيرهم من جموعه وأشياعه، وذلك سنة إحدى وخمسين ومائتين، وزحف إليه ابن شيكال [1] من أمراء الدولة فهزمه، ولحق بصاحب الزنج فكان معه، وكاتبه أهل الكوفة في العود إليه، وظهر عليه صاحب الزنج فقتله. وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل، واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة وأعمالها، وكان يقول في لفظة من أعلمه أنه من ولد عيسى بن زيد الشهيد وأنه عليّ بن محمد بن زيد بن عيسى. ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد، والحق أنه دعيّ في أهل البيت كما نذكره في أخباره. وزحف إليه الموفّق أخو المعتمد ودارت بينه وبينهم حروب إلى أن قتله، ومحا أثر تلك الدعوة كما قدّمناه في أخبار الموفّق ونذكره في أخبارهم. (ثم خرج في الديلم) من ولده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي، وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن خرج لخمس وخمسين فملك طبرستان وجرجان وسائر أعمالها، وكانت له ولشيعته الزيدية دولة هناك. ثم انقرضت آخر المائة الثالثة،   [1] وفي نسخة اخرى: ابن بشكال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وورثها من ولد الحسن السبط، ثم من ولد عمر بن عليّ بن زين العابدين الناصر الأطروش وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر وهو ابن عمّ صاحب الطالقان. أسلم الديلم على يد هذا الأطروش وملك بهم طبرستان وسائر أعمال الداعي، وكانت له ولبنيه هنالك دولة، وكانوا سببا لملك الديلم البلاد وتغلّبهم على الخلفاء كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم. (ثم خرج باليمن) من الزيدية من ولد القاسم الرسيّ بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا أعوام ثمانية وثمانين ومائتين يحيى بن الحسين بن القاسم الرسيّ فاستولى على صعدة وأورث عقبه فيها ملكا باقيا لهذا العهد، وهي مركز الزيدية كما نذكر في أخبارهم. (وفي خلال ذلك خرج بالمدينة) الأخوان محمد وعليّ ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم وعاثا في المدينة عيثا شديدا وتعطلت الصلاة بمسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من شهر وذلك سنة إحدى وسبعين. (ثم ظهر بالمغرب) من دعاة الرافضة أبو عبد الله الشيعي في كتامة من قبائل البربر أعوام ستة وثمانين ومائتين داعيا لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر ابن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق فظهر على الأغالبة بالقيروان، وبايع لعبيد الله المهدي سنة ست وتسعين فتم أمره وملك المغربين، واستفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه. ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فملكها منهم المعزّ لدين الله معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي وشيّد القاهرة. ثم ملك الشام واستفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على العاضد [1] منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة. (ثم ظهر في سواد الكوفة) سنة ثمان وخمسين ومائتين من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى، ويدعى قرمط، بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفيّة فيه كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم، وادّعى أنّ أحمد بن الحنفيّة هو المهدي المنتظر، وعاث في بلاد السواد، ثم في بلاد الشام وتلقّب وكرويه بن مهرويه، واستبدّ طائفة منهم بالبحرين ونواحيها ورئيسهم أبو سعيد الجناجيّ، وكان له هناك ملك ودولة أورثها بنيه من بعده إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم. وكان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العبيديّين بالمغرب وطاعتهم. (ثم كان بالعراق) من دعاة   [1] مقتضى السياق: في أيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 الإسماعيلية وهؤلاء الرافضة طوائف آخرون، واستبدوا بكثير من النواحي، ونسب إليهم فيها القلاع قلعة الموت وغيرها، وينسبون تارة إلى القرامطة، وتارة إلى العبيديّين، وكان من رجالاتهم الحسن بن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة السلجوقية. (وكان باليمامة ومكة والمدينة) من بعد ذلك دول للزيديّة والرّافضة فكان باليمامة دولة لبني الأخضر، وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنّى، خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين وخمسين ومائتين وملك مكة. ثم مات فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها وأورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة. (وكان بمكة) دولة لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنّى خرج محمد بن سليمان أيام المأمون وتسمّى بالناهض، وملك مكّة، واستقرّت إمارتها في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم وكبيرهم محمد بن جعفر ابن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون فملكها من إبراهيم سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وغلب بني حسن على المدينة وداول الخطبة بمكة بين العبّاسيين والعبيديّين واستفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة، وغلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد. ملك أوّلهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون وورث دولة الهواشم وملكهم، وأورثها بنيه إلى هذا العهد كما نذكر في أخبارهم، وهؤلاء كلهم زيديّة. (وبالمدينة) دولة للرافضة لولد الهناء. قال المسبحي: اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم، وفي كتاب العتبي مؤرّخ دولة ابن سبكتكين أنّ مسلما اسمه محمد بن طاهر وكان صديقا لكافور، ويدبّر أمره وهو من ولد الحسن بن عليّ زين العابدين. واستولى طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلاثمائة وأورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم والله وارث الأرض ومن عليها الخبر عن الأدارسة ملوك المغرب الأقصى ومبدإ دولتهم وانقراضها ثم تجدّدها مفترقة في نواحي المغرب لما خرج حسين بن عليّ بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط بمكة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائة أيام المهدي، واجتمع عليه قرابته وفيهم عمّاه إدريس ويحيى، وقاتلهم محمد بن سليمان بن علي بعجة على ثلاثة أميال بمكة فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته وانهزموا وأسر كثير منهم، ونجا يحيى بن إدريس وسليمان، وظهر يحيى بعد ذلك في الديلم، وقد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد وحبسه. (وأمّا إدريس) ففرّ ولحق بمصر، وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين، وكان واضح يتشيّع، فعلم شأن إدريس وأتاه إلى الموضع الّذي كان به مستخفيا ولم ير شيئا أخلص من أن يحمله على البريد إلى المغرب ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى هو ومولاه راشد، ونزل بولية [1] سنة اثنتين وسبعين وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة وكبيرهم لعهده فأجاره، وأجمع البرابر على القيام بدعوته، وكشف القناع في ذلك، واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسدراتة وغياثة ونفرة ومكناسة وغمارة وكافة البرابر بالمغرب فبايعوه، وقاموا بأمره. وخطب الناس يوم بويع فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه لا تمدّن الأعناق إلى غيرنا فإنّ الّذي تجدونه عندنا من الحق لا تجدونه عند غيرنا ولحق به من إخوته سليمان، ونزل بأرض زناتة من تلمسان ونواحيها، ونذكر خبره فيما بعد. (ولما استوثق) أمر إدريس وتمّت دعوته زحف إلى البرابرة الذين كانوا بالمغرب على دين المجوسيّة واليهوديّة والنصرانيّة مثل قندلاوة وبهلوانه ومديونة وما زار وفتح تامستا [2] ومدينة شاله وتادلا [3] وكان أكثرهم على دين اليهوديّة والنصرانيّة فأسلموا على يديه طوعا وكرها وهدم معاقلهم وحصونهم. ثم زحف إلى تلمسان وبها من قبائل بني يعرب ومغراوه سنة ثلاث وسبعين، ولقيه أميرها محمد بن حرز بن جزلان فأعطاه الطاعة، وبذل له إدريس الأمان ولسائر زناتة فأمكنه من قياد البلد، وبنى مسجدها وأمر بعمل منبره وكتب اسمه فيه حسبما هو مخطوط في صفح [4] المنبر لهذا العهد. ورجع إلى مدينة وليلى ثم دسّ إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز ويعرف بالشمّاخ أنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه، ولحق بإدريس مظهرا النزوع   [1] هي وليلى: مدينة بالمغرب قرب طنجة (معجم البلدان) [2] هي تامست: قرية لكتامة وزناتة قرب المسيلة وأشير بالمغرب (معجم البلدان) [3] هي تادلة: من جبال البربر بالمغرب قرب تلمسان (معجم البلدان) [4] جنب المنبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 إليه فيمن نزع من وهران المغرب متبرئا من الدعوة العبّاسية ومنتحلا للطلب. واختصه الإمام إدريس وحلا بعينه وكان قد تأَبَّط سمّا في سنون، فناوله إيّاه عند شكايته من وجع أسنانه، فكان فيه كما زعموا حتفه ودفن بوليلى سنة خمس وسبعين. وفرّ الشمّاخ ولحقه فيما زعموا راشد بوادي ملويّة فاختلفا ضربتين قطع فيها راشد يد الشمّاخ، وأجاز الوادي فأعجزه، واعتلق بالبرابر من أوربة وغيرهم فجمل من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزه بايعوه حملا ثم رضيعا ثم فصيلا إلى أن شبّ واستنم فبايعوه بجامع وليلى سنة ثمان وثمانين ابن إحدى عشرة سنة، وكان ابن الأغلب دسّ إليهم الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشدا مولاه سنة ست وثمانين، وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبديّ، ولم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس، فقاموا بأمره وجردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته، وافتتحوا بلاد المغرب كلّها واستوثق لهم الملك بها واستوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمّى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم. وسمته على الخرطوم وكأنها خطام، ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه. ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحسّ منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب، وكثرت حاشية الدولة وأنصارها، وضاقت وليلى بهم فاعتام موضعا لبناء مدينة لهم، وكانت فاس موضعا لبني بوغش وبني الخير من وزاغة، وكان في بني بوغش مجوس ويهود ونصارى، وكان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم، وأسلموا كلّهم على يده. وكانت بينهم فتن فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجيّ. ثم جاء إلى فاس وضرب أبنيته بكزواوه، وشرع في بنائها فاختطّ عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفي سنة ثلاث بعدها اختطّ عدوة القرويّين وبنى مساكنه، وانتقل إليها وأسس جامع الشرفاء، وكانت عدوة القرويّين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء والجرف، واستقام له أمر الخلافة وأمر القائمين بدعوته وأمر العزّ والملك. ثم خرج غازيا المصامدة سنة سبع وتسعين فافتتح بلادهم ودانوا بدعوته. ثم غزا تلمسان وجدّد بناء مسجدها وإصلاح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين، وانتظمت كلمة البرابرة وزناتة ومحوا دعوة الخوارج منهم، واقتطع الغربيّين عن دعوة العبّاسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف. ودافع إبراهيم بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 الأغلب عن حماه بعد ما ضايقه بالمكاد، واستقاد الأولياء واستمال بهلول بن عبد الواحد المظفري بمن معه من قومه عن طاعة إدريس إلى طاعة هارون الرشيد. ووفد عليه بالقيروان، واستراب إدريس بالبرابرة فصالح إبراهيم بن الأغلب وسكن من غربة. وعجز الأغالبة من بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة، ودافعوا خلفاء بني العبّاس بالمعاذير بالغضّ من إدريس والقدح في نسبه إلى أبيه إدريس بما هو أوهن من خيوط العناكب. (وهلك إدريس) سنة ثلاث عشرة وقام بالأمر من بعده ابنه محمد بعهده إليه فأجمع أمره بوفاة جدّته كنزة أمّ إدريس على أن يشرك إخوته في سلطانه ويقاسم ممالك أبيه. فقسّم المغرب بينهم أعمالا اختصّ منها القاسم بطنجة وبسكرة وسبته وتيطاوين وقلعة حجر النسر وما الى ذلك من البلاد والقبائل واختصّ عمر بتيكيسان وترغة وما بينهما من قبائل صنهاجة وغمارة واختص داود ببلاد هوارة وتسول وتازي وما بينهما من القبائل: مكناسة وغياثة واختص عبد الله باغمات وبلد نفيس وجبال المصامدة وبلاد لمطة والسوس الأقصى، واختص يحيى [1] بأصيلا والعرائش وبلاد زوغة وما إلى ذلك. واختص عيسى بشالة وسلا وازمور وتامسنا وما الى ذلك من القبائل واختص حمزة بو ليلى واعمالها وأبقى الباقين في كفالتهم وكفالة جدّتهم كنزة لصغرهم وبقيت تلمسان لولد سليمان بن عبد الله وخرج عيسى بأزمور [2] على أخيه محمد طالبا الأمر لنفسه، فبعث لحربه أخاه عمر بعد أن دعا القاسم لذلك فامتنع. ولما أوقع عمر بعيسى وغلب على ما في يده استنابه إلى أعماله بإذن أخيه محمد. ثم أمره أخوه محمد بالنهوض إلى حرب القاسم لقعوده عن إجابته، في محاربة عيسى فزحف إليه، وأوقع به، واستناب عليه إلى ما في يده فصار الريف البحري كلّه من عمل عمر هذا من تيكيشاش، وبلاد غمارة إلى سبته، ثم إلى طنجة، وهذا ساحل البحر الرومي، ثم ينعطف إلى أصيلا ثم سلا، ثم أزمور وبلاد تامستا، وهذا ساحل البحر الكبير. وتزهّد القاسم وبنى رباطا بساحل أصيلا للعبادة إلى أن هلك، واتسعت ولاية عمر بعمل عيسى والقاسم، وخلصت طويته لأخيه   [1] (هكذا بياض بالأصل والظاهر من النسخة المغربية المجلد السادس المختص ببلاد المغرب ان البياض ترك من قبل الناسخ وذلك دون مبرز) [2] ربما هي أزمورة: «ثلاث ضمات متواليات، وتشديد الميم، والواو ساكنة وراء مهملة: بلد بالمغرب في جبال البربر» (معجم البلدان) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 محمد الأمير، وهلك في إمارة أخيه محمد ببلد صنهاجة بموضع يقال له: فجّ الفرص سنة عشرين ومائتين، ودفن بفاس وعمر هذا هو جدّ المحموديّين الدائلين بالأندلس من بني أمية كما نذكره، وعقد الأمير محمد على عمله لولده عليّ بن عمر. ثم كان مهلك الأمير محمد لسبعة أشهر من مهلك أخيه عمر سنة إحدى وعشرين ومائتين بعد أن استخلف ولده عليّا في مرضه وهو ابن تسع سنين فقام بأمره الأولياء والحاشية من العرب وأوربة وسائر البربر وصنائع الدولة وبايعوه غلاما مترعرعا وقاموا بأمره وأحسنوا كفالته وطاعته فكانت أيامه خير أيام، وهلك سنة أربع وثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته، وعهد لأخيه يحيى بن محمد فقام بالأمر، وامتدّ سلطانه وعظمت دولته، وحسنت آثار أيامه. واستجدّت فاس في العمران وبنيت بها الحمامات والفنادق للتجار، وبنيت الأرباض، ورحل إليها الناس من الثغور القاصية واتفق أن نزلتها امرأة من أهل القيروان تسمّى أم البنين بنت محمد الفهريّ، وقال ابن أبي ذرع اسمها فاطمة، وانها من هوّارة، وكانت مثرية بموروث أفادته من ذويها، واعتزمت على صرفه في وجوه الخير فاختطت المسجد الجامع بعدوة القرويّين أصغر ما كان سنة خمس وأربعين في أرض بيضاء كان أقطعها الإمام إدريس، وأنبطت بصحنها بئرا شرابا للناس، فكأنما نبّهت بذلك عزائم الملوك من بعدها، ونقلت إليه الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته وجوار بيته. واختط بعد ذلك أحمد بن سعيد بن أبي بكر اليغرنيّ صومعته سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، على رأس مائة سنة من اختطاط الجامع حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها. ثم أوسع في خطته المنصور بن أبي عامر، وجلب إليه الماء وأعدّ له السقاية والسلسلة بباب الحفاة منه. ثم أوسع في خطته آخر ملوك لمتونة من الموحدين، وبني مرين واستمرّت العمارة به، وانصرفت هممهم الى تشييده والمنافسات في الاحتفال به فبلغ الاحتفال فيه ما شاء الله حسبما هو مذكور في تواريخ المغرب وهلك يحيى هذا سنة [1] وولى ابنه يحيى بن يحيى فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم وثارت به العامّة لمركب شنيع أتاه وتولى كبر الثورة عبد الرحمن بن أبي سهل الحزامي، وأخرجوه من عدوة القرويّين الى عدوة الاندلسيّين فتوارى ليلتين ومات أسفا ليلته. وانقطع الملك من عقب محمد   [1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد وفاة يحيى بن محمد في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 ابن إدريس، وبلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمّه عليّ بن عمر صاحب الريف، واستدعاه أهل الدولة من العرب والبربر والموالي فجاء إلى فاس ودخلها وبايعوه، واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه عبد الرزاق الخارجي، خرج بجبال لمتونة وكان على رأي الصفريّة فزحف إلى فاس وغلب عليها، ففرّ إلى أروبة وملك عبد الرزاق عدوة الأندلس، وامتنعت منه عدوة القرويّين، وولّوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس، وكان يعرف بالصرام، بعثوا إليه فجاءهم في جموعه، وكانت بينه وبين الخارجي حروب. ويقال إنه أخرجه من عدوة الأندلس، واستعمل عليها ثعلبة بن محارب بن عبد الله، كان من أهل الربض بقرطبة من ولد المهلّب بن أبي صفرة. ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده، ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وقام بالأمر مكانه يحيى بن إدريس بن عمر صاحب الريف، وهو ابن أخي عليّ بن عمر فملك جميع أعمال الأدارسة، وخطب له على سائر أعمال المغرب، وكان أعلى بني إدريس ملكا وأعظمهم سلطانا، وكان فقيها عارفا بالحديث ولم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان والدولة، وفي أثناء ذلك كله خلط [1] الملك للشيعة بإفريقية، وتغلّبوا على الاسكندرية واختطوا المهديّة كما نذكره في دولة كتامة. ثم طمحوا إلى ملك المغرب وعقدوا لمضالة بن حبوس كبير مكناسة وصاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس وثلاثمائة، فزحف إليه في عساكر مكناسة وكتامة، وبرز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب، وأولياء الدولة من أوربة وسائل البرابرة والموالي، والتقوا على مكناسة وكانت الدبرة على يحيى وقومه، ورجع إلى فاس مغلولا وأجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤدّيه إليه وطاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه، يؤدّيها فقبل الشرط، وخرج عن الأمر، وخلع نفسه، وأنفذ بيعته إلى عبيد الله المهديّ وأبقى عليه مصالحه في سكنى فاس، وعقد له على عملها خاصة، وعقد لابن عمّه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ وصاحب سنور وتازير [2] على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة ودولة موسى. وكان بين موسى بن أبي العافية وبين يحيى بن إدريس شحناء وعداوة، يضطغنها كل واحد   [1] هكذا بالأصل وليس لها معنى هنا ولعلها خلص وقد حرّفها الناسخ [2] وفي نسخة ثانية سنوره تازه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 لصاحبه حتى إذا عاد مضالة إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغزاه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس، فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله وذخائره وغرّبه إلى أصيلا والريف عمل ذي قرباه ورحمه، وولىّ على فاس ريحان الكتاميّ. ثم خرج يحيى يريد إفريقية فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنتين وأطلقه ولحق بالمهدية منه إحدى وثلاثين وهلك في حصار أبي يزيد سنة [1] واستبد ابن أبي العافية بملك المغرب وثار على ريحان الكتاميّ بفاس سنة ثلاثة عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقب بالحجّام، ونفى ريحان عنها وملكها عامين، وزحف للقاء موسى بن أبي العافية وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل وخلص الحسن إلى فاس منهزما وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله. وبعث إلى موسى فوصل إلى فاس وملكها وطالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكرا فتدلى من السور فسقط ومات من ليلته وفرّ حامد ابن حمدان إلى المهديّة، وقتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن ثعلبة بن محارب وابنيه محمدا ويوسف وذهب ملك الأدارسة، واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس، وأخاه الحسن إلى الريف فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن وولّوه عليهم واختط لهم الحصن المعروف بهم لك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ونزلوه وبنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة وطنجة، وبقي إبراهيم كذلك. وشمّر الناصر المرواني لطلب المغرب، وملك سبتة عليّ بن إدريس سنة تسع عشرة، وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر فانجابوا له عنها وأنزل بها حاميته. وهلك إبراهيم بن محمد كبير بني محمد فتولّى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقّب بكانون، وهو أخو الحسن الحجّام، واسمه القاسم بن محمد بن القاسم، وقام بدعوة الشيعة انحرافا عن أبي العافية ومذاهبه. واتصل الأمر في ولده وغمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة. ودخلت دعوة المروانيين خلفاء قرطبة إلى المغرب، وتغلّبت زناتة على الضواحي. ثم ملك بنو يعرب فاس وبعدهم مغراوة وأقام   [1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد وفاته في المراجع التي لدينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 الأدارسة بالريف مع غمارة وتجدّد لهم به ملك في بني محمد، وبني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر ومدينة سبتة وأصيلا. ثم تغلّب عليهم المروانيون وأنحنوهم إلى الأندلس، ثم أجازوهم إلى الإسكندرية. وبعث العزيز العبيديّ بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر وقتله. وعليه كان انقراض أمرهم وانقراض سلطان أوربة من المغرب، وكان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس. وذلك أنّ الأدارسة لما انقرض سلطانهم وصاروا إلى بلاد غمارة واستجدّوا بها رياسة، واستمرّت في بني محمد وبني عمر من ولد إدريس بن إدريس، وكانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة وخلطة. وكان بنو حمود هؤلاء [1] من غمارة فأجازوا مع البربر حين أجازوا في مظاهرة المستعين. ثم غلبوه بعد ذلك على الأمر وصار لهم ملك الأندلس حسبما نذكر في أخبارهم. (وأما سليمان) أخو إدريس الأكبر فإنه فرّ إلى المغرب أيام العبّاسيّين فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس، وطلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة وطلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه. ولحق بتلمسان فملكها وأذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك، وورث ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه، ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط، واقتسموا ممالكه ونواحيه فكانت تلمسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد، وأظنّ هذا القاسم هو الّذي يدّعي بنو عبد الواد نسبه، فإنّ هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى. وكانت أرشكول لعيسى بن محمد بن سليمان وكان منقطعا إلى الشيعة، وكانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان، ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش، ولم تزل إمارتها في ولده، ووليها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى، ثم ابنه يحيى بن إبراهيم، ثم أخوه إدريس بن إبراهيم، وكان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعا إلى عبد الرحمن الناصر وأخوه يحيى كذلك. وارتاب من قبله ميسور قائد الشيعة فقبض عليه سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة، ثم انحرف عنهم فلما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلويّة نابذ أولياء الشيعة فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي العيش، وغلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول. ثم حاصرها البوري بن موسى   [1] هكذا بياض بالأصل وبعد مراجعة نسخ اخرى تبين لنا ان الناسخ ترك الفراغ دون مبرر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 ابن أبي العافية وغلب عليهما، وبعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة، وكانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان ثم لابنه محمد من بعده، ثم لابنه يحيى بن محمد، ثم ابنه عليّ بن يحيى، وتغلّب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة ففرّ إلى الجبر بن محمد بن خزر، وجاز ابناه حمزة ويحيى إلى الناصر فتلقّاهما رحبا وتكرمة. ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها. وكان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم، وسليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط. وكان من بني محمد بن سليمان هؤلاء وبطوش بن حناتش بن الحسن ابن محمد بن سليمان، قال ابن حزم: وهم بالمغرب كثير جدّا، وكان لهم بها ممالك، وقد بطل جميعها ولم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية. وحمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان وبقيت منهم بقايا في الجبال والأطراف معروفون لك عند البربر والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن صاحب الزنج وتصاريف أمره واضمحلال دعوته) هذه الدعوة فيها اضطراب منذ أوّلها فلم يتمّ لصاحبها دولة، وذلك أنّ دعاة العلوية منذ زمان المعتصم من الزيدية كما شرحناه، وكان من أعظمهم الذين دعا لهم شيعتهم بالنواحي عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد، ولما اشتهر أمره فرّ وقتل ابن عمه عليّ بن محمد بن الحسن بن علي بن عيسى، وبقي هو متغيبا فادّعى صاحب الزنج هذا سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهدي أنه هو، فلما ملك البصرة ظهر هذا المطلوب، ولقيه صاحب الزنج حيّا معروفا بين الناس فرجع عن دعوى نسبه وانتسب إلى يحيى بن يزيد قتيل الجون، ونسبه المسعودي إلى طاهر بن الحسين بن عليّ، وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر. ويشكل [1] ذلك بأنّ الحسين بن فاطمة لم يكن له عقب إلّا من زين العابدين، قاله ابن حزم وغيره، فإن أراد بطاهر طاهر بن يحيى المحدث بن الحسن بن عبيد الله بن   [1] هكذا بالأصل ولعلها يشك وهذا تحريف من الناسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 الحسن الأصغر بن زين العابدين فتطول سلسلة نسبه، وتشتمل على اثني عشر إلى الحسين بن فاطمة، ويبعد ذلك إلى العصر الّذي ظهر فيه. والّذي عليه المحقّقون الطبري وابن حزم وغيرهما أنه رجل من عبد القيس من قرية تسمّى ودريفن من قرى الري، واسمه علي بن عبد الرحيم حدّثته نفسه بالتوثّب، ورأى كثرة خروج الزيديّة من الفاطميين فانتحل هذا النسب وادّعاه، وليس من أهله. ويصدّق هذا أنه كان خارجيّا على رأي الأزارقة يلعن الطائفتين من أهل الجمل وصفين، وكيف يكون هذا من علويّ صحيح النسب؟ ولأجل انتحاله هذا النسب وبطلانه في دعاويه فسد أمره فقتل ولم تقم له دولة بعد أن فعل الأفاعيل وعاث في جهات البصرة، واستباح الأمصار وخرّبها، وهزم العساكر وقتل الأمراء الأكابر، واتخذ لنفسه حصونا قتل فيها من جاوبه لمكره سنة الله في عباده. (وسياق الخبر عنه) أنه شخص من الذين حجبوا ببغداد مع جماعة من حاشية المنتصر، ثم سار إلى البحرين سنة تسع وأربعين ومائتين فادّعى أنه علويّ من ولد الحسين بن عبيد الله بن العباس بن عليّ، ودعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهل هجر. ثم تحوّل إلى الإحساء، ونزل على بعض بني تميم ومعه قوارة يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع، وقاتل أهل البحرين فهزموه وافترقت العرب عنه، ولحق بالبصرة والفتنة فيها بين البلاليّة والسعديّة، وبلغ خبره محمد بن رجاء العامل فطلبه فهرب وحبس ابنه وزوجته وبعض أصحابه، ولحق هو ببغداد فانتسب إلى عيسى بن زيد الشهيد كما قلناه، وأقام بها حولا، ثم بلغه أنّ البلالية والسعدية أخرجوا محمد بن رجاء من البصرة، وأن أهله خلصوا فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين، ومعه يحيى بن محمد وسليمان بن جامع. ومن أهل بغداد الذين استمالهم جعفر بن محمد الصمد حاني وعلي بن أبان وعبدان غير من سمينا فنزل بظاهر البصرة، ووجّه دعوته إلى العبيد من الزنوج وأفسدهم على مواليهم ورغّبهم في العتق، ثم في الملك، واتخذ راية رسم فيها أنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية. وجاءه موالي العبيد في طلبهم فأمرهم بضربهم وحسبهم، ثم أطلقهم. وتسايل إليه الزنوج واتبعوه وهزم عساكر البصرة والأبلّة وذهب إلى القادسية، وجاءت العساكر من بغداد فهزمهم ونهب النواحي، وجاء المدد إلى البصرة مع جعلان من قوّاد الترك وقاتلوه فهزمهم. ثم ملك الأبلّة واستباحها، وسار إلى الأهواز وبها إبراهيم بن المدير على الخوارج. فافتتحها وأسر ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 المدير سنة ست وخمسين إلى أن فرّ من محبسهم، فبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع وخمسين، وهو يومئذ عامل البصرة وسار من واسط فهزمه علي بن أبان من قوّاد الزنج لحربهم، هزمه إلى البحرين فتحصّن بالبصرة، وزحف علي بن أبان لحصاره حتى نزل على أمانه، ودخلها وأحرق جامعها، ونكب عليه صاحب الزنج فصرفه، وولّى على البصرة مكانه يحيى بن محمد البحراني، وبعث المعتمد محمد بن المولد إلى البصرة فأخرج عنه الزنج، ثم بيتوا محمد بن المولد فهزموه. ثم ساروا إلى الأهواز وعليها منصور الخيّاط فواقع الزنج فغلبوه وكان المعتمد قد استقدم أخاه أبا أحمد الموفّق من مكة وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز، وأمره أن يعقد ليارجوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح. ثم انهزم سعيد بن صالح فعقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه، ثم قتله الزنج كما قلناه فأمر المعتمد أخاه الموفّق بالمسير إليهم في ربيع سنة ثمان وخمسين، وعلى مقدّمته مفلح فأجفل الزنج عن البصرة، وسار قائدهم عليّ بن أبان فلقي مفلحا فقتل مفلح وانهزم أصحابه ورجع الموفّق إلى سامرّا، وكان اصطيخور ولي الأهواز بعد منصور الخيّاط، وجاءه يحيى بن محمد البحراني من قوّاد الزنج، وبلغهم مسير الموفّق فانهزم يحيى البحراني، ورجع في السفن، فأخذ وحمل إلى سامرّا فقتل [1] . وبعث صاحب الزنج مكانه عليّ بن أبان وسليمان الشعراني [2] فملكوا الأهواز من يد اصطيخور [3] سنة تسع وخمسين، بعد أن هزموه وهرب في السفن فغرق. وسرّح المعتمد لحربهم موسى بن بغا بعد أن عقد له على تلك الأعمال فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة إسحاق بن كيداجق [4] ، وإلى باداورد إبراهيم بن سليمان [5] ، وأقاموا في حروبهم مدّة سنة ونصفها. ثم استعفى موسى بن بغا وولّى على تلك   [1] قصة انهزام يحيى البحراني غير واضحة ومبتورة وفي كتاب «ثورة الزنج» للدكتور فيصل السامر ص 114: «وفي موقعة اخرى جرت في الأهواز جرح وأسر أحد قواد الزنج الكبار وهو يحيى البحراني وأخذ الى سامرّاء حيث ضرب بالسياط على مرأى من الناس وقطعت يداه، ورجلاه ثم ذبح وأحرق» . [2] هما: علي بن أبان المهلبي وسليمان بن موسى الشعراني. [3] اصعجور: ابن الأثير ج 7 ص 259 [4] إسحاق بن كنداجق: ابن الأثير ج 7 ص 260 [5] وإلى باذاورد إبراهيم بن سيما: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 الأعمال مكانه مسرور البلخي، وجهّز المعتمد أخاه أبا أحمد الموفّق لحربهم بعد أن عهد له بالخلافة ولقّبه الناصر لدين الله الموفق، وولّي على أعمال المشرق كلها إلى آخر أصفهان وعلى الحجاز، فسار لذلك سنة اثنتين وستين، واعترضه يعقوب الصفّار يريد بغداد فشغل بحربة، وانهزم الصفّار وانتزع من يده ما كان ملكه من الأهواز، وكان مسرور البلخي قد سار إلى المعتمد وحضر معه حرب الصفّار، فاغتنم صاحب الزنج خلوّ تلك النواحي من العسكر وبث سراياه للنهب والتخريب في القادسيّة، وجاءت العساكر من بغداد مع أغرتمش وخشتش [1] فهزمهم الزنج وقائدهم سليمان ابن جامع، وقتل خشتش. وكان علي بن أبان من قوّادهم قد سار إلى الأهواز، وأميرها يومئذ محمد بن هزارمرد الكردي، فبعث مسرور البلخي أحمد بن الينونة [2] للقائهم فغلب أولا على الأهواز عليّ بن أبان. ثم ظاهره محمد بن هزارمرد والأكراد فرجع إلى السوس، وأقام علي بن أبان وصاحبه بتستر، وطمع أنه يخطب لصاحب الزنج فخطب هو للصفّار فاقتتلا، وانهزم علي بن أبان وخرج واضطربت فارس بالفتنة. ثم ملك الصفّار الأهواز وواعد الزنج، وسار سليمان بن جامع من قوّاد الزنج، وولّى الموفّق على مدينة واسط أحمد بن المولد، فزحف إليه الخليل بن أبان فهزمه، واقتحم واسطا واستباحها سنة أربع وستين وضربت خيولهم في نواحي السواد إلى النعمانية إلى جرجرايا فاستباحوها، وسار عليّ بن أبان إلى الأهواز فحاصرها واستعمل الموفّق عليها مسرورا البلخيّ فبعث تكيد البخاريّ [3] إلى تستر فهزمهم علي ابن أبان وجماعة الزنج، وسألوه الموادعة فوادعهم واتهمه مسرور فقبض عليه، وبعث مكانه أغرتمش فهزم الزنج أوّلا ثم هزموه ثانيا فوادعهم. ثم سار علي بن أبان الى محمد بن هزارمرد الكرديّ فغلبه على رامهرمز حتى صالحه عليها على مائتي ألف درهم، وعلى الخطبة له في أعماله. ثم سار ابن أبان لحصار بعض القلاع بالأهواز، فزحف إليه مسرور البلخيّ فهزمه واستباح معسكره. وكان الموفّق لما اقتحم الزنج مدينة واسط بعث ابنه أبا العبّاس سنة ست وستين في عشرة آلاف من المقاتلة، ومعه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصير فكتب إليه نصير بأن سليمان بن جامع أقبل في   [1] حشيش: ابن الأثير ج 7 ص 293 [2] احمد بن ليثويه: ابن الأثير ج 7 ص 294 [3] تكين البخاري: ابن الأثير ج 7 ص 329 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 المقاتلة والسفن برّا وبحرا، وعلى مقدّمته الجناني [1] ، ولحقهم سليمان بن موسى الشعراني بالعساكر، ونزلوا من الطفح إلى أسفل واسط، فسار إليهم أبو العبّاس فهزمهم، فتأخروا وراءهم وأقام على واسط يردّد عليهم الحروب والهزائم مرة بعد أخرى، ثم أمر صاحب الزنج قائده ابن أبان وابن جامع أن يجتمعا لحرب أبي العبّاس بن الموفّق، وبلغ ذلك الموفّق فسار من بغداد في ربيع سنة سبع وستين فانتهى إلى المنيعة، وقاتل الزنج فانهزموا أمامه واتبعهم أصحاب أبي العبّاس ابنه فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا وأسروا، وهدم سور المنيعة وطمس خندقها وهرب الشعراني وابن جامع. وسار أبو العبّاس إلى المنصورة بطهشا [2] فنازلها وغلب عليها، وأفلت ابن جامع إلى واسط وغلب على ما فيها من الذخائر والأموال، وهدم سورها وطمّ خنادقها ورجع إلى واسط. ثم سار الموفّق إلى الزنج بالأهواز واستخلف ابنه هارون على جنده بواسط، وجاءه الخبر برجوع الزنج إلى طهشا والمنصورة، فردّ إليهم من يوقع بهم ومضى لوجهه فانتهى إلى السوس وعليّ بن أبان بالأهواز، فسار إلى صاحبه واستأمن المخلفون لك إلى الموفّق فامّنهم، وسار إلى تستر وأمّن محمد بن عبد الله الكردي، ثم وافى الأهواز وكتب إلى ابنه هارون أن يوافيه بالجند بنهر المبارك من فرات البصرة، وبعث ابنه أبا العبّاس لحرب الخبيث بنهر أبي الخصيب واستأمن إليه جماعة من قوّاده فأمّنهم وكتب إليه بالدعوة والأعذار، وزحف إليه في مدينته المختارة له، وأطلق السفن في البحر وعبّى عساكره وهي نحو من خمسين ألفا والزنج في نحو من ثلاثمائة ألف مقاتل، ونصب الآلات ورتّب المنازل للحصار، وبنى المقاعد للقتال، واختطّ مدينة الموفقية لنزوله، وكتب بحمل الأموال والميرة إليها فحملت، وقطع الميرة. عن المختارة، وكتب إلى البلاد بإنشاء السفن والاستكثار منها، وقام يحاصرها من شعبان سنة سبع وستين إلى صفر من سنة سبعين. ثم اقتحم عليهم المختارة فملكها وفرّ الخبيث وابنه أنكلاي وابن جامع إلى معقل أعدّه واتبعه طائفة من الجند فانقطعوا عنه، وأمرهم من الغد باتباعه فانهزم وقتل من أصحابه وأسر ابن جامع. ثم قتل صاحب الزنج وجيء برأسه ولحق أنكلاي بالديناري في خمسة آلاف، ولحقهم أصحاب الموفّق فظفروا بهم وأسروهم أجمعين. وكان درمونة من قوّاده قد لحق   [1] الحياتي: ابن الأثير ج 7 ص 338 [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 345 طهثا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 بالبطيحة، واعتصم بالمغايض والآجام ليقطع الميرة عن أصحاب الموفّق، فلما علم بقتل صاحبه استأمن إلى الموفّق فأمّنه، ثم أقام الموفّق بمدينته قليلا وولّى على البصرة والأبلّة وكور دجلة، ورجع إلى بغداد فدخلها في جمادى سنة سبعين، وكان لصاحب الزنج من الولد محمد ولقبه انكلاي ومعناه بالزنجية ابن الملك، ثم يحيى وسليمان والفضل حبسوا في المطبق إلى أن هلكوا. والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن دعاة الديلم والجيل من العلويّة وما كان لهم من الدولة بطبرستان للدّاعي وأخيه أولا ثم الأطروش وبنيه وتصاريف ذلك إلى انقضائه) (كان) أبو جعفر المنصور قد اختص من العلوية من بني الحسن السبط حافده الحسن ابن زيد بن الحسن وولّاه المدينة، وهو الّذي امتحن الإمام مالكا رحمه الله كما هو معروف. وهو الّذي أغرى المنصور من قبل ببني حسن وأخبره بدسيسة محمد المهديّ وابنه عبد الله في شأن الدعاء لهم حتى قبض عليهم وحملهم إلى العراق كما قدّمناه. وكان له عقب بالريّ منهم: الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن والي المدينة، ولما حدث بين عامل طبرستان محمد بن أوس الكافل بها لسليمان بن عبد الله ابن طاهر نائبا عن محمد بن طاهر صاحب خراسان، وبين محمد وجعفر من بني رستم من أهل نواحي طبرستان حادث فتنة، وقد تقدّم ذكرها، أغروا به أهل تلك النواحي وبعثوا إلى الديلم ليستنجدوا بهم عليه، وكانوا على المجوسيّة يومئذ، وهم حرب لمحمد بن أوس لدخوله بلادهم، وقتله وسبيه منهم أيام المسالمة، وملكهم يومئذ وهشوذان بن حسّان فأجابوا ابني رستم إلى حربه. وبعث ابنا رستم إلى محمد بن إبراهيم بطبرستان لكون الدعوة له فامتنع، ودلّهم على الحسن بن زيد بالري فاستدعوه بكتاب محمد بن إبراهيم فشخص إليهم، وقد اتفق الديلم وابنا رستم وأهل ناحيتهم على بيعته فبايعوه، وانضم إليهم أهل جبال طبرستان. وزحف إلى آمد فقاتله ابن أوس دونه، وخالفه الحسن بن زيد في جماعة إلى آمد فملكها، ونجا ابن أوس إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بسارية وزحف إليهم الحسن فخرجوا للقائه فناشبهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 الحرب، وبعث بعض قوّاده إلى سارية فملكها، وانهزم سليمان إلى جرجان، واستولى الحسن على معسكره بما فيه وعلى حرمه وأولاده فبعثهم إليه في السفن. ويقال إنّ سليمان انهزم له لدسيسة التشيّع التي كانت في بني طاهر، ثم أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان فملكها وهرب عنها سليمان، ثم بعث الحسن دعاته إلى النواحي وكان يعرف بالداعي العلويّ فبعث الى الري القاسم ابن عمّه علي بن إسماعيل، وبها القاسم بن علي بن زين العابدين السمري فملكها، واستخلف بها محمد بن جعفر بن أحمد بن عيسى بن حسين الصغير ابن زين العابدين. وبعث إلى قزوين الحسين المعروف بالكوكبي بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن جعفر، وهزمه وأسره فبعث الحسن بن زيد قائده دواجن إلى محمد بن ميكال فهزمه وقتله، وملك الري من يده، وذلك سنة خمسين ومائتين. ثم زحف سليمان بن عبد الله بن طاهر من جرجان في العساكر فأجفل الحسن بن زيد عن طبرستان إلى الديلم ودخلها سليمان. ثم قصد سارية وأتاه ابنا قاران بن شهرزاد من الديلم وأتاه أهل آمد وغيرهم طائعين فصفح عنهم. ثم سار محمد بن طاهر إلى لقاء الحسن فهزمه، وقتل من أعيان أصحابه ثلاثمائة وأربعين رجلا. ثم زحف موسى بن بغا لحربهم سنة ثلاث وخمسين فلقيه الحسن الكوكبي على قزوين، وانهزم إلى الديلم واستولى موسى بن بغا على قزوين. ثم رجع الكوكبيّ سنة ست وخمسين، فاستولى على الريّ واستولى القاسم بن عليّ بعدها على الكرخ سنة سبع. ثم زحف الحسن بن زيد إلى جرجان وبعث إليهما محمد بن طاهر صاحب خراسان العساكر فهزمهم الحسن، وغلبهم عليها وانتقض أمر ابن طاهر بخراسان من يومئذ واختلف المغلبون عليه، وكان ذلك داعيا إلى انتزاع يعقوب الصفّار خراسان من يده. ثم غلبه الحسن سنة تسع وخمسين على قومس. (استيلاء الصفار على طبرستان) كان عبد الله السخري ينازعه يعقوب بن الليث الصفّار الرئاسة بسجستان، فلما استولى يعقوب على الأمر هرب عبد الله إلى نيسابور مستجيرا بابن طاهر فأجاره. فلما هلك يعقوب الصفّار بنيسابور هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد ونزل سارية وبعث فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 يعقوب الصفّار فلم يسلّمه الحسن بن زيد، فسار إليه يعقوب سنة ستين، وهزمه فلحق بأرض الديلم ولحق عبد الله بالري، وملك يعقوب سارية وآمد وجبى خراجها، وسار في طلب الحسن فتعلّق بجبال طبرستان، واعترضه الأمطار والأوحال فلم يخلص إلّا بمشقّة. وكتب إلى الخليفة بخبر الحسن وما فعله معه، وسار إلى الريّ في طلب عبد الله السخري فأمكنه منه، وإلى الريّ فقتله. ثم رجع الحسن بن زيد إلى طبرستان سنة إحدى وستين، وغلب عليها أصحاب الصفّار وأقطعتها عنهم. ثم انتقض السجستانيّ [1] على يعقوب بن الليث بخراسان وملكها من يده كما ذكرناه، فسار وحاربه أبو طلحة بن شركب وأمره الحسن بن زيد فسار السجستاني إلى محاربته بسبب ذلك سنة خمس وستين، وانتزع جرجان من يده، ثم خرج عنها لقتال عمرو ابن الليث بعد موت أخيه يعقوب كما نذكر في أخبارهم، فملكها الحسن بن زيد. ثم أوقع السجستاني بالحسن بن زيد سنة ست وستين، كبسه بجرجان وهو غاز فهزمه ولحق بآمد وملك سارية، واستخلف عليها الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله الشيعي بن الحسين الأصغر بن زين العابدين [2] . وانصرف فأظهر الحسن بسارية قتل الحسن بن زيد، ودعا لنفسه فبايعه جماعة، ثم وافاه الحسن بن زيد فظفر به وقتله. (وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه) ثم توفي الحسن بن زيد صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين وولي مكانه أخوه محمد، وكان قيامهم أولا على ابن طاهر كما ذكرناه. ثم غلب يعقوب الصفّار على خراسان وانتقض عليه أحمد السجستاني، وملكها من يده. ثم مات يعقوب سنة خمس وستين وولي مكانه أخوه عمرو، وزحف إلى خراسان، وقاسم السجستاني فيها وكانت بينهما حروب، وكان الحسن داعي طبرستان يقابلهما جميعا إلى أن هلك، وولي مكانه أخوه كما ذكرناه. وكانت قزوين تغلّب عليها أثناء ذلك عساكر الموفّق ووليها أذكوتكين من مواليهم فزحف إلى الري سنة اثنتين وسبعين، وزحف إليه محمد   [1] الخجستاني: ابن الأثير ج 7 ص 296. [2] الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الأصغر العقيقي: ابن الأثير ج 7 ص 335. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 بن زيد في عالم كبير من الديلم وأهل طبرستان وخراسان فانهزم، وقتل من عسكره ستة آلاف، وأسر ألفان، وغنم أذكوتكين عسكره جميعا وملك الريّ وفرّق عمّاله في نواحيها. ثم مات السجستاني وقام بأمره في خراسان رافع بن الليث من قوّاد الظاهريّة فغلب محمد بن زيد على طبرستان وجرجان فلحق بالديلم، ثم صالحه سنة إحدى وثمانين وخطب له فيها سنة اثنتين وثمانين على أن ينجده على عمرو بن الليث. وكتب له عمرو بن الليث يعذله عن ذلك فأقصر عنه، فلمّا غلب عمرو على رافع رعى لمحمد ابن زيد خذلانه لرافع فخلّى له عن طبرستان وملكها. (مقتل محمد بن زيد) كان عمرو بن الليث لما ملك خراسان، وقتل رافع بن هرثمة، طلب من المعتضد ولاية ما وراء النهر فولّاه. واتصل الخبر بإسماعيل بن أحمد الساماني ملك تلك الناحية فعبر جيحون وهزم جيوش عمرو بن الليث ورجع إلى بخارى، فزحف عمرو بن الليث من نيسابور إلى بلخ وأعوزه العبور. وجاء إسماعيل فعبر النهر، وأخذ عليه الجهات بكثرة جموعه فأصبح كالمحاصر، ثم اقتتلوا فانهزم عمرو وأسره إسماعيل وبعث به إلى المعتضد سنة ثمان وثمانين فحبسه إلى أن قتل، وعقد لإسماعيل على ما كان بيد عمرو. ولما اتصل بمحمد بن زيد، واقعة عمرو وأمره سار من طبرستان لا يرى أنّ إسماعيل يقصدها، فلما انتهى إلى جرجان بعث إليه إسماعيل يصدّه عن ذلك فأبى، فسرّح إليه محمد بن هارون، وكان من قوّاد رافع بن هرثمة، وصار من قوّاد إسماعيل ابن سامان فلقي محمد بن زيد على جرجان واقتتلوا فانهزم محمد بن هارون أولا، ثم رجعت الكرّة على محمد بن زيد، وافترقت عساكره وقتل من عسكره عالم وأسر ابنه زيد، وأصابته هو جراحات هلك منها لأيام قلائل، وغنم ابن هارون عسكره بما فيه، وسار إلى طبرستان فملكها وبعث يزيد إلى إسماعيل فأنزله ببخارى، ووسع عليه الإنفاق واشتدّت عليه شوكه الديلم وحاربهم إسماعيل سنة تسع وثمانين، وملكهم يومئذ ابن حسّان فهزمهم، وصارت طبرستان وجرجان في ملك بني سامان مع خراسان، إلى أن ظهر بها الأطروش كما نذكر بعد. ويقال إنّ زيد بن محمد بن زيد ملك طبرستان من بعد ذلك إلى أن توفي وملكها من بعده ابنه الحسن بن زيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 (ظهور الأطروش العلويّ وملكه طبرستان) الأطروش هذا من ولد عمر بن زين العابدين الّذي كان منهم داعي الطالقان أيام المعتصم، وقد مرّ ذلك. واسم الأطروش الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن عمر، دخل إلى الديلم بعد مقتل محمد بن زيد وأقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم المساجد وحملهم على رأي الزيديّة فدانوا به. ثم دعاهم إلى المسير معه إلى طبرستان. وكان عاملها محمد بن نوح من قبل أحمد بن إسماعيل بن سامان، وكان كثير الإحسان إليهم فلم يجيبوا الأطروش إلى البغي عليه. ثم عزل ابن سامان عن طبرستان ابن نوح وولّى عليها غيره، فأساء السيرة فأعاد إليها ابن نوح، ثم مات فاستعمل عليها أبا العبّاس محمد بن إبراهيم صعلوكا فأساء السيرة وتنكّر لرؤساء الديلم، فدعاهم الحسن الأطروش للخروج معه فأجابوه فسار إليهم صعلوك، ولقيهم بشاطئ البحر على مرحلة من سالوس فانهزم وقتل من أصحابه نحو من أربعة آلاف، وحصر الأطروش بقيتهم في سالوس حتى استأمنوا إليه فأمّنهم ونزل آمد. وجاء صهره الحسن بن قاسم بن عليّ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن بن زيد والي المدينة، وقد مر ذكره، فلم يحضر قتل أولئك المستأمنين، واستولى الأطروش على طبرستان وتسمّى الناصر، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، ولحق صعلوك بالريّ، وسار منها إلى بغداد. ثم زحف الناصر سنة اثنتين [وثلاثمائة] فخرج عن آمد ولحق بسالوس، وبث إليه صعلوك العساكر فهزمهم الحسن الداعي وهو الحسن بن زيد. ثم زحفت إليه عساكر خراسان وهي للسعيد نصر بن أحمد فقتلوه سنة أربع وثلاثمائة، وولي صهره وبنوه وكانت بينهم حروب بالديلم كما نذكره. وكان له من الولد أبو القاسم وأبو الحسن وكان قوّاده من الديلم جماعة منهم ليلى بن النعمان، وولّاه صهره الحسن بعد ذلك جرجان، وما كان بن كالي، وكانت له ولاية أستراباذ، ويقرأ من كتاب الديلم، وكان من قوّاده من الديلم جماعة أخرى منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان ومرداويج [1] من أصحاب اسفار   [1] قال المسعودي في مروج الذهب وتفسير مرداويج معلق الرجال وقد يكتب مزداويج بالزاي. ابن خلدون م 3 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 والسيكري من أصحابه أيضا، ومولويه من أصحاب مرداويح، ويأتي الخبر عن جميعهم. وكان الحسن بن قاسم صهر الأطروش، وكان رديفه في الأمر حتى كان يعرف بالداعي الصغير، واستعمل على جرجان سنة ثمان وثلاثمائة ليلى بن النعمان من كبار الديلم. وكان له مكان في قومه، وكان الأطروش وأولاده يلقّبونه المؤيد لدين الله، المنتصر لآل رسول الله، وكانت خراسان يومئذ لنصر بن أحمد من بني سامان. وكان الدامغان ثغرها من ناحية طبرستان، وكان بها فراتكين من موالي ابن سامان فوقعت بينه وبين ليلى حروب وهزمه ليلى، واستفحل أمره ونزع إليه فارس مولى فراتكين فأكرمه وأصهر إليه بأخته واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص وهو ابن أخت أحمد بن سهل قائد السامانية عند ما نكب خاله أحمد فأمّنه وأجاره. ثم حرّضه الحسن بن قاسم الداعي الصغير على المسير إلى نيسابور، فسار إليها ومعه أبو القاسم بن حفص فملكها من يفراتكين سنة ثمان وثلاثمائة، وخطب بها للداعي. وأنفذ السعيد نصر عساكره إليه من بخارى مع قائده حمويه بن عليّ، ومعه محمد بن عبيد الله البلعمي وأبو جعفر صعلوك، وخوارزم شاه وسيجور الدواني ويقراخان فلقيهم ليلى بطوس، وقاتلوه فانهزم إلى آمد ولم يقدر على الحصار، ولحقه يقراخان فقبض عليه وبعث حمويه من قتله، واستأمن الديلم إليهم فأمّنوهم، وأشار حمويه بقتلهم فاستجار بالقواد، وبعث برأس ليلى إلى بغداد، وذلك في ربيع من سنة تسع وبقي فارس مولى فراتكين بجرجان. (امارة العلوية بطبرستان بعد الأطروش) ولما قتل الحسن الأطروش سنة أربع وثلاثمائة، كما قدّمناه، ولّى مكانه بطبرستان صهره، وهو الحسن بن القاسم، وقد مرّ ذكره، ويسمّى بالداعي الصغير، وتلقّب بالناصر. وبعض الناس يقولون هو الحسن بن محمد أخي الأطروش، هكذا قال ابن حزم وغيره، وليس بصحيح وإنما هو صهره الحسن بن القاسم من عقب الحسين بن زيد والي المدينة. ثم من عقب حافده محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن، وكان أبو الحسن بن الأطروش بأستراباذ فبايع له ما كان بن كالي، وقام بأمره فلما قتل ليلى بن النعمان صاحب جرجان، وعاد فراتكين إليها، ثم انصرف عنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وجاءه أبو الحسن بن الأطروش بأستراباذ فبايع له فملكها، فبعث السعيد بن سامان صاحب خراسان قائده سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لحصاره بجرجان فحاصره شهرا، ومع الحسن صاحب جيشه سرخاب بن وهشوداب، وهو ابن عم ما كان بن كالي فلما اشتدّ بهم الحصار خرج أبو الحسن وسرخاب في ثمانية آلاف من الديلم والجند فانهزم سيجور أوّلا فأتبعوه وقد أكمن لهم الكمائن فخرجت عليهم، وقتل من الديلم والجند نحو أربعة آلاف، وخلص أبو الحسن في البحر إلى أستراباذ، ولحقه سرخاب فخلفه، وأقام سيجور بجرجان. ثم هلك سرخاب وسار أبو الحسن إلى سارية واستخلف ما كان بن كالي على أستراباذ، فاجتمع إليه الديلم وولّوه على أنفسهم، وزحف إليه عساكر السعيد بن سامان فحاصروه مدّة. ثم خرج عن أستراباذ إلى سارية فملكوها وولوا عليها يقراخان، وعادوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور، ثم سار ما كان بن كالي إلى أستراباذ وملكها من يد يقراخان، ثم ملك جرجان وأقام بها وذلك سنة عشر وثلاثمائة. ثم استولى اسفار بن شيرويه على جرجان، واستقلّ بها، وكان سبب ذلك أنه كان من أصحاب ما كان بن كالي ونكره لبعض أحواله فطرده من عسكره، وسار إلى أبي بكر بن محمد بن اليسع من السامانية بنيسابور فخدمه، وبعثه في عسكر إلى جرجان ليفتحها له، وقد كان ما كان سار إلى طبرستان وولّى على جرجان مكانه أخاه أبا الحسن عليّا، وكان أبو الحسن بن الأطروش معتقلا عنده، وهمّ ليلة بقتله، وقصده في محبسه فظفر به أبو علي وقتله، وخرج من الدار واختفى وبعث من الغد الى القوّاد فبايعوا له وولّوا على جيشه عليّ بن خرشيد ورضوا به. واستقدموا اسفار بن شيرويه فأستأذن بكر بن محمد وقدم عليهم، وسار إليهم ما كان بن كالي فحاربوه وغلبوه على طبرستان، وأنزلوا بها أبا عليّ بن الأطروش فأقام بها أياما ومات على أثره عليّ بن خرشيد صاحب جيشه، وجاء ما كان بن كالي لحرب اسفار بطبرستان فانهزم اسفار ولحق ببكر بن محمد بجرجان وأقام إلى أن توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة فولّاه السعيد على جرجان، وأرسل إلى مرداويح بن دينار الجبليّ، وجعله أمير جيشه، وزحفوا إلى طبرستان فملكوها. وكان الحسن بن القاسم الدّاعي قد استولى على الريّ وقزوين وزنجار وأبهر وقمّ، وقائده ما كان بن كالي الديلميّ فسار إلى طبرستان وقاتله اسفار فانهزم ما كان، والحسن بن القاسم الداعي، وقتل بخذلان أصحابه إيّاه، لأنه كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 يشتدّ عليهم في تغيير المنكرات فتشاوروا في أن يستقدموا هذرسيدان من رؤساء الجبل، وكان خال مرداويح ووشكين فيقدّموه عليهم ويحبسوا الحسن الداعي وينصبوا أبا الحسن بن الأطروش. ونما الخبر بذلك إلى الداعي وقدم هذرسيدان فلقيه الداعي مع القواد وأدخلهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا من مائدته فدخلوا وقتلهم عن آخرهم، فعظمت نفرتهم عنه فخذلوه في هذا الموطن وقتل، واستولى اسفار على طبرستان والريّ وجرجان وقزوين وزنجار وأبهر وقمّ والكرج، ودعا للسعيد بن سامان صاحب خراسان، وأقام بسارية واستعمل على آمد هارون بن بهرام، وقصد بذلك استخلاصه لنفسه لأنه كان يخطب لأبي جعفر من ولد الناصر الأطروش فولاه آمد وزوّجه بإحدى نسائه الأعيان بها، وحضر عرسه أبو جعفر وغيره من العلويّين، وهجم عليه اسفار يوم عرسه بآمد، فقبض على أبي جعفر وغيره من أعيان العلويّين، وحملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها إلى أن خلصوا من بعد ذلك. (ومن تاريخ بعض المتأخرين) أنّ الحسن بن القاسم الداعي صهر الأطروش، بويع بعد موته ولقّب الناصر، وملك جرجان. وكان الديلم قد اشتملوا على جعفر بن الأطروش، وتابعوه فصار الداعي إلى طبرستان وملكها ولحق جعفر بدنباوند [1] فقبض عليه عليّ بن أحمد بن نصر وبعث به إلى عليّ بن وهشودان بن حسّان ملك الديلم وهو عامله، فحبسه عليّ بن وهشودان بن حسّان ملك الديلم فلما قتل أطلقه من بعده حسرة فيروز، فاستجاش جعفر بالديلم وعاد إلى طبرستان فملكها وهرب الحسن. ثم مات جعفر فبويع أبو الحسن ابن أخيه الحسن، فلما ظهر ما كان بن كالي بايع للحسن الداعي وأخرجه إليه، وقبض على الحسن بن أحمد وهو ابن أخي جعفر وحبسه بجرجان عند أخيه أبي عليّ ليقتله فقتله الحسن ونجا، وبايعه القوّاد بجرجان. ثم حاربه ما كان فانهزم الحسن إلى آمد ومات بها، وبويع أخوه أبو جعفر بن محمد ابن أحمد وقصده ما كان من الريّ فهرب من آمد إلى سارية وبها اسفار بن شيرويه. فقاتل دونه وانهزم اسفار إلى جرجان، واستأمن إلى أبي بكر بن محمد بن الياس. ثم بايع ما كان لابي القاسم الداعي، وخرج الحسن إلى الريّ وطلب مرداويح بثأر خاله سيداب بن بندار. وكان الداعي بجرجان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة،   [1] قوله دنباوند بضم الدال المهملة وسكون النون وباء موحدة وألف وفتح الواو وسكون النون ثم دال مهملة. وبعضهم يقول دماوند بالميم والأول أصح انتهى. من أبي الفداء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 وانصرف ما كان إلى الديلم، ثم ملك طبرستان وبايع بها لأبي عليّ الناصر بن إسماعيل بن جعفر بن الأطروش، وهلك بعد مدّة. ومضى أبو جعفر محمد بن أبي الحسن أحمد بن الأطروش إلى الديلم إلى أن غلب مرداويح على الريّ، فكتب إليه وأخرجه عن الديلم وأحسن إليه. فلما غلب على طبرستان وأخرج ما كان عنها بايع لأبي جعفر هذا، وسمّي صاحب القلنسوة إلى أن مات، وبويع أخوه ولقب الثائر، وأقام مع الديلم وزحف سنة ست وثلاثين إلى جرجان، وبها ركن الدولة بن بويه، فسرّح إليه ابن العميد فانهزم الثائر، وتعلّق بالجبال، وأقام مع الديلم وملوك العجم يخطبون له إلى أن هلك سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، لثلاثين سنة من ملكه، وبايعوا لأخيه الحسين بن جعفر وتلقّب بالناصر، وتقبض عليه ليكو بن وشكس ملك الجبل وسلّمه وانقرض ملك الفاطميّين أجمع بتلك الجبال والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن دولة الإسماعيلية ونبدأ منهم بالعبيديين الخلفاء بالقيروان والقاهرة وما كان لهم من الدولة من المشرق والمغرب) أصل هؤلاء العبيديّين من الشيعة الإمامية، وقد تقدّم لنا حكاية مذهبهم والبراءة من الشيخين ومن سائر الصحابة، لعدو لهم عن بيعة عليّ إلى غيره مع وصية النبيّ صلى الله عليه وسلم له بالإمامة بزعمهم، وبهذا امتازوا عن سائر الشيعة. وإلّا فالشيعة كلهم مطبقون على تفضيل عليّ ولم يقدح ذلك عند الزيدية في إمامة أبي بكر لقولهم بجواز إمامة المفضول مع الأفضل، ولا عند الكيسانية لأنهم لم يدّعوا هذه الوصية، فلم يكن عندهم قادح فيمن خالفها. وهذه الوصية لم تعرف لأحد من أهل النقل. وهي من موضوعات الإمامية [1] وأكاذيبهم، وقد يسمّون رافضة، قالوا لأنه لما   [1] وهي الموضوعات التي تتناول الإمامة الكبرى وهي إمامة المسلمين كافة وترى الشيعة بفرقها المتعددة ان النبي (صلى الله عليه وسلم) عهد الى الإمام علي (رضي الله عنه) بالخلافة من بعده، وشروط الإمام معروفة ومدرجة في أكثر الكتب ويضيف الشيعة الى هذه الشروط ان الإمام يجب ان يكون من بيت النبي، وعلى هذا فاختيار الإمام محصور في ذرية علي وفاطمة. وهم يذهبون الى ان عليا قد نصب اماما بنص أعلن عند غدير خمّ، والإمامة وراثية في ذريته، وينحصر الاختيار فيمن يبايع منهم بالإمامة وهي مسألة أثارت الخصومات في بيت النبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 خرج زيد الشهيد بالكوفة واختلف عليه الشيعة ناظروه في أمر الشيخين وأنهم ظلموا عليّا فنكر ذلك عليهم فقالوا له: وأنت أيضا فلم يظلمك أحد، ولا حقّ لك في الأمر، وانصرفوا عنه ورفضوه فسموا رافضة، وسمّي أتباعه زيدية. ثم صارت الإمامة من عليّ إلى الحسن ثم الحسين ثم ابنه عليّ زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصادق، كل هؤلاء بالوصيّة، وهم ستة أئمة لم يخالف أحد من الرافضة في إمامتهم. ثم افترقوا من هاهنا فرقتين وهم الاثنا عشرية والإسماعيلية. واختص الاثنا عشرية باسم الإمامية لهذا العهد، ومذهبهم أنّ الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم، وخرج دعاته بعد موت أبيه فحمله هارون من المدينة وحبسه عند عيسى بن جعفر، ثم أشخصه إلى بغداد وحبسه عند ابن شاهك. ويقال إنّ يحيى بن خالد سمّه في رطب فقتله، وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. وزعم شيعتهم أنّ الإمام بعده ابنه عليّ الرضا وكان عظيما في بني هاشم، وكانت له مع المأمون صحبة، وعهد له بالأمر من بعده سنة إحدى ومائتين عند ظهور الدعاة للطالبيّين وخروجهم في كل ناحية. وكان المأمون يومئذ بخراسان لم يدخل العراق بعد مقتل أخيه الأمين فنكر ذلك عليه شيعة العبّاسيّين وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهدي ببغداد، فارتحل المأمون إلى العراق وعليّ الرضا معه، فهلك عليّ في طريقه سنة ثلاث ومائتين ودفن بطوس، ويقال إن المأمون سمّه. (ويحكى) أنه دخل عليه يعوده في مرضه فقال له: أوصني! فقال له: عليّ إياك أن تعطي شيئا وتندم عليه، ولا يصحّ ذلك لنزاهة المأمون من اراقة الدماء بالباطل سيما دماء أهل البيت ثم زعم شيعتهم أنّ الأمر من بعد عليّ الرضا لابنه محمد التقي [1] وكان له من المأمون مكان، وأصهر إليه في ابنته، فأنكحه المأمون إياها سنة خمس ومائتين، ثم هلك سنة عشرين ومائتين ودفن بمقابر قريش. وتزعم الاثنا عشرية أنّ الإمام بعده ابنه عليّ ويلقّبونه الهادي، ويقال الجواد، ومات سنة أربع وخمسين ومائتين وقبره بقمّ، وزعم ابن سعيد أنّ المقتدر سمّه. ويزعمون أنّ الإمام بعده ابنه الحسن، ويلقّب العسكري لأنّه ولد بسرّ من رأى، وكانت تسمّى العسكر، وحبس بها بعد أبيه إلى أن هلك سنة ستين ومائتين، ودفن إلى جنب أبيه في المشهد وترك حملا ولد منه [2]   [1] وهو محمد الجواد كما هو معروف في أكثر كتب التاريخ والسير. [2] هكذا بالأصل ولعله تحريف ومقتضى السياق: «وترك حاملا ولدت منه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 ابنه محمد فاعتقل، ويقال دخل مع أمّه في السرداب بدار أبيه وفقد، فزعمت شيعتهم أنه الإمام بعد أبيه، ولقّبوه المهدي والحجّة. وزعموا أنه حي لم يمت وهم الآن ينتظرونه، ووقفوا عند هذا الانتظار، وهو الثاني عشر من ولد عليّ ولذلك سمّيت شيعته الاثني عشرية. وهذا المذهب في المدينة والكرخ والشام والحلّة والعراق، وهم حتى الآن على ما بلغنا يصلّون المغرب، فإذا قضوا الصلاة قدّموا مركبا إلى دار السرداب بجهازه وحليته ونادوا بأصوات متوسطة: أيها الإمام أخرج إلينا فإن الناس منتظرون، والخلق حائرون، والظلم عام، والحق مفقود! فأخرج إلينا فتقرب الرحمة من الله في آثارك! ويكرّرون ذلك إلى أن تبدو النجوم، ثم ينصرفون إلى الليلة القابلة هكذا دأبهم. وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته مع طول الأمد، لكن التعصّب حملهم على ذلك وربما يحتجّون لذلك بقصة الخضر والأخرى أيضا باطلة، والصحيح أنّ الخضر قد مات. (وأمّا الإسماعيلية) فزعموا أنّ الإمام بعد جعفر الصادق ابنه إسماعيل، وتوفي قبل أبيه. وكان أبو جعفر المنصور طلبه فشهد له عامل المدينة بأنه مات. وفائدة النصّ عندهم على إسماعيل وإن كان مات قبل أبيه بقاء الإمامة في ولده كما نصّ موسى على هارون صلوات الله عليهما ومات قبله. والنصّ عندهم لا مرجع وراءه، لأنّ البداء على الله محال. ويقولون في ابنه محمد أنه السابع التامّ من الأئمة الظاهرين، وهو أوّل الأئمة المستورين عندهم الذين يستترون ويظهرون الدعاة، وعددهم ثلاثة ولن تخلوا الأرض منهم عن إمام، إمّا ظاهر بذاته أو مستور، فلا بدّ من ظهور حجّته ودعاته. والأئمة يدور عددها عندهم على سبعة عدد الأسبوع، والسموات والكواكب، والنقباء تدور عندهم على اثني عشر. وهم يغلّطون الأئمة حيث جعلوا عدد النقباء للأئمة. وأوّل الأئمة المستورين عندهم محمد بن إسماعيل وهو محمد المكتوم، ثم ابنه جعفر المصدّق، ثم ابنه محمد الحبيب ثم ابنه عبد الله المهدي صاحب الدولة بإفريقية والمغرب التي قام بها أبو عبد الله الشيعي بكتامة. وكان من هؤلاء الإسماعيلية القرامطة، واستقرّت لهم دولة بالبحرين في أبي سعيد الجنابيّ وبنيه أبي القاسم الحسين بن فروخ بن حوشب الكوفي داعي اليمن لمحمد الحبيب، ثم ابنه عبد الله ويسمّى بالمنصور، وكان من الاثني عشرية أولا، فلمّا بطل ما في أيديهم رجع إلى رأي الإسماعيلية وبعث محمد الحبيب أبو عبد الله إلى اليمن داعية له، فلمّا بلغه عن محمد بن يعفر ملك صنعاء أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 أظهر التوبة والنسك، وتخلّى عن الملك فقدم اليمن ووجد بها شيعة يعرفون ببني موسى في عدن لاعة. وكان عليّ بن الفضل من أهل اليمن ومن كبار الشيعة، وطاهر ابن حوشب على أمره، وكتب له الإمام محمد بالعهد لعبد الله ابنه، وأذن له في الحرب فقام بدعوته وبثّها في اليمن وجيّش الجيوش، وفتح المدائن وملك صنعاء، وأخرج منها بني يبعن، وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان يظهر الدعوة للرضا من آل محمد، ويبطن محمدا الحبيب تسترا إلى أن استولى على اليمن، وكان من دعاته أبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة ومن عنده سار إلى إفريقية فوجد في كتامة من الباطنية خلقا كثيرا، وكان هذا المذهب هنالك من لدن الدعاة الذين بعثهم جعفر الصادق إلى المغرب. أقاموا بإفريقية وبثّوا فيها الدعوة، وتناقله من البرابرة أمم وكان أكثرهم من كتامة فلما جاء أبو عبد الله الشيعي داعية المهدي ووجد هذا المذهب في كتامة فقام على تعليمه وبثّه وإحيائه حتى تمّ الأمر، وبويع لعبد الله كما نذكر الآن في أخبارهم. (ابتداء دولة العبيديين) وأولهم عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق بن محمد المكتوم بن جعفر الصادق. ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان وغيرهم وبالمحضر الّذي ثبت ببغداد أيام القادر بالطعن في نسبهم، وشهد فيه أعلام الأئمّة، وقد مرّ ذكرهم. فإن كتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة يغريهم بالقبض عليه لمّا سار إلى المغرب، شاهد بصحّة نسبهم. وشعر الشريف الرضيّ مسجّل بذلك. والذين شهدوا في المحضر فشهادتهم على السماع وهي ما علمت وقد كان نسبهم ببغداد منكرا عند أعدائهم شيعة بني العبّاس منذ مائة سنة، فتلوّن الناس بمذهب أهل الدولة، وجاءت شهادة عليه مع أنها شهادة على النفي، مع أنّ طبيعة الوجود في الانقياد إليهم، وظهور كلمتهم حتى في مكة والمدينة أدلّ شيء على صحة نسبهم. وأمّا من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية ليعمون القدح وغيره فكفاه ذلك إثما وسفسفة. وكان شيعة هؤلاء العبيديّين بالمشرق واليمن وإفريقية. وكان أصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها أنفذهما جعفر الصادق، وقال لهما بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يجيء صاحب البذر فنزل أحدهما ببلد مراغة [1] ، والآخر ببلد سوف جمار وكلاهما من أرض كتامة ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي، وكان محمد الحبيب ينزل سلمية [2] من أرض حمص وكان شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن، وأنّ المهدي خارج في هذا الوقت فسار وأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عندهم، واستولى على أكثر اليمن، وتسمّى بالمنصور وابتنى حصنا بجبل لاعة. وملك صنعاء من بني يعفر وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب. وكان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب، وكان محتسبا بالبصرة، وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العبّاس المخطوم، وأبو عبد الله هذا يعرف بالمعلّم لأنه كان يعلّم مذهب الإماميّة، فاتصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب، ورأى ما فيه من الأهليّة فأرسله الى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه، ثم يذهب إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فيظهر بينهم الدعوة. فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب ولزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه. ثم خرج مع حاج اليمن إلى مكة فلقي بالموسم رجالات كتامة ورؤساءهم، وفيهم من لقي الحلواني وابن بكّار وأخذوا عنهما فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم، وكان منهم موسى بن حريث كبير بني سكتان من جملة أحد شعوبهم وأبو القاسم الورنجومي من أحلافهم،   [1] مراغة: بالفتح، والغين المعجمة: بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان، قالوا وكانت المراغة تدعى أفرازهروذ فعسكر مروان بن محمد بن مروان وهو والي أرمينية وأذربيجان منصرفه من غزو موقان وجيلان بالقرب منها وكان فيها سرجين كثير فكانت دوابه ودواب أصحابه تتمرّغ فيها فجعلوا يقولوا ابنوا قرية المراغة، وهذه قرية المراغة، فحذف الناس القرية وقالوا مراغة. (معجم البلدان) . [2] سلمية: بفتح أوّله وثانيه وسكون الميم، وياء مثناة من تحت خفيفة، كذا جاء به المتنبي في قوله: تراها في سلمية مسبطرّا!. قيل: سلمية قرب المؤتفكة، فيقال: انه لما نزل بأهل المؤتفكة ما نزل من العذاب رحم الله منهم مائة نفس فنجاهم فنزحوا الى سلمية فعمّروها وسكنوها فسميت سلم مائة، ثم حرف الناس اسمها فقال سلميه، ثم ان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس اتخذها منزلا وبنى هو وولده فيها الأبنية ونزلوها، وبها المحاريب السبعة، يقال تحتها قبور التابعين، وفي طريقها الى حمص قبر النعمان بن بشير: وهي بليدة في ناحية البرّيّة من اعمال حماة بينهما مسيرة يومين، وكانت تعد من اعمال حمص ولا يعرفها أهل الشام إلا بسلميّة وأكثر أهلها الى اليوم إسماعيلية (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 ومسعود بن عيسى بن ملال المساكتي، وموسى بن تكاد، فجلس إليهم وسمعوا منه مذاهبهم ورأوا ما هو عليه من العبادة والزهد فعلق بقلوبهم، وصار يتعهدهم في رحالهم فاغتبطوا به واغتبط بهم. ولما أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوافقهم طاويا وجه مذهبه عنهم، بعد أن سألهم عن قومهم وعصابتهم وبلادهم وملكة السلطان فيهم فكشفوا له علم ذلك، وأنهم إنما يعطون السلطان طاعة معروفة فاستيقن تمام أمره فيهم، وخرج معهم إلى المغرب وسلكوا طريق الصحراء، وعدلوا عن القيروان إلى أن وصلوا بلد سوماثة، وبها محمد بن حمدون بن سماك الأندلسيّ من بجاية الأندلس نزيلا عندهم، وكان قد أدرك الحلواني وأخذ عنه. فنزل أبو عبد الله الشيعيّ عليه فأكرمه، وفاوضه وتفرّس ابن حمدون فيه انه صاحب الدولة. ثم ارتحلوا وصحبهم ابن حمدون، ودخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان وثمانين ومائتين فنزل على موسى بن حريث ببلده أنكجان في بلد بني سكتان من جبيلة، وعيّن له مكان منزله بفجّ الأخيار، وأنّ النص عنده من المهديّ بذلك وبهجرة المهدي وأن أنصار الأخيار من أهل زمانه وأنّ اسمهم مشتق من الكتمان. واجتمع إليه الكثير من أهل كتامة ولقي علماءهم واشتمل عليه الكثير من أهوائهم فجاهر مذهبه، وأعلن بإمامة أهل البيت، ودعا للرضا من آل محمد واتبعه أكثر كتامة، وكانوا يسمّونه بأبي عبد الله الشيعيّ والمشرقيّ. وبلغ خبره إلى أمير افريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، فبعث إليه بالتهديد والوعيد، فأساء الردّ عليه، وخاف رؤساء كتامة عادية ابن الأغلب، وأغراهم عمال بلادهم بالشيعي مثل موسى بن عياش صاحب مسيلة، وعليّ بن حفص بن عسلوجة صاحب سريف. وجاء ابن تميم صاحب يلزمة، فاجتمعوا وتفاوضوا في شأنه، وحضر يحيى المساكتي وكان يدعى بالأمير ومهديّ بن أبي كمارة رئيس لهيعة، وفرج بن حيران رئيس إجانة، وثمل بن بجل رئيس لطانة. وراسلوا بيان بن صفلان رئيس بني سكتان، وأبو عبد الله الشيعي عندهم بجبل ايكجان في أن يسلّمه إليهم أو يخرجه من بلدهم، وحذّروه عاقبة أمره فردّ أمره إلى أهل العلم، فجاءوا بالعلماء وهمّوا باغتياله فلم يتم لهم ذلك، وأطبقت بجيلة على مظاهرته فهزموا هؤلاء المثيرين عليه وردّوهم خائبين ثم رجعوا بيان بن صقلاب في أمره ولاطفوه حتى صفا إليهم، وشعر بذلك أبو عبد الله الشيعيّ وأصحابه، فبعثوا إلى الحسن ابن هارون الغسّاني يسألونه الهجرة إليهم، فأجابهم ولحق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ببلدة تازروت من بلادهم. واجتمعت غسّان لنصرته مع بطون كتامة الذين بايعوه من قبل، فاعتز وامتنع وعظم أمره. ثم انتقض على الحسن بن هارون أخوه محمد منافسة له في الرئاسة، وكان صديقا لمهديّ بن أبي كمارة فداخله في التثريب على أبي عبد الله، وعظمت الفتنة بين لهيعة وغسّان، وولّى أبو عبد الله الشيعي الحسن بن هارون على حروبه، وظهر بعد أن كان مختفيا. وكان لمهدي بن أبي كمارة شيخ لهيعة أخ اسمه أبو مديني، وكان من أحباب أبي عبد الله فقتل أخاه مهديّا ورأس على لهيعة مكانه، فصاروا جميعا إلى ولاية أبي عبد الله وأبي مديني شيخهم. ثم تجمّعت كتامة لحرب الشيعي وأصحابه، ونازلوه بمكانه من تازروت، وبعث الشيعي سهل ابن فوكاش إلى فحل بن نوح رئيس لطانة، وكان صهره لينجد له عن حربهم في السلم، فمشى إلى كتامة، وأبوا إلّا أن يناجزوهم الحرب، فغلبهم أبو عبد الله وأصحابه، وانهزمت كتامة وأبلى عروبة بن يوسف الملوشي في ذلك اليوم بلاء حسنا، واجتمعت إلى أبي عبد الله غسّان كلها ويلزمة ولهيعة وعامّة بجاجية ورئيسهم يومئذ ماكنون بن ضبارة وأبو زاكي تمام بن معارك. ولحق بجيلة من بجاجية فرج بن خيران، ويوسف بن محمد من لطانة، وفحل بن نوح، واستقام أمر الباقي للشيعي وجمع فتح بن يحيى من أطاعه من قومه مسالمة لحرب الشيعي، فسار إليهم وأوقع بهم، ولحق فلّهم بسطيف. ثم استأمنوا إليه فأمّنهم ودخلوا في أمره، وولّى منهم هارون بن يونس على حروبه، ولحق رئيسهم فتح بن يحيى بعجيسة، وجمع ثانية لحرب الشيعي فسار إليه ومعه جموع كتامة، وتحصّن منه فتح ببعض قلاعهم فحاصره الشيعي وفتحها، واجتمعت إليه عجيسة وزواوة وجميع قبائل كتامة، ورجع إلى تازروت وبثّ دعاته في كل ناحية فدخل الناس في أمره طوعا وكرها. ولحق فتح بن يحيى بالأمير إبراهيم ابن أحمد بتونس، واستحثه لحرب الشيعي. ثم فتح أبو عبد الله مساكتة بمداخلة بعض أهلها، وقتل صاحبها موسى بن عيّاش وولّى عليها ماكنون بن ضبارة الألجائي وهو أبو يوسف، ولحق إبراهيم بن موسى بن عيّاش بأبي العبّاس إبراهيم بن الأغلب بتونس بعد خروج أبيه إلى صقلّيّة. وكان فتح بن يحيى المساكتي قد نزع إليه من قبل ذلك، ووعده المظاهرة فجهّز العساكر، وعقد عليها لابنه أبي خوّال، وزحف من تونس سنة تسع وثمانين فدوّخ كتامة، ثم صمد إلى تازروت فلقيه ابو عبد الله الشيعي في جموعه ببلد ملوسة فهزمهم أبو خوال، وفرّ الشيعي من قصر تازروت إلى ايكجان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 فامتنع بها، فهدم أبو خوال القصر واتبعه. وتوغل أبو خوال في بلاد كتامة فاضطرب أمره، وتوقع البيات. وسار إبراهيم بن موسى بن عيّاش من عسكر أبي خوال إلى نواحي مسيلة يتجسّس الأخبار فتواقع مع طائفة من أصحاب الشيعي فهزموه واتبعوه إلى المعسكر فاضطرب، وأجفل أبو خوال وخرج من بلاد كتامة، واستوطن أبو عبد الله إيكجان وبنى بها بلدا وسمّاها دار الهجرة، واستبصر الناس في أمره ودخلوا في دعوته. ثم هلك الحسن بن هارون، وجهّز أبو العباس العساكر ثانية مع ابنه أبي خوّال ورده لحرب الشيعي وكتامة فسار في بلادهم، ورجع منهزما وأقام قريبا منهم يدافعهم، ويمنعهم من التقدّم. وفي خلال ذلك هلك إبراهيم بن أحمد بن الأغلب وقتل ابنه أبو العبّاس، وقام بالأمر ابنه زيادة الله فاستدعى أخاه أبا خوال وقتله، وانتقل من تونس إلى وقادة، وانهمك في لذاته، وانتشرت جيوش الشيعي في البلاد، وعلا أمره وبشّرهم بأنّ المهدي قرب ظهوره فكان كما قال. (وصول المهدي الى المغرب واعتقاله بسجلماسة ثم خروجه من الاعتقال وبيعته) ولما توفي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام، عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محنا شديدة. واتصل خبره بسائر دعاته في إفريقية واليمن، وبعث إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم، وأنهم في انتظاره. وشاع خبره واتصل بالعبّاسيّين، فطلبه المكتفي ففرّ من أرض الشام الى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه أبو القاسم غلاما حدثا وخاصته ومواليه، بعد أن كان أراد قصد اليمن فبلغه ما أحدث بها عليّ بن الفضل من بعد ابن حوشب، وأنه أساء السيرة فأنثنى عن ذلك، واعتزم على اللحاق بأبي عبد الله الشيعي بالمغرب فارتحل من مصر إلى الإسكندرية، ثم خرج من الاسكندرية في زي التجّار. وجاء كتاب المكتفي إلى عامل مصر وهو يومئذ عيسى النوشري بخبرهم، والقعود لهم بالمراصد، وكتب نعته وحليته فسرّح في طلبهم حتى وقف عليهم، وامتحن أحوالهم فلم يقف على اليقين في شيء منها فخلى سبيلهم. وجدّ المهدي في السير وكان له كتب في الملاحم منقولة عن آبائه سرقت من رحله في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 طريقه، فيقال إن ابنه أبا القاسم استردّها من برقة حين زحف إلى مصر، ولما انتهى إلى طرابلس وفارقه التجّار أهل الرفقة بعث معهم أبا العبّاس أخا أبي عبد الله الشيعي إلى أخيه بكتامة، ومرّ بالقيروان وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله، وهو يسأل عنهم فقبض على أبي العبّاس وساء له فأنكر فحبسه. وكتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته وسار الى قسنطينة. ثم عدل عنها خشية على أبي العبّاس أخي الشيعي المعتقل بالقيروان فذهب إلى سجلماسة وبها اليسع بن مدرار فأكرمه. ثم جاء كتاب زيادة الله ويقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الّذي داعيته في كتامة فحبسه اليسع، ثم أنّ أبا عبد الله الشيعي بعد مهلك أبي خوال الّذي كان مضايقا لهم اجتمعت اليه سائر كتامة وزحف إلى سطيف فحاصرها مدّة، وكان بها عليّ بن جعفر ابن عسكوجة صاحبها، وأخوه أبو حبيب فملكها وكان بها أيضا داود بن جاثة من كبار لهيعة، لحق بها فيمن لحق من وجوه كتامة فقام بها من بعد عليّ وأخيه. واستأمن أهل سطيف فأمّنهم أبو عبد الله ودخلها فهدمها، وجهّز زيادة الله العساكر إلى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حشيش، وكانوا أربعين ألفا فانتهى إلى قسنطينة فأقام بها وهم متحصّنون بجبلهم. ثم زحف إليهم وواقعهم عند مدينة يلزمة فانهزم إلى باغاية ولحق بالقيروان. وكتب الشيعي بالفتح إلى المهدي مع رجال من كتامة أخفوا أنفسهم حتى وصلوا إليه وعرّفوه بالخبر. ثم زحف الشيعي إلى طبنة فحاصرها وقتل فتح بن يحيى المساكتي، ثم افتتحها على الأمان، ثم زحف إلى يلزمة فملكها عنوة. وجهّز زيادة الله العساكر مع هارون الطبني عامل باغاية فانتهوا إلى مدينة أزمول، وكانوا في طاعة الشيعي فهدمها هارون وقتل أهلها وزحف إليه عروبة بن يوسف من أصحاب الشيعي فهزمه وقتله. ثم فتح الشيعي مدينة ينجبت كلّها على يد يوسف الغسّاني ولحق عسكرها بالقيروان وشاع عن الشيعي وفاؤه بالأمان فأمّنه الناس، وكثر الإرجاف بزيادة الله فجهز العساكر وأزاح العلل، وأنفق ما في خزائنه وذخائره، وخرج بنفسه سنة خمس وتسعين ونزل الأريس. ثم حاد عن اللقاء وأشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءا للعساكر فرجع، وقدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته وأمره بالمقام هنالك. ثم زحف الشيعي إلى باغاية فهرب عاملها وملكها صلحا وبعث إلى مدينة قرطاجنة فافتتحها عنوة، وقتل عاملها، وسرح عساكره في إفريقية فردّدوا فيها الغارات على قبائل البربر من نفزة وغيرهم. ثم استأمن إليه أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 تيفاش فأمّنهم، واستعمل عليهم صواب بن أبي القاسم السكتاني، فجاء إبراهيم بن أبي الأغلب واقتحمها عليه ثم نهض الشيعي في احتفال من العساكر الى باغاية ثم إلى سكتانة ثم إلى تبسة ففتحها كلّها على الأمان. ثم إلى القصرين من قمودة فأمّن أهلها وأطاعوه، وسار يريد رقادة فخشي إبراهيم بن أبي الأغلب على زيادة الله لقلّة عسكره، فنهض إلى الشيعي واعترضه في عساكره واقتتلوا، ثم تحاجزوا، ورجع الشيعي إلى إيكجان وإبراهيم إلى الأريس. ثم سار الشيعي ثانية بعساكره إلى قسنطينة فحاصرها واقتحمها على الأمان، ثم إلى قفصة كذلك. ثم رجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا مع أبي مكدولة الجيلي. ثم سار إلى إيكجان وخالفه إبراهيم إلى باغاية، وبلغ الخبر إلى الشيعي فسرّح لقتاله أبا مديني بن فروخ اللهيمي، ومعه عروبة بن يوسف الملوشي ورجاء بن أبي قنّة في اثني عشر ألفا، فقاتلوا ابن أبي الأغلب ومنعوه من باغاية فرحل عنها، واتبعوه إلى فجّ العرعر ورجعوا عنه. ثم زحف أبو عبد الله الشيعي سنة ست وتسعين في مائتي ألف من العساكر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب بالأريس. ثم اقتتلوا أياما ثم انهزم إبراهيم واستبيح معسكره، وفرّ إلى القيروان، ودخل الشيعي الأريس فاستباحها، ثم سار فنزل قمودة واتصل الخبر بزيادة الله وهو برقادة ففرّ إلى المشرق، ونهبت قصوره. وافترق أهل رقادة إلى القيروان وسوسة. ولما وصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان نزل قصر الإمارة وجمع الناس وأرادهم على البيعة له على أن يعينوه بالأموال فاعتدوا [1] وتصايحت به العامّة ففر عنها، ولحق بصاحبه. وبلغ أبا عبد الله الشيعي خبر فرارهم بسبيبة فقدم إلى رقادة، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمّنوا الناس، وجاء على أثرهم. وخرج أهل رقادة والقيروان للقائه فأمّنهم وأكرمهم، ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين ونزل قصرها، وأطلق أخاه أبا العبّاس من الاعتقال ونادى بالأمان فتراجع الناس، وفر العمّال في النواحي وطلب أهل القيروان فهربوا، وقسّم دور البلد على كتامة فسكنوها، وجمع أموال زيادة الله وسلاحه فأمر بحفظها وحفظ جواريه، واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعيّن أحدا. ونقش على السكة من أحد الوجهين بلغت حجة الله، ومن الآخر تفرّق أعداء الله، وعلى   [1] مقتضى السياق فاعتدوا عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 السلاح عدّة في سبيل الله، وفي وسم الخيل الملك للَّه. ثم ارتحل إلى سجلماسة في طلب المهدي، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس، وترك معه أبا زاكي تمام بن معارك الألجائي واهتزّ المغرب لخروجه، وفرّت زناتة من طريقه. ثم بعثوا إليه بالطاعة فقبلهم وأرسل إلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة يتلطّفه فقتل الرسل، وخرج للقائه. فلمّا تراءى الجمعان انفض معسكره وهرب هو وأصحابه وخرج أهل البلد من الغد للشيعي وجاءوا معه إلى محبس المهدي وابنه فأخرجهما وبايع للمهدي، ومشي مع رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يبكي من الفرح ويقول: هذا مولاكم حتى أنزله بالمخيّم، وبعث في طلب اليسع فأدرك، وجيء به فقتل، وأقاموا بسجلماسة أربعين يوما ثم ارتحلوا إلى إفريقية، ومرّوا بأيكجان، فسلّم الشيعي ما كان بها من الأموال للمهديّ. ثم نزلوا رقادة في ربيع سنة سبع وتسعين، وحضر أهل القيروان وبويع للمهدي البيعة العامّة، واستقام أمره وبث دعاته في الناس فأجابوا إلا قليلا عرض عليهم السيف، وقسّم الأموال والجواري في رجال كتامة، وأقطعهم الأعمال، ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث العمّال على البلاد فبعث على طرابلس ماكنون بن ضبارة الألجائي، وعلى صقلّيّة الحسن بن أحمد بن أبي خنزير، فسار إليها ونزل البحر، ونزل مازر في عيد الأضحى من سنة سبع وتسعين، فاستقضى إسحاق بن المنهال، وولّى أخاه على كريت. ثم أجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى العدوة الشمالية، ونزل بسيط قلورية من بلاد الإفرنج فأثخن فيها، ورجع إلى صقلّيّة فأساء السيرة في أهلها فثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي فقبل عذرهم، وولّى عليهم مكانه عليّ بن عمر البلويّ فوصل خاتم تسع وتسعين. (مقتل أبي عبد الله الشيعي وأخيه) لما استقام سلطان عبيد الله المهدي بإفريقية استبدّ بأمره، وكفح أبا عبد الله الشيعي وأخاه أبا العبّاس عن الاستبداد عليه، والتحكّم في أمره فعظم ذلك عليهما، وصرّح أبو العبّاس بما في نفسه فنهاه أخوه أبو عبد الله عن ذلك، فلم يصغ إليه. ثم استماله أبو العبّاس لمثل رأيه فأجابه، وبلغ ذلك إلى المهدي فلم يصدّقه. ثم نهى أبا عبد الله عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 مباشرة الناس، وقال إنه مفسد للهيبة فتلطّف في ردّه ولم يجبه إليه ففسدت النيّة بينهما، واستفسدوا كتامة وأغروهم به وذكروهم بما أخذه من أموال إيكجان، واستأثر به دونهم وألقوا إليهم أن هذا ليس هو الإمام المعصوم الّذي دعونا إليه، حتى بعث إلى المهدي رجل كان في كتامة يعرف بشيخ المشايخ، وقال له: جئنا بآية على أمرك فقد شككنا فيك، فقتله المهدي. ثم عظمت استرابتهم واتفقوا على قتل المهدي، وداخلهم في ذلك أبو زاكي تمام بن معارك وغيره من قبائل كتامة. ونمي الخبر إلى المهدي فتلطف في أمرهم، وولّى من داخلهم من قوّاد كتامة على البلاد، فبعث تمام بن معارك على طرابلس، وبعث إلى عاملها ماكنون بقتله، فقتله عند وصوله. ثم اتهم المهدي ابن الغريم بمداخلتهم، وكان من أصحاب زيادة الله فأمر بقتله واستصفاء أمواله، وكان أكثرها لزيادة الله. ثم إنّ المهدي استدعى عروبة بن يوسف، وأخاه حباسة، وأمرهما بقتل الشيعي وأخيه فوقفا لهما عند القصر، وحمل عروبة على أبي عبد الله، فقال له: لا تفعل! فقال: الّذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك! ثم أجهز عليهما في نصف جمادى سنة ثمان وتسعين. ويقال إن المهدي صلّى على أبي عبد الله وترحّم عليه، وعلم أن الّذي حمله على ذلك إغراء أبي العبّاس أخيه، وثارت فتنة بسبب قتلهما من أصحابهما فركب المهدي وسكنها. ثم ثارت فتنة أخرى بين كتامة وأهل القيروان، وفشا القتل فيهم فركب المهدي وسكّنها، وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة وقتل جماعة من بني الأغلب برقادة لما رجعوا إليها بعد زيادة الله. (بقية أخبار المهدي بعد الشيعي) ولما استقام أمر المهدي بعد الشيعي، جعل ولاية عهده لابنه أبي القاسم نزار، وولّى على برقة وما إليها حباسة بن يوسف. وعلى المغرب أخاه عروبة، وأنزله باغاية فسار إلى تاهرت فاقتحمها، وولّى عليها دواس بن صولات اللهيص. ثم انتقضت عليه كتامة بقتله أبا عبد الله الشيعي، ونصّبوا طفلا لقّبوه المهدي، وزعموا أنه نبيّ وأنّ أبا عبد الله الشيعي لم يمت، فجهّز ابنه ابا القاسم لحربهم فقاتلهم وهزمهم، وقتل الطفل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 الّذي نصّبوه وأثخن فيهم ورجع. ثم انتقض أهل طرابلس سنة ثلاثمائة، وأخرجوا عاملهم ماكنون فبعث إليهم ابنه أبا القاسم فحاصرها طويلا، ثم فتحها وأثخن فيهم وأغرمهم ثلاثمائة ألف دينار. ثم أغزى ابنه أبا القاسم وجموعه كتامة سنة إحدى وثلاثمائة إلى الإسكندرية ومصر، وبعث اسطوله في البحر في مائتين من المراكب، وشحنها بالامداد وعقد عليها لحباسة بن يوسف، وسارت العساكر فملكوا برقة، ثم الاسكندرية والفيوم. وبعث المقتدر العساكر من بغداد مع سبكتكين ومؤنس الخادم فتواقعوا مرّات، وأجلاهم عن مصر فرجعوا إلى المغرب، ثم عاد حباسة في العساكر في البحر سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الإسكندرية فملكها، وسار يريد مصر فجاء مؤنس الخادم من بغداد لمحاربته فتواقعوا مرّات، وكان الظهور آخرا لمؤنس، وقتل من أصحابه نحو من سبعة آلاف. وانصرف إلى المغرب فقتله المهدي وانتقض لذلك أخوه عروبة بالمغرب واجتمع إليه خلق كثير من كتامة والبربر. وسرح إليهم المهدي مولاه غالبا في العساكر فهزمهم وقتل عروبة وبني عمه في أمم لا تحصى. ثم انتقض أهل صقلّيّة وتقبضوا على عاملهم عليّ بن عمرو، وولوا عليهم أحمد بن قهرب، فدعا للمقتدر العبّاسيّ، وذلك سنة أربع وثلاثمائة، وخلع طاعة المهدي وجهّز إليه الأسطول مع الحسن بن أبي خنزير فلقيه أسطول ابن قهرب فغلبه، وقتل ابن أبي خنزير. ثم راجع أهل صقلّيّة أمرهم وكاتبوا المهدي وثاروا بابن قهرب فخلعوه، وبعثوا به إلى المهدي فقتله على قبر ابن أبي خنزير، وولّى على صقلّيّة علي بن موسى ابن أحمد، وبعث معه عساكر كتامة، ثم اعتزم المهدي على بناء مدينة على ساحل البحر يتّخذها معصما لأهل بيته لما كان يتوقعه على الدولة من الخوارج. (ويحكى عنه) أنه قال بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها فخرج بنفسه يرتاد موضعا لبنائها، ومرّ بتونس وقرطاجنة حتى وقف على مكانها جزيرة متصلة بالبر كصورة كف اتصلت بزند، فاختطّ المهديّة بها وجعلها دار ملكه، وأدار بها سورا محكما وجعل لها أبوابا من الحديد وزن كل مصراع مائة قنطار، وابتدأ ببنائها آخر سنة ثلاث. ولما ارتفع السور رمى من فوقه بسهم إلى ناحية المغرب، ونظر إلى منتهاه وقال: إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد. ثم أمر أن يبحث في الجبل دار لإنشاء السفن تسع مائة سفين، وبحث [1] في أرضها   [1] بمعنى حفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 أهراء للطعام ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور فكملت سنة ست، ولما فرغ منها قال: اليوم أمّنت على الفواطم. ثم جهّز ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر مرّة ثانية سنة سبع وثلاثمائة فملك الاسكندرية، ثم سار فملك الجيزة والأشمونين وكثيرا من الصعيد. وكتب إلى أهل مكّة بطلب الطاعة فلم يجيبوا إليها، وبعث المقتدر مؤنسا الخادم في العساكر وكانت بينه وبين أبي القاسم عدّة وقعات ظهر فيها مؤنس، وأصاب عسكر أبي القاسم الجهد من الغلاء والوباء فرجع إلى إفريقية، وكانت مراكبهم قد وصلت من المهديّة إلى الإسكندرية في ثمانين اسطولا [1] مددا لأبي القاسم وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وكانا شجاعين، وسار الاسطول من طرسوس للقائهم في خمسة وعشرين مركبا والتقوا على رشيد [2] وظفرت مراكب طرسوس وأحرقوا وأسروا سليمان ويعقوب، فمات سليمان في حبس مصر، وهرب يعقوب من حبس بغداد إلى إفريقية. ثم اغزى المهدي سنة ثمان وثلاثمائة مضالة بن حبوس في رجالات مكناسة إلى بلاد المغرب فأوقع بملك فاس من الأدارسة وهو يحيى بن إدريس بن إدريس بن عمرو، واستنزله عن سلطانه إلى طاعة المهدي فأعطى بها صفقته، وعقد لموسى بن أبي العافية المكناسي من رجالات قومه على أعمال المغرب ورجع. ثم عاود غزو المغرب سنة تسع فدوّخه ومهّد جوانبه وأغراه قريبه عامل المغرب موسى بن أبي العافية بيحيى بن إدريس صاحب فاس، فتقبّض عليه وضمّ فاس إلى أعمال موسى ومحا دعوة الإدريسيّة من المغرب، وأجهضهم عن أعماله فتحيزوا إلى بلاد الريف وغمارة واستجدّوا بها ولاية كما نذكره في أخبار غمارة، ومنهم كان بنو حمّود العلويّون المستولون على قرطبة عند انقراض ملك الأمويّين في سنة ثلاث وأربعمائة كما نذكر لك. ثم صمد مضالة إلى بلاد سجلماسة فقتل أميرها من آل مدرار المكناسيين المنحرف عن طاعة الشيعة، وعقد لابن عمّه كما نذكر في أخبارهم. وسار في أتباعه زناتة في نواحي المغرب فكانت بينه وبينهم حروب هلك مضالة في بعضها على يد محمد بن خزر. واضطرب المغرب فبعث المهدي ابنه أبا القاسم غازيا إلى المغرب في عساكر كتامة وأولياء الشيعة سنة خمس عشرة وثلاثمائة، ففرّ محمد بن خزر، وأصحابه إلى الرمال. وفتح أبو القاسم بلد مزاتة ومطماطة وهوّارة   [1] مقتضى السياق سفينة وليس اسطولا، لأنه من غير المعقول ان يرسل ثمانين اسطولا والاولى أصح. [2] قرية ساحلية على الساحل المصري، يوجد فيها ميناء صغير وتعرف بقرية الرشيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 وسائر الإباضيّة والصفريّة ونواحي تاهرت قاعدة المغرب الأوسط إلى ما وراءها، ثم عاج إلى الريف فافتتح بلد لكور من ساحل المغرب الأوسط، ونازل صاحب جراوة من آل إدريس وهو الحسن بن أبي العيش وضيّق عليه ودوّخ أقطار المغرب، ورجع ولم يلق كيدا. ومرّ بمكان بلد المسيلة وبها بنو كملان من هوّارة، وكان يتوقع منهم الفتنة فنقلهم الى فجّ القيروان، وقضى الله أن يكونوا أولياء لصاحب الحمار عند خروجه. ولما نقلهم أمر ببناء المسيلة في بلدهم وسمّاها المحمّديّة، ودفع علي بن حمدون الأندلسي من صنائع دولتهم إلى بنائها، وعقد له عليها وعلى الزاب بعد اختطاطها فبناها وحصّنها وشحنها بالأقوات، فكانت مددا للمنصور في حصار صاحب الحمار كما يذكر. ثم انتقض موسى بن أبي العافية عامل فاس والمغرب، وخلع طاعة الشيعة، وانحرف الى الأمويّة من وراء البحر وبثّ دعوتهم في أقطار المغرب فنهض إليه أحمد بن بصلين المكناسيّ قائد المهدي وسار في العساكر فلقيه ميسور وهزمه، وأوقع به وبقومه بمكناسة، وأزعجه [1] عن الغرب إلى الصحاري وأطراف البلاد ودوّخ المغرب وثقف أطرافه ورجع ظافرا. (وفاة عبيد الله المهدي وولاية ابنه أبي القاسم) ثم توفي عبيد الله المهدي في ربيع سنة اثنتين وعشرين لأربع وعشرين سنة من خلافته، وولّى ابنه أبو القاسم محمد، ويقال نزار بعده، ولقّب القائم بأمر الله فعظم حزنه على أبيه حتى يقال إنه لم يركب سائر أيامه إلّا مرتين، وكثر عليه الثّوار. وثار بجهات طرابلس ابن طالوت القرشيّ، وزعم أنه ابن المهدي وحاصر طرابلس. ثم ظهر للبربر كذبه فقتلوه. ثم أغزى المغرب وملكه، وولّى على فاس أحمد بن بكر ابن أبي سهل الجذابي، وحاصر الأدارسة ملوك الريف وغوارة فنهض ميسور الخصيّ من القيروان في العساكر، ودخل المغرب وحاصر فاس، واستنزل عاملها أحمد بن بكر. ثم نهض في اتباع موسى فكانت بينهما حروب، وأخذ الثوري بن موسى في بعضها أسيرا وأجلاه ميسور عن المغرب، وظاهره عليه الأدارسة الذين   [1] بمعنى أخرجه وهي من التعابير التي يستعملها ابن خلدون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 بالريف، وانقلب ميسور إلى القيروان سنة أربع وعشرين، وعقد للقاسم بن محمد كبير أدارسة الريف من ولد محمد بن إدريس على أعمال ابن أبي العافية وما يفتحه من البلاد، فملك المغرب كلّها ما عدا فاس، وأقام دعوة الشيعة بسائر أعماله. ثم جهّز أبو القاسم اسطولا ضخما لغزو ساحل الإفرنجة وعقد عليه ليقرب ابن إسحاق فأثخن في بلاد الافرنجة، وسبى ونازل بلد جنوة وافتتحها، وعظم صنع الله في شأنها، ومروا بسردانية من جزر الفرنج فأثخنوا فيها. ثم مروا بقرقيسياء من سواحل الشام فأحرقوا مراكبها. ثم بعث عسكرا إلى مصر مع خادمه زيران فملكوا الإسكندرية، وجاءت عساكر الإخشيد من مصر فأزعجوهم عنها ورجعوا إلى المغرب. (أخبار أبي يزيد الخارجي) وهو أبو يزيد مخلد بن كيراد، وكان أبوه كيراد من أهل قسطيلة من مدائن بلد توزر، وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة وبها ولد ولده أبو يزيد ونشأ بتوزر، وتعلم القرآن وخالط النكاريّة من الخوارج وهم الصفريّة، فمال إلى مذهبهم وأخذ به ثم سافر إلى تاهرت وأقام بها يعلّم الصبيان، ولم صار الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي انتقل هو إلى تقيوس، وأقام يعلّم فيها. وكان يذهب إلى تكبير أهل ملّته، واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان. ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس وتغيير المنكر سنة ست عشرة وثلاثمائة فكثر أتباعه، ولمّا مات المهدي خرج بناحية جبل أوراس، وركب الحمار وتلقّب بشيخ المؤمنين، ودعا للناصر صاحب الأندلس من بني أميّة فاتبعه أمم من البربر. وزحف إليه عامل باغاية فلقيه في جموع البربر وهزمه، وزحف إلى باغاية فحاصرها، ثم انهزم عنها، وكتب إلى بني واسى من قبائل زناتة بضواحي قسنطينة يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين. ثم فتح تبسة صلحا، ومجانة كذلك، وأهدى له رجل من أهل مرماجنة حمارا أشهب فكان يركبه وبه لقّب. وكان يلبس جبّة صوف قصيرة ضيّقة الكمّين. وكان عسكر الكتاميين على الأريس فانفضوا، وملكها أبو يزيد وأحرقها ونهبها وقتل في الجامع من لجأ إليه، وبعث عسكرا إلى سبيبة ففتحها وقتل عاملها. وبلغ الخبر إلى القاسم فقال لا بدّ أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 يبلغ المصلي من المهديّة، ثم جهّز العساكر وبعثها إلى رقادة والقيروان، وبعث خادمه ميسورا الخصيّ لحربه. وبعث عسكرا مع خادمه بشري إلى باجة فنهض إليه أبو يزيد وهزمه إلى تونس، ودخل أبو يزيد باجة فنهبها وأحرقها، وقتل الأطفال وسبى النساء، واجتمع إليه قبائل البربر، واتخذ الأبنية والبيوت وآلات الحرب، وبعث إليه بشري عسكرا من تونس، وبعث أبو يزيد للقائهم عسكرا آخر فانهزم أصحاب أبي يزيد وظفر أصحاب بشري. ثم ثار أهل تونس ببشري فهرب فاستأمنوا لأبي يزيد فأمّنهم وولّى عليهم، وسار إلى القيروان وبعث القائم خديمه بشري للقائه. وأمره أن يبعث من يتجسّس عن أخباره فبعث طائفة، وبعث أبو يزيد طائفة أخرى فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم أربعة آلاف، وجيء بأسراهم إلى المهديّة فقتلوا، فسار أبو يزيد إلى قتال الكتاميّين فهزم طلائعهم وأتبعهم إلى القيروان، ونزل على رقادة في مائتي ألف مقاتل، وعاملها يومئذ خليل بن إسحاق وهو ينتظر وصول ميسور بالعساكر، ثم ضايقه أبو يزيد وأغراه الناس بالخروج فخرج، وهزمه أبو يزيد فمضى إلى القيروان. ودخل أبو يزيد رقادة فعاث فيها وبعث أيوب الزويلي في عسكر إلى القيروان فملكها في صفر سنة ثلاث وثلاثين، ونهبها وأمّن خليلا فقتله أبو يزيد، وخرج إليه شيوخ أهل القيروان فأمّنهم ورفع النهب عنهم، وزحف ميسور إلى أبي يزيد، وكان معه أبو كملان فكاتبوا أبا يزيد وداخلوه في الغدر بميسور، وكتب إليه القائم بذلك فحذّرهم فطردهم عنه، ولحقوا بأبي يزيد وساروا معه إلى ميسور فانهزم ميسور، وقتله بنو كملان وجاءوا برأسه فأطافه بالقيروان، وبعث بالبشرى إلى البلاد. وبلغت هزيمة ميسور إلى القائم بالمهدية فاستعدّ للحصار، وأمر بحفر الخنادق، وأقام أبو يزيد سبعين يوما في مخيم ميسور وبث السرايا في كل ناحية يغنمون ويعودون، وأرسل سرية إلى سوسة ففتحوها عنوة واستباحوها، وخرّب عمران إفريقية من سائر الضواحي ولحق فلّهم بالقيروان حفاة عراة. ومات أكثرهم جوعا وعطشا. ثم بعث القائم إلى رؤساء كتامة والقبائل وإلى زيري بن مناد ملك صنهاجة بالمسير إلى المهدية فتأهّبوا لذلك، وسمع أبو يزيد بخبرهم فنزل على خمسة فراسخ من المهدية، وبثّ السرايا في جهاتها، وسمع كتامة بافتراق عسكره في الغارة فخرجوا لبياته آخر جمادى الأولى، وكان ابنه فضل قد جاء بالمدد من القيروان فبعثه للقاء كتامة، وركب في أثرهم ولقي أصحابه منهزمين. ولما رآه الكتاميون انهزموا بغير قتال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وأتبعهم أبو يزيد إلى باب المهدية ورجع. ثم جاء بعد أيام لقتالهم فوقف على الخندق المحدث، وعليه جماعة من العبيد فقاتلهم ساعة وهزمهم، وجاوز السور إلى البحر ووصل المصلى على رمية سهم من البلد، والبربر يقاتلون من الجانب الآخر. ثم حمل الكتاميون عليهم فهزموهم وبلغ ذلك أبا يزيد، وسمع بوصول زيري بن مناد فاعتزم أن يمرّ بباب المهديّة ويأتي زيري وكتامة من ورائهم فقاتلوا أهل الأرباض، ومالوا عليه لما عرفوه ليقتلوه، وتخلّص بعد الجهد ووصل إلى منزله فوجدهم يقاتلون العبيد كما تركهم فقوي أصحابه وانهزم العبيد. ثم رحل وتأخّر قليلا وحفر على معسكره خندقا واجتمع عليه خلق عظيم من البربر ونفوسة والزاب وأقاصى المغرب، وضيّق على أهل المرية ثم زحف إليها آخر جمادى فقاتلهم وتورّط في قتالها يومه ذلك. ثم خلص وكتب إلى عامل القيروان أن يبعث إليه مقاتلتها، فجاءوا وزحف بهم آخر رجب فانهزم، وقتل من أصحابه. ثم زحف الزحف الرابع آخر شوّال ولم يظفر، ورجع إلى معسكره واشتدّ الحصار على أهل المهديّة حتى أكلوا الميتات والدواب، وافترق أهلها في النواحي، ولم يبق بها إلّا الجند وفتح القائم أهراء [1] الزرع التي أعدّها المهدي وفرّقها فيهم. ثم اجتمعت كتامة وعسكروا بقسنطينة فبعث إليهم أبو يزيد بعثا من وربجومة وغيرهم فهزموا كتامة، ووافت أبا يزيد حشود البربر من كل ناحية وأحاط بسوسة وضيّق عليها. ثم انتقض البربر عليه بما كان منه من المجاهرة بالمحرّمات والمنافسة بينهم فانفضّوا عنه، ورجع إلى القيروان سنة أربع وثلاثين، وغنم أهل المهديّة معسكره، وكثر عبث البربر في أمصار إفريقية وضواحيها، وثار أهل القيروان بهم، وراجعوا طاعة القائم، وجاء عليّ بن حمدون من المسيلة بالعساكر فبيته أيوب بن أبي يزيد وهزمه، وسار إلى تونس وجاءت عساكر القائم فواقعوه مرّات وانهزم إلى القيروان في ربيع سنة أربع وثلاثين. فبعث أيوب ثانية لقتال عليّ بن حمدون ببلطة، وكانت حروبه معه سجالا إلى أن اقتحم عليه البلد بمداخلة بعض أهلها. ولحق ابن حمدون ببلاد كتامة واجتمعت قبائل كتامة ونفزة ومزاتة وعسكروا بقسنطينة. وبعث ابن حمدون العساكر إلى هوارة فأوقعوا بهم، وجاءهم مدد أبي يزيد فلم يغن عنهم. وملك ابن حمدون مدينة يتجست وباغاية. ثم زحف أبو يزيد   [1] قوله: أهراء قال المجد: والهري بالضم بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان، الجمع اهراء. انتهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 إلى سوسة في جمادى الآخرة من سنته وبها عسكر القائم، وتوفي القائم وهو بمكانه من حصارها. (وفاة القائم وولاية ابنه المنصور) ثم توفي القائم أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب إفريقية، بعد أن عهد إلى ولده إسماعيل بعده وتلقّب بالمنصور، وكتم موت أبيه حذرا أن يطلع عليه أبو يزيد وهو بمكانه من حصار سوسة، فلم يسمّ بالخليفة ولا غيّر السكة ولا الخطبة ولا البنود إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد كما يذكر. (بقية أخبار أبي يزيد ومقتله) ولمّا مات القائم كان أبو يزيد محاصرا لسوسة كما تقدّم، وقد جهد أهلها الحصار، فلمّا وليّ إسماعيل المنصور وكان أول عمله أن بعث الأساطيل من المهديّة إلى سوسة مشحونة بالمدد من المقاتلة والأمتعة والميرة مع رشيق الكاتب ويعقوب بن إسحاق، وخرج بنفسه في أثرهم، وأشار أصحابه بالرجوع فرجع ووصل الأسطول إلى سوسة، وخرجوا لقتال أبي يزيد وعساكر سوسة معهم فانهزم أبو يزيد، واستبيح معسكره نهبا وإحراقا، ولحق بالقيروان فمنعه أهلها من الدخول وثاروا بعامله فخرج إليه، ورحل إلى سبيبة وذلك أواخر شوّال سنة أربع. وجاء المنصور إلى القيروان وأمّن أهلها وأبقى على حرم أبي يزيد وأولاده، وأجرى عليهم الرزق، وخرجت سرية من عسكر المنصور لاستكشاف خبر أبي يزيد وجاءت أخرى من عسكر أبي يزيد لمثل ذلك فالتقوا وانهزمت سرية المنصور، فقوي أبو يزيد بذلك وكثر جمعه، وعاد فقاتل القيروان وخندق المنصور على عسكره، وقاتلهم أبو يزيد فكان الظفر أول يوم للمنصور، ثم قاتلهم ثانيا فانهزموا وثبت المنصور وراجع أصحابه من طريق المهديّة وسوسة. ولما رأى أبو يزيد امتناعهم عليه رحل أواخر ذي القعدة، ثم رجع فقاتلهم وكانت الحرب سجالا، وبعث السرايا إلى طريق المهديّة وسوسة نكاية فيهم، وبعث إلى المنصور في حرمه وأولاده فبعثهم إليه بعد أن وصلهم. وقد كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 أقسم على الرحيل، فلمّا وصلوا إليه نكث وقاتلهم خامس المحرّم سنة خمس وثلاثين فهزمهم. ثم عبّى المنصور عساكره منتصف المحرّم وجعل البرابر في الميمنة وكتامة في الميسرة، وهو وأصحابه في القلب. وحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها ثم على القلب فلقيه المنصور واشتدّ القتال. ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم وأسلم أثقاله وعسكره وقتل خلق من أصحابه وبلغت رءوس القتلى الّذي في أيدي صبيان القيروان عشرة آلاف، ومضى أبو يزيد لوجهه، ومرّ بباغاية فمنعه أهلها من الدخول فأقام يحاصرها، ورحل المنصور في ربيع الأول لاتباعه، واستخلف على المهديّة مراما الصقليّ وأدركه على باغاية فأجفل المنصور في إتباعه. وكلّما قصد حصنا سبقه المنصور إليه إلى أن نزل المنصور طبنة فجاءته رسل محمد بن خزر أمير مغراوة من أصحاب أبي يزيد ومواطئه بالغرب الأوسط فاستأمن للمنصور فأمنه، وأمره بطلب أبي يزيد. ووصل أبو يزيد إلى بني برزال وكانوا نكاريّة، وبلغه خبر المنصور في اتباعه فسلك الرملة. ثم عاد إلى نواحي غمرت فصادف المنصور وقاتله فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات، والمنصور في أثره في جبال وأوعار ومضايق تفضي إلى القفر، وأصابهم الجهد وعلم أنه ليس أمامه إلّا المفازة إلى بلاد السودان فرجع إلى غمرت من بلاد صنهاجة. ووفد عليه هنالك زيري بن مناد أمير صنهاجة فأكرمه ووصله كما يجب له. وجاء كتاب محمد بن خزر بالمكان الّذي فيه أبو يزيد من المفازة، وأقام المنصور هنالك لمرض أصابه فرجع أبو يزيد الى المسيلة وحاصرها. فلما عوفي المنصور رحل أوّل رجب سنة خمس وثلاثين وقصده فأفرج عن المسيلة، وقصد المفازة يريد بلاد السودان فأبى عليه بنو كملان أصحابه فرجعوا إلى جبال كتامة وعجيسة فتحصّنوا بها. وجاء المنصور فنزل بساحتهم عاشر شعبان ونزل أبو يزيد فقاتلهم فانهزم وأسلم عسكره وأولاده، وطعنه بعض الفرسان فأكبّه وحامي عنه أصحابه فقتل في الحومة ما يزيد على عشرة آلاف، وتخلّص. ثم سار المنصور في أثره أوّل رمضان ولم يقدر أحد من الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وصعوبته. ثم انهزم أبو يزيد لما ضرسه الحرب، وترك أثقاله وساروا إلى رءوس الجبال يرمون بالصخر، وتزاحفوا حتى تعانقوا بالأيدي وكثر القتل. ثم تحاجزوا وتحصّن أبو يزيد بقلعة كتامة واستأمن الذين معه من هوارة فأمّنهم المنصور، وحصر أبا يزيد في القلعة وقاتلها غير مرّة حتى افتتحها عنوة وأضرمها نارا، وقتل أصحاب أبي يزيد في كل ناحية وجمع أهله وأولاده في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 القصر، وأظلم الليل فأمر المنصور بإشعال النيران في الشعراء [1] المحيطة بالقصر حتى أضاء الليل لتكون أحواله بمرأى منهم حذرا من فراره، حتى خرج الليل وحمل في أصحاب المنصور حملة منكرة فأفرجوا له، وأمر المنصور بطلبه فألفوه وقد حمله ثلاثة من أصحابه لأنه كان جريحا فسقط من الوعر وارتث [2] فحملوه إلى المنصور فسجد سجدة الشكر، وأقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين. ثم هلك من الجراحة التي به فأمر بسلخ جلده وحشوه تبنا واتخذ له قفصا فأدخل فيه مع قردين يلاعبانه بعثاله [3] . ورحل إلى القيروان والمهديّة ولحق ابنه فضل بمعبد بن خزر، وزحف به الى طبنة وبسكرة. وقصد المنصور فانهزم معبد وصعد إلى كتامة، فبعث إليه العساكر مع مولييه شفيع وقيصر، ومعهما زيري بن مناد في صنهاجة، فانهزم فضل ومعبد وافترق جمعهم ورجع المنصور إلى القيروان فدخلها. (بقية أخبار المنصور) ثم انتقض حميد بن يضلبتن عامل المغرب وانحرف عن طاعة الشيعة، ودعا للأموية من وراء البحر، وزحف إلى تاهرت فحاصرها فنهض إليه المنصور في صفر سنة ست وثلاثين، وجاء إلى سوق حمزة فأقام به. وحشد زيري بن مناد جموع صنهاجة من كل ناحية، ورحل مع المنصور فأفرج حميد عن تاهرت، وعقد عليها ليعلى بن محمد اليفرني، وعقد لزيري بن مناد على قومه وعلى سائر بلادهم. ثم رحل لقتال لواتة فهربوا إلى الرمال، وأقام هو على واد ميناس، وكان هنالك ثلاثة جبال كل منهم عليه قصر مبني بالحجر المنحوت، فوجد في وجه أحد هذه القصور كتابة على حجر فسيح، فأمر المنصور التراجمة بقراءته، وإذا فيه أنا سليمان السردغوس خالف أهل هذا البلد على الملك، فبعثني إليهم ففتح الله عليهم وبنيت هذا البناء لأذكر به. ذكر هذه الغريبة ابن الرقيق في تاريخه. ثم رحل المنصور إلى القيروان بعد أن خلع   [1] الشجر الكثير. [2] وارتث: اي حمل من المعركة جريحا (القاموس) . [3] اي بلحيته الكبيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 على زيري بن مناد وحمله ودخل المنصورية في جمادى سنة ست وثلاثين، فبلغه أن فضل بن أبي يزيد جاء إلى جبل أوراس، وداخل البربر في الثورة فخرج إليه المنصور فدخل الرمل، ورجع المنصور إلى القيروان ثم إلى المهدية، ورجع فضل بن أبي يزيد إلى باغاية وأقام يحاصرها فغدر به باطيط، وبعث برأسه الى المنصور. ثم عقد سنة تسع وثلاثين للحسين بن عليّ بن أبي الحسين الكلبيّ على صقلّيّة وأعمالها، وكانت لخليل بن إسحاق فصرفه الحسين واستقلّ بولايتها، فكان له فيها ولبنيه ملك سنذكره. وبلغ المنصور أنّ ملك إفرنجة يريد غزو المسلمين فأخرج أسطوله، وشحنه بالعساكر لنظر مولاه فرج الصقليّ، وأمر الحسين بن عليّ عامل صقلّيّة بالخروج معه فأجازوا البحر إلى عدوة الإفرنجة، ونزلوا قلورية ولقيهم رجاء ملك الفرنجة فهزموه. وكان فتحا لا كفاء له، وذلك سنة أربعين وثلاثمائة، ورجع فرج بالغنائم إلى المهديّة سنة اثنتين وأربعين، وكان معبد بن خزر بعد مظاهرته لفضل بن أبي يزيد لم يزل منتقضا وأولياء المنصور في طلبه حتى أخذ في بعض الوقائع، وسيق مع ابنه إلى المنصور فطيف بهما في أسواق المنصوريّة، ثم قتلا سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. (وفاة المنصور وولاية ابنه المعز) ثم توفي المنصور إسماعيل بن القاسم سلخ رمضان سنة إحدى وأربعين لسبع سنين من خلافته، أصابه الجهد من مطر وثلج تجلّد على ملاقاته، ودخل على أثره الحمّام فعيت [1] حرارته ولازمه السهر فمات. وكان طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي قد نهاه عن الحمّام فلم يقبل وولي الأمر بعده ابنه معدّ، ولقب المعز لدين الله فاستقام أمره، وخرج لجبل أوراس سنة اثنتين وأربعين، وجالت فيه عساكره واستأمن إليه بنو كملان ومليلة من هوارة، ودخلوا في طاعته فأمّنهم وأحسن إليهم. واستأمن إليه محمد بن خزر بعد قتل أخيه معبد فأمّنه ورجع إلى القيروان وترك مولاه قيصر في العساكر، وعقد له على باغاية فدوّخ البلاد وأحسن إلى الناس، وألف من كان شاردا من البربر. ورجع بهم إلى القيروان فأكرمهم المعز ووصلهم. ثم وفد بعدهم محمد   [1] ربما تكون علت حرارته اي ارتفعت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 بن خزر أمير مغراوة فلقّاه مبرّة وتكريما. وأقام عنده بالقيروان إلى أن هلك سنة ثمان وأربعين. واستقدم المعزّ زيري بن مناد سنة ثلاث وأربعين أمير صنهاجة، فقدم من أشير فأجزل صلته وردّه إلى عمله. وبعث إلى الحسين بن علي عامل صقلّيّة سنة أربع وأربعين أن يخرجه بأسطوله إلى ساحل المرية من بلاد الأندلس، فعاث فيه وغنم وسبى، ورجع فأخرج الناصر صاحب الأندلس أسطوله إلى سواحل إفريقية مع غالب مولاه فمنعتهم العساكر، وأقلعوا. ثم عاودوا سنة خمس وأربعين في سبعين مركبا فأحرقوا مرسى الخزر وعاثوا في جهات سوسة، ثم في نواحي طبرنة ورجعوا. واستقام أمر المعزّ في بلاد إفريقية والمغرب واتسعت إيالته، وكانت أعماله من ايفكان خلف تاهرت بثلاثة مراحل إلى زناتة التي دون مصر وعلى تاهرت وايفكان يعلى بن محمد اليفرني، وعلى أشير وأعمالها زيري بن مناد الصنهاجي وعلى المسيلة وأعمالها جعفر ابن علي الأندلسي وعلى باغاية وأعمالها قيصر الصقليّ. وكان على فاس أحمد بن بكر ابن أبي سهل الجذامي، وعلى سجلماسة محمد بن واسول المكناسي. ثم بلغه سنة سبع وأربعين أن يعلى بن محمد اليفرني داخل الأموية من وراء البحر، وأنّ أهل المغرب الأقصى نقضوا طاعة الشيعة، فأغزى جوهر الصقلّيّ الكاتب إلى المغرب بالعساكر، وكان على وزارته، وخرج معه جعفر بن عليّ صاحب المسيلة، وزيري بن مناد صاحب أشير وتلقّاهم يعلى بن محمد صاحب المغرب الأوسط. ولما ارتحل عن ايفكان وقعت هيعة في أصحاب صيلة وقيل له إنّ بني يعرب أوقعوها فتقبض على يعلى وناشته سيوف كتامة لحينه، وخرب ايفكان وأسر ابنه يدو بن يعلى، وتمادوا إلى فاس ثم تجاوزوها إلى سجلماسة فأخذها، وتقبّض على الشاكر للَّه محمد بن الفتح الّذي تلقّب بأمير المؤمنين من بني واسول، وولّى ابن المعتز من بني عمه مكانه ودوّخ المغرب إلى البحر. ثم رجع الى فاس وحاصرها وواليها يومئذ أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي، وقاتلها مدّة فامتنعت عليه وجاءته هدايا الأمراء الأدكرنية من السوس. ثم رحل الى سجلماسة، وبها محمد بن واسول من مكناسة وقد تلقّب بأمير المؤمنين الشاكر للَّه، وضرب السكة باسمه تقدّست عزة الله، فلما سمع بجوهر هرب، ثم أخذ أسيرا وجيء به إلى جوهر، وسار عن سجلماسة وافتتح البلاد في طريقه. ثم عاد إلى فاس وأقام في حصارها إلى أن افتتحها عنوة على يد زيري بن مناد تسنّم أسوارها ليلا ودخلها وتقبّض على أحمد بن بكر، وذلك سنة ثمان وأربعين، وولّى عليها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 قبله، وطرد عمّال بني أمية من سائر المغرب. وانقلب الى القيروان ظافرا عزيزا، وضم تاهرت إلى زيري بن مناد. وقدم بالفاطميين وبأحمد بن بكر وبمحمد بن واسول أسيرين في قفصين، ودخل بهما إلى المنصورية في يوم مشهود. وكانت ولاية المغرب والمشرق منقسمة بين مولييه قيصر ومظفّر، وكانا متغلبين على دولته فقبض عليهما سنة تسع وأربعين وقتلهما. وفي سنة خمسين كان تغلّب النصارى على جزيرة اقريطش، وكان بها أهل الأندلس من جالية الحكم بن هشام بسبب ثورة الرفض، ففر بهم إلى الإسكندريّة فثاروا بها، وعبد الله بن طاهر يومئذ عامل مصر فحاصرهم بالإسكندرية حتى نزلوا على الأمان، وأن يجيزوا البحر إلى جزيرة أقريطش فعمّروها ونزلوها منذ تلك الأيام، وأميرها أبو حفص البلّوطي منهم، واستبدّ بها وورث بنوه رياسة فيها إلى أن نازلهم النصارى في هذه السنة في سبعمائة مركب، واقتحموها عليهم عنوة، وقتلوا منهم وأسروا، وبقيت في ايدي النصارى لهذا العهد والله غالب على أمره. وافتتح صاحب صقلّيّة سنة إحدى وخمسين قلعة طرمين، من حصون صقلّيّة بعد حصار طويل أجهدهم فنزلوا على حكم صاحب صقلّيّة بعد تسعة أشهر ونصف للحصار، وأسكن المسلمين بالقلعة وسمّاها المعزيّة نسبة إلى المعزّ صاحب إفريقية. ثم سار صاحب صقلّيّة بعدها وهو أحمد بن الحسن ابن علي بن أبي الحسن إلى حصار رمطة من قلاع صقلّيّة فاستمدوا ملكهم صاحب القسطنطينيّة، فجهّز لهم العساكر برا وبحرا، واستمد صاحب صقلّيّة المعزّ فامدّه بالعساكر مع ابنه الحسن، ووصل مدده إلى مدينة ميسنى، وساروا بجموعهم إلى رمطة، وكان على حصارها الحسن بن عمار فحمل عسكرا على رمطة وزحف إلى عسكر الروم مستميتا فقاتلهم فقتل أمير الروم وجماعة من البطارقة وهزموا أقبح هزيمة، واعترضهم خندق فسقطوا فيه، وأثخن المسلمون. فيهم وغنموا عسكرهم. واشتدّ الحصار على أهل رمطة وعدموا الأقوات فاقتحمها المسلمون عنوة، وركب فلّ الروم البحر يطلبون النجاة، فأتبعهم الأمير أحمد بن الحسن في أسطوله فأدركهم وسبح بعض المسلمين في الماء فخرّق مراكبهم وانهزموا، وبث أحمد سرايا المسلمين في مدائن الروم فغنموا منها وعاثوا فيها حتى صالحوهم على الجزية، وكانت هذه الواقعة سنة أربع وخمسين وتسمّى وقعة المجاز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 (فتح مصر) ثم إنّ المعز لدين الله بلغه اضطراب أحوال مصر بعد موت كافور الإخشيدي وعظم فيها الغلاء وكثرت الفتن وشغل بغداد عنهم بما كان من الفتن بين بختيار بن معزّ الدولة، وعضد الدولة ابن عمه، فاعتزم المعزّ على المسير إلى مصر، وأخرج جوهرا الكاتب إلى المغرب لحشد كتامة، وأوعز إلى عمّال برقة لحفر الآبار في طريقها، وذلك سنة خمس وخمسين، فسيّره إلى مصر وخرج لتوديعه، وأقام أياما في معسكره، وسار جوهر وبلغ خبره إلى عساكر الإخشيدية بمصر فافترقوا، وكان ما يذكر في أخبارهم، وقدم جوهر منتصف شعبان من سنة ثمان وخمسين فدخلها وخطب في الجامع العتيق منه باسم المعزّ، وأقيمت الدعوة العلويّة وفي جمادى من سنة تسع وخمسين دخل جوهر جامع ابن طولون فصلّى فيه، وأمر بزيادة حيّ على خير العمل في الأذان، فكان أوّل أذان أذّن به في مصر. ثم بعث إلى المعزّ بالهدايا وبأعيان دولة الإخشيدية فحبسهم المعز بالمهديّة، وأحسن إلى القضاة والعلماء من وفدهم، وردّهم إلى مصر، وشرع جوهر في بناء القاهرة واستحث المعزّ للقدوم على مصر. (فتح دمشق) ولما فتحت مصر، وأخذ بنو طفج، هرب منهم الحسن بن عبد الله بن طفج إلى مكّة ومعه جماعة من قوّادهم، فلمّا استشعر جوهر به بعث جعفر بن فلاح الكتامي في العساكر إليه فقاتله مرارا ثم أسره ومن كان معه من القوّاد، وبعث بهم إلى جوهر فبعث بهم جوهر إلى المعزّ بإفريقية، ودخل جعفر الرملة عنوة فاستباحها، ثم أمّن من بقي وجبى الخراج وسار إلى طبرية وبها ابن ملهم وقد أقام الدعوة للمعز فتجافى عنه، وسار إلى دمشق فافتتحها عنوة وأقام بها الخطبة للمعز لأيام من المحرّم سنة تسع وخمسين، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشميّ وكان مطاعا فيهم، فجمع الأوباش والذعّار وثار بهم في الجمعة الثانية، ولبس السواد وأعاد الخطبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 للمطيع فقاتلهم جعفر بن فلاح أياما ووالى عليهم الهزائم. وعاثت جيوش المغاربة في أهل دمشق فهرب ابن أبي يعلى ليلا من البلد وأصبحوا حيارى، وكانوا قد بعثوا الشريف الجعفري إلى جعفر في الصلح فأعاده إليهم بتسكين الناس والوعد الجميل، وأن يدخل البلد فيطوف فيه ويرجع إلى معسكره فدخل، وعاث المغاربة في البلد بالنهب فثار الناس بهم وحملوا عليهم، وقتلوا منهم وشرعوا في حفر الخنادق وتحصين البلد. ومشى الشريف أبو القاسم في الصلح بينهم وبين جعفر بن فلاح، فتم ذلك منتصف ذي الحجة من سنة تسع وخمسين، ودخل صاحب شرطة جعفر فسكن الناس وقبض على جماعة من الأحداث وقتل منهم وحبس. ثم قبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى في المحرّم من سنة ستين، وبعث به إلى مصر، واستقام ملك دمشق لجعفر بن فلاح، وكان خرج بإفريقية في سنة ثمان وخمسين أبو جعفر الزناتي واجتمعت إليه جموع من البربر والنكاريّة، وخرج إليه المعزّ بنفسه، وانتهى إلى باغاية وافترقت جموع أبي خزر [1] ، وسلك الأوعار فعاد المعزّ وأمر بلكين بن زيري بالمسير في طلبه فسار لذلك حتى انقطع عنه خبره، ثم جاء أبو جعفر مستأمنا سنة تسع وخمسين فقبله، وأجرى عليه الرزق، وعلى أثر ذلك وصلت كتب جوهر بإقامة دعوته بمصر والشام، وباستدعائه إليها فاشتدّ سرور المعز بذلك، وأظهره في الناس ونطق الشعراء بامتداحه. ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليهم ملكهم الأعصم. ولقيهم جعفر بن فلاح فظفر بهم وقتلهم. ثم رجعوا إليه سنة إحدى وستين وبرز إليهم جعفر فهزموه وقتلوه، وملك الأعصم دمشق وسار إلى مصر وكاتب جوهر بذلك للمعزّ فاعتزم على الرحلة إليها. (مسير المعز الى مصر ونزوله بالقاهرة) ولما انتهت هذه الأخبار إلى المعزّ اعتزم على المسير إلى مصر، وبدأ بالنظر في تمهيد المغرب وقطع شواغله، وكان محمد بن الحسن بن خزر المغراوي مخالفا عليه بالمغرب الأوسط، وقد كثرت جموعه من زنانة والبربر، وكان جبّارا طاغيا فأهمّ المعزّ أمره وخشي على إفريقية عائلته، فأمر بلكين بن زيري بن مناد بغزوه فغزاه في بلاده،   [1] الصحيح أبي جعفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 وكانت بينهما حروب عظيمة. ثم انهزم محمد بن خزر وجموعه، ولما أحسّ بالهزيمة تحامل على سيفه فقتل نفسه، وقتل في المعركة سبعة عشر من أمراء زناتة وأسر منهم كثير وذلك سنة ستين. وسرّ المعزّ ذلك وقعد للهناء به. واستقدم بلكين بن زيري فاستخلفه على إفريقية والمغرب، وأنزله القيروان وسمّاه يوسف، وكنّاه أبا الفتوح، وولّى على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي، ولم يجعل لبلكين ولاية عليه، ولا على صاحب صقلّيّة. وجعل على جباية الأموال زيادة الله بن الغريم، وعلى الخراج عبد الجبّار الخراسانيّ، وحسين بن خلف المرصدي بنظر بلكين، وعسكر ظاهر المنصوريّة آخر شوّال من سنة إحدى وستين، وأقام على سردانية قريبا من القيروان حتى فرغ من أعماله، ولحقته عساكره وأهل بيته وعمّاله، وحمل له ما كان في قصره من الأموال والأمتعة. وارتحل بعد أربعة أشهر من مقامه وسار معه بلكين قليلا، ثم ودّعه وردّه إلى عمله، وسار هو إلى طرابلس في عساكره، وهرب بعضهم إلى جبل نفوسة فامتنعوا بها، وسار إلى برقة فقتل بها شاعره محمد بن هانئ الأندلسي، وجد قتيلا بجانب البحر في آخر رجب من سنة اثنتين وستين. ثم سار إلى الاسكندريّة وبلغها في شعبان من هذه السنة، ولقيه بها أعيان مصر فأكرمهم ووصلهم، وسار فدخل القاهرة لخمس من رمضان من هذه السنة فكانت منزله ومنزل الخلفاء بعده الى آخر دولتهم. (حروب المعز مع القرامطة واستيلاؤه على دمشق) كان للقرامطة على بني طفج بدمشق ضريبة يؤدّونها إليهم، فلمّا ملك ابن فلاح بدعوة المعزّ قطع تلك الضريبة، وآسفهم بذلك فرجعوا إلى دمشق وعليهم الأعصم ملكهم، فبرز إليهم جعفر بن فلاح فهزموه وقتلوه، وملكوا دمشق وما بعدها، إلى الرملة، وهرب من كان بالرملة وتحصّنوا بيافا. وملك القرامطة الرملة وجهّزوا العساكر على يافا، وساروا إلى مصر ونزلوا عين شمس وهي المعروفة لهذا العهد بالمطرية. واجتمع إليهم خلق كثير من العرب وأولياء بني طفج، وحاصروا المغاربة بالقاهرة وقاتلوهم أياما فكان الظفر بهم. ثم خرج المغاربة واستماتوا وهزمهم فرحلوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 إلى الرملة وضيّقوا حصار يافا، وبعث إليهم جعفر بالمدد في البحر فأخذه القرامطة وانتهى الخبر إلى المعزّ بالقيروان. وجاء إلى مصر ودخلها كما ذكرناه. وسمع أنهم يريدون المسير إلى مصر فكتب إلى الأعصم يذكّره فضل بنيه وأنهم إنما دعوا له ولآبائه وبالغ في وعظه وتهدّده فأساء في جوابه، وكتب إليه: وصل كتابك الّذي قلّ تحصيله وكثر تفصيله، ونحن سائرون إليك والسلام. وسار من الأحساء إلى مصر ونزل عين شمس في عساكره، واجتمع إليه الناس من العرب وغيرهم. وجاء حسان بن الجرّاح في جموع عظيمة من طيِّئ، وبثّ سراياه في البلاد فعاثوا فيها وأهمّ المعز شأنه، فراسل ابن الجرّاح واستماله بمائة ألف دينار على أن ينهزم على القرامطة واستحلفوه على ذلك. وخرج المعز ليوم عيّنوه لذلك فانهزم ابن الجرّاح بالعرب، وثبت القرامطة قليلا ثم انهزموا وأخذ منهم نحو ألف وخمسمائة أسير. وقتلوا صبرا ونهب معسكرهم. وجرّد المعز القائد أبا محمود في عشرة آلاف فارس، وساروا في اتباعهم ولحق القرامطة بأذرعات وساروا منها إلى الأحساء، وبعث المعز القائد ظالم بن موهوب العقيليّ واليا على دمشق فدخلها، وكان العامل بها من قبل القرامطة أبو اللجاء وابنه في جماعة منهم فحبسهم ظالم وأخذ أموالهم، ورجع القائد أبو محمود من اتباع القرامطة إلى دمشق فتلقّاه ظالم وسرّ بقدومه وسأله المقام بظاهر دمشق حذرا من القرامطة ففعل ودفع أبا اللجاء وابنه فبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها. وعاث أصحاب أبي محمود في دمشق، فاضطرب الناس وقتل صاحب الشرطة بعضهم فثاروا به وقتلوا أصحابه. وركب ظالم بذراريهم وأجفل أهل الضواحي إلى البلد من عيث المغاربة، ثم وقعت في منتصف شوّال من سنة ثلاث وستين فتنة بين العامّة وبين عسكر أبي محمود وقاتلوه أياما، ثم هزمهم وتبعهم إلى البلد. وكان ظالم بن موهوب يداري العامّة فأشفق في هذا اليوم على نفسه، وخرج من دار الإمارة وأحرق المغاربة ناحية باب الفراديس، ومات فيها خلق، واتصلت الفتنة إلى ربيع الآخر من سنة أربع وستين. ثم وقع الصلح بينهم على إخراج ظالم من البلد وولاية جيش بن الصمصامة ابن أخت أبي محمود فسكن الناس إليه. ثم رجع المغاربة إلى العيث وعاد العامّة إلى الثورة، وقصدوا القصر الّذي فيه جيش فهرب ولحق بالعسكر، وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي وقطع الماء عن البلد فضاقت الأحوال وبطلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 الأسواق، وبلغ الخبر إلى المعزّ فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى زياد الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها، وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة، وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل أفتكين واليا على دمشق. وكان أفتكين هذا من موالي عزّ الدولة بن بويه، ولما ثار الأتراك على ابنه بختيار مع سبكتكين، ومات سبكتكين، قدّمه الأتراك عليهم، وحاصروا بختيار بواسط، وجاء عضد الدولة لإنجاده فاجفلوا عن واسط فتركوه ببغداد. وسار أفتكين في طائفة من الجند إلى حمص فنزل قريبا منها، وقصده ظالم بن موهوب العقيليّ ليقبضه فعجز عنه، وسار أفتكين فنزل بظاهر دمشق وبها زياد خادم المعز، وقد غلب عليه، وعلى أعيان البلد الأحداث والذّعار، فلم يملكوا معهم أمر أنفسهم فخرج الأعيان إلى أفتكين، وسألوا منه الدخول إليهم ليولّوه، وشكوا إليه حال المغاربة وما يحملونهم عليه من عقائد بعض الرفض، وما أنزل بهم عمّالهم من الظلم والعسف، فأجابهم واستحلفهم وحلف لهم، وملك البلد وخرج منها زياد الخادم، وقطع خطبة المعزّ العلويّ وخطب للطائع العبّاسيّ، وقمع أهل الفساد ودفع العرب عمّا كانوا استولوا عليه من الضواحي. واستقل ملك دمشق وكاتب المعزّ بطلب طاعته وولايتها من قبله. فلم يثق إليه وردّه، وتجهّز لقصده، وجهّز العساكر فتوفي بعسكره ببلبيس كما يذكر. (وفاة المعز وولاية ابنه العزيز) ثم توفي المعزّ بمصر في منتصف ربيع الآخر سنة خمس وستين لثلاث وعشرين سنة من خلافته، وولي ابنه نزار بعهده إليه ووصيّته، ولقّب العزيز باللَّه، وكتم موت أبيه إلى عيد النحر من السنة فصلّى بالناس وخطبهم، ودعا لنفسه وعزّى بأبيه، وأقرّ يعقوب ابن كلس على الوزارة كما كان أيام أبيه، وأقرّ بلكين بن زيري على ولاية إفريقية وأضاف إليه ولاية عبد الله بن يخلف الكتامي، وهي طرابلس وسرت وجرابيه. وكان أهل مكة والمدينة قد خطبوا للمعز أبيه في الموسم فتركوا الخطبة للعزيز، فبعث جيوشه إلى الحجاز فحاصروا مكة والمدينة وضيّقوا عليهم حتى رجعوا إلى دعوتهم، ابن خلدون م 5 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وخطب للعزيز بمكة وكان أمير مكة عيسى بن جعفر والمدينة طاهر بن مسلم، ومات في هذه السنة فولي ابنه الحسن وابن أخيه مكانه. (بقية أخبار أفتكين) ولما توفي المعز وولي العزيز، قام أفتكين وقصد البلاد التي لهم بساحل الشام فبدأ بصيداء فحاصرها، وبها ابن الشيخ في رءوس المغاربة وظالم بن موهوب العقيليّ فبرزوا إليه وقاتلوه فاستنجد لهم، ثم كرّ عليهم وأوقع بهم وقتل منهم أربعة آلاف، وسار إلى عكة فحاصرها وقصد طبرية وفعل فيها مثل صيدا. ورجع واستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلس فأشار بإرسال جوهر الكاتب إليه، فجهّزه العزيز وبعثه، وأقبل أفتكين على أهل دمشق يريهم التحوّل عنهم ويذكرهم بذلك ليختبرهم فتطارحوا إليه، واستماتوا واستحلفهم على ذلك. ووصل جوهر في ذي القعدة سنة خمس وستين فحاصر دمشق شهرين، وضيّق حصارها وكتب افتكين إلى الأعصم ملك القرامطة يستنجده، فسار إليه من الأحساء واجتمع إليهم من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفا، وأدركوا جوهرا بالرملة وقطعوا عنه الماء فارتحل إلى عسقلان فحاصروه بها حتى بلغ الجهد، وأرسل جوهر إلى أفتكين بالمغاربة والوعد. والقرمطيّ يمنعه، ثم سأله في الاجتماع فجاءه أفتكين، ولم يزل جوهر يعتل له في الذروة والغارب، وأفتكين يعتذر بالقرمطيّ ويقول أنت حملتني على مداراته. فلما أيس منه كشف لهم عمّاهم فيه من الضيق، وسأله الصنيعة وأنها يتّخذها عند العزيز فحلف له على ذلك، وعزله القرمطيّ. وأراه جوهر أن يحمل العزيز على المسير بنفسه فصمّ من عزله وأبى إلّا الوفاء، وانطلق جوهر إلى مصر وأغرى العزيز بالمسير إليهم، فتجهّز في العساكر، وسار وجوهر في مقدّمته، ورجع أفتكين والقرمطيّ إلى الرملة، واحتشدوا ووصل العزيز فاصطفوا للحرب بظاهر الرملة في محرّم سنة سبع وستين. وبعث العزيز إلى أفتكين يدعوه إلى الطاعة ويرغّبه ويعده بالتقدّم في دولته ويدعوه إلى الحضور عنده، فتقدّم بين الصفّين وترجّل وقبّل الأرض وقال: قل لأمير المؤمنين لو كان قبل هذه لسارعت، وأما الآن فلا يمكنني. وحمل على الميسرة فهزمهم وقتل الكثير منهم، فامتعض العزيز وحمل هو والميمنة جميعا فهزمهم، ووضع المغاربة السيف فقتلوا نحوا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 عشرين ألفا، ثم نزل في خيامه وجيء بالأسرى فخلع على من جاء بهم وبذل لمن جاء بأفتكين مائة ألف دينار، فلقيه المفرّج بن دغفل الطائي، وقد جهده العطش فاستسقاه فسقاه وتركه بعرشه مكرّما. وجاء إلى العزيز فأخبره بمكانه، وأخذ المائة ألف التي بذلها فيه، وأمكنه من قياده. ولما حضر عند العزيز وهو لا يشك أنه مقتول أكرمه العزيز ووصله، ونصب له الخيام وأعاد إليه ما نهب له، ورجع به إلى مصر فجعله أخص خدمه وحجّابه، وبعث إلى الأعصم القرمطيّ من يردّه إليه ليصله، كما فعل بأفتكين فأدرك بطبرية، وامتنع من الرجوع فبعث إليه بعشرين ألف دينار وفرضها له ضريبة، وسار القرمطيّ إلى الأحساء، وعاد العزيز إلى مصر ورقى رتبة أفتكين وخصّ به الوزير يعقوب بن كلس فسمّه، وسمع العزيز بأنه سمّه فحبسه أربعين يوما وصادره على خمسمائة ألف دينار، ثم خلع عليه وأعاده إلى وزارته. وتوفي جوهر الكاتب في ذي القعدة من سنة إحدى وثمانين، وقام ابنه الحسن مقامه، ولقّب قائد القوّاد. وكان أفتكين قد استخلص أيام وزارته بدمشق رجلا اسمه قسّام، فعلا صيته وكثر تابعه، واستولى على البلد. ولما انهزم أفتكين والقرامطة، بعث العزيز القائد أبا محمود بن إبراهيم واليا على دمشق كما كان لأبيه المعزّ فوجد فيها قسّاما قد ضبط البلد، وهو يدعو للعزيز فلم يتم له معه ولاية. وبقي قسّام مستبدا عليه إلى أن مات أبو محمود سنة سبعين. ثم جاء أبو ثعلب بن حمدان صاحب الموصل إلى دمشق، عند انهزامه أمام عضد الدولة، فمنعه قسّام من الدخول وخاف أن يغلبه على البلد بنفسه أو بأمر العزيز، واستوحش أبو ثعلب لذلك فقاتله قليلا، ثم رحل إلى طبريّة، وجاءت عساكر العزيز مع قائده الفضل فحاصروا قسّاما بدمشق، ولم يظفروا به ورجعوا. ثم بعث العزيز سنة تسع وستين سليمان بن جعفر بن فلاح فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام من دخولها، ودسّ إلى النّاس فقاتلوه وأزعجوه [1] عن مكانه. وكان مفرج بن الجرّاح أمير بني طيِّئ وسائر العرب بأرض فلسطين قد كثرت جموعه وقويت شوكته، وعاث في البلاد وخرّبها، فجهّز العزيز العساكر لحربه مع قائدة بلتكين التركيّ، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه العرب من قيس وغيرهم، ولقي ابن الجرّاح وقد أكمن لهم بلتكين من ورائهم، فانهزم ومضى الى أنطاكية، فأجاره   [1] اي أزاحوه وهي من معاني ابن خلدون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 صاحبها، وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى بلاد الشام فخاف ابن الجرّاح وكاتب بكجور مولى سيف الدولة وعامله على حمص، ولجأ إليه فأجاره. ثم زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسّام أنه جاء لإصلاح البلد. وكان مع قسّام جيش ابن الصمصامة ابن أخت أبي محمود قد قام بعده في ولايته، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول معه بظاهر البلد هو وأصحابه. واستوحش قسّام وتجهّز للحرب. ثم قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا. واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين، وشافهوه بذلك فأذن لهم، وسمع قسّام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسّام، فأمّن الجميع وولّى على البلد أميرا اسمه خطلج، فدخل البلد وذلك في المحرم سنة اثنتين وسبعين، ثم اختفى قسّام بعد يومين فنهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقيا بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمّنه العزيز. وكان بكجور في غويّة من غلمان سيف الدولة وعامله على حمص. وكان يمدّ دمشق أيام هذه الفتنة والغلاء، ويحمل الأقوات من حمص إليها ويكاتب العزيز بهذه الخدم، ثم استوحش سنة ثلاث وسبعين من مولاه أبي المعالي فاستنجز من العزيز وعده إياه بولاية دمشق، وصادف ذلك أنّ المغاربة بمصر أجمعوا على التوثّب بالوزير ابن كلس، ودعت الضرورة إلى استقدام بلتكين من دمشق فأمره العزيز بالقدوم، وولاية بكجور على دمشق ففعل. ودخلها بكجور في رجب من سنة ثلاث وسبعين، وعاث في أصحاب ابن كلس وحاشيته بدمشق لما كان يبلغه عنه من صدّ العزيز عن ولايته. ثم أساء السيرة في أهل دمشق فسعى ابن كلس في عزله عند العزيز، وجهّز العساكر سنة ثمان وسبعين مع منير الخادم، وكتب إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته، وجمع بكجور العرب وخرج للقائه فانهزم. ثم خاف من وصول نزال فاستأمن لهم وتوجّه إلى الرقّة فاستولى عليها، ودخل منير دمشق واستقّر في ولايتها، وارتفعت منزلته عند العزيز وجهزه لحصار سعد الدولة بحلب. وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق إلى الرقّة سأل من سعد الدولة العود إلى ولاية حمص فمنعه فأجلب عليه، واستنجد العزيز لحربه، وبعث إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته فسار إليه بالعساكر، وخرج سعد الدولة من حلب للقائهم وقد أضمر نزال الغدر ببكجور، وتقدّم إليه بذلك عيسى بن نسطورس وزير العزيز بعد ابن كلس. وجاء سعد الدولة للقائهم وقد استمدّ عامل أنطاكية للروم فامدّه بجيش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 كثير وداخل العرب الذين مع بكجور في الانهزام عنه، ووعدوه بذلك من أنفسهم، فلما تراءى الجمعان وشعر بكجور بخديعة العرب فاستمات وحمل على الصفّ بقصد سعد الدولة، فقتل لؤلؤ الكبير مولاه بطعنه إياه. ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه، فسار إلى بعض العرب وحمل إلى سعد الدولة فقتله، وسار إلى الرقّة فملكها وقبض جميع أمواله، وكانت شيئا لا يعبّر عنه، وكتب أولاده إلى العزيز يستشفعون به، فشفع إلى سعد الدولة فيهم أن يبعثهم إلى مصر، ويتهدّده على ذلك، فأساء سعد الدولة الردّ وجهّز لحصار حلب الجيوش مع منجوتكين، فنزل عليها وحاصرها وبها أبو الفضائل بن سعد الدولة ومولاه لؤلؤ الصغير. وأرسلا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه وهو في قتال بلغار، فبعث إلى عامل أنطاكية أن يمدّهما، فسار في خمسين ألفا حتى نزل حبس العاصي، وبلغ خبره إلى منجوتكين فارتحل عن حلب، ولقي الروم فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا. وسار إلى أنطاكية وعاث في نواحيها، وخرج أبو الفضائل في مغيب منجوتكين إلى ضواحي حلب، فنقل ما فيها من الغلال وأحرق بقيتها لتفقد عساكر منجوتكين الأقوات. فلما عاد منجوتكين إلى الحصار، جهّز عسكره وأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربيّ في الصلح، فعقد له ذلك، ورحل منجوتكين، إلى دمشق، وبلغ الخبر إلى العزيز فغضب، وكتب إلى منجوتكين بالعود إلى حصار حلب وإبعاد الوزير المغربيّ، وأنفذ الأقوات للعسكر في البحر الى طرابلس. وأقام منجوتكين في حصار حلب وأعادوا مراسلة ملك الروم فاستنجدوه وأغروه، وكان قد توسّط بلاد البلغار فعاد مجدّا في السير. وبعث لؤلؤ إلى منجوتكين بالخبر حذرا على المسلمين، وجاءته جواسيسه بذلك، فأجفل بعد أن خرّب ما كان اتخذه في الحصار من الأسواق والقصور والحمّامات. ووصل ملك الروم إلى حلب ولقي أبا الفضائل ولؤلؤا، ثم سار في الشام وافتتح حمص وشيزر ونهبهما، وحاصر طرابلس أربعين يوما فامتنعت عليه، وعاد إلى بلاده. وبلغ الخبر إلى العزيز فعظم عليه، واستنفر الناس للجهاد، وبرز من القاهرة ذلك سنة إحدى وثمانين، ثم انتقض منير في دمشق، فزحف إليه منجوتكين إلى دمشق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 (أخبار الوزراء) كان وزير المعز لدين الله يعقوب بن يوسف بن كلس أصله من اليهود وأسلم، وكان يدبّر الأحوال الإخشيدية بمصر، وعزله أبو الفضائل بن الفرات سنة سبع وخمسين، وصادره فاستتر بمصر، ثم فرّ إلى المغرب ولقي المعز لدين الله، وجاء في ركابه إلى مصر فاستوزره وعظم مقامه عنده، واستوزره بعده ابنه العزيز إلى أن توفي سنة ثمانين وصلى عليه العزيز وحضر دفنه، وقضى عنه دينه، وقسّم عمله فردّ النظر في الظلامات الى الحسن بن عمّار كبير كتامة، وردّ النظر في الأموال إلى عيسى بن نسطورس، ولم تزل الوزارة سائر دولتهم في أرباب الأقلام، وكانوا بمكان، وكان منهم البارزي. وكان مع الوزارة قاضي القضاة وداعي الدعاة، وسأل أن يرسم اسمه على السكّة فغرب ومنع، ومات قتيلا بتنيس. وأبو سعيد النسري، وكان يهوديا وأسلم قبل وزارته، والجرجاني وقطع الجرجاني في أمر منع من الكتب فيه فكتب وحلف الحاكم بيمين لا تكفّر ليقطعنّه. ثم ردّه بعد ثلاث وخلع عليه وابن أبي كدينة ثلاثة عشر شهرا. ثم صرف وقتل وأبو الطاهر بن ياشاد، وكان من أهل الدين واستعفى فأعفي، وأقام معتكفا في جامع مصر وسقط ليلة من السطح فمات. وكان آخرهم الوزير أبو القاسم بن المغربيّ وكان بعده بدر الجيالي أيام المستنصر وزير سيف الدولة، واستبدّ له على الدولة ومن بعده منهم كما يأتي في أخبارهم. (أخبار القضاة) كان النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيّون في خطة القضاء للمعزّ بالقيروان. ولما جاء إلى مصر أقام بها في خطة القضاء إلى أن توفي وولي ابنه عليّ، ثم توفي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، فولّى العزيز أخاه أبا عبد الله محمدا، خلع عليه وقلّده سيفا. وكان المعز قد وعد أباه بقضاء ابنه محمد هذا بمصر، وتمّ في سنة تسع وثمانين أيام الحاكم، وكان كبير الصيت، كثير الإحسان شديد الاحتياط في العدالة، فكانت أيامه شريفة. وولي بعده ابن عمه أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن النعمان أيام الحاكم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 ثم عزل سنة أربع وتسعين، وقتل وأحرق بالنار، وولي مكانه ملكة بن سعيد الفارقيّ إلى أن قتله الحاكم سنة خمس وأربعمائة بنواحي القصور، وكان عالي المنزلة عند الحاكم ومداخلا له في أمور الدولة، وخالصة له في خلواته. وولّى بعده أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوّام. واتصل في آخرين إلى آخر دولتهم، كان كثيرا ما يجمعون للقاضي المظالم والدعوة، فيكون داعي الدعاة، وربما يفردون كلّا منهما. وكان القاضي عندهم يصعد مع الخليفة المنبر مع من يصعده من أهل دولته عند ما يخطب الخلفاء في الجمع والأعياد. (وفاة المعز وولاية ابنه الحاكم) قد تقدّم لنا أنّ العزيز استنفر الناس للجهاد سنة إحدى وثمانين، وبرز في العساكر لغزو الروم، ونزل بلبيس فاعتورته الأمراض، واتصلت به إلى أن هلك آخر رمضان سنة ست وثمانين لإحدى عشرة سنة ونصف من خلافته، ولقّب الحاكم بأمر الله، واستولى برجوان الخادم على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولته، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار ويلقّب بأمين الدولة، وتغلّب على ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم، ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة، وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك فأظهر الانتقاض، وجهّز العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح فلقيهم بعسقلان، وانهزم منجوتكين وأصحابه، وقتل منهم ألفين وسيق أسيرا إلى مصر، فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة، وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، ويكنّى أبا تميم، فبعث من طبريّة أخاه عليا إلى دمشق، فامتنع أهلها، فكاتبهم أبو تميم وتهدّدهم وأذعنوا، ودخل على البلد ففتك فيهم. ثم قدّم أبو تميم فأمّن وأحسن وبعث أخاه عليا إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة فسار إلى مصر، وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة، وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة، ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده، فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة. وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة فانهزمت المغاربة، واختفى ابن عمّار وأظهر برجوان الحاكم وجدّد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح فنهب، ونهبت خزائنه، واستمرّ القتل في كتامة واضطربت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث. ثم أذن برجوان لابن عمّار في الخروج من أستاره وأجرى له أرزاقه على أن يقيم بداره. واضطرب الشام فانتقض أهل صور، وقام بها رجل ملّاح اسمه العلّاقة وانتقض مفرّج بن دغفل بن الجرّاح، ونزل على الرملة، وعاث في البلاد وزحف الدوقس ملك الروم إلى حصن أفامية محاصرا لها. وجهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة، فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدون، وأسطولا في البحر، واستنجد العلّاقة ملك الروم فأنجده بالمقاتلة في المراكب، فظفر بهم أسطول المسلمين. واضطرب أهل صور وملكها ابن حمدان، وأسر العلّاقة، وبعث به إلى مصر فسلخ وصلب وسار جيش بن الصمصامة إلى المفرج بن دغفل فهرب أمامه، ووصل إلى دمشق، وتلقّاه أهلها مذعنين، وأحسن إليهم وسكّنهم ورفع أيدي العدوان عنهم. ثم سار إلى أفامية وصافّ الروم عندها فانهزم أولا هو وأصحابه، وثبت بشارة إخشيدي بن قرارة في خمس عشرة [1] فارسا، ووقف الدوقس ملك الروم على رابية في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الإخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمنا، فلما دنا منه ضربه بالخشت فقتله، وانهزم الروم وأتبعهم جيش بن الصمصامة إلى أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق. ثم عاد مظفّرا إلى دمشق فنزل بظاهرها ولم يدخل. واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم وأقيم له الطعام في كل يوم، وأقام على ذلك برهة. ثم أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب الحجرة عليهم، ويوضع السيف في سائرهم، فقتل منهم ثلاثة آلاف، ودخل دمشق وطاف بها وأحضر الأشراف فقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وبعث بهم إلى مصر وأمّن الناس. ثم إنه توفي ووليّ محمود بن جيش وبعث برجوان إلى بسيل ملك الروم فصالحه لعشر سنين، وبعث جيشا إلى برقة وطرابلس المغرب ففتحها، وولّى عليها يانسا الصقليّ. ثم ثقل مكان برجوان على الحاكم فقتله سنة تسع وثمانين، وكان خصيّا أبيض، وكان له وزير نصراني استوزره الحاكم من بعده. ثم قتل الحسين بن عمّار، ثم الحسين بن جوهر القائد. ثم جهّز العساكر مع يارخنكين إلى حلب،   [1] وفي نسخة ثانية خمسمائة فارس وهو الأصح لأنه من غير المعقول ان يغيّر خمسة عشر فارسا سير المعركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وقصد حسّان بن فرج الطائي، لما بلغ من عيثه وفساده، فلما رحل من غزوة إلى عسقلان لقيه حسّان وأبوه مفرج فانهزم وقتل، ونهبت النواحي وكثرت جموع بني الجرّاح وملكوا الرملة، واستقدموا الشريف أبا الفتوح الحسن بن جعفر أمير مكة فبايعوه بالخلافة. ثم استمالهما الحاكم ورغّبهما فردّاه إلى مكة وراجعا طاعة الحاكم، وراجع هو كذلك، وخطب له بمكة. ثم جهّز الحاكم العساكر إلى الشام مع عليّ ابن جعفر بن فلاح، وقصد الرملة، فانهزم حسّان بن مفرج وقومه، وغلبهم على تلك البلاد واستولى على أموالهم وذخائرهم، وأخذ ما كان لهم من الحصون بجبل السراة، ووصل إلى دمشق في شوّال سنة تسعين، فملكها واستولى عليها، وأقام مفرج وابنه حسّان شريدين بالقفر نحوا من سنتين. ثم هلك مفرّج وبعث حسّان ابنه إلى الحاكم فأمّنه وأقطعه ثم وفد عليه بمصر فأكرمه ووصله. (خروج أبي ركوة ببرقة والظفر به) كان أبو ركوة هذا يزعم أنه الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الداخل، وأنه هرب من المنصور بن أبي عامر حين تتّبعهم بالقتل وهو ابن عشرين سنة، وقصد القيروان فأقام بها يعلّم الصبيان. ثم قصد مصر وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن والشام وكان يدعو للقائم من ولد أبيه هشام، واسمه الوليد وإنما لقبه أبا ركوة لأنه كان يحملها لوضوئه على عادة الصوفيّة. ثم عاد إلى نواحي مصر ونزل على بني قرّة من بادية هلال بن عامر، وأقام يعلّم الصبيان ويؤمهم في صلاتهم. ثم أظهر ما في نفسه ودعا للقائم. وكان الحاكم قد أسرف في القتل في أصناف الناس وطبقاتهم، والناس معه على خطر، وكان قتل جماعة من بني قرّة وأحرقهم بالنار لفسادهم، فبادر بنو قرّة وكانوا في أعمال برقة فأجابوه وانقادوا له وبايعوا. وكان بينهم وبين لواتة ومزاتة وزناتة جيرانهم في الأصل حروب ودماء فوضعوها. واتّفقوا على بيعته. وكتب عامل برقة أنيال الطويل بخبرهم إلى الحاكم فأمره بالكفّ عنهم. ثم اجتمعوا وساروا إلى برقة فهزموا العامل برمادة، وملكوا برقة وغنموا الأموال والسلاح وقتلوه. وأظهر أبو ركوة العدل، وبلغ الخبر إلى الحاكم فاطمأنت نفسه، وكفّ عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 الأذى والقتل، وجهّز خمسة آلاف فارس مع القائد أبي الفتوح الفضل بن صالح فبلغ ذات الحمّام، وبينها وبين برقة مفازة صعبة معطشة، وأمر أبو ركوة من غور المياه التي فيها على قلبها. ثم سار للقائهم بعد خروجهم من المفازة على جهد العطش فقاتلهم، ونال منهم وثبت أبو ركوة واستأمن إليه جماعة من كتامة لما نالهم من أذى الحاكم وقتله فأمّنهم، ولحقوا به، وانهزمت عساكر الحاكم وقتل خلق كثير منهم. ورجع أبو ركوة إلى برقة ظافرا وردّد البعوث والسرايا إلى الصعيد وأرض مصر. وأهمّ الحاكم أمره وندم على ما فرّط. وجهّز عليّ بن فلاح العساكر لحربهم، وكاتب الناس أبا ركوة يستدعونه، وممن كتب إليه الحسن بن جوهر قائد القوّاد، وبعثهم في ستة عشر ألف مقاتل سوى العرب، وبعث أخاه في سرية فواقع بني قرّة وهزمهم، وقتل من شيوخهم عبد العزيز بن مصعب ورافع بن طراد ومحمد بن أبي بكر، واستمال الفضل بني قرّة فأجابه ماضي بن مقرب من أمرائهم، وكان يطالعه بأخبارهم. وبعث عليّ بن فلاح عسكرا إلى الفيّوم فكبسه بنو قرّة وهزموه، ونزل أبو ركوة بالهرمين، ورجع من يومه ثم رحل الفضل إلى الفيّوم لقتالهم فواقعهم برأس البركة وهزمهم، واستأمن بنو كلاب وغيرهم، ورجع عليّ بن فلاح، وتقدّم الفضل لطلب أبي ركوة وخذل ماضي بن مقرب بني قرّة عن أبي ركوة فقالوا له أنج بنفسك إلى بلد النوبة، ووصل إلى تخومهم وقال: أنا رسول الحاكم فقالوا لا بدّ من استئذان الملك، فوكّلوا به وطالعوا الملك بحقيقة الحال. وكان صغيرا قد ولي بعد سرقة أبيه، وبعث إليه الفضل بشأنه وطلبه فكتب إلى شجرة بن منيا قائد الخيل بالثغر بأن يسلّمه إلى نائب الحاكم، فجاء به رسول الفضل وأنزله الفضل في خيمة وحمله إلى مصر فطيف به على جمل لابسا طرطورا [1] وخلفه قرد يصفعه. ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل، فمات قبل وصوله، وقطع رأسه وصلب. وبالغ الحاكم في إكرام الفضل ورفع مرتبته، ثم قتله بعد ذلك، وكان ظفر الحاكم بأبي ركوة سنة سبع وتسعين.   [1] قلنسوة طويلة يلبسها عادة المهرّجون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 (بقية أخبار الحاكم) كان الحسن بن عمّار زعيم كتامة مدبّر دولته كما ذكرناه، وكان برجوان خادمه وكافله، وكان بين الموالي والكتاميين في الدولة منافسة. وكان كثيرا ما يفضي إلى القتال، واقتتلوا سنة سبع وثمانين، وأركب المغاربة ابن عمّار والموالي برجوان، وكانت بينهم حروب شديدة. ثم تحاجزوا واعتزل ابن عمّار الأمور وتخلّى بداره عن رسومه وجراياته، وتقدّم برجوان بتدبير الدولة. وكان كاتب بن فهر بن إبراهيم يربع [1] وينظر في الظلامات ويطالعه. وولّى على برقة يأنس صاحب الشرطة مكان صندل. ثم قتل برجوان سنة تسع وثمانين ورجع التدبير إلى القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر، وبقي ابن فهر على حاله. وفي سنة تسعين انقطعت طرابلس عن منصور بن بلكين بن زيري صاحب إفريقية، وولّى عليها يأنس العزيزي من موالي العزيز، فوصل إليها وأمكنه عامل المنصور منها، وهو عصولة بن بكّار. وجاء إلى الحاكم بأهله وولده وماله وأطلق يد يأنس على مخلّفه بطرابلس، يقال كان له من الولد نيف وستون بين ذكر وأنثى، ومن السراري خمس وثلاثون فتلقّى بالمبرّة وهيّئ له القصور ورتّب له الجراية وقلّده دمشق وأعمالها، فهلك بها لسنة من ولايته. وفي سنة اثنتين وتسعين وصل الصريخ من جهة فلفول بن خزرون المغراوي في ارتجاع طرابلس إلى منصور بن بلكين، فجهّزت العساكر مع يحيى بن علي الأندلسي الّذي كان جعفر أخوه عامل الزاب للعبيديين، ونزع إلى بني أمية وراء البحر. ولم يزل هو وأخوه في تصريفهم إلى أن قتل المنصور بن أبي عامر جعفرا منهما، ونزع أخوه يحيى إلى العزيز بمصر فنزل عليه وتصرّف في خدمته وبعثه الآن الحاكم في العساكر لما قدّمناه، فاعترضه بنو قرّة ببرقة ففضّوا جموعه، ورجع إلى مصر وسار يأنس من برقة إلى طرابلس، فكان من شأنه مع عصولة ما ذكرناه. وبعد وفاة عصولة ولي على دمشق مفلح الخادم، وبعده عليّ بن فلاح سنة ثمان وتسعين. وبعد مسير يأنس ولي على برقة صندل الأسود. وفي سنة ثمان وتسعين عزل الحسين بن جوهر القائد وقام   [1] ربّع الحبل اي فتّله من اربع طاقات ولا معنى لها في سياق الجملة ولعلها تعني الجلوس على الركبتين وهي كلمة عامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 بتدبير الدولة صالح بن علي بن صالح الروباذيّ. ثم نكب حسين القائد بعد ذلك وقتل، ثم قتل صالح بعد ذلك وقام بتدبير الدولة الكافي بن نصر بن عبدون، وبعده زرعة بن عيسى بن نسطورس، ثم أبو عبد الله الحسن بن طاهر الوزّان. وكثر عيث الحاكم في أهل دولته وقتله إيّاهم مثل الجرجرائي [1] وقطعه أيديهم، حتى أنّ كثيرا منهم كانوا يهربون من سطوته، وآخرون يطلبون الأمان فيكتب لهم به السجلّات. وكان حاله مضطربا في الجور والعدل والإخافة والأمن والنسك والبدعة. وأمّا ما يرمي به من الكفر وصدور السجلات بإسقاط الصلوات فغير صحيح، ولا يقوله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم بعض ذلك لقتل لوقته. وأمّا مذهبه في الرافضة فمعروف. ولقد كان مضطربا فيه مع ذلك، فكان يأذّن في صلاة التراويح ثم ينهي عنها، وكان يرى بعلم النجوم ويؤثره، وينقل عنه أنه منع النساء من التصرّف في الأسواق، ومنع من أكل الملوخيّا. ورفع إليه أنّ جماعة من الروافض تعرّضوا لأهل السنّة في التراويح بالرجم، وفي الجنائز، فكتب في ذلك سجلا قرئ على المنبر بمصر كان فيه: أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين يتلوا عليكم آية من كتاب الله المبين، لا إِكْراهَ في الدِّينِ 2: 256 (الآية) . مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه. معاشر المسلمين نحن الأئمة، وأنتم الأمّة. لا يحلّ قتل من شهد الشهادتين [2] ولا يحلّ عروة بين اثنين تجمعها هذه الأخوّة، عصم الله بها من عصم، وحرّم لها ما حرّم، من كل محرّم من دم ومال ومنكح، الصلاح والأصلح بين الناس أصلح، والفساد والإفساد من العبّاد يستقبح. يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر، ويعرض عما انقضى فلا يذكر. ولا يقبل على ما مرّ وأدبر من إجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمة المهتدين سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم باللَّه وقائمهم بأمر الله، ومنصور هم باللَّه ومعزّهم لدين الله، وهو إذ ذاك بالمهديّة والمنصوريّة، وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرة غير خفيّة ليست بمستورة عنهم ولا مطويّة. يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس للدين بها جاءهم فيها يصلون وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون. يخمّس في التكبير على الجنائز   [1] وهو أحد وزراء الحاكم. [2] بياض بالأصل وبعد مراجعة النص تبين ان الكلام تام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 المخمّسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربّعون. يؤذّن بحيّ على خير العمل المؤذّنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذّنون. لا يسبّ أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف. لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده وإلى الله ربّه ميعاده، عنده كتابه وعليه حسابه. ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم، لا يستعلى مسلم على مسلم بما أعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما أعتمده من جميع ما نصّه أمير المؤمنين في سجلّه هذا، وبعده قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. (وفاة الحاكم وولاية الظاهر) ثم توفي الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار قتيلا ببركة الحبش بمصر، وكان يركب الحمار ويطوف بالليل ويخلو بدار في جبل المقطم للعبادة، ويقال لاستنزال روحانية الكواكب. فصعد ليلة من ليالي [1] لثلاث بقين من شوّال سنة إحدى عشرة ركب على عادته ومشى معه راكبان فردّهما واحدا بعد آخر في تصاريف أموره. ثم افتقد ولم يرجع، وأقاموا أياما في انتظاره. ثم خرج مظفّر الصقليّ [2] والقاضي وبعض الخواصّ إلى الجبل فوجدوا حماره مقطوع اليدين، واتبعوا أثره إلى بركة الحبش فوجدوا ثيابه مزرّرة وفيها عدّة ضربات بالسكاكين فأيقنوا بقتله. ويقال إنّ أخته بلغه أنّ الرجال يتناوبون بها فتوعّدها فأرسلت الى ابن دواس من قوّاد كتامة، وكان يخاف الحاكم فأغرته بقتله، وهوّنته عليه لما يرميه به الناس من سوء العقيدة، فقد يهلك الناس ونهلك معه. ووعدته بالمنزلة والاقطاع، فبعث إليه   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لا بن الأثير ج 9 ص 314: «وكان سبب فقده انه خرج يطوف ليلة على رسمه، وأصح عند قبر الفقّاعيّ، وتوجّه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب الى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابيّ الآخر، وذكر انه خلّفه عند العين والمقصبة. [2] مظفر الصقلبيّ: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 رجلين فقتلاه في خلوته. ولما أيقنوا بقتله اجتمعوا إلى أخته ست الملك فأحضرت عليّ بن دواس، وأجلس عليّ بن الحاكم صبيا لم يناهز الحلم وبايع له الناس، ولقّب الظاهر لإعزاز دين الله، ونفذت الكتب إلى البلاد بأخذ البيعة له. ثم حضر ابن دواس من الغد وحضر معه القوّاد فأمرت ست الملك خادمها فعلاه بالسيف أمامهم حتى قتله وهو ينادي بثأر الحاكم فلم يختلف فيه اثنان، وقامت بتدبير الدولة أربع سنين ثم ماتت. وقام بتدبير الدولة الخادم معضاد وتافر بن الوزّان، وولي وزارته أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي [1] وكان متغلبا على دولته، وانتقض الشام خلال ذلك، وتغلّب صالح بن مرداس من بني كلاب على حلب، وعاث بنو الجرّاح في نواحيه، فبعث الظاهر سنة عشرين قائده الزريري [2] والي فلسطين في العساكر، وأوقع بصالح بن الجرّاح، وقتل صالح وابنه وملك دمشق. وملك حلب من يد شبل الدولة نصر بن صالح وقتله، وكان بينه وبين بني الجرّاح قبل ذلك وهو بفلسطين حروب، حتى هرب من الرملة إلى قيسارية فاعتصم بها وأخرب ابن الجرّاح الرملة وأحرقها. وبعث السرايا فانتهت إلى العريش وخشي أهل بلبيس وأهل القرافة على أنفسهم، فانتقلوا إلى مصر، وزحف صالح بن مرداس في جموع العرب لحصار دمشق وعليها يومئذ ذو القرنين ناصر الدولة بن الحسين. وبعث حسّان بن الجرّاح إليهم بالمدد، ثم صالحوا صالح بن مرداس وانتقل إلى حصار حلب وملكها من يد شعبان الكتامي، وجرّدت العساكر من الشام مع الوزيري [2] وكان ما تقدّم وملك دمشق وأقام بها. (وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر) ثم توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن عليّ بن الحاكم منتصف شعبان سنة سبع وعشرين لست عشرة سنة من خلافته، فولي ابنه أبو تميم معدّ ولقّب المستنصر بأمر الله، وقام بأمره وزير أبيه أبو القاسم عليّ بن أحمد الجرجرائي، وكان بدمشق   [1] الجرجرائي: ابن الأثير ج 9 ص 447. [2] اسمه انوشتكين الوزيري وهو نائب المستنصر باللَّه صاحب مصر بالشام المرجع السابق. ص 500. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 الوزيري واسمه أقوش تكين [1] وكانت البلاد صلحت على يديه لعدله ورفقه وضبطه، وكان الوزير الجرجرائي يحسده ويبغضه، وكتب إليه بإبعاد كاتبه أبي سعيد، فأنفذ إليه أنه يحمل الوزيري على الانتقاض، فلم يجب الوزيري إلى ذلك واستوحش، وجاء جماعة من الجند إلى مصر في بعض حاجاتهم فداخلهم الجرجرائي في التوثّب به، ودسّ معهم بذلك إلى بقية الجند بدمشق فتعلّلوا عليه [2] فخرج إلى بعلبكّ سنة ثلاث وثلاثين فمنعه عاملها من الدخول، فسار إلى حماة فمنع أيضا فقوتل، وهو خلال ذلك ينهب فاستدعى بعض أوليائه من كفرطاب فوصل إليه في ألفي رجل، وسار إلى حلب فدخلها وتوفي بها في جمادى الآخرة من السنة، وفسد بعده أمر الشام وطمع العرب في نواحيه، وولّى الجرجرائي على دمشق الحسين بن حمدان فكان قصارى أمره منع الشام، وملك حسّان بن مفرّج فلسطين وزحف معزّ الدولة بن صالح الكلابي إلى حلب فملك المدينة، وامتنع عليه أصحاب القلعة وبعثوا إلى مصر للنجدة فلم ينجدهم، فسلّموا القلعة لمعزّ الدولة بن صالح فملكها. (مسير العرب إلى إفريقية) كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بإفريقية وخطب للقائم العباسيّ، وقطع الخطبة للمستنصر العلويّ سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدّده. ثم إنه استوزر الحسين بن عليّ التازوري [3] بعد الجرجرائي ولم يكن في رتبته فخاطبه المعز دون ما كان يخاطب من قبله، كان يقول في كتابه إليهم عبده، ويقول في كتاب التازوري صنيعته فحقد ذلك، وأغرى به المستنصر، وأصلح بين زغبة ورياح من بطون هلال وبعثهم إلى إفريقية وملّكهم كل ما يفتحونه، وبعث إلى المعز: أما بعد فقد أرسلنا إليك خيولا وحملنا عليها رجالا فحولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا.   [1] ورد اسمه انوشتكين الوزيري وقد مر معنا سابقا. ج 9 ص 500. [2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 501: فأظهروا الشغب عليه وقصدوا قصره وهو بظاهر البلد وتبعهم من العامة من يريد النهب، فاقتتلوا فعلم الوزيري ضعفه وعجزه عنهم، ففارق مكانه، واستصحب أربعين غلاما له وما امكنه من الدواب والأثاث والأموال، ونهب الباقي وسار الى دمشق. [3] البازوري: ابن الأثير ج 9 ص 566. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 فساروا إلى برقة فوجدوها خالية لأنّ المعز كان أباد أهلها من زناتة، فاستوطن العرب برقة، واحتقر المعزّ شأنهم واشترى العبيد واستكثر منهم حتى اجتمع له منهم ثلاثون ألفا. وزحف بنو زغبة إلى طرابلس فملكوها سنة ست وأربعين، وجازت رياح الأثبج وبنو عدي إلى إفريقية، فاضرموها نارا. ثم سار أمراؤهم إلى المعزّ وكبيرهم مؤنس بن يحيى من بني مرداس من زياد فأكرمهم المعزّ وأجزل لهم عطاياه فلم يغن شيئا، وخرجوا إلى ما كانوا عليه من الفساد، ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله، فخرج إليهم المعزّ في جموعه من صنهاجة والسودان نحوا من ثلاثين ألفا، والعرب في ثلاثة آلاف فهزموه وأثخنوا في صنهاجة بالقتل واستباحوهم، ودخل المعزّ القيروان مهزوما. ثم بيتهم يوم النحر وهم في الصلاة فهزموه أعظم من الأولى. ثم سار إليهم بعد أن احتشد زناتة معه فانهزم ثالثة وقتل من عسكره نحو من ثلاثة آلاف، ونزل العرب بمصلّى القيروان ووالوا عليهم الهزائم، وقتلت منهم أمم. ثم أباح لهم المعزّ دخول القيروان للميرة فاستطالت عليهم العامّة فقتلوا منهم خلقا وأدار المعزّ السور على القيروان سنة ست وأربعين. ثم ملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة سنة ست وأربعين وأمر المعز أهل القيروان بالانتقال إلى المهديّة للتحصّن بها، وولّى عليها ابنه تيما [1] سنة خمس وأربعين. ثم انتقل إليها سنة تسع وأربعين، وانطلقت أيدي العرب على القيروان بالنهب والتخريب، وعلى سائر الحصون والقرى كما يذكر في أخبارهم. ثم كانت الخطبة للمستنصر ببغداد على يد البساسيري من مماليك بني بويه عند انقراض دولتهم واستيلاء السلجوقيّة كما نذكره في أخبارهم. (مقتل ناصر الدولة بن حمدان بمصر) كانت أمّ المستنصر متغلّبة على دولته وكانت تصطنع الوزراء وتولّيهم، وكانوا يتخذون الموالي من الأتراك للتغلّب على الدولة. فمن استوحشت منه أغرت به المستنصر فقتله. فاستوزرت أولا أبا الفتح الفلاحي، ثم استوحشت منه فقبض عليه المستنصر وقتله، ووزر بعده أبا البركات حسن بن محمد وعزله. ثم ولّى الوزارة أبا محمد التازوري من   [1] ابنه يدعى تميم كما في الكامل ج 9 ص 569 ولعل الناسخ حذف الميم الثانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 قرية بالرملة تسمى تازور، فقام بالدولة إلى أن قتل، ووزر بعده أبو عبد الله الحسين ابن البابلي، وكان في الدولة من موالي السودان ناصر الدولة بن حمدان، واستمالوا معهم كتامة والمصامدة، وخرج العبيد إلى الضياع واجتمعوا في خمسين ألف مقاتل، وكان الأتراك ستة آلاف، وشكوا إلى المستنصر فلم يشكهم، فخرجوا إلى غرمائهم والتقوا بكوم الريش، وأكمن الأتراك للعبيد ولقوهم فانهزموا، وخرج كمينهم على العبيد وضربوا البوقات والكاسات فارتاب العبيد وظنّوه المستنصر فانهزموا، وقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفا. وفدى الأتراك وتغلّبوا، وعظم الافتراء فيهم فخلت الخزائن، واضطربت الأمور وتجمّع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، واجتمعوا مع العبيد وكانوا خمسة عشر ألفا وساروا إلى الجيزة فلقيهم الأتراك وعليهم ناصر الدولة بن حمدان فهزموهم إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك ظافرين. واجتمع العبيد في الصعيد وحضر الأتراك بدار المستنصر فأمرت أمه العبيد بالدار أن يفتكوا بمقدّمي الأتراك ففعلوا وهربوا إلى ظاهر البلد ومعهم ناصر الدولة، وقاتل أولياء المستنصر فهزمهم، وملك الاسكندرية ودمياط وقطع الخطبة منهما ومن سائر الريف للمستنصر. وراسل الخليفة العبّاسيّ ببغداد وافترق الناس من القاهرة. ثم صالح المستنصر ودخل القاهرة واستبدّ عليه وصادر أمه على خمسين ألف دينار، وافترق عنه أولاده وكثير من أهله في البلاد. ودسّ المستنصر لقوّاد الأتراك بأنه يحوّل الدعوة فامتعضوا لذلك وقصدوه في بيته، وهو آمن منهم، فلما خرج إليهم تناولوه بسيوفهم حتى قتلوه وجاءوا برأسه، ومرّوا على أخيه في بيته فقطعوا رأسه، وأتوا بهما جميعا إلى المستنصر وذلك سنة خمس وستين، وولّى عليهم الذكر منهم وقام بأمر الدولة. (استيلاء بدر الجمالي على الدولة) أصل بدر هذا من الأرمن من صنائع الدولة بمصر ومواليها، وكان حاجبا لصاحب دمشق، واستكفاه فيما وراء بابه. ثم مات صاحب دمشق فقام بالأمور إلى أن وصل الأمير على دمشق، وهو ابن منير فسار هو إلى مصر وترقّى في الولايات إلى أن ولي عكّا وظهر منه كفاية واضطلاع. ولما وقع بالمستنصر ما وقع من استيلاء الترك عليه ابن خلدون م 6 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 والفساد والتضييق، استقدم بدر الجمالي لولاية الأمور بالحضرة، فاستأذن في الاستكثار من الجند لقهر من تغلّب من جند مصر فأذن له في ذلك، وركب البحر من عكا في عشرة مراكب، ومعه جند كثيف من الأرمن وغيرهم، فوصل الى مصر، وحضر عند الخليفة فولّاه ما وراء بابه، وخلع عليه بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، ولقّبه بالسيد الأجلّ أمير الجيوش، مثل والي دمشق. وأضيف إلى ذلك كافل قضاة المسلمين، وداعي دعاة المؤمنين، ورتّب الوزارة وزاده سيفه [1] وردّ الأمور كلّها إليه، ومنه إلى الخليفة. وعاهده الخليفة على ذلك، وجعل إليه ولاية الدعاة والقضاء، وكان مبالغا في مذهب الإمامية، فقام بالأمور واستردّ ما كان تغلّب عليه أهل النواحي مثل ابن عمّار بطرابلس وابن معرف بعسقلان وبني عقيل بصور. ثم استرد من القوّاد والأمراء بمصر جميع ما أخذوه أيام الفتنة من المستنصر من الأموال والأمتعة. وسار إلى دمياط وقد تغلّب عليها جماعة من المفسدين من العرب وغيرهم، فأثخن في لواتة بالقتل والنهب في الرجال والنساء وسبى نساءهم وغنم خيولهم. ثم سار إلى جهينة وقد ثاروا ومعهم قوم من بني جعفر فلقيهم على طرخ العليا سنة تسع وستين فهزمهم وأثخن فيهم وغنم أموالهم. ثم سار إلى أسوان وقد تغلّب عليها كنز الدولة محمد فقتله وملكها، وأحسن إلى الرعايا ونظّم حالهم وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، وعادت الدولة إلى أحسن ما كانت عليه. (وصول الغز الى الشام واستيلاؤهم عليه وحصارهم مصر) كان السلجوقية وعساكرهم من الغزّ قد استولوا في هذا العصر على خراسان والعراقين وبغداد، وملكهم طغرلبك، وانتشرت عساكرهم في سائر الأقطار، وزحف اتسز   [1] اي زاده على الوزارة حمل السيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 بن أفق [1] من أمراء السلطان ملك شاه وسموه [2] الشاميون أفسفس والصحيح هذا، وهو اسم تركي هكذا قال ابن الأثير، فزحف سنة ثلاث وثلاثين بل وستين ففتح الرملة، ثم بيت المقدس وحصر دمشق وعاث في نواحيها وبها المعلّى بن حيدرة، ولم يزل يوالي عليها البعوث إلى سنة ثمان وستين، وكثر عسف المعلّى بأهلها مع ما هم فيه من شدّة الحصار فثاروا به، وهرب إلى بلسيس، ثم لحق بمصر فحبس إلى أن مات. ولما هرب من دمشق اجتمعت المصامدة وولوا عليهم انتصار بن يحيى منهم ولقّبوه وزير الدولة، ثم اضطربوا مما هم فيه من الغلاء، وجاء أمير من القدس فحاصرهم حتى نزلوا على أمانه. وأنزل وزير الدولة بقلعة بانياس ودخل دمشق في ذي القعدة، وخطب فيها للمقتدي العبّاسيّ. ثم سار إلى مصر سنة تسع وستين فحاصرها، وجمع بدر الجمالي العساكر من العرب وغيرهم، وقاتله فهزمه وقتل أكثر أصحابه، ورجع أتسز منهزما إلى الشام فأتى دمشق، وقد صانوا مخلّفه فشكرهم ورفع عنهم خراج سنة تسع وستين، وجاء إلى بيت المقدس فوجدهم قد عاثوا في مخلّفه وحصروا أهله وأصحابه في مسجد داود عليه السلام، فحاصرهم ودخل البلد عنوة، وقتل أكثر أهله حتى قتل كثيرا في المسجد الأقصى. ثم جهّز أمير الجيوش بدر الجمالي العساكر من مصر مع قائده نصير الدولة، فحاصر دمشق وضيّق عليها، وكان ملك السلجوقيّة السلطان ملك شاه قد أقطع أخاه تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام، وما يفتحه منها فزحف إلى حلب وحاصرها وضيّق عليها، ومعه جموع كثيرة من التركمان فبعث إليه أتسز من دمشق يستصرخه، فسار إليه، وأجفلت عساكر مصر عن دمشق، وخرج أتسز من دمشق للقائه فقتله وملك البلد، وذلك سنة إحدى وسبعين. وملك ملك شاه بعد ذلك حلب واستولى السلجوقية على الشام أجمع، وزحف أمير الجيوش بدر الجمالي من مصر في العساكر، إلى دمشق وبها تاج الدولة تتش فحاصره وضيّق عليه، وامتنع عليه ورجع، وزحفت عساكر مصر سنة اثنتين وثمانين إلى الشام فاسترجعوا مدينة صور من يد أولاد القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، كان أبوهم قد انتزى عليها، ثم فتحوا مدينة صيدا ثم مدينة جميل [3]   [1] وفي نسخة اخرى: اتسز بن أنسز. [2] الأصح سمّاه الشاميون. [3] هي مدينة جبيل على الساحل اللبناني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وضبط أمير الجيوش البلاد وولّى عليها العمّال. وفي سنة أربع وثمانين استولى الفرنج على جزيرة صقلّيّة، وكان أمير الجيوش قد ولّى على مدينة صور منير الدولة الجيوشي من طائفته، فانتقض سنة ست وثمانين، وبعث إليه أمير الجيوش العساكر فثار به أهل المدينة، واقتحمت عليهم العساكر وبعث منير الدولة إلى مصر في جماعة من أصحابه فقتلوا كلهم. ثم توفي أمير الجيوش بدر الجمالي سنة سبع وثمانين في ربيع الأوّل لثمانين سنة من عمره. وكان له موليان أمين الدولة لاويز ونصير الدولة أفتكين فحذّرهم [1] بأنه يروم الاستبداد ورغّبه في ولد مولاه بدر، فلما قضى بدر نحبه استدعى المستنصر لاويز ليقلّده فأنكر ذلك أفتكين وركب في الجند وشغبوا على المستنصر، واقتحموا القصر وأسمعوه خشن الكلام فرجع إلى ولاية ولد بدر، وقدّم للوزارة ابنه محمد الملك أبا القاسم شاه، ولقّبه بالأفضل مثل لقب أبيه. وكان أبو القاسم بن المقري رديفا لبدر في وزارته بما كان اختصّه لذلك، فولّى بعد موته الوزارة المقري وكانت عندهم عبارة عن التوقيع بالقلم الغليظ. وقام الأفضل أبو القاسم بالدولة وجرى على سنن أبيه في الاستبداد، وكانت وفاة المستنصر قريبا من ولايته. (وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعلي) ثم توفي المستنصر معدّ بن الظاهر [2] يوم التروية سنة سبع وثمانين لستين سنة من خلافته ويقال لخمس وستين بعد أن لقي أهوالا وشدائد، وانفتقت عليه فتوق استهلك فيها أمواله وذخائره حتى لم يكن له إلّا بساطه الّذي يجلس عليه، وصار إلى حد العزل والخلع، حتى تدارك أمره باستقدام بدر الجمالي من عكا فتقوّم أمره، ومكّنه في خلافته. ولمّا مات خلف من الولد أحمد ونزارا وأبا القاسم، وكان المستنصر فيما يقال قد عهد لنزار، وكانت بينه وبين أبي القاسم الأفضل عداوة، فخشي بادرته وداخل عمّته في ولاية أبي القاسم، على أن تكون لها كفالة الدولة، فشهدت بأنّ المستنصر عهد له بمحضر القاضي والداعي فبويع ابن ست، ولقّب المستعلي باللَّه،   [1] هكذا بياض بالأصل ومقتضى السياق ان المستنصر حذّر أمين الدولة لاويز ونصير الدولة (ناصر الدولة: أفتكين بان بدر الجمالي يروم الاستبداد.. ابن الأثير ج 10 ص 238) [2] هو المستنصر باللَّه ابو تميم معدّ بن أبي الحسن عليّ الظاهر لإعزاز دين الله العلويّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وأكره أخوه الأكبر على بيعته، ففرّ إلى الإسكندريّة بعد ثلاث، وبها نصير الدولة أفتكين مولى بدر الجمالي الّذي سعى للأفضل، فانتقض وبايع لنزار بعهده ولقّب المصطفى لدين الله. وسار الأفضل بالعساكر وحاصرهم بالإسكندرية واستنزلهم على الأمان، وأعطاهم اليمين على ذلك، وأركب نزارا السفن إلى القاهرة وقتل بالقصر. وجاء الأفضل ومعه أفتكين أسيرا فأحضره يوما ووبّخه، فهمّ بالردّ عليه فقتل بالضرب بالعصي، وقال: لا يتناول اليمين هذه للقتلة، ويقال إنّ الحسين بن الصبّاح رئيس الإسماعيلية بالعراق قصد المستنصر في زيّ تاجر، وسأله إقامة الدعوة له ببلاد العجم فأذن له في ذلك، وقال له الحسين من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار! فسار ابن الصبّاح ودعا الناس ببلاد العجم إليه سرّا. ثم أظهر أمره وملك القلاع لك مثل قلعة الموت وغيرها كما نذكره في أخبار الإسماعيلية، وهم من أجل هذا الخبر يقولون بإمامة نزار. ولما ولي المستعلي خرج ثغر عن طاعته وولي عليه واليه كشيلة وبعث المستعلي العساكر فحاصره، ثم اقتحموا عليه وحملوه إلى مصر فقتل بها سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وكان تتش صاحب الشام قد مات واختلف بعده ابناه رضوان ودقاق، وكان دقاق بدمشق ورضوان بحلب فخطب رضوان في أعماله للمستعلي باللَّه أياما قلائل ثم عاود الخطبة للعباسيين. (استيلاء الفرنج على بيت المقدس) كان بيت المقدس قد أقطعه تاج الدولة تتش للأمير سليمان بن أرتق التركمانيّ، وقارن ذلك استفحال الفرنج واستطالتهم على الشام، وخروجهم سنة تسعين وأربعمائة، ومرّوا بالقسطنطينية وعبروا خليجها، وخلّى صاحب القسطنطينية سبيلهم ليحولوا بينه وبين صاحب الشام من السلجوقيّة والغزّ فنازلوا أوّلا أنطاكية فأخذوها من يد باغيسيان، من قوّاد السلجوقيّة، وخرج منها هاربا فقتله بعض الأرمن في طريقه، وجاء برأسه إلى الفرنج بأنطاكيّة. وعظم الخطب على عساكر الشام وسار كربوقا صاحب الموصل فنزل مرج دابق واجتمع إليه دقاق بن تتش، وسليمان بن أرتق، وطفتكين أتابك صاحب حمص وصاحب سنجار، وجمعوا من كان لك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 من الترك والعرب، وبادروا إلى أنطاكية لثلاثة عشر يوما من حلول الفرنج بها. وقد اجتمع ملوك الفرنج ومقدمهم بنميد، وخرج الفرنج وتصادموا مع المسلمين فانهزم المسلمون، وقتل الفرنج منهم ألوفا، واستولوا على معسكرهم، وساروا إلى معرّة النعمان وحاصروها أياما، وهربت حاميتها، وقتلوا منها نحوا من مائة ألف، وصالحهم ابن منقذ على بلده شيزر، وحاصروا حمص فصالحهم عليها جناح الدولة، ثم حاصروا عكّة فامتنعت عليهم، وأدرك عساكر الغزّ من الوهن ما لا يعبّر عنه فطمع أهل مصر فيهم، وسار الأفضل بن بدر بالعساكر لاسترجاع بيت المقدس فحاصرها، وبها سقمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمّهما سونج، ونصبوا عليها نيّفا وأربعين منجنيقا، وأقاموا عليها نيّفا وأربعين يوما، ثم ملكوها بالأمان في سنة تسعين. وأحسن الأفضل إلى سقمان وأبي الغازي ومن معهما، وخلّى سبيلهم، فسار سقمان إلى بلد الرّها وأبو الغازي إلى بلد العراق، وولّى الأفضل على بيت المقدس ورجع إلى مصر. ثم سارت الفرنج إلى بيت المقدس وحاصروه نيّفا وأربعين يوما، ونصبوا عليه برجين ثم اقتحموها من الجانب الشماليّ لسبع بقين من شعبان، واستباحوها أسبوعا، ولجأ المسلمون إلى محراب داود عليه السلام واعتصموا به إلى أن استنزلهم الفرنج بالأمان، وخرجوا إلى عسقلان وقتل بالمسجد عند الشجرة سبعون ألفا، وأخذوا من المسجد نيّفا وأربعين قنديلا من الفضّة يزن كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة، وتنّورا من الفضّة يزن أربعين رطلا بالشامي، ومائة وخمسين قنديلا من الصفر وغير ذلك مما لا يحصى. وأجفل أهل بيت المقدس وغيرهم من أهل الشام إلى بغداد باكين على ما أصاب الإسلام ببيت المقدس من القتل والسبي والنهب. وبعث الخليفة أعيان العلماء إلى السلطان بركيارق وإخوته محمد وسنجر بالمسير إلى الجهاد فلم يتمكنوا من ذلك، للخلاف الّذي كان بينهم. ورجع الوفد مؤيسين [1] من نصرهم. وجمع الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر وسار إلى الفرنج، فساروا إليهم وكبسوهم على غير أهبة فهزموهم، وافترق عسكر مصر وقد لاذوا بخمّ الشعراء هناك فاضرموها عليهم نارا فاحترقوا وقتل من ظهر، ورجع الفرنج إلى عسقلان فحاصروها حتى أنزلوا لهم عشرين ألف دينار فارتحلوا.   [1] الأصح ان يقول آيسين من نصرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 (وفاة المستعلي وولاية ابنه الآمر) ثم توفي المستعلي أبو القاسم أحمد بن المستنصر منتصف صفر سنة خمس وتسعين لسبع سنين من خلافته، فبويع ابنه أبو عليّ ابن خمس سنين ولقّب الآمر بأحكام الله، ولم يل الخلافة فيهم أصغر منه ومن المستنصر، فكان هذا لا يقدر على ركوب الفرس وحده. (هزيمة الفرنج لعساكر مصر) ثم بعث الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر لقتال الفرنج مع سعد الدولة الفراسي أميرا مملوك أبيه، فلقي الفرنج بين الرملة ويافا ومقدمهم بغدوين [1] فقاتلهم، وانهزم وقتل واستولى الفرنج على معسكره فبعث الأفضل ابنه شرف المعالي في العساكر فبارزوهم قرب الرملة وهزمهم، واختفى بغدوين في الشجر ونجا إلى الرملة مع جماعة من زعماء الفرنج، فحاصرهم شرف المعالي خمسة عشر يوما حتى أخذهم فقتل منهم أربعمائة صبرا، وبعث ثلاثمائة إلى مصر ونجى بغدوين إلى يافا ووصل في البحر جموع من الفرنج للزيارة فندبهم بغدوين للغزو، وساربهم إلى عسقلان فهرب شرف المعالي وعاد إلى أبيه. وملك الفرنج عسقلان وبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه إلى عسقلان، وبعث الأسطول في البحر إلى يافا مع القاضي ابن قادوس فبلغ إلى يافا واستدعى تاج العجم وحبسه. وبعث جمال الملك من مواليه إلى عسقلان مقدّم العساكر الشاميّة. ثم بعث الأفضل سنة ثمان وتسعين ابنه سنا الملك حسين وأمر جمال الملك بالسير معه لقتال الفرنج، فساروا في خمسة آلاف واستمدّوا طفتكين أتابك دمشق، فأمدّهم بألف وثلاثمائة، ولقوا الفرنج بين عسقلان ويافا فتفانوا بالقتل وتحاجزوا، وافترق المسلمون إلى عسقلان ودمشق، وكان مع الفرنج بكتاش بن   [1] هو بدوان الأول وهو قائد الحملة الصليبية الرابعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 تتش عدل عنه طفتكين بالملك إلى ابن أخيه دقاق بن تتش، فلحق بالإفرنج مغاضبا. (استيلاء الفرنج على طرابلس وبيروت) كانت طرابلس رجعت إلى صاحب مصر وكان يحاصرها من الفرنج ابن المرداني صاحب صيحيل، والمدد يأتيهم من مصر. فلما كانت سنة ثلاث وخمسين وصل أسطول من الفرنج مع ويمتدين إلى صيحيل من قمامصتهم فنزل على طرابلس، وتشاجر مع المرداني فبادر بغذوين صاحب القدس وأصلح بينهم، ونزلوا جميعا على طرابلس وألصقوا أبراجهم بسورها، وتأخّرت الميرة عنهم من مصر في البحر لركود البحر فاقتحمها الفرنج عنوة ثاني الأضحى من سنة ثلاث وخمسين، وقتلوا ونهبوا وأسروا وغنموا. وكان واليها قد استأمن قبل فتحها في جماعة من الجند فلحقوا بدمشق، ووصل الأسطول بالمدد وكفاية سنة من الأقوات بعد فتحها ففرقوه في صور وصيدا وبيروت، واستولى الفرنج على معظم سواحل الشام. وإنما خصّصنا هذه بالذكر في الدولة العلويّة لأنها كانت من أعمالهم. وسنذكر البقية في أخبار الفرنج إن شاء الله تعالى. (استرجاع أهل مصر بعسقلان) كان الآمر قد استولى على عسقلان من قوّاد شمس الخلافة، فداخل بغدوين صاحب بيت المقدس من الفرنج وهاداه ليمتنع به على أهل مصر، وجهّز أمير الجيوش عسكرا من مصر للقبض عليه إذا حضر وشعر بذلك، وانتقض وأخرج من عنده من أهل مصر، وخاف الأفضل أن يسلّم عسقلان إلى الفرنج فأقرّه على عمله، وارتاب شمس الخلافة بأهل عسقلان واتخذ بطانة من الأرمن فاستوحش أهل البلد فثاروا به وقتلوه، وبعثوا إلى الآمر والأفضل بذلك، فأرسل إليهم الوالي من مصر وأحسن إليهم واستقامت أحوالهم. وحاصر بغدوين بعد ذلك مدينة صور وفيها عساكر الأرمن واشتدّ في حصارها بكل نوع، وكان بها عزّ الملك الأعز من أولياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 الأمر فاستمد طفتكين أتابك دمشق فأمدّه بنفسه وطال الحصار، وحضر أوان الغلال فخشي الفرنج أن يفسد طفتكين غلال بلدهم فأفرجوا عنها إلى عكا وكفى الله شرّهم. ثم زحف بغدوين ملك الفرنج من القدس إلى مصر وبلغ سنتين وسبح في النيل فانتقض عليه جرح كان به، وعاد إلى القدس ومات، وعهد بملك القدس للقمص صاحب الرّها، ولولا ما نزل بملوك السلجوقيّة من الفتنة لكانوا قد استرجعوا من الفرنج جميع ما ملكوه من الشام، ولكنّ الله خبّأ ذلك لصلاح الدين بن أيوب حتى فاز بذكره. (مقتل الأفضل) قد قدّمنا أنّ الآمر ولّاه الأفضل صغيرا ابن خمس، فلما استجمع واشتدّ تنكّر للأفضل وثقلت وطأته عليه فانتقل الأفضل إلى مصر وبنى بها دارا ونزلها، وخطب منه الأفضل ابنته فزوّجها على كره منه وشاور الآمر أصحابه في قتله، فقال له ابن عمه عبد المجيد وكان وليّ عهده: لا تفعل وحذّره سوء الأحدوثة لما اشتهر بين الناس من نصحه ونصح أبيه وحسن ولايتهما للدولة، ولا بدّ من إقامة غيره والاعتماد عليه فيتعرّض للحذر من مثلها إلى الامتناع منه. ثم أشار عليه من مداخلة ثقته أبي عبد الله ابن البطائحي في مثل ذلك فإنه يحسن تدبيره ويضع عليه من يغتاله، ويقتل به فيسلم عرضك. وكان ابن البطائحي فرّاشا بالقصر، واستخلصه الأفضل ورقّاه واستحجبه، فاستدعاه الآمر وداخله في ذلك، ووعده بمكانه فوضع عليه رجلان فقتلاه بمصر وهو سائر في موكبه من القاهرة منقلبا من خزانة السلاح في سنة خمس عشرة وخمسمائة، كان يفرّق السلاح على العادة في الأعياد وثار الغبار في طريقه فانفرد عن الموكب فبدره الرجلان وطعناه فسقط، وقتلا، وحمل إلى داره وبه رمق فجاءه الآمر متوجّعا وسأله عن ماله فقال أمّا الظاهر فأبو الحسن بن أبي أسامة يعرفه، وكان أبوه قاضيا بالقاهرة وأصله من حلب. وأمّا الباطن فإنّ البطائحي يعرفه. ثم قضى الأفضل نحبه لثمان وعشرين سنة من وزارته، واحتاط الآمر على داره فوجد له ستة آلاف كيس من الذهب العين، وخمسين أردبا من الورق، ومن الديباج الملوّن والمتاع البغدادي والإسكندريّ وظرف الهند وأنواع الطيوب والعنبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 والمسك ما لا يحصى. حتى لقد كان من ذخائره دكة عاج وأبنوس محلّاة بالفضة عليها عرم [1] مثمن من العنبر زنته ألف رطل، وعلى العرم مثل طائر من الذهب برجلين مرجانا ومنقار زمرذا [2] وعينان ياقوتتان كان ينصبها في بيته ويضوع عرفها فيعم القصر وصارت إلى صلاح الدين. (ولاية ابن البطائحي) قال ابن الأثير كان أبوه من جواسيس الأفضل بالعراق، ومات لم يخلّف شيئا. ثم ماتت أمه وتركته معلّقا، فتعلّم البناء أوّلا ثم صار يحمل الأمتعة بالأسواق، ويدخل بها على الأفضل فخفّ عليه واستخدمه مع الفرّاشين، وتقدّم عنده واستحجبه، ولما قتل الأفضل ولّاه الآمر مكانه وكان يعرف بابن فاتت وابن القائد فدعاه الآمر جلال الإسلام، ثم خلع عليه بعد سنتين من ولايته للوزارة ولقّبه المأمون، فجرى على سنن الأفضل في الاستبداد ونكر ذلك الآمر وتنكّر له، واستوحش المأمون وكان له أخ يلقّب المؤتمن فاستأذن الآمر في بعثه إلى الإسكندريّة لحمايتها ليكون له ردءا لك فأذن له، وسار معه القوّاد وفيهم عليّ بن السلار وتاج الملوك قائمين، وسنا الملك الجمل ودريّ الحروب وأمثالهم، وأقام المأمون على استيحاش من الآمر وكثرت السعاية فيه وأنه يدّعي أنه ولد نزار من جارية خرجت من القصر حاملا به، وأنه بعث ابن نجيب الدولة إلى اليمن يدعو له، فبعث الآمر إلى اليمن في استكشاف ذلك. (مقتل البطائحي) ولما كثرت السعاية فيه عند الآمر وتوغّر صدره عليه، كتب إلى القوّاد الذين كانوا مع أخيه بثغر الإسكندرية بالوصول إلى دار الخلافة [3] فهمّ لذلك علي بن   [1] مكان عرم: مكان مرتفع. [2] وهو الزمرد وهنا وردت الكلمة بالعامية. [3] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 629 «وأما سبب قتله- المأمون البطائحي- فإنه كان قد أرسل الأمير جعفرا أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة، وتقررت القاعدة بينهما على ذلك،- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 سلار فحضروا، واستأذن المؤتمن بعدهم في الوصول فأذن له. وحضر رمضان من سنة تسع عشرة فجاءوا إلى القصر للإفطار على العادة، ودخل المأمون والمؤتمن فقبض عليهما وحبسهما داخل القصر، وجلس الآمر من الغد في إيوانه وقرأ عليه وعلى الناس كتابا بتعديد ذنوبهم، وترك الآمر رتبة الوزارة خلوا، وأقام رجلين من أصحاب الدواوين يستخرجان الأموال من الخراج والزكاة والمكس، ثم عزلهما لظلمهما. ثم حضر الرسول الّذي بعثه إلى اليمن ليكشف خبر المأمون، وحضر ابن نجيب وداعيته فقتل وقتل المأمون وأخوه المؤتمن. (مقتل الآمر وخلافة الحافظ) كان الآمر مؤثرا للذّاته طموحا إلى المعالي وقاعدا عنها، وكان يحدّث نفسه بالنهوض إلى العراق في كلّ وقت، ثم يقصر عنه وكان يقرض الشعر قليلا ومن قوله: أصبحت لا أرجو ولا ألقى ... إلّا إلهي وله الفضل جدّي نبي وإمامي أبي ... ومذهبي التوحيد والعدل وكانت الفداويّة تحاول قتله فيتحرّز منهم، واتفق أنّ عشرة منهم اجتمعوا في بيت، وركب بعض الأيام إلى الروضة، ومرّ على الجسر بين الجزيرة ومصر فسبقوه فوقفوا في طريقه، فلما توسط الجسر انفرد عن الموكب لضيقه، فوثبوا عليه وطعنوه وقتلوا لحينهم، ومات هو قبل الوصول إلى منزله سنة أربع وعشرين وخمسمائة، لتسع وعشرين سنة ونصف من خلافته. وكان قد استخلص مملوكين وهما برغش العادل وبرعوارد هزير الملوك، وكان يؤثّر العادل منهما، فلما مات الآمر تحيّلوا في قيام المأمون عبد الحميد [1] بالأمر وكان أقرب القرابة سنا وأبوه أبو القاسم بن المستضيء معه،   [ () ] فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة وكان خصيصا بالآمر، قريبا منه، وقد ناله من الوزير أذى وأطراح، فحضر عند الآمر وأعمله الحال فقبض عليه وصلبه» . [1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 10 ص 664 يذكر ابن الأثير في احداث سنة 524: «وفي هذه السنة (524) ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله ابو علي بن المستعلي العلويّ صاحب مصر، خرج الى منتزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه لأنه كان سيّئ السيرة في رعيته، وكانت ولايته تسعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وقالوا إنّ الآمر أوصى بأنّ فلانة حامل فدلّته الرؤيا بأنها تلد ذكرا فهو الخليفة بعدي، وكفالته لعبد الحميد فأقاموه كافلا ولقّبوه الحافظ لدين الله، وذكروا من الوصية أن يكون هزير الملوك وزيرا والسعيد باس من موالي الأفضل صاحب الباب، وقرءوا السجل بذلك في دار الخلافة. (ولاية أبي عليّ بن الأفضل الوزارة ومقتله) ولما تقرّر الأمر على وزارة هزير الملوك، وخلع عليه أنكر ذلك الجند وتولّى كبر ذلك رضوان بن ونحش كبيرهم. وكان أبو عليّ بن الأفضل حاضرا بالقصر فحثّه برغش العادل على الخروج حسدا لصاحبه، وأوجد له السبيل إلى ذلك فخرج، وتعلّق به الجند وقالوا: هذا الوزير ابن الوزير، وتنصّل فلم يقبلوا، وضربوا له خيمة بين القصرين وأحدقوا به، وأغلقت أبواب القصر فتسوّروه وولجوا من طيقانه. واضطر الحافظ إلى عزل هزير الملوك، ثم قتله وولى أبو عليّ أحمد بن الأفضل الوزارة، وجلس بدست أبيه وردّ الناس أموال الوزارة المقضية. واستبدّ على الحافظ ومنعه من التصرّف، ونقل الأموال من الذخائر والقصر إلى داره، وكان إماميّا متشدّدا فأشار عليه الإمامية بإقامة الدعوة للقائم المنتظر. وضرب الدراهم باسمه دون الدنانير ونقش عليها: الله الصَّمَدُ 112: 2 الإمام محمد، وهو الإمام المنتظر. وأسقط ذكر إسماعيل من الدعاء على المنابر، وذكر الحافظ وأسقط من الآذان حيّ على خير العمل. ونعت نفسه بنعوت أمر الخطباء بذكرها على المنابر. وأراد قتل الحافظ بمن قتله الآمر من إخوته. فإنّ الآمر أجحفهم عند نكبة الأفضل وقتلهم، فلم يقدر أبو عليّ على قتله فخلعه واعتقله. وركب بنفسه في المواسم وخطب للقائم مموّها فتنكّر له أولياء الشيعة   [ () ] وعشرين سنة وخمسة أشهر، وعمره أربعا وثلاثين سنة، وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الّذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية. وهو أيضا العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضا. ولما قتل لم يكن له ولد بعده، فولي ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر باللَّه، وانما بويع له لينظر في الأمر نيابة حتى يكشف عن حمل ان كان للآمر فتكون الخلافة فيه ويكون هو نائبا عنه. ومولد الحافظ بعسقلان لأن أباه خرج من مصر اليها في الشدة فأقام بها فولد ابنه عبد المجيد هناك» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 ومماليك الخلفاء. وداخل يأنس الجند من كتامة وغيرهم في شأنه، واتفقوا على قتله. وترصّد له قوم من الجند فاعترضوه خارج البلد، وهو في موكبه وهم يتلاعبون على الخيل. ثم اعتمدوه فطعنوه وقتلوه، وأخرجوا الحافظ من معتقله وجدّدوا له البيعة بالخلافة، ونهب دار أبي عليّ. وركب الحافظ وحمل ما بقي فيها إلى القصر واستوزر أبا الفتح يانسا الحافظي، ولقّبه أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة بعيد الغور، واستبدّ عليه فاستوحش كل منهما بصاحبه. ويقال إنّ الحاكم وضع له سمّا في المستراح هلك به وذلك آخر ذي الحجة سنة ست وعشرين. (قيام حسن بن الحافظ بأمر الدولة ومكره بأبيه ومهلكه) ولما هلك يأنس أراد الحافظ أن يخلى دست الوزارة ليستريح من التعب الّذي عرض منهم للدولة، وأجمع أن يفوّض الأمور إلى ولده، وفوّض إلى ابنه سليمان. ومات لشهرين، فأقام ابنه الآخر حسنا فحدّثته نفسه بالخلافة، وعزم على اعتقال أبيه، وداخل الأجناد في ذلك فأطاعوه، وأطلع أبوه على أمره ففتك بهم يقال: إنه قتل منهم في ليلة أربعين، وبعث أبوه خادما من القصر لقتله فهزمه حسن وبقي الحافظ محجورا، وفسد أمره وبعث حسن بهرام الأرمني لحشد الأرمن ليستظهر بهم على الجند، وثاروا بحسن وطلبوه من أبيه، ووقفوا بين القصرين وجمعوا الحطب لإحراق القصر. واستبشع الحافظ قتله بالحديد فأمر طبيبه ابن فرقة عنه [1] في ذلك سنة تسع وعشرين. (وزارة بهرام ورضوان بعده) ولما مات حسن بن الحافظ ورحل بهرام لحشد الأرمن اجتمع الجند وكان بهرام   [1] هكذا بالأصل والمعنى مبتور وغير واضح وفي «الكامل لابن الأثير ج 11 ص 23 «فاحضر طبيبين كانا له، أحدهما مسلم والآخر يهودي، فقال لليهودي: نريد سمّا نسقيه لهذا الولد ليموت، ونخلص من هذه الحادثة! فقال: انا لا اعرف غير النقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية، فقال: أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة، فقال له: لا أعرف شيئا. فأحضر المسلم وأمره بذلك فصنع له شيئا فسقاه الولد فمات لوقته» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 كبيرهم وراودوا الحافظ على وزارته فوافقهم وخلع عليه وفوّض إليه الأمور السلطانيّة، واستثنى عليه الشرعيّة، وتبعه تاج الدولة أفتكين في الدولة، واستعمل الأرمن وأهانوا المسلمين. وكان رضوان بن ولحيس صاحب الباب، وهو الشجاع الكاتب من أولياء الدولة، وكان ينكر على بهرام ويهزأ به، فولّاه بهرام الغربيّة، ثم جمع رضوان وأتى إلى القاهرة ففرّ بهرام وقصد قوص في ألفين من الأرمن، ووجد أخاه قتيلا فلم يعرض لأهل قوص، وباء بحق الخلافة، وصعد إلى أسوان فامتنعت عليه بكنز الدولة. ثم بعث رضوان العساكر في طلبه مع أخيه الأكبر وهو إبراهيم الأوحد فاستنزله على الأمان له وللأرمن الذين معه. وجاء به فأنزله الحافظ في القصر إلى أن مات على دينه. واستقرّ رضوان في الوزارة ولقّب بالأفضل وكان سنيّا، وكان أخوه إبراهيم إماميّا، فأراد الاستبداد وأخذ في تقديم معارفه سيفا وقلما. وأسقط المكوس وعاقب من تصدّى لها، فتغيّر له الخليفة فأراد خلعه، وشاور في ذلك داعي الدعاة وفقهاء الإمامية فلم يعينوه في ذلك بشيء. وفطن له الحافظ فدسّ خمسين فارسا ينادون في الطرقات بالثورة عليه، وينهضون باسم الحافظ فركب لوقته هاربا منتصف شوّال سنة ثلاث وثلاثين، ونهبت داره، وركب الحافظ وسكن الناس، ونقل ما فيها إلى قصره. وسار رضوان يريد الشام ليستنجد الترك، وكان في جملته شاور وهو من مصطفيه، وأرسل الحافظ الأمير بن مضيال [1] ليردّه على الأمان فرجع، وحبس في القصر، وقيل وصل إلى سرخد فأكرمه صاحبها أمين الدولة كمستكين، وأقام عنده ثم رجع إلى مصر سنة أربع وثلاثين فقاتلهم عند باب القصر وهزمهم. ثم افترق عنه أصحابه وأرادوا العود إلى الشام فبعث عنه الحافظ بن مضيال وحبسه بالقصر إلى سنة ثلاث وأربعين فنقب الحبس وهرب إلى الجيزة، وجمع المغاربة وغيرهم ورجع إلى القاهرة فقاتلهم عند جامع ابن طيلون [2] وهزمهم. ثم دخل القاهرة ونزل عند جامع الأقمر، وأرسل إلى الحافظ في المال ليفرّقه فبعث عشرين ألفا على عادتهم مع الوزير، ثم استزاد عشرين وعشرين. وفي خلال ذلك وضع الحافظ عليه جمعا كثيرا من السودان فحملوا عليه وقتلوه وجاءوا   [1] وفي نسخة اخرى: الأمير بن مصّال، وكذلك عند ابن الأثير. [2] هو جامع ابن طولون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 برأسه إلى الحافظ. واستمرّ الحافظ في دولته مباشرا لأموره وأخلى رتبة الوزارة فلم يولّ أحدا بعده. (وفاة الحافظ وولاية ابنه الظافر) ثم توفي الحافظ لدين الله عبد الحميد بن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر سنة أربع وأربعين لتسع عشرة سنة ونصف من خلافته، وعن أبي العالية يقال بلغ عمره سبعا وسبعين سنة، ولم يزل في خلافته محجور الوزارة، ولما مات ولي بعده ابنه أبو منصور إسماعيل بعهده إليه بذلك ولقّب الظافر بأمر الله. (وزارة ابن مضيال ثم ابن السلار) كان الحافظ لما عهد لابنه الظافر أوصاه بوزارة ابن مضيال فاستوزره أربعين يوما وكان علي بن السلار واليا على الإسكندريّة ومعه بلارة بنت عمّه القاسم وابنه منها عبّاس وتزوّجت بعده بابن السلار [1] ، وشبّ عبّاس وتقدّم عند الحافظ حتى ولي الغربية فلم يرض ابن السلار وزارة ابن مضيال واتفق مع عبّاس على عزله، وبلغ الخبر إلى   [1] العبارة غير واضحة ومبتورة وفي الكامل ج 11 ص 142: واستوزر ابن مصّال فبقي أربعين يوما يدبّر الأمور، فقصده العادل بن السلار من ثغر الإسكندرية ونازعه في الوزارة، وكان ابن مصّال قد خرج من القاهرة في طلب بعض المفسدين من السودان، فخلفه العادل بالقاهرة وصار وزيرا. وسيّر عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس الصّنهاجيّ في عسكر وهو ربيب العادل، إلى ابن مصّال، فظفر به وقتله، وعاد الى القاهرة واستقرّ العادل وتمكّن، ولم يكن للخليفة معه حكم. واما سبب وصول عباس الى مصر فإن جدّه يحيى أخرج أباه أبا الفتوح من المهدية، فلمّا توفي يحيى وولي بعده بلاد إفريقية ابنه عليّ بن يحيى بن تميم بن يحيى صاحب إفريقية، أخرج أخاه ابا الفتوح بن يحيى والد عبّاس من افريقية سنة تسع وخمسمائة، فسار إلى الديار المصريّة ومعه زوجته بلّارة ابنة القاسم بن تميم بن المعزّ بن باديس، وولده عبّاس هذا وهو صغير يرضع، ونزل ابو الفتوح بالإسكندرية فأكرم وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي وتزوّجته بعده امرأته بلّارة بالعادل بن السلار. وشبّ العباس وتقدّم عند الحافظ حتى ولي الوزارة بعد العادل، فإن العادل قتل في المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. قيل: وضع عليه عبّاس من قتله، فلما قتل ولي الوزارة بعده وتمكّن فيها، وكان جلدا حازما» . من المقارنة بين ما ورد عند ابن الأثير وما ورد في تاريخ ابن خلدون نرى انه سقطت بعض السطور ربما أثناء النسخ أو ان الناسخ نسيها سهوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 ابن مضيال فشكا إلى الظافر فلم يشكه فقال ذوو الحروب: ليس هنا من يقاتل ابن السلار فغضب الظافر ودسّ عليه من بني عليّ مصلحيه فخرج إلى الصّعيد، وقدم ابن السلار إلى القاهرة فاستوزره الظافر، وهو منكر له ولقّبه العادل. وبعث العساكر مع العبّاس ربيبه في اتباع ابن مضيال فخرج في طلبه. وكان جماعة من لواتة السودان فتحصّنوا من عبّاس في جامع دولام فأحرقه عليهم، وقتل ابن مضيال وجاء برأسه. وقام ابن سلار بالدولة وحفظ النواميس وشدّ من مذاهبه أهله. وكان الخليفة مستوحشا منه منكرا له وهو مبالغ في النصيحة والخدمة. واستخدم الرجّالة لحراسته، فارتاب له صبيان الخاص من حاشية الخليفة فاعتزموا على قتله، ونمي ذلك إليه فقبض على رءوسهم فحبسهم، وقتل جماعة منهم وافترقوا، ولم يقدر الظافر على إنكار ذلك. واحتفل ابن السلار بأمر عسقلان، ومنعها من الفرنج وبعث إليها بالمدد كل حين من الأقوات والأسلحة فلم يغن ذلك عنها، وملكها الفرنج وكان لذلك من الوهن على الدولة ما تحدّث به الناس. ولما قتل العادل بن السلار صبيان الخاص تأكّد نكر الخليفة له، واشتدّ قلقه. وكان عبّاس بن أبي الفتوح صديقا ملاطفا له فكان يسكّنه ويهدّيه، وكان لعبّاس ولد اسمه نصير، استخصه الظافر واستدناه، ويقال كان يهواه، ففاوض العادل عبّاسا في شأن ابنه عن مخالطة ابنه للظافر فلم ينته ابنه، فنهى العادل جدّته أن يدخل إلى بيته فشقّ ذلك على نصير وعلى أبيه، وتنكّر للعادل. وزحف الفرنج إلى عسقلان فجهّز العادل الجيوش والعساكر إليها مددا مع ما كان يمدّها به، وبعثهم مع عبّاس بن أبي الفتوح فارتاب لذلك، وفاوض الظافر في قتل العادل وحضر معهم مؤيدا لدولة الأمير أسامة بن منقذ أحد أمراء شيزر، وكان مقرّبا عند الظافر وصديقا لعبّاس، فاستصوب ذلك وحثّ عليه، وخرج عبّاس بالعساكر إلى بلبيس، وأوصى ابنه نصير بقتله، فجاء في جماعة إلى بيت جدّته، والعادل نائم فدخل إليه وضربه فلم يجهز عليه، وخرج إلى أصحابه. ثم دخلوا جميعا فقتلوه وجاءوا برأسه إلى الظافر، ورجع عبّاس من بلبيس بالعساكر فاستوزره الظافر، وقام بالدولة وأحسن الى الناس، وأيس أهل عسقلان من المدد فأسلموا أنفسهم وبلدهم بعد حصار طويل وكان ذلك كله سنة ثمان وأربعين . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 (مقتل الظافر وأخويه وولاية ابنه الفائز) ولما وزر عبّاس للظافر، وقام بالدولة، كان ولده نصير من ندمان الظافر، وكان يهواه كما تقدّم. وكان أسامة بن منقذ من خلصاء عبّاس وأصدقائه فقبّح عليه سوء المقالة في ابنه، وأشار عليه بقتل الظافر فاستدعى ابنه نصيرا وقبّح عليه في شناعة الأحدوثة فيه بين الناس، وأغراه باغتيال الظافر ليمحو عنه ما يتحدّث به الناس، فسأل نصير من الظافر أن يأتي إلى بيته في دعوة فركب من القصر إليه فقتله نصير ومن جاء معه، ودفنهم في داره، وذلك في محرّم سنة تسع وأربعين وباكر إلى القصر ولم ير الظافر، وسأل خدّام القصر فأحسن العذر ورجع إلى أخوي الظافر يوسف وجبريل فخبّرهما بركوب الظافر إلى دار نصير فقالا له: خبّر الوزير. فلما جاء عبّاس من الغد أخبره بأنه ركب إلى بيت نصير ابنه ولم يعد فاستشاط غيظا عليه، ورماه بأنه داخل أخويه في قتله. ثم استدعاهما فقتلهما وقتل معهما ابنا لك لحسن بن الحافظ. ثم أخرج ابنه أبا القاسم عيسى ابن خمس سنين وحمله على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له بالخلافة، ولقّبه الفائز باللَّه ونقل عبّاس بسبب ذلك ما في القصر من الأموال والذخائر ما لا حدّ له. وعند خروجه بأخويه رأى القتلى فاضطرب وفزع وبقي سائر أيامه يعتاده الصرع. (وزارة الصالح بن رزيك) ولما قتل الظافر وأخواه كما ذكرناه كتب النساء من القصر إلى طلائع بن رزّيك [1] وكان واليا على الأشمونين والبهنّسة. وجاء الخبر بأنّ الناس اختلفوا على عبّاس بسبب ذلك، فجمع وقصد القاهرة ولبس السواد حزنا ورفع على الرماح الشعور التي بعث بها النساء حزنا. ولمّا عبر البحر خرج عبّاس وولده ودفعوا ما قدروا عليه من مال وسلاح من حاصل الدولة، ومعهما صديقهما أسامة بن منقذ فاعترضهم الفرنج،   [1] رزّيك بضم الراء وتشديد الزاي المكسورة وسكون المثناة التحتية بعدها كاف. قاله ابن خلكان. انتهى. ابن خلدون م 7 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 وقاتلوا فقتل عبّاس وأسر ولده ونجا أسامة إلى الشام. ودخل طلائع القاهرة في ربيع سنة تسع وخمسين، وجاء إلى القصر راجلا. ثم مضى إلى دار عبّاس ومعه الخادم الّذي حضر لقتله فاستخرجه من التراب ودفنه عند آبائه، وخلع الفائز عليه الوزارة ولقّبه الصالح. وكان إماميا كاتبا أديبا فقام بأمر الدولة، وشرع في جمع الأموال والنظر في الولايات. وكان الأوحد بن تميم من قرابة عبّاس واليا على تنيس، وكان لما سمع بفعلة قريبه عبّاس جمع وقصد القاهرة فسبقه طلائع، فلما استقل بالوزارة أعاده إلى عمله بدمياط وتنيس. ثم بعث في فداء نصير بن عبّاس من الفرنج فجيء به وقتله وصلبه بباب زويلة. ثم نظر في المزاحمين من أهل الدولة، ولم يكن أرفع رتبة من تاج الملوك قايماز وابن غالب، فوضع عليهما الجند فطلبوهما فهربا ونهب دورهما، وتتّبع كبراء الأمراء بمثل ذلك حتى خلا الجو، ووضع الرقباء والحجّاب على القصر، وثقلت وطأته على الحرم، ودبّرت عمّة الفائز في قتل الصالح، وفرّقت الأموال في ذلك، ونمي الخبر إليه فجاء إلى القصر، وأمر الاستاذين والصقالبة بقتلها فقتلوها سرا، وصار الفائز في كفالة عمّته الصغرى، وعظم اشتداد الفائز واستفحل أمره، وأعطى الولايات للأمراء واتّخذ مجلسا لأهل الأدب يسامرون فيه، وكان يقرض الشعر ولا يجيده. وولّى شاور السعدي على قرضه، وأشار عليه حجّابه بصرفه، واستقدمه فامتنع وقال: إن عزلني دخلت بلاد النوبة. وعلى عهده كان استيلاء نور الدين محمود الملك العادل على دمشق من يد بني طغتكين أتابك تتش سنة تسع وأربعين وخمسمائة. (وفاة الفائز وولاية العاضد) ثم توفي الفائر بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل سنة خمس وخمسين، لست سنين من خلافته، فجاء الصالح بن رزّيك إلى القصر وطلب الخدّام بإحضار أبناء الخلفاء ليختار منهم، وعدل عن كبرائهم إلى صغرائهم لمكان استبداده، فوقع اختياره على أبي محمد عبد الله بن يوسف قتيل عبّاس فبايع له بالخلافة وهو غلام، ولقّبه العاضد لدين الله وزوّجه ابنته وجهّزها بما لم يسمع بمثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 (مقتل الصالح بن رزيك وولاية ابنه رزيك) ولما استفحل أمر الصالح وعظم استبداده بجباية الأموال والتصرّف، وحجر العاضد تنكر له الحرم ودس إلى الأمراء بقتله. وتولّت كبر ذلك عمّة العاضد الصغرى التي كانت كافلة الفائز بعد أختها. واجتمع قوم من القواد والسودان منهم الريفي الخادم وابن الداعي والأمير بن قوّام الدولة، وكان صاحب الباب وتواطئوا على قتله، ووقفوا في دهليز القصر، وأخرج ابن قوّام الدولة الناس أمامه وهو خارج من القصر، واستوقفه عنبر الريفي يحادثه، وتقدّم ابنه رزّيك فوثب عليه جماعة منهم وجرحوه، وضرب ابن الداعي الصالح فأثبته، وحمل إلى داره فبقي يجود بنفسه يومه ذلك. وإذا أفاق يقول رحمك الله يا عبّاس ومات من الغد. وبعث إلى العاضد يعاتبه على ذلك فحلف على البراءة من ذلك، ونسبه إلى العمّة، وأحضر ابنه رزّيك وولّاه الوزارة مكان أبيه، ولقّبه العادل فأذن له في الأخذ بثأره، فقتل العمّة وابن قوّام الدولة والأستاذ عنبر الريفي وقام بحمل الدولة، وأشير عليه بصرف شاور من قوص، وقد كان أبوه أوصاه ببقائه وقال له: قد ندمت على ولايته، ولم يمكني عزله، فصرفه وولّى مكانه الأمير بن الرفعة فاضطرب شاور وخرج إلى طريق الواحات وجمع وقصد القاهرة، وجاء الخبر إلى رزّيك فعجز عن لقائه، وخرج في جماعة من غلمانه بعدة أحمال من المال والثياب والجوهر، وانتهى إلى طفيحة، واعترضه ابن النضر وقبض عليه، وجاء به إلى شاور فاعتقله واعتقل معه أخاه، فأراد الهرب من محبسه فوشى به أخوه فقتل لسنة من ولايته ولتسع سنين من ولاية أبيه. (وزارة شاور ثم الضرغام من بعده) ودخل شاور القاهرة سنة ثمان وخمسين، ونزل بدار سعيد السعداء ومعه ولده طين وشجاع والطازي، وولّاه العاضد الوزارة ولقّبه أمير الجيوش، وأمكنه من أموال بني رزّيك فاستصفى معظمها، وزاد أهل الرواتب والجرايات عشرة أمثالها، واحتجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 عن الناس، وكان الصالح بن رزّيك قد أنشأ في لواته أمراء يسمّون البرقية، وكان مقدّمهم الضرغام، وكان صاحب الباب فنازع شاور في الوزارة لتسعة أشهر من ولايته، وثار عليه وأخرجه من القاهرة، فلحق بالشام وقتل ولده عليّا وكثيرا من أمراء المصريّين حتى ضعفت الدولة وخلت من الأعيان وأدى ذلك الى خرابها. (مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى مصر مع شاور) ولما لحق شاور إلى الشام نزل على الملك العادل نور الدين بدمشق صريخا، وشرط له ثلث الجباية على أن يقيم له العساكر. وجهّز نور الدين شيركوه وكان مقدّما في دولته ويذكر سبب اتصاله به في موضعه، فساروا في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، وقد تقدّم نور الدين إلى أسد الدين شير كوه بأن يعيد شاور إلى وزارته وينتقم له ممن نازعه وسار نور الدين بعساكره إلى طرف بلاد الفرنج ليمنعهم من اعتراض أسد الدين إن همّوا به، ولما وصل أسد الدين وشاور إلى بلبيس لقيهم ناصر الدين همّام وفخر الدين همّام أخو الضرغام في عساكر مصر فهزموه، ورجع إلى القاهرة وقتل رفقاؤه الأمراء البرقية الذين أغروه بشاور. ودخل أسد الدين القاهرة ومعه أخو الضرغام أسيرا وفرّ الضرغام فقتل بالجسر عند مشهد السيدة نفيسة، وقتل أخواه وعاد شاور إلى وزارته وتمكّن منها، ثم نكث عهده مع أسد الدين وسلطانه وصرفه إلى الشام. (فتنة أسد الدين مع شاور وحصاره) ولما رجع أسد الدين من مصر إلى الشام أقام بها في خدمة نور الدين. ثم استأذن نور الدين العادل سنة اثنتين وستين في العود إلى مصر فأذن له، وجهّزه في العساكر وسار إلى مصر ونازل بلاد الفرنج في طريقه. ثم وصل إلى أطفيح من ديار مصر، وعبر النيل الى الجانب الغربي ونزل الجيزة، وتصرّف في البلاد الغربية نيّفا وخمسين، واستمدّ شاور الفرنج، وجاء بهم إلى مصر وخرج معهم للقاء أسد الدين شير كوه فأدركوه بالصعيد، فرجع للقائهم على رهب لكثرة عددهم وصدقهم القتال فهزمهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 على قلّة من معه، فإنّهم لم يبلغوا ألفي فارس. ثم سار إلى الإسكندرية وهو يجبي الأموال في طريقه إلى أن وصلها، فاستأمن أهلها وملّكها، وولّى عليها صلاح الدين يوسف بن أخيه نجم الدين أيّوب، ورجع إلى جباية الصعيد. واجتمعت عساكر مصر والفرنج على القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار أسد الدين إليهم من الصعيد، ثم خذله بعض من معه من التركمان بمداخلة شاور، وبعثوا له إثر ذلك في الصلح فصالحهم وردّ إليهم الإسكندريّة، ورجع إلى دمشق فدخلها آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وستين. واستطال الفرنج على أهل مصر وشرطوا عليهم أن ينزلوا بالقاهرة وشحنة، وأن تكون أبوابها بأيديهم لئلّا تدخل عساكر نور الدين، وقرّر ضريبة يحملها كل سنة فأجابه إلى ذلك [1] (رجوع أسد الدين إلى مصر ومقتل شاور ووزارته) ثم طمع الإفرنج في مصر، واستطالوا على أهلها وملكوا بلبيس، واعتزموا على قصد القاهرة. وأمر شاور بتخريب مصر خشية عليها منهم فحرقت ونهب أهلها، ونزل الفرنج على القاهرة، وأرسل العاضد إلى نور الدين يستنجده، وخشي شاور من اتفاق العاضد ونور الدين، فداخل الفرنج في الصلح على ألفي ألف دينار مصريّة معجّلة وعشرة آلاف أردب [2] من الزرع، وحذّرهم أمر القهر إلى ذلك وكان فيه السفير الجليس بن عبد القوي وكان الشيخ الموفّق كاتب السر وكان العاضد قد أمرهم بالرجوع إلى رأيه [3] وقال: هو ربّ الحرمة علينا وعلى آبائنا، وأهل   [1] العبارة غير واضحة ومشوشة وفي الكامل ج 11 ص 327: «وأما فإنهم استقر بينهم وبين المصريين ان يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر عليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله استقرّ مع شاور، فإن العاضد لم يكن له معه حكم لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها، وعاد الفرنج الى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم، وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل الى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبّته وولاءه، ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه أنه يفعل هذا ويجمع الكلمة بمصر على طاعته، وبذل مالا يحمله كلّ سنة، فأجابه إلى ذلك. وحمل إليه مالا جزيلا» [2] اردب ج أرادب: مكيال ضخم في مصر يساوي 24 صاعا (قاموس) . [3] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 11 ص 337: «وأمّا القاهرة فالأغلب على أهلها الجند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 النصيحة لنا. فأمر الكامل شجاع بن شاور القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أن يأتيه ويشاوره، فقال له: قل لمولانا يعني العاضد إنّ تقرير الجزية للفرنج خير من دخول الغزّ للبلاد واطلاعهم على الأحوال. ثم بعث نور الدين العساكر مع أسد الدين شيركوه مددا للعاضد، كما سأل وبعث معه صلاح الدين ابن أخيه وجماعة الأمراء. فلما سمع الفرنج بوصولهم أفرجوا عن القاهرة ورجعوا إلى بلادهم. وقال ابن الطويل مؤرخ دولة العبيديّين: إنه هزمهم على القاهرة ونهب معسكرهم ودخل أسد الدين إلى القاهرة في جمادى سنة أربع وستين وخلع عليه العاضد ورجع إلى معسكره، وفرضت له الجرايات. وبقي شاور على ريبة وخوف وهو يماطله فيما يعين له من الأموال، ودسّ العاضد إلى أسد الدين بقتل شاور وقال: هذا غلامنا، ولا خير لك في بقائه ولا لنا، فبعث عليه صلاح الدين ابن أخيه، وعزّ الدين خرديك. وجاء شاور إلى أسد الدين على عادته فوجده عند قبر الإمام الشافعيّ فسار إليه هنالك فاعترضه صلاح الدين وخرديك فقتلاه، وبعثا برأسه إلى العاضد، ونهبت العامة دوره، واعتقل ابناه شجاع والطازي وجماعة من أصحابه بالقصر، وخلع عليه للوزارة، ولقّب المنصور أمير الجيوش، وجلس في دست الوزارة واستقرّ في الأمر، وغلب على الدولة، وأقطع البلاد لعساكره. واستعدّ أصحابه في ولايتها وردّ أهل مصر إلى بلدهم، وأنكر ما فعلوه في تخريبها. ثم اجتمع بالعاضد مرّة أخرى وقال له جوهر الأستاذ: يقول لك مولانا لقد تيقنّا أنّ الله ادّخرك نصرة لنا على أعدائنا، فحلف له أسد الدين على النصيحة فقال له: الأمل فيك أعظم، وخلع عليه وحسن عنده موقع الجليس بن عبد القوي، وكان داعي الدعاة وقاضي القضاة فأبقاه على مراتبه.   [ () ] وغلمانهم، فلهذا تعذّرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر وان يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر، وأقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثّلث الّذي لهم. وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل الى أسد الدين يستدعيه إليه فخرج القاصد في طلبه فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه وكان سبب وصوله ان كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى، فسار أيضا الى نور الدين واجتمع به، وحجب نور الدين من حضوره في الحال وسرّه ذلك وتفاءل به وأمر بالتجهز الى مصر» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 (وفاة أسد الدين وولاية صلاح الدين الوزارة) ثم توفي أسد الدين رحمه الله تعالى لشهرين في أيام قلائل من وزارته وقيل لأحد عشر شهرا وأوصى أصحابه أن لا يفارقوا القاهرة. ولما توفي كان معه جماعة من الأمراء النورية، منهم عين الدولة الفاروقي وقطب الدين يسأل [1] وعين الدين المشطوب الهكاوي [2] ، وشهاب الدين محمود الحازميّ، فتنازعوا في طلب الرئاسة وفي الوزارة، وجمع كل أصحابه للمغالبة. ومال العاضد إلى صلاح الدين لصغره وضعفه عنهم، ووافقه أهل دولته على ذلك بعد أن ذهب كثير منهم إلى دفع الغزّ وعساكرهم إلى الشرقية، ويولّي عليهم قراقوش. ومال آخرون إلى وزارة صلاح الدين، ومال العاضد إلى ذلك لمكافأته عن خدمته السالفة، فاستدعاه وولّاه الوزارة، واضطرب أصحابه وكان الفقيه عيسى الهكاريّ من خلصاء صلاح الدين فاستمالهم إليه إلّا عين الدولة الفاروقي، فإنه سار إلى الشام وقام صلاح الدين بوزارة مصر نائبا عن نور الدين يكاتبه بالأمير الأصفهان ويشركه في الكتاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية. ثم استبد صلاح الدين بالأمور وضعف أمر العاضد وهدم دار المعرفة بمصر، وكانت حبسا. وبناها مدرسة للشافعيّة وبني دار الغزل كذلك للمالكيّة وعزل قضاة الشيعة وأقام قاضيا شافعيا في مصر، واستناب في جميع البلاد. (حصار الفرنج دمياط) ولما جاء أسد الدين وأصحابه إلى مصر وملكوها ودفعوهم عنها، ندموا على ما فرّطوا فيها، وانقطع عنهم ما كان يصل إليهم وخشوا غائلة الغز على بيت المقدس، وكاتبوا الفرنج بصقلية والأندلس واستنجدوهم، وجاءهم المدد من كل ناحية فنازلوا دمياط سنة خمس وستين وبها شمس الخواص منكوريين فأمدّها صلاح الدين بالعساكر   [1] وفي نسخة اخرى: قطب الدين نسأل. [2] سيف الدين المشطوب الهكّاريّ: ابن الأثير ج 11 ص 343. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 والأموال مع بهاء الدين قراقوش وأمراء الغزّ، واستمدّ نور الدين واعتذر عن المسير إليها بشأن مصر والشيعة فبعث نور الدين العساكر إليها شيئا فشيئا، وسار بنفسه إلى بلاد الفرنج بسواحل الشام فضيّق عليها، فأقلع الفرنج عن دمياط لخمسين يوما من نزولها فوجدوا بلادهم خرابا، وأثنى العاضد على صلاح الدين في ذلك. ثم بعث صلاح الدين غرابيه [1] نجم الدين وأصحابه إلى مصر وركب العاضد للقائه تكرمة له. (واقعة الخصيان وعمارة) ولما استقام الأمر لصلاح الدين بمصر غصّ به الشيعة وأولياؤهم، واجتمع منهم العوريش، وقاضي القضاة ابن كامل والأمير المعروف والكاتب عبد الصمد، وكان فصيحا، وعمارة اليمني الشاعر الزبيدي، وكان متولي كبرها فاتفقوا على استدعاء الفرنج لإخراج الغزّ من مصر، وجعلوا لهم نصيبا وافرا من ارتفاعها، وعمدوا إلى شيعي من خصيان القصر اسمه نجاح ولقبه مؤتمن الدولة، وكان قد ربى العاضد وصهره فأغروه بذلك، ورغبوا على أن يجمع رسول الفرنج بالعاضد فجمعه معه في بيته ملبسا بذلك، ولم يكن العاضد الّذي حضر وأوهموه أنه عقد معه. ثم اتصل الخبر بنجم الدين بن مضيال من أولياء الشيعة، وكان نجم الدين قد اختصّه صلاح الدين وولّاه الإسكندرية، واستغضبه بهاء الدين قراقوش ببعض النزغات فظنوا أنه غضب فأطلعوه على شأنهم، وأن يكون وزيرا وعمارة كاتب الدست وصاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات مكان الفاضل بن كامل قاضي القضاة داعي الدعاة، وعبد الصمد جابي الأموال والعوريش ناظرا عليه، فوافقهم ابن مضيال ووشى بهم إلى صلاح الدين، فقبض عليهم وعلى رسول الفرنج، وقرّرهم في عدّة مجالس. وأحضر زمام القصر وهو مختص بالغزّ ونكر عليه خروج العاضد إلى بيت نجاح فحلف على نفسه وعلى العاضد أنّ هذا لم يقع، وأخبر العاضد بطلب حضور نجاح مع مختص، فحضر واعترف بالحق أنّ العاضد لم يحضر، فتحقّق صلاح الدين براءته. وكان عمارة   [1] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 11 ص 353: واما نجم الدين أيّوب فإنه وصل الى مصر سالما هو ومن معه، وخرج العاضد الخليفة فالتقاه إكراما له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 يجالس شمس الدولة توران شاه فنقل لأخيه صلاح الدين أنه امتدحه بقصيدة يغريه فيها بالمضيّ إلى اليمن، ويحمله على الاستبداد وأنه تعرّض فيها للجانب النبوي، يوجب استباحة دمه وهو قوله: فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك وأور النار في العلم هذا ابن تومرت قد كانت ولايته ... كما يقول الورى لحما على وضم وكان أوّل هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم فجمعهم صلاح الدين وشنقهم في يوم واحد بين القصرين، وأخّر ابن كامل عنهم عشرين يوما ثم شنقه. ومرّ عمارة بباب القاضي الفاضل، فطلب لقاءه فمنع فقال وهو سائر إلى المشنقة: عبد الرحيم قد احتجب ... إنّ الخلاص هو العجب وفي كتاب ابن الأثير أنّ صلاح الدين إنما اطّلع على أمرهم من كتابهم الّذي كتبوه إلى الفرنجة، عثر على حامله وقرئ الكتاب، وجيء به إلى صلاح الدين فقتل مؤتمن الخلافة لقرينة، وعزل جميع الخدّام واستعمل على القصر بهاء الدين قراقوش، وكان خصيّا أبيض، وغضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة واجتمعوا في خمسين ألفا وقاتلوا أجناد صلاح الدين بين القصرين، وخالفهم إلى بيوتهم فأضرمها نارا، وأحرق أموالهم وأولادهم فانهزموا، وركبهم السيف. ثم استأمنوا ونزلوا الجيزة وعبر إليهم شمس الدولة توران شاه فاستلحمهم. (قطع الخطبة للعاضد وانقراض الدولة العلوية بمصر) كان نور الدين العادل يوم استقل صلاح الدين بملك مصر وضعف أمر العاضد بها، وتحكم في قصره يخاطبه في قطع دعوتهم من مصر والخطبة بها للمستضيء العبّاسيّ، وهو يماطل بذلك حذرا من استيلاء نور الدين عليه، ويعتذر بتوقع المخالفة من أهل مصر في ذلك فلا يقبل. ثم ألزمه ذلك فاستأذن فيه أصحابه فأشاروا به، وأنه لا يمكن مخالفة نور الدين. ووفد عليه من علماء العجم الفقيه الخبشاني، وكان يدعى بالأمير العالم، فلما رأى إحجامهم عن هذه الخطبة قال: أنا أخطبها! فلما كان أوّل جمعة من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة صعد المنبر قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 الخطيب ودعا للمستنصر فلم ينكر أحد عليه، فأمر صلاح الدين في الجمعة الثانية الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء ففعلوا، وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر. وكان العاضد في شدّة من المرض فلم يعلمه أحد بذلك، وتوفي في عاشوراء من السنة، وجلس صلاح الدين للعزاء فيه واحتوى على قصر الخلافة بما فيه فحمله بهاء الدين قراقوش إليه، وكان في خزائنهم من الذخيرة ما لم يسمع بمثله من أصناف الجواهر واليواقيت والزمرّد وحليّ الذهب وآنية الفضّة والذهب، ووجد ماعون القصر [1] من الموائد والطسوت والأباريق والقدور والصحاف والخوان والبواقيل والمناير والطيافر والقباقب والأسورة، كل ذلك من الذهب. ووجد من أنواع الطيوب واللباس والمذهبات والقرقبيات المعلّقات والوشي ما لا تقله الأوقار، ومن الكتب ما يناهز مائة وعشرين ألف سفر أعطاها للفاضل عبد الرحيم البيساني كاتبه وقاضيه، ومن الظهر والكراع والسلاح، ومن الخدم والوصائف خمسين ألفا، ومن المال ما يملأ مائة بيت. ثم حبس رجالهم ونساءهم حتى ماتوا، وكانت بالدولة عند عهد العزيز والحاكم قد خلا جوّها من رجالات كتامة وتفرّقوا في المشرق في سبيل ذلك الملك، وانقرضوا بانقراض أمر الشيعة وموت العاضد آخر خلفائهم، وأكلتهم الأقطار والوقائع شأن الدول كما ذكرناه من قبل. ولما هلك العاضد وحوّل صلاح الدين الدعوة إلى العبّاسيّة، اجتمع قوم من الشيعة بمصر   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 11 ص 369: «وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله، وأصحابه بقطع الخطبة وقالوا: ان عوفي فهو يعلم، وان توفي فلا ينبغي ان نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته، فتوفي يوم عاشوراء، ولم يعلم بقطع الخطبة. ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه، فحفظه بهاء الدين قراقوش الّذي كان قد رتبه قبل موت العاضد، فحمل الجميع الى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الاعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا عن مثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم، فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهما أو سبعة عشر مثقالا، انا لا أشك، فانني رأيته ووزنته. واللؤلؤ الّذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرّد الّذي طوله اربع أصابع في عرض عقد كبير. ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد وقد احتاطوا بالحفظ، فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب فيه، فسخروا من العاضد فأخذه إنسان فضرب به فضرط، فتضاحكوا منه ثم آخر كذلك، وكان كل من ضرب به ضرط، فألقاه أحدهم فكسره فإذا الطبل لأجل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك. وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد، فباع جميع ما فيه. ونقل أهل العاضد الى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبد، فباع البعض وأعتق البعض ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وبايعوا لداود بن العاضد، ونمي خبرهم إلى صلاح الدين فقبض عليهم وقتلهم، وأخرج داود من القصر وذلك سنة تسع وستين وخمسمائة. ثم خرج بعد حين ابنه سليمان بن داود رضي الله تعالى عنه بالصّعيد وحبس إلى أن هلك. وظهر بعد حين بجهة فاس بالمغرب محمد بن عبد الله بن العاضد، ودعا لك وتسمى بالمهديّ فقتل وصلب. ولم يبق للعبيديّين ذكر إلّا في بلاد الحثيثية من العراق وهم دعاة الفداوية. وفي بلاد الإسماعيلية التي كانت فيها دعوتهم بالعراق. وقام بها ابن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها كما يذكر في أخبارهم، إلى أن انقرضت تلك الدعوة أجمع بانقطاع دعوة العبّاسيّين ببغداد على يد هولاكو من ولد جنكزخان ملوك التتر سنة خمس وخمسين وستمائة، والأمر للَّه وحده. هذه أخبار الفاطميّين ملخّصة من كتاب ابن الأثير ومن تاريخ دولتهم لابن الطوير وقليل من ابن المسبحي جمعت ما أمكنني منها ملخصا والله ولي العون. (الخبر عن بني حمدون ملوك المسيلة والزاب بدعوة العبيديّين ومآل أمرهم) كان علي بن حمدون أبوهم من أهل الأندلس وهو علي بن حمدون بن سمّاك بن مسعود بن منصور والجذامي يعرف بابن الأندلسي واتصل بعبيد الله وأبي القاسم بالمشرق قبل شأن الدعوة، وبعثوه من طرابلس إلى عبد الله الشيعي فأحسن اللقاء والانصراف، ولزمهم أيام اعتقالهم بسجلماسة، فلما استفحل ملكهم جذبوا أبا ضبيعة ورقّوه إلى الرتب. ولما رجع أبو القاسم من حركته إلى المغرب سنة خمس عشرة وثلاثمائة، واختطّ مدينة المسيلة، استعمل علي بن حمدون على بنائها وسمّاها المحمدية ولما تم بناؤها عقد له على الزاب وأنزله بها وشحنها بالأقوات التي كانت ميرة للعساكر عند محاصرة المنصور لأبي يزيد صاحب الحمار بجبل كتامة. ولم يزل واليا على الزاب وربى ابنيه جعفرا ويحيى بدار أبي القاسم وكان جعفر سار إلى المعز. ولما كانت فتنة أبي يزيد وأضرمت إفريقية نارا وفتنة، وأهاب القائم بالأولياء من كل ناحية، كتب إلى ابن حمدون أن يجنّد قبائل البربر ويوافيه، فنهض إلى المهدية في عسكر ضخم بقسنطينة وهو يحتشد كل من مرّ به في طريقه حتى وصل إلى شق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 بنارية. ثم قارب باجة وكان بها أيوب بن أبي يزيد في عسكر كبير من النكارية والبربر، فزحف إليهم وتناور الفريقان، ثم بيّته أيوب فاستباح معسكره وتردى علي ابن حمدون من بعض الشواهق فهلك سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ولما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على المسيلة والزاب لجعفر بن علي بن حمدون، وأنزله بها وأخاه يحيى، واستجدوا بها سلطانا ودولة، وبنوا القصور والمنتزهات، واستفحل بها ملكهم وقصدهم بها العلماء والشعراء، وكان فيمن قصدهم ابن هانئ شاعر الأندلس وأمداحه فيهم معروفة مذكورة. وكان بين جعفر هذا وبين زيري بن مناد عداوة جرّتها المنافسة والمساماة في الدولة، فساء أثر زيري فيه عند صدمته للمغرب وفتكه بزناتة، وسعوا به إلى الخليفة وألقح له في جوانحه العداوة فكانت داعيته إلى زناتة. وتولّى محمد بن خزر أمير مغراوة. ثم إن المعزّ لما اعتزم على الرحيل إلى القاهرة سنة اثنتين وثلاثمائة استقدم جعفرا فاستراب جعفر ومال بعسكره إلى زناتة قبل قدومه، وانقطعت الرسائل بينه وبين صنهاجة والخليفة المعزّ، وشملت عليه زناتة قبل قدومه واجتمعوا عليه، ودعا إلى نقض طاعة المعزّ والدعاء للحاكم المستنصر، فوجدهم أقدم إجابة لها، وناهضهم زيري الحرب قبل استكمال التعبية، فكانت عليه من أمراء زناتة فكبا بزيري فرسه فطاح، فقصّوا رأسه وبعثوا به مع جماعة من زناتة إلى الحاكم المستنصر، فكرّم الحاكم وفادتهم ونصب رأس زيري بسوق قرطبة، وأسنى جوائز الوفد ورفع منزلة يحيى بن علي وأذن لجعفر في اللحاق بسدّته. ولما علمت زناتة أن يوسف بن زيري يطالبهم بدم أبيه أظهروا العذر به، ورأى أن يتجنّب مجابهتهم لضيق ذات يده. وعجز رؤساؤهم عن الذبّ والدفاع عنها [1] ، وقبض الأيدي عن تناوله لدنو الفتنة ومراس العصبيّة، فأوجس الخيفة في نفسه وألطف الحيلة في الفرار رغبة بحيلته، وشحن السفن بما معه من المال والمتاع والرقيق، والحشم وذخيرة السلطان، وأجاز البحر ولحق بسدّة الخلافة من قرطبة وأجاز معه عظماء الزناتيّين معطين الصفقة على القيام بدعوته، والاحتطاب في جبل طاعته فكرّم مثواه وأجمل وفادتهم وأحسن منصرفهم وانقلبوا لمحبته والتشيّع له، ومناغاة الادارسة للقيام في خدمته بالمغرب الأقصى، وبثّ دعوته. وتخلّف عنهم أولاد علي بن حمدون بالحضرة وأقاموا بسدّة الخلافة، ونظّموا في طبقات الوزارة وأجريت عليهم   [1] الضمير يعود الى قبيلة زناتة، وقد اعتاد ابن خلدون ان يعيد الضمير الى ما قبل فقرات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 سنيات الأرزاق والتحقوا على حديث عهدهم بالقوم من أولياء الدولة. ثم كان بعد ذلك شأن اعتقالهم على طريق التأديب لمرتكب من نازعهم خرقوا به حدود الآداب مع الخلافة، فاستدعوا إلى القصر واعتقلوا، ثم أطلقوا لأيام قلائل لما انغمس الحكم في علّة الفالج، وركدت ريح المروانية بالمغرب، واحتاجت الدولة إلى رجالهم لسد الثغور ودفع العدو، واستدعي يحيى بن هاشم من العدوة، وكان واليا على فاس والمغرب، وأدا له الحاجب المصحفي لجعفر بن على بن حمدون، وجمعوا بين الانتفاع في مقارعة زناتة بالعدوة والراحة مما يتوقع منه على الدولة عند من ولي الخلافة، لما كانوا صاروا إليه من النكبة وطروق المحنة فعقدوا له ولأخيه يحيى على المغرب، وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال وكسا فاخرة للخلع على ملوك العدوة، فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وضبطه، واجتمع إليه ملوك زناتة من بني يفرن ومغراوة وسجلماسة. ولما هلك الحكم وولي هشام، وقام بأمره المنصور بن أبي عامر، اقتصر لأوّل قيامه على سبتة من بلاد العدوة فضبطها جند السلطان ورجال الدولة، وقلّدها أرباب السيوف والأقلام من الأولياء والحاشية وعدل في ضبطه على ما وراء ذلك على ملوك زناتة ونقدهم بالجوائز والخلع وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب الإثبات في ديوان السلطان منهم، فجدّوا في ولاية الدولة وبثّ الدعوة، وفسد ما بين هذين الأميرين جعفر وأخيه، واقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال. ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبته بنو غواطة في غزاته إياهم. ثم استدعاه محمد بن أبي عامر لأوّل أمره لما رأى من الاستكانة إليه وشد أزره به ونقم عليه كراهته لما لقيه بالأندلس من الحكم، ثم أصحبه وتخلّى لأخيه عن عمل المغرب، وأجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحلّ منه بالمكان الأثير. ولما زحف بلكّين إلى المغرب سنة تسع وستين زحفته المشهورة خرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه، وأجاز جعفر بن علي إلى سبتة وعقد له على حرب بلكين وأمدّه بمائة حمل من المال، وانضمت إليه ملوك زناتة ورجع عنهم بلكّين كما نذكره. ولما رجع إلى ابن أبي عامر فاغتاله في بعض ليالي معاقرتهم وأعدّ له رجالا في طريقه من سمره إلى داره فقتلوه سنة [1] ولحق يحيى بن عليّ   [1] هكذا بياض بالأصل وفي وفيات الأعيان لابن خلّكان ج 1 ص 286: «توفي يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 بمصر ونزل بدار العزيز وتلقّاه بالمبرّة والتكريم، وطال به ثواؤه واستكفى به العظائم، ولما استصرخ فلفول بن خزرون بالحاكم في استرجاع طرابلس من يد صنهاجة المتغلّبين عليه، دفع إليه العساكر وعقد عليها ليحيى بن عليّ، واعترضه بنو قرّة من الهلاليّين ببرقة ففلّوه وفضّوا جموعه ورجع إلى مصر ولم يزل بمصر إلى أن هلك هنالك، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. الخبر عن القرامطة واستبداد أمرهم وما استقرّ لهم من الدولة بالبحرين وأخبارها إلى حين انقراضها هذه الدعوة لم يظهرها أحد من أهل نسب العلويّة ولا الطالبيّين، وإنما قام بها دعاة المهدي من أهل البيت على اختلاف منهم في تعيين هذا المهدي كما نذكره. وكان مدار دعوتهم على رجلين أحدهما يسمّى الفرج بن عثمان القاشاني من دعاة المهدي ويسمى أيضا كرويه بن مهدويه وهو الّذي انتهى إليه دعاتهم بسواد الكوفة، ثم بالعراق والشام، ولم يتم لهؤلاء دولة، والآخر يسمّى أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، كانت دعوته بالبحرين واستقرّت له هنالك دولة ولبنيه. وانتسب بعض مزاعمهم إلى دعاة الإسماعيليّة الذين كانوا بالقيروان كما نذكره. ودعوى هؤلاء القرامطة في غاية الاضطراب مختلّة العقائد والقواعد، منافية للشرائع والإسلام في الكثير من مزاعمهم، وأوّل من قام بها بسواد الكوفة سنة ثمان وسبعين ومائتين رجل أظهر الزهد والتقشّف، وزعم أنه يدعو إلى المهدي وأن الصلوات المفروضة خمسون كل يوم، واستجاب له جمع كثير ولقّب قرمط وأصلها بالكاف. وكان يأخذ من كل من يجيب دعوته دينارا للإمام. وجعل عليهم نقباء وسمّاهم الحواريّين، وشغل الناس بذلك عن شئونهم وحبسه عامل الناحية ففرّ من محبسه ولم يوقف له على خبر، فازداد أتباعه فتنة فيه ثم زعم أنه الّذي بشّر به أحمد بن محمد بن الحنفيّة. وأن أحمد نبيّ وفشا هذا المذهب في السواد وقرئ بينهم كتاب زعموا أنه جاءهم من داعيه المهدي نصّه بعد البسملة، يقول الفرج بن عثمان: الحمد للَّه بكلمته وتعالى باسمه المنجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلّة مواقيت للناس، ظاهرها لتعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرّفوا عبادي سبيلي اتّقوني يا أولي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 الألباب، وأنا الّذي لا أسأل عمّا أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الّذي أبلو عبادي وأستخبر خلقي، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي وأخلدته في نعمتي، ومن زال عن أمري وكذّب رسلي أخلدته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي، فأنا الّذي لا يتكبّر عليّ جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا ذللته، فليس الّذي أصرّ على أمره ودام على جهالته. وقال لن نبرح عليه عاكفين وبه مؤمنين، أولئك هم الكافرون. ثم يركع ويقول في ركوعه مرّتين سبحان ربّي وربّ العزة تعالى عما يصف الظالمون، وفي سجوده الله أعلى مرّتين الله أعظم مرّة، والصوم مشروع يوم المهرجان والنيروز والنبيذ حرام والخمر حلال، والغسل من الجنابة كالوضوء، ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخلب. ومن خالف وحارب وجب قتله ومن لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوي شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا. وشاهد عليهم بالكذب. والّذي حملهم على ذلك إنما هو ما اشتهر بين الشيعة من أمر المهدي مستندين فيه إلى الأحاديث التي خرجها بعضهم وقد أريناك عللها في مقدّمة الكتاب في باب الفاطمي فلهجوا به، وبالدعوة إليه فمن الصادق فيمن يعينه وان كان كاذبا في استحقاقه، ومنهم من بنى أمره على الكذب والانتحال، عساه يستولي بذلك على حظ من الدنيا ينال بها صفقة. وقد يقال إنّ ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج وإنه سار على الأمان. وقال له: إنّ ورائي مائة ألف سيف فناظرني لعلّنا نتفق ونتعاون. ثم اختلفا وانصرف قرمط عنه، وكان يسمّي نفسه القائم بالحق. وزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج. ثم زحف إليه أحمد بن محمد الطائيّ صاحب الكوفة في العساكر فأوقع بهم وفتك بهم، وتتابعت العساكر في السواد في طلبهم وأبادوهم، وفرّ هو إلى أحياء العرب فلم يجبه أحد منهم، فاختفى في القفر في جبّ بناه واتخذه لذلك، وجعل عليه باب حديد واتخذ بجانبه تنورا سحرا إن أرهقه الطلب فلا يفطن له. ولما اختفى في الجب بعث أولاده في كاب بن دبرة بأنهم من ولد إسماعيل الإمام مستجيرون بهم. ثم دعوا إلى دعوتهم أثناء ذلك وكانوا ثلاثة يحيى وحسين وعلي فلم يجبهم أحد الى ذلك إلّا بنو القليص بن ضمضم بن عليّ بن جناب، فبايعوا ليحيى على أنه يحيى ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الإمام وكنّوه أبا القاسم ولقّبوه الشيخ. ثم حوّل اسمه وادّعى أنه محمد بن عبد الله وأنه كان يكتم هذا الاسم، وأنّ ناقته التي يركبها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 مأمورة ومن تبعها منصور، فزحف إليه سبك مولى المعتضد في العساكر فهزمها، وقتل فسار إليه محمد بن أحمد الطائي في العساكر فانهزمت القرامطة وجيء ببعضهم أسيرا فاحتضره المعتضد وقال: هل تزعمون أن روح الله وأنبيائه تحلّ فيكم فتعصمكم من الزلل، وتوفقكم لصالح العمل، فقال له: يا هذا أرأيت لو حلّت روح إبليس فما ينفعك فاترك ما لا يعنيك إلى ما يعنيك. فقال له: قل فيما يعنيني! فقال له: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوكم العبّاس حي فلم يطلب هذا الأمر ولا بايعه أحد، ثم قبض أبو بكر واستخلف عمر وهو يرى العبّاس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى، وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد، وهذا إجماع منهم على دفع جدّك عنها، فبماذا تستحقّون أنتم الخلافة؟ فأمر المعتضد به فعذّب وخلعت عظامه ثم قطع مرّتين ثم قتل. ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليها طفج مولى ابن طولون سنة تسعين، واستصرخ بابن سيّده بمصر، فجاءت العساكر لإمداده فقاتلهم مرارا وقتل يحيى بن ذكرويه المسمّى بالشيخ في خلق من أصحابه، واجتمع فلّهم على أخيه الحسين وتسمّى أحمد أبا العبّاس وكانت في وجهه شامة يزعم أنها مقدسة، فلقّب صاحب الشامة المهدي أمير المؤمنين، وأتاه ابن عمّه عيسى بن مهدي وهو عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل الإمام ولقبه المدّثر، وعهد إليه، وزعم أنه المذكور في القرآن ولقّب غلاما من أهله المطوّق. ثم دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادي وسار إلى دمشق فحاصرها حتى صالحوه على مال ودفعوه له. ثم سارا إلى حمص وحماة والمعرّة وبعلبكّ، فخطب له بها واستباحها جميعا. ثم إلى سلميّة وبها جماعة من بني هاشم فاستلحمهم حتى الصبيان بالمكاتب والبهائم. ثم خرج المكتفي إليه وقدّم عساكره، فكبسهم ونجا فلّهم إلى حلب، وانتهى المكتفي إلى الرقّة، وقد سار بدر مولى ابن طولون في اتباع القرامطة فهزمهم وأثخن فيهم وبعث المكتفي العساكر مع يحيى بن سليمان الكاتب، وفيهم الحسين بن حمدان من بني تغلب ومعهم بنو شيبان فواقعوا القرامطة سنة إحدى وتسعين فهزموهم، وقتل منهم خلق من أصحاب القرمطيّ ونجا ابنه أبو القاسم ببعض ذخيرته، وسار هو مستخفيا إلى ناحية الكوفة ومعه المدّثر والمطوّق وغلام له، وانتهوا إلى الرّحبة فوشى بهم إلى العامل فقبض عليهم، وبعث بهم إلى المكتفي بالرقّة ورجع إلى بغداد فقطعهم بعد أن ضرب صاحب الشامة مائتي سوط. وأمّا عليّ بن ذكرويه ففرّ بعد مقتل أخيه يحيى على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 دمشق إلى ناحية الفرات، واجتمع إليه فلّ من القرامطة فاستباح طبرية. ثم لما اتّبعهم الحسين بن حمدان فرّ إلى اليمن، واجتمع إليه دعاتهم لك وتغلّب على كثير من مدنه، وقصد صنعاء فهرب عنها ابن يعفر فاستباحها وتجافى عن صعدة لذمّة العلويّة بينه وبين بني الرسي، ونازل بني زياد بن بيد، ومات في نواحي اليمن، وفي خلال ذلك بعث أبوه ذكرويه إلى بني القليص بعد أن كانوا استكانوا وأقاموا بالسماوة، فبعث إليهم من أصحابه عبد الله بن سعيد ويسمّى أبا غانم فجاءهم بكتابه سنة ثلاث وتسعين بأنه أوحى إليه بأن صاحب الشامة وأخاه الشيخ مقبلان، وأن إمامه يظهر من بعدهما ويملأ الأرض عدلا، ويظهر وطاب أبو غانم على إحياء كلب فاجتمع إليه جماعة منهم، وقصد الشام فاستباح بصرى وأذرعات، ونازل دمشق وعاملها يومئذ أحمد بن كيغلغ وهو غائب بمصر في محاربة الجليجي الثائر من شيعة بني طولون على عساكر المكتفي، وقابله خلفاؤه فهزمهم وقتل بعضهم وسار إلى الأردن فقتل عاملها، ونهب طبريّة وبعث المكتفي الحسين بن حمدان في العساكر ففرّ أبو غانم إلى السماوة وغوّر مياهها، واتبعته العساكر إلى أن جهدهم العطش. ثم رجع الحسين بهم إلى الرحبة، وقيل إنهم تقبّضوا على أبي غانم وقتلوه، وافترق جمعهم وذلك سنة ثلاث وتسعين. (ظهور ذكرويه ومقتله) ثم اجتمع القرامطة إلى ذكرويه وأخرجوه من الجب الّذي كان مختفيا فيه منذ عشرين سنة، وحضر عنده دعاتهم فاستخلف عليهم أحمد بن القاسم بن أحمد، وعرّفهم بما له عليهم من المنّة، وأن رشادهم في امتثال أمره، ورمز لهم في ذلك بآيات من القرآن حرّف تأويلها، وسار وهو محتجب يدعونه السيّد ولا يرونه، والقاسم يباشر الأمور ويتولّاها، وبعث المكتفي عساكره فهزمهم القرامطة بالسواد، وغنموا معسكرهم، وساروا لاعتراض الحاج ومرّوا بالصوان، وحاصروا الواقصة فامتنعت عليهم، وطمّوا الآبار والمياه في تلك النواحي وبعث المكتفي محمد بن إسحاق بن كنداج الصهّال ورجعوا. ونهب القرامطة الحاج وقتلوهم بعد أن قاتلوهم ثلاثا على غير ماء فاستسلموا، وغنم أموالهم وأموال التجّار وأموال بني طولون كانوا نقلوها من ابن خلدون م 8 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 مصر إلى مكّة. ثم من مكّة إلى بغداد عند ما أجمعوا النقل إليها. ثم حاصر القرامطة بقية الحاج في حمص، قيل فامتنعوا، وجهّز المكتفي العساكر مع وصيف بن صوارتكين وجماعة من القوّاد، فساروا على طريق خفان، وأدركوا القرامطة فقاتلوهم يومين، ثم هزموهم وضرب ذكرويه على رأسه فانهشم وجيء به أسيرا وبخليفة القاسم وابنه وكاتبه وزوجته، ومات لخمس ليال فسيق شلوه إلى بغداد، وصلب وبعث برأسه إلى خراسان من أجل الحاج الذين نهبهم من أهلها. ونجا الفلّ من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم الحسين بن حمدان واستلحمهم، وتتبعوا بالقتل في نواحي الشام والعراق، وذلك سنة أربع وتسعين وثلاثمائة. (خبر قرامطة البحرين ودولة بني الجنابي منها) وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين جاء إلى القطيعي [1] من البحرين رجل تسمى بيحيى بن المهدي وزعم أنه رسول من المهدي، وأنه قد قرب خروجه وقصد من أهل القطيف علي بن المعلّى بن أحمد الدباديّ، وكان متغاليا في التشيّع فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدي، وشنّع الخبر في سائر قرى البحرين فأجابوا كلّهم، وفيهم أبو سعيد الجنابي واسمه الحسن بن بهرام وكان من عظمائهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدّة ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم ويأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين [2] عن كل رجل فدفعوها. ثم غاب وجاء بكتاب آخر يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا، وقام يتردّد في قبائل قيس. ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبحرين سنة ثلاث وثمانين، واجتمع إليه القرامطة والأعراب، وسار إلى القطيف طالبا البصرة وكان عليها أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي فأدار السور على البصرة، وبعث المعتمد عليّ بن عمر الغنويّ، وكان على فارس فاقطعه اليمامة والبحرين، وضمّ إليه ألفين من المقاتلة وسيّره إلى البصرة فاحتشد وخرج للقاء الجنابيّ ومن معه، ورجع عنه عند اللقاء بنو ضبّة فانهزم وأسره الجنابيّ واحتوى على   [1] لم نجد لها اسم في معجم البلدان ولعلها القطيف كما في الكامل ج 7 ص 493. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 494: «فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلاثين» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 معسكره وحرق الأسرى بالنار. ثم من عليه وأطلقه فسار إلى الأبلّة ومنها إلى بغداد، وسار أبو سعيد إلى هجر فملكها وأمّنها، واضطربت البصرة للهزيمة وهمّ أهلها بالارتحال، فمنعهم الواثقي. ومن كتاب ابن سعيد في خبر قرامطة البحرين ملخّصا من كلام الطبري فلعله كما ذكره قال: كان ابتداء أمر القرامطة سنة ثمان وثلاثمائة فنقل الكلام وكان أبو سعيد يمهد لابنه الأكبر سعيد فلم [1] به وثار به أخوه الأصغر الظاهر سليمان فقتله، وقام بأمرهم وبايعه العقدانية وجاءه كتاب عبيد الله المهدي بالولاية. وفي سنة ست وثمانين وصل أبو القاسم القائم إلى مصر، واستدعى أبا طاهر القرمطي وانتظره فأعجله مؤنس الخادم عن انتظاره وسار من قبل المقتدر فهزمه ورجع إلى المهديّة. ثم سار أبو الطاهر سنة سبع إلى البصرة فاستباحها ورجع واضطربت بغداد، وأمر المقتدر بإصلاح ما تثلّم من سورها. ثم زحف إليها أبو الطاهر سنة إحدى عشرة فاستباحها وخرّب الجامع وتركها خربة. ثم خرج سنة اثنتي عشرة لاعتراض الحاج فأوقع بهم وهزم قوّاد السلطان الذين كانوا معهم، وأسر أميرهم أبا النجاء بن حمدون واستصفى النساء والصبيان وترك الباقي بالبريّة فهلكوا. ثم خرج سنة أربع عشرة إلى العراق فعاث في السواد، ودخل الكوفة وفعل فيها أشدّ من البصرة. وفي سنة أربع عشرة وقع بين العقدانية وأهل البحرين خلاف فخرج أبو الطاهر وبنى مدينة الأحساء وسمّاها المؤمنيّة فلم تعرف إلّا به، وبنى قصره وأصحابه حوله. وفي سنة خمس عشرة استولى على عمان وهرب واليها في البحر الى فارس. وزحف سنة ست عشرة إلى الفرات، وعاث في بلاده. وبعث المقتدر عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وولّاه واسط، وبعثه لحربه فالتقوا بظاهر الكوفة وهزمه أبو طاهر وأسره. وأرجف أهل بغداد، وسار أبو طاهر إلى الأنبار وخرجت العساكر من بغداد لدفاعه مع مؤنس المظفّر وهارون بن غريب الحال فلم يطيقوا دفاعه، وتوافقوا ثم تحاجزوا، وعاد مؤنس إلى بغداد وسار هو إلى الرحبة واستباحها ودوّخ بلاد الجزيرة بسراياه. وسار إلى هشت والكوفة، وقاتل الرقّة فامتنعت عليه، وفرض الإتاوة على أعراب الجزيرة يحملونها إلى هجر، ودخل في دعوته جماعة من بني سليم بن منصور وبني عامر بن صعصعة. وخرج إليه هارون بن غريب الحال فانصرف أبو طاهر إلى   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 84: «وكان ابو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد وهو الأكبر، فعجز عن الأمر، فغلبه اخوه الأصغر ابو طاهر سليمان وكان شهما شجاعا .... » . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 البرّية وظفر هارون بفريق منهم فقتلهم وعاد إلى بغداد. وفي سنة سبع عشرة هجم على مكّة وقتل كثيرا من الحاج ومن أهلها ونهب أموالهم جميعا وقلع باب البيت والميزاب، وقسّم كسوة البيت في أصحابه، واقتلع الحجر الأسود وانصرف به وأراد أن يجعل الحج عنده، وكتب إليه عبيد الله المهدي من القيروان يوبّخه على ذلك، ويتهدّده، فكتب إليه بالعجز عن ردّه من الناس ووعد بردّ الحجر، فردّه سنة تسع وثلاثين بعد أن خاطبه منصور إسماعيل من القيروان في ردّه فردّوه، وقد كان الحكم المتغلّب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفا من الذهب على أن يردّوه فأبوا، وزعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيد الله، وإنما يردّونه بأمره وأمر خليفته. وأقام ابو طاهر بالبحرين وهو يتعاهد العراق والشام بالغزو حتى ضربت له الإتاوة ببغداد وبدمشق على بني طفج. ثم هلك أبو طاهر سنة اثنتين وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه، ومات عن عشرة من الولد كبيرهم سابور، وولّى أخوه الأكبر أحمد بن الحسن، واختلف بعض العقدانية عليه ومالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر، وكاتبو القائم في ذلك فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد، وأن يكون الولد سابور وليّ عهده، فاستقرّ أحمد في الولاية عليهم وكنّوه أبا منصور، وهو الّذي ردّ الحجر الأسود إلى مكانه كما قلناه. ثم قبض سابور على عمّه أبي منصور فاعتقله بموافقة إخوته له على ذلك وذلك سنة ثمان وخمسين. ثم ثار بهم أخوه فأخرجه من الاعتقال وقتل سابور ونفى إخوته وأشياعهم إلى جزيرة أوال. ثم هلك أبو منصور سنة تسع وخمسين يقال مسموما على يد شيعة سابور، وولي ابنه أبو عليّ الحسن بن أحمد ويلقّب الأعصم، وقيل الأغنم فطالت مدّته وعظمت وقائعه ونفى جمعا كثيرا من ولد أبي طاهر، يقال اجتمع منهم بجزيرة أوال نحو من ثلاثمائة، وحجّ هذا الأعصم بنفسه ولم يتعرّض للحاج ولا أنكر الخطبة للمطيع. (فتنة القرامطة مع المعز العلويّ) ولما استولى جوهر قائد المعز لدين الله على مصر وجعفر بن فلاح الكتامي على دمشق طالب الحسن بالضريبة التي كانت له على دمشق فمنعوه ونابذوه، وكتب له المعز وأغلظ عليه ودسّ لشيعة أبي طاهر وبنيه أنّ الأمر لولده، وأطلع الحسن على ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 فخلع المعز سنة اثنتين وثلاثمائة وخطب للمطيع العباسيّ في منابره ولبس السواد. ثم زحف إلى دمشق وخرج جعفر بن فلاح لحربه، فهزمه الأعصم وقتله، وملك دمشق وسار إلى مصر فحاصر جوهرا بها وضيّق عليه. ثم غدر به العرب واجفلوا فأجفل معهم وعاد إلى الشام ونزل الرملة، وكتب إليه المعزّ سنة إحدى وستين بالنفي والتوبيخ، وعزله عن القرامطة وولّى بني أبي طاهر فخرجوا من أوال ونهبوا الأحساء في غيبته، وكتب إليهم الطائع العبّاسيّ بالتزام الطاعة، وأن يصالحوا ابن عمّهم ويقيموا بجزيرة أوال وبعث من أحكم بينهم الصلح. ثم سار الأعصم إلى الشام وتخطّاها دون صور فقاتلوه وراء الخنادق، وبذل جوهر المال للعرب فافترقوا عنه، وانهزم ونهب معسكره. وجاء المعزّ من إفريقية ودخل القاهرة سنة ثلاث وستين وسرّح العساكر إلى الشام فاستولوا عليه، فنهض الأعصم إليهم فأوقع بهم، وأثخن فيهم، وانتزع ما ملكوه من الشام، وسار إلى مصر وبعث المعزّ لدين الله ابنه عبد الله فلقيهم على بلبيس وانهزم الأعصم وفشا القتل والأسر في أصحابه فكانوا نحوا من ثلاثة آلاف، ورجع الأعصم إلى الأحساء واستخلص المعزّ بني الجرّاح أمراء الشام من طيِّئ حتى استرجع بهم ما غلب عليه القرامطة من الشام بعد حروب وحصار. ثم مات المعزّ سنة خمس وستين، وطمع الأعصم في بلاد الشام، وكان أفتكين التركي مولى معزّ الدولة بن بويه لما انتقض على أبيه بختيار وهزمه ببغداد، سار أفتكين منهزما إلى دمشق، وكانوا مضطرين فخرجوا إليه وولّوه عليهم، وصالح المعزّ إلى أن توفّي فنابذ العزيز وبعث إليه جوهر في العساكر فحاصره، فكتب أفتكين إلى الأعصم واستدعاه فجاء إلى الشام سنة ست وستين. وخرج معه أفتكين، ونازلوا الرملة فملكوها من يد جوهر، وزحف إليهم العزيز وهزمهم، وتقبض على أفتكين، ولحق الأعصم بطبريّة منهزما. ثم ارتحل منها إلى الأحساء وأنكروا ما فعله الأعصم من البيعة لبني العبّاس، واتفقوا على إخراج الأمر عن ولد أبي سعيد الجنابي، وقدّموا رجلين منهم وهما جعفر وإسحاق وسار بنو أبي سعيد إلى جزيرة أوال. وكان بنو أبي طاهر قبلهم فقتلوا كل من دخل إليهم من ولد أحمد بن أبي سعيد وأشياعه. ثم قام بأمر القرامطة جعفر وإسحاق هذان ورجعوا إلى دعوة العلويّة ومحاربة بني بويه، ورجعوا سنة أربع وستين إلى الكوفة فملكوها. وبعث صمصام الدولة بن بويه العساكر إليهم فهزمهم على الفرات وقتل منهم خلق واتبعوهم إلى القادسية. ثم اختلف جعفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وإسحاق وطمع كل منهما في الرئاسة على صاحبه، وافترق أمرهم وتلاشت دعوتهم إلى أن استولى الأصغر بن أبي الحسن الثعلبي سنة ثمان وتسعين عليهم، وملك الأحساء من أيديهم وأذهب دولتهم وخطب للطائع واستقرت الدولة له ولبنيه. (ذكر المتغلّبين بالبحرين من العرب بعد القرامطة) كان بأعمال البحرين خلق من العرب، وكان القرامطة يستنجدونهم على أعدائهم ويستعينون بهم في حروبهم، وربّما يحاربونهم ويقاطعونهم في بعض الأوقات، وكان أعظم قبائلهم هنالك بنو ثعلب وبنو عقيل وبنو سليم، وأظهرهم في الكثرة والعزّة بنو ثعلب. ولما فشلت دولة القرامطة بالبحرين واستحكمت العداوة بينهم وبين بني بويه بعد انقراض ملك بني الجنابي، وعظم اختلافهم عند القائم بدعوة العبّاسية وكان خالصة [1] للقرامطة ودعاه إلى إذهاب دولتهم فأجابه، وداخل بني مكرم رؤساء عمان في مثل ذلك فأجابوه، واستولى الأصغر على البحرين وأورثها بنيه، واستولى بنو مكرم على عمان ثم غصّ بنو ثعلب بسليم واستعانوا عليهم ببني عقيل وطردوهم من البحرين، فساروا إلى مصر ومنها كان دخولهم إلى إفريقية كما يأتي. ثم اختلف بنو ثعلب وبنو عقيل بعد مدّة وطردهم بنو ثعلب إلى العراق فملكوا الكوفة والبلاد العراقيّة، وامتدّ ملك الأصغر وطالت أيامه، وتغلّب على الجزيرة والموصل وحارب بني عقيل سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة برأس عين من بلاد الجزيرة، وغصّ بشأنه نصير الدولة بن مروان صاحب ميافارقين وديار بكر فقام له، وجمع له الملوك من كل ناحية فهزمه واعتقله، ثم أطلقه ومات وبقي الملك متوارثا في بنيه بالبحرين إلى أن ضعفوا وتلاشوا، وانقرضت دولة بني عقيل بالجزيرة، وغلبهم عليها وعلى تلك البلاد أولياء الدولة السلجوقيّة، فتحوّلوا عنها إلى البحرين مواطنهم الأولى، ووجدوا بني ثعلب قد أدركهم الهرم، فغلبوا عليهم. قال ابن سعيد: سألت أهل البحرين حين لقيتهم بالمدينة النبويّة سنة إحدى وخمسين وستمائة عن البحرين، فقالوا: الملك فيها لبني   [1] هو خالصيّ وخلصاني. وفلان خلصني كما تقول خدني، وخلصاني أي خالصي إذا خلصت مودتهما (لسان العرب) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 عامر بن عوف بن عامر بن عقيل وبنو ثعلب من جملة رعاياهم وبنو عصفور منهم أصحاب الأحساء. (ولنذكر) هنا نبذة في التعريف بكاتب القرامطة وأمصار البحرين وعمان لما أنّ ذلك من توابع أخبارهم. (الكاتب) : كان كاتبهم أبو الفتح الحسين بن محمود ويعرف بكشاجم، كان من أعلام الشعراء، وذكره الثعالبي في اليتيمة والحصريّ في زهر الآداب، وهو بغدادي المولد واشتهر بخدمة القرامطة فيما ذكره البيهقي وكتب لهم بعده ابنه أبو الفتح نصر، ولقبه كشاجم مثل أبيه وكان كاتبا للأعصم. (البحرين) : إقليم يسمّى باسم مدينته، ويقال هجر باسم مدينة أخرى منه كان حضريّة، فخرّبها القرامطة وبنو الأحساء وصارت حاضرة، وهذا الإقليم مسافة شهر على بحر فارس بين البصرة وعمان، شرقيّها نجر فارس، وغربيّها متصل باليمامة، وشماليها البصرة وجنوبها بعمان، كثيرة المياه ببطونها على القامة والقامتين، كثيرة البقل والفواكه، مفرطة الحرّ منهالة الكثبان، يغلب الرمل عليهم في منازلهم وهي من الإقليم الثاني، وبعضها في الثالث، كانت في الجاهلية لعبد القيس وبكر بن وائل من ربيعة، وملكها للفرس، وعاملها من قبلهم المنذر بن ساوي التميميّ. ثم صارت رياستها صدر الإسلام لبني الجارودي ولم يكن ولاة بني العبّاس ينزلون هجر إلى أن ملكها أبو سعيد القرمطيّ بعد حصار ثلاث سنين، واستباحها قتلا وإحراقا وتخريبا. ثم بنى أبو طاهر مدينة الأحساء، وتوالت دولة القرامطة وغلب على البحرين بنو أبي الحسن بن ثعلب، وبعدهم بنو عامر بن عقيل. قال ابن سعيد والملك الآن فيهم في بني عصفور. (الأحساء) بناها أبو طاهر القرمطيّ في المائة الثالثة، وسمّيت بذلك لما فيها من أحساء المياه في الرمال، ومراعي الإبل، وكانت للقرامطة بها دولة، وجالوا في أقطار الشام والعراق ومصر والحجاز وملكوا الشام وعمان. (دارين) هي من بلاد البحرين ينسب إليها الطيب كما تنسب الرماح إلى الخطّ بجانبها فيقال مسك دارين والرماح الخطّيّة. (عمان) وهي من ممالك جزيرة العرب المشتملة على اليمن والحجاز والشحر وحضر موت وعمان وهي خامسها، إقليم سلطاني منفرد على بحر فارس من غربيه مسافة شهر، شرقيها بحر فارس وجنوبيها بحر الهند، وغربيها بلاد حضر موت، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وشماليها البحرين، كثيرة النخل والفواكه وبها مغاص اللؤلؤ، سمّيت بعمان بن قحطان، أوّل من نزلها بولاية أخيه يعرب، وصارت بعد سيل العرم للأزد. وجاء الإسلام وملوكها بنو الجلندي، والخوارج بها كثيرة. وكانت لهم حروب مع عمّال بني بويه وقاعدتهم تروى، وملك عمان من البحر ملوك فارس غير مرّة، وهي في الإقليم الثاني، وبها مياه وبساتين وأسواق، وشجرها النخل. وكانت بها في الإسلام دولة لبني شامة بن لؤيّ بن غالب. وكثير من نسّابة قريش يدفعونهم عن هذا النسب، أوّلهم بها محمد بن القاسم الشامي، بعثه المعتضد أعانه ففتحها وطرد الخوارج إلى تروى قاعدة الجبال، وأقام الخطبة لبني العبّاس وتوارث ذلك بنوه، وأظهروا شعار السنّة. ثم اختلفوا سنة خمس وثلاثمائة وتحاربوا، ولحق بعضهم بالقرامطة، وأقاموا في فتنة إلى أن تغلّب عليهم أبو طاهر القرمطيّ سنة سبع عشرة عند اقتلاعه الحجر وخطب بها لعبيد الله المهدي وتردّدت ولاة القرامطة عليها من سنة سبع عشرة الى سنة خمس وسبعين. فترهّب واليها منهم، وزهد وملكها أهل تروى الخوارج وقتلوا من كان بها من القرامطة والروافض، وبقيت في أيديهم ورياستها للأزد منهم. ثم سار بنو مكرم من وجوه عمان إلى بغداد، واستخدموا لبني بويه وأعانوهم بالمراكب من فارس، فملكوا مدينة عمان وطردوا الخوارج إلى جبالهم، وخطبوا لبني العبّاس. ثم ضعفت دولة بني بويه ببغداد فاستبدّ بنو مكرم بعمان وتوارثوا ملكها، وكان منهم مؤيد الدولة أبو القاسم عليّ بن ناصر الدولة الحسين بن مكرم، وكان ملكا جوادا ممدوحا. قاله البيهقي ومدحه مهيار الديلميّ وغيره، ومات سنة ثمان وعشرين وأربعمائة بعد مدّة طويلة في الملك. وفي سنة اثنتين وأربعين ضعف ملك بني مكرم وتغلّب عليهم النساء والعبيد، فزحف إليها الخوارج وملكوها، وقتلوا بقيتهم وانقطع منها رسم الملك، وصار في حجار من مدر هذا الإقليم قلهات هي عرصة عمان على بحر فارس من الإقليم الثاني ومما يلي الشحر وحجاز في شماليها إلى البحرين بينهما سبع مراحل، وهي في جبال منيعة، فلم تحتج إلى سور، وكان ملكها سنة ثمان وأربعين زكريا بن عبد الملك الأزدي من ذريّة رياسة. وكان الخوارج بتروى مدينة الشراة يدينون لهم، ويرون أنهم من ولد الجلندي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 الخبر عن الإسماعيلية أهل الحصون بالعراق وفارس والشام وسائر أمورهم ومصايرها هذا المذهب هو مذهب القرامطة وهم غلاة الرافضة، وهو على ما رأيته من الاضطراب والاختلاف. ولم يزل متناقلا في أهله بأنحاء العراق وخراسان وفارس والشام. واختلف بعضهم باختلاف الأعصار والأمصار، وكانوا يدعون أوّلا قرامطة. ثم قيل لهم بالعراق باطنيّة، ثم الإسماعيلية، ثم النزاريّة لما حدث من عهد المستضيء العلويّ لابنه نزار، وقتله شيعتهم بمصر، ولم يبايعوا له، وكان عنده ابن الصبّاح من هؤلاء الإسماعيلية، ونفى الإمامة بعده عن أئمتهم بمصر فسمّوا أصحابه لذلك نزاريّة. وكان هذا المذهب بعد موت ذكرويه وانحلال عقدتهم، بقي منبثّا في الأقطار ويتناوله أهله، ويدعون إليه ويكتمونه، ولذلك سمّوا الباطنيّة، وفشت أذيتهم بالأمصار بما كانوا يعتقدونه من استباحة الدماء، فكانوا يقاتلون الناس ويجتمع لذلك جموع منهم يكمنون في البيوت ويتوصّلون إلى مقاصدهم من ذلك. ثم عظمت أمورهم أيام السلطان ملك شاه عند ما استمر الملك للعجم من الديلم والسلجوقيّة وعقل الخلفاء وعجزوا عن النظر في تحصين إمامتهم، وكفّ الغوائل عنها، فانتشروا في هذه العصور وربما اجتمع منهم جماعة بساوة بانحاء همذان، فصلّوا صلاة العيد بأنحائهم فحبسهم الشحنة، ثم أطلقهم. ثم استولوا بعد ذلك على الحصون والقلاع فأوّل قلعة غلبوا عليها قلعة عند فارس كان صاحبها على مذهبهم، فأووا إليه واجتمعوا عنده، وصاروا يخطفون الناس من السابلة وعظم ضررهم بتلك النواحي. ثم استولوا على قلعة أصفهان واسمها شاه در، كان السلطان شاه بناها وأنزل بها عامله، فاتصل به أحمد بن غطاش، كان أبوه من مقدّمي الباطنيّة وعنه أخذ ابن الصبّاح وغيره منهم، وكان أحمد هذا عظيما فيهم لمكان أبيه ورسوخه في العلم بينهم، فعظّموه لذلك وتوّجوه وجمعوا له مالا وقدّموه عليهم، واتصل بصاحب القلعة فآثر مكانه وقلّده الأمور حتى إذا توفي استولى أحمد بن غطاش على قلعة شاه در، وأطلق أيدي أصحابه في نواحيها يخيفون السابلة من كل ناحية. ثم استولوا على قلعة الموت من نواحي قزوين وهي من بنيان الديلم، ومعنى هذا الاسم عندهم تميل العقاب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 ويقال لتلك الناحية طالقان، وكانت في ضمان الجعفري، فاستناب بها علويا وكان بالري أبو مسلم صهر نظام الملك، واتصل به الحسن بن الصبّاح، وكان بينهم عالما بالتعاليم والنجوم والسحر، وكان من جملة تلامذة ابن غطاش صاحب قلعة أصفهان، ثم اتهمه أبو مسلم بجماعة من دعاة المصريّين عنده فهرب منه وجال في البلاد وانتهى إلى مصر فأكرمه المستنصر وأمره بدعاء الناس إلى إمامته، وقال له الحسن من الإمام بعدك فأشار إلى ابنه نزار، وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم، ورجع إلى خراسان بقلعة الموت فنزل على العلويّ، فأكرمه واعتقد البركة فيه، وأقام بها وهو يحاول إحكام أمره في تملّكها، فلما تمّ له من ذلك ما أراد أخرج العلويّ منها وملكها. واتصل الخبر بنظام الملك فبعث العسكر لحصارها فجهده الحصار، وبعث جماعة من الباطنيّة فقتلوا نظام الملك، ورجعت العساكر واستولوا أيضا على قلعة طبس وما جاورها من قلاع قوهستان وهي زرون وقائد. وكان رئيس قوهستان المنوّر من أعقاب بني سيجور أمراء خراسان للسامانية، فطلبه عامل قوهستان وأراد اغتصاب أخته، فاستدعى الإسماعيلية وملّكهم هذه القلاع، واستولوا على قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصفهان كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك، وانتقلت إلى جاولي سقاور من أمراء الغزّ، وولّى عليها بعض الترك فاتصل به بعض الباطنيّة وخدمه، وأهدى له حتى صارت مفاتيح القلعة في يده، فدسّ لابن غطاش في قلعة شاه در فجاء في جمع من أصحابه ليلا، وهرب التركي فملكها وقتل من كان بها وقوي بها على أهل أصفهان، وفرض عليهم القطائع. ومن قلاعهم أسويا وندبين الرمل وآمد، ملكوها بعد ملك شاه غدرا، ومنها أزدهر ملكها ابو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصبّاح. ومنها كردكوه ومنها قلعة الناظر بخوزستان وقلعة الطنبور قرب أرّجان ملكها أبو حمزة الإسكاف من أهل ارّجان، وقد كان سافر إلى مصر فأخذ بمذهبهم ورجع داعية لهم. ومنها قلعة ملاوخان بين فارس وخوزستان امتنع بها المفسدون نحوا من مائتي سنة لقطع الطريق، حتى فتحها عضد الدولة بن بويه، وقتل من بها. فلما ملك ملك شاه أقطعها للأمير أنز، فولّى عليها من قبله وداخله الباطنيّة الذين من أرّجان في بيعها منهم فأبى، فقالوا نرسل إليك من يناظرك حتى نرى الحق في مذهبنا، وبعثوا إليهم رجالا منهم فاعتقلوا مملوكه حتى سلّم لهم مفاتيح القلعة، وقبضوا على صاحبها وقويت شوكتهم. وامتدّت أيدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 الناس إلى قتلهم واعتقدوا جهادهم وثاروا بهم في كل وجهة فقتلوهم وقتلتهم العامة بأصفهان، وكانوا قد ظهروا بها عند محاصرة السلطان بركيارق أصفهان وبها أخوه محمد وأمّه خاتون الجلاليّة، وفشت فيها دعوتهم وكثر فيها الاغتيال من أتباعهم فثاروا بهم، وقتلوهم وحفروا الأخاديد وأوقدوها بالنيران، وجعلوا يأتون بالباطنية فيلقونهم فيها، وتجرّد جاولي سقاور، وكان واليا بفارس للجهاد فيهم، وتحيّل عليهم بجماعة من أصحابه أظهروا الهروب إليهم فأوثقوا [1] بهم وسار هو من بعد ذلك إلى همذان فأغزاهم. ثم صار الباطنيّة من بعد ذلك إلى همذان لقتل أمراء السلجوقيّة غدرا فكان يقصد أحدهم أميرا من هؤلاء وقد استبطن خنجرا واستمات. حملهم على ذلك السلطان بركيارق، واستعان بهم على أمر أخيه فكان أحدهم يعرض نفسه بين يدي الأمير حتى يتمكّن من طعنه فيطعنه، ويهلك غالبا ويقتل الباطني لوقته، فقتلوا منهم كذلك جماعة، ولما ظهر بركيارق على أخيه محمد انتشروا في عسكره واستعانوا بطائفة منهم، وتهدّدوا بالقتل على ذلك حتى ارتاب أمراء العسكر بأنفسهم، وخافوا عاديتهم ولازموا حمل السلاح، وشكوا إلى بركيارق بذلك وبما يلقونه منهم ومن عسكر أخيه فيما يرمونهم به من الاتحاد بهؤلاء الباطنية فأذن في قتلهم، وركب والعسكر معه فتتبعوهم بالقتل، حتى أن الأمير محمدا من أعقاب علاء الدولة بن كاكويه، وكان صاحب مدينة يزد أتّهم برأيهم فهرب وقتل. وكتب إلى بغداد في أبي إبراهيم الأستراباذيّ وكان بركيارق بعثه رسولا فأخذ هنالك وقتل، واستلحموا في كلّ جهة واستلحم المتّهمون وانطلقت عليهم الأيدي في كل ناحية وذلك سنة ست وثمانين. ولما استفحل أمر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق زحف إلى قلعة شاه در التي بها أحمد ابن غطاش لقربها من أصفهان سرير ملكه، فجمع العساكر والأمم وخرج في رجب من أول المائة السادسة، وأحاط بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ، ورتّب الأمراء لقتالها نوبا. ولما اشتدّ الأمر بهم سألوا فتوى الفقهاء في أمرهم وكتبوا ما نصّه: ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون باللَّه واليوم الآخر وكتبه ورسله، وأنّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم حق وصدق، وإنما يخالفون في الإمام هل يجوز للسلطان مساعدتهم ومراعاتهم وأن يقبل طاعتهم وبحرسهم من كل أذى أم لا؟   [1] الصحيح ان يقول: ووثقوا بهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقّف بعضهم وجمعوا للمناظرة، فقال السمنجاني من كبار الشافعيّة: يجب قتالهم ولا يجوز إقرارهم بمكانهم ولا ينفعهم التلفّظ بالشهادتين، فإنّهم لا يرون مخالفة إمامهم إذا خالف أحكام الشرع، وبذلك تباح دماؤهم إجماعا، وطالت المناظرة في ذلك. ثم سألوا أن يأتيهم من العلماء من يناظرهم وعيّنوا أعيانا من أصفهان، وقصدوا بذلك المطاولة والتعلّل، فبعثهم السلطان إليهم فعادوا من غير شيء، فاشتدّ السلطان إليهم في حصارهم واستأمنوا على أن يعوّضوا عن قلعتهم بقلعة خالنجان على سبعة فراسخ من أصفهان، وأن يؤجّلوا في الرحيل شهرا فأجابهم، وأقاموا في تلك المدّة يجمعون ما يقدرون عليه من الأطعمة ووثبوا على بعض الأمراء وسلم منهم فجدّد السلطان حصارهم وطلبوا أن ينتقلوا إلى قلعة الناظر وطبس، ويبعث السلطان معهم من يوصلهم ويقيم الباقون بضرس من القلعة إلى أن يصل الأوّلون، ثم يبعث مع الآخرين من يوصلهم إلى ابن الصبّاح بقلعة الموت فأجابهم إلى ذلك، وخرج الأوّلون إلى الناظر وطبس، وخرّب السلطان القلعة، وتمسّك ابن غطاش بالضرس الّذي هو فيه، وعزم على الاعتصام به، وزحف إليه الناس عامّة وهرب بعضهم إلى السلطان، فدلّه على عورة المكان، فصعدوا إليه وقتلوا من وجدوا فيه، وكانوا ثمانين، وأخذا ابن غطاش أسيرا فسلخ وحشي جلده تبنا، وقتل ابنه وبعث برأسهما إلى بغداد، وألقت زوجه نفسها من الشاهق فهلكت. (خبر الإسماعيلية بالشام) لما قتل أبو إبراهيم الأستراباذيّ ببغداد كما تقدّم هرب بهرام ابن أخيه إلى الشام وأقام هنالك داعية متخفيا، واستجاب له من الشام خلق. وكان الناس يتبعونهم لكثرة ما اتصفوا به من القتل غدرا. وكان أبو الغازي بن أرتق بحلب يتوصل بهم إلى غرضه في أعدائه، وأشار أبو الغازي على ابن طغتكين الأتابك بدمشق بمثل ذلك فقبل رأيه، ونقل إليه فأظهر حينئذ شخصه، وأعلن بدعوته وأعانه الوزير أبو علي ظاهر بن سعد المزدغاني، لمصلحتهم فيه فاستفحل أمره، وكثر تابعوه، وخاف من عامّة دمشق فطلب من ابن طغتكين ووزيره أبي علي حصنا يأوي إليه، فأعطوه قلعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 بانياس سنة عشرين وخمسمائة، وترك بدمشق خليفة له يدعو الناس إلى مذهبة فكثروا وانتشروا، وملك هو عدّة حصون في الجبال منها القدموس وغيره. وكان بوادي التيم من أعمال بعلبكّ طوائف من المجوس والنصرانيّة والدرزيّة وأميرهم يسمّى الضحّاك، فسار بهرام لقتالهم سنة اثنتين وعشرين، واستخلف على بانياس إسماعيل من أصحابه، ولقيهم الضحّاك في ألف رجل وكبس عسكره فهزمهم وقتله [1] وعاد فلّهم إلى بانياس، فأقام بأمرهم إسماعيل وجمع شملهم وبثّ دعاته في البلاد، وعاضده المزدغاني وزير دمشق وانتصر لهذه الطائفة، وأقام بدمشق خليفة لبهرام اسمه أبو الوفاء فقوي أمره، وكثر أتباعه. واستبدّ على صاحبها تاج الملوك بن طغتكين. ثم ان المزدغاني راسل الفرنج أن يملكهم دمشق على أن يعطوه صور، وتواعدوا ليوم عينوه، ودسّ للإسماعيليّة أن يكونوا ذلك اليوم على أهبة، ونمي الخبر إلى إسماعيل فخاف أن يثور به الناس فأعطى بانياس للفرنج، وانتقل إليهم ومات سنة أربع وعشرين، وكان للإسماعيلية قلاع في تلك الجهات تتصل بعضها ببعض أعظمها قلعة مصيات [2] فسار صلاح الدين لما ملك الشام سنة اثنتين وسبعين إليها وحاصر مصيات وضيّق حصارها، وبعث سنان مقدّم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين بحماة، وهو شهاب الدين الحمادي أن يسأل صلاح الدين في الصلح معهم ويتهدّدونه على ذلك سرا، فسار إلى صلاح الدين وأصلح أمرهم عنده ورحل عنهم. (بقية الخبر عن قلاع الإسماعيلية بالعراق) ولم تزل قلاع هؤلاء الإسماعيلية بالعراق عشّا لهذه الغواية، وسفطا لهؤلاء الخباث، منذ ثار بها أحمد بن غطاش والحسن بن الصبّاح، وكان لهذا الحسن مقالات في مذاهب الرافضة غريقة في الغلوّ داخلة من باب الكفر وتسميها الرافضة المقالات الجديدة، ولا يدين بقبولها إلا الغلاة منهم. وقد ذكرها الشهرستاني في كتاب الملل   [1] الضمير يعود الى بهرام [2] وفي نسخة اخرى مصياف وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان مصياب وهو حصن حصين للإسماعيلية بالساحل الشامي قرب طرابلس، وبعض الناس يقول مصياف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 والنحل فعليك به إن أردت معرفتها. وبقي الملوك يقصدونهم بالجهاد لما اشتهر عنهم من الضّرر بالاغتيال. ولما افترق أمر السلجوقيّة واستبد ايتغمش بالريّ وهمذان، سار إليهم سنة ثلاث وستمائة إلى قلاعهم المجاورة لقزوين فحاصرها، وفتح منها خمس قلاع، واعتزم على حصار قلعة الموت فعرض له ما شغله عن ذلك، ثم زحف إليهم جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين خوارزم شاه عند ما رجع من الهند، وملك بلاد أذربيجان وأرمينية، فقتلوا بعض أمرائه بمثل قتلهم فسار إلى بلادهم ودوّخ نواحي الموت وقد مرّ ذكره. وقلاعهم التي بخراسان خرّبها واستباحها قتلا ونهبا وكانوا منذ ظهر التتر قد شرهوا على الجهات فأوقع بهم جلال الدين هذه الواقعة سنة أربع وعشرين وستمائة، وكفحهم عما سموا إليه من ذلك. ولما استفحل أمر التتر سار هولاكو أعوام الخمسين والستمائة من بغداد وخرّب قلاعهم، وزحف الظاهر بعد ذلك إلى قلاعهم التي بالشام فخرّب كثيرا منها وطوّع ما بقي منها، وصارت مصيات وغيرها في طاعته وانقرض أمرهم إلّا مغتالين يستعملهم الملوك في قتل أعدائهم على البعد غدرا، ويسمون الفداويّة أي الذين يأخذون فدية أنفسهم على الاستماتة في مقاصد من يستعملهم. والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن دولة بني الأخيضر باليمامة من بني حسن) كان موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنّى بن الحسن السبط لما اختفى أخواه محمد وإبراهيم، طالبه أبو جعفر المنصور بإحضارهما فضمن له ذلك. ثم اختفى وعثر عليه المنصور فضربه ألف سوط، فلما قتل أخوه محمد المهدي بالمدينة اختفى موسى الجون إلى أن هلك. وكان من عقبه إسماعيل وأخوه محمد الأخيضر ابنا يوسف بن إبراهيم بن موسى، فخرج إسماعيل في أعراب الحجاز وتسمّى السفّاك سنة إحدى وخمسين ومائتين. ثم قصد مكّة فهرب عاملها جعفر بسباسات، وانتهب منزله ومنازل أصحاب السلطان، وقتل جماعة من الجند وأهل مكّة وأخذ ما كان حمل للإصلاح من المال، وما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضّة، وأخذ كسوة الكعبة وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار. ثم نهبها وأخرق بعضها بعضا، وأقام في ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 خمسين يوما. ثم سار إلى المدينة فتوارى عاملها وحاصرها حتى مات أهلها جوعا، ولم يصلّ أحد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصل عساكر المعتزّ إلى المدينة فأفرج عنها ورجع إلى مكّة وحاصرها حتى جهدها الحصار، ورحل بعد مقامة شهرين إلى جدة فأخذ أموال التجّار ونهب ما في مراكبهم ورجع إلى مكّة، وقد وصل إليها محمد بن عيسى بن المنصور وعيسى بن محمد المخزومي بعثهما المعتز لقتاله فتواقعوا بعرفة، واقتتلوا وقتل من الحاج نحو ألف، وسلبوا الناس وهربوا إلى مكّة، وبطل الموقف إلا إسماعيل وأصحابه وخطب لنفسه. ثم رجع إلى جدّة واستباحوها [1] ثانية. ثم هلك لسنة من خروجه بالجدري آخر سنة اثنتين وخمسين أيام حرب المستعين والمعتز. وكان يتردّد بالحجاز منذ اثنتين وعشرين سنة، ومات ولم يعقب، وولي مكانه أخوه محمد الأخيضر وكان أسنّ منه بعشرين سنة، ونهض إلى اليمامة فملكها، واتخذ قلعة الحصرميّة، وكان له من الولد محمد وإبراهيم وعبد الله ويوسف. وهلك فولي بعده ابنه يوسف، وأشرك ابنه إسماعيل معه في الأمر مدّة حياته. ثم هلك وانفرد إسماعيل بملك اليمامة وكان له من الإخوة الحسن وصالح ومحمد بنو يوسف. فلما هلك إسماعيل ولي من بعده أخوه الحسن، وبعده ابنه أحمد بن الحسن. ولم يزل ملكها فيهم إلى أن غلب عليهم القرامطة، وانقرض أمرهم والبقاء للَّه. وكان بمدينة غانة من بلاد السودان بالمغرب مما يلي البحر المحيط ملك بني صالح، ذكرهم صاحب كتاب زجار في الجغرافيا. ولم نقف على نسب صالح هذا من خبر يعوّل عليه. وقال بعض المؤرخين أنه صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله الملقّب أبا الكرام بن موسى الجون، وأنه خرج أيام المأمون بخراسان، وحمل إليه وحبسه وابنه محمد من بعده، ولحق بنوه بالمغرب فكان لهم ملك في بلد غانة. ولم يذكر ابن حزم في أعقاب موسى الجون صالحا هذا بهذا النسب، ولعلّه صالح الّذي ذكرناه آنفا في ولد يوسف بن محمد الأخيضر والله أعلم.   [1] الأصح ان يقول: ثم رجعوا واستباحوها، أو ثم رجع- ويعني إسماعيل- واستباحها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 (الخبر عن دولة السليمانيين من بني الحسن بمكة ثم بعدها باليمن ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم) مكّة هذه أشهر من أن نعرّف بها أو نصفها، إلا أنه لمّا انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلويّة مرّة بعد أخرى، فأقفرت من قريش ولم يبق بها إلا أتباع بني حسن أخلاط من الناس، ومعظمهم موال سود من الحبشة والديلم. ولم يزل العمّال عليها من قبل بني العبّاس وشيعتهم والخطبة لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين والمعتز وما بعدهما، فحدثت الرئاسة فيها لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنّى بن الحسن السبط. وكان كبيرهم آخر المائة الثانية محمد بن سليمان وليس هو سليمان بن داود لأنّ ذلك ذكره ابن حزم أنه قام بالمدينة أيام المأمون، وبين العصرين نحو من مائة سنة، سنة إحدى وثلاثمائة أيام المقتدر، وخلع طاعة العبّاسية، وخطب في الموسم فقال: الحمد للَّه الّذي أعاد الحق إلى نظامه، وأبرز زهر الإيمان من أكمامه، وكمّل دعوة خير الرسل بأسباطه لا بني أعمامه صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وكفّ عنّا ببركته أسباب المعتدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين، ثم أنشد: لأطلبن بسيفي ... ما كان للحقّ دينا وأسطونّ بقوم ... بغوا وجاروا علينا يعدون كل بلاد ... من العراق علينا وكان يلقّب بالزبيدي نسبة إلى نحلته من مذاهب الإمامية، وبقي ركب العراق يتعاهد مكة إلى أن اعترضه أبو طاهر القرمطيّ سنة اثنتي عشرة، وأسر أبا الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة وجماعة معه، وقتل الحجّاج وترك النساء والصبيان بالقفر فهلكوا، وانقطع الحاج من العراق بسبب القرامطة. ثم أنفذ المقتدر سنة سبع عشرة منصور الديليّ من مواليه فوافاه يوم التروية بمكّة أبو طاهر القرمطي فنهب الحاج، وقتلهم حتى في الكعبة والحرم، وامتلأ زمزم بالقتل، والحجّاج يصيحون: كيف يقتل جيران الله؟ فيقول: ليس بجار من خالف أوامر الله ونواهيه. ويتلو: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. وكان يخطب لعبيد الله المهدي صاحب إفريقية. ثم قلع الحجر الأسود وحمله إلى الأحساء وقلع باب البيت وحمله، وطلع رجل يقلع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 الميزاب فسقط ومات، فقال: اتركوه فإنه محروس حتى يأتي صاحبه يعني المهدي، فكتب إليه ما نصّه: والعجب من كتبك إلينا ممتنا علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرّم إراقة الدماء فيها، وإهانة أهلها. ثم تعدّيت ذلك وقلعت الحجر الّذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك، ورجوت أن نشكرك فلعنك الله ثم لعنك والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفعل في يومه ما عمل فيه حساب غده انتهى. فانحرفت القرامطة عن طاعة العبيديّين لذلك. ثم قتل المقتدر على يد مؤنس سنة عشرين وثلاثمائة وولي أخوه القاهر، وحجّ بالناس أميره تلك السنة. وانقطع الحج من العراق بعدها إلى أن كاتب أبو علي يحيى الفاطمي سنة سبع وعشرين من العراق أبا طاهر القرمطي أن يطلق السبيل للحجّاج على مكس [1] يأخذه منهم. وكان أبو طاهر يعظّمه لدينه ويؤمّله فأجابه إلى ذلك، وأخذ المكس من الحجّاج ولم يعهد مثله في الإسلام. وخطب في هذه السنة بمكة للراضي بن المقتدر. وفي سنة تسع وعشرين لأخيه المقتفي من بعده. ولم يصل ركب العراق في هذه السنين من القرامطة. ثم ولي المستكفي بن المكتفي سنة ثلاث وثلاثين على يد توروز أمير الأمراء ببغداد فخرج الحاج في هذه السنة لمهادنة القرامطة بعد أبي طاهر. ثم خطب للمطيع بن المقتدر بمكّة مع معزّ الدولة سنة أربع وثلاثين عند ما استولى معزّ الدولة ببغداد وقلع عين المستكفي واعتقله. ثم تعطّل الحاج بسبب القرامطة وردّوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين بأمر المنصور العلويّ صاحب إفريقية وخطابه في ذلك لأميرهم أحمد بن أبي سعيد. ثم جاء الحاج إلى مكّة سنة اثنتين وأربعين مع أمير من العراق، وأمير من مصر، فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، أو ابن الإخشيد صاحب مصر، فانهزم المصريون وخطب لابن بويه، واتصل ورود الحاج من يومئذ. فلما كانت سنة ثمان وأربعين وجاء الحاج من بغداد ومصر كان أمير الحاج من العراق ومحمد بن عبيد الله [2] فأجابه إلى ذلك. ثم جاء إلى المنبر مستعدا وأمر بالخطبة لابن   [1] مكس: ج مكوس وهي الضريبة. [2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 509: «وفيها- 343- وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معزّ الدولة وأصحاب ابن طغج من المصريين فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة، فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة ومعز الدولة وولده عز الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.» ابن خلدون م 9 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 بويه فوجم الآخر، وتمت عليه الحيلة وعاقبه أميره كافور. ويقال قتله ووقع ابن بويه لمحمد بن عبيد الله باتصال إمارته على الحاج. ولما كانت سنة ست وخمسين وصل بركب العراق أبو أحمد الموسوي نقيب الطالبيّين، وهو والد الشريف الرضي ليحجّ بالناس، ونهب بنو سليم حاج مصر وقتل أميرهم. وفي سنة ست وخمسين حجّ بالناس أبو أحمد المذكور وخطب بمكة لبختيار بعد موت أبيه معزّ الدولة والخليفة يومئذ المطيع. واتصل حجّ [1] أبي أحمد بركب العراق. وفي سنة ثلاث وخمسين خطب للقرمطي بمكّة، فلما قتل أحمد وقعت الفتنة بين أبي الحسن القرمطي [2] وخلغ طاعة العبيديّين وخطب للمطيع. وبعث إليه بالرايات السود، ونهض إلى دمشق فقتل جعفر بن فلاح قائد العلويّين، وخطب للمطيع. ثم وقعت الفتنة بين أبي الحسن وبين جعفر، وحصلت بينهم دماء، وبعث المعز العلويّ من أصلح بينهم، وجعل دية القتلى الفاضلة في مال المعز، وهلك بمصر أبو الحسن فولي أخوه عيسى. ثم ولي بعده أبو الفتوح الحسن بن جعفر سنة أربع وثمانين. ثم جاءت عساكر عضد الدولة ففرّ الحسن بن جعفر إلى المدينة. ولما مات العزيز بالرملة وعاد بنو أبي طاهر وبنو أحمد بن أبي سعيد إلى الفتنة فجاء من قبل الطائع أمير علويّ إلى مكة، وأقام له بها خطبة. وفي سنة سبع وستين بعث العزيز من مصر باديس بن زيري الصنهاجي وهو أخو بلّكين صاحب إفريقية أميرا على الحاج، فاستولى على الحرمين وأقام له الخطبة، وشغل عضد الدولة في العراق بفتنة بختيار ابن عمّه فبطل ركب العراق. ثم عاد في السنة بعدها وخطب لعضد الدولة أبو أحمد الموسوي، وانقطعت بعدها خطبة العبّاسيين عن مكة، وعادت لخلفاء مصر العبيديّين إلى حين من الدهر. وعظم شأن أبي الفتوح واتصلت إمارته في مكة، وكتب إليه القادر سنة ست وتسعين في الإذن لحاج العراق فأجابه على أنّ الخطبة للحاكم صاحب مصر. وبعث الحاكم إلى ابن الجرّاح أمير طيِّئ باعتراضهم، وكان على الحاج الشريف الرضي وأخوه المرتضى، فلاطفهم ابن الجرّاح وخلّى سبيلهم على أن لا يعودوا. ثم   [1] مقتضى السياق: ركب [2] العبارة مبتورة وغير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 612 وفي حوادث 359 هـ: «وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع للَّه والقرامطة الهجريّين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلويّ، وخطب ابو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع للَّه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 اعترض حاج العراق سنة أربع وتسعين الأصيغر الثعلبيّ عند ما ملك الجزيرة فوعظه قارئان كانا في الركب. ثم اعترضهم في السنة بعدها أعراب خفاجة ونهبوهم. وسار في طلبهم عليّ بن يزيد أمير بني أسد فأوقع بهم سنة اثنتين وأربعمائة. ثم عادوا إلى مثل ذلك من السنة بعدها فعاد عليّ بن يزيد وأوقع بهم، وسما له بذلك ذكر، وكان سببا لملكه وملك قومه. ثم كتب الحاكم سنة اثنتين وأربعين إلى عمّاله بالبراءة من أبي بكر وعمر، ونكر ذلك أبو الفتوح أمير مكّة، وانتقض له وحمل الوزير أبو القاسم المغربي على طلب الأمر لنفسه. وكان الحاكم قتل أباه وأعمامه فخطب أبو الفتوح لنفسه، وتلقّب الراشد باللَّه، وسار الى مدينة الرملة لاستدعاء ابن الجرّاح أمير طيِّئ لمغاضبة بينه وبين الحاكم. ثم سرّب الحاكم أمواله في بني الجرّاح فانتقضوا على أبي الفتوح وأسلموه، وفرّ الوزير المغربي إلى ديار بكر من أرض الموصل ومعه ابن سبابة. وفرّ التهامي إلى الري وكان معه. وقطع الحاكم الميرة عن الحرمين، ثم راجع أبو الفتوح الطاعة فعفا عنه الحاكم وأعاده إلى إمارته بمكّة. ولم يحج من العراق في هذه السنين أحد. وفي سنة اثنتي عشرة حجّ بأهل العراق أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي فقيه الطالبيّين، واعترضهم بنو نبهان من طيِّئ، وأميرهم حسّان بن عديّ، وقاتلوهم فهزموهم وقتل أميرهم حسّان. وخطب في هذه السنة للظاهر بن الحاكم بمكّة ولما كان الموسم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ضرب رجل من قوم مصر الحجر الأسود بدبوس فصدعه وثلمه، وهو يقول: كم تعبد كم تقبل [1] فتبادر إليه الناس فقتلوه، وثار أهل العراق بأهل مصر فنهبوهم وفتكوا فيهم. ثم حجّ بركب العراق سنة أربع عشرة النقيب بن الأفساسي وخشي من العرب، فعاد إلى دمشق الشام، وحجّ في السنة التي بعدها وبطل حجّ العراق. ولمّا بويع القائم العبّاسي سنة اثنتين وعشرين رام أن يجهّز الحاج فلم يقدر لاستيلاء العرب وانحلال أمر بني بويه. ثم خطب بمكة للمستنصر بن الظاهر. ثم توفي الأمير أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن محمد ابن سليمان رئيس مكّة وبني سليمان، سنة ثلاثين وأربعمائة لأربعين سنة من إمارته وولي، بعده إمارة مكّة ابنه شكر، وجرت له مع أهل المدينة خطوب ملك في أثنائها المدينة وجمع بين الحرمين وعليه انقرض دولة بني سليمان سنة ثلاثين بمكة،   [1] هكذا الأصل وفي الكامل ج 9 ص 332: «إلى متى يعبد الحجر الأسود، ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فاني أريد ان أهدم البيت!» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وجاءت دولة الهواشم كما يذكر. وشكر هذا هو الّذي يزعم بنو هلال بن عامر أنه تزوّج الجازية بنت سرحان من أمراء الأثبج منهم، وهو خبر مشهور بينهم في أقاصيصهم، وحكايات يتناقلونها ويطرّزونها بأشعار من جنس لغتهم ويسمونه الشريف بن هاشم. وقال ابن حزم غلب جعفر بن أبي هاشم على مكة أيام الإخشيديّين وولي بنوه من بعده عيسى بن جعفر، وأبو الفتوح وابنه شكر بن أبي الفتوح. وقد انقرض لأنّ شكرا لم يولد له، وصار أمر مكة إلى عبد كان له. انتهى كلام ابن حزم وليس أبو هاشم الّذي نسب جعفر إليه أبا الهواشم الّذي يأتي ذكرهم لأن هذا كان أيام الإخشيديّين وذلك أيام المستضيء العبيدي وبينهما نحو من مائة سنة. (الخبر عن دولة الهواشم بمكة من بني الحسن وتصاريف أحوالهم إلى انقراضها) هؤلاء الهواشم من ولد أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون ونسبه معروف وقد مرّ. وكانت بين هؤلاء الهواشم وبين السليمانيّين فتن متّصلة، ولما مات شكر ذهبت الرئاسة من بني سليمان لأنه لم يعقب. وتقدّم فيهم طراد بن أحمد، ولم يكن من بيت الإمارة وإنما كانوا يؤملونه لإقدامه وشجاعته. وكان رئيس الهواشم يومئذ محمد بن جعفر بن محمد وهو أبو هاشم المذكور، وقد ساد في الهواشم، وعظم ذكره فاقتتلوا سنة أربع وخمسين بعد موت شكر فهزم الهواشم بني سليمان وطردوهم عن الحجاز، فساروا إلى اليمن، وكان لهم بها ملك كما يذكر. واستقل بإمارة مكّة الأمير محمد بن جعفر وخطب للمستنصر العبيدي. ثم ابتدأ الحاج من العراق سنة ست وخمسين بنظر السلطان ألب أرسلان ابن داود ملك السلجوقية حين استولى على بغداد والخلافة، طلب منه القائم ذلك فبذل المال وأخذ رهائن العرب، وحج بالناس أبو الغنائم نور الدين المهدي الزيني نقيب الطالبيّين. ثم جاور في السنة بعدها واستمال الأمير محمد بن جعفر عن طاعة العبيديّين فخطب لبني العبّاس سنة ثمان وخمسين، وانقطعت ميرة مصر عن مكة فعذله أهله على ما فعل فرد الخطبة للعبيديّين. ثم خاطبه القائم وعاتبه وبذل له أموالا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 فخطب له سنة اثنتين وستين بالموسم فقط، وكتب إلى المستنصر بمصر معتذرا، ثم بعث القائم أبا الغنائم الزيني سنة ثلاث وستين أميرا على الركب العراقي، ومعه عسكر ضخم، ولأمير مكة من عند ألب أرسلان ثلاثون دينارا وتوقيعا بعشرة آلاف دينار. واجتمعوا بالموسم وخطب الأمير محمد بن جعفر وقال: الحمد للَّه الّذي هدانا إلى أهل بيته بالرأي المصيب، وعوّض بيته بلبسة الشباب بعد لبسة المشيب، وأمال قلوبنا إلى الطاعة، ومتابعة إمام الجماعة. فانحرف المستنصر عن الهواشم ومال إلى السليمانيّين. وكتب إلى عليّ بن محمد الصبيحي صاحب دعوتهم باليمن أن يعينهم على استرجاع ملكهم، وينهض معهم إلى مكّة، فنهض وانتهى إلى المهجم. وكان سعيد بن نجاح الأحوال موثور بني الصبيحي قد جاء من الهند ودخل صنعاء، فثار بها واتبع الصبيحي في سبعين رجلا، وهو في خمسة آلاف فبيته بالمهجم وقتله. ثم جمع محمد ابن جعفر أجنادا من الترك وزحف بها إلى المدينة فأخرج منها بني حسن، وملكها وجمع بين الحرمين. ثم مات القائم العبّاسي وانقطع ما كان يصل إلى مكّة فقطع محمد بن جعفر الخطبة للعباسيين. ثم جاء الزيني من قابل بالأموال فأعادها. ثم بعث المقتدي سنة سبعين منبرا إلى مكة صنيعا استجيد خشبة، ونقش عليه بالذهب اسمه. وبعث على الحاج ختلع التركي وهو أوّل تركيّ تأمّر على الحاج، وكان واليا بالكوفة. وقهر العرب مع جماعته فبعثه المقتدي أميرا على الحاج فوقعت الفتنة بين الشيعة، وأهل السنّة وكسر المنبر وأحرق وتم الحج. ثم عاودوا الفتنة سنة ثلاث وسبعين وقطعت الخطبة للمستنصر وأعيدت للمقتدي، واتصلت إمارة ختلع على الحاج وبعده خمار تكين إلى أن مات ملك شاه، ووزيره نظام الملك فانقطعت الخطبة للعبّاسيّين وبطل الحاج من العراق باختلاف السلجوقيّة، وتغلّب العرب. ومات المقتدي خليفة بغداد وبويع ابنه المستظهر ومات المستنصر خليفة مصر وبويع ابنه المستعلي [1]-- من إمارته، وهو الّذي أظهر الخطبة العبّاسية بمكة، وبها ابتدئ أمره وكان يسقطها بعض الأحيان. وولي بعده ابنه قاسم فكثر اضطرابه، ومهّد بنو مزيد أصحاب الحلة طريق الحاج من العراق فاتصل حجّهم. وحجّ سنة اثنتي عشرة وخمسمائة نظر   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 237: «ولما مات- المستنصر- ولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي باللَّه، ومولده في المحرّم سنة سبع وستين واربعمائة، وكان قد عهد في حياته بالخلافة لابنه نزار فخلعه الأفضل وبايع المستعلي باللَّه.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 الخادم من قبل المسترشد بركب العراق، وأوصل الخلع والأموال إلى مكة، ثم توفي قاسم بن محمد سنة ثمان عشرة وخمسمائة لثلاثين سنة من إمارته، وكانت في اضطراب وتغلب، وولي بعده ابنه أبو قليبة بمكة، فافتتح بالخطبة العبّاسية وأحسن الثناء عليه بالعدل، ووصل نظر الخادم أميرا على الركب ومعه الأموال والخلع. ثم مات أبو قليبة سنة سبع وعشرين لعشر سنين من إمارته، والخطبة للعبّاسيّين وإمارة الحاج لنظر الخادم. ثم كانت واقعة المسترشد مع السلطان مسعود ومقتله وتعطّل ركب الحاج. ثم حج نظر الخادم في السنة بعدها. ثم بعثت أسماء الصبيحيّة صاحبة اليمن لأمير مكة قاسم بن أبي قليبة فتوعدته على قطع خطبة الحافظ، وماتت فكفاه الله شرّها، وانقطع الركب العراقي في هذه السنين للفتن والغلاء. ثم حجّ سنة أربع وأربعين نظر الخادم، ومات في طريقه، فولي مولاه قيماز، واعترضه رهط من الأعراب فنهب الركب، واتصل حجّ قيماز والخطبة لبني العبّاس إلى سنة خمس وخمسين قبله، وبويع المستنجد فخطب له كما كان لأبيه المقتفي. ثم قتل قاسم بن أبي قليبة سنة ست وستين وبعث المستضيء بالركب طاتغكين التركي، وانقضت دولة العبيديّين بمصر، ووليها صلاح الدين بن أيوب، واستولى على مكّة واليمن، وخطب له بالحرمين ثم مات المستضيء سنة خمس وسبعين وبويع ابنه الناصر، وخطب له بالحرمين، وحجّت أمه بنفسها سنة خمس وثلاثين، وكانت له آثار عظيمة ورجعت فانهت إلى الناصر بن عيسى بن قاسم ما اطّلعت عليه من أحواله فعزله عن إمارة مكة، وولّى أخاه مكثر بن قاسم، وكان جليل القدر، ومات سنة تسع وثمانين السنة التي مات فيها صلاح الدين. وضعف أمر الهواشم، وكان أبو عزيز بن قتادة يناسبهم من جهة النساء فورث أمرهم وملك مكة من أيديهم، وانقرضت دولتهم والبقاء للَّه. الخبر عن بني قتادة أمراء مكة بعد الهواشم ثم عن بني أبي نمير منهم أمرائها لهذا العهد كان من ولد موسى الجون الّذي مرّ ذكره في بني حسن عبد الله أبي الكرام، وكان له على ما نقل نسّابتهم ثلاثة من الولد سليمان وزيد وأحمد. ومنه تشعّبت ولده. فأمّا زيد فولده اليوم بالصحراء بنهر الحسنية، وأمّا أحمد فولده بالدهناء، وأما سليمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 فكان من ولده مطاعن بن عبد الكريم بن يوسف بن عيسى بن سليمان. وكان لمطاعن إدريس وثعلب بالثعالبة بالحجاز. فكان لإدريس ولدان قتادة النابغة وصرخة. فأمّا صرخة فولده شيع يعرفون بالشكرة، وأمّا قتادة النابغة فكان يكنّى أبا عزيز، وكان من ولده عليّ الأكبر وشقيقه حسن. فمن ولد حسن إدريس وأحمد ومحمد وجمان، وامارة ينبع في أعقابهم ومنهم لهذا العهد أميران يتداولان إمارتها من ولد إدريس بن حسن بن إدريس. وأمّا أبو عزيز قتادة النابغة فمن ولده موالي عز أمراء مكة لهذا العهد. وكان بنو حسن بن الحسن كلّهم موطنين بنهر العلقميّة من وادي ينبع لعهد إمارة الهواشم بمكة، وكانوا ظواعن بادية. ولما نشأ فيهم قتادة هذا جمع قومه ذوي مطاعن، وأركبهم واستبد بإمارتهم، وكان بوادي ينبع بنو خراب من ولد عبد الله بن حسن بن الحسن، وبنو عيسى بن سليمان بن موسى الجون فحاربهم بنو مطاعن هؤلاء، وأميرهم أبو عزيز قتادة وأخرجهم، وملك ينبع والصفراء واستكثر من الجند والمماليك. وكان على عهد المستنصر العبّاسي في أواسط المائة السادسة. وكان الأمراء يومئذ بمكة الهواشم من ولد جعفر بن هاشم بن الحسن بن محمد بن موسى بن أبي الكرام عبد الله، وقد مرّ ذكرهم، وكان أخرجهم مكثر بن عيسى بن قاسم الّذي بنى القلعة على جبل أبي قبيس، ومات سنة تسع وثمانين وخمسمائة. فسار قتادة إلى مكة وانتزعها من أيديهم وملكها، وخطب للناصر العباسي، وأقام في إمارتها نحوا من أربعين سنة. واستفحل ملكه واتسع إلى نواحي اليمن وكان لقبه أبا عزيز. وفي سنة ثلاث وستمائة حجّ بالركب وجه السبع التركي من مماليك الناصر وفرّ من طريقه إلى مصر فنهب الركب. وفي سنة ثمان وستمائة وثب شخص من حاج العراق على شريف من قرابة قتادة فقتله، فاتهم الشرفاء به أمراء الركب، فثاروا بهم وقتلوا منهم خلقا. ثم بعث إليهم بالأموال من بغداد وبعث قتادة بعض أولاده يستعتب فأعتب. (وفي سنة خمس عشرة) خطب بمكّة للعادل بن أيوب بعد الناصر الخليفة وللكامل بن العادل بعدهما. (وفي سنة ست عشرة) كان خروج التتر وكان قتادة عادلا وأمّن الناس في أيامه، ولم يعد قط على أحد من الخلفاء ولا من الملوك، وكان يقول أنا أحق بالخلافة، وكانت الأموال والخلع تحمل إليه، واستدعاه الناصر في بعض السنين فكتب إليه ولي كفّ ضرغام أذلّ ببسطها ... وأشري بها عزّ الورى وأبيع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجد بين ربيع أأجعلها تحت الرجا ثم ابتغي ... خلاصا لها إني إذا لوضيع وما أنا إلّا المسك في كلّ بقعة ... يضوع وأمّا عندكم فيضيع واتسعت دولته فملك ملك مكّة والينبع وأطراف اليمن، وبعض أعمال المدينة وبلاد نجد، وكان يستكثر من المماليك، وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة، ويقال سمّه ابنه حسن ويقال داخل ابنه حسن جاريته فأدخلته ليلا فخنق أباه، ثم قتلها وملك مكة وامتعض لذلك ابنه راجح بن أبي عزيز قتادة وشكاه إلى أمير حاج أقباش التركي عند وصوله فأشكاه، ووعده بالإنصاف منه، فأغلق حسن أبواب مكة وخرج بعض أصحابه إلى الأمير أقباش فلقوه عند باب المعلّى فقتلوه وعلّقوه بالمسعى. ثم جاء المسعود بن الكامل سنة عشرين من اليمن إلى مكة، فحجّ وقاتله حسن ببطن المسعى فغلبه المسعود وملك مكة، ونصب رايته وأزال راية أمير الركب، وكتب الخليفة من بغداد يعاتب أباه على ذلك، وعلى ما فعله في مكة والتخلّف فكتب إليه أبوه: برئت يا أقسى من ظهر العادل ان لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم. فغرم ديات الشرفاء وأصابه شلل في يده ومضى حسن بن قتادة إلى بغداد صريخا بعد أن بقي طريدا بالشام والجزيرة والعراق. ثم جاء إلى بغداد دخيلا وهمّ الترك بقتله بأقباش أمير الركب فمنعوا منه. ومات ببغداد سنة اثنتين وعشرين ودفن بمشهد الكاظم. ثم مات المسعود بن الكامل بمكّة سنة ست وعشرين ودفن بالمعلّى وبقي على مكّة قائده فخر الدين بن الشيخ، وعلى اليمن أمير الجيوش عمر بن عليّ بن رسول. (وقصد راجح بن قتادة) مكّة سنة تسع وعشرين مع عساكر عمر بن رسول فملكها سنة ثلاثين من يد فخر الدين بن الشيخ، ولحق فخر الدين بمصر، ثم جاءت عساكر مصر سنة اثنتين وثلاثين مع الأمير جبريل وملكوا مكة، وهرب راجح إلى اليمن. ثم جاء عمر بن رسول معه بنفسه فهربت عساكر مصر، وملك راجح مكة وخطب لعمر بن رسول بعد المستنصر، ولما ملك التتر العراق سنة أربع وثلاثين وعظم أمرهم وانتهوا إلى إربل أبطل المستنصر الحجّ من أمر الجهاد وأفتاه العلماء بذلك. ثم جهّز المعتصم الحاج مع أمّه سنة ثلاث وأربعين وشيّعها إلى الكوفة، ولما حجّت ضرب تركي في الموسم شريفا وكتب راجح فيه إلى الخليفة فقطعت يده وبطل الحجّ بعد ذلك. ثم قوي أمر الموطئ امام الزيديّة باليمن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 واعتزم على قطع الخطبة لبني العبّاس فضاق به المظفّر بن عمر بن رسول، وكاتب المعتصم يحرّضه على تجهيز الحاج بسبب ذلك. ثم قوي أمر الموطئ إمام الزيدية باليمن وسار جماز بن حسن بن قتادة سنة إحدى وخمسين إلى الناصر بن العزيز بن الظاهر بن أيوب بدمشق مستجيشا على أبي سعيد، على أن يقطع ذكر صاحب اليمن من مكّة، فجهّز له عسكرا وسار إلى مكة فقتل أبا سعيد في الحرم، ونقض عهد الناصر، وخطب لصاحب اليمن. (قال ابن سعيد) وفي سنة ثلاث وخمسين بلغني وأنا بالمغرب أنّ راجح بن قتادة جاء إلى مكّة وهو شيخ كبير السنّ وكان يسكن السدّين على نحو اليمن فوصل إلى مكّة، وأخرج منها جماز بن أبي عزيز فلحق بالينبع. قال: وفي سنة اثنتين وستين وصل الخبر إلى المغرب بأنّ أمر مكّة دائر بين أبي نمي بن أبي سعيد الّذي قتل جماز به على إمارة مكّة، وبين غالب بن راجح الّذي أخرجه أبوه جماز إلى الينبع. ثم استبدّ أبو نمي على أمر مكّة ونفى قتلة أبيه أبي سعيد إلى الينبع. وهم إدريس وجماز ومحمد، وقد كان إدريس منهم والي أمر مكّة قليلا، فانطلقوا إلى الينبع وملكوه، وأعقابهم أمراؤه لهذا العهد، وأقام أبو نمي أميرا بمكّة نحوا من خمسين سنة وهلك على رأس المائة السابعة أو بعدها بسنتين وخلف ثلاثين ولدا. (إمارة بني أبي نمي بمكة) ولما هلك أبو نمي قام من بعده بأمر مكة ابناه رميثة وحميضة ونازعهما عطيفة وأبو الغيث فاعتقلاهما، ووافق ذلك وصول بيبرس الجاشنكير كافل الملك الناصر بمصر، لأوّل ولايته فأطلقهما وولاهما، وبعث برميثة وحميضة إلى مصر، ثم ردّهما السلطان إلى إمارتهما بمكة مع عسكره، وبعث إليه بعطيفة وأبي الغيث. ثم طال تنازعهم وتعاقبهم في إمارة مكة مرّة بعد أخرى. وهلك أبو الغيث في بعض حروبهم ببطن مرّ. ثم تنازع حميضة ورميثة، وسار رميثة إلى الملك الناصر سنة خمس عشرة، واستمدّ بأمرائه وعساكره، وهب حميضة بعد أن استصفى أموال أهل مكّة. ثم رجع بعد رجوع العساكر إلى مكة ثم اصطلحوا وتوافقوا. ثم خالف عطيفة سنة ثمان عشرة ووصل إلى السلطان، وجاء بالعسكر فملك مكّة، وتقبّض على رميثة فسجن أياما ثم أطلق سنة عشرين عند مقدم السلطان من حجه، وأقام بمصر. وبقي حميضة مشردا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 أن استأمن السلطان فأمّنه، وكان معه جماعة من المماليك فرّوا إليه من مصر أيام انتقاضه، فشعروا بطاعته فخافوا على أنفسهم أن يحضروا معه فقتلوه وجاءوا إلى السلطان يعتقدون ذلك وسيلة عنده فأقاد رميثة منهم بأخيه فقتل المباشر للقتل، وعفا عن الباقين. وأطلق رميثة إلى مكّة مشاركا لأخيه عطيفة في إمارتها. ثم هلك عطيفة سنة [1] وأقام أخوه رميثة بعده مستقلا بإمارة مكة إلى أن كبر وهرم، ثم هلك. وكان ابناه ثقبة وعجلان قد اقتسما معه إمارة مكة برضاه. ثم أراد الرجوع عن ذلك فلم يجيباه إلى شيء مما أراد، واستمرّا على ولايتهما معه. ثم تنازعا وخرج ثقبة وبقي عجلان بمكّة. ثم غلبه عليها ثقبة، ثم اجتمعا بمصر سنة ست وخمسين فولي صاحب الأمر بمصر عجلان منهما، وفرّ ثقبة إلى بلاد الحجاز فأقام هنالك، وعاقبه إلى مكّة مرارا. وجاء عجلان سنة اثنتين وستين بالمدد من عسكر القاهرة فكبسه ثقبه وقتل أخاه وبعضا من العسكر ولم يزل عجلان على إمارته سالكا سبيل العدل والإنصاف في الرعيّة متجافيا عن الظلم عما كان عليه قومه من التعرّض للتجّار والمجاورين، وسعى في أيام إمارته في قطع ما كان لعبيدهم على الحاج من المكس. وثبت لهم في ديوان السلطان عليها عطاء يتعاهدهم أيام الموسم وكانت من حسنات سلطان مصر. وسعى هذا الأمير عجلان جزاه الله خيرا، وأقام على ذلك إلى أن هلك سنة سبع وسبعين، وولي ابنه أحمد بعده. وقد كان فوّض إليه في حياته وقاسمه في أمره، فقام أحمد بأمر مكّة وجرى على سنن أبيه في إثبات مراسم العهد وإحياء معالمه، حتى شاع عنه ذلك في الآفاق على ألسنة الحاج والمجاورين. وولّاه صاحب مصر لعهده الملك الظاهر أبو سعيد برقوق على ما كان أبوه، وسيّر إليه بالخلع والتفويض على عادتهم في ذلك. وكان في محبس أحمد جماعة من قرابته منهم أخوه محمد ومحمد ابن أخيه ثقبة وعنّان ابن عمّه مغامس في آخرين. فلما مات أحمد هربوا من محبسهم ولحقوا بهم فردّوهم وأجلوا محمد بن عجلان منهم إلّا عنانا فإنه لحق بمصر مستجيشا على محمد وكبيش، فأنجده السلطان وبعثه مع أمير الركب ليطالع أحوالهم، واستصحب معه جماعة من الباطنيّة فتكوا بمحمد عند لقائه المحمل الّذي عليه كسوة الكعبة بشارة الخليفة، وتقبيله الخف الّذي يحمله على العادة في ذلك،   [1] رغم البحث في المراجع التي بين أيدينا لم نستطع تحديد سنة مهلكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وتركوه صريعا في مكانه، ودخلوا إلى مكّة فولي أمير الحاج عنان بن مغامس ولحق كبيش وشيعته بجدّة، فلما انقضى الموسم ورجع الحاج جاء كبيش وأصحابه وحاصروا مكة وكان بينهم وبين عنان حروب قتل كبيش في بعضها. ثم لحق عليّ بن عجلان وأخوه حسن بالملك الظاهر صاحب مصر فرأى أن يحسم المادّة بولايته، فولّاه سنة تسع وثمانين مشاركا لعنان بن مغامس في الإمارة، وسار مع أمير الركب فلما وصلوا لكومرد بكّروا إلى مكّة على العادة، وخرج عنّان للقائهم. ثم نكص من بعض الطريق هاربا ودخل على مكة واستقل بإمارتها، ولما انفضّ الموسم ورجع الحاج جاء عنان ومعه بنو عمّه مبارك وجماعة الشرفاء فحاصروا مكة على عليّ ونازعوه الإمارة ثم أفرجوا. ثم رجعوا وحالهم على ذلك متّصل لهذا العهد. ووفدوا على السلطان بمصر سنة أربع وتسعين فأفرد عليّا بالإمارة، وأفاض عليه العطاء وأكثف له الجند والمستخدمين وأبقى عنان بن مغامس عنده وأجرى عليه الرزق ونظّمه في أهل دولته. ثم نمي إلى السلطان أنه يروم الفرار إلى الحجاز لينازع أمير مكّة عليّ بن عجلان فقبض عليه وحبسه، وقبض عليّ بن عجلان على الأشراف الذين كانوا هنالك شيعة له. ثم من عليهم وأطلقهم فعادوا إلى منازعته والفتنة معه لهذا العهد والله متولي الأمور لا ربّ غيره. الخبر عن بني مهنّى أمراء المدينة النبويّة من بني الحسين وذكر أوّليتهم ومفتتح امارتهم كانت المدينة بلد الأنصار من الأوس والخزرج كما هو معروف. ثم افترقوا على أقطار الأرض في الفتوحات وانقرضوا، ولم يبق بها أحد إلّا بقايا من الطالبيّين. قال ابن الحصين في ذيله على الطبري: دخلت المائة الرابعة والخطبة بالمدينة للمقتدر. قال: وتردّدت ولاية بني العبّاس عليها والرئاسة فيها بين بني حسين وبني جعفر إلى أن أخرجهم بنو حسين فسكنوا بين مكّة والمدينة. ثم أجلاهم بنو حرب من زبيد إلى القرى والحصون، وأجازوهم إلى الصعيد فهم هنالك إلى اليوم. وبقي بنو حسين بالمدينة إلى أن جاءهم ظاهر بن مسلم من مصر فملّكوه عليهم. وفي الخبر عن وصول ظاهر هذا أن مسلما أباه اسمه محمد بن عبيد الله بن ظاهر بن يحيى المحدّث بن الحسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 بن جعفر، ويسمّى عند الشيعة حجّة الله بن عبيد الله بن الحسين الأصغر بن زين العابدين، وكان مسلم هذا صديقا لكافور المتغلّب على الإخشيديّة بمصر، وكان يدبّر أمره ولم يكن بمصر لعصره أوجه منه. ولما ملك العبيديّون مصر وجاء المعزّ لدين الله ونزل بالقاهرة التي اختطها وذلك سنة خمس وستين وثلاثمائة، خطب يومئذ من مسلم هذا كريمته لبعض بنيه فردّه مسلم، فسخطه المعزّ ونكبه، واستصفى أمواله وأقام في اعتقاله إلى أن هلك. ويقال فرّ من محبسه فهلك في مفرّه، ولحق ابنه ظاهر بن محمد بعد ذلك بالمدينة فقدّمه بنو حسين على أنفسهم، واستقل بإمارتها سنين. ثم مات سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وولي مكانه ابنه الحسن. وفي كتاب العتبي مؤرخ دولة ابن سبكتكين أنّ الّذي ولي بعده هو صهره وابن عمّه داود بن القاسم بن عبيد الله بن ظاهر، وكنيته أبو عليّ، واستقل بها دون ابنه الحسن إلى أن هلك، وولي بعده ابنه هاني ثم ابنه مهنّى. ولحق الحسن بمحمود بن سبكتكين فأقام عنده بخراسان، وهذا غلط لأن المسبحي مؤرخ العبيديّين ذكر وفاة ظاهر بن مسلم في سنتها كما قلناه، وولاية الحسن ابنه. وقال في سنة ثلاث وثمانين وعامل المدينة الحسن بن ظاهر ويلقّب مهنّى والمسبحي أقعد بأخبار المدينة ومصر من العتبي، إلا أن أمراء المدينة لهذا العهد ينتسبون إلى داود ويقولون: جاء من العراق فلعلهم لقّنوا ذلك عمن لا يعرفه. ومؤرّخ حماة متى ينسب أحدا من أوّليهم إنما ينسبه إلى أبي داود والله أعلم. وقال أبو سعيد: وفي سنة تسعين وثلاثمائة ملكها أبو الفتوح حسن بن جعفر أمير مكة من بني سليمان بأمر الحاكم العبيدي وأزال عنها إمارة بني مهنّى من بني الحسين، وحاول نقل الجسد النبوي إلى مصر ليلا فأصابتهم ريح عاصفة أظلم لها الجوّ، وكادت تقتلع البناء من أصله فردّهم أبو الفتوح عن ذلك ورجع إلى مكة. وعاد بنو مهنّى إلى المدينة. وذكر مؤرّخ حماة من أمرائهم منصور بن عمارة، ولم ينسبه، وقال مات سنة سبع وتسعين وأربعمائة وولي بعده ابنه. قال: وهم من ولد مهنّى، وذكر منهم أيضا القاسم بن مهنّى بن حسين بن مهنّى بن داود وكنيته أبو قليتة، وأنه حضر مع صلاح الدين بن أيوب غزاة أنطاكية وفتحها سنة أربع وثماني وخمسمائة. وقال الزنجاري مؤرخ الحجار فيما ذكر عنه ابن سعيد حين ذكر ملوك المدينة من ولد الحسين فقال: وأحقهم بالذكر لجلالة قدره قاسم بن جماز بن قاسم بن مهنّى، ولاه المستضيء فأقام خمسا وعشرين سنة ومات سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وولي ابنه سالم بن قاسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 وكان شاعرا، وهو الّذي كانت بينه وبين أبي عزيز قتادة صاحب مكة وقعة المصارع ببدر سنة إحدى وستمائة. زحف أبو عزيز من مكّة وحاصره بالمدينة، واشتدّ في حصاره. ثم ارتحل وجاء المدد إلى سالم من بني لام إحدى بطون همذان فأدرك أبا عزيز ببدر واقتتلوا وهلك من الفريقين خلق، وانهزم أبو عزيز إلى مكة. وفي سنة إحدى وستمائة جاء المعظم عيسى بن العادل فجدّد المصانع والبرك، وكان معه سالم ابن قاسم أمير المدينة جاء يشكو من قتادة فرجع معه، ومات في الطريق قبل وصوله إلى المدينة، وولي بعده ابنه شيخة، وكان سالم قد استخدم عسكرا من التركمان فمضى بهم جماز بن شيخة إلى قتادة وغلبه، وفرّ إلى الينبع وتحصّن بها، وفي سنة سبع وأربعين قتل صاحب المدينة شيخة وولي ابنه عيسى. ثم قبض عليه أخوه، جماز سنة تسع وأربعين وملك مكانه. قال ابن سعيد: وفي سنة تسع وخمسين كان بالمدينة أبو الحسن بن شيخة بن سالم. وقال غيره: كان بالمدينة سنة ثلاث وخمسين أبو مالك منيف بن شيخة ومات سنة سبع وخمسين وولي أخوه جماز. وطال عمره ومات سنة أربع وسبعمائة، وولي ابنه منصور، ولحق أخوه مقبل بالشام، ووفد على بيبرس بمصر فأقطعه نصف أقطاع منصور. ثم أقبل إلى المدينة على حين غفلة من أخيه منصور وبها ابنه أبو كبيشة فملكها عليه، ولحق أبو كبيشة بأحياء العرب. ثم استجاشهم ورجع إلى المدينة سنة تسع فقتل عمّه مقبلا، وجاء منصور إلى محل إمارته وكان لمقبل ابن اسمه ماجد فأقطع بعض أقطاع أبيه، فأقام مع العرب يجلب على المدينة ويخالف منصورا عمّه إليها متى خرج عنها. ووقع بين منصور وبين قتادة صاحب الينبع حرب سنة إحدى عشرة من أجله. ثم جاء ماجد بن مقبل بالمدينة سنة سبع عشرة لقتال عمّه منصور واستنجد منصور بالسلطان، فبعث إليه العساكر وحاصر ماجد بن مقبل بالمدينة. ثم قاتلهم وانهزم وبقي منصور على إمارته، وتوفي سنة خمس وعشرين وولي ابنه كبيش بن منصور على إمارته، وطالت أيامه ونازعه ودي بن جماز وحاصره وولي بعده طفيل، وقبض عليه جماز سنة إحدى وخمسين وولي عطية. ثم توفي عطية سنة ثلاث وثمانين وولي بعده طفيل وقبض عليه فامتنع، وولي جماز بن هبّة بن جماز بن منصور وملوك الترك بمصر يختارون لولايتها من هذين البيتين لا يعدلون عنهما إلى سواهما، ووليتها اليوم لجماز بن هبّة بن جماز وابن عمّه عطيّة بن محمد بن عطية ينازعه لما بينهما من المنازعة والمنافسة قديما وحديثا شأن العجليين في التثوّر، وهما جميعا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 مذهب الإمامية من الرافضة، ويقولون بالأئمة الاثني عشر وبما يناسب ذلك من اعتقادات الإمامية. والله يخلق ما يشاء ويختار. هذا آخر الخبر عن أمراء المدينة، ولم أقف على أكثر منه، والله المقدّر لجميع الأمور سبحانه لا إله إلّا هو. (الخبر عن دولة بني الرسي أئمة الزيدية بصعدة وذكر أوليتهم ومصاير أحوالهم) قد ذكرنا فيما تقدّم خبر محمد بن إبراهيم الملقّب أبوه طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن الدعيّ، وظهوره أيام المأمون وقيام أبي السرايا ببيعته وشأنه كلّه. ولما هلك وهلك أبو السرايا وانقرض أمرهم طلب المأمون أخاه القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا ففرّ إلى السّند، ولم يزل به إلى أن هلك سنة خمس وأربعين ومائتين، ورجع ابنه الحسن إلى اليمن وكان من عقبه الأئمة بصعدة من بلاد اليمن وكان من عقبه أقاموا للزيدية بها دولة اتصلت آخر الأيام، وصعدة جبل في الشرق عن صنعاء، وفيه حصون كثيرة أشهرها صعدة وحمص تلا وجبل مطابة، وتعرف كلها ببني الرسي. وأول من خرج بها منهم يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، دعا لنفسه بصعدة وتسمّى بالهادي، وبويع بها سنة ثمان وثمانين في حياة أبيه الحسين، وجمع الجموع من شيعتهم وغيرها، وحارب إبراهيم بن يعفر. وكان أسعد بن يعفر السادس من أعقابه التبابعة لصنعاء وكملا فغلبه على صنعاء ونجران، فملكها وضرب السكّة، ثم انتزعها بنو يعفر منه، ورجع إلى صعدة، وتوفي سنة ثمان وتسعين لعشر سنين من ولايته، هكذا قال ابن الحارث قال: وله مصنّفات في الحلال والحرام. وقال غيره كان مجتهدا في الأحكام الشرعيّة، وله في الفقه آراء غريبة وتواليف بين الشيعة معروفة. قال الصولي: وولي بعده ابنه محمد المرتضى، واضطرب الناس عليه وهلك سنة عشرين وثلاثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. وولي بعده أخوه الناصر أحمد واستقام ملكه، واطرد في بنيه بعده، فولي بعده ابنه حسين المنتخب، ومات سنة أربع وعشرين وولي بعده أخوه القاسم المختار إلى أن قتله أبو القاسم الضحّاك الهمدانيّ سنة أربع وأربعين. وقال الصولي: من بني الناصر الرشيد والمنتخب ومات سنة أربع وعشرين. وقال ابن حزم: لما ذكر ولد أبي القاسم الرسي فقال: ومنهم القائمون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 بصعدة من أرض اليمن، أوّلهم يحيى الهادي، له رأي في الفقه وقد رأيته، ولم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد. كان لأبيه أحمد الناصر بنون ولي منهم صعدة بعده جعفر الرشيد، وبعده أخوه القاسم المختار ثم الحسن المنتخب ومحمد المهدي. قال: وكان اليماني القائم بماردة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة يذكر أنه عبد الله بن أحمد الناصر أخو الرشيد والمختار والمنتخب والمهدي. وقال ابن الحاجب: ولم تزل إمامتهم بصعدة مطردة إلى أن وقع الخلاف بينهم، وجاء السليمانيون من مكة عند ما أخرجهم الهواشم فغلبوا عليهم بصعدة، وانقرضت دولتهم بها في المائة السادسة. قال ابن سعيد وكان من بني سليمان حين خرجوا من مكّة إلى اليمن أحمد بن حمزة بن سليمان، فاستدعاهم أهل زبيد لينصرهم على عليّ بن مهدي الخارجيّ حين حاصرهم، وبها فاتك بن محمد من بني نجاح، فأجابهم على أن يقتلوا فاتكا، فقتلوه سنة ثلاث وخمسمائة وملّكوا عليهم أحمد بن حمزة، فلم يطق مقاومة عليّ بن مهديّ ففرّ عن زبيد وملكها ابن مهديّ. قال: وكان عيسى بن حمزة أخو أحمد في عشرة باليمن، ومنهم غانم بن يحيى. ثم ذهب ملك بني سليمان من جميع التهائم والجبال واليمن على يد بني مهدي. ثم ملكهم بنو أيوب وقهروهم، واستقرّ ملكهم آخرا في المنصور عبد الله بن أحمد بن حمزة. قال ابن العديم [1] أخذ الملك بصعدة عن أبيه واشتدّت يده مع الناصر العبّاسي، وكان يناظره ويبعث دعاته إلى الديلم وجيلان حتى خطب له هنالك وصار له فيها ولاة، وأنفق الناصر عليه أموالا في العرب باليمن ولم يظفر به. قال ابن الأثير: جمع المنصور عبد الله بن حمزة أيام الزيدية بصعدة سنة اثنتين وخمسمائة، وزحف إلى اليمن فخاف منه المعزّ بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب. ثم زحف إليه المعزّ فهزمه، ثم جمع ثانية سنة اثنتي عشرة وستمائة جموعا من همذان وخولان، وارتجت له اليمن وخاف المسعود بن الكامل وهو يومئذ صاحب اليمن، ومعه الكرد والترك، وأشار أمير الجيوش عمر بن رسول بمعاجلته قبل أن يملك الحصون. ثم اختلف أصحاب المنصور ولقيه المسعود فهزمه، وتوفي المنصور سنة ثلاثين وستمائة عن عمر مديد، وترك ابنا اسمه أحمد ولّاه الزيدية، ولم يخطبوا له بالإمامة ينتظرون علوّ سنه، واستكمال شروطه، ولما كانت   [1] ابن العديم: صاحب مخطوط بغية الطلب في تاريخ فتح حلب المحفوظ في إسطنبول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 سنة خمس وأربعين بايع قوم من الزيدية لأحمد الموطئ من بقية الرسي، وهو أحمد بن الحسين من بني الهادي لأنهم لما أخرجهم بنو سليمان من كرسي إمامتهم بصعدة آووا إلى جبل قطابة بشرقي صعدة، فلم يزالوا هنالك، وفي كل عصر منهم إمام شائع بأنّ الأمر إليهم إلى أن بايع الزيديّة الموطئ، وكان فقيها أديبا عالما بمذهبهم، قوّاما صوّاما، بويع سنة خمس وأربعين وستمائة. وأهم نور الدين عمر بن رسول شأنه فحاصره بحصن تلا سنة، وامتنع عليه فأفرج عنه، وحمل العساكر من الحصون المجاورة لحصاره. ثم قتل عمر بن رسول وشغل ابنه المظفّر بحصن الدملوة، فتمكّن الموطئ، وملك عشرين حصنا وزحف إلى صعدة فغلب السليمانيّين عليها، وقد كانوا بايعوا لأحمد ابن إمامهم عبد الله المنصور، ولقّبوه المتوكل عند ما بويع للموطئ بالإمامة في تلا لأنّهم كانوا ينتظرون استكمال سنه، فلما بويع الموطئ بايعوه، ولما غلبهم على صعدة نزل أحمد المتوكل إمامهم وبايع له وأمّنه وذلك سنة تسع وأربعين. ثم حجّ سنة خمسين وبقي أمر الزيدية بصعدة في عقب الموطئ هذا وسمعت بصعدة أنّ الإمام بصعدة كان قبل الثمانين والسبعمائة عليّ بن محمد في أعقابهم، وتوفي قبل الثمانين والسبعمائة عليّ بن محمد من أعقابهم. وولي ابنه صلاح، وبايعه الزيدية وكان بعضهم يقول ليس هو بإمام لعدم شروط الإمامة، فيقول: هو أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان. ثم مات صلاح آخر سنة ثلاث وتسعين وقام بعده ابنه نجاح، وامتنع الزيدية من بيعته فقال: أنا محتسب للَّه هذا ما بلغنا عنهم بمصر أيام المقام فيها والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن نسب الطالبيين وذكر المشاهير من أعقابهم) وأمّا نسب هؤلاء الطالبيّين فأكثرها راجع إلى الحسن والحسين ابني عليّ بن أبي طالب، ومن فاطمة رضي الله عنها، وهما سبطا الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أخيهما محمد بن الحنفيّة، وإن كان لعليّ رضي الله عنه غيرهم من الولد إلّا أنّ الذين طلبوا الحق في الخلافة وتعصّبت لهم الشيعة، ودعوا لهم في الجهات إنما هم الثلاثة لا غيرهم، فأمّا الحسن فمن ولده الحسن المثنى وزيد، ومنهما العقب المشهود له في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 الدعوة والإمامة. ومن ولد حسن المثنّى عبد الله الكامل وحسن المثلث وإبراهيم العمر وعباس وداود. فأمّا عبد الله الكامل وبنوه فقد مرّ ذكرهم وأنسابهم عند ذكر ابنه محمد المهدي، وأخبارهم مع أبي جعفر المنصور. وكان منهم الملوك الأدارسة بالمغرب الأقصى بنو إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل. ومن عقبهم بنو حمود ملوك الأندلس الدائلون بها من بني أمية آخر دولتهم. ومنهم بنو حمود بن أحمد بن عليّ بن عبيد الله بن عمر بن إدريس، وسيأتي ذكر أخبارهم. ومنهم بنو سليمان بن عبد الله الكامل. كان من عقبه ملوك اليمامة بنو محمد الأخيضر بن يوسف بن إبراهيم ابن موسى الجون، ومنهم بنو صالح بن موسى بن عبد الله الساقي، ويلقّب بأبي الكرام بن موسى الجون، وهم الذين كانوا ملوكا بغانة من بلاد السودان بالمغرب الأقصى، وعقبهم لك معروفون. ومن عقبه أيضا الهواشم بنو أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد الأكبر بن موسى الثاني بن عبد الله أبي الكرام. كانوا أمراء مكّة لعهد العبيديّين وقد مرّ ذكرهم. ومن أعقابهم بنو قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن موسى الجون، وملكوا مكّة بعد الهواشم على يد قتادة أبيهم هذا. فمنهم بنو نمى بن سعد بن عليّ بن قتادة أمراء مكّة لعهدنا. ومن عقب داود بن حسن المثنّى السليمانيون الذين كانوا بمكة وهم بنو سليمان ابن داود وغلبهم عليها الهواشم آخرا وصاروا إلى اليمن فقامت الزيدية بدعوتهم كما مرّ في أخبارهم. ومن عقب حسن المثلّث بن حسن المثنّى حسين بن عليّ بن حسن المثلّث الخارج على الهادي وقد مرّ ذكره. ومن عقب إبراهيم العمر بن حسن المثنّى ابن طباطبا واسمه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم كان منهم محمد بن طباطبا أبو الأئمة بصعدة الذين غلبهم عليها بنو سليمان بن داود بن حسن المثنّى حين جاءوا من مكّة. ثم غلبهم بنو الرسي عليها، ورجعوا إلى إمامهم بصعدة وهم بها لهذا العهد ومنهم بنو سليمان بن داود بن حسن المثنّى وابنه محمد بن سليمان القائم بالمدينة أيام المأمون. قال ابن حزم: وعقبه بالمدينة لأبي جعفر المنصور، ولا عقب لزيد إلّا منه. وكان من عقبه محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد. قام بالمدينة أيام المعتمد وجاهر بالمنكرات والقتل إلى أن تعطّلت الجماعات. ومن عقبه أيضا القائم بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد وأخوه محمد القائم من بعده وقد مرّ خبرهما. ومنهم الداعي الصغير بالريّ وطبرستان وهو الحسن بن ابن خلدون م 10 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 القاسم بن عليّ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد الطحاني بن القاسم بن الحسن ابن زيد، وكانت بين هذا الداعي الصغير وبين الأطروش حروب، وقتل هذا الداعي سنة تسع عشرة وثلاثمائة. ومن عقبه أيضا القاسم بن عليّ بن إسماعيل أحد قوّاد الحسن بن زيد. وهم غيّروا نعم أهل تلك الآفاق، وأذهبوا بمهجتهم وكانوا سببا لتورّد الديلم ببلاد الإسلام لما يستجيشونهم. وخرج معهم ومع الأطروش الحسني ما كان بن كالي ملك الديلم. وكان مرداويح وبنو بويه من بعض رجاله، وكان لهم من عشيرهم قوّاد ورجال تسمّوا باسم الديلم من أجل مرباهم بينهم والله يخلق ما يشاء. (وأمّا الحسين) وهو القتيل بالطعن [1] أيام يزيد بن معاوية، فمن ولده عليّ بن زين العابدين بن زيد الشهيد، ومحمد الباقر، وعبد الله الأرقط، وعمر والحسن الأعرج، فمن ولد الأرقط الحسين الكويكي ابن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الأرقط، كان من قوّاد الحسن الأطروش ابن الحسن بن علي القائم ابن علي بن عمر، قام بأرض الطالقان أيام المعتصم. ثم هرب من سفك الدماء واستتر إلى أن مات وكان معتزليا. ومنهم الأطروش أسلم على يديه الديلم وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر، وكان فاضلا حسن المذهب عدلا، ولي طبرستان وقتل سنة أربع وثلاثمائة، وقام بعده أخوه محمد ومات. وقام الحسين ابن أخيه محمد بن علي وقتل بها سنة ست عشرة وثلاثمائة، قتله جيوش نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد الساماني صاحب خراسان. ومن ولد الحسين الهمرّج بن زين العابدين بن عبد الله العقيقي بن الحسين، كان من ولده الحسين بن محمد بن جعفر ابن عبد الله العقيقي قتله الحسن بن زيد صاحب طبرستان. ومنهم جعفر بن عبيد الله ابن الحسين الأعرج كان شيعته يسمّونه حجّة الله وكان من عقبه الملقّب بمسلم الّذي دبّر أمر مصر أيام كافور، وهو محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدّث بن الحسين بن يعفر حجّة الله، وابنه طاهر بن مسلم. ومن عقب طاهر هذا أمراء المدينة لهذا العهد بنو جماز بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيخة بن هاشم بن القاسم بن مهنّى، ومهنّى بن مهنّى بن داود بن القاسم أخي مسلم وعمر وطاهر. وزعم ابن سعيد أن بني جماز بن شيخة أمراء المدينة هؤلاء من ولد عيسى بن زيد   [1] هكذا بالأصل ولعلها الطف يعني كربلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 الشهيد، وفيه نظر. ومن ولد الحسين الحسن الأعرج وزيد هو القائم بالكوفة على هشام بن عبد الملك سنة إحدى وعشرين ومائة، وقتل وخرج ابنه يحيى سنة خمس وعشرين بخراسان وقتل، وقد انتمى صاحب الزنج في بعض أوقاته إليه وأخوه عيسى بن زيد الّذي حارب المنصور أول خلافته من ولد الحسين الّذي كان من عقبه يحيى بن عمر بن يحيى القائم بالكوفة أيام المستعين، وكان حسن المذهب في الصحابة وإليه ينسب العمريّون الذين استولوا على الكوفة أيام الديلم من قبل السلطان ببغداد. وعلي بن زيد بن الحسين بن زيد قام بالكوفة، ثم هرب إلى صاحب الزنج بالبصرة فقتله وأخذ جارية له كان سباها من البصرة. ومن ولد محمد الباقر بن زين العابدين عبد الله الأفطح وجعفر الصادق، فكانت لعبد الله الأفطح شيعة يدّعون إمامته: منهم زرارة بن أعين الكوفي. ثم قام بالمدينة وسأله عن مسائل من الفقه فألفاه جاهلا فرجع عن القول بإمامته فانقطعت الأفطحيّة. وزعم ابن حزم أن بني عبيد ملوك مصر ينسبون إليه وليس ذلك بصحيح. ومن ولد جعفر الصادق إسماعيل الإمام، وموسى الكاظم، ومحمد الديباجة، فأمّا محمد الديباجة فخرج بمكّة أيام المأمون وبايع له أهل الحجاز بالخلافة وحمله المعتصم لما حج، وجاء به إلى المأمون فعفا عنه، ومات سنة ثلاث ومائتين. وأمّا إسماعيل الإمام وموسى الكاظم فعليهما وعلى بنيهما مدار اختلاف الشيعة، وكان الكاظم على زيّ الأعراب مائلا إلى السواد وكان الرشيد يؤثره ويتجافى عن السعاية فيه كما مرّ ثم حبسه. ومن عقبه بقية الأئمة الاثني عشر عند الإمامية من لدن علي بن أبي طالب الوصيّ، ووفاته سنة خمس وثلاثين، ثم ابنه الحسن ووفاته سنة خمس وأربعين، ثم أخوه الحسين ومقتله سنة إحدى وستين، ثم ابنه زين العابدين ووفاته [1] ثم ابنه محمد الباقر ووفاته سنة إحدى وثمانين ومائة، ثم ابنه جعفر الصادق ووفاته سنة ثلاث وأربعين ومائة، ثم ابنه موسى الكاظم ووفاته سنة ثلاث وثمانين ومائة وهو سابع الأئمة عندهم. ثم ابنه عليّ الرضا ووفاته سنة ثلاث ومائتين. ثم ابنه محمد المقتفي [2] ووفاته سنة عشرين   [1] هكذا بياض بالأصل ويذكر ابن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان خبر وفاته فيقول: «توفي في آخر يوم من صفر سنة اثنين ومائتين، قيل بل توفي خامس ذي الحجة، وقيل ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين بمدينة طوس وصلى عليه المأمون ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد» . [2] هو محمد الجواد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 ومائتين. ثم ابنه علي الهادي ووفاته سنة أربع وخمسين ومائتين. ثم ابنه حسن العسكري ووفاته سنة ستين ومائتين. ثم ابنه محمد المهدي وهو الثاني عشر وهو عندهم حيّ منتظر وأخبارهم معروفة. ومن عقب موسى الكاظم من غير الأئمة ابنه إبراهيم المرتضى، ولّاه محمد بن طباطبا وأبو السرايا على اليمن، فذهب إليها ولم يزل بها أيام المأمون يسفك الدماء حتى لقّبه الناس بالجزّار، وأظهر الإمامة عند ما عهد المأمون لأخيه الرضا. ثم أتهم المأمون بقتله فجاهر وطلب لنفسه. ثم عقد المأمون على حرب الفاطميّين باليمن لمحمد بن زياد بن أبي سفيان لما بينهم من البغضاء فأوقع بهم مرارا، وقتل شيعتهم وفرّق جماعتهم، ومن عقبه موسى بن إبراهيم جدّ الشريف الرضي والمرتضى، واسم كلّ منهما علي بن الحسين بن محمد بن موسى بن إبراهيم. ومن عقب موسى الكاظم ابنه زيد ولّاه أبو السرايا على الأهواز، فسار إلى البصرة وملكها وأحرق دور العبّاسيّين بها فسمّي زيد النار، ومن عقبه زيد الجنة بن محمد بن زيد بن الحسن بن زيد النار من أفاضل هذا البيت وصلحائهم، حمل إلى بغداد في محنة الفاطميّين أيام المتوكل، ودفع إلى ابن أبي داود يمتحنه فشهد له وأطلقه. ومن عقب موسى الكاظم ابنه إسماعيل ولّاه أبو السرايا على فارس. ومن عقب جعفر الصادق من غير الأئمة محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر، قاما بالمدينة سنة إحدى وسبعين ومائتين وسفكا الدماء وانتهبا الأموال، واستلحما آل جعفر بن أبي طالب وأقامت المدينة شهرا لا تقام فيها جمعة ولا جماعة. ومن عقب إسماعيل الإمام العبيديّون خلائف القيروان ومصر بنو عبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل وقد مرّ ذكرهم. وما للناس من الخلاف في نسبهم وهو مطروح كله وهذا أصح ما فيه. وقال ابن حزم: إنهم من بني حسن البغيض وهو عمّ المهدي وعنده أنها دعوى منهم. (وأمّا محمد بن الحنفية) فكان من ولده عبد الله بن عبّاس، وأخوه علي بن محمد وابنه الحسن بن علي بن محمد، وكلّ ادّعت الشيعة إمامته وخرج باليمن على المأمون ولد عليّ من غير هؤلاء عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن ولد جعفر بن أبي طالب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القائم بفارس، وبويع بالكوفة وأراد بعض شيعة العبّاسية تحويل الدعوة إليه فمنع أبو مسلم من ذلك وكانت له شيعة ينتظرونه، وساقوا الخلافة إليه من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية بالوصيّة، وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 فاسقا وكان معاوية ابنه نظير أبيه في الشرّ. انتهى الكلام في أنساب الطالبيّين وأخبارهم، فلنرجع الآن إلى أخبار بني أمية بالأندلس المنازعين للدعوة العبّاسية. ثم نرجع إلى دول القائمين بالدعوة العبّاسية المستبدّين عليهم من العرب والترك واليمن والجزيرة والشام والعراق والمغرب، والله المستعان. (الخبر عن دولة بني أمية بالأندلس من هذه الطبقة المنازعين للدعوة العباسية وبداية أمرهم وأخبار ملوك الطوائف من بعدهم) كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية عن عدوة البحر الرومي، وبالجانب الغربي منها يسمى عند العرب أندلوش، وتسكنه أمم من إفرنجة المغرب أشدّهم وأكثرهم الجلالقة. وكان القوط قد تملكوه وغلبوا على أمره لمئين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة. ثم عقدوا معهم السلم على أن تنصرف القوط إلى الأندلس، فساروا إليها وملكوها. ولما أخذ الروم واللطينيون لبسلة [1] النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أهل إفرنجة والقوط عليها فدانوا بها وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة وكانت دار ملكهم. وربما انتقلوا ما بينها، وبين قرطبة وماردة وإشبيليّة وأقاموا كذلك نحو أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لزريق وهو سمة لملوكهم كجرجير سمة ملوك صقلّيّة ونسب القوط وخبر دولتهم قد تقدّم. وكانت له حظوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية حظوها من فرضة المجاز بطنجة، ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم. وكان ملك البرابرة بذلك القطر الّذي هو اليوم جبال غمارة يسمى بليان [2] وكان يدين بطاعتهم وبملتهم، وموسى بن نصير أمير العرب إذ ذاك عامل   [1] لبلة: بفتح اوله ثم السكون ولام أخرى: قصة كورة بالأندلس كبيرة يتصل عملها بعمل أكشونية وهي شرق من أكشونية وغرب من قرطبة، بينها وبين قرطبة على طريق إشبيلية خمسة أيام اربعة وأربعون فرسخا وبين اشبيلية اثنان وأربعون ميلا. (معجم البلدان) . [2] اسمه الحقيقي ليليان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 على إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك، ومنزله بالقيروان. وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ودوّخ أقطاره وأوغل في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزقاق، واستنزل بليان لطاعة الإسلام وخلف مولاه طارق بن زياد الليثي واليابطنجة، وكان بليان ينقم على لزريق ملك القوط لعهده بالأندلس لفعله بابنته في داره كما زعموا، على عادتهم في بنات بطارقتهم، فغضب لذلك وأجاز إلى لزريق فأخذ ابنته منه. ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلّهم على غرة فيهم أمكنت طارقا الفرصة، فانتهزها لوقته وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلاثمائة من العرب، وانتهب معهم من البربر زهاء عشرة آلاف فصيرهم عسكرا [1] ونزل بهم جبل الفتح فسمى جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به، وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصين. وبلغ الخبر لزريق فنهض إليهم يجرّ أمم الأعاجم وأهل ملّة النصرانية في زهاء أربعين ألفا فالتقوا بفحص شريش فهزمه إليه ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم. وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم، فحركته الغيرة وكتب إلى طارق يتوعّده بأنه يتوغّل بغير إذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به، واستخلف على القيروان ولده عبد الله وخرج معه حسين بن أبي عبد الله المهدي الفهري. ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، ووافى خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس. وتلقّاه طارق وانقاد واتبع، وتمّم موسى الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق، وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب، ودوّخ أقطارها وجمع غنائمها. وجمع أن يأتي   [1] هكذا بياض بالأصل والمعنى غير واضح والعبارة مشوشة وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 562: «ولما بلغ رذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه، وكان غائبا في غزاته، فرجع منها وطارق قد دخل بلاده مجمع له جمعا يقال: بلغ مائة ألف، فلما بلغ طارقا الخبر كتب الى موسى يستمدّه ويخبره بما فتح وأنّه زحف اليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به. فبعث اليه بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثني عشر ألفا ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ويتجسّس لهم الأخبار، فأتاهم رذريق في جنده، فالتقوا على نهر لكّة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة اثنتين وتسعين، واتصلت الحرب ثمانية أيام، وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الّذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك، واتفقوا على الهزيمة بغضا لرذريق ..... » . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 المشرق على القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام ودروب الأندلس [1] ويخوض ما بينها من بلاد الأعاجم أمم النصرانيّة مجاهدا فيهم مستلحما لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة. ونمي الخبر إلى الوليد فاشتدّ قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما همّ به موسى غرر بالمسلمين، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف، وأسرّ إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع هو وكتب له بذلك عهده ففت ذلك في عزم موسى، وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها. واستعمل ابنه عبد العزيز لغزوها وجهاد أعدائها، وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة، واحتلّ موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين وارتحل إلى الشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر. يقال: كان من جملتها ثلاثون ألف فارس من السبي. وولّى على إفريقية ابنه عبد الله، وقدم على سليمان فسخطه ونكبه. وسارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته، وكان خيّرا فاضلا، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة. وولي من بعده أيوب بن حبيب اللّخميّ وهو ابن أخت موسى بن نصير فتولى عليها ستة أشهر. ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس فتارة من قبل الخليفة وتارة من قبل عامله على القيروان وأثخنوا في أمم الكفر وافتتحوا برشلونة من جهة الشرق وحصون بشتالة [2] وبسائطها من جهة الجوف، وانقرضت أمم القوط وأرز [3] الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب، فتحصّنوا بها وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلّوا بسائط وراءها، وتوغّلوا في بلاد الفرنجة وعصف ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجب للعدوّ بعض الكرة فرجع الفرنج ما كانوا غلبوهم عليه. وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير، بعث إلى الأندلس الحرب بن عبد الرحمن بن عثمان [4] فقدم   [1] هكذا بالأصل. وفي نفح الطيب ج 1 ص 120: «وعزم على ان يستولي على القسطنطينية ثم يخترق آسية الصغرى حتى يصل الى دمشق» . [2] هي قشتالة. [3] أرز: أرزا وأروزا: تقبّض. والحيّة لجأت الى جحرها وتثبّتت فيه. ويقال فلان يأرز إلى وطنه اي حيث ما ذهب يرجع اليه. (المنجد) . [4] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 23: «ثم إن سليمان ولّى الأندلس الحرّ بن عبد الرحمن الثقفي، فأقام واليا عليها الى ان استخلف عمر بن عبد العزيز فعزله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 الأندلس وعزل أيوب بن حبيب وولي سنتين وثمانية أشهر. ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السنخم بن مالك الخولانيّ على رأس المائة من الهجرة وأمره أن يخمّس أرض الأندلس فخمّسها وبنى قنطرة قرطبة، واستشهد غازيا بأرض الفرنجة سنة اثنتين ومائة، فقدّم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى أن قدم عنبسة بن شحيم الكلبيّ من قبل يزيد بن مسلم عامل افريقية وكان أوّلهم يحيى بن سلمة الكلبيّ أنفذه حنظلة بن صفوان الكلبيّ والي افريقية لما استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع وأقام في ولايتها سنتين ونصفا ولم يغز ثم قدم إليها عثمان بن أبي [1] واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية، وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص العتبي فوافاها سنة عشر، وعزل قريبا يقال لسنة من ولايته، واختلف هل تقدّمه عثمان أم هو تقدّم عثمان. ثم ولي بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا قدم في المحرّم سنة إحدى عشرة وغزا أرض مقرشة فافتتحها وأقام عشرة أشهر. وتوفي سنة ثلاث عشرة لسنتين من ولايته، وقدم بعده محمد بن عبيد الله بن الحجاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا إفرنجة. وكانت له فيهم وقائع وأجبّ عسكره في رمضان سنة أربع عشرة فولى سنتين. وقال الواقدي: أربع سنين، وكان ظلوما جائرا في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة، وأوقع بهم وغنم، ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولي عتبة بن الحاج السلولي من قبل عبيد الله بن الحجاب فقدم سنة سبع عشرة. وأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهدا مظفّرا حتى بلغ سكنى المسلمين أرمونة، وصار مساكنهم على نهر ودّونة. ثم قام عليه عبد الملك بن قطن الفهريّ سنة إحدى وعشرين فخلعه وقتله. ويقال أخرجه من الأندلس وولّى مكانه إلى أن دخل بلخ بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين كما مرّ فغلب عليه، وولي الأندلس سنة أو نحوها. وقال الرازيّ: ثار أهل الأندلس بعقبة بن الحجّاج أميرهم في صفر من سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك، وولّوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر. وتوفي بسرقوسة في صفر سنة ثلاث وعشرين، واستقام الأمر لعبد الملك. ثم   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 158: «وفيها- 111- عزل عبيدة بن عبد الرحمان عامل افريقية عثمان بن نسعة عن الأندلس واستعمل بعده الهيثم بن عبيد الكنانيّ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 دخل بلخ بن بشر من أهل الشام ناجيا من وقعة كلثوم بن عيّاض مع البربر فثار على عبد الملك وقتله، وانحاز الفهريّون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه واجتمع عليهم من نكر فعلته بابن قطن وقام بأمرهم قطن وأميّة ابنا عبد الملك بن قطن، والتقوا فكانت الدبرة على الفهريّين، وهلك بلخ من الجراح التي أصابته في حربهم وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته، ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي، غلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلخ وانحاز عنه الفهريّون فلم يطيعوه، وولي سنين أظهر فيها العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن ثار به العصبة اليمانية فعسر أمره، وهاجت الفتنة. وقدم أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية، وركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدانت له أهل الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي سعد، وابنا عبد الملك فلقيهم وأحسن إليهم واستقام أمره. وكان شجاعا كريما ذا رأي وحزم، وكثر أهل الشام عنده ولم تحملهم قرطبة ففرّقهم في البلاد، وأنزل أهل دمشق البيرة لشبهها بها وسمّاها دمشق، وأنزل أهل حمص إشبيليّة وسمّاها حمص لشبهها بها، وأهل قنّسرين حسان وسمّاها قنسرين، وأهل الأردن ريّه وهي مالقة وسمّاها الأردن. وأهل فلسطين شدونة وهي شريش وسمّاها فلسطين، وأهل مصر تدمير وسمّاها مصر، وقفل ثعلبة إلى الشرق ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه وكان أبو الخطاب [1] أعرابيّا عصبيا أفرط عند ولايته في التعصّب لقومه من اليمانية وتحامل على المصريّة، وأسخط قيسا وأمر في بعض الأيام بالضّميل بن حاكم كبير القيسيّة، وكان من طوالع بلخ وهو الضّميل بن حاكم بن شمر بن ذي الجوشن، ورأس على الحصرية [2] ، فأمر به يوما فأقيم من مجلسه وتقنع، فقال له بعض الحجّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجوشن، فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها فسار الضّميل بن حاكم زعيمهم يومئذ، وألّب عليه قومه، واستعان بالمنحرفين عنه من اليمنيّة فخلع أبا الخطّاب سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته، وقدّم مكانه ثوابة بن سلامة الجذاميّ وهاجت الحرب المشهورة. وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس، منسلخ   [1] ابو الخطار: ابن الأثير ج 5 ص 272. [2] الأصح ان يقال: ورأس الحصرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 رجب سنة تسع وعشرين فضبط الأندلس، وقام بأمره الضّميل واجتمع عليه الفريقان وهلك لسنتين من ولايته، ووقع الخلاف بإفريقية وتلاشت أمور بني أميّة بالمشرق وشغلوا عن قاصية المغرب بكثرة الخوارج، وعظم أمر المسودة فبقي أهل الأندلس فوضى ونصبوا للأحكام خاصة عبد الرحمن بن كثيّر. ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضريّة واليمنيّة، وادالتها بين الجندين سنة لكل دولة. وقدم المضريّة على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ سنة تسع وعشرين، واستقرّ سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافقتهم اليمنية لميعاد ادالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم، فبيّتهم يوسف بمكان نزلهم من شقندة من قرى قرطبة [1] من الضميل بن حاتم والقيسيّة والمضريّة فاستلحموهم، واستبدّ يوسف بما وراء البحرين عدوة الأندلس، وغلب اليمنيّة على أمرهم فاستكانوا للغلبة، وتربّصوا بالدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل، فكان يوسف بن عبد الرحمن قد ولّى الضّميل بن حاتم سرقسطة، فلما ظهر أمر المسودة بالمشرق ثار الحباب ابن رواحة الزهريّ بالأندلس داعيا لهم وحاصر الضّميل بسرقسطة، واستمدّ يوسف فلم يمدّه رجاء هلاكه بما كان يغصّ به وأمدّته القيسيّة فأخرج عنه الحباب، وفارق الضّميل سرقسطة فملكها الحباب وولّى يوسف الضّميل على طليطلة إلى أن كان من أمر عبد الرحمن الداخل ما نذكره. (مسير عبد الرحمن الداخل الى الأندلس وتجديده الدولة بها) لما نزل ما نزل ببني أمية بالمشرق وغلبهم بنو العبّاس على الخلافة وأزالوهم عن كرسيّها وقتل عبد الله بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة اثنتين وثلاثين ومائة وتتبّع بنو مروان بالقتل، فطلبوا من بعدها بطن الأرض. وكان ممن أفلت منهم عبد   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 375: «فلما انتهى إلى أبي الخطّار موت ثوابة وولاية يوسف قال: إنّما أراد الصّميل ان يصير الأمر الى مضر، وسعى في الناس حتى ثارت الفتنة بين اليمن ومضر. فلما رأى يوسف ذلك فارق قصر الإمارة بقرطبة وعاد الى منزله، وسار ابو الخطّار الى شقندة فاجتمعت اليه اليمانية، واجتمعت المضرية الى الصّميل وتزاحفوا واقتتلوا أياما كثيرة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وكان قومه يتحيّنون له ملكا بالمغرب، ويرون فيه علامات لذلك يؤثرونها عن مسلمة بن عبد الملك، وكان هو قد سمعها منه مشافهة. فكان يحدّث نفسه بذلك فخلص إلى المغرب، ونزل على أخواله نفرة من برابرة طرابلس. وشعر به عبد الرحمن بن حبيب وكان قتل ابني الوليد بن عبد الملك لما دخلا إفريقية من قبله، فلحق عبد الرحمن بمغيلة ويقال بمكناسة، ويقال: نزل على قوم من زناتة فأحسنوا قبوله واطمأنّ فيهم. ثم لحق بمليلة وبعث بدرا مولاه، إلى من بالأندلس من موالي المروانيّين وأشياعهم فاجتمع بهم، وبثّوا له بالأندلس دعوة ونشروا له ذكرا. ووافق ذلك ما قدّمناه من الفتنة بين اليمنيّة والمضريّة، فاجتمعت اليمنيّة على أمره، ورجع إليه بدر مولاه بالخبر فأجاز البحر سنة ثمان وثلاثين في خلافة أبي جعفر المنصور، ونزل بساحل السّند وأتاه قوم من أهل إشبيليّة فبايعوه. ثم انتقل إلى كورة رحب فبايعه عاملها عيسى بن مسوّر، ثم رجع الى شدونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخميّ. ثم أتى مورور فبايعه ابن الصبّاح ونهز [1] إلى قرطبة واجتمعت عليه اليمنيّة. ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ وكان غازيا بجلّيقة فانفضّ عسكره وسار إلى قرطبة وأشار عليه وزيره الضّميل ابن حاتم بالتلطّف له والمكر به، فلم يتم له مراده وارتحل عبد الرحمن من المنكب فاحتل بمالقة فبايعه جندها، ثم برندة فبايعه جندها، ثم بشريش كذلك، ثم بأشبيليّة فتوافت عليه الأمداد والأمصار، وتسايلت المضرية إليه حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهريّة والقيسيّة لمكان الضّميل منه، زحف إليه حينئذ عبد الرحمن بن معاوية وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة فانكشف، ورجع إلى غرناطة فتحصّن بها وأتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله. ثم رغب إليه يوسف في الصلح فعقد له على أن يسكن قرطبة وأقفله معه، ثم نقض يوسف عهده. وخرج سنة إحدى وأربعين ولحق بطليطلة، واجتمع إليه زهاء عشرين ألفا من البربر، وقدم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني، كان وفد عليه من المشرق، وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بمصر، فلما هلك سنة خمس عشرة بقي عبد الملك بمصر، فلما دخلت المسوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يوم   [1] بمعنى انتقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 الأندلس في عشرة رجال من بيته مشهورين بالبأس والنجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة إحدى وأربعين، فعقد له على إشبيليّة ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور. وسار يوسف إليهما وخرجا إليه فلقياه وتناجز الفريقان فكانت الدبرة على يوسف، وأبعد الغرّ واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة واحتزّ رأسه وتقدّم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره واستقر بقرطبة وبنى القصر والمسجد الجامع، أنفق ثمانين ألف دينار ومات قبل تمامه وبنى مساجد ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق، وكان يدعو للمنصور، ثم قطعها لما تمّ له الملك بالأندلس، ومهّد أمرها وخلد لبني مروان السلطان بها، وجدّد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها. واستلحم الثّوار في نواحيها وقطع دعوة العبّاسيين من منابرها وسدّ المذاهب منهم دونها. وهلك سنة اثنتين وسبعين ومائة، وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأنّ أوّل داخل من ملوك بني مروان هو، وكان أبو جعفر المنصور يسمّيه صقر بني أميّة لما رأى ما فعل بالأندلس، وما ركب إليها من الأخطار، وأنه صمد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا قوّة ولا أنصار فغلب على أهلها وعلى أميرهم، وتناول الملك من أيديهم بقوّة شكيمة وإمضاء عزم. ثم تحلّى وأطيع وأورثه عقبه. وكان عبد الرحمن هذا يلقب بالأمير وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين إذ بايع الخلافة بمقرّ الإسلام ومبتدأ العرب، حتى كان عبد الرحمن الناصر وهو الثامن منهم على ما نذكره فتسمّى بأمير المؤمنين وتوارث ذلك بنوه واحدا بعد واحد. وكان لبني عبد الرحمن الداخل بهذه العدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة ممتعة [1] اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة كما نذكر. وعند ما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الخلافة، واستفحل سلطانه وتجهّز فرويلة بن الأدفونش ملكهم، سار إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها وملكها من أيديهم، وردّ مديزلك وبريعال وسمورة وسلمنقة وقشتالة وسقونية، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور ابن أبي عامر رئيس الدولة كما نذكر في أخباره. ثم استعادوها بعده من بلاد الأندلس واستولوا على جميعها. وكان عبد الرحمن عند ما تمهد له الأمر بالأندلس، ودعا للسفّاح، ثم خلعه واستبدّ بأمره كما ذكرناه. وجد هشام بن عبد ربه الفهري   [1] بمعنى مزدهرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 مخالفا بطليطلة على يوسف من قبله، وبقي على خلافه، ثم أغزاه عبد الرحمن سنة تسع وأربعين بدرا مولاه وتمام بن علقمة فحاصراه ومعه حيوة بن الوليد الحصبي، وحمزة بن عبد الله بن عمر حتى غلباه، وجاء بهم إلى قرطبة فصلبوا. وسار من إفريقية سنة تسع وأربعين العلاء بن مغيث اليحصبي ونزل باجة من بلاد الأندلس داعيا لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه، ولقيه بنواحي إشبيليّة فقاتله أياما. ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه، وبعث عبد الرحمن برءوس كثيرة منهم إلى القيروان ومكّة، فألقيت في أسواقها سرا ومعها اللواء الأسود. وكاتب المنصور للعلاء ثم ثار سعيد اليحصبيّ المعروف بالمطري بمدينة لبلة طالبا بثأر من قتل من اليمنيّة مع العلاء وملك إشبيليّة، وسار إليه عبد الرحمن فامتنع ببعض الحصون فحاصره، وكان عتاب بن علقمة اللخمي بمدينة شدونة فأمدّ المطري، وبعث عبد الرحمن بدرا مولاه فحال دون المدد ودون المطري. ثم طال عليه الحصار وقتل في بعض أيامه، وولي مكانه بالقلعة خليفة بن مروان. ثم استأمن من بالقلعة إلى عبد الرحمن وأسلموا إليه الحصن فخرّبه وقتل عبد الرحمن خليفة ومن معه. ثم سار إلى غيّاث فحاصره بشدونة حتى استأمنوا فأمنهم، وعاد إلى قرطبة فخرج عليه عبد الرحمن بن خراشة الأسدي بكورة جيان. وبعث إليه العساكر فافترق جمعه واستأمن فأمّنه، ثم خرج عليه سنة خمس غياث بن المستبد الاسديّ، فجمع عامل باجة العساكر وسار إليه فهزمه وقتله، وبعث برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة. وفي هذه السنة شرع عبد الرحمن في بناء السور على قرطبة، ثم ثار رجل بشرق الأندلس من بربر مكناسة يعرف بشقنا بن عبد الواحد، كان يعلّم الصبيان وادعى أنه من ولد الحسين الشهيد، وتسمّى بعبد الله بن محمد وسكن شنة برية [1] واجتمع إليه خلق من البربر، فسار إليه عبد الرحمن فهرب في الجبال، واعتصم بها فرجع وولى على طليطلة حبيب بن عبد الملك، فولّى حبيب شنة بريّة سليمان بن عثمان بن مروان بن عثمان بن أبان بن عثمان بن عفّان، فسار إليه سليمان وقتله وغلب على ناحية فورية، فسار إليه عبد الرحمن سنة اثنتين وخمسين ومائة.   [1] شنة برية: تكتب شنت بريّة. وهي مدينة متصلة بحوز مدينة سالم بالأندلس وهي شرق قرطبة، وهي مدينة كبيرة، كثيرة الخيرات، لها حصون كثيرة نذكر منها ما بلغنا في مواضعها، بينها وبين قرطبة ثمانون فرسخا. (معجم البلدان) (الحلل السندسية ج 1 ص 452) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 وأعياه أمره وصار ينتقل في البلاد ويهزم العساكر وكان سكن بحصن شيطران من جبال بلنسية فسار إليه عبد الرحمن سنة ست وخمسين واستخلف على قرطبة ابنه سليمان فأتاه الخبر بعصيان أهل إشبيليّة وثورة عبد الغفّار، وحيوة بن قلاقس مع اليمانية فرجع عن شقنا، وهاله أمر إشبيليّة. وقدم عبد الملك بن عمر لقتالهم فساروا إليه ولقيهم مستميتا فهزمهم وأثخن فيهم. ولحق بعبد الرحمن فشكرها له وجزاه خيرا ووصله بالصهر وولّاه الوزارة، ونجا عبد الغفّار وحيوة بن قلاقس إلى إشبيليّة، فسار عبد الرحمن سنة سبع وخمسين إليها فقتلهم وقتل خلقا ممن كان معهم، واستراب من يومئذ بالعرب فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم واتخاذ الموالي. ولما كانت سنة إحدى وستين غدر بشقنا رجلان من أصحابه وجاء برأسه إلى عبد الرحمن. ثم سار عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ المعروف بالقلعي من إفريقية إلى الأندلس مظهرا للدعوة العبّاسيّة، ونزل بتدمير، واجتمع إليه البربر. وكان سليمان بن يقظان عاملا على برشلونة فكتب إليه يدعوه إلى أمره فلم يجبه فسار إليه في البربر، ولقيه سليمان فهزمهم وعاد إلى تدمير وزحف إليه عبد الرحمن من قرطبة، فاعتصم بجبل بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه الأموال فاغتاله رجل من أصحابه البربر، وحمل رأسه إلى عبد الرحمن وذلك سنة اثنتين وستين. ورجع عبد الرحمن إلى قرطبة. ثم خرج دحية الغسّاني في بعض حصون البيرة، فبعث إليه شهيد بن عيسر فقتله، وخالف البربر وعليهم بحرة بن البرانس، فبعث بدرا مولاه فقتله وفرّق جموعهم. وفرّ القائد السلمي من قرطبة الى طليطلة وعصى بها فبعث حبيب بن عبد الملك، وحاصره فهلك في الحصار. وزحف عبد الرحمن سنة اربع وستين إلى سرقسطة وبها سليمان بن يقظان والحسين بن عاصي، وقد حاصرهما ثعلبة بن عبيد من قوّاده فامتنعت عليه، وقبض سليمان على ثعلبة وبعث إلى ملك الفرنج فجاء وقد تنفّس عنه الحصار فدفع إليه ثعلبة. ثم غلب الحسين على سليمان وقتله، وانفرد فحاصره عبد الرحمن حتى صالحه وسار إلى بلاد الفرنج والبشكنس ومن وراءهم من الملوك، ورجع إلى وطنه وغدر الحسين بسرقسطة، فسار إليه عامله ابن علقمة فأسر أصحابه، ثم سار إليه عبد الرحمن سنة ست وستين وملكها عنوة وقتل الحسين وقتل أهل سرقسطة. ثم خرج سنة ثمان وستين أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن فلقيه بقسطلونة وهزمه، وأثخن في أصحابه. ثم لقيه ثانية سنة تسع وستين فهزمه، ثم هلك سنة سبعين في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 أعمال طليطلة وقام مكانه أخوه قاسم وغزاه عبد الرحمن فحاصره فجاء بغير أمان فقتله. ثم توفي عبد الرحمن سنة اثنتين وسبعين ومائة لثلاثة وثلاثين سنة من إمارته. (وفاة عبد الرحمن الداخل وولاية ابنه هشام) ولما هلك عبد الرحمن كان ابنه الأكبر سليمان واليا على طليطلة، وكان ابنه هشام على ماردة، وكان قد عهد له بالأمر. وكان ابنه عبد الله المسكين حاضرا بقرطبة فأخذ البيعة لأخيه هشام وبعث إليه بالخبر فسار إلى قرطبة، وقام بالدولة وغصّ بذلك أخوه سليمان فأظهر الخلاف بطليطلة، ولحق به أخوه عبد الله وبعث هشام في أثره فلم يلحق. وسار هشام في العساكر فحاصرهم بطليطلة وخالفه سليمان إلى قرطبة فلم يظفر بشيء منها وبعث هشام بن عبد الملك في أثره فقصد ماردة فحاربه عامله وهزمه الله بغير أمان ودخل في طاعته فأكرمه. ثم بعث سنة أربع وسبعين ابنه معاوية لحصار أخيه سليمان بتدمير فدوّخ نواحيها، وهرب سليمان الى جبال بلنسية فاعتصم بها، ورجع معاوية إلى أبيه بقرطبة. ثم طلب سليمان العبور الى عدوة البربر بأهله وولده فأجازه هشام وأعطاه ستين ألف دينار صلحا على تركة أبيه. وأقام بعدوة المغرب وسار معه أخوه عبد الله. ثم خرج على هشام سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بطرسوسة من شرق الأندلس وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه. ودعي إلى اليمانية فملكها، وأخرج عاملها يوسف العبسيّ فعارضه موسى بن فرقوق في المضريّة بدعوة هشام، وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وملك مدينة سرقسطة وواشقة، وكان هشام في شغل بأمر أخويه، فلما فرغ منهما بعث أبا عثمان عبيد الله بن عثمان بالعساكر إلى مطروح فحاصره بسرقسطة أياما، ثم أفرج عنه ونزل بطرسوسة قريبا وأقام بتحيفة، ثم غدر بمطروح بعض أصحابه وجاء برأسه إلى أبي عثمان، فبعث به إلى هشام وسار إلى سرقسطة فملكها. ثم دخل إلى دار الحرب غازيا، وقصد ألبة والقلاع فلقي العدوّ وظفر بهم، وفتح الله عليه وذلك سنة خمس وسبعين، وبعث هشام العساكر مع يوسف بن نحية إلى جلّيقة فلقي ملكها ابن مند وهزمه وأثخن في العدوّ. وفي هذه السنة دخل أهل طليطلة في طاعة الأمير هشام بعد منصرف أخويه عنهم فقبلهم، وأمّنهم وبعث عليها ابنه الحكم واليا فضبطها وأقام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 بها. وفي سنة ست وسبعين ومائة بعث هشام وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدو فبلغ ألبة والقلاع وأثخن في نواحيها. ثم بعثه في العساكر إلى أربونة [1] وجرندة فأثخن فيهما ووطئ أرض سلطانية، وتوغّل في بلادهم ورجع بالغنائم التي لا تحصى واستمدّ الطاغية بالبشكنس وجيرانه من الملوك فهزمهم عبد الملك، ثم بعث بالعساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى بلاد جلّيقة فأثخنوا في بلاد العدوّ وغنموا ورجعوا. وفي هذه السنة هاجت فتنة بتاكدنا وهي بلاد رندة من الأندلس، وخلع البربر لك الطاعة فبعث إليهم هشام بن عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى معاوية بن أبي سفيان فأبادهم، وخرّب بلادهم وفرّ من بقي منهم فدخلوا في القبائل وبقيت تاكدنا قفراء خالية سبع سنين. وفي سنة تسع وسبعين بعث هشام الحاجب عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث في العساكر إلى جليقة فانتهى إلى ميورقة [2] فجمع ملك الجلالقة واستمدّ بالملوك، ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه، وأتبعه عبد الملك وتوغّل في بلادهم وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك وأثخنوا في البلاد واعترضهم عسكر الإفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ثم خرجوا ظافرين سالمين. (وفاة هشام وولاية ابنه الحكم) ثم توفي هشام بن عبد الرحمن سنة ثمانين ومائة لسبع سنين من إمارته وقيل ثمان سنين، وكان من أهل الخير والصلاح، وكان كثير الغزو والجهاد، وهو الّذي أكمل بناء الجامع بقرطبة الّذي كان أبوه شرع فيه، وأخرج المصرف لآخذي الصدقة على الكتاب والسنّة. ولما مات ولي ابنه الحكم بعده فاستكثر من المماليك وارتباط الخيل، واستفحل ملكه وباشر الأمور بنفسه. ولأوّل ولايته أجاز ابنه عبد الله البلنسي من   [1] أربونة: بفتح أوله ويضم، ثم السكون، وضم الباء الموحدة، وسكون الواو، ونون وهاء: بلد في طرف الثغر من ارض الأندلس، بينها وبين قرطبة على ما ذكره ابن الفقيه، ألف ميل (معجم البلدان) . [2] ميورقة: بالفتح ثم الضم، وسكون الواو والراء يلتقي فيه ساكنان، وقاف: جزيرة في شرقي الأندلس بالقرب منها جزيرة يقال لها منورقة. (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 عدوة المغرب فملك بلنسية، ثم أخوه سليمان من طنجة فحاربهما الحكم سنة ثم ظفر بعمّه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين. وأقام عبد الله ببلنسية وكفّ عن الفتنة وأرسل الحكم في الصلح على يد يحيى بن يحيى الفقيه وغيره فصالحه سنة ست وثمانين. وفي خلال الفتنة مع عمّيه سليمان وعبد الله اغتنم الفرنج الفرصة واجتمعوا وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين، وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها. وبعث الحكم العساكر إلى برشلونة مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة فأثخن فيها وخالفهم العدو إلى المضايق فرجع إلى التعبية وظفر بهم، ورجع إلى بلاد الإسلام ظافرا. وفي سنة إحدى وثمانين ثار البهلول بن مرزوق بناحية الثغر، وملك سرقسطة، وفيها جاء عبد الله البلنسيّ عمّ الحكم كما ذكرناه. وفي هذه السنة خالف عبيدة بن عمير بطليطلة، وكان القائد عمروس بن يوسف من قوّاد الحكم بطلبيرة فكتب إلى هشام بحصارهم فحاصرهم. ثم استمال بني مخشي من أهل طليطلة فقتلوا عبيدة وبعثوا برأسه إلى عمروس فبعث به إلى الحكم، وأنزل بني مخشي عنده فقتلهم البربر بطلبيرة بثأر كاتب لهم، وقتل عمروس والباقين واستقامت تلك الناحية. واستعمل عمروس ابنه يوسف على مدينة طليطلة ولحق بالفرنج سنة تسع وثمانين بعض أهل الحرابة، وأطمعوا الفرنج في ملك طليطلة فزحفوا إليها وملكوها وأسروا أميرها يوسف وحبسوه بصخرة قيسر [1] ، وسار عمروس من فوره إلى سرقسطة ليحميها من العدوّ، وبعث العساكر مع ابن عمّه، فلقي العدوّ وهزمهم وسار إلى صخرة قيسر وقد وهن الفرنج من الهزيمة فافتتحها، وبعث عمروس نائبة وخلّص يوسف وعظم صيته. (وقعة الربض) كان الحكم في صدر ولايته قد انهمك في لذّاته، واجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي وطالوت الفقيه وغيرهما فثاروا به، وامتنع فخلعوه وبايعوا   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 187: «وكان قد انهزم من الحكم أهل بيت من الأندلس، أولوه قوة وبأس، لأنهم خرجوا عن طاعته، فالتحقوا بالمشركين فقوي أمرهم، واشتدت شوكتهم، وتقدموا الى مدينة تطيلة فحصروها وملكوها من المسلمين فأسروا أميرها يوسف بن عمروس وسجنوه بصخرة قيس. ابن خلدون م 11 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 محمد بن القاسم من عمومة هشام. وكان بالربض الغربي من قرطبة محلّة متصلة بقصره، وحصروه سنة تسعين ومائة وقاتلهم فغلبهم وافترقوا، وهدم دورهم ومساجدهم ولحقوا بفاس من أرض العدوة، ولحقوا بالإسكندريّة، ونزل بها منهم جمع وثاروا بها، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر وافتتحها وأجازهم إلى جزيرة أقريطش كما مرّ. وكان مقدّمهم أبا حفص عمر البلّوطي، فلم يزل رئيسا عليهم وولده من بعده إلى أن ملكها الفرنج من أيديهم. (وقعة الحفرة بطليطلة) كان أهل طليطلة يكثرون الخلاف ونفوسهم قويّة لحصانة بلدهم، فكانت طاعتهم ملتانة [1] فأعيا الحكم أمرهم واستقدم عمروس بن يوسف من الثغر، وكان أصله من أهل مدينة وشقة من المولّدين، وكان عاملا عليها فداخله في التدبير على أهل طليطلة، وكتب له بولايتها فأنسوا به واطمأنوا إليه. ثم داخلهم في الخلع وأشار عليهم ببناء مدينة يعتزل فيها مع أصحاب السلطان فوافقوه، وأمضى رأيه في ذلك. ثم بعث صاحب الأعلى [2] إلى الحكم يستنجده على العدوّ فبعث العساكر مع ابنه عبد الرحمن والوزراء، ومرّوا بطليطلة ولم يعرض عبد الرحمن لدخولها. ثم رجع العدوّ وكفى الله شره، فاعتزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فأشار عمروس عند ذلك على أهل طليطلة بالخروج إلى عبد الرحمن فخرج إليه الوجوه وأكرمهم، ودسّ خادم الحكم كتابه إلى عمروس بالحيلة على أهل طليطلة، فأشار عليهم عمروس بأن يدخلوا عبد الرحمن البلد، وأنزله بداره واتخذ صنيعا للناس واستعد له [3] على موعد لذلك فكان يدخلهم من باب ويخرجهم من آخر خشية الزحام فيدخلون إلى حفرة في القصر وتضرب رقابهم عليها إلى أن قتل معظمهم وفطن الباقون فنفروا وحسنت طاعتهم من بعد ذلك، إلى أيام الفتنة كما نذكر، ثم عصى أصبغ بن عبد الله   [1] لعله يعني ملتوية أي غير مرضية. [2] هو الثغر الأعلى كما في الكامل. [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 200: «وأشاع عمروس ان عبد الرحمن يريد ان يتخذ لهم وليمة عظيمة وشرع في الاستعداد لذلك، وواعدهم يوما ذكره» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 بماردة وأخرج عامل الحكم فسار إليه الحكم وحاصره وجاءه الخبر بعصيان أهل قرطبة فرجع وقتلهم. ثم استنزل أصبغ من بعد ذلك وأنزله قرطبة. وفي سنة اثنتين وتسعين جمع لزريق بن قار له ملك الفرنج وسار لحصار طرسوسة [1] فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه وفتح الله على المسلمين. ثم عاود أهل ماردة الخلاف عن الحكم سنة أربع وتسعين فسار إليهم وقاتلهم ثلاث سنين. وكثر عيث الفرنج في الثغور فسار إليهم سنة ست وتسعين فافتتح الحصون، وخرّب النواحي وأثخن في القتل والسبي والنهب وعاد إلى قرطبة ظافرا. وفي سنة مائتين بعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج فسار فيها وخرّبها ونهبها وهدم عدّة من حصونها، وأقبل إليه ملك الجلالقة في جموع عظيمة وتنازلوا على نهر واقتتلوا عليه أياما، ونال المسلمون منهم أعظم النيل، وأقاموا على ذلك ثلاث عشرة ليلة، ثم كثرت الأمطار ومدّ النهر وقفل المسلمون ظافرين. (وفاة الحكم وولاية ابنه عبد الرحمن الأوسط) ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته، وهو أوّل من جنّد بالأندلس الأجناد والمرتزقة، وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه واتّخذ المماليك، وكان يسمّيهم الخرس لعجمتهم، وبلغت عدّتهم خمسة آلاف، وكان يباشر الأمور بنفسه، وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس. وكان يقرّب الفقهاء والعلماء والصالحين، وهو الّذي وطأ الملك لعقبه بالأندلس. ولما مات قام بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن فخرج عليه لأوّل إمارته عبد الله البلنسي عمّ أبيه، وسار إلى تدمير يريد قرطبة فتجهّز له عبد الرحمن فحام عن اللقاء، ورجع إلى بلنسية ومات أثر ذلك فنقل عبد الرحمن ولده وأهله إلى قرطبة. ثم غزا لأوّل ولايته إلى جليقة فأبعد وأطال الغيبة وأثخن في أمم   [1] لعلها طرسونة أو طرطوشة: الاولى: مدينة بالأندلس بينها وبين تطيلة اربعة فراسخ، معدودة في أعمال تطيلة يسكنها العمال ومقاتلة المسلمين. أما طرطوشة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية وهي شرقي بلنسية وقرطبة، قريبة من البحر متقنة العمارة مبينة على ابره (معجم البلدان) والمدينة المقصودة هنا هي طرطوشة كما في الكامل لابن الأثير ج 6 ص 202. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 النصرانية هنالك ورجع. وقدم عليه سنة ست ومائتين من العراق زرآب المغنّي مولى المهدي ومعلم إبراهيم الموصلي، واسمه علي بن نافع فركب لتلقيه وبالغ في إكرامه، وأقام عنده بخير حال، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلف ولده مخلفة كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته. وفي سنة سبع كانت وقعة بالثغر كان الحكم قد قبض على عاملها ربيع، وصلبه حيّا لما بلغه من ظلمه، وهلك الحكم أثر ذلك فتوافى المتظلّمون من ربيع إلى قرطبة يطلبون ظلاماتهم، ومعظمهم جند البيرة ووقفوا بباب القصر وشغبوا، وبعث عبد الرحمن من يسكتهم فلم يقبلوا فركبت العساكر إليهم وأوقعوا بهم ونجا الفلّ منهم إلى البيرة وبالشر، وتتبعهم عبد الرحمن. وفي هذه السنة نشأت الفتنة بين المضريّة واليمانيّة واقتتلوا، فهلك منهم نحو من ثلاثة آلاف وبعث عبد الرحمن إليهم يحيى بن عبد الله بن خالد في جيش كثيف ليكفّهم عن الفتنة فكفّوا عن القتال لما أحسوا بوصوله. ثم عاودوا الحرب عند مغيبه، وأقاموا على ذلك سبع سنين. وفي سنة ثمان ومائتين أغزا حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى ألبة والقلاع فخرّب كثيرا من البلاد وانتسفها، وفتح كثيرا من حصونهم وصالح بعضا على الجزية واطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافرا وفي سنة ثلاث عشرة انتقض عليه أهل ماردة وقتلوا عامله فبعث إليهم العساكر فافتتحوها وعاودوا الطاعة وأخذوا رهائنهم وخرّبوا سورها، ورجعوا عنهم. ثم أمر عبد الرحمن بنقل حجارة السور إلى النهر فعاودوا الخلاف وأسروا العامل وأصلحوا سورهم فسار إليهم عبد الرحمن سنة أربع عشرة ومائتين وحاصرهم فامتنعوا عليه. ثم بعث العساكر سنة سبع عشرة فحاصرها فامتنعوا ثم حاصرها سنة عشرين وافتتحها ونجا فلّهم مع محمود ابن عبد الجبّار منهم إلى منت شلوط فاعتصم بها سنة عشرين ومائتين، فبعث عبد الرحمن العساكر لحصاره فلحق بدار الحرب واستولى على حصن من حصونهم أقام به خمسة أعوام حتى حاصره أدفونش ملك الجلالقة، وافتتح الحصن وقتل محمودا وجميع أصحابه سنة خمس وعشرين. وفي سنة خمس عشرة خرج بمدينة طليطلة هاشم الضرّاب من أهل واقعة الربض واشتدّت شوكته واجتمعت له الخلق وأوقع بأهل شنت بريّة، فبعث عبد الرحمن العساكر لقتاله فلم يصيبوا منه، ثم بعث عساكر أخرى فقاتلوه بنواحي دورقة فهزموه وقتل هو وكثير من أصحابه واستمرّ أهل طليطلة على الخلاف. وبعث عبد الرحمن ابنه أمية لحصارها فحاصرها مدّة ثم أفرج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 عنها ونزل قلعة رياح وبعث عسكرا للاغارة عليها وكان أهل طليطلة قد خرجوا في اتباعه الى قلعة رياح فكمن لهم فأوقعوا به فاغتم لذلك، وهلك لأيام قليلة. وبعث عبد الرحمن العساكر لحصارها ثانيا فلم يظفروا، وكمن المغيرون عليها بقلعة رياح يعاودونها بالحصار كل حين. ثم بعث عبد الرحمن أخاه الوليد في العساكر سنة اثنتين وعشرين لحصارها، وقد أشرفوا على الهلكة، وضعفوا عن المدافعة فاقتحمها عنوة وسكن أهلها وأقام إلى آخر ثلاث وعشرين ورجع. وفي سنة أربع وعشرين بعث عبد الرحمن قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو بلاد ألبة والقلاع، ولقي العدوّ فهزمهم وكثر السبي والقتل. ثم خرج لزريق ملك الجلالقة وأغار على مدينة سالم بالثغر. فسار إليه فرنون بن موسى وقاتله فهزمه، وأكثر القتل في العدوّ والأسر. ثم سار إلى الحصن الّذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه وهدمه. ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقة فدوّخها وافتتح عدّة حصون منها، وجال في أرضهم ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم. وفي سنة ست وعشرين ومائتين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض سلطانية، وكان على مقدّمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة ولقيهم العدوّ فصبروا حتى هزم الله عدوّهم، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود ووقعت بينه وبين بعض قوّاد عبد الرحمن ملاحاة، وأغلظ له القائد فكان ذلك سببا لانتقاضه، فعصى على عبد الرحمن وبعث إليه الجيوش مع الحرث بن بزيغ فقاتله موسى وانهزم وقتل ابن عمّه، ورجع الحرث إلى سرقسطة. ثم زحف الى تطيلة وحاصر بها موسى حتى نزل عنها على الصلح إلى أربط وأقام الحرب بتطيلة أياما. ثم سار لحصار موسى في أربط فاستنصر موسى بغرسية من ملوك الكفر فجاءه، وزحف الحرث وأكمنوا له فلقيهم على نهر بلبة، فخرجت عليه الكمائن بعد أن أجاز النهر وأوقعوا به وأسروه، وقد فقئت عينه، واستشاط عبد الرحمن لهذه الواقعة، وبعث ابنه محمدا في العساكر سنة تسع وعشرين وحاصر موسى بتطيلة حتى صالحه، وتقدّم إلى ينبلونة فأوقع بالمشركين عندها وقتل غرسية صاحبها الّذي أنجد موسى على الحرث. ثم عاود موسى الخلاف، فزحفت إليه العساكر فرجع إلى المسالمة ورهن ابنه عبد الرحمن على الطاعة، وقبله عبد الرحمن وولّاه تطيلة، فسار إليها واستقرّت في عمالته. ثم كان في هذه السنة خروج المجوس في أطراف بلاد الأندلس ظهروا سنة ست وعشرين بساحل أشبونة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 فكانت بينهم وبين أهلها الحرب ثلاثة عشر يوما. ثم تقدّموا إلى قادس، ثم إلى أشدونة، وكانت بينهم وبين المسلمين بها وقعة. ثم قصدوا إشبيليّة ونزلوا قريبا منها وقاتلوا أهلها منتصف المحرّم من سنة ثمان وعشرين فهزمهم المسلمون وغنموا. ثم مضوا إلى باجة ثم إلى مدينة أشبونة. ثم أقلعوا من هنالك وانقطع خبرهم وسكنت البلاد وذلك سنة ثلاثين. وتقدّم عبد الرحمن الأوسط بإصلاح ما خرّبوه من البلاد، وأكثف الحامية بها وذكر بعض المؤرخين حادثة المجوس هذه سنة ست وأربعين ومائتين ولعلّها غيرها والله أعلم. وفي سنة إحدى وثلاثين بعث عبد الرحمن العساكر إلى جليقة فدوّخوها وحاصروا مدينة ليون ورموا سوارها فلم يقدروا عليه، لأنّ عرضه سبعة عشر ذراعا فثلموا فيه ثلمة ورجعوا. ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم بن مغيث في العساكر إلى بلاد برشلونة فجاز في نواحيها، وأجاز الدروب التي تسمّى السرب إلى بلاد الفرنجة فدوّخها قتلا وأسرا وسبيا، وحاصر مدينتهم العظمى وعاث في نواحيها وقفل، وقد كان ملك القسطنطينية توفلس بن نوفلس بن نوفيل، بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية ويطلب مواصلته فكافأه عبد الرحمن عن هديته، وبعث إليه يحيى العزال من كبار الدولة، وكان مشهورا في الشعر والحكمة، فأحكم بينهما المواصلة وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العبّاس. وفي سنة ست وثلاثين هلك نصر الحفي القائم بدولة الأمير عبد الرحمن وكان يضغن على مولاه ويمالئ ابنه عبد الرحمن على ابنه الآخر وليّ عهده بما كانت أم عبد الله قد اصطنعته، وكانت حظية عند السلطان ومنحرفة عن ابنه محمد وليّ العهد، فداخلت نصرا هذا في أمرها، وداخل هو طبيب الدار في أن يسمّ محمدا وليّ العهد. ودسّ الطبيب بذلك إلى الأمير مع قهرمانة داره وأن نصرا أكرهه على إذابة السمّ فيه، وباكر نصر القصر ودخل على السلطان يستفهمه عن شرب الدواء فوجده بين يديه، وقال له إنّ نفسي قد بشعته فاشربه أنت فوجم، فأقسم عليه فلم يسعه خلافه فشربه وركب مسرعا إلى داره فهلك لحينه، وحسم السلطان علّة ابنه عبد الله وكان من بعدها مهلكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 (وفاة عبد الرحمن الأوسط وولاية ابنه محمد) ثم توفي عبد الرحمن الأوسط بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين لإحدى وثلاثين سنة من إمارته، وكان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة، وكانت أيامه أيام هدوّ وسكون. وكثرت الأموال عنده واتخذ القصور والمنتزهات وجلب إليها الماء، وجعل له مصنعا اتخذه الناس شريعة. وزاد في جامع قرطبة رواقين، ومات قبل أن يستتمه، فأتمه ابنه محمد بعده. وبني بالأندلس جوامع كثيرة ورتّب رسوم المملكة، واحتجب عن العامّة. ولما مات ولي مكانه ابنه محمد، فبعث لأوّل ولايته العساكر مع أخيه الحكم إلى قلعة رباح لإصلاح أسوارها، وكان أهل طليطلة خرّبوها فرمّها وأصلح حالها، وتقدّم إلى طليطلة فعاث في نواحيها. ثم بعث الجيوش مع موسى بن موسى صاحب تطيلة فعاث في نواحي ألبة والقلاع، وفتح بعض حصونها ورجع، وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها فعاثوا فيها، وفتحوا حصون برشلونة ورجعوا. ثم سار محمد سنة أربعين في جيوشه إلى طليطلة فاستمدّوا ملك جليقة وملك البشكنس فساروا لإنجادهم مع أهل طليطلة فلقيهم الأمير محمد على وادي سليط وقد أكمن لهم فأوقع بهم، وبلغ عدّة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفا. ثم سار إليهم سنة ثلاث وأربعين فأوقع بهم ثانية وأثخن فيهم وخرّب ضياعهم، فصالحوه ثم نكثوا. وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس، ونزلوا بأشبيليّة والجزيرة وأحرقوا مسجدها. ثم عادوا إلى تدمير ودخلوا قصر أريولة، وساروا إلى سواحل الفرنجة وعاثوا فيها، وانصرفوا فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين، واستشهد جماعة من المسلمين. ومضت مراكب المشركين إلى ينبلونة، وأسروا صاحبها غرسية وفدّى نفسه منهم بسبعين ألف دينار. وفي سنة سبع وأربعين حاصر طليطلة ثلاثين يوما. ثم بعث الأمير محمد سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها، وجمع لزريق للقائهم فلقيهم وانهزم، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر، وكان فتحا لا كفاء له. ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة فأثخن وخرّب، وانتقض عليه عبد الرحمن بن مروان الجليقي فيمن معه من المولّدين، وساروا إلى التخم، ووصل يده باذفونش ملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 جليقة فسار إلى الوزير هاشم بن عبد الرحمن في عساكر الأندلس سنة ثلاث وستين فهزمه عبد الرحمن وحصل هاشم في أسره. ثم وقعت المراودة في الصلح على أن ينزل عبد الرحمن بطليوس [1] ويطلق الوزير هاشما فتم ذلك سنة خمس وستين، ونزل عبد الرحمن بطليوس وكانت خربة فشيّدها وأطلق هاشما بعد سنتين ونصف من أمره. ثم تغيّر أذفونش لعبد الرحمن بن مروان وفارقه، وخرج من دار الحرب بعد أن قاتله ونزل مدينة أنطانية بجهات ماردة وهي خراب فحصّنها، وملك ما إليها من بلاد أليون وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى بطليوس، وكان مظفر بن موسى بن ذي النون الهواري عاملا بشنت بريّة فانتقض وأغار على أهل طليطلة فخرجوا إليه في عشرين ألفا، ولقيهم فهزمهم وانهزم معهم مطرّف بن عبد الرحمن، وقتل من أهل طليطلة خلق، وكان مطرّف بن موسى فردا في الشجاعة ومحلا من النسب ولقي شنجة صاحب ينبلونة أمير البشكنس فهزمه شنجة وأسره، وفرّ من الأسر ورجع إلى شنت بريّة فلم يزل بها قويم الطاعة إلى أن مات آخر دولة الأمير محمد. وفي سنة إحدى وستين انتقض أسد بن الحرث بن بديع بتاكرنا [2] وهي رندة فبعث إليهم الأمير محمد العساكر وحاصروهم حتى استقاموا على الطاعة. وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب وجعل طريقه على ماردة، وكان بها ابن مروان الجليقي، ومرّت طائفة من عسكر المنذر بماردة فخرج عليهم ابن مروان ومعه جمع من المشركين استظهر بهم، فقتل تلك الطائفة عن آخرهم. وفي سنة أربع وستين بعث ابنه المنذر ثانية إلى بلد ينبلونة، ومر بسرقسطة فقاتل أهلها، ثم تقدّم إلى تطيلة وعاث في نواحيها وخرّب بلاد بني موسى. ثم مضى لوجهه إلى ينبلونة فدوّخها ورجع. وفي سنة ست وستين أمر الأمير محمد بإنشاء المراكب بنهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط، ويأتي جليقة من ورائها، فلما تمّ إنشاؤها وجرت في البحر، أصابها الريح وتقطّعت فلم يسلم منها إلا القليل. وفي سنة سبع وستين ومائتين انتقض عمر بن حفصون بحصن يشتر من جبال مالقة وزحف إليه عساكر تلك الناحية فهزمهم، وقوى أمره وجاءت عساكر الأمير محمد فصالحهم ابن حفصون واستقام أمر الناحية. وفي سنة ثمان وستين بعث الأمير محمد ابنه المنذر لقتال أهل الخلاف   [1] مدينة كبيرة بالأندلس من اعمال ماردة على نهر آنة غربي قرطبة. [2] هي تاكرني: وهي كورة كبيرة بالأندلس ذات جبال حصينة، يخرج منها عدة انهار ولا تدخلها، وفيها معقل رندة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 فقصد سرقسطة وحاصرها وعاث في نواحيها، وفتح حصن ريطة. ثم تقدّم إلى دير بروجة، وفيه محمد بن لبّ بن موسى [1] . ثم قصد مدينة لاردة وقرطاجنة، ثم دخل دار الحرب وعاث في نواحي ألبة والقلاع وفتح منها حصونا ورجع. وفي سنة سبعين سار هاشم بن عبد العزيز بالعساكر لحصار عمر بن حفصون بحصن يشتر واستنزله إلى قرطبة فأقام بها، وفيها شرع إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لاردة، فجمع صاحب برشلونة لمنعه من ذلك، وسار إليه فهزمه إسماعيل وقتل أكثر رجاله. وفي سنة إحدى وسبعين سار هاشم بن عبد العزيز في العساكر إلى سرقسطة فحاصرها هاشم وافتتحها، ونزلوا جميعا على حكمه. وكان في عسكره عمر بن حفصون واستدعاه من الثغر فحضر معه هذه الغزاة فهرب ولحق بيشتر فامتنع به، وسار هاشم إلى عبد الرحمن بن مروان الجلّيقيّ وحاصره بحصن منت مولن، ثم رجع عنه فأغار ابن مروان على إشبيليّة ولقبت [2] . ثم نزل منت شلوط فامتنع فيه، وصالح عليه الأمير محمدا، واستقام على طاعته إلى أن هلك الأمير محمد. وكان ملك رومة والفرنجة لعهده اسمه فرلبيب بن لوزنيق. (وفاة الأمير محمد وولاية ابنه المنذر) ثم توفي الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في شهر صفر من سنة ثلاث وسبعين ومائتين لخمس وثلاثين سنة من إمارته، وولي بعده ابنه المنذر فقتل لأوّل ولايته هاشم بن عبد العزيز وزير أبيه، وسار في العساكر لحصار ابن حفصون فحاصره بحصن يشتر سنة أربع وسبعين، وافتتح جميع قلاعه وحصونه وكان منها ريّة وهم مالقة، وقبض على واليها من قبله عيشون فقتله، ولما اشتدّ الحصار على ابن حفصون سأل الصلح فأجابه وأفرج عنه، فنكث فرجع لحصاره وصالح ثم نكث مرتين فأقام المنذر على حصاره وهلك قريبا فانفرج عن ابن حفصون.   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 369 بعض الاختلاف في الأسماء «وافتتح حصن روطة، فأخذ منه عبد الواحد الروطيّ، وهو من أشجع أهل زمانه، وتقدّم الى دير تروجة، وبلد محمد بن مركب بن موسى» . [2] هي لقنت: حصنان من اعمال لاردة بالأندلس، لقنت الكبرى ولقنت الصغرى وكل واحدة تنظر الى صاحبتها. «معجم البلدان» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 (وفاة المنذر وولاية أخيه عبد الله ابن الأمير محمد) ثم توفي المنذر محاصرا لابن حفصون بجبل يشتر سنة خمس وسبعين ومائتين لسنتين من إمارته [1] فولي مكانه أخوه عبد الله ابن الأمير محمد، وقفل بالعساكر إلى قرطبة وقد اضطربت نواحي الأندلس بالثّوار، ولما كثر الثّوار قلّ الخراج لامتناع أهل النواحي من الأداء وكان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار، مائة ألف منها للجيوش، ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض، ومائة ألف ذخيرة ووفرا فأنفقوا الوفر في تلك السنين وقل الخراج. (أخبار الثوار وأوّلهم ابن مروان ببطليوس واشبونة) قد تقدّم لنا أن عبد الرحمن بن مروان انتقض على الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة خمس وخمسين في غزاته إلى بلاد الجلالقة، واجتمع إليه المولّدون وصار إلى تخم، ووصل يده بأذفونش ملك الجلالقة فعرف لذلك بالجلّيقي. وذكرنا كيف سار إليه هاشم بن عبد العزيز سنة ثلاث وستين في عساكر الأندلس فهزمه ابن مروان وأسره. ثم وقع الصلح على إطلاق هاشم وأن ينزل ابن مروان بطليوس، فتمّ ذلك سنة خمس وثلاثمائة ونزل عبد الرحمن بطليوس فشيّدها وترّس بالدولتين. ثم تغيّر به أذفونش وقاتله ففارق دار الحرب، ونزل مدينة أنطانية بجهات ماردة فحصّنها وهي خراب، وملك ما إليها من بلد أليون وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى بطليوس، واستعجل له الأمير عبد الله على بطليوس، وكان معه بدار الحرب سعدون السرساقي، وكان من الأبطال الشجعان، وكان دليلا للغزو وهو من الخارجين معه. فلما نزل عبد الرحمن بطليوس انتزى سعدون ببعض الحصون ما بين قلنيرة [2]   [1] استمر المنذر بالحكم حوالي سنة واحدة وأحد عشر شهرا وعشرة أيام وكان عمره نحوا من ستّ وأربعين سنة (ابن الأثير ج 7 ص 435) [2] لعلها قلنّة: بلد في الأندلس (معجم البلدان) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وباجة [1] . ثم ملك قلنيرة وترس [2] بأهل الدولتين إلى أن قتله أذفونش في بعض حروبه معه. (ابن تاكيت بماردة) كان محمد بن تاكيت من مصمودة، وثار بناحية الثغر أيام الأمير محمد، وزحف إلى ماردة وبها يومئذ جند من العرب وكتامة، فأعمل الحيلة في إخراجهم منها، ونزلها هو وقومه مصمودة. (بقية خبر ابن مروان) ولما ملك ابن تاكيت ماردة زحفت إليه العساكر من قرطبة، وجاء عبد الرحمن بن مروان من بطليوس مددا له فحاصروهم أشهرا ثم أقلعوا. وكان بماردة جموع من العرب ومصمودة وكتامة، فتحيّل محمد بن تاكيت على العرب وكتامة وأقاربهم فأخرجهم واستقل بماردة هو وقومه، وعظمت الفتنة بينه وبين عبد الرحمن بن مروان صاحب بطليوس بسبب مظاهرته عليه، وحاربه فهزمه ابن مروان مرارا كانت إحداها على لقنت، استلحم فيها مصمودة فقصّت من جناح ابن تاكيت واستجاش بسعدون السرساقي صاحب قلنيرة فلم يغنه، وعلا كعب بن مروان عليهم وتوتّق أمره، وطلبه ابن حفصون في الولاية فامتنع ثم هلك اثر ذلك سنة [3] أيام الأمير عبد الله، وولي ابنه عبد الرحمن بن مروان وأثخن في البرابرة المجاورين له وهلك لشهرين من ولايته، فعقد الأمير عبد الله على بطليوس لأميرين من العرب، ولحق من بقي من ولد عبد الرحمن بحصن شونة، وكانا اثنين من أعقابه، وهما مروان   [1] باحة في خمسة مواضع والمقصودة هنا باجة الأندلس. (معجم البلدان) [2] لعلها ترّسة من قرى آليش من أعمال طليطلة بالأندلس (معجم البلدان) [3] هكذا بياض بالأصل، ولم نتوصل الى تحديد سنة وفاته ويعود ابن خلدون فيذكر سنة مهلكه سنة ست وثلاثمائة لسبع وثلاثين سنة من ثورته. وذلك تحت عنوان «ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة ورندة واليس» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وعبد الله ابنا ابنه محمد، وعمّهما مروان. ثم خرجا من حصن شونة ولحقا بآخر من أصحاب جدّهما عبد الرحمن. ثم اضطرب الأميران ببطليوس وتنازعا وقتل أحدهما الآخر، واستقل ببطليوس، ثم تسوّر عبد الله منها سنة ست وثماني فقتله وملك بطليوس، واستفحل أمره والمعجّل له الأمير عبد الله عليها ونازل حصون البرابرة حتى طاعوا له، وحارب ابن تاكيت صاحب ماردة ثم اصطلحوا وأقاموا جميعا طاعة الأمير عبد الله. ثم تحاربوا فاتصلت حروبهم إلى آخر دولته. (ثورة لب بن محمد بسرقسطة وتطيلة) ثم ثار لبّ بن محمد بن لبّ بن موسى بسرقسطة سنة ثمان وخمسين ومائتين أيام الأمير محمد فتردّدت إليه الغزوات حتى استقام وأسجل [1] له الأمير محمد على سرقسطة وتطيلة وطرسونة فأحسن حمايتها، واستفحلت إمارته فيها، ونازلة ملك الجلالقة أذفونش في بعض الأيام بطرسونة، فنزل إليه وردّه على عقبه منهزما وقتل نحوا من ثلاثة آلاف من قومه وانتقض على الأمير عبد الله وحاصر تطيلة. (ثورة مطرف بن موسى بن ذي النون الهواري بشنت برية) كان لمطرف صيت من الشجاعة ومحل من النسب والعصبيّة، فثار في شنت بريّة، وكانت بينه وبين صاحب ينبلونة سلطان البشكنس من الجلالقة حروب أسره العدوّ في بعضها ففرّ من الأسر ورجع إلى شنت بريّة، واستقامت طاعته إلى آخر دولة الأمير محمد. (ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة ورندة واليس) وهو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس   [1] بمعنى عقد له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 هكذا نسبه ابن حيان أوّل ثائر كان بالأندلس، وهو الّذي افتتح الخلاف بها وفارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن في سني السبعين والمائتين. خرج بجبل يشتر من ناحية ريّة ومالقة، وانضم إليه الكثير من جند الأندلس ممن في قلبه مرض في الطاعة. وابتنى قلعته المعروفة به هنالك، واستولى على غرب الأندلس إلى رندة وعلى السواحل من الثجة إلى البيرة، وزحف إليه هاشم بن عبد العزيز الوزير فحاصره واستنزله إلى قرطبة سنة سبعين. ثم هرب ورجع إلى حصن يشتر، ولما توفي الأمير محمد تغلب على حصن الحامة وريّة ورندة والثجة، وغزاه المنذر سنة أربع وسبعين فافتتح جميع قلاعه وقتل عامله بريّة، ثم سأل الصلح فعقد له المنذر. ثم نكث ابن حفصون وعاد إلى الخلاف فحاصره المنذر إلى أن هلك محاصرا له فرجع عنه الأمير عبد الله، واستفحل أمر بن حفصون والثّوار وتوالت عليه الغزوات والحصار. وكاتب ابن الأغلب صاحب إفريقية وهاداه وأظهر دعوة العبّاسية بالأندلس فيما إليه وتثاقل ابن الأغلب على إجابته لاضطراب إفريقية، فأمسك وأكثر الأجلاب على قرطبة وبنى حصن بلايد قريبا منها، وغزاه عبد الله وافتتح بلاية والثجة. ثم قصده في حصنه فحاصره أياما وانصرف عنه فاتبعه ابن حفصون فكرّ عليه الأمير عبد الله وهزمه وأثخن فيه، وافتتح البيرة من أعماله. ووالى عليه الحصار في كل سنة، فلما كانت وثمانين [1] عمر بن حفصون وخالص ملك الجلالقة فنبذ إليه أمراؤه بالحصون عهده، وسار الوزير أحمد بن أبي عبيدة لحصاره في العساكر فاستنجد بإبراهيم بن حجّاج الثائر بأشبيليّة، ولقياه فهزمهما وراجع ابن حجّاج الطاعة، وعقد له الأمير عبد الله على إشبيليّة، وبعث ابن حفصون بطاعته للشيعة عند ما تغلّبوا على القيروان من يد الأغالبة، وأظهر بالأندلس، دعوة عبيد الله. ثم راجع طاعة بني أمية عند ما هيأ الله للناصر ما هيأه من استفحال الملك، واستنزال الثوار، واستقام إلى أن هلك سنة ست وثلاثمائة لسبع وثلاثين سنة من ثورته. وقام مكانه ابنه جعفر فأقرّه الناصر على أعماله. ثم دسّ إليه أخوه سليمان بن عمر بعض   [1] هكذا بياض بالأصل وفي كتاب الاحاطة في تاريخ غرناطة ص 117: «وموقعه بالاي الشهيرة في تاريخ الأندلس، وهي الموقعة التي هزم فيها الأمير عبد الله صاحب الأندلس قوات الثائر ابن حفصون سنة 287 هـ (891 م) » الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 رجالاتهم فقتله لسنتين أو ثلاثة من ولايته. وكان مع الناصر فسار إلى أهل يشتر وملكوه مكان أخيه، وذلك سنة ثمان وثلاثمائة، وخاطب الناصر فعقد له كما كان أخوه، ثم نكث وتكرر إنكاثه ورجوعه. ثم بعث إليه الناصر وزيره عبد الحميد بن سبيل بالعساكر، ولقيه فهزمه وقتله وجيء برأسه إلى قرطبة. وقدّم المولّدون أخاه حفص بن عمر فانتكث ومضى على العصيان، وغزاه الناصر وجهّز العساكر لحصاره حتى استأمن له، ونزل إلى قرطبة بعد سنة من ولايته. وخرج الناصر إلى يشتر فدخله وجال في أقطاره ورفع أشلاء عمرو ابنه جعفر وسليمان فصلبهم بقرطبة، وخرّب جميع الكنائس التي كانت في الحصون التي بنواحي ريّة وأعمال مالقة ثلاثين حصنا فأكثر، وانقرض أمر بني حفصون وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة والبقاء للَّه. (ثوّار اشبيلية المتعاقبون) ابن أبي عبيدة وابن خلدون وابن حجاج وابن مسلمة. وأوّل الثوّار كان بإشبيليّة أميّة ابن عبد الله المغافر بن أبي عبيدة، وكان جدّه أبو عبدة عاملا عليها من قبل عبد الرحمن الداخل. قال ابن سعيد ونقله عن مؤرّخي الأندلس: الحجازي ومحمد بن الأشعث، وابن حيّان قال: لما اضطربت الأندلس بالفتن أيام الأمير عبد الله وسما رؤساء البلاد إلى التغلّب، وكان رؤساء إشبيليّة المرشّحون لهذا الشأن أميّة بن عبد الغافر، وكليب بن خلدون الحضرميّ، وأخوه خالد وعبد الله بن حجّاج. وكان الأمير عبد الله قد بعث على إشبيلية ابنه محمدا، وهو أبو الناصر والنفر المذكورون يحومون على الاستبداد، فثاروا بمحمد ابن الأمير عبد الله، وحصروه في القصر مع أمّه وانصرف ناجيا إلى أبيه. ثم استبد أمية بولايتها على مداراتهم ودسّ على عبد الله بن حجّاج من قتله، فقام أخوه إبراهيم مكانه فثاروا به وحاصروه في القصر، ولما أحيط به خرج إليهم مستميتا بعد أن قتل أهله وأتلف موجودة فقتل، وعاثت العامّة برأسه وذلك أعوام الثمانين والثلاثمائة. وكتب ابن خلدون وأصحابه بذلك إلى الأمير عبد الله، وأن أميّة خلع وقتل فتقبل منهم للضرورة، وبعث عليهم عمّه هشام بن عبد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 الرحمن، واستبدوا عليه وتولى كبر ذلك [1] كريب بن خلدون، واستبدّ عليهم بالرياسة. قال ابن حيان: ونسبهم في حضر موت وهم بأشبيليّة نهاية في النباهة. مقتسمين الرئاسة السلطانية والعلمية. وقال ابن حزم: إنهم من ولد وائل بن حجر، ونسبهم في كتاب الجمهرة، وكذلك قال ابن حيان في بني حجّاج. قال الحجازي: ولما قتل عبد الله بن حجّاج قام أخوه إبراهيم مقامه، وظاهر بني خلدون على قتل أمية وأنزل نفسه منهم منزلة الخديم. واستبدّ كريب وعسف أهل إشبيلية فنفر عنه الناس وتمكن لإبراهيم الغرض، وصار يظهر الرّفق كلما أظهر كريب الغلظة، وينزل نفسه منزلة الشفيع والملاطف. ثم دسّ للأمير عبد الله بطلب الولاية ليشتدّ بكتابه على كريب بن خلدون، وكتب له بذلك عهده فأظهره للعامّة وثاروا جميعا بكريب فقتلوه. واستقام إبراهيم بن حجّاج على الطاعة للأمير عبد الله وحصن مدينة قرمونة [2] ، وجعل فيها مرتبط خيوله، وكان يتردّد ما بينها وبين إشبيلية. وهلك ابن حجّاج واستبد ابن مسلمة بمكانه. ثم استقرّت إشبيلية آخرا بيد الحجّاج بن مسلمة وقرمونة بيد محمد بن إبراهيم بن حجّاج، وعقد له الناصر. ثم انتقض وبعث له الناصر بالعساكر، وجاء ابن حفصون لمظاهرة ابن مسلمة فهزمته العساكر، وبعث ابنه شفيعا فلم يشفعه فبعث ابن مسلمة بعض أصحابه سرّا، فداخل الناصر في المكر به وعقد له. وجاء بالعساكر وخرج ابن مسلمة للحديث معه فغدروا به وملكوا عليه أمره، وحملوه إلى قرطبة. ونزل عامل السلطان إشبيلية، وكان من الثوّار على الأمير عبد الله قريبه، وغدر به أصحابه فقتل. (مقتل الأمير محمد ابن الأمير عبد الله ثم مقتل أخيه المطرف) كان المطرّف قد أكثر السعاية في أخيه محمد عند أبيهما، حتى إذا تمكنت سعايته وظهر سخطه على ابنه محمد لحق حينئذ ببلد ابن حفصون. ثم استأمن ورجع وبالغ المطرّف في السعاية إلى أن حسه أبوه ببعض حجر القصر، وخرج لبعض غزواته واستخلف   [1] بمعنى تولى شرف ذلك [2] هي قرمونية: كورة بالأندلس يتصل عمله بأعمال إشبيلية غربي قرطبة وشرقي إشبيلية. (معجم البلدان) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 ابنه المطرّف على قصره، فقتل أخاه في محبسه مفتاتا [1] بذلك على أبيه، وحزن الأمير عبد الله على ابنه محمد، وضم ابنه عبد الرحمن إلى قصره وهو ابن يوم فربي مع ولده. ثم بعث الأمير عبد الله ابنه المطرّف بالصائفة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، ومعه الوزير عبد الملك بن أمية ففتك المطرّف بالوزير لعداوة بينهما، وسطا [2] به أبوه الأمير عبد الله وقتله أشرّ قتله ثأر فيها منه بأخيه محمد وبالوزير. وعقد مكان الوزير لابنه أميّة فسنح على الفقراء [3] بأنفه، وترفّع على الوزراء فمقتوه وسعوا فيه عند الأمير عبد الله بأنه بايع جماعة من سماسرة الشرّ لأخيه هشام بن محمد، ولفّقت بذلك شهادات اعتمد القاضي حينئذ قبولها [4] للساعين أن يجعلوا في الجماعة للمشهود عليهم بالبيعة بعض أعدائه فتمّت الحيلة، وقتل هشام أميّة الوزير وذلك سنة أربع وثمانين. (وفاة الأمير عبد الله بن محمد وولاية حافده عبد الرحمن الناصر بن محمد) ثم توفي الأمير عبد الله في شهر ربيع الأوّل من آخر المائة الثالثة لست وعشرين سنة من إمارته، وولي حافده عبد الرحمن ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرّف، وكانت ولايته من الغريب لأنه كان شابا وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون فتصدّى إليها وحازها دونهم، ووجد الأندلس مضطربة فسكنها، وقاتل المخالفين حتى أذعنوا واستنزل الثّوار ومحا أثر ابن حفصون كبيرهم، وحمل أهل طليطلة على الطاعة، وكانوا معروفين بالخلاف والانتقاض. واستقامت الأندلس وسائر جهاتها في نيّف وعشرين سنة من أيامه. ودامت أيامه نحوا من خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أمية بتلك النواحي، وهو أوّل من تسمّى بأمير المؤمنين عند ما تلاشى أمر الخلافة بالمشرق، واستبدّ موالي الترك على بني العبّاس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفّر مولاه سنة سبع   [1] بمعنى مستبدا برأيه [2] بمعنى فتك [3] سنح على الناس: أصابهم بشرّ [4] هكذا بالأصل ولم نهتد الى تصويب العبارة ولكن الضمير في أخيه يعود الى الأمير عبد الله لأن هشام بن محمد هو اخوه فكيف قتل هشام أمية بعد ذلك وهو الّذي بايع له؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وعشرين وثلاثمائة فتلقّب بألقاب الخلفاء، وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب إلى أن انهزم عام الخندق سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ومحص الله المسلمين فقعد عن الغزو بنفسه، وصار يردّد الصوائف في كل سنة، فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الفرنج ما لم يطأه قبل في أيام سلفه، ومدّت إليه أمم النصرانيّة من وراء الدروب يد الإذعان، وأوفدوا إليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاحتمال فيما يعنّ من مرضاته. ووصل إلى سدنة ملوك الجلالقة من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين، كجهات قشتالة وينبلونة وما إليها من الثغور الجوفية، فقبّلوا يده والتمسوا رضاه، واحتقبوا جوائزه وامتطوا مركبه. ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة البربر، وأجاز إليه الكثير منهم كما نذكر في أخباره وبدء أمره لأوّل ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا، واستحجب موسى بن محمد بن يحيى، واستوزر عبد الملك بن جهور بن عبد الملك بن جوهر، وأحمد بن عبد الملك بن سعد وأهدى له هديته المشهورة المتعددة الأصناف. ذكرها ابن حيان وغيره، وهي مما نقل من ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها، وهي خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين، وأربعمائة رطل من التبر ومصارفه خمسة وأربعون ألف دينار. ومن سبائك الفضّة مائتا بدرة واثنا عشر رطلا من العود الهندي يختم عليه كالشمع، ومائة وثمانون رطلا من العود الصمغي المتخير، ومائة رطل من العود الشبه المنقّى. ومائة أوقية من المسك الذكي المفضّل في جنسه، وخمسمائة أوقية من العنبر الأشهب المفضّل في جنسه على خليقته من غير صناعة ومنها قطعة ململمة عجيبة الشكل، وزن مائة أوقية، وثلاثمائة أوقية من الكافور المترفّع الذكاء، ومن اللباس ثلاثون شقة من الحرير المختم المرقوم بالذهب للباس الخلفاء، مختلفة الألوان والصنائع، وعشرة أفرية [1] من عالي جلود الفنك الخراسانية، وستة من السرادقات العراقية، وثمان وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب، وثلاثون شقة الغريون من الملاحف لسروج الهبات، وعشرة قناطير من السمور فيها مائة جلد، وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول، وألف رطل من الحرير المنتقى للاستغزال،   [1] ج فرو ابن خلدون م 12 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 وثلاثون بساطا من الصوف، وعشر مائة منقاة مختلفة، ومائة قطعة مصليات من وجوه الفرش المختلفة، وخمسة عشر من نخاخ الخزّ المقطوع شطرها. ومن السلاح والعدة ثمانمائة من تخافيف الزينة أيام البروز والمواكب، وألف ترس سلطانية، ومائة ألف سهم من النبال البارعة الصنعة، ومن الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب المتخيّرة لركاب السلطان فائقة النعوت، وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة بمراكب خلافية، ولجم بغال مجالس سروجها خزّ جعفري عراقيّ، ومائة فرس من عتاق الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات، ومن الرقيق أربعون وصيفا، وعشرون جارية متخيرات بكسوتهنّ وزينتهنّ، ومن سائر الأصناف ومن الصخر سيات ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار. وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه وأقدمه، قيمته خمسون ألف دينار. وعرضت الهدية على الناصر سنة سبع وعشرين فشكرها وحسن لديه موقعها. (سطوة الناصر بأخيه القاضي ابن محمد) كان محمد بن عبد الجبّار ابن الأمير محمد، وعبد الجبّار هو عمّ أبي الناصر قد سعى عنده في أخيه القاضي ابن محمد، وأنه يريد الخلاف والبيعة لنفسه. وسعى القاضي في محمد بن عبد الجبّار وأنه يروم الانتقاض، واستطلع على الجليّ من أمرهما وتحقّق نقضهما فقتلهما سنة ثمان وثلاثمائة. (سطوة الناصر ببني إسحاق المروانيين) وهو إسحاق بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن الوليد بن إبراهيم بن عبد الملك بن مروان، دخل جدّهم أوّل الدولة ولن يزالوا في إكرام وعزّ، واستقرّت الرئاسة في إسحاق، وسكن إشبيلية أيام الفتنة عند ابن حجّاج. ثم هلك ابن حجّاج وولي ابن مسلمة فاتهمه، وقبض عليه وعلى ولده وصهره يحيى بن حكم بن هشام بن خالد بن أبان بن خالد بن عبد الله بن عبد الملك بن الحرث بن مروان فقتل الولد والصهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وكان عنده سفير لابن حفصون فشفع في الشيخ إسحاق وولده أحمد. ثم ملك الناصر إشبيلية من يد ابن مسلمة، فرحل إسحاق إلى قرطبة واستوزره الناصر واستوزر بنيه أحمد وابنه ومحمد وعبد الله ففتحوا الفتوحات، وكفوا المهمات، وعلت مقاديرهم في الدولة. وتوفي أبوهم إسحاق فورثوا مكانه في كل رفيعة. ثم هلك كبيرهم عبد الله وكان مقدمهم عند الناصر، واستوزره ثم اتهمه الناصر بالخلاف وكثرت فيهم السعايات، وصاروا في مجال الظنون فسطا بهم الناصر وغرّبهم في النواحي، فانزوى أمية منهم في تسترين سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وخلع الطاعة وقصده الناصر في العساكر فدخل دار الحرب وأجاره رزمير ملك الجلالقة. ثم تغيّر له فجاء إلى الناصر من غير عهد وعفا عنه وبقي في غمار الناس إلى أن هلك. وأمّا أحمد فعزل عن سرقسطة لما نكب أبوه وبقي خاملا مغضيا. ثم تكاثرت السعاية فيه فقتل. وأمّا أحمد فبقي في جملة الناصر حتى إذا تحرّك إلى سرقسطة نمي عنه، ففرّ ولقي في مفرّه جماعة من أهل سرقسطة فقتلوه. (أخبار الناصر مع الثوّار) كان أوّل فتحه أبيح له أسجه [1] بعث إليها بدرا مولاه وحاجبه فافتتحها من يد ابن حفصون سنة ثلاثمائة، وغزا في أثرها بنفسه فافتتح أكثر من ثلاثين حصنا من يد ابن حفصون منها البيرة، ودوّخ سائر أقطاره وضيّق مخنقه بالحصار، واستنزل سعيد بن مزيل من حصن المنتلون وحصن سمنان. وفي سنة إحدى وثلاثمائة ملك إشبيلية من يد احمد بن مسلمة كما ذكرناه. ثم سار سنة اثنتين وثلاثمائة في العساكر فنازل حصون ابن حفصون وانتهى إلى الجزيرة الخضراء، وضبط البحر ونظر في أساطيله واستكثر منها، ومنع ابن حفصون من البحر، وسأله في الصلح على لسان يحيى بن إسحاق المرواني فعقد له. ثم أغزى إسحاق بن محمد القرشيّ إلى الثوار بمرسية وبلنسية فأثخن في نواحيها، وفتح أريولة وأغزى بدرا مولاه إلى مدينة ليلة، فاستنزل منها عثمان بن نصر الثائر بها وساقه مقيّدا إلى قرطبة، ثم أغزى إسحاق بن محمد سنة خمس وثلاثمائة مدينة   [1] لعلها استجة: اسم لكورة بالأندلس متصلة بأعمال ريّة بين القبلة والمغرب من قرطبة (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 قرمونة فملكها من يد حبيب بن سواره، كان ثائرا بها. وفتح حصن ستمرية سنة ست، وحصن طرش سنة تسع، وأطاعه أحمد بن أضحى الهمدانيّ الثائر. بحصن الجامة، ورهن ابنه على الطاعة، وغزا ابن حفصون سنة أربع عشرة فردته العساكر المجمّرة لحصاره، ورجع وبعث إليه حفص يستأمنه فأمّنه، وجاء إلى قرطبة وملك الناصر يشتركما مرّ. ثم انتقض سنة خمس وعشرين أميّة بن إسحاق في تسترين، وقد مرّ ذكر أوّليته ومحمد بن هشام التجيبي في سرقسطة، ومطرّف بن مندف التجيبي في قلعة أيوب فغزاهم الناصر بنفسه، وبدأ بقلعة أيوب فحاصرها وقتل مطرّف في أوّل جولة عليها، وقتل معه يونس بن عبد العزيز، ولجأ أخوه إلى القصبة حتى استأمن وعفا عنه، وقتل من كان معهم من النصرانية أهل ألبة وافتتح ثلاثين من حصونهم، وبلغه انتقاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة، ودوّخ أرضها واستباحها ورجع. ثم غزا سنة سبع وعشرين [وثلاثمائة غزوة الخندق إلى جليّقة فانهزم، وأصيبت فيها المسلمون وأسر محمد بن هاشم التجيبي، وحاول الناصر إطلاقه فأطلق بعد سنتين وثلاثة أشهر. وقعد الناصر بعدها عن الغزو بنفسه وصار يردّد البعوث والصوائف. وثار سنة ثلاث وأربعين بجهات ماردة ثائر وتوجهت إليه العساكر فجاءوا به وبأصحابه ومثّل بهم وقتلوا. (أخبار طليطلة ورجوعها الى الطاعة) قال ابن حيان اختطها دير نيقيوش الجبار، وكان قوّاد رومة ينزلونها دار ملك، ثم ثار بها برباط من نجدانية فملكها، واختلف قوّاد رومة على حصاره. ثم وثب به بعض أصحابه فقتله وملكها. ثم قتل ورجعت إلى قوّاد رومة، ثم انتقض أهلها وولّوا أميرا منهم اسمه أنيش. ثم قتل ورجعت إلى قوّاد رومة، وقام أوّلهم شنتيلة، وأطاعه أهل الأندلس، وامتنع على ملوك رومة. ثم غزاهم وحاصر رومة وفتح كثيرا من بلادها، ورجع إلى طليطلة، وثار عليه البشكنس فظهر عليهم وأوقع بهم، ولحقوا بالجبال، وهلك شنتيلة بعد تسع، وملك مكانه على الغوط بسيلة ست سنين، ولم يغن فيها. ثم ولي منهم حندس، وغزا إفريقية، وولي بعده قتبان، وبنى الكنائس وبلغه خبر المبعث فقال له بليان، وكان من أكابر الغوط وأعاظمهم: وجدت في كتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 مطريوس العالم عن دانيال النبيّ أنهم يملكون الأندلس. ثم هلك فتبادر وملك ابنه ست عشرة سنة، وكان سيّئ السيرة. وولي بعده لزريق [1] ثم لم تزل طليطلة دار فتنة وعصبية ومنعة، أتعبت عبد الرحمن الداخل سبع سنين، وانتقضت على هشام والحكم وعلى عبد الرحمن الأوسط، إلى أن جاء الناصر فأدخلهم في الطاعة كرها لما أكمل فتح ماردة وبطليوس وتسترين، سار إليهم في العساكر وحاصرهم، وجاء الطاغية يظاهرهم فدافعه الناصر، وجثم عليها فخرج أميرهم ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث إلى الناصر فاستقال واستأمن فأمّنه وعفا عنه، ودخلها الناصر وجال في أقطارها ورجع عنها، فلم يزالوا مستقيمين على الطاعة بعد. (أخبار الناصر مع أهل العدوة) ثم سما للناصر أمل في ملك عدوة البربر من بلاد المغرب، فافتتح أمره بملك سبتة من بني عصام ولاتها، واستدعى أمراء البربر بالعدوة، وبلغ الخبر إبراهيم بن محمد أمير بني إدريس فبادر إلى سبتة، وحاصرها أنفة من عبور الناصر إليهم. ثم استقال وكاتب الناصر بالولاية. وأمّا إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول من الأدارسة فبادر بولاية الناصر، وكاتبه وأهدى إليه، وتقبل أثره في ذلك محمد بن خزر أمير مغراوة، وموسى بن أبي العافية أمير مكناسة، وهو يومئذ صاحب المغرب بعد أن ملك قواعد المغرب الأوسط، وهي تنس ووهران وشرشال والبطحاء. وأهدوا إلى الناصر فقبل وكافأهم وأحكم ولايتهم، وبادر جماعة من الأدارسة إلى مثل ذلك منهم: القاسم ابن إبراهيم والحسن بن عيسى، وأهدى صاحب فاس هدية عظيمة وعقد له الناصر على أهل بيته. ولما فشت دعوة الناصر في المغرب الأقصى بعث عبيد الله المهدي قائده أن يصل أمير مكناسة، وعامل تاهرت فزحف في العساكر إلى المغرب سنة إحدى وعشرين، وكتب موسى بن أبي العافية إلى الناصر يستنجده، فأخرج إليه قاسم بن طملس في العساكر، ومعه الأسطول فوصل إلى سبتة وبلغه الخبر بأنّ موسى بن أبي العافية هزم عساكر حميد فأقصر ورجع حسبما هو مذكور في أخبارهم.   [1] اسمه ردريق القنبيطور drigoelcompeador وهو صاحب الاسطورة التي بنى عليها الشاعر الفرنسي كورني مسرحيته الشهيرة «السيد (تاريخ الشعوب الإسلامية ص 321 كارل بروكلمان) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 (أخبار الناصر مع الفرنجة والجلالقة) وكان في أوّل المائة الرابعة ملك على الجلالقة أردون بن رذمير بن برمنذ بن قريولة بن اذفونش بن بيطر. وخرج سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الثغر الجوفي لأوّل ولاية ولاية الناصر، وعاث في جهات ماردة، وأخذ حصن الحنش، وبعث الناصر وزيره أحمد بن عبدة في العساكر إلى بلاده فدوّخها، ثم أغزاه ثانية سنة خمس فنكث وقتل. ثم أغزى بدرا مولاه فدوّخ ورجع. ثم غزا بنفسه بلاد جليّقة سنة ثمان واستنصر أردون بشانجة بن غرسية ملك البشكنس وصاحب بنبولة فهزمهم الناصر، ووطئ بلادهم وخرّبها، وفتح حصونهم وهدمها وردّد الغزو بعد ذلك في بلد غرسية إلى أن هلك أدفونش وولي بعده ابنه فرويلة. قال ابن حيان لما ملك فرويلة بن أردون بن رذمير ملك الجلالقة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة ملك أخوه أدفونش ونازعه أخوه شانجة واستقل غرسية بليون من قواعد ملكهم، وظاهر أدفونش على أمره ابن أخيه وهو أدفونش بن فرويلة، وصهره شانجة فانهزموا وافترقت كلمتهم. ثم اجتمعوا ثانية وخلعوا شانجة وأخرجوه عن مدينة ليون ففرّ إلى قاصية جليّقة، وولّى أخاه رذمير بن أردون على ملكه بغربي جلّيقة إلى قلنسرية. وهلك شانجة إثر ذلك ولم يعقب. واستقل أدفونش وخرج على أخيه رذمير وملك مدينة سنت ماذكش. ثم أكثروا عليه العذل في نزوعه عن الرهبانية فرجع إلى رهبانيته. ثم خرج ثانيا وملك مدينة ليون وكان رذمير أخوه غازيا إلى سمورة فرجع إليه وحاصره بها حتى اقتحمها عليه عنوة سنة عشرين وثلاثمائة فحسبه، ثم سمله في جماعة من ولد أبيه أردون خافهم على أمره. وكان غرسية بن شانجة ملك البشكنس لما هلك قام بأمرهم بعده أخته طوطة وكفلت ولده. ثم انتقضت سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرّب نواحي بليونة وردّد عليها الغزوات. وفي أثناء هذه الغزوات نازل محمد بن هشام التجيبي سرقسطة حتى أطاع كما مرّ، وكذا أمية بن إسحاق في تسترين، وكان الناصر سنة اثنتين وعشرين قد غزا إلى وخشمة، واستدعى محمد بن هشام من سرقسطة فامتنع ورجع إليه، وافتتح حصونه وأخذ أخاه يحيى من حصن روطة. ثم رحل إلى ينبلونة فجاءته طوطة بنت أنثير بطاعتها وعقد لابنها غرسية بن شانجة على ينبلونة. ثم عدل إلى البلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وبسائطها فدوّخها وخرب حصونها. ثم اقتحم جلّيقة وملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن اللقاء ودخل هو وحشمه فنازله الناصر فيها، وهدم برغث وكثيرا من معاقلهم، وهزمهم مرارا ورجع. ثم كانت بعدها غزوة الخندق ولم يغز الناصر بعدها بنفسه. وكان يردّد الصوائف وهابته أمم النصرانية ووفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب القسطنطينيّة وهديته وهو يومئذ قسنطين بن ليون بن شل، واحتفل الناصر للقائهم في يوم مشهود، وكتب [1] فيه العساكر بالسلاح في أكمل هيئة وزيّ، وزيّن القصر الخلافيّ بأنواع الزينة وأصناف الستور، وجمّل السرير الخلافيّ بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة، ورتّب الوزراء والخدمة في مواقفهم، ودخل الرسل فهالهم ما رأوا وقربوا حتى أدّوا رسالتهم. وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل، ويعظّموا أمر الإسلام والخلافة، ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه، وذلّة عدوّه فاستعدّوا لذلك. ثم بهرهم هول المجلس فرجعوا وشرعوا في الغزل [2] فارتج عليهم، وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق، كان في جملة الحكم ولي العهد، وندبه لذلك استئثارا لفخره، فلمّا وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي من غير استعداد ولا رويّة ولا تقدّم له أحد في ذلك بشيء فخطب واستخفر، وجلا في ذلك القصد، وأنشد آخره شعرا طويلا ارتجله في ذلك الغرض ففاز بفخر ذلك المجلس، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع. وأعجب الناصر به وولّاه القضاء بعدها، وأصبح من رجالات العالم، وأخباره مشهورة وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان وغيره. ثم انصرف هؤلاء الرسل وبعث الناصر معهم هشام بن كليب الى الجاثليق ليجدّد الهدنة، ويؤكد المودّة، ويحسن الإجابة. ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء، وجاءت معه رسل قسنطين. ثم جاء رسل ملك الصقالبة وهو يومئذ هوتو، وآخر من ملك اللمان، وآخر من ملك الفرنجة وراء المغرب، وهو يومئذ أفوه وآخر من ملك الفرنجة بقاصية المشرق، وهو يومئذ كلدة. واحتفل السلطان لقدومهم وبعث مع رسل الصقالبة ريفا الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجعوا بعد سنتين. وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون بن رذمير وأبوه رذمير وهو الّذي سمل أخاه أدفونش وقد مرّ ذكره، بعث   [1] بمعنى جعلها كتائب [2] بمعنى المديح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 بخطب السلم فعقد له. ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فردلند بن عبد شلب قومس قشتيلية فردلند وقد مرّ ذكره، ومال إلى أردون بن رذمير كما ذكرناه. وكان غرسية بن شانجة حافد الطوطة بنت أسنين ملكة البشكنس فامتعضت لحل حافدها غرسية ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك، وأعانه حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوّه، وجاء ملك جلّيقة فردّ عليه ملكه وخلع الجلالقة طاعة أردون، وبعث إلى الناصر يشكوه على فعلته، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك، وبما ارتكبه فردلند قومس قشتيلة وعظيم قوامسه في نكثه، ووثوبه، ونفر بذلك عند الأمم ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك. ولما وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالمشرق كما تقدّم، وصل معه رسول مغيرة بن شبير ملك برشلونة وطركونة، راغبا في الصلح فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يطلب المودّة فأجيب. (سطوة الناصر بابنه عبد الله) كان الناصر قد وشحه [1] ابنه الحكم وجعله وليّ عهده وآثره على جميع ولده ودفع إليه كثيرا من التصرّف في دولته وكان أخوه عبد الله يساميه في الرتبة فغص لذلك وأغراه الحسد بالنكثة فنكث وداخل من في قلبه مرض من أهل الدولة فأجابوه، وكان منهم ياسر الفتى وغيره. ونمي الخبر بذلك إلى الناصر فاستكشف أمرهم حتى وقف على الجليّ فيه، وقبض على ابنه عبد الله وعلى ياسر الفتى وعلى جميع من داخلهم وقتلهم أجمعين سنة ثلاث وتسعين. (مباني الناصر) ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد المباني والقصور، وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد اختلفوا في ذلك، وبنوا قصورهم   [1] من وشاح، بمعنى قلّده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 على أكمل الاتفاق والضخامة، وكان منها المجلس الزاهر، والبهو الكامل والقصر المنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم، وسمّاه دار الروضة، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنّاءين من كل قطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية. ثم أخذ في بناء المنتزهات فاتخذ مينا الناعورة خارج القصور، وساق لها الماء من أعلى الجبل على بعد المسافة. ثم اختط مدينة الزهراء واتخذها منزله وكرسيا لملكه، فأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما علا على مبانيهم الأولى واتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء، متباعدة السياح ومسارح الطيور ومظلّلة بالشباك واتخذ فيها دارا لصناعة آلات من آلات السلاح للحرب والحلي للزينة وغير ذلك من المهن. وأمر بعمل الظلّة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حرّ الشمس. (وفاة الناصر وولاية ابنه الحكم المستنصر) ثم توفي الناصر سنة خمسين وثلاثمائة أعظم ما كان سلطانه، وأعز ما كان الإسلام بملكه. وكان له قضاة أربعة: مسلم بن عبد العزيز وأحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد ابن عبد الله بن أبي عيسى ومنذر بن سعيد البلوطي. ولما توفي الناصر ولي ابنه الحكم وتلقّب المستنصر باللَّه، وولّى على حجابته جعفر المصحفي، وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة، كاملو الشيكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندويّة، وثلاثمائة ونيّف وعشرون درعا مختلفة الأجناس، وثلاثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هندية، وخمسون خوذة حبشية من حبشيات الإفرنجة غير الحبش التي يسمّونها الطاشانية وثلاثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية الجنس، وعشرة جواشن نقية مذهبة، وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس، ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزا الحكم بنفسه واستباحها، وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه. ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جلّيقة، وسار إلى مدينة سالم قبل الدخول لدار الحرب فجمع له الجلالقة، ولقيهم على أشتة فهزمهم واستباحهم، وأوطأ العساكر بلاد فردلند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 القومس، ودوّخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض، فأغزاه الحكم يحيى بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر. وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم، وامتنعوا في حصونها. وعاث في نواحيها وأغزى الهذيل بن هاشم ومولاه غالبا، فعاثا فيها وقفلا وعظمت فتوحات الحكم وقوّاد الثغور في كل ناحية، وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب، فعمّرها الحكم واعتنى بها. ثم فتح قطريبة على يد قائد وشقة، وغنم ما فيها من الأموال والسلاح والآلات والأقوات. وفي بسيطة من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى. وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلاد ألبة ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فأخذ حصن غرماج، ودوّخ بلادهم وانصرف. وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسايط أحشبونة وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم. وأخرج الحكم القوّاد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماجس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأنّ العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل. ثم كانت وفادة أردون بن أدفونش ملك الجلالقة. وذلك أنّ الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير وهو ابن عمّه وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية. واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلية [1] . ثم توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر بالوفادة على الحكم مستجيرا به فاحتفل لقدومه، وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله. ووصل إلى الحكم وأجلسه ووعده بالنصر على عدوه، وخلع عليه لما جاء ملقيا بنفسه، وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس، وأعطى على ذلك صفقة يمينه، ورهن ولده غرسية، ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابه. وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة بقرطبة وليد بن مغيث القاضي، وأصبغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق، وعبد الله بن قاسم مطران طليطلة ليوطئوا له الطاعة عند رسميته، ويقبضوا رهنه، وذلك سنة إحدى وخمسين. وعند ذلك بعث ابن عمّه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قولب من أهل جلّيقة وسمورة وأساقفهم يرغب في قبوله، ويبقى بما فعل أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط   [1] وهو فردند قومس قشتالة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين. ثم بعث قومس الفرنجة برسل ومنيرة أثناء سير ملك برشلونة وطركونة وغيرها يسألان تجديد العهد، وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية وهي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطارا من الصوف السمور، وخمسة قناطير من الفرصدس [1] ، وعشرة أذراع صقلبية، ومائتا سيف إفرنجية، فقبل هديتهم وعقد لهم على أن يهدما الحصون التي بقرب الثغور، وعلى أن لا يظاهروا عليه أهل ملّتهم وأن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين. ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف فعقد لهم الحكم ورجعوا. وفي سنة خمس وستين وردت أمّ لزريق بن بلاكش القومس بالقرب من جلّيقة، وهو القومس الأكبر، فأخرج الحكم لتلقّيها، واحتفل لقدومها في يوم مشهود فوصلها وأسعفها، وعقد السلم لابنها كما رغبت وأحبت، ودفع لها مالا تقسّمه بين وفدها، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج. ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت. ثم أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم، وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم. ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف، وأجازهم البحر إلى قرطبة، ثم أجلاهم إلى الإسكندريّة حسبما نشير إلى ذلك كله بعد. وكان محبا للعلوم مكرّما لأهلها جمّاعة للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله. قال ابن حزم: أخبرني بكيّة الخصيّ وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان، أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة، في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلّا ذكر أسماء الدواوين لا غير. فأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر. ووفد عليه أبو علي الغالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه وحسنت منزلته عنده، وأورث أهل الأندلس علمه، واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه، وكان يبعث في الكتب   [1] لعلها الفرصاد وهو التوت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 إلى الأقطار رجالا من التجّار ويسرّب إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه، قبل أن يخرجه بالعراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهريّ المالكيّ في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كلّه، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العبّاسي ابن المستضيء. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، أمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور ابن أبي عامر. ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة، واقتحامهم إيّاها عنوة كما نشير إليه بعد. واتصلت أيام الحكم المستنصر، وأوطأ العساكر أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته ملوك زناتة ومغراوة ومكناسة فبثّها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم، وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم، ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية، فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم. (وفاة الحكم المستنصر وبيعة ابنه هشام المؤيد) ثم أصابت الحكم العلّة، فلزم الفراش إلى أن هلك سنة ست وستين وثلاثمائة لست عشرة سنة من خلافته، وولي من بعده ابنه هشام صغيرا مناهز الحلم، وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر، نقله من خطة القضاء إلى وزارته، وفوّض إليه في أموره فاستقل وحسنت حاله عند الحكم، فلما توفي الحكم بويع هشام ولقب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ أخو الحكم المرشّح لأمره، تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه، وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم، ومن خصيان القصر ورؤسائهم فائق وجودر، فقتل محمد بن أبي عامر المغيرة وبايع لهشام . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 (أخبار المنصور بن أبي عامر) ثم سما محمد بن أبي عامر المتغلب على هشام لمكانه في السن، وثاب له رأي في الاستبداد فمكر بأهل الدولة، وضرب بين رجالها، وقتل بعضها ببعض. وكان من رجال اليمنية من مغافر واسمه محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن عبد الله بن عامر بن محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المغافري، دخل جدّه عبد الملك مع طارق، وكان عظيما في قومه، وكان له في الفتح أثر، فاستوزره الحكم لابنه هشام كما ذكرناه. فلما مات الحكم حجبه محمد وغلب عليه ومنع الوزراء من الوصول إليه إلّا في النادر من الأيام يسلّمون وينصرفون. وأرخص للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين. ثم تجرّد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم وحطّهم عن مراتبهم، وقتل بعضها ببعض. كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصل بهم وفرّق جموعهم. وأوّل ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدّام بالقصر، فحمل الحاجب المصحفي على نكبتهم فنكبهم وأخرجهم من القصر، وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم، وبالغ في خدمته والتنصّح له، واستعان به على المصحفي فنكبه ومحا أثره من الدولة. ثم استعان على غالب بجعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة الفازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن كان معه من زناتة والبربر. ثم قتل جعفر عمّاله ابن عبد الودود وابن جوهر وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم. ثم لما خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشحين للرئاسة رجع إلى الجند فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتّب منهم جندا واصطنع أولياء، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة، وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم، فتغلّب على هشام وحجره واستولى على الدولة، وملأ الدنيا وهو في جوف بيته مع تعظيم الخلافة والخضوع لها، وردّ الأمور إليها وترديد الغزو والجهاد، وقدّم رجال البرابرة زناتة، وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر، وابتنى لنفسه مدينة فنزلها وسمّاها الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة، وقعد على سرير الملك وأمر أن يحيّا بتحيّة الملوك وتسمى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والأوامر والمخاطبات باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر، وكتب اسمه في السكّة والطرز، وعمر ديوانه بما سوى ذلك. وجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرغبة، وقهر من يطاول إليها من الغلبة فظفر من ذلك بما أراد وردّد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا اثنتين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم ينكسر له فيها راية، ولا فلّ له جيش، ولا أصيب له بعث، ولا هلكت سرية، وأجاز عساكره إلى العدوة، وضرب بين ملوك البرابرة بعضهم في بعض، فاستوثق ملكه بالمغرب وأذعنت له ملوك زناتة، وانقادوا لحكمه وأطاعوا لسلطانه، وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر لما سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه من إعلانه بالنيل منه والغض من ملكهم، والتأنف لحجر الخليفة هشام، فأوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين، ونزل بفاس وملكها، وعقد لملوك زناتة على المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها على ما نشير إليه بعد. وشرّد زيري بن عطية إلى تاهرت، وأبعد المفرّ، وهلك في مفرّه. ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة واستعمل واضحا على المغرب، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا وأشد استيلاء سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته، ودفن هنالك وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه. (المظفر بن المنصور) ولما هلك المظفر قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن، وتلقب بالناصر لدين الله، وجرى على سنن أبيه وأخيه في حجر الخليفة هشام، والاستبداد عليه والاستقلال بالملك دونه. ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه، وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحلّ والعقد فكان يوما مشهودا، وكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصّه: هذا ما عهد هشام المؤيد باللَّه أمير المؤمنين إلى الناس عامة، وعاهد الّذي عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمّه ما جعل الله إليه من الإمامة ونصب إليه من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي ان هجم محتوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 ذلك عليه، ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه، وملجأ تنعطف إليه، أن يلقى ربّه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها، واعتبر عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يستند هذا الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته، وهديه وصيانته، بعد اطراح الهوى والتحرّي للحق والتزلف إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأقاصي وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا يولّيه عهده ويفوّض إليه الخلافة بعده غيره لفضل نسبه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته، وعلو منصبه، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه وتفاوته، المأمون العيب الناصح الحبيب أبي المظفّر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، وفقه الله تعالى إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات، سابقا إلى الجليات، مستوليا على الغايات، جامعا للماثرات، ومن كان المنصور أباه والمظفّر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه. مع أنّ أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الغيب، رأى أن يكون ولي عهده القحطاني الّذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه، فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده الآثار، ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعا راضيا مجتهدا، وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه ثنيا ولا خيارا، وأعطى على الوفاء به في سرّه وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه وذمّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذمة الخلفاء الراشدين من آبائه، وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول. وأشهد على ذلك الله والملائكة وكفى باللَّه شهيدا، وأشهد من أوقع اسمه في هذا، وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور، وفقه الله تعالى وقيد له ما قلده، وألزمه نفسه ما في الذمة. وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم. وتسمى بعدها بولي العهد. ونقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه، وانقراض دولته ودولة قومه والله وارث الأرض ومن عليها . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 (ثورة المهدي ومقتل عبد الرحمن المنصور وانقراض دولتهم) ولما حصل عبد الرحمن المنصور على ولاية العهد، ونقم ذلك الأمويون والقرشيون وغصّوا بأمره واتفقوا على تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتموا لشأنهم، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم، وأجمعوا أمرهم في غيبة من الحاجب الناصر ببلاد الجلالقة في غزاه من صوائف، ووثبوا بصاحب الشرطة ففتكوا به بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وخلعوا هشاما المؤيد، وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعياص الملك، وأعقاب الخلفاء، ولقّبوه المهدي وطار الخبر إلى الحاجب بمكانه من الثغر فانفضّ جمعه، وقفل إلى الحضرة مدلا بمكانه زعيما بنفسه، حتى إذا قرب من الحضرة تسلل عنه الجند ووجوه البربر، ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي القائم بالأمر، وأغروه بالناصر واعترضه منهم من تقبض عليه، واحتزّ رأسه وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة وذهبت دولة العامريين. (ثورة البربر وبيعة المستعين وفرار المهدي) كان الجند من البرابرة وزناتة قد ظاهروا المنصور على أمره وأصبحوا شيعة لبنيه من بعده، ورؤساؤهم يومئذ زاوي بن مناد الصنهاجي وبنو ماكير ابن أخيه زيري، ومحمد ابن عبد الله البرزالي، ونصيل بن حميد المكناسي الفازع أبوه عن العبيديين إلى الناصر، وزيري بن غزانة المتيطي، وأبو زيد بن دوناس اليفرني، وعبد الرحمن بن عطاف اليفرني وأبو نور بن أبي قرّة اليفرني، وأبو الفتوح بن ناصر وحزرون بن محصن المغراوي، وبكساس بن سيد الناس، ومحمد بن ليلى المغراوي فيمن إليهم من عشائرهم، فلحقوا بمحمد بن هشام لما رأوا من انتقاض أمر عبد الرحمن وسوء تدبيره. وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريّين، وتنسب إليهم تغلب المنصور وبنيه على أمرهم فسخطتهم القلوب، وخزرتهم العيون، وتنفست الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 بذلك صدور الغوغاء من أذيال الدولة، ولفظت به ألسنة الدهماء من المدينة. وأمر محمد بن هشام أن لا يركبوا ولا يتسلحوا وردوا في بعض الأيام من باب القصر، وانتهب العامّة يومئذ دورهم، ودخل زاوي وابن أخيه حساسة وأبو الفتوح بن الناصر على المهدي شاكين بما أصابهم، فاعتذر إليهم وقتل من آذاهم من العامّة في أمرهم، وكان مع ذلك مظهرا لبغضهم مجاهرا بسوء الثناء عليهم. وبلغهم انه سرّه الفتك بهم فتمشت رجالاتهم، وأسروا نجواهم. واتفقوا على بيعة هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وفشا في الخاصّة حديثهم، فعوجلوا عن أمرهم ذلك، وأغرى بهم السواد الأعظم، فثاروا بهم وأزعجوهم [1] عن المدينة، وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر، وأحضرا بين يدي المهدي فضرب أعناقهما، ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر وزناتة وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتآمروا فبايعوه ولقّبوه المستعين باللَّه، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أدفونش. ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة، وبرز إليهم المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة، وكانت الدبرة عليهم، واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفا، وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم. ودخل المستعين قرطبة خاتم المائة الرابعة ولحق ابن عبد الجبّار بطليطلة. (رجوع المهدي إلى ملكه بقرطبة) ولما استولى المستعين على قرطبة خالفه محمد بن هشام المهدي إلى طليطلة واستجاش بابن أدفونش ثانية، فنهض معه إلى قرطبة وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر من ظاهرها في آخر باب سبتة، ودخل المهدي قرطبة وملكها. (هزيمة المهدي وبيعته للمؤيد هشام ومقتله) ولما دخل المهدي إلى قرطبة خرج المستعين إلى البرابرة، وتفرّقوا في البسائط والقرى   [1] بمعنى أخرجوهم وأجلوهم ابن خلدون م 13 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 فينهبون ويقتلون ولا يبقون على أحد. ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء، فخرج المهديّ وابن أدفونش واتبعهم المستعين والبرابرة أثناء ذلك يحاصرونهم، حتى خشي الناس من اقتحام البرابرة عليهم فأغروا أهل القصر وحاجبه المدبّر بالمهديّ، وأن الفتنة إنما جاءت من قبله، وتولّى كبر ذلك واضح العامري فقتلوا المهدي محمد بن هشام، واجتمعت الكافة على تجديد البيعة لهشام المؤيد ليعتصموا به من معرّة البرابرة، وما يسومونهم به ملوكهم من سوء العذاب، وعاد هشام إلى خلافته وأقام واضح العامري لحجابته، وهو من موالي المنصور بن أبي عامر. (حصار قرطبة واقتحامها عنوة ومقتل هشام) واستمرّ البرابرة على حصار قرطبة والمستعين بينهم، ولم يفرّ عن أهل قرطبة، تبعه هشام المؤيد والبرابرة يتردّدون إليها ذاهبين وجائين بأنواع النهب والفتك، إلى أن هلكت القرى والبسائط، وعدمت المرافق وصافت أحوال أهل قرطبة وجهدهم الحصار. وبعث المستعين والبرابرة إلى ابن أدفونش يستقدمونه لمظاهرتهم، فبعث إليه هشام المؤيد وحاجبه واضحا يكفونه عن ذلك، بأن نزلوا له عن ثغور قشتالة التي كان المنصور اقتحمها فسكن عزمه، وسكن عن مظاهرتهم، ثم اتصل الحصار بمخنق البلد، وصدق البرابرة القتال فاقتحموها عنوة سنة ثلاث وأربعمائة، وفتكوا بهشام المؤيد، ودخل المستعين ولحق بأهل قرطبة من البرابرة في نسائهم ورجالهم وبناتهم وأبنائهم ومنازلهم. وظن المستعين أن قد استحكم أمره، وتوثّبت البرابرة والعبيد على الأعمال فولوا المدن العظيمة، وتقلدوا الأعمال الواسعة مثل باديس بن حبوس في غرناطة ومحمد بن عبد الله البرزالي في قرمونة وأبو ثور بن أبي شبل [1] بالأندلس، وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة مثل ابن عباد بإشبيليّة، وابن الأفطس ببطليوس وابن ذي النون بطليطلة، وابن أبي عامر ببلنسية ومرسية، وابن هود بسرقسطة ومجاهد العامري بدانية والجزائر منذ عهد هذه الفتنة، كما نذكر في أخبارهم.   [1] هكذا بياض بالأصل. ولم نعثر على اسم الولاية التي اختص بها ابو ثور بن أبي شبل في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 (ثورة ابن حمود واستيلاؤه وقومه على ملك قرطبة) ولما افترق شمل جماعة قرطبة وتغلّب البرابرة على الأمر، وكان عليّ بن حمود وأخوه قاسم من عقب إدريس قد أجازوا معهم من العدوة فدعوا لأنفسهم وتعصب معهم الكثير من البربر، وملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة، وقتلوا المستعين ومحوا ملك بني أمية، واتصل ذلك في خلق منهم سبع سنين. ثم رجع الملك في بني أمية وفي ولد الناصر نحوا من سبع سنين. ثم خرج عنهم وافترق الأمر في رؤساء الدولة من العرب والموالي والبربر، واقتسموا الأندلس ممالك ودولا وتلقبوا بألقاب الخلفاء كما نذكر ذلك كله مستوفى في أخبارهم. (عود الملك إلى بني أمية وأولاد المستظهر) لما قطع أهل قرطبة دعوة المحموديّين بعد سبع من ملكهم، وزحف إليهم قاسم بن حمود في جموع من البربر فهزمهم أهل قرطبة، ثم اجتمعوا واتفقوا على ردّ الأمر إلى بني أمية، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي، وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولقبوه المستظهر. وقام بأمره المستكفي ثم ثار على المستظهر لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر أمير المؤمنين. كان المنصور بن أبي عامر قتل أباه عبد الرحمن لسعيه في الخلاف، فثار الآن محمد هذا وتبعه الغوغاء، وفتك بالمستظهر واستقلّ بأمر قرطبة وتلقب بالمستكفي. (عود الأمر الى بني حمود) وبعد ستة عشر شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى يحيى بن علي بن حمود، وهو المعتلي كما يذكر في أخبارهم، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مفرّه . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 (المعتمد من بني أمية) ثم خلع أهل قرطبة المعتلي بن حمود ثانيا سنة سبع عشرة، وبايع الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة، وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود. ولما بلغه خبر البيعة له انتقل إلى البرنث، واستقرّ عند التغلب عليها محمد بن عبد الله بن قاسم، وكانت البيعة له انتقل سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وتلقب المعتمد باللَّه، وأقام مترددا في الثغر ثلاثة أعوام، واشتدت الفتن بين رؤساء الطوائف واتفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة فاستقدمه ابن جهور والجماعة، ونزلها آخر سنة عشرين، وأقام يسيرا. ثم خلعه الجند سنة اثنتين وعشرين، وفرّ إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين وانقطعت دولة الأموية والله غالب على أمره. (الخبر عن دولة بني حمود التي ادالت من دولة بني أمية بالأندلس وأولية ملكهم وتصاريف أمورهم الى آخرها) كان في جملة المستعين مع البربر والمغاربة أخوان من ولد عمر بن إدريس، وهما القاسم وعلي ابنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر، كانوا في لفيف البرابرة في بلاد غمارة واستجدوا بها رياسة استمرت في بني محمد وبني عمر من ولد إدريس فكانت للبربر إليهم صاغية بسبب ذلك، وخلطة وبقي الفخر منهم بتازغدره من غمارة فأجازوا مع البربر، وصاروا في جملة المستعين مع أمراء العدوة من البربر فعقد لهما المستعين فيمن عقد له من المغاربة عقد لعليّ منهما على طنجة وعملها، وللقاسم وكان الأسنّ على الجزيرة الخضراء. وكان في نفوس المغاربة والبرابرة تشيّع لأولاد إدريس متوارث من دولتهم بالعدوة كما ذكرناه. واستقام أمر عليّ بن حمود وتمكن سلطانه، واتصلت دولته عامين إلى أن قتله صقالبته بالحمام سنة ثمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 وأربعمائة، فولي مكانه أخوه القاسم بن حمود وتلقب بالمأمون. ونازعه في الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه عليّ بسبتة، وكان أمير الغرب ووليّ عهد أبيه، فبعث إليه أشياعهم من البربر مالا مع جند الأندلس سنة عشر واحتل بمالقة، وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما، فبعث إلى سبتة ووصل إلى يحيى بن علي زاوي بن زيري من غرناطة، وهو عميد البرابرة ثانية يومئذ، فزحف إلى قرطبة فملكها سنة اثنتي عشرة، وتلقب المعتلي واستوزر أبا بكر بن ذكوان، وفرّ المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد. واستمال بعضا من البرابرة ثانية، واستجاشهم على ابن أخيه ورجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة. ولحق المعتلي بمكانه من مالقة وتغلب على الجزيرة الخضراء عمل المأمون من لدن عهد المستعين، وتغلب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر، وكان المأمون يعتدها حصنا لنفسه وبنيه، ويستودع بها ذخيرته، وبلغ الخبر إلى قرطبة بتغلبه على قواعده وحصونه مع ما كان يتشدد على بني أمية، فاضطرب أمر المأمون وثار عليه أهل قرطبة ونقضوا طاعته، وبايعوا للمستظهر، ثم للمستكفي من بني أمية كما ذكرناه. وتحيّز المأمون وبرابرته إلى الأرباض فاعتصموا به، وقاتلوا دونه وحاصروا المدينة خمسين يوما. ثم صمّم أهل قرطبة لمدافعتهم فأفرجوا عن الأرباض وانفضت جموعهم سنة أربع عشرة. ولحق المأمون بإشبيليّة وبها ابنه محمد، ومحمد بن زيري من رجالات البربر فأطمعه القاضي محمد بن إسماعيل بن عبّاد في الملك وأن يمتنعوا من القاسم فمنعوه وأخرجوا إليه ابنه وضبطوا بلدهم. ثم اشتدّ ابن عبّاد وأخرج محمد بن زيري، ولحق المأمون بشريش [1] ، ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه فبايعوه سنة خمس عشرة. وزحف إلى عمه المأمون بشريش فتغلب عليه، ولم يزل عنده أسيرا وعند أخيه إدريس من بعده بمالقة إلى أن هلك في محبسه سنة سبع وعشرين وأربعمائة، واستقل يحيى المعتلي بالأمور، واعتقل محمدا والحسن ابني عمه القاسم المأمون بالجزيرة، ووكل بهما أبا الحجاج من المغاربة، وأقاما كذلك. ثم خلع أهل قرطبة المستكفي، وصاروا إلى طاعة المعتلي واستعمل عليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني من رجالات البربر، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر فهلك بمدينة سالم. ثم نقض أهل قرطبة طاعة المعتلي سنة   [1] مدينة كبيرة من كورة شذونة- بالأندلس- وهي قاعدة هذه الكورة واليوم يسمّونها شرش (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 سبع عشرة واربعمائة وصرفوا عامله عليهم ابن عطاف وبايعوا للمعتمد أخي المرتضى. ثم خلعوه كما ذكرنا في خبره، واستبدّ بأمر قرطبة الوزير ابن جهور بن محمد كما نذكره في أخبار ملوك الطوائف. وأقام يحيى بن المعتلي يتخيفهم [1] ويردّد العساكر لحصارهم إلى أن اتفقت الكافة على إسلام المدائن والحصون له، فعلا سلطانه، واشتد أمره، وظاهره محمد بن عبد الله البرزالي على أمره فنزل عنده بقرمونة يحاصر فيها ابن عباد بإشبيليّة إلى أن هلك سنة ست وعشرين بمداخلة ابن عباد للبرزالي في اغتياله، فركب المعتلي لخيل أغارت على معسكره بقرمونة من جند ابن عباد، وقد أكمنوا له، فكبا به فرسه وقتل. وتولى قتله محمد بن عبد الله البرزالي وانقطعت دولة بني حمود بقرطبة. وكان أحمد بن موسى بن بقية والخادم نجى الصقلي وزيري دولة الحموديين عند أولها، فرجعا إلى مالقة دار ملكهم، واستدعوا أخاه إدريس بن علي بن حمود من سبتة وطنجة، وبايعوه على أن يولي سبتة حسن ابن أخيه يحيى فتم أمره بمالقة، وتلقب المتأيد باللَّه، وبايعه المرية وأعمالها ورندة والجزيرة، وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على سبتة، ونهض معه نجى الخادم. وكان له ظهور على ملوك الطوائف، وكان أبوه القاسم بن عباد قد استفحل ملكه لذلك العهد، ومدّ يده إلى انتزاع البلاد من أيدي الثوار، وملك أشبونة [2] واستجة [3] من يد محمد بن عبد الله البرزالي، وبعث العساكر مع ابنه إسماعيل لحصار قرمونة فاستصرخ محمد بن عبد الله بالقائد هذا وبزاوي فجاء زاوي بنفسه، وبعث القائد هذا عساكره مع ابن بقية فكانت بينهم وبين ابن عباد حروب شديدة، هزم فيها ابن عباد وقتل وحمل رأسه إلى إدريس المتأيد، وهلك ليومين بعدها سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. واعتزم ابن بقية على بيعة ابنه يحيى الملقب حبون فأعجله عن ذلك نجى الخادم، وبادر إليه من سبتة ومعه حسن بن يحيى المعتلي فبايعه البربر، ولقب المستنصر، وقتل ابن بقية وفرّ يحيى بن إدريس إلى قمارش فهلك بها سنة أربع   [1] خيف القوم: نزلوا منزلا، وخيف عن القتال: نكص. [2] أشبونة: مدينة بالأندلس يقال لها لشبونة وهي متصلة بشنترين قريبة من البحر المحيط يوجد على ساحلها العنبر الفائق (معجم البلدان) . [3] إستجة: اسم لكورة بالأندلس متصلة باعمال ريّة بين القبلة والمغرب من قرطبة، وهي كورة قديمة واسعة الرساتيق والاراضي على نهر سنجل وهو نهر غرناطة بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ واعمالها متصلة باعمال قرطبة (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وثلاثين. ويقال بل قتله نجى، ورجع نجى إلى سبتة ليحفظ ثغرها، ومعه ولد حسن ابن يحيى صبيا وترك السطيفي على وزارة حسن لثقته به، وبايعته غرناطة وجملة من بلاد الأندلس. وهلك حسن مسموما بيد ابنة عمه إدريس، ثأرت بأخيها حسن سنة ثمان وثلاثين، فاعتقل السطيفي أخاه إدريس بن يحيى، وكتب إلى نجى وابن حسن المستنصر الّذي كان عنده بسبتة ليعقد له. واغتاله نجى وأجاز إلى مالقة، ودعي لنفسه. ووافقه البربر والجند. ثم نهض إلى الجزيرة ليستأصل حسنا ومحمدا ابني قاسم بن حمود، ورجع خاسئا فاغتاله في طريقه بعض عبيد القاسم وقتلوه. وبلغ الخبر إلى مالقة فثارت العامة بالسطيفي، وقتل وأخرج إدريس بن يحيى المعتلي من معتقله، وبويع له سنة أربع وثلاثين، وأطاعته غرناطة وقرمونة وما بينهما ولقب العالي، وولى على سبتة سكوت ورزق الله من عبيد أبيه. ثم قتل محمدا وحسنا ابني عمه إدريس، فثار السودان بدعوة أخيهما محمد بمالقة، وامتنعوا بالقصبة، وكانت العامة مع إدريس، ثم أسلموه. وبويع محمد بمالقة سنة ثمان وثلاثين وتلقب المهدي، وولى أخاه عهده ولقبه الساني. ثم نكر منه بعض النزعات ونفاه إلى العدوة فأقام بين غمارة، ولحق العالي بقمارش فامتنع بها وأقام يحاصر مالقة وزحف باديس من غرناطة منكرا على المهدي فعله فامتنع عليه، فبايع له وانصرف وأقام المهدي في ملكه بمالقة، وأطاعته غرناطة وحيان وأعمالها إلى أن مات بمالقة سنة أربع وأربعين. وبويع إدريس المخلوع ابن يحيى المعتلي من مكانه بقمارش، وبويع له بمالقة وأطلق أيدي عبيده عليها لحقده عليهم، ففرّ كثير منهم إلى أن هلك سنة سبع وأربعين، وبويع محمد الأصغر ابن إدريس المتأيد وتلقبه، وخطب له بمالقة والمرية ورندة. ثم سار إليه باديس فتغلب على مالقة سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وسار محمد المستعلي إلى المرية مخلوعا، واستدعاه أهل مليلة فأجاز إليهم وبايعوه سنة تسع وخمسين، وبايعه بنو ورقدى وقلوع جارة ونواحيها وهلك سنة [1] وأربعمائة. وأما محمد بن القاسم المعتقل بمالقة ففرّ هو من ذلك الاعتقال سنة أربع عشرة، ولحق بالجزيرة الخضراء فملكها وتلقب المعتصم إلى أن مات سنة أربعين. ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق إلى أن هلك سنة خمسين، وصارت الجزيرة للمعتضد بن عباد   [1] رغم البحث الدقيق لم نستطع تحديد سنة وفاته في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 وكان سكوت البرغواطي الحاجب مولى القاسم الواثق محمد بن المعتصم، ويقال مولى يحيى المعتلي واليا على سبتة من قبلهم، فلما غلب ابن عباد على الجزيرة طلبه في الطاعة، وطلب هو ملك الجزيرة فامتنعت عليه واتصلت الفتنة بينهما الى أن كان من أمر المرابطين وتغلبهم على سبتة على الأندلس ما سنذكره، والبقاء للَّه وحده سبحانه وتعالى. (الخبر عن ملوك الطوائف بالأندلس بعد الدولة الاموية) كان ابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم لما انتثر ملك الخلافة العربية بالأندلس، وافترق الجماعة بالجهات، وصار ملكها في طوائف من الموالي والوزراء وأعياص الخلافة وكبار العرب والبربر، واقتسموا خططها وقام كل واحد بأمر ناحية منها. وتغلب بعض على بعض استقل أخيرا بأمرها ملوك منهم استفحل شأنهم، ولاذوا بالجزيرة للطاغية أو يظاهرون عليهم أو ينتزعونهم ملكهم، حتى أجاز إليهم يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، وغلبهم جميعا على أمرهم فلنذكر أخبارهم واحدا بعد واحد. (الخبر عن بني عباد ملوك اشبيلية وغربيّ الأندلس وعمن تغلبوا عليه من أمراء الطوائف) كان أوّلهم القاضي أبو القاسم محمد بن ذي الوزارتين أبي الوليد إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمر بن أسلم بن عمر بن عطاف بن نعيم اللخمي، وعطاف هو الداخل إلى الأندلس في طوالع لخم وأصلهم من جند حمص ونزل عطاف قرية طشانة بشرق إشبيلية ونسل بنيه بها. وكان محمد بن إسماعيل بن قريش صاحب الصلاة بطشانة ثم ولي ابنه إسماعيل الوزارة بإشبيليّة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وولي ابنه أبو القاسم القضاء بها والوزارة من سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين. وكان أصل رياسته أنه كان له اختصاص بالقاسم بن حمود، وهو الّذي أحكم عقد ولايته، وكان محمد بن زيري من أقيال البرابرة واليا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 على إشبيلية، فلما فرّ القاسم من قرطبة وقصده داخل ابن عباد محمد بن زيري في غرناطة ففعل وطردوا القاسم، وطردوا بعده ابن زيري وصار الأمر شورى بينه وبين أبي بكر الزبيدي معلم هشام، وصاحب مختصر العين في اللغة، ومحمد بن برمخ الألهاني. ثم استبد عليهم وجند الجند ولم يزل على القضاء. ولما منع القاسم من إشبيلية عدل عنها إلى قرمونة ونزل على محمد بن عبد الله البرزالي، وكان ولي قرمونة أيام هشام والمهدي من بعده. ثم استبدّ بها سنة أربع وأربعمائة أزمان الفتنة فداخله ابن عبّاد في خلع القاسم والاستبداد بها. ثم تنصح للقاسم فتحول إلى شريش واستبد محمد بن البرزالي بقرمونة واستبد أبو القاسم إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين كما قلناه، وقام بأمره ابنه عباد وتلقب المعتضد، واستولى على سلطانه، واشتدت حروبه وأيامه. وتناول طائفة من الممالك بعد بالأندلس، وانفسح أمده وأول ما افتتح أمره بمداخلة محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة في إفساد ما بينه وبين القاسم بن حمود حتى تحوّل عنه إلى شريش. ثم تحارب مع عبد الله بن الأفطس صاحب بطليوس وغزاه ابنه إسماعيل في عساكره، ومعه محمد بن عبد الله البرزالي فلقيه المظفر ابن الأفطس فهزمهما وأسر المظفر بن البرزالي إلى أن أطلقه بعد حين. ثم فسد ما بينه وبين البرزالي واتصلت الفتنة بينهما إلى أن قتله ابنه إسماعيل خرج إليه في سرية فأغار على قرمونة، وأكمن الكمائن، فركب محمد البرزالي في أصحابه، واستطرد له إسماعيل إلى أن بلغ به الكمين فخرجوا عليه فقتلوه، وذلك سنة أربع وثلاثين. ثم خالف عليه ابنه إسماعيل وأغراه العبيد والبرابرة بالملك، فأخذ ما قدر عليه من المال والذخيرة، وفرّ إلى جهة الجزيرة للتوثب بها، وكان أبوه ليلتئذ بحصن الفرج، فأنفذ الخيالة في طلبه، فمال إلى قلعة الورد فتقبض واليها عليه، وأنفذه إلى أبيه فقتله وقتل كاتبه، وكل من كان معه. ثم رجع إلى مطالبة البربر المنتزين بالثغور وأوّل من نذكر منهم صاحب قرمونة وكان بها المستظهر العزيز بن محمد بن عبد الله البرزالي، وليها بعد أبيه كما ذكرناه. وكانت له معها استجة والمروز، وكان نموز ورواركش للوزير نوح الرموي من برابرة العدوة شيعة المنصور، واستبدّ بها سنة أربع، ومات سنة ثلاث وثلاثين. وولي ابنه عز الدولة الحاجب أبو مياد محمد بن نوح ومات سنة [1]   [1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد سنة وفاته من المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وكان يزيد أبو ثور بن أبي قرّة اليفرني استبدّ بها أيام الفتنة سنة خمسين من يد عامر بن فتوح من صنائع العلويين، ولم يزل المعتضد يضايقه، واستدعاه بعض الأيام لولاية فحبسه، وكاده في ابنه بكتاب على لسان جاريته برندة، أنه ارتكب منها محرّما، ثم أطلقه فقتل ابنه وشعر بالمكيدة فمات أسفا سنة خمسين، وولي ابنه أبو نصر إلى أن غدر به في الحصن بعض أجناده فسقط من السور، ومات سنة تسع وخمسين. وكان بشريش خزرون بن عبدون ثار بها سنة اثنتين وأربعمائة فتقبض عليه ابن عباد وطالبهم وطاف على حصونهم وصار يهاديهم، وأسجل لهم بالبلاد التي بأيديهم، فأسجل لابن نوح بأركش، ولابن خزرون بشريش، ولابن أبي قرّة برندة، وصاروا في حزبه ووثقوا به. ثم استدعاهم لوليمة وغدر بهم في حمام استعمله لهم على سبيل الكرامة وأطبقه عليهم فهلكوا جميعا إلّا ابن نوح فإنه سالمه من بينهم لليد التي كانت له عنده في مثلها. ثم بعث من تسلّم معاقلهم وصارت في أعماله. وخرج باديس لطلب ثأرهم منه، واجتمعت إليه عشائرهم فنازلوه مدّة ثم انصرفوا، وأجازوا إلى العدوة فاحتلّوا بسبتة وطردهم سكوت فهلكوا في المجاعة التي صادفوا، وأحلوا بالمغرب لذلك العهد. واستقل ابن عباد وكان بأونية وشلطليش عبد العزيز البكري، وكانت عساكر المعتضد ابن عباد تحاصره فشفع فيه ابن جهور للمعتضد فسالمه مدّة. ثم هلك ابن جهور فعاد إلى مطالبته إلى أن تخلى له عنها سنة ثلاث وأربعين، فولى عليها ابنه المعتمد. ثم سار إلى شلب وبها المظفر أبو الأصبغ عيسى بن القاضي أبي بكر محمد بن سعد بن مزين ثار بها سنة تسع عشرة، ومات سنة اثنتين وأربعين فسار إليها المعتضد وملكها من يد ابنه، ونقل إليها المعتمد فنزلها واتخذها دار إمارة. ثم سار إلى شنت بريّة وبها المعتصم محمد بن سعيد بن هارون، فانخلع له عنها سنة تسع وثلاثين، وأضافها للمعتمد. وكان بلبلة تاج الدين أبو العباس أحمد بن يحيى التحصيني، ثار بها سنة أربع عشرة، وخطب له بأونية وشلطليش، ومات سنة ثلاث وثلاثين، وأوصى إلى أخيه محمد وضايقه المعتضد فهرب إلى قرطبة واستبد بها ابن أخيه فتح بن خلف بن يحيى، وانخلع للمعتضد سنة خمس وأربعين وصارت هذه كلها من ممالك بني عباد. وتملك المعتضد أيضا مرسية وثار بها عليه ابن رشيق البناء، وتسمى خاصة الدولة، وبقي ثمان سنين. ثم ثاروا عليه سنة خمس وخمسين ورجعوا لابن عباد. وتملك المعتضد مرثلة من يد ابن طيفور سنة ست وثلاثين وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 تملكها من يد عيسى بن نسب الجيش الثائر بها، وصارت هذه الممالك كلها في ملك ابن عباد وكانت بينه وبين باديس بن حبوس [1] صاحب غرناطة حروب إلى أن هلك سنة إحدى وستين، وولى من بعده ابنه المعتمد بن المعتضد بن إسماعيل أبو القاسم بن عباد وجرى على سنن أبيه، واستولى على دار الخلافة قرطبة من يد ابن جهور، وفرّق أبناءه على قواعد الملك وأنزلهم بها، واستفحل ملكه بغرب الأندلس وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف، مثل ابن باديس ابن حبوس بغرناطة وابن الأفطس ببطليوس وابن صمادح بالمرية وغيرهم. وكانوا يطلبون سلمه ويعملون في مرضاته وكلهم يدارون الطاغية ويتقونه بالجزى إلى أن ظهر بالعدوة ملك المرابطين، واستفحل أمر يوسف بن تاشفين، وتعلقت آمال المسلمين في الأندلس بإعانته، وضايقهم الطاغية في طلب الجزية فقتل ابن عباد ثقته اليهودي الّذي كان يتردّد إليه لأخذ الجزية بسبب كلمة أسف بها. ثم أجاز البحر صريخا إلى يوسف بن تاشفين، وكان من إجازته إليه ومظاهرته إياه ما يأتي ذكره في أخباره، ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم، فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف فأجازوه بالامتساك حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم، وهو خلال ذلك يردّد العساكر للجهاد. ثم أجاز إليهم وخلع جميعهم ونقلهم إلى العدوة، واستولى على الأندلس كما يأتي ذكره في أخباره. وصار ابن عباد في قبضة حكمه بعد حروب نذكرها. ونقله إلى أغمات قرية مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة، واعتقله هنالك إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين. وكانت بالأندلس ثغور أخرى دون هذه، ولم يستول عليها ابن عباد فمنها بلد السهلة، استبد بها هذيل بن خلف بن رزين أوّل المائة الخامسة بدعوة هشام، وتسمى مؤيد الدولة. وهلك شهيدا سنة خمسين واربعمائة وملك بعده أخوه حسام الدولة عبد الملك بن خلف، ولم يزل أميرا عليها إلى أن ملكها المرابطون من يده عند تغلبهم على الأندلس. ومنها بلد البونت واللج تغلب عليها عبد الله بن قاسم الفهري أزمان الفتنة، وتسمى نظام الدولة وهو الّذي كان المعتمد عنده عند ما ولاه الجماعة بقرطبة ومن عنده جاء إليها، وهلك سنة إحدى وعشرين وولي ابنه محمد يمين الدولة،   [1] هكذا بالأصل وكذلك في كتاب الاحاطة في اخبار غرناطة ص 485، أما في كتاب الحلل السندسية للأمير شكيب أرسلان م ص 129 حيوس بالياء المشددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وكانت بينه وبين مجاهد حروب، وملك بعده ابنه أحمد عقد الدولة، وهلك سنة أربعين. وملك أخوه عبد الله جناح الدولة إلى أن خلعه المرابطون سنة خمس وثمانين. ولنرجع إلى ذكر بقية الملوك الأكابر من الطوائف والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (أخبار ابن جهور) كان رئيس الجماعة أيام الفتنة بقرطبة أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبد الله ابن محمد بن المعمر بن يحيى بن أبي المغافر بن أبي عبيدة الكلبيّ، هكذا نسبه ابن بشكوال وأبو عبيدة هو الداخل إلى الأندلس، وكانت لهم وزارة الدولة العامرية بقرطبة واستبد جهور هذا سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، لما خلع الجند المعتز آخر خلفاء بني أمية، ولم يدخل في أمور الفتنة، فاستولى على المملكة ورتب الأمور، ولم يتحول عن داره إلى قصر الخلافة. وكان على سنن أهل الفضل يعود المرضى، ويشهد الجنائز ويؤذن عند مسجدهم بالربض الشرقي، ويصلي التراويح ولا يحتجب عن الناس فأسندوا أمرهم إليه إلى أن يوجد خليفة إلى أن خاطبهم محمد بن إسماعيل ابن عباد يعرّفهم أن هشاما المؤيد عنده بإشبيليّة، وأكثر في ذلك فخطب له بقرطبة بعد مراوضات [1] ، ثم أتي به إلى قرطبة فمنعوه الدخول وأضربوا عن ذكره في الخطبة وانفرد ابن جهور بأمرهم إلى أن هلك في محرم سنة خمس وثلاثين واربعمائة ودفن بداره وولي ابنه أبو الوليد محمد بن جهور باتفاق من الكافة فجرى على سنن أبيه. وكان قد قرأ على مكي بن أبي طالب المكيّ وغيره فكان مكرما لأهله. واستوزر ثقته إبراهيم بن يحيى فكفاه، وهلك كما هو معروف، ففوّض التدبير إلى ابنه عبد الملك فأساء السيرة، وتكرّه إلى الناس وحاصره ابن ذي النون بقرطبة، فاستغاث بمحمد ابن عباد فأمده بالجيش، ووصى عسكره بذلك فداخلوا أهل قرطبة وخلعوه سنة إحدى وستين وأخرجوه عن قرطبة. واعتقل بشلطليش إلى أن هلك سنة اثنتين وسبعين. وولى ابن عباد على قرطبة ابنه سراج الدولة، وقدمها من بلنسية ودخلها إلى   [1] المراوضات: هو ما يجري بين المتبايعين من الزيادة والنقصان، كأن كل واحد منهما يروض صاحبه، من رياضة الدابة. (لسان العرب) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 أن قتل بها مسموما، وحمل إلى طليطلة فدفن بها، وزحف المعتمد بن عباد بعد مهلكه إلى قرطبة فملكها سنة تسع وستين وقتل ابن عكاشة واستخلف ابنه المأمون الفتح بن محمد، وصار غرب الأندلس كلّه في ملكه إلى أن دخل المرابطون الأندلس، وغلبوا عليهم سنة أربع وثمانين واربعمائة فقتل الفتح وحمل أباه المعتمد إلى أغمات كما ذكرناه ونذكره. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (أخبار ابن الأفطس صاحب بطليوس من غرب الأندلس ومصاير أمره) ملك بطليوس من غرب الأندلس عند الفتنة واهتياجها أبو محمد عبد الله بن مسلمة التجيبي المعروف بابن الأفطس، واستبدّ بها سنة إحدى وستين وأربعمائة فهلك، وولي من بعده ابنه المظفر أبو بكر، واستفحل ملكه، وكان من أعاظم ملوك الطوائف. وكانت بينه وبين ابن ذي النون حروب مذكورة، وكذا مع ابن عباد بسبب ابن يحيى صاحب مليلة، أعانه ابن عباد عليه فاستولى بسبب ذلك على كثير من ثغوره ومعاقلة. واعتصم المظفر ببطليوس بعد هزيمتين هلك فيهما خلق كثير وذلك سنة ثلاث وأربعين. ثم أصلح بينهما ابن جهور وهلك المظفر سنة ستين وأربعمائة، وتولى بعده ابنه المتوكل أبو حفص عمر بن محمد المعروف بساجة ولم يزل سلطانا بها إلى أن قتله يوسف بن تاشفين أمير المرابطين سنة تسع وثمانين وأربعمائة. وقتل معه أولاده، أغراه به ابن عباد فلما تمكنت الاسترابة من المتوكل خاطب الطاغية واستراح إليه مما دهمه. وشعر به ابن عباد فكاتب يوسف بن تاشفين واستحثه لمعاجلته قبل أن يتصل بالطاغية، ويتصل بالثغر فاغذ إليه السير ووافاه سنة [1] فقبض عليه وعلى بنيه وقتلهم يوم الأضحى حسبما فذكر في أخبارهم. ورثاه ابن عبدون بقصيدته المشهورة وهي: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور   [1] رغم التدقيق في المراجع التي بين أيدينا لم نستطع تحديد هذه السنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 عدد فيها أهل النكبات ومن عثر به الزمان بما يبكي الجماد، وسنذكر قصتهم في أخبار لمتونة وفتحهم الأندلس، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. (أخبار باديس بن حسون ملك غرناطة والبيرة) كان عميد صنهاجة في الفتنة البربرية زاوي بن زيري بن مناد أجاز إلى الأندلس على عهد المنصور، فلما هاجت الفتنة البربرية، وانحل نظام الخلافة، كان فحل ذلك الشول وكبش تلك الكتائب، وعمد إلى البيرة، ونزل غرناطة واتخذها دارا لملكه، ولما بايع الموالي العامريّون للمرتضى المرواني وتولّى كبر ذلك مجاهد العامريّ ومنذر بن يحيى بن هاشم التجيبي وعمد إلى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري في جموع صنهاجة وهزمهم سنة عشرين وأربعمائة وقتل المرتضى. وأصاب زاوي من ذخائرهم وأموالهم وعددهم ما لم يقتنه ملك. ثم وقع في نفسه سوء آثار البربر بالأندلس أيام هذه الفتنة وحذّر مغبة ذلك فارتحل إلى سلطان قومه بالقيروان، واستخلف على غرناطة ابنه فدبّر القبض على ابن رصين ومشيخة غرناطة إذا رجعوا عن أبيه، وشعروا بذلك فبعثوا إلى ابن أخيه ماكس بن زيري من بعض الحصون فوصل وملك غرناطة، واستبدّ بها إلى أن هلك سنة تسع وعشرين واربعمائة وولي ابنه باديس، وكانت بينه وبين ذي النون وابن عبّاد حروب. واستولى على سلطانه كاتبه وكاتب أبيه إسماعيل بن نغزلة الذمّي، ثم نكبه وقتله سنة تسع وخمسين، وقتل معه خلقا من اليهود، وتوفي سنة سبع وستين واربعمائة وولي حافده المظفّر أبو محمد عبد الله بن بلكّين بن باديس، وولّى أخاه تميما بمالقة بعهد جده. وخلعهما المرابطون سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وحملا إلى أغمات ووريكة، واستقرّا هنالك حسبما يذكر بعد في أخبارهم مع يوسف ابن تاشفين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. الخبر عن بني ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي وتصاريف أمورهم ومصاير أحوالهم جدّهم إسماعيل الظافر بن عبد الرحمن بن سليمان بن ذي النون أصله من قبائل هوارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 ورأس سلفه في الدولة المروانية وكانت لهم رياسة في شنترية ثم تغلب على حصن أفلنتين أزمان الفتنة سنة تسع وأربعمائة. وكانت طليطلة ليعيش بن محمد بن يعيش، واليها منذ أوّل الفتنة، فلما هلك سنة سبع وعشرين استدعاه إسماعيل الظافر من حصن أفلنتين بعض أجناد طليطلة فمضى إليها وملكها. وامتدّ ملكه إلى جنجالة من عمل مرسية ولم يزل أميرا بها إلى أن هلك سنة تسع وعشرين. وولي ابنه المأمون أبو الحسن يحيى، واستفحل ملكه وعظم بين ملوك الطوائف سلطانه، وكانت بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة. وفي سنة خمس وثلاثين غزي بلنسية وغلب على صاحبها المظفّر ذي السابقين من ولد المنصور بن أبي عامر. ثم غلب على قرطبة وملكها من يد ابن عبّاد وقتل ابنه أبا عمر بعد أن كان ملكها، وهلك الظافر بها مسموما سنة سبع وستين كما ذكرناه. وولي بعده على طليطلة حافده القادر يحيى بن إسماعيل بن المأمون يحيى بن ذي النون، وكان الطاغية بن أدفونش قد استفحل أمره لمّا خلا الجو من مكان الدولة الخلافية، وخفّ ما كان على كاهله من أمر العرب، فآلتهم البسائط وضايق ابن ذي النون حتى غلب على طليطلة فخرج له القادر عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وشرط عليه أن يظاهره على أخذ بلنسية، وعليها عثمان القاضي ابن أبي بكر بن عبد العزيز من وزراء ابن أبي عامر فخلعه أهلها خوفا من القادر أن يمكن منهم ألفنش فدخلها القادر وأقام بها سنتين، وقتل سنة إحدى وثمانين على ما نذكر بعد إن شاء الله تعالى. (الخبر عن ابن أبي عامر صاحب شرق الأندلس من بني ملوك الطوائف وأخبار الموالي العامريّين الذين كانوا قبله وابن صمادح قائده بالمريّة وتصاريف أحوالهم ومصايرها) بويع للمنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر بن أبي عامر بشاطبة سنة إحدى عشرة وأربعمائة، أقامه الموالي العامريّون عند الفتنة البربرية فاستبدّ بها. ثم ثار عليه أهل شاطبة فأفلت ولحق ببلنسية فملكها وفوّض أمره للموالي. وكان من وزرائه ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 عبد العزيز وكان خيران العامريّ من مواليهم، تغلّب من قبل ذلك على أربولة سنة أربع. ثم ملك مرسية سنة سبع، ثم حيّان ثم المريّة سنة تسع، وبايعوا جميعا للمنصور عبد العزيز. ثم انتقض خيران على المنصور وسار من المريّة إلى مرسية وأقام بها ابن عمّه أبا عامر محمد بن المظفّر بن المنصور بن أبي عامر، خرج إليه من قرطبة من حجر القاسم بن حمّود، وخلص إلى خيران بأموال جليلة، فجمع الموالي فأخذوا ماله وطردوه. ثم ولّاه خيران وسمّاه المؤتمن ثم المعتصم. ثم تنكّر عليه وأخرجه من مرسية ولحق بالمريّة وأغرى به الموالي فأخذوا ماله وطردوه، ولحق بغرب الأندلس إلى أن مات. ثم هلك خيران بالمريّة سنة تسع عشرة، وقام بالأمر بعده الأمير عميد الدولة أبو القاسم زهير العامريّ، وزحف إلى غرناطة فبرز إليه باديس بن حبّوس وهزمه، وقتل بظاهرها سنة تسع وعشرين فصار ملكه للمنصور عبد العزيز صاحب بلنسية، وملكها من يده سنة سبع وخمسين. ولما هلك المأمون بن ذي النون وولي حافده القادر ولّى على بلنسية أبا بكر بن عبد العزيز بقية وزراء ابن أبي عامر، فداخله ابن هود في الانتقاض على القدر ففعل واستبدّ بها، وضبطها سنة ثمان وستين حين تغلّب المقتدر على دانية. ثم هلك سنة ثمان وسبعين لعشر سنين من ولايته. وولي ابنه القاضي عثمان، فلما سلم القادر بن ذي النون طليطلة زحف إلى بلنسية ومعه ألفنش كما قلناه، وخلع أهل بلنسية عثمان بن أبي بكر وأمكنوا منها القادر خوفا من استيلاء النصرانيّ وذلك سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ثم ثار على القادر سنة ثلاث وثمانين القاضي جعفر بن عبد الله بن حجاب وقتله واستبدّ بها. ثم تغلّب النصارى عليها سنة تسع وثمانين وقتلوه. ثم تغلّب المرابطون على الأندلس وزحف ابن ذي النون قائدهم الى بلنسية فاسترجعها من أيديهم سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وأمّا معن بن صالح قائد الوزير ابن أبي عامر فأقام بالمريّة لما ولّاه المنصور سنة ثمان وثمانين، وتسمّى ذا الوزارتين. ثم خلعه وولّى ابنه المعتصم أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح، واستبدّ بها أربعا وأربعين سنة، وثار عليه صاحب لورقة ابن شبيب، وكان أبوه معزولا عليها، فجهّز إليه المعتصم جيشا واستمد ابن شبيب المنصور بن أبي عامر صاحب بلنسية ومرسية بالعدوّ، واستمدّ المعتصم بباديس، ونهض عمّه صمادح بن باديس ابن صمادح فقاتلوا حصونا من حصون لورقة واستولوا عليها، ورجعوا ولم يزل المعتصم أميرا بالمريّة إلى أن هلك سنة ثمانين. وولي ابنه وخلعه يوسف بن تاشفين أمير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 المرابطين سنة أربع وثمانين، وأجاز إلى العدوة ونزل على آل حمّاد بالقلعة، وبها مات ولده والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن بني هود ملوك سرقسطة من الطوائف صارت اليهم من بني هاشم وما كان من أوليتهم ومصاير أمورهم كان منذر بن مطرف بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى، وكان بين المنصور وعبد الرحمن منافسة على الإمارة والرئاسة، وكانت دار إمارته سرقسطة، ولما بويع المهدي بن عبد الجبّار وانقرض أمر العامريّين، وجاءت فتنة البربر كان مع المستعين حتى قتل هشام مولاه، فامتعض لذلك وفارقه وبايع المرواني للمرتضى مع مجاهد ومن اجتمع إليه من الموالي والعامريّين، وزحفوا الى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري وهزمهم. ثم ارتابوا بالمرتضى ووضعوا عليه من قتله مع خيران بالمريّة، واستبدّ منذر هذا بسرقسطة والثغر وتلقّب بالمنصور، وعقد ما بين طاغية جليقة وبرشلونة وبنيه، وهلك سنة أربع عشرة، وولي ابنه وتلقّب المظفّر وكان أبو أيوب سليمان بن محمد بن هود الجذامي من أهل نسبهم مستبدا بمدينة تطيلة، ولّاها منذ أوّل الفتنة، وجدّهم هود هو الداخل للأندلس ونسبه الأزد إلى سالم مولى أبي حذيفة. قال هود بن عبد الله بن موسى بن سالم: وقيل هود من ولد روح بن زنباع، فتغلّب سليمان على المظفّر يحيى بن المنذر وقتله سنة إحدى وثلاثين، وملك سرقسطة والثغر الأعلى، وابنه يوسف المظفّر لاردة. ثم نشأت الفتنة بينهما وانتصر المقتدر بالإفرنج والبشكنس فجاءوا لميعاده فوقعت الفتنة بين المسلمين وبينهم ثائره، وانصرفوا إلى يوسف صاحب لاردة فحاصرهم بسرقسطة، وذلك سنة ثلاث وأربعين. وهلك أحمد المقتدر سنة أربع وسبعين لتسع وثلاثين سنة من ملكه، فولي بعده ابنه يوسف المؤتمن، وكان قائما على العلوم الرياضيّة، وله فيها تآليف مثل الاستهلال والمناظر ومات سنة ثمان وسبعين، وهي السنة التي استولى فيها النصارى على طليطلة من يد القادر بن ذي النون. وولي بعده المستعين وعلى يده كانت وقعة وشقه، زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين، وهلك فيها خلق نحو عشرة آلاف، ولم يزل أميرا بسرقسطة إلى أن هلك شهيدا سنة ثلاث وخمسمائة ابن خبدون م 14 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها. وولي بعده ابنه عبد الملك وتلقّب عماد الدولة، وأخرجه الطاغية من سرقسطة سنة اثنتي عشرة فنزل روطة من حصونها وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث عشرة. وولي ابنه أحمد وتلقّب سيف الدولة والمستنصر، وبالغ النكاية في الطاغية، ثم سلّم له روطة [1] على أن يملّكه بلاد الأندلس، فانتقل معه إلى طليطلة بحشمه وآلته، وهنالك هلك سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان من ممالك بني هود هؤلاء مدينة طرطوشة [2] ، وقد كان بقايا من الموالي العامريّين فملكها سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ثم هلك سنة خمس وأربعين وملكها بعده يعلى العامريّ ولم تطل مدّته. وملكها بعده شبيل إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين سنة ثلاث وخمسين، فلم تزل في يده وفي يد بنيه من بعده إلى أن غلب عليها العدوّ فيما غلب عليه من شرق الأندلس. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (الخبر عن مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية وأخبار بنيه ومواليهم من بعدهم ومصاير أمورهم) كان فتح ميورقة سنة تسعين ومائتين على يد عصام الخولانيّ، وذلك أنه خرج حاجّا في سفينة اتخذها لنفسه فعصفت بهم الريح فأرسوا بجزيرة ميورقة، وطال مقامهم هنالك واختبروا من أحوالهم ما أطمعهم في فتحها، فلما رجع بعد فرضه أخبر الأمير بما رأى فيها، وكان من أهل الغناء عنده في مثلها، فبعث معه القطائع في البحر، ونفر الناس معه إلى الجهاد، فحاصرها أياما وفتحوها حصنا حصنا إلى أن كمل فتحها. وكتب عصام بالفتح إلى الأمير عبد الله، فكتب له بولايتها فوليها عشر سنين، وبنى فيها المساجد والفنادق والحمامات. ولما هلك قدّم أهل الجزيرة عليهم ابنه عبد الله، وكتب له الأمير بالولاية. ثم زهد وترهّب وركب إلى الشرق حاجّا وانقطع خبره، وذلك سنة خمسين وثلاثمائة. وبعث الناصر المرواني إليها الموفّق من   [1] روطة: بضم اوله، وسكون ثانيه، وطاء مهملة: حصن من اعمال سرقسطة بالأندلس وهو حصين جدا على وادي شلون. (معجم البلدان) . [2] طرطوشة: بالفتح ثم السكون ثم طاء أخرى ومضمومة، واو ساكنة وشين معجمة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية وهي شرقي بلنسية وقرطبة، قريبة من البحر متقنة العمارة مبنية على نهر أبره ولها ولاية واسعة وبلاد كثيرة تعد في جملتها. (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 الموالي فأنشأ الأساطيل وغزا بلاد الإفرنج، وهلك سنة تسع وخمسين أيام الحكم المستنصر، وولي بعده كوثر من مواليه فجرى على سنن الموفّق في جهاده. وهلك سنة تسع وثمانين أيام المنصور فولّى عليها مقاتل من مواليه، وكان كثير الغزو والجهاد. وكان المنصور وابنه المؤيد يمدّانه في جهاده. وهلك سنة ثلاث وأربعمائة أزمان الفتنة. وكان مجاهد بن يوسف بن عليّ من فحول الموالي العامريّين. وكان المنصور قد ربّاه وعلّمه مع مواليه القراءات والحديث والعربية فكان مجيدا في ذلك. وخرج من قرطبة يوم قتل المهدي سنة أربعمائة، وبايع هو والموالي العامريّين وكثير من جند الأندلس للمرتضى كما قدّمناه. ولقيهم زاوي بفحص غرناطة فهزمهم وبدّد شملهم. ثم قتل المرتضى كما تقدّم وسار مجاهد إلى طرطوشة فملكها. ثم تركها وانتقل إلى دانية واستقلّ بها. وملك ميورقة ومنورقة ويابسة واستبدّ سنة ثلاث عشرة. ونصّب العيطي كما مرّ فأراد الاستبداد، ومنع طاعة مجاهد ومنعه أهل ميورقة من ذلك، فبعث عنه مجاهد، وقدّم على ميورقة عبد الله ابن أخيه فولي خمس عشرة سنة. ثم هلك، وكان غزا سردانية في الأساطيل فاقتحمها، وأخرج النصارى منها وتقبضوا على ابنه أسيرا ففدّاه بعد حين، وولّى مجاهد على ميورقة بعد ابن أخيه مولاه الأغلب سنة ثمان وعشرين، وكان بين مجاهد صاحب دانية وبين خيران صاحب مرسية وابن أبي عامر صاحب بلنسية حروب إلى أن هلك مجاهد سنة ست وثلاثين. وولي ابنه عليّ وتسمى إقبال الدولة، وأصهر إلى المقتدر بن هود وأخرجه من دانية سنة ثمان وستين ونقله إلى سرقسطة، ولحق ابنه سراج الدولة بالإفرنجة، وأمدّوه على شروط شرطها لهم، فتغلّب على بعض حصونه. ثم مات فيما زعموا مسموما بحيلة من المقتدر سنة تسع. ومات عليّ قريبا من وفاة المقتدر سنة أربع وسبعين. ويقال بل فرّ أمام المقتدر إلى بجاية، ونزل على صاحبها يحيى بن حمّاد، ومات هنالك، وأمّا الأغلب مولى مجاهد صاحب ميورقة فكان صاحب غزو وجهاد في البحر. ولما هلك مجاهد استأذن ابنه عليّا في الزيارة فأذن له، وقدّم على الجزيرة صهره ابن سليمان بن مشكيان نائبا عنه، وبعث على آل الأغلب فاستعفاه وأقام سليمان خمس سنين. ثم مات فولّى عليّ مكانه مبشرا وتسمى ناصر الدولة، وكان أصله من شرق الأندلس أسر صغيرا وجبّه العدوّ وأقام بدانية محبوبا يجاهد في أسرى دانية وسردانية، واصطفاه فولّاه بعد مهلك سليمان فولي خمس سنين، وانقرض ملك عليّ وتغلّب عليه المقتدر بن هود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 فاستبد مبشر بميورقة، والفتنة يومئذ تموج بين ملوك الطوائف. وبعث إلى دانية في تسليم أهل سيده، فبعثوا إليه بهم وأولاهم جميلا. ولم يزل يردّد الغزو إلى أرض العدوّ إلى أن جمع طاغية برشلونة الجموع ونازلة بميورقة عشرة أشهر. ثم افتتحها واستباحها [1] سنة من ولايته. وكان بعث بالصريخ إلى عليّ بن يوسف صاحب المغرب من لمتونة فلم يوافهم الأسطول بالمدد إلا بعد استيلاء العدوّ. فلما وصل الأسطول دفعوا العدوّ عنها وولّى علي بن يوسف من قبله أنور بن أبي بكر اللمتوني فعسف بهم وأرادهم على بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فثاروا به وصفدوه، وبعثوا إلى عليّ بن يوسف فردّهم إلى ولاية محمد بن علي بن إسحاق بن غانية المستولي صاحب غرب الأندلس، فبعث إليها أخاه محمد بن علي من قرطبة، كان واليا عليها فوصل إلى ميورقة فصغد أنور وبعث به إلى مراكش، وأقام في ولايتها عشر سنين إلى أن هلك أخوه يحيى وسلطانهم عليّ بن يوسف. واستقرّت ميورقة في ملك بني غانية هؤلاء وسلطانهم. وكانت لهم في زمن علي بن يوسف بها دولة، وخرج منها علي ويحيى إلى بجاية وملكوها من الموحّدين، وكانت لهم معهم حروب بإفريقية كما نذكر في أخبارهم بعد أخبار لمتونة. وملك الإفرنج ميورقة من أيدي الموحّدين آخر دولتهم. والبقاء للَّه والملك يؤتيه من يشاء وهو العزيز الحكيم. (الخبر عن ثوّار الأندلس آخر الدولة اللمتونية واستبداد بني مردنيش ببلنسية ومزاحمتهم لدولة بني عبد المؤمن من أوّلها إلى آخرها ومصاير أحوالهم وتصاريفها) لما شغل لمتونة بالعدوّ، وبحرب الموحّدين بعد عليهم الأندلس، وعادت إلى الفرقة بعض الشيء فثار ببلنسية سنة سبع وثلاثين وخمسمائة القاضي مروان بن عبد الله بن مروان بن حضاب، وخلعوه لثلاثة أشهر من ملكه، ونزل بالمريّة. ثم حمل إلى ابن غانية بميورقة فسجن بها، وثار بمرسية أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن ظاهر.   [1] كذا بياض بالأصل والواقع ان مكان البياض مدة الزمن التي سبقت افتتاح المدينة. ولم نستطع تحديد مقدار السنين من المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 ثم خلع وقتل لأربعة أشهر من ولايته، وولي حافد المستعين بن هود شهرين. ثم ولي ابن عياض وبايع أهل بلنسية بعد ابن حضاب للأمير أبي محمد عبد الله بن سعيد بن مردنيش الجذاميّ. وأقام مجاهدا إلى أن استشهد في بعض أيامه مع النصارى سنة أربعين وخمسمائة، فبويع لعبد الله بن عياض كان ثائرا بمرسية كما قدمناه. وهلك سنة اثنتين وأربعين فبويع إلى ابن أخيه محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش، وملك شاطبة [1] ومدينة شقر [2] ومرسية. وكان إبراهيم بن همشك من قوّاده فعبث في أقطار الأندلس وأغار على قرطبة وتملّك بها. ثم استرجعت منه ثم غدر بغرناطة وملكها من أيدي الموحّدين وحصرهم بالقصبة هو وابن مردنيش. ثم استخلصها عبد المؤمن من أيديهم بعد حروب شديدة دارت بينهم بفحص غرناطة، لقيه فيها ابن همشك وابن مردنيش، وجيوش من أمم النصرانية استعانوا بهم في المدافعة عن غرناطة، فهزمهم عبد المؤمن وقتلهم أبرح قتل، وحاصر يوسف بلنسية فخطب للخليفة العبّاسيّ المستنجد، وكاتبه فكتب له بالعهد والولاية. ثم بايع للموحّدين سنة ست وستين. وكان المظفّر عيسى بن المنصور بن عبد العزيز الناصر بن أبي عامر عند ما انصرف إلى ملك شاطبة ومرسية تغلّب على بلنسية مدّة، ثم هلك سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ورجعت إلى ابن مردنيش. وكان أحمد بن عيسى تغلّب على حصن مزيلة ثائرا بالمرابطين من أتباعه فغلب منذر بن أبي وزير عليه، فأجاز سنة أربعين وخمسمائة إلى عبد المؤمن، ورغّبه في ملك الأندلس فبعث معه البعوث وتغلّبوا على بني غانية أمراء المرابطين بالأندلس. وكان بميورقة أيضا منذ اضطراب أمر لمتونة محمد بن علي بن غانية المستوفي، وليها سنة عشرين وخمسمائة، واستشهد بها. ورحل عنها سنة سبع وثلاثين إلى زيارة أخيه يحيى ببلنسية واستخلف على ميورقة عبد الله بن تيما فلما مكث ثار عليه ثوّار فرجع محمد بن غانية وأصلح شأنها إلى أن هلك سنة سبع وستين. وولي ابنه إبراهيم أبو إسحاق وتوفي سنة ثمانين وخمسمائة. وولي بعده أخوه طلحة وبايع للموحّدين سنة إحدى وثمانين، وأوفد عليهم أهل   [1] شاطبة: بالطاء المهملة، والباء الموحدة: مدينة شرقي الأندلس وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة، يعمل الكاغد الجيّد فيها ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس. (معجم البلدان) . [2] شقر: بفتح أوله وسكون ثانيه، جزيرة شقر: في شرقي الأندلس، وهي انزه بلاد الله وأكثرها روضة وشجرا وماء (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 ميورقة، فبعثوا معهم علي بن الربرتبر، فلما وصل إلى ميورقة ثار على طلحة بنو أخيه أبي إسحاق وهم عليّ ويحيى ويعفر بن الربرتبر وخلعوا طلحة. ثم بلغهم موت يوسف بن عبد المؤمن فخرجوا إلى إفريقية حسبما نذكر في أخبار دولتهم، فانقرضت دولة المرابطين بالمغرب والأندلس وأدال الله منهم بالموحّدين وقتلوهم في كل وجه، واستفحل أمرهم بالأندلس واستعملوا فيها القرابة من بني عبد المؤمن وكانوا يسمّونهم السادة، واقتسموا ولايتها بينهم. وأجاز يعقوب المنصور منهم غازيا بعد أن استقرّ أهل العدوة كافة من زناتة، فأوقع العرب بابن أدفونش ملك الجلالقة بالأركه من نواحي بطليوس الوقعة المذكورة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وأجاز ابنه الناصر من بعده سنة تسع فمحص الله المسلمين واستشهد منهم عدة. ثم تلاشت أمراء الموحّدين من بعده وانتزى بالسادة بنواحي الأندلس في كلّ عمله، وضعف بمراكش فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بقص، واستسلام حصون المسلمين إليه في ذلك فسمت رجالات الأندلس وأعقاب العرب من دولة الأموية، وأجمعوا إخراجهم فثاروا بهم لحين وأخرجوهم. وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس. وقام ببلنسية زيّان بن أبي الحملات مدافع بن يوسف بن سعد، من أعقاب دولة بني مردنيش وثوار آخرون. ثم خرج عليّ بن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضا، وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر، وتلقّب محمد هذا بالشيخ فحاربه أهل الجبل، وكانت لكل منهما دولة أورثها بنيه. فأمّا زيد بن مردنيش فكان مع عشرة من بني مردنيش رؤساء بلنسية، واستظهر الموحّدون على إمارتها. ولما وليها السيد أبو زيد بن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن بعد مهلك المستنصر كما نذكر في أخبارهم، وذلك سنة عشرين وستمائة، كان زيّان هذا بطانته وصاحب أمره. ثم انتقض عليه سنة ست وعشرين عند ما بويع ابن هود بمرسية وخرج إلى أبدة فخشيه السيد أبو زيد، وبعث إليه يلاطفه في الرجوع فامتنع، ولحق السيد أبو زيد بطاغية برشلونة ودخل في دين النصرانية أعاذنا الله من ذلك. وملك زيّان بلنسية واتصلت الفتنة بينه وبين ابن هود، وخالف عليه بنو عمّه عزيز بن يوسف بن سعد في جزيرة شقر، وصاروا إلى طاعة ابن هود وزحف زيّان للقائه على شريش فانهزم وتبعه ابن هود ونازلة في بلنسية أياما وامتنعت عليه فأقلع، وتكالب الطاغية على ثغور المسلمين، ونازل صاحب برشلونة أنيشة وملكها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وزحف زيّان إليها بجميع من معه من المسلمين سنة أربع وثلاثين ونفر معه أهل شاطبة وجزيرة شقر فكانت عليهم الواقعة العظيمة التي استشهد فيها أبو الربيع سليمان، وأخذ الناس في الانتقال عن بلنسية، فبعث إليهم يحيى بن أبي زكريا صاحب إفريقية بالمدد من الأموال والأسلحة والطعام مع قريبه يحيى عند ما نبذ دعوة بني عبد المؤمن وأوفد عليه أعيان بلنسية وهي محصورة فرجع إلى دانية. ثم أخذ الطاغية بلنسية سنة ست وثلاثين، وخرج زيّان إلى جزيرة شقر وأقام بدعوة الأمير أبي زكريا، وبعث إليه بيعتها مع كاتبه الحافظ أبي عبد الله محمد بن الأنباري فوصل إلى تونس، وأنشده قصيدته المشهورة على رويّ السين بلغ فيها من الإجادة حيث شاء، وهي معروفة وسيأتي ذكرها في دولة بني حفص بإفريقية من الموحدين. ثم هلك ابن هود وانتقض أهل مرسية على ابنه أبي بكر الواثق، وكان واليه بها أبو بكر بن خطّاب، فبعثوا إلى زيّان واستدعوه فدخلها وانتهب قصرها وحملهم على البيعة للأمير أبي زكريا على ولاية شرق الأندلس كله، وذلك سنة سبع وثلاثين. ثم انتقض عليه ابن عصام بأريولة ولحق به قرابة زيّان بمدينة لقنت فلم يزل بها إلى أن أخذها منه طاغية برشلونة سنة أربع وأربعين فأجاز إلى تونس، وبها مات سنة ثمان وستين. وأمّا ابن هود فسيأتي الخبر عن دولته، وأما ابن الأحمر فلم تزل الدولة في أعقابه لهذا العهد. ونحن ذاكرون أخبارهم لأنهم من بقايا دولة العرب والله خير الوارثين. (الخبر عن ثورة ابن هود على الموحدين بالأندلس ودولته وأولية أمره وتصاريف أحواله) هو محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن أحمد بن سليمان المستعين بن محمد بن هود ثار بالصخيرات من عمل مرسية مما يلي رقوط [1] عند فشل دولة الموحّدين، واختلاف السادة الذين كانوا أمراء ببلنسية، وذلك عند ما هلك المستنصر سنة عشرين. وبايع الموحدون بمراكش لعمّه المخلوع عبد الواحد بن أمير المؤمنين   [1] رقوط: لعلها رقوبل- ولم نجد لرقوط اي اسم: وهي مدينة بين شنت بريّة ومدينة سرتّة بالأندلس، قديمة البناء (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 يوسف. ثار العادل ابن أخيه المنصور بمرسية ودخل في طاعة صاحب حيّان أبو محمد عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وخالفهما في ذلك السيد أبو زيد أخوه ابن محمد بن أبي حفص. وتفاقمت الفتنة واستظهر كل على أمره بالطاغية، ونزلوا له عن كثير من الثغور وقلقت من ذلك ضمائر أهل الأندلس، فتصدّر ابن هود هذا للثورة، وهو من أعقاب بني هود من ملوك الطوائف، وكان يؤمّل لها وربما امتحنه الموحّدون لذلك مرّات، فخرج في نفر من الأجناد سنة خمس وعشرين، وجهّز إليه والي مرسية يومئذ السيد أبو العبّاس بن أبي عمران موسى بن أمير المؤمنين يوسف ابن عبد المؤمن عسكرا فهزمهم. وزحف إلى مرسية فدخلها واعتقل السيد، وخطب للمستنصر صاحب بغداد لذلك العهد من بني العبّاس. وزحف إليه السيد أبو زيد ابن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن من شاطبة، وكان واليه بها فهزمه ابن هود ورجع إلى شاطبة. واستجاش بالمأمون وهو يومئذ بإشبيليّة بعد أخيه العادل فخرج في العساكر، ولقيه ابن هود فانهزم واتبعه إلى مرسية فحاصره مدّة، وامتنعت عليه فأقلع عنه ورجع إلى إشبيلية. ثم انتقض على السيد أبي زيد ببلنسية زيّان بن أبي الحملات مدافع بن حجّاج بن سعد بن مردنيش، وخرج عنه إلى أبّدة [1] وذلك سنة ست وعشرين. وكان بنو مردنيش هؤلاء أهل عصابة وأولي بأس وقوة، فتوقّع أبو زيد اختلال أمره، وبعث إليه ولاطفه في الرجوع فامتنع فخرج أبو زيد من بلنسية. ولحق بطاغية برشلونة ودخل في دين النصرانية، نعوذ باللَّه. وبايعت أهل شاطبة لابن هود، ثم تابعه أهل جزيرة شقر حملهم عليها ولاتهم بنو عزيز بن يوسف عم زيّان بن مردنيش، ثم بايعه أهل خبيان [2] وأهل قرطبة، وتسمّى بأمير المسلمين، وبايعه أهل إشبيلية عند رحيل المأمون عنها إلى مراكش، وولّى عليهم أخاه. ونازعه زيّان بن مردنيش، وكانت بينهما ملاقاة انهزم فيها زيّان سنة تسع وعشرين، وحاصره ابن هود ببلنسية. ثم أقلع ولقي الطاغية على ماردة فانهزم ومحص الله المسلمين، وانهزم بعدها أخرى على الكوس. ولم تزل غزواته متردّدة في بلاد العدوّ   [1] أبدة: بالضم ثم الفتح والتشديد: اسم مدينة بالأندلس من كورة جيّان، تعرف بأبدة العرب (معجم البلدان) . [2] لعلها جيّان وقد حصل بعض التحريف من الناسخ لأننا لم نعثر على خبيان في المراجع التي بين أيدينا. وجيّان: مدينة لها كورة واسعة بالأندلس تتصل بكورة البيرة مائلة عنها الى ناحية الجوف في شرقي قرطبة، بينها وبين قرطبة سبعة عشر فرسخا (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 كل سنة وحربه معهم سجالا، والطاغية يلتقم الثغور والقواعد. ثم استولى ابن هود على الجزيرة الخضراء وجبل الفتح فرضتي المجاز على سبتة من يد السيد أبي عمران موسى لما انتقض على أخيه المأمون، ونازلة بسبتة فبايع هو لابن هود وأمكنه منها. ثم ثار بها اليناشتّي على ما يذكر. ثم بويع للسلطان محمد بن يوسف بن نصر سنة تسع وعشرين بأرجونة ودخلت قرطبة في طاعته، ثم قرمونة ثم انتقض أهل إشبيلية وأخرجوا سالم بن هود وبايعوا لابن مروان أحمد بن محمد الباجي وجهّز عسكرا للقاء ابن الأحمر فانهزموا وأسر قائده. ثم أصفق الباجي مع ابن الأحمر على فتنة ابن هود وصالح ابن هود ألفنش على فعلتهم على ألف دينار كل يوم. ثم صارت قرطبة إلى ابن هود وزحف إلى الباجي وابن الأحمر فانهزم، ونزل ابن الأحمر ظاهر إشبيلية. ثم غدر الباجي فقتله وتولّى ذلك صهره أشقيلولة، وزحف سالم بن هود إلى إشبيلية فنازلها وامتنعت عليه. ووصل خطاب الخليفة المستنصر العبّاسي إلى ابن هود من بغداد سنة إحدى وثلاثين، وفد به أبو علي حسن بن علي بن حسن بن الحسين الكرديّ الملقّب بالكمال. وجاء بالراية والخلع والعهد ولقبه المتوكل. وقدم عليه بذلك في غرناطة في يوم مشهود، وبايع له ابن الأحمر، وعند ما غدر ابن الأحمر بالباجي فرّ من إشبيلية شعيب بن محمد إلى البلد فاعتصم بها، وتسمّى المعتصم فحاصره ابن هود وأخذها من يده. ثم خرج العدوّ من كل جهة ونازلوا ثغور المسلمين وأحاطوا بهم، وانتهت محلاتهم على الثغور إلى سبع. ثم حاصر الطاغية مدينة قرطبة وغلب عليها سنة ثلاث وثلاثين وبايع أهل إشبيلية للرشيد من بني عبد المؤمن، ثم زحف ابن الأحمر إلى غرناطة وملكها كما يذكر، وبويع للرشيد سنة سبع وثلاثين. وكان عبد الله أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الأموي الرميمي وزير ابن هود، وكان يدعوه ذا الوزارتين ولّاه المريّة من عمله، فلم يزل بها وقدم عليه المتوكل سنة خمس وثلاثين وستمائة فهلك بالحمام ودفن بمرسية. ويقال إنه قتله ثم استبدّ من بعده المؤيّد، واستنزله عنها ابن الأحمر سنة ثلاث وأربعين. ولما هلك المتوكّل ولي من بعده بمرسية ابنه أبو بكر محمد بعهده إليه وتلقّب بالواثق، وثار عليه عزيز بن عبد الملك بن خطاب سنة ست وثلاثين لأشهر من ولايته فاعتقله، وكان يلقّب ضياء الدولة. ثم تغلّب زيّان بن مردنيش على مرسية وقتل ابن خطاب لأشهر من ولايته. وأطلق الواثق بن هود من اعتقاله. ثم ثار عليه بمدينة مرسية محمد بن هود عمّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 المتوكّل سنة ثمان وثلاثين، وأخرج منها زيّان بن مردنيش، وتلقّب بهاء الدولة، وهلك سنة سبع وخمسين وستمائة. وولي ابنه الأمير أبو جعفر، ثم ثار عليه سنة اثنتين وستين أبو بكر الواثق الّذي كان ابن خطّاب خلعه، وهو المتوكل أمير المسلمين، وبقي بها أميرا إلى أن ضايقه الفنش والبرشلونيّ، فبعث إليه عبد الله بن علي بن أشقيلولة، وتسلّم مرسية منه. وخطب بها لابن الأحمر. ثم خرج منها راجعا إلى ابن الأحمر فأوقع به البصريّ في طريقه، ورجع الواثق إلى مرسية ثالثة فلم يزل بها إلى أن ملكها العدوّ من يده سنة ثمان وستين، وعوّضه منها حصنا من عملها يسمّى يسّ إلى أن هلك، والله خير الوارثين. (الخبر عن دولة بني الأحمر ملوك الأندلس لهذا العهد ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم) أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة ولهم فيها سلف في أبناء الجند ويعرفون ببني نصر، وينسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان كبيرهم لآخر دولة الموحّدين محمد ابن يوسف بن نصر، ويعرف بالشيخ وأخوه إسماعيل. وكانت لهم وجاهة في ناحيتهم. ولما فشل ريح الموحّدين وضعف أمرهم وكثر الثوّار بالأندلس، وأعطى حصونها للطاغية، واستقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية، فأقام بدعوته العبّاسيّة، وتغلّب على شرق الأندلس أجمع فتصدّى محمد بن يوسف هذا للثورة على ابن هود وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة على الدعاء للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية، وأطاعته حيّان [1] وشريش سنة ثلاثين بعدها، وكان يعرف بالشيخ ويلقّب بأبي دبوس. واستظهر على أمره أوّلا بقرابته من بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة عبد الله وعلي. ثم بايع لابن هود سنة إحدى وثلاثين عند ما وصله خطاب الخليفة من بغداد. ثم ثار بإشبيليّة أبو مروان الباجي عند خروج ابن هود عنها، ورجوعه إلى مرسية فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوّجه ابنته فأطاعه، ودخل إشبيلية سنة اثنتين وثلاثين. ثم فتك بابن الباجي وقتله، وتناول   [1] هي جيّان. وقد مرّ ذكرها من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 الفتك به علي بن أشقيلولة. ثم راجع أهل إشبيلية بعدها لشهر دعوة ابن هود، وأخرجوا ابن الأحمر. ثم تغلّب على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها ثم ثار ابن أبي خالد بدعوته في لحيان ووصلته بيعتها، فقدّم إليها أبا الحسن بن أشقيلولة. ثم جاء على أثره ونزلها واستقرّ بها بعد مهلك ابن هود، وبايع للرشيد سنة تسع وثلاثين ثم تناول المؤيد من يد محمد بن الرميمي فخلعه أهل البلد سنة ثلاث وستين وبايعوا لابن الأحمر. ثم ثار أبو عمرو بن الجدّ واسمه يحيى بن عبد الملك بن محمد الحافظ أبي بكر وملك إشبيلية، وبايع للأمير أبي زكريا بن حفص صاحب إفريقية سنة ثلاث وأربعين، وولي عليهم أبو زكريا أميرا، وقام بأمرهم القائد شغاف، والعدوّ أثناء ذلك يلتقم بلاد المسلمين وحصونهم من لدن عام عشرين أو قبله، وصاحب برشلونة من ولد البطريق الّذي استعمله الإفرنجة عليها الأوّل استرجاعهم لها من أيدي العرب فتغلّب عليها، وبعد عن الفرنجة، وضعف لعهده سلطانهم. ووصلوا وراء الدروب وعجزوا فكانوا عن برشلونة وجماعتها أعجز، فسما أهل طاغيتها منهم لذلك العهد، واسمه حاقمة إلى التغلّب على ثغور المسلمين. واستولى على ماردة سنة ست وعشرين وستمائة. ثم ميورقة سنة سبع وعشرين وستمائة، ثم أجاز إلى سرقسطة وشاطبة كان تملكها منذ مائة وخمسين من السنين قبلها. ثم بلنسية سنة ست وثلاثين وستمائة بعد حصار طويل وطوى ما بين ذلك من الحصون والقرى حتى انتهى إلى المريّة وحصونها، وابن أدفونش أيضا ملك الجلالقة هو ابن الادفونش- الملقب بالحكيم- وآباؤه من قبله يتقرّى الفرستيرة حصنا حصنا، ومدينة مدينة إلى أن طواها واستعبد ابن الأحمر هذا لأوّل أمره بما كان بينه وبين الثوّار بالأندلس من المنازعة فوصل يده بالطاغية في سبيل الاستظهار على أمره فوصله وشدّ عضده، وصار ابن الأحمر في جملته وأعطاه ابن هود ثلاثين من الحصون أو نحوها في كفّ غربة عن ابن الأحمر، وأن يعيّنه على ملك قرطبة فتسلّمها. ثم تغلّب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وأعاد إليها خيرة الله كلمة الكفر. ثم نازل إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه مظهر الامتعاض لابن الجدّ وحاصرها سنتين ثم دخلها صلحا. وانتظم معها حصونها وثغورها وأخذ طليطلة من يد ابن كماشة، وغلب بعد ذلك ابن محفوظ على شلب وطليبرة سنة تسع وخمسين. ثم ملك مرسية سنة خمس وستين ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك الأندلس كورة كورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وثغرا ثغرا إلى أن ألجأ المسلمين إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب والبيرة من شرق الأندلس. نحو عشر مراحل من الغرب الى الشرق وفي مقدار مرحلة أو ما دونها في العرض ما بين البحر والجوف ثم سخط بعد ذلك الشيخ ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء على كافة الجزيرة فامتنعت عليه وتلاحق بالأندلس غزاة من زناتة الثائرين يومئذ من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وبني مرين. وكان أعلاهم كعبا في ذلك وأكثرهم غزي بنو مرين، فأجاز أوّلا أولاد إدريس بن عبد الحق وأولاد رحو بن عبد الله بن عبد الحق أعياص الملك منهم سنة ستين أو نحوها، فتقبل ابن الأحمر إجازتهم ودفع بهم في نحر عدوّه، ورجعوا ثم تهايلوا إليه من بعد ذلك من كل بيت من بيوت بني مرين ومعظمهم الأعياص من بني عبد الحق لما تزاحمهم مناكب السلطان في قومهم وتغص بهم الدولة فينزعون إلى الأندلس مغنين بها من بأسهم وشوكتهم في المدافعة عن المسلمين، ويخلصون من ذلك على حظ من الدولة بمكان. ولم يزل الشأن هذا إلى أن هلك محمد بن يوسف بن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة، وقام بأمره من بعده ابنه محمد وكان يعرف بالفقيه لما كان يقرأ الكتاب من بين أهل بيته، ويطالع كتب العلم. وكان أبوه الشيخ أوصاه باستصراخ ملوك زناتة من بني مرين الدائلين بالمغرب من الموحّدين وأن يوثق عهده بهم ويحكم أراضي سلطانه بمداخلتهم، فأجاز محمد الفقيه ابن الأحمر إلى يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين سنة اثنتين وسبعين وستمائة عند ما تم استيلاؤه على بلاد المغرب، وتغلّبه على مراكش، وافتقاده سرير ملك الموحّدين بها فأجاب صريخه، وأجاز عساكر المسلمين من بني مرين وغيرهم إلى الجهاد مع ابنه منديل. ثم جاء على أثرهم وأمكنه ابن هشام من الجزيرة الخضراء، كان ثائرا بها فتسلّمها منه ونزل بها، وجعلها ركابا لجهاده وينزل بها جيش الغزو. ولما أجاز سنة اثنتين وسبعين كما قلناه هزم زعيم النصرانية، ثم حذره ابن الأحمر على ملكه فداخل الطاغية. ثم حذّر الطاغية فراجعه وهو مع ذلك يده في نحره بشوكة الأعياص الذين نزعوا إليه من بني مرين بما شاركوا صاحب المغرب من نسب ملكه وقاسموه في يعسوبية قبيلته، فكان له بذلك مدفع عن نفسه ومرض في طاعة قرابته من بني أشقيلولة، كان عبد الله منهم بمالقة وعلي بوادي آش وإبراهيم بحصن قمارش فالتاثوا عليه، وداخلوا يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين في المظاهرة عليه فكان له معهم فتنة، وأمكنوا يعقوب من الثغور التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 بأيديهم مالقة ووادي آش حتى استخلصها هذا السلطان الفقيه من بعد ذلك، كما نذكره في أخبار بني مرين مع بني الأحمر. وصار بنو أشقيلولة آخرا وقرابتهم بني الزرقاء إلى المغرب، ونزلوا على يعقوب بن عبد الحق وأكرم مثواهم وأقطعهم واستعملهم في كبير الخطط للدولة حسبما يذكر. واستبدّ السلطان الفقيه ابن الأحمر بملك ما بقي من الأندلس وأورثه عقبه من غير قبيل ولا كثير عصبة، ولا استكثار من الحامية إلا من يأخذه الجلاء من فحول زناتة وأعياص الملك فينزلون بهم غزي، ولهم عليهم عزّة وتغلّب وسبب ذلك ما قدّمناه في الكتاب الأوّل من إفقاد القبائل والعصائب بأرض الأندلس جملة فلا تحتاج الدولة هنالك إلى كبير عصبية، وكان للسلطان ابن الأحمر في أوّل أمره عصبية من قرابته بني نصر وأصهارهم بني أشقيلولة وبني المولى ومن تبعهم من الموالي والمصطنعين كانت كافية في الأمر من أوّله مع معاضدة الطاغية على ابن هود وثوّار الأندلس ومعاضدة ملك المغرب على الطاغية والاستظهار بالأعياص على ملك المغرب، فكان لهم بذلك كله اقتدار على بلوغ أمرهم وتمهيده، وربما يفهم في مدافعة الطاغية اجتماع الخاصّة والعامّة في عداوته، والرهب منه بما هو عدوّ للدين فتستوي القلوب في مدافعته ومخافته فينزل ذلك بعض الشيء منزلة العصبية. وكانت إجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق إليه أربع مرات، وأجاز ابنه يوسف إليهم بعد أبيه. ثم شغلته الفتنة مع بني يغمر أسن إلى أن هلك السلطان الفقيه سنة إحدى وسبعمائة، وهو الّذي أعان الطاغية على منازلة طريف وأخذها، وكان يمير عسكره مدّة حصاره إياها إلى أن فتحها سنة [1] لما كانت ركابا لصاحب المغرب، متى همّ بالجواز لقرب مسافة الزقاق. فلما ملكها الطاغية صارت عينا على من يروم الجواز من الغزاة فغضب أمره عليهم، وولي من بعده ابنه محمد المخلوع، واستبدّ عليه وزيره محمد بن محمد بن الحكم اللخميّ، من مشيخة رندة ووزرائها فحجره واستولى على أمره، إلى أن ثار به أخوه أبو الجيّوش نصر بن محمد فقتل الوزير، واعتقل أخاه سنة ثمان وسبعمائة وكان أبوهما السلطان الفقيه استعمل على مالقة الرئيس أبا سعيد ابن عمه إسماعيل بن نصر، وطالت فيها إمارته، وهو الّذي تملّك سبتة وغدر بني الغرفي بها على عهد المخلوع   [1] كذا بياض بالأصل وفي نسخة اخرى سنة اربع وسبعمائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وبدعوته كما يذكر في أخبار سبتة ودولة بني مرين. وكان أصهر إليه في ابنته وكان له منها ابنه أبو الوليد إسماعيل، فلما تملّك الجيوش نصر غرناطة واستولى على سلطانهم بها ساءت سيرته وسيرة وزيره ابن الحاج وأحقد الأعياص من بني مرين، واستظهر الرعية بالقهر والعسف. وكان بنو إدريس بن عبد الله بن عبد الحق أمراء على الغزاة بمالقة، وكان كبيرهم عثمان بن أبي المعلّى، فداخل أبا الوليد في الخروج على السلطان نصر، وتناول الأمر من يده لضعفه وسعفه بطانته وأقربائه فاعتزموا على ذلك، ولم يتم لهم إلا باعتقال أبيه أبي الجيوش فاعتقلوه، وبايعوا أبا الوليد. وثار بمالقة سنة سبع عشرة الرئيس أبو سعيد وزحفوا إلى غرناطة فهزموا عساكر أبي الجيّوش وثارت به الدهماء من أهل المدينة، وأحيط به. وصالحهم على الخروج إلى وادي آش فلحق بها، وجدّد بها ملكا إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين، ودخل أبو الوليد إلى غرناطة فاضل بها لنفسه وبنيه ملكا جديدا، وسلطانا فسيحا. ونازلة ملك النصارى ألفنش بغرناطة سنة ثمان عشرة وأبلى فيها بني أبي العلا. ثم كان من تكييف الله تعالى في قتله وقتل رديفه، واستلحام جيوش النصرانية بظاهر غرناطة ما ظهرت فيه معجزة من معجزات الله. وتردّد إلى أرض النصرانية بنفسه، غازيا مرّات مع عساكر المسلمين من زناتة والأندلس، وكانت زناتة أعظم غناء في ذلك لقرب عهدهم بالتقشّف والبداوة التي ليست للناس. وبلغ أبو الوليد من العزّ والشوكة إلى أن غدر به بعض قرابته من بني نصر سنة سبع وعشرين وسبعمائة، طعنه غدرا عند ما انفض مجلسه بباب داره فأنفذه وحمل إلى فراشه، ولحق القادر بدار عثمان بن أبي العلى فقتله لحينه وقتل الموالي المجاهدين، فخرج عليهم ولحق بانديس فتملّكها واستدعى محمد ابن الرئيس أبي سعيد في معتقله بسلوباشة، ونصّبه للملك فلم يتمّ له مراده من ذلك. ورجعوا آخرا للمهادنة، وقتل السلطان محمد وزيره ابن المحروق بداره غدرا سنة تسع وعشرين، واستدعاه للحديث على لسان عمّته المتغلّبة عليه مع ابن المحروق، وتناوله مع علوجه طعنا بالخناجر إلى أن مات. وقام السلطان بأعباء ملكه، ورجع عثمان ابن أبي العلى إلى مكانه من يعسوبية الغزاة وزناتة، حتى إذا هلك قدّم عليهم مكانه ابنه أبا ثابت، وأجاز السلطان محمد إلى المغرب صريخا للسلطان أبي الحسن على الطاغية فوجده مشغولا بفتنة أخيه محمد. ومع ذلك جهّز له العساكر وعقد عليها سنة ثلاث وثلاثين. واستراب بنو أبي العلى بمداخلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 السلطان أبي الحسن، فتشاوروا في أمره وغدروا به يوم رحيله عن الجبل إلى غرناطة، فتقاصفوه بالرماح، وقدّموا أخاه أبا الحجّاج يوسف، فقام بالأمر وشمّر عن ساعده في الأخذ بثأر أخيه، فنكب بني العلى وغرّبهم إلى تونس، وقدّم على الغزاة مكان أبي ثابت بن عثمان قرثية من بني رحو بن عبد الله بن عبد الحق، وهو يحيى بن عمر بن رحو، فقام بأمرهم وطال أمر رياسته. واستدعى السلطان أبو الحجّاج السلطان أبا الحسن صاحب المغرب فأجاز ابنه عند ما تمّ له الفتح بتلمسان، وعقد له على عساكر جمّة من زناتة والمطوّعة فغزاهم، وغنم وقفل راجعا. وتلاحقت به جموع النصارى وبيّتوه على حدود أرضهم، فاستشهد كثير من الغزاة، وأجاز السلطان أبو الحسن سنة إحدى وأربعين بكافة أهل المغرب من زناتة ومغراوة والمرتزقة والمتطوّعة فنازل طريف، وزحف إليه الطاغية فلقيه بظاهرها فانكشف المسلمون، واستشهد الكثير منهم، وهلك فيها نساء السلطان وحريمه وفسطاطه من معسكره، وكان يوم ابتلاء وتمحيص. وتغلّب الطاغية أثرها على القلعة ثغر غرناطة، ونازل الجزيرة الخضراء وأخذها صلحا سنة ثلاث وأربعين، ولم يزل أبو الحجّاج في سلطانه إلى أن هلك يوم الفطر سنة خمس وخمسين، طعنه في سجوده من صلاة العيد وغد من صفاعفة البلد كان مجتمعا. وتولّى ابنه واستبدّ عليه مولاهم رضوان حاجب أبيه وعمّه فقام بأمره وغلبه عليه وحجبه. وكان إسماعيل أخوه ببعض قصور الحمراء قلعة الملك، وكانت له ذمّة وصهر من محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد، بما كان أبوه أنكحه شقيقة إسماعيل هذا. وكان أبو يحيى هذا يدعى بالرئيس وجدّه محمد هذا هو الّذي قدّمنا أنّ عثمان بن أبي العلى دعاه من مكان اعتقاله للملك فداخل محمد هذا الرئيس بعض الزعالقة من الغوغاء، وبيت حصن الحمراء، وتسوّره وولج على الحاجب رضوان في داره فقتله، وأخرج صهره إسماعيل ونصّبه للملك ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة ستين وسبعمائة. وكان السلطان محمد هذا المخلوع بروضة خارج الحمراء، فلحق بوادي آش وأجاز منها إلى العدوة، ونزل على ملك المغرب السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن فرعى له ذمّته، وأحمد نزوله وارتاب شيخ الغزاة يحيى بن عمرو بالدولة ففرّ إلى دار الحرب ولحق منها بالمغرب ونزل على السلطان أبي سالم فأحمد نزوله، وولي مكانه على الغزاة بغرناطة من جهة إدريس بن عثمان بن أبي العلى. وقام الرئيس بأمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 إسماعيل أخيه ودبّر ملكه. ثم تردّدت السعايات ونذر الرئيس بالنكبة فغدر بإسماعيل، وقتله وإخوته جميعا سنة إحدى وستين. وقام بملك الأندلس ونبذ إلى الطاغية عهده ومنعه ما كان سلفه يعطونه من الجزية على بلاد المسلمين، فشمّر الطاغية لحربه، وجهّز العساكر إليه فأوقع المسلمون بهم بوادي آش وعليهم بعض الرؤساء من قرابة السلطان فعظمت النكاية. وأرسل ملك المغرب إلى الطاغية في شأن محمد المخلوع وردّه إلى ملكه، فأركب الأساطيل وأجازه إلى الطاغية فلقيه ووعده المظاهرة على أمره، وشرط له الاستئثار بما يفتح من حصون المسلمين. ثم نقض فيما افتتح منها ففارقه السلطان وأوى إلى الثغر المغربي في ملكة بني مرين، وأمكن من ثغور رندة، فزحف منها إلى مالقة سنة خمس وستين فافتتحها، وفرّ الرئيس محمد بن إسماعيل من غرناطة ولحق بالطاغية. وكان معه إدريس بن عثمان شيخ الغزاة بحبسه إلى أن فرّ من محبسه بعد حين، كما يذكر في أخبارهم. وزحف السلطان محمد فيمن معه وأتوه بحاجب الرئيس وقتله، واستلحم معه الرجال من الزعالقة الذين قتلوا الحاجب وتسوّروا قصور الملك. ودخل السلطان محمد غرناطة واستولى على ملكه، وقدّم على الغزاة شيخهم يحيى بن عمر، واختصّ ابنه عثمان، ثم نكبهما لسنة وحبسهما بالمطبق بالمرية، ثم غرّبهما بعد أعوام وقدّم على الغزاة قريبهما علي بن بدر الدين بن محمد بن رحو. ثم مات فقدّم مكانه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وترفّع على السلطان أبي علي ابن محمد ملك المغرب، وتملأ هذا السلطان محمد المخلوع أريكة ملكه بالحمراء ممتنعا بالظهور والترف والعزّة على الطاغية والجلالقة، وعلى ملوك المغرب بالعدوة بما نال دولتهم جميعا من الهرم الّذي يلحق الدول. وأمّا الجلالقة فانتقضوا على ملكهم بطرة ابن أدفونش سنة ثمان وستين من لدن مهلك أبيهما، ووقعت بين بطرة وبين ملك برشلونة بسبب إجارته عليه فتن وحروب حجر منها الجلالقة، وكانت سببا لانتقاضهم على بطرة واستدعائهم لأخيه ألفنش فجاء وبايعوه. وانحرفوا إليه جميعا عن بطرة، فتحيّز إلى ناحية بلاد المسلمين واستدعى هذا السلطان محمدا صاحب غرناطة لنصره من عدوّه، وأغزاه ببلاد ألفنش ففتح كثيرا من معاقلها وخرّبها مثل حيّان [1] وأبدّة وأثر وغيرها. وعاث في بسائطها ونزل قرطبة وخرّب نواحيها ورجع ظافرا غانما. ولحق   [1] هي جيّان وقد مرت معنا من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 ببطرة سلطان الإفرنجة الأعظم في ناحية الشمال من وراء جزيرة الأندلس، وهو صاحب جزيرة أركبلطرة وتسمّى بنسر غالس، وفد عليه صريخا وزوّجه بنته، فبعث ابنه لنصره في أمم الإفرنج. وانهزم ألفنش أمامهم، وارتجع بطرة البلاد حتى إذا رجعت عساكر الإفرنجة، رجع ألفنش فارتجع [1] البلاد ثانيا وحاصر أخاه بطرة في بعض حصون جلّيقة حتى أخذه وقتله واستولى على ملكهم. واغتنم السلطان صاحب غرناطة شغلهم بهذه الفتنة فاعتزّ عليهم، ومنع الجزية التي كانوا يأخذونها من المسلمين منذ عهد سلفه فأقاموا من لدن سنة اثنتين وسبعين لا يعطونهم شيئا. واستمرّ على ذلك وسما إلى مطالبتهم بنسر غالس ملك الفرنجة من ورائهم الّذي جاء لنصر بطرة، وأنكحه بطرة ابنته، وولدت له ولدا فزعم أبوه هذا الملك أنه أحق بالملك من ألفنش وغيره على عادة العجم في تمليك الأسباط من ولد البطن. وطالت الحرب بينهما ونزل بالجلالقة من ذلك شغل شاغل، واقتطع الكثير من ثغورهم وبلادهم، فمنعهم ابن الأحمر الجزية واعتزّ عليهم كما ذكرناه، والحال على ذلك لهذا العهد. وأمّا ملوك المغرب فإن السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن لما استبدّ بملكه واستفحل أمره، وكان عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مقدّما على الغزاة بالأندلس كما قلناه، وهو قسيمه في النسب ومرادفه في الترشيح للملك، فعثر السلطان عبد العزيز على مكاتبة بينه وبين أهل دولته، فارتاب وبعث إلى ابن الأحمر في حبسه فحبسه، وحبس معه الأمير مسعود بن ماسي لكثرة خوضه في الفتنة، ومكاتبته لأهل الدولة. فلما توفي السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وبويع ابنه محمد السعيد يافعا وكفله وزير أبيه أبو بكر بن غازي الثائر أطلق ابن الأحمر عبد الرحمن بن أبي يغلوسن من محبسه فنقم ذلك عليه الوزير أبو بكر كافل الدولة بالمغرب، واعتزم على بعث الرؤساء من قرابة ابن الأحمر إلى الأندلس لمنازعته، ومدّه بالمال والجيش. وبلغ ذلك ابن الأحمر فعاجله عنه وسار في العساكر إلى فرضة المجاز، ونازل جبل الفتح، ومعه ابن يغلوسن وابن ماسي، وأركبهما السفن فنزلوا ببلاد بطرة فاضطرب المغرب، واشتدّ الحصار على أهل جبل الفتح، واستأمنوا لابن الأحمر وأطاعوه. وكان بسبتة محمد بن عثمان بن الكاس صهر أبي بكر بن غازي وقريبه بعثه   [1] بمعنى استعاد والأصح أن يقول واسترجع البلاد ثانيا. ابن خلدون م 15 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 لضبط المراسي عند ما نزل ابن الأحمر على الجبل، وبطنجة يومئذ جماعة من ولد السلطان أبي الحسن المرشحين محبوسون منذ عهد عبد العزيز، فوقعت المراسلة من السلطان ابن الأحمر ومحمد بن عثمان، ونكر عليه مبايعتهم لولد صغير لم يراهق. وأشار ببيعة واحد من أولئك المرشّحين المحبوسين بطنجة، ووعده بالمظاهرة والمدد بالمال والجيش، ووقع اختيار محمد بن عثمان على السلطان أبي العبّاس أحمد، فأخرجه وبايع له. وقد كان أولئك الفتية تعاهدوا في محبسهم أنّ من استولى منهم على الملك أطلق الباقين منهم، فوفّى لهم السلطان أبو العبّاس لأوّل بيعته، وأطلقهم من المحبس، وبعثهم إلى الأندلس، ونزلوا على السلطان ابن الأحمر فأكرمهم وجعلهم لنظره. وبعث بالأموال والعساكر للسلطان أبي العبّاس ولوزيره محمد بن عثمان، وكتب إلى عبد الرحمن بن أبي يغلوسن بموافقتهما واجتماعهما على الأمر، فساروا جميعا ونازلوا دار الملك بفاس حتى استأمن ابو بكر بن غازي للسلطان أبي العبّاس، وأمكنه من البلد الجديد دار الملك فدخلها في محرّم سنة ست وسبعين. وشيّع عبد الرحمن بن أبي يغلوسن إلى مراكش وأعمالها وسوّغ له ملكها كما كان الوفاق بينهما من قبل. وبعث بالسعيد بن عبد العزيز المنصوب، واتصلت الموالاة والمهاداة بينه وبين ابن الأحمر، وانتقض ما بينه وبين عبد الرحمن صاحب مراكش، ونهض مرارا، وحاصره وابن الأحمر يمدّه تارة ويسعى بينهما في الصلح أخرى، إلى أن نهض إليه سنة أربع وثمانين وحاصره شهرا، واقتحم عليه حصنه عنوة وقتله ورجع إلى فاس. ثم نهض. الى تلمسان، وهرب صاحبها أبو أحمد سلطان بني عبد الواد، ودخل السلطان أبو العبّاس تلمسان. وكان جماعة من سماسرة الفتن قد سعوا ما بينه وبين السلطان ابن الأحمر بالفساد حتى أوغروا صدره، وحملوه على نقض دولة السلطان أبي العبّاس ببعض الأعياص الذين عنده، فاختار من أولئك الفتية الذين نزلوا عليه من طنجة موسى ابن السلطان أبي عنّان، واستوزر له مسعود بن ماسي، وركب السفن معه إلى سبتة فبادر أهلها بطاعة موسى، وأتوه ببيعتهم، وارتحل عنهم إلى فاس وملك السلطان ابن الأحمر سبتة، وصارت في دعوته، وعمد السلطان موسى إلى دار الملك بفاس فوقف عليها يوما، واستأمنوا له آخر النهار فدخلها سنة ست وثمانين، وأصبح جالسا على سرير ملكه. وطار الخبر إلى السلطان أبي العبّاس، وقد ارتحل من تلمسان لقصد أبي حبو وبني عبد الواد بمكانهم من دار الملك فكرّ راجعا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 وأغذّ السير إلى فاس، فلما تجاوز تازي وتوسّط ما بينهما وبين فاس، افترق عنه بنو مرين وسائر عساكره، وساروا على راياتهم إلى السلطان موسى، ونهب معسكره، ورجع هو إلى تازي فتوثّق منه عاملها حتى جاء يريد السلطان من فاس فتقبض عليه، وحمله إلى فاس وأزعجه السلطان موسى إلى الأندلس ونزل على ابن الأحمر كما كان هو. واستولى السلطان موسى على المغرب واستبد عليه وزيره مسعود، وطالب ابن الأحمر بالنزول على سبتة فامتنع، ونشأت بينهما الفتنة، ودسّ ابن ماسي لأهل بيته بالثورة على حامية السلطان ابن الأحمر عندهم فثاروا عليهم، وامتنعوا بالقصبة حتى جاءهم المدد في أساطيل ابن الأحمر، فسكن أهل بيته واطمأنت الحال، ونزع إلى السلطان ابن الأحمر جماعة من أهل الدولة، وسألوه أن يبعث لهم ملكا من الأعياص الذين عنده، فبعث إليهم الواثق محمد بن الأمير أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن وشيّعه في الاسطول إلى سبتة، وخرج إلى غمارة وبلغ الخبر إلى مسعود بن ماسي، فخرج إليه في العسكر وحاصره بتلك الجبال. ثم جاءه الخبر بموت سلطانه موسى ابن السلطان أبي عنّان بفاس فارتحل راجعا. ولما وصل إلى دار الملك نصّب على الكرسي صبيا من ولد السلطان أبي العبّاس كان تركه بفاس. وجاء السلطان أبو عنّان ابن الأمير أبي الفضل، ونزل بجبل زرهون قبالة فاس. وخرج ابن ماسي في العساكر فنزل قبالته. وكان متولي أمره أحمد بن يعقوب الصبيحي، وقد غصّ به أصحابه فذبوا [1] عليه وقتلوه أمام خيمة السلطان. وامتعض السلطان لذلك ووقعت المراسلة بينه وبين ابن ماسي على أن يبايع بشرط الاستبداد عليه، واتفقا على ذلك. ولحق السلطان بابن ماسي ورجع به إلى دار الملك فبايع له وأخذ له البيعة من الناس. وكانت معه حصة من جند السلطان ابن الأحمر مع مولى من مواليه فحبسهم جميعا. وامتعض لذلك السلطان فاركب ابا العبّاس البحر وجاء معه بنفسه إلى سبتة فدخلها وعساكر ابن ماسي عليها يحاصرونها، فبايعوا جميعا للسلطان أبي العبّاس. ورجع ابن الأحمر إلى غرناطة، وسار السلطان أبو العباس إلى فاس واعترضه ابن ماسي في العساكر فحاصره بالصفيحة من جبل غمارة، وتحدّث أهل عسكره في اللحاق بالسلطان أبي العبّاس ففزعوا إليه، وهرب ابن ماسي وحاصره السلطان شهرا حتى   [1] فذبوا: ذبّ: دافع وحامي، ولم نجد لها معنى هنا ومقتضى السياق هجم. اما مقتضى سياق الجملة: ذبّ عنه أصحابه، وقتله جماعة السلطان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 نزلوا على حكمه فقطع ابن ماسي بعد أن قتله ومثّل به. وقتل سلطانه، واستلحم سائر بني ماسي بالنكيل والقتل والعذاب. واستولى على المغرب واستبدّ بملكه وأفرج السلطان ابن الأحمر على سبتة وأعادها إليه. واتصلت الموالاة بينهما. وأقام ابن الأحمر في اعتزازه ولم تطرقه نكبة ولا حادثة سائر أيامه إلا ما بلغنا أنه نمي له عن ابنه وليّ عهده أبي الحجّاج يوسف أنه يروم التوثّب به، وكان على سفر في بعض نواحي الأندلس فقبض على ولده لحينه، ورجع إلى غرناطة. ثم استكشف حاله فظهرت براءته فأطلقه وأعاده إلى أحسن أحواله. وإلا ما بلغنا أيضا أنه لمّا سار من غرناطة إلى جبل الفتح شاربا [1] لأحوال السلطان أبي العبّاس وهو بالصفيحة من جبال غمارة، وابن ماسي يحاصره، فنمي إليه أن بعض حاشيته من أولاد الوزراء وهو ابن مسعود البلنسي [2] ابن الوزير أبي القاسم بن حكيم قد اتفقوا على اغتياله، وأن ابن ماسي دسّ إليهم بذلك ونصبت له على ذلك العلامات التي عرفها فقبض عليهم لحينه، ولم يمهلهم وقتلهم وجميع من داخلهم في ذلك، ورجع إلى غرناطة وأقام ممتنعا بملكه إلى أن هلك سنة ثلاث وتسعين، فولي مكانه ابنه أبو الحجّاج وبايعه الناس، وقام بأمره خالد مولى أبيه وتقبّض على إخوته سعد ومحمد ونصر فهلكوا في محبسهم، ولم يوقف لهم على خبر. ثم سعى عنده في خالد القائم بدولته أنه أعد السمّ لقتله، وأن يحيى بن الصائغ اليهودي طبيب دارهم داخله في ذلك ففتك بخالد، وقتل بين يديه صبرا بالسيوف لسنة أو نحوها من ملكه. وحبس الطبيب فذبح في محبسه. ثم هلك سنة أربع وتسعين لسنتين أو نحوها من ملكه. وبويع ابنه محمد وقام بأمره محمد الخصاصي القائد من صنائع أبيه، والحال على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره. وقد انقضى ذكر الدولة الأموية المنازعين لبني العبّاس ومن تبعهم من الملوك بالأندلس، فلنذكر الآن شيئا من أخبار ملوك النصرانية الذين يجاورون المسلمين بجزيرة الأندلس من سائر نواحيهم، ونلمّ بطرف من أنسابهم ودولهم.   [1] بمعنى مستضعفا. [2] كذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد الأسماء الناقصة من المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 (الخبر عن ملوك بني أدفونش من الجلالقة ملوك الأندلس بعد الغوط ولعهد المسلمين وأخبار من جاورهم من الفرنجة والبشكنس والبرتغال والإلمام ببعض أخبارهم) والملوك لهذا العهد من النصرانية أربعة في أربعة من العمالات محيطة بعمالة المسلمين، قد ظهر اعجاز الملة في مقامهم معهم وراء البحر بعد ما استرجعوا من أيديهم ما نظمه الفتح الإسلامي أوّل الأمر. وأعظم هؤلاء الملوك الأربعة: قشتالة وعمالاته عظيمة متسعة مشتملة على أعمال جليقية كلها، مثل قشتالة وغليسية. والقرنتيرة وهي بسيط قرطبة وإشبيلية وطليطلة وجيان، آخذة في جوف الجزيرة من المغرب إلى المشرق. ويليه من جانب الغرب ملك البرتغال وعمالته صغيرة وهي أشبونة [1] ، ولا أدري نسبه فيمن هو من الأمم. ويغلب على الظنّ أنه من أعقاب القواميس الذين تغلبوا على عمالات بني أدفونش في العصور الماضية كما نذكر بعد، ولعله من أسباطهم وأولي نسبهم والله أعلم. ويلي ملك قشتالة هذا من جهة الشرق ملك نبرة [2] ، وهو ملك البشكنس وعمالته صغيرة فاصلة بين عمالات قشتالة وعمالة ملك برشلونة. وقاعدة ملك نبرة وهي مدينة ينبلونة. وملك برشلونة وما وراءها. ونحن الآن نذكر أخبار هذه الأمم من عهد الفتح بما يظهر لك منه تفصيل أخبارهم، وذلك أن النصرانية لما تغلّب عليهم المسلمون عند الفتح سنة تسعين من الهجرة، وقتلوا لزريق ملك الغوط [3] وانساحوا في نواحي جزيرة الأندلس، وأجفلت أمم النصرانية كلها أمامهم إلى سيف البحر من الجوف، وتجاوزوا الدروب وراء قشتالة، واجتمعوا بجليقية وملكوا عليهم ثلاثة: ابن ناقله فأقام ملكا تسع عشرة سنة، وهلك سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وولي ابنه قافلة سنتين، ثم هلك فولوا عليهم بعدهما أدفونش بن بطرة، وهو الّذي اتصل ملكه في عقبه لهذا العهد. ونسبهم في الجلالقة من العجم كما تقدّم. ويزعم ابن حيان أنهم من أعقاب الغوط، وعندي أنّ ذلك ليس بصحيح فإنّ أمة الغوط قد دثرت وغبرت   [1] أشبونة وتدعى أيضا لشبونة، وقد مرت معنا من قبل. [2] نبرة: من أعمال ماردة. (معجم البلدان) . [3] هم القوط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وهلكت، وقل أن يرجع أمر بعد إدباره. وإنما هو ملك مستجد في أمة أخرى والله أعلم. فجمعهم أدفونش بن بطرة على حماية ما بقي من أرضهم بعد أن ملك المسلمون عامتها، وانتهوا إلى جليقية وأقصروا عن الفتح بعدها حتى فشلت الدولة الإسلامية بالأندلس، وارتجع النصارى الكثير مما غلبوا عليه. وكان مهلك أدفونش بن بطرة سنة اثنتين وأربعين ومائة لثمان عشرة سنة من ملكه، وولي بعده ابنه فرويلة إحدى عشرة سنة قوى فيها سلطانه، وقارنه فيها شغل عبد الرحمن الداخل بتمهيد أمره فاسترجع مدينة بك، وبرتغال وسمورة، وسلمنقة، وشقرنية، وقشتالة بعد أن كانت انتظمت للمسلمين في الفتح وهلك سنة ثمان وخمسين، وولي ابنه شيلون عشر سنين. وهلك سنة ثمان وستين، فولوا مكانه أدفونش منهم، ووثب عليه سمول ماط فقتله وملك مكانه سبع سنين، وعلى عقب ذلك استفحل ملك عبد الرحمن بالأندلس، وأغزى جيوشه أرض جليقية ففتح وغنم وأسر. ثم ولي منهم أدفونش آخر سنة اثنتين وخمسين، وهلك سنة ثمان وستين فولوا مكانه أدفونش منهم، ووثب أحد ملوكهم المستبدين بأمرهم. قال ابن حيان كانت ولاية رذمير هذا عند ترهب أخيه أدفونش الملك قبله، وذلك سنة تسع عشرة وثلاثمائة على عهد الناصر، وتهيأ للناصر الظهور عليه إلى أن كان التمحيص على المسلمين في غزوة الخندق، وذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وكانت الواقعة بالخندق وقريبا من مدينة شنت ماكس كما ذكر في أخباره. ثم هلك رذمير سنة تسع وثلاثين، وولي أخوه شانجة وكان تياها معجبا بطالا فانتقض سلطانه، ووهن ملك قومه، وانتزى عليه قوامس دولته فلم يتم لبني أدفونش بعدها ملك مستبد في الجلالقة إلّا من بعد أزمان الطوائف وملوكهم كما ذكرناه. وكان اضطراب ملكهم كما نقل ابن حيان على يد فردلند بن عبد شلب قومس ألبة والقلاع، فكان أعظم القوامس، وهم ولاة الأعمال من قبل الملك الأعظم فانتقض على شانجة ألبة وظاهرهم ملك البشكنس على شانجة، وورد شانجة على الناصر بقرطبة صريخا فأمده، واستولى بذلك الإمداد على سمورة فملكها، وأنزل المسلمين بها واتصلت الحرب بين شانجة وبين فردلند إلى أن أسر فردلند في بعض أيام حروبهم، وحصل في أسر ملك البشكنس على أن ينفذ إليه أسيره فردلند بن عبد شلب قومس ألبة والقلاع فأبى من ذلك، وأطلقه. ووفد على المستنصر أرذون [1] بن أدفونش   [1] وفي نسمة أخرى: أردون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 المقارع لشانجة صريخا إحدى وخمسين فأجابه، وأنفذ غالبا مولاه في مدده. ثم هلك شانجة ملك بني أدفونش ببطليوس، وقام بأمرهم بعده ابنه رذمير، وهلك أيضا فردلند بن عبد شلب قومس ألبة، وولي بعده ابنه غرسية، ولقي رذمير المسلمين بالثغر في بعض صوائفهم وعظمت نكايته بعد مهلك الحكم المستنصر إلى أن قيض الله لهم المنصور بن أبي عامر حاجب ابنه هشام، فأثخن في عمل رذمير، وغزاه مرارا وحاصره في سمورة. ثم في ليون بعد أن زحف إلى غرسية بن فردلند صاحب ألبة، وظاهر معه ملك البشكنس فغلبهما. ثم ظاهروا مع رذمير وزحفوا جميعا للقائه بشنت ماكس فهزمهم، واقتحمها عليهم وخرّبها. وتشاءم الجلالقة برذمير وخرج عليهم عمه بزمند بن أرذون، وافترق أمرهم ثم رجع رذمير إلى طاعة المنصور سنة أربع وسبعين. وهلك على أثرها فأطاعت أمه، واتفقت الجلالقة على بزمند بن أرذون، وعقد له المنصور على سمورة والعيون وما اتصل بهما من أعمال غليسية إلى البحر الأخضر واشترط عليه فقبل. ثم امتعض بزمند لما نزل بالجلالقة عيث المنصور سنة ثمان وسبعين فافتتح حيون وحاصره في سمورة ففرّ عنها وأسلمها أهلها إلى المنصور فاستباحها ولم يبق لملك الجلالقة إلا حصون يسيرة بالجبل الحاجز بين بلدهم وبين البحر الأخضر. ثم اختلف حال بزمند في الطاعة والانتقاض والمنصور يردّد إليه الغزو حتى أذعن وأخفر ذمته [1] الخارج على المنصور فأسلمه إليه سنة خمس وثمانين، وضرب عليه الجزية وأوطن المسلمين مدينة سمورة سنة تسع وثمانين، وولى عليها أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي. ثم سار إلى غرسية بن فردلند صاحب ألبة، وكان أعان المخالفين على المنصور وكان فيمن أعان عليه حين خرج عليه فنازل المنصور مدينة أشبونة، قاعدة غليسية فملكها وخرّبها. وهلك غرسية هذا فولي ابنه شانجة، وضرب المنصور عليهم الجزية وصار أهل جليقية جميعا في طاعته، وكانوا كالعمال له إلا بزمند بن أرذون ومسد بن عبد شلب قومس غليسية فإنّهما كانا أملك لأمرهما. على أنّ مسدا بعث بنته للمنصور سنة ثلاث وثمانين وصيّرها جارية له فأعتقها وتزوّجها. ثم انتقض بزمند وغزاه المنصور فبلغ شنت ياقب موضع حجّ النصرانية ومدفن يعقوب الحواري من أقصى غليسية، وأصابها خالية فهدمها ونقل   [1] كذا بياض بالأصل ولم نستطع تصويب العبارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 أبوابها إلى قرطبة فجعلها في سمت الزيادة التي أضافها إلى المسجد الأعظم. ثم تطارح بزمند بن أرذون في السلم وأنفذ ابنه يلانة مع معن بن عبد العزيز صاحب جليقية فوصل به إلى قرطبة وعقد له السلم وانصرف إلى أبيه. وألح المنصور على أرغومس من القوامس وكانوا في طرف جليقية بين سمورة وقشتالة، وقاعدتهم شنت بريّة فافتتحها سنة خمس وثمانين. ثم هلك بزمند بن أرذون ملك بني أدفونش وولي ابنه أدفونش، وهو صاحب بسيط غرسية واحتكما إلى عبد الملك بن المنصور، فخرج أصبغ بن سلمة قاضي النصارى للفصل بينهما، فقضى به لمسد بن عبد شلب. فلم يزل أدفونش بزمند في كفالته إلى أن قتل غيلة سنة ثمان. فاستبد أدفونش بأمره وطلب القواميس المقتدرين على أبيه وعلى من سلف من قومه برسوم الملك فحاز ذلك منهم لنفسه وبعث على نواحيهم من عنده، وأذعنوا له وسقط ذكرهم في وقته مثل بني أرغومس وبني فردلند الذين قدّمنا ذكرهم، وقد كان قيامهم أيام شانجة بن رذمير من بني أدفونش كما قدّمناه. جمعهم أدفونش للقاء عبد الملك المظفر بن المنصور فظاهرهم ملك البشكنس ولقيهم بظاهر فلونية فهزمهم وافتتح الحصن صلحا. ثم انقرض أمر المنصور وبنيه وجاءت الفتنة البربرية على رأس المائة الرابعة فانتهز الفرصة في المسلمين صاحب ألبة، وهو شانجة بن غرسية وصار يظاهر الفرقة الخارجة على الأخرى إلى أن أدرك بعض الأمل، وقتله ملك البشكنس سنة ست وأربعمائة وتغلّب النصارى على ما كان غلب عليه بقشتالة وجليقية، ولم يزل أدفونش ملكا على جليقية وأعمالها. واتصل الملك في عقبه إلى أن كان شأن الطوائف. وتغلب المرابطون ملوك المغرب من لمتونة على ملوك الطوائف، واستولوا على الأندلس وانقرض منها ملك العرب أجمع. وفي تواريخ لمتونة وأخبارهم أن ملك قشتالة الّذي ضرب الجزية على ملوك الطوائف سنة خمسين وأربعمائة هو البيطبيين، ويظهر أنه كان متغلبا على شانجة ابن أبرك الملك يومئذ من بني أدفونش، وهو مذكور في أخبارهم، وأنه لما هلك قام بأمره بنوه فردلند وغرسية ورذمير، وولى أمرهم فردلند واحتوى على شنت بريّة وعلى كثير من عمل ابن الأفطس. ثم هلك وخلف شانجة وغرسية وألفنش فتنازعوا ثم خلص الملك لألفنش وعلى عهده مات الظاهر إسماعيل بن ذي النون سنة سبع وستين وأربعمائة، وهو المستولي على طليطلة سنة ثمان وسبعين وهو يومئذ اعتزاز النصرانية بجزيرة الأندلس، وكان من بطارقته وقواميس دولته البرهانس فكان يلقب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 الأنبنذور، ومعناه ملك الملوك. وهو الّذي لقي يوسف بن تاشفين بالزلاقة، وكانت الدائرة عليه، وذلك سنة إحدى وثمانين. وحاصر ابن هود في سرقسطة، وكان ابن عمه رذمير منازعا له فزحف إلى طليطلة وحاصرها فامتنعت عليه، وحاصر القسريلية وغرسية والمرية والبرهانس مرسية وقسطون شاطبة وسرقسطة. ثم استولى على بلنسية سنة تسع وثمانين، وارتجعها المرابطون من يده بعد أن غلبوا ملوك الطوائف على أمرهم. ثم مات ألفنش سنة إحدى وخمسمائة، وقام بأمر الجلالقة زوجته، وتزوجت رذمير ثم فارقته وتزوجت بعده قمطا من أقماطها، وجاءت منه بولد كانوا يسمونه السليطين، وأوقع ابن رذمير بابن هود سنة ثلاث وخمسمائة الواقعة المشهورة التي استشهد فيها. وملك ابن رذمير سرقسطة، وفرّ عماد الدولة وابنه إلى روطة فأقام إلى أن استنزله السليطين، ونقله إلى قشتالة. ثم كانت بين رذمير وأهل قشتالة حرب هلك فيها البرهانس سنة سبع وخمسمائة وذلك لآخر أيام المرابطين بلمتونة. ثم انقرض أمرهم على يد الموحّدين وكان أمر النصارى لعهد المنصور يعقوب ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن، كان دائرا بين ثلاثة من ملوكهم ألفنش والبيبوح وابن الرند وكبيرهم ألفنش وهو أميرهم يوم الأرك الّذي كان للمنصور عليهم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، والبيبوح صاحب ليون هو الّذي مكر بالناصر عام العقاب فداخله وقدم عليه وأظهر له التنصيح فبذل له أموالا. ثم غدر به وكرّ عليه الهزيمة يوم العقاب. ثم هلك الناصر وولي ابنه المستنصر وفشل ريح بني عبد المؤمن واستولى ألفنش على جميع ما افتتحه المسلمون من معاقل الأندلس وارتجعها. ثم هلك ألفنش وولي ابنه هراندة وكان أحول، وكان يلقب بذلك، وهو الّذي ارتجع قرطبة وإشبيلية من أيدي بني هود، وعلى عهده زحف ملك أرغون فارتجع شرق الأندلس كله شاطبة ودانية وبلنسية وسرقسطة، وسائر الثغور والقواعد الشرقية. وانحاز المسلمون إلى سيف البحر وملكوا عليهم ابن الأحمر بعد ولاية ابن هود. ثم هلك هراندة وولي ابنه ثم هلك ابنه وولي ابنه هراندة، وأجاز بنو مرين إلى الأندلس صريخا لابن الأحمر وسلطانهم يومئذ يعقوب بن عبد الحق، فلقيته جموع النصرانية بوادلك وعليهم ذنبة من أقماط بني أدفونش وزعمائهم فهزمهم يعقوب بن عبد الحق، وبقيت فتن متصلة، ولم يلقه يعقوب، وإنما كان يغزو بلادهم ويكثر فيها العبث إلى أن ألقوه بالسلم، وخالف على هراندة ملك قشتالة هذا ابنه شانجة فوفد هراندة على يعقوب بن عبد الحق صريخا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وقبل يده فقبل وفادته وأمده بالمال والجيش، ورهن في المال التاج المعروف من ذخائر سلفهم فلم يزل بدار بني عبد الحق من بني مرين لهذا العهد. ثم هلك هراندة سنة ثلاث وثمانين واستقل ابنه شانجة بالملك ووفد على يوسف بن يعقوب بالجزيرة الخضراء بعد مهلك أبيه يعقوب، وعقد معه السلم. ثم انتقض وحاصر طريف وملكها وهلك سنة ثلاث وتسعين فولي ابنه هراندة. ثم هلك سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فولي ابنه بطرة صغيرا، وكفله عمه جران وكان نزلهما جميعا على غرناطة عند زحفهما إليها سنة ثمان عشرة وسبعمائة، فولي ابنه الهنشة بن بطرة صغيرا، وكفله زعماء دولتهم. ثم استبد بأمره وزحف إلى السلطان أبي الحسن، وهو محاصر لطريف سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فهلك في الطاعون الجارف، وملك ابنه بطرة وقرابته القمط برشلونة فأجاره ملكها، وزحف إليه بطرة مرارا وتغلّب على كثير من أعماله، وحاصر بلنسية مرارا. ثم أتيح الغلب للقمط سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، فاستولى على بلاد قشتالة وزحف إليه أمم النصرانية لما كانوا سئموا من عنف بطرة وسوء ملكته، ولحق بطرة بأمم الفرنجة الذين وراء قشتالة في الجوف بجهات الليمانية وفرطانية إلى سيف البحر الأخضر، وجزيرة قدوج شنت مزين ملكهم الأعظم، وهو البلنس غالس وجاء معه مددا بأمم لا تحصى حتى ملك قشتالة والقرنتيرة ورجعوا عنه إلى بلادهم بعد أن أصابهم وباء هلك الكثير منهم. ثم اتصلت الحرب بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلبه القمط، واعتصم منه بطرة ببعض الحصون ونازلة القمط حتى إذا أشرف على أخذه، بعث بطرة إلى بعض الزعماء سرا لنيل النزول في جواره فأجابه، ووشى به لأخيه القمط فكبسه في بيت ذلك الزعيم وقتله سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. واستولى القمط على ملك بني أدفونش أجمع واستنزل ابن أخيه بطرة من قرمونة وقد كان اعتصم بها بعد مهلك أبيه مع وزيره مرتين لبس هو. واستقام له ملك قشتالة ونازعه البلنس غالس ملك الإفرنجة بالابن الّذي هو من بنت بطرة على عادة العجم في تمليك ابن البنت محتجا بأن القمط لم يكن لرشدة. واتصلت الحرب بينهما وشغله ذلك عن المسلمين فامتنعوا من الجزية التي كانت عليهم لمن قبله. وهلك هذا القمط سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فملك ابنه شانجة وفرّ ابنه الآخر غرمس إلى غرناطة، ثم رجع إلى نواحي قشتالة والأمر على ذلك لهذا العهد، وفتنتهم مع ألفنش ملك الفرنج موصولة وعاديتهم لذلك عن المسلمين مرفوعة، والله من ورائهم محيط. وأمّا ملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 البرتغال بجهة أشبونة غرب الأندلس ومملكته صغيرة، وهي من أعمال جليقية، وصاحبها لهذا العهد متميز بسمته. وملكه مشارك لابن أدفونش في نسبه ولا أدري كيف يتصل نسبه معهم. وأمّا ملك برشلونة بجهة شرق الأندلس فعمالتهم واسعة، ومملكتهم كبيرة تشتمل على برشلونة بجهة وارغون وشاطبة وسرقسطة وبلنسية وجزيرة دانية وميورقة وبنورقة، ونسبهم في الفرنج، وسياق الخبر عن ملكهم ما نقل، ابن حيان أن الغوط الذين كانوا بالأندلس كانوا قديما في ملك الفرنج، ثم اعتزوا عليهم وامتنعوا ونبذوا إليهم عهدهم. وكانت برشلونة من ممالك الفرنج وعمالاتهم، فلما جاء الله بالإسلام وكان الفتح، قعد الفرنج عن نصر الغوط لتلك العداوة، فلما انقضى أمر الغوط زحف المسلمون إلى الفرنج فأزعجوهم [1] عن برشلونة وملكوها. ثم تجاوزوا الدروب من ورائها إلى البسائط بالبر الكبير فملكوا من قواعدها جزيرة أربونة وما إليها من تلك البسائط. ثم كانت فترة عند انقراض الدولة الأموية بالمشرق وبداية الدولة العباسية افتتن فيها العرب بالأندلس، وانتهز الفرنج فرصتهم فارتجعوا بلادهم إلى برشلونة فملكوها لهذا العهد مائتين من الهجرة، وولّوا عليهم من قبلهم، وصار أمرها راجعا إلى ملك رومة من الفرنجة، وهو قارله الأكبر، وكان من الجبابرة. ثم ركبهم من الخلاف والمنافسة في أوقات ضعفهم واختلاف ملوكهم كالذي ركبه المسلمون من ضعفت يده من الملوك، فاقتطع الأمراء نواحيهم بكل جهة، فكان ملوك برشلونة هؤلاء ممن اقتطع عمله، وكان ملوك بني أمية لأوّل دولتهم يتراضون بمهادنة هؤلاء الملوك أهل برشلونة حذرا من مدد صاحب رومة. ثم صاحب القسطنطينية من ورائه. فلما كانت دولة المنصور بن أبي عامر بين اقطاع برشلونة عن ملك الفرنج، شمر المنصور لغزوهم واستباح بلادهم وأثخن في أعمالهم، وافتتح برشلونة وخرّبها، وأنزل بهم النقمات وملكهم لعهده بردويل بن سير وكانت حالة الظهور عليه كحاله مع سائر الملوك النصارى. ولما هلك بردويل ترك من الولد فلبة وريند وأومنقود. ثم انتقض أومنقود على عبد الملك بن المنصور فغزاه وأخذه في بعض ثغوره صلحا. ثم كانت الفتنة البربرية وحضرها أومنقود فهلك في الوقعة مع البربر سنة أربعمائة، وانفرد بيمند بملك برشلونة إلى أن هلك بعد عشر وأربعمائة، وملك ابنه يلتنفير وكفلته أمه وحاربت   [1] بمعنى أخرجوهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 يحيى بن منذر من ملوك الطوائف وهي التي تغلبت على ثغر طرشوشة، واتصل الملك في عقب بيمند. وكان الملك منهم لآخر دولة الموحدين جامعة بن بطرة بن أدفونش ابن ريند، وهو الّذي ارتجع بلنسية وملكهم بهذا العهد اسمه بطرة. ولم يبلغني كيف اتصال نسبه بقومه. وملك بعد العشرين من هذه المائة وهو حيّ لهذا العهد، وابنه غالب عليه لكبر سنه. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (أخبار القائمين بالدولة العباسية من العرب المستبدين بالنواحي ونبدأ منهم ببني الأغلب ولاة افريقية وأولية أمرهم ومصاير أحوالهم) قد ذكرنا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه شأن فتح إفريقية على يد عبد الله ابن أبي سرح، وكيف زحف إليها في عشرين ألفا من الصحابة وكبار العرب، ففض جموع النصرانية الذين كانوا بها من الفرنجة والروم والبربر، وهدم سبيطلة قاعدة ملكهم وخرّبها، واستبيحت أموالهم وسبيت نساؤهم وبناتهم، وافترق أمرهم وساخت خيول العرب في جهات إفريقية، وأثخنوا بها في أهل الكفر قتلا وأسرا حتى لقد طلب أهل إفريقية من ابن أبي سرح أن يرحل عنهم بالعرب إلى بلادهم، ويعطوه ثلاثمائة قنطار من الذهب ففعل وقفل إلى مصر سنة سبع وعشرين. (معاوية بن خديج) ثم اغزى معاوية بن أبي سفيان معاوية بن خديج السكونيّ. إفريقية سنة أربع وثلاثين، وكان عاملا على مصر فغزاها ونازل جلولاء، وقاتل مدد الروم الّذي جاءها من قسطنطينية لقيهم بقصر الأحمر فغلبهم، وأقلعوا إلى بلادهم، وافتتح جلولاء وغنم وأثخن وقفل . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 (عقبة بن نافع) ثم ولى معاوية سنة خمس وأربعين عقبة بن نافع بن عبد الله بن قيس الفهري على إفريقية واقتطعها عن معاوية بن خديج، فبنى القيروان وقاتل البربر وتوغّل في أرضهم. (أبو المهاجر) ثم استعمل معاوية على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد، فعزل عقبة عن إفريقية، وولى مولاه أبا المهاجر دينارا سنة خمس وخمسين فغزا المغرب، وبلغ إلى تلمسان، وخرب قيروان عقبة وأساء عزله، وأسلم على يديه كسيلة الأوربي بعد حرب ظفر به فيها. (عقبة بن نافع ثانيا) ولما استقل يزيد بن معاوية بالخلافة، رجع عقبة بن نافع الى إفريقية سنة اثنتين وستين فدخل إفريقية، وقد نشأت الردّة في البرابرة فزحف إليهم، وجعل مقدمته زهير بن قيس البلوي وفرّ منه الروم والفرنجة فقاتلهم، وفتح حصونهم مثل لميس وباغاية، وفتح أذنه قاعدة الزاب بعد أن قاتله ملوكها من البربر فهزمهم، وأصاب من غنائمهم وحبس أبا المهاجر فلم يزل في اعتقاله. ثم رحل إلى طنجة فأطاعه بلبان ملك غمارة، وصاحب طنجة وهاداه وأتحفه، ودله على بلاد البربر وراءه بالمغرب، مثل وليلى [1] عند زرهون وبلاد المصامدة وبلاد السوس، وكانوا على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية، فسار عقبة وفتح وغنم وسبى وأثخن فيهم وانتهى إلى السوس. وقاتل مسوفة من أهل اللثام وراء السوس، ووقف على البحر المحيط وقفل راجعا،   [1] اسم مدينة وقد مرّت معنا في مكان سابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 وأذن لجيوشه في اللحاق بالقيروان. وكان كسيلة ملك أروبة والبرانس من البربر قد اضطغن عليه بما كان يعامله به من الاحتصار، يقال: إنه كان يحاصره في كل يوم ويأمره بسلخ الغنم إذا ذبحت لمطبخه فانتهز فيه الفرصة، وأرسل البربر فاعترضوا له في تهودا [1] وقتلوه في ثلاثمائة من كبار الصحابة والتابعين، واستشهدوا كلهم وأسر في تلك الوقعة محمد بن أوس الأنصاري في نفر فخلصهم صاحب قفصة، وبعث بهم إلى القيروان مع من كان بها من المخلفين والذراري. ورجع زهير بن قيس إلى القيروان واعتزم على القتال وخالفه حنش بن عبد الله الصنعاني وارتحل إلى مصر واتبعه الناس فاضطر زهير إلى الخروج معهم، وانتهى إلى برقة فأقام بها مرابطا، واستأمن من كان بالقيروان إلى كسيلة فأمنهم ودخل القيروان وأقاموا في عهده. (زهير بن قيس البلوي) ولما ولي عبد الملك بن مروان بعث إلى زهير بن قيس بمكانه من برقة بالمدد، وولّاه حرب البرابرة فزحف سنة سبع وستين ودخل إفريقية ولقيه كسيلة على ميس من نواحي القيروان فهزمه زهير بعد حروب صعبة، وقتله واستلحم في الوقعة كثير من أشراف البربر ورجالاتهم. ثم قفل زهير إلى المشرق زاهدا في الملك، وقال: إنما جئت للجهاد وأخاف أن نفسي تميل إلى الدنيا، وسار إلى مصر واعترضه بسواحل برقة أسطول صاحب قسطنطينية، جاءوا لقتاله فقاتلهم واستشهد رحمه الله تعالى. (حسان بن النعمان الغساني) ثم إن عبد الملك بن مروان بعد أن قتل عبد الله بن الزبير وصفا له الأمر، أمر حسان ابن النعمان الغساني بغزو إفريقية، وأمده بالعساكر، ودخل القيروان وافتتح قرطاجنة عنوة وخربها، وفر من كان بها من الروم والفرنجة إلى صقلّيّة والأندلس. ثم اجتمعوا   [1] تهوذة: بالفتح ثم الضم وسكون الواو والذال معجمة: اسم لقبيلة من البربر بناحية افريقية، لهم ارض تعرف بهم (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 في صطفورة وبنزرت وهزمهم ثانية. وانحاز الفل إلى باجة وبونة فتحصنوا بها. ثم سار حسان إلى الكاهنة ملكة جرارة بجبل أوراس، وهي يومئذ أعظم ملوك البربر، فحاربها، وانهزم المسلمون وأسر منهم جماعة، وأطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد القيسي فإنّها أمسكته وأرضعته مع ولديها وصيرته أخا لهما. وأخرجت العرب من إفريقية وانتهى حسان إلى برقة، وجاءه كتاب عبد الملك بالمقام حتى يأتيه المدد. ثم بعث إليه المدد سنة أربع وسبعين فسار إلى إفريقية ودس إلى خالد بن يزيد يستعمله فأطلعه على خبرهم، واستحثه فلقي الكاهنة وقتلها وملك جبل أوراس وما إليه، ودوّخ نواحيه وانصرف إلى القيروان وأمن البربر. وكتب الخراج عليهم وعلى من معهم من الروم والفرنج على أن يكون معه اثنا عشر ألفا من البربر لا يفارقونه في مواطن جهاده ورجع إلى عبد الملك، واستخلف على إفريقية رجلا اسمه صالح من جنده. (موسى بن نصير) ولما ولي الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمه عبد الله، وهو على مصر ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصير إلى إفريقية، وكان أبوه نصير من حرس معاوية فبعثه عبد الله، وقدم القيروان وبها صالح خليفة حسان فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد فوجه البعوث في النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة فغنم منها وسبى وعاد. ثم بعثه إلى ناحية أخرى وابنه مروان كذلك، وتوجه هو إلى ناحية فغنم منها وسبى وعاد. وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي. ثم غزا طنجة وافتتح درعه وصحراء تافيلالت. وأرسل ابنه إلى السوس وأذعن البربر لسلطانه ودولته وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم بطنجة، وذلك سنة ثمان وثمانين، وولى عليها طارق بن زياد الليثي. ثم أجاز طارق إلى الأندلس دعاه إليها بلبان ملك غمارة فكان فتح الأندلس سنة تسعين. وأجاز موسى بن نصير على أثره فكمل فتحها كما ذكرناه. ثم قفل موسى إلى الشرق واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله وعلى الأندلس عبد العزيز. وهلك الوليد وولي سليمان سنة ست وتسعين فسخط موسى وحبسه . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 (محمد بن يزيد) ولما ولي سليمان وحبس موسى بن نصير عن [1] ابنه عبد الله عن إفريقية ولّى مكانه محمد بن يزيد مولى قريش فلم يزل عليها حتى مات سليمان. (إسماعيل بن أبي المهاجر) ولما مات سليمان استعمل عمر بن عبد العزيز على إفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر وكان حسن السيرة وأسلم جميع البربر في أيامه. (يزيد بن أبي مسلم) ولما تولى يزيد بن عبد الملك، ولى على إفريقية يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج وكاتبه فقدم سنة إحدى ومائة، وأساء السيرة في البربر، ووضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة منهم تأسيا بما فعله الحجاج بالعراق فقتله البربر لشهر من ولايته. ورجعوا إلى محمد بن يزيد مولى من الأنصار الذين كان عليهم قبل إسماعيل، وكتبوا إلى يزيد بالطاعة والعذر عن قتل ابن أبي مسلم فأجابهم بالرضا وأقرّ محمد بن يزيد على عمله. (بشر بن صفوان الكلبي) ثم ولى يزيد على إفريقية بشر بن صفوان الكلبي فقدمها سنة ثلاث ومائة، فمهدها وسكن أرجاءها، وغزا بنفسه صقلّيّة سنة تسع ومائة وهلك مرجعه عنها.   [1] مقتضى السياق: وعزل ابنه عبد الله عن إفريقية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 (عبيدة بن عبد الرحمن) ثم عزل هشام بن عبد الملك بشر بن صفوان عن إفريقية وولى مكانه عبيدة بن عبد الرحمن السلمي وهو ابن أخي أبي الأعور فقدمها سنة عشر ومائة (عبيد الله بن الحجاب) ثم عزل هشام عبيدة بن عبد الرحمن وولى مكانه عبيد الله بن الحجاب مولى بني سلول وكان واليا على مصر، فأمره أن يمضي إلى إفريقية، واستخلف على مصر ابنه أبا القاسم، وسار إلى إفريقية فقدمها سنة أربع عشرة، وبنى جامع تونس، واتخذ لها دار الصناعة لإنشاء المراكب البحرية. وبعث إلى طنجة ابنه إسماعيل وجعل معه عمر ابن عبيد الله المرادي وبعث على الأندلس عقبة بن حجاج القيسي. وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان، وأصاب من مغانم الذهب والفضة والسبي كثيرا ودوخ بلاد المغرب وقبائل البربر ورجع. ثم أغزاه ثانية في البحر إلى صقلّيّة سنة اثنتين وعشرين، ومعه عبد الرحمن ابن حبيب فنازل سرقوسة أعظم مدائن صقلّيّة، وضرب عليهم الجزية وأثخن في سائر الجزيرة. وكان محمد بن عبيد الله بطنجة قد أساء السيرة في البربر، وأراد أن يخمس [1] من أسلم منهم، وزعم أنه الفيء، فاجمعوا الانتقاض، وبلغهم مسير العساكر مع حبيب بن أبي عبيدة إلى صقلّيّة فسار ميسرة المظفري بدعوة الصفرية من الخوارج، وزحف إلى طنجة فقتل عمر بن عبيد الله وملكها، واتبعه البربر وبايعوه بالخلافة، وخاطبوه بأمير المؤمنين، وفشت مقالته في سائر القبائل بإفريقية وبعث ابن الحجاب إليه خالد بن حبيب الفهري فيمن بقي معه من العساكر. واستقدم حبيب بن أبي عبيدة من صقلّيّة ومن معه من العساكر، وبعثه في أثر خالد، ولقيهم ميسرة والبربر بناحية طنجة فاقتتلا قتالا شديدا. ثم تحاجزوا ورجع   [1] اي ان يأخذ منهم الخمس. ابن خلدون م 16 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 ميسرة إلى طنجة فكره البربر سوء سيرته فقتلوه، وولّوا عليهم مكانه خالد بن حبيب الزناتي، واجتمع إليه البربر، ولقيه خالد بن حبيب في العرب وعساكر هشام فانهزموا، وقتل خالد بن حبيب وجماعة من العرب وسميت بهم غزوة الأشراف، وانتقضت إفريقية على ابن الحجاب وبلغ الخبر إلى الأندلس فعزلوا عامله عقبة بن الحجاج، وولوا عبد الملك بن قطن كما مرّ. (كلثوم بن عياض) ولما انتهى الخبر إلى هشام بن عبد الملك بهزيمة العساكر بالمغرب استنقص ابن الحجاب وكتب إليه يستقدمه، وولّى على إفريقية سنة ثلاث وعشرين ومائة كلثوم بن عيّاض، وعلى مقدّمته بلخ بن بشر القشيريّ، فأساء إلى أهل القيروان، فشكوا إلى حبيب بن أبي عبيدة وهو بتلمسان موافق للبربر، فكتب إلى كلثوم بن عيّاض ينهاه ويتهدّده، فاعتذر واغضى له عنها، ثم سار واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة، ومرّ على طريق سبيبة، وانتهى إلى تلمسان ولقي حبيب بن أبي عبيدة واقتتلا، ثم اتفقا ورجعا جميعا. وزحف البرابرة إليهم على وادي طنجة، وهو وادي سوا فانهزم بلخ في الطلائع وانتهوا إلى كلثوم، فانكشف واشتد القتال وقتل كلثوم وحبيب بن أبي عبيدة وكثير من الجند، وتحيّز أهل الشام إلى سبتة مع بلخ بن بشر، فحاصرهم البرابرة وأرسلوا إلى عبد الملك بن قطن أمير الأندلس في أن يجيزوا إليه، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يقيموا سنة واحدة، وأخذ رهنهم على ذلك، وانقضت السنة وطالبهم بالشرط فقتلوه وملك بلخ الأندلس. وكان عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع لما قتل أبوه حبيب مع كلثوم بن عيّاض، وأجاز بلخ إلى الأندلس فملكها، فأجاز عبد الرحمن إلى الأندلس يحاول ملكها. فلما جاء أبو الخطّار إلى الأندلس من قبل حنظلة أيس عبد الرحمن من أمرها، ورجع إلى تونس سنة ست وعشرين ومائة وقد توفي هشام وولي الوليد بن يزيد فدعا لنفسه، وسار إلى القيروان ومنع حنظلة من قتاله، وبعث إليه وجوه الجند فانتهز عبد الرحمن الفرصة فيهم وأوثقهم لئلا يقاتله أصحابهم، وأغذ السير إلى القيروان فرحل حنظلة من إفريقية وقفل إلى المشرق سنة سبع وعشرين، واستقل عبد الرحمن بملك إفريقية وولّى مروان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 ابن محمد، فكتب له بولايتها، ثم ثارت عليه الخوارج في كلّ جهة فكان عمر بن عطاب الأزديّ بطبنياش، وعروة بن الوليد الصغريّ بتونس، وثابت الصّنهاجيّ بباجة، وعبد الجبّار بن الحرث بطرابلس على رأي الإباضيّة، فزحف عبد الرحمن إليهما سنة إحدى وثلاثين فظفر بهما، وقتلهما، وسرّح أخاه الياس لابن عطاب فهزمه وقتله، ثم زحف إلى عروة بتونس فقتله، وانقطع أمر الخوارج، وزحف سنة خمس وثلاثين إلى جموع من البربر بنواحي تلمسان فظفر بهم وقفل. ثم بعث جيشا في البحر إلى صقلّيّة وآخر إلى سردانية فاثخنوا في أمم الفرنج حتى استقرّوا بالجزاء. ثم دالت دولة بني العبّاس وبعث عبد الرحمن بطاعته إلى السفّاح. ثم إلى أبي جعفر من بعده. ولحق كثير من بني أمية إلى إفريقية. وكان ممن قدم عليه القاضي، وعبد المؤمن ابنا الوليد بن يزيد ومعهما ابنة عمّ لهما، فزوّجها عبد الرحمن من أخيه الياس. ثم بلغ عبد الرحمن عنهما السعي في الخلافة فقتلهما، وامتعضت لذلك ابنة عمهما، فأغرت زوجها بأخيه عبد الرحمن واستفسدته. وكان عبد الرحمن قد أرسل إلى أبي جعفر بهدية قليلة، وذهب يعتذر عنها فلم يحسن العذر، وأفحش في الخطاب فكتب إليه المنصور يتهدّده، وبعث إليه بالخلعة فانتقض هو ومزّق خلعته على المنبر فوجد أخوه الياس بذلك السبيل إلى ما كان يحاول عليه، وداخل وجوها من الجند في الفتك بعبد الرحمن وإعادة الدعوة للمنصور، ومالأه في ذلك أخوه عبد الوارث، وفطن عبد الرحمن لهما فأمر الياس بالمسير إلى تونس، وجاء ليودّعه ومعه أخوه عبد الوارث فقتلاه في آخر سبع وثلاثين لعشر سنين من إمارته. (حبيب بن عبد الرحمن) ولما قتل عبد الرحمن نجا ابنه حبيب إلى تونس فلحق به بعد أن طلبوه وضبطوا أبواب القصر ليأخذوه فلم يظفروا به. وكان عمّه عمران بن حبيب بتونس فلحق به، واتبعه الياس فاقتتلوا مليا ثم اصطلحوا على أن يكون لحبيب قفصة وقصطيلة ونفزاوة، ولعمران تونس وصطفورة، وهي تبرزو والجزيرة، ولإلياس سائر إفريقية. وتمّ هذا الصلح سنة ثمان وثلاثين. وسار حبيب إلى عمله ببلاد الجريد، وسار الياس مع أخيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 عمران الى تونس فغدر بعمران وقتله وجماعة من الأشراف معه، وعاد الى القيروان. وبعث بطاعته إلى أبي جعفر المنصور مع عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي إفريقية. ثم سار حبيب إلى تونس فملكها وجاءه عمّه الياس فقاتله، وخالفه حبيب إلى القيروان فدخلها وفتق السجون فرجع الياس في طلبه، وفارقه أكثر أصحابه إلى حبيب، فلما تواقفا دعاه حبيب إلى البراز فتبارزا وقتله حبيب ودخل القيروان وملكها آخر سنة ثمان وثلاثين، ونجا عمه الآخر عبد الوارث إلى وربجومة من قبائل البربر، وكبيرهم يومئذ عاصم بن جميل، وكان كاهنا ويدّعي النبوّة فأجار عبد الوارث، وقاتلهم حبيب فهزموه إلى قابس واستفحل أمرهم وكتب من كان بالقيروان من العرب إلى عاصم بن جميل يدعونه للولاية عليهم، واستخلفوه على الحماية والدعاء للمنصور فلم يجب إلى ذلك. وقاتلهم فهزمهم، واستباح القيروان وخرّب المساجد واستهانها. ثم سار إلى حبيب بن عبد الرحمن بقابس فقاتله وهزمه، ولحق حبيب بجبل أوراس فأجاره أهله، وجاء عاصم فقاتلهم فهزموه، وقتل جماعة من أصحابه. وقام بأمر وربجومة والقيروان من بعده عبد الملك، وقتله سنة أربعين ومائة. وكانت إمارة الياس على إفريقية سنة ونصفا، وإمارة حبيب ثلاث سنين. (عبد الملك بن أبي الجعد الوربجومي) ولما قتل عبد الملك بن أبي الجعد حبيب بن عبد الرحمن رجع في قبائل وربجومة إلى القيروان وملكها، واستولت وربجومة على إفريقية، وساروا في أهل القيروان بالعسف والظلم كما كان عاصم واسوأ منه. وافترق أهل القيروان بالنواحي فرارا بأنفسهم، وشاع خبرهم في الآفاق فخرج بنواحي طرابلس عبد الأعلى بن السمح المغافري الإباضيّ منكرا لذلك وقصد طرابلس وملكها. (عبد الأعلى بن السمح المغافري) ولما ملك عبد الأعلى مدينة طرابلس بعث عبد الملك بن أبي الجعد العساكر لقتاله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 سنة إحدى وأربعين، فلقيهم أبو الخطّاب وهزمهم وأثخن فيهم، واتبعهم إلى القيروان فملكها وأخرج وربجومة منها واستخلف عليها عبد الرحمن بن رستم، وسار إلى طرابلس للقاء العساكر القادمة من ناحية أبي جعفر. (محمد بن الأشعث الخزاعي) كان أبو جعفر المنصور لما وقع بإفريقية ما وقع من الفتنة وملك قبائل وربجومة القيروان، وفد عليه رجالات من جند إفريقية يشكون ما نزل بهم من وربجومة، ويستصرخونه فولّى على مصر وإفريقية محمد بن الأشعث الخزاعي فنزل مصر وبعث على إفريقية أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجليّ. وسار في مقدّمته فلقيه أبو الخطّاب عبد الأعلى بسرت، ودهمه بالعساكر ومعهم الأغلب بن سالم بن عقال ابن خفاجة بن سوادة التميمي فسار لذلك، ولقي أبا الخطاب بسرت ثانية، فانهزم أبو الخطّاب وقتل عامّة أصحابه وذلك سنة أربع وأربعين. وبلغ الخبر إلى عبد الرحمن بن رستم بالقيروان ففرّ عنها إلى تاهرت وبنى هنالك مدينة ونزلها، وقام ابن الأشعث فافتتح طرابلس واستعمل عليها المخارق غفارا الطائي، وقام بأمر إفريقية وضبطها. وولّى على طبنة والزاب الأغلب بن سالم. ثم ثارت عليه المضريّة وأخرجوه سنة ثمان وأربعين فقفل إلى المشرق الأغلب بن سالم. ولما قفل ابن الأشعث إلى المشرق ولّى على المضريّة عيسى بن موسى الخراساني، فبعث أبو جعفر المنصور الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي بعده على إفريقية، وكان من أصحاب أبي مسلم بخراسان. وقدم مع ابن الأشعث فولّاه على الزاب وطبنة، فقدم القيروان وسكن الناس. ثم خرج عليه أبو قرة اليفرني في جموع البربر فهرب وسكن أبو قرّة اليفرني، فأبى عليه الجند وخلعوه، وكان الحسن بن حرب الكندي بقابس فكاتب الجند وثبطهم عن الأغلب فلحقوا به وأقبل بهم إلى القيروان فملكها ولحق الأغلب بقابس. ثم رجع إلى إقبال الحسن بن حرب سنة خمسين فهزمه، وسار إلى القيروان فكرّ عليه الحسن دونها واقتتلوا، وأصاب الأغلب سهم فقتله، وقدّم أصحابه عليهم المغافر بن غفار الطائي الّذي كان على طرابلس، وحملوا على الحسن فانهزم أمامهم إلى تونس. ثم لحق بكتامة وخيل المخارق في اتباعه. ثم رجع إلى تونس بعد شهرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 فقتله الجند، وقيل أصحاب الأغلب قتلوه في الموقف الّذي قتل فيه الأغلب. وقام بأمر إفريقية المخارق بن غفار إلى أن كان ما نذكره. (عمر بن حفص هزارمرد) ولما بلغ أبا جعفر المنصور قتل الأغلب بن سالم بعث على إفريقية مكانه عمر بن حفص هزارمرد من ولد قبيصة بن أبي هفرة أخي المهلّب، فقدمها سنة إحدى وخمسين فاستقامت أموره ثلاث سنين. ثم سار لبناء السور على مدينة طبنة واستخلف على القيروان أبا حازم حبيب بن حبيب المهلّبيّ، فلمّا توجه لذلك ثار البربر بإفريقية وغلبوا على من كان بها وزحفوا إلى القيروان وقاتلوا أبا حازم فقتلوه واجتمع البربر الإباضيّة بطرابلس، وولّوا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب الإباضيّ مولى كندة، وكان على طرابلس الجنيد بن بشّار الأسديّ من قبل عمر بن حفص فأمدّه بالعساكر، وقاتلوا أبا حازم فهزمهم وحصرهم بقابس، وانقضّت إفريقية من كل ناحية. ثم ساروا في عسكر إلى طبنة وحاصروا بها عمر بن حفص، فيهم أبو قرّة اليعقوبي في أربعين ألفا من الصفريّة وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفا من الإباضية جاءوا معه، والمسور الزناتي في عشرة آلاف من الإباضية وأمم من الخوارج من صنهاجة وزناتة وهوّارة ما لا يحصى، فدافعهم عمر بن حفص بالأموال، وفرّق كلمتهم، وبذل لأصحاب أبي قرّة مالا فانصرفوا. واضطر أبو قرّة لاتباعهم، فبعث عمر جيشا إلى ابن رستم وهو بتهودا فانهزم إلى تاهرت وضعف الإباضية عن حصار طبنة فأفرجوا عنها، وسار أبو حاتم إلى القيروان وحاصرها ثمانية أشهر، واشتدّ حصارها وسار عمر بن حفص وجهّز العساكر لطبنة فخالفه أبو قرّة إلى طبنة فهزموه. وبلغ أبا حاتم وأصحابه وهو على القيروان مسير عمر بن حفص إليهم فساروا للقائه، فمال هو من الأربس إلى تونس. ثم جاء إلى القيروان فدخلها واستعدّ للحصار واتبعه أبو حاتم والبربر فحاصروه إلى أن جهده الحصار، وحرج لقتالهم مستميتا فقتل آخر سنة أربع وخمسين، وولىّ مكانه أخوه لأمّه حميد بن صخر فوادع أبا حاتم على أن يقيم دعوة العبّاسيّة بالقيروان وخرج أكثر الجند إلى طبنة وأحرق أبو حاتم أبواب القيروان وثلم سورها . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 (يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب) ولما بلغ المنصور انتقاض إفريقية على عمر بن حفص وحصاره بطبنة ثم بالقيروان، بعث إليه يزيد بن أبي حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة في ستين ألف مقاتل. وبلغ خبره عمر بن حفص فحمله ذلك على الاستماتة حتى قتل، وسار يزيد ابن حاتم فقدم عليها وأبو حاتم يعقوب بن حبيب مستول عليها، فسار إلى طرابلس للقائه، واستخلف على القيروان عمر بن عثمان الفهريّ فانتقض وقتل أصحابه. وخرج المخارق بن غفار، فرجع إليهما أبو حاتم ففرّا من القيروان ولحقا بجيجل من سواحل كتامة فتركهما، واستخلف على القيروان عبد العزيز بن السبع المغافري، وسار للقاء يزيد. وسار يزيد إلى طرابلس فلحق أبو حاتم بجبال نفوسة، واتبعته عساكر يزيد فهزمهم فسار إليه يزيد بنفسه، وقاتله قتالا شديدا فانهزم البربر، وقتل أبو حاتم في ثلاثين ألفا من أصحابه، وتتبعهم يزيد بالقتل بثأر عمر بن حفص. ثم ارتحل إلى القيروان فدخلها منتصف سنة خمس وخمسين. وكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهرّي مع أبي حاتم فلحق بكتامة، وبعث يزيد في طلبه فحاصروهم ثم ظفروا بهم. وهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان معه وبعث يزيد المخارق ابن غفار على الزاب، ونزل طبنة وأثخن في البربر في وقائع كثيرة مع وربجومة وغيرهم الى ان هلك يزيد سنة سبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد. وقام بأمره ابنه داود فخرج عليه البربر، وأوقع بهم ورجع إلى القيروان إلى أن كان من أمره ما نذكره. (أخوه روح بن حاتم) ولما بلغ الرشيد وفاة يزيد بن حاتم، وكان أخوه روح على فلسطين استقدمه وعزّاه في أخيه وولّاه على إفريقية فقدمها منتصف إحدى وسبعين. وسار داود ابن أخيه يزيد إلى الرشيد. وكان يزيد قد أذلّ الخوارج ومهّد البلاد فكانت ساكنة أيام روح، ورغب في موادعة عبد الوهاب بن رستم وكان من الوهبيّة فوادعه، ثم هلك روح في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 رمضان سنة أربع وسبعين، وكان الرشيد قد بعث بعهده سرا إلى نصر بن حبيب من قرابتهم، فقام بالأمر بعد روح إلى أن ولي الفضل. (ابنه الفضل بن روح) ولما توفي روح بن حاتم قام حبيب بن نصر مكانه، وسار ابنه الفضل إلى الرشيد فولّاه على إفريقية مكان أبيه فعاد إلى القيروان في محرّم سنة سبع وسبعين، واستعمل على تونس المغيرة ابن أخيه بشر بن روح، وكان غلاما غرّا فاستخف بالجند، واستوحشوا من الفضل لما أساء فيهم السيرة، وأخذهم بموالاة حبيب بن نصر فاستعفى أهل تونس من المغيرة فلم يعفهم، فانتقضوا وقدّموا عليهم عبد الله بن الجارود، ويعرف بعبد ربّه الأنباري، وبايعوه على الطاعة، وأخرجوا المغيرة، وكتبوا إلى الفضل أن يولّي عليهم من أراد فولّى عليهم ابن عمّه عبد الله بن يزيد بن أبي حاتم، وسار إلى تونس. ولما قاربها بعث ابن الجارود جماعة لتلقّيه، واستفهامه في أيّ شيء جاء فعدوا عليه وقتلوه افتئاتا بذلك على ابن الجارود، واضطر إلى إظهار الخلاف، وتولّى كبر ذلك محمد بن الفارسيّ من قوّاد الخراسانية، وكتب إلى القوّاد والعمّال في النواحي، واستفسدهم على الفضل. وكثر جموع ابن الجارود، وخرج الفضل فانهزم واتبعه ابن الجارود، واقتحم عليه القيروان. ووكّل به وبأهله من يوصلهم إلى قابس. ثم ردّه من طريقه وقتله منتصف ثمان وسبعين. ورجع ابن الجارود إلى تونس، وامتعض لقتل الفضل جماعة من الجند وفي مقدّمهم مالك بن المنذر ووثبوا بالقيروان فملكوها، وسار إليهم ابن الجارود من تونس فقتلهم، وقتل مالك بن المنذر وجماعة من أعيانهم، ولحق فلّهم بالأندلس، فقدّموا عليهم الصّلت بن سعيد، وعادوا إلى القيروان واضطربات إفريقية. (خزيمة بن أعين) ولما بلغ الرشيد مقتل الفضل بن روح، وما وقع بإفريقية من الاضطراب، ولّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 مكانه خزيمة بن أعين، وبعث إلى ابن الجارود يحيى بن موسى لمحلّه عند أهل خراسان. ويقال يقطين يرغبه في الطاعة، فأجابه بشرط الفراغ من العلاء بن سعيد. وعلم يقطين أنه يغالطه فداخل صاحبه محمد بن الفارسيّ، واستماله فنزع عن ابن الجارود. وخرج ابن الجارود من القيروان فرارا من العلاء في محرّم سنة تسع وسبعين لسبعة أشهر من ولايته، وسار للقاء ابن الفارسيّ من القيروان، وتزاحفا للقتال فدعا ابن الجارود ابن الفارسيّ إلى خلوة، وقد دسّ رجلا من أصحابه يغتاله في خلوتهما فقتله، وانهزم أصحابه وسابق العلاء بن سعيد ويقطين إلى القيروان فسبق إليها العلاء وملكها وفتك في أصحابه ابن الجارود ولحق ابن الجارود بهرثمة فبعث به إلى الرشيد، وكتب إليه أن العلاء بن سعيد هو الّذي أخرجه من القيروان فأمره بأن يبعث بالعلاء فبعث به مع يقطين، فاعتقل ابن الجارود وأحسن إلى العلاء إلى أن توفي بمصر. وسار هرثمة إلى القيروان فقدمها سنة سبع وسبعين فأمّن الناس وسكّنهم، وبني القصر الكبير بالمنستير لسنة من قدومه، وبنى السور على طرابلس مما يلي البحر. وكان إبراهيم بن الأغلب عاملا على الزاب وطبنة فهاداه، ولاطفه فعقد له على عمله فقام بأمره وحسن أثره. ثم خرج عليه عياض بن وهب الهوّاري وكليب ابن جميع الكلبيّ، وجمعا الجموع فسرّح هرثمة إليهما يحيى بن موسى من قوّاد الخراسانيّة ففرّق جموعهما، وقتل كثيرا من أصحابهما، ورجع إلى القيروان. ولما رأى هرثمة كثرة الثّوار والخلاف بإفريقية استعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه، ورجع إلى العراق لسنتين ونصف من ولايته. (محمد بن مقاتل الكعبي) ثم بعث الرشيد على إفريقية محمد بن مقاتل الكعبيّ، وكان صنيعه، فقدم القيروان في رمضان سنة إحدى وثمانين، فكان مسيء السيرة، فاختلف عليه الجند وقدّموا مخلّد بن مرّة الأزديّ، فبعث إليه العساكر فهزم وقتل. ثم خرج عليه بتونس تمام ابن تميم التميميّ سنة ثلاث وثمانين، واجتمع إليه الناس، وسار إلى القيروان فخرج إليه محمد بن مقاتل ولقيه فانهزم أمامه ورجع إلى القيروان، وتمام في اتباعه إلى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 دخل عليه القيروان، وأمّنه تمام على أن يخرج عن إفريقية، فسار محمد إلى طرابلس، وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن الأغلب بمكانه من الزاب فانتقض لمحمد، وسار بجموعه إلى القيروان وهرب تمام بين يديه إلى تونس، وملك القيروان واستقدم محمد بن مقاتل من طرابلس، وأعاده إلى إمارته بالقيروان آخر ثلاث وثمانين، وزحف تمام لقتالهم فخرج إليه إبراهيم بن الأغلب بأصحابه فهزمه، وسار في اتباعه إلى تونس. واستأمن له تمام فأمّنه وجاء به إلى القيروان وبعث به إلى بغداد فاعتقله الرشيد. (إبراهيم بن الأغلب) ولما استوثق الأمر لمحمد بن مقاتل كره أهل البلاد ولايته، وداخلوا إبراهيم بن الأغلب في أن يطلب من الرشيد الولاية عليهم، فكتب إبراهيم إلى الرشيد في ذلك على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت من مصر إلى إفريقية، وعلى أن يحمل هو من إفريقية أربعين ألفا. وبلغ الرشيد غناؤه في ذلك واستشار فيه أصحابه فأشار هرثمة بولايته، فكتب له بالعهد إلى إفريقية منتصف أربع وثمانين فقام إبراهيم بالولاية، وضبط الأمور وقفل ابن مقاتل إلى المشرق، وسكنت البلاد بولاية ابن الأغلب، وابتنى مدينة العبّاسيّة قرب القيروان، وانتقل إليها بجملته. وخرج عليه سنة ست وثمانين بتونس حمديس من رجالات العرب، ونزع السواد، فسرّح إليه ابن الأغلب عمران بن مجالد في العساكر فقاتله وانهزم حمديس، وقتل من أصحابه نحو عشرة آلاف. ثم صرف همّه إلى تمهيد المغرب الأقصى، وقد ظهر فيه دعوة العلويّة بإدريس بن عبد الله. وتوفي ونصّب البرابرة ابنه الأصغر، وقام مولاه راشد بكفالته. وكبر إدريس واستفحل أمره براشد، فلم يزل إبراهيم يدسّ إلى البربر ويسرّب فيهم الأموال حتى قتل راشد وسيق رأسه إليه. ثم قام بأمر إدريس بعده بهلول بن عبد الرحمن المظفّر من رءوس البربر فاستفحل أمره، فلم يزل إبراهيم يتلطّفه ويستميله بالكتب والهدايا، الى أن انحرف عن دعوة الأدارسة إلى دعوة العبّاسيّة فصالحه إدريس، وكتب إليه يستعطفه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكفّ عنه. ثم خالف أهل طرابلس على إبراهيم بن الأغلب سنة تسع وثمانين، وثاروا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 بعاملهم سفيان بن المهاجر، وأخرجوه من داره إلى المسجد وقتلوا عامة أصحابه. ثم أمّنوه على أن يخرج من طرابلس فخرج سفيان لشهر من ولايته، واستعملوا عليهم إبراهيم بن سفيان التميمي، فبعث إليهم إبراهيم بن الأغلب العساكر وهزمهم، ودخل طرابلس عسكره. ثم استحضر إبراهيم الذين تولّوا كبر ذلك، فحضروا في ذي الحجّة آخر السنة، وعفا عنهم وأعادهم إلى بلدهم. ثم انتقض عمران بن مجالد الربعيّ سنة خمس وتسعين على ابن الأغلب، وكان بتونس، واجتمع معه على ذلك قريش بن التونسي، وكثرت جموعهما، وسار عمران إلى القيروان فملكها، وقدم عليه قريش من تونس، وخندق إبراهيم على نفسه بالعبّاسيّة فحاصروه سنة كاملة، كانت بينه وبينهم حروب كان الظفر في آخرها لابن الأغلب. وكان عمران يبعث إلى أسد بن الفرات القاضي في الخروج إليهم وامتنع. ثم بعث الرشيد إلى إبراهيم بالمال فنادى في الناس بالعطاء، ولحق به أصحاب عمران، وانتقض أمره ولحق بالزاب، فأقام به إلى أن توفي ابن الأغلب. ثم بعث إبراهيم على طرابلس ابنه عبد الله سنة ست وتسعين، فثار عليه الجند وحاصروه بداره. ثم أمّنوه على أن يخرج عنهم فخرج، واجتمع إليه الناس وبذل العطاء وأتاه البربر من كل ناحية. وزحف إلى طرابلس فهزم جندها ودخل المدينة. ثم عزله أبوه وولّى سفيان بن المضاء فثارت هوّارة بطرابلس، وهجموا الجند فلحقوا بإبراهيم بن الأغلب وأعاد معهم ابنه عبد الله في ثلاثة عشر ألفا من العساكر ففتك بهوّارة وأثخن فيهم، وجدّد سور طرابلس. وبلغ الخبر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم فجمع البربر وجاء إلى طرابلس فحاصرها وسدّ عبد الوهاب باب زناتة، وكان يقاتل من باب هوّارة. ثم جاءه الخبر بوفاة أبيه فصالحهم على أن يكون البلد والبحر لعبد الله، وأعمالها لعبد الوهاب، وسار إلى القيروان، وكانت وفاة إبراهيم في شوّال سنة ست وتسعين. (ابنه أبو العباس عبد الله) ولما توفي إبراهيم بن الأغلب عهد لابنه عبد الله، وكان غائبا بطرابلس والبربر يحاصرونه كما ذكرناه، وأوصى ابنه الآخر زيادة الله أن يبايع له بالإمارة ففعل، وأخذ له البيعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 على الناس بالقيروان. وكتب إليه بذلك فقدم أبو العبّاس عبد الله في صفر سنة سبع وتسعين، ولم يرع حق أخيه فيما فعله. وكان ينتقصه ولم يكن في أيامه فتنة بما مهّد له أبوه الأمر. وكان جائرا حتى قيل: إن مهلكه كان بدعوة حفص بن حميد من الأولياء الصالحين من أهل حمّود ومهريك، وفد عليه في جماعة من الصالحين يشكو ظلامة. فلم يصغ إليهم فخرج حفص يدعو عليه، وهم يؤمنون فأصابته قرحة في أذنه عن قريب هلك منها في ذي الحجّة سنة إحدى ومائتين لخمس سنين من ولايته. (أخوه زيادة الله) ولما توفي أبو العباس ولي مكانه أخوه زيادة الله، وجاءه التقليد من قبل المأمون، وكتب إليه يأمره بالدعاء لعبد الله بن طاهر على منابره فغضب من ذلك، وبعث مع الرسول بدنانير من سكة الأدارسة يعرض له بتحويل الدعوة. ثم استأذنه قرابته في الحج وهم أخوه الأغلب وأبناء أخيه أبي العباس محمد وأبو محمد بهر وإبراهيم أبو الأغلب، فأذن لهم وانطلقوا لقضاء فرضهم فقضوه، وأقاموا بمصر حتى وقعت بين زيادة الله وبين الجند الحروب فاستقدمهم، واستوزر أخاه الأغلب وهاجت الفتن. واستولى كل رئيس بناحية فملكوها عليه كلها وزحفوا إلى القيروان فحصروه، وكان فاتحة الخلاف زياد بن سهل بن الصقلية، خرج سنة سبع ومائتين وجمع وحاصر مدينة باجة فسرح إليه العساكر فهزموه وقتلوا أصحابه. ثم انتقض منصور الترمذي بطبنة، وسار إلى تونس فملكها وكان العامل عليها إسماعيل بن سفيان، وسفيان أخو الأغلب فقتله لتستخلص له طاعة الجند. وسرح زيادة الله العساكر من القيروان مع غلبون ابن عمه ووزيره اسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب وتهددهم بالقتل إن انهزموا فهزمهم منصور، وخشوا على أنفسهم ففارقوا الوزير غلبون، وافترقوا على إفريقية، واستولوا على باجة والجزيرة وصطفورة والأربس وغيرها. واضطربت إفريقية، ثم اجتمعوا إلى منصور، وسار بهم إلى القيروان فملكها، وحاصره في العباسية أربعين يوما، وعمروا سور القيروان الّذي خربه إبراهيم بن الأغلب. ثم خرج إليه زيادة الله فقاتله فهزمه، ولحق بتونس وخرب زيادة الله سور القيروان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 ولحق قواد الجند بالبلاد التي تغلبوا عليها، فلحق منهم عامر بن نافع الأزرق بسبيبة [1] . وسرح زيادة الله سنة تسع ومائتين عسكرا مع محمد بن عبد الله بن الأغلب فهزمهم عامر وعادوا، ورجع منصور إلى تونس ولم يبق على طاعة زيادة الله من إفريقية إلا تونس والساحل وطرابلس ونفزاوة [2] . وبعث الجند إلى زيادة الله بالأمان وأن يرتحل عن إفريقية، وبلغه أن عامر بن نافع يريد نفزاوة وأن برابرتها دعوه، فسرح إليهم مائتي مقاتل لمنع عامر بن نافع فرجع [3] عامرا عنها، وهزمه إلى قسطيلة ورجع. ثم هرب عنها واستولى سفيان على قسطيلة وضبطها. وذلك سنة تسع ومائتين، واسترجع زيادة الله قسطيلة والزاب وطرابلس واستقام أمره. ثم وقعت الفتنة بين منصور الطبندي وبين عامر بن نافع، لأن منصورا كان يحسده ويضغن عليه فاستمال عامر الجند وحاصره بقصره بطبندة حتى استأمن إليه على أن يركب إلى الشرق. وأجابه إلى ذلك وخرج منصور من طبندة منهزما. ثم رجع فحاصره عامر حتى استأمن إليه ثانيا على يد عبد السلام بن المفرّج من قوّاد الجند، وأخذ له الأمان من عامر على أن يركب البحر إلى المشرق فأجابه عامر وبعثه مع ثقاته إلى تونس وأوصى ابنه. وكان يغريه أن يقتله إذا مرّ به فقتله، وبعث برأسه ورأس ابنه. وأقام عامر بن نافع بمدينة تونس إلى أن توفي سنة أربع عشرة. ورجع عبد السلام بن المفرج إلى باجة فأقام بها إلى أن انتقض فضل بن أبي العين بجزيرة شريك سنة ثمان عشرة ومائتين، فسار إليه عبد السلام بن المفرج الربعي، وجاءت عساكر زيادة الله فقاتلوهما، وقتل عبد السلام، وانهزم فضل إلى مدينة تونس وامتنع بها، وحاصرته العساكر حتى اقتحموها عليه، وقتلوا كثيرا من أهلها وهرب آخرون حتى أمنهم زيادة الله وعادوا، وفي سنة تسع عشرة ومائتين فتح أسد بن الفرات صقلّيّة، كانت صقلّيّة من عمالات الروم وأمرها راجع الى صاحب قسطنطينية، وولى عليها سنة إحدى عشرة ومائتين بطريقا اسمه قسنطيل، واستعمل على الأسطول قائدا من الروم حازما شجاعا فغزا سواحل إفريقية وانتهبها. ثم بعد مدّة كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض   [1] سبيبة: ناحية من أعمال افريقية ثم من أعمال القيروان (معجم البلدان) . [2] نفزاوة: مدينة من أعمال افريقية، قال البكري: وتسير من القيروان الى نفزاوة ستة أيام نحو المغرب، وبمدينة نفزاوة عين تسمى بالبربرية تاورغي، وهي عين كبيرة لا يدرك قعرها، ولها سور صخر وطوب ولها ستة أبواب وفيها جامع وحمام وأسواق حافلة ... (معجم البلدان) [3] بمعنى منع عامر بن نافع عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 على مقدم الأسطول وقتله. ونمي الخبر إليه بذلك فانتقض، وتعصب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلّيّة فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية فأتبعه جيشا أخذوه وقتلوه، واستولى القائد على صقلّيّة فملكها وخوطب بالملك. وولى على ناحية من الجزيرة رجلا اسمه بلاطة، وكان ميخاييل ابن عم بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمه على القائد، واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة، وركب القائد في أساطيله إلى إفريقية مستنجدا بزيادة الله، فبعث معهم العساكر واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مأزر، وساروا إلى بلاطة ولقيهم القائد وجميع الروم الذين بها استمدّهم فهزموا بلاطة والروم الذين معه، وغنموا أموالهم. وهرب بلاطة إلى فلونرة فقتل، واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة ووصلوا إلى قلعة الكرات، وقد اجتمع بها خلق كثير فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية، حتى استعدّوا للحصار، ثم امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كل ناحية، وكثرت الغنائم وحاصروا سرقوسة برا وبحرا، وجاءه المدد من إفريقية وحاصروا بليرم. وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة قد بعثوهم، واشتدّ حصار المسلمين بسرقوسة، ثم أصاب معسكرهم الفناء وهلك كثير منهم، ومات أسد بن الفرات أميرهم ودفن بمدينة قصريانة، ومعهم القائد الّذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه. وجاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم، ودخل فلهم إلى قصريانة. ثم توفي محمد بن الحواري أمير المسلمين، وولي بعده زهير بن عوف. ثم محص [1] الله المسلمين فهزمهم الروم مرات وحصروهم في معسكرهم حتى جهدهم الحصار، وخرج من كان في كبركيت من المسلمين بعد أن هدموها وساروا إلى مأزر. وتعذر عليهم الوصول إلى إخوانهم وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن أشرفوا على الهلاك، فوصلت مراكب افريقية مددا وأسطول من الأندلس خرجوا للجهاد. واجتمع منهم ثلاثمائة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة ومائتين. ثم ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم   [1] بمعنى امتحن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 عليها سنة عشرين ومائتين. ثم بعثوا إلى طرميس. ثم بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سرية إلى سرقوسة فغنموا. ثم سارت سرية أخرى واعترضها بطريق صقلّيّة فامتنعوا منه في وعر وخمل من الشعراء، حتى يئس منهم وانصرف على غير طائل فحمل عليهم أهل السرية وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطعن وجرح، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب ومتاع. ثم جهز زيادة الله إلى صقلّيّة إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر، وولاه أميرا عليها فخرج منتصف رمضان، وبعث اسطولا فلقي أسطولا للروم فغنمه، وقتل من كان فيه. وبعث أسطولا آخر إلى قصوره فلقي أسطولا فغنمه وسارت سرية إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر السبي بأيدي المسلمين. وبعث الأغلب سنة إحدى وعشرين أسطولا نحو الجزائر فغنموا وعادوا. وبعث سرية إلى قطلبانة وأخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين. ثم كانت وقعة أخرى كان فيها الظفر للمسلمين. وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب، ثم عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدل المسلمين عليها، ودخلوا منها البلد، وتحصن المشركون بحصنه حتى استأمنوا وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه، وعادوا إلى بليرم إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله فوهنوا أولا. ثم انشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد وكانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث وعشرين ومائتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته. (أخوهما أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب) ولما توفي زيادة الله بن إبراهيم، تولى أخوه الأغلب ويكنى أبا عقال فأحسن إلى الجند، وأزال المظالم وزاد العمال في أرزاقهم وكفهم عن الرعية! وخرج عليه بقسطيلة خوارج زواغة ولواتة وبسكاسة [1] وقتلوا عاملها بها، وبعث إليهم العساكر فقتلهم واستأصلهم. وبعث سنة أربع وعشرين سرية إلى صقلّيّة فغنموا وعادوا ظافرين. وفي سنة خمس وعشرين استأمن للمسلمين عدة حصون من صقلّيّة فأمنوهم، وفتحوها صلحا وسار أسطول المسلمين إلى قلورية ففتحوها، ولقوا أسطول   [1] بسكاس: من قرى بخارى وليست هي المقصودة ولعلها مكناسة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 القسطنطينية فهزموهم. وفي سنة ست وعشرين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثم حصن القيروان وأثخنوا في نواحيها كما نذكره. ثم توفي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ست وعشرين ومائتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته. (ابنه أبو العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم) ولما توفي أبو عقال الأغلب ولي بعده ابنه أبو العباس ودانت له إفريقية، وشيد مدينة بقرب تاهرت وسماها العباسية وذلك سنة سبع وعشرين، وأحرقها أفلح بن عبد الوهاب بن رستم. وكتب إلى صاحب الأندلس يتقرّب إليه بذلك فبعث إليه بمائة ألف درهم. وفي أيامه ولي سحنون القضاء سنة أربع وثلاثين ومائتين بعد عزل ابن الجواد، وضربه سحنون فمات. ومات سحنون سنة أربعين ومائتين، وثار عليه أخوه أبو جعفر وغلبه. ثم اتفقا على أن يستوزره فاستبد عليه، وقتل وزراءه ومكث على ذلك. ثم أقام أبو العباس محمد بأمره واستبد سنة ثلاث وأربعين بعد أن استعد لذلك رجالا، وحارب أخوه أبو جعفر فغلبه محمد وانتقض عليه وأخرجه من إفريقية إلى مصر سنة ست وأربعين ومائتين لستة عشر شهرا من ولايته. (ابنه أبو إبراهيم أحمد بن أبي العباس محمد) لما توفي أبو العباس محمد بن أبي عقال سنة اثنتين وأربعين، ولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد فأحسن السيرة وأكثر العطاء للجند، وكان مولعا بالعمارة فبنى بإفريقية نحوا من عشرة آلاف حصن بالحجارة والكلس وأبواب الحديد. واتخذ العبيد جندا وخرج عليه بناحية طرابلس خوارج من البربر فغلبهم عاملها، وهو يومئذ أخوه عبد الله بن محمد بن الأغلب، سرّح إليهم أخاهما زيادة الله يحاربهم، واستلحمهم وكتب إلى أخيه أبي إبراهيم بالفتح. وفي أيامه افتتحت قصريانة من مدن صقلّيّة في شوّال سنة أربع وأربعين، وبعث بفتحها إلى المتوكل، وأهدى له من سبيها. ثم توفي إبراهيم هذا سنة تسع وأربعين لثمان سنين من ولايته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 (ابنه زيادة الله الأصغر بن أبي إبراهيم بن أحمد) ولما توفي أبو إبراهيم ولي مكانه ابنه زيادة الله، ويعرف بزيادة الله الأصغر فجرى على سنن سلفه، ولم تطل أيامه. وتوفي سنة خمسين لحول من ولايته. (أخوه أبو الغرانيق بن أبي إبراهيم بن أحمد) ولما توفي زيادة الله كما قدّمناه ولي مكانه أخوه محمد ويلقب بأبي الغرانيق فغلب عليه اللهو والشراب. وكانت في أيامه حروب وفتن. وفتح جزيرة مالطة سنة خمس وخمسين. وتغلب الروم على مواضع من جزيرة صقلّيّة، وبنى محمد حصونا ومحارس على ساحل البحر بالمغرب على مسيرة خمسة عشر يوما من برقة إلى جهة المغرب وهي الآن معروفة. ثم توفي أبو الغرانيق منتصف إحدى وستين لإحدى عشرة سنة من ولايته. (بقية أخبار صقلّيّة) وفي سنة ثمان وعشرين سار الفضل بن جعفر الهمدانيّ في البحر ونزل مرسى مسينة وحاصرها فامتنعت عليه، وبث السرايا في نواحيها فغنموا. ثم بعث طائفة من عسكره وجاءوا إلى البلد من وراء جبل مطل عليه، وهم مشغولون بقتاله فانهزموا، وأعطوا باليد ففتحها. ثم حاصر سنة اثنتين وثلاثين مدينة لسى، وكاتب أهلها بطريق صقلّيّة يستمدونه فأجابهم وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيته فخرجوا واستطرد لهم حتى جاوزوا الكمين، فخرجوا عليهم، فلم ينج منهم إلا القليل، وسلموا البلد على الأمان. وفي سنة ثلاث وثلاثين أجاز المسلمون إلى أرض أنكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينة وسكنوها، وفي سنة أربع وثلاثين صالح أهل رغوس، ابن خلدون م 17 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 وسلموا المدينة للمسلمين فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها. وفي سنة ثلاث وثلاثين توفي أمير صقلّيّة محمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العباس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم. وكتب له محمد بن الأغلب بعهده على صقلّيّة، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا، وتأتيه الغنائم. ولما جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه، وعلى مقدمته عمه رياح فعاث في نواحي صقلّيّة، وردد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس فغنموا وخربوا وحرقوا، وافتتح حصونا جمة، وهزم أهل قصريانة، وهي مدينة ملك صقلّيّة. وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلما فتحها المسلمون كما ذكرناه انتقل الملك إلى قصريانة. وخبر فتحها أن العباس كان يردد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة فيصيب منهم، ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى، وقدمهم للقتل فقال له بعضهم: وكان له قدر وهيبة استبقني وأنا أملكك قصريانة، ودلهم على عورة البلد فجاءوها ليلا، ووقفهم على باب صغير فدخلوا منه، فلما توسطوا البلد وضعوا السيف، وفتحوا الأبواب ودخل العباس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات البطارقة، وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه، وذل الروم بصقلية من يومئذ. وبعث ملك الروم عسكرا عظيما مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة فجاءهم العباس من بليرم فقاتلهم وهزمهم، وأقلع فلهم إلى بلادهم بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة سبع وثلاثين. وافتتح بعدها كثيرا من قلاع صقلّيّة، وجاء مدد الروم من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة، وزحف إليهم العباس من مكانه وهزمهم، ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها الحامية. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى سرقوسة فغنم ورجع، واعتل في طريقه فهلك منتصف سنته. ودفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه وذلك لإحدى عشرة سنة من إمارته. واتصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال وغزوا أرض قلورية وانكبرده، وفتحوا فيها حصونا وسكن بها المسلمون. ولما توفي العباس اجتمع الناس على ابنه عبد الله وكتبوا إلى صاحب إفريقية، وبعث عبد الله السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من إفريقية على صقلّيّة في منتصف ثمان وأربعين، وأخرج ابنه محمودا في سرية إلى سرقوسة فعاث في نواحيها، وخرج إليهم الروم فقاتلهم وظفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 ورجع. ثم فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين إلى سرقوسة، وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس، ثم غدروا فسرّح ابنه محمدا في العساكر وسبى أهلها. ثم سار خفاجة إلى رغوس وافتتحها، وأصابه المرض فعاد إلى بليرم. ثم سار سنة ثلاث وخمسين إلى سرقوسة وقطانية فخرّب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في أرض صقلّيّة فامتلأت أيديهم من الغنائم. وفي سنة أربع وخمسين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلّيّة فقاتله جمع من المسلمين وهزموه، وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم. وبعث سنة خمس وخمسين ابنه محمدا في العساكر الى طرميس وقد دله بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب. وجاء محمد بن خفاجة من ناحية أخرى فظنوه مددا للعدو فأجفلوا، ورآهم محمد مجفلين فرجع. ثم سار خفاجة إلى سرقوسة فحاصرها وعاث في نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس وخمسين، وولى الناس عليهم ابنه محمدا وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير إفريقية فأقرّه على الولاية وبعث إليه بعهده. (إبراهيم بن أحمد أخو أبي الغرانيق) ولما توفي أبو الغرانيق ولي أخوه إبراهيم، وقد كان عهد لابنه أبي عقال، واستحلف أخاه إبراهيم أن لا ينازعه ولا يعرض له، بل يكون نائبا عنه إلى أن يكبر، فلما مات عدا عليه أهل القيروان وحملوه على الولاية عليهم، لحسن سيرته وعد له فامتنع ثم أجاب وترك وصية أبي الغرانيق في ولده أبي عقال، وانتقل إلى قصر الإمارة وقام بالأمر أحسن قيام. وكان عادلا حازما فقطع البغي والفساد وجلس لسماع شكوى المتظلمين، فأمنت البلاد وبنى الحصون والمحارس بسواحل البحر حتى كانت النار توقد في ساحل سبتة للنذير بالعدو فيتصل إيقادها بالإسكندرية في الليلة الواحدة وبنى سور سوسة. وفي أيامه كان مسير العباس بن أحمد بن طولون مخالفا على أبيه صاحب مصر سنة خمس وستين ومائتين فملك برقة من يد محمد بن قهرب قائد ابن الأغلب ثم ملك لبدة، ثم حاصر طرابلس واستمدّ ابن قهرب بقوسة فأمدوه ولقي العباس بن طولون بقصر حاتم سنة سبع وستين فهزمه، ورجع إلى مصر. ثم خالفت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 وزداجة ومنعوا الرهن، وفعلت مثل ذلك هوارة، ثم لواتة، وقتل ابن قهرب في حروبهم فسرح إبراهيم ابنه أبا العباس عبد الله إليهم في العساكر سنة تسع وستين فأثخن فيهم. وفي سنة ثمانين كثر الخوارج وفرّق العساكر إليهم فاستقاموا، واستركب العبيد السودان واستكثر منهم فبلغوا ثلاثة آلاف. وفي سنة إحدى وثمانين انتقل إلى سكنى تونس واتخذ بها القصور، ثم تحرك إلى مصر سنة ثلاث وثمانين لمحاربة ابن طولون، واعترضته نفوسة فهزمهم وأثخن فيهم. ثم انتهى إلى سرت فانفضت عنه الحشود فرجع، وبعث ابنه أبا العباس عبد الله على صقلّيّة سنة سبع وثمانين فوصل إليها في مائة وستين مركبا. وحصر طرابة وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت، وكانت بينهم فتنة فأغراه كل واحد منهم بالآخرين. ثم اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم [1] في البحر فهزمهم واستباحهم، وبعث جماعة من وجوهها إلى أبيه، وفرّ آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية وآخرون إلى طرميس فاتبعهم وعاث في نواحيها. ثم حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين. وتجهز سنة ثمان وثمانين للغزو فغزا دمقش [2] ثم مسيني [3] . ثم جاء في البحر إلى ربو [4] ففتحها عنوة وشحن مراكبه بغنائمها، ورجع إلى مسيني فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ لهم ثلاثين مركبا. ثم أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر. ورجع إلى صقلّيّة. وجاء في هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به، فاستقدم ابنه أبا العباس من صقلّيّة وارتحل هو إليها مظهرا لغربة الانتجاع. هكذا قال ابن الرقيق. وذكر أنه كان جائرا ظلوما سفّاكا للدماء، وأنه أصابه آخر عمره ماليخوليا أسرف بسببها في القتل، فقتل من خدمه ونسائه وبناته ما لا يحصى. وقتل ابنه أبا الأغلب لظن ظنه به. وافتقد ذات يوم منديلا لشرابه، فقتل بسببه ثلاثمائة خادم. وأمّا ابن الأثير فأثنى عليه بالعقل والعدل   [1] بليرم: هي بلرم: وهي أعظم مدينة في جزيرة صقلّيّة في بحر المغرب على شاطئ البحر (معجم البلدان) وهي اليوم عاصمة صقلّيّة. [2] دمقش: من قرى مصر في الغربية. [3] مسيني: بليدة على ساحل جزيرة صقلّيّة مما يلي الروم مقابل ريو، وهو بلد في بر القسطنطينية، الواقف في مسيني يرى من في ريو (معجم البلدان) . [4] هي ريو وليس ربو- هي مدينة للروم مقابل جزيرة صقلّيّة من ناحية الشرق على بر القسطنطينية. (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 وحسن السيرة، وذكر أن فتح سرقوسة كان في أيامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلّيّة، وأنه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم. ثم فتح البلد واستباحها. واتفقوا كلهم على أنه ركب البحر من إفريقية إلى صقلّيّة فنزل طرابنة. ثم تحول عنها إلى بليرم ونزل على دمقش وحاصرها سبعة عشر يوما. ثم فتح مسيني وهدم سورها. ثم فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها. ثم بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العباس عبد الله إلى قلعة بيقش فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة [1] فأعطوه الجزية. ثم عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل قلورية عنوة فقتل وسبى، ورهب منه الفرنجة. ثم رجع إلى صقلّيّة ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك. ثم سار إلى كنسة فحاصرها واستأمنوا إليه فلم يقبل. ثم هلك وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العباس، وهو يومئذ بإفريقية، فأمن أهل كنسة قبل أن يعملوا بموت جدّه، وقبل منهم الجزية، وأقام قليلا حتى تلاحقت به السرايا من النواحي. ثم ارتحل وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير: حمله إلى القيروان فدفنه بها. (ظهور الشيعي بكتامة) وفي أيامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة. وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلّيّة. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلة بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بأنكجان يهدده ويحذره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلما قربت أمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم كما قدمناه أظهر التوبة، ومضى إلى صقلّيّة، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع   [1] روطة: اسم أعجمي لقلعة حصينة بجزيرة صقلّيّة بينهما ثمانية أيام، هي بعيدة من البحر فوق جبل وفيها آثار الماء (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 قبائل كتامة حتى استولى عليهم واتبعوه، وكان إبراهيم قد أسر لابنه أبي العباس في شأن الشيعي ونهاه عن محاربته، وأن يلحق به إلى صقلّيّة إن ظهر عليه. (ابنه أبو العباس عبد الله بن إبراهيم أخي محمد أبي الغرانيق) ولما هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين كما قدمناه، قدم حافده زيادة الله بالجيوش على أبيه أبي العباس عبد الله فقام بأمر إفريقية، وعظم غناؤه، وكتب إلى العمال كتابا يقرأ على الناس بالوعد الجميل والعدل والرّفق والجهاد، واعتقل ابنه زيادة الله هذا لما بلغه عنه من اعتكافه على اللذات واللهو، وأنه يروم التوثب عليه، وولى على صقلّيّة مكانه محمد بن السرقوسي، وكان أبو العباس حسن السيرة عادلا بصيرا بالحروب، وكانت أيامه صالحة، وكان نزوله بتونس. ولما توفي استولى أبو عبد الله الشيعي على كتامة ودخلوا في أمره كافة، وزحف إلى ميلة فافتتحها، وقتل موسى بن عياش. وكان فتح بن يحيى أمير مسالة من كتامة حارب أبا عبد الله طويلا، ثم غلبه واستولى على قومه، فنزع فتح إلى أبي العباس وحرضه على قتال يكزاخول، وإنما كان يكرّ على جفنة إذا نظر، وزحف إليه من تونس سنة تسع وثمانين ومائتين ودخل سطيف [1] ثم بلزمة [2] ، وقتل من دخل في دعوتهم ولقيه أبو عبد الله الشيعي فانهزم وهرب من تاوزرت إلى أنكجان، وهدم أبو خول قصر الشيعي، ثم قاتلهم يوما إلى الليل، فانهزم عسكر أبي خول ولحق بتونس، ورجع بكتامة إلى مواضعهم. ولما دخل أبو خول بأبيه جدّد له العسكر وأعاده ثانية، وانتظمت إليه القبائل، وسار حتى نزل سطيف. ثم ارتحل منها إلى لقائهم، وزحف إليه أبو عبد الله فهزمه، ورجع إلى سطيف. ثم ارتحل منها إلى لقائهم، وفي أثناء ذلك صانع زيادة الله بعض الخدم على قتل أبيه أبي العباس فقتل نائما في شعبان سنة تسعين ومائتين، وأطلق زيادة الله من اعتقاله.   [1] سطيف: مدينة في جبال كتامة بين تاهرت والقيروان من أرض البربر ببلاد المغرب، وهي صغيرة إلا انها ذات مزارع وعشب عظيم، ومنها خرج ابو عبد الله الشيعي داعية عبيد الله المسمى بالمهديّ (معجم البلدان) . [2] وفي نسخة أخرى بلزمة، ولم نجد لها مادة في معجم البلدان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 (ابنه أبو مضر زيادة الله) ولما أطلق زيادة الله من الاعتقال اجتمع أهل الدولة وبايعوا له، فقتل الخصيان الذين قتلوا أباه، وأقبل على اللذات واللهو ومعاشرة المضحكين والصفاعين، وأهمل أمور الملك واستقل وكتب إلى أخيه أبي خول على لسان أبيه يستقدمه، وقدم فقتله وقتل عمومته وإخوته. وقوي أمر الشيعي، وانتقل زيادة الله إلى رقادة ليلا لئلا يخالفه الشيعي إليها. وفتح الشيعي مدينة سطيف فسرّح زيادة الله العساكر لحربه، وعقد عليها لإبراهيم بن حبيش من صنائعه، فخرج في أربعين ألفا، وأقام بقسطيلة ستة أشهر، فاجتمعت إليه مائة ألف، وزحف إلى كتامة، وتلقوه بأجانة فاخترمت عساكره وولت الهزيمة عليه. وانتهى إلى باغاية، ثم انتقل إلى القيروان وافتتح أبو عبد الله مدينة طبنة، وقتل فتح بن يحيى المسالتي وكان بها. ثم فتح بلزمة وهدم سورها. ثم وصل عروبة بن يوسف من أمراء كتامة إلى باغاية، وأوقع بالعساكر التي كانت بها مجمرة لحربهم بنظر هارون بن الطبني. وأرسل أبو عبد الله الشيعي إلى تيحيسن فحاصرها، ثم افتتحها صلحا، وكثر الإرجاف بالقيروان ففتح زيادة الله ديوان العطاء، واستلحق واستركب وأجمع الخروج فخرج إلى الأربس سنة خمس وتسعين، فلما انتهى إليها تخوف غائلة الشيعي، وأشار عليه أهل بيته بالرجوع فرجع إلى رقادة، وقدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من وجوه أهل بيته. ثم زحف أبو عبد الله إلى باغاية ففتحها صلحا وهرب عاملها. ثم سرّب أبو عبد الله الجيوش فبلغت مجانة، وأوقعوا بقبائل نفزة، واستولوا على تيفاش. وزحف ابن أبي الأغلب إلى تيفاش فمنعه أهلها، وهزموا طلائعه فافتتحها، وقتل من كان بها. ثم خرج أبو عبد الله الشيعي في عساكر كتامة إلى باغاية ثم إلى سكاية، ثم إلى سبيبة، ثم إلى حمودة فاستولى على جميعها، وأمن أهلها ورحل ابن أبي الأغلب من الأربس. ثم سار أبو عبد الله إلى قسطيلة وقفصة فأمّنهم، ودخلوا في دعوته، وانصرف إلى باغاية، ثم إلى أنكجان. وزحف ابن أبي الأغلب إلى باغاية فقاتلها، وامتنعت عليه ورجع إلى الأربس. ثم زحف أبو عبد الله إلى الأربس سنة ست وتسعين في جمادى، ومرّ بشق بنارية، وأمن أهلها إلى قمودة . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 (خروج زيادة الله الى المشرق) ولما وصل الحبر إلى زيادة الله بوصول الشيعي إلى قمودة، حمل أمواله وأثقاله ولحق بطرابلس معتزما على الشرق. وأقبل الشيعي إلى إفريقية، وفي مقدمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، ووصل إلى رقادة في رجب سنة ست وتسعين ومائتين وتلقاه أهل القيروان وبايعوا لعبيد الله المهدي كما ذكرناه في أخبارهم ودولتهم. وأقام زيادة الله بطرابلس سبعة عشر يوما، وانصرف ومعه إبراهيم بن الأغلب، وكان نمي عنه أنه أراد الاستبداد لنفسه بالقيروان بعد خروج زيادة الله فأعرض عنه، واطرحه، وبلغ مصر فمنعه عاملها عيسى البرشدي من الدخول إلا عن أمر الخليفة، وأنزله بظاهر البلد ثمانية أيام وانصرف إلى ابن الفرات وزير المقتدر يستأذن له في الدخول فأتاه كتابه بالمقام في الرقة حتى يأتيه رأي المقتدر فأقام بها سنة. ثم جاءه كتاب المقتدر بالرجوع إلى إفريقية. وأمر النوشزي بإمداده بالرجال والمال لاسترجاع الدعوة بإفريقية، ووصل إلى مصر فأصابته بها علة مزمنة، وسقط شعره. ويقال إنه سم وخرج إلى بيت المقدس ومات بها. وتفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيامهم والبقاء للَّه وحده. والله سبحانه وتعالى أعلم. (بقية أخبار صقلّيّة ودولة بني أبي الحسن الكلبيين بها من العرب المستبدين بدعوة العبيديين وبداية أمرهم وتصاريف أحوالهم) ولما استولى عبيد الله المهدي على إفريقية ودانت له، وبعث العمال في نواحيها، بعث على جزيرة صقلّيّة الحسن بن محمد بن أبي خنزير من رجالات كتامة، فوصل إلى مأزر سنة سبع وتسعين ومائتين في العساكر، فولى أخاه على كبركيت، وولى على القضاء بصقلية إسحاق بن المنهال، ثم سار سنة ثمان وتسعين ومائتين في العساكر إلى ومش، فعاث في نواحيها ورجع. ثم شكى أهل صقلّيّة سوء سيرته وثاروا به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولى عليهم أحمد بن قهرب. وبعث سرية إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي. ثم أرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليا إلى قلعة طرمين المحدثة ليتخذها حصنا لحاشيته وأمواله، حذرا من ثورة أهل صقلّيّة، فحصرها ابنه ستة أشهر. ثم اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامة، وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه. وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى إفريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن بن أبي خنزير فقتلوه، وأحرقوا الأسطول. وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها وانتهوا إلى طرابلس. وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي ثم وصلت الخلع والألوية من المقتدر الى ابن قهرب. ثم بعث الجيش في الأسطول إلى قلورية فعاثوا في نواحيها ورجعوا. ثم بعث ثانية أسطولا إلى إفريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره، وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي. ثم ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمائة وحبسوه، وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر ابن خنزير في جماعة من خاصته. وولى على صقلّيّة أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة فركب إليها البحر فنزل في طرابنة، وعصى عليه أهل صقلّيّة بمن معه من العساكر فامتنعوا عليه، وقاتله أهل كبركيت وأهل طرابنة فهزمهم وقتلهم. ثم استأمن إليه أهل طرابنة فأمنهم وهدم أبوابها. وأمره المهدي بالعفو عنهم. ثم ولى المهدي على صقلّيّة سالم بن راشد، وأمده سنة ثلاث عشرة بالعساكر فعبر البحر إلى أرض أنكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصونا ورجعوا. ثم عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أياما ورحلوا عنها. ولم يزل أهل صقلّيّة يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلّيّة وقلورية، ويعيثون في نواحيها. وبعث المهدي سنة اثنتين وعشرين جيشا في البحر مع يعقوب بن إسحاق، فعاث في نواحي جنوة ورجعوا. ثم بعث جيشه من قابل ففتحوا مدينة جنوة، ومروا بسردانية فأحرقوا فيها مراكب وانصرفوا. ولما كانت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم. واستمد القائم فأمدّه بالعساكر مع خليل بن إسحاق، فلما وصل إلى صقلّيّة شكا إليه أهلها من سالم بن راشد واسترحمته النساء والصبيان. وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلّيّة بمثل ذلك فرق لشكواهم، ودس إليهم سالم بأن خليلا إنما جاء للانتقام منهم بمن قتلوا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 العسكر فعاودوا الخلاف، واختط خليل مدينة على مرسى المدينة، وسماها الخالصة. وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ست وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم، حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة، واجتمع أهل صقلّيّة على الخلاف، واستمدوا ملك القسطنطينية فأمدهم بالمقاتلة والطعام. واستمد خليل القائم فأمده بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلوط، وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين فارتحل عنها وحاصر كبركيت. ثم حبس عليها عسكرا للحصار مع أبي خلف بن هارون ورحل عنها، وطال حصارها إلى سنة تسع وعشرين فهرب كثير من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة. ثم غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا ورجع خليل إلى إفريقية آخر سنة تسع وعشرين وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجة البحر فغرقوا أجمعين. ثم ولى على صقلّيّة عطاف الأزدي، ثم كانت فتنة أبي يزيد، وشغل القائم والمنصور بأمره، فلما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلّيّة للحسن ابن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قواده وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محل كبير وفي مدافعة أبي يزيد غناء عظيم. وكان سبب ولايته أن أهل بليرم [1] كانوا قد استضعفوا عطافا واستضعفهم العدو لعجزه، فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين، وتولى كبر ذلك بنو الطير منهم. ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمده، فولى الحسن بن علي على صقلّيّة وركب البحر إلى مأزر، وأرسى بها فلم يلقه أحد منهم. وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير. وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه فسبق ميعادهم ودخل المدينة، ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين واضطر بنو الطير إلى لقائه، وخرج إليهم [2] كبيرهم إسماعيل ولحق به من انحرف عن بني الطير، فكثر جمعه. ودس إسماعيل بعض غلمانه، فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أن الحسن لا يعاقب مملوكه، فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل   [1] هي بلرم وقد مرت معنا في السابق. [2] مقتضى السياق: خرج إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 واستحلفه على دعواه، وقتل عبده فسر الناس بذلك، ومالوا عن الطبري وأصحابه، وافترق جمعهم وضبط الحسن أمره، وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين. وبعث ملك الروم بطريقا في البحر في عسكر كبير إلى صقلّيّة، واجتمع هو والسردغرس. واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمائة راجل، وجمع الحسن من كان عنده وسار برا وبحرا. وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها وزحف إليه الروم فصالحه على مال أخذه، وزحف إلى الروم ففروا من غير حرب. ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهرا وصالحهم على مال ورجع بالأسطول إلى مسينى فشتى بها. وجاءه أمر المنصور بالرجوع إلى قلورية فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس فهزمهم، وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة. ثم سار إلى خراجة فحاصرها حتى هادنه ملك الروم قسطنطين. ثم عاد إلى ربو [1] وبنى بها مسجدا وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأن من دخله من الأسرى أمن. ولما توفي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن، واستخلف على صقلّيّة ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية فغزاها، وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفا مددا. وبعث أحمد يستمد المعز فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن. وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة وزحفوا إلى رمطة، ومقدم الجيوش على حصارها الحسن بن عمار وابن أخي الحسن بن علي فأحاط الروم بهم. وخرج أهل البلد إليهم وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقتل جماعة من البطارقة معه. وانهزم الروم وتتبعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي. ثم فتحوا رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلّيّة وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب فحرقوا مراكبهم، وقتل كثير منهم، وتعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز، وكانت سنة أربع وخمسين وأسر فيها ألف من عظمائهم ومائة بطريق. وجاءت الغنائم والأسارى إلى مدينة بليرم، حاضرة صقلّيّة،   [1] هي ريو وقد مرت معنا في السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وخرج الحسن للقائهم، فأصابته الحمى من الفرح فمات، وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلّيّة بعد أن ولى المعز عليهم يعيش مولى الحسن فلم ينهض بالأمر، ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل، وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعز فولى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابة عن أخيه أحمد. ثم توفي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين واستبد بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلا محبا. وسار إليه سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها، وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم، فلما قاربهم خام عن اللقاء ورجع، وكان الأفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في اتباعه وأدركه فاقتتلوا، وقتل أبو القاسم في الحرب. وأهم المسلمين أمرهم فاستماتوا، وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة، ونجا بردويل إلى خيامه برأسه، وركب البحر إلى رومة. وولى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابر فرحل بالمسلمين لوقته راجعا، ولم يعرج على الغنائم. وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفا. وكان عادلا حسن السيرة. ولما ولي ابن عمه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور، وحسنت الأحوال. وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم. وتوفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وولي أخوه عبد الله فاتبع سيرة أخيه إلى أن توفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وولي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن، فأنسى بجلائله وفضائله من كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج، وعطل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمائة مع البربر والعبيد، فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله، ونفى البربر والعبيد، واستقامت أحواله. ثم انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني فثار عليه الناس بسببها، وجاءوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفة فتلطف بالناس، وسلم إليهم الباغاني فقتلوه، وقتلوه حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر، ورحل إلى مصر، وولى ابنه ابن جعفر سنة عشرة واربعمائة ولقبه بأسد الدولة بن تاج الدولة. ويعرف بالأكحل فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال، وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 فأساء ابن جعفر السيرة، وتحامل على صقلّيّة ومال إلى أهل إفريقية. وضج الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان، وأظهروا دعوته، فبعث الأسطول فيه ثلاثمائة فارس مع ولديه عبد الله وأيوب، واجتمع أهل صقلّيّة وحصروا أميرهم الأكحل، وقتل وحمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمائة. ثم ندم أهل صقلّيّة على ما فعلوه وثاروا بأهل إفريقية، وقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة وأخرجوهم. وولوا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت الأمور، وغلب السفلة على الأشراف. ثم ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدموا عليهم ابن الثمنة من رءوس الأجناد، وتلقب القادر باللَّه واستبد بمازر ابنه عبد الله قبل الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقل بملك الجزيرة إلى أن أخذت من يده. ولما استبد ابن الثمنة بصقلية تزوج ميمونة بنت الجراس، فتخيل له منها شيء فسقاها السم. ثم تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها، وأفاقت فندم واعتذر فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها، ووقعت الفتنة. وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس فانتصر ابن الثمنة بالروم. وجاء القمص وجاز ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من إخوته وجمع من الإفرنج، ووعدهم بملك صقلّيّة فداخل في بيع مية. وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى إفريقية عمر بن خلف بن مكي فنزل، وولي قضاءها. ولم يزل الروم يملكونها حتى لم يبق إلا المعاقل. وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة. وتملكها رجار كلها وانقطعت كلمة الإسلام منها ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدّتهم خمس وتسعون سنة. ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه. وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب نزهة المشارق في أخبار الآفاق [1] وسماه قصار رجار علما عليه معروفا به في الشهرة والله مقدر الليل والنهار.   [1] هو كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، صنفه لريشار الثاني صاحب صقلّيّة. قسم منه فيه صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ومعه مقدمة وترجمة وفهرس الأسماء وشرح الكلمات الاصطلاحية الموجودة فيه وكلها باللغة الفرنسية باعتناء الاستاذين دوزي ودي غويه. وسمي الكتاب صفة المغرب والسودان (معجم المطبوعات العربية) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 (الخبر عن جزيرة اقريطش وما كان بها للمسلمين من الملك على يد بني البلوطي الى أن استرجعها العدوّ) هذه الجزيرة من جزر البحر الرومي ما بين صقلّيّة وقبرس في مقابلة الإسكندرية على يد الجالية أهل الربض. وذلك أن أهل الربض الغربي من قرطبة، وكان محلة متصلة بقصر الحكم بن هشام فنقموا عليه وثاروا به سنة اثنتين ومائتين، فأوقع بهم الوقعة المشهورة واستلحمهم، وهدم ديارهم ومساجدهم، وأجلى الفلّ منهم إلى العدوة، ونزلوا بفاس وغيرها. وغرب آخرين إلى الإسكندرية فنزلوا وافترقوا في جوانبها. وتلاحى رجل منهم مع جزار من سوقة الإسكندرية فنادوا بالثأر، واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم وامتنعوا بها، وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح، من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة فقام برياستهم. وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر فزحف إليهم، وحصرهم بالإسكندرية فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى جزيرة أقريطش فعمروها وأميرهم أبو حفص البلوطي. وتداولها بنوه من بعده مدة من مائة وأربعين سنة إلى أن ملكها أريانوس بن قسطنطين ملك القسطنطينية من يد عبد العزيز بن شعيب من أعقابه سنة خمس وثلاثمائة، وأخرجوا المسلمين منها والله يعيد الكرة ويذهب آثار الكفرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (أخبار اليمن والدول الإسلامية التي كانت فيه للعباسيين والعبيديين وسائر ملوك العرب وابتداء ذلك وتصاريفه على الجملة ثم تفصيل ذلك على مدنه وممالكه واحدة بعد واحدة) قد كنا قدّمنا في أخبار السير النبويّة كيف صار اليمن في ملكة الإسلام بدخول عامله في الدعوة الإسلامية، وهو باذان عامل كسرى، وأسلم معه أهل اليمن. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على جميع مخاليفها، وكان منزله صنعاء كرسي التبابعة. ولما مات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 بعد حجة الوداع قسم النبي صلى الله عليه وسلم اليمن على عمال من قبله، وجعل صنعاء لابنه شهربان بن باذان. وذكرنا خبر الأسود العنسيّ، وكيف أخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن وزحف إلى صنعاء فملكها. وقتل شهربان بن باذان وتزوج امرأته واستولى على أكثر اليمن، وارتد أكثر أهله. وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وعماله وإلى من ثبت على إسلامه فداخلوا زوجة شهربان بن باذان التي تزوجها في أمره، على يد ابن عمها فيروز. وتولى كبر ذلك قيس بن عبد يغوث المرادي، فبيته هو وفيروز وذاذويه بإذن زوجته فقتلوه. ورجع عمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم، وذلك قبيل الوفاة. واستبدّ قيس بصنعاء وجمع الفل من جند الأسود فولى أبو بكر على اليمن فيروز فيمن إليه من الأبناء، وأمر الناس بطاعته فقاتل قيس بن مكشوح وهزمه. ثم ولّى أبو بكر المهاجر بن أبي أمية فقاتل أهل الردة باليمن، وكذلك عكرمة بن أبي جهل، وأمره أن يبدأ بالمرتدة. فسار معها وحضر حرب الجمل. وولي على اليمن عبيد الله بن عباس، ثم أخاه عبد الله. ثم ولى معاوية على صنعاء فيروز الديلميّ، ومات سنة ثلاث وخمسين. ثم جعل عبد الملك اليمن في ولاية الحجاج لما بعثه لحرب ابن الزبير سنة اثنتين وسبعين. ولما جاءت دولة بنى العبّاس، ولىّ السفاح على اليمن عمه داود بن علي حتى إذا توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ولى مكانه محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الملك عبد الدار. ثم تعاقب الولاة على اليمن، وكانوا ينزلون صنعاء حتى انتهت الخلافة إلى المأمون، وظهرت دعاة الطالبيين بالنواحي، وبايع أبو السرايا من بني شيبان بالعراق لمحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم أخو المهدي، النفس الزكية، محمد ابن عبد الله بن حسن. وكثر الهرج وفرق العمال في الجهات، ثم قتل وبويع محمد بن جعفر الصادق بالحجاز. وظهر باليمن إبراهيم بن موسى الكاظم سنة مائتين، ولم يتم أمره، وكان يعرف بالجزار لسفكه الدماء وبعث المأمون عساكره الى اليمن فدوخوا نواحيه وحملوا كثيرا من وجوه الناس فاستقام أمر اليمن كما نذكره. (دعوة زياد بالدعوة العباسية) ولما وفد وجوه أهل اليمن على المأمون، كان فيهم محمد زياد ولد عبد الله بن زياد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 أبي سفيان فاستعطف المأمون وضمن له حياطة اليمن من العلويين فوصله، وولاه على اليمن، وقدمها سنة ثلاث ومائتين. وفتح تهامة اليمن وهي البلد التي على ساحل البحر الغربي. واختط بها مدينة زبيد، ونزلها وأصارها كرسيا لتلك المملكة. وولى على الجبال مولاه جعفرا، وفتح تهامة بعد حروب من العرب. واشترط على عرب تهامة أن لا يركبوا الخيل، واستولى على اليمن أجمع. ودخلت في طاعته أعمال حضرموت والشحر وديار كندة، وصار في مرتبة التبابعة. وكان في صنعاء قاعدة اليمن بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة استبدوا بها مقيمين بالدعوة العباسية، ولهم مع صنعاء سبحان ونجران وجرش. وكان أخوهم أسعد بن يعفر، ثم أخوه قد دخلوا في طاعة ابن زياد، وولي بعده ابنه إبراهيم ثم ابنه زياد بن إبراهيم، ثم أخوه أبو الجيش إسحاق ابن إبراهيم. وطالت مدّته إلى أن أسن وبلغ الثمانين. وقال عمارة ملك ثمانين سنة باليمن وحضرموت والجزائر البحرية. ولما بلغه قتل المتوكل وخلع المستعين، واستبداد الموالي على الخلفاء مع ارتفاع اليمن ركب بالمظلة شأن سلاطين العجم المستبدين. وفي أيامه خرج باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي ابن إبراهيم بن طباطبا بدعوة الزيدية، جاء بها من السند، وكان جده القاسم قد فرّ إلى السند بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا، ومهلكه كما مرّ فلحق القاسم بالسند. وأعقب بها الحسين ثم ابنه يحيى باليمن سنة ثمان وثمانين، ونزل صعدة وأظهر دعوة الزيدية، وزحف إلى صنعاء فملكها من يد أسعد بن يعفر، ثم استردّها منه بنو أسعد ورجع إلى صعدة. وكان شيعته يسمونه الإمام، وعقبه الآن بها. وقد تقدّم خبرهم. وفي أيام أبي الجيش بن زياد أيضا ظهرت دعوة العبيديين باليمن، فأقام بها محمد بن الفضل بعدن لاعة وجبال اليمن إلى جبال المديحرة سنة أربعين وثلاثمائة. وبقي له باليمن من السرجة إلى عدن عشرون مرحلة، ومن مخلافة الى صنعاء خمس مراحل. ولما غلبه محمد بن الفضل بهذه الدعوة امتنع أصحاب الأطراف عليه، مثل بني أسعد بن يعفر بصنعاء، وسليمان بن طرف بعثر، والإمام الرسي بصعدة فسلك معهم طريق المهادنة. ثم هلك أبو الجيش سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة بعد أن اتسعت جبايته وعظم ملكه. قال ابن سعيد: رأيت مبلغ جبايته وهو ألف ألف مكررة مرتين، وثلاثمائة ألف وستة وستون ألفا من الدنانير العشرية ما عدا ضرابية على مراكب السند، وعلى العنبر الواصل بباب المندب وعدن أبين، وعلى مغائص اللؤلؤ، وعلى جزيرة دهلك، ومن بعضها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وصائف. وكانت ملوك الحبشة من وراء البحر يهادونه ويخطبون مواصلته. ولما مات خلف صبيا صغيرا اسمه عبد الله، وقيل إبراهيم وقيل زياد، وكفلته أخته ومولاه رشيد الحبشي واستبد عليهم إلى أن انقرضت دولتهم سنة سبع وأربعمائة. ثم هلك هذا الطفل، فولوا طفلا آخر من بني زياد أصغر منه، وقال ابن سعيد: لم يعرف عمارة اسمه لتوالي الحجبة عليه، ويعني عمارة مؤرخ اليمن، وقيل هذا الطفل الأخير اسمه إبراهيم، وكفلته عمته ومرجان من موالي الحسن بن سلامة. واستبد بأمرهم ودولتهم، وكان له موليان اسم أحدهما قيس، والآخر نجاح، فجعل الطفل المملك في كفالته وأنزله معه بزبيد. وولى نجاحا على سائر الأعمال خارج زبيد ومنها الكرارة واللجم. كان يؤثر قيسا على نجاح، ووقع بينهما تنافر، ورفع لقيس أن عمة الطفل تميل إلى نجاح وتكاتبه دونه فقبض عليها بإذن مولاه مرجان ودفنها حية، واستبد وركب بالمظلة، وضرب السكة. وانتقض نجاح لذلك فزحف في العساكر وبرز قيس للقائه، فكانت بينهما حروب ووقائع، انهزم قيس في آخرها وقتل في خمسة آلاف من عسكره. وملك نجاح زبيد سنة عشرة وأربعمائة ودفن قيسا ومولاه مرجانا مكان الطفل والعمة، واستبد وضرب السكة باسمه. وكاتب ديوان الخلافة ببغداد فعقد له على اليمن. ولم يزل مالكا لتهامة قاهرا لأهل الجبال، وانتزع الجبال كلها من مولاه الحسن بن سلامة. ولم تزل الملوك تتقي صولته إلى أن قتله علي الصليحي القائم بدعوة العبيديين على يد جارية بعث بها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فقام بالأمر بعده بزبيد مولاه كهلان. ثم استولى الصليحي على زبيد وملكها من يده كما يذكر. (الخبر عن بني الصليحي القائمين بدعوة العبيديين باليمن) كان القاضي محمد بن علي الهمدانيّ ثم الصليحي رئيس حران من بلاد همذان، وينتسب في بني يام، ونشأ له ولد اسمه علي، وكان صاحب الدعوة يومئذ عامر بن عبد الله الزوايي نسبة إلى زواية من قرى حران، ويقال إنه كان عنده كتاب لجعفر من ذخائر أبيهم بزعمهم، فزعموا أن علي ابن القاضي محمد مذكور فيه، فقرأ على علي عامل ابن خلدون م 18 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 الداعي، وأخذ عنه. ولما توسم فيه الأهلية أراه مكان اسمه في الجفر وأوصافه. وقال لأبيه القاضي احتفظ بابنك فيملك جميع اليمن. ونشأ فقيها صالحا، وجعل يحج بالناس على طريق الطائف والسروات خمس عشرة سنة فطار ذكره، وعظمت شهرته، وألقى على ألسنة الناس أنه سلطان اليمن. ومات الداعي عامر الزوايي، فأوصى له بكتبه، وعهد إليه بالدعوة. ثم حج بالناس سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على عادته، واجتمع بجماعة من قومه همذان كانوا معه، فدعاهم إلى النصرة والقيام معه فأجابوه وبايعوه، وكانوا ستين رجلا من رجالات قومهم، فلما عادوا قام في مسار وهو حصن بذروة جبل حمام، وحصن ذلك الحصن، ولم يزل أمره ينمى. وكتب إلى المستنصر صاحب مصر يسأله الإذن في إظهار الدعوة فأذن له، وأظهرها وملك اليمن كله. ونزل صنعاء واختط بها القصور وأسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم، وهزم بني طرف ملوك عثرة وتهامة، وأعمل الحيلة في قتل نجاح مولى بني زياد ملك زبيد، حتى تم له ذلك على يد جارية أهداها إليه كما ذكرناه سنة اثنتين وخمسين. ثم سار إلى مكة بأمر المستنصر صاحب مصر ليمحو منها الدعوة العباسية والإمارة الحسنية. واستخلف على صنعاء ابنه المكرم أحمد، وحمل معه زوجته أسماء بنت شهاب، قد سباها سعيد بن نجاح ليلة البيات فكتبت إلى ابنها المكرم أني حبلى من العبد الأحول فأدركني قبل أن أضع، وإلا فهو العار الّذي لا يمحوه الدهر، فسار المكرم من صنعاء سنة خمس وسبعين في ثلاثة آلاف، ولقي الحبشة في عشرين ألفا فهزمهم. ولحق سعيد بن نجاح بجزيرة دهلك، ودخل المكرم إلى أمه وهي جالسة بالطاق الّذي عنده رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما ورفع السيف. وولى خاله أسعد بن شهاب على أعمال تهامة كما كان، وأنزله بزبيد منها، وارتحل بأمه إلى صنعاء وكانت تدبر ملكه. ثم جمع أسعد بن شهاب أموال تهامة وبعث بها مع وزيره أحمد بن سالم ففرقتها أسماء على وفود العرب. ثم هلكت أسماء سنة سبع وسبعين واربعمائة، وخرجت زبيد من يد المكرم، واستردها سعيد بن نجاح سنة تسع وسبعين واربعمائة، ثم انتقل المكرم إلى ذي جبلة سنة ثمانين واربعمائة، وولى على صنعاء عمران بن الفضل الهمدانيّ فاستبدّ بها، وتوارثها عقبه، وتسمى ابنه أحمد باسم السلطان واشتهر به، وبعده ابنه حاتم بن أحمد، وليس بعده بصنعاء من له ذكر حتى ملكها بنو سليمان لما غلبهم الهواشم على مكة كما مر في أخبارهم. ولما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 انتقل المكرم إلى ذي جبلة وهي مدينة اختطها عبد الله بن محمد الصليحي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان انتقاله بإشارة زوجه سيدة بنت أحمد التي صار إليها تدبير ملكه بعد أمه أسماء فنزلها، وبنى فيها دار العز، وتحيل على قتل سعيد بن نجاح فتم له كما نذكر في أخبار ابن نجاح. وكان مشغولا بلذاته محجوبا بزوجته. ولما حضرته الوفاة سنة أربع وثمانين عهد إلى ابن عمه المنصور بن أحمد المظفر بن علي الصليحي صاحب معقل أشيح، وأقام بمعقله وسيدة بنت أحمد بذي جبلة، وخطبها المنصور سبا وامتنعت منه فحاصرها بذي جبلة، وجاءها أخوها لأمها سليمان بن عامر وأخبرها أن المستنصر زوجك منه، وأبلغها أمره بذلك، وتلا عليها: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ من أَمْرِهِمْ» 33: 36. وأن أمير المؤمنين زوجك من الداعي المنصور أبي حمير سبا بن أحمد بن المظفر على مائة ألف دينار، وخمسين ألفا من أصناف التحف واللطائف فانعقد النكاح، وسار إليها من معقل أشيح إلى ذي جبلة، ودخل إليها بدار العز، ويقال إنها شبهت بجارية من جواريها فقامت على رأسه ليلها كله، وهو لا يرفع الطرف اليها حتى أصبح فرجع إلى معقلة. وأقامت هي بذي جبلة. وكان المتولي عليها المفضل بن أبي البركات من بني تام رهط الصليحي، واستدعى عشيرته جنيا. وأنزلهم عنده بذي جبلة فكان يسطو بهم. وكانت سيدة تأتي التعكر في الصيف، وبه ذخائرها وخزائنها، فإذا جاء الشتاء رجعت إلى ذي جبلة. ثم انفرد المفضل لقتال نجاح فرتب في حصن التعكر فقيها يلقب بالجمل، مع جماعة من الفقهاء أحدهم إبراهيم بن زيد بن عمر عمارة الشاعر، فبايعوا الجمل على أن يمحو الدعوة الإمامية فرجع المفضل من طريقه وحاصرهم، وجاءت خولان لنصرتهم، وضايقهم المفضل وهلك في حصارهم سنة أربع وخمسمائة، فجاءت بعده الحرة سيدة وأنزلتهم على عهد فنزلوا، ووفت لهم به وكفلت عقب المفضل وولده. وصار معقل التعكر في يد عمران بن الذر الخولانيّ وأخيه سليمان. واستولى عمران على الحرة سيدة مكان المفضل. ولما ماتت استبد عمران وأخوه بحصن التعكر، واستولى منصور بن المفضل بن أبي البركات على ذي جبلة حتى باعه من الداعي الذريعي صاحب عدن كما يأتي، واعتصم بمعقل أشيح الّذي كان للداعي المنصور سبا بن أحمد، وذلك أن المنصور توفي سنة ست وثمانين وأربعمائة، واختلف أولاده من بعده، وغلب ابنه علي منهم على المعقل، وكان ينازع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 المفضل بن أبي البركات والحرة سيدة، وأعياهما أمره، فتحيل المفضل بسم أودعه سفرجلا أهداه إليه فمات منه، واستولى بنو أبي البركات على بني المظفر في أشيح وحصونه، ثم باع حصن ذي جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار. ولم يزل يبيع معاقلة حصنا حصنا حتى لم يبق له غير معقل تعز، أخذه منه علي بن مهدي بعد أن ملك ثمانين سنة، وبلغ من العمر مائة سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (الخبر عن دولة بني نجاح بزبيد موالي بني زياد ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم) ولما استولى الصليحي على زبيد من يد كهلان بعد أن أهلكه بالسم على يد الجارية التي بعثها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة كما مرّ. وكان لنجاح ثلاثة من الولد معارك وسعيد وجياش، فقتل معارك نفسه، ولحق سعيد وجياش بجزيرة دهلك وأقاما هنالك يتعلمان القرآن والآداب. ثم رجع سعيد إلى زبيد مغاضبا لأخيه جياش، واختفى بها في نفق احتفره تحت الأرض. ثم استقدم أخاه جياشا فقدم وأقاما لك في الاختفاء. ثم إن المستنصر العبيدي الخليفة بمصر قطع دعوته بمكة محمد بن جعفر أميرها من الهواشم، فكتب إلى الصليحي يأمره بقتاله وحمله على إقامة الدعوة العلوية بمكة، فسار علي الصليحي لذلك من صنعاء، وظهر سعيد وأخوه من الاختفاء وبلغ خبرهم الصليحي فبعث عسكرا نحوا من خمسة آلاف فارس، وأمرهم بقتلهما. وقد كان سعيد وجياش خالفا العسكر وسارا في اتباع الصليحي وهو في عساكره فبيتوه في اللجم وهو متوجه إلى مكة فانتقض عسكره وقتل. وتولى قتله جياش بيده سنة ثلاث وسبعين واربعمائة ثم قتل عبد الله الصليحي أخا عليّ في مائة وسبعين من بني الصليحي، وأسر زوجته أسماء بنت عمه شهاب في مائة وخمس وثلاثين من ملوك القحطانيين الذين غلبوا باليمن. وبعث إلى العسكر الذين ساروا لقتل سعيد وجياش فأمنهم واستخدمهم، ورحل إلى زبيد وعليها أسعد بن شهاب أخو زوجة الصليحي، ففرّ أسعد إلى صنعاء ودخل سعيد إلى زبيد، وأسماء زوجة الصليحي أمامه في هودج، ورأس الصليحي وأخيه عند هودجها. وأنزلها بدارها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 ونصب الرأسين قبالة طاقها في الدار. وامتلأت القلوب منه رعبا، وتلقب نصير الدولة، وتغلب ولاة الحصون على ما بأيديهم. ودس المكرم بن الصليحي بن سعيد ابن نجاح بصنعاء على لسان بعض أهل الثغور، وضمن له الظفر، فجاء سعيد لذلك في عشرين ألفا من الحبشة. وسار إليه المكرم من صنعاء وهزمه وحال بينه وبين زبيد فهرب إلى جزيرة دهلك، ودخل المكرم زبيد وجاء إلى أمه وهي جالسة بالطاق وعندها رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما. وولى على زبيد خاله أسعد سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وكتب المكرم إلى عبد الله بن يعفر صاحب حصن الشعر بأن يغري سعيدا بالمكرم، وانتزاع ذي جبلة من يده لاشتغاله بلذاته، واستيلاء زوجه سيدة بنت أحمد عليه. وأنه بلخ فتمّت الحيلة فسار سعيد في ثلاثين ألفا من الحبشة وأكمن له المكرم تحت حصن الشعر فثاروا به هنالك. وانهزمت عساكره وقتل ونصب رأسه عند الطاق الّذي كان فيها رأس الصليحي بزبيد. واستولى عليها المكرم وانقطع منها ملك الحبشة. وهرب جياش ومعه وزير أخيه خلف بن أبي الظاهر المرواني، ودخلا عدن متنكرين. ثم لحقا بالهند وأقاما بها ستة أشهر، ولقيا هنالك كاهنا جاء من سمرقند فبشرهما بما يكون لهما فرجعا الى اليمن، وتقدم خلف الوزير إلى زبيد، وأشاع موت جياش واستأمن لنفسه، ولحق جياش فأقاما هنالك مختفيين، وعلى زبيد يومئذ أسعد بن شهاب خال المكرم ومعه علي بن القم وزير المكرم، وكان حنقا على المكرم ودولته، فداخله الوزير خلف ولاعب ابنه الحسين الشطرنج. ثم انتقل إلى ملاعبة أبيه فاغتبط به، وأطلعه على رأيه في الدولة، وكان يتشيع لآل نجاح. وانتمى بعض الأيام وهو يلاعب، فسمعه علي بن القم واستكشف أمره، فكشف له القناع واستحلفه، وجياش أثناء ذلك يجمع أشياعه من الحبشة، وينفق فيهم الأموال حتى اجتمع له خمسة آلاف، فثار بهم في زبيد سنة اثنتين وثمانين واربعمائة ونزل دار الإمارة ومن على أسعد بن شهاب وأطلقه لزمانة وكانت به. وبقي ملكا على زبيد يخطب للعباسيين والصليحيون يخطبون للعبيديين، والمكرم يبعث العرب للغارة على زبيد كل حين إلى أن هلك جياش على رأس المائة الخامسة، وكانت كنيته ابن القطاي. وكان موصوفا بالعدل. وولي بعده ابنه الفاتك صبيا لم يحتلم، ودبروا ملكه. وجاء عمه إبراهيم لقتاله، وبرزوا له فثار عبد الواحد بالبلد، وبعث منصور إلى الفضل بن أبي البركات صاحب التعكر فجاء لنصره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 مضمرا للغدر به. ثم بلغه انتقاض أهل التعكر عليه فرجع، ولم يزل منصور في ملكه بزبيد إلى أن وزر له أبو منصور عبيد الله فقتله مسموما سنة سبع عشرة وخمسمائة، ونصب فاتكا ابنه طفلا صغيرا. واستبد عليه، وقام بضبط الملك وهان عليه التعرض لآل نجاح حتى هربت منه أم فاتك هذا، وسكنت خارج المدينة، وكان قرما شجاعا، وله وقائع مع الأعداء. وحاربه ابن نجيب داعي العلوية فامتنع عليه، وهو الّذي شيد المدارس للفقهاء بزبيد واعتنى بالحاج. ثم راود مفارك بنت جياش، ولم تجد بدّا من إسعافه فأمكنته حتى إذا قضى وطره مسحت ذكره بمنديل مسموم فنثر لحمه. وذلك سنة أربع وعشرين وخمسمائة. وقام بأمر فاتك بعده زريق من موالي نجاح. قال عمارة: كان شجاعا فاتكا قرما، وكان من موالي أم فاتك المخصين بها. قال عمارة: وفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة توفي فاتك بن المنصور، وولي بعده ابن عمه وسميه فاتك بن محمد بن فاتك، وسرور قائم بوزارته وتدبير دولته ومحاربة أعدائه. وكان يلازم المسجد إلى أن دس عليه علي بن مهدي الخارجي من قتله في المسجد وهو يصلي العصر يوم الجمعة ثاني عشر صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وثار السلطان بالقاتل فقتل جماعة من أهل المسجد، ثم قتل واضطرب موالي نجاح بالدولة وثار عليهم ابن مهدي الخارجي وحاربهم مرارا، وحاصرهم طويلا واستعانوا بالشريف المنصور أحمد بن حمزة السليماني، كان يملك صعدة فأغاثهم على أن يملكوه ويقتلوا سيدهم فاتك بن محمد، فقتلوه سنة ثلاث وخمسين، وملكوا عليهم الشريف أحمد، فعجز عن مقاومة ابن مهدي، وفرّ تحت الليل، وملكها علي بن مهدي سنة أربع وخمسين وخمسمائة وانقرض أمر آل نجاح والملك للَّه. (الخبر عن دولة بني الزريع بعدن من دعاة العبيديين باليمن وأولية أمرهم ومصايره) وعدن هذه من أمنع مدائن اليمن، وهي على ضفة البحر الهندي. وما زالت بلد تجارة من عهد التبابعة، وأكثر بنائهم بالأخصاص، ولذلك يطرقها تجار الحرير كثيرا، وكانت صدر الإسلام دار ملك لبني معن ينتسبون إلى معن بن زائدة، ملكوها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 أيام المأمون، وامتنعوا على بني زياد، قنعوا منهم بالخطبة والسكة. ولما استولى الداعي علي بن محمد الصليحي رعى لهم ذمام العروبية، وقرر عليهم ضريبة يعطونها. ثم أخرجهم منها ابنه أحمد المكرم. وولّى عليها بني المكرم من عشيرة جسم ابن يام من همذان، وكانوا أقرب عشائره إليه، فأقامت في ولايتهم زمنا. ثم حدثت بينهم الفتنة وانقسموا إلى فئتين بني مسعود بن المكرم وبني الزريع بن العباس بن المكرم. وغلب بنو الزريع بعد حروب عظيمة. قال ابن سعيد: وأول مذكور منهم الداعي بن أبي السعود بن الزريع، أول من اجتمع له الملك بعد بني الصليحي، وورثه عنه بنوه، وحاربه ابن عمه علي بن أبي الغارات بن مسعود بن المكرم صاحب الزعازع، فاستولى على عدن من يده بعد مقاساة ونفقات في الأعراب. ومات بعد فتحها بسبعة أشهر سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وولي ابنه الأغر وكان مقيما بحصن الدملوة المعقل الّذي لا يرام. وامتنع عليه بعده ابن بلال بن الزريع من مواليه، وخشي محمد بن سبا على نفسه ففرّ إلى منصور بن المفضل من ملوك الجبال الصليحيين بذي جبلة. ثم مات الأغر قريبا فبعث بلال عن محمد بن سبا فوصل إلى عدن، وكان التقليد جاء من مصر باسم الأغر، فكتب مكانه محمد بن سبا وكان نعوته الداعي المعظم المتوج المكنى بسيف أمير المؤمنين فوقعت كلها عليها. وزوجه بلال بنته ومكنه من الأموال التي كانت في خزائنه. ثم مات بلال عن مال عظيم، وورثه محمد بن سبا وأنفقه في سبيل الكرم المروءات. واشترى حصن ذي جبلة من منصور بن المفضل بن أبي البركات كما ذكرناه. واستولى عليه وهو دار ملك الصليحيين، وتزوج سيدة بنت عبد الله الصليحي، وتوفي سنة ثمان وأربعين. وولي ابنه عمران بن محمد بن سبا. وكان ياسر بن بلال يدبر دولته، وتوفي سنة ستين وخمسمائة، وترك ولدين صغيرين، وهما محمد وأبو السعود فحبسهما ياسر بن بلال في القصر، واستبد بالأمر. وكان ياسر محمد كثير العطية للشعراء ومن وفد عليه ومدحه ابن قلاقس شاعر الإسكندرية ومن قصائده في مدحه: سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا وهو آخر ملوك الزريعيين. ولما دخل سيف الدولة أخو صلاح الدين إلى اليمن سنة ست وستين وستمائة، واستولى عليها جاء إلى عدن فملكها وقبض على ياسر بن بلال، وانقطعت دولة بني زريع. وصار اليمن للمعز، وفيه ولاتهم بنو أيوب كما نذكر في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 أخبارهم. وكانت مدينة الجدة قرب عدن اختطها ملوك الزريعيين، فلما جاءت دولة بنى أيوب تركوها ونزلوا تعز من الجبال كما يأتي ذكره. (أخبار ابن مهدي الخارجي وبنيه وذكر دولتهم باليمن وبدايتها وانقراضها) هذا الرجل من أهل العثرة من سواحل زبيد، وهو علي بن مهدي الحميري. كان أبوه مهدي معروفا بالصلاح والدين، ونشأ ابنه على طريقته فاعتزل ونسك. ثم حج ولقي علماء العراق وأخذ الوعظ من وعاظهم، وعاد إلى اليمن واعتزل ولزم الوعظ. وكان حافظا فصيحا، ويخبر بحوادث أحواله فيصدق، فمال إليه الناس واغتبطوا به، وصار يتردّد للحج سنة إحدى وستين، ويعظ الناس في البوادي. فإذا حضر الموسم ركب على نجيب له ووعظ الناس ولما استولت أم فاتك على بني جياش أيام ابنها فاتك بن منصور، أحسنت فيه المعتقد وأطلقت له ولقرابته وأصهاره خرجهم فحسنت أحوالهم، وآثروا وركبوا الخيول. وكان يقول في وعظه: دنا الوقت! يشير إلى وقت ظهوره. واشتهر ذلك عنه، وكانت أم فاتك تصل أهل الدولة عنه، فلما ماتت سنة خمس وأربعين جاءه أهل الجبال وحالفوه على النصرة. وخرج من تهامة سنة ثمان وثلاثين وقصد الكودا فانهزم وعاد إلى الجبال، وأقام إلى سنة إحدى وأربعين. ثم أعادته الحرّة أم فاتك إلى وطنه، وماتت سنة خمس وأربعين فخرج إلى هوازن، ونزل ببطن منهم يقال له حيوان في حصن يسمى الشرف، وهو حصن صعب ليس يرتقي على مسيرة يوم من سفح الجبل، في طريقه أو عار في واد ضيق عقبة كئود. وأصحابه سماهم الأنصار، وسمى كل من صعد معه من تهامة المهاجرين. وأمر للأنصار رجلا اسمه سبا وللمهاجرين آخر اسمه شيخ الإسلام واسمه النوبة واحتجب عمن سواهما. وجعل يشن الغارات على أرض تهامة، وأعانه على ذلك خراب النواحي بزبيد فأخرب سابلتها ونواحيها، وانتهى إلى حصن الداثر على نصف مرحلة من زبيد، وأعمل الحيل في قتل مسرور مدبر الدولة فقتل كما مرّ، وأقام يخيف زبيد بالزحوف. قال عمارة: زاحفها سبعين زحفا، وحاصرها طويلا، واستمدوا الشريف أحمد بن حمزة السليماني صاحب صعدة فأمدهم وشرط عليهم قتل سيدهم فاتك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 فقتلوه سنة ثلاث وخمسين. وملك عليهم الشريف ثم عجز وهرب عنهم. واستولى علي بن مهدي عليها في رجب سنة أربع وخمسين، ومات لثلاثة أشهر من ولايته. وكان يخطب له بالإمام المهدي أمير المؤمنين. وقامع الكفرة والملحدين، وكان على رأي الخوارج يتبرأ من علي وعثمان ويكفر بالذنوب، وله قواعد وقواميس في مذهبه يطول ذكرها. وكان يقتل على شرب الخمر. قال عمارة: كان يقتل من خالفه من أهل القبلة، ويبيح نساءهم وأولادهم، وكانوا يعتقدون فيه العصمة، وكانت أموالهم تحت يده ينفقها عليهم في مؤنهم ولا يملكون معه مالا ولا فرسا ولا سلاحا. وكان يقتل المنهزم من أصحابه ويقتل الزاني وشارب الخمر وسامع الغناء، ويقتل من تأخر عن صلاة الجماعة ومن تأخر عن وعظه يوم الإثنين والخميس. وكان حنفيا في الفروع. ولما توفي تولى بعده ابنه عبد النبي، وخرج من زبيد واستولى على اليمن أجمع، وبه يومئذ خمس وعشرون دولة فاستولى على جميعها ولم يبق له سوى عدن ففرض عليها الجزية. ولما دخل شمس الدولة تور شاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة ست وستين وخمسمائة، واستولى على الدولة التي كانت باليمن، فقبض على عبد النبي وامتحنه وأخذ منه أموالا عظيمة، وحمله إلى عدن فاستولى عليها. ثم نزل زبيد واتخذها كرسيا لملكه. ثم استوخمها وسار في الخيال ومعه الأطباء يتخير مكانا صحيح الهواء ليتخذ فيه سكناه، فوقع اختيارهم على مكان تعز، فاختط به المدينة ونزلها. وبقيت كرسيا لملكه وبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكر في أخبارهم. وبانقراض دولة بني المهدي انقرض ملك العرب من اليمن وصار للغز ومواليهم. (قواعد اليمن) (ولنذكر الآن) طرفا من الكلام على قواعد اليمن ومدته واحدة واحدة كما أشار إليه ابن سعيد (اليمن) من جزيرة العرب يشتمل على كراسي سبعة للملك تهامة والجبال، وفي تهامة مملكتان: مملكة زبيد ومملكة عدن. ومعنى تهامة ما انخفض من بلاد اليمن مع ساحل البحر من البرين من جهة الحجاز إلى آخر أعمال عدن دورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 البحر الهندي. قال ابن سعيد: وجزيرة العرب في الإقليم الأول ويحيط بها البحر الهندي من جنوبها، وبحر السويس من غربها، وبحر فارس من شرقها. وكانت اليمن قديما للتبابعة وهي أخصب من الحجاز، وأكثر أهلها القحطانية، وفيها من عرب وائل وملكها لهذا العهد لبني رسول موالي بني أيوب، ودار ملكهم تعز، بعد أن نزلوا الحرة أولا وبصعدة من اليمن أئمة الزيدية، وبزبيد وهي مملكة اليمن شمالها الحجاز وجنوبها البحر الهندي وغربها بحر السويس، اختطها محمد بن زياد أيام المأمون سنة أربع ومائتين. وهي مدينة مسورة تدخلها عين جارية، تحلها الملوك. وعليها غيطان يسكنونها أيام الغلة، وهي الآن من ممالك بني رسول، وبها كان ملك بني زياد ومواليهم، ثم غلب عليها بنو الصليحي وقد مر خبرهم. (عثر وحلى والسرجة) من أعمال زبيد في شمالها، وتعرف بأعمال ابن طرف، مسيرة سبعة أيام في يومين من السرجة إلى حلى، ومكة ثمانية أيام. وعثر هي منبر الملك وهي على البحر، وكان سليمان بن طرف ممتنعا بها على أبي الجيش بن زياد. وكان مبلغ ارتفاعه خمسمائة ألف دينار، ثم دخل في طاعته وخطب له وحمل المال. ثم صارت هذه المملكة للسليمانيين من بني الحسن من أمراء مكة حين طردهم الهواشم عن مكة. وكان غالب ابن يحيى منهم يؤدي الإتاوة لصاحب زبيد وبه استعان محمد مفلح الفاتكي من سرور. ثم هلك بعدها. ثم عيسى بن حمزة من بنيه. ولما ملك الغز اليمن، أخذ يحيى أخو عيسى أسيرا وسيق إلى العراق فحاول عليه عيسى فتخلصه من الأسر. ورجع إلى اليمن فقتل أخاه عيسى وولى مكانه المهجم من أعمال زبيد على ثلاثة مراحل عليها، وعربها من العسيرة من حكم وجعفر قبيلتين منهم. ويجلب منها الزنجبيل. (السرير) آخر أعمال تهامة من اليمن وهي على البحر دون سور، وبيوتها أخصاص وملكها راجح بن قتادة سلطان مكة أعوام الخمسين وستمائة. وله قلعة على نصف مرحلة منها. (الزرائب) من الأعمال الشمالية من زبيد، وكانت لابن طرف واجتمع له فيها عشرون ألفا من الحبشة الذين معه جميعا. وقال ابن سعيد في أعمال زبيد والأعمال التي في الطريق الوسطى بين البحر والجبال. وهي في خط زبيد في شماليها، وهي الجادة إلى مكة. قال عمارة: هي الجادة السلطانية منها إلى البحر يوم أو دونه، وكذلك إلى الجبال. ويجتمع الطريقان الوسطى والساحلية في السرير ويفترقان. (عدن) من ممالك اليمن في جوف زبيد وهي كرسي عملها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 وهي على ضفة البحر الهندي. وكانت بلد تجارة منذ أيام التبابعة، وبعدها عن خط الاستواء ثلاث عشرة درجة، ولا تنبت زرعا ولا شجرا ومعاشهم السمك، وهي ركاب الهند من اليمن وأول ملكها لبني معن بن زائدة، استقاموا لبني زياد وأعطوهم الإتاوة. ولما ملك الصليحيون أقرهم الداعي. ثم أخرجهم ابنه أحمد المكرم وولاها بني المكرم من جشم بن يام رهطه بهمدان، وصفا الملك فيها لبني الزريع منهم، وقنع منهم بالإتاوة حتى ملكها من أيديهم شمس الدولة بن أيوب كما تقدم. (عدن أبين) من بينات المدن وهي إلى جهة الشحر. (الزعزاع) باودية ابن أيوب عدن، وكانت لبني مسعود بن المكرم المقارعين لبني الزريع (الجوة) اختطها ملوك الزريعيين قرب عدن، ونزلها بنو أيوب ثم انتقلوا إلى تعز. (حصن ذي جبلة) من حصون مخلاف جعفر اختطه عبد الله الصليحي أخو الداعي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وانتقل إليه ابنه المكرم من حصن صنعاء. وزوجه سيدة بنت أحمد المستبدة عليه، وهي التي تحكمت سنة ثمانين. ومات المكرم وقد فوض الأمر في الملك والدعوة إلى سبا بن أحمد بن المظفر الصليحي، وكان في معقل أشيح، وكانت تستظهر بقبيل جنب، وكانوا خاملين في الجاهلية فظهروا بمخلاف جعفر. ثم وصل من مصر ابن نجيب الدولة داعيا ونزل مدينة جند، واعتضد بهمذان فحاربته السيدة بجنب وخولان إلى أن ركب البحر وغرق. وكان يتولى أمورها المفضل ابن أبي البركات بعد زوجها المكرم، واستولى عليها (التعكر) من مخلاف جعفر، كان لبني الصليحي، ثم لسيدة من بعدهم ثم طلبه منها المفضل بن أبي البركات فسلمته إليه، وأقام فيه إلى أن سار إلى زبيد وحاصر فيها بني نجاح، وطالت غيبته فثار بالتعكر جماعة من الفقهاء وقتلوا نائبة وبايعوا لإبراهيم بن زيدان منهم، وهو عمارة الشاعر. واستظهروا بخولان فرجع المفضل وحاصرهم كما ذكرنا ذلك من قبل. (حصن خدد) كان لعبد الله بن يعلي الصليحي وهو من مخلاف جعفر، وكان المفضل قد أدخل من خولان في حصون المخلاف عددا كثيرا في بني بحر وبني منبه ورواح وشعب. فلما مات المفضل وفي كفالته سيدة كما مرّ، وثب مسلم بن الذر من خولان في حصن خدد وملكه من يد عبد الله بن يعلى الصليحي، ولحق عبد الله بحصن مصدود ورشحته سيدة لمكان المفضل، واستخلصته الدولة من مدينة الجند ومن اليمن بأمرها. (حصن مصدود) : من حصون مخلاف جعفر وهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 خمسة: [1] ذو جبلة والتعكر وحصن خدد. ولما غلبت خولان على حصن خدد من يد عبد الله الصليحي، ولحق بحصن مصدود واستولى عليه منهم زكريا بن شكير البحري، وكان بنو الكردي من حمير ملوكا قبل بني الصليحي باليمن، وانتزع بنو الصليحي ملكهم، وكان لهم مخلاف بحصونه ومخلاف مغافر ومخلاف الجند، وحصن سمندان. ثم استقرت لمنصور بن المفضل بن أبي البركات وباعها من بني الزريع كما مرّ. (صنعاء) قاعدة التبابعة قبل الإسلام، وأول مدينة اختطت باليمن، وبنتها فيما يقال عاد، وكانت تسمى أوال من الأولية بلغتهم. وقصر غمدان قريب منها أحد البيوت السبعة، بناه الضحّاك باسم الزهرة، وحجّت إليه الأمم، وهدمه عثمان. وصنعاء أشهر حواضر اليمن، وهي فيما يقال معتدلة، وكان فيها أول المائة الرابعة بنو يعفر من التبابعة ودار ملكهم كحلان، ولم يكن لها نباهة في الملك إلى أن سكنها بنو الصليحى وغلب عليها الزيدية، ثم السليمانيون من بعد بني الصليحي. (قلعة كحلان) من أعمال صنعاء لبني يعفر من التبابعة بناها قرب صنعاء إبراهيم وكانت له صعدة ونجران. واعتصم بنو يعفر بقلعة كحلان، وقال البيهقي: سيد قلعة كحلان أسعد بن يعفر، وحارب بني الرسي وبني زياد أيام أبي الجيش. (حصن الصمدان) من أعمال صنعاء كانت فيه خزائن بني الكردي الحميريين إلى أن ملكه علي الصليحي ورد عليهم المكرم بعض حصونهم إلى أن انقرض أمرهم على يد علي ابن مهدي. وكان لهم مخلاف [2] جعفر الّذي منه مدينة ذي جبلة، ومعقل التعكر وهو مخلاف الجند، ومخلاف معافر مقرّ ملكهم السمدان وهو أحصن من الدولة. (قلعة منهاب) من قلاع صنعاء بالجبال ملكها بنو زريع واستبدّ بها منهم الفضل ابن علي بن راضي بن الداعي محمد بن سبا بن زريع، نعته صاحب الجزيرة بالسلطان، وقال: كانت له قلعة منهاب وكان حيا سنة ست وثمانين وخمسمائة، وصارت بعده لأخيه الأغر أبي علي (جبل الدبجرة) وهو بقرب صنعاء وقد اختط جعفر مولى بني زياد سلطان اليمن مخلاف جعفر فنسب إليه. (عدن لاعة) بجانب الدبجرة، أول موضع ظهرت فيه دعوة الشيعة باليمن، ومنها محمد   [1] ذكر اربعة وهي خمسة والظاهر ان الخامس هو حصن مصدود. [2] في لسان العرب: وقال الليث: يقال فلان من مخلاف كذا وكذا وهو عند اليمن كالرستاق والجمع مخاليف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 ابن المفضل الداعي. ووصل إليها أبو عبد الله الشيعي صاحب الدعوة بالمغرب. وفيها قرأ على علي بن محمد الصليحي صبيا وهي دار دعوة اليمن. كان محمد بن المفضل داعيا على عهد أبي الجيش بن زياد وأسعد بن يعفر. (بيجان) ذكرها عمارة في المخاليف الجبلية وملكها نستوان بن سعيد القحطاني. (تعمر) من أجلّ معاقل الجبال المطلة على تهامة، ما زال حصنا للملوك، وهو اليوم كرسي لبني رسول ومعدود في الأمصار، وكان به من ملوك اليمن منصور بن المفضل بن أبي البركات، وبنو المظفر، وورثها عنه ابنه منصور ثم باعها حصنا حصنا من الداعي بن المظفر والداعي الزريعي، إلى أن بقي بيده حصن تعمر فأخذه منه ابن مهدي. (معقل أشيح) من أعظم حصون الجبال وفيه خزائن بني المظفر من الصليحيين صارت له بعهد المكرم ابن عمه صاحب ذي جبلة، وقلده المستنصر الدعوة وتوفي سنة ست وثمانين وأربعمائة. وغلب ابنه عليّ على معقل الملك أشيح. وأعيا المفضل أمره إلى أن تحيل عليه وقتله بالسم، وصارت حصون بني المظفر إلى بني أبي البركات. ثم مات المفضل وخلف ابنه منصورا. واستقل بملك أبيه بعد حين وباع جميع الحصون تباع ذا جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار، وحصن صنبر بعد أن كان حلف بالطلاق من زوجته أنه يستبقيه، وطلق زوجته الحرة وتزوجها الزريعي، وطال عمره. ملك ابن عشرين وبقي في الملك ثمانين، وأخذ منه معقل علي بن مهدي. (صعدة) مملكتها تلو مملكة صنعاء، وهي في شرقيها، وفي هذه المملكة ثلاثة قواعد صعدة وجبل قطابة وحصن تلا وحصون أخرى، وتعرف كلها ببني الرسي، وقد تقدم ذكر خبره. وأما حصن تلا فمنه كان ظهور الموطئ الّذي أعاد إمامة الزيدية لبني الرضا، بعد أن استولى عليها بنو سليمان، فأوى إلى جبل قطابة. ثم بايعوا لأحمد الموطئ سنة، خمس وأربعين وستمائة، وكان فقيها عابدا وحاصره نور الدين بن رسول في هذا الحصن سنة جمر عليه عسكرا للحصار. ثم مات ابن رسول سنة ثمان وأربعين واشتغل ابنه المظفر بحصار حصن الدمولة، فتمكن الموطئ وملك حصون اليمن، وزحف إلى صعدة وبايعه السليمانيون وإمامهم أحمد المتوكل كما مر في أخبار بني الرسي، وأما قطابة فهو جبل شاهق مشرف على صعدة إلى أن كان ما ذكرناه. (حران ومسار) أما حران فهو إقليم من بلاد همذان، وحران بطن من بطونهم، كان منهم الصليحي، وحصن مسار هو الّذي ظهر فيه الصليحي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وهو من إقليم حران. قال البيهقي: بلادهم شرقية بجبال اليمن وتفرّقوا في الإسلام ولم يبق لهم قبيلة وفرقة إلا في اليمن، وهو أعظم قبائل اليمن وبهم قام الموطئ، وملكوا جملة من حصون الجبال، ولهم بها إقليم بكيل وإقليم حاشد، وهما ابنا جشم بن حيوان أنوق بن همذان. قال ابن حزم: ومن بكيل وحاشد افترقت قبائل همذان انتهى. ومن همذان بنو الزريع أصحاب السلطنة والدعوة في عدن والجوة، ومنهم بنو يام من قبائل همذان انتهى. ومن همذان بنو الزريع سبعة وهم الآن في نهاية من التشيع ببلادهم وأكثرهم زيدية. (بلاد خولان) قال البيهقي: هي شرقية من جبال اليمن، ومتصلة ببلاد همذان، وهي حصون خدد والتعكر وغيرهما. وهم أعظم قبائل اليمن مع همذان ولهم بطون كثيرة. وافترقوا على بلاد الإسلام ولم يبق منهم وبرية إلا باليمن (مخلاف بني أصح) هو بوادي سحول وذو أصح الّذي ينسبون إليه قد تقدم ذكره في أنساب حمير من التبابعة والأقيال، ومخلاف يحصب مجاور له وهو أخو أصبح. (مخلاف بني وائل) مدينة هذا المخلاف شاحط وصاحبها أسعد بن وائل وبنو وائل بطن من ذي الكلاع. وذو الكلاع من سبا تغلبوا على هذه البلاد عند مهلك الحسن بن سلامة، حتى عادوا إلى الطاعة واختط مدينة الكدد على مخلاف سهام، ومدينة المعقل على وادي دوال، ومات سنة اثنتين وأربعمائة. (بلاد كندة) وهي من جبال اليمن مما يلي حضرموت، وجبال الرمل وكان لهم بها ملوك وقاعدتهم دمون ذكرها أمرؤ القيس في شعره [1] . (بلاد مذحج) موالي جهات الجند من الجبال وينزلها من مذحج عنس وزبيد ومراد. ومن عنس بإفريقية فرقة وبرية مع ظواعن أهلها، ومن زبيد بالحجاز بنو حرب بين مكة والمدينة. وبنو زبيد الذين بالشام والجزيرة فهم من طيِّئ وليسوا من هؤلاء. (بلاد بني نهد) في أجواف السروات وتبالة [2] والسروات بين تهامة والجبال ونجد من اليمن والحجاز كسوأة الفرس. وبنو نهد من قضاعة سكنوا اليمن جوار خثعم وهم كالوحوش، والعامة تسميهم السرو، وأكثرهم أخلاط من جبلة وخثعم. ومن بلادهم تبالة يسكنها قوم من نهير وائل ولهم بها صولة، وهي التي وليها الحجاج واستحقرها فتركها. (البلاد المضافة   [1] تطاول الليل علينا دمون. ودمون بلدة بحضرموت على ما جاء في الوسيط. [2] وهي البلدة التي وليها الحجاج أول أمره، وقد ولاه إياها عبد الملك بن مروان مكافأة له بعد ان ابرع في حشد الجند الى العراق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 إلى اليمن) أولها الثمامة. قال البيهقي: هو بلد منقطع بعمله والتحقيق أنه من الحجاز كما هي نجران من اليمن. وكذا قال ابن حوقل وهي دونها في المملكة، وأرضها تسمى العروض لاعتراضها بين الحجاز والبحرين. وفي شرقيها البحرين وغربيها أطراف اليمن والحجاز، وجنوبها نجران، وشمالها نجد من الحجاز. وفي أطرافها عشرون مرحلة، وهي على أربعة أميال من مكة. وقاعدتها حجر «بالفتح» . وبلد اليمامة كانت مقرا لملوك بني حنيفة. ثم اتخذ بنو حنيفة حجرا وبينهما يوم وليلة، وبظواهرها أحياء من بني يربوع من تميم، وأحياء من بني عجل. قال البكري: واسمها جو، وسميت باسم زرقاء اليمامة، سماها بذلك تبع الآخر، وهي في الإقليم الثاني مع مكة، وبعدهما عن خط الاستواء [1] واحد، منازلها توضيح [2] وقرقرا. وقال الطبري: إن رمل عالج من اليمامة والشحر وهي من أرض وبار. وكانت اليمامة والطائف لبني مزان بن يعفر والسكسك، وغلبتهم عليها طسم وجديس. ثم غلبتهم بنو مزان آخرا وملكوا اليمامة وطسم وجديس في تبعهم، وآخر ملوك بني طسم عمليق. ثم غلبت جديس ومنهم باليمامة التي سميت مدينة جو بها، وأخبارها معروفة. ثم استولى على اليمامة بعد طسم وجديس بنو حنيفة، وكان منهم هودة بن علي ملك اليمامة وتتوج. ويقال: إنما كانت خرزات هودة بن علي ملك اليمامة، على عهد النبوة، وأسر وأسلم وثبت عند الردة. وكان منهم مسيلمة وأخباره معروفة، قال ابن سعيد: وسألت عرب البحرين وبعض مذحج لمن اليمامة اليوم؟ فقالوا العرب من قيس عيلان، وليس لبني حنيفة بها ذكر. (بلاد حضر موت) قال ابن حوقل: هي في شرقي عدن بقرب البحر ومدينتها صغيرة، ولها أعمال عريضة، وبينها وبين عمان من الجهة الأخرى رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وكانت مواطن لعاد. وبها قبر هود عليه السلام، وفي وسطها جبل بشام، وهي في الإقليم الأول. وبعدها عن خط الاستواء اثنتا عشرة درجة، وهي معدودة من اليمن، بلد نخل وشجر ومزارع. وأكثر أهلها يحكمون بأحكام علي وفاطمة، ويبغضون عليا للتحكيم [3] ،   [1] كذا بياض بالأصل ويظهر ان المعنى كامل لا نقص فيه ويمكن العجارة ان تكون: «وبعدهما عن خط الاستواء بعد واحد» . [2] توضيح اسم موضع وقد ذكرها امرؤ القيس في شعره: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها. [3] لا بد ان هؤلاء من الخوارج لأن هذه هي عقيدتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 وأكبر مدينة بها الآن قلعة بشام فيها خيل الملك، وكانت لعاد مع الشحر وعمان، وغلبهم عليها بنو يعرب بن قحطان. ويقال إن الّذي دل عادا على جزيرة العرب هو رقيم بن إرم، كان سبق إليها مع بني هود فرجع إلى عاد ودلهم عليها، وعلى دخولها بالجوار، فلما دخلوا غلبوا على من فيها. ثم غلبهم بنو يعرب بن قحطان بعد ذلك، وولى على البلاد فكانت ولاية ابنه حضر موت على هذه البلاد، وبه سميت الشحر من ممالك جزيرة العرب مثل الحجاز واليمن. وكان معقلا عن حضر موت وعمان والّذي يسمى الشحر قصبته، ولا زرع فيه ولا نخل، إنما أموالهم الإبل والمعز، ومعاشهم من اللحوم والألبان، ومن السمك الصغار، ويعلفونها للدواب. وتسمى هذه البلاد أيضا بلاد مهرة، وبها الإبل المهرية، وقد يضاف الشحر إلى عمان وهو ملاصق لحضرموت، وقيل هو بسائطها. وفي هذه البلاد يوجد اللبان، وفي ساحله العنبر الشحري وهو متصل في جهة الشرق. ومن غربيها ساحل البحر الهندي الّذي عليه عدن، وفي شرقيها بلاد عمان وجنوبها بحر الهند مستطيلة عليه، وشمالها حضر موت كأنها ساحل لها، ويكونان معا لملك واحد. وهي في الإقليم الأول وأشد حرا من حضر موت. وكانت في القديم لعاد وسكنها بعدهم مهرة من حضر موت أو من قضاعة، وهم كالوحوش في تلك الرمال ودينهم الخارجية على رأي الإباضية منهم. وأول من نزل بالشحر من القحطانية مالك بن حمير، خرج على أخيه مالك وهو ملك بقصر غمدان فحاربه طويلا، ومات مالك فولي بعده ابنه قضاعة بن مالك فلم يزل السكسك يحاربه إلى أن قهره، واقتصر قضاعة على بلاد مهرة. وملك بعده ابنه أطاب ثم مالك بن الحاف، وانتقل إلى عمان وبها كان سلطانه. قال البيهقي: وملك مهرة ابن حيدان بن الحاف بلاد قضاعة وحارب عمه مالك بن الحاف صاحب عمان حتى غلبهم عليها، وليس لهم اليوم في غير بلادهم ذكر. وببلاد الشحر مدينة مرياط وضفان على وزن نزال وضفان دار ملك التبابعة، ومرياط بساحل الشحر، وقد خربت هاتان المدينتان. وكان أحمد بن محمد بن محمود الحميري، ولقبه الناخودة، وكان تاجرا كثير المال يعبر إلى صاحب مرياط بالتجارة. ثم استوزره ثم هلك فملك أحمد الناخودة. ثم خرّبها وخرب ضفان سنة تسع عشرة وستمائة، وبنى على الساحل مدينة ضفا بضم الضاد المعجمة وسماها الأحمدية باسمه، وخرب القديمة لأنها لم يكن لها مرسى. (نجران) قال صاحب الكمائم: هي صقع منفرد عن اليمن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وقال غيره هي من اليمن قال البيهقي مسافتها عشرون مرحلة وهي شرقي صنعاء وشماليها وتوالي الحجاز وفيها مدينتان نجران وجرش، متقاربتان في القدر والعادية غالبة عليها، وسكانها كالأعراب، وبها كعبة نجران بنيت على هيئة عمدان كعبة اليمن، وكانت طائفة من العرب تحج إليها وتنهر [1] عندها، وتسمى الدير. وبها قس بن ساعدة، كان يتعبد فيها. ونزلها من القحطانية طائفة من جرهم ثم غلبهم عليها حمير. وصاروا ولاة للتبابعة. وكان كل ملك منهم يسمى الأفعى. وكان منهم أفعى نجران واسمه القلمس بن عمرو بن همذان بن مالك بن شهاب بن زيد بن وائل بن حمير، وكان كاهنا، وهو الّذي حكم بين أولاد نزار لما أتوه حسبما هو مذكور. وكان واليا على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان عليه السلام، وآمن وبث دين اليهودية في قومه وطال عمره. ويقال إن البحرين والمسلل كانتا له. قال البيهقي: ثم نزل نجران بنو مذحج، واستولوا عليها. ومنهم الحرث بنو كعب. وقال غيره: لما خربت اليمانية في سيل العرم مرّوا بنجران فحاربتهم مذحج ومنها افترقوا. قال ابن حزم: ونزل في جوار مذحج بالصلح الحرث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. ثم غلبوا عليها مذحجا وصارت لهم رياستها. ودخلت النصرانية نجران من قيمون، وخبره معروف في كتب السير، وانتهت رياسة بني الحرث فيها إلى بني الريان. ثم صارت إلى بني عبد المدان. وكان يزيد منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يد خالد بن الوليد، ووفد مع قومه ولم يذكره ابن عبد المؤمن وهو مستدرك عليه، وابن أخيه زياد بن عبد الرحمن بن عبد المدان خال السفاح، ولاه نجران واليمامة، وخلف ابنيه محمدا ويحيى. ودخلت المائة الرابعة والملك بها لبني أبي الجود بن عبد المدان، واتصل فيهم. وكان بينهم وبين الفاطميين حروب. وربما يغلبونهم بعض الأحيان على نجران. وكان آخرهم عبد القيس الّذي أخذ علي بن مهدي الملك من يده، ذكره عمارة وأثنى عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.   [1] مقتضى السياق تنحر، ولعلها تحريف من الناسخ ابن خلدون م 19 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 (الخبر عن دولة بني حمدان المستبدين بالدعوة العباسية من العرب بالموصل والجزيرة والشام ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم) كان بنو ثعلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، ولهم محل في الكثرة والعدد، وكانت مواطنهم بالجزيرة في ديار ربيعة، وكانوا على دين النصرانية في الجاهلية، وصاغيتهم مع قيصر. وحاربوا المسلمين مع غسّان وهرقل أيام الفتوحات في نصارى العرب يومئذ من غسّان وإياد وقضاعة وزابلة وسائر نصارى العرب. ثم ارتحلوا مع هرقل إلى بلاد الروم، ثم رجعوا إلى بلادهم. وفرض عليهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجزية. فقالوا يا أمير المؤمنين لا تذلنا بين العرب باسم الجزية، واجعلها صدقة مضاعفة ففعل. وكان قائدهم يومئذ حنظلة بن قيس بن هرير من بني مالك ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب وكان من رهطه عمرو بن بسطام صاحب السند أيام بني أمية. ثم كان منهم بعد ذلك في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطّاب العدويّ، وآل هارون المغمر، وآل حمدان ابن حمدون بن الحرث ابن لقمان بن أسد. ولم يذكر ابن حزم هؤلاء البيوت الثلاثة في بطون بني ثعلب في كتاب الجمهرة. ووقفت على حشية في هذا الموضع من كتابه فيها ذكر هؤلاء الثلاثة كالاستلحاق عليه، وقال في بني حمدان: وقيل إنهم موالي بني أسد. ثم قال آخر الحاشية إنه من خط المصنّف يعني ابن حزم. ولما فشا دين الخارجيّة بالجزيرة أيام مروان بن الحكم وفرّق جموعه ومحا آثار تلك الدعوة. ثم ظهر في الجزيرة بعد حين أثر من تلك الدعوة، وخرج مساور بن عبد الله بن مساور البجليّ من السرات أيام الفتنة بعد مقتل المتوكّل واستولى على أكثر أعمال الموصل، وجعل دار هجرته الحديثة. وكان على الموصل يومئذ عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي الّذي ولّى المنصور جدّه محمدا على إفريقية، وعليه خرج مساور. ثم ولي على الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي سنة أربع وخمسين، واستخلف عليه ابنه الحسن فسار إلى مساور في جموع قومه، وفيهم حمدون بن الحرث فهزموا الخوارج وفرّقوا جمعهم. ثم ولي أيام المهتدي عبد الله بن سليمان بن عمران الأزديّ فغلبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 الخوارج، وملك مساور الموصل ورجع إلى الحديثة. ثم انتقض أهل الموصل أيام المعتمد سنة تسع وخمسين، وأخرجوا العامل وهو ابن أساتكين الهيثم بن عبد الله بن المعتمد العدويّ من بني ثعلب، فامتنعوا عليه وولّوا مكانه إسحاق بن أيوب من آل الخطّاب، فزحف ومعه حمدان بن حمدون وحاصرها مدّة. ثم كانت فتنة إسحاق ابن كنداجق وانتقاضه على المعتمد، واجتمع لمدافعته عليّ بن داود صاحب الموصل، وحمدان بن حمدون وإسحاق بن أيوب فهزمهم إسحاق بن كنداجق، وافترقوا فاتبع إسحاق بن أيوب إلى نصيبين ثم إلى آمد. واستجار فيها بعيسى بن الشيخ الشيبانيّ وبعث إلى المعزّ موسى بن زرارة صاحب أرزن فامتنع بانجادهما. ثم ولّى المعتمد ابن كنداجق على الموصل سنة سبع وستين فاجتمع لحربه إسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبو العزّ بن زرارة وحمدان بن حمدون في ربيعة وثعلب فهزمهم ابن كنداجق، وحاصره هو ولجئوا إلى آمد عند عيسى بن الشيخ الشيبانيّ، وحاصرهم بها وتوالت عليهم الحروب وهلك مساور الخارجيّ أثناء هذه الفتن في حربه مع العساكر سنة ثلاث وستين. واجتمع الخوارج بعده على هارون بن عبد الله البجليّ واستولى على الموصل وكثر تابعه. وخرج عليه محمد بن خردان من أصحابه فغلبه على الموصل، فقصد حمدان بن حمدون مستنجدا به، فسار معه وردّه إلى الموصل ولحق محمد بالحديثة، ورجع أصحابه إلى هارون. ثم سار هارون من الموصل إلى محمد فأوقع به وقتله وعاث في الأكراد الجلاليّة أصحابه، وغلب على القرى والرساتيق، وجعل رجله يأخذ الزكاة والعشر. ثم زحف بنو شيبان لقتاله سنة اثنتين وسبعين، فاستنجد بحمدان بن حمدون، وانهزم قبل وصوله إليه. ثم كانت الفتنة بين إسحاق بن كنداجق ويوسف بن أبي الساج، وأخذ ابن أبي الساج بدعوة ابن طولون، وغلب على الجزيرة والموصل، ثم عاد وملكها لابن كنداجق وولّى عليها هارون بن سيما سنة تسع وسبعين ومائتين. فطرده أهلها، واستنجد ببني شيبان فساروا معه إلى الموصل، واستمدّ أهلها الخوارج وبني ثعلب فسار لإمدادهم هارون الساري وحمدان فهزمهم بنو شيبان، وخاف أهل الموصل من ابن سيما فبعثوا إلى بغداد، وولّى عليهم المعتمد عليّ بن داود الأزديّ. ولما بلغ المعتضد ممالأة حمدان بن حمدون لهارون الساري، وما فعله بنو شيبان، وقد كان خرج لإصلاح الجزيرة، وأعطاه بنو شيبان رهنهم على الطاعة، زحف إلى حمدان وهزمه فلحق بماردين وترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 بها ابنه الحسين. وهرب فسار مع وصيف ونصر القسوري، ومروا بدير الزعفران وبه الحسين بن حمدان فاستأمن لهم، وبعثوا به إلى المعتضد وأمر بهدم القلعة، ولقي وصيف حمدان فهزمه، وعبر إلى الجانب الغربي. ثم سار إلى معسكر المعتضد، وكان إسحاق بن أيوب الثعلبيّ قد سبق إلى طاعة السلطان وهو في معسكره، فقصد خيمته ملقيا بنفسه عليه، فأحضره عند المعتضد فحبسه. ثم سار نصر القسوري في اتباع هارون فهزم الخوارج، ولحق بأذربيجان. واستأمن آخرون إلى المعتضد ودخل هارون البريّة. ثم سار المعتضد سنة ثلاث وثمانين في طلب هارون وبعث في مقدمته وصيفا وسرّح معه الحسين بن حمدان بن يكرين، واشترط له إطلاق ابنه إن جاء بهرون. فاتبعه وأسره وجاء به إلى المعتضد فخلع عليه وعلى إخوته وطوّقه وفك القيود عن حمدان ووعده بإطلاقه. ومات إسحاق بن أيوب العدويّ وكان على ديار ربيعة، فولّى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمد. (مبدأ لدولة وولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل) ولما ولّي المكتفي عقد لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل وأعمالها، وكان الأكراد الهدبانيّة قد عاثوا في نواحيها ومقدمهم محمد بن سلّال فقاتلهم وعبر وراءهم إلى الجانب الشرقي، وقاتلهم على الخازر، وقتل مولاه سيما ورجع. ثم أمدّه الخليفة فسار في أثرهم سنة أربع وتسعين وقاتلهم على أذربيجان وهزم محمد بن سلال بأهله وولده، واستباحهم ابن حمدان. ثم استأمن محمد وجاءه إلى الموصل، واستأمن سائر الأكراد الحميديّة، واستقام أمر أبي الهيجاء. ثم كانت فتنة الخلع ببغداد سنة ست وتسعين، وقتل الوزير العبّاس بن الحسن، وخلع المقتدر وبويع عبد الله بن المعتز يوما أو بعض يوم، وعاد المقتدر كما مرّ ذلك كله في أخبار الدولة العبّاسية. وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة وكان ممن تولّى كبر هذه الفتنة مع القوّاد، وباشر قتل الوزير مع من قتله فهرب. وطلبه المقتدر وبعث في طلبه القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد فلم يظفروا به، فكتب إلى أبي الهيجاء وهو على الموصل فسار مع القاسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 ولقيهم الحسين عند تكريت فانهزم واستأمن فأمّنه المقتدر، وخلع عليه وولّاه أعمال قمّ وقاشان. ثم ردّه بعد ذلك إلى ديار ربيعة. (انتقاض أبي الهيجاء ثم الحسين بن حمدان) ولما كانت سنة تسع وتسعين ومائتين خالف أبو الهيجاء بالموصل إلى سنة اثنتين وثلاثمائة، وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة كما قدّمناه، فطالبه الوزير عيسى بن عيسى بحمل المال فدافعه، فأمره بتسليم البلاد إلى العمّال فامتنع، فجهّز إليه الجيش فهزمهم. فكتب إلى مؤنس العجليّ، وهو بمصر يقاتل عساكر العلويّة، بأن يسير إلى قتال الحسين بعد فراغه من أمره، فسار إليه سنة ثلاث وثلاثمائة، فارتحل بأهله إلى أرمينية وترك البلاد. وبعث مؤنس العساكر في أثره فأدركوه، وقاتلوه فهزموه وأسر هو وابنه عبد الوهاب وأهله وأصحابه، وعاد به إلى بغداد فأدخل على جمل، وقبض المقتدر يومئذ على أبي الهيجاء وجميع بني حمدان فحبسهم جميعا. ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس وثلاثمائة بعدها وقتل الحسين سنة ست، وولّى إبراهيم بن حمدان سنة سبع على ديار ربيعة، وولّى مكانه داود بن حمدان. (ولاية أبي الهيجاء ثانية على الموصل ثم مقتله) ثم ولّى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة أربع عشرة وثلاثمائة فبعث ابنه ناصر الدولة الحسين عليها، وأقام هو ببغداد. ثم بلغه إفساد العرب والأكراد في نواحيها وفي نواحي عمله الآخر بخراسان، فبعث إلى أبيه ناصر الدولة فأوقع بالعرب في الجزيرة ونكّل بهم. وجاءه في العساكر إلى تكريت فخرج ورحل بهم إلى شهرزور، وأوقع بالأكراد الجلاليّة حتى استقاموا على الطاعة. ثم كان خلع المقتدر سنة سبع عشرة وثلاثمائة بأخيه القاهر. ثم عاد ثاني يوم وأحيط بالقاهر في قصره فتذمّم بأبي الهيجاء، وكان عنده يومئذ، وأطال المقام يحاول على النجاة به فلم يتمكن من ذلك، وانقض الناس على القاهر ومضى أبو الهيجاء يفتّش عن بعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 المنافق [1] في القصر يتخلّص منه فاتبعه جماعة وفتكوا به وقتلوه منتصف المحرّم من السنة. وولّى المقتدر مولاه تحريرا على الموصل. (ولاية سعيد ونصر ابني حمدان على الموصل) ثم ان أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة، وما بيد ناصر الدولة فولاه الراضي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وسار الى الموصل فخرج ناصر الدولة لتلقيه، وخالفه أبو العلاء إلى بيته وفعد ينتظره، فأنفذ ناصر الدولة جماعة من غلمانه فقتلوه. وبلغ الخبر إلى الراضي فأعظم ذلك، وأمر الوزير ابن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار إليها، وارتحل ناصر الدولة واتبعه الوزير إلى جبل السن، ورجع عنه، وأقام بالموصل. واحتال بعض أصحاب ابن حمدان ببغداد على ابن الوزير وبذل له عشرة آلاف دينار على أن يستحث أباه ففعل، وكتب إليه بأمور أزعجته فاستعمل على الموصل من وثق به من أهل الدولة. ورجع إلى بغداد في منتصف شوّال. ورجع ناصر الدولة إلى الموصل فاستولى عليها وكتب إلى الراضي في الصفح، وأن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك واستقرّ في ولايته. (مسير الراضي إلى الموصل) وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة تأخر ضمان البلاد من ناصر الدولة فغضب الراضي، وسار ومدبر دولته تحكم [2] . وسار إلى الموصل، وتقدم تحكم إلى تكريت فخرج إليه ناصر الدولة فانهزم أصحابه، وسار إلى نصيبين، واتبعه تحكم فلحق به وكتب تحكم إلى الراضي بالفتح فسار في السفن يريد الموصل. وكان ابن رائق مختفيا ببغداد منذ غلبه ابن البريدي على الدولة، فظهر عند ذلك واستولى على بغداد. وبلغ الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء إلى البرّ، واستقدم تحكم من نصيبين واستعاد ناصر   [1] لعلها الإنفاق [2] بجكم: ابن الأثير ج 8 ص 371. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 الدولة ديار ربيعة وهو يعلم بخبر ابن رائق. وبعث في الصلح على تعجيل خمسمائة ألف درهم فأجابه إلى ذلك. وسار الراضي وتحكم إلى بغداد، ولقيهم أبو جعفر محمد ابن يحيى بن سريق رسولا من ابن رائق في الصلح، على أن يولي ديار مضر، وهي حران والرها والرقة. وتضاف إليها قنسرين والعواصم فأجيب إلى ذلك وسار عن بغداد إلى ولايته ودخل الراضي وتحكم بغداد ورجع ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل. (مسير المتقى الى الموصل وولاية ناصر الدولة امارة الأمراء) كان ابن رائق بعد مسيره إلى ديار مضر والعواصم سار إلى الشام وملك دمشق من يد الإخشيد، ثم الرملة ثم لقيه الإخشيد على عريش مصر وهزمه، ورجع إلى دمشق ثم اصطلحا على أن يجعلا الرملة تخما بين الشام ومصر وذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ثم توفي الراضي سنة تسع وعشرين، وولي المتقي وقتل تحكم وجاء البريدي إلى بغداد، وهرب الأتراك التحكمية إلى الموصل، وفيهم توزون وجحجح. ثم لحقوا بأبي بكر محمد بن رائق واستحثوه إلى العراق، وغلب بعدهم على الخلافة الأتراك الديلمية، وجاء أبو الحسن البريدي من واسط فأقام ببغداد أربعة وعشرين يوما أمير الأمراء. ثم شغب عليه الجند فرجع إلى واسط وغلب كورتكين. ثم حجر المتقي وكتب إلى ابن رائق يستدعيه فسار من دمشق في رمضان سنة تسع وعشرين، واستخلف عليها أبا الحسن أحمد بن علي بن حمدان على أن يحمل إليه مائة ألف دينار، وسار ابن رائق إلى بغداد، وغلب كورتكين والديلمية وحبس كورتكين بدار الخلافة. ثم شغب عليه الجند وبعث أبو عبد الله البريدي أخاه أبا الحسن إلى بغداد في العساكر فغلبوا عليها، وهرب المتقي وابنه أبو منصور، وزاد في المبرة فنثر الدراهم على ابن الخليفة، وبالغ في مبرته حتى ركب للانصراف. وأمسك ابن رائق للحديث معه فاستدعاه المتقي، وخلع عليه، ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة. وكان قتل ابن رائق لتسع بقين من رجب، وولاية ناصر الدولة مستهل شعبان من سنة ثمانين، ثم سار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 الإخشيدي من مصر إلى دمشق فملكها من يد عامل ابن رائق، وسار ناصر الدولة مع المتقي إلى بغداد. (أخبار بني حمدان ببغداد) ولما قتل ابن رائق وأبو الحسن البريدي على بغداد، وقد سخطه العامة والخاصة فهرب جحجح [1] إلى المتقي، وأجمع توزون وأصحابه إلى الموصل، واستحثوا المتقي وناصر الدولة فأنجدوهم إلى بغداد، وولى على الخراج والضياع بديار مضر وهي الرها وحران والرقة أبا الحسن علي بن خلف بن طياب، وكان عليها أبو الحسن علي بن أحمد بن مقاتل من قبل ابن رائق، فقاتله ابن طياب وقتله. ولما قرب المتقي وناصر الدولة من بغداد هرب أبو الحسن بن البريدي إلى واسط بعد مقامه مائة يوم وعشرة أيام، ودخل المتقي بغداد ومعه بنو حمدان، وقلد توزون شرطة جانبي بغداد وذلك في شوال من السنة. ثم سار بنو حمدان إلى واسط فنزل ناصر الدولة بالمدائن، وبعث أخاه سيف الدولة إلى قتال البريدي، وقد سار من واسط إليهم فقاتلوه تحت المدائن ومعهم توزون وجحجح والأتراك فانهزموا أولا. ثم أمدهم ناصر الدولة بمن كان معه من المدائن فانهزم البريدي إلى واسط، وعاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة وبين يديه الأسرى من أصحاب البريدي. وأقام سيف الدولة بموضع المعركة حتى اندملت جراحة وذهب وهنه. ثم سار إلى واسط فلحق البريدي بالبصرة، واستولى على واسط فأقام بها معتزما على اتباع البريدي إلى البصرة، واستمد أخاه ناصر الدولة في المال فلم يمده، وكان للأتراك عليه استطالة وخصوصا توزون وجحجح ثم جاء أبو عبد الله الكوفي بالمال من قبل ناصر الدولة ليفرقه في الأتراك فاعترضه توزون وجحجح. وأراد البطش به فأخفاه سيف الدولة عنهما وردّه إلى أخيه. ثم ثار الأتراك بسيف الدولة سلخ شعبان فهرب من معسكره الى بغداد ونهب سواده قتل جماعة من أصحابه وكان أبو عبد الله الكوفي لما وصل إلى ناصر الدولة وأخبره خبر أخيه، أراد أن يسير إلى الموصل فركب المتقي إليه واستمهله، وعاد إلى قصره فأغذ السير إلى الموصل بعد ثلاثة عشر شهرا من إمارته. وثار الديلم والأتراك   [1] خجخج: ابن الأثير ج 8 ص 396. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 ونهبوا داره. ولما هرب سيف الدولة من معسكره بواسط عاد الأتراك إلى معسكرهم، وولوا توزون أميرا وجحجح صاحب جيش، ولحق سيف الدولة ببغداد منتصف رمضان بعد مسير أخيه، وبلغه خبر توزون. ثم اختلف الأتراك وقبض توزون على جحجح وسمله، وسار سيف الدولة ولحق بأخيه بالموصل وولى توزون إمارة الأمراء ببغداد. (خبر عدل التحكمي بالرحبة) كان عدل هذا مولى تحكم [1] ، ثم صار مع ابن رائق واصعد معه الى الموصل. ولما قتل ابن رائق صار في جملة ناصر الدولة بن حمدان فبعثه مع علي بن خلف بن طياب إلى ديار مضر فاستولى ابن طياب عليها، وقتل نائب ابن رائق وكان بالرحبة من ديار مضر رجل من قبل ابن رائق يقال له مسافر بن الحسين فامتنع بها، وجبى خراجها واستولى على تلك الناحية، فأرسل إليه ابن طباب عدلا التحكمي [2] فاستولى عليها، وفر مسافر عنها. واجتمع التحكمية إلى عدل واستولى على طريق الفرات وبعض الخابور. ثم استنصر مسافر بجمع من بني نمير وسار إلى قرقيسيا وملكها وارتجعها عدل من يده. ثم اعتزم عدل على ملك الخابور وانتصر أهله ببني نمير فأعرض عدل عن ذلك حينا حتى أمنوا. ثم أسرى إلى فسيح سمصاب وهي من أعظم قرى خابور فقاتلها ونقب السور وملكها. ثم ملك غيرها. وأقام في الخابور ستة أشهر وجبى الأموال وقوي جمعه واتسعت حاله. ثم طمع في ملك بني حمدان، فسار يريد نصيبين لغيبة سيف الدولة عن الموصل وبلاد الجزيرة، ونكب عن الرحبة وحران لأن يأنس المؤنسي كان بها في عسكر، ومعه جمع من بني نمير فحاد عنها إلى رأس عين، ومنها إلى نصيبين، وبلغ الخبر إلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فجمع وسار إليه، فلما التقى الجمعان استأمن أصحاب عدل إلى ابن حمدان، ولم يبق معه إلا القليل فقبض عليه وسمله، وبعث به مع ابنه إلى بغداد في آخر شعبان سنة إحدى   [1] بجكم: ابن الأثير ج 8 ص 371 وقد مرّ معنا من قبل [2] البجكمي نسبة إلى بجكم كما عند الأثير ج 8 ص 394 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 وثلاثين ومائتين [1] . (مسير المتقي الى الموصل وعوده) ولما انصرف ناصر الدولة وسيف الدولة عن المتقي من بغداد جاء توزون من واسط واستولى على الدولة. ثم رجع إلى واسط ووقعت بينه وبين ابن البريدي بالبصرة مواصلة وصهر استوحش لها المتقي. وكان بعض أصحاب توزون منافرا له، فأكثر فيه السعاية عند المتقي والوزير ابن مقلة، وخوفهما اتصال يده بابن البريدي. وقارن ذلك اتصال ابن شيرزاده بتوزون ومسيره إليه بواسط، فذكروا الخليفة بما فعل ابن البريدي معه في المرّة الأخرى وخوّفوه عاقبة أمرهم، فكتب الى ابن حمدان أن ينفذ إليه عسكرا يسير صحبته إليهم فأنفذ مع ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان، ووصلوا إلى بغداد سنة اثنتين وثلاثين وخرج المتقي معهم بأهله وأعيان دولته، ومعه الوزير ابن مقلة، وانتهى إلى تكريت فلقيه سيف الدولة لك. وجاء ناصر الدولة فأصعد المتقي إلى الموصل. ولما بلغ الخبر إلى توزون سار نحو تكريت فلقيه سيف الدولة عندها فقاتله ثلاثة أيام. ثم هزمه توزون ونهب سواده وسواد أخيه. وسار سيف الدولة إلى الموصل وتوزون في اتباعه، فخرج ناصر الدولة والمتقي وجملته إلى نصيبين، ثم إلى الرقة، ولحقهم سيف الدولة إليها. وملك توزون الموصل. وبعث إليه المتقي يعاتبه على اتصاله بابن البريدي، وأنه إنما استوحش من ذلك فإن آثر رضاه واصل ابن حمدان فأجاب توزون إلى ذلك، وعقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين، كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف. وعاد توزون إلى بغداد وأقام المتقي بالرقة. ثم أحس من ابن حمدان ضجرا به، وبلغ سيف الدولة أن محمد بن نيال الترجمان أغرى المتقي بسيف الدولة، وهو الّذي كان أفسد بين المتقي وتوزون فقبض عليه سيف الدولة وقتله، وارتاب المتقي بذلك فكتب إلى توزون يستصلحه. وكتب إلى الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه، فسار إليه الإخشيد. ولما وصل إلى حلب وعليها من قبل سيف الدولة ابن عمهم أبو عبد الله سعيد بن حمدان   [1] الصحيح سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة كما في الكامل لابن الأثير ج 8 ص 394. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 فرحل عنها، وتخلف عنه ابن مقاتل الّذي كان بدمشق مع ابن رائق. ولما وصل الإخشيد إلى حلب لقيه ابن مقاتل فأكرمه واستعمله على خراج مصر. ثم سار إلى المتقي بالرقة فلقيه منتصف ثلاث وثلاثين فبالغ المتقي في إكرامه وبالغ هو في الأدب معه، وحمل إليه الهدايا وإلى وزيره وحاشيته، وسأله المسير إلى مصر أو الشام فأبى، فأشار عليه أن لا يرجع إلى توزون فأبى. وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في دولته، وخوفه من توزون فلم يعمل، وجاءهم رسل توزون في الصلح وأنهم استحلفوه للخليفة والوزير، فانحدر المتقي إلى بغداد آخر المحرم، وعاد الإخشيد إلى مصر. ولما وصل المتقي إلى هيت لقيه توزون فقبل الأرض ورأى أنه تحلل عن يمينه بتلك الطاعة. ثم وكل به وسمل المتقي ورجع، إلى بغداد فبايع للمستكفي [1] . ولما ارتحل المتقي عن الرقة ولى عليها ناصر الدولة ابن عمه أبا عبد الله بن سعيد بن حمدان، وعلى طريق الفرات وديار مضر وقنسرين وجند والعواصم وحمص. فلما وصل إلى الرقة طمع أهلها فيه فقاتلهم وظفر بهم ورجع إلى حلب وقد كان ولى على هذه البلاد قبله أبا بكر محمد بن عليّ بن مقاتل. (استيلاء سيف الدولة على حلب وحمص) ولما ارتحل المتقي من الرقة، وانصرف الإخشيد إلى الشام بقي يأنس المؤنسي بحلب فقصد سيف الدولة وملكها من يده. ثم سار إلى حمص فلقيه بها كافور مولى الإخشيد فهزمه سيف الدولة وسار إلى دمشق فامتنعوا عليه فرجع، وجاء الإخشيد من مصر إلى الشام، وسار في اتباع سيف الدولة فاصطفا بقنسرين، ثم تحاجزوا ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة والإخشيد إلى دمشق. ثم سار سيف الدولة إلى حلب فملكها وسارت عساكر الروم إليها فقاتلهم وظفر بهم. ثم بلغ ناصر الدولة بن حمدان   [1] المعنى غير واضح تماما وفي الكامل ج 8 ص 419: «فنزل توزون وقبّل الأرض وقال: ها انا قد وفيت بيميني والطاعة لك، ثم وكّل به وبالوزير وبالجماعة، وأنزلهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي، ثم كحله فأذهب عينيه، فلما سمله صاح، وصاح من عنده من الحرم والخدم، وارتجت الدنيا، فأمر توزون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهم، فخفيت أصواتهم، وعمي المتقي للَّه، وانحدر توزون من الغد الى بغداد والجماعة في قبضته.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 ما فعله توزون من سمل المتقي وبيعة المستكفي، فامتنع من حمل المال وهرب إليه غلمان توزون فاستخدمهم ونقض الشرط في ذلك. وخرج توزون والمستكفي قاصدين الموصل، وترددت الرسل بينهما في الصلح، فتم ذلك آخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وعاد المستكفي وتوزون إلى بغداد فتوفي توزون إثر عوده، وولي الأمور بعده ابن شيرزاده [1] ، واستعمل على واسط قائدا، وعلى تكريت آخر. فأمّا الّذي على واسط فكاتب معز الدولة ابن بويه، واستقدمه فقدم بغداد واستولى على الدولة، فخلع المستكفي وبايع للمطيع، وأما الّذي على تكريت فسار إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل وسار معه وولاه عليها من قبله. (الفتنة بين ابن حمدان وابن بويه) ولما خلع معز الدولة بن بويه المستكفي عند استيلائه على بغداد امتعض ناصر الدولة ابن حمدان لذلك وسار من الموصل إلى العراق. وبعث معز الدولة بن بويه قواده، فالتقى الجمعان بعكبرا، واقتتلوا وخرج معز الدولة مع المطيع إلى عكبرا وكان ابن شيرزاده ببغداد وأقام بها، ولحق بناصر الدولة بن حمدان. وجاء بعساكره إلى بغداد فنزلوا بالجانب الغربي، وناصر الدولة بالجانب الشرقي، ووقع الغلاء في معسكر معز الدولة، والخليفة لانقطاع الميرة. وبقي عسكر ابن حمدان في رخاء من العيش لاتصال الميرة من الموصل. واستعان ابن شيرزاده بالعامة والعمارين على حرب معز الدولة والديلم، وضاق الأمر بمعز الدولة حتى اعتزم على الرجوع إلى الأهواز. ثم أمر أصحابه بالعبور من قطر بال بأعلى دجلة، وتسابق أصحاب ناصر الدولة إلى مدافعتهم ومنعهم، وبقي في خف من الناس، فأجاز إليه شجعان الديلم من أقرب الأماكن فهزموه، وملك معز الدولة الجانب الشرقي، وأعاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. ورجع ناصر الدولة إلى عكبرا وأرسل في الصلح، فوقف الأتراك التورونية الذين معه على خبر رسالته فهموا بقتله، فأغذ السير إلى الموصل ومعه ابن شيرزاده وأحكم الصلح مع معز الدولة.   [1] شيرزاد: ابن الأثير ج 8 ص 448. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 (استيلاء سيف الدولة على دمشق) وفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة توفي الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج صاحب مصر والشام، فنصب للأمر بعده ابنه ابو القاسم أنوجور، واستولى عليه كافور الأسود وخادم أبيه، وسار بهما إلى مصر. وجاء سيف الدولة إلى دمشق فملكها، وارتاب به أهلها فاستدعوا كافورا فجاءهم، وخرج سيف الدولة إلى حلب، ثم اتبعوه فعبر إلى الجزيرة وأقام أنوجور على حلب. ثم اتفقوا واصطلحوا، وعاد أنوجور إلى مصر وسيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور بدمشق قليلا، ثم عاد إلى مصر واستعمل على دمشق بدرا الإخشيد ويعرف ببدير. ثم عزله بعد سنة وولى أبا المظفر طغج. (الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين تكين والأتراك) كان مع ناصر الدولة جماعة من الأتراك أصحاب توزون فرّوا إليه كما قدّمنا، فلما وقعت المراسلة بينه وبين معز الدولة في الصلح ثاروا به، وهرب منهم وعبر إلى الجانب الغربي ونزل الموصل واستجار القرامطة فأجاروه، وبعثوا معه إلى مأمنه، وفي جملته ابن شيرزاده فقبض ناصر الدولة عليه، واجتمع الأتراك بعده فقدموا عليهم تكين الشيرازي، وقبضوا على من تخلف من أصحاب ناصر الدولة واتبعوه إلى الموصل فسار عنها إلى نصيبين ودخل الأتراك الموصل. وبعث ناصر الدولة إلى معز الدولة يستصرخه، فبعث إليه الجيوش مع وزيره أبي جعفر الصيمري وخرج الأتراك من الموصل في اتباع ناصر الدولة إلى نصيبين فمضى إلى سنجار ثم إلى الحديثة إلى السن، وهم في اتباعه. وبقي هنالك العساكر فقاتلوا الأتراك وهزموهم، وسيق قائدهم تكين إلى ناصر الدولة فسمله لوقته ثم حبسه. وسار مع الصيمري إلى الموصل فأعطاه ابن شيرزاده وارتحل به إلى بغداد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 (انتقاض جمان بالرحبة ومهلكه) كان جمان هذا من أصحاب توزون وسار إلى ناصر الدولة بن حمدان، فلما كان في محاربة معز الدولة ببغداد، استراب بمن معه من الديلم وجمعهم على جمان هذا وأخرجه إلى الرحبة واليا فعظم أمره. وانتقض سنة ست وثلاثين وثلاثمائة على ناصر الدولة، وحدثته نفسه بالتغلب على ديار مضر، فسار إلى الرقة وحاصرها سبعة عشر يوما، وانهزم عنها. ووثب أهل الرحبة بأصحابه وعماله فقتلوهم لسوء سيرتهم، وجاء من الرقة فأثخن فيهم وبعث ناصر الدولة بن حمدان حاجبه باروخ [1] مع عسكر فاقتتلوا على الفرات وانهزم جمان فغرق في الفرات واستأمن أصحابه إلى باروخ فأمنهم ورجع إلى ناصر الدولة. (فتنة ناصر الدولة مع معز الدولة) ثم وقعت الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان ومعز الدولة ابن بويه وسار إليه معز الدولة من بغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة فسار هو من الموصل الى نصيبين وملك معز الدولة الموصل فظلم الرعايا وأخذ أموالهم، وأجمع الاستيلاء على بلاد ابن حمدان كلها، فجاءه الخبر بأنّ عساكر خراسان قصدت جرجان والريّ. وبعث أخوه ركن الدولة يستمده فصالح ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة والشام على ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة، وعلى أن يخطب له ولأخويه عماد الدولة وركن الدولة، وعاد إلى بغداد في ذي الحجة آخر سبع وثلاثين وثلاثمائة. (غزوات سيف الدولة) كان أمر الثغور راجعا إلى سيف الدولة بن حمدان ووقع الفداء سنة خمس وثلاثين   [1] ياروخ: ابن الأثير ج 8 ص 475. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 وثلاثمائة في ألفين من الأسرى على يد نصر النملي، ودخل الروم سنة اثنتين وثلاثين مدينة واسرغين ونهبوها وسبوها وأقاموا بها ثلاثا وهم في ثمانين ألفا مع الدمشق [1] ثم سار سيف الدولة سنة سبع وثلاثين غازيا إلى بلاد الروم فقاتلوه وهزموه. ونزل الروم على مرعش فأخذوها وأوقعوا بأهل طرسوس. ثم دخل سنة ثمان وثلاثين وتوغل في بلاد الروم وفتح حصونا كثيرة وغنم وسبى. ولما قفل أخذت الروم عليه المضايق وأثخنوا في المسلمين قتلا وأسرا واستردوا ما غنموه. ونجا سيف الدولة في فل قليل. ثم ملك الروم سنة إحدى وأربعين مدينة سروج واستباحوها. ثم دخل سيف الدولة سنة ثلاث وأربعين إلى بلاد الروم فأثخن فيها وغنم وقتل قسطنطين بن الدمشق فيمن قتل، فجمع الدمشق عساكر الروم والروس وبلغار وقصد الثغور، فسار إليه سيف الدولة بن حمدان والتقوا عند الحرث [2] فانهزم الروم واستباحهم المسلمون قتلا وأسرا، وأسر صهر الدمشق، وبعض أسباطه وكثير من بطارقته ورجع سيف الدولة بالظفر والغنيمة. ثم دخل بلاد الروم النصرانية ثم رجع إلى أذنة، وأقام بها حتى جاءه نائبة على طرسوس فخلع عليه، وعاد إلى حلب وامتعض الروم لذلك فرجعوا إلى بلادهم. ثم غزا الروم طرسوس والرها وعاثوا في نواحيها سبيا وأسرا ورجعوا. ثم غزا سيف الدولة بلاد الروم سنة ست وأربعين وأثخن فيها وفتح عدة حصون وامتلأت أيدي عسكره من الغنائم والسبي، وانتهى إلى خرسنة [3] ورجع وقد أخذت الروم عليه المضايق، فقال له أهل طرسوس: ارجع معنا فإن الدروب التي دخلت منها قد ملكها الروم عليك فلم يرجع إليهم. وكان معجبا برأيه فظهر الروم عليه في الدرب واستردوا ما أخذوا منهم ونجا في فلّ قليل يناهزون الثلاثمائة ثم دخل سنة خمسين قائد من موالي سيف الدولة إلى بلاد الروم من ناحية ميافارقين فغنم وسبى وخرج سالما.   [1] الدمشق: هكذا بالأصل وهو تحريف واسمه الحقيقي دمستق كما في كتب التاريخ وقد ورد اسمه في شعر المتنبي وكذلك في الكامل لابن الأثير ج 8 ص 508. [2] الحدث: ابن الأثير ج 8 ص 508 [3] هي مدينة خرشنة (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 (الفتنة بين ناصر الدولة ومعز الدولة بن بويه) قد تقدم لنا ما وقع من الصلح بين ناصر الدولة وبين معز الدولة بن بويه، وطالبه في المال فانتقض. وسار إليه معز الدولة إلى الموصل منتصف السنة وملكها، وفارقها ناصر الدولة إلى نصيبين وحمل نوابه ومن يعرف وجوه المال وحمايته، وأنزلهم في قلاعه مثل الزعفرانيّ وكواشي ودس إلى العرب بقطع الميرة عن عسكر معز الدولة فضاقت عليهم الأقوات، فرحل معز الدولة إلى نصيبين لما بها من الغلات السلطانية، واستخلف سبكتكين الحاجب الكبير على الموصل، وبلغه في طريقه أن أبا الرجاء وعبد الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فقصدهما فهربا، وخلفا أثقالهما وانتهب العسكر خيامهما. ثم عادا إلى معسكر معز الدولة وهم غازون فنالوا منهم، ورجعوا إلى سنجار، وسار معز الدولة إلى نصيبين ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين، واستأمن كثير من أصحابه إلى معز الدولة، فسار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فقام بخدمته وباشرها بنفسه. وأرسل إلى معز الدولة في الصلح بينه وبين أخيه، فامتنع معز الدولة من قبول ناصر الدولة لانتقاضه وإخلافه، فضمن سيف الدولة البلاد بألفي ألف وتسعمائة ألف درهم، وأطلق معز الدولة أسرى أصحابهم. وتم ذلك في محرم سنة ثمان وأربعين ورجع معز الدولة إلى العراق وناصر الدولة إلى الموصل. (استيلاء الروم على عين زربة ثم على مدينة حلب) وفي المحرم من سنة إحدى وخمسين نزل الدمستق في جموع الروم على عين زربة وملك الجبل المطل عليها، وضيق عليها حصارها ونصب عليها المنجنيقات. وشرع في النقب فاستأمنوا ودخل المدينة. ثم ندم على تأمينهم لما رأى من اختلال أحوالهم، فنادى فيهم أن يخرجوا بجميع أهاليهم إلى المسجد فمات منهم في الأبواب بكض الزحام خلق، ومات آخرون في الطرقات، وقتل من وجدوا آخر النهار، واستولى الروم على أموالهم وأمتعتهم وهدموا سور المدينة، وفتحوا في نواحي عين زربة أربعة وخمسين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 حصنا. ورحل الدمستق بعد عشرين يوما بنية العود، وخلف جيشه بقيسارية وكان ابن الزيات صاحب طرسوس قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان، واعترضه الدمستق في بعض مذاهبه فأوقع به، وقتل أخاه وأعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة، وألقى ابن الزيات نفسه في النهر فغرق. ثم رجع الدمستق إلى بلاد الثغور، وأغذ السير إلى مدينة حلب، وأعجل سيف الدولة عن الاحتشاد فقاتله في خف من أصحابه فانهزم سيف الدولة، واستلحم آل حمدان واستولى الدمستق على ما في داره خارج حلب من خزائن الأموال والسلاح. وخرب الدار وحصر المدينة، وأحس أهل حلب مدافعته فتأخر إلى جبل حيوش [1] ثم انطلقت أيدي الدعار بالبلد على النهب، وقاتلهم الناس على متاعهم، وخربت الأسوار من الحامية فجاء الروم ودخلوها عليهم وبادر الأسرى الذين كانوا في حلب وأثخنوا في الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية واحتمل الروم ما قدروا عليه وأحرقوا الباقي. ولحأ المسلمون إلى قصبة البلد فامتنعوا بها، وتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة يحاصرها فرماه حجر منجنيق فمات وقتل الدمستق به من كان معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفا ومائتين. وارتحل الدمستق عنهم ولم يعرض لسواد حلب وأمرهم بالعمارة على أنه يعود ابن عمه عن قريب فخيب الله ظنه. وأعاد سيف الدولة عين زربة وأصلح أسوارها وغزا حاجبه مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم فأثخنوا فيها ورجعوا. فجاء الروم إلى حصن سبة فملكوه وملكوا أيضا حصن دلوكة وثلاثة حصون مجاورة لهم. ثم سار نجا غلام سيف الدولة إلى حصن زياد فلقيهم جمع من الروم فانهزم الروم وأسر منهم خمسمائة رجل. وفي هذه السنة أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان وكان عاملا على منبج وفيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة إقريطش، وبعث إليهم المعز بالمدد فأسر الروم وانهزم من بقي منهم. ثم ثار الروم في اثنتين وخمسين بعدها بملكهم فقتلوه وملكوا غيره وصار ابن السميسرة دمستقا.   [1] جبل جوشن: ابن الأثير ج 8 ص 540. ابن خلدون م 20 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 (انتقاض أهل حران) كان سيف الدولة قد ولى هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة [1] غيرها من ديار مضر، فساء أثره فيهم وطرح الأمتعة على التجار وبالغ في الظلم فانتظروا به غيبته عند عمه سيف الدولة وثاروا بعماله ونوابه فطردوهم، فسار هبة الله إليهم وحاصرهم شهرين وأفحش في القتل فيهم. ثم سار سيف الدولة فراجعوا الطاعة وأدخلوا هبة الله وأفحش في القتل واستقاموا. (انتقاض هبة الله) وفي هذه السنة بعث سيف الدولة الصوائف إلى بلاد الروم، فدخل أهل طرسوس من درب ومولاه نجا من درب، وأقام هو ببعض الدروب لأنه كان أصابه الفالج قبل ذلك بسنتين، فكان يعالج منه شدّة إذا عاوده وجعه، وتوغّل أهل طرسوس في غزوتهم وبلغوا قونية، وعادوا فعاد سيف الدولة إلى حلب واشتدّ وجعه، فأرجف الناس بموته فوثب عبد الله ابن أخيه، وقتل ابن نجا النصراني من غلمان سيف الدولة ولما تيقن حياة عمه رحل إلى حران وامتنع بها، وبعث سيف الدولة غلامه فجاء إلى حران في طلبه، فلحق هبة الله بأبيه بالموصل ونزل نجا على حران آخر شوال من سنة اثنتين وخمسين، وصادر أهلها على ألف ألف درهم وأخذها منهم في خمسة أيام بالضرب والنكال، وباعوا فيها ذخائرهم حتى أملقوا، وصاروا إلى ميافارقين ونزلها شاغرة فتسلط العيارون على أهلها. (انتقاض نجا بميافارقين وأرمينية واستيلاء سيف الدولة عليها) ولما فعل نجا بأهل حران ما فعل، واستولى على أموالهم فقوي بها وبطر، وسار إلى   [1] يذكر ابن الأثير في حوادث سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة: «وفي هذه السنة في صفر امتنع أهل حرّان على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وعصوا عليه. وسبب ذلك انه كان متقلدا لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة، فعسفهم نوّابه وظلموهم، وطرحوا الأمتعة على التجار من أهل حران، وبالغوا في ظلمهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 ميافارقين، وقصد بلاد أرمينية. وكان قد استولى على أكثرها رجل من العراق يعرف بأبي الورد فغلبه نجا على ما ملك منها، وأخذ قلاعه وبلاده فملك خلاط وملازكرد وأخذ كثيرا من أموال أبي الورد وقتله، ثم انتقض على سيف الدولة. واتفق أن معز الدولة بن بويه استولى على الموصل ونصيبين فكاتبه نجا يعده المساعدة على بني حمدان. ثم صالحه ناصر الدولة، ورجع إلى بغداد فسار سيف الدولة إلى نجا فهرب منه بين يديه واستولى على جميع البلاد التي ملكها من أبي الورد واستأمن إليه نجا وأخوه وأصحابه، فأمنهم وأعاد نجا إلى مرتبته. ثم وثب عليه غلمانه وقتلوه في داره بميافارقين في ربيع سنة ثلاث وخمسين. (مسير معز الدولة الى الموصل وحروبه مع ناصر الدولة) كان الصلح قد استقرّ بين ناصر الدولة ومعز الدولة على ألف ألف درهم في كل سنة. ثم طلب ناصر الدولة دخول ولده أبي ثعلب المظفر [1] في اليمن على زيادة بذلها، وامتنع سيف الدولة من ذلك وسار إلى الموصل منتصف سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة ولحق ناصر الدولة بنصيبين وملك معز الدولة الموصل، وسار عنها في اتباع ناصر الدولة بعد أن استخلف على الموصل في الجباية والحرب فلم يثبت ناصر الدولة، وفارق نصيبين وملكها معز الدولة. وخالفه أبو ثعلب إلى الموصل وعاث في نواحيها، وهزمه قوّاد معز الدولة بالموصل فسكنت نفس معز الدولة. وأقام ببر قعيد يترقب أخباره، وخالف ناصر الدولة إلى الموصل فأوقع بأصحابه وقتلهم، وأسر قواده واستولى على مخلفه من المال والسلاح وحمل ذلك كله إلى قلعة كواشي. وبلغ الخبر إلى معز الدولة فلحق بالنواب، وأعيا معز الدولة أمرهم. ثم أرسلوا إليه في الصلح فأجاب، وعقد لناصر الدولة على الموصل وديار ربيعة، وجميع أعماله بمقرّها المعلوم، وعلى أن يطلق الأسرى الذين عنده من أصحاب معز الدولة ورجع معز الدولة إلى بغداد.   [1] أبي تغلب فضل الله الغصنفر ابن الأثير ج 8 ص 553 وكذلك في مكان آخر من هذا الكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 (حصار المصيصة وطرسوس واستيلاء الروم عليها) وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة خرج الدمشق [1] في جموع الروم فنازل المصيصة، وشدّ حصارها وأحرق رساتيقها، وبلغ إلى نقب السور فدافعه أهلها أشد مدافعتهم. ثم رحل إلى أذنة وطرسوس، وطال عيثه في نواحيها، وأكثر القتل في المسلمين، وغلت الأسعار في البلاد، وقلت الأقوات. وعاود مرض سيف الدولة فمنعه من النهوض إليهم، وجاء من خراسان خمسة آلاف رجل غزاة فبلغوا إلى سيف الدولة، فارتحل بسببهم للمدافعة فوجد الروم انصرفوا ففرّق هؤلاء الغزاة في الثغور من أجل الغلاء، وكان الروم قد انصرفوا بعد خمسة عشر يوما. وبعث الدمشق إلى أهل المصيصة وأذنه وطرسوس يتهددهم بالعود، ويأمرهم بالرحيل من البلاد. ثم عاد إليهم وحاصر طرسوس فقاتلهم أشدّ قتال وأسروا بطريقا من بطارقته وسقط الدمشق إلى أهل المصيصة ورجعوا إلى بلادهم. ثم سار يعفور [2] ملك الروم من القسطنطينية سنة أربع وخمسين إلى الثغور، وبنى بقيسارية مدينة ونزلها، وجهز عليها العساكر وبعث أهل المصيصة وطرسوس في الصلح فامتنع، وسار بنفسه إلى المصيصة فدخلها عنوة واستباحها، ونقل أهلها إلى بلاد الروم وكانوا نحوا من مائتي ألف. ثم سار إلى طرسوس واستنزل أهلها على الأمان، وعلى أن يحملوا من أموالهم وسلاحهم ما قدروا عليه، وبعث حامية من الروم يبلغونهم أنطاكية، وأخذ في عمارة طرسوس وتحصينها وجلب الميرة إليها. ثم عاد إلى القسطنطينية وأراد الدمشق بن شمسيق [3] ان يقصد سيف الدولة في ميافارقين ومنعه الملك من ذلك. (انتقاض أهل انطاكية وحمص) ولما استولى الروم على طرسوس لحق الرشيق النعيمي [4] من قوادهم وأولي الرأي فيهم   [1] اسمه الحقيقي الدمستق، وقد مرّ معنا في مكان آخر من هذا الكتاب. [2] اسمه نقفور، قد مرّ معنا من قبل. [3] الدمستق بن شمشقيق: ابن الأثير ج 8 ص 555- 561. [4] الرشيق النسيمي: ابن الأثير ج 8 ص 562. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 بأنطاكيّة في عدد وقوة، فاتصل به ابن أبي الأهوازي من الجباة بأنطاكيّة، وحسن له العصيان وأراه أن سيف الدولة بميافارقين عاجز عن العود إلى الشام بما هو فيه من الزمانة، وأعانه بما كان من مال الجباة، فأجمع رشيق الانتقاض، وملك أنطاكية وسار إلى حلب وبها عرقوبة [1] وجاء الخبر الى سيف الدولة بأن رشيقا أجمع الانتقاض، ونجا ابن الأهوازي إلى أنطاكية فأقام في إمارتها رجلا من الديلم اسمه وزير [2] ولقبه الأمير وأوهم أنه علوي وتسمى هو بالأشاد [3] وأساء السيرة في أهل أنطاكية، وقصدهم عرقوبة من حلب فهزموه. ثم جاء سيف الدولة من ميافارقين إلى حلب وخرج إلى أنطاكية، وقاتل وزير وابن الأهوازي أياما. وجيء بهما إليه أسيرين فقتل وزير وحبس ابن الأهوازي أياما وقتله، وصلح أمر أنطاكية. ثم ثار بحمص مروان القرمطي كان من متابعة القرامطة، وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة، فلما تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها في غيبة سيف الدولة بميافارقين، وبعث إليه عرقوبة مولاه بدرا بالعساكر فكانت بينهما عدة حروب أصيب فيها مروان بسهم فأثبت، وبقي أياما يجود بنفسه والقتال بين أصحابه وبين بدر، وأسر بدر في بعض تلك الحروب فقتله مروان وعاش بعده أياما ثم مات وصلح أمرهم. (خروج الروم الى الثغور واستيلاؤهم على دارا) وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة خرجت جموع الروم إلى الثغور فحاصروا آمد ونالوا من أهلها قتلا وأسرا فامتنعت عليهم فانصرفوا إلى دارا قريبا من ميافارقين فأخذوها، وهرب الناس إلى نصيبين وسيف الدولة يومئذ بها فهم بالهروب، وبعث عن العرب ليخرج معهم ثم انصرف الروم وأقام هو بمكانه، وساروا إلى أنطاكية فحاصروها مدة، وعاثوا في جهاتها فامتنعت فعاد الروم إلى طرسوس.   [1] قرغوية: ابن الأثير ج 8 ص 562 وفي تجارب الأمم قرغوية أيضا. [2] اسمه دزير: ابن الأثير ج 8 ص 562. [3] وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 562: الأستاذ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 (وفاة سيف الدولة ومحبس أخيه ناصر الدولة) وفي صفر من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة توفي سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بحلب، وحمل إلى ميافارقين فدفن بها وولي مكانه بعده ابنه أبو المعالي شريف. ثم في جمادى الأولى منها حبس ناصر الدولة أخوه بقلعة الموصل، حبسه ابنه أبو ثعلب فضل الله الغضنفر [1] وكان كبير ولده، وكان سبب ذلك أنه كبر وساءت أخلاقه، وخالف أولاده وأصحابه في المصالح، وضيق عليهم فضجروا منه، ولما بلغهم معز الدولة بن بويه اعتزم أولاده على قصد العراق فنهاهم ناصر الدولة، وقال لهم اصبروا حتى ينفق بختيار ما خلف أبوه معز الدولة من الذخيرة فتظفروا به، وإلا استظهر عليكم وظفر بكم فلجوا في ذلك، ووثب به أبو ثعلب بموافقة البطانة، وحبسه بالقلعة، ووكل بخدمته. وخالفه بعض إخوته في ذلك واضطرب أمره. واضطر إلى مداراة بختيار بن معز الدولة، وأرسل له في تجديد الضمان ليحتج به على إخوته فضمنه بألفي ألف درهم في كل سنة. (ولاية أبي المعالي بن سيف الدولة بحلب ومقتل أبي فراس) ولما مات سيف الدولة كما ذكرناه ولي بعده ابنه أبو المعالي شريف، وكان سيف الدولة قد ولى أبا فراس بن أبي العلاء سعد بن حمدان عند ما خلصه من الأسر الّذي أسره الروم في منبج فاستفداه في الفداء الّذي بينه وبين الروم سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وولاه على حمص. فلما مات سيف الدولة استوحش من أبي المعالي بعده ففارق حمص، ونزل في صدد قرية في طرف البرية قريبا من حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وبعثهم مع عرقوبة في طلبه فجاء إلى صدد، واستأمن له أصحاب أبي فراس، وكان في جملتهم فأمر به عرقوبة فقتل، واحتمل رأسه إلى أبي المعالي وكان أبو فراس خاله.   [1] مر من قبل ابو ثعلب المظفر ولعل هذا تحريف من الناسخ واسمه الحقيقي ابو تغلب الغضنفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 (أخبار أبي ثعلب مع اخوته بالموصل) كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تسمى فاطمة بنت أحمد الكردية، وهي أم أبي ثعلب [1] وهي التي دبرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه، فلما حبس ناصر الدولة، كاتب ابنه حمدان يستدعيه ليخلصه مما هو فيه. وظفر أبو ثعلب بالكتاب، فنقل أباه إلى قلعة كواشي واتصل ذلك بحمدان، وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها. ولما اتصل به شأن الكتاب سار إلى نصيبين وجمع الجموع، وبعث إلى إخوته في الإفراج عن أبيهم فسار أبو ثعلب لحربه، وانهزم حمدان قبل اللقاء للرقة فحاصره أبو ثعلب أشهرا، ثم اصطلحا وعاد كل منهما إلى مكانه. ثم مات ناصر الدولة في محبسه سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ودفن بالموصل. وبعث أبو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة فافترق عنه أصحابه، وقصد العراق مستجيرا ببختيار، فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته، وحمل إليه الهدايا وبعث بختيار إلى أبي ثعلب النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه، وعاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وفارقه أبو البركات، ثم استقدمه أبو ثعلب فامتنع من القدوم عليه، فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانيا في العساكر، فخرج حمدان إلى البرية، وترك الرحبة فملكها أبو البركات واستعمل عليها. وسار إلى الرقة، ثم إلى عرابان. وخالفه حمدان إلى الرحبة فكبسها وقتل أصحاب أبي ثعلب بها فرجع إليه أبو البركات، وتقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجه. ثم ألقاه إلى الأرض وأسره ومات من يومه. وحمل إلى الموصل فدفن بها عند أبيه. وجهز أبو ثعلب إلى حمدان وقدم أخاه أبا فراس محمدا إلى نصيبين، ثم عزله عنها لأنه داخل حمدان ومالأه عليه، فاستدعاه وقبض عليه وحبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل فاستوحش أخوه إبراهيم والحسن، ولحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان، وساروا جميعا إلى سنجار. وسار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة فخاموا [2] عن لقائه، واستأمن   [1] كثيرا ما يذكر ابن خلدون ابن تغلب باسم ابن ثعلب، كما يذكر التغالبة باسم الثعالبة. [2] بمعنى أحجموا عن لقائه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 إليه أخوه إبراهيم والحسن خديعة ومكرا فأمنهما، ولم يعلم، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان. وعاد حمدان من سنجار إلى عرابان واطلع أبو ثعلب على خديعة أخويه فهربا منه. ثم استأمن الحسن ورجع إليه، وكان حمدان أقام نائبا بالرحبة غلامه نجا، فاستولى على أمواله وهرب بها إلى حران وبها سلامة البرقعيدي من قبل أبي ثعلب فرجع حمدان إلى الرحبة، وسار أبو ثعلب إلى قرقيسيا، وبعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات، واستولوا عليها، ونجا حمدان بنفسه، ولحق بسنجار مستجيرا به، ومعه أخوه إبراهيم فأكرمهما ووصلهما وأقاما عنده. ورجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك كله آخر سنة ستين وثلاثمائة. (خروج الروم الى الجزيرة والشام) وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة دخل ملك الروم الشام فسار في نواحيها، ولم يجد من يدافعه فعاث في نواحي طرابلس، وكان أهلها قد أخرجوا عاملهم إلى عرقة لسوء سيرته فنهب الروم أمواله، ثم حاصر الروم عرقة فملكوها ونهبوها. ثم قصدوا حمص وقد انتقل أهلها عنها فأحرقوها، ورجعوا إلى بلاد السواحل وملكوا منها ثمانية عشر بلدا، واستباحوا عامة القرى، وساروا في جميع نواحي الشام ولا مدافع لهم، إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم. ثم رجع ملك الروم مجمعا حصار حلب وأنطاكية، وبلغه استعدادهم فرحل عنهم إلى بلاده ومعه من السبي مائة ألف رأس. وكان بحلب قرعوية [1] مولى سيف الدولة فمانعهم، وبعث ملك الروم سراياه إلى الجزيرة فبلغوا كفرتوثا وعاثوا في نواحيها، ولم يكن من أبي ثعلب مدافعة لهم. (استبداد قرعوية بحلب) كان قرعوية غلام سيف الدولة، وهو الّذي أخذ البيعة لابنه أبي المعالي بعد موته،   [1] مرّ معنا من قبل باسم فرعوبة وهذا تحريف واضح. اما اسمه الحقيقي قرغوية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 فلما كان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة انتقض على أبي المعالي وأخرجه من حلب واستبد بملكها. وسار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها، فسار إلى والدته بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس. ولحق أصحابه بأبي ثعلب، وبلغ أمه بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس أنه يريد القبض عليها فمنعته أياما من الدخول، حتى استوثقت لنفسها وأذنت له ولمن رضيته، وأطلقت لهم الأرزاق ومنعت الباقين وسار أبو المعالي لقتال قرعوية بحلب فامتنع عليه، ثم لحق أبو المعالي بحماة، وأقام بها وبقيت الخطبة بحران له ولا والي عليهم من قبله، فقدموا عليهم من يحكم بينهم. (مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين) ولما سمع أبو ثعلب بخروج أبي المعالي من ميافارقين إلى حلب لقتال قرعوية، سار إليها وامتنعت زوجة سيف الدولة منه، واستقر الأمر بينهما على أن تحمل إليه مائتي ألف درهم. ثم نمي إليها أنه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلا، ونالت من معسكره فبعث إليها يلاطفها فأعادت إليه بعض ما نهب، وحملت إليه مائة ألف درهم وأطلقت الأسارى فرجع عنها. (استيلاء الروم على انطاكية ثم حلب ثم ملازكرد) وفي سنة تسع وخمسين خرج الروم إلى انطاكية فمروا بحصن الوفاء [1] بقربها، وهم نصارى فحاصروهم، واتفقوا على أن يرحلوا إلى أنطاكية، فإذا نزل الروم عليها ثاروا من داخل. وانتقل أهل الوفاء ونزلوا بجبل أنطاكية. وجاء بعد شهرين أخو يعفور [2] ملك الروم في أربعين ألفا من جموع الروم، ونازل أنطاكية فأخلى له أهل الوفاء السور من ناحيتهم، وملكوا البلد وسبوا منها عشرين ألفا. ثم أنفذ ملك الروم جيشا   [1] حصن لوقا: ابن الأثير ج 8 ص 603. [2] نقفور: ابن الأثير ج 8 ص 603. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 كثيفا إلى حلب، وأبو المعالي بن سيف الدولة عليها يحاصرها ففارقها أبو المعالي، وقصد البرية وملك الروم حلب. وتحصن قرعوية وأهل البلد بالقلعة فحاصروها مدّة، ثم ضربوا الهدنة بينهم على مال يحمله قرعوية، وعلى أن الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها. ودخل في هذه الهدنة حمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر، وما بين ذلك من الحصون والقرى، وأعطاهم رهنهم على ذلك الروم، وأفرج الروم عن حلب. وكان ملك الروم قد بعث جيشا إلى ملازكرد من أعمال أرمينية فحاصروها وفتحوها عنوة، ورعب أهل الثغور منهم في كل ناحية. (مقتل يعفور ملك الروم) كان يعفور ملكا بالقسطنطينية، وهي البلاد التي بيد بني عثمان لهذا العهد، وكان من يليها يسمى الدمشق [1] . وكان يعفور هذا شديدا على المسلمين، وهو الّذي أخذ حلب أيام سيف الدولة. وملك طرسوس والمسينة [2] وعين زربة. وكان قتل الملك قبله وتزوج امرأته، وكان له منها ابنان فكفلهما يعفور وكان كثيرا ما يطرق بلاد المسلمين ويدوخها في ثغور الشام والجزيرة، حتى هابه المسلمون وخافوه على بلادهم. ثم أراد أن يجب [3] ربيبيه ليقطع نسلهما فغرقت [4] أمهما من ذلك، وأرسلت إلى الدمشق بن الشمشيق [5] وداخلته في قتله. وكان شديد الخوف من يعفور. وهذا كان أبوه مسلما من أهل طرسوس يعرف بابن العفاش تنصر ولحق بالقسطنطينية. ولم يزل يترقى في الأطوار إلى أن نال من الملك ما ناله. وهذه غلطة ينبغي للعقلاء أن يتنزهوا عنها، ولا ينال الملك من كان عريقا في السوقة، وفقيدا [6] للعصابة بالكلية وبعيدا عن نسب أهل الدولة، فقد تقدم من ذلك في مقدمة الكتاب ما فيه كفاية.   [1] الدمستق كما مر من قبل. [2] المصيصة: ابن الأثير ج 8 ص 607. [3] بمعني يخصي ابني الملك ليقطع نسلهما. [4] لا معنى لها ومقتضى السياق وقلقت أمهما من ذلك. [5] اسمه الدمستق بن الشمشقيق وقد مر معنا من قبل. [6] الفقيد: بمعنى المفقود في اللغة، ويظهر ان ابن خلدون يقصد الفاقد وقد كرر هذا المعنى مرات عديدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 (استيلاء أبي ثعلب على حران) وفي منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة سار أبو ثعلب إلى حران وحاصرها نحوا من شهر، ثم جنح أهلها إلى مصالحته واضطربوا في ذلك، ثم توافقوا عليه وخرجوا إلى أبي ثعلب وأعطوه الطاعة، ودخل في إخوانه وأصحابه فصلى الجمعة ورجع الى معسكره. واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي، وكان من أكابر أصحاب بني حمدان. وبلغه الخبر بأن نميرا عاثوا في بلاد الموصل وقتلوا العامل ببرقعيد فأسرع العود. (مصالحة قرعوية لابي المعالي) قد تقدم لنا استبداد قرعوية بحلب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وخروج أبي المعالي ابن سيف الدولة منها، وأنه لحق بأمه بميافارقين. ثم رجع لحصار قرعوية بحلب. ثم رجع إلى حمص ونزل بها. ثم وقع الاتفاق بينه وبين قرعوية على أن يخطب له بحلب ويخطبان جميعا للمعز العلويّ صاحب مصر. (مسير الروم إلى بلاد الجزيرة) وفي سنة إحدى وستين سار الدمشق في جموع الروم إلى الجزيرة فأغار على الرها ونواحيها، ثم تنقل في نواحي الجزيرة، ثم بلغ نصيبين واستباحها ودوخها. ثم سار في ديار بكر ففعل فيها مثل ذلك. ولم يكن لأبي ثعلب في مدافعتهم أكثر من حمل المال إليهم، وسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وجلسوا إلى الناس في المساجد والمشاهد يصفون ما جرى على المسلمين، وخوفوهم عاقبة أمرهم فتقدمهم أهل بغداد إلى دار الطائع الخليفة، فأرادوا الهجوم عليه فأغلقت دونهم الأبواب فأعلنوا بشتمه، ولحق آخرون من أهل بغداد ببختيار وهو بنواحي الكوفة يستغيثونه من الروم، فوعدهم بالجهاد، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 بالتجهيز للغزو، وأن يستنفر العامة. وكتب إلى أبي ثعلب بن حمدان بإعداد الميرة والعلوفات والتجهيز، وأنه عازم على الغزو. ووقعت بسبب ذلك فتنة في بغداد من قبل اشتغال العامة بذلك أدت إلى القتل والنهب بين عصائب الفتيان والعيارين. (أسر الدمشق وموته) ولما فعل الدمشق في ديار مضر والجزيرة ما فعل، قوي طمعه في فتح آمد فسار إليه أبو ثعلب، وقدم أخاه أبا القاسم هبة الله، واجتمعا على حرب الدمشق ولقياه في رمضان سنة اثنتين وستين. وكانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل، وكان الروم على غير أهبة فانهزموا، وأخذ الدمشق أسيرا، فلم يزل محبوسا عند أبي ثعلب إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وبالغ في علاجه وجمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك ومات. (استيلاء بختيار بن معز الدولة على الموصل وما كان بينه وبين أبي ثعلب) قد تقدم لنا ما كان بين أبي ثعلب وأخويه حمدان وإبراهيم من الحروب، وأنهما سارا إلى بختيار بن معز الدولة صريخين فوعدهما بالنصرة، وشغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهما أمره، وهرب إبراهيم ورجع إلى أخيه أبي ثعلب فتحرّك عزم بختيار على قصد الموصل، وأغراه وزيره ابن بقية لتقصيره في خطابه فسار، ووصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ولحق أبو ثعلب بسنجار وأخلى الموصل من الميرة ومن الدواوين. وخالف بختيار إلى بغداد، ولم يحدث فيها حدثا من نهب ولا غيره، وإنما قاتل أهل بغداد فحدثت فيها الفتنة بسبب ذلك بين عامتها. واضطرب أمرهم وخصوصا الجانب الغربي. وسمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية وسبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد وأقام سبكتكين في الضاحية، وتأخر أبو ثعلب عن بغداد وحاربه يسيرا. ثم داخله في الانتقاض واستيلاء سبكتكين على الأمر. ثم أقصر سبكتكين عن ذلك وخرج إليه ابن بقية، وراسلوا أبا ثعلب في الصلح على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 مال يضمنه ويرد على أخيه حمدان إقطاعه ما سوى ماردين، وكتبوا بذلك إلى بختيار. وارتحل أبو ثعلب إلى الموصل وأشار ابن بقية على سبكتكين باللحاق ببختيار فتقاعد، ثم سار. وارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمة وعسفه، وطلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني وأن يحط عنه من الضمان فأجابه وسار. ثم بلغه في طريقه أن أبا ثعلب نقض وقتل بعضا من أصحاب بختيار عادوا إلى الموصل لنقل أهاليهم، فاستشاط بختيار واستدعى ابن بقية وسبكتكين في العساكر، وعادوا جميعا إلى الموصل. وفارقها أبو ثعلب وبعث أصحابه بالاعتذار والحلف على إنكار ما بلغه فقبل، وبعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستحلافه. وتم الصلح ورجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب وقد كان عقد له عليها من قبل. (عود أبي المعالي بن سيف الدولة الى حلب) قد تقدم لنا أن قرعوية مولى أبيه سيف الدولة كان تغلب عليه، وأخرجه من حلب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، فسار إلى والدته بميافارقين. ثم إلى حماة فنزلها وكانت الروم قد أمنت حمص، وكثر أهلها. وكان قرعوية قد استناب بحلب مولاه بكجور فقوي عليه وحبسه في قلعة حلب، وملكها سنين فكتب أصحاب قرعوية إلى أبي المعالي واستدعوه، فسار وحاصرها أربعة أشهر، وملكها وأصلح أحوالها، وازدادت عمارتها حتى انتقل إلى ولاية دمشق كما يذكر. (استيلاء عضد الدولة بن بويه على الموصل وسائر ملوك بني حمدان) ولما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وهزم بختيار ابن عمه معز الدولة، سار بختيار في الفل إلى الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة أخو أبي ثعلب فحسن له قصد الموصل على الشام، وقد كان عضد الدولة عاهده أن لا يتعرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 لأبي ثعلب لمودة بينهما فنكث وقصدها. ولما انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح، وأن يسير إليه بنفسه وعساكره، ويعيده على ملك بغداد على أن يسلم إليه أخاه حمدان فسلمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه، وسار بختيار إلى الحديثة ولقي أبا ثعلب وسار معه إلى العراق في عشرين ألف مقاتل. وزحف نحوهما عضد الدولة، والتقوا بنواحي تكريت في شوال سنة ست وستين فهزمهما عضد الدولة، وقتل بختيار ونجا أبو ثعلب إلى الموصل فاتبعه عضد الدولة، وملك الموصل في ذي القعدة، وحمل معه الميرة والعلوفات للإقامة، وبث السرايا في طلب أبي ثعلب ومعه المرزبان ابن بختيار وأخواله أبو إسحاق وظاهر ابنا معز الدولة ووالدتهم. وسار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسماعيل من أصحابه. وسار حاجبه أبو ظاهر طغان إلى جزيرة ابن عمر ولحق أبو ثعلب بنصيبين. ثم انتقل إلى ميافارقين فأقام بها، وبلغه مسير أبي الوفاء إليه ففارقها إلى تدليس [1] وجاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه فتركها وطلب أبا ثعلب فخرج من أرزن الروم إلى الحسينية من أعمال الجزيرة، وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعه، ونقل منها ذخيرته، وعاد فعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحاصرها. واتصل بعضد الدولة مجيئه إلى القلاع، فسار إليه ولم يدركه، واستأمن إليه كثير من أصحابه. وعاد إلى الموصل وبعث قائده طغان إلى تدليس فهرب منها أبو ثعلب واتصل بملكهم المعروف بورد الرومي، وكان منازعا لملكهم الأعظم في الملك، فوصل ورد يده بيد أبي ثعلب، وصاهره ليستعين به واتبعه في مسيره عسكر عضد الدولة، وأدركوه فهزمهم وأثخن فيهم. ونجا فلّهم إلى حصن زياد ويسمى خرت برت. وأرسل إلى ورد يستمده فاعتذر بما هو فيه ووعده بالنصر. ثم انهزم ورد أمام ملك الروم فأيس أبو ثعلب من نصره، وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد حتى جاء خبر ميافارقين. وكان أبو الوفاء لما رجع من طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين، والوالي عليها هزارمرد فضبط البلد ودافع أبا الوفاء ثلاثة أشهر. ثم مات وولى أبو ثعلب مكانه مؤنسا من موالي الحمدانية، ودس أبو الوفاء إلى بعض أعيان البلد فاستماله فبعث له في الناس رغبة. وشعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم فانقاد واستأمن، وملك أبو الوفاء البلد وكان في أيام حصاره قد افتتح سائر حصونه فاستولى على سائر   [1] تدليس: مدينة بالمغرب الأقصى على البحر المحيط وهي غير مقصوده هنا والمقصود بدليس: بلدة من نواحي أرمينية قرب خلاط ذات بساتين كثيرة ... (معجم البلدان) لابن الأثير ج 8 ص 693. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 ديار بكر وأمن أصحاب أبي ثعلب وأحسن إليهم ورجع إلى الموصل. وبلغ الخبر إلى أبي ثعلب منقلبة من دار الحرب فقصد الرحبة. وبعث إلى عضد الدولة يستعطفه فشرط عليه المسير إليه فامتنع. ثم استولى عضد الدولة على ديار مضر وكان عليها من قبل أبي ثعلب سلامة البرقعيدي من كبار أصحاب بني حمدان وكان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشا من حلب فحاربوها وامتنعت عليهم، وبعث أبو المعالي إلى عضد الدولة وعرض بنفسه عليه فبعث عضد الدولة النقيب أبا احمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي، وتسلمها بعد حروب. وأخذ لنفسه منها الرقة، ورد باقيها على سعد الدولة فصارت له ثم استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه. واستولى على جميع أعماله واستخلف أبا الوفاء على الموصل، ورجع إلى بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وستين. ثم بعث عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصروهم حتى استقاموا وسلموا قلاعهم، ونزلوا إلى الموصل فحال الثلج بينهم وبين بلادهم فقتلهم قائد الجيش، وصلبهم على جانبي طريق الموصل. (مقتل أبي ثعلب بن حمدان) ولما أيس أبو ثعلب بن حمدان من إصلاح عضد الدولة، والرجوع إلى ملكه بالموصل سار إلى الشام، وكان على دمشق قسّام داعية العزيز العلويّ غلب عليها بعد أفتكين وقد تقدم ذلك، وكيف ولي أفتكين على دمشق. فخاف قسام من أبي ثعلب ومنعه من دخول البلد فأقام بظاهرها، وكاتب العزيز، وجاءه الخبر بأنه يستقدمه، فرحل إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه وبين قسام. وجاء الفضل قائد العزيز لحصار قسام بدمشق، ومر بأبي ثعلب ووعده عن العزيز بكل جميل. ثم حدثت الفتنة بين دغفل وقسام وأخرجهم، وانتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل والقائد الّذي يحاصر دمشق. ثم ثار أبو ثعلب في بني عقيل إلى الرملة في محرم سنة تسع وتسعين، فاستراب به الفضل ودغفل وجمعوا الحربة ففر بنو عقيل عنه، وبقي في سبعمائة من غلمانه وغلمان أبيه، وولى منهزما فلحقه الطلب فوقف يقاتل، فضرب وأسر وحمل إلى دغفل، وأراد الفضل حمله إلى العزيز فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 بأفتكين فقتله، وبعث الفضل بالرأس إلى مصر. وحمل بنو عقيل أخته جميلة وزوجته بنت سيف الدولة إلى أبي المعالي بحلب فبعث بجميلة إلى الموصل وبعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها. (وصول ورد المنازع لملك الروم الى ديار بكر مستجيرا) كان ملك الروم أرمانوس لما توفي خلف ولدين صغيرين وهما بسيل وقسطنطين، ونصب أحدهما للملك وعاد حينئذ الدمشق يعفور [1] من بلاد الإسلام بعد أن عاث في نواحيها وبالغ في النكاية، فاجتمع إليه الروم ونصبوه للنيابة عن ابني أرمانوس فداخلت أمهما ابن الشميشق [2] على الدمشقية، وقبض على لاوون أخي دمشق وعلى ابنه ورديس بن لاوون واعتقلهما في بعض القلاع. وسار إلى بلاد الشام وأعظم فيها النكاية. ومرّ بطرابلس فحاصرها، وكان لوالده الملك أخ خصي وهو يومئذ وزير، فوضع على ابن الشميشق من سقاه السم، وأحس به من نفسه فأغذ السير إلى القسطنطينية فمات في طريقه. وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة في الأمر، وصاهر أبا ثعلب بن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور، وقصد الروم ووالى عليهم الهزائم فخافه الملكان، وأطلقا ورديس بن لاوون وبعثاه على الجيوش لقتال الورد فقاتله فانهزم إلى ديار بكر سنة تسع وستين وثلاثمائة، ونزل بظاهر ميافارقين، وبعث أخاه إلى عضد الدولة مستنصرا به. وبعث ملكا الروم بالقسطنطينية إلى عضد الدولة فاستمالاه فرجح جانبهما، وأمر بالقبض على ورد وأصحابه فقبض عليه أبو علي التميمي عامل ديار بكر، وعلى ولده وأخيه وأصحابه وأردعهم السجن بميافارقين. ثم بعثهم إلى بغداد فحبسوا بها إلى أن أطلقهم بهاء الدولة بن عضد الدولة سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وشرط عليه إطلاق عدد من المسلمين وإسلام سبعة من الحصون برساتيقها، وأن لا يتعرّض لبلاد المسلمين ما عاش. وجهزه فسار وملك في طريقه ملطية وقوي بما فيه وصالحه ورديس بن لاوون على أن يكون قسطنطينية وجانب الشمال من الخليج له وحاصر قسطنطينية، وبها الملكان ابنا أرمانوس وهما بسيل   [1] اسمه الصحيح الدمستق نقفور. [2] اسمه ابن الشمشقيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وقسطنطين في ملكها، وأقرّا وردا على ما بيده قليلا. ثم مات وتقدم بسيل في الملك ودام عليه ملكه وحارب البلغار خمسا وثلاثين سنة، وظفر بهم وأجلاهم عن بلادهم وأسكنها الروم. (ولاية بكجور على دمشق) قد قدمنا ولاية بكجور على حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة وأنه عمرها وكان أهل دمشق ينتقلون إليها لما نالهم من جور قسام. وما وقع بها من الغلاء والوباء، وكان بكجور يحمل الأقوات من حمص تقربا إلى العزيز صاحب مصر، وكاتبه في ولايتها فوعده بذلك. ثم استوحش من أبي المعالي سنة ثلاث وسبعين، وأرسل إلى العزيز يستنجز وعده في ولاية دمشق فمنع الوزير بن كلس من ولايته ريبة به، وكان بدمشق من قبل العزيز القائد بلكين بعثه فمنع الوزير بعد قسام وساء أثر ابن كلس في الدولة، واجتمع الكتاميون بمصر على التوثب بابن كلس ودعته الضرورة لاستقدام بلكين من دمشق فأمر العزيز باستقدامه، وولى بكجور مكانه فدخلها في رجب سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وأساء السيرة فيها وعاث في أصحاب الوزير بن كلس وأقام على ذلك ستا. وعجز أهل دمشق منه وجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم، وكوتب نزال والي طرابلس بمعاضدته فسار في العساكر، وجمع بكجور عسكرا من العرب وغيرهم، وخرج للقائه فهزمه منير واستأمن إليه بكجور على أن يرحل عن دمشق فأمنه، ورحل إلى الرقة واستولى عليها، وتسلم منير دمشق وأقام بكجور بالرقة واستولى على الرحبة وما يجاور الرقة، وراسل بهاء الدولة بن عضد الدولة بالطاعة وباد الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وأبا المعالي سعد الدولة صاحب حلب بالعود إلى طاعته على أن يقطعه حمص، فلم يحبه أحد إلى شيء فأقام بالرقة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي، ويستميلهم في الغدر به فأجابوه، وأخبروه أن أبا المعالي مشغول بلذاته فاستمد حينئذ العزيز، فكتب إلى نزال بطرابلس وغيره من ولاة الشام أن يمدوه ويكونوا في تصرفه. ودس إليهم عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز في المباعدة عنه لعداوته مع ابن كلس الوزير قبله، ابن خلدون م 21 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 وتجديدها مع ابن منصور هذا فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معلوم، وأخلفه وسار بكجور من الرقة وبلغ خبر مسيره إلى أبي المعالي فسار من حلب ومعه لؤلؤ الكبير مولى أبيه، وكتب إلى بكجور يستميله ويذكره الحقوق، وأن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل وكتب أبو المعالي إلى صاحب أنطاكية يستمده فأمده بجيش الروم، وكتب إلى العرب الذين مع بكجور يرغبهم في الأموال والإقطاع فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء. فلما التقى العسكران وشغل الناس بالحرب، عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه ولحقوا بأبي المعالي فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريده، وقد أزاله لؤلؤ عن موقفه، ووقف مكانه خشية عليه. وحمل ذلك فلما انتهى بكجور لحملته برز إليه لؤلؤ وضربه فأثبته. وأحاط به أصحابه فولى منهزما وجاء بعضهم إلى أبي المعالي فشارطه على تسليمه إليه فقبل شرطه، وأحضر فقتله وسار إلى الرقة، وبها سلامة الرشقي مولى بكجور وأولاده وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره فاستأمنوا إليه فأمنهم ونزلوا عن الرقة فملكها واستكثر ما مع أولاد بكجور فقال له القاضي ابن أبي الحصين هو مالك، وبكجور لا يملك شيئا ولا حنث عليك. فاستصفى مالهم أجمع وشفع فيهم العزيز فأساء عليه الردّ، وهرب الوزير المغربي إلى مشهد علي. (خبر باد الكردي ومقتله على الموصل) كان من الأكراد الحميدية بنواحي الموصل ومن رؤسائهم رجل يعرف بباد، وقيل باد لقب له، واسمه أبو عبد الله الحسين بن ذوشتك، وقيل باد اسمه وكنيته أبو شجاع ابن ذوشتك. وإنما أبو عبد الله الحسين أخوه. وكان له بأس وشدّة وكان يخيف السابلة، ويبذل ما تجمع له من النهب في عشائره فكثرت جموعه. ثم سار إلى مدينة أرمينية فملك مدينة أرجيش. ثم رجع إلى ديار بكر، فلما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده في جملة الوفود وخافه على نفسه فعدا وأبعد في مذهبه، وبلغ عضد الدولة أمره فطلبه فلم يظفر به. ولما هلك عضد الدولة سار باد إلى ديار بكر فملك آمد وميافارقين. ثم ملك نصيبين فجهز صمصام الدولة العساكر إليه مع الحاجب أبي القاسم سعيد ابن محمد فلقيه على خابور الحسينية من بلاد كواشي فانهزم الحاجب وعساكره، وقتل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 كثير من الديلم. ولحق الحاجب سعيد بالموصل وباد في اتباعه. وثارت عامة الموصل بالحاجب لسوء سيرته فأخرجوه، ودخل باد الموصل سنة ثلاث وسبعين وقوي أمره وسما إلى طلب بغداد وأهم صمصام الدولة أمره ونظر مع وزيره ابن سعدان في توجيه العساكر إليه وأنفذ كبير القواد زياد بن شهرا كونه. فتجهز لحربه وبالغوا في مدده وإزاحة علله فلقيهم في صفر سنة أربع وسبعين. وانهزم باد وقتل كثير من أصحابه وأسر آخرون، وطيف بهم في بغداد. واستولى الديلم على الموصل، وأرسل زياد القائد عسكرا إلى نصيبين فاختلفوا على مقدمهم. وكتب ابن سعدان وزير صمصام الدولة إلى أبي المعالي بن حمدان صاحب حلب يومئذ بولاية ديار بكر، وإدخالها في عمله، فسير إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد، فحاصروا ميافارقين أياما ورجعوا إلى حلب. وبعث سعد الحاجب من يتولى غدر باد فدخل عليه رجل في خيمته وضربه بالسيف على ساقه يظنها رأسه فنجا من الهلكة. ثم بعث باد إلى زياد القائد، وسعد الحاجب بالموصل بطلب الصلح فأتمروا بينهم على أن تكون ديار بكر لباد، والنصف من طور عبدين. فخلصت ديار بكر لباد من يومئذ وانحدر زياد القائد إلى بغداد، وأقام سعد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع وسبعين، فطمع باد في الموصل، وبعث إليها شرف الدولة بن بويه أبا نصر خواشاده في العساكر، فزحف إليه باد وتأخر المدد عن أبي نصر فبعث عن العرب من بني عقيل وبني نمير لمدافعة باد، وأقطعهم البلاد. واستولى باد على طور عبدين آخر الجبال ولم يضجر، وأرسل أخاه في عسكر لقتال العرب فقتل، وانهزم عسكره وأقام باد قبالة خواشاده حتى جاء الخبر بموت شرف الدولة بن بويه، فزحف خواشاده إلى الموصل وقامت العرب بالصحراء وباد بالجبال. (عود بني حمدان الى الموصل ومقتل باد) كان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن ابنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهما أبي ثعلب بالعراق، وكانا ببغداد، واستقرا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة، فلما تولى شرف الدولة وخواشاده في الموصل بعثهما إليها. ثم أنكر ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 عليه أصحابه فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما، فكتب إليهما بالرجوع عنه فلم يجيبا، وأغذا السير إلى الموصل حتى نزلا بظاهرها. وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك الذين عندهم وخرجوا إلى بني حمدان. وزحف الديلم لقتالهم فانهزموا وقتل منهم خلق، وامتنع باقيهم بدار الإمارة ومن معه على الأمان إلى بغداد، وملكوا الموصل. وتسايل اليهم العرب من كل ناحية. وأراد أهل الموصل استلحامهم فمنعهم بنو حمدان، وأخرجوا خواشاده وبلغ الخبر إلى باد وهو بديار بكر بملك الموصل، وجمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك، وكان جمعهم كثيرا. واستمال أهل الموصل بكتبه فأجابه بعضهم، فسار ونزل على الموصل، وبعث أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان إلى أبي عبد الله محمد بن المسيب أمير بني عقيل يستنصرانه. وشرط عليهما جزيرة ابن عمر ونصيبين فقبلا شرطه. وسار أبو عبد الله صريخا، وأقام أخوه أبو طاهر بالموصل وباد يحاصره. وزحف أبو الراود في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان، وعبروا دجلة عند بدر، وجاءوا إلى باد من خلفه. وخرج أبو طاهر والحمدانية من أمامه، والتحم القتال ونكب بباد فرسه فوقع طريحا، ولم يطق الركوب وجهض العدو عنه أصحابه فتركوه فقتله بعض العرب، وحمل رأسه إلى بني حمدان ورجعوا ظافرين إلى الموصل وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة. (مهلك أبي طاهر بن حمدان واستيلاء بني عقيل على الموصل) لما هلك باد طمع أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان في استرجاع ديار بكر، وكان أبو علي بن مروان الكردي، وهو ابن أخت باد قد خلص من المعركة، ولحق كيفا، وبه أهل باد وماله، وهو من أمنع المعاقل فتزوج امرأة خاله، واستولى على ماله وعلى الحصن. وسار في ديار بكر فملك ما كان لخاله فيها تليدا. وبينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان يحاربانه فهزمهما وأسر عبد الله منهما. ثم أطلقه ولحق بأخيه أبي طاهر وهو يحاصر آمد، فزحفا لقتال ابن مروان فهزمهما وأسر أبا عبد الله ثانية إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقه، واستعمله الخليفة على حلب إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 أن هلك. وأما أبو طاهر فلحق بنصيبين في فل من أصحابه، وبها أبو الدرداء محمد ابن المسيب أمير بني عقيل وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وبعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليه عاملا من قبله، فبعث إليها قائدا كان تصرفه عن أبي الدرداء، ولم يكن له من الأمر شيء إلى أن استبد أبو الدرداء واستغنى عن العامل، وانقرض ملك بني حمدان من الموصل والبقاء للَّه. (ملك سعد الدولة بن حمدان بحلب وولاية ابنه أبي الفضائل واستبداد لؤلؤ عليه) ولما هزم سعد الدولة مولاه بكجور، وقتله حين سار إليه من الرقة، رجع إلى حلب فأصابه فالج وهلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وكان مولاه لؤلؤ كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل، وأخذ له العهد على الأجناد، وتراجعت إليهم العساكر. وبلغ الخبر أبا الحسن المغربي وهو بمشهد علي فسار إلى العزيز بمصر، وأغراه بملك حلب فبعث إليها قائده منجوتكين في العساكر وحاصرها، ثم ملك البلد، واعتصم أبو الفضائل ولؤلؤ بالقلعة، وبعث أبو الفضائل ولؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه، وكان مشغولا بقتال البلغار، فأرسل إلى نائبة بأنطاكيّة أن يسير إليهم، فسار في خمسين ألفا ونزل جسر الحديد على وادي العاصي، فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين وهزم الروم إلى أنطاكية، واتبعهم فنهب بلادها وقراها وأحرقها. ونزل أبو الفضائل ولؤلؤ من القلعة إلى مدينة حلب فنقل ما فيها من الغلال، وأحرق الباقي. وعاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب. وبعث لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي في الوساطة لهم في الصلح فصالحهم منجوتكين، ورحل إلى دمشق حجرا من الحرب وتعذر الأقوات. ولم يراجع العزيز في ذلك فغضب العزيز، وكتب إليه يوبخه ويأمره بالعود لحصار حلب فعاد وأقام عليها ثلاثة عشر شهرا. فبعث أبو الفضائل ولؤلؤ مراسلة لملك الروم وحرّضوه على انطاكية، وكان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها وأجفل في الحشد، ورجع إلى حلب. وبلغ الخبر إلى منجوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه وهدم مبانيه، وجاء ملك الروم وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ فشكرا له ورجعا، ورحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 ملك الروم إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما. وحاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة. ثم رحل عائدا إلى بلده. (انقراض بني حمدان بحلب واستيلاء بني كلاب عليها) ثم إنّ أبا نصر لؤلؤا مولى سيف الدولة عزل أبا الفضائل مولاه بحلب، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العباسية، وخطب للحاكم العلويّ بمصر ولقبه مرتضى الدولة. ثم فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة وأميرهم يومئذ صالح بن مرداس وتقبض لؤلؤ على جماعة منهم دخلوا إلى حلب، كان فيهم صالح فاعتقله مدّة وضيق عليه. ثم فرّ من محبسه ونجا إلى أهله وزحف إلى حلب ولؤلؤ فيها وكانت بينه وبينهم حروب هزمه صالح آخرها، وأسره سنة ستين وأربعمائة. وخلص أخوه نجا إلى حلب فحفظها وبعث إلى صالح في فدية أخيه وشرط له ما شاء فأطلقه، ورجع إلى حلب واتهم مولاه فتحا، وكان نائبة على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته. ونمي إليه الخبر، فكاتب الحاكم العلويّ وأظهر دعوته، وانتقض على لؤلؤ فأقطعه الحاكم صيدا وبيروت، ولحق لؤلؤ بالروم في أنطاكية فأقام عندهم ولحق فتح بصيداء. واستعمل الحاكم على حلب من قبله، وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة أجمع، وبقيت حلب في ملك العبيديين. ثم غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي، وكانت بها دولة له ولقومه، وورثها عنه بنوه كما يذكر في أخبارهم. (الخبر عن دولة بني عقيل بالموصل وابتداء أمرهم بأبي الدرداء وتصاريف أحوالهم) كان بنو عقيل وبنو كلاب وبنو نمير وبنو خفاجة، وكلهم من عامر بن صعصعة وبنو طيِّئ من كهلان، قد انتشروا ما بين الجزيرة والشام في عدوة الفرات. وكانوا كالرعايا لبني حمدان يؤدون إليهم الأتاوات وينفرون معهم في الحروب. ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان، وساروا إلى ملك البلاد. ولما انهزم أبو طاهر بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 حمدان أمام علي بن مروان بديار بكر كما قدمناه سنة ثمانين وثلاثمائة ولحق بنصيبين وقد استولى عليها أبو الدرداء محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر بن عمر بن مهند أمير بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر، فقتل أبا طاهر وأصحابه وسار إلى الموصل فملكها. وبعث إلى بهاء الدولة بن بويه المستبد على الخليفة بالعراق، في أن يبعث عاملا على الموصل فبعث عاملا من قبله، والحكم راجع لأبي الدرداء. وأقام على ذلك سنتين. وبعث بهاء الدولة سنة اثنتين وثمانين عساكره إلى الموصل مع أبي جعفر الحجاج بن هرمز فغلب عليها أبا الدرداء، وملكها. وزحف لحربه أبو الدرداء في قومه ومن اجتمع إليه من العرب فكانت بينهم حروب ووقائع، وكان الظفر فيها للديلم. (مهلك أبي الدرداء وولاية أخيه المقلد) ثم مات أبو الدرداء سنة ست وثمانين وولي إمارة بني عقيل مكانه أخوه عليّ بعد أن تطاول إليها أخوهما المقلد بن المسيب، وامتنع بنو عقيل لأن عليا كان أسن منه فصرف المقلد وجهه إلى ملك الموصل، واستمال الديلم الذين فيها مع أبي جعفر بن هرمز فمالوا إليه، وكتب إلى بهاء الدولة أن يضمنه الموصل بألفي ألف درهم كل سنة. ثم أظهر لأخيه علي وقومه أن بهاء الدولة قد ولاه، واستمدهم فساروا معه ونزلوا على الموصل، وخرج إلى المقلد من كان استماله من الديلم واستأمن إليهم أبو جعفر قائد الديلم فأمنوه، وركب السفن إلى بغداد واتبعوه فلم يظفروا منه بشيء وتملك المقلد ملك الموصل. (فتنة المقلد مع بهاء الدولة بن بويه) 2 كان المقلد يتولى حماية غربي الفرات وكان له ببغداد نائب فيه تهور وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة. وكان بهاء الدولة مشغولا بفتنة أخيه، فكتب نائب المقلد إليه يشكو من أصحاب بهاء الدولة، فجاء في العساكر، وأوقع بهم، ومد يده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 إلى جباية الأموال، وخرج نائب بهاء الدولة ببغداد، وهو أبو علي بن إسماعيل عن ضمان القصر وغيره فغالط بهاء الدولة، وأنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز للقبض على أبي علي بن إسماعيل ومصالحة المقلد بن المسيب، فصالحه على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار ويخطب له ولأبي جعفر بعده، ويأخذ من البلاد رسم الحماية، وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية ويلقب حسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين وجلس له ولأبي جعفر القادر باللَّه فاستولى على البلاد، وقصده الأعيان والأماثل، وعظم قدره وقبض أبو جعفر على أبي علي بن إسماعيل ثم هرب ولحق بمهذب الدولة. (القبض على عليّ بن المسيب) كان المقلد بن المسيب قد وقعت المشاجرة بين أصحابه وأصحاب أخيه في الموصل قبل مسيره إلى العراق، فلما عاد إلى الموصل أجمع [1] الانتقام من أصحاب أخيه. ثم نوى أنه لا يمكنه ذلك مع أخيه، فأعمل الحيلة في قبض أخيه، وأحضر عسكره من الديلم والأكراد. وورى بقصر دقوقا واستحلفهم على الطاعة. ثم نقب دار أخيه وكانت ملاصقة له، ودخل إليه فقبض عليه وحبسه، وبعث زوجته وولديه قراوش [2] وبدران إلى تكريت. واستدعى رؤساء العرب وخلع عليهم وأقام فيهم العطاء فاجتمعت له زهاء ألفي فارس، وخرجت زوجة أخيه بولديها إلى أخيها الحسن ابن المسيب، وكانت أحياؤه قريبا من تكريت، فاستجاش العرب على المقلد وسار إليه في عشرة آلاف، فخرج المقلد عن الموصل واستشار الناس في محاربة أخيه. فأشار رافع بن محمد بن مغز [3] بالحرب، وأشار أخوه غريب بن محمد بالموادعة وصلة الرحم. وبينما هو في ذلك إذ جاءت أخته رميلة [4] بنت المسيب شافعة في أخيها عليّ فأطلقه، ورد عليه ماله وتوادع الناس، وعاد المقلد إلى الموصل وتجهز   [1] بمعنى عزم على الانتقام. [2] قرواش: ابن الأثير ج 9 ص 134. [3] رافع بن محمد بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 134. [4] رهيلة: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 لقتال علي بن مزيد الأسدي بواسط، لأنه كان مغضبا لأخيه الحسن، فلما قصد الحلة خالفه علي إلى الموصل فدخلها وعاد إليه المقلد، وتقدمه أخوه الحسن مشفقا عليه من كثرة جموع المقلد فأصلح ما بينهما، ودخل المقلد إلى الموصل وأخواه معه. ثم خاف علي فهرب. ثم وقع الصلح بينهما على أن يكون أحدهما بالبلد. ثم هرب علي فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة فهرب إلى العراق، واتبعه المقلد فلم يدركه ورجع عنه. ثم سار المقلد إلى بلد علي بن مزيد فدخله ثانية ولحق ابن مزيد بمهذب الدولة صاحب البطيحة فأصلح ما بينهما. (استيلاء المقلد على دقوقا) ولما فرغ المقلد من شان أخويه وابن مزيد، سار إلى دقوقا فملكها. وكانت لنصرانيين قد استعبدا أهلها وملكها من أيديهما جبريل بن محمد من شجعان بغداد، أعانه عليها مهذب الدولة صاحب البطيحة، وكان مجاهدا يحب الغزو فملكها. وقبض على النصرانيين وعدل في البلد. ثم ملكها المقلد من يده، وملكها بعده محمد بن نحبان، ثم بعده قراوش بن المقلد. ثم انتقلت إلى فخر الملك أبي غالب فعاد جبريل واستجاش بموشك بن حكويه من أمراء الأكراد. وغلب عليها عمال فخر الدولة. ثم جاء بدران بن المقلد فغلب جبريل وموشك عليها وملكها. (مقتل المقلد وولاية ابنه قراوش) كان للمقلّد موال من الأتراك فهربوا منه، واتبعهم فظفر بهم، وقتل وقطع وأفحش في المثلة، فخاف إخوانهم منه، واغتنموا غفلته فقتلوه فيها بالأنبار سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وكان قد عظم شأنه وطمع في ملك بغداد. ولما قتل كان ولده الأكبر قراوش غائبا وكانت أمواله بالأنبار، فخاف نائبة فيها عبد الله بن إبراهيم بن شارويه بادرة عمّه الحسن، وراسل أبا منصور بن قراد، وكان بالسنديّة، وقاسمه في مخلّف المقلّد على أن يدافع الحسن إن قصده، فأجابه إلى ذلك، وأرسل عبد الله إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 قراوش يستحثه فوصل، ووفّى لابن قراد بما عاهده عليه نائبة عبد الله، وأقام ابن قراد عنده. ثم إنّ الحسن بن المسيّب جاء إلى مشايخ بني عقيل شاكيا مما فعله قراوش وابن قراد عنده، فسعوا بينهم في الصلح، واتفق الحسن وقراوش على الغدر بابن قراد، وأن يسير أحدهما إلى الآخر متحاربين، فإذا تلاقيا قبضا على ابن قراد ففعلا ذلك. فلما تراءى الجمعان نمي الخبر إلى ابن قراد فهرب، واتبعه قراوش والحسن ولم يدركاه، ورجع قراوش إلى بيوته فأخذها بما فيها من الأموال، فوجه الأموال إلى أن أخذها أبو جعفر الحجّاج بن هرمز. (فتنة قراوش مع بهاء الدولة بن بويه) ولما كانت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة بعث قراوش بن المقلّد جمعا من بني عقيل إلى المدائن فحصروها، فبعث أبو جعفر بن الحجّاج بن هرمز نائب بهاء الدولة ببغداد عسكرا إليهم فدفعوهم عنها. فاجتمعت عقيل وبنو أسد وأميرهم عليّ بن مزيد. وخرج أبو جعفر إليهم واستجاش بخفاجة، وأحضرهم من الشام فانهزم واستبيح عسكره، وقتل وأسر من الأتراك والديلم كثير. ثم جمع العساكر ثانيا ولقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم، وقتل وأسر وسار إلى أحياء بني مزيد، ونهب منها ما لا يقدّر قدره. ثم سار قراوش إلى الكوفة سنة سبع وتسعين، وكانت لأبي علي بن تمال الخفاجي، وكان غائبا عنها فدخل قراوش الكوفة وصادرهم. ثم قتل أبو علي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وكان الحاكم صاحب مصر قد ولّاه الرحبة فسار إليها، وخرج إليه عيسى ابن خلاط العقيليّ فقتله وملكها. ثم ملكها بعده غيره إلى أن ولي أمرها صالح بن مرداس الكلابيّ صاحب حلب. (قبض قراوش على وزرائه) كان معتمد الدولة قراوش بن المقلّد قد استوزر أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، وكان من خبره أنّ أباه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان فذهب عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 إلى مصر وولي بها الأعمال. وولد ابنه أبا القاسم ونشأ هنالك. ثم قتله الحاكم فلحق أبو القاسم بحسّان بن مفرّج بن الجرّاح الطائي بالشام، وأغراه بالانتقاض والبيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر صاحب مكة ففعل ذلك، ولم يتم أمر أبي الفتوح ورجع إلى مكة ولحق أبو القاسم المغربي بالعراق، واتصل بفخر الملك فارتاب به القادر لانتسابه إلى العلويّة فأبعده فخر الملك، فقصد قراوش بالموصل فاستوزره. ثم قبض عليه سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وصادره على مال زعم أنه ببغداد والكوفة فأحضره، وترك سبيله فعاد إلى بغداد ووزر لشرف الدولة بن بويه بعد وزيره مؤيد الملك الرجيحي، وكان مداخلا لعنبر الخادم الملقّب بالأثير المستولي على الدولة يومئذ. ثم سخطه الأتراك وسخطوا الأبهر [1] فأشار عليه بالخروج عن بغداد فخرج الوزير وأبو القاسم معه إلى السندية وبها قراوش فأنزلهم، وساروا إلى أوانا وبعث الأتراك إلى الأثير عنبر بالاستعتاب فاستعتب، ورجع وهرب أبو القاسم المغربي إلى قراوش سنة خمس عشرة واربعمائة لعشرة أشهر من وزارته. ثم وقعت فتنة بالكوفة كان منشؤها من صهره ابن أبي طالب، فأرسل الخليفة إلى قراوش في إبعاده عنه، فأبعده وسار إلى ابن مروان إلى ديار بكر، ولك يذكر بقية خبره. ثم قبض معتمد الدولة قراوش على أبي القاسم سليمان بن فهر عامل الموصل له ولأبيه، وكان من خبره أنه كان يكتب في حداثته بين يدي أبي إسحاق الصابي، ثم اتصل بالمقلّد بن المسيّب، وأصعد معه إلى الموصل واقتنى بها الضياع. ثم استعمله قراوش على الجبايات فظلم أهلها وصادرهم فحبسه، وطالبه بالمال فعجز وقتل. (حروب قراوش مع العرب وعساكر بغداد) وفي سنة إحدى عشرة واربعمائة اجتمع العرب على فتن قراوش، وسار إليه دبيس   [1] كذا بياض بالأصل، ويذكر ابن الأثير في تاريخه الكامل ج 9 ص 335: «في هذه السنة- 415- تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المغربيّ، وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربيّ الملك مشرّف الدولة في الانتزاح الى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما. فساروا جميعا ومعهم جماعة من مقدّمي الديلم الى السّنديّة، وبها قراوش، فأنزلهم ثم ساروا كلّهم الى أوانا» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 ابن علي بن مزيد الأسديّ وغريب بن معن، وجاءهم العسكر من بغداد فقاتلوه عند سرّ من رأى، ومعه رافع بن الحسين فانهزم ونهبت أثقاله وخزائنه، وحصل في أسرهم، وفتحوا تكريت عنوة من أعماله. ورجعت عساكر بغداد إليها واستجار قراوش بغريب بن معن فأطلقه، ولحق بسلطان بن الحسن من عمّال أمير خفاجة واتبعه عسكر من الترك وقاتلهم غربي الفرات، وانهزم هو وسلطان، وعاث العسكر في أعماله فبعث إلى بغداد بمراجعة الطاعة وقبل. ثم كانت الفتنة بينه وبين أبي أسد وخفاجة سنة سبع عشرة وأربعمائة لأنّ خفاجة تعرّضوا لأعماله بالسواد، فسار إليهم من الموصل وأميرهم أبو الفتيان منيع بن حسّان، فاستجاش بدبيس بن علي بن مزيد فجاءه في قومه بني أسد، وعسكر من بغداد والتقوا بظاهر الكوفة، وهو يومئذ لقراوش، فخاف قراوش عن لقائهم وأجفل ليلا للأنبار، واتبعوه فرحل عنها إلى حلله، واستولى القوم على الأنبار وملكوها. ثم فارقوها، وافترقوا فاستعادها قراوش، ثم كانت الحرب بينه وبين بني عقيل في هذه السنة، وكان سببها أن الأثير عنبر الخادم حاكم دولة بني بويه انتقض عليه الجند، وخافهم على نفسه فلحق بقراوش فجاء قراوش وأخذ له أقطاعه وأملاكه بالقيروان، فجمع مجد الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا كبيرا من بني عقيل وانضم اليهم بدران أخو قراوش وساروا لحربه وقد اجتمع هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأمدّهم ابن مروان فكانوا في ثلاثة عشر ألفا، والتقوا عند بلدهم فلما تصافوا والتحم القتال خرج بدران بن المقلّد إلى أخيه قراوش فصالحه وسط المصاف، وفعل ثوران بن قراد كذلك مع غريب بن معن فتوادعوا جميعا واصطلحوا. وأعاد قراوش الى أخيه بدران مدينة الموصل. ثم وقعت الحرب بين قراوش وبين خفاجة ثانيا. وكان سببها أنّ منيع بن حسّان أمير خفاجة وصاحب الكوفة سار إلى الجامعين بلد دبيس ونهبها فخرج دبيس في طلبه إلى الكوفة فقصد الأنبار، ونهبها هو وقومه، فسار قراوش إليهم ومعه غريب بن معن [1] الأنبار. ثم مضى في اتباعهم إلى القصر فخالفوه إلى الأنبار ونهبوها وأحرقوها. واجتمع قراوش ودبيس في عشرة آلاف وخاموا عن لقاء خفاجة فلم يكن من قراوش إلّا بناء السور على الأنبار. ثم سار منيع بن حسّان الخفاجي إلى الملك كيجار والتزم   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 352: «وعلم قراوش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلا جريدة في نفر يسير، وعلم أصحابه بذلك، فتبعوه منهزمين، فوصلوا الى الأنبار» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 الطاعة وخطب له بالكوفة وأزال حكم بني عقيل عن سقي الفرات. ثم سار بدران بن المقلّد في جموع من العرب إلى نصيبين وحاصرها وهي لنصير الدولة بن مروان فجهّز لهم الجند، وبعثهم إليها فقاتلوا بدران فانهزم أولا. ثم عطف عليهم فانهزموا وأثخن فيهم، وبلغه الخبر أنّ أخاه قراوش قد وصل الى الموصل فأجفل خوفا منه. (استيلاء الغز على الموصل) كان هؤلاء الغزّ من شعوب الترك بمفازة بخارى، وكثر فسادهم في جهاتها فأجاز إليهم محمود بن سبكتكين، وهرب صاحب بخارى وحضر عنده أميرهم أرسلان بن سلجوق فقبض عليه وحبسه بالهند، ونهب أحياءهم وقتل كثيرا منهم فهربوا الى خراسان وأفسدوا ونهبوا فبعث إليهم العساكر فأثخنوا فيهم وأجلوهم عن خراسان. ولحق كثير منهم بأصبهان وقاتلوا صاحبها وذلك سنة عشرين وأربعمائة. ثم افترقوا فسارت طائفة منهم إلى جبل بكجار عند خوارزم ولحقت طائفة أخرى بأذربيجان وأميرها يومئذ وهشوذان فأكرمهم، ووصلهم ليكفّوا عن فسادهم فلم يفعلوا. وكان مقدّموهم أربعة: توقا وكوكناش ومنصور ودانا فدخلوا مراغة سنة تسع وعشرين [وأربعمائة] ونهبوها وأثخنوا في الأكراد الهدبانيّة، وسارت طائفة منهم الى الريّ فحاصروها وأميرها علاء الدين بن كاكويه واقتحموا عليه البلد وأفحشوا في النهب والقتل، وفعلوا كذلك في الكرخ وقزوين. ثم ساروا إلى أرمينية وعاثوا في نواحيها وفي أكرادها. ثم عاثوا في الدينور سنة ثلاثين. ثم أوقع وهشوذان صاحب تبريز لجماعة منهم في بلده وكانوا ثلاثين ومقدّمهم، فضعف الباقون وأكثر فيهم القتل. واجتمع الغز الذين بأرمينية، وساروا نحو بلاد الأكراد الهكّاريّة من أعمال الموصل فأثخنوا فيهم، وعاثوا في البلاد. ثم كرّ عليهم الأكراد فنالوا منهم وافترقوا في الجبال وتمزّقوا. وبلغهم مسير نيال أخي السلطان طغرلبك وهم في الريّ وكانوا شاردين منه فأجفلوا من الريّ، وقصدوا ديار بكر والموصل سنة ثلاث وثلاثين واربعمائة ونزلوا جزيرة ابن عمر، ونهبوا باقردى وبازبدى والحسنية وغدر سليمان بن نصير الدولة بن مروان بأمير منهم، وهو منصور بن عزعنيل فقبض عليه وحبسه، وافترق أصحابه في كل جهة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 وبعث نصير الدولة بن مروان عسكرا في اتباعهم، وأمدهم قراوش صاحب الموصل بعسكر آخر، وانضم إليهم الأكراد البثنويّة أصحاب فتك فأدركوهم فاستمات الغزّ وقاتلوهم. ثم تحاجزوا، وتوجّهت العرب إلى العراق للمشتى، وأخربت الغزّ ديار بكر، ودخل قراوش الموصل ليدفعهم عنها لما بلغه أن طائفة منهم قصدوا بلده. فلما نزلوا برقعيد عزم على الإغارة عليهم، فتقدّموا إليه فرجع إلى مصانعتهم بالمال على ما شرطوه. وبينما هو يجمع لهم المال وصلوا الى الموصل فخرج قراوش في عسكره وقاتلهم عامّة يومه. وعادوا للقتال من الغد فانهزمت العرب وأهل البلد، وركب قراوش سفينة في الفرات، وخلّف جميع ماله. ودخل الغزّ البلد ونهبوا ما لا يحصى من المال والجوهر والحلي والأثاث، ونجا قراوش إلى السند، وبعث إلى الملك جلال الدولة يستنجده، وإلى دبيس بن عليّ بن مزيد وأمراء العرب والأكراد يستمدّهم، وأفحش الغزّ في أهل الموصل قتلا ونهبا وعيثا في الحرم. وصانع بعض الدروب والمحال منها عن أنفسهم بمال ضمنوه فكفّوا عنهم وسلموا. وفرضوا على أهل المدينة عشرين ألف دينار فقبضوها، ثم فرضوا أربعة آلاف أخر وشرعوا في تحصيلها فثار بهم أهل الموصل. وقتلوا من وجدوا منهم في البلد. ولما سمع إخوانهم اجتمعوا ودخلوا البلد عنوة منتصف سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ووضعوا السيف في الناس واستباحوها اثني عشر يوما، وانسدت الطرق من كثرة القتلى حتى واروهم جماعات في الحفائر. وطلبوا الخطبة للخليفة ثم لطغرلبك، وطال مقامهم بالبلد، فكتب الملك جلال الدولة بن بويه ونصير الدولة بن مروان إلى السلطان طغرلبك يشكون منهم، فكتب إلى جلال الدولة معتذرا بأنهم كانوا عبيدا وخدما لنا فأفسدوا في جهات الريّ فخافوا على أنفسهم وشردوا. ويعده بأنه يبعث العساكر إليهم، وكتب إلى نصير الدولة بن مروان يقول له: بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك فصانعتهم بالمال، وأنت صاحب ثغور ينبغي أن تعطي ما تستعين به على الجهاد، ويعده أنه يرسل من يدفعهم عن بلاده. ثم سار دبيس بن مزيد إلى قراوش مددا، واجتمعت إليه بنو عقيل، وساروا من السنّ إلى الموصل فتأخر الغزّ إلى تل أعفر، وأرسلوا إلى أصحابهم بديار بكر ومقدمهم ناصفلي وبوقا فوصلوا إليهم وتزاحفوا مع قراوش في رمضان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فقاتلوهم إلى الظهر، وكشفوا العرب عن حللهم. ثم استماتت العرب فانهزمت الغزّ وأخذهم السيف ونهب العرب أحياءهم، وبعثوا برءوس القتلى إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 بغداد واتبعهم قراوش إلى نصيبين ورجع عنهم. وقصدوا ديار بكر فنهبوها، ثم أرزن الروم كذلك ثم أذربيجان، ورجع قراوش إلى الموصل. (استيلاء بدران بن المقلد على نصيبين) قد تقدّم لنا محاصرة بدران نصيبين ورحيله عنها من أخيه قراوش. ثم اصطلحا بعد ذلك واتفقا وتزوّج نصير الدولة ابنة قراوش فلم يعدل بينها وبين نسائه، وشكت إلى أبيها فبعث عنها. ثم هرب بعض عمّال ابن مروان إلى قراوش وأطمعه في الجزيرة فتعلّل عليه قراوش بصداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار. وطلب الجزيرة ونصيبين لأخيه بدران فامتنع ابن مروان من ذلك، فبعث قراوش جيشا لحصار الجزيرة وآخر مع أخيه بدران لحصار نصيبين. ثم جاء بنفسه وحاصرها مع أخيه، وامتنعت عليه وتسلّلت العرب والأكراد إلى نصير الدولة بن مروان بميّافارقين. وطلب منه نصيبين فسلّمها إليه، وأعطى قراوش من صداق ابنته خمسة عشر ألف دينار. وكان ملك ابن مروان في دقوقا، فزحف إليه أبو الشوك من أمراء الأكراد فحاصره بها، وأخذها من يده عنوة، وعفا عن أصحابه. ثم توفي بدران سنة خمس وعشرين وأربعمائة وجاء ابنه عمر إلى قراوش فأقرّه على ولاية نصيبين، وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحاصروه، فسار إليهم ودافعهم عنها. (الفتنة بين قراوش وغريب بن معن) كانت تكريت لأبي المسيّب رافع بن الحسين من بني عقيل، فجمع غريب جمعا من العرب والأكراد، وأمدّه جلال الدولة بعسكر، وسار إلى تكريت فحاصرها. وكان رافع بن الحسين عند قراوش بالموصل، فسار لنصره بالعساكر، ولقيه غريب في نواحي تكريت فانهزم، واتبعه قراوش ورافع، ولم يتعرّضوا لمحلّته وماله. ثم تراسلوا واصطلحوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 (فتنة قراوش وجلال الدولة وصلحهما) كان قراوش قد بعث عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت، واستجار خميس بجلال الدولة فبعث إليه بالكفّ عنه فلم يفعل، فسار بنفسه يحاصره، وكتب إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم عن جلال الدولة. وسار جلال الدولة إلى الأنبار فامتنعت عليه، وسار قراوش للقائه وأعوزت عساكر جلال الدولة الأقوات. ثم اختلفت عقيل على قراوش، وبعث إلى جلال الدولة بمعاودة الطاعة، فتحالفا وعاد كل إلى بلده. (أخبار ملوك القسطنطينية لهذه العصور) كان بسيل وقسطنطين قد تزوّج أبوهما أمّهما في يوم عيد، ركب إلى الكنيسة فرآها في النظارة فشغف بها. وكان أبوها من أكابر الروم فخطبها منه، وتزوّجها وولدت الولدين ومات أبوهما وهما صغيران. وتزوّجت بعده بمدّة نقفور، وملك وتصرّف وأراد أن يجبّ [1] ولديها. وأغرت الدمشق [2] بقتله فقتله وتزوّجت به. وأقامت معه سنة، ثم خافها وأخرجها بولديها إلى دير بعيد فأقامت فيه سنة أخرى. ثم دسّت إلى بعض الرهبان ليقتل الدمشق، فأقام بكنيسة الملك يتحيّل لذلك، حتى جاء الملك واستطعمه القربان في العيد من يده، فدسّ له معه سمّا ومات. وجاءت هي قبل العيد بليال الى القسطنطينية فملك ولدها بسيل واستبدّت عليه لصغره. فلما كبر سار لقتال البلغار في بلادهم، وبلغه وهو لك وفاتها فأمر خادما له بتدبير الأمر في غيبته بالقسطنطينية. وأقام في قتال البلغار أربعين سنة. ثم انهزم وعاد إلى القسطنطينية وتجهّز ثانية، وعاد إليهم فظفر بهم وقتل ملكهم وملك بلادهم. ونقل أهلها إلى بلاد الروم. قال ابن الأثير: وهؤلاء البلغار الذين ملك بلادهم بسيل غير الطائفة المسلمة   [1] أي ان يخصيهما. [2] هو الدمستق: ابن الأثير ج 9 ص 497. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 منهم، وهؤلاء أقرب من أولئك إلى بلاد الروم بشهرين، وكلاهما بلغار انتهى. وكانت بسيل عادلا حسن السيرة، وملك على الروم نيفا وسبعين سنة. ولما مات ملك أخوه قسطنطين، ثم مات وخلّف بناتا ثلاثا فملكت الكبرى وتزوّجت بأرمانوس من بيت ملكهم، وهو الّذي ملك الرّها من المسلمين، وكان له من قبل الملك رجل يخدمه من السوقة الصيارفة اسمه ميخاييل فاستخلصه وحكّمه في دولته، فمالت زوجة أرمانوس إليه، وأعملا الحيلة في قتل الملك أرمانوس فقتلاه خنقا وتزوجته على كره من الروم. ثم عرض لميخائيل هذا مرض شوّه خلقته فعهد بالملك إلى ابن أخيه واسمه ميخاييل، فملك بعده وقبض على أخواله وإخوتهم وضرب الدنانير باسمه سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ثم أحضر زوجته بنت الملك وحملها على الرهبانية والخروج له عن الملك، وضربها ونفاها إلى جزيرة في البحر. ثم اعتزم على قتل البطرك للراحة من تحكّمه، فأمره بالخروج إلى الدير لعمل وليمة يحضرها عنده، وأرسل جماعة من الروم وبلغار لقتله، فبذل لهم البطرك مالا على الإبقاء، ورجع إلى بيعته، وحمل الروم على عزل ميخاييل، فأرسل إلى زوجته الملكة من الجزيرة التي نفاها إليها فلم تفعل، وأقبلت على رهبانيتها فخلعها البطرك من الملك، وملكت أختها الصغيرة بدرونة، وأقاموا من خدم أبيها من يدبّر ملكها، وخلعوا ميخاييل، وقاتل أشياعه أشياع بدرونة فظفر بهم أشياع بدرونة ونهبوهم. وفزع الروم إلى التماس ملك يدبّرهم، وقارعوا بين المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين فملّكوه وتزوّجته الملكة الكبرى، ونزلت لها الصغيرة عن الملك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ثم خرج خارجي من الروم اسمه ميناس وكثر جمعه وبلغ عشرين ألفا، وجهّز قسطنطين إليه العساكر فقتلوه وسيق رأسه إليه، وافترق أصحابه. ثم ورد على القسطنطينية سنة خمس وثلاثين مراكب للروم ووقعت منها محاورات نكرها الروم فحاربوهم، وكانوا قد فارقوا مراكبهم إلى البرّ فأحرقوها وقتلوا الباقين. (الوحشة بين قراوش والأكراد) كان للأكراد عدّة حصون تجاور الموصل، فمنها للحميديّة قلعة العقر وما إليها، ابن خلدون م 22 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 وصاحبها أبو الحسن بن عكشان وللهدبانيّة قلعة إربل وأعمالها، وصاحبها أبو الحسن ابن موشك، [1] ونازعه أخوه أبو علي بن أربل فأخذها منه بإعانة ابن عكشان، وأسر أخاه أبا الحسن. وكان قراوش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل مشغولين بالعراق فنكرا ذلك لمّا بلغهما. ورجعا إلى الموصل، فطلب قراوش من الحميديّ والهدبانيّ النجدة على نصير الدولة بن مروان، فجاء الحميدي بنفسه، وبعث الهدباني أخاه. وأصلح قراوش ونصير الدولة. ثم قبض على عكشان وصالحه على إطلاق أبي الحسن ابن موشك، وامتنع أخوه أبو علي وكان عكشان عونا عليه، فأجاب ورهن في ذلك ولده. ثم أرسل أبا علي في ذلك الأمر، وحضر بالموصل ليسلّم أربل إلى أخيه أبي الحسن، وسلّم قراوش إليه قلاعه. وخرج ابن عكشان وأبو علي ليسلّما إربل إلى أبي الحسن بن موشك، فغدرا به وقبضا على أصحابه، وهرب هو إلى الموصل وتأكّدت الوحشة بينهما وبين قراوش. (خلع قراوش بأخيه أبي كامل ثم عوده) ثم وقعت الفتنة بين معتمد الدولة قراوش وأخيه زعيم الدولة أبي كامل، وكان سببها أنّ قريشا ابن أخيهما بدران فتن عمّه أبا كامل، وجمع عليه الجموع وأعانه عمّه الآخر. واستمدّ قراوش بنصير الدولة بن مروان فبعث إليه بابنه سليمان. وأمدّه الحسن ابن عكشان وغيرهما من الأكراد وساروا إلى معلابا [2] فنهبوها وأحرقوها. ثم اقتتلوا في المحرّم سنة إحدى وأربعين يوما وثانيا، ووقفت الأكراد ناحية عن المصاف ولم يغشوا المجال. وتسلّل عن قراوش بعض جموعه من العرب إلى أخيه، وبلغه أنّ شيعة أخيه أبي كامل بالأنبار ووثبوا فيها وملكوها فضعف أمره، وأحس من نفسه الظهور عليه. ولم يبرح فركب أخوه أبو كامل وقصد حلّته، فركب قراوش للقائه، وجاء به أبو كامل لحلّته ثم بعث به إلى الموصل ووكّل به. وملك أبو كامل الموصل واشتطّ عليه   [1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 549: «وكان للحميد به عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها، وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها، وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميديّ، وصاحب إربل ابو الحسن بن موسك الهذبانيّ» . [2] معلثايا: ابن الأثير ج 9 ص 553. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 العرب فخاف العجز والفضيحة أن يراجعوا طاعة أخيه فسبقهم إليها، وأعاده إلى ملكه وبايعه على الطاعة. ورجع قراوش إلى ملكه. وكان أبو كامل قد أحدث الفتنة بين البساسيريّ كافل الخلافة ببغداد، وملك الأمراء بها لما فعله بنو عقيل في عراق العجم من التعرّض لإقطاعه، فسار إليهم البساسيري، وجمع أبو كامل بني عقيل ولقيه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم تحاجزوا. فلما رجع قراوش إلى ملكه نزع جماعة من أهل الأنبار إلى البساسيري شاكرين شاكين سيرة قراوش، وطلبوا أن يبعث معهم عسكرا وعاملا إلى بلدهم ففعل ذلك، وملكها من يد قراوش وأظهر فيهم العدل. (خلع قراوش ثانية واعتقاله) كان قراوش لمّا أطاعه أخوه أبو كامل بقي معه كالوزير يتصرّف، إلّا أن قراوش أنف من ذلك وأعمل الحيلة في التخلّص منه، فخرج من الموصل سائرا إلى بغداد، وشقّ ذلك على أخيه أبي كامل فأرسل إليه أعيان قومه ليردّوه طوعا أو كرها فلاطفوه أوّلا، وشعر منهم بالدخيلة فأجاب إلى العود وشرط سكنى دار الإمارة، فلما جاء إلى أبي كامل قام بمبرّته وإكرامه ووكّل به من يمنعه [1] التصرّف. (وفاة أبي كامل وولاية قريش بن بدران) لما ملك قريش بن بدران وحبس عمّه بقلعة الجراحيّة، ارتحل يطلب العراق سنة أربع وأربعين وأربعمائة فانتقض عليه أخوه المقلّد، وسار إلى نور الدولة دبيس بن مزيد فنهب قريش حلله، وعاد إلى الموصل، واختلف العرب عليه، ونهب عمّال الملك الرحيم ما كان لقريش بنواحي العراق. ثم استمال قريش العرب عليه، ونهب عمّال الملك الرحيم ما كان لقريش بن المسيّب صاحب الحظيرة مخالفا عليه. وبعث قريش بعض أصحابه فلقيهم، وأوقع بهم فسار إليه قريش، ولقيه فهزمهم واتبعه إلى حلل بلاد ابن غريب ونبهبها. ودخل العراق وبعث إلى عمّال الملك الرحيم   [1] مقتضى السياق: فيمنعه. ولعله تحريف من الناسخ لأنه لا معنى ليمنعه هنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 بالطاعة وضمان ما كان عليه في أعماله فأجابوه إلى ذلك لشغل الملك الرحيم بخوزستان فاستقرّ أمره وقوي. (وفاة قراوش) وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة هذه توفي معتمد الدولة أبو منيع قراوش بن المقلّد بمحبسه في قلعة الجراحيّة وحمل الى الموصل ودفن بها ببلد نينوى شرقيها، وكان من رجال العرب. (استيلاء قريش على الأنبار) وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة زحف قريش بن بدران من الموصل ففتح مدينة الأنبار وملكها من يد عمال البساسيري. وسار البساسيري إلى الأنبار فاستعادها. (حرب قريش بن بدران والبساسيري ثم اتفاقهما وخطبة قريش لصاحب مصر) كان قريش بن بدران قد بعث بطاعته إلى طغرلبك وهو بالريّ، وخطب له بجميع أعماله، وقبض على الملك الرحيم. وكان قريش معه فنهب معسكره واختفى، وسمع به السلطان فأمّنه ووصل إليه فأكرمه وردّه إلى عمله. وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم عند مسيره من واسط إلى بغداد، ومسير طغرلبك من حلوان. وقصد نور الدولة دبيس بن مزيد للمصاهرة بينهما. وكان سبب مفارقة البساسيري للملك الرحيم كتاب القائم له بإبعاده لاطلاعه على كتابه إلى خليفة مصر، فلما وصل قريش بن بدران إلى بغداد وعظم استيلاء السلطان طغرلبك على الدولة، بعث جيشا وزحف البساسيري للقائهم ومعه نور الدولة دبيس، فالتقوا بسنجار، فانهزم قريش وقطلمش وأصحابهما، وقتل كثير منهم وعاث أهل سنجار فيهم، وسار بهم إلى الموصل وخطب بها للمستنصر خليفة مصر، وقد كانوا بعثوا إليه بطاعتهم من قبل، فبعث إليهم بالخلع ولقريش جملتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 (استيلاء طغرلبك على الموصل وولاية أخيه نيال عليها ومعاودة قريش الطاعة) كان السلطان طغرلبك لمّا طال مقامه ببغداد، ساء أثر عساكره في الرعايا، فبعث القائم وزيره رئيس الرؤساء أن يحضر عميد الملك المكندريّ وزير طغرلبك ويعظه في ذلك، ويهدّده برحيل القائم عن بغداد فبلغه خلال ذلك شأن الموصل، فرحل إليها وحاصر تكريت ففتحها وقبل من صاحبها نصر بن عيسى من بني عقيل ما لا بدّ له منه. ورحل عنه فمات نصر وولي بعده أبو الغنائم البحلبان [1] فأصلح حاله مع رئيس الرؤساء، ورحل السلطان من البواريج [2] وكان في انتظار أخيه ياقوتي بن تنكير [3] . ثم توجه السلطان إلى نصيبين وبعث هزارسب إلى البريّة لقتال العرب وفيهم قريش ودبيس وأصحاب حرّان والرقّة من نمير فأوقع بهم، ونال منهم وأسر جماعة فقتلهم. وعاد إلى السلطان طغرلبك فبعث إليه قريش ودبيس بطاعتهما، وأن يتوسط لهما عند السلطان، فعفا السلطان عنهما، وقال للبساسيري: ردّهما إلى الخليفة فيرى ما عندهما. فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة وتبعه إنزال بغداد ومقبل بن المقلّد وجماعة من بني عقيل، وبعث السلطان إلى قريش ودبيس هزارسب بن تنكير ليقضي ما عندهما ويحضرهما، وكان ذلك بطلبهما ثم خافا على أنفسهما، فبعث قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر ودبيس ابنه بهاء الدولة منصورا فقبلهما السلطان، وكتب لهما بأعمالهما، وكان لقريش من الأعمال: الموصل ونصيبين وتكريت وأوانا ونهر بيطر وهيت والأنبار وبادرون ونهر الملك. ثم قصد السلطان ديار بكر ووصل إليه أخوه إبراهيم نيال، وأرسل هزارسب إلى قريش ودبيس يحذّرهما منه. وسار لسنجار لأجل واقعته مع قريش ودبيس، فبعث العساكر إليها واستباحوها وقتل أميرها علي بن مرحا وخلق كثير من أهلها رجالا ونساء، وشفع إبراهيم نيال في الباقين فكفّ   [1] ابن المحلبان: ابن الأثير ج 9 ص 627 [2] البوازيج: المرجع السابق وقد مرّ ذكرها من قبل. [3] كذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 627- 628: «فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر، فسار بهم الى الموصل، وأقطع مدينة بلد لهزارسب بن بنكير، فأجفل البلاد الى بلد ... » . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 عنهم، وأقطع سنجار والموصل وتلك الأعمال كلها لأخيه إبراهيم نيال، وعاد إلى بغداد فدخلها في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وأربعمائة. (مفارقة نيال الموصل وما كان لقريش فيها وفي بغداد مع البساسيري وحبسهما القائم) وفي سنة خمسين وأربعمائة خرج إبراهيم نيال [1] من الموصل إلى بلاد الروم، فخشي طغرلبك أن يكون منتقضا، وبادر بكتابه وكتاب الخليفة إليه، فرجع وخرج الوزير الكندريّ للقائه. وخالفه البساسيري وقريش إلى الموصل فملكها وحاصر القلعة حتى استأمن أهلها على يد ابن موسك وصاحب أربد فأمّناهم وهدما القلعة. وسار السلطان طغرلبك من وقته إلى الموصل ففارقها، واتبعهما إلى نصيبين ففارقه أخوه نيال في رمضان سنة خمسين وأربعمائة. وسار السلطان طغرلبك في أثره وحاصره بهمذان، وجاء البساسيري إلى بغداد وكان هزارسب بواسط، ودبيس ببغداد قد استدعاه الخليفة للدفاع فسئم المقام، ورجع إلى بلده، وجاء البساسيري وقريش ووزير بني بويه أبو الحسن بن عبد الرحيم ونزلوا بجوانب بغداد، ونزل عميد العراق بالعسكر قبالة البساسيري ورئيس الرؤساء وزير الخليفة قبالة الآخرين. وخطب البساسيري للمستنصر صاحب مصر بجوامع بغداد وأذّن بحيّ على خير العمل. ثم استعجل رئيس الرؤساء الحرب فاستجده القوم، ثم كرّوا عليه فهزموه واقتحموا حريم الخلافة، وملكوا القصور بما فيها، وركب الخليفة فوجد عميد العراق قد استأمن إلى قريش بن بدران فاستأمن هو كذلك، وأمّنهما قريش وأعادهما. وعذله البساسيري في الانفراد بذلك دونه، وقد تعاهدا على خلاف ذلك فاستعتب له بالوزير رئيس الرؤساء، ودفعه إليه وأقام الخليفة والعميد عنه، فقتل البساسيري الوزير ابن عبد الرحيم، وبعث قريش بالخليفة القائم مع ابن عمّه مهارش بن نجلى [2] إلى حديثة عانة فأنزله بها مع أهله وحرمه وحاشيته، حتى إذا فرغ السلطان   [1] اسمه نيال وقد مرّ معنا في السابق. ابن الأثير ج 9 ص 639. [2] مهارش بن المجلي: ابن الأثير ج 9 ص 643. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 طغرلبك من أمر أخيه نيال وقتله ورجع إلى بغداد بعث البساسيري وقريش في إعادة القائم إلى داره فامتنع، وأجفل عن بغداد في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وشمل النهب مدينة بغداد وضواحيها من بني شيبان وغيرهم، وبعث السلطان طغرلبك الإمام أبا بكر محمد بن فورك إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة وبابنة أخيه زوجة الخليفة أرسلان خاتون، وأنه بعث ابن فورك لإحضارهما، وكتب قريش إلى مهارش ابن عمّه بأن يلحق به هو والخليفة في البريّة فأبى، وسار بالخليفة إلى العراق وجعل طريقه على الريّ، ومرّ ببدر بن مهلهل فخدم القائم وخرج السلطان للقاء الخليفة، وقدّم إليه الأموال والآلات، وعرضه أرباب الوظائف ولقيه بالنهروان، وجاء معه إلى قصره كما تقدّم في أخباره. وبعث السلطان خبارتكين الطّغرائيّ في العساكر لاتباع البساسيري والعرب، وجاء إلى الكوفة واستصحب سرايا ابن منيع ببني خفاجة. وسار السلطان في أثرهم وصبحت السريّة البساسيري في حلّة دبيس بن مزيد من الكوفة فنهبوها، وفرّ دبيس، وقاتل البساسيري وأصحابه فقتل في المعركة. (وفاة قريش بن بدران وولاية ابنه مسلم) ثم توفي قريش بن بدران سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ودفن بنصيبين، وجاء فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من دارا وجمع بني عقيل على ابنه أبي المكارم مسلم بن قريش فولّوه عليهم، واستقام أمره وأقطعه السلطان سنة ثمان وخمسين الأنبار وهيت وحريم والسّن والبواريح، ووصل إلى بغداد فركب الوزير ابن جهير في المركب للقائه. ثم سار سنة ستين وأربعمائة إلى الرّحبة فقاتل بها بني كلاب وهم في طاعة المستنصر العلويّ فهزمهم وأخذ أسلابهم، وبعث بأشلائهم وعليها سمات العلويّة فطيف بها منكّسة ببغداد. (استيلاء مسلم بن قريش على حلب) وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة سار شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 مدينة حلب فحاصرها، ثم أفرج عنها فحاصرها تتش بن آلب أرسلان، وقد كان ملك الشام سنة إحدى وسبعين قبلها فأقام عليها أياما. ثم أفرج عنها وملك بزاغة والبيرة، وبعث أهل حلب الى مسلم بن قريش بأن يمكّنوه من بلدهم ورئيسها يومئذ ابن الحسين العبّاسيّ، فلما قرب منهم امتنعوا من ذلك فترصّد لهم بعض التركمان وهو صاحب حصن بنواحيها. وأقام كذلك أياما حتى صادف ابن الحسين يتصيّد في ضيعته فأسره، وبعث به إلى مسلم بن قريش فأطلقه على أن يسلّموا له البلد، فلما عاد إلى البلد تمّم له ذلك، وسلّم له البلد. فدخله سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة واستنزل منها سابغا ووثّابا ابني محمد بن مرداس، وبعث ابنه إبراهيم وهو ابن عمّة السلطان إلى السلطان يخبره بملك حلب وسأل أن يقدّر عليه ضمانه فأجابه السلطان إلى ذلك، وأقطع ابنه محمدا مدينة بالس. ثم ساره مسلم إلى حرّان وأخذها من بني وثّاب النميريّين وأطاعه صاحب الرّها ونقش السكة باسمه. (حصار مسلم بن قريش دمشق وعصيان أهل حران عليه) وفي سنة ست وسبعين وأربعمائة سار شرف الدولة إلى دمشق فحاصرها، وصاحبها تتش فخرج في عسكره وهزم مسلم بن قريش فارتحل عنها راجعا إلى بلاده. وقد كان استمدّ أهل مصر فلم يمدّوه، وبلغه الخبر بأنّ أهل حرّان نقضوا الطاعة، وأنّ ابن عطيّة وقاضيها ابن حلية عازمون على تسليم البلد للترك، فبادر الى حرّان وصالح في طريقه ابن ملاعب صاحب حمص، وأعطاه سليمة ورفسة [1] ، وحاصر حرّان وخرّب أسوارها، واقتحمها عنوة وقتل القاضي وابنه.   [1] كذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 129: «في هذه السنة- 476 عصى أهل حرّان على شرف الدولة مسلم بن قريش، وأطاعوا قاضيهم ابن حلبة، وأرادوا هم وابن عطير النميري تسليم البلد إلى جبق، أمير التركمان، وكان شرف الدولة على دمشق يحاصر تاج الدولة تتش بها، فبلغه الخبر، فعاد إلى حرّان وصالح ابن ملاعب صاحب حمص وأعطاه سلميّة ورفنيّة. وبادر بالمسير الى حرّان» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 (حرب ابن جهير مع مسلم بن قريش واستيلاؤه على الموصل ثم عودها إليه) كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن أحمد بن جهير من أهل الموصل، واتصل بخدمة بني المقلّد ثم استوحش من قريش بن بدران واستجار ببعض رؤساء بني عقيل فأجاروه منه. ومضى إلى حلب فاستوزره معزّ الدولة أبو ثمال بن صالح. ثم فارقه إلى نصير الدولة بن مروان بديار بكر فاستوزره. ولما عزل القائم وزيره أبا الفتح محمد بن منصور بن دارس استدعاه للوزارة، فتحيّل في المسير إلى بغداد، واتبعه ابن مروان فلم يدركه. ولما وصل إلى بغداد استوزره القائم سنة أربع وخمسين وأربعمائة وطغرلبك يومئذ هو السلطان المستبد على الخلفاء. واستمرّت وزارته وتخلّلها العزل في بعض المرّات إلى أن مات القائم، وولي المقتدي، وصارت السلطنة إلى ملك شاه فعزله المقتدي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة بشكوى نظام الملك إلى الخليفة به، وسؤاله عزله فعزله، وسار ابنه عميد الدولة إلى نظام الملك بأصفهان واستصلحه وشفع فيه إلى المقتدي، فأعاد ابنه عميد الدولة. ثم عزله سنة ست وسبعين وأربعمائة فبعث السلطان ملك شاه ونظام الملك الى المقتدي بتخلية سبيل بني جهير إليه فوفدوا عليه بأصفهان، ولقوا منه مبرّة وتكرمة. وعقد السلطان ملك شاه لفخر الدولة على ديار بكر، وبعث معه العساكر وأمره أن يأخذ البلاد من ابن مروان، وأن يخطب لنفسه بعد السلطان وينقش اسمه على السكة كذلك فسار لذلك، وتوسّط ديار بكر. ثم أردفه السلطان سنة سبع وسبعين وأربعمائة بالعساكر مع الأمير أرتق جد الملوك بماردين لهذا العهد، وكان ابن مروان عند ما أحسّ بمسير العساكر إليه، بعث إلى شرف الدولة مسلم بن قريش يستنجده على أن يعطيه آمد من أعماله. فجاء إلى آمد وفخر الدولة بنواحيها، وقد ارتاب من اجتماع العرب على نصرة ابن مروان ففتر عزمه عن لقائهم، وسارت عساكر الترك الذين معه فصبّحوا العرب في أحيائهم فانهزموا، وغنموا أموالهم ومواشيهم، ونجا شرف الدولة إلى آمد، وحاصره فخر الدولة فيمن معه من العساكر. وبعث مسلم بن قريش إلى الأمير أرتق يقضي عنه في الخروج من آمد على مال بذله له فأغضى له وخرج إلى الرقّة. وسار أحمد بن جهير الى ميّافارقين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 بلد ابن مروان لحصارها، ففارقه بهاء الدولة منصور بن مزيد وابنه سيف الدولة صدقة إلى العراق، وسار ابن جهير إلى خلاط وكان السلطان ملك شاه لما بلغه انحصار مسلم بن قريش بآمد، بعث عميد الدولة آقسنقر جدّ الملك العادل محمود في عساكر الترك، ولقيهم الأمير أرتق في طريقهم سائرا إلى العراق فعاد معهم وجاءوا إلى الموصل فملكوها، وسار السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش وانتهى إلى البواريح، وقد خلص مسلم بن قريش من الحصار بآمد، ووصل إلى الرّحبة، وقد ملكت عليه الموصل، وذهبت أمواله فراسل مؤيد الملك بن نظام الملك فتوسّل به فتقبل وسيلته وأذن له في الوصول الى السلطان بعد أن أعطاه من العهد ما رضي به. وسار مسلم بن قريش من الرّحبة فأحضره مؤيّد الملك عند السلطان، وقدّم هديّة فاخرة من الخيل وغيرها، ومن جملتها فرسه الّذي نجا عليه، وكان لا يجارى فوقع من السلطان موقعا وصالحه وأقرّه على بلاده فرجع إلى الموصل وعاد السلطان إلى ما كان بسبيله. (مقتل مسلم بن قريش وولاية ابنه إبراهيم) قد قدّمنا ذكر قطلمش قريب السلطان طغرلبك، وكان سار إلى بلاد الروم فملكها، واستولى على قونية وأقصراي، ومات فملك مكانه ابنه سليمان، وسار إلى أنطاكية سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وأخذها من يد الروم كما نذكر في أخباره. وكان لشرف الدولة مسلم بن قريش بأنطاكيّة جزية يؤدّيها إليه صاحبها الفردروس [1] من زعماء الروم، فلمّا ملكها سليمان بن قطلمش بعث إليه يطالبه بتلك الجزية، ويخوّفه معصية السلطان فأجابه بأني على طاعة السلطان وأمري فيها غير خفي، وأمّا الجزية فكانت مضروبة على قوم كفّار يعطونها عن رءوسهم، وقد أدال الله منهم بالمسلمين ولا جزية عليهم فسار شرف الدولة، ونهب جهات انطاكية. وسار سليمان فنهب جهات حلب وشكت إليه الرعايا فردّ عليهم. ثم جمع شرف الدولة جموع العرب وجموع التركمان مع أميرهم جقّ، وسار إلى أنطاكية فسار سليمان للقائه والتقيا في أعمال أنطاكية في صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ولما التقوا مال الأمير جقّ بمن   [1] اسمه الحقيقي الكسندروس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 معه من التركمان إلى سليمان فاختلّ مصاف مسلم بن قريش، وانهزمت العرب عنه وثبت فقتل في أربعمائة من أصحابه، وكان ملكه قد اتسع من نهر عيسى وجميع ما كان لأبيه وعمّه قراوش من البلاد. وكانت أعماله في غاية الخصب والأمن، وكان حسن السياسة كثير العدل. ولما قتل مسلم اجتمع بنو عقيل وأخرجوا أخاه إبراهيم من محبسه، بعد أن مكث فيه سنين مقيّدا حتى أفسد القيد مشيته، فأطلقوه وولّوه على أنفسهم مكان أخيه مسلم. ولما قتل مسلم سار سليمان بن قطلمش إلى أنطاكية وحاصرها شهرين فامتنعت عليه ورجع. وفي سنة تسع وسبعين وأربعمائة بعدها بعث عميد العراق عسكرا إلى الأنبار فملكها من يد بني عقيل. وفيها أقطع السلطان ملك شاه مدينة الرّحبة وأعمالها وحرّان وسروج والرقّة والخابور لمحمد بن شرف الدولة مسلم ابن قريش، وزوّجه بأخته خاتون زليخة فتسلّم جميع هذه البلاد، وامتنع محمد بن المشاطر من تسليم حرّان فأكرهه السلطان على تسليمها. (نكبة إبراهيم وتنازع محمد وعلي ابني مسلم بعده على ملك الموصل ثم استيلاء علي عليها) لم يزل إبراهيم بن قريش ملكا بالموصل وأميرا على قومه بني عقيل، حتى استدعاه السلطان ملك شاه سنة اثنتين وثمانين فلمّا حضر اعتقله، وبعث فخر الدولة ابن جهير على البلاد فملك الموصل وغيرها، وأقطع السلطان عمّته صفيّة مدينة بلد، وكانت زوجا لمسلم بن قريش ولها منه ابنه عليّ، وتزوّجت بعده بأخيه إبراهيم. فلما مات ملك شاه ارتحلت صفيّة الى الموصل ومعها ابنها عليّ بن مسلم، وجاءه أخوه محمد بن مسلم وتنازعا في ملك الموصل وانقسمت العرب عليهما. واقتتلوا على الموصل فانهزم محمد وملك عليّ ودخل الموصل وانتزعها من يد ابن جهير. (عود إبراهيم الى ملك الموصل ومقتله) لما مات ملك شاه واستبدّت تركمان خاتون بعده بالأمور، وأطلقت إبراهيم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 الاعتقال، فبادر الى الموصل، فلما صار بها سمع أنّ عليّ ابن أخيه مسلم قد ملكها ومعه أمّه صفيّة عمّة ملك شاه فبعث إليها، وتلطّف بها فدفعت إليه ملك الموصل فدخلها وكان تتش صاحب الشام أخو ملك شاه قد طمع في ملك العراق. واجتمع إليه الأمراء بالشام وجاء آق سنقر صاحب حلب، وسار إلى نصيبين فملكها وبعث إلى إبراهيم أن يخطب له ويسهّل طريقه إلى بغداد، فامتنع إبراهيم من ذلك فسار تتش ومعه آق سنقر وجموع الترك. وخرج إبراهيم للقائه في ثلاثين ألفا. والتقى الفريقان بالمغيم فانهزم إبراهيم، وقتل وغنم الترك حللهم وقتل كثير من نساء العرب أنفسهنّ خوفا من الفضيحة، واستولى تتش على الموصل. ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم استيلاء كربوقا وانتزاعه إياها من يده وانقراض أمر بني المسيب من الموصل ولما قتل إبراهيم وملك تتش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش فدخلها مع أمّه صفيّة عند ملك شاه، واستقرّت هي وأعمالها في ولايته. وسار تتش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه، وتقاتلا فانهزم تتش، وقام بماكنه ابنه رضوان، وملك حلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حرّان فملكها، وكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه ثوران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على عليّ بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقا، وعاد إلى حصار الموصل. واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر فسار إليه منجدا له. وبعث كربوقا إليه عسكرا مع أخيه التوتناش فردّه مهزوما إلى الجزيرة فتمسّك بطاعة كربوقا، وجاء مددا له على حصار الموصل. واشتدّ الحصار بعليّ بن مسلم فخرج من الموصل، ولحق بصدقة بن مزيد بالحلّة، وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيّب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغزّ من السلجوقية أمراؤهم والبقاء للَّه وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 (الخبر عن دولة بني صالح بن مرداس بحلب وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم) كان ابتداء أمر صالح بن مرداس ملك الرّحبة، وهو من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ومجالاتهم بضواحي حلب. وقال ابن حزم أنه من ولد عمرو بن كلاب، وكانت مدينة الرّحبة لأبي علي بن ثمال الخفاجيّ، فقتله عيسى بن خلاط العقيلي وملكها من يده، وبقيت له مدّة. ثم أخذها منه بدران بن المقلّد. وزحف لؤلؤ الساري نائب الحاكم بدمشق فملك الرقّة، ثم الرّحبة من يد بدران، وعاد إلى دمشق. وكان رئيس الرّحبة ابن مجلكان فاستبدّ بها، وبعث إلى صالح بن مرداس يستعين به على أمره فأقام عنده مدّة. ثم فسد ما بينهما، وقاتله صالح. ثم اصطلحا، وزوّجه ابن مجلكان ابنته ودخل البلد. ثم انتقل ابن مجلكان إلى عانة بأهله وماله بعد أن أطاعوه وأخذ رهنهم. ثم نقضوا وأخذوا ماله وسار إليهم ابن مجلكان مع صالح فوضع عليه صالح من قتله، وسار إلى الرّحبة فملكها واستولى على أموال ابن مجلكان وأقام دعوة العلويّين بمصر. (ابتداء أمر صالح في ملك حلب) قد قدّمنا أن لؤلؤا مولى أبي المعالي بن سيف الدولة استبدّ بحلب على ابنه أبي الفضائل، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العبّاسية وخطب للحاكم العلويّ بمصر. ثم فسد حاله معه وطمع صالح بن مرداس في ملك حلب. وذكرنا هنالك ما كان بين صالح ولؤلؤ من الحروب، وأنه كان له مولى اسمه فتح وضعه في قلعة حلب حافظا لها، فاستوحش وانتقض على لؤلؤ بممالأة صالح بن مرداس، وبايع للحاكم على أن يقطعه صيدا وبيروت، وسوّغه ما كان في حلب من الأموال. ولحق لؤلؤ بأنطاكيّة وأقام عند الروم. وخرج فتح بحرم لؤلؤ وأمّه وتركهنّ في منبج. وترك حلب وقلعتها إلى نوّاب الحاكم وتداولت في أيديهم حتى وليها بعض بني حمدان من قبل الحاكم يعرف بعزيز الملك، اصطنعه الحاكم وولّاه حلب ثم عصى على ابنه الظاهر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 وكانت عمّته بنت الملك مدبّرة لدولته، فوضعت على عزيز الملك من قتله، وولّوا على حلب عبد الله بن عليّ بن جعفر الكتامي، ويعرف بابن شعبان الكتامي وعلى القلعة صفيّ الدولة موصوفا الخادم. (استيلاء صالح بن مرداس على حلب) ولما ضعف أمر العبيديّين بمصر من بعد المائة الرابعة وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة، تطاولت العرب إلى الاستيلاء على البلاد فاستولى بنو عقيل على الجزيرة، واجتمع عرب الشام فتقاسموا البلاد على أن يكون لحسّان بن مفرّج بن دغفل وقومه طيِّئ من الرملة إلى مصر، ولصالح بن مرداس وقومه بني كلاب من حلب إلى عانة ولحسّان بن عليان وقومه [1] دمشق وأعمالها وكان العامل على هذه البلاد من قبل الظاهر خليفة مصر أنوشتكين إلى عسقلان، وملكها ونهبها حسّان. وسار صالح بن مرداس إلى حلب فملكها من يد ابن شعبان، وسلّم له أهل البلد ودخلها. وصعد ابن شعبان إلى القلعة فحصرهم صالح بالقلعة حتى جهدهم الحصار، واستأمنوا وملك القلعة وذلك سنة أربع وعشرين وأربعمائة، واتسع ملكه ما بين بعلبكّ وعانة. (مقتل صالح وولاية ابنه أبي كامل) ولم يزل صالح مالكا لحلب إلى سنة عشرين وأربعمائة فجهّز الظاهر العساكر من مصر إلى الشام لقتال صالح وحسّان، وعليهم أنوشتكين الدريديّ فسار لذلك، ولقيهما   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 230: «وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري، وبيده دمشق والرملة وعسقلان وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان وتحالفوا واتفقوا على ان يكون من حلب إلى عانة لصالح، ومن الرملة الى مصر لحسّان ودمشق لسنان، فسار حسان الى الرملة فحصرها وبها انوشتكين، فسار عنها الى عسقلان، واستولى عليها حسّان ونهبها وقتل أهلها، وذلك سنة اربع عشرة وأربعمائة، أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة قصره» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 على الأردنّ بطبريّة، وقاتلهما فانهزما، وقتل صالح وولده الأصغر، ونجا ولده الأكبر أبو كامل نصر بن صالح إلى حلب، وكان يلقّب شبل الدولة. ولما وقعت هذه الواقعة طمع الروم أهل أنطاكية في حلب فزحفوا إليها في عدد كثير. (مسير الروم الى حلب وهزيمتهم) ثم سار ملك الروم إلى حلب في ثلاثمائة ألف مقاتل، ونزل قريبا من حلب ومعه ابن الدوقس من أكابر الروم، وكان منافرا له، فخالفه وفارقه في عشرة آلاف مقاتل، ونمي إليه أنّه يروم الفتك به، وأنه دسّ عليه فكرّ راجعا، وقبض على ابن الدوقس واضطرب الروم واتبعهم العرب وأهل السواد الأرمن، ونهبوا أثقال الملك أربعمائة حمل، وهلك أكثر عسكره عطشا. ثم أشرف بعض العرب على معسكره فهربوا وتركوا سوادهم وأموالهم وأكرم الله المسلمين بالفتح. (مقتل نصر بن صالح واستيلاء الوزيري على حلب) وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف الوزيري [1] من مصرفي العساكر الى حلب وخليفتهم يومئذ المستنصر، وبرز إليه نصر فالتقوا عند حماة، وانهزم نصر وقتل وملك الوزيري حلّب في رمضان من هذه السنة. (مهلك الوزيري وولاية ثمال بن صالح) ولما ملك الوزيري حلب واستولى على الشام عظم أمره، واستكثر من الأتراك في الجند، ونمي عنه إلى المستنصر بمصر ووزيره الجرجاي أنه يروم الخلاف فدس الجرجاي [2] إلى جانب الوزيري والجند بدمشق في الثورة به، وكشف لهم عن سوء   [1] الدزبري: ابن الأثير ج 9 ص 500. [2] ابو القاسم الجرجرائي: ابن الأثير ج 9 ص 500 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 رأي المستنصر فثاروا به، وعجز عن مدافعتهم فاحتمل أثقاله، وسار إلى حلب، ثم إلى حماة فمنع من دخولها فكاتب صاحب كفر طاب فسار إليه وتبعه إلى حلب ودخلها، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ولما توفي فسد أمر الشام وانحل النظام وتزايد طمع العرب. وكان معز الدولة ثمال بن صالح بالرحبة منذ مهلك أبيه وأخيه فقصد حلب، وحاصرها فملك المدينة وامتنع أصحاب الوزيري بالقلعة. واستمدوا أهل مصر وشغل الوالي بدمشق بعد الوزيري، وهو الحسين بن حمدان الحرب حسان بن مفرج صاحب فلسطين، فاستأمن أصحاب الوزيري إلى ثمال بن صالح بعد حصاره إياها حولا فأمنهم، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فلم يزل مملكا عليها إلى أن زحفت إليه العساكر من مصر مع أبي عبيداض بن ناصر الدولة بن حمدان، وبلغت جموعهم خمسة آلاف مقاتل فخرج إليهم ثمال، وقاتلهم وأحسن دفاعهم، وأصابهم سيل كاد يذهب بهم فأفرجوا عن حلب، وعادوا إلى مصر. ثم عادت العساكر ثانية من مصر سنة إحدى وأربعين مع رفق الخادم فقاتلهم ثمال وهزمهم، وأسر الخادم رفقا ومات عنده. (رغبة ثمال عن حلب ورجوعها لصاحب مصر وولاية ابن ملهم عليها) لم تزل العساكر تتردد من مصر إلى حلب، وتضيق عليها حتى سئم ثمال بن صالح إمارتها، وعجز عن القيام بها، فبعث إلى المستنصر بمصر وصالحه على أن ينزل له عن حلب، فبعث عليها مكين الدولة أبا عليّ الحسن بن ملهم، فتسلمها آخر سنة تسع وأربعين. وسار ثمال إلى مصر ولحق أخوه عطية بن صالح بالرحبة، واستولى ابن ملهم عليها. (ثورة أهل حلب بابن ملهم وولاية محمود بن نصر بن صالح) وأقام ابن ملهم بحلب سنتين أو نحوها، بلغه عن أهل حلب أنهم كاتبوا محمود بن نصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 بن صالح فقبض عليه، فثار به أهل حلب وحصروه بالقلعة، وبعثوا إلى محمود فجاء منتصف اثنتين وخمسين وأربعمائة وحاصره معهم بالقلعة. واجتمعت معه جموع العرب واستمد ابن ملهم المستنصر، فكتب إلى أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان أن يسير إليه في العساكر، فسار إلى حلب وأجفل محمود عنها، ونزل ابن ملهم إلى البلد ودخلها ناصر الدولة ونهبتها عساكره، وابن ملهم. ثم تواقع محمود وناصر الدولة بظاهر حلب فانهزم ناصر الدولة بن حمدان وأسر فرجع به محمود إلى البلد وملكها وملك القلعة في شعبان من هذه السنة، وأطلق أحمد بن حمدان وابن ملهم فعاد إلى مصر. (رجوع ثمال بن صالح الى ملك حلب وفرار محمود بن نصر عنها) لما هزم محمود بن حمدان وأخذ القلعة من يد ابن ملهم. وكان معز الدولة ثمال بن صالح بمصر منذ سلمها للمستنصر سنة تسع وأربعين فسرحه المستنصر الآن، وأذن له في ملك حلب من ابن أخيه، فحاصره في ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة واستنجد محمود بخاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حران، فأمده بنفسه، وجاء لنصره فأفرج ثمال عن حلب وسار إلى البرية في محرم سنة ثلاث وخمسين. ثم عاد منيع إلى حران وملك ثمال حلب في ربيع سنة ثلاث وخمسين وغزا بلاد الروم فظفر وغنم. (وفاة ثمال وولاية أخيه عطية) ثم توفي ثمال بحلب قريبا من استيلائه، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة وعهد بحلب لأخيه عطية بن صالح وكان بالرحبة من لدن مسير ثمال إلى مصر فسار وملكها. ابن خلدون م 23 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 (عود محمود الى حلب وملكه إياها من يد عطية) ولما ملك عطية حلب وكان ذلك عند استيلاء السلجوقية على ممالك العراق والشام وافتراقهم على العمالات. ونزل به قوم منهم فاستخدمهم وقوي بهم. ثم خشي أصحابه غائلتهم فأشاروا بقتلهم، فسلط أهل البلد عليهم فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون، فقصدوا محمود بن نصر بحران فاستنهضوه لملك حلب. وجاءهم فحاصرها وملكها في رمضان سنة خمس وخمسين وأربعمائة واستقام أمره. ولحق عطية عمه بالرقة، فملكها إلى أن أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فسار إلى بلد الروم سنة خمس وستين وأربعمائة واستقام أمر محمود ابن نصر في حلب. وبعث الترك الذين جاءوا في خدمته مع أميرهم ابن خان سنة ستين وأربعمائة إلى بعض قلاع الروم فحاصروها وملكها. وسار محمود إلى طرابلس فحاصرها وصالحوه على مال فأفرج عنهم. ثم سار إليه السلطان البارسلان بعد فراغه من حصار ديار بكر وآمد والرها، ولم يظفر بشيء منها كما نذكر في أخبارهم. وجاء إلى حلب وحاصرها وبها محمود بن نصر. وجاءت رسالة الخليفة القائم بالرجوع إلى الدعوة العباسية فأعادها وسأل من الرسول أزهر أبو الفراس طراد الزيني أن يعفيه السلطان من الحصور عنده فأبى السلطان من ذلك، واشتد الحصار على محمود وأضربهم حجارة المجانيق، فخرج ليلا ومعه والدته منيعة بنت وثاب متطارحين على السلطان، فخلع على محمود في حلب آخر ثمان وستين وأربعمائة وعهد لابنه شبيب إلى الترك الذين ملكوا أباه وهم بالحاضر، وقد بلغه عنهم العيث والفساد، فلما دنا من حللهم تلقوه فلم يجبهم، وقاتلهم وأصيب بسهم في تلك الجولة ومات. (مهلك نصر بن محمود وولاية أخيه سابق) ولما هلك نصر ملك أخوه سابق. قال ابن الأثير: وهو الّذي أوصى له أبوه بالملك، فلم ينفذ عهده لصغره، فلما ولي استدعى أحمد شاه مقدم التركمان الذين قتلوا أباه فخلع عليه، وأحسن إليه وبقي فيها ملكا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 (استيلاء مسلم بن قريش على حلب من يد سابق وانقراض دولة بني صالح بن مرداس) ولما كانت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة زحف تتش بعد أن ملك دمشق إلى حلب فحاصرها أياما ووجل أهل حلب من ولاية الترك فبعثوا الى مسلم بن قريش ليملكوه ثم بدا لهم في أمره ورجع من طريقه، وكان مقدمهم يعرف بابن الحسين العباسي وخرج ولده متصيدا في ضيعة له فأرسل له بعض أهل القلاع بنواحي حلب من التركمان، وأسره وأرسله إلى مسلم بن قريش فعاهده على تمكينه من البلد، وعاد إلى أبيه فسلم البلد إلى مسلم بن قريش وملكها سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ولحق سابق بن محمود وأخوه وثاب إلى القلعة واستنزلهما بعد أيام على الأمان واستولى على نواحيها. وبعث إلى السلطان ملك شاه بالفتح، وأن يضمن البلد على العادة فأجابه إلى ذلك، وصارت في ولاية مسلم بن قريش إلى أن ملكها السلطان من بعده. (استيلاء السلطان ملك شاه على حلب وولاية آق سنقر عليها) قد تقدم لنا أن مسلم بن قريش قتله سليمان بن قطلمش كما مر في أخبار مسلم، فلما قتله أرسل إليه ابن الحسين العباسي مقدم أهل حلب يطلب تسليمها إليه. وكان تتش أيضا قد حاصرها وضيق عليها يطلب ملكها فوعد كلا منهما. ونمي الخبر إلى تتش فسار إلى حلب، وجاءه سليمان بن قطلمش فاقتتلا، وقتل سليمان سنة تسع وسبعين وأربعمائة وبعث برأسه إلى ابن الحسين، فكتب أنه يشاور السلطان ملك شاه في ذلك، فغضب تتش وحاصره، وداخله بعض أهل البلد فغدر به وأدخله ليلا فملك تتش مدينة حلب، وشفع الأمير أرتق بن أكسك من أمراء تتش في ابن الحثيثي وامتنع بالقلعة سالم بن مالك بن بدران ابن المقلد فحاصره تتش وكان ابن الحثيثي قد كاتب السلطان ملك شاه واستدعاه لملك حلب عند ما خاف من أخيه تاج الدولة تتش، فسار إليها من أصفهان سنة تسع وأربعين وأربعمائة ومر بالموصل. ثم تسلم حران الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 من يد ابن الشاطر، وأقطعها لمحمد بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها من يد الروم. وكانوا اشتروها من ابن عطية، وسار إلى قلعة جعفر [1] فملكها وقتل من بها من بني قشير وأخذ صاحبها جعفرا شيخا أعمى وولدين له، وكانوا يفسدون السابلة ويرجعون إليها. ثم سار إلى منبج فملكها وسار إلى حلب وأخوه تتش يحاصر القلعة سبعة عشر يوما من حصارها، وعاد إلى دمشق وملك السلطان مدينة حلب وقاتل القلعة ساعة من نهار رشقا بالسهام، فأذعن سالم بن مالك بن بدران بالطاعة والنزول عنها على أن يقطعه قلعة جعفر، فأقطعها له السلطان فلم تزل بيده ويد بنيه إلى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد [2] . وبعث نصر بن علي بن منقذ الكتاني صاحب شيزر بالطاعة، وولى على حلب قسيم الدولة آق سنقر جد العادل نور الدين الشهيد، وارتحل عائدا إلى العراق. وسأله أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فاستصلحه، وأرسله إلى ديار بكر فنزلها إلى أن توفي على حال شديدة من الفقر والاملاق. والله مالك الأمور لا رب غيره. (الخبر عن دولة بني مزيد ملوك الحلة وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم) كان بنو مزيد هؤلاء من بني أسد، وكانت محلاتهم من بغداد إلى البصرة إلى نجد وهي معروفة. وكانت لهم النعمانية، وكانت بنو دبيس من عشائرهم في نواحي خوزستان في جزائر معروفة بهم. وكان كبير بني مزيد أبو الحسن علي بن مزيد وأخوه أبو الغنائم. وسار أبو الغنائم إلى بني دبيس فأقام عندهم، وفر فلم يدركوه، ولحق بناحية أبي الحسن فسار إليهم أبو الحسن، واستمد عميد الجيوش فأمده بعسكر من الديلم في البحر، ولقيهم فانهزم أبو الحسن وقتل أبو الغنائم وذلك سنة إحدى وأربعمائة. فلما كانت سنة خمس وأربعمائة جمع أبو الحسن وسار إليهم لإدراك الثأر بأخيه، وجمع بني دبيس وهم مضر وحسان ونبهان وطراد فاجتمع إليهم العرب ومن في نواحيهم من   [1] قلعة جعبر: ابن الأثير ج 9 ص 149، قلعه على الفرات بين بالس والرقة قرب صفين (معجم البلدان) . [2] هو نور الدين محمود بن زنكي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 الأكراد الشاهجان والحادانية، وتزاحفوا ثم انهزم بنو دبيس، وقتل حسان ونبهان واستولى أبو الحسن بن مزيد على أموالهم وحللهم. ولحق الفل منهم بالجزيرة وقلده فخر الدولة أمر الجزيرة الدبيسية واستثنى منها الطيب وقرقوب. وأقام أبو الحسن هناك. ثم جمع مضر بن دبيس جمعا وكبسه فنجا في فل يسير ولحق ببلد النيل منهزما، واستولى مضر على أمواله وعلى الجزيرة وملكها. (وفاة علي بن مزيد وولاية ابنه دبيس) ثم توفي أبو الحسن بن مزيد سنة ثمان وأربعمائة وقام بالأمر مكانه ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس، وقد كان أبوه عهد لأخيه في حياته، وخلع عليه سلطان الدولة، وأذن في ولايته. فلما ولي بعد أبيه نزع أخوه المقلد إلى بني عقيل فأقام بينهم، وكانت بسبب ذلك بين دبيس وقراوش أميري بني عقيل فتن وحروب. وجمع دبيس عليه بني خفاجة، وملك الأنبار من يده سنة سبع عشرة وأربعمائة ثم انتقض خفاجة على دبيس وأميرهم منيع بن حسان وسار إلى الجامعين فنهبها وملك الكوفة. وصار أمر دبيس وقراوش إلى الوفاق واستوى الأمر على ذلك ومنعت خفاجة بني عقيل من سقي الفرات. (استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسية) كانت الجزيرة الدبيسية قد استقرت لطراد بن دبيس، وكان منصور بن الحسين من شعوب بني أسد تغلب عليها، وأخرج طراد بن دبيس عنها سنة ثمان عشرة وأربعمائة ثم مات طراد فسار ابنه أبو الحسن إلى جلال الدولة ببغداد، وكان منصور بن الحسين قد خطب للملك أبي كليجار، وقطع الخطبة لجلال الدولة فسأل منه علي بن طراد أن يبعث معه عسكرا ليخرج منصورا من الجزيرة، فأنفذ معه العسكر، وسار إلى واسط. ثم أغذ السير وكان منصور جمع للقائه، وأعانه بعض أمراء الترك، وهو أبو صالح كركبر. وكان قد هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأعان منصورا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 شأنه، ولقوا علي بن طراد فهزموه، وقتلوه وجماعة من الترك الذين بعثهم جلال الدولة لنصرته. واستقر ملك الجزيرة الدبيسية لمنصور بن الحسين. (فتنة دبيس مع جلال الدولة وحروبه مع قومه) كان المقلد أخو دبيس بن مزيد قد لحق ببني عقيل كما ذكرناه، وكانت بينه وبين نور الدولة دبيس عداوة، فسار إلى منيع بن حسان أمير خفاجة، واجتمعا على قتال دبيس على خلافة جلال الدين، وخطب لأبي كليجار واستقدمه للعراق فجاء إلى واسط، وبها ابن جلال الدولة ففارقها وقصد النعمانية ففجر عليه البثوق من بلده. وأرسل أبو كليجار إلى قراوش صاحب الموصل، والأثير عنبر الخادم أن ينحدروا إلى العراق فانحدروا إلى الكحيل. ومات بها الأثير عنبر وجمع جلال الدولة عساكره واستنجد أبا الشوك صاحب بلاد الأكراد، فأنجده وانحدر إلى واسط، وأقام بها وتتابعت الأمطار والأوحال فسار جلال الدولة إلى الأهواز بلد أبي كليجار لينهبها. وبعث أبو كليجار إليه بأن عساكر محمود بن سبكتكين قد قصدت العراق ليردّه عن الأهواز فلم يلتفت إلى ذلك، وسار ونهب الأهواز، وبلغ الخبر إلى أبي كليجار فسار إلى مدافعته، وتخلف عنه دبيس خوفا على حلله من خفاجة. والتقى أبو كليجار وجلال الدولة فانهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه كثير. واستولى جلال الدولة على واسط وأعاد إليها ابنه عبد العزيز كما كان. ولما فارق دبيس أبا كليجار وجد جماعة من عشيرته قد خالفوا عليه، وعاثوا في نواحي الجامعين فقاتلهم وظفر بهم، وأسر منهم جماعة منهم: أبو عبد الله الحسين ابن عمه أبي الغنائم، وشبيب وسرايا ووهب بنو. عمه حماد بن مزيد وحبسهم بالجوسق. ثم جمع المقلد أخوه جموعا من العرب واستمدّ جلال الدولة فأمدّه بعسكر، وقصدوا دبيس فانهزم وأسر جماعة من أصحابه، ونزل المعتقلون بالجوسق فنهبوا حلله. ولحق دبيس بالشريد منهزما فسار به إلى مجد الدولة، وضمن عنه المال المقرّر في ولايته فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه، واستقام حاله. وذهب المقلّد مع جماعة من خفاجة فنهبوا مطيرآباد والنيل أقبح نهب، وعاثوا في منازلها، ولم تكن الحلّة بنيت يومئذ. وعبر المقلّد دجلة إلى أبي الشوك فأقام عنده حتى أصلح أمره . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 (الفتنة بين دبيس وأخيه ثابت) كان أبو قوام ثابت بن علي بن مزيد متصلا بالبساسيري سنة أربع وعشرين وأربعمائة وتزحزح لهم دبيس عن البلاد وملك ثابت النيل وأعمال دبيس. وبعث دبيس طائفة من أصحابه لقتال ثابت فانهزموا فسار دبيس عن البلاد، وتركها لثابت حتى رجع البساسيري إلى بغداد فسار في جموع بني أسد وخفاجة، ومعه أبو كامل منصور بن قراد وتركوا حللهم بين حصني وجرى. وساروا جريدة ولقيهم ثابت عند جرجرا، فاقتتلوا مليا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يعود دبيس إلى أعماله، ويقطع أخاه ثابتا بعض تلك الأعمال، وتحالفوا على ذلك وافترقوا وجاء البساسيري منجدا لثابت فبلغه الخبر بالنعمانيّة فرجع. (الفتنة بين دبيس وعسكر واسط) كان الملك الرحيم قد أقطع دبيس بن مزيد سنة إحدى وأربعين واربعمائة حماية نهر الصلة ونهر الفضل، وهي من إقطاع جند واسط فسخطوا ذلك، واجتمعوا وبعثوا إليه بالتهديد فراجعهم إلى حكم الملك الرحيم، فغضبوا وزحفوا إليه فلقيهم وأكمن لهم فهزمهم وأثخن فيهم، وغنم أموالهم ودوابهم ورجعوا إلى واسط يستنجدون جند بغداد، ويرغبون من البساسيري في المدافعة ويعطه [1] نهر الصلة ونهر الفضل. (إيقاع دبيس بخفاجه) وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة قصد بنو خفاجة الجامعين من أعمال دبيس فعاثوا فيها من غربي الفرات، وكان دبيس في شرقيه فاستنجد البساسيري فجاء بنفسه، وعبر   [1] الأصح ان يقول ويعطونه لأنه لا وجوب لحذف النون، أو ان يقول: وان يعطوه ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 دبيس الفرات معه وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين فسلكوا البرية، ورجع عنهم. ثم عادوا للفساد فعاد إليهم فدخلوا البرية فاتبعهم إلى حصن خفان فأوقع بهم، وأثخن فيهم وحاصر خفان ثم اقتحمه، وأخرجهم ورجع إلى بغداد ومعه أسارى من خفاجة فصلبوا. ثم سار إلى جرى [1] فحاصرها ووضع عليهم سبعة [2] آلاف دينار فالتزموها وأمنهم. (حرب دبيس مع الغز وخطبته للعلوي صاحب مصر ومعاودته الطاعة) ولما انقرض أمر بني بويه وغلب عليهم الغز، وصارت الدولة للسلطان طغرلبك سلطان السلجوقية، وجاء السلطان طغرلبك إلى بغداد، واستولى على الخليفة، وخطب له على منابر الإسلام، وقبض على الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه حسما ذلك كله مذكور في أخبارهم. وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم قبل مسيره من واسط إلى بغداد للقاء طغرلبك مجمعا على الخلاف على الغز مع قطلمش ابن عم طغرلبك جدّ الملوك ببلاد الروم أولاد قليج أرسلان [3] ، ومعه متمم الدولة أبو الفتح عمر، وسار معهم قريش بن بدران صاحب الموصل فلقيهم دبيس والبساسيري على سنجار، وهزمهم ورجع قريش إلى دبيس جريحا فخلع عليه، وسار معهم وذهب بهم إلى الموصل. وخرج دبيس وقريش والبساسيري إلى البرية، ومعهم جماعة من بني نمير أصحاب حران والرقة. واتبعهم عساكر السلطان مع هزارسب من أمراء السلجوقية فأوقع بهم، ورجع بالغنائم والأسرى. وأرسل دبيس وقريش إلى هزارسب أن يستعطف بهم السلطان ففعل. وبعث دبيس ابنه بهاء الدولة مع وافد قريش فأكرمهما السلطان طغرلبك. ثم انتقض عليه أخوه نيال بهمذان فسار لحربه. وترك بغداد وخالفه البساسيري إليها وبعث الخليفة القائم عن دبيس ليقيم عنده ببغداد، فاعتذر   [1] حربي: ابن الأثير ج 9 ص 600- بليدة في أقصى دجيل بين بغداد وتكريت مقابل الحظيرة (معجم البلدان) . [2] تسعة آلاف دينار: المرجع السابق. [3] قلج ارسلان: ابن الأثير ج 9 ص 625. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 بأن العرب لا تقيم، وطلب الخليفة في الخروج إليه حتى يجتمع عليه هو وهزارسب، ويدافعوا عن بغداد. وجاء البساسيري ودخل بغداد ومعه قريش بن بدران فملكها سنة خمسين وأربعمائة وخطب فيها للعلويّين واستذم الخليفة القائم بقريش بن بدران فأذمه، وبعثه إلى عانة عند مهاوش العقيلي من بني عمه وفعل البساسيري وجموعه في بغداد الأفاعيل، وأطاعه دبيس بن علي بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين صاحب الجزيرة الدبيسية، وكان ولي بعد أبيه وقد تقدم ذكر هذا كله. ثم رجع السلطان من همذان بعد قتل أخيه، وقضى أشغاله فأجفل البساسيري وأصحابه من بغداد، ولحق ببلاد دبيس وفارقه صدقة بن منصور إلى هزارسب بواسط. وأعاد طغرلبك الخليفة إلى داره، وسار السلطان في اتباعه وفي مقدمته خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس، ومعه سرايا بن منيع الخفاجي فصبحت المقدمة دبيس بن مزيد والبساسيري، فهرب دبيس ووقف البساسيري فقتل وذلك سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ورجع السلطان إلى بغداد ثم انحدر إلى واسط. وجاءه هزارسب بن تنكين [1] فأصلح عنده حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين، وحضرا عند السلطان وجاءا في ركابه إلى بغداد فخلع عليهما وردهما إلى عمالتهما. (وفاة دبيس وامارة ابنه منصور) ولم يزل دبيس على أعماله إلى أن توفي سنة اربع وسبعين وأربعمائة لسبع وخمسين سنة من إمارته، وكان ممدوحا. ورثاه الشعراء بعد وفاته بأكثر مما مدحوه في حياته. ولما مات ولي في أعماله وعلى بني أسد ابنه أبو كامل منصور، ولقب بهاء الدولة. وسار إلى السلطان ملك شاه فأقره على أعماله وعاد في صفر سنة خمس وسبعين وأربعمائة فأحسن السيرة. (وفاة منصور بن دبيس وولاية ابنه صدقة) ثم توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة والنيل   [1] هزارسب بن بنكير: ابن الأثير ج 9 ص 644 وقد مر ذكره من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 وغيرهما في ربيع الأول سنة تسع وسبعين، فأرسل الخليفة نقيب العلويين أبا الغنائم إلى ابنه سيف الدولة صدقة يعزيه. وسار صدقة إلى السلطان ملك شاه فخلع عليه وولاه مكان أبيه. (انتقاض صدقة بن منصور بن دبيس على السلطان بركيارق) وكان السلطان بركيارق قد خرج عليه أخوه محمود بن ملك شاه ينازعه في الملك، وكانت بينهما عدة وقعات، ولم يزل صدقة بن منصور على طاعته ويحضر حروبه تارة بنفسه، وتارة يبعث إليه العساكر مع ابنه إلى سنة أربع وتسعين وأربعمائة. فبعث إليه وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن الدهستاني يطلبه فبما تخلف عنده من المال، وهو ألف ألف دينار، ويتهدده عليه فقطع صدقة الخطبة لبركيارق، وعاد إلى بغداد في هذه السنة منهزما أمام أخويه محمد وسنجر، فبعث الأمير أياز من أكبر أصحابه، وطرد نائب السلطان عن الكوفة واستضافها إليه. (استيلاء صدقة على واسط وهيت) كان السلطان محمد في سنة ست وتسعين وأربعمائة مستوليا على بغداد والخطبة بها وشحنته فيها أبو الغازي بن أرتق، وصدقة بن دبيس على طاعته ومظاهرته. ثم ظهر في هذه السنة بركيارق على محمد، وحاصره بأصفهان فامتنع عليه فأفرج عنه إلى همذان، وبعث كمستكين القصيري شحنة إلى بغداد فاستدعى أبو الغازي أخاه سقمان بن أرتق من حصن كيفا يستعين به في مدافعة كمستكين. وجاء كمستكين إلى بغداد وخطب بها لبركيارق وخرج أبو الغازي وسقمان إلى دجيل فأقاما به بجرى [1] وجاء صدقة بن مزيد إلى صرصر بعد أن جاءه رسول الخليفة في طاعة أبي الغازي   [1] حربي وقد مر ذكرها من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وسقمان فعادا وعاثت عساكرهما في نواحي دجيل، وتقدما إلى بغداد وبعث معهما صدقة ابنه دبيسا فخيموا بالرملة، وقاتلهم العامة وكثر الهرج، وبعث الخليفة إلى صدقة يعظم عليه الأمر فأشار بإخراج كمستكين القيصري من بغداد لتصلح الأحوال، فأخرج إلى النهروان في ربيع سنة ست وتسعين وأربعمائة وعاد صدقة إلى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد ولحق القيصري بواسط، وخطب بها لمحمد فسار إليه صدقة وأخرجه وجاء أبو الغازي واتبعوا القيصري واستأمن إلى صدقة فأكرمه وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وبعده لصدقة وأبي الغازي. وولى كل واحد منهما ولده على واسط، وذهب أبو الغازي إلى بغداد وعاد صدقة إلى الحلة، وأرسل ابنه منصورا مع أبا الغازي إلى المستنصر ليستظهر رضاه فرضي عنه. ثم استولى صدقة على هيت، وكان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة توران بن تهيبة [1] وكان مقيما في جماعة من بني عقيل عند صدقة. ثم تشاجرا ومال بنو عقيل إلى صدقة، وحج عقب ذلك، ورجع فوكل به صدقة. وبعث ابنه دبيس ليتسلم هيت فمنعه نائب توران بها، وهو محمد بن رافع بن رفاع بن منيعة [2] بن مالك بن المقلد. فلما أخذ صدقة واسطا سار إلى هيت وبها منصور بن كثير نائبا عن عمه توران، فلقي صدقة وحاربه. ثم انتقض جماعة من أهل البلد وفتحوا لصدقة فملكها، وخلع على منصور وأصحابه وعاد إلى الحلة. واستخلف على هيت ابن عمه ثابت بن كامل. ثم اصطلح السلطان محمد وبركيارق وسار صدقة في شوال إلى واسط فملكها وأخرج الترك الذين كانوا بها وأحضر مهذب الدولة بن أبي الخير فضمنه البلد لثلاثة أشهر بقيت من السنة بخمسين ألف دينار وعاد إلى الحلة. (استيلاء صدقة بن مزيد على البصرة) كانت البصرة منذ سنين في ولاية إسماعيل بن أرسلان جق من السلجوقية، أقام فيها عشر سنين وعظم تمكنه للخلاف الواقع بين بركيارق ومحمد. وكان يظهر طاعة صدقة   [1] ثروان بن وهب بن وهيبة: ابن الأثير ج 10 ص 358. [2] بن ضبيعة: المرجع السابق ص 359. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وموافقته. فلما صفا الأمر لمحمد رغب إليه صدقة في إبقائه فابقاه. وبعث السلطان محمد عاملا على خاصة البصرة فمنعه إسماعيل، فأمر السلطان صدقة بأخذ البصرة منه. وأظهر منكبرس الخلاف فشغلوا عن البصرة، وبعث إليه صدقة بتسليم الشرطة إلى مهذب الدولة بن أبي الخير فمنع من ذلك، فسار صدقة إليه، وحصن إسماعيل القلاع التي استجدها حوالي البصرة، واعتقل وجوه البلد من العباسيين والعلويين، والقاضي والمدرس والأعيان، وحاصرها صدقة وخرج إسماعيل لقتاله، وخالفه طائفة من أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد فاقتحموها، وانهزم إسماعيل إلى قلعة الجزيرة فامتنع بها، ونهبت البلد. وانحدر المهذب بن أبي الخير في السفن فأخذ القلعة التي كانت لإسماعيل بمطارا. ثم استأمن إسماعيل إلى صدقة فأمنه. وجاء صدقة فأمن أهل البصرة ورتب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلة منتصف تسع وتسعين وأربعمائة لستة عشر يوما من مقامه بالبصرة. وسار إسماعيل نحو فارس فطرقه المرض في رامهرمز ومات وكان صدقة قد استعمل على البصرة مملوك جده دبيس، واسمه اليونشاش ورتب معه مائة وعشرين فارسا، فاجتمعت ربيعة والمتقن [1] وقصدوا البصرة فدخلوها بالسيف، وأسروا اليونشاش وأقاموا بها شهرا ينهبون ويخربون، وبعث صدقة عسكرا فوصل بعد خروجهم من البلد فانتزع السلطان البصرة من صدقة وبعث إليها شحنة وعميدا واستقام أمرها. (استيلاء صدقة على تكريت) كانت تكريت لبني معن من بني عقيل، وكانت إلى آخر سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن معن، فلما مات وليها ابن أخيه أبو منعة بن ثعلب بن حماد [2] ووجد بها خمسمائة ألف دينار. وتوفي سنة خمس وثلاثين، ووليها ابنه أبو غشام إلى سنة أربع وأربعين فوثب عليه أخوه عيسى فحبسه وملك القلعة والأموال. فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه، ومات عيسى إثر   [1] الصحيح المنتفق وما يزال هذا الاسم يطلق على مدينة الناصرية وعشائرها في جنوب العراق بين الديوانية والبصرة. [2] هو ابو منعة خميس بن تغلب بن حماد: ابن الأثير ج 10 ص 419. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 ذلك وخافت زوجته من عود أخيه أبي غشام إلى الملك فقتله في محبسه. وولت على القلعة أبا الغنائم بن المجلبان [1] فسلمها إلى أصحاب طغرلبك، وسارت هي إلى الموصل فقتلها ابن أبي غشام بأبيه. وأخذ مسلم بن قريش مالها. وولى طغرلبك على قلعة تكريت أبا العباس الرازيّ، فمات لستة أشهر، فولي عليها المهرباط وهو أبو جعفر محمد بن غشام [2] من بلد الثغر، فأقام بها إحدى وعشرين سنة، ومات فوليها ابنه سنتين، وأخذتها من [3] تركمان خاتون وولت عليها كوهوايين الشحنة. ثم مات ملك شاه فملكها قسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب، فلما قتل صارت للأمير كمستكين الجاندار، فولى عليها رجلا يعرف بأبي نصر المصارع، ثم عادت إلى كوهوايين إقطاعا. ثم أخذها منه محمد الملك الباسلاني [4] فولى عليها لمقا بن هزارشب الديلميّ [5] وأقام بها اثنتي عشرة سنة، فظلم أهلها، وأساء السيرة، فلما أجاز به سقمان بن ارتق سنة ست وتسعين وأربعمائة فنهبها، وكان كيقباد [6] ينهبها ليلا وسقمان ينهبها نهارا. فلما استقر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي شحنة بغداد، فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر حتى ضاق على كيقباد الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه، فسار إليها في صفر من هذه السنة، وتسلمها منه. وانحدر البرسقي ولم يملكها ومات كيقباد بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام، وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة ورام بن أبي قريش بن ورام [7] وكان كيقباد ينسب الى البطانية. (الخلف بين صدقة وصاحب البطيحة) قد كنا قدمنا أن السلطان محمدا أقطع صدقة بن مزيد مدينة واسط، فضمنها صدقة   [1] ابن المحلبان: ابن الأثير ج 10 ص 420 وقد مر ذكره من قبل. [2] بن خشنام: المرجع السابق. [3] مقتضى السياق أخذتها منه تركمان خاتون وولت عليها كوهرائين الشحنة. [4] مجد الملك البلاساني: ابن الأثير ج 10 ص 420. [5] كيقباذ بن هزارسب الديلميّ: المرجع السابق. [6] هو كيقباذ. [7] ورّام بن أبي فراس بن ورام: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 لمهذب الدولة بن أبي الخير، وولى في أعمالها أولاده، فبذروا الأموال، وطالبه صدقة عند انقضاء السنة بالمال وحبسه. وسعى في خلاصه بدران بن صدقة، وكان صهرا لمهذب الدولة، وأعاده إلى البطيحة. وضمن حماد والمختم محمد والد مهذب الدولة كانا أخوين وهما ابنا أبي الخير [1] وكانت لهما رياسة قومهما. وهلك المصطنع وقام ابنه أبو السيد المظفر والد حماد مقامه. وهلك المختم [2] محمد وقام ابنه مهذب الدولة مقامه، ونازعا إبراهيم صاحب البطيحة حتى غلبه مهذب الدولة وقبض عليه، وسلمه إلى كوهوايين، فحمله إلى أصفهان فهلك في الطريق. وعظم أمر مهذب الدولة وصير كوهوايين أمير البطيحة، وصارت جماعته لحكمه. وكان حماد شابا، وكان مهذب الدولة يداريه بجهده، وهو يضمر نقضه، فلما مات كوهوايين انتقض حماد عن مهذب الدولة وأظهر ما في نفسه، واجتهد مهذب الدولة في استصلاحه، فلم يقدر وجمع ابنه القيسر [3] وقصد حمادا فهرب إلى صدقة بالحلة، وبعث معه مددا من العسكر. وحشد مهذب الدولة وسار في العساكر برا وبحرا. وأكمن حماد لهم وأصحابه واستطردوا بين أيديهم. ثم خرجت عليهم الكمائن فانهزموا. وأرسل حماد يستمد صدقة فبعث إليه مقدم جيشه، وجمعوا السفن وكان مهذب الدولة جوادا، فبعث إلى مقدم الجيش بالإنعامات والصلات فمال إليه، وأشار عليه أن يبعث ابن النفيس [4] إلى صدقة فرضي عنه وأصلح بينه وبين حماد ابن عمه، وذلك آخر المائة الخامسة. (مقتل صدقة وولاية ابنه دبيس) كان صدقة بن منصور بن مزيد شيعة للسلطان محمد بن ملك شاه على أخيه بركيارق، ومن أعظم أنصاره. ولما هلك بركيارق واستبد السلطان محمد بالملك رعى   [1] المعنى غير واضح والجملة مبتورة، وفي الكامل ج 10 ص 435 «وضمن حماد بن بي الجبر واسط، فانحلّ على مهذّب الدولة كثير من أمره، فآل الأمر الى الاختلاف بعد الاتفاق. فإن المصطنع إسماعيل، جدّ حمّاد، والمختص محمدا، والد مهذب الدولة، أخوان، وهما ابنا أبي الجبر ... » . [2] المختصّ: المرجع السابق. [3] النفيس بن مهذب الدولة: ابن الأثير 10 ص 436. [4] مقتضى السياق: ان يبعث ابنه النفيس إلى صدقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 وسائله في ذلك، وأقطعه واسطا وأذن له في ملك البصرة، وأنزله منزل المصافاة حتى كان يجبر عليه. وسخط مرة على سرخاب بن كيخس [1] صاحب سارة فلجأ إليه مستجيرا به فأجاره، وطلبه السلطان فمنعه. وكان العميد أبو جعفر يستبد له السلطان لكثرة السعاية، ويغريه به وينكر دالته وتبسطه فتعين [2] السلطان وسار إلى العراق وأرسل إلى صدقة فاستشار صدقة أصحابه فأشار ابنه دبيس بملاطفته واستعطافه بالهدايا، وأشار سعيد بن حميد صاحب جيشه بالمحاربة، فجنح إلى رأيه واستطال في الخطاب وجمع الجند وأفاض فيهم العطاء واعترضهم فكانوا عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل. وبعث إليه المستظهر مع علي بن طراد الزيني [3] نقيب النقباء يعظه في المخالفة، ويحضه على لقاء السلطان، فاعتذر بالخوف منه ثم بعث إليه السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي ليؤمنه، ويستنفره لجهاد الفرنج في جملته فامتنع، ووصل السلطان إلى بغداد في ربيع من سنة إحدى وخمسمائة، ومعه وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك، فقدم البرسقي شحنة بغداد في جماعة من الأمراء فنزلوا بصرصر مسلحة لقلّة عسكر السلطان. وإنه إنما جاء في ألفي فارس للإصلاح والاستئلاف، فلما تبين له لجاج صدقة أرسل إلى الأمراء بأصفهان بأن يستجيشوا ويقدموا، فكتب صدقة إلى الخليفة بالمقاربة وموافقة السلطان. ثم رجع صدقة عن رأيه، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد مددته بالأموال والرجال لجهاده. واما الآن عساكره متصلة فلا وفاق عندي، وقد أرسل إلى جاولي سكاوو، وصاحب الموصل وإيلغازي بن أرتق [4] صاحب ماردين بالانتقاض على السلطان وأيس السلطان من استقامته. ووصل إليه ببغداد قراوش شرف الدولة وكروباوى [5] بن   [1] شرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة وآبه: ابن الأثير ج 10 ص 441. [2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 10 ص 441: «وظهر منه أمور أنكرها السلطان، فتوجه الى العراق ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الّذي يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال والخيل والتحف، ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد، صاحب جيش صدقة، بالمحاربة وجمع الجند وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله، وجمع العساكر واجتمع إليه عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل» . [3] علي بن طراد الزينبي: المرجع السابق. [4] ايلغازي بن أرتق: ابن الأثير ج 10 ص 443. [5] قرواش بن شرف الدولة، وكرماوي بن خراسان التركماني: ابن الأثير ج 10 ص 443. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 خراسان التركماني، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن خادم بن الجرج [1] الطائي، وكان آباؤه أصحاب البلقاء وبيت المقدس، ومنهم حسان بن مفرج، وطرده كفرتكين أتابك [2] دمشق لما كان عليه من الأجلاب تارة مع الفرنج، وتارة مع أهل مصر. فلجأ إلى صدقة وقبله وأكرمه، وأجزل له العطاء سبعة آلاف دينار. فلما كانت هذه الحادثة رغب عن صدقة وسار في طلائعه فهرب إلى السلطان فخلع عليه وعلى أصحابه، وسوغه دار صدقة عن الهروب. وأذن له فعبر من الأنبار وكان آخر العهد به. ثم أنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط، الأمير محمد بن بوقا التركماني فملكها وأخرج منها أصحاب صدقة، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان من أعمال صدقة، فنهبه وأقام أياما، حتى بعث صدقة ابن عمه ثابت بن سلطان في عسكر، فخرج منها الأمير محمد وملكها ثابت. وأقاموا على دجلة وخرج ثابت لقتالهم فهزموه واقتحموا البلد، ومنعهم الأمير محمد من النهب ونادى بالأمان، وأمر السلطان الأمير محمدا بنهب بلاد صدقة، فسار إليها وأقطع مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي ثم سار السلطان من بغداد آخر رجب ولقيه صدقة واشتد القتال وتخاذلت عنه عبادة وخفاجة. ورفع صوته بالابتهال بالناشرة بالعرب، ورغب الأكراد بالمواعد، ثم غشيه الترك فحمل عليهم وهو ينادي: أنا ملك العرب أنا صدقة فأصابه سهم أثبته وتعلق به غلام تركي يسمى برغش فجذبه إلى الأرض. فقال: يا برغش: ارفق فقتله وحمل رأسه إلى السلطان فأنفذه إلى بغداد، وأمر بدفن شلوه. وقتل من أصحابه ثلاثة آلاف أو يزيدون، ومن بني شيبان نحو مائة، وأسر ابنه دبيس، ونجا ابنه بدران إلى الحلة، ومنها إلى البطيحة عند صهره مهذب الدولة، وأسر سرجان بن كيخسرو والمستجير بصدقة على السلطان، وسعيد بن حميد العمدي صاحب الجيش. وكان مقتل صدقة لإحدى وعشرين سنة من إمارته وهو الّذي بنى الحلة بالعراق، وكان قد عظم شأنه وعلا قدره بين الملوك، وكان جوادا حليما صدوقا عادلا في رعيته. وكان يقرأ ولا يكتب، وكانت له خزانة كتب منسوبة الخط ألوف مجلدات، ورجع السلطان إلى بغداد من دون الحلة، وأرسل أمانا لزوج صدقة فجاءت إلى بغداد، وأمر السلطان الأمراء بتلقيها، وأطلق لها ولدها دبيسا، واعتذر   [1] ابن الجراح: المرجع السابق. [2] طغتكين أتابك: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 لها من قتل صدقة، واستحلف دبيسا على الطاعة، وأن لا يحدث حدثا. وأقام في ظله وأقطعه السلطان إقطاعا كثيرا. ولم يزل دبيس مقيما عند السلطان محمد إلى أن توفي، وملك ابنه محمود سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فرغب دبيس من السلطان محمود أن يسرحه إلى بلده، فسرحه، وعاد إليها فملكها واجتمع عليه خلق كثير من العرب والأكراد واستقام أمره. (خبر دبيس مع البرسقي ومع الملك مسعود) لما توفي الخليفة المستظهر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وبويع ابنه المسترشد خاف ابنه الآخر من غائلة أخيه وانحدر في البحر إلى المدائن، وسار منها إلى الحلّة فأبى أن يكرهه فتلطّف عليّ بن طراد لأخي الخليفة فأجاب، وتكفل دبيس بما يطلبه، وبينما هو في خلال ذلك برز البرسقيّ من بغداد مجلبا على دبيس الجموع، وسار أخو الخليفة إلى واسط فملكها في صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقوي أمره وكثرت جموعه فبعث الخليفة إلى دبيس في شأنه، وأنه خرج عن جواره فلقي أمره بالطاعة، وبعث إليه وهو بواسط عسكرا من قبله فتلقاه وقبض عليه، وبعثه إلى أخيه المسترشد. وكان مسعود أخو السلطان محمد بالموصل ومعه أتابكه حيوس بك [1] ، فاعتزما على قصد العراق لغيبة السلطان محمود عنه، فسار لذلك ومعه وزيره فخر الملك أبو عليّ بن عمّار صاحب طرابلس، وقسيم الدولة زنكي بن آق سنقر أبو المعالي أبو الملك العادل، وكروباوي بن خراسان التركماني صاحب البواريح [2] وأبو الهيجاء صاحب إربل وصاحب سنجار، فلما قاربوا بغداد خاف البرسقي شأنهم وبعث إليه الملك مسعود وحيوس بك أنهم إنما جاءوا نجدة على دبيس. وكان البرسقيّ إنّما ارتاب من حيوس بك فصالحهم، ودخل مسعود بغداد ونزل دار المملكة. وجاء منكبرس في العساكر فسار البرسقيّ عن بغداد لمحاربته ودفاعه فمال إلى النعمانيّة، وعبر دجلة واجتمع مع دبيس بن صدقة. وكان دبيس قد صانع مسعودا وصاحبه بالهدايا والألطاف مدافعة عن نفسه، فلما لقيه منكبرس اعتضد به، وسار الملك مسعود   [1] أتابكه أي أبه جيوش بك: ابن الأثير ج 10 ص 539. [2] البوازيج وقد مرّ ذكرها من قبل. ابن خلدون م 24 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 والبرسقيّ وحيوس بك الى المدائن للقائهما. ثم خاموا عن لقائهما لكثرة جموعهما، ونكبوا عن المدائن وعبروا نهر صرصر، وأكثروا النهب في تلك النواحي من الطائفتين. وبعث إليهم المسترشد بالموعظة ويأمرهم بالموادعة والمصالحة فأجابوا إلى ذلك. ثم بلغهم أنّ دبيسا ومنكبرس قد بعثا العساكر مع منصور أخي دبيس وحسين بن أوزبك ربيب منكبرس ليخالفوهم إلى بغداد فخلوها من الحامية، فأغذّ البرسقي السير إلى بغداد وترك ابنه عزّ الدين مسعود على العسكر وصحبه عماد الدين زنكي بن آق سنقر وانتهى إلى ديالى، ومنع العسكر من العبور. ثم جاءه الخبر ليومين بصلح الفريقين كما أشار الخليفة ففتر نشاطه وعبر إلى الجانب الغربيّ من بغداد. وجاء في أثره منصور أخو دبيس وحسين ربيب منكبرس فنزلا في الجانب الشرقي من بغداد. وأغار البرسقي على نعم الملك مسعود فأخذها، وعاد فخيم بجانب آخر من بغداد، وخيّم مسعود وحيوس بك من جانب آخر ودبيس ومنكبرس من جانب ومعهما عز الدولة بن البرسقيّ منفردا عن أبيه. وكان حيوس بك قد بعث إلى السلطان محمود بطلب الزيادة له وللملك مسعود فجاء كتاب مع رسوله يذكر أنّ السلطان كان أقطعهم أذربيجان، حتى إذا بلغه مسيرهم إلى بغداد تثاقل عن ذلك، وقد جهّز العساكر إلى الموصل. ووقع الكتاب بيد منكبرس فبعث إلى حيوس بك وضمن له إصلاح الحال. وكان يؤثر مصلحته إذ كان متزوّجا بأمّه فتمّ الصلح وافترق عن البرسقي أصحابه، وبطل ما كان يحدّث به نفسه من الاستبداد بالعراق. وصار مع الملك مسعود واستقرّ منكبرس شحنة ببغداد، ورجع دبيس الى الحلّة. (فتنة دبيس مع السلطان محمود واجلاؤه عن بغداد ثم معاودته الطاعة) كان دبيس بن صدقة كثيرا ما يكاتب حيوس بك أتابك الملك مسعود، ويعريهم بطلب السلطنة ويعدهم بالمساعدة ليحصل له بذلك علوّ اليد كما كان لأبيه مع بركيارق ومحمد ابني ملك شاه. وكان قسيم الدولة البرسقي شحنة بغداد قد سار للملك مسعود، وأقطعه مراغة مع الرحبة. وكانت بينه وبين دبيس عداوة مستحكمة فأغراهم دبيس بالقبض عليه، ففارقهم البرسقي إلى السلطان محمود فأكرمه. ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 اتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن عليّ الأصفهاني الطغرائي بالملك مسعود، وكان ولده أبو المؤيد محمد يكاتب الطغرائي عن الملك مسعود. فلمّا وصل أبوه عزل أبا عليّ بن عمّار صاحب طرابلس واستوزره. وحسن لهم ما أشار به دبيس فعزموا عليه. ونمي الخبر إلى السلطان محمود فكاتبهم بالوعيد فأظهروا أمرهم وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس. وبلغهم أن عساكر محمود متفرّقة فأغذّوا السير لمحاربته، والتقوا عند عقبة أستراباد في ربيع سنة أربع عشرة، وأبلى البرسقيّ وكان في مقدمته. ثم انهزم مسعود وأمر [1] كثير من أصحابه، وجيء بالوزير أبي إسماعيل الطغرائي فأمر بقتله لسنة من ولايته، وكان حسن الكتابة والشعر وله تصانيف في صنعة الكيمياء. وسار مسعود يطلب الموصل بعد أن استأمن البرسقيّ وأدركه فردّه إلى أخيه، وعفا عنه وعطف عليه. ولحق حيوس بك بالموصل. ثم بلغه فعل السلطان محمود ومعه ألف سفينة لعبوره، فبادر دبيس لطلب الأمان بعد أن أرسل حرمه إلى البطيحة. وسار بأمواله عن الحلّة وأمر بنهبها. ولحق بأبا الغازي بن أرتق بماردين، ووصل السلطان إلى الحلّة فوجدها خاوية على عروشها فرجع عنها. وأرسل دبيس أخاه منصورا من قلعة صفد في عسكر إلى العراق فمرّ بالحلّة والكوفة، وانحدر إلى البصرة وبعث إلى برتقش الزكويّ في صلاح حالهما مع السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس وولده، وحبسهما ببعض القلاع حذاء الكرخ. ثم أذن دبيس لجماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط فمنعهم أتراك واسط، فبعث إليهم عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر، وأمر مظفّر بن أبي الخير فساعده، واستمدّ أهل واسط البرسقي فأمدّهم بعسكر. وسار مهلهل للقائهم قبل مجيء المظفّر فهزم وأخذ أسيرا في جماعة من أصحابه. وأصعد المظفر من البطيحة ينهب ويفسد حتى قارب واسط. وسمع بالهزيمة فأسرع منحدرا ووقع على كتاب بخط دبيس إلى مهلهل يأمره بالقبض على مظفّر بن أبي الخير، ومطالبته بالأموال، فبعثوا به إلى المظفّر. وسار معهم وبلغ دبيسا أنّ السلطان كحّل أخاه فلبس السواد، ونهب البلاد، وأخذ للمسترشد بنهر الملك، وأجفل الناس إلى بغداد وسار عسكر واسط إلى النعمانيّة، فأوقعوا بمن لك من عساكر دبيس وأجلوهم   [1] مقتضى السياق وفرّ كثير من أصحابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 عنها. وكان دبيس قد أسر في واقعة البرسقي عفيفا خادم الخليفة فأطلقه، وحمله إلى المسترشد عقابا ووعيدا على كحل أخيه فغضب الخليفة، وتقدّم إلى البرسقيّ بالخروج لحرب دبيس، وخرج بنفسه في رمضان سنة عشرة وخمسمائة وأتاه سليمان ابن مهارش من الحديثة في جماعة من بني عقيل وقريش بن مسلم صاحب الموصل في كافة بني عقيل. وأمر المسترشد باستنفار الجند كافة، وفرّق فيهم الأموال والسلاح، وجاء دبيسا ما لم يكن يحتسبه فرجع إلى الاستعطاف وبرز الخليفة آخر ذي الحجّة، وعبر دجلة وهو في أكمل زيّه، ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك ونقيب الطالبيّين ونقيب النقباء عليّ بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل. وبلغ البرسقي مسير المسترشد فعاد إلى خدمته ونزل معه بالحديثة. ثم سار إلى الموصل على سبيل التعبية والبرسقي في المقدّمة، وعبّى دبيس أصحابه صفا واحدا. وجعل الرجّالة بين يدي الخيّالة. وقد كان وعد أصحابه بنهب بغداد وسبي حريمها، فالتقى الفريقان فانهزم عسكر دبيس وأسر جماعة من أصحابه فقتلوا صبرا وسبيت حرمه، ورجع المسترشد إلى بغداد يوم عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمائة. ونجا دبيس وعبر الفرات، وقصد غزنة من عرب نجد مستنصرا بهم فأبوا عليه، فسار إلى المنتقى [1] وحالفهم على أخذ البصرة فدخلوا ونهبوا أهلها، وقتل مقدّم عسكرها. وبعث المسترشد إلى البرسقي بالعتاب على إهمال أمر البصرة، فتجهّز البرسقي للانحدار إليها ففارقها دبيس، ولحق بقلعة حعبر وصار مع الفرنج وأطمعهم في حلب وسار معهم لحصارها سنة ثمان عشرة وخمسمائة فامتنعت عليهم فعادوا عنها، ولحق هو بالملك طغرلبك ابن السلطان بن محمد فأغراه بالمسير إلى العراق كما نذكر. (مسير دبيس إلى الملك طغرل) لما سار دبيس من الشام إلى الملك طغرل بأذربيجان تلقّاه بالمبرّة والتكرمة، وأنظمه في خواصّه ووزرائه. وأغراه دبيس بالعراق، وضمن له ملكه فسار معه لذلك، وانتهوا   [1] وفي نسخة اخرى المنتفق وكذلك في كتاب الكامل وقد مرّت معنا من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 إلى دقوقا في عساكر كثيرة. وكتب مجاهد الدين مهروز [1] صاحب تكريت إلى المسترشد بالخبر فتجهّز لمدافعتهم، وجمع العساكر فبلغوا اثني عشر ألف فارس، وبرز من بغداد في صفر سنة تسع عشرة وخمسمائة وفي مقدّمته برتقش الذكوي [2] ونزل الخالص. وانتهى إلى طغرل خروج المسترشد فعدل إلى طريق خراسان ونزل جلولاء، وتفرّق أصحابه للنهب. وبرز إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كبير فنزل الدّسكرة، ولحقه المسترشد وكان معه. ورحل طغرل ودبيس إلى الهارونيّة. ثم سارا إلى تامرّا ليقطعا جسر النهروان فحفظ دبيس المعابر، وتقدّم طغرل إلى بغداد وتملكها ونهبها. ثم رحل دبيس من تامرّا وأقام طغرل لحمّى أصابته، وحالت بينهما الأمطار والسيول. ثم أخذ دبيس ثقلا جاء للخليفة فيه ملبوس وطعام كثير، وكان لحقه الجوع والتعب والبرد فأخذ من ذلك الملبوس ولبسه، وأكل من الطعام كثيرا. واستقبل الشمس فأخذه النوم ورقد. وأمّا الخليفة لمّا بلغه الخبر بأخذ الثقل رجع إلى بغداد، ففي حال سيره عثر على دبيس وهو نائم فوقف وأيقظه، فحلّ عينيه ورأى الخليفة فبادر بتقبيل الأرض على العادة، وسأل العفو، فرقّ له الخليفة وثناه الوزير ابن صدقة عن ذلك، ووقف دبيس إزاء عسكر برتقش يحادثهم. ثم مدّوا الجسر آخر النهار للعبور فتسلل دبيس عنهم، ولحق بالملك طغرل، وسار معه إلى عمه الملك سنجر، وعاثوا في أعمال همذان واتبعهم السلطان محمود فلم يظفر بهم. (مسير دبيس الى السلطان سنجر) لما أيس طغرل من ملك العراق عند ما سار إليه مع دبيس عاد منه، وسار هو ودبيس إلى السلطان سنجر، وهو يومئذ صاحب خراسان، والمتقدّم على بني ملك شاه، فشكى إليه طغرل ودبيس من المسترشد، وبرتقش الشحنة، ووعدهم النصفة منهم. ثم داخله دبيس وأطمعه في ملك العراق. وخيّل له أن المسترشد والسلطان محمود متفقان على مباعدته، ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب [3] حتى حرّك حفيظته   [1] مجاهد الدين بهروز: ابن الأثير ج 10 ص 626. [2] يرنقش الزكوي: ابن الأثير ج 10 ص 626. [3] هذا مثل سائر، يقال لمن يبالغ في القول بغية الاقناع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 لذلك، وسار إلى العراق سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فوصل إلى الريّ، واستدعى السلطان محمودا من همذان يختبر ما خيّل له دبيس. فجاء محمود مبادرا وأكذب دبيسا فيما خيّل. وأمر السلطان سنجر العساكر بتلقي السلطان محمود، وأجلسه معه على التخت. وأقام عنده إلى آخر سنة اثنتين وعشرين ثم عاد إلى خراسان وأوصاه بإعادة دبيس إلى بلده، فرجع السلطان محمود إلى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد في محرّم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة وأنزل دبيس بداره، واسترضى له الخليفة فرضي عنه، وامتنع من ولايته، وبذل دبيس مائة ألف دينار لذلك فلم يقبله، وعاد السلطان محمود إلى همذان منتصف السنة. (فتنة دبيس مع محمود واسره) كانت زوجة السلطان محمود وهي ابنة عمّه سنجر تعين بأمر دبيس، فماتت عند رحيل السلطان إلى همذان فانحل أمره. ثم مرض السلطان فأخذ دبيس ابنه الصغير، وقصد العراق فجمع المسترشد لمدافعته. وكان بهروز شحنة بغداد بالحلّة فهرب عنها، وملكها دبيس في رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة. وبلغ الخبر إلى السلطان محمود، فأحضر الأمير ابن قزل والأحمديليّ، وكانا ضمنا دبيس فطالبهما بالضمان فسار الاحمديلي في أثره. وجاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بهدايا عظيمة كان فيها مائتا ألف دينار، وثلاثمائة فرس بسروج مثقلة بالذهب. ثم جاء إلى البصرة ونهبها وأخذ ما في بيوت الأموال. وبعث السلطان في أثره العساكر فدخل البريّة، وجاءه عند مفارقته البصرة قاصدا من صرصر يستدعيه، وكان صاحبها خصيّا فتوفي في هذه السنة، وخلف سرية له فاستولت على القلعة، وأرادت أن تتم أمرها برجل له قوّة ونجدة فوصف لها دبيس، وحاله في العراق وكثرة عشيرته، فكتبت تستدعيه لتتزوّج به، وتملّكه القلعة بما فيها فلحقه الكتاب بعد مفارقته البصرة. وقفل من العراق إلى الشام ومعه الأدلّاء ومرّ بدمشق فحبسه واليها عنده، وبعث فيه عماد الدين زنكي، وكان عدوّه. وكان عنده ابن تاج الملوك مأسورا في واقعة كانت بينهما، فطلب أن يبعث إليه دبيس، ويفادي به ابنه والأمراء الذين معه ففعل ذلك تاج الملوك، وحصل دبيس في يد زنكي، وقد أيقن بالهلاك فأطلقه زنكي وحمل له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 الأموال والدواب والسلاح وخزائن الأمتعة كما يفعل مع أكابر الملوك. وبلغ المسترشد خبره فبعث سديد الدين بن الأنبار يطلبه من تاج الملوك فسار لذلك من جزيرة ابن عمر، وبلغه في طريقه أنه بعثه إلى زنكي وأنه فاته القصد منه. (مسير دبيس الى بغداد مع زنكي وانهزامهما) لما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين وخمسمائة وولي بعده داود، ونازعه عمومته مسعود وسلجوق، ثم استقرّت السلطة لمسعود، وكان أخوهما طغرل عند عمّه سنجر بخراسان، وكان كبير بيت أهل السلجوقيّة، وله الحكم على ملوكهم فنكر على السلطان محمود لقتاله سلجوق وطغرل، وسار به إلى العراق، وانتهى الى همذان. وبعث إلى عماد الدين زنكي فولّاه شحنة بغداد، وإلى دبيس بن صدقة وهو عند زنكي فأقطعه الحلّة وتجهّز السلطان محمود لقتال سنجر وطغرل، واستدعى الخليفة للحضور معه فخرج من بغداد وعاجلهم، ورجع المسترشد إلى بغداد وقد سمع بوصول زنكي ودبيس إليها ولقيهم بالعبّاسيّة فهزمهم، وقتل من عسكرهم ودخل بغداد وسار دبيس إلى بلاد الحلّة. وكانت بيد أقيال خادم المسترشد فبعث إليها بالمدد فهزموا دبيس ونجا من المعركة. ثم جمع جمعا وقصدوا واسط وانضمّ إليه عسكرها وابن أبي الخير صاحب البطيحة، وملكها إلى سنة سبع وعشرين وخمسمائة فبعث أقيال الخادم وبرتقش الشحنة العساكر إلى دبيس فلقيهم في عسكر واسط، وانهزم وسار إلى السلطان مسعود فأقام عنده. (مقتل دبيس وولاية ابنه صدقة) لم يزل دبيس مقيما عند السلطان مسعود إلى أن حدثت الفتنة بينه وبين المسترشد، ومات أخوه طغرل كما هو مذكور في أخبارهم. وسار مسعود إلى همذان بعد موت أخيه طغرل فملكها، وفارقه جماعة من أعيان أمرائه، ومعهم دبيس بن صدقة مستوحشين منه. واستأمنوا للخليفة فحذر من دبيس، ولم يقبلهم فمضوا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 خوزستان، واتفقوا مع برسق بن برسق. ثم تدارك الخليفة رأيه وبعث إلى الأمراء الذين مع دبيس بالأمان، وكانوا لما ردّهم الخليفة بسبب دبيس أجمعوا القبض عليه، وخدمة الخليفة به. وشعر بهم وهرب إلى السلطان مسعود. وبرز الخليفة من بغداد في رجب من سنة تسع وعشرين وخمسمائة لقتال مسعود، وكتب إليه أكثر أهل الأعمال بالطاعة. وأرسل إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد المسترشد الدّينور ليحضر داود حربه فأبى، وسار على التعبية حتى بلغ وأعرج [1] فالتقوا هنالك. وانهزمت عساكر المسترشد وأخذ أسيرا ومعه وزيره شرف الدين عليّ بن طراد، وقاضي القضاة، وابن الأنباري، وجماعة من أعيان الدولة. وغنم ما في عسكره وعاد السلطان إلى بغداد. وبعث الأمير بكاية شحنة إلى بغداد، وكثر العويل والبكاء والضجيج ببغداد على الخليفة، وجعل الخليفة في خيمة ووكّل به، وراسله السلطان مسعود في الصلح، وشرط عليه مالا يؤدّيه، ولا يجمع العساكر ولا يخرج من داره ما بقي، وانعقد ذلك بينهما. وبينما هما في ذلك وصل رسول السلطان سنجر فركب السلطان مسعود للقائه، وافترق المتوكّلون بالمسترشد فدخل عليه خيمته آخر ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة جماعة الباطنية، وقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه. ولما قتل المسترشد اتهم السلطان مسعود أن دبيس بن صدقة دسّ أولئك النفر عليه فأمر بقتله، وقصده غلام فوقف على رأسه عند باب خيمته، وهو ينكث الأرض بإصبعه فأطار رأسه وهو لا يشعر. وبلغ الخبر إلى ابنه صدقة وهو بالحلّة، فاجتمعت إليه عساكر أبيه ومماليكه، واستأمن إليه الأمير قطلغ تكين وأمر السلطان مسعود الشحنة بك آيه بمعاجلته، وأخذ الحلّة من يده إلى أن قدم السلطان بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فقصده صدقة وأصلح حاله معه ولزم بابه. (مقتل صدقة وولاية ابنه محمد) ولما قتل المسترشد ولي ابنه الراشد بإشارة السلطان مسعود، ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان مسعود، وأغراه بها عماد الدين زنكي صاحب الموصل، ومعه الراشد.   [1] دايمرج: ابن الأثير ج 11 ص 25. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وبايع السلطان مسعود للمقتفي سنة ثلاثين وخمسمائة وخلع الراشد ففارق الموصل، وسار الأمراء الذين كانوا مع داود إلى السلطان مسعود، ورضي عنهم. ورجع إلى همذان وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم، وتمسّك بصدقة بن دبيس وزوّجه ابنته. وسار الراشد من الموصل إلى أذربيجان قاصدا الملك، واجتمع إليه صاحب فارس وخوزستان وجماعة الأمراء، فسار إليهم السلطان مسعود وهزمهم. وأخذه صاحب فارس الأمير منكبرس فقتله صبرا. وتسلّل صاحب خوزستان وعبد الرحمن طغايرك صاحب خلخال إلى السلطان مسعود وهو في خف من الناس فحملوا عليه وهزموه، وقبضوا على جماعة من الأمراء الذين معه فقتلهم منكبرس فيهم صدقة بن دبيس وعنبر بن أبي العسكر. وذهب داود إلى همذان فملكها، واستقال السلطان مسعود من عثرته، وولّى على الحلّة محمد بن دبيس، وجعل معه مهلهل بن أبي العسكر أخا نمير بربره، واستقام أمره بالحلّة، وكان من شأن الراشد والسلجوقية ما نذكره في أخبارهم. (تغلب عليّ بن دبيس على الحلّة وملكه إياها من أخيه محمد) ثم خرج على السلطان مسعود سنة ست وأربعين وخمسمائة بوزابة صاحب فارس وخوزستان وبايع للسلطان محمد ابن السلطان محمود، وسار معهم عبّاس صاحب الريّ، وملكوا كثيرا من البلاد، فسار السلطان مسعود إليهم من بغداد واستخلف بها الأمير مهلهل ابن أبي العسكر ونظر الخادم، وأشار مهلهل على السلطان مسعود عند رحيله من بغداد أن يحبس عليّ بن دبيس بقلعة تكريت. ونمي إليه الخبر فهرب في نفر قليل، ومضى إلى بني أسد فجمعهم فسار الى الحلّة فبرز إليه محمد أخوه فهزمه عليّ، وملك الحلّة واستهان السلطان أمره أوّلا فاستفحل وضمّ إليه جمعا من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم، وكثر جمعهم فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر، وضربوا عليه مصافا وكسرهم، وعادوا منهزمين إلى بغداد. وكان أهلها يتعصّبون لعليّ بن دبيس فكانوا يعيّطون إذا ركب مهلهل أو بعض أصحابه يا عليّ كله. فكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب، ويد عليّ فوق كل يد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 في أوضاع الأمراء بالحلّة [1] وتصرّف فيها وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه، ووضع الخليفة الحامية على الأسوار وأرسل إلى عليّ يحضّه على الاستقامة فأجاب بالآمال والطاعة فسكن الناس. (أخذ السلطان الحلة من يد عليّ وعوده اليها) كان عليّ بن دبيس كثير العسف بالرعية والظلم لهم، وارتفعت شكوى الرعية به إلى السلطان مسعود سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فأشكاهم، وأقطع الحلّة سلاركرد فسار إليها من همذان. وجمع عسكرا من بغداد وقصد الحلّة، واحتاط على أهل عليّ، وأقام بالحلّة في مماليكه وأصحابه. ورجعت عنه العساكر ولحق عليّ بن دبيس بالتقشكنجر [2] وكان في أقطاعه باللّحف متجنيا على السلطان مسعود، فاستنجده عليّ فأنجده، وسار معه إلى واسط، وسار معهما الطرنطاي صاحب واسط فانتزعوا الحلّة من سلاركرد ورجع إلى بغداد آخر اثنتين وأربعين، واستولى عليّ على الحلّة. (نكبة عليّ بن دبيس) ثم انتقض على السلطان مسعود سنة أربع وأربعين وخمسمائة جماعة من الأمراء منهم التقشكنجر والطرنطاي وعليّ بن دبيس، وبايعوا ملك شاه ابن السلطان محمود، وساروا به إلى العراق، وراسلوا المقتفي في الخطبة له فامتنع، وجمع العساكر وحصن بغداد وأرسل إلى السلطان مسعود بالخبر فشغل عنهم بلقاء عمّه السلطان سنجر، كان سار إليه بالريّ. ولما علم التقشكنجر بذلك نهب النهروان وقبض على عليّ بن دبيس، وهرب الطرنطاي إلى النعمانيّة. ثم وصل السلطان مسعود إلى بغداد فرحل التقشكنجر من النهروان وأطلق عليّ بن دبيس فسار إلى السلطان مسعود فلقيه ببغداد واستعطفه فرضي عنه.   [1] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 11 ص 105: «ومدّ علي يده في أقطاع الأمراء بالحلّة، وتصرّف فيها على وجل منه» وقد ذكر ابن الأثير هذه الحوادث سنة 540. [2] البقش كون خر: ابن الأثير ج 11 ص 122. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 (وفاة عليّ بن دبيس وانقراض بني مزيد) ثم توفي عليّ بن دبيس صاحب الحلّة عليلا بسعدآباد، واتهم طبيبه محمد بن صالح بالادهان فيه فمات بعده بقليل. ثم مات السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقيّة الأعاظم. وبويع ملك شاه ابن أخيه محمود بعهده. واستبدّ المقتفي على ملوك السلجوقية بعده. وبعث السلطان ملك شاه سلاركرد إلى الحلّة فملكها، ولحق به مسعود بلاك شحنة بغداد، وهرب منها عند موت السلطان مسعود، وأظهر لسلاركرد الوفاق. ثم قبض عليه وغرّقه، واستبدّ بالحلّة، وبعث المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدين بن هبيرة، فبرز مسعود بلاك للقائهم، فانهزم وعاد إلى الحلّة فمنعه أهلها من الدخول، فسار إلى تكريت، وملك ابن هبيرة الحلّة، وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها. ثم جاءت عساكر السلطان ملك شاه إلى واسط، وخرجت منها عساكر المقتفي إلى واسط فملكها، ثم إلى الحلّة كذلك. ثم عاد إلى بغداد آخر ذي القعدة سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم قبض الأمراء على ملك شاه سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وبايعوا لأخيه محمد وطلب الخطبة من المقتفي فمنع منها، فسار السلطان محمد بن محمود إلى العراق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. واضطرب الناس ببغداد واهتم المقتفي بالاحتشاد، وجاءته عساكر واسط، وبعث السلطان مهلهل بن أبي العسكر إلى الحلّة فملكها، وحاصر السلطان محمد بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وامتنعت عليه فرجع، وتوفي المقتفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة وبويع ابنه المستنجد، واستبدّ بأمره كما كان أبوه. ومنع خطبة السلجوقيّة من بغداد، وكان في نفسه شيء من بني أسد لاجلابهم على بغداد مع مهلهل بن أبي العسكر، أيام حصار السلطان محمد لها، فأمر بردن بن قماج بقتالهم وإجلائهم، وكانوا منتشرين في البطائح، ولا يقدر عليهم، وجمع عساكره وبعث عن ابن معروف مقدّم المنتفق من أرض البصرة فجاءه في جمع كبير، وحاصرهم حتى انحسر الماء عنهم. وأبطأ أمرهم على المستنجد فبعث إلى بردن يعاتبه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع فجهد هو وابن معروف في قتالهم، وسدّ مسالكهم في الماء، واستسلموا فقتل منهم أربعة آلاف، ونودي عليهم بالجلاء من الحلّة فافترقوا في البلاد، ولم يبق منهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 بالعراق من يعرف، وسلّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف والمنتفق وانقرضت دولة بني مزيد والبقاء للَّه. (الخبر عن ملوك العجم القائمين بالدعوة العباسية في ممالك الإسلام والمستبدّين على الخلفاء ونبدأ منهم أولا بدولة ابن طولون بمصر وبداية أمرهم ومصاير أحوالهم) قد تقدّم لنا عند ذكر الفتوحات فتح مصر على يد عمرو بن العاص سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بإذنه، وولّاه عليها، وافتتح ما وراءها في المغرب إلى طرابلس وودان وغذامس حسبما ذلك مذكور هنالك، وأقام عمرو في ولايتها أيام عمر كلّها وولّى عثمان على الصعيد عبد الله بن أبي سرح، وأفردها بالولاية، وكان يعدو على عمرو فغضب عمرو، وأبى من الرجوع إلى ولاية مصر، فضمّها عثمان لعبد الله بن أبي سرح وولّاه عليها. وكانت في أيامه غزوة الصواري، جاءت مراكب الروم من القسطنطينية في ألف مركب ونزلوا بسواحل الإسكندريّة. وانتقض أهل القرى، ورغب أهل الإسكندرية من عثمان أن يمدّهم بعمرو بن العاص فبعثه، وزحف إليهم في العرب ومعه المقوقس في القبط، وخرجوا من البحر ومعهم من انتقض من أهل القرى، ففتح الله على المسلمين، وهزموا الروم إلى الإسكندريّة. وأمضى عمرو في قتلهم وردّ على أهل القرى ما غنم المسلمون منهم، وعذرهم بالإكراه، ورجع إلى المدينة وأقام عبد الله في ولايتهم، وغزا إفريقية وافتتحها. ثم غزا بلد النوبة، ووضع عليهم الجزية المعروفة الباقية على الأيام وذلك سنة إحدى وثلاثين. ثم كان من بعد ذلك يبعث معاوية بن خديج فيفتح ويثخن إلى أن استملك فتح إفريقية. ووفد على عثمان آخر أيامه عند ما اهتاجت الفتنة، وكثر الطعن عليه من جماعة جند مصر يتعلّلون بالشكوى من ابن أبي سرح مع وفد من الجند شاكين من عمّالهم بالأمصار. وعزله عثمان يسترضيهم به فكانت قضية الكتاب المنسوب إلى مروان وحصارهم عثمان بداره. وخرج عبد الله من مصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 مددا لعثمان فخالفه محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى مصر وانتزى بها. ورجع عبد الله من طريقه فمنعه الدخول فسار إلى عسقلان، وأقام بها حتى قتل عثمان. ثم سار إلى الرملة وكانت من مهماته فأقام بها هربا من الفتنة حتى مات، ولم يبايع عليا ولا معاوية. ثم قتل عمرو بن العاص محمد بن أبي حذيفة، وفي كيفية قتله إياه اضطراب. ثم ولّى عليّ على مصر قيس بن سعد بن عبادة، وكان ناصحا له شديدا على عدوّه، واستماله معاوية فأساء في الردّ عليه. وأشاع معاوية خلاف ذلك عنه فعزله عليّ من أجل ذلك، وولى ذلك الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحرث بن يغوث بن سلمة بن ربيعة بن الحرث بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع. وسار إليها فمات بالقلزم قريبها منها سنة سبع وثلاثين، فولّى عليّ مكانه محمد ابن أبي بكر، وكان نشأ في حجره. ثم بعث معاوية إلى عمرو بن العاص وهو بفلسطين قد اعتزل الناس بعد مقتل عثمان، واستماله واجتمع معه على قتال عليّ وولّاه مصر فسار إليها بعد انقضاء أمر صفّين وأمر الحكمين. وطلب معاوية الخلافة وقد اضطرب الأمر على محمد بن أبي بكر وخرج عليه معاوية بن خديج السّكونيّ مع جماعة من العثمانية [1] بنواحي مصر فكاتب عمرو العثمانية، وسرّح الكتائب إلى مصر، وفي مقدّمتها معاوية بن خديج فهزموا عساكر محمد، وافترق عنه أصحابه وقتل كما هو معروف في أخباره. ودخل عمرو بن العاص الفسطاط، وملك مصر، إلى سنة ثلاث وأربعين ومائة فتوفي، وملك مكانه ابنه عبد الله. ثم عزله معاوية وولّى أخاه عتبة بن أبي سفيان، وتوفي سنة أربع وأربعين وولّى مكانه عقبة بن عامر الجهنيّ، ثم عزله سنة سبع وأربعين ومائة وولّى مكانه معاوية بن خديج. ثم اقتطع عنه إفريقية سنة خمسين وولّى عليها عقبة بن نافع. ثم جمع مصر وإفريقية لمسلمة بن مخلد الأنصاري، فبعث مسلمة على إفريقية مولاه أبا المهاجر، وأساء عزل عقبة كما هو معروف. ثم مات معاوية وولي ابنه يزيد، واضطربت الأمور، وبويع عبد الله بن الزبير بمكة، وانتشرت دعوته في الممالك الإسلامية فبعث على مصر عبد الرحمن بن جحدم القرشيّ، وهو عبد الرحمن بن عقبة بن إياس بن الحرث بن عبد بن أسد بن جحدم الفهريّ، ثم بويع مروان وانتقض ابن الزبير وسار مروان الى   [1] نسبة الى الخليفة عثمان بن أبي عفّان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 مصر فأخرج منها عبد الرحمن بن جحدم وولّى عليها عمر بن سعيد الأشدق. ثم بعثه للقاء مصعب بالشام، وولّى مكانه على مصر ابنه عبد العزيز بن مروان. ثم هلك سنة خمس وكان مروان قد مات فولي مكانه ابنه عبد الله ابن عبد الملك [1] . ثم عزله الوليد سنة تسع وثمانين وولّى عليها مرّة بن شريك بن مرثد بن الحرث العبسيّ، ومات سنة خمس وتسعين فولّى الوليد مكانه عبد الملك بن رفاعة سنة تسع وتسعين، وكان قد استخلفه عند موته. ويقال بل ولي قبله أسامة بن زيد التنّوخيّ. ثم عزل عمر بن عبد العزيز عبد الملك بن رفاعة سنة تسع وتسعين وولّى مكانه أيوب بن شرحبيل بن أكرم بن أبرهة بن الصبّاح الأصبحي. ثم عزله يزيد بن عبد الملك، وولى مكانه بشر بن صفوان، وأقرّه يزيد، ثم عزله هشام بن عبد الملك وولّى [2] بن رفاعة وتوفي بعد خمس عشرة ليلة. واستخلف أخاه الوليد بن رفاعة، وأقرّه هشام فأقام سبعة أشهر، ثم عزله وولّى حنظلة بن صفوان في المحرّم سنة أربع وعشرين ومائة وأقرّه هشام. ثم استعفى مروان بن محمد حين ولي فأعفاه، وولّى مكانه حسّان بن عتامة بن عبد الرحمن السجيني، وكان بالشام فاستخلف حمير بن نعيم الحصري بمصر. ثم قدم ورفض ولايتها، فولّى مكانه حفص بن الوليد لستة عشر يوما من ولايته. وبقي حفص شهرين، ثم ولّى مروان الحوثرة بن سهل بن العجلان الباهليّ في محرّم سنة ثمان وعشرين ومائة ثم صرف عنها في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة، وولي المغيرة بن عبد الله بن مسعود الفزاريّ. ثم مات في جمادى سنة ست وثلاثين، واستخلف ابنه الوليد. وولّى مروان بن عبد الملك موسى بن نصير فأمر باتخاذ المنابر في الكور، وإنما كانوا يخطبون على العصي. ثم قدم مروان بن محمد إلى مصر، وكان فيها مهلكه كما هو معروف. ثم جاءت الدولة العبّاسيّة فولّى السفاح على مصر عمّه صالح بن عليّ سنة أربع وثلاثين ومائة، وبقيت في ولايته يستخلف عليها، فاستخلف أولا محصن بن فاني الكنديّ ثمانية أشهر. ثم أبا عون   [1] هكذا بالأصل والعبارة مشوشة وغير واضحة أما عبد العزيز بن مروان فقد توفي في جمادى الأولى في مصر سنة 85 هـ. أما بعد موت مروان بن الحكم فقد وليّ الخلافة من بعده ابنه عبد الملك بن مروان كما هو معروف وكانت ولاية العهد من بعده لشقيقه عبد العزيز بن مروان ولكن هذا توفي في عهد عبد الملك سنة 85 كما ذكرنا فضم عبد الملك ولاية مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وقد بقي في ولايتها الى ان عزله الوليد بن عبد الملك. [2] هكذا بياض بالأصل والمعروف من كتب التاريخ انه ولّى عبد الملك بن رفاعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 عبد الملك بن يزيد مولى مناه ثمانية أشهر. وولّى داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة في محرّم سنة أربع وسبعين. ثم عزله في محرّم سنة خمس وسبعين لسنة من ولايته، وأعاد إليها موسى بن عيسى. ثم صرفه في ربيع سنة ست وسبعين وولّى ابن عمّه إبراهيم بن صالح وتوفي لثلاثة أشهر من ولايته، وقام بالأمر بعده ابنه صالح فولّى الرشيد عبد الله ابن المسيّب بن زهير الضّبيّ في رمضان سنة ستة وسبعين ومائة ثم عزله بعد الحول، وولّى هرثمة بن أعين. ثم أمره بالمسير إلى إفريقية لثلاثة أشهر من ولايته سلخ ثمان وسبعين ومائة، وولّى أخاه عبيد الله بن المسيّب. ثم أعاد موسى بن عيسى في رمضان سنة تسع وسبعين ومائة فاستخلف ابنه يحيى. ثم صرف موسى في منتصف سنة ثمانين لعشرة أشهر من ولايته، وأعيد عبيد الله بن المهدي. ثم صرفه في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة وأعيد إسماعيل بن صالح بن عليّ من العمومة فاستخلف، ثم صرف في منتصف اثنتين وثمانين ومائة وأعيد لعشرة أشهر من ولايته. وولّى الليث بن الفضل من أهل أسبورد فوليها أربع سنين ونصفا وعزل. ثم ولّى الرشيد من قرابته أحمد بن إسماعيل بن عليّ منتصف سبع وثمانين ومائة فبقي عليها سنتين وشهرين. ثم ولّى مكانه عبد الله بن محمد بن الإمام إبراهيم بن محمد ويعرف بابن زينب، وصرفه عنها آخر شعبان من سنة تسعين ومائة لسنة وشهرين من ولايته. وولّى حاتم بن هرثمة بن أعين، فقدم في شوّال سنة أربع وتسعين ومائة، ثم صرفه الأمير منتصف خمس وتسعين ومائة لسنة وثلاثة أشهر من ولايته، وولّى جابر بن الأشعث بن يحيى بن النعمان الطائي منتصف خمس وتسعين ومائة فأخرجه الجند منها سنة وست وتسعين ومائة لسنة من ولايته. ثم ولّى المأمون عليها عباد بن محمد بن حيّان البلخيّ مولى كندة، ويكنى أبا نصر. ثم عزله لسنة ونصف من ولايته في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وولى المطلب بن عبد الله بن مالك ابن الهيثم الخزاعيّ، وقدمها من مكة في منتصف ربيع الأوّل. ثم صرفه في شوّال لثمانية أشهر من ولايته، وولّى من عمومته العبّاس بن موسى بن عيسى فبعث عليها ابنه عبد الله، ومعه الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، فأقام عليها شهرين ونصفا، فقتله الجند يوم النحر سنة ثمان وتسعين ومائة، وولوا عليهم المطلب بن عبد الله. ثم جرت بينه وبين السدّي وبين الحكم بن يوسف مولى بني ضبّة من أهل بلخ من قوم يقال لهم الزطّ، وجرت بينه وبين أهل المطّلب حروب، وخرج هاربا إلى مكة بعد سنة وثمانية أشهر من ولايتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 ووليها السري بإجماع الجند في رمضان سنة مائتين. ثم وثب به الجند بعد ستة أشهر وولّوا سليمان بن غالب بن جبريل بن يحيى بن قرّة العجليّ في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين. وولّى عبد الله بن طاهر بن الحسين مولى خزاعة فأقام عشرة. ثم ولّى المأمون عليها أخاه أبا إسحاق الملقّب في خلافته بالمعتصم، فأقرّ عيسى الجلودي، وبعده عمير بن الوليد التميمي في صفر سنة أربع عشرة ومائتين ثم قتل بعد شهرين، واستخلف ابنه محمد بن عمير شهرا، ثم أعاد عيسى الجلودي. ثم جاء أبو إسحاق المعتصم إلى الفسطاط، وعاد إلى الشام، واستخلف عبدويه بن جبلة في المحرّم فاتح [1] خمس عشرة فأقام سنة، وولّى عيسى بن منصور بن موسى الخراساني الرّافعي مولى بني نصر بن معاوية. ثم قدم المأمون مصر لسنة من ولايته، فسخط على عيسى بن منصور، وعمّر المقياس وجسرا آخر بالفسطاط، وولّى كندر بن عبد الله ابن نصر الصّفدىّ، ويكنّى أبا مالك، ورجع إلى العراق ومات كندر في ربيع سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر. ولما صارت الخلافة للمعتصم ولّى على مصر مولاه أشناس، ويكنّى أبا جعفر في رجب سنة ثمان عشرة، فاستخلف عليها موسى بن أبي العبّاس ثابت من بني حنيفة من أهل الشاش في رمضان سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر فأقام مستخلفا لأشناس أربع سنين ونصفا. ثم عزله بعد سنتين، واستخلف مالك ابن كيد [2] بن عبد الله الصّفديّ، فقدم في ربيع سنة أربع وعشرين ومائتين ثم عزله بعد سنتين واستخلف عليّ بن يحيى الأرمني، وقدم في ربيع سنة ست وعشرين ومائتين. ثم عزله بعد سنتين وثمانية أشهر، واستخلف عيسى بن منصور الّذي كان مستخلفا للمعتصم أيام المأمون، وسخطه المأمون عند قدومه مصر فقدم عيسى في محرّم سنة تسع وعشرين ومائتين. ثم مات أشناس بعد الثلاثين، وقد استخلف على مصر أتياخ مولى المعتصم وأقيم اتياخ [3] مكان أشناس فأقرّ الواثق إتياخ على مصر، فأقرّ إتياخ عيسى بن منصور في ربيع سنة ست وثلاثين ومائتين فبقي أربعة أشهر. ثم استخلف إتياخ هرثمة بن النضر الجبليّ فقدم منتصف سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وأقام سنة، ثم مات سنة أربع وثلاثين   [1] اي بداية سنة خمس عشرة. وفاتحة كل شيء أوله (قاموس) . [2] هكذا بالأصل والصحيح كندر. [3] إيتاخ: ابن الأثير ج 6 ص 507. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 ومائتين، وقام بأمره ابنه حاتم رضي الله تعالى عنه، فاستخلف إتياخ على بني يحيى الأرمني في رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين. ثم صرف إتياخ عن ولاية مصر في محرم سنة خمس وثلاثين ومائتين بعد وفاة المعتصم. وولّى المتوكل على مصر ابنه المستنصر فاستخلف عليها إسحاق بن يحيى بن معاذ الختّليّ، وقدم في ذي القعدة من سنته. وفي أيامه أخرج ولد عليّ من مصر إلى العراق. ثم صرف في ذي القعدة من سنة ست وثلاثين ومائتين، واستخلف المستنصر عليها عبد الرحمن بن يحيى بن منصور بن طلحة وريق، وهو ابن عم طاهر بن الحسين، وقدم في ذي القعدة سنة ست وثلاثين ومائتين. ثم صرفه واستخلف عنبسة بن إسحاق بن عبس بن عبسة من أهل هراة. ويكنّى أبا حاتم في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين. وفي ولايته كبس الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين. واستخلف يزيد بن عبد الله بن دينار من مواليهم، ويكنّى أبا خالد. وفي أيامه منع العلويّون من ركوب الخيل واقتناء العبيد. ثم ولي المستنصر الخلافة في شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين فأقرّ يزيد على ولاية مصر. ثم صرف عنها في ربيع سنة ثلاث وخمسين لعشر سنين من ولايته، وولّى المعتز مكانه مزاحم بن خاقان [1] بن عزطوج التركي في ربيع سنة أربع وخمسين، وعهد الى أزجور بن أولغ طرخان التركي فأقام خمسة أشهر وخرج حاجّا في رمضان سنة أربع وخمسين. وولي أحمد بن طولون، واستفحل بها أمره، وكانت له ولبنيه بها دولة كما نذكر الآن أخبارها. (الخبر عن دولة أحمد بن طولون بمصر وبنيه ومواليه بني طغج وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم) قال ابن سعيد ونقله من كتاب ابن الداية في أخبار بني طولون: كان طولون أبو أحمد من الطغزغز، وهم التتر. حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون في وظيفته من المال والرقيق والبراذين. وولد له أحمد سنة عشرين ومائتين من جارية اسمها ناسم. وتوفي طولون سنة أربعين ومائتين، وكفله رفقاء أبيه بدار الملك حتى ثبتت مرتبته، وتصرّف في خدمة السلطان، وانتشر له ذكر عند الأولياء فاق به على أهل طبقته،   [1] توفي سنة 253 كما في الكامل ج 7 ص 183 فكيف يكون ولي مصر سنة 254؟ ابن خلدون م 25 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وشاع بين الترك صونه ودينه وأمانته على الأسرار والأموال والفروج. وكان يستصغر عقول الأتراك، ويرى أنهم ليسوا بأهل للرتب. وكان يحبّ الجهاد. وطلب من محمد بن أحمد بن خاقان أن يسأل من عبد الله الوزير أن يكتب لهما بأرزاقهما إلى الثغر، ويقيما لك مجاهدين. وسار إلى طرسوس، وأعجبه ما عليه أهل الحقّ من تغيير المنكر وإقامة الحقّ فأنس، وعكف على طلب الحديث. ثم رجع إلى بغداد وقد امتلأ علما ودينا وسياسة. ولما تنكّر الأتراك للمستعين وبايعوا المعتزّ، وآل أمر المستعين إلى الخلع والتغريب إلى واسط، وكّلوا به أحمد بن طولون فأحسن عشرته، ووسّع عليه، وألزمه أحمد بن محمد الواسطيّ يومه، وكان حسن العشرة فكه المجالسة. ولمّا اعتزموا على قتله بعثوا إلى أحمد بن طولون أن يمضي ذلك فتفادى منه، فبعثوا سعيدا الحاجب فسمله، ثم قتله. ودفنه ابن طولون وعظم محلّه بذلك عند أهل الدولة، انتهى كلام ابن سعيد. وقال ابن عبد الظاهر: وقفت على سيرة للإخشيذ قديمة عليها خطّ الفرغاني وفيها أن أحمد هو ابن النج من الأتراك، كان طولون صديق أبيه ومن طبقته. فلما مات النج ربّاه طولون وكفله، فلمّا بلغ من الحداثة مشى مع الحشوية وغزا، وتنقّلت به الأحوال إلى أن صار معدودا في الثقات. وولي مصر واستقرّ بها. قال صدر الدين بن عبد الظاهر: ولم أر ذلك لغيره من المؤرخين انتهى. ولما وقع اضطراب الترك ببغداد وقتل المستعين وولي المعتز واستبدّ عليه الأتراك وزعيمهم يومئذ باك باك [1] وولّاه المعتزّ مصر، ونظر فيمن يستخلفه عليها، فوقع اختياره على أحمد بن طولون فبعثه عليها، وسار معه أحمد بن محمد الواسطي، ويعقوب بن إسحاق، ودخلها في رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين وعلى الخوارج [2] بها أحمد بن المدبّر، وعلى البريد سفير مولى قبيجة [3] فأهدى له ابن المدبّر، ثم استوحش منه، وكاتب المعتز بأنّ ابن طولون يروم العصيان وكاتب صاحب البريد بمثل ذلك، فسطا بسفير صاحب البريد ومات من غده. ثم قتل المعتزّ وولي المهتدي فقتل باك باك، ورتّب مكانه يارجوج [4] ، وولّاه مصر. وكانت   [1] بابكيال: ابن الأثير ج 7 ص 187. [2] مقتضى السياق الخراج، وليس للخوارج اي محل هنا. [3] الصحيح قبيحة وهي أم المعتزّ وقد سمّاها بهذا الاسم المتوكّل لحسنها وجمالها. [4] ياركوج التركي: ابن الأثير ج 7 ص 187. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 بينه وبين أحمد بن طولون مودّة أكيدة، فاستخلفه على مصر، وأطلق يده على الإسكندرية والصعيد بعد أن كان مقتصرا على مصر فقط. وجعل إليه الخراج فسقطت رتبة ابن المدبّر. ثم أعاده المعتمد فلم ينهض إلى مساماة ابن طولون ولا منازعته. ثم كتب إليه المعتمد بضبط عيسى بن شيخ الشيبانيّ، وكان يتقلّد فلسطين والأردن، وتغلّب على دمشق، وطمع في مصر ومنع الحمل. واعترض حمل ابن المدبّر، وكان خمسة وسبعين حملا من الذهب فأخذها، فكتب إليه المعتمد يومئذ بولاية أعماله فادّعى العجز، وأنكر مال الحمل ونزع السواد، وأنفذ أناجور من الحضرة في العساكر إلى دمشق سنة سبع وخمسين. ثم خرج أحمد بن طولون إلى الإسكندرية ومعه أخوه موسى وكان يتجنى عليه، ويرى أنه لم يوف بحقّه، وظهر ذلك منه في خطابه فأوقع به ونفاه، وحبس كاتبه إسحاق بن يعقوب، واتهمه بأنه أفضى بسرّه إلى أخيه. وخرج أخوه حاجّا، وسار من هنالك إلى العراق، ووصف أخاه بالجميل فحظي بذلك عند الموفّق. واستفحل أمر أحمد واستكثر من الجند وخافه أناجور بالشام. وكتب الموفّق يغريه بشأنه وأنه يخشى على الشام منه. فكتب الموفّق إلى ابن طولون بالشخوص إلى العراق لتدبير أمر السلطان، وأن يستخلف على مصر فشعر ابن طولون بالمكيدة في ذلك، فبعث كاتبه أحمد بن محمد الواسطي إلى يارجوج وإلى الوزير، وحمل إليهما الأموال والهدايا. وكان يارجوج متمكّنا في الدولة فسعى في أمره، وأعفاه من الشخوص وأطلق ولده وحرمه، واشتدّت وطأة ابن طولون وخافه أحمد بن المدبّر، فكتب إلى أخيه إبراهيم أن يتلطّف له في الانصراف عن مصر فورد الكتاب بتقليده خراج دمشق وفلسطين والأردن، وصانع ابن طولون بضياعه التي ملكها، وسار إلى عمله بمصر وشيّعه ابن طولون ورضي عنه وذلك سنة ثمان وخمسين ومائتين وولي الوزير على الخراج من قبله، وتقدّم لابن طولون باستحثاثه، فتتابع حمل الأموال إلى المعتمد. ثم كتب ابن طولون بأن تكون جباية الخراج له فأسعف بذلك، وأنفذ المعتمد نفيسا الخادم بتقليده خراج مصر وضريبتها، وخراج الشام. وبعث إليه نفيس الخادم ومعه صالح بن أحمد بن حنبل قاضي الثغور، ومحمد بن أحمد الجزوعي قاضي واسط شاهدين بإعفائه ما زاد على الرسم من المال والطراز. ومات يارجوج في رمضان سنة تسع وخمسين وكان صاحب مصر، ومن أقطاعه. ويدعى له قبل ابن طولون، فلمّا مات استقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 أحمد بمصر. (فتنة ابن طولون مع الموفق) لما استأمن الزنج وتغلّبوا على نواحي البصرة، وهزموا العساكر بعث المعتمد إلى الموفّق، وكان المهتدي نفاه إلى مكة، فعهد له المعتمد بعد ابنه المفوّض، وقسّم ممالك الإسلام بينهما. وجعل الشرق للموفّق ودفعه لحرب الزنج، وجعل الغرب للمفوّض، واستخلف عليه موسى بن بغا، واستكتب موسى بن عبيد الله بن سليمان بن وهب. وأودع كتاب عهدهما في الكعبة. وسار الموفّق لحرب الزنج، واضطرب الشرق، وقعد الولاة عن الحمل، وشكا الموفق الحاجة إلى المال. وكان ابن طولون يبعث الأموال إلى المعتمد يصطنعه بذلك، فأنفذ الموفّق نحريرا خادم المتوكّل إلى أحمد بن طولون يستحثّه لحمل الأموال والطراز والرقيق والخيل، ودسّ إليه أن يعتقله واطلع على الكتب، وقتل بعض القوّاد وعاقب آخرين وبعث مع نحرير ألفي ألف ومائتي ألف دينار ورقيقا وطرزا. وجمع الرسم وبعث معه من أسلمه إلى ثقة أناجور صاحب الشام. ولما فعل ابن طولون بنحرير ما فعل، كتب الموفّق إلى موسى بن بغا بصرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها أناجور. فكتب إلى أناجور بتقليدها فعجز عن مناهضة أحمد، فسار موسى بن بغا ليسلّم إليه مصر، وبلغ الرقّة واستحثّ أحمد في الأموال، فتهيّأ أحمد لحربه، وحصّن الجزيرة معقلا لحربه وذخيرته. وأقام موسى بالرقّة عشرة أشهر، واضطرب عليه الجند وشغبوا وطالبوه بالأرزاق واختفى كاتبه موسى بن عبيد الله بن وهب، فرجع وتوفي سنة أربع وستين ومائتين ثم كتب الموفّق إلى ابن طولون باستقلال ما حمله من المال، وعنّفه وهدّده فأساء ابن طولون جوابه، وأنّ العمل لجعفر بن المعتمد ليس لك فأحفظ ذلك الموفّق، وسأل من المعتمد أن يولّي على الثغور من يحفظها، وأنّ ابن طولون لا يؤمن عليها لقلّة اهتمامه بأمرها، فبعث محمد بن هارون التغلبيّ عامل الموصل، وركب السفن فألقته الريح بشاطئ دجلة، فقتله الخوارج أصحاب مسا والساري . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 (ولاية أحمد بن طولون على الثغور) وكانت أمهات الثغور يومئذ أنطاكية وطرسوس والمصيصة وملطية، وكان على أنطاكية محمد بن عليّ بن يحيى الأرمني، وعلى طرسوس سيما الطويل وإليه أمر الثغور. وجاء في بعض أيامه إلى أنطاكية فمنعه الأرمني من الدخول فدسّ إلى أهل البلد بقتله فقتلوه، وأحفظ ذلك الموفّق فولّى على الثغور أرجون بن أولغ طرخان التركي، وأمره بالقبض على سيما الطويل فقام بالثغور، وأساء التصرّف، وحبس الأرزاق عن أهلها. وكانت قلعة لؤلؤة من قلاع طرسوس في نحر العدوّ، وأهمّ أهل طرسوس أمرها، فبعثوا إلى حاميتها خمسة آلاف دينار رزقا من عندهم، فأخذها أرجون لنفسه، وضاعت حاميتها وافترقوا. وكتب الموفّق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور، وأن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله وكتب الموفّق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور، وأن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله طحشي بن بكروان، وحسنت حالهم وطلب منه ملك الروم الهدنة. واستأذن في ذلك ابن طولون فمنعه، وقال: إنما حملهم على ذلك تخريبكم لقلاعهم وحصونهم فيكون في الصلح راحة لهم فحاش للَّه منه، وأمره برمّ الثغور وأرزاق الغزاة. (استيلاء أحمد بن طولون على الشام) قد تقدّم لنا ولاية أناجور [1] على دمشق سنة سبع وخمسين ومائتين وما وقع بينه وبين أحمد بن طولون. ثم توفي أناجور في شعبان سنة أربع وستين ومائتين ونصّب ابنه عليّ مكانه. وقام يدبّر أمره أحمد بن بغا وعبيد الله بن يحيى بن وهب. وسار إلى الشام موريا بمشارفة الثغور، واستخلف ابنه العبّاس على مصر، وضمّ إليه أحمد بن محمد الواسطي، وعسكر في مينة الإصبع، وكتب إلى عليّ بن أناجور بإقامة الميرة للعساكر فأجاب الآمال. وسار ابن طولون إلى الرملة، وبها محمد بن أبي رافع من   [1] أماجور: ابن الأثير ج 7 ص 316- والمختصر في اخبار البشر ج 2 ص 48. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 قبل أناجور، ومدبّر دولته أحمد بن [1] لك منذ نفاه المهتدي فأكرمه. ثم سار عن دمشق، واستخلف عليها أحمد بن دوغياش، ورحل الى حمص وبها أكبر قوّاد أناجور فشكت الرعية منه فعزله، وولّى يمتا التركي. ثم سار إلى أنطاكية وقد امتنع بها سيما الطويل بعد أن كتب بالطاعة، وأن ينصرف عنه فأبى وحاصرها وشدّ حصارها. وضجر أهلها من سيما فداخل بعضهم أحمد بن طولون ودلّوه على بعض المسارب فدخلها منه في فاتحة خمس وستين وقتل سيما الطويل وقبض على أمرائه وكاتبه. ثم سار إلى طرسوس فملكها، ودخلها في خلق كثير، وشرع في الدخول إلى بلاد الروم للغزو. وبينما هو يروم ذلك جاءه الخبر بانتقاض ابنه العبّاس الّذي استخلفه بمصر فرجع، وبعث عسكرا إلى الرقّة وعسكرا إلى حرّان، وكانت لمحمد بن أناشر [2] فأخرجوه عنها وهزموه. وبلغ الخبر إلى أخيه موسى، فسار إلى حرّان وكان شجاعا. وكان مقدّم العسكر بحرّان ابن جيعونه [3] فأهمه أمرهم، فقال له أبو الأغرّ من العرب: أنا آتيك بموسى واختار عشرين فارسا من الشجعان وسار إلى معسكر موسى فأكمن بعضهم ودخل بالباقين بعض الخيام فعقدت، واهتاج العسكر، وهرب أبو الأغرّ واتبعوه فخرج عليهم الكمين فهزموهم وأسر موسى، وجاء به أبو الأغرّ إلى ابن جيعونة قائد ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر سنة ست وستين ومائتين (الخبر عن انتقاض العبّاس بن أحمد بن طولون على أبيه) لما رحل أحمد بن طولون إلى الشام واستخلف ابنه العبّاس، وكان أحمد بن الواسطي محكما في الدولة. وكان للعبّاس بطانة يدارسونه الأدب، والنحو وأراد أن يولّي بعضهم الوظائف، ولم يكونوا يصلحون لها، فمنع الواسطي من ذلك خشية الخلل في الأعمال، فحمل هؤلاء البطانة عليه عند العبّاس وأغروه به. وكتب هو إلى أحمد   [1] كان مدبر دولة علي بن اماجور أحمد بن بغا [2] محمد بن أتامش: ابن الأثير ج 7 ص 318. [3] هو أحمد بن جيعويه: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 يشكوهم فأجابه بمداراة الأمور إلى حين وصوله. وكان محمد بن رجاء كاتب أحمد مداخلا لابنه العبّاس فكان يبعث إليه بكتب الواسطي يتنزّل له، فاطّلع على جواب أبيه عن كتبه بالمداراة، فازداد خوفا وحمل ما كان هنالك من المال والسلاح، وهو ألف ألف دينار. وتسلّف من التجّار مائتي ألف أخرى، واحتمل أحمد بن محمد الواسطي وأيمن الأسود مقيّدين، وسار إلى برقة. ورجع أحمد إلى مصر وبعث له جماعة فيهم القاضي أبو بكرة بكّار بن قتيبة والصابوني القاضي وزياد المرّيّ مولى أشهب، فتلطّفوا به بالموعظة حتى لان، ثم منعه بطانته وخوّفوه فقال لبكّار: ناشدتك الله هل تأمنه عليّ؟ فقال: هو قد حلف، وأنا لا أعلم فمضى على ريبته. ورجع القوم إلى أبيه وسار هو إلى إفريقية يطلب ملكها، وسهّل عليه أصحابه أمر إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحبها، وكتب إليه بأنّ المعتمد قلّده إفريقية، وأنه أقرّه عليها. وانتهى إلى مدينة لبدة [1] فخرج عليه عامل ابن الأغلب فقبض عليه، ونهب البلد وقتل أهله، وفضح نساءهم فاستغاثوا بإلياس بن منصور كبير نفوسة ورئيس الإباضيّة، وقد كان خاطبه يتهدّده على الطاعة. وبلغ الخبر إلى ابن الأغلب فبعث العساكر مع خادمه بلاغ، وكتب إلى محمد بن قهرب عامل طرابلس بأن يظاهر معه على قتال العبّاس فسار ابن قهرب وناوشه القتال من غير مسارعة. ثم صحبهم الياس في اثني عشر ألفا من قومه. وجاء بلاغ الخادم من خلفه فأجفل، واستبيح أمواله وذخائره، وقتل أكثر من كان معه، وأفلت بحاشيته. وانطلق أيمن الأسود من القيد ورجع إلى مصر. وجاء العبّاس إلى برقة مهزوما وكان قد أطلق أحمد الواسطي بعد أن ضمن حزب برقة إحضاره، فلما رجع أعاده إلى محبسه فهرب من المحبس، ولحق بالفسطاط ووجد أحمد بن طولون قد سار إلى الإسكندرية عازما على الرحيل إلى برقة، فهوّن أمره، ومنعه من الرحيل بنفسه، وخرج طبارجي وأحمد الواسطي فجاءوا به مقيّدا على بغل، وذلك سنة سبع وستين ومائتين وقبض على كاتبه محمد بن رجاء وحبسه لما كان يطلع ابنه العبّاس على كتبه، ثم ضرب ابنه وهو باك عليه وحبسه.   [1] وفي نسخة أخرى لبلة، ولبلة هي قصبه كورة بالأندلس وليست معنية هنا. والصحيح لبدة وهي مدينة بين برقة وافريقية، وقيل بين طرابلس وجبل نفوسة. (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 (خروج الصوفي والعمري بمصر) كان أبو عبد الرحمن العمريّ بمصر، وهو عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، مقيما بالقاصية من الصعيد، وكان البجاة يغيرون في تلك الأعمال ويعيثون فيها. وجاءوا يوم عيد فنهبوا وقتلوا، فخرج هذا العمري غضبا للَّه، وأكمن لهم في طريقهم ففتك بهم، وسار في بلادهم حتى أعطوه الجزية، واشتدّت شوكته. وزحف العلويّ للقائه فهزمه العمري، وذلك سنة ستين ومائتين وكان من خبر هذا العلويّ أنه ظهر بالصعيد سنة سبع وخمسين ومائتين وذكر أنّ اسمه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، ويعرف بالصوفيّ، فملك مدينة أسنا ونهبها، وعاث في تلك الناحية. وبعث إليه ابن طولون جيشا فهزمهم، وأسر مقدّم الجيش فقطعه فأعاد إليه جيشا آخر، وانهزم إلى الواحات. ثم عاد إلى الصعيد سنة تسع وخمسين ومائتين وسار إلى الأشمونين. ثم سار للقاء العمري وانهزم إلى أسوان، وعاث في جهاتها. وبعث إليه ابن طولون العسكر فهرب إلى عيذاب، وعبر البحر إلى مكة فقبض عليه الوالي بمكة، وبعث به إلى ابن طولون فحبسه مدّة، ثم أطلقه ومات بالمدينة. ثم بعث ابن طولون العسكر إلى العمري فلقي قائدهم وقال: إني لم أخرج بالفساد ولا يؤذى مسلم ولا ذمي [1] وإنما خرجت للجهاد فشاور أميرك في فأبى، وناجزه الحرب فانهزم العسكر، ورجعوا إلى ابن طولون فأخبروه بشأنه فقال: هلّا كنتم شاورتموني فيه؟ فقد نصره الله عليكم ببغيكم. ثم وثب عليه بعد مدّة غلامان له فقتلاه وجاءا برأسه إلى أحمد بن طولون فقتلهما. (انتقاض برقة) وفي سنة إحدى وستين ومائتين وثب أهل برقة بعاملهم محمد بن فرج الفرغاني   [1] مقتضى السياق: ولم أؤذ مسلما ولا ذميا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 فأخرجوه، ونقضوا طاعة ابن طولون فبعث إليهم العساكر مع غلامه لؤلؤ، وأمره بالملاينة فحاصرهم أياما وهو يلين لهم حتى طمعوا فيه، ونالوا من عسكره فبعث إلى أحمد بخبره فأمره بالاشتداد فشدّ حصارهم، ونصب عليهم المجانيق فاستأمنوا، ودخل البلد وقبض على جماعة من أعيانهم فضربهم وقطعهم، ورجع إلى مصر واستعمل عليهم مولى من مواليه، وذلك قبل خلاف العبّاس على أبيه. (انتقاض لؤلؤ على ابن طولون) كان ابن طولون قد ولّى مولاه لؤلؤا على حلب وحمص وقنسرين وديار مضر من الجزيرة، وأنزله الرقّة، وكان يتصرّف عن أمره. ومتى وقع في مخالفته عاقب ابن سليمان كاتب لؤلؤ فسقط لؤلؤ في المال، وقطع الحمل عن أحمد بن طولون. وخاف الكاتب مغبّة ذلك، فحمل لؤلؤا على الخلاف، وأرسل إلى الموفّق بعد أن شرط على المعتمد شروطا أجابه الموفق إليها، وسار إلى الرقّة وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه وملكها منه وسلّمها إلى أحمد بن مالك بن طوق. وسار إلى الموفّق فوصل إليه بمكانه من حصار صاحب الزنج وأقبل عليه، واستعان به في تلك الحروب، وولّاه على الموصل. ثم قبض عليه سنة ثلاث وسبعين ومائتين وصادره على أربعمائة ألف دينار فافتقر وعاد إلى مصر آخر أيام هارون بن خماروي فقيرا فريدا. (مسير المعتمد الى ابن طولون وعوده عنه من الشام) كان ابن طولون يداخل المعتمد في السرّ ويكاتبه، ويشكو إليه المعتمد ما هو فيه من الحجر والتضييق عليه من أخيه الموفّق، والموفّق بسبب ذلك ينافر ابن طولون ويسعى في إزالته عن مصر. ولما وقع خلاف لؤلؤ على ابن طولون خاطب المعتمد وخوّفه الموفّق واستدعاه إلى مصر، وأنّ الجيوش عنده لقتال الفرنج. فأجابه المعتمد إلى ذلك، وأراد لقاءه بجميع عساكره فمنعه أهل الرأي من أصحابه، وأشاروا عليه بالعدول عن المعتمد جملة، وأنّ أمره يؤل معه إلى أكثر من أمر الموفّق، من أجل بطانته التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 يؤثرها على كل أحد. واتصلت الأخبار بأنّ الموفّق شارف القبض على صاحب الزنج، فبعث ابن طولون بعض عساكره إلى الرقة لانتظار المعتمد، واغتنم المعتمد غيبة الموفّق وسار في جمادى سنة ثمان وستين ومائتين ومعه جماعة من القواد الذين معه فقبض عليهم وقيّدهم. وقد كان ساعد بن مخلّد وزير الموفّق خاطبه في ذلك عن الموفّق فأظهر طاعتهم حين صاروا إلى عمله، وسار معهم إلى أوّل عمل أحمد بن طولون فلم يرحل معهم حين رحلوا [1] . ثم جلس معهم بين يدي المعتمد وعذلهم في المسير إلى ابن طولون ودخولهم تحت حكمه وحجره. ثم قام بهم عند المعتمد ليناظرهم في خلوة فلما دخلوا خيمته قبض عليهم. ثم رجع إلى المعتمد فعذله في الخروج عن دار خلافته، وفراق أخيه وهو في قتال عدوّه. ثم رجع بالمعتمد والذين معه حتى أدخلهم سرّ من رأى. وبلغ الخبر إلى ابن طولون فقطع خطبة الموفّق ومحا اسمه من الطرز، فتقدّم الموفّق إلى المعتمد بلعن ابن طولون في دار العامّة، فأمر بلعنه على المنابر وعزله عن مصر [2] وفوّض إليه من باب الشاتية إلى إفريقية، وبعث إلى مكة بلعنه في المواسم فوقعت بين أصحاب ابن طولون وعامل مكة حرب، ووصل عسكر الموفق مع جعفر الباعردي، فانهزم فيها أصحاب ابن طولون وسلبوا وأمر جعفر المصريّين وقرءوا الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون.   [1] المقطع كله غير واضح ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة 269: وفيها سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنه لم يكن له من الخلافة غير اسمها، ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا كثير، وكان الحكم كله للموفق، والأموال تجبى إليه، فضجر المعتمد من ذلك، وأنف منه، فكتب الى أحمد بن طولون يشكو إليه حاله سرا من أخيه الموفق، فأشار عليه أحمد باللحاق به بمصر، ووعده النصرة، وسيّر عسكرا الى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم، فاغتنم المعتمد غيبة الموفق عنه، فسار في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، فأقام بالكحيل يتصبّر. فلما سار الى عمل إسحاق بن كنداجيق، وكان عامل الموصل وعامّة الجزيرة، وثب ابن كنداجيق بمن مع المعتمد من القواد فقبضهم ... وكان قد كتب إليه صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق. وكان سبب وصوله الى قبضهم أنه أظهر أنه معهم في طاعة المعتمد، إذ هو الخليفة، ولقيهم لما صاروا الى عمله، وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل ابن طولون ارتحل الاتباع والغلمان الذين مع المعتمد، وقوّاده ولم يترك ابن كنداجيق أصحابه يرحلون ... ابن الأثير ج 7 ص 394. [2] كذا بياض بالأصل، وفي تاريخ أبي الفداء المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 53 «وفي هذه السنة- 269- أمر المعتمد بلعن أحمد بن طولون على المنابر لكونه قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز، وانما أمر المعتمد بذلك مكرها لأن هواه كان مع ابن طولون» . أما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 397 «وفيها- 269- لعن المعتمد احمد بن طولون في دار العامة وأمر بلعنه على المنابر، وولى إسحاق بن كنداجيق على أعمال ابن طولون، وفوّض اليه من باب الشّمّاسيّة الى افريقية، وولّي شرطة الخاصة» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 (اضطراب الثغور ووصول أحمد بن طولون اليها ووفاته) كان عامل أحمد بن طولون على الثغور طلخشى بن بلذدان، واسمه خلف، وكان نازلا بطرسوس. وكان مازيار [1] الخادم مولى فتح بن خاقان معه بطرسوس وارتاب به طلخشى فحبسه فوثب جماعة من أهل طرسوس، واستقدموا مازيار من يده وولّوه. وهرب خلف وتركوا الدعاء لابن طولون فسار ابن طولون من مصر وانتهى إلى أذنة، وكاتب مازيار واستماله فامتنع، واعتصم بطرسوس فرجع ابن طولون إلى حمص ثم إلى دمشق فأقام بها. ثم رجع وحاصره في فصل الشتاء بعد أن بعث إليه يدعوه [2] وانساح على معسكر أحمد وخيمه، وكادوا يهلكون، فتأخّر ابن طولون إلى أذنة، وخرج أهل طرسوس فنهبوا العسكر. وطال مقام أحمد بأذنة في طلب البرد [3] ثم سار إلى المصيصة فأقام بها ومرض هناك. ثم تماسك إلى أنطاكية فاشتدّ وجعه ونهاه الطبيب عن كثرة الغذاء فتناوله سرّا، فكثر عليه الاختلاف، لأنّ أصل علّته هيضة من لبن الجواميس. وثقل عليه الركوب فحملوه على العجلة فبلغ الفرمار، وركب من ساحل الفسطاط إلى داره، وحضره طبيبه فسهّل عليه الأمر وأشار بالحمية فلم يداوم عليها. وكثر الإسهال وحميت كبده من سوء الفكر فساءت أفعاله. وضرب بكار بن قتيبة القاضي، وأقامه للناس في الميدان، وخرق سواده وأوقع بابن هرثمة وأخذ ماله وحبسه. وقتل سعيد بن نوفل مضروبا بالسياط. ثم جمع أولياءه وغلمانه وعهد إلى ابنه أبي الجيش خمارويه. وأوصاهم بإنظاره وحسن النظر فسكنوا إلى ذلك لخوفهم من ابنه العبّاس المعتقل. ثم مات سنة ست وسبعين ومائتين لست وعشرين سنة من إمارته، وكان حازما سائسا وبنى جامعه بمصر وأنفق فيه مائة وعشرين ألف دينار، وبنى قلعة يافا، وكان يميل إلى مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه. وخلّف من المال عشرة آلاف ألف دينار، ومن الموالي سبعة آلاف.   [1] بازمار: ابن الأثير ج 7 ص 406. [2] بياض بالأصل في الكامل ج 7 ص 409: وراسله يستميله، فلم يلتفت الى رسالته. [3] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 7 ص 409: وكان الزمان شتاء ومقتضى السياق: وطال مقام احمد بأذنة بسبب البرد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 ومن الغلمان أربعة آلاف، ومن الخيل المرتبطة مائة، ومن الدواب لركابه مائتين وثلاثين. وكان خراج مصر لأيامه مع ما ينضاف إليها من ضياع الأمراء لحضرة السلطان أربعة آلاف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، وعلى المارستان وأوقافه ستين ألف دينار، وعلى حصن الجزيرة والجزيرة وهي المسماة لهذا العهد بقلعة الروضة ثمانين ألف دينار. وخربت بعد موته وجدّدها الصالح نجم الدين بن أيوب. ثم خربت ثانية، ولم يبق منها إلا أطلال دائرة، وكان يتصدّق في كل شهر بألف دينار، ويجري على المسجونين خمسمائة دينار في كل شهر، وكانت نفقة مطابخه وعلوفته ألف دينار في كل يوم. (ولاية خمارويه بن أحمد بن طولون) ولما توفي أحمد بن طولون اجتمع أهل الدولة وخواص الأولياء وكبيرهم أحمد بن محمد الواسطي والغالب على الدولة الحسن بن مهاجر، فاتفقوا على بيعة ابنه أبي الجيش خمارويه، وأحضروا ابنه العبّاس من محبسه وعزّاه الواسطي وهم يبكون. ثم قال بايع لأخيك فأبى، فقام طبارجي وسعد الآيس [1] من الموالي، وسحبوه إلى حجرة في القصر فاعتقلوه بها، وأخرج من الغد ميتا، وأخرجوا أحمد إلى مدفنه وصلى عليه ابنه أبو الجيش، وواراه ورجع إلى القصر مقيما لأمر سلطانه. (مسير خمارويه الى الشام وواقعته مع ابن الموفق) ولما توفي أحمد بن طولون كان إسحاق بن كنداج عاملا على الجزيرة والموصل، وابن أبي الساج على الكوفة، وقد ملك الرحبة من يد أحمد بن مالك فطمعا في ملك الشام، واستأذنا الموفّق فأذن لهما ووعدهما بالمدد. وسار إسحاق إلى الرقّة والثغور والعواصم فملكها من يد ابن دعّاس عامل ابن طولون. واستولى إسحاق على حمص وحلب وأنطاكية، ثم على دمشق. وبعث خمارويه العساكر إلى الشام فملكوا دمشق   [1] سعيد الأيسر: ابن الأثير ج 7 ص 415. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وهرب العامل الّذي انتقض بها. ثم سار العسكر إلى شيزر فأقام عليها قبالة إسحاق وابن أبي الساج، وهما ينتظران المدد من العراق. ثم هجم الشتاء فتفرّق عسكر خمارويه في دور شيزر ووصل العسكر من العراق مع أبي العبّاس أحمد بن الموفّق الّذي صارت إليه الخلافة ولقّب المعتضد فكبسوا عسكر خمارويه في دور شيزر وفتكوا فيهم. ونجا الفلّ إلى دمشق والمعتضد في اتباعهم فارتحلوا عنها، وملكها المعتضد في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. ولحق عسكر خمارويه بالرملة فأقاموا بها وكتبوا إلى خمارويه بالخبر، وسار المعتضد نحوهم من دمشق. وبلغه وصول خمارويه وكثرة عساكره. فهمّ بالعود ومعه أصحاب خمارويه الذين خالفوا عليه، ولحقوا به وكان ابن كنداج وابن أبي الساج متوحشين من المعتضد لسوء معاملته لهما. والتقى العسكران على الماء الّذي عليه الطواحين بالرملة. فولّى خمارويه منهزما مع عصابة معه ليس لهم دربة بالحرب. ومضى إلى مصر بعد أن أكمن مولاه سعدا الآيس في عسكر. وجاء المعتضد فملك خيام خمارويه وسواده وهو يظنّ الظفر، فخرج سعد الآيس من كمينه وقصد الخيام وظنّ المعتضد أن خمارويه قد رجع فركب وانهزم لا يلوي على شيء. وجاء إلى دمشق فمنعوه الدخول فمضى إلى طرسوس، ولما افتقد سعد الآيس خمارويه نصّب أخاه أبا العشائر لقيادة العساكر، ووضع العطاء، ووصلت البشائر إلى مصر فسرّ خمارويه بالظفر، وخجل من الهزيمة، وأكثر الصدقة وأكرم الأسرى وأطلقهم. وسارت عساكره إلى الشام فارتجعوه كله من أصحابه فأخرجوهم، ولحقوا بالعراق وغزا بالصائفة هذه السنة مازيار صاحب الثغر، وغنم وعاد. ثم غزا كذلك سنة ثلاث وسبعين ومائتين. (فتنة ابن كنداج وابن أبي الساج والخطبة لابن طولون بالجزيرة) كان ابن أبي الساج عاملا على قنّسرين وإسحاق على الجزيرة والموصل فتنافسوا في الأعمال واستظهر ابن أبي الساج بخمارويه، وخطب له بأعماله، وبعث ابنه رهينة إليه، فسار في عساكره بعد أن بعث إليه الأموال وانتهى إلى السنّ، وعبر ابن أبي الساج الفرات ولقي إسحاق بن كنداج على الرقّة فهزمه، وجاز خمارويه من بعده فعبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 الفرات إلى الرافقيّة، ونجا إسحاق إلى ماردين، وحصره ابن أبي الساج. ثم خرج وسار إلى الموصل فصدّه ابن أبي الساج عنها، وهزمه فعاد إلى ماردين. واستولى ابن أبي الساج على الجزيرة والموصل، وخطب في أعمالها لخمارويه، ثم لنفسه بعده. وبعث العساكر مع غلامه فتح لجباية نواحي الموصل فأوقع بالشراة اليعقوبيّة ومكر بهم. وعلى أصحابهم بما فعل معهم فجاءوا إليه، وهزموه واستلحموا أصحابه، ونجا ابن أبي الساج في فلّ قليل. ثم انتقض ابن أبي الساج على خمارويه سنة خمس وسبعين ومائتين وذلك أنّ إسحاق بن كنداج سار إلى خمارويه بمصر وصار في جملته فانتقض ابن أبي الساج. وسار خمارويه إليه فلقيه على دمشق في المحرّم فانهزم ابن أبي الساج، واستبيح معسكره وكان وضع بحمص خزائنه، فبعث خمارويه عسكرا إلى حمص فمنعوه من دخولها، واستولوا على خزائنه. ومضى ابن أبي الساج إلى حلب، ثم إلى الرقّة وخمارويه في اتباعه. ثم فارق الرقّة الى الموصل، وعبر خمارويه الفرات واحتلّ مدينة بلد، وأقام بها. وسار ابن أبي الساج الى الحديثة. وبعث خمارويه عساكره وقوّاده مع إسحاق بن كنداج في طلب ابن أبي الساج فعبر دجلة، وأقام بتكريت وإسحاق في عشرين ألفا، وابن أبي الساج في ألفين، وأقاموا يترامون في العدوتين. ثم جمع ابن كنداج السفن ليمدّ الجسر للعبور، فخالفهم ابن أبي الساج إلى الموصل ونزل بظاهرها فرحلوا في اتباعه فسار لقتالهم فانهزم إسحاق إلى الرقة وتبعه ابن أبي الساج. وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفرات إلى الشام وأعمال حمازويه فأجابه بالتربص وانتظار المدد. ولما انهزم إسحاق سار إلى خمارويه وبعث معه العسكر، ورجع فنزل على حدّ الفرات من أرض الشام، وابن أبي الساج قبالته على حدود الرقّة، فعبرت طائفة من عسكر ابن كنداج لم يشعروا بهم، وأوقعوا بجمع من عسكر ابن أبي الساج، فلما رأى أن لا مانع لهم من العبور سار إلى الرقّة إلى بغداد، وقدم على الموفّق سنة ست وسبعين ومائتين فأقام عنده إلى أن ولّاه أذربيجان في سنته واستولى ابن كنداج على ديار ربيعة وديار مضر، وأقام الخطبة فيها لخمارويه . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 (عود طرسوس الى ايالة خمارويه) قد كنا قدّمنا أن مازيار الخادم ثار بطرسوس سنة سبعين ومائتين وحاصره أحمد بن طولون فامتنع عليه، فلمّا ولي خمارويه وفرغ من شواغله، أنفذ إلى مازيار سنة سبع وسبعين ومائتين ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف، واصطنعه فرجع إلى طاعته وخطب له بالثغور. ثم دخل بالصائفة سنة ثمان وسبعين ومائتين وحاصروا أسكند فأصابه منها حجر منجنيق رثه، ورجع إلى طرسوس فمات بها. وقام بأمر طرسوس ابن عجيف، وكتب إلى خمارويه فأقرّه على ولايتها، ثم عزله واستعمل مكانه محمد ابن عمه موسى بن طولون، وكان من خبره أنّ أباه موسى لما ملك أحمد أخوه مصر تبسّط عليه بدلالة القرابة وذوي الأرحام، فلم يحتمله له أحمد وردّه عليه، وكسر جاهه فانحرف موسى وسخط دولته. ثم خاطبه في بعض مجالسه بمال لا يحتمله السلطان فضربه ونفاه إلى طرسوس، وبعث إليه بمال يتزوّده فأبى من قبوله، وسار إلى العراق. ورجع إلى طرسوس فأقام بها إلى أن مات وترك ابنه محمدا. وولّاه خمارويه وبعث إلى أميرهم راغب فأكرمه خمارويه وأنس به، وطالت مقامته عنده وشاع بطرسوس أن خمارويه حبسه فاستعظم الناس ذلك، وثاروا بأميرهم محمد بن موسى وسجنوه رهينة في راغب. وبلغ الخبر إلى خمارويه فسرّحه إلى طرسوس، فلمّا وصلها أطلقوا أميرهم محمد بن موسى، وقد سخطهم، فسار عنهم إلى بيت المقدس. وعاد ابن عجيف إلى ولايته بدعوة خمارويه. وغزا سنة ثمانين ومائتين بالصائفة ودخل معه بدر الحمامي فظفروا وغنموا ورجعوا. ثم دخل بالصائفة سنة احدى وثمانين ومائتين من طرسوس طغج بن جف الفرغاني من قبل خمارويه في عساكره طرابزون وفتح مكودية. (صهر المعتضد مع خمارويه) ولما ولي المعتضد الخلافة بعث إلى خمارويه خاطبا قطر الندى ابنته، وكانت أكمل نساء عصرها في الجمال والآداب. وكان متولّي خطبتها أمينه الخصيّ ابن عبد الله ابن الجصّاص، فزوّجه خمارويه بها، وبعثها مع ابن الجصّاص، وبعث معها من الهدايا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 ما لا يوصف. وقدمت سنة تسع وسبعين ومائتين فدخل بها، وتمتع بجمالها وآدابها، وتمكّن سلطانه في مصر والشام والجزيرة إلى أن هلك. (مقتل خمارويه وولاية ابنه جيش) كان خمارويه قد سار سنة اثنتين وثمانين ومائتين إلى دمشق فأقام بها أياما، وسعى إليه بعض أهل بيته بأنّ جواريه يتّخذون الخصيان يفترشوهنّ، وأراد استعلام ذلك من بعضهنّ، فكتب إلى نائبة بمصر أن يقرّر بعضهنّ، فلما وصله الكتاب قرّر بعض الجواري وضربهنّ. وخاف الخصيان ورجع خمارويه من الشام، وبات في مخدعه فأتاه بعضهم وذبحه على فراشه في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين. وهرب الذين تولّوا ذلك، فاجتمع القوّاد صبيحة ذلك اليوم، وأجلسوا ابنه جيش بن خمارويه على كرسي سلطانه، وأفيض العطاء فيهم، وسيق الخدم الذين تولّوا قتل خمارويه فقتل منهم نيف وعشرون. (مقتل جيش بن خمارويه وولاية أخيه هارون) ولما ولي جيش كان صبيا غرّا فعكف على لذّاته وقرّب الأحداث والسّفلة، وتنكر لكبار الدولة، وبسط فيهم القول، وصرّح لهم بالوعيد، فأجمعوا على خلعه. وكان طغج بن جف مولى أبيه كبار الدولة، وكان عاملا لهم على دمشق فانتقض وخلع طاعته. وسار آخرون من القوّاد إلى بغداد، منهم إسحاق بن كنداج وخاقان المعلجي، وبدر بن جف أبو طغج، وقدموا على المعتضد فخلع عليهم، وأقام سائر القوّاد بمصر على انتقاضهم وقتل قائدا منهم. ثم وثبوا بجيش فقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وحرقوه، وبايعوا لأخيه هارون وذلك لتسعة أشهر من ولايته. (فتنة طرسوس وانتقاضها) قد تقدّم لنا أن راغبا مولى الموفّق نزل طرسوس للجهاد فأقام بها، ثم غلب عليها بعد ابن عجيف. ولما ولي هارون بن خمارويه سنة ثلاث وثمانين ومائتين ترك الدعاء له، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 ودعا لبدر مولى المعتضد، وقطع طرسوس والثغور من عمالة بني طولون. ثم بعث هارون بن خمارويه إلى المعتضد أن يقاطعه على أعماله بمصر والشام بأربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، ويسلّم قنسرين والعواصم، وهي الثغور للمعتضد فأجابه إلى ذلك. وسار من آمد وكان قد ملكها من يد محمد بن أحمد بن الشيخ، فاستخلف ابنه المكتفي عليها، وسار سنة ست وثمانين ومائتين فتسلّم قنّسرين والثغور من يد أصحاب هارون وجعلها مع الجزيرة في ولاية ابنه المكتفي. (ولاية طغج بن جف على دمشق) ولما ولي هارون بعد أخيه جيش على ما ولي عليه من اختلاف القوّاد وقوّة أيديهم، خشي أهل الدولة من افتراق الكلمة ففوّضوا أمرها إلى أبي جعفر بن إيام. كان مقدّما عند أحمد وخمارويه فأصلح ما استطاع، وبقي يرتّق الفتق ويجبر الصدع. ثم نظر إلى الجند الذين كانوا خالفوا بدمشق مع طغج بن جف فبعث إليهم بدرا الحمامي والحسين بن أحمد المارداني فأصلحا مورد الشام وأفرد الطغج بن جف بولاية دمشق، واستعملا في سائر الأعمال، ورجعا إلى مصر والأمور مضطربة والقوّاد طوائف لا ينقاد منهم أحد إلى أحد إلى أن وقع ما نذكر. (زحف القرامطة الى دمشق) قد تقدّم لنا ابتداء أمر القرامطة وما كان منهم بالعراق والشام، وأنّ ذكرويه بن مهداويه داعية القرامطة لما هزم بسواد الكوفة وأفنى أصحابه القتل، لحق ببني القليص بن كلب بن وبرة في السماوة فبايعوه، ولقبوه الشيخ وسمّوه يحيى. وكنّوه أبا القاسم. وزعم أنه محمد بن عبد الله بن المكتوم بن إسماعيل الإمام فلقّبوه المدّثر. وزعم أنه المشار إليه في القرآن. ولقّب غلاما من أهله المطوّق. وسار من حمص إلى حماة ومعرّة النعمان إلى بعلبكّ، ثم إلى سلميّة فقتل جميع من فيها حتى النساء والصبيان والبهائم. ونهب سائر القرى من كل النواحي. وعجز طغج بن جف وسائر ابن خلدون م 26 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 جيشه وصاحبه هارون عن دفاعهم. وتوجّه أهل الشام ومصر إلى المكتفي مستغيثين، فسار إلى أهل الشام سنة تسعين ومائتين ومرّ بالموصل، وقدّم بين يديه أبا الأغرّ من بني حمدان في عشرة آلاف رجل، ونزل قريبا من حلب وكبسه القرمطي صاحب الشامة فقتل منهم جماعة ونجا أبو الأغرّ إلى حلب في فلّ من أصحابه. وحاصره القرمطي، ثم أفرج عنه، وانتهى المكتفي إلى الرقّة. وبعث محمد بن سليمان الكاتب في العساكر، ومعه الحسين من بني حمدان، وبنو شيبان فناهضه في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائتين على حماة، وانهزم القرامطة، وأخذ صاحب الشامة أسيرا فبعث به إلى الرقّة وبين يديه المدّثر والمطوّق، وتقدّم المكتفي إلى بغداد ولحقه محمد ابن سليمان بهم، فأمر المكتفي بضربهم وقطعهم، وضرب أعناقهم وحسم دائهم، حتى ظهر منهم من ظهر بالبحرين. (استيلاء المكتفي على الشام ومصر وقتل هارون وشيّبان ابني خمارويه وانقراض دولة بني طولون) ونبدأ أوّلا بخبر محمد بن سليمان المتولّي بتحويل دولة بني طولون، كان أصله من ديار مضر من الرقّة اصطنعه أحمد بن طولون وخدّمه في مصر. ثم تنكّر له وعامله في جاهه وأقاربه بما أحفظه، وخشي على نفسه فلحق ببغداد، ولقي بها مبرّة وتكرمة. واستخدمه الخلفاء وجعلوه كاتبا للجيش، فما زال يغريهم بملك مصر إلى أن ولي هارون بن خمارويه، وفشلت دولة بني طولون بالشام، وعاث القرامطة في نواحيه وعجز هارون عن مدافعتهم، ووصل صريخ أهل الشام إلى المكتفي فقام لدفع ضررهم عن المسلمين، ودفع محمد بن سليمان لذلك، وهو يومئذ من أعظم قوّاده، فسار بالعساكر في مقدمته. ثم أمره المكتفي باتباع القرامطة، وأقام بالرقّة فسار حتى لقيهم وقاتلهم حتى هزمهم واستلحمهم، ودفع عن الشام ضررهم، ورجع بالقرمطي صاحب الشامة وأصحابه أسرى إلى المكتفي بالرقّة فرجع إلى بغداد، وقتلهم هنالك وشفى نفسه ونفس المسلمين منهم. وكان محمد بن سليمان لما تخلّف عن المكتفي عند وصوله إلى بغداد فأمره بالعود، وبعث معه جماعة من القوّاد، وأمدّه بالأموال، وبعث دميانة غلام مازيار في الأسطول، وأمره بالمسير إلى سواحل مصر، ودخول نهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 النيل، والقطع عن أهل مصر ففعل وضيّق عليهم. وسار محمد بن سليمان والعساكر واستولى على الشام وما وراءه، فلما قارب مصر كاتب القوّاد يستميلهم، فجاء إليه بدر الحمامي وكان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم. وتتابع إليه القوّاد يستميلهم، فجاء إليه بدر الحمامي وكان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم. وتتابع إليه القوّاد مستأمنين، فبرز هارون لقتالهم فيمن معه من العساكر، وأقام قبالتهم واضطرب عسكره في بعض الأيام من فتنة وقعت بينهم. واقتتلوا فركب هارون ليسكّنهم فأصابته حربة من بعض المغاربة كان فيه حتفه، فقام عمه شيبان بن أحمد بن طولون بعده بالأمر، وبذل الأموال للجند من غير حسبان ولا تقدير، ثم أباح نهب ما بقي منه يصطنعهم بذلك، فنهبوه في ساعة واحدة، وتشوّف إلى جمع المال فعجز عنه واضطرب، وفسد تدبيره، وتسايل إلى محمد بن سليمان جنده، وفاوض أعيان دولته في أمره، فاتفقوا على الاستئمان إلى محمد بن سليمان، فبعث إليه مستأمنا، فسار إليه ثم تبعه قوّاده وأصحابه، فركب محمد إلى مصر واستولى عليها، وقيّد بني طولون وحبسهم، وكانوا سبعة عشر رجلا. وكتب بالفتح فأمره المكتفي بإشخاص بني طولون جميعا من مصر والشام إلى بغداد، فبعث بهم. ثم أمر بإحراق القطائع التي بناها أحمد بن طولون على شرقي مصر، وكانت ميلا في ميل فأحرقت ونهب الفسطاط. (ولاية عيسى النوشزي على مصر وثورة الخليجي) ولما اعتزم محمد بن سليمان على الرجوع إلى بغداد وكان المكتفي قد ولاه على مصر، فولّى المكتفي عيسى بن محمد النوشزي، وقدم في منتصف سنة اثنتين وتسعين ومائتين ثم ثار بنواحي مصر إبراهيم الخليجيّ، وكان من قوّاد بني طولون، وتخلّف عن محمد ابن سليمان. وكتب إلى المكتفي عيسى النوشزي بالخبر. وكثرت جموع الخليجي، وزحف إلى مصر، فخرج النوشزي هاربا إلى الإسكندرية وملك الخليجي مصر، وبعث المكتفي العساكر مع فاتك مولى أبيه المعتضد، وبدر الحمامي وعلى مقدّمتهم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القوّاد، ولقيهم الخليجي على العريش في صفر سنة ثلاث وتسعين ومائتين فهزمهم. ثم تراجعوا وزحفوا إليه وكانت بينهم حروب فني فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 أكثر أصحاب الخليجي وانهزم الباقون، فظفر عسكر بغداد، ونجا الخليجي إلى الفسطاط واختفى به. ودخل قوّاد المكتفي المدينة وأخذوا الخليجي وحبسوه. وكان المكتفي عند ما بلغته هزيمة ابن كيغلغ، وسار ابن كيغلغ في ربيع وبرز المكتفي من ورائهم يسير إلى مصر، فجاءه كتاب فاتك بالخبر وبحبس الخليجي، فكتب المكتفي بحمله ومن معه إلى بغداد. وبرز من تكريت فبعث فاتك بهم، وحبسوا ببغداد. ورجع عيسى النوشزي إلى مصر في منتصف ثلاث وتسعين ومائتين فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين لخمس سنين من ولايته وشهرين، وقام بأمره ابنه محمد، وولّى المقتدر على مصر أبا منصور تكين الخزريّ، فقدمها آخر شوّال من سنة سبع وتسعين ومائتين، وقام واليا عليها. واستفحلت دولة العلويّين بالمغرب. وجهّز عبيد الله المهدي العساكر مع ابنه أبي القاسم سنة إحدى وثلاثمائة، فملك برقة في ذي الحجّة آخرها. ثم سار إلى مصر وملك الإسكندرية والفيّوم، وبلغ الخبر إلى المقتدر، فقلّد ابنه أبا العبّاس مصر والمغرب وعمره يومئذ أربع سنين، وهو الّذي ولي الخلافة بعد ذلك ولقّب الراضي. ولما قلّده مصر استخلف له عليها مؤنسا الخادم، وبعثه في العساكر إلى مصر وحاربهم فهزمهم. ورجعوا إلى المغرب فأعاد عبيد الله العساكر سنة اثنتين مع قائده حامسة الكتامي. وجاء في الأسطول فملك الإسكندرية، وسار منها إلى مصر، وجاءه مؤنس الخادم في العساكر فقاتله وهزمه. ثم كانت بينهم وقعات، وانهزم أصحاب المهدي آخرا في منتصف اثنتين وثلاثمائة. وقتل منهم نحوا من سبعة آلاف، ورجعوا إلى المغرب فقتل المهدي حامسة وعاد مؤنس إلى بغداد. (ولاية ذكاء الأعور) لم يزل تكين الخزري واليا على مصر استخلافا إلى أن صرف آخر اثنتين وثلاثمائة، فولّى المقتدر مكانه أبا الحسن ذكاء الأعور، وقدم منتصف صفر من سنة ثلاث فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي سنة سبع وثلاثمائة لأربع سنين من ولايته . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 (ولاية تكين الخزري ثانية) لما صرف المقتدر ذكاء، ولّى مكانه أبا منصور تكين الخزري ولاية ثانية، فقدم في شعبان سنة سبع وثلاثمائة وكان عبيد الله المهدي قد جهّز العساكر مع ابنه أبي القاسم، ووصل إلى الإسكندرية في ربيع من سنة سبع وثلاثمائة وملكها. ثم سار إلى مصر وملك الجزيرة والأشمونين من الصعيد وما إليه، وكتب أهل مكة بطاعته، وبعث المقتدر من بغداد مؤنسا الخادم في العساكر فواقع أبا القاسم عدّة وقعات، وجاء الأسطول من إفريقية إلى الإسكندرية في ثمانين مركبا مددا لأبي القاسم، وعليه سليمان بن الخادم، ويعقوب الكتامي، فسار إليهم في أسطول طرسوس في خمسة وعشرين مركبا، وفيها النفط والمدد، وعليها أبو اليمن، فالتقت العساكر في الأساطيل في مرسى رشيد، فظفر أسطول طرسوس بأسطول إفريقية وأسر كثير منهم. وقتل بعضهم وأطلق البعض، وأسر سليمان الخادم فهلك في محبسه بمصر، وأسر يعقوب الكتامي وحمل إلى بغداد فهرب منها إلى إفريقية، واتصل الحرب بين أبي القاسم ومؤنس، وكان الظفر لمؤنس، ووقع الغلاء والوباء في عسكر أبي القاسم ففني كثير منهم بالموت. ووقع الموتان في الخيل فعاد العسكر إلى المغرب، واتبعهم عساكر مصر حتى أبعدوا فرجعوا عنهم. ووصل أبو القاسم إلى القيروان منتصف السنة. ورجع مؤنس إلى بغداد وقدم تكين إلى مصر كما مرّ، ولم يزل واليا عليها إلى أن صرف في ربيع من سنة تسع وثلاثمائة (ولاية أحمد بن كيغلغ) ولّاه المقتدر بعد هلال بن بدر، فقدم في جمادى وصرف لخمسة أشهر من ولايته. وأعيد تكين المرّة الثالثة، فقدم في عاشوراء سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وأقام واليا عليها تسع سنين إلى أن توفي في منتصف ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وفي أيامه جدّد المقتدر عهده لابنه أبي العبّاس على بلاد المغرب ومصر والشام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 واستخلف له مؤنسا، وذلك سنة ثمان عشرة وثلاثمائة. وقال ابن الأثير: وفي سنة إحدى وعشرين توفي تكين الخزري بمصر فولي عليها مكانه ابنه محمد، وبعث له القاهر بالخلع وثار به الجند فظفر بهم انتهى. (ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية) ولّاه القاهر في شوّال سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد أن كان ولّى محمد بن طغج، وهو عامل دمشق وصرفه لشهر من ولايته قبل أن يتسلّم العمل، وردّه إلى أحمد بن كيغلغ كما قلناه، فقدم مصر في رجب سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ثم عزل آخر رمضان من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وولي الراضي الخليفة بأن يدعى على المنبر باسمه ويزاد في ألقابه الإخشيد فقام بولاية مصر أحسن قيام ثم انتزع الشام من يده كما يذكر. (استيلاء ابن رائق على الشام من يد الإخشيد) كان محمد بن رائق أمير الأمراء ببغداد وقد مرّ ذكره. ثم نازعه مولاه تحكم [1] وولي مكانه سنة ست وعشرين وثلاثمائة وهرب ابن رائق ثم استتر ببغداد، واستولى عليها، ورجع الخليفة من تكريت بعد أن كان قدم تحكم، ثم كتب إليه واستردّه، وقد عقد الصلح مع ناصر الدولة بن حمدان من قبل أن يسمع بخبر بن رائق. ثم عادوا جميعا إلى بغداد، وراسلهم ابن رائق مع أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد في الصلح، فأجيب وقلّده الراضي طريق الفرات وديار مضر التي هي حرّان والرّها وما جاورهما، وجند قنّسرين والعواصم، فسار إليها واستقر بها. ثم طمحت نفسه سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى ملك الشام، فسار إلى مدينة حمص فملكها، وكان على دمشق بدر بن عبد الله مولى الإخشيد ويلقّب بتدبير فملكها ابن رائق من يده. وسار إلى الرملة يريد مصر. وبرز الإخشيد من مصر فالتقوا بالعريش وأكمن له   [1] جاء اسمه في الكامل بجكم وقد مرّ ذكره معنا من قبل ج 8 ص 346. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 الإخشيد، ثم التقيا فانهزم الإخشيد أولا، وملك أصحاب ابن رائق سواده ونزلوا في خيامهم، ثم خرج عليهم كمين الإخشيد فانهزموا، ونجا ابن رائق إلى دمشق في فلّ من أصحابه. فبعث إليه الإخشيد أخاه أبا نصر بن طغج في العسكر، فبرز إليهم ابن رائق وهزمهم، وقتل أبو نصر في المعركة، فبعث ابن رائق شلوه إلى مصر مع ابنه مزاحم بن محمد بن رائق وكتب إليه بالعزاء والاعتذار، وأن مزاحما في فدائه، فخلع عليه وردّه إلى أبيه. وتمّ الصلح بينهما على أن تكون الشام لابن رائق ومصر للإخشيد، والتخم بينهما للرملة. وحمل الإخشيد عنها مائة وأربعين ألفا كل سنة، وخرج الشام عن حكم الإخشيد وبقي في عمالة ابن رائق إلى أن قتل تحكم والبريدي. وعاد ابن رائق من الشام إلى بغداد، فاستدعاه المتّقي وصار أمير الأمراء بها، فاستخلف على الشام أبا الحسن عليّ بن أحمد بن مقاتل. ولما وصل إلى بغداد قاتله كورتكين القائم بالدولة فظفر به، وحبسه، وقاتل عامّة أصحابه من الديلم. وزحف إليهم البريدي من واسط سنة ثلاثين وثلاثمائة فانهزم المتقي وابن رائق، وسار إلى الموصل وكان المتقي قد استنجد ناصر الدولة بن حمدان، فبعث إليه أخاه سيف الدولة ولقيه المتقي بتكريت، ورجع معه إلى الموصل، وقتل ناصر الدولة بن حمدان محمد بن رائق، وولي إمارة الأمراء للمتقي. فلما سمع الإخشيد بمقتل ابن رائق سار إلى دمشق، ثم استولى يوسف بعد ذلك عليها سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وولّى ناصر الدولة بن حمدان في ربيع سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة على أعمال ابن رائق كلّها، وهي طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم وحمص أبا بكر محمد بن عليّ بن مقاتل، وأنفذه إليها من الموصل في جماعة من القوّاد. ثم ولّى بعده في رجب ابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان على تلك الأعمال، وامتنع أهل الكوفة من طاعته فظفر بهم وملكها. وسار إلى حلب، وكان المتقي قد سار إلى الموصل سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة مغاضبا الأمراء توزون فأقام بالموصل عند بني حمدان. ثم سار إلى الرقّة فأقام بها، وكتب إلى الإخشيد يشكو إليه ويستقدمه، فأتاه من مصر، ومرّ بحلب فخرج عنها الحسين بن سعيد بن حمدان، وتخلّف عنه أبو بكر بن مقاتل للقاء الإخشيد فأكرمه، واستعمله على خراج مصر. وولّى على حلب يأنس المؤنسي. وسار الإخشيد من حلب إلى الرقّة في محرم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وأهدى له ولوزيره الحسين بن مقلة وحاشيته، وأشار عليه بالمسير إلى مصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 والشام ليقوم بخدمته فأبى فخوّفه من تورون، وأن يلزم الرقّة. وكان قد أنفذ رسله إلى تورون في الصلح وجاءوه بالإجابة فلم يعرج على شيء من إشارته. وسار إلى بغداد وانصرف الإخشيد إلى مصر وكان سيف الدولة بالرقّة معهم فسار إلى حلب وملكها. ثم سار إلى حمص وبعث الإخشيد عساكره إليها مع كافور مولاه، فلقيهم سيف الدولة إلى قنسرين، والتقيا لك وتحاربا، ثم افترقا على منعة وعاد الإخشيد إلى دمشق وسيف الدولة إلى حلب، وذلك سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وسارت الروم إلى حلب وقاتلهم سيف الدولة فظفر بهم. (وفاة الإخشيد وولاية ابنه أنوجور واستبداد كافور عليه واستيلاء سيف الدولة على دمشق) ثم توفي الإخشيد أبو بكر بن طغج بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وقيل خمس وولي مكانه أبو القاسم أنوجور وكان صغيرا فاستبدّ عليه كافور، وسار من دمشق إلى مصر فخالفه سيف الدولة، فسار إلى حلب، وزحف أنوجور في العساكر إليه فعبر سيف الدولة إلى الجزيرة، وحاصر أنوجور حلب أياما. ثم وقع الصلح بينهما، وعاد سيف الدولة إلى حلب وأنوجور إلى مصر، ومضى كافور إلى دمشق وولى عليها بدرا الإخشيدي المعروف بتدبير [1] ، فرجع إلى مصر فأقام يدبّر بها سنة، ثم عزل عنها وولي أبو المظفّر طغج وقبض على تدبير. (وفاة أنوجور ووفاة أخيه علي واستبداد كافور عليه) ثم علت سن أبي القاسم أنوجور، ورام الاستبداد بأمره وإزالة كافور فشعر به وقتله فيما قيل مسموما سنة [2] ونصّب أخاه عليا للأمر في كفالته، وتحت استبداده إلى أن هلك.   [1] ويعرف ببدير: ابن الأثير ج 8 ص 458 [2] يذكر ابن الأثير وفاته سنة 342. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 (وفاة علي بن الإخشيد وولاية كافور) ثم توفي علي بن الإخشيد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فأعلن كافور بالاستبداد بالأمر دون بني الإخشيد. وركب بالمظلّة وكتب له المطيع بعهده على مصر والشام والحرمين وكنّاه العالي باللَّه، فلم يقبل الكنية، واستوزر أبا الفضل جعفر بن الفرات، وكان من أعاظم الملوك جوادا ممدوحا سيوسا كثير الخشية للَّه والخوف منه. وكان يداري المعزّ صاحب المغرب ويهاديه، وصاحب بغداد وصاحب اليمن، وكان يجلس للمظالم في كل سبت إلى أن هلك. (وفاة كافور وولاية أحمد بن علي بن الإخشيد) ثم توفي كافور منتصف سبع وخمسين وثلاثمائة لعشرة سنين وثلاثة أشهر من استبداده. منها سنتان وأربعة أشهر مستقلا من قبل المطيع، وكان أسود شديد السواد واشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارا. ولما هلك اجتمع أهل الدولة وولّوا أحمد بن علي بن الإخشيد وكنيته أبو الفوارس، وقام بتدبير أمره الحسن ابن عمه عبد الله بن طغج، وعلى العساكر شمول مولى جدّه، وعلى الأموال جعفر بن الفضل، واستوزر كاتبه جابر الرياحي. ثم أطلق ابن الفرات بشفاعة ابن مسلم الشريف، وفوّض أمر مصر إلى ابن الرياحي. (مسير جوهر الى مصر وانقراض دولة بني طغج) ولما فرغ المعز لدين الله من شواغل المغرب بعث قائده جوهر الصّقلي الكاتب إلى مصر، وجهّزه في العساكر، وأزاح عللها. وسار جوهر من القيروان إلى مصر، ومرّ ببرقة وبها أفلح مولى المعز فلقيه، وترجّل له فملك الإسكندرية، ثم الجيزة. ثم أجاز إلى مضر وحاصرها، وبها أحمد بن علي بن الإخشيد وأهل دولته. ثم افتتحها سنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 ثمان وخمسين وثلاثمائة وقتل أبا الفوارس، وبعث بضائعهم وأموالهم إلى القيروان صحبة الوفد من مشيخة مصر وقضاتها وعلمائها، وانقرضت دولة بن طغج، وأذّن سنة تسع وخمسين في جامع ابن طولون بحيّ على خير العمل. وتحوّلت الدعوة بمصر للعلويّة، واختطّ جوهر مدينة القاهرة في موضع العسكر. وسيّر جعفر بن فلاح الكتامي إلى الشام فغلب القرامطة عليه كما تقدّم ذلك في أخبارهم. (الخبر عن دولة بني مروان بديار بكر بعد بني حمدان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم) كان حق هذه الدولة أن نصل ذكرها بدولة بني حمدان كما فعلنا في دولة بني المقلّد بالموصل، وبني صالح بن مرداس بحلب، لأنّ هذه الدول الثلاث إنما نشأت وتفرّعت عن دولتهم، إلا أنّ بني مروان هؤلاء ليسوا من العرب، وإنما هم من الأكراد فأخّرنا دولتهم حتى ننسقها مع العجم. ثم أخّرناها عن دولة بني طولون لأنّ دولة بني طولون متقدّمة عنها في الزمن بكثير. فلنشرع الآن في الخبر عن دولة بني مروان وقد كان تقدّم لنا خبر باد الكردي واسمه الحسين بن دوشك، وكنيته أبو عبد الله وقيل كنيته أبو شجاع، وأنه خال أبي عليّ بن مروان الكردي، وأنه تغلّب على الموصل وعلى ديار بكر، ونازع فيها الديلم ثم غلبوه عليها وأقام بجبال الأكراد. ثم مات عضد الدولة وشرف الدولة. ثم جاء أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن إلى الموصل فملكاها. ثم حدثت الفتنة بينهما وبين الديلم وطمع باد في ملك الموصل، وهو بديار بكر فسار إلى الموصل فغلبه ابنا ناصر الدولة، وقتل في المعركة، وقد مرّ الخبر عن ذلك كله. فلما قتل خلص ابن أخته أبو علي بن مروان من المعركة، ولحق بحصن كيفا، وبه أهل باد وذخيرته، وهو من أمنع المعاقل فتحيل في دخوله بأنّ خاله أرسله، واستولى عليه وتزوّج امرأة خاله. ثم سار في ديار بكر فملك جميع ما كان لخاله باد. وزحف إليه ابنا حمدان وهو يحاصر ميّافارقين فهزمهما. ثم رجعا إليه وهو يحاصر آمد فهزمهما ثانيا، وانقرض أمرهما من الموصل، وملك أبو علي بن مروان ديار بكر وضبطها، واستطال عليه أهل ميّافارقين، وكان شيخها أبو الأصغر فتركهم يوم العيد حتى اصحروا وكبسهم بالصحراء، وأخذ أبا الأصغر فألقاه من السور، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 ونهب الأكراد عامّة البلد، وأغلق أبو علي الأبواب دونهم، ومنعهم من الدخول فذهبوا كل مذهب، وذلك كله سنة ثمانين وثلاثمائة. (مقتل أبي علي بن مروان وولاية أخيه أبي منصور) كان أبو علي بن مروان قد تزوّج بنت سعد الدولة بن سيف الدولة، وزفّت إليه من حلب وأراد البناء بها بآمد فخاف شيخها أن يفعل به وبهم ما فعل في ميّافارقين فحذّر أصحابه منه، وأشار عليهم أن ينثروا الدنانير والدراهم إذا دخل، ويقصدوا بها وجهه فيضربوه فكان كذلك. ثم أغفله وضرب رأسه واختلط أصحابه، فرمى برأسه إليهم، وكرّ الأكراد راجعين إلى ميّافارقين فاستراب بهم مستحفظها أن يملكوها عليه، ومنعهم من الدخول. ثم وصل مهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميّافارقين فأمكنه المستحفظ من الدخول فملكه، ولم يكن له فيه إلا السكّة والخطبة، ونازعه أخوه أبو نصر فأقام بها مضيّقا عليه فغلبه أبو منصور، وبعثه إلى قلعة أسعرد فأقام بها مضيّقا عليه وأمّا آمد فتغلّب عليها عبد الله شيخهم أياما، وزوّج بنته من ابن دمنة الّذي تولّى قتل أبي علي بن مروان فقتله ابن دمنة، وملك آمد وبنى لنفسه قصرا ملاصقا للسور. وأصلح أمره مع مهد الدولة بالطاعة. وهادي ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك، وانتشر ذكره. (مقتل مهد الدولة بن مروان وولاية أخيه أبي نصر) ثم إنّ مهد الدولة [1] أقام بميّافارقين، وكان قائده شروة متحكما في دولته. وكان له مولى قد ولّاه الشرطة. وكان مهد الدولة يبغضه ويهمّ بقتله مرارا. ثم يتركه من أجل شروة، فاستفسد مولاه شروة على مهد الدولة لحضوره. فلمّا حضر عنده قتله وذلك سنة اثنتين وأربعمائة ثم خرج على أصحابه وقرابته يقبض عليهم كأنه بأمر مهد الدولة ثم مضى الى ميافارقين ففتحوا له يظنونه مهد الدولة فملكها، وكتب إلى أصحاب   [1] مهذب الدولة: ابن الأثير ج 9 ص 183 المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 136. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 القلاع يستدعيهم على لسان مهد الدولة، وفيهم خواجا أبو القاسم صاحب أرزن الروم، فسار إلى ميّافارقين، ولم يسلم القلعة لأحد. وسمع في طريقه بقتل مهد الدولة فرجع من الطريق إلى أرزن الروم، وأحضر أبا نصر بن مروان من أسعرد، وجاء به إلى أبيهم مروان. وكان قد أضرّ ولزم قبر ابنه أبي علي بأرزن هو وزوجته فأحضره خواجا عنده، واستحلفه عند أبيه وقبر أخيه، وملك أرزن. وبعث شروة من ميّافارقين إلى أسعرد عن أبي نصر بن مروان، ففاته إلى أرزن، فأيقن بانتقاض أمره. ثم ملك أبو نصر سائر ديار بكر، ولقّب نصير الدولة، ودامت أيامه. وأحسن السيرة وقصده العلماء من سائر الآفاق وكثروا عنده. وكان ممن قصده أبو عبد الله الكازروني، وعنه انتشر مذهب الشافعيّ بديار بكر، وقصده الشعراء ومدحوه وأجزل جوائزهم. وأقامت الثغور معه آمنة، والرعية في أحسن ملكة إلى أن توفي. (استيلاء نصير الدولة بن مروان على الرها) كانت مدينة الرّها بيد عطير، وكاتبوا أبا نصر بن مروان أن يملكوه فبعث نائبة بآمد ويسمى زنك فملكها، واستشفع عطير بصالح بن مرداس صاحب حلب إلى ابن مروان فأعطاه نصف البلد، ودخل إلى نصير الدولة بميّافارقين فأكرمه، ومضى إلى الرّها فأقام بها مع زنك. وحضر بعض الأيام مع زنك في صنيع، وحضر ابن النائب الّذي قتله فحمله زنك على الأخذ بثأره فاتبعه لما خرج، ونادى بالثأر واستنفر أهل السوق فقتلوه في ثلاثة نفر. وكمن له بنو نمير خارج البلد وبعثوا من يغير منهم عليها، فخرج زنك في العسكر. ولما جاوز الكمين خرجوا عليه وقاتلوه وأصابه حجر فمات من ذلك فاتح ثمان عشرة وأربعمائة وخلصت الرّها لنصير الدولة. ثم شفع صالح بن مرداس في ابن عطير وابن شبل فردّ إليهما البلد إلى أن باعه ابن عطير من الروم كما يأتي. (حصار بدران بن مقلد نصيبين) كانت نصيبين لنصير الدولة بن نصر بن مروان، فسار إليها بدران بن المقلّد في جموع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 بني عقيل، وحاصرها فظهر على العساكر الذين بها، وأمدّهم نصير الدولة بعسكر آخر، فبعث بدران من اعترضهم في طريقهم وهزمهم، فاحتفل ابن مروان في الاحتشاد وبعث العساكر إلى نصيبين، فخرجوا عليه فهزموه أوّلا. ثم كرّ عليهم ففتك فيهم، وأقام يقاتلهم حتى سمع بأنّ أخاه قرواش وصل إلى الموصل فخشي منه وارتحل عنها. (دخول الغز الى ديار بكر) هؤلاء الغزّ من طوائف الترك، وهم الشعب الذين منهم السلجوقية، وقد تقدّم لنا كيف أجازوا إلى خراسان لمّا قبض محمد بن سبكتكين على أرسلان بن سلجق منهم فحبسه، وما ظهر من فسادهم في خراسان وكيف أوقع بهم مسعود بن سبكتكين من بعد أبيه محمود، ففروا إلى الذين يريدون أذربيجان واللحاق بمن تقدّم منهم هنالك، ويسمون العراقية بعد أن عاثوا في همذان وقزوين وأرمينية. وعاث الآخرون في أذربيجان وقتل وهشوذان صاحب تبريز منهم جماعة. ثم عاثوا في الأكراد واستباحوهم. ثم جاءهم الخبر بأن نيال إبراهيم أخا السلطان طغرلبك سار إلى الريّ فأجفلوا منها سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ووصلوا أذربيجان واتصلت الأخبار بأن نيال في أثرهم، فأجفلوا ثانيا خوفا منه، لأنهم كانوا له ولإخوته رعيّة. ولما أجفلوا سلك بهم الدليل في الجبال على الزّوزان [1] ، وأسهلوا إلى جزيرة ابن عمر، فسار بعضهم إلى ديار بكر، ونهبوا قزوين ويا زيدي [2] والحسنية، وبقي آخرون بالجانب الشرقي من الجزيرة، وسار آخرون إلى الموصل. وكان سليمان بن نصير الدولة قيّما بها فراسلهم في الصلح على أن يسير معهم إلى الشام فقبلوا. ثم صنع سليمان صنيعا ودعا إليه ابن غرغلي [3] وقبض عليه وحبسه. وأجفل الغز في كل ناحية واتبعهم عساكر نصير الدولة وقرواش والأكراد البثنويّة [4] . ثم قصدت العرب العراق للمشتى،   [1] وفي نسخة أخرى الزوزون. [2] بازبدى: ابن الأثير ج 9 ص 386. [3] غزغلي: ابن الأثير ج 9 ص 386. [4] البشنوية: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وعاد الغزّ الى جزيرة ابن عمر فحصروها، وخرّبوا ديار بكر نهبا وقتلا. وصانعهم نصير الدولة بإطلاق منصور بن غرغلي الّذي حبسه سليمان فلم يكف إطلاقه من فسادهم، وساروا إلى نصيبين وسنجار والخابور، ودخل قرواش الموصل كما نبهنا، واتبعه طائفة منهم فكان من خبره معهم ما قدّمناه في أخباره. (مسير الروم الى بلد ابن مروان ثم فتح الرها) ولما كانت الدعوة العلويّة قد انتشرت في الشام والجزيرة، وكان سبب ذلك أنّ وثّابا النميريّ صاحب حرّان والرقّة يخطب لهم، فلمّا ولي الوزيري للعلويّين على الشام، بعث إلى ابن مروان بالتهديد، وأنه يسير إلى بلاده، فاستمدّ ابن مروان قرواش صاحب الموصل وشبيب بن وثّاب صاحب الرقّة، ودعاهما إلى الموافقة، وقطع الدعوة العلويّة، فأجابوه وخطبوا للقائم وقطعوا الخطبة للمستنصر، وذلك سنة ثلاثين وأربعمائة. فقام الوزيري في ركائبه وتهدّدهم، وأعاد ابن وثّاب خطبة العلويّة بحرّان في ذي الحجة آخر السنة. (مقتل سليمان بن نصير الدولة) كان نصير الدولة قد ولّى ابنه سليمان، (ويكنّى أبا حرب) الأمور وكان يحاوره في الجزيرة بشرموشك بن المحلي زعيم الأكراد في حصون له هنالك منيعة، ووقعت بينهما منافرة. ثم استماله سليمان ومكر به، وكان الأمير أبو طاهر البثنويّ صاحب قلعة فنك وغيرها، وهو ابن أخت نصير الدولة، وكان صديقا لسليمان فكان مما استماله به موشك أن زوّجه بابنة أبي طاهر فاطمأن موشك إلى سليمان، وسار إلى غزو الروم بأرمينية. وأمدّه نصير الدولة ابن مروان بالعساكر والهدايا، وقد كان خطب له من قبل ذلك، وأطاعه فشفع عنده في موشك فقتله سليمان، وقال لطغرلبك أنه مات. وشكر له أبو طاهر حيث كان صهره واتخذها ذريعة إلى قتله، فخافه سليمان، وتبرّأ إليه مما وقع فأظهر القبول، وطلب الاجتماع من حصنه فنك لذلك. وخرج سليمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 إليه في قلّة من أصحابه فقتله عبيد الله وأدرك من ثأر أبيه وبلغ الخبر إلى نصير الدولة فبادر بابنه نصير، وبعث معه العساكر لحماية الجزيرة. وسمع قريش بن بدران صاحب الموصل فطمع في ملك جزيرة ابن عمر فسار إليها، واستمال الأكراد الحسنية والبثنوية، واجتمعوا على قتال نصير بن مروان فأحسن المدافعة عن بلده، وقاتلهم وجرح قريش جراحا عديدة، ورجع إلى الموصل وأقام نصير بن مروان بالجزيرة والأكراد على خلافه. (مسير طغرلبك الى ديار بكر) ولما انصرف طغرلبك من الموصل وملكها وفرّ قريش عنها ثم عاود الطاعة وذلك سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، فسار طغرلبك بعدها إلى ديار بكر وحاصر جزيرة ابن عمر. وكان ابن مروان في خدمته وهداياه مترادفة عليه في مسيره، الى الموصل وعوده. فبعث إليه بالمال مفاداة عن الجزيرة، ويذكر ما هو بصدده من الجهاد وحماية الثغر فأفرج عنه طغرلبك، وسار إلى سنجار كما ذكرناه في أخبار قريش. (وفاة نصير الدولة [1] بن مروان وولاية ابنه نصر) وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة توفي نصير الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر، وكان لقبه القادر باللَّه، ومات لاثنتين وخمسين سنة من ولايته. وكان قد عظم استيلاؤه، وتوفّرت أمواله، وحسّن في عمارة الثغور وضبطها أثره [2] . وكان يهادي السلطان طغرلبك بالهدايا العظيمة، ومنها حبل الياقوت الّذي كان لبني بويه، اشتراه من أبي منصور بن جلال الدولة، وأرسل معه مائة ألف دينار فحسنت حاله عنده وكان يناغي [3] عظماء الملوك في الترف، فيشتري الجارية بخمسمائة دينار   [1] نصر الدولة بن مروان: ابن الأثير ج 10 ص 17/ المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 180. [2] الأصح أن يقول: وحسن اثره في عمارة الثغور وضبطها. [3] بمعنى يضاهي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 وأكثر. واجتمع عنده منهنّ للافتراش والاستخدام أزيد من ألف. واقتنى من الأواني والآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار. وجمع في عصمته بنات الملوك، وأرسل طبّاخين الى الديار المصرية، وأنفق عليهم جملة حتى تعلموا الطبخ هنالك. ووفد عليه أبو القاسم بن المغربي من أهل الدولة العلويّة بمصر، وفخر الدولة بن جهير من الدولة العبّاسيّة، فأقبل عليهما واستوزرهما. ووفد عليه الشعراء فوصلهم، وقصده العلماء فحمدوا عنده مقامهم، ولما توفي في [1] كان الظفر فيها لنصر واستقرّ بميّافارقين ومضى أخوه سعيد إلى آمد فملكها واستقرّ الحال بينهما على ذلك. (وفاة نصر بن نصير الدولة وولاية ابنه منصور) ثم توفي نظام الدين نصر بن نصير الدولة في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وولي ابنه منصور، ودبّر دولته ابن الأنباري، ولم يزل في ملكه إلى أن قدم ابن جهير وملك البلاد من يده. (مسير ابن جهير إلى ديار بكر) كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من أهل الموصل، واستخدم لجارية قراوش ثم لأخيه بركة، وسار عنه بالعوائد إلى ملك الروم. ثم استخدم لقريش بن بدران وأراد حبسه، فاستجار ببعض بني عقيل، ومضى إلى حلب فوزر لمعزّ الدولة أبي ثمال بن صالح. ثم مضى إلى عطيّة ولحق منها بنصير الدولة بن مروان، واستوزره وأصلح حال دولته. ولما توفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة دبّر أمر ابنه نصر القائم بعده. ثم هرب إلى بغداد سنة أربع وخمسين وأربعمائة استدعى منها للوزارة فوزر بعد محمد بن منصور بن دؤاد. ثم تداول العزل والولاية مرّات هو وابنه عميد الملك، واستخدم لنظام الملك والسلطان طغرلبك. وكان شفع عند الخليفة، فلما   [1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد مكان وفاته. وقد ذكر أبي الفداء في كتابه المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 180 ذكر وفاته سنة 453 وكذلك ابن الأثير ج 10 ص 17. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 عزل ابنه آخرا بعث عنه السلطان ونظام الملك وعن ابنه وجميع أقاربه، وسار إليه بأصفهان ولقاه مبرة وتكريما. وبعثه في العساكر لفتح ديار بكر، وأخذها من يد بني مروان، وأعطاه الآلات وأذن له أن يخطب لنفسه بعد السلطان، وينقش اسمه على السكّة فسار لذلك سنة ست وسبعين وأربعمائة. (استيلاء ابن جهير على آمد) قد ذكرنا مسير فخر الدولة بن جهير في العساكر إلى ديار بكر، ثم أمدّه السلطان سنة سبع وسبعين وأربعمائة بأرتق بن أكسك [1] في العساكر. واستنجد نصر بن مروان شرف الدولة مسلم بن قريش على أن يعطيه آمد فأنجده، وسار لمظاهرته فأقصر فخر الدولة بن جهير عن حربهم عصبة للعرب. وخالفه أرتق وسار في الترك إليهم وهزمهم، ولحق مسلم بآمد وحاصره بها فبذل المال لأرتق. وخلص من أمره، ولحق بالرقّة وسار ابن جهير إلى ميّافارقين فرجع عنه منصور بن مزيد وابنه صدقة ومن معهما من العرب. وسار فخر الدولة المعروف بالقرم فنزل عليها، وشدّ حصارها ونزل يوما بعض الحامية من السور، وأخلى مكانه فوقف فيه بعض العامّة، ونادى بشعار السلطان، واتبعه سائر الحامية بالسور. وبعثوا إلى زعيم الرؤساء ابن جهير فركب إليهم وملك البلد. وذلك سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ونصب أهل البلد بيوت النصارى الذين كانوا يستخدمون لبني مروان في الجبايات، وانتقموا منهم، والله أعلم. (استيلاء ابن جهير على ميافارقين وجزيرة ابن عمر وانقراض دولة بني مروان) كان فخر الدولة بن جهير لما بعث ابنه إلى آمد، سار هو إلى ميّافارقين، وأقام على حصارها منذ سنة سبع وسبعين وأربعمائة وجاءه سعد الدولة كوهرايين مددا واشتدّ الحصار، وانثلم السور في بعض الأيام فنادى أهلها بشعار ملك شاه. ودخل فخر   [1] أرتق بن اكسب: ابن الأثير ج 10 ص 134، أما ابو الفداء فقد ذكر اسمه كما ذكره ابن خلدون. ج 2 ص 197. ابن خلدون م 27 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 الدولة وملك البلد، واستولى على أموال بني مروان وذخائرهم، وبعثها إلى السلطان ملك شاه مع ابنه زعيم الرؤساء، فوصل أصفهان في شوّال سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وسار فخر الدولة وكوهرايين إلى بغداد، وكان قد بعث عسكرا لحصار جزيرة ابن عمر، فحصروها، وثار بها أهل بيت من أعيانها يعرفون ببني رهان، وفتحوا بابا صغيرا للبلد كان منفذا للرجّالة، وأدخلوا العسكر منه، وملكوه بدعوة السلطان ملك شاه. وانقرضت دولة بني مروان ولحق منصور بن نظام الدين نصر بن نصير الدولة بالجزيرة، وأقام في إيالة الغزّ. ثم قبض عليه جكرمش وحبسه بدار يهودي فمات بها سنة تسع وثمانين وأربعمائة والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن دولة بني الصفار ملوك سجستان المتغلبين على خراسان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم) كان أهل هذه الدولة قوما اجتمعوا بنواحي سجستان، ونصّبوا لقتال الخوارج الشّراة بتلك الناحية عند ما اضطربت الدولة ببغداد لقتل المتوكّل، وسمّوا أنفسهم المتطوّعة، وكان اجتماعهم على صالح بن نصر الكناني، ويقال له صالح المتطوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث الصفّار وغلبوا على سجستان وملكوها. ثم سار إليهم طاهر بن عبد الله أمير خراسان وغلبهم عليها وأخرجهم منها. ثم هلك صالح أثر ذلك، وقام بأمره في المتطوّعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث قائده، وكان درهم مضعّفا فتحيّل صاحب خراسان عليه حتى ظفر به، وبعثه إلى بغداد فحبس بها، واجتمع المتطوّعة على يعقوب بن الليث قائده، وكان درهم يكاتب المعتزّ يسأله ولايتها، وأن يقلّده حرب الخوارج فكتب له بذلك، وأحسن الغناء في حرب الشّراة، وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم سار من سجستان إلى خراسان سنة ثلاث وخمسين ومائتين وعلى الأنبار ابن أوس فجمع لمحاربة يعقوب. وسار إليهم في التعبية، فاقتتلوا وانهزم ابن أوس، وملك يعقوب هراة وبوشنج، وعظم أمره، وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطراف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 (استيلاء يعقوب الصفّار على كرمان ثم على فارس وعودها) كان على فارس علي بن الحسين بن شبل، وكتب إلى المعتز يطلب كرمان، ويذكر عجز ابن طاهر عنها. وكان قد أبطأ عن حرب الخوارج فكتب له المعتز بولاية كرمان، وكتب ليعقوب الصفّار أيضا بولايتها بقصد التضريب بينهما لتتمحّص طاعتهما أو طاعة أحدهما. فأرسل علي بن الحسين من فارس على كرمان طوق بن المفلّس من أصحابه فسبق إليه يعقوب وملكها. وجاء يعقوب فأقام قريبا منها شهرين يترقّب خروج طوق إليه. ثم ارتحل الى سجستان ووضع طوق أوزار الحرب، وأقبل على اللهو واتصل ذلك بيعقوب في طريقه فكرّ راجعا، وأغذّ السير ودخل كرمان، وحبس طوقا. وبلغ الخبر إلى عليّ بن الحسين وهو على شيراز فجمع عسكره ونزل مضيق شيراز. وأقبل يعقوب حتى نزل قبالته، والمضيق متوعّر بين جبل ونهر ضيّق المسلك بينهما فاقتحم يعقوب النهر بأصحابه، وأجاز إلى علي بن الحسين وأصحابه فانهزموا. وأخذ عليّ بن الحسين أسيرا، واستولى على سواده، ودخل شيراز وملكها وجبى الخراج وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين وقيل قد وقع بينهما بعد عبور النهر حروب شديدة، وانهزم آخرها عليّ وكان عسكره نحوا من خمسة عشر ألفا من الموالي والأكراد، فرجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم، وازدحموا في الأبواب، وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف. ثم افترقوا في نواحي فارس وانتهبوا الأموال. ولما دخل يعقوب شيراز وملك فارس امتحن عليا وأخذ منه ألف بدرة ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحصى، وكتب للخليفة بطاعته، وأهدى هدية جليلة منها عشرة بازات بيض، وباز أبلق صيني، ومائة نافجة من المسك، وغير ذلك من الطرف، ورجع إلى سجستان ومعه علي وطوق في اعتقاله، ولما فارق فارس بعث المعتز عماله إليها. (ولاية يعقوب الصفار على بلخ وهراة) ولما انصرف يعقوب عن فارس ولّى عليها المعتز من قبله، والخلفاء بعده، وليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 الحرث بن سيما، فوثب به محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي من رجال العرب، وأحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها فقتلاه، واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين ومائتين وأظهر دعوة المعتمد، وبعث عليها المعتمد الحسين بن الفيّاض، فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين ومائتين. وكتب إليه المعتمد بالنكير على ذلك. وبعث إليه الموفّق بولاية بلخ وطخارستان فملكها، وخرّب المباني التي بناها داود بن العبّاس بظاهر بلخ، وتسمّى بأساديانج. ثم سار إلى كابل واستولى عليها، وقبض على رتبيل [1] ، وبعث بالأصنام التي أخذها من كابل، وملّك البلاد إلى المعتمد. وأهدى إليه هدية جليلة المقدار، وعاد إلى بست معتزما على العود إلى سجستان فاحفظه بعض قوّاده بالرحيل قبله فغضب، وأقام منه إلى سجستان. ثم سار إلى خراسان وملك هراة. ثم إلى بوشنج فملكها وقبض على عاملها الحسين بن علي بن طاهر الكبير، وكان كبير بيتهم، وشفع له فيه محمد بن طاهر صاحب خراسان فأبى من إسعافه، وبقي في قلبه، وولّى على هراة وبوشنج وباذغيس ورجع إلى سجستان. (استيلاء الصفار على خراسان وانقراض أمر بني طاهر) كان بسجستان عبد الله السجزيّ ينازع يعقوب بن الليث، فلمّا قوي يعقوب واستفحل، سار عبد الله إلى خراسان، وطمع في ملكها، وحاصر محمد بن طاهر في كرسيّ ولايته نيسابور. ثم تردّد الفقهاء بينهم في الصلح حتى تمّ بينهما، وولّاه محمد الطبسين وقهستان. ثم بعث يعقوب إلى محمد في طلبه فأجاره، وأحفظ ذلك يعقوب فسار إلى محمد بنيسابور، فخام محمد عن لقائه. ونزل يعقوب بظاهر نيسابور، وخرج إليه قرابة محمد وعمومته وأهل بيته، ودخل نيسابور واستعمل عليها، وذلك سنة تسع وخمسين ومائتين. وكتب إلى المعتمد بأنّ أهل خراسان استدعوه لعجز ابن طاهر وتفريطه في أمره. وغلبه العلويّ على طبرستان فكتب إليه المعتمد بالنكير والاقتصار على ما بيده، وإلّا سلك به سبيل المخالفين. وقيل في ملكه نيسابور غير   [1] زنبيل: ابن الأثير ج 7 ص 247. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 ذلك، وهو أنّ محمد بن طاهر لما أصاب دولته العجز والإدبار، كاتب بعض قرابته يعقوب بن الليث الصفّار، واستدعوه فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحيته موريا بقصد الحسن بن زيد في طبرستان. وأنّ المعتمد أمره بذلك، وأنه لا يعرض لشيء من أمر خراسان. وبعث بعض قوّاده عينا عليه، وعنّفه على الإهمال والعجز، وقبض على جميع أهل بيته نحوا من مائة وستين رجلا وحملهم جميعا إلى سجستان وذلك لإحدى عشرة سنة من ولاية محمد. واستولى يعقوب على خراسان وهرب منازعة عبد الله السجزيّ إلى الحسين بن يزيد صاحب طبرستان، وقد كان ملكها من لدن سنة إحدى وخمسين ومائتين، فأجاره الحسين وسار إليه يعقوب سنة ستين ومائتين، وحاربه فانهزم الحسين الى أرض الديلم، واعتصم بجبار طبرستان وملك يعقوب سارية وآمد ورجع في طلب السّجزيّ إلى الريّ وتهدد العامل على دفعه إليه فبعث به وقتله يعقوب. (استيلاء الصفار على فارس) تقدّم لنا تغلّب محمد بن واصل على فارس سنة ست وخمسين ومائتين ومسير الصفّار إليه سنة سبع وثلاثمائة ورجوعه عنها، وأنه أعاضه عنها ببلخ وطخارستان. ثم إن المعتمد أضاف فارس إلى موسى بن بغا مع الأهواز والبصرة والبحرين واليمامة، وما بيده من الأعمال، فولّي موسى على فارس من قبله عبد الرحمن بن مفلح وبعثه إلى الأهواز وامدّه بطاشتمر. وزحفوا إلى ابن واصل وسار لحرب موسى بن بغا بواسط، فولى على الأهواز مكانه أبا الساج وأمره بمحاربة الزنج فبعث صهره عبد الرحمن لذلك، فلقيه عليّ بن أياز قائد الزنج، وهزمه وقتل. وملك الزنج الأهواز وعاثوا فيها وأديل من أبي الساج بإبراهيم بن سيما، وسار لحرب ابن واصل، واضطربت الناحية على موسى بن بغا فاستعفى من ولايتها، وأعفاه المعتمد وطمع يعقوب الصفار في ملك فارس، فسار من سجستان ممدا، ورجع ابن واصل من الأهواز إليه، وترك محاربة ابن سيما، وأغذّ السير ليفجأه على بغتة، ففطن له الصفّار وسار إليهم وفد أعيوا وتعبوا من شدّة السير والعطش، ولما تراءى الجمعان تخاذل أصحاب ابن واصل وانهزموا من غير قتال، وغنم الصفّار في معسكره وما كانوا أصابوا لابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 مفلح، واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العمّال وأوقع بأهل ذمّ [1] لإعانتهم ابن واصل، وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها. (حروب الصفار مع الموفق) ولما ملك الصفّار خراسان من يد ابن طاهر وقبض عليه وملك فارس من يد ابن واصل، وكان المعتمد نهاه عن تلك، فلم ينته، صرّح المعتمد بأنه لم يولّه، ولا فعل ما فعل بإذنه، وأحضر حاجّ خراسان وطبرستان والري، وخاطبهم بذلك فسار الصفّار الى الأهواز سنة اثنتين [2] أصحابه الذين أسروا بخراسان، فأبى إلّا العزم على الوصول إلى الخليفة ولقائه، وبعث حاجبه درهما يطلب ولاية طبرستان وخراسان وجرجان والريّ وجارس [3] والشرطة ببغداد، فولّاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى سجستان وكرمان. وأعاد حاجبه بذلك، ومعه عمرو بن سيما فكتب يقول: لا بدّ من الحضور بباب المعتمد، وارتحل من عسكر مكرم جائيا. وخرج أبو الساج من الأهواز لتلقّيه لدخول الأهواز في أعماله، فأكرمه ووصله. وسار إلى بغداد ونهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانيّة، ووافاه مسرور البلخيّ من مكانه من مواجهة الزنج، وجاء يعقوب إلى واسط فملكها، ثم سار منها إلى دير العاقول، وبعث المعتمد أخاه الموفّق لمحاربته وعلى ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته موسى البلخيّ، فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة الموفّق وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد. ثم تزاحفوا واشتدّت الحرب وجاء للموفّق محمد بن أوس والدراني [4] مددا من المعتمد، وفشل أصحاب الصفّار، ولما رأوا مدد الخليفة انهزموا، وخرج الصفّار، واتبعهم أصحاب الموفّق، وغنموا من عسكره نحوا من   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 277 زمّ. وهي مدينة ذمّي من قرى سمرقند ينسب اليها أحمد بن محمد السقر الدهقان (معجم البلدان) . [2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 290 يذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 262 فيقول: «فعاد الرسل من عند يعقوب يقولون: إنه لا يرضيه ما كتب به دون ان يسير إلى باب المعتمد» . [3] هي فارس كما في الكامل ج 7 ص 290. [4] الديراني: المرجع السابق. ص 291. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 عشرة آلاف من الظهر، ومن الأموال والمسك ما يؤد [1] حمله. وكان محمد بن طاهر معتقلا في العسكر منذ قبض عليه بخراسان، فتخلّص ذلك اليوم، وجاء إلى الموفّق، وخلع عليه وولّاه الشرطة ببغداد. وسار الصفّار إلى خوزستان فنزل جنديسابور، وراسله صاحب الزنج على الرجوع، ويعده المساعدة فكتب له: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» 109: 1- 2 السورة. وكان ابن واصل قد خالف الصفّار إلى فارس وملكها، فكتب إليه المعتمد بولايتها، وبعث إليه الصفّار جيشا مع عمر بن السري من قواده، فأخرجه عنها وولّى على الأهواز محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي. ثم رجع المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط، واعتزم الموفّق على إتباع الصفّار فقعد به المرض عن ذلك. وعاد إلى بغداد ومعه مسرور البلخي، وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وقدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد. (انتقاض الخجستاني بخراسان على يعقوب الصفار وقيامه بدعوة بني طاهر) كان من أصحاب محمد بن طاهر ورجالاته أحمد بن عبد الله بن خجستان، وكان متولّيا على وهي من جبال سراة وأعمال باذغيس. فلما استولى الصفّار على نيسابور وخراسان، انضم أحمد هذا إلى أخيه علي بن الليث، وكان شركب الحمّال قد تغلّب على مرو ونواحيها سنة تسع وخمسين ومائتين وتغلّب على نيسابور سنة ثلاث وستين ومائتين وأخرج منها الحسين بن طاهر، وكان لشركب ثلاثة من الولد: إبراهيم وهو أكبرهم، وأبو حفص يعمر، وأبو طلحة منصور، وكان إبراهيم قد أبلى في واقعة المغار مع الحسن بن زيد بجرجان، فقدّمه الصفّار، وحسده أحمد الخجستاني فخوّفه عادية الصفّار، وزيّن له الهرب. وكان يعمر أخوه محاصرا لبعض بلاد بلخ، فاتفق إبراهيم وأحمد الخجستاني في الخروج إلى يعمر، وسبقه إبراهيم إلى الموعد ولم يلقه فسار إلى سرخس. ولما عاد الصفّار إلى سجستان سنة إحدى وستين ومائتين ولّى   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 296: «كان احمد بن عبد الله الخجستاني من خجستان وهي من جبال هراة من اعمال باذغيس» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 على هراة أخاه عمرو بن الليث فاستخلف عليها طاهر بن حفص الباذغيسيّ، وجاء الخجستاني إلى علي بن الليث وزيّن له أن يقيم بخراسان نائبا عنه في أموره وأقطاعه، فطلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له. فلمّا ارتحلوا عن خراسان جمع أحمد الخجستاني وأخرج علي بن الليث من بلده سنة إحدى وستين ومائتين وملك تونس [1] وأعاد دعوة بني طاهر، وملك نيسابور سنة اثنتين وستين واستقدم رافع بن هرثمة من رجالات بني طاهر فجعله صاحب جيشه وسار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص وقتله، ثم قتل يعمر بن شركب، واستولى على خراسان ومحا منها دعوة يعقوب بن الليث. ثم جاء الحسن بن طاهر أخو محمد بأصفهان ليخطب له، فأبى فخطب له أبو طلحة بن شركب بنيسابور. وانتقض الخجستاني واضطربت خراسان فتنة. وزحف إليها الحسن بن زيد فقاتلوه وهزموه. ثم ملك نيسابور من يد عمرو بن الليث، وترك الخطبة لمحمد بن طاهر، وخطب للمعتمد ولنفسه من بعده كما هو مشروح في أخبار الخجستانيّ. (استيلاء الصفار على الأهواز) قد تقدّم لنا استيلاء الصفّار على فارس بعد خراسان. ثم سار منها إلى الأهواز وكان أحمد بن لسوقة قائد مسرور البلخي على الأهواز قد نزل تستر، فرحل عنها ونزل يعقوب جنديسابور وفرّت عساكر السلطان من تلك النواحي. وبعث يعقوب بالخضر ابن العين [2] إلى الأهواز وعليّ بن أبان والزنج يحاصرونها، فتأخروا عنها إلى نهر السّدرة، ودخل الخضر الأهواز وملكها بدعوة الصفّار. وكان عسكره وعسكر الزنج يغير بعضهم على بعض. ثم أوقع الزنج بعسكره ولحق الخضر بعسكر مكرم،   [1] لعلها قومس لأنه ليس لتونس اي مكان في هذه الأحداث. وقومس في الإقليم الرابع وهو تعريب كومس: وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع، وهي في ذيل جبال طبرستان.. (معجم البلدان) . [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 307: «وفيها- 263- اقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما بلغ النّوبندجان انصرف احمد بن الليث عن تستر، فلما بلغ يعقوب جنديسابور ونزلها، ارتحل عن تلك الناحية كل من بها من عسكر الخليفة ووجّه إلى الأهواز رجلا من أصحابه يقال له الخضر بن العنبر» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 واستخرج ابن أبان ما كان في الأهواز، ورجع إلى نهر السّدرة، وبعث يعقوب الأمداد إلى الخضر، وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز فوادع الزنج، وشحن الأهواز بالأقوات وأقام. (وفاة يعقوب الصفّار وولاية عمرو أخيه) ثم توفي يعقوب الصفّار في شوّال سنة خمس وستين بعد أن افتتح الزنج [1] ، وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده. وكانت مملكة واسعة الحدود. وافتتح زابلستان وهي غزنة وأعمالها. وكان المعتمد قد استماله وولّاه على سجستان والسّند. ثم تغلّب على كرمان وخراسان وفارس، وولّاه المعتمد على جميعها. ولما مات قام مكانه أخوه عمرو بن الليث، وكتب إلى المعتمد بطاعته، فولّاه الموفّق من قبل أعمال أخيه، وهي خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد. وبعث إليه بالخلع، فولّى عمرو بن الليث على الشرطة ببغداد وسرّ من رأى من قبله عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. وخلع عليه الموفّق وعمرو بن الليث وولّى على أصفهان من قبله أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف. وولّى على طريق مكة والحرمين محمد بن أبي الساج. (مسير عمرو بن الليث الى خراسان لقتال الخجستاني) قد تقدّم ذكر الخجستاني وتغلّبه على نيسابور وهراة بدعوة بني طاهر سنة اثنتين وستين ومائتين فلما توفي يعقوب سار عمرو إلى خراسان سنة خمس وستين ومائتين واستولى على هراة. وسار الخجستاني بنيسابور فقاتله فانهزم عمرو، ورجع إلى هراة. وكان الفقهاء بنيسابور يشيعون لعمور لولاية الخليفة إياه، فأوقع الخجستاني الفتنة بينهم بالميل إلى بعضهم، وتكرمتهم عن بعض ليشغلهم بها. ثم سار إلى هراة سنة سبع   [1] الزنج: من قرى نيسابور (معجم البلدان) وفي الكامل أنه افتتح الرّخج، وقتل ملكها، وأسلم أهلها على يده. ج 7 ص 326. والرّخج: كورة ومدينة من نواحي كابل (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 وستين ومائتين، وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر بشيء فتركه، وخالفه إلى سجستان. ووثب أهل نيسابور بنائبه عليهم، وأمدّهم عمرو بن الليث بجنده فقبضوا على نائب الخجستاني وأقاموا بها. ورجع الخجستاني من سجستان فأخرجهم وملكها. وكان أبو منصور طلحة بن شركب محاصرا لبلخ من قبل ابن طاهر، وكاتبه عمرو بن الليث واستقدمه، وأعطاه أموالا واستخلفه على خراسان، ورجع إلى سجستان. وبقي أبو طلحة بخراسان والخجستاني يقاتله إلى أن قتل الخجستاني سنة ثماني وستين ومائتين قتله بعض مواليه كما مر في أخباره مع رافع بخراسان. كان رافع بن هرثمة من قوّاد بني طاهر بخراسان، فلمّا ملكها يعقوب سار إليه واستقرّ في منزله بتامين من قرى باذغيس. فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش على رافع وهو بهراة فأقرّوه عليهم. وكان أبو طلحة بن شركب قد سار من جرجان إلى نيسابور. فسار إليه رافع وحاصرها، وخرج عنها أبو طلحة إلى مرو، وخطب بها وبهراة لمحمد بن طاهر، وولّى على هراة من قبله. ثم زحف إليه عمرو بن الليث فغلبه عليها، وولّى عليها محمد بن سهل بن هاشم. ورجع وبعث أبو طلحة إلى إسماعيل بن أحمد يستنجده فأنجده بعسكر سار بهم إلى مرو، وأخرج منها محمد بن سهل وخطب لعمرو بن الليث وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. ثم عزل المعتمد عمرو بن الليث عن سائر أعمال خراسان وقلّدها الموفّق محمد بن طاهر، وهو مقيم ببغداد، فاستخلف محمد عليها رافع بن هرثمة، وأقرّ نصر بن محمد أحمد الساماني على ما وراء النهر، فسار رافع إلى إسماعيل يستنجده على أبي طلحة فجاءه في أربعة آلاف مددا. واستقدم رافع أيضا عليّ بن الحسين المروروذي، وساروا جميعا إلى أبي طلحة وهو بمرو سنة اثنتين وسبعين ومائتين وغلبوه عليها ولحق بهراة، وعاد إسماعيل إلى خوارزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور. (حروب عمرو مع عساكر المعتمد ومع الموفق) ولما عزل المعتمد عمرو بن الليث عن خراسان أمر بلعنه على المنابر، وأعلم حاجّ خراسان بذلك، وقلّد محمد بن طاهر أعمالها فاستخلف عليها رافع بن الليث، وكتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بعزله عن أصفهان والريّ. وبعث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 إليه العساكر لقتاله سنة إحدى وسبعين ومائتين فزحف إليه عمرو في خمسة عشر ألفا من المقاتلة فهزمه أحمد بن عبد العزيز والعساكر واستباحوا معسكره، ودفعوه عن أصفهان والري. وكان المعتمد لمّا عزله ولعنه بعث صاعد بن مخلّد في العساكر إلى فارس لقتال عمرو بن الليث وإخراجه من فارس، فسار لذلك ولم يظفر. ورجع سنة اثنتين وسبعين ومائتين. ثم سار الموفّق سنة أربع وسبعين ومائتين إلى فارس لحرب عمرو ابن الليث، فسيّر عمرو قائده عبّاس بن إسحاق إلى شيراز، وابنه محمد بن عمرو إلى أرّجان وبعث على مقدّمته أبا طلحة بن شركب صاحب جيشه، فاستأمن أبو طلحة إلى الموفّق وفتّ ذلك في عضد عمرو، وخام عن لقائه. وسار الموفّق إلى شيراز وارتاب بأبي طلحة فقبض عليه، وملك الموفّق فارس، وعاد عمرو إلى كرمان فسار الموفّق في طلبه، فلحق بسجستان على المفازة، وتوفي ابنه محمد بن عمرو بها. وامتنعت كرمان وسجستان على الموفّق فعاد إلى بغداد. وارتاب عمرو بن الليث بأخيه عليّ فحبسه بكرمان، وحبس معه ابنه المعدل والليث فهربوا من محبسهم، ولحقوا برافع ابن الليث عند ما ملك طبرستان وجرجان من محمد بن زيد العلويّ سنة سبع وسبعين ومائتين فأقاموا عنده، وهلك عليّ بن الليث وبقي ولداه عنده. ثم رضي المعتمد عن عمرو بن الليث وولّاه الشرطة ببغداد، وكتب اسمه على الأعلام والترسة سنة ست وسبعين ومائتين واستخلف في الشرطة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، ثم سخطه لسنة ومحا اسمه من الأعلام. (ولاية عمرو بن الليث على خراسان ثانيا ومقتل رافع بن الليث) ثم سخط المعتمد رافع بن الليث لامتناعه عن تخلية قرى السلطان بالريّ بعد أن أمره بذلك، فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع وإخراجه عن الريّ. وكتب إلى عمرو بن الليث بولاية خراسان. وحارب أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين ومائتين فقاتل أخويه عمر وبكر ابني عبد العزيز فهزمهما إلى أصفهان، وأقام بالري باقي سنته. ثم سار إلى أصفهان فملكها سنة إحدى وثمانين ومائتين وعاد إلى جرجان، ووافى عمرو بن الليث خراسان واليا عليها بجموعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وتورّط رافع بن الليث ورجع إلى مصالحة محمد بن زيد، ويعيد إليه طبرستان فصالح محمد بن زيد، وخطب له بطبرستان سنة اثنتين وثمانين ومائتين على أن يمدّه بأربعة آلاف من الديلم. وسار عن طبرستان إلى نيسابور سنة ثلاث وثمانين ومائتين فحاربه عمرو وهزمه إلى أبيورد، وأخذ منه المعدل والليث ابني أخيه. ثم أراد رافع المسير إلى هراة فأخذ عليه عمرو الطريق لسرخس وسرّب رافع في المضايق ونكب عن جمهور الطريق فدخل نيسابور وحاصره فيها عمرو بن الليث. ثم برز للقائه واستأمن بعض قوّاد رافع إلى عمرو، فانهزم رافع وأصحابه. وبعث إلى محمد بن وهب [1] يسنمدّه كما شرط له. وكان عمرو قد حذّر محمد بن زيد من إمداده فأقصر من ذلك. وتفرّق عن رافع أصحابه وغلمانه، وكانوا أربعة آلاف غلام. وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن إسماعيل بن سمّان ببخارى، وخرج رافع منهزما إلى خوارزم في فلّ من العسكر، وحمل بقية المال والآلة، وذلك في رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين. فلما رآه صاحب خوارزم أبو سعيد الغرغاني في قلة من العسكر، غدر به وقتله في أوّل شوّال، وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور فأنفذه عمرو إلى بغداد. فكتب إليه المعتضد بولاية الريّ مضافة إلى خراسان، وأنفذ له الألوية والخلع سنة أربع وثمانين ومائتين. (استيلاء بني سامان على خراسان وهزيمة عمرو بن الليث وحبسه ثم مقتله) لما بعث عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة إلى المعتضد، طلب ولاية ما وراء النهر فولّاه وبعث إليه بالخلع واللواء، فسرّح عمرو الجيوش من نيسابور مع قائده محمد بن بشير وغيره من قوّاده لمحاربة إسماعيل بن أحمد، وانتهوا إلى آمد فعبر إسماعيل جيحون وهزمهم، وقتل محمد بن بشير وغيره من قوّاده، ورجع الفلّ إلى عمرو بنيسابور. وعاد إسماعيل إلى بخارى وتجهّز [2] للسير إلى إسماعيل، وسار إلى بلخ. وبعث إليه   [1] هو محمد بن زيد كما تقدم من قبل وكما يظهر فيما بعد وفي الطبري ج 11 ص 348: محمد بن زيد الطالبي. وفي الكامل ج 7 ص 483: محمد بن زيد العلويّ. [2] يبدو أنه سقطت كلمة عمرو. كما يقتضي سياق المعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 إسماعيل: إنك قد حزت الدنيا العريضة فاتركني في هذا الثغر فأبى. وعبر إسماعيل وأخذ عليه الجهات فصار محصورا، وندم وطلب المحاجزة فأبى إسماعيل، وقاتله فانهزم عمرو ونكب عن طريق العسكر إلى مضيق ينفرد فيه وتوارى في أجمة فوحلت به دابته، ولم يتفطّن له أصحابه، فأخذ أسيرا وبعث به إسماعيل إلى المعتضد، بعد أن خيّره فاختار المسير إليه، ووصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين وأدخل على جمل وحبس. وبعث المعتضد إلى إسماعيل بولايته خراسان إلى أن توفي المعتضد. وجاء المكتفي إلى بغداد، وكان في نفسه اصطناعه، وكره ذلك الوزير القاسم بن عبيد الله فوضع عليه من قتله سنة تسع وثمانين ومائتين. (ولاية طاهر بن محمد بن عمرو على سجستان وكرمان ثم على فارس) ولما أسر عمرو وسار إلى محبسه، قام مكانه بسجستان وكرمان حافده طاهر بن محمد ابن عمرو، وهو الّذي مات أبوه محمد بمفازة سجستان عند ما هرب عمرو أمام الموفّق من فارس، ثم سار طاهر إلى فارس، وسار إليها في الجيوش سنة ثمان وثمانين ومائتين واعترضه بدر، فعاد طاهر الى سجستان، وملك بدر فارس وجبى أموالها. ثم بعث طاهر بن محمد سنة تسع وثمانين ومائتين يطلب المقاطعة على فارس بمال يحمله، وكان المعتضد قد توفي، فعقد له المكتفي عليها، وتشاغل طاهر بالصيد واللهو، ومضى إلى سجستان فغلب على الأمر بفارس الليث ابن عمه علي بن الليث، وسبكرى مولى جدّه عمرو، وكان معهما أبو قابوس قائد طاهر، فلحق بالخليفة المكتفي وكتب طاهر ردّه بما جباه من المال، ويحتسب له من جملته فلم يجب إلى ذلك. (استيلاء الليث على فارس ثم مقتله واستيلاء سبكرى) ولما تغلّب سبكرى على فارس لحق الليث بن علي بطاهر ابن عمه وزحف طاهر إلى فارس فهزمه السبكري وأسره، وبعث به وبأخيه يعقوب إلى المقتدر سنة سبع وتسعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 ومائتين وضمن فارس بالحمل الّذي كان قرّره فولّاه على فارس. ثم زحف إليه الليث ابن علي بن الليث فملك فارس [1] الليث للقائهم وجاءه الخبر بأنّ الحسين ابن حمدان صار من قمّ مددا لمؤنس، فركب لاعتراضه، وتاه الدليل عن الطريق فأصبح على معسكر مؤنس فثاروا واقتتلوا وانهزم عسكر الليث، وأخذ أسيرا، وأشار أصحاب مؤنس بأن يقبض على سبكر معه. ويملك بلاد فارس، ويقرّه الخليفة فوعدهم بذلك، ودسّ إلى سبكرى بأن يهرب إلى شيراز. وأصبح يلوم أصحابه على ظهور الخبر من جهتهم، وعاد بالليث إلى بغداد واستولى سبكر على فارس، واستبدّ كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على أموره، فسعى فيه أصحابه عند سبكرى حتى قبض عليه، وحملوه على العصيان فمنع الحمل، فكتب هو من محبسه إلى الوزير ابن الفرات يعرّفه بأمرهم. وكتب ابن الفرات إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى فارس ويعاتبه حيث لم يقبض على سبكرى فسار مؤنس إلى الأهواز، وراسله سبكرى وهاداه. وعلم ابن الفرات بميل مؤنس إليه فأنفذ وصيفا وجماعة من القوّاد ومعهم محمد بن جعفر وأمرهم بالتعويل عليه في فتح فارس. وكتب إلى مؤنس باستصحاب الليث إلى بغداد ففعل، وسار محمد بن جعفر إلى فارس ورافع سبكرى على شيراز فهزمه، وحاصره بها وحاربه ثانية فهزمه ونهب أمواله، ودخل سبكرى مفازة خراسان فظفرت به جيوش خراسان وأسروه، وبعثوا به إلى بغداد. وولّى على فارس فتح [2] خادم الأفشين. (انقراض ملك بني الليث من سجستان وكرمان) وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين توفي فتح صاحب فارس، فولّى المقتدر مكانه عبد الله ابن إبراهيم المسمعي وأضاف إليه كرمان من أعمال بني الليث. وسار أحمد بن إسماعيل   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 56: «وفي هذه السنة- 297- سار الليث بن علي بن الليث من سجستان الى فارس في جيش فأخذها، واستولى عليها، وهرب سبكرى عنها الى أرجان. فلما بلغ الخبر المقتدر جهّز مؤنسا الخادم وسيّره الى فارس، معونة لسبكرى فاجتمعا بأرّجان، وبلغ خبر اجتماعهما الليث، فسار اليهما، فأتاه الخبر بمسير الحسين بن حمدان من قمّ الى البيضاء» . [2] قنبج: ابن الأثير ج 8 ص 58. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 ابن سامان إلى الريّ فبعث منها جيوشه إلى سجستان سنة ثمان وتسعين ومائتين مع جماعة من قواده وعليهم الحسن بن علي المروروذيّ. وكانت سجستان لما أسر طاهر سنة سبع وتسعين ومائتين ولي بها بعده الليث بن علي بن الليث. فلما أسر الليث كما تقدّم ولي بعده أخوه المعدّل بن عليّ بن الليث، فلما بلغه مسير هذه العساكر إليه من قبل أحمد ابن إسماعيل بعث أخاه أبا علي بن الليث محمد بن علي بن الليث إلى بست والرخّج ليجبيهما، ويبعث منهما إلى سجستان بالميرة، فسار إليه أحمد بن إسماعيل بن سامان، وعلى سجستان أبو صالح منصور ابن عمه إسحاق بن أحمد بن سامان لما بلغه مسير سبكر من فارس إلى سجستان في المفازة، فبعث إليه جيشا فأخذه، وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بالخبر وبالفتح، فأمره بحمل سبكر والليث، فبعث بهما إلى بغداد وحبسهما. (ثورة أهل سجستان بأصحاب ابن سامان ودعوتهم الى بني عمرو بن الليث بن الصفار ثم عودهم الى طاعة أحمد بن إسماعيل بن سامان) كان محمد بن هرمز ويعرف بالمولى الصندليّ خارجيا وهو من أهل سجستان. خرج أيام بني سامان وأقام ببخارى، وسخط بعض الأعيان بها فسار إلى سجستان، واستمال جماعة من الخوارج رئيسهم ابن الحفّار فخرجوا، وقبضوا على منصور بن إسحاق عاملهم من بني سامان وحبسوه، وولّوا عليهم عمرو بن يعقوب بن محمد بن الليث، وخطبوا له، فبعث أحمد بن إسماعيل الجيوش ثانيا مع الحسين بن علي سنة ثلاثمائة، وحاصرها ستة أشهر، ومات الصندلي فاستأمن عمرو بن يعقوب الصفّار وابن الحفّار إلى الحسين بن علي، وخرج منصور بن إسحاق من محبسه. واستعمل أحمد ابن إسماعيل على سجستان سيمجور الدواني، ورجع الحسين بالجيوش إلى الأمير أحمد ومعه يعقوب وابن الحفّار في ذي الحجة سنة ثلاثمائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 (استيلاء خلف بن أحمد بن علي على سجستان ثم انتقاضهم عليه) كان خلف بن أحمد من ذرية عمرو بن الليث الصفّار، وهو بسطة برسمه بانوا [1] ولما فشل أمر بني سامان استولى على سجستان وكان من أهل العلم ويجالسهم. ثم حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. واستخلف على أعماله طاهر بن الحسين من أصحابه. فلما عاد من الحج انتقض عليه طاهر بن الحسين من أصحابه، فسار خلف إلى بخارى مستجيشا بالأمير منصور بن سامان، فبعث معه العساكر وملك سجستان، وكثرت أمواله وجنوده. وقطع ما كان يحمله إلى بخارى، فسارت العساكر إليه ومقدّمهم [2] وحاصروا خلف بن أحمد في حصن أوّال من أمنع الحصون وأعلاها. ولما اشتدّ به الحصار وفنيت الأموال والآلات، كتب إلى نوح بن منصور صاحب بخارى بأن يستأمنه، ويرجع إلى دفع الحمل، فكتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور عامله على خراسان وقد عزل [3] بالمسير إلى حصار خلف، فسار من قهستان إلى سجستان وحاصر خلف، وكانت بينهما مودّة، فأشار عليه سيمجور بتسليم حصن أوّال [4] للحسن لتتفرّق الجيوش عنه إلى بخارى، ويرجع هو إلى شأنه مع صاحبه، فقبل خلف مشورته. ودخل سيمجور إلى حصن أوّال وخطب فيه للأمير نوح. ثم سلمه للحسن بن طاهر وانصرف إلى بخارى، وكان هذا أول وهن دخل على بني سامان من سوء طاعة أصحابهم.   [1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 8 ص 563: «وفي هذه السنة- 354- عصى أهل سجستان على أميرهم خلف بن أحمد، وكان خلف هذا هو صاحب سجستان حينئذ، وكان عالما محبا لأهل العلم، فاتّفق انه حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة» . [2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 564: «وجهّزت العساكر إليه، وجعل مقدّمها الحسين بن طاهر بن الحسين المذكور، فساروا إلى سجستان وحصروا خلف بن أحمد بحصن أرك، وهو من أمنع الحصون وأعلاها محلا وأعمقها خندقا» . [3] كان ابو الحسن بن سيمجور عامل خراسان من قبل نوح بن منصور قد عزل عن عمله. ثم أعيد إليه. ويبدو هنا انه سقط بعض الكلمات أثناء النسخ. [4] هو حصن أرك كما مرّ معنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 (استيلاء خلف بن أحمد على كرمان ثم انتزاع الديلم لها) ولما استفحل أمر خلف بسجستان حدّث نفسه بملك كرمان، وكانت في أيدي بني بويه وملكهم يومئذ عضد الدولة، فلمّا وهن أمرهم، ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة ابني عضد الدولة، جهّز العساكر إلى كرمان وعليهم عمرو ابنه وقائدهم يومئذ تمرتاش من الديلم. فلما قاربها عمرو هرب تمرتاش إلى بردشير [1] وحمل ما أمكنه، وغنم عمرو الباقي وملك كرمان وجبى الأموال. وكان صمصام الدولة صاحب فارس، فبعث العساكر إلى تمرتاش مع أبي جعفر وأمره بالقبض عليه لاتهامه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة، فسار وقبض عليه، وحمله إلى شيراز. وسار بالعساكر إلى عمرو بن خلف فقاتله عمرو بدار زين وانهزم الديلم وعادوا على طريق جيرفت، وبعث صمصام الدولة عسكرا آخر مع العبّاس بن أحمد من أصحابه، فلقوا عمرو بن خلف بالسيرجان في المحرّم سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فهزموه وعاد إلى أبيه بسجستان مهزوما، ووبّخه ثم قتله. ثم عزل صمصام الدولة العبّاس عن كرمان فأشاع خلف بأن أستاذ هرمز سمّه، واستنفر الناس لغزو كرمان، وبعثهم مع ابنه طاهر، فانتهوا إلى برماشير [2] وملكوها من الديلم، ولحق الديلم بجيرفت واجتمعوا بها، وبعثوا بها [3] إلى بردشير حامية من العسكر، وهو أصل بلاد كرمان ومصرها فحصرها طاهر ثلاثة أشهر، وضيّق على أهلها، وكتبوا إلى أستاذ هرمز يستمدّونه قبل أن يغلبهم عليها طاهر، فخاطر بنفسه، وركب إليهم المضايق والأوعار حتى دخلها، وعاد طاهر إلى سجستان واستنفر الناس لغزو الديلم بجيرفت، واجتمعوا بها وبعثوا إلى بردشير حامية من العسكر، وهو أصل بلاد كرمان، وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.   [1] بردسير: ابن الأثير ج 9 ص 82. [2] نرماسير: ابن الأثير ج 9 ص 84. [3] يبدو ان «بها» زائدة ولا لزوم لها حسب سياق المعنى. ابن خلدون م 28 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 (استيلاء طاهر بن خلف على كرمان وعوده عنها ومقتله) كان طاهر بن خلف من العقوق لأبيه على عظيم [1] وانتقض عليه وجرت بينهما وقائع كان الظفر بها لخلف، ففارق طاهر سجستان وسار إلى كرمان. وبها الديلم عسكر بهاء الدولة فصعد إلى جبالها، واحتمى بقوم هنالك كانوا عصاة، ونزل على جيرفت فملكها، ولقيه الديلم فهزمهم، واستولى على الكثير مما بأيديهم فبعث بهاء الدولة عسكرا مع أبي جعفر بن أستاذ هرمز، فغلب طاهرا على كرمان فعاد إلى سجستان، وقاتل أباه فهزمه، وملك البلاد وامتنع أبوه خلف ببعض حصونه، وكان الناس قد سئموا منه لسوء سيرته، فرجع إلى مخادعة ابنه، فتواعد اللقاء تحت القلعة، وأكمن له بالقرب كمينا، فلما لقيه الكمين واستمكن منه أبوه خلف فقتله أبوه. (استيلاء محمود بن سبكتكين على سجستان ومحو آثار بني الصفار منها) كان خلف بن أحمد قد بعث ابنه طاهرا إلى قهستان فملكها. ثم إلى بوشنج كذلك. وكانت هي وهراة لبغراجق عمّ محمود، وكان محمود مشتغلا بالفتنة مع قوّاد بني سامان، فلما فرغ منها استأذنه عمّه في إخراج طاهر بن خلف فأذن له. وسار إليه سنة تسعين وثلاثمائة ولقيه بنواحي بوشنج فهزمه، ولجّ في طلبه فكرّ عليه طاهر وقتله، فساء ذلك محمودا وجمع عساكره وسار إلى خلف بن أحمد، وحاصره بحصن أصبهيل، وضيّق عليه حتى بذل له أموالا جليلة، وأعطاه الرهن عليها فأفرج عنه. ثم عهد خلف بملكه إلى ابنه، وعكف على العبادة والعلم خوفا من محمود بن سبكتكين فلما استولى طاهر على الملك عقّ أباه وكان من أمره ما تقدّم. ولما قتل طاهر تغيّرت نيّات عساكره، وساءت فيه ظنونهم، واستدعوا محمود بن سبكتكين وملّكوه مدينتهم. وقعد خلف في حصنه وهو حصن الطاق، له سبعة أسوار محكمة، وعليها   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 166: «وكان سبب مسيره إليها- كرمان- انه قد خرج عن طاعة أبيه، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لأبيه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 خندق عتيق له جسر يرفع ويحط عند الحاجة، فحاصره محمود سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وطمّ الخندق بالأعواد والتراب في يوم واحد، وزحف لقتاله بالفيول. وتقدّم عظيمها فاقتلع باب الحصن بنابه وألقاه، وملك محمود السور الأوّل ودفع عنه أصحاب خلف إلى السور الثاني. ثم إلى الثالث كذلك فخرج خلف واستأمن. وحضر عنده محمود وخيّره في المقام حيث شاء من البلاد فاختار الجوزجان، وأقام بها أربع سنين. ثم نقل عنه الخوض في الفتنة، وأنه راسل أيلد خان يغريه بمحمود، فنقله الى جردين وحبسه لك إلى أن هلك سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وورثه ابنه أبو حفص. ولما ملك محمود سجستان واستنزل خلف من حصن الطاق، ولّى على سجستان أحمد الفتحي من قوّاد أبيه. ثم انتقض أهل سجستان فسار إليهم محمود سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في ذي الحجة، وحصرهم في حصن أوّال [1] واقتحمه عليهم عنوة وقتل أكثرهم وسبى باقيهم حتى خلت سجستان منهم، وصفا ملكها له فأقطعها أخاه نصرا مضافة إلى نيسابور، وانقرض ملك بني الصفّار وذويهم من سجستان والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن دولة بني سامان ملوك ما وراء النهر المقيمين بها الدولة العباسية وأولية ذلك ومصائره) أصل بني سامان هؤلاء من العجم، كان جدّهم أسد بن سامان من أهل خراسان وبيوتها، وينتسبون في الفرس إلى بهرام حشيش الّذي ولّاه كسرى أنوشروان مرزبان أذربيجان. وبهرام حشيش من أهل الريّ ونسبهم إليه هكذا أسد بن سامان خذاه بن جثمان بن طغان بن نوشردين بن بهرام نجرين بن بهرام حشيش. ولا وثوق لنا بضبط هذه الأسماء. وكان لأسد أربعة من الولد: نوح وأحمد ويحيى والياس، وأصل دولتهم هذه فيما وراء النهر أنّ المأمون لمّا ولي خراسان اصطنع بني أسد هؤلاء، وعرف لهم حق سلفهم واستعملهم. فلمّا انصرف إلى العراق ولّى على خراسان غسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن طاهر، مكان ابنه إسحاق ومحمد بن الياس. ثم مات   [1] حصن أرك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 أحمد بن أسد بفرغانة سنة إحدى وستين. وكان له من الولد سبعة: نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد، وكنيته أبو الأشعث، وحميد وكنيته أبو غانم. ولما توفي أحمد وكانت سمرقند من أعماله، استخلف عليها ابنه نصرا، وأقام في ولايتها أيام بني طاهر وبعدهم. وكان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أمر بني طاهر واستولى الصفّار على خراسان. (ولاية نصر بن أحمد على ما وراء النهر) ولما استولى الصفّار على خراسان، وانقرض أمر بني طاهر، عقد المعتمد لنصر بن أحمد على أعمال ما وراء النهر، فبعث جيوشه إلى شطّ جيحون مسلحة من عبور الصفّار فقتل مقدّمهم، ورجعوا إلى بخارى. وخشيهم واليها على نفسه ففرّ عنها. وولوا عليهم ثم عزلوا، ثم ولّوا ثم عزلوا، فبعث نصر أخاه إسماعيل على شط بخارى. وكان يعظم محلّه ويقف في خدمته. ثم ولّى على غزنة أبا إسحاق بن التكين. ثم ولّى على خراسان من بعد ذلك رافع بن هرثمة بولاية بني طاهر وأخرج عنها الصفّار. وحصلت بينه وبين إسماعيل أعمال خوارزم فولّاه إياها، وفسد ما بين إسماعيل وأخيه نصر، وزحف إليه سنة اثنتين وسبعين فأرسل قائده حمويه بن عليّ إلى رافع يستنجده، فسار إليه بنفسه منها، وأصلح بينهما ورجع إلى خراسان. ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين، وظفر إسماعيل بنصر. ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيل وقبّل يده وردّه إلى كرسي إمارته بسمرقند. وأقام نائبا عنه ببخارى، وكان إسماعيل خيّرا مكرما لأهل العلم والدين. (وفاة نصر بن أحمد وولاية أخيه إسماعيل على ما وراء النهر) ثم توفي نصر سنة تسع وسبعين ومائتين، وقام مكانه في سلطان ما وراء النهر أخوه إسماعيل وولّاه المعتضد، ثم ولّاه خراسان سنة سبع وثمانين ومائتين. وكان سبب ولايته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 على خراسان أنّ عمرو بن الليث كان المعتضد ولّاه خراسان. وأمره بحرب رافع بن هرثمة فحاربه وقتله، وبعث برأسه إلى المعتضد، وطلب منه ولاية ما وراء النهر، فولّاه وسير العساكر لمحاربة إسماعيل بن أحمد مع محمد بن بشير من خواصه، فانتهوا إلى آمد بشط جيحون. وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتل محمد بن بشير، ورجع إلى بخارى فسار عمرو بن الليث من نيسابور إلى بلخ يريد العبور إلى ما وراء النهر، فبعث إليه إسماعيل يستعطفه بأنّ الدنيا العريضة في يدك وإنما لي هذا الثغر فأبى ولجّ، وعبر إسماعيل النهر وأحاط به، وهو على نجد فصار محصورا وسأل المحاجزة فأبى إسماعيل وقاتله فهزمه، وأخذه بعض العسكر أسيرا، وبعث به إلى سمرقند. ثم خيّره في إنفاذه إلى المعتضد فاختاره، فبعث به إليه. ووصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين وأدخل على جمل وحبس وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بولاية خراسان كما كانت لهم فاستولى عليها، وصارت بيده. ولما قتل عمرو بن الليث طمع محمد بن زيد العلويّ صاحب طبرستان والديلم في ملك خراسان، فسار إليها وهو يظن أن إسماعيل بن أحمد لا يريدها ولا يتجاوز عمله، فلما سار إلى جرجان وقد وصل كتاب المعتضد إلى إسماعيل بولاية خراسان، فكتب إليه ينهاه عن المسير إليها فأبى، فسرّح إليه محمد بن هارون قائد رافع، وكان قد فارقه عند هزيمته ومقتله. ولحق بإسماعيل فسرّحه في العساكر لقتل محمد بن زيد العلويّ ولقيه على جرجان فانهزم محمد بن زيد وغنم ابن هارون عسكره، وأصابت محمد بن زيد جراحات هلك لأيام منها. وأسر ابنه زيد فأنزله إسماعيل بخارى وأجرى عليه، وسار محمد بن هارون إلى طبرستان فملكها، وخطب فيها لإسماعيل وولّاه إسماعيل عليها. (استيلاء إسماعيل على الري) كان محمد بن هارون قد انتقض في طبرستان على إسماعيل وخلع دعوة العبّاسيّة وكان الوالي على أهل الري من قبل المكتفي أغرتمش التركي، وكان سيّئ السيرة فيهم فاستدعوا محمد بن هارون من طبرستان فسار إليها، وحارب أغرتمش فقتله، وقتل ابنين له وأخاه كيغلغ من قواد المكتفي. واستولى على الري فكتب المكتفي إلى إسماعيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 بولاية الريّ، وسار إليها فخرج محمد بن هارون عنها إلى قزوين وزنجان وعاد إلى طبرستان، واستعمل إسماعيل بولاية الذين على جرجان فارس الكبير [1] وألزمه بإحضار محمد بن هارون. فكاتبه فارس، وضمن له إصلاح حاله، فقبل قوله وانصرف عن حسّان الديلميّ إلى بخارى في شعبان سنة تسعين ومائتين. ثم قبض في طريقه وأدخل إلى بخارى مقيّدا، فحبس بها ومات لشهرين. (وفاة إسماعيل بن أحمد وولاية ابنه أحمد) ثم توفي إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر في منتصف سنة خمس وتسعين ومائتين، وكان يلقّب بعد موته بالماضي، وولي بعده أبو نصر أحمد، وبعث إليه المكتفي بالولاية، وعقد له لواءه بيده، وكان إسماعيل عادلا حسن السيرة حليما. وخرجت الترك في أيامه سنة احدى وتسعين ومائتين الى ما وراء النهر في عدد لا يحصى، يقال كان معهم سبعمائة قبّة، وهي لا تكون إلا للرؤساء، فاستنفر لهم إسماعيل الناس، وخرج من الجند والمتطوّعة خلق كثير. وخرجوا إلى الترك وهم غارّون فكبسوهم مصبحين، وقتلوا منهم ما لا يحصى وانهزم الباقون. واستبيح عسكرهم. ولما مات ولي ابنه أبو نصر أحمد واستوثق أمره ببخارى بعث عن عمّه إسحاق بن أحمد من سمرقند فقبض عليه وحبسه. ثم عبر إلى خراسان ونزل نيسابور، وكان فارس الكبير [2] مولى أبيه عاملا على جرجان. وكان ظهر له أنّ أباه عزله عن جرجان بفارس [2] هذا، وكان فارس قد ولي الريّ وطبرستان، وبعث إلى إسماعيل ابن أحمد بثمانين حملا من المال [3] ، فلما سمع بوفاة إسماعيل استردّها من الطريق. وحقد له أبو نصر ذلك كله، فخافه فارس. فلما نزل أبو نصر نيسابور كتب فارس إلى المكتفي يستأذنه في المسير إليه، وسار في أربعة آلاف فارس، وأتبعه أبو نصر فلم   [1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 7 ص 527: «فاستعمل إسماعيل بن أحمد على جرجان بارس الكبير، وألزمه بإحضار محمد بن هارون قسرا» . [2] هو بارس الكبير. [3] هذه الأموال من خراج الريّ وطبرستان وجرجان. جمعها بارس وأرسلها الى إسماعيل، ولما بلغ وفاته استرد المال ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 يدركه. وتحصّن منه عامل أبي نصر بالريّ، ووصل إلى بغداد فوجد المقتدر قد ولي بعد المكتفي، وقد وقعت حادثة ابن المعين فولّاه المقتدر ديار ربيعة، وبعثه في طلب بني حمدان، وخشي أصحاب المقتدر أن يتقدّم عليهم فوضعوا عليه غلاما له فسمّه ومات بالموصل، وتزوّج الغلام امرأته. (استيلاء أحمد بن إسماعيل على سجستان) كانت سجستان في ولاية الليث بن علي بن الليث، وخرج إلى طلب فارس فأسره مؤنس الخادم، وحبس ببغداد وولى على سجستان أخوه المعدّل، ثم سار أبو نصر أحمد بن إسماعيل سنة سبع وتسعين من بخارى إلى الري، ثم إلى هراة وطمع في ملك سجستان، فبعث إليه العسكر في محرّم سنة ثمان وتسعين مع أعيان قوّاده: أحمد بن سهل ومحمد بن المظفّر وسيمجور الدواتيّ والحسين بن علي المروروذيّ. فلما بلغ الخبر إلى المعدّل بعث أخاه محمد بن علي إلى بست والزنج [1] فحاصرته العساكر بسجستان وسار أحمد بن إسماعيل إلى بست فملكها، وأسر محمد بن علي، وبلغ الخبر الى المعدّل فاستأمن إلى الحسين فملكها، وحمل المعدّل معه إلى بخارى. وولّى الأمير على سجستان أبا صالح منصور بن عمّه إسحاق بن أحمد، وكان قد قبض على إسحاق لأوّل ولايته. ثم أطلقه الآن وأعاده إلى سمرقند وفرغانة. وقد كان سبكرى هزمته عساكر المقتدر بفارس، وخرج إلى مفازة سجستان فبعث الحسين عسكرا لاعتراضه، وأخذ أسيرا، وبعثوا به وبمحمد بن علي إلى بغداد. وبعث المقتدر إلى أحمد بالخلع والهدايا. ثم انتقض أهل سجستان على سيمجور الدواتي وولّوا منصور ابن عمه إسحاق على نيسابور. (مقتل أبي نصر أحمد بن إسماعيل وولاية ابنه نصر) ثم قتل أبو نصر أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر آخر جمادى الآخرة سنة إحدى   [1] الزّنج: من قرى نيسابور وفي الكامل ج 8 ص 60: الرخّج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 وثلاثمائة، وكان مولعا بالصيد، فخرج إلى برير [1] متصيّدا وكان له أسد يربط كل ليلة على باب خيمته فأغفل ليلة، فعدا عليه بعض غلمانه وذبحوه على سريره. وحمل إلى بخارى فدفن بها ولقّب الشهيد، وقتل من وجد من أولئك الغلمان. وولي الأمير مكانه ابنه أبا الحسن [2] نصر بن أحمد، وهو ابن ثمان سنين، ولقّب السعيد. وتولّى الأمور له أصحاب أبيه ببخارى، وحمله على عاتقه أحمد بن الليث مستولي الأمور، وانتقض عليه أهل سجستان، وعمّ أبيه إسحاق بن أحمد بسمرقند. وابناه منصور والياس ومحمد بن الحسين ونصر بن محمد وأبو الحسين بن يوسف والحسن بن علي المروروذيّ وأحمد بن سهل وليلى بن النعمان من الديلم صاحب العلويّين بطبرستان، ومعه سيمجور وأبو الحسين بن الناصر الأطروش وقراتكين، وخرج عليه إخوته يحيى ومنصور وإبراهيم بنو أبيه، وجعفر بن داود ومحمد بن الياس، ومرداويج ووشمكير ابنا زياد من أمراء الديلم، وكان السعيد نصر مظفّرا على جميعهم. (انتقاض سجستان) ولما قتل أحمد بن إسماعيل انتقض أهل سجستان وبايعوا للمقتدر، وبعثوا إليه وأخرجوا سيجور الدواتي [3] ، فأضافها المقتدر إلى بدر الكبير، وأنفذ إليها الفضل بن حميد وأبا يزيد من قبل السعيد نصر وسعيد الطالقانيّ بغزنة كذلك فقصدها الفضل وخالد واستوليا على غزنة وبسنة وقبضا على سعيد الطالقانيّ وبعثا به إلى بغداد وهرب عبيد الله الجهستاني ثم اعتل الفضل وانفرد خالد بالأمور [4] . ثم انتقض فأنفذ إليه   [1] فربر: ابن الأثير ج 8 ص 77. [2] هكذا بالأصل والعبارة الصحيحة وولي الأمر مكانه ابنه ابو الحسن نصر ابن أحمد. [3] سيمجور الدواتي: ابن الأثير ج 8 ص 79 [4] العبارات غير واضحة ومبتورة وفي الكامل ج 8 ص 79: «فولّاها المقتدر باللَّه بدرا الكبير، فأنفذ إليها الفضل بن حميد، وابا يزيد بن خالد بن محمد المروزيّ، وكان عبيد الله بن أحمد الجيهانيّ ببست، والرخّج، وسعد الطالقانيّ بغزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد، فقصدهما الفضل وخالد، وانكشف عنهما عبيد الله، وقبضا على سعد الطالقانيّ وأنفذاه الى بغداد، واستولى الفضل وخالد على غزنة وبست، ثم اعتلّ الفضل، وانفرد خالد بالأمور» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 المقتدر أخا نجح الطولونيّ فهزمه خالد. وسار إلى كرمان، فأنفذ إليه بدر الجيش فأخذ أسيرا ومات، وحمل إلى بغداد. (انتقاض إسحاق العمّ وابنه الياس) كان إسحاق بن أحمد عم الأمير أحمد بن إسماعيل واليا على سمرقند، فلما بلغه مقتل الأمير أحمد، وولاية ابنه السعيد نصر، دعا لنفسه بسمرقند، وتابعه ابنه الياس على ذلك. وساروا إلى بخارى فبرز إليهم القائد حمويه بن عليّ فهزمهم إلى سمرقند. ثم جمعوا وعادوا فهزمهم ثانية، وملك سمرقند من أيديهم عنوة. واختفى إسحاق وجدّ حمويه في طلبه فضاق به مكانه، واستأمن إلى حمويه وحمله إلى بخارى وأقام بها إلى أن هلك. ولحق الياس بفرغانة فأقام بها إلى أن خرج ثانية كما يأتي. (ظهور الأطروش واستيلاؤه على طبرستان) قد تقدّم لنا في أخبار العلويّة شأن دولة الأطروش وبنيه بطبرستان، وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمرو بن علي بن الحسن السبط، وأنه استعمل الأمير أحمد على طبرستان مكانه أبا العبّاس أحمد عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن السيرة، وعدل في الرعية وأكرم العلويّة وبالغ في الإكرام والإحسان إليهم. واستمال رؤساء الديلم وهاداهم، وكان الحسن الأطروش قد دخل إليهم بعد قتل محمد بن زيد وأقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، ويقتصر منهم على العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا إليه، وبنى في بلادهم المساجد، ودعاهم للمسير معه إلى طبرستان فلم يجيبوه إلى ذلك. ثم عزل أبو العبّاس، وتولّى سلام فلم يحسن سياسة الديلم فخرجوا عليه، وقاتلوه فهزمهم، واستعان بالأمير أحمد السعيد، فأعاد الأمير أحمد إليها ابن نوح، فاستعمل عليها أبا العبّاس محمد بن إبراهيم صعلوك، ففسد ما بينه وبين الديلم بإساءة السيرة وعدم السياسة. فطلبهم الأطروش في الخروج معه فخرجوا، ولقيهم ابن صعلوك على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 مرحلة من سالوس وهي ثغر طبرستان فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلاف، وحصر الأطروش الباقين. ثم أمّنهم وعاد إلى آمد وسار إليهم الحسن بن القاسم العلويّ الداعي صهر الأطروش فقتلهم متعلّلا عليهم فأنه لم يحضر لعهدهم. واستولى الأطروش على طبرستان سنة إحدى وثلاثمائة أيام السعيد نصر، وخرج صعلوك إلى الريّ متعلّلا عليهم، ومنها إلى بغداد. وكان الذين أسلموا على يد الأطروش الديلم من وراء أسفيجاب [1] إلى آمد، فيهم شيعة زيدية. وكان الأطروش زيديّا، وخرجت طبرستان يومئذ من ملك بني سامان. (انتقاض منصور بن إسحاق العم والحسين والمروروذي) كان الأمير أحمد بن إسماعيل لما افتتح سجستان ولّى عليها منصور ابن عمّه إسحاق، وكان الحسين بن عليّ هو الّذي تولّى فتحها وطمع في ولايتها. ثم افتتحها ثانيا كما ذكرنا فوليا [2] سيجور الدواتي، فاستوحش الحسين لذلك، وداخل منصور بن إسحاق في الانتقاض، على أن تكون إمارة خراسان لمنصور والحسين بن علي خليفته على أعماله. فلما قتل الأمير أحمد انتقض الحسين بهراة، وسار إلى منصور بنيسابور فانتفض أيضا، وخطب لنفسه سنة اثنتين وثلاثمائة وسار القائد حمويه [3] بن علي من بخارى في العساكر لمحاربتهما، ومات منصور قبل وصوله. فلما قارب حمويه نيسابور سار الحسين عنها إلى هراة، وأقام بها. وكان محمد بن جند على شرطته [4] من مدّة طويلة، وبعث من بخارى بالنكير، فخشي على نفسه، وعدل عن الطريق إلى هراة فسار الحسين بن عليّ من هراة إلى نيسابور، بعد أن استخلف عليها أخاه منصورا فملك نيسابور، فسار إلى محاربته من بخارى أحمد بن سهل فحاصر هراة وملكها من منصور على الأمان. ثم سار إلى نيسابور فحاصر بها الحسين وملكها عنوة، وأسر الحسين سنة اثنتين وثلاثمائة. وأقام أحمد بن سهل بنيسابور وجاءه ابن   [1] اسفيدروز: ابن الأثير ج 8 ص 82. [2] مقتضى السياق فوليها، وسيجور هو سيمجور كما في الكامل ج 8 ص 87. [3] حمويه بن علي: المرجع السابق. [4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 88: «وكان محمد بن حيد على شرطة بخارى مدة طويلة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 جيد مزمر [1] وقبض عليه وسيّره والحسين بن علي إلى بخارى فأمّا ابن جيد مزمر فسيّر إلى خوارزم ومات بها، وأمّا الحسين فحبس. ثم خلّصه أبو عبد الله الجهانيّ مدبّر الدولة، وعاد إلى خدمة السعيد نصر. (انتقاض أحمد بن سهل بنيسابور وفتحها) كان الأمير أحمد بن سهل من قوّاد إسماعيل، ثم ابنه أحمد، ثم ابنه نصر بن أحمد. قال ابن الأثير: وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبلة بن كامكان بن يزدجرد بن شهربان الملك. قال: وكان كامكان دهقان بنواحي مرو قال: وكان لأحمد إخوة ثلاثة وهم: محمد والفضل والحسين قتلوا في عصبيّة العرب والعجم وكان خليفة عمرو بن الليث على مرو فسخطه وحسبه بسجستان. ثم فرّ من محبسه ولحق بمرو فملكها واستأمن إلى أحمد بن إسماعيل، وقام بدعوته فاستدعاه إلى بخارى وأكرمه ورفع منزلته. ونظّمه في طبقة القوّاد وبقي في خدمته وخدمة بنيه، فلما انتقض الحسين بن علي بنيسابور على السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل سنة اثنتين وثلاثمائة، سار إليه أحمد بن سهل في العساكر وظفر به كما مرّ. وولّى السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل على نيسابور قراتكين مولاهم. (مقتل ليلى بن النعمان ومهلكه) كان ليلى بن النعمان من كبار الديلم، ومن قوّاد الأطروش، وكان الحسن بن القاسم الداعي قد ولّاه على جرجان سنة ثلاث وثلاثمائة، وكان أولاد الأطروش يحلّونه في كتابهم بالمؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كريما شجاعا. ولمّا ولي جرجان سار إليه قراتكين وقاتله على عشرة فراسخ من جرجان، فانهزم قراتكين، واستأمن غلامه فارس إلى ليلى في ألف رجل من أصحابه، فأمّنه   [1] ورد اسمه من قبل محمد بن جند وفي الكامل محمد بن حيد ولعله كله تحريف من الناسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 وأكرمه وزوّجه أخته، واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت سهل، وحرّضه على المسير إلى نيسابور وبها قراتكين، وكان أجناده قد كثروا وضاقت عليهم الأموال فاستأذن الداعي في المسير إلى نيسابور، فأذن له، وسار إليها في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثمائة فملكها، وأقام بها الخطبة للداعي الحسين بن القاسم، وأنفذ السعيد نصر العساكر من بخارى مع حمويه بن علي ومحمد بن عبيد الله البلغميّ وأبي جعفر صعلوك، وخوارزم شاه وسيجور الدواتيّ، فانهزم أكثر أصحاب حمويه وثبت القوّاد، وجالت العساكر جولة فانهزم ليلى ودخل آمد. ولحقه بقراخان ملك الترك جاء مع العساكر مددا فقبض على ليلى في آمد، وبعث إلى حمويه بذلك، فبعث إليه من قطع رأس ليلى في ربيع سنة تسع وثلاثمائة. وبعث به إلى بخارى وطلب قوّاد الديلم الذين كانوا مع ليلى الأمان فأمّنوهم بعد أن أشار حمويه بقتلهم والراحة منهم، فلم يوافقوه. وهؤلاء القوّاد هم الذين خرجوا بعد ذلك على الجهات وملكوها مثل: أسفار ومرداويح [1] وشبكين وبني بويه وستأتي أخبارهم وبقي فارس [2] غلام قراتكين بجرجان واليا عليها. ثم جاءه قراتكين واستأمن إليه غلامه فارس فأمّنه. ثم قتله سنة ست عشرة وثلاثمائة وانصرف عن جرجان. (حرب سيجور [3] مع ابن الأطروش) ولما قتل قراتكين غلامه سنة ست عشرة وثلاثمائة وانصرف عن جرجان سار إليها أبو الحسن بن ناصر الأطروش من أستراباذ فملكها، وأنفذ السعيد لحربه سيجور الدواتي في أربعة آلاف فارس فنزل على فرسخين من جرجان، وخرج إليه أبو الحسن في ثمانية آلاف راجل من الديلم فاقتتلا، وكان سيجور قد أكمن لهم وأبطأ عليه الكمين فانهزم واتبعه سرخاب [4] . وشغل عسكر أبي الحسن بالنهب. ثم خرج عليهم الكمين بعد ساعة فانهزم أبو الحسن وقتل من عسكره نحو من أربعة آلاف، وركب البحر إلى   [1] هو مرداويج بن زيار من الديلم (المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 73) . [2] هو بارس كما مرّ معنا من قبل. [3] ورد اسمه في الكامل سيمجور وقد مرّ معنا من قبل. [4] هو سرخاب بن وهسوذان ابن عم ما كان بن كالي الديلميّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 أستراباذ واجتمع إليه فلّ من أصحابه، وجاءه سرخاب بعد أن رجع عن سيجور، وجمع عيال أصحابه ومخلفهم وقدم بهم وأقام سيجور بجرجان. ثم مات سرخاب ورجع ابن الأطروش إلى سارية بعد أن استخلف ما كان بن كالي على أستراباذ، واجتمع إليه الديلم وأمّروه. ثم سار إلى أستراباذ ومعه محمد [1] ليظهر غناؤهم فخرج من سارية، وولّوا عليها بقراخان، ووصلوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور ورجع ما كان إلى أستراباذ مع جرجان ولحق بقراخان بنيسابور [2] . وهذا كان مبتدأ أمر ما كان بن كالي وستأتي أخباره. (خروج الياس بن إسحاق) قد تقدّم لنا انتقاض إسحاق وابنه الياس بسمرقند سنة إحدى وثلاثمائة، وكيف غلبهم القائد حمويه. وسار بإسحاق إلى بخارى ومات بها. ولحق ابنه الياس بفرغانة فأقام بها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأجمع المسير إلى سمرقند واستظهر بمحمد بن الحسين بن مت [3] من قوّاد بني سامان، واستمدّ أهل فرغانة من الترك فأمدّوه، واجتمع إليه ثلاثون ألف فارس، وقصد سمرقند وبعث السعيد للمدافعة عنها أبا عمرو ومحمد بن أسد وغيره في ألفين وخمسمائة راجل. فلما ورد الياس كمنوا له بين الشجر حتى إذا اشتغلت عساكره بضرب الأبنية خرجوا عليه، فانهزم الحسن بن ست [4] ولحق بأسفيجاب [5] ومنها إلى ناحية طراز وكريت [6] فلقيه دهقان الناحية فقتله،   [1] بياض في الأصل وفي الكامل ج 8 ص 132: «ثم سار محمد بن عبيد الله البلغميّ وسيمجور إلى باب أستراباذ، وحاربوا ما كان بن كالي فلما طال مقامهم اتفقوا معه على أن يخرج عن أستراباذ إلى سارية، وبذلوا له على هذا مالا ليظهر للناس انهم قد افتتحوها» . [2] العبارة غير واضحة في الكامل ج 8 ص 132: «وجعلوا بغرا بأستراباذ، فلما سارا عنها عاد اليها ما كان ابن كالي، ففارقها بغرا إلى جرجان، وأساء السيرة في أهلها، وخرج إليه ما كان، فرجع بغرا إلى نيسابور، وأقام ما كان بجرجان» . [3] محمد بن الحسين بن متّ: ابن الأثير ج 8 ص 133. [4] اسمه الصحيح محمد بن الحسين بن مت كما سبق. [5] أسبيجاب: المرجع السابق. [6] هكذا بالأصل وفي الكامل: «ومنها الى ناحية طراز، فكوتب دهقان الناحية التي نزلها وأطمع، وقبض عليه وقتله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 وأنفذ رأسه إلى بخارى. ثم استمدّ الياس صاحب الشاش، وهو أبو الفضل بن أبي يوسف فأمدّه بنفسه وبعث إليه أليسع بالمدد، وعاود محاربة الوالي بسمرقند، فانهزم إلى كاشغر، وأسر أبو الفضل وحمل إلى بخارى فمات بها. وسار الياس إلى كاشغر وصاحبها طغاتكين [1] من ملوك الترك فصاهره بابنته وأقام معه. (استيلاء السعيد على الري) كان المقتدر قد عقد على الريّ ليوسف بن أبي الساج، وسار إليه سنة إحدى عشرة وثلاثمائة فملكه من يد أحمد بن علي أخي صعلوك، وقد كان فارق أخاه صعلوكا وسار إلى المقتدر فولّاه على الري. ثم انتقض على المقتدر ووصل يده بما كان بن كالي قائد الديلم وأولاد الأطروش وهم بطبرستان وجرجان. وفارق طاعة المقتدر، فسار إليه يوسف بن أبي الساج وحاربه فقتله، واستولى على الريّ ثم استدعاه المقتدر سنة أربع عشرة وثلاثمائة إلى واسط لقتال القرامطة، وكتب إلى السعيد نصر بن أحمد بولاية الريّ فاستخلف عليها [2] وأمره بالمسير إليها، وأخذها فاتك مولى يوسف بن أبي الساج فسار نصر السعيد لذلك أوّل سنة أربع عشرة وأربعمائة فلما وصل إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من الاجتياز به، فبذل له ثلاثين ألف دينار واسترضاه. وسار إلى الريّ فخرج عنها فاتك، واستولى عليها السعيد منتصف السنة، وأقام بها شهرين. ثم عاد عنها إلى بخارى واستعمل عليها محمد بن علي الملقّب صعلوك، فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة، ومرض فكاتب الداعي وما كان بن كالي في القدوم ليسلّم لهم الريّ. فقدموا واستولوا على الريّ وسار صعلوك عنها فمات في طريقه. وأقام الحسن الداعي بالريّ مالكا لها. واستولى معها على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ ومعه ما كان. وكان أسفار قد استولى على طبرستان، فسار الداعي وما كان إليه، والتقوا على سارية فانهزم، وقتل الداعي كما مرّ في أخبار العلويّة بطبرستان.   [1] طغاتكين: المرجع السابق. [2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 166: «وولى عليها سيمجور الدواتي وعاد عنها ثم استعمل عليها محمد بن علي صعلوك، وسار نصر إلى بخارى» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 (ولاية أسفار على جرجان والري) كان أسفار بن شيرويه من أعيان الديلم وكان من أصحاب ما كان بن كالي. وقد تقدّم لنا أنّ أبا الحسن بن الأطروش ولّى ما كان على أستراباذ وأنّ الديلم اجتمعوا إليه وأمّروه، وأنّه ملك جرجان واستولى بعدها على طبرستان، وولّى أخاه أبا الحسن بن كالي على جرجان. وكان أسفار بن شيرويه من قوّاده، فانصرف مغاضبا عنه سنة خمس عشرة وثلاثمائة إلى بكر بن محمد بن أليسع بنيسابور فبعثه بكر إلى جرجان ليفتحها، واضطرب أمر جرجان لأن ما كان ابن كالي اعتقل بها أبا علي الأطروش بنظر أخيه ابن كالي، فوثب الأطروش على أخيه أبي الحسن وقتله وملك جرجان [1] . واستقدم أسفار بن شيرويه فقدم وضبط أمره، وسار إليهم ما كان من طبرستان في جيوشه فهزموه، واتبعوه إلى طبرستان فملكوها، وأقاموا بها. وهلك أبو علي ابن الأطروش بطبرستان، فعاد ما كان بن كالي وأخرج أسفار بن شيرويه من طبرستان. ثم زحف أسفار إلى الداعي وما كان والتقوا على السيّاريّة فانهزم الداعي وما كان وقتل الداعي. واستولى أسفار على طبرستان وجرجان والريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ. ودعا للسعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان واستعمل على آمد هارون ابن بهرام يريد استخلاصه لنفسه، لأن هارون كان يخطب لأبي جعفر من ولد الأطروش فولّاه آمد وزوّجه ببعض نساء الأعيان بها. وحضر عرسه أبو جعفر وغيره من العلويّين، فهجم عليه أسفار يوم العرس فقبض على أبي جعفر والعلويّين وحملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها، واستفحل أمر أسفار وانتقض على السعيد صاحب خراسان وعلى الخليفة المقتدر. وسار السعيد من بخارى إلى نيسابور لمحاربته وأشار عليه وزيره محمد بن مطرّف الجرجاني بطاعة السعيد، وخوّفه منه، فقبل إشارته ورجع إلى طاعة السعيد، وقبل شروطه من حمل المال وغيره. ثم انتقض عليه   [1] العبارة غير واضحة وغير صحيحة وفي الكامل ج 8 ص 175- 176: «وكان ما كان بن كالي ذلك الوقت بطبرستان، وأخوه ابو الحسن بن كالي بجرجان، وقد اعتقل ابا عليّ بن أبي الحسين الأطروش العلويّ عنده، فشرب ابو الحسن بن كالي ليلة ومعه أصحابه فغرّقهم، وبقي في بيت هو والعلويّ، فقام الى العلويّ ليقتله، فظفر به العلويّ وقتله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 مرداويح [1] واستدعى ما كان من طبرستان وهزم أسفار وقتله. وملك ما بيده من الأعمال كما يذكر في أخبار الديلم. ثم ملك طبرستان وجرجان من يد ما كان، فاستمدّ ما كان السعيد فأمدّه بأبي علي بن محمد المظفّر فهزمهما مرداويح، وعاد أبو علي إلى نيسابور وما كان إلى خراسان. (خروج أولاد الأمير أحمد بن إسماعيل على أخيهم السعيد) كان السعيد نصر بن أحمد لمّا ولي استراب بإخوته، وكانوا ثلاثة أبو زكريا يحيى وأبو صالح منصور وأبو إسحاق إبراهيم أولاد الأمير أحمد بن إسماعيل، فحبسهم في القندهان ببخارى ووكّل بهم. فلما سار السعيد إلى نيسابور سنة خمس عشرة فتقوا السجن وخرجوا منه على يد رجل خبّاز من أصفهان يسمّى أبا بكر، داخلهم في محبسهم بتسهيل نفقتهم التي كانت على يده. وجاء إلى القندهان قبل يوم الجمعة الّذي كان ميقاتا لفتحه، وأقام عندهم مظهرا للزهد والدين، وبذل للبوّاب دنانير على أن يخرجه ليلحق الصلاة في الجماعة، ففتح له الباب وقد أعدّهم جماعة للوثوب، فحبسوا البواب، وأخرجوا أولاد الأمير أحمد ومن معهم في الحبس من العلويّين والديلم والعيّارين. واجتمع إليهم من كان وافقهم من العسكر والقوّاد ورأسهم شروين الجبليّ، وبايعوا يحيى ابن الأمير أحمد، ونهبوا خزائن السعيد وقصوره. وقدّم يحيى أبا بكر الخبّاز، وبلغ الخبر الى السعيد فعاد من نيسابور إلى بخارى. وكان أبو بكر محمد بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان مقيما بجرجان، فاستدعى ما كان بن كالي وصاهره، وولّاه نيسابور فسار إليها. ولما جاء السعيد إلى بخارى اعترضه أبو بكر الخبّاز عند النهر فهزمه السعيد، وأسره ودخل بخارى فعذّبه وأحرقه في تنوره الّذي كان يخبز فيه. ولحق يحيى بسمرقند ثم مرّ بنواحي الصغانيان، وبها أبو علي بن أحمد بن أبي بكر بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان مقبما بجرجان، فاستدعى ما كان بن كالي إلى جرجان، ولقوا بها محمد بن الياس،   [1] مرداويج كما مرّ معنا في السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 وقوي أمره، فلما جاء يحيى إلى نيسابور خطب له وأظهر دعوته. ثم قصدهم السعيد فافترقوا، ولحق ابن الياس بكرمان، ولحق يحيى وقراتكين ببست والرخّج، ووصل السعيد إلى نيسابور سنة عشرين وثلاثمائة واصطلح قراتكين وأمّنه وولّا، بلخ، وذهبت الفتنة. وأقام السعيد بنيسابور إلى أن استأمن إليه أخواه يحيى ومنصور وحصرا عنده وهلكا، وفرّ إبراهيم إلى بغداد، ومنها إلى الموصل. وهلك قراتكين ببست، وصلحت أمور الدولة. وكان جعفر بن أبي جعفر بن داود واليا لبني سامان على الختّل، فاستراب به السعيد، وكتب إلى أبي علي أحمد بن أبي بكر محمد بن المظفّر وهو بالصغانيان أن يسير إليه، فسار إليه وحاربه وكسره، وجاء به إلى بخارى فحبس بها، فلما فتق السجن خرج مع يحيى وصحبهم. ثم لما رأى تلاشي أموره استأذنه في المسير إلى الختّل فأذن له فسار إليها، وأقام بها، ورجع إلى طاعة السعيد سنة ثمان عشرة وصلح حاله. (والختل بخاء معجمة مضمومة وتاء مثناة فوقانية مشددة مفتوحة) . (ولاية ابن المظفر على خراسان) كان أبو بكر محمد بن المظفّر واليا للسعيد نصر على جرجان. ولما استفحل أمر مرداويح بالريّ كما يأتي في أخبار الديلم، خرج عنها ابن المظفّر ولحق بالسعيد نصر في نيسابور وهو مقيم بها، فسار السعيد في عساكره نحو جرجان، ووقعت المكاتبة بين محمد بن عبيد الله البلغميّ مدبّر دولته، وبين مطرّف بن محمد، واستماله محمد فمال إليه مطرّف وقتله سلطانه مرداويح. ثم بعث محمد ينتصح لمرداويج ويذكره نعمة السعيد عنده في اصطناعه وتوليته، وتطوّق العار في ذلك المطرف الوزير الهالك ويهوّل عليه أمر السعيد ويخوّفه ويشير عليه بمسالمة جرجان إليه. وصالحه السعيد عليها ولما فرغ السعيد من أمر جرجان وأحكمه استعمل محمد بن المظفّر بن محتاج على جيوش خراسان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وردّ إليه تدبير الأمور بجميع نواحيها. وسار إلى كرسي ملكه ببخارى واستقرّ بها. ابن خلدون م 29 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 (استيلاء السعيد على كرمان) كان محمد بن الياس من أصحاب السعيد، ثم سخطه وحبسه، وشفع فيه محمد بن عبيد الله البلغمي فأطلقه، وسيّره محمد بن المظفّر إلى جرجان. ثم سار إلى يحيى وإخوته عند ما توثبوا ببخارى فكان معه في الفتنة، وخطب له بنيسابور كما مرّ. فلمّا زحف السعيد إليهم فارق يحيى ولحق بكرمان، واستولى عليها. ثم خرج إلى بلاد فارس وبها ياقوت مولى الخلفاء فوصل إليه بإصطخر يريد ان يستأمن له، وأطلع ياقوت على مكره، فرجع إلى كرمان ثم بعث السعيد ما كان بن كالي في العساكر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وقاتل ابن الياس وهزمه وملك كرمان بدعوة السعيد نصر بن أحمد وسار الياس إلى الدّينور. ثم رجع ما كان عن كرمان على ما نذكره بعد، فرجع إليها ابن الياس، وسبب خروج ما كان أنّ السعيد بعد قتل مرداويح كتب إليه وإلى محمد بن المظفّر صاحب خراسان أن يقصد جرجان والريّ وبها وشمكير أخو مرداويح، فجاء ما كان على المفازة ووصل إلى نيسابور بعد أن كان محمد بن المظفّر قد استولى عليها، بعث إليه مددا فهزمتهم عساكر وشمكين فأقصر ما كان عن حربهم، وأقام بنيسابور وجعلت ولايتها له، وذلك أوّل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم صفت كرمان لمحمد بن الياس بعد حروب مع جيش نصر كان له الظفر فيها آخرا. (استيلاء ماكان على كرمان وانتقاضه) لما ملك مانحين جرجان وأقام ما كان بنيسابور وجعلت ولايتها له وهلك مانحين لأيام من دخوله جرجان، استنفر محمد المظفّر ما كان للمسير إلى جرجان فاعتلّ بالخروج بجميع أصحابه وسار إلى أسفراين، فأنفذ عسكرا إلى جرجان واستولى عليها. ثم انتقض وسار إلى نيسابور وبها محمد بن المظفّر وكان غير مستعدّ للحرب فسار نحو سرخس، ودخل ما كان نيسابور سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم رجع عنها خوفا من اجتماع العساكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 (ولاية علي بن محمد على خراسان وفتحه جرجان) كان أبو بكر محمد بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان من ولاة السعيد عليها سنة احدى وعشرين وثلاثمائة فلمّا كانت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة اعتلّ أبو بكر وطال به مرضه، وقصد السعيد راحته فاستقدم ابنه أبا علي من الصغانيان، وبعثه أميرا على خراسان واستدعى أباه أبا بكر فلقي ابنه أبا عليّ على ثلاث مراحل من نيسابور فوصّاه وحمّله حملا من سياسته. وسار إلى بخارى ودخل ابنه أبو علي نيسابور من السنة فأقام بها أياما. ثم سار في محرّم سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى جرجان وبها ما كان بن كالي مستنقضا على السعيد، وقد غوّروا المياه في طريقه فسلك إليهم غمرة حتى نزل على فرسخ من جرجان، وحاصرها وضيّق عليها وقطع الميرة عنها حتى جهدهم الحصار. وبعث ما كان بن كالي إلى وشمكير وهو بالريّ، فأمدّه بقائد من قوّاده فلما وصل إلى جرجان شرع في الصلح بينهما لينجو فيه ما كان فتمّ ذلك، وهرب ما كان إلى طبرستان واستولى أبو علي على جرجان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة واستخلف عليها إبراهيم بن سيجور الدواتي. (استيلاء أبي علي على الريّ وقتل ما كان بن كالي) ولما ملك أبو علي جرجان أصلح أمورها. ثم استخلف عليها إبراهيم بن سيجور وسار إلى الريّ في ربيع سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وبها وشمكير بن زياد أخو مرداويح قد تغلّب عليها من بعد أخيه. وكان عماد الدولة وركن الدولة ابنا بويه يكاتبان أبا علي صاحب خراسان، ويستحثّانه لقصد الريّ بأنّ أبا عليّ لا يقيم بها لسعة ولايته فتصفو لهما. فلمّا سار أبو علي لذلك بعث وشمكير إلى ما كان بن كالي يستنجده، فسار إليه من طبرستان وسار أبو علي، وجاءه مدد ركن الدولة بن بويه والتقوا بنواحي الريّ فانهزم وشمكير وما كان. ثم ثبت ما كان، ووقف مستميتا فأصابه سهم فقتله، وهرب وشمكير إلى طبرستان فأقام بها واستولى أبو علي على الريّ سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وأنفذ رأى ما كان والأسرى معه إلى بخارى فأقاموا حتى دخل وشمكير في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 طاعة بني سامان. وسار إلى خراسان سنة ثلاثين وثلاثمائة واستوهبهم الأسرى فأطلقوا له وبقي الرأس ببخارى ولم يحمل إلى بغداد. (استيلاء أبي عليّ على بلد الجبل) ولما ملك أبو علي بن محتاج صاحب خراسان بلد الريّ والجبل من يد وشمكير، وأقام بها دعوة السعيد نصر بعث العساكر إلى بلد الجبل ففتحها، واستولى على زنجان وأبهر وقزوين وقمّ وكرخ وهمذان ونهاوند والدينور إلى حدود حلوان، ورتّب فيها العمّال وجبى الأموال. وكان الحسن بن الفيرزان بسارية وهو ابن عم ما كان بن كالي وكان وشمكير يطمع في طاعته له وهو يتمنع، فقصده وشمكير وحاصره بسارية وملكها عليه. واستنجد الحسن أبا عليّ بن محتاج فسار معه لحصار وشمكير بسارية سنة ثلاثين وثلاثمائة، وضيّق عليه حتى سأل الموادعة، فصالحه أبو علي على طاعة السعيد نصر، وأخذ رهنه، ورحل عنه إلى جرجان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ثم بلغه موت السعيد فعاد أبو عليّ إلى خراسان فملكها وراسله الحسن بن الفيرزان يستميله وردّ عليه ابنه سلار الرهينة ليستعين به على الخراسانية، فوعده وأطمعه. ولما ملك وشمكير الريّ طمع فيه بنو بويه لأنه كان قد اختلّ أمره بحادثته مع أبي علي، فسار الحسن بن الفيرزان إلى الريّ، وقاتل وشمكير فهزمه، واستأمن إليه الكثير من جنده. وسار وشمكير إلى الريّ فاعترضه الحسن بن الفيرزان من جرجان وهزمه إلى خراسان، وراسل الحسن ركن الدولة وتزوّج بنته واتصل ما بينهما. (وفاة السعيد نصر وولاية ابنه نوح) ثم أصاب السعيد نصرا صاحب خراسان وما وراء النهر مرض السلّ، فاعتلّ ثلاثة عشرة شهرا ومات في شعبان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة لثلاثين سنة من ولايته. وكان يؤثر عنه الكرم والحلم، وأخلص في مرضه التوبة إلى أن توفي. ولما مات ولي مكانه ابنه نوح، وكان يؤثر الكرم والحلم عنه، وبايعه الناس ولقّب الحميد، وقام بتدبير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 ملكه أبو الفضل أحمد بن حوية [1] وهو من أكابر أصحاب أبيه، كان أبوه السعيد ولّى ابنه إسماعيل بخارى في كفالة أبي الفضل وولايته، فأساء السيرة مع نوح وحقد له ذلك. وتوفي إسماعيل في حياة أبيه، وكان يؤثر أبا الفضل فحذّره من ابنه نوح. فلما ولي نوح سار أبو الفضل من بخارى وعبر جيحون إلى آمد. وكان بينه وبين أبي علي بن محتاج صهر، فبعث إليه يخبره بقدومه فنهاه عن القدوم عليه. ثم كتب له نوح بالأمان وولّاه سمرقند وكان [2] على الحاكم صاحب الدولة ولا يلتفت إليه، والآخر يحقد عليه ويعرض عنه. ثم انتقض عبد الله بن أشكام بخوارزم على الأمير نوح فسار من بخارى إلى مرو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وبعث إليه جيشا مع إبراهيم بن فارس [3] فمات في الطريق. واستجار ابن أشكام بملك الترك، وكان ابنه محبوسا ببخارى فبعث إليه نوح بإطلاق ابنه على أن يقبض على ابن أشكام، وأجابه ملك الترك لذلك. ولما علم بذلك ابن أشكام عاد إلى طاعة نوح وعفا عنه وأكرمه. (استيلاء أبي علي على الريّ ودخول جرجان في طاعة نوح) ثم إنّ الأمير نوحا سار إلى مرو وأمر أبا علي بن محتاج أن يسير بعساكر خراسان إلى الريّ وينتزعها من يد ركن الدولة بن بويه فسار لذلك، ولقي في طريقه وشمكير وافدا على الأمير نوح فبعثه إليه. وسار أبو علي إلى بسطام فاضطرب جنوده، وعاد عنه منصور بن قراتكين من أكابر أصحاب نوح، فقصدوا جرجان وصدّهم الحسن بن الفيرزان فانصرفوا الى نيسابور. وسار إلى الأمير نوح بمرو فأعاده وأمده بالعساكر. وسار من نيسابور في منتصف ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وعلم ركن الدولة بكثرة جموعه، فخرج من الري واستولى أبو علي عليها، وعلى سائر أعمال الجبال. وأنفذ نوّابه إلى الأعمال   [1] هو ابو الفضل محمد بن أحمد الحاكم. [2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 404: «وكان ابو الفضل معرضا عن محمد بن أحمد الحاكم، ولا يلتفت إليه» . [3] إبراهيم بن بارس: ابن الأثير ج 8 ص 415. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 وذلك في رمضان من سنته. ثم سار الأمير نوح من مرو إلى نيسابور، وأقام بها، ووضع [1] جماعة من الغوغاء والعامّة يستغيثون من أبي علي ويشكون سوء السيرة منه ومن نوّابه، فولّى على نيسابور إبراهيم بن سيجور [2] وعاد عنها وقصد أن يقيم أبو علي بالري لحسن دفاعه عنها وينقطع طمعه عن خراسان، فاستوحش أبو علي للعزل وشق عليه. وبعث أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمد إلى كور الجبال، وولّاه همذان، وخلافة العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور، واستولى عليها واستأمن إليه رؤساء الأكراد بتلك النواحي، وأعطوا رهنهم على الطاعة وكان وشمكير لما وفد على الأمير نوح بمرو كما قدّمناه استمدّه على جرجان، فأمدّه بعسكر، وبعث إلى أبي علي بمساعدته، فلقي أبا علي منصرفه في المرّة الأولى من الري إلى نيسابور، فبعث معه جميع من بقي من العسكر، وسار وشمكير إلى جرجان وقاتل الحسن بن الفيرزان فهزمه واستولى على جرجان بدعوة نوح بن السعيد وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. (انتقاض أبي علي وولاية منصور بن قراتكين على خراسان) قد تقدم لنا أنّ الأمير نوحا عزل أبا علي بن محتاج عن خراسان، وكان من قبلها عزله عن ديوان الجند وهو لنظره، وبعث من يستعرض الجند فمحا وأثبت وزاد في العطاء ونقص فاستوحش لذلك كله، واستوحش الجند من التعرّض إليهم بالإسقاط، ولأرزاقهم بالنقصان. وخلص بعضهم إلى بعض بالشكوى، واتفقوا في سيرهم إلى الريّ وهم بهمذان على استقدام إبراهيم بن أحمد أخي السعيد الّذي كان قد هرب أمامه إلى الموصل كما تقدم. وظهر أبو علي على شأنهم، فنكر عليهم فتهدّدوه، وكاتبوا إبراهيم واستدعوه، وجاء إليهم بهمذان في رمضان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وكاتبه أبو علي، وكتب أخوه الفضل سرا إلى الأمير نوح بذلك، ونمي خبر كتابه إلى أخيه أبي   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 444: «ثم ان الأمير نوحا سار من مرو الى نيسابور فوصل اليها في رجب وأقام بها خمسين يوما، فوضع أعداء أبي علي جماعة من الغوغاء والعامّة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوابه» . [2] إبراهيم بن سيمجور (المرجع السابق) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 علي فقبض عليه، وعلى متولي الديوان. وسار إلى نيسابور، واستخلف على الريّ والجبل، وبلغ الخبر إلى الأمير نوح، فنهض إلى مرو واضطرب الناس عليه، وشكوا من محمد بن أحمد الحاكم مدبّر ملكه، ورأوا أنه الّذي أوحش أبا عليّ وأفسد الدولة، فنقموا ذلك عليه، واعتلّوا عليه فدفع إليهم الحاكم فقتلوه منتصف خمس وثلاثين وثلاثمائة. ووصل أبو علي إلى نيسابور وبها إبراهيم بن سيجور ومنصور بن قراتكين وغيرهما من القوّاد فاستمالهم، وساروا معه، ودخلها في محرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ثم ارتاب بمنصور بن قراتكين فحبسه، وسار من نيسابور ومعه العم إبراهيم إلى مرو، وهرب أخوه الفضل في طريقه من محبسه، ولحق بقهستان. ولما قاربوا مرو اضطرب عسكر الأمير نوح، وجاء إليهم أكثرهم. واستولى عليها وعلى طخارستان، وبعث نوح العساكر من بخارى مع الفضل أبي علي إلى الصغانيان فأقاموا بها، ودسّ إليهم أبو عليه فقبضوا على الفضل وبعثوا به الى بخارى وعاد أبو علي من طخارستان إلى الصغانيان فأقاموا بها في ربيع سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وقاتل العساكر فغلبوه، ورجع إلى الصغانيان. ثم تجاوزها وأقام قريبا منها، ودخلتها العساكر فخرّبوا قصوره ومساكنه، وخرجوا في اتباعه، فرجع وأخذ عليهم المسالك، فضاقت أحوالهم، وجنحوا إلى الصلح معه على أن يبعث بابنه أبي المظفّر عبد الله إلى الأمير نوح رهينة، فانعقد ذلك منتصف سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. وبعث بابنه إلى بخارى فأمر نوح بلقائه، وخلع عليه وخلطه بندمائه، وسكنت الفتنة. قال ابن الأثير: هذا الّذي ذكره مؤرخو خراسان في هذه القصة، وأمّا أهل العراق فقالوا: إنّ أبا علي لمّا سار نحو الريّ استمدّ ركن الدولة بن بويه أخاه عماد الدولة فكتب يشير عليه بالخروج عن الريّ وملكها أبو علي، وكتب عماد الدولة إلى نوح سرّا يبذل له في الريّ في كل سنة مائة ألف دينار وزيادة على ضمان أبي علي، ويعجّل له ضمان سنة وسجله عليه. ثم دسّ عماد الدولة إلى نوح في القبض على أبي علي وخوّفه منه، فأجاب الأمير نوح إلى ذلك، وبعث تقرير الضمان، وأخذ المال. ودسّ ركن الدولة إلى أبي علي بهمذان ورجع به على خراسان. وعاد ركن الدولة إلى الريّ واضطربت خراسان، ومنع عماد الدولة مال الضمان خوفا عليه في طريقه من أبي علي. وبعث إلى أبي علي يحرّضه على اللقاء ويعده بالمدد. وفسد ما بينه وبين إبراهيم، وانقبض عنه، وأنّ الأمير نوحا سار إلى بخارى عند مفارقتها أبي علي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 وحارب إبراهيم العم ففارقه القوّاد إلى الأمير نوح فأخذ أسيرا وسمله الأمير نوح وجماعة من أهل بيته والله أعلم. (انتقاض ابن عبد الرزاق بخراسان) كان محمد بن عبد الرزاق عاملا بطوس وأعمالها وكان أبو علي استخلفه بنيسابور عند ما زحف منها إلى الأمير نوح، فلما راجع الأمير نوح ملكه انتقض ابن عبد الرزاق بخراسان. وولّى الأمير نوح على خراسان محمد بن عبد الرزاق [1] واتفق وصول وشمكير منهزما من جرجان أمام الحسن الفيرزان، واستمدّ الأمير نوحا فأخرج معه منصورا في العساكر وأمرهما بمعاجلة ابن عبد الرزاق، فخرج سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى أستراباذ ومنصور في اتباعه فلحق بجرجان واستأمن إلى ركن الدولة بن بويه ومضى إلى الريّ. وسار منصور بن قراتكين إلى طوس، وحاصر رافع إلى قلعة أخرى [2] فحاصره منصور بها حتى استأمن إليه، وجمع ما معه فأنهبه أصحابه. وخرج معهم فافترقوا في الجبال واحتوى منصور على ما وجد بالحصن وحمل عيال محمد بن عبد الرزاق وأمّه إلى بخارى فاعتقلوا بها. ولما وصل محمد بن عبد الرزاق إلى ركن الدولة بن بويه أفاض عليه العطاء وسرّحه إلى محاربة المرزبان بأذربيجان كما يأتي.   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 470: «كان محمد بن عبد الرزاق بطوس وأعمالها، وهي في يده ويد نوّابه، فخالف على الأمير نوح بن نصر السامانيّ، وكان منصور بن قراتكين، صاحب جيش خراسان، بمرو عند نوح، فوصل اليها وشمكير منهزما من جرجان، قد غلبه عليها الحسن بن الفيرزان» . [2] هكذا بالأصل والمعنى غير واضح وفي الكامل: «وسار منصور من نيسابور الى طوس، وحصروا رافع بن عبد الرزاق بقلعة شميلان، فاستأمن بعض أصحاب رافع إليه، فهرب رافع من شميلان الى حصن درك، فاستولى منصور على شميلان، وأخذ ما فيها من مال وغيره واحتمى رافع بدرك، وبها أهله ووالدته، وهي على ثلاثة فراسخ من شميلان، فأخرب منصور شميلان، وسار إلى درك فحاصرها، وحاربهم عدة أيام فتغيّرت المياه بدرك، فاستأمن أحمد بن عبد الرزاق الى منصور ... » . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 استيلاء ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان ومسير العساكر إلى جرجان والصلح مع الحسن بن الفيرزان ولما وقع من الاضطراب ما وقع بخراسان، اجتمع ركن الدولة بن بويه والحسن بن الفيرزان، وقصدوا بلاد وشمكير فهزموه، وملك ركن الدولة طبرستان. وسار إلى جرجان فملكها، وأقام بها الحسن بن الفيرزان. واستأمن قوّاد وشمكير إليهم فأمّنوهم وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بصاحب خراسان، فسار معه منصور بن قراتكين في عساكر خراسان إلى جرجان، وبها الحسن بن الفيرزان. واسترهن ابنه، ثم أبلغه عن الأمير نوح ما أقلعه فأعاد على الحسن ابنه، وعاد إلى نيسابور وأقام وشمكير باورن [1] (مسير ابن قراتكين الى الريّ وعوده اليه) ثم سار منصور بن قراتكين سنة تسع وثمانين وثلاثمائة [2] إلى الريّ بأمر الأمير نوح لغيبة ركن الدولة بن بويه في نواحي فارس، فوصل إلى الريّ، واستولى عليها وعلى الجبل إلى قرميسين فكبس الذين بها من العسكر وهم غارون وأسروا مقدّمهم محكما وحبس ببغداد، ورجع الباقون إلى همذان. فسار سبكتكين نحوهم، وجاء ركن الدولة إثر الانهزام، وشاور وزيره أبا الفضل بن العميد فأشار عليه بالثبات. ثم أجفل عسكر خراسان إلى الريّ لانقطاع الميرة عنهم، وكان ذلك سواء بين الفريقين، إلّا أنّ الديلم كانوا أقرب إلى البداوة، فكانوا أصبر على الجوع والشظف، فركب ركن الدولة واحتوى على ما خلفه عسكر خراسان.   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 478: «وأقام الحسن بزوزن وبقي وشمكير بجرجان» . [2] يذكر ابن الأثير هذه الحوادث سنة 339 وهو الصحيح وليس تسع وثمانين كما يذكر ابن خلدون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 (وفاة ابن قراتكين ورجوع أبي عليّ بن محتاج إلى ولاية خراسان) ثم توفي منصور بن قراتكين صاحب خراسان بالريّ بعد عوده من أصفهان في ربيع سنة أربعين، وحملت جنازته إلى أسفيجاب فدفن بها عند والده، فولّى الأمير نوح على خراسان أبا علي بن محتاج، وأعاده إلى نيسابور. وقد كان منصور يستقيل من ولاية خراسان لما يلقى بها من جندها، ويستعفي نوحا المرّة بعد المرّة، وكان نوح يعد أبا علي بعوده إلى ولايته. فلما توفي منصور بعث إليه بالخلع واللواء، وأمره بالمسير وأقطعه الريّ وأمره بالمسير إليها فسار عن الصغانيان في رمضان سنة أربعين وثلاثمائة واستخلف مكانه ابنه أبا منصور وانتهى إلى مرو فأقام إلى أن أصلح امر خوارزم وكانت شاغرة. ثم سار إلى نيسابور فأقام بها. ولما كانت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة كتب وشمكير إلى الأمير نوح يأمر أبا علي ابن محتاج بالمسير معه في عساكر خراسان، فساروا في ربيع من السنة، وخام ركن الدولة عن لقائهم، فامتنع بطزل [1] وأقام عليه أبو علي عدّة شهور يقاتله حتى سئم العسكر، وعجفت دوابهم فمال إلى الصلح، وسعى بينهما فيه محمد بن عبد الرزاق المقدّم ذكره، فتصالحا على مائتي ألف دينار ضريبة يعطيها ركن الدولة في كل سنة، ورجع أبو علي إلى خراسان. وكتب وشمكير إلى الأمير نوح بأنّ أبا علي لم ينصح في الحرب، وأنّ بينه وبين ركن الدولة مداخلة. وسار ركن الدولة بعد انصراف أبي علي نحو وشمكير فانهزم إلى أسفراين، واستولى ركن الدولة على طبرستان. (عزل الأمير أبي علي عن خراسان ومسيره الى ركن الدولة وولاية بكر بن مالك مكانه) ولما تمكنت سعاية وشمكير من أبي علي عند الأمير نوح، كتب إليه بالعزل عن خراسان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وكتب إلى القواد بمثل ذلك. واستعمل على   [1] هو حصن من حصون فارس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 الجيوش مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، وبعث أبو علي يعتذر فلم يقبل وأرسل جماعة من أعيان نيسابور يسألون إبقاءه فلم يجيبوا، فانتقض أبو علي وخطب لنفسه بنيسابور وكتب نوح إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان بأن يتفقا ويتعاضدا على أولياء ركن الدولة حيث كانوا ففعلا ذلك، فارتاب أبو علي بأمره ولم يمكنه العود إلى الصغانيان، ولا المقام بخراسان، فصرف وجهه إلى ركن الدولة واستأذنه في المسير إليه فأذن. وسار أبو علي إلى الريّ سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فأكرمه ركن الدولة وأنزله معه واستولى بكر على خراسان. (وفاة الأمير نوح وولاية ابنه عبد الملك) ثم توفي الأمير نوح بن نصر ولقبه الحميد في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة لاثنتي عشرة سنة من ولايته، وولي بعده ابنه عبد الملك. وقام بأمره بكر بن مالك الفرغاني فلمّا قرّر أمر دولته، وثبت ملكه، أمر بكرا بالمسير إلى خراسان فكان من شأنه مع أبي علي ما قدّمناه. (مسير العساكر من خراسان الى الري وأصفهان) ثم زحفت عساكر خراسان إلى الريّ سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وبها ركن الدولة بن بويه قدم إليها من جرجان، واستمدّ أخاه معزّ الدولة ببغداد، فأمدّه بالحاجب سبكتكين. وبعث بكر عسكرا آخر من خراسان مع محمد بن ما كان على طريق المفازة إلى أصفهان. وكان بأصفهان أبو منصور علي بن بويه بن ركن الدولة فخرج عنها مجرم أبيه وخزائنه. وانتهى الى خالنجان، ودخل محمد بن ماكان أصفهان وخرج في اتباع ابن بويه، وأدرك الخزائن فأخذها وسار فأدركه. ووافق وصول أبي الفضل بن العميد وزير ركن الدولة في تلك الساعة فقاتله ابن ماكان وهزم أصحابه، وثبت ابن العميد، وشغل عسكر ابن ما كان بالنهب، فاجتمع على ابن العميد لمة من العسكر فاستمات، وحمل على عسكر ابن ما كان فهزمهم وأسر ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 ما كان. وسار ابن العميد إلى أصفهان فملكها، وأعاد حرم ركن الدولة وأولاده إلى حيث كانوا من أصفهان. ثم بعث ركن الدولة إلى بكر بن مالك صاحب الجيوش بخراسان وقرّر معه الصلح على مال يحمله ركن الدولة إليه على الريّ وبلد الجيل، فتقرّر ذلك بينهما، وبعث إليه من عند أخيه ببغداد بالخلع واللواء بولاية خراسان، فوصلت إليه في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. (وفاة عبد الملك بن نوح صاحب ما وراء النهر وولاية أخيه منصور) ثم توفي الأمير عبد الملك لإحدى عشرة خلت من شوّال سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، لسبع سنين من ولايته. وولي بعده أخوه أبو الحرث منصور بن نوح، واستولى ركن الدولة لأوّل أيامه على طبرستان وجرجان فملكهما. وسار وشمكير عنها فدخل بلاد الجبل. (مسير العساكر من خراسان الى الري ووفاة وشمكير) قد ذكرنا من قبل أنّ وشمكير كان يقدح في عمّال بني سامان بأنهم لا ينصحون لهم، ويداخلون عدوّهم من الديلم. ووفد أبو علي بن الياس صاحب كرمان على الأمير أبي الحرث منصور مستجيشا به علي بني بويه، فحرّضه على قصد الريّ وحذّره من الاستمالة في ذلك إلى عمّاله كما أخبره وشمكير، وبعث إلى الحسن بن الفيرزان بالنفير مع عساكره. ثم أمر صاحب جيوش خراسان أبا الحسن بن محمد بن سيجور الدواني [1] بالمسير إلى الريّ وأوصاه بالرجوع إلى رأي وشمكير. وبلغ الخبر إلى ركن الدولة، فاضطرب وبعث بأهله وولده إلى أصفهان. واستمدّ ابنه عضد الدولة بفارس، وبختيار ابن أخيه عزّ الدولة ببغداد، فبادر عضد الدولة إلى إمداده. وبعث العساكر على طريق خراسان يريد قصدها لخلوّها من العسكر، فأجحفت   [1] وفي الكامل سيمجور الدواتي وقد مرّ معنا من قبل. ابن الأثير ج 8 ص 578. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 عساكر خراسان، وانتهوا إلى الدامغان، فأقاموا. وبرز ركن الدولة نحوهم في عساكره من الريّ، وبينما هم في ذلك ركب وشمكير يوما ليتصيّد فاعترضه خنزير، فأجفل فرسه وسقط الى الأرض وانهشم ومات، وذلك في المحرم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وانتقض ما كانوا فيه، وقام يسنون [1] بن وشمكير مقام أبيه، وراسل ركن الدولة وصالحه، فأمدّه ركن الدولة بالمال والرجال. (خبر ابن الياس بكرمان) كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة بني سامان، واستبدّ بها وأصابه فالج وأزمن به. وكان له ثلاثة من الولد: اليسع والياس وسليمان فعهد إلى اليسع وبعده الياس وأمر سليمان بالعود إلى أرضهم ببلاد الصغد، يقيم بها فيما لهم هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان واليسع فخرج سليمان لذلك، واستولى على السيرجان، فأنفذ إليه أبوه أبو علي ابنه الآخر في عسكر، وأمره بإجلائه عن البلاد، ولا يمكنه من قصد الصغد إن طلبها، فسار وحاصره. ولما ضاق الحصار على سليمان جمع أمواله ولحق بخراسان. وملك اليسع السيرجان وسار إلى خراسان. ثم لحق أبو علي ببخارى ومعه ابنه سليمان فأكرمه الأمير أبو الحرث وقرّبه. وأغزاه أبو علي بالريّ، وتجهيز العساكر إليه كما ذكرناه، وأقام عنده إلى أن توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة كما نذكر في أخباره. ولحق اليسع ببخارى فأقام بها، ثم سعى سليمان عند الأمير أبي الحرث منصور في المسير إلى كرمان وأطمعه في ملكها، وأنّ أهلها في طاعته، فبعث معه عسكرا. ولما وصل أطاعه أهل نواحيها من القمص والبولص وجميع المنتقضين على عضد الدولة، واستفحل أمره فسار إليه كوركين عامل عضد الدولة بكرمان، وحاربه ونزعت عساكره عنه، فانهزم وقتل معه ابنا أخيه اليسع وهما بكر والحسين وكثير من القوّاد وصارت كرمان للديلم.   [1] بيستون: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 (انعقاد الصلح بين منصور بن نوح وبين بني بويه) ثم انعقد الصلح بين الأمير أبي الحرث منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر، وبين ركن الدولة وزوّجه ابنته، وحمل إليه الهدايا والتحف ما لم يحمل مثله. وكتب بينهم كتاب الصلح، شهد فيه أعيان خراسان وفارس والعراق. وتمّ ذلك على يد أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب الجيوش بخراسان من جهة الأمير أبي الحرث في سنة إحدى وستين وثلاثمائة. (وفاة منصور بن نوح وولاية ابنه نوح) ثم توفي الأمير أبو الحرث منصور ببخارى منتصف سنة ست وستين وثلاثمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم نوح صبيا لم يبلغ الحلم، فاستوزر أبا الحسن العتبي، وجعل على حجابة بابه مولاه أبا العبّاس قاسما، وكان من موالي أبي الحسن العتبي فأهداه إلى الأمير أبي صالح وشركهما في أمر الدولة أبو الحسن فائق، وأقرّ على خراسان أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور واطردت أمور الدولة على استقامتها. (عزل ابن سيجور عن خراسان وولاية أبي العباس تاش) قد تقدّم لنا شأن خلف بن أحمد الليثي صاحب سجستان وانتصاره بالأمير منصور ابن فرج على قريبه طاهر بن خلف بن أحمد بن الحسين المنتقض عليه لسنة أربع وخمسين وثلاثمائة وأنه مدّه بالعسكر وردّه إلى ملكه. ثم انتقض طاهر ثانيا بعد انصراف العسكر عن خلف، وبعث مستجيشا فأمدّه ثانيا. وقد هلك طاهر وولي ابنه الحسين فحاصره خلف، وأرهقه الحصار فنزل لخلف عن سجستان ولحق بالسعيد نوح بن منصور. وأقام خلف دعوة نوح في سجستان وحمل المال متقرّرا عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 كل سنة. ثم قصر في الطاعة والخدمة، وصار يتلقى الأوامر بالإعراض والإهمال فرمي بالحسين بن طاهر في جيوش خراسان وحاصره بقلعة أرك وطال انحصاره وأمدّه العتبي الوزير بجماعة القوّاد كالحسن بن مالك وبكتاش فأقاموا عليه سبع سنين حتى فنيت الرجال والأموال. وكان ابن سيجور صاحبه فلم يغن عليه، وعوتب في ذلك، وعزل عن خراسان بأبي العبّاس تاش فكتب يتعذر ورحل إلى قهستان ينتظر جواب كتابه، فجاءه كتاب الأمير نوح بالمسير إلى سجستان فسار، واستنزل خلفا من معقلة للحسين بن طاهر، وسار خلف إلى حصن الطاق، وداخله ابن سيجور وأقام خطبة لرضا نوح به وانصرف. ولمّا ولّى الأمير نوح الحاجب أبا العبّاس تاش قيادة خراسان سار إليها سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة فلقي هنالك فخر الدولة ابن ركن الدولة، وشمس المعالي قابوس بن وشمكير ناجين من جرجان، وكان من خبرهما أنّ عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة وهزمه، ولحق فخر الدولة بقابوس، وبعث عضد الدولة في طلبه ترغيبا وترهيبا فأجاره قابوس، وبعث عضد الدولة في طلبه أخاه مؤيد الدولة في العساكر إليهم، ولقيهم قابوس فهزموه فسار إلى بعض قلاعه، واحتمل منها ذخائره ولحق بنيسابور. ولحق به فخر الدولة ناجيا من المعركة فأكرمهم أبو العبّاس تاش، وأنزلهم خير منزل، وأقاموا عنده واستولى مؤيد الدولة على جرجان وطبرستان. (مسير أبي العباس في عساكر خراسان الى جرجان ثم مسيره إلى بخارى) ولما وصل قابوس بن وشمكير وفخر الدولة بن ركن الدولة إلى أبي العبّاس تاش مستجيرين بالأمير نوح على استرجاع جرجان وطبرستان من يد مؤيّد الدولة، كتب بذلك إلى الأمير نوح ببخارى فأمره بالمسير معهما، وإعادتهما إلى ملكهما، فسار معهما لذلك في العساكر، ونازلوا جرجان شهرين حتى ضاق عليهم الحصار، وداخل مؤيد الدولة فائقا من قوّاد خراسان ورغّبه فوعده بالانهزام. ثم خرج مؤيد الدولة من جرجان في عساكره مستميتا فهزمهم، ورجعوا إلى نيسابور وكتبوا إلى بخارى بالخبر فأجابهم الأمير نوح بالوعد. واستنفر العساكر من جميع الجهات إلى نيسابور للمسير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 مع قابوس وفخر الدولة، فاجتمعوا لك. ثم جاء الخبر بقتل الوزير أبي الحسن العتبي، وكان زمام الدولة بيده، فيقال إنّ أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور وضع عليه من قتله، وذلك سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ولما قتل كتب الأمير نوح بن منصور إلى الحاجب أبي العبّاس تاش يستدعيه لتدبير دولته ببخارى، فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسن. (ردّ أبي العباس الى خراسان ثم عزله وولاية ابن سيجور) ولما سار أبو العبّاس إلى بخارى وكان أبو الحسن بن سيجور من حين سار إلى سجستان كما مرّ مقيما بها. ثم رجع آخرا إلى قهستان. فلما سار أبو العبّاس تاش إلى بخارى، وكتب ابن سيجور إلى فائق يطلب مظاهرته على ملك خراسان، أجابه إلى ذلك، واجتمعا بنيسابور واستوليا على خراسان، وسار إليهما أبو العبّاس تاش في العساكر. ثم تراسلوا كلّهم واتفقوا على أن يكون بنيسابور، وقيادة العساكر لأبي العبّاس تاش، وبلخ لفائق، وهراة لأبي الحسن بن سيجور، وانصرف كل واحد إلى ولايته. وكان فخر الدولة بن بويه خلال ذلك معهما بنيسابور ينتظر النجدة إلى أن هلك أخوه مؤيد الدولة بجرجان في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. واستدعاه أهل دولته للملك فكاتبه الصاحب ابن عبّاد وغيره فسار إليهم، واستولى على ملك أخيه بجرجان وطبرستان، وكان الأمير نوح لما سار أبو العبّاس من بخارى إلى نيسابور استوزر مكانه عبد الله بن عزيز، وكانت بينه وبين أبي الحسن العتبي منافسة وعداوة. ثم لمّا ولي الوزارة تقدّم على عزل أبي العبّاس عن خراسان وكتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بخراسان بولاية نيسابور. (انتقاض أبي العباس وخروجه مع ابن سيجور ومهلكه) ولما عزل أبو العبّاس تاش عن خراسان كتب إلى الأمير نوح يستعطفه فلم يجبه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 فانتقض. وكتب إلى فخر الدولة يستمدّه على ابن سيجور فأمدّه بالأموال والعسكر مع أبي محمد عبد الله بن عبد الرزاق، وسار إلى نيسابور في عساكره وعساكر الديلم، وتحصّن ابن سيجور بنيسابور، وجاءه [1] مدد آخر من فخر الدولة وبرز ابن سيجور للقائهم فهزموه وغنموا منه. واستولى أبو العبّاس على نيسابور، وكتب إلى الأمير نوح يستعطفه، ولجّ ابن عزيز في عزله. ثم ثاب لابن سيجور رأيه، وعادت إليه قوّته. وجاءه الأمراء من بخارى مددا. وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة بفارس يستمدّه فأمده بألفي فارس مراغمة لعمّه فخر الدولة. فلمّا كثف جمعه زحف إلى أبي العبّاس وقاتله فهزمه، ولحق بفخر الدولة ابن بويه بجرجان فأكرمه وعظّمه، وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ إقطاعا. وسار عنها إلى الري، وبعث إليه من الأموال والآلات ما يخرج عن الحدّ. وأقام أبو العبّاس بجرجان. ثم جمع العساكر وسار إلى خراسان، فلم يقدر على الوصول إليها وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين، ومات سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. وقام أهل جرجان بأصحابه لما كانوا يحقدون عليهم من سوء السيرة فقاتلهم أصحابه، واستباحوهم حتى استأمنوا وكفّوا عنهم. ثم افترق أصحابه وسار أكثرهم وهم كبار الخواص والغلمان إلى خراسان، وقد كان صاحبها أبو الحسن سيجور مات فجأة. وقام بأمرها مكانه ابنه أبو علي، وأطاعه إخوته وكبيرهم أبو القاسم، ونازعه فائق الولاية فلحق به أصحاب أبي العبّاس واستكثر بهم لشأنه. (ولاية أبي علي بن سيجور على خراسان) قد تقدم اتفاق أبي الحسن بن سيجور وأبي العبّاس تاش وفائق على أن تكون نيسابور وقيادة خراسان لتاش، وبلخ لفائق، وهراة لأبي علي بن أبي الحسن سيجور. ثم عزل تاش بسعاية الوزير ابن عزيز وولي أبو الحسن وكانت بينهما الحرب التي مرّ ذكرها. وانهزم تاش إلى جرجان فاستقرّ أبو علي بهراة وفائق ببلخ، وكان ابن عزيز يستحثّ الحسن لقصد جرجان. ثم عزل ابن عزيز ونفي إلى خوارزم، وقام   [1] الضمير هنا عائد الى ابن سيمجور ومقتضى السياق الضمير يقتضي ان يعود لابن تاش. ابن خلدون م 30 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 مكانه أبو علي محمد بن عيسى الدامغانيّ. ثم عجز لما نزل بالدولة من قلّة الخراج وكثرة المصاريف، فصرف عن الوزارة بابي نصر بن أحمد بن محمد بن أبي يزيد. ثم عزل وأعيد أبو علي الدامغانيّ. وهلك أبو الحسن بن سيجور خلال ذلك، وقام ابنه أبو علي مقامه. وكاتب الأمير نوح بن منصور يطلب أن يعقد له الولاية كما كانت لأبيه فأجيب إلى ذلك ظاهرا، وكتب لفائق بولاية خراسان، وبعث إليه بالخلع والألوية. وكان أبو علي يظنّ أنّها له، فلمّا بدا له من ذلك ما لم يحتسب، جمع عسكره وأغذ السير، وأوقع بفائق ما بين هراة وبوشنج، فانهزم فائق إلى مروالروذ، وملك أبو علي مرو، ووصله عهد الأمير نوح بقيادة الجيوش وولاية نيسابور وهراة وقهستان ولقّبه عماد الدولة، ثم رقّاه الأمير نوح. واستولى على سائر خراسان، واستبدّ بها على السلطان حتى طلبه نوح في بعض أعمالها لنفقته فمنعه، وأقام مظهرا لطاعته، وخشي غائلة السلطان من طلبة نوح فكاتب بقراخان ملك الترك ببلاد كاشغر وشاغور يغريه ويستحثّه لملك بخارى وما وراء النهر على أن يستقرّ هو بخراسان. (خبر فائق) وأقام بعد انهزامه أمام أبي علي بمروالروذ حتى اندملت جراحة، واجتمع إليه أصحابه. وسار إلى بخارى قبل أن يستأذن، فارتاب به الأمير نوح فسرّح إليه العساكر مع أخي الحاجب، وفكنزرون [1] فانهزم وعبر النهر إلى بلخ، فأقام بها أياما، وسار إلى ترمذ وكاتب بقراخان يستحثّه. وكتب الأمير نوح إلى والي الجوزجان أبي الحرث أحمد بن محمد الفيرقوني بقصد فائق، فقصده في جموعه، وسرّح فائق إليه بعض عسكره فهزمه وعاد إلى بلخ. وكان طاهر بن الفضل قد ملك الصغانيان على أبي المظفّر محمد بن أحمد، وهو واحد خراسان فانقطع أبو المظفّر إلى فائق صريخا، فأمدّه وسار إلى طاهر بعسكر فائق، واقتتلوا فانهزم طاهر وقتل، وصارت الصغانيان لفائق.   [1] وفي نسخة اخرى بكثرزون وفي الكامل ج 9 ص 129: بكتوزون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 (استيلاء الترك على بخارى) ولما خرج الأمير نوح عن بخارى عبر النهر واستقر بآمل الشط، وكاتب أبا علي بن سيجور يستحثّه للنصرة، وكاتب فائقا أيضا يستصرخه فلم يصرخه أحد منهما. وبلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذّ السير إليها، وعاود الجلوس على كرسي ملكه، وتباشر الناس بقدومه. ثم بلغه مهلك بقراخان فتزايد سرورهم، ولما عاد الأمير نوح إلى بخارى ندم أبو علي على ما فرّط فيه من نصرته، وأجمع الاستظهار بفائق، فأزاحوه عن ملكه وملكوها، ولحق فائق بأبي علي بن سيجور، وتظاهرا على الأمير نوح وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. (عزل أبي علي بن سيجور عن خراسان وولاية سبكتكين) ولما اجتمع أبو علي بن سيجور وفائق على منافرة الأمير نوح وعصيانه، كتب الأمير نوح الى سبكتكين، وكان أميرا على غزنة ونواحيها يستقدمه لنصره منهما، وإنجاده عليهما، وولّاه خراسان. وكان سبكتكين في شغل عن أمرهم بما هو فيه من الجهاد مع كفّار الهند. فلما جاءه كتاب نوح ورسوله بادر إليه، وتلقّى أمره في ذلك، وعاد إلى غزنة فجمع العساكر، وبلغ الخبر أبا علي وفائقا، فبعثا إلى فخر الدولة بن بويه يستنجدانه، واستعانا في ذلك بوزيره الصاحب بن عبّاد، فبعث إليهما مددا من العساكر. ثم سار سبكتكين وابنه محمود نحو خراسان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وسار الأمير نوح واجتمعوا ولقوا أبا علي وفائقا بنواحي هراة، وكان معهما دارا بن قابوس بن وشمكير، فنزع إلى الأمير نوح، وانهزم أصحاب أبي علي وفائق وفتك فيهم أصحاب سبكتكين واتبعوهم إلى نيسابور، فلحقا بجرجان، وتلقّاهما فخر الدولة بالهدايا والتحف والأموال، وأنزلهما بجرجان. واستولى نوح على نيسابور، واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين، ولقّبه سيف الدولة. ولقّب أباه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 سبكتكين ناصر الدولة، وعاد نوح إلى بخارى وترك سبكتكين بهراة ومحمود بنيسابور. (عود ابن سيجور الى خراسان) لما افترق نوح وسبكتكين طمع أبو علي وفائق في خراسان، فسار عن جرجان إلى نيسابور في ربيع سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وبرز محمود للقائهما بظاهر نيسابور، وأعجلوه عن وصول المدد من أبيه سبكتكين. وكان في قلّة، وانهزم إلى أبيه، وغنموا اسواده. وأقام أبو علي بنيسابور وكان الأمير نوح يستميله ويتلطّف في العذر مما كان سبكتكين فلم يجيباه إلى ما طلب. (ظهور سبكتكين وابنه محمود على أبي علي وفائق ومقتل أبي علي) ولما دخل أبو علي نيسابور، وانهزم عنها محمود، جمع سبكتكين العساكر وسار إليه، فالتقوا بطوس، وجاء محمود على أثره مددا، فانهزم هو وفائق إلى أبيورد، فاتبعهما سبكتكين بعد أن استخلف ابنه محمودا بنيسابور فلحقا بمرو، ثم آمل الشطّ، وكتبا إلى الأمير نوح يستعطفانه، فشرط على أبي علي أن ينزل بالجرجانيّة ويفارق فائقا ففعل. ونزل قريبا من خوارزم بالجرجانية، فأكرمه أبو عبد الله خوارزم شاه وسكن إليه، وبعث من ليلته من جاء به واعتقله وأعيان أصحابه. وبلغ الخبر إلى مأمون بن محمد صاحب الجرجانية فاستعظم ذلك. وسار بعساكره إلى خوارزم شاه وافتتح مدينته وتسمّى كاش [1] عنوة، وخلّص أبا علي من محبسه، وعاد إلى الجرجانية واستخلف بعض أصحابه على بلاد خوارزم. ولما عاد إلى الجرجانية أخرج خوارزم شاه وقتله بين يدي أبي علي بن سيجور، وكتب إلى الأمير نوح يشفع في أبي علي   [1] كاث: ابن الأثير ج 9 ص 108. ومعنى الكاث بلغة أهل خوارزم الحائط في ... الصحراء من غير ان يحيط به شيء، وهي بلدة كبيرة من نواحي خوارزم (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 فشفعه. واستدعى أبا علي إلى بخارى فسار إليها وأمر الأمراء والعساكر بتلقيه، فلما دخل عليه أمر بحبسه. وشف سبكتكين فيه فهرب ولحق بفخر الدولة، وأقام عنده. وأمّا فائق فلما فارقه أبو علي كما شرط عليه الأمير نوح سار إلى إيلك خان ملك الترك بكاشغر، فأكرمه وكتب إلى نوح يشفع فيه فقبل شفاعته وولّاه عليها وأقام بها. (وفاة الأمير نوح وولاية ابنه منصور وولاية بكثرزون على خراسان) ثم توفي الأمير نوح بن منصور منتصف سبع وثمانين وثلاثمائة لإحدى وعشرين سنة من ملكه، وانتقض بموته ملك بني سامان وصار إلى الانحلال. ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور، وتابعه أهل الدولة واتفقوا على طاعته، وقام بتدبير دولته بكثرزون. واستوزر أبا طاهر محمد بن إبراهيم، وبلغ خبر وفاة نوح إلى إيلك خان، فطمع في ملكهم، وسار إلى سمرقند، وبعث من هنالك فائقا والخاصة إلى بخارى فاضطرب منصور وهرب عن بخارى وقطع النهر. ودخل فائق بخارى وأعلم الناس أنه إنما جاء لخدمة الأمير منصور، فبعث مشايخ بخارى بذلك إلى منصور ودخل. واستقدموه بعد أن أخذوا له مواثيق العهد من فائق، فاطمأن وعاد الى بخارى، وأقام فائق بتدبير أمره وتحكّم في دولته وأبعد بكثرزون إلى خراسان أميرا، وقد كان سبكتكين توفي في شعبان من هذه السنة، ووقعت الفتنة بين ابنيه إسماعيل ومحمود فقدم بكثرزون أيام فتنتهما واستولى على خراسان. (عود أبي القاسم بن سيجور الى خراسان وخيبته) قد ذكرنا مسير بكثرزون إلى خراسان عند مفرّه أيام محمود بن سبكتكين من خراسان وأقام عند فخر الدولة، وعند أبيه مجد الدولة واجتمع عنده أصحاب أبيه، وكتب إليه فائق من بخارى يغريه ببكثرزون ويأمره بقصد خراسان ويخرج بكثرزون منها فسار عن جرجان إلى نيسابور، وبعث جيشا إلى أسفراين فملكوها من يد أصحاب بكثرزون، ثم تردّد السفراء بينهما، ووقع الصلح والصهر وعاد بكثرزون إلى نيسابور . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 (انتقاض محمود بن سبكتكين وملكه نيسابور ثم خروجه عنها) لما فرغ محمود بن سبكتكين من أمر الفتنة بينه وبين أخيه إسماعيل، واستولى على ملك غزنة، وعاد إلى بلخ وجد بكثرزون واليا على خراسان كما ذكرناه فبعث إلى الأمير منصور بن نوح يذكر وسائله في الطاعة والمحاباة، ويطلب ولاية خراسان، فاعتذر له عنها وولّاه ترمذ وبلخ وما وراءهما من أعمال بست. فلم يرض ذلك، وأعاد الطلب فلم يجب، فسار إلى نيسابور وهرب منها بكثرزون وملكها محمود سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فسار الأمير منصور من بخارى إليه فخرج عنها إلى مروالروذ وأقام بها. (خلع الأمير منصور وولاية أخيه عبد الملك) ولما سار الأمير منصور عن بخارى إلى خراسان لمدافعة محمود بن سبكتكين عن نيسابور، سار بكثرزون للقائه فلقيه بسرخس، ثم لم يلق من قبوله ما كان يؤمّله، فشكا ذلك إلى فائق فألفاه واجدا مثل ذلك فخلصا في نجواهما، واتفقا على خلعه وإقامة أخيه عبد الملك مقامه، ووافقهما على ذلك جماعة من أعيان العسكر، ثم قبضوا عليه وسملوه أوّل سنة تسعين لعشرين شهرا من ولايته، وولي مكانه أخوه عبد الملك. وبعث محمود إلى فائق وبكثرزون يقبّح عليهما فعلهما. وسار نحوهما طامعا في الاستيلاء على الملك. (استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان) ثم سار محمود بن سبكتكين إلى فائق وبكثرزون ومعهما عبد الملك الصبي الّذي نصّبوه فساروا إليه، والتقوا بمرو سنة تسعين وثلاثمائة وقاتلهم فهزمهم وافترقوا. ولحق عبد الملك ببخارى ومعه فائق، ولحق بكثرزون بنيسابور، ولحق أبو القاسم بن سيجور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 بقهستان وقصد محمود نيسابور، وانتهى إلى طرسوس فهرب بكثرزون إلى جرجان، وبعث في إثره أرسلان الحاجب [1] إلى أن وصل جرجان، ورجع فاستخلفه محمود على طرسوس، وسار إلى هراة فخالفه بكثرزون إلى نيسابور وملكها. ورجع إليها محمود فأجفل عنها، ومرّ بمرو فنهبها ولحق ببخارى واستقرّ محمود بخراسان وأزال عنها ملك بني سامان، وخطب فيها للقادر العبّاسي، واستدعى الولاية من قبله فبعث إليه بالعهد عليها والخلع لبني سيجور، وأنزله نيسابور وسار هو إلى بلخ كرسي أبيه فافتقده [2] واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته مثل آل أفريقون بالجوزجان والشاه صاحب غرسيان وبني مأمون بخوارزم. (استيلاء ايلك خان على بخارى وانقراض دولة بني سامان) ولما ملك محمود خراسان ولحق عبد الملك ببخارى اجتمع إليه فائق وبكثرزون وغيرهما من الأمراء، وأخذوا في جمع العساكر لمناهضة محمود بخراسان. ثم مات فائق في شعبان من هذه السنة فاضطربوا ووهنوا لأنه كان المقدّم فيهم، وكان خصيّا من موالي نوح بن نصر فطمع ايلك خان في الاستيلاء على ملكهم، كما ملكه بقراخان قبله، فسار في جموع الترك يظهر المدافعة لعبد الملك عنه فاطمأنوا لذلك، وخرج بكثرزون وغيره من الأمراء والقوّاد للقائه فقبض عليهم جميعا. ودخل بخارى عاشر ذي القعدة. ونزل دار الإمارة واختفى عبد الملك فبعث العيون عليه حتى ظفر به وأودعه السجن في أرزكند [3] فمات. وحبس معه أخاه أبا الحرث منصور المخلوع وإخوته الآخرين أبا إبراهيم إسماعيل وأبا يعقوب، وأعمامه أبا زكريا وأبا سليمان وأبا صالح القاري وغيرهم من بني سامان. وانقرضت دولتهم بعد أن كانت انتشرت في الآفاق ما بين حلوان وبلاد الترك، ووراء النهر، وكانت من أعظم الدول وأحسنها سياسة.   [1] أرسلان الجاذب: ابن الأثير ج 9 ص 146. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 146: «وسار هو الى بلخ «مستقرّ والده، فاتخذها دار ملك واتفق أصحاب الاطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون.» [3] بافكند: ابن الأثير ج 9 ص 149. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 (خروج إسماعيل بن نوح بخراسان) ثم هرب أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه في زيّ امرأة كانت تتعاهد خدمته فاختفى ببخارى. ثم لحق بخوارزم وتلقّب المنتصر، واجتمع إليه بقايا القوّاد والأجناد. وبعث قابوس عسكرا مع ابنيه منوجهر ودارا. ووصل إسماعيل إلى نيسابور في شوّال سنة إحدى وتسعين، وجبى أموالها. وبعث إليه محمود مع الترنتاش الحاجب الكبير صاحب هراة، فلقيهم فانهزم المنتصر إلى أبيورد وقصد جرجان فمنعه قابوس منها فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها في ربيع سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. فأرسل إليها محمود العساكر مع منصور، والتقوا فانهزم إسماعيل وأسر أبو القاسم بن سيجور في جماعة من أعيان العسكر، فبعث بهم منصور إلى غزنة، وسار إسماعيل حائرا فوافى أحياء الغزّ بنواحي بخارى فتعصّبوا عليه، وسار بهم إلى إيلك خان في شوّال سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة فلقيه بنواحي سمرقند. وانهزم ايلك واستولى الغز على سواده وأمواله، وأسرى من قوّاده ورجعوا إلى أحيائهم وتفاوضوا في إطلاق الأسرى من أصحاب ايلك خان، وشعر بهم إسماعيل فسار عنهم خائفا وعبر النهر إلى آمل الشطّ، وبعث إلى مرو ونسا وخوارزم فلم يقبلوه، وعاودوا العبور إلى بخارى وقاتله واليها فانهزم إلى دبوسية وجمع بها. ثم عاد فانهزم من عساكر بخارى وقاتله واليها. وجاءه جماعة من فتيان سمرقند فصاروا في جملته. وبعث إليه أهله بأموال وسلاح ودواب، وسار إليه ايلك خان بعد أن استوعب في الحشد ولقيه بنواحي سمرقند في شعبان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وظاهر الغزّ إسماعيل فكانت الدبرة على ايلك خان، وعاد إلى بلاد الترك فاحتشد، ورجع إلى إسماعيل وقد افترقت عنه أحياء الغزّ إلى أوطانهم، وخفّ جمعه، فقاتلهم بنواحي مروسية فهزموه وفتك الترك في أصحابه. وعبر إسماعيل النهر إلى جوزجان فنهبها، وسار إلى مرو وركب المفازة إلى قنطرة راغول، ثم إلى بسطام، وعساكر محمود في اتباعه مع أرسلان الحاجب صاحب طوس، وأرسل إليه قابوس عسكرا مع الأكراد الشاهجانية فأزعجوه عن بسطام، فرجع إلى ما وراء النهر وأدرك أصحابه الكلل والملال ففارقه الكثير منهم، وأخبروا أصحاب ايلك خان وأعلموهم بمكانه فكبسه الجند فطاردهم ساعة، ثم دخل في حيّ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 أحياء العرب بالفلاة من طاعة محمود بن سبكتكين يعرف أميرهم بابن بهيج، وقد تقدم إليهم محمود في طلبه فأنزله [1] عندهم حتى إذا جنّ الليل وثبوا عليه وقتلوه وذلك سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وانقرض أمر بني سامان وانمحت آثار دولتهم. والبقاء للَّه وحده. الخبر عن دولة بني سبكتكين ملوك غزنة وما ورثوه من الملك بخراسان وما وراء النهر عن مواليهم وما فتحوه من بلاد الهند وأوّل أمرهم ومصاير أحوالهم هذه الدولة من فروع دولة بني سامان وناشئة عنها، وبلغت من الاستطالة والعزّ المبالغ العظيمة، واستولت على ما كانت دولة بني سامان عليه في عدوتي جيحون وما وراء النهر، وخراسان، وعراق العجم، وبلاد الترك. وزيادة بلاد الهند. وكان مبدأ أمرهم عن غزنة. وذلك أنّ سبكتكين من موالي بني ألتيكين. وكان ألتيكين من موالي بني سامان. وكان في جملته، وولّاه حجابته، وورد بخارى أيام السعيد منصور بن نوح وهو إذ ذاك حاجبه، ثم تفوي ألتيكين هذا وعقد له السعيد منصور بن نوح سنة خمس وستين وثلاثمائة، وولّى ابنه نوح ويكنّى أبا القاسم واستوزر أبا الحسن العتبي، وولّى على نيسابور أبا الحسن محمد بن سيجور. وكان سبكتكين شديد الطاعة له، والقيام بحاجاته. وطرقت دولة بني سامان النكبة من الترك، واستولى بقراخان على بخارى من يد الأمير نوح. ثم رجع إليها، ومات أبو الحسن بن سيجور وولي مكانه بخراسان ابنه أبو علي. واستبدّ على الأمير نوح في الاستيلاء على خراسان عند نكبة الترك. فلما عاد الأمير نوح إلى كرسيه وثبت في الملك قدمه، كاشفه أبو علي في خراسان بالانتقاض، واستدعى أبا منصور سبكتكين يستمده على أبي علي ويستعين به في أحوال الدولة فبادر لذلك، وكان له المقام المحمود فيه. وولّاه الأمير نوح خراسان، فدفع عنها أبا علي. ثم استبد بعد ذلك على بني سامان بها. ثم غلبهم على بخارى وما وراء النهر، ومحا أثر دولتهم وخلفهم أحسن خلف،   [1] مقتضى السياق فأنزلوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 وأورث ذلك بنيه، واتصلت دولتهم في تلك الأعمال إلى أن ظهر الغزّ، وملك الشرق والغرب بنو سلجوق منهم فغلبوهم على أمرهم، وملكوا تلك الأعمال جميعا من أيديهم حسبما يذكر ذلك كله. ولنبدأ الآن بسبكتكين من الجهاد في بلاد الهند قبل ولايته خراسان. ثم نأتي بأخبارهم. (فتح بست) كانت بست هذه من أعمال سجستان وفي ولايتها ولما فسد نظام تلك الولاية بانقراض دولة بني الصفّار واخترقت تلك العمالات طوائف فانفرد ببست أمير اسمه طغان. ثم غلبه عليها آخر اسمه كان، يكنّى بأبي ثور فاستصرخ طغان سبكتكين على مال ضمنه على الطاعة والخدمة، فسار سبكتكين إلى بست وفتحها، وأخذ الوزير أبا الفتح علي بن محمد البستيّ الشاعر المشهور فأحضره واستكتبه، وكتب لابنه محمود من بعده. ثم استخلف سبكتكين وسار إلى قصدار من ورائها فملكها وتقبض على صاحبها. ثم أعاده إلى ملكه على مال يؤدّيه وطاعة يبذلها له. (غزو الهند) ثم سار سبكتكين بعد ما فتح بست وقصد غازيا بلاد الهند، وتوغل فيها حتى افتتح بلادا لم يدخلها أحد من بلاد الإسلام. ولما سمع به ملك الهند سار إليه في جيوشه وقد عبّى العساكر والفيلة على عادتهم في ذلك بالتعبية المعروفة بينهم، وانتهى إلى لمغان من ثغورة وتجاوزه، وزحف إليه سبكتكين من غزنة في جموع المسلمين، والتقى الجمعان ونصر الله المسلمين، وأسر ملك الهند وفدّى نفسه على ألف ألف درهم، وخمسين فيلا ورهن في ذلك من قومه. وبعث معه رجالا لقبض ذلك فغدر بهم في طريقه، وتقبّض عليهم، فسار سبكتكين في تعبيته إلى الهند، فقبض كل من لقيه من جموعهم، وأثخن فيهم. وفتح لمغان وهدمها وهي ثغر الهند مما يلي غزنة، فاهتز لذلك جميال واحتشد، وسار إلى سبكتكين، فكانت بينهم حرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 شديدة، وانهزم جميال وجموع الكفر، وخمدت شوكتهم، ولم يقم لملوك الهند بعدها معه قائمة. ثم صرف وجهه إلى إعانة سلطانه الأمير نوح كما نذكر. (ولاية سبكتكين على خراسان) قد قدّمنا أنّ الأمير نوح بن منصور لما طرقته النكبة ببخارى من الترك، وملكها عليه بقراخان عبر النهر إلى آمل الشطّ، واستصرخ ابن سيجور صاحب خراسان وفائقا صاحب بلخ، فلم يصرخاه، وبلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذّ السير إليها، وارتجع ملكه كما كان. وهلك بقراخان فثبت قدمه في سلطانه. وارتاب أبو علي وفائق بأمرهم عنده، وغلط فائق بالمبادرة إلى بخارى للتهنئة والتقدّم في الدولة من غير إذن في ذلك، فسرّح الأمير نوح غلمانه ومواليه فحاربوه، وملكوا بلخا من يده، ولحق بأبي علي بن سيجور، فاستظهر به على فتنة الأمير نوح وذلك سنة أربع وثمانين، فكتب الأمير نوح عند ذلك إلى سبكتكين يستدعيه للنصرة عليهما، وعقد له على خراسان وأعمالها، وكان في شغل شاغل من الجهاد بالهند كما ذكرناه فبادر لذلك. وسار إلى نوح فلقيه واتفق معه. ثم رجع إلى غزنة واحتشد وسار هو وابنه محمود ولقيا الأمير نوحا بخراسان في الموضع الّذي تواعد معه، ولقيهم أبو علي بن سيجور وفائق فهزمهما. وفتك فيهم أصحاب سبكتكين واتبعوهم إلى نيسابور، ثم صدّوهم عنها إلى جرجان واستولى نوح على نيسابور واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين وأنزله بها، ولقّبه سيف الدولة، وأنزل أباه سبكتكين بهراة ولقّبه ناصر الدولة ورجع إلى بخارى. (الفتنة بين سيجور وفائق بخراسان وظهور سبكتكين وابنه محمود عليهم) ولما رجع نوح إلى بخارى وطمع أبو علي بن سيجور وفائق في انتزاع خراسان من يد سبكتكين وابنه. وبادروا إلى محمود بن سبكتكين بنيسابور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وأعجلوه عن وصول المدد إليه من ابنه سبكتكين. وكان في قلّة فانهزم إلى أبيه بهراة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 وملك أبو علي نيسابور، وسار إليه سبكتكين في العساكر، والتقوا بطوس، فانهزم أبو علي وفائق حتى انتهيا إلى آمل الشطّ. واستعطف أبو علي الأمير نوحا فاستدعاه وحبسه. ثم بعث به إلى سبكتكين وحبسه عنده، ولحق فائق بملك الترك ايلك خان في كاشغر، وشفع فيه إلى الأمير نوح فولّاه سمرقند كما مر ذلك كله في أخبارهم. وكان أبو القاسم أخو أبي علي قد نزع إلى سبكتكين يوم اللقاء فأقام عنده مدّة مديدة. ثم انتقض وزحف الى نيسابور فجاء محمود بن سبكتكين فهرب ولحق بفخر الدولة بن بويه فأقام عنده، واستولى سبكتكين على خراسان. (مزاحفة سبكتكين وايلك خان) كان ايلك خان ولي بعد بقراخان على كاشغر وشاغور، وعلى أمم الترك وطمع في أعمال الأمير نوح كما طمع أبوه، ومدّ يده إليها شيئا فشيئا. ثم اعتزم على الزحف إليه فكتب الأمير نوح إلى سبكتكين بخراسان يستجيشه على ايلك خان، فاحتشد وعبر النهر وأقام بين نسف وكشف حتى لحقه ابنه محمود بالحشود من كل جهة، ولك وصله أبو علي بن سيجور مقيّدا، بعث به إليه الأمير نوح فأبى من ذلك، وجمع ايلك خان أمم الترك من سائر النواحي. وبعث سبكتكين إلى الأمير نوح يستحثّه فخام عن اللقاء، وبعث قوّاده وجميع عساكره، وجعلهم لنظره وفي تصريفه فألحّ عليه سبكتكين، وبعث أخاه بغراجق وابنه محمودا لاستحثاثه فهرب الوزير بن عزيز خوفا منهم، وتفادى نوح من اللقاء فتركوه، وفتّ ذلك في عزم سبكتكين، وبعث ايلك خان في الصلح فبادر سبكتكين وبعث أبا القاسم. ثم ارتاب به عند عبوره إلى ايلك خان، فحبسه مع أبي علي وأصحابه حتى رجع سبكتكين من طوس إلى بلخ، فبلغ الخبر بمقتلهم، ووصل نعي مأمون بن محمد صاحب الجرجانية بخوارزم غدر به صاحب جيشه في صنيع أعدّه له وقتله، ووصل خبر الأمير نوح أثرهما وأنه هلك منتصف رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. (أخبار سبكتكين مع فخر الدولة بن بويه) كان أبو علي بن سيجور وفائق لمّا هزمهما سبكتكين لحقا بجرجان عند فخر الدولة بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 بويه، ثم لمّا أجلب أبو القاسم على خراسان، وسار إليه محمود بن سبكتكين، وعمّه بغراجق وكان معه أبو نصر بن محمود الحاجب فهربا إلى فخر الدولة وأقاما في نزله وتحت حرابه بقومس والدّامغان وجرجان وأتاخ سبكتكين على طوس. ثم وقعت المهاداة بينه وبين فخر الدولة بن بويه صاحب الريّ، وكان آخر هديّة من سبكتكين جاء بها عبد الله الكاتب من ثغابة. ونمي إلى فخر الدولة أنه يتجسّس عدد الجند، وغوامض الطرق، فبعث إلى سبكتكين بالعتاب في ذلك. ثم ضعف الحال بينهما، واتصل ما بين فخر الدولة والأمير نوح على يد سبكتكين. (وفاة سبكتكين وولاية ابنه إسماعيل) ولما فرغ سبكتكين من أمر ايلك خان ورجع إلى بلخ، وأقام بها قليلا طرقه المرض، فبادر به إلى غزنة، وهلك في طريقه في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة لعشرين سنة من ملكه في غزنة وخراسان، ودفن بغزنة. وكان عادلا خيرا حسن العهد محافظا على الوفاء كثير الجهاد. ولما هلك بايع الجند لابنه إسماعيل بعهده إليه، وكان أصغر من محمود فأفاض فيهم العطاء وانعقد أمره بغزنة. (استيلاء محمود بن سبكتكين على ملك أبيه وظفره بأخيه إسماعيل) ولما ولي إسماعيل بغزنة استضعفه الجند واستولوا عليه، واشتطوا عليه في الطلب حتى أنفد خزائن أبيه، وكان أخوه محمود بنيسابور فبعث إليه أن يكتب له بالأعمال التي لنظره مثل بلخ فأبى، وسعى أبو الحرب والي الجوزجان في الإصلاح بينهما فامتنع إسماعيل، فسار محمود إلى هراة معتزما عليه، وتحيّز معه عمه بغراجق. ثم سار إلى بست وبها أخوه نصر فاستماله، وساروا جميعا إلى غزنة، وقد كتب إليه الأمراء الذين مع إسماعيل واستدعوه ووعدوه بالطاعة. وأغذّ السير ولقيه إسماعيل بظاهر غزنة فاقتتلوا قتالا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 شديدا. وانهزم إسماعيل واعتصم بقلعة غزنة، واستولى محمود على الملك وحاصر أخاه إسماعيل حتى استنزله على الأمان فأكرمه وأشركه في سلطانه، وذلك لسبعة أشهر من ولاية إسماعيل، واستقامت الممالك لمحمود ولقّب بالسلطان، ولم يلقّب به أحد قبله. ثم سار إلى بلخ. (استيلاء محمود على خراسان) لما ولي أبو الحرث منصور بعد نوح استوزر محمد بن إبراهيم، وفوّض أمره إلى فائق كفالة وتدبيرا لصغره. وكان عبد الله بن عزيز قد هرب من بخارى عند قدوم محمد إليها في استحثاث الأمير نوح للقاء ايلك خان كما مرّ، فلما مات الأمير نوح وولي ابنه منصور أطمع عزيز أبا منصور محمد بن الحسين الاسبيجابي في قيادة الجيش بخراسان وحمله على الانحدار به إلى بخارى مستغيثا بايلك خان على غرضه، فنهض ايلك خان لمصاحبتهما وسار بهما كأنه يريد سمرقند. ثم قبض على أبي منصور وابن عزيز، وأحضر فائقا وأمره بالمسير على مقدّمته إلى بخارى، فهرب أبو الحرث وملك فائق بخارى ورجع ايلك خان. واستدعى فائق أبا الحرث فاطمأنّ، وبعث من مكانه بكثرزون الحاجب الأكبر على خراسان ولقّبه بستان الدولة، ورجع إلى بخارى فتلقّاه فائق، وقام بتدبير دولته. وكانت بينه وبين بكثرزون ضغن فأصلح أبو الحرث بينهما، وأقام بكثرزون وجبى الأموال، وزحف إليه ابو القاسم بن سيجور، وكانت بينهما الفتنة التي مرّ ذكرها. وجاء محمود إلى بلخ بعد فراغه من فتنة أخيه إسماعيل، فبعث إلى أبي الحرث منصور رسله وهداياه، فعقد له على بلخ وترمذ وهراة وبست. واعتذر عن نيسابور فراجعه مع ثقته أبي الحسن الحمولي فاستخلصه أبو الحرث لوزارته، وقعد عن رسالة صاحبه فأقبل محمود إلى نيسابور، وهرب عنها بكثرزون فنهض ابو الحرث إلى نيسابور، فخرج محمود عنها إلى مروالروذ، وجمع أبو الحرث وكحلة بكثرزون، وبايعوا لأخيه عبد الملك بن نوح. وبعث محمود إلى فائق وبكثرزون بالعتاب على صنيعهما بالسلطان، وزحف إليهما فبرزا من مرو للقائه، ثم سألوه الإبقاء فأجاب وارتحل عنهم، وبعض أوباشهم في أعقابه فرجع إليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 وحشدوا الناس للقائه فهزمهم وافترقوا، فسار عبد الملك إلى بخارى وبكثرزون إلى نيسابور وكان معهم أبو القاسم بن سيجور، ولحق بقهستان واستولى محمود على خراسان وذلك سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. ثم سار إلى طوس وهرب بكثرزون إلى جرجان، وبعث محمود أرسلان الحاجب في أثره فأخرجه من نواحي خراسان، فولّى أرسلان على طوس وسار إلى هراة لمطالعة أحوالها، فخالفه بكثرزون إلى نيسابور وملكها، ورجع فطرده عنها أبو القاسم بن سيجور وملكها. وولّى محمود أخاه نصر ابن سبكتكين قيادة الجيوش بخراسان وأنزله بنيسابور، ثم سار إلى بلخ فأنزل بها سريره. ثم استراب بأخيه إسماعيل فاعتقله ببعض القلاع موسعا عليه، وكتب بالبيعة للقادر الخليفة من بني العبّاس [1] ، فبعث إليه بالخلع والألوية على العادة. وقام بين يديه السماطان واستوثق له ملك خراسان وبقي يردّد الغزو إلى الهند كل سنة. (استيلاء محمود على سجستان) كان خلف بن أحمد صاحب سجستان في طاعة بني سامان ولما شغل عنه بالفتن استفحل أمره، وشغل للاستبداد. فلما سار سبكتكين للقاء ملك الهند كما مرّ، اغتنم الفرصة من بست وبعث إليها عسكرا فملكوها وجبوها. ولما رجع سبكتكين من الهند ظافرا تلقّاه بالمعاذير والتعزية والهدايا والطاعة فقبل وأعرض عنه، وارتهن عنده على طاعته، وسار معه الحرث أبو علي بن سيجور بخراسان فملأ يده ويد عسكره بالعطاء، وبتفدّمه لقتال ايلك خان بما وراء النهر كما مرّ، فدسّ إلى ايلك خان يغريه بسبكتكين. واعتزم سبكتكين على غزو سجستان، ثم أدركه الموت فاغتنم خلف الفرصة وبعث طاهرا إلى قهستان وبوشنج فملكها، وكاتب البغراجق أخا سبكتكين. فلما فرغ محمود من شأن خراسان بعث لبغراجق عمه بانتزاع قهستان وبوشنج، فسار إلى طاهر فهزمه واتبعه، وكرّ عليه طاهر فقتله وانهزم الفريقان، وزحف محمود إلى خلف سنة تسعين وثلاثمائة، فامتنع في أحصن بلد [2] وهي قلعة   [1] وكان يخطب سابقا للطائع للَّه. [2] هو حصن اصبهبد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 عالية منيعة، وحاصره بها حتى لاذ بالطاعة. وبذل مائة ألف دينار فأفرج عنه وسار إلى الهند فتوغّل فيها، وانتهى في اثني عشر ألف فارس وثلاثين ألف راجل، فاختار محمود من عساكره خمسة عشر ألفا، وسار لقتال جميال [1] فهزمه وأسره في بنيه وحفدته وكثير من قرابته. ووجد في سلبه مقلد من فصوص يساوي مائة ألف دينار وأمثال ذلك، فوزّعها على أصحابه، وكان الأسرى والسبي خمسمائة ألف رأس وذلك سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وفتح من بلاد الهند بلادا أوسع من بلاد خراسان. ثم فادى جميال ملك الهند نفسه بخمسين رأسا من الفيلة ارتهن فيها ابنه وحافده وخرج إلى بلده، فبعث إلى ابنه أندبال وشاهينة وراء سيجور فأعطوه تلك الفيلة، وسار لا يعود له ملك [2] ، وسار السلطان محمود الى ويهند فحاصرها وافتتحها، وبعث العساكر لتدويخ نواحيها فأثخنوا في القتل في أوباش كانوا مجتمعين للفساد مستترين بخمر الغياض فاستلحموهم. ورجع السلطان محمود الى غزنة وكان خلف بن أحمد عند منصرف السلطان عنه أظهر النسك، وولّى ابنه طاهرا على سجستان، فلما طالت غيبة السلطان أراد الرجوع إلى ملكه فلم يمكّنه ابنه، فتمارض وبعث إليه بالحضور للوصيّة والاطلاع على خبايا الذخيرة، فلما حضر اعتقله ثم قتله كما مرّ. وبلغت ضمائر [3] قوّاده لذلك، وخافوه، وبعثوا للسلطان محمود بطاعتهم ما بقيت له الدعوة في سجستان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وسار السلطان محمود إلى خلف فامتنع منه في معقلة بحصن الطاق، وهو في رأس شاهق تحيط به سبعة أسوار عالية، ويحيط به خندق بعيد المهوى، وطريقه واحدة على جسر، فجثم عليه أشهرا. ثم فرض على أهل العسكر قطع الشجر التي تليه وطمّ بها الخندق، وزحف إليه وقدّم الفيول بين يديه على تعبيتها فحطم الفيل الأعظم على باب الحصن فقلعه ورمى به، وفشا القتل في أصحاب خلف وتماسكوا داخل الباب يتناضلون بأحجار المجانيق والسهام والحراب، فرأى خلف هول المطلع فأثاب [4] واستأمن، وخرج إلى السلطان وأعطاه كثيرا من الذخيرة، فرفع من قدره وخيّره في مقاماته فاختار الجوزجان فأذن له في   [1] جيبال: ابن الأثير ج 9 ص 169. [2] من عادة الهند انه من وقع أسيرا في ايدي المسلمين لا ينعقد له لواء بعد ذلك. [3] اي جزعت نفوس قواده. [4] لا معنى لها ولعلها أناب أي تاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 المسير إليها على ما بينه وبين ايلك خان من المداخلة. ثم هلك خلف سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأبقى السلطان على ولده عمر، وكان خلف كثير الغاشية من الوافدين والعلماء، وكان محسنا لهم، ألّف تفسيرا جمع له العلماء من أهل إيالته، وأنفق عليهم عشرين ألف دينار، ووضعه في مدرسة الصابوني بنيسابور. ونسخه يستغرق عمر الكاتب، إلّا أن يستغرق في النسخ. واستخلف السلطان على سجستان أحمد الفتحي من قوّاد أبيه ورجع إلى غزنة. ثم بلغه انتقاض أحمد بسجستان فسار إليهم في عشرة آلاف، ومعه أخوه صاحب الجيش أبي المظفّر نصر والتوتناش الحاجب، وزعيم العرب أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي فحاصرهم، وفتحها ثانية، وولى عليها أخاه صاحب الجيش نصر بن سبكتكين مضافة إلى نيسابور فاستخلف عليها وزيره أبا منصور نصر بن إسحاق. وعاد السلطان محمود إلى بلخ مضمرا غزو الهند. هكذا مساق خبر السلطان محمود مع خلف بن أحمد وخبر سجستان عند العيني. وأمّا عند ابن الأثير فعلى ما وقع في أخبار دولة بني الصفّار. (غزوة بهاطية والملتان وكوكبر) ولما فرغ السلطان محمود من سجستان اعتزم على غزو بهاطية من أعمال الهند، وهي وراء الملتان، مدينة حصينة عليها أنطاق من الأصبوان وآخر من الخنادق، بعيدة المهوى. وكانت مشحونة بالمقاتلة والعدّة، واسم صاحبها بجير، فعبر السلطان إليها جيحون وبرز إليه بجير فاقتتلوا بظاهر بهاطية ثلاثة أيام. ثم انهزم بجير وأصحابه في الرابع وتبعهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم، وأخذتهم السيوف من أمامهم ومن ورائهم فبلغ القتل والسبي والسلب والنهب فيهم مبالغه. وسار بجير في رءوس الجبال فستر في شعابها وبعث السلطان سرية في طلبه فأحاطوا به، وقتلوا من أصحابه. ولما أيقن بالهلكة قتل نفسه بخنجر معه. وأقام السلطان محمود في بهاطية حتى أصلح أمورها، واستخلف عليها من يعلّم أهلها قواعد الإسلام، ورجع إلى غزنة فلقي في طريقه شدّة من الأمطار في الوحل وزيادة المدد في الأنهار، وغرق كثير من عسكره. ثم بلغه عن أبي الفتوح والي الملتان أنه ملحد، وأنه يدعو أهل ولايته إلى مذهبه فاعتزم على جهاده، وسار كذلك ومنعه سيجور من العبور لكثرة المدد، ابن خلدون م 31 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 فبعث السلطان إلى أندبال ملك الهند في أن يبيح له العبور إلى بلاده لغزو الملتان فأبى، فبدأ بجهاده، وسار في بلاده ودوّخها وفرّ أندبال بين يديه، وهو في طلبه إلى أن بلغ كشمير. ونقل أبو الفتوح أمواله على الفيول إلى سرنديب، وترك الملتان فقصدها السلطان، وامتنع أهلها فحاصرهم حتى افتتحها عنوة، وأغرمهم عشرين ألف ألف درهم عقوبة لهم على عصيانهم. ثم سار إلى كوكبر واسم صاحبها بيدا، وكان بها ستمائة صنم فافتتحها وأحرق أصنامها. وهرب صاحبها إلى قلعته وهي كاليجار وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة وعشرون ألف راية، وهو مشحون بالأقوات والمسالك إليه متعذرة بخمر الشجر، وملتف الغياض، فأمر بقطع الأشجار حتى اتضحت المسالك. واعترضه دون الحصن واد بعيد المهوى، فطمّ منه عشرين ذراعا بالأجربة المحشوة بالتراب، وصيّره جسرا، ومضى منه إلى القلعة، وحاصرها ثلاثة وأربعين يوما حتى جنح صاحبها إلى السلم. وبلغ السلطان أن ايلك خان مجمع غزو خراسان، فصالح ملك الهند على خمسين فيلا، وثلاثة آلاف من الفضة، وخلع عليه السلطان فلبس خلعته وشدّ منطقته. ثم قطع خلعته وأنفذها إلى السلطان، وتبعه بما عقد معه وعاد السلطان إلى خراسان بعد أن كان عازما على التوغّل في بلاد الهند. (مسير ايلك خان الى خراسان وهزيمته) كان السلطان محمود لما ملك ايلك خان بخارى كما مرّ، وكتب إليه مهنيا، وتردّد السفراء بينهما في الوصلة، وأوفد عليه سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي إمام الحديث، ومعه طغان جقّ والي سرخس في خطبة كريمته بهدية فاخرة من سبائك العقيان واليواقيت والدرّ والمرجان والوشي والحمر، وصواني الذهب مملوءة بالعنبر والكافور والعود والنصول، وأمامه الفيول تحت الخروج المغشّاة، فقوبلت الهدية بالقبول، والوافد بالتعظيم له ولمن أرسله، وزفّت المخطوبة بالهدايا والألطاف، واتحدت الحال بين السلطانين. ولم يزل السعاة يغرون ما بينهما حتى فسد ما بينهما، فلما سار السلطان محمود إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة، وبعث سباسي تكين قريبه وقائد جيشه إلى خراسان، وبعث معه أخاه جعفر تكين وذلك سنة تسعين وثلاثمائة فملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 بلخا وأنزل بها جعفر تكين، وكان أرسلان الحاجب بهراة أنزله السلطان بها، وأمره إذا دهمه أن ينحاز إلى غزنة. وقصد سباسي هراة وسكنها، وندب الحسين بن نصر إلى نيسابور فملكها، ورتّب العمّال، واستخرج الأموال. وطار الخبر إلى السلطان بالهند، وقصد بلخ فهرب جعفر تكين إلى ترمذ، واستقرّ السلطان ببلخ، وسرّح أرسلان الحاجب في عشرة آلاف من العساكر إلى سباسي تكين بهراة فسار سباسي إلى مرو، واعترضه التركمان، وقاتلهم فهزمهم وأثخن فيهم. ثم سار إلى أبيود، ثم إلى نسا وأرسلان في اتباعه حتى انتهى إلى جرجان فصدّ عنها، وركب قلل الجبال والغياض، وتسلط الكراكلة على أثقاله ورجاله، واستأمن طوائف من أصحابه إلى قابوس لعدم الظهر. ثم عاد إلى نسا وأصدر ما معه إلى خوارزم شاه أبي الحسن علي ابن مأمون، وديعة لايلك خان، واقتحم المفازة إلى مرو، فسار السلطان لاعتراضه ورماه محمد بن سبع بمائة من القوّاد حملوا الى غزنة. ونجا سباسي تكين في فلّ من أصحابه، فعبر النهر إلى ايلك خان، وقد كان ايلك خان بعث أخاه جعفر تكين في ستة آلاف راجل إلى بلخ ليفتر من عزيمة السلطان عن قصد سباسي تكين فلم يفتر ذلك من عزمه، حتى أخرج سباسي من خراسان. ثم قصدهم فانهزموا أمامه، وتبعهم أخوه نصر بن سبكتكين صاحب جيش خراسان إلى ساحل جيحون، فقطع دابرهم. ولما بلغ الخبر إلى ايلك خان قام في ركائبه وبعث بالصريخ إلى ملك الختّل وهو قدرخان بن بقراخان لقرابة بينهما وصهر، فجاءه بنفسه ونفر معه، واستجاش أحياء النزل ودهاقين ما وراء النهر، وعبر النهر في خمسين ألفا، وانتهى إلى السلطان خبره وهو بطخارستان فقدم إلى بلخ، واستعدّ للحرب، واستنفر جموع الترك والجند والخلنجيّة والأفقانية والفربوية. وعسكر على أربعة فراسخ من بلخ، وتزاحفوا على التعبية، فجعل السلطان في القلب أخاه نصرا صاحب الجيش بخراسان، وأبا نصر ابن أحمد الفريغوني صاحب الجوزجان، وأبا عبد الله بن محمد بن إبراهيم الطائي في كماة الأكراد والعرب والهنود، وفي الميمنة حاجبه الكبير أبا سعيد التمرتاشي، وفي الميسرة أرسلان الحاجب. وحصّن الصفوف بخمسمائة من الفيلة. وجعل ايلك خان على ميمنته قدرخان ملك الختّل وعلى ميسرته أخاه جعفر تكين، وهو في القلب. وطالت الحرب، واستمات الفريقان ونزل السلطان وعفّر خدّه بالأرض متضرعا. ثم ركب وحمل في فيلته على القلب فأزاله عن مكانه، وانهزم الترك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 واتبعوهم يقتلون ويأسرون إلى أن عبروا بهم النهر. وأكثر الشعراء تهنئة السلطان بهذا الفتح وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. ولما فرغ السلطان من هذه الحرب سار للهند للإيقاع بنواسه شاه أحد أولاد الملوك، كان أسلم على يده واستخلفه على بعض المعاقل التي افتتحها، فارتد ونبذ الإسلام، فأغذّ السير إليه ففرّ أمامه، واحتوى على المعاقل التي كانت في يده من أصحابه، وانقلب إلى غزنة ظافرا وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. (فتح بهيم نقرا [1] ) ثم سار السلطان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة في ربيع منها غازيا إلى الهند فانتهى الى سبط وبهند، فلقيه لك ابن هزبال [2] ملك الهند في جيوش لا تحصى، فصدقهم السلطان القتال فهزمهم، واتبعهم إلى قلعة بهيم نقرا وهي حصن على حصن عالية اتخذها أهل الهند خزانة للصنم، ويودعون به أنواع الذخائر والجواهر التي يتقرّب بها للصنم، فدافع عنه وعن خزنته أياما. ثم استأمنوا وأمكنوا السلطان من القلعة، فبعث عليه أبا نصر الفريغوني وحاجبه الكبير ابن التمرتاش، وواسع تكين، وكلّفهما بنقل ما في الخزائن، فكان مبلغ المنقول من الوزن سبعين ألف ألف شامية، ومن الذهبيات والفضيات موزونة، والديباج السوسي ما لا عهد بمثله، ووجد في جملتها بيت من الفضّة الخالصة طوله ثلاثون ذراعا في خمسة عشر، صفائح مضروبة ومعالق للطهي والنشر، وشراع من ديباج طوله أربعون ذراعا في عرض عشرين بقائمتين من ذهب، وقائمتين من فضة، فوكّلهما بحفظ ذلك. ومضوا إلى غزنة فأمر بساحة داره ففرشه بتلك الجواهر، واجتمعت وفود الأطراف لمشاهدتها، وفيهم رسول طغان أخي ايلك خان. (خبر الفريغون واستيلاء السلطان على الجوزجان) وكان بنو فريغون هؤلاء ولاة على الجوزجان أيام بني سامان يتوارثونها، وكان لهم   [1] غزوة بهيم نغر: ابن الأثير ج 9 ص 206. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل «فانتهى الى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك ابرهمن بال بن اندبال» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 شهرة مكارم. وكان أبو الحرث أحمد بن محمد غرّتهم. وكان سبكتكين خطب كريمته لابنه محمود وأنكح كريمته أخت محمود لابنه أبي نصر فالتحم بينهما. وهلك أبو الحرث فأقرّ السلطان محمود ابنه أبا نصر على ولايته إلى أن مات سنة إحدى وأربعمائة، وكان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف بالبديع يؤلّف له التآليف ويجعلها باسمه، ونال عنده بذلك فوق ما أمّل. (غزوة بارين [1] ) ثم سار السلطان محمود على رأس المائة الرابعة لغزو بلاد الهند فدوّخها واستباحها، وأوقع بملكها، ورجع إلى غزنة فبعث إليه ملك الهند في الصلح على جزية مفروضة، وعسكر مقرّر عليه، وعلى تعجيل مال عظيم، وهديّة فيها خمسون فيلا، وتقرّر الصلح بينهما على ذلك. (غزوة الغور وقصران) بلاد الغور هذه تجاور بلاد غزنة، وكانوا يفسدون السابلة ويمتنعون بجبالهم وهي وعرة ضيّقة، وأقاموا على ذلك متمرّدين على كفرهم وفسادهم، فامتعض السلطان محمود، وسار لحسم عللهم سنة إحدى وأربعمائة وفي مقدمته الترنتاش الحاجب والي هراة وأرسلان الحاجب والي طوس. وانتهوا الى مضيق الجبل وقد شحنوه بالمقاتلة فنازلتهم الحرب ودهمهم السلطان فارتدّوا على أعقابهم، ودخل عليهم لبلادهم ولملكها. ودخل حصنا في عشرة آلاف واستطرد لهم السلطان الى فسيح من الأرض. ثم كرّ عليهم فهزمهم وأثخن فيهم وأسر ابن سوري وقرابته وخواصه، وملك قلعتهم وغنم جميع أموالهم، وكانت لا يعبّر عنها. وأسف ابن سوري على نفسه فتناول سما كان معه ومات. ثم سار السلطان سنة اثنتين وأربعمائة لغزو قصران [2] وكان صاحبها   [1] نارين: ابن الأثير ج 9 ص 213. [2] قصدار: ابن الأثير ج 9 ص 227. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 يحمل ضمانه كل سنة، فقطع الحمل وامتنع بموالاة ايلك خان، وسار إليه فبادر باللقاء وتنصّل واعتذر، وأهدى عشرين فيلا وألزمه السلطان خمسة عشر ألف درهم، ووكّل بقبضها ورجع إلى غزنة. (خبر اليشار واستيلاء السلطان على غرشستان) كان اسم أليشار عند الأعاجم لقبا على ملك غرشستان، كما أن كسرى على ملك الفرس وقيصر على ملك الروم ومعناه الملك الجليل. وكان أليشار أبو نصر محمد بن إسماعيل بن أسد ملكها إلى أن بلغ ولده محمد سن النجابة فغلب على أبيه، وانقطع أبو نصر للنظر في العلوم لشغفه بها، وصاحب خراسان يومئذ أبو علي بن سيجور. ولما انتقض على الرضى نوح خطبهم لطاعته وولايته فأبوا من ذلك لانتقاضه على سلطانه، فبعث العساكر إليهم وحاصرهم زمانا. ثم نهض سبكتكين إلى أبي علي بن سيجور، وانضاف أليشار إلى سبكتكين في تلك الفتنة كلّها، فلما ملك السلطان محمود خراسان وأذعن له ولاة الأطراف والأعمال بعث إليهم في الخطبة فأجابوه. ثم استنفر محمد بن أبي نصر في بعض غزواته فقعد عن النفير، فلمّا رجع السلطان من غزوته بعث حاجبه الكبير أبا سعيد الترنتاش في العساكر وأردفه بأرسلان الحاجب والي طوس لمناهضة أليشار ملك غرشستان. واستصحبا معهما أبا الحسن المنيعي الزعيم بمروالروذ لعلمه بمخادع تلك البلاد، فأمّا أبو نصر فاستأمن إلى الحاجب، وجاء به إلى هراة مرفّها محتاطا عليه. وأمّا ابنه محمد فتحصّن بالقلعة التي بناها أيام ابن سيجور فحاصروها طويلا، واقتحموها عنوة وأخذا أسيرا، فبعث به إلى غزنة، واستصفيت أمواله وصودرت حاشيته. واستخلف الحاجب على الحصن ورجع إلى غزنة فامتحن الولد بالسياط، واعتقله مرفّها واستقدم أباه أبا نصر من هراة فأقام عنده في كرامة إلى أن هلك سنة ست وأربعمائة. (وفاة ايلك خان وصلح أخيه طغان خان مع السلطان) كان ايلك خان بعد هزيمته بخراسان يواصل الأسف، وكان أخوه طغان يكبر عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 على فعلته، وينقضه العهد مع السلطان. وبعث الى السلطان يتبرّأ ويعتذر فنافره ايلك خان بسبب ذلك وزحف إليه. ثم تصالحها. ثم هلك ايلك خان سنة ثلاثة وأربعمائة وولّى مكانه أخوه طغان خان فراسل السلطان محمود وصالحه. وقال له اشتغل أنت بغزو الهند، وأنا بغزو الترك فأجابه إلى ذلك. وانقطعت الفتنة بينهما وصلحت الأحوال. ثم خرجت طوائف الترك فأجابه إلى ذلك. وانقطعت الفتنة بينهما وصلحت الأحوال. ثم خرجت طوائف الترك من جانب الصين في مائة ألف [1] خركاة وقصدوا بلاد طغان، فهال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان من الترك أزيد من مائة ألف، واستقبل جموع الكفرة فهزمهم وقتل نحوا من مائة ألف وأسر مثلها، ورجع الباقون منهزمين. وهلك طغان إثر ذلك، وملك بعده أخوه أرسلان خان سنة ثمان وأربعمائة، وخلّص ما بينه وبين السلطان محمود، وخطب بعض كرائمه للسلطان مسعود ولده فأجابه. وعقد السلطان لابنه على هراة فسار اليها سنة ثمان وأربعمائة. (فتح بارين [2] ) ثم سار السلطان سنة ثمان وأربعمائة عند ما فصل الشتاء غازيا إلى الهند، وتوغّل فيها مسيرة شهرين، وامتنع عظيم الهند في جبل صعب المرتقى ومنع القتال، واستدعى الهنود وملك عليهم الفيلة وفتح الله بارين وكثرت الأسرى والغنائم ووجد به في بيت البدجي [3] حجر منقوش، قال التراجمة كتابته إنه مبنيّ منذ أربعين ألف سنة. ثم عاد إلى غزنة وبعث إلى القادر يطلب عهد خراسان وما بيده من الممالك.   [1] في ثلاثمائة ألف خركاة: ابن الأثير ج 9 ص 297. [2] ناردين: ابن الأثير ج 9 ص 244. [3] هو بيت البد اي بيت الصم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 (غزوة تنيشرة [1] ) كان صاحب تنيشرة عاليا في الكفر والطغيان، وانتهى الخبر إلى السلطان في ناحيته من الفيلة فيلة من الفيتلمان [2] الموصوفة في الحروب، فاعتزم السلطان على غزوة، وسار إليه في مسالك صعبة وعرة بين أودية وقفارات حتى انتهى إلى نهر طام قليل المخاضة وقد استندوا من ورائه إلى سفح جبل، فسرّب إليهم جماعة من الكماة خاضوا النهر وشغلوهم بالقتال حتى تعدّت بقية العسكر. ثم قاتلوهم وانهزموا، واستباحهم المسلمون وعادوا إلى غزنة ظافرين ظاهرين. ثم غزا السلطان على عادته فضل الأدلاء طريقهم فوقع السلطان في مخاضات من المياه غرق فيها كثير من العسكر، وخاض الماء بنفسه أياما حتى تخلّص ورجع إلى خراسان. (استيلاء السلطان على خوارزم) كان مأمون بن محمد صاحب الجرجانية من خوارزم، وكان مخلصا في طاعة الرضى نوح أيام مقامه في آمد كما مرّ، فأضاف نسا إلى عمله فلم يقبلها المودّة بينه وبين أبي علي ابن سيجور. وكان من خبره مع ابن سيجور واستنقاذه إياه من أسر خوارزم شاه سنة ست وثمانين وثلاثمائة ما مرّ ذكره، وصارت خوارزم كلها له. ثم هلك وملك مكانه أبو الحسن علي. ثم هلك وملك مكانه ابنه مأمون، وخطب إلى السلطان محمود بعض كرائمه فزوّجه أخته. واتحد الحال بينهما الى أن هلك، وولّي مكانه أبو العبّاس مأمون، ونكح أخته كما نكحها أخوه من قبله. ثم دعاه إلى الدخول في طاعته، والخطبة له، كما دعا الناس، فمنعه أصحابه وأتباعه، وتوجّس الخيفة من السلطان في ذلك، فرجعوا إلى الفتك به، فقتلوه وبايعوا ابنه داود. وازداد خوفهم من السلطان في ذلك، فتعاهدوا على الامتناع ومقدّمهم التكين البخاريّ. وسار   [1] تانيسر: ابن الأثير ج 9 ص 247. [2] الصليمان: ابن الأثير ج 9 ص 247. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 إليهم السلطان في العساكر حتى أناخ عليهم وبيّتوا محمد بن إبراهيم الطائي، وكان في مقدّمة السلطان فقاتلهم إلى أن وصل السلطان فهزمهم، وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وركب التكين السفن ناجيا فغدره الملّاحون وجاءوا به إلى السلطان فقتله في جماعة من القوّاد الذين قتلوا مأمونا على قبره. وبعث بالباقين الى غزنة، فأخرجوا في البعوث إلى الهند وأنزلوا هنالك في حامية الثغور وأجريت لهم الأرزاق، واستخلف على خوارزم الحاجب الترنتاش ورجع إلى بلاده. (فتح قشمير [1] وقنوج) ولما فرغ السلطان من أمر خوارزم، وانضافت إلى مملكته، عدل إلى بست، وأصلح أحوالها ورجع إلى غزنة. ثم اعتزم على غزو الهند سنة تسع وأربعمائة، وكان قد دوّخ بلادها كلها، ولم يبق عليه إلّا قشمير ومن دونها الفيافي والمصاعب، فاستنفر الناس من جميع الجهات من المرتزقة والمتطوّعة. وسار تسعين مرحلة وعبر نهر جيحون وحيلم وخيالا [2] ، هو وامراؤه. وبثّ عساكره في أودية لا يعبر عن شدّة جريها وبعد أعماقها، وانتهى إلى قشمير. وكانت ملوك الهند في تلك الممالك تبعث إليه بالخدمة والطاعة، وجاءه صاحب درب قشمير وهو جنكي بن شاهي وشهي فأقرّ بالطاعة، وضمن دلالة الطريق، وسار أمام العسكر إلى حصن مأمون لعشرين من رجب، وهو خلال ذلك يفتتح القلاع إلى أن دخل في ولاية هردت، أحد ملوك الهند فجاء طائعا مسلما. ثم سار السلطان إلى قلعة كلنجد من أعيان ملوكهم، فبرز للقائه، وانهزم، واعترضهم أنهار عميقة سقطوا فيها وهلكوا قتلا وغرقا، يقال: هلك منهم خمسون ألفا. وغنم السلطان منهم مائة فيل وخمسة إلى غير ذلك مما جلّ عن الوصف ثم عطف إلى سقط التقيذ [3] وهو بيت مبني بالصخور الصمّ يشرّع منها   [1] هي كشمير. [2] وفي الكامل لابن الأثير: وعبر نهر سيحون وجيلوم وهما نهران عميقان شديدا الجرية فوطئ أرض الهند، وأثاه رسل ملوكها بالطاعة. [3] وفي الكامل: ثم سار نحو بيت متعبد لهم- وهو من مهرة الهند وهو من أحصن الأبنية على نهر ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر مرصعة بالجواهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 بابان إلى الماء المحيط، موضوعة أبنيته فوق التلال، وعن جنبتيه ألف قصر مشتملة على بيوت الأصنام. وفي صدر البلد بيت أصنام منها خمسة من الذهب الأحمر مضروبة على خمسة أذرع في الهواء قد جعلت عينا كل واحدة منهما ياقوتتان تساوين خمسين ألف دينار، وعين الآخر قطعة ياقوت أزرق تزن أربعمائة وخمسين مثقالا، وفي وزن قدمي الصنم الواحد أربعة آلاف وأربعمائة مثقال، وجملة ما في الأشخاص من الذهب ثمانية وتسعون ألف مثقال. وزادت شخوص الفضّة على شخوص الذهب في الوزن، فهدمت تلك الأصنام كلّها، وخرّبت. وسار السلطان طالبا قنوج، وخرّب سائر القلاع في طريقه، ووصل إليها في شعبان سنة تسع وأربعمائة وقد فارقها نزوجبال حين سمع بقدومه. وعبر نهر الغانج الّذي تغرق الهنود فيه أنفسهم ويذرون فيه رماد المحرقين منهم. وكان أهل الهند واثقين بقنوج وهي سبع قلاع موضوعة على ذلك الماء، فيها عشرة آلاف بيت للأصنام، تزعم الهنود أن تاريخها منذ مائتي ألف سنة، أو ثلاثمائة ألف سنة، وأنها لم تزل متعبّدا لهم. فلمّا وصلها السلطان ألفاها خالية قد هرب أهلها، ففتحها كلّها في يوم واحد، واستباحها أهل عسكره. ثم أخذ في السير منها الى قلعة لنج، وتعرف بقلعة البراهمة، فقاتلوا ساعة، ثم تساقطوا من أعاليها على سنا الرماح وضياء الصفاح. ثم سار إلى قلعة أسا وملكها جندبال فهرب وتركها، وأمر السلطان بتخريبها. ثم عطف على جندراي من أكابر الهنود في قلعة منيعة. وكان جميال ملك الهند من قبل ذلك يطلبه للطاعة والألفة فيمتنع عليه. ولحق جميال بنهوجد أحد المغرورين بحصانة المعقل، فنجا بنفسه. ورام جندراي المدافعة وثوقا بامتناع قلعته. ثم تنصّح له بهميال ومنعه من ذلك، فهرّب إليه أمواله وأنصاره إلى جبال وراء القلعة، وافتتحها السلطان وحصل منها على غنائم. وسار في أتباع جندراي وأثخن فيهم قتلا ونهبا، وغنم منهم أموالا وفيولا، وبلغت الغنائم ثلاثة آلاف ألف درهم ذهبا وفضّة، ويواقيت والسبي كثير، وبيع بدرهمين إلى عشرة. وكانت الفيول تسمّى عندهم جنداي داد. ثم قضى السلطان جهاده ورجع إلى غزنة فابتنى مسجدها الجامع وجلب إليه جذوع الرخام من الهند، وفرشه بالمرمر، وأعالي جدرانه بالأصباغ وصباب الذهب المفرغة من تلك الأصنام، واحتضر بناء المسجد بنفسه، ونقل إليه الرخام من نيسابور، وجعل أمام البيت مقصورة تسع ثلاثة آلاف غلام، وبنى بإزاء المسجد مدرسة احتوت فيها الكتب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 علوم الأوّلين والآخرين، وأجريت بها الأرزاق، واختصّت لنفسه يفضي منه إليه في أمن من العيون، وأمر القوّاد والحجّاب وسائر الخدّام فبنوا بجانب المسجد من الدور ما لا يحصى. وكانت غزنة تحتوي على مربط ألف فيل يحتاج كل واحد منها لسياسته ومائدته خطّة واسعة. (غزوة الأفقانية) لما رجع السلطان إلى غزنة راسل بيدو والي قنوج واسمه راجبان بدلحه وطال بينهما العتاب وآل إلى القتال فقتل والي قنوج، واستلحمت جنوده. وطغى بيدو، وغلب على الملوك الذين معه، وصاروا في جملته، ووعدهم بردّ ما غلبهم عليه السلطان محمود، ونمي الخبر بذلك إليه فامتعض، وسار إلى بيدو فغلبه على ملكه. وكان ابتداؤه في طريقه بالأفقانية طوائف من كفّار الهند معتصمون بقلل الجبال، ويفسدون السابلة، فسار في بلادهم ودوّخها، وعبر نهر كنك، وهو واد عميق، وإذا جيبال من ورائه، فعبر إليه على عسر العبور فانهزم جيبال، واسر كثير من أصحابه. وخلص جريحا واستأمن إلى السلطان فلم يؤمّنه إلا أن يسلم، فسار ليلحق ببيدو فغدر به بعض الهنود وقتله. فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى السلطان في الطاعة على الإتاوة، وسار إلى مدينة باري من أحصن بلاد الهند فألفاها خالية، فأمر بتخريبها وعشر قلاع مجاورة لها، وقتل من أهلها خلقا وسار في طلب بيدو، وقد تحصّن بنهر أدار ماءه عليه من جميع جوانبه، ومعه ستة وخمسون ألف فارس وثمانون ألف راجل وسبعمائة وخمسون فيلا، فقاتلهم لك يوما، وحجز بينهم الليل فأجفل بيدو، وأصبحت دياره بلاقع، وترك خزائن الأموال والسلاح فغنمها المسلمون وتتبعوا آثارهم فوجدوهم في الغياض والآكام، فأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا بيدو بذماء نفسه، ورجع السلطان إلى غزنة ظافرا. (فتح سومنات) كان للهند صنم يسمّونه سومنات، وهو أعظم أصنامهم في حصن حصين على ساحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 البحر بحيث تلتقفه أمواجه والصنم مبنى في بيته على ستة وخمسين سارية من الساج المصفّح بالرصاص، وهو من حجر طوله خمسة أذرع، منها ذراعان غائصان في البناء وليس له صورة مشخّصة. والبيت مظلم يضيء بقناديل الجوهر الفائق، وعنده سلسلة ذهب بجرس وزنها مائة من تحرّك بأدوار معلومة من الليل فيقوم عباد البرهميّين لعبادتهم بصوت الجرس. وعنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبا وفضة، عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب، تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار. وكانوا يحجّون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر فتجتمع إليه عوالم لا تحصى. وتزعم الهنود أن الأرواح بعد المفارقة تجتمع إليه فيبثّها فيمن شاء بناء على التناسخ، والمدّ والجزر عندهم هو عبادة البحر. وكانوا يقرّبون إليه كل نفيس، وذخائرهم كلّها عنده ويعطون سدنته الأموال الجليلة. وكان له أوقاف تزيد على عشرة آلاف ضيعة. وكان نهرهم المسمّى كنك الّذي يزعمون أنّ مصبه في الجنّة، ويلقون فيه عظام الموتى من كبرائهم، وبينه وبين سومنات مائتا فرسخ. وكان يحمل من مائه كل يوم لغسل هذا الصنم، وكان يقوم عند الصنم من عبّاد البرهميّين ألف رجل في كل يوم للعبادة، وثلاثمائة لحلق رءوس الزوّار ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنّون ويرقصون، ولهم على ذلك الجرايات الوافرة، وكان كلّما فتح محمود بن سبكتكين من الهند فتحا أو كسر صنما، يقول أهل الهند: إن سومنات ساخط عليهم، ولو كان راضيا عنهم لأهلك محمودا دونه. فاعتزم محمود بن سبكتكين إلى غزوة، وتكذيب دعاويهم في شأنه، فسار من غزنة في شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة في ثلاثين ألف فارس سوى المتطوّعة، وقطع القفر إلى الملتان وتزوّد له من القوت والماء قدر الكفاية، وزيادة عشرين ألف حمل. وخرج من المفازة إلى حصون مشحونة بالرجال قد غوّروا آبارهم مخافة الحصار، فقذف الله الرعب في قلوبهم، وفتحها وقتل سكانها وكسر أصنامها، واستقى منها الماء. وسار إلى أنهلوارن وأجفل عنها صاحبها بهيم، وسار إلى بعض حصونه، وملك السلطان المدينة، ومرّ إلى سومنات ووجد في طريقه حصونا كثيرة فيها أصنام وضعوها كالنقباء والخدمة لسومنات، ففتحها وخرّبها وكسّر الأصنام. ثم سار في قفر معطش، واجتمع من سكانه عشرون ألفا لدفاعه، فقاتلهم سراياه، وغنموا أموالهم، وانتهوا إلى دبلواه على مرحلتين من سومنات، فاستولى عليها وقتل رجالها. ووصل الى سومنات منتصف ذي القعدة، فوجد أهلها مختفين في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 أسوارهم، وأعلنوا بكلمة الإسلام فوقها، فاشتدّ القتال حتى حجز بينهم الليل. ثم أصبحوا إلى القتال وأثخنوا في الهنود، وكانوا يدخلون إلى الصنم فيعنّفونه ويبكون ويتضرّعون إليه، ويرجعون إلى القتال. ثم انهزموا بعد أن أفناهم القتل، وركب فلّهم السفن فأدركوا، وانقسموا بين النهب والقتل والغرق، وقتل منهم نحو من خمسين ألفا. واستولى السلطان على جميع ما في البيت. ثم بلغه أنّ بهيم صاحب أنهلوارن اعتصم بقلعة له تسمّى كندهة في جزيرة على أربعين فرسخا من البرّ، فرام خوض البحر إليها، ثم رجع عنها وقصد المنصورة، وكان صاحبها ارتدّ عن الإسلام، ففارقها وتسرّب في غياض هناك، فأحاطت عساكر السلطان بها، وتتبّعوهم بالقتل، فأفنوهم. ثم سار إلى بهاطية فدان أهلها بالطاعة ورجع إلى غزنة في صفر سنة سبع عشرة وأربعمائة. (دخول قابوس صاحب جرجان وطبرستان في ولاية السلطان محمود) قد قدّمنا وفادة قابوس على الأمير نوح بن منصور بن سامان، وعامله بخراسان أبي العبّاس تأس مستصرخا على بني بويه عند ما ملكوا طبرستان وجرجان من يده سنة إحدى وسبعين، وأقام بخراسان ثماني عشرة سنة وهم يعدونه بالنصرة والمدد حتى يئس منهم. ولما جاء سبكتكين وعده بمثل ذلك. ثم شغله شغل بني سيجور، ثم وعده السلطان محمود وشغلته فتنة أخيه، واستولى أبو القاسم بن سيجور على جرجان بعد مهلك فخر الدولة بن بويه. ثم أمر من بخارى بالمسير إلى خراسان، فسار إلى أسفراين واستمدّ قابوس رجال الديلم والجبل، فأمدّوه وظاهروه على أمره حتى غلب على طبرستان وجرجان، وملكها كما يذكر في أخبار الديلم والجبل. وكان نصر بن الحسن بن الفيرزان وهو ابن عمّ ما كان بن كالي ينازعه فيهما، فآل الحال بنصر إلى أن اعتقله بنو بويه بالريّ، واستقلّ قابوس بولاية جرجان وطبرستان وديار الديلم كلّها من ممالك محمود . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 (استيلاء السلطان محمود على الري والجبل) كان مجد الدولة بن فخر الدولة صاحب الريّ، وكان قد ضعف أمره وأدبرت دولته، وكان يتشاغل بالنساء والكتاب نسخا ومطالعة. وكانت أمّه تدبّر ملكه، فلما توفيت انتقضت أحواله وطمع فيه جنده، وكتب إلى محمود يشكو ذلك ويستدعي نصرته، فبعث إليه جيشا عليهم حاجبه، وأمره أن يقبض على مجد الدولة فقبض عليه وعلى ابنه أبي دلف عند وصوله. وطيّر بالخبر إلى السلطان، فسار في ربيع من سنة عشرين وأربعمائة ودخل المريّ وأخذ أموال مجد الدولة، وكانت ألف ألف دينار، ومن الجواري قيمة خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات ما لا يحصى. ووجد له خمسين زوجة ولدن نيفا وثلاثين ولدا، فسئل عن ذلك فقال: هذه عادة. وأحضر مجد الدولة وعنّفه، وعرض له بتسفيه رأيه في الانتصار عن جندراي منه، وبعثه إلى خراسان فحبس بها. ثم ملك السلطان قزوين وقلاعها، ومدينة ساوة وآوه، وصلب أصحاب مجد الدولة من الباطنية ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة والاعتزال والنجوم، وأخذ مما سوى ذلك من الكتب مائة حمل. وتحصّن منه منوجهر بن قابوس ملك الجبل بالجبال الوعرة فقصده فيها، ولم تصعب عليه فهرب منوجهر وتحصّن بالغياض، وبعث له بخمسمائة ألف دينارا استصلاحا فقبله ورجع عنه إلى نيسابور. وتوفّي منوجهر عقب ذلك، وولي بعده ابنه أنوشروان فأقرّه السلطان على ولايته، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار ضريبة. وخطب للسلطان محمود في بلاد الجبل إلى أرمينية. وافتتح ابنه مسعود زنجان وأبهر من يد إبراهيم السيلار بن المرزبان من عقب شوذان بن محمد بن مسافر الديلميّ، وجميع قلاعه، ولم يبق بيده إلّا شهرزان، قرّر عليه فيها ضريبة، كما يأتي في أخبار الديلم. ثم أطاعه علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان، وخطب له، وعاد السلطان إلى خراسان، واستخلف بالريّ ابنه مسعودا فقصد أصفهان وملكها من علاء الدولة، واستخلف مسعود عليها بعض أصحابه وعاد عنها فثار أهلها بعامله وقتلوه، فرجع إليهم واستباحهم. ثم عاد إلى الريّ فأقام بها . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 (استيلاء السلطان محمود على بخارى ثم عوده عنها) كان ايلك خان ملك الترك وصاحب تركستان لما ملك بخارى من يد بني سامان سنة تسعين وثلاثمائة، ولّى عليها ورجع إلى بلاده كما مرّ، وكان الغزّ أحياء بادية بضواحي بخارى وزعيمهم أرسلان بن سلجوق عمّ السلطان طغرلبك. وكان بينه وبين ايلك خان وأخيه بقراخان حروب وفتن بسبب استظهار بني سامان بهم. فلما ملك ايلك خان بخارى عرف لأرسلان بن سيجور حقّه ورفع محلّه، وهو مع ذلك مستوحش. وكان على تكين أخو ايلك خان، وحبس أرسلان ولحق ببخارى فاستولى عليها، وطلب موالاة أرسلان بن سيجور فوالاه، واستفحل أمرهما، ونهض إليهما ايلك خان وقاتلهما فهزماه. واستوثق أمر تكين في بخارى وكان يسيء جوار السلطان محمود بن سبكتكين في أعماله، ويعترض رسله المتردّدين إلى ملوك الترك فأحفظ ذلك السلطان، وأجمع المسير إليه، فنهض من بلخ سنة عشرين وأربعمائة، وعبر النهر وقصد بخارى، فهرب منها على تكين ولحق بايلك خان. ودخل السلطان بخارى وملك سائر أعمالها، وأخذ الجزية من سمرقند، وأجفلت أحياء الغزّ وأرسلان بن سلجوق، وتلطف في استدعائه. فلما حضر عنده تقبّض عليه، وبعثه إلى بعض قلاع الهند وحبسه بها. وسار إلى أحياء الغزّ فنهبهم، وأثخن فيهم قتلا وأسرا، ورجع إلى خراسان. (خبر السلطان محمود مع الغز بخراسان) لمّا حبس السلطان أرسلان بن سلجوق، ونهب احياءهم، أجلاهم عن ضواحي بخارى، فعبروا نهر جيحون إلى خراسان، وامتدّت فيهم أيدي العمّال بالظلم والتعدّي في أموالهم وأولادهم فتفرّقوا، وجاءت منهم طائفة في أكثر من ألفي خركاة إلى كرمان، ثم إلى أصفهان، وكان يسمّون العراقية. وطائفة إلى جبل بكجان عند خوارزم القديمة، وعاث كل منهم فيما سار فيه من البلاد. وبعث السلطان إلى علاء الدولة بأصفهان لردّ الذين ساروا إليه إلى الريّ وقبلهم، وحاول ذلك بالغدر فلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 يستطع، وحاربهم فهزموه وساروا عنه إلى أذربيجان، وأفسدوا ما ساروا عليه وصانعهم وهشوذان صاحب أذربيجان وآنسهم. وكان مقدّموهم: بوقا وكوكاش ومنصور ودانا. وأمّا الذين ساروا إلى خوارزم القديمة فكثر عيثهم في تلك النواحي. وأمر السلطان محمود صاحب طوس أرسلان الحاجب أن يسير في طلبهم فاتبعهم سنتين. ثم جاء السلطان على أثره فشرّدهم على نواحي خراسان، واستخدم بعضهم. وكان أمراؤهم: كوكاش وبوقا وقزل ويغمروتا صغلي. ولمّا مات السلطان محمود استخدمهم ابنه مسعود أيضا، وساروا معه من غزنة إلى خراسان فسألوه فيمن بقي منهم بجبل بكجان عند خوارزم فأذن لهم أن يسهلوا الى البسائط على شرط الطاعة. ثم انتقض أحمد نيال عامل الهند فسار مسعود إليه، وولى على خراسان تاش، وكثر عيث هؤلاء الغز في البلاد فأوقع بهم تاش، وقتل أميرهم يغمر. وبعث السلطان مسعود من إجلائهم عن البلاد، ومثّل بهم بالقتل والقطع والصلب. فساروا إلى الريّ طالبين أذربيجان للحاق بالعراقية منهم كما مرّ ذكرهم فملكوا الدامغان ونهبوها، ثم سمنان. ونهبوا جوار الريّ وايجاباذ ومشكوبة من أعمال الريّ، وخرّبوا كل ما مرّوا عليه من القرى والضياع فاجتمع لحربهم تاش وأبو سهل الحمدونيّ صاحب الريّ. وسار إليهم تاش في العساكر والفيلة على التعبية، ولقوة مستميتين، وسبق إليه أحياؤهم فهزموه وقتلوه. ثم ساروا الى الريّ فهزموا أبا سهل الحمدونيّ وعسكره، ولحق بقلعة طبول، ونهبوا الريّ واستباحوا أموالها، وجاء عسكر من جرجان فاعترضوه وكبسوه، وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، ومضوا إلى أذربيجان ليجتمعوا بالعراقية. ثم رجع علاء الدولة بن كاكويه إلى أصفهان بعد مسيرهم من الريّ، وطلبوا مولاه أبا سهل على طاعة مسعود فلم يتم وعاث الغز في أذربيجان وأوقع بهم ففارقوها إشفاقا من نيال وأخيه طغرلبك، وافترقوا بين الموصل وديار بكر فملكوها ونهبوها وعاثوا في نواحيها كما مرّ ذكره في أخبار قرواش صاحب الموصل وابن مروان صاحب ديار بكر. هذه أخبار أرسلان بن سلجوق مفصلة إلّا مفصلة إلّا ما اختصر منها بالريّ وأذربيجان فإنه يأتي في مواضعه من دولة الديلم. وأمّا طغرلبك وإخوته داود ... وبيقو وأخوه لأمه نيال المسمى بعد الإسلام إبراهيم فانهزموا وأقاموا بعد سلجوق ببلاد ما وراء النهر. وكان بينهم وبين علي تكين صاحب بخارى حروب ظهر عليهم فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 فعبروا جيحون إلى خوارزم وخراسان، وكان من أخبارهم فيها وما آل أمرهم إلى الملك والدولة ما يأتي ذكره. (افتتاح نرسى من الهند) كان السلطان محمود قد استخلف على الهند من مواليه أحمد نيال تكين، فغزا سنة إحدى وعشرين مدينة نرسى من أعظم مدن الهند في مائة ألف مقاتل، فنهب وخرّب الأعمال واستباحها. وجاء إلى المدينة فدخلها من أحد جوانبها، واستباحها يوما ولم يستوعبها حتى خرجوا فباتوا بظاهرها خوفا على أنفسهم من أهل البلد. وقسّموا الأموال كيلا، وأرادوا العود من الغد فدافعهم أهلها، ورجع أحمد نيال بعساكره إلى بلده. (وفاة السلطان محمود وولاية ابنه محمد) ثم توفي السلطان محمود في ربيع سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وكان ملكا عظيما استولى على كثير من الممالك الإسلامية، وكان يعظّم العلماء ويكرّمهم، وقصدوه من أقطار البلاد، وكان عادلا في رعيته رفيقا بهم محسنا إليهم، وكان كثير الغزو والجهاد، وفتوحاته مشهورة. ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لابنه محمد وهو ببلخ، وكان أصغر من مسعود إلّا أنه كان مقبلا عليه ومعرضا عن مسعود. فلمّا توفي بعث أعيان الدولة إلى محمد بخبر الوصية واستحثّوه، وخطب له في أقاصي الهند إلى نيسابور، وسار إلى غزنة فوصلها لأربعين يوما، واجتمعت العساكر على طاعته وقسّم فيها الأعطيات. (خلع السلطان محمد ابن السلطان محمود وولاية ابنه الآخر مسعود الأكبر) ابن خلدن م 32 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 لما توفي السلطان محمود كان ابنه مسعود بأصفهان، فسار إلى خراسان، واستخلف على أصفهان، فثار أهلها بخليفته وعسكره فقتلوهم، فعاد إليهم مسعود وحصرها وافتتحها عنوة واستباحها. ثم استخلف عليها وسار إلى الريّ ومنها إلى نيسابور، وكتب إلى أخيه محمد بالخبر وأنه لا ينازعه، ويقتصر على فتحه من طبرستان وبلد الجبل وأصفهان، ويطلب تقديمه على محمد في الخطبة فأحفظه ذلك، واستحلف العساكر. وسار إلى مسعود، وكان أكثر العساكر يميلون الى مسعود لقوّته وشجاعته وعلوّ سنه. وأرسل التوتناش صاحب خوارزم، وكان من أصحاب السلطان محمود يشير على محمد بترك الخلاف فلم يسمع، وسار فانتهى إلى بكياباد أوّل رمضان من سنته، وأقام، وكان مشتغلا باللعب عن تدبير الملك، فتفاوض جنده في خلعه والادالة منه بأخيه مسعود. وتولّى كبر ذلك عمّه يوسف بن سبكتكين، وعلى حشاوند صاحب أبيه. وحبسوا محمدا بقلعة بكياباد وكتبوا بالخبر إلى مسعود، وارتحلوا إليه بالعساكر فلقوه بهراة فقبض على عمّه وعلى صاحب أبيه، وعلى جماعة من القوّاد. واستقرّ في ملك أبيه شهر ذي القعدة من سنته، وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن السيمندي من محبسه وفوّض إليه الوزارة وأمور المملكة. وكان أبوه قبض عليه سنة ست عشرة واربعمائة وصادره على خمسة آلاف دينار. ثم سار إلى غزنة فوصلها منتصف اثنتين وعشرين واربعمائة ووفدت عليه رسل جميع الملوك من جميع الآفاق، واجتمع له ملك خراسان وغزنة والهند والسند وسجستان وكرمان ومكران والريّ وأصفهان والجبل، وعظم سلطانه. (عود أصفهان الى علاء الدولة بن كاكويه ثم رجوعها للسلطان مسعود) كان قناخر مجد الدولة بن بويه صاحب أصفهان، وملكها السلطان محمود من يده فهرب عنها، وامتنع بحصن قصران. وأنزل السلطان محمود ابنه مسعودا بأصفهان، وأنزل معه علاء الدولة بن كاكويه فاستقل بها، وسار عنه مسعود. ثم زحف إليه وملكها من يده. ولحق علاء الدولة بخوزستان يستنجد أبا كليجار بن سلطان الدولة. وسار عنه إلى تستر ليستمدّ له من أخيه جلال الدولة العساكر لمعاودة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 أصفهان. وكان ذلك عقب فتنة وحرب بين أبي كليجار وأخيه جلال الدولة فوعده أبوه بذلك إذا اصطلحا، وأقام عنده إلى أن توفي السلطان محمود. ولما توفي السلطان محمود جمع قناخر جمعا من الديلم والأكراد، وقصد الريّ وقاتله نائبة مسعود فهزمه، ودفعه عن الريّ وفتك في عسكره قتلا وأسرا. وعاد قناخر إلى بلده، وبلغ الخبر إلى علاء الدولة بموت السلطان محمود وهو عند أبي كليجار بخوزستان، وقد أيس من النصر، فبادر إلى أصفهان فملكها، ثم همذان. وقصد الريّ فقاتله نائب مسعود، ورجع إلى أصفهان. ثم اقتحموا عليه البلد عنوة ونجا علاء الدولة إلى قلعة قردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان. وخطب لمسعود بالريّ وجرجان وطبرستان. (فتح التيز ومكران وكرمان ثم عود كرمان لأبي كليجار) كان صاحب التيز ومكران لما توفي خلّف ولدين أبا العساكر وعيسى، واستبدّ عيسى منهما بالملك فسار أبو العساكر إلى خراسان مستنجدا بمسعود فبعث معه عسكرا ودعوا عيسى إلى الطاعة فامتنع، وقاتلوه فاستأمن كثير من أصحابه إلى أبي العساكر فانهزم عيسى وقتل في المعركة. واستولى أبو العساكر على البلاد وملكها، وخطب فيها للسلطان مسعود، وذلك سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وفي هذه السنة ملك السلطان مسعود كرمان وكانت للملك أبي كليجار بن سلطان الدولة فبعث إليها السلطان مسعود عساكر خراسان فحاصروا مدينة بردسير، وشدّوا في حصارها، واستبدّ إلى أطراف البلاد، ثم وصل عسكر أبي كليجار إلى جيرفت واتبعوا الخراسانية بأطراف البلاد فعاود هزيمتهم، ودخلوا المفازة إلى خراسان وعادت العساكر الى فارس. (فتنة عساكر السلطان مسعود مع علاء الدولة بن كاكويه وهزيمته) قد تقدّم لنا هزيمة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه من الريّ ونجاته إلى قلعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 قردخان. ثم سار منها إلى يزدجرد ومعه فرهاد بن مرداويح مددا له. وبعث صاحب الجيوش بخراسان عسكرا مع ابن عمران الديلميّ لاعتراضهما، فلما قاربهما العسكر فرّ فرهاد إلى قلعة شكمين، ومضى علاء الدولة إلى سابور خرات، وملك علي بن عمران يزدجرد. ثم أرسل فرهاد إلى الأكراد الذين مع علي بن عمران وداخلهم في الفتك به، وشعر بذلك فسار إلى همذان، ولحقه فرهاد فاعتصم بقلعة في طريقه منيعة، وكادوا يأخذونه لولا عوائق الثلج والمطر في ذلك اليوم، وكانوا ضاحين من الخيام فتركوه ورجعوا عنه. وبعث ابن عمران الى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان يستمدّه في العسكر إلى همذان، وبعث علاء الدولة يستدعي أبا منصور ابن أخيه من أصفهان بالسلاح والأموال ففعل. وسار علي بن عمران من همذان لاعتراضه، فكبسه بجرباذقان وغنم ما معه وقتل كثيرا من عسكره وأسره، وبعث به إلى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان. وسار إلى همذان وزحف إليه علاء الدولة وفرهاد، فانقسموا عليه وجاءوه من ناحيتين، فانهزم علاء الدولة ونجا إلى أصفهان وفرّ هاربا الى قلعة شكمين فتحصّن بها. (مسير السلطان مسعود إلى غزنة والفتن بالري والجبل) لما استولى السلطان على أمره سار من غزنة إلى خراسان لتمهيد أمورها، وكان عامله وعامل أبيه على الهند أحمد نيال تكين [1] قد استفحل فيها أمره، وحدّثته نفسه بالاستبداد فمنع الحمل وأظهر الانتقاض. فسار السلطان إلى الهند ورجع أحمد نيال الى الطاعة، وقام علاء الدولة بأصفهان وأظهر الانتقاض، ومعه فرهاد بن مرادويح، فزحف إليهم أبو سهل وهزمهم، وقتل فرهاد ونجا علاء الدولة إلى جبال أصفهان وجرباذقان فامتنع بها، وسار ابو سهل إلى أصفهان فملكها سنة خمس وعشرين وأربعمائة ونهب خزائن علاء الدولة وحمل كتبه إلى غزنة وأحرقها الحسين الغوري بعد ذلك.   [1] ينالتكين: ابن الأثير ج 9 ص 441. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 (عود أحمد نيال تكين إلى العصيان) ولما عاد السلطان إلى خراسان لقتال الغزّ، عاد أحمد نيال تكين إلى العصيان بالهند، وجمع الجموع فبعث السلطان سنة ست وعشرين وأربعمائة إليه جيشا كثيفا، وكتب إلى ملوك الهند بأخذ المذاهب عليه. فلما قاتله الجيوش انهزم ومضى هاربا إلى ملتان، وقصد منها بهاطية وهو في جمع فلم يقدر ملك بهاطية على منعه. وأراد عبور نهر السند في السفن، فهيّأ له الملك ليعبر إلى جزيرة وسط النهر ظنّها متصلة بالبر، وأوصى الملك الملّاحين أن ينزلوه بها ويرجعوا عنه. وعلموا أنها منقطعة، فضعفت نفوسهم وأقاموا بها سبعة أيام، ففنيت أزوادهم وأكلوا دوابهم، وأوهنهم الجوع. وأجاز إليهم ملك بهاطية فاستوعبهم بالقتل والغرق والأسر وقتل أحمد نفسه. (فتح جرجان وطبرستان) كانت جرجان وطبرستان وأعمالهما لدارا بن منوجهر بن قابوس، وكان السلطان مسعود قد أقرّه عليها، فلمّا سار السلطان إلى الهند وانتشر الغزّ في خراسان منع الحمل، وداخل علاء الدولة بن كاكويه وفرهاد بن ماكان في العصيان. فلمّا عاد مسعود من الهند وأجلى الغزّ عن خراسان سار إلى جرجان سنة ست وعشرين وأربعمائة فملكها ثم سار إلى آمد فملكها وفارقها أصحابها، وافترقوا في الغياض فتبعهم، وقتل منهم وأسر. ثم راسله دارا في الصلح وتقرير البلاد عليه، وحمل ما بقي عليه، فأجابه السلطان إلى ذلك ورجع إلى خراسان. (مسير علاء الدولة الى أصفهان وهزيمته) كان أبو سهل الحمدونيّ قد أنزله السلطان بأصفهان [1] ودلّهم على النواحي   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 446: «سار طائفة من العساكر الخراسانية التي مع الوزير- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 القريبة من علاء الدولة فأوقع بهم وغنم ما معهم، وقوي طمعه بذلك في أصفهان، فجمع الجموع، وسار إليها، فخرج إليهم أبو سهل وقاتلهم. وتحيّز من كان مع علاء الدولة من الأتراك إلى أبي سهل، فانهزم علاء الدولة، ونهب سواده، وسار إلى بروجرد، ثم إلى الطّرم فلم يقبله ابن السلّار صاحبها. (استيلاء طغرلبك على خراسان) كان طغرلبك وأخواه بيقو وحقربيك، واسم طغرلبك محمد، ولما أسر السلطان محمود أرسلان بن سلجوق وحبسه كما مرّ وأجاز أحياء من الغزّ إلى خراسان فكان من أخبارهم ما قدّمناه، وأقام طغرلبك وإخوته في أحيائهم بنواحي بخارى. ثم حدثت الفتنة بينهم وبين علي تكين صاحب بخارى، وكانت بينهم حروب ووقائع، وأوقعوا بعساكره مرارا فجمع أهل البلاد عليهم، وأوقع بهم واستلحمهم واستباحهم، فانحازوا إلى خراسان سنة ست وعشرين وأربعمائة، واستخدموا لصاحب خوارزم وهو هارون بن التوتناش. وغدر بهم، فساروا عنه إلى مفازة نسا، ثم قصدوا مرو وطلبوا الأمان من السلطان مسعود على أن يضمنهم أمان السابلة، فقبض على الرسل ولم يجبهم على ما سألوا. وبعث العساكر فأوقعوا بهم على نسا، ثم طار شررهم في البلاد وعمّ ضررهم. وسار السلطان ألب أرسلان إلى نيسابور ففارقها أبو سهل الحمدونيّ فيمن معه، واستولى عليها داود. وجاء أخوه طغرلبك على أثره ولقيهم رسل الخليفة إليهم وإلى العراقية الذين قتلهم بالريّ وهمذان، يعنّفهم وينهاهم عن الفساد ويطمعهم، فتلقوا الرسل بالإعظام والتكرمة. ثم امتدّت عين داود إلى نهب نيسابور فمنعه طغرلبك، وعرض له بشهر رمضان، ووصية الخليفة، فلجّ فقوي طغرلبك في المنع وقال: والله لئن نهبت لأقتلنّ نفسي، فكفّ داود عن ذلك. وقسّطوا على أهل   [ (-) ] أبي سهل الحمدونيّ بأصبهان يطلبون الميرة، فوضع عليهم علاء الدولة من أطمعهم في الامتيار من النواحي القريبة منه، فساروا إليها ولا يعلمون قربه منهم، فلما أتاه خبرهم خرج إليهم وأوقع بهم وغنم ما معهم» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 نيسابور ثلاثين ألف دينار، فرّقوها في أصحابهم. وجلس طغرلبك على سرير ملك مسعود بدار الملك، وصار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على عادة ولاة خراسان، وكانوا يخطبون للملك مسعود مغالطة وإيهاما. (مسير السلطان مسعود من غزنة إلى خراسان واجلاء السلجوقية عنها) ولما بلغ الخبر إلى السلطان مسعود باستيلاء طغرلبك والسلجوقية على نيسابور، جمع عساكره من غزنة وسار إلى خراسان فنزل بلخ في صفر سنة ثلاثين وأربعمائة وأصهر إلى بعض ملوك الخانية دفعا لشرّه. وأقطع خوارزم ولحق إسماعيل بطغرلبك. ثم أراح السلطان مسعود وفرغ من خوارزم والخانية، فبعث السلطان سباسي، فسار إليهم في العساكر فلم يشف نفسه، ونزل سرخس، وعدلوا عن لقائه، ودخلوا المفازة التي بين مرو وخوارزم، واتبعهم السلطان مسعود وواقعهم في شعبان من هذه السنة، فهزمهم فما بعدوا حتى عادوا في نواحيه، فأوقع بهم أخرى. وكان القتلى فيها منهم ألفا وخمسمائة، وهربوا إلى المفازة. وثار أهل نيسابور بمن عندهم وقتلوهم، ولحق فلّهم بأصحابهم في المفازة. وعدل السلطان إلى هراة ليجهّز العساكر ليطلبهم، فبلغه الخبر بأنّ طغرلبك سار إلى أستراباذ، وأقام بها في فصل الشتاء يظن أنّ الثلج يمنعهم عنه، فسار السلطان إليه هنالك، ففارقها طغرلبك وعدل عن طوس إلى جبال الريّ التي كان فيها طغرلبك وأصحابه، وقد امتنعوا بحالهم خوفا من السلطان لما كان منهم من موالاة السلجوقية، فاغذّ إليهم السير، وصبحهم فتركوا أهلهم وأموالهم واعتصموا بوعر الجبل، وغنمت عساكره جميع ما استولوا عليه. ثم صعد إليهم بنفسه وعساكره وهلك كثير من العسكر بالثلج في شعاب الجبل ثم ظفروا بهم في قلّة الجبل واستلحموهم، وسار مسعود إلى نيسابور في جمادى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ليريح ويخرج في فصل الربيع لطلبهم في المفاوز. ثم عاد طغرلبك وأصحابه من المفازة وبعث إليهم السلطان بالوعيد. فيقال إنّ طغرلبك قال لكاتبه أكتب إليه: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ» 3: 26 الآية. ولا تزده عليها. ولما ورد الكتاب على السلطان مسعود، كتب إليه «وآنسه بالمواعيد» وبعث إليه بالخلع، وأمره بالرحيل إلى آمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 الشطّ على جيحون، وأقطع نسا لطغرلبك ودهستان لداود وبدارة لبيقو، وسمّى كل واحد منهما بالدهقان، فلم يقبلوا شيئا من ذلك ولا وثقوا به. وأكثروا من العيث والفساد. ثم كفّوا عن ذلك، وبعثوا إلى السلطان مسعود يخادعونه بالطاعة ببلخ، ورغّبوه في أن يسرّح إليهم أخاهم أرسلان المحبوس بالهند، فبعث إليه السلطان مسعود وجاءوا بأرسلان من الهند، ولمّا لم يتم بينهم أمر بإعادته إلى محبسه. (هزيمة السلطان مسعود واستيلاء طغرلبك على مدائن خراسان وأعمالها) ولما تغلّبت السلجوقية على نواحي خراسان. وفضّوا عساكر السلطان وهزموا الحاجب سباسي [1] ، اهتز السلطان لذلك، وأجمع لخراسان الحشد وبثّ العطاء، وأزاح العلل، وسار من غزنة في الجيوش الكثيفة والفيلة العديدة على التعبية المألوفة، ووصل إلى بلخ، ونزل بظاهرها، وجاء داود بأحيائه فنزل قريبا منه، وأغار يوما على معسكره فساق من باب الملك مسعود عدّة من الجنائب المقرّبات، معها الفيل الأعظم، وارتاع الملك لذلك، وارتحل مسعود من بلخ في رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ومعه مائة ألف مقاتل. ومرّ بالجوزجان فصلب الوالي الّذي كان بها للسلجوقية، وانتهى إلى مرو الشاهجان. ومضى داود إلى سرخس واجتمع معه أخوه طغرلبك وبيقو، وبعث إليهم السلطان في الصلح، فوفد عليه بيقو فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأجابه هو عن أصحابه بالامتناع من الصلح للخوف من السلطان. وسار من عند السلطان فسقط في يده [2] وسار في اتباعهم من هراة إلى نيسابور، ثم سرخس. كلّما تبعهم إلى مكان هربوا منه إلى آخر، حتى أظلهم فصل الشتاء فأقاموا بنيسابور ينتظرون انسلاخه فانسلخ، والسلطان عاكف على لهوه غافل عن شأنه حتى انقضى زمن الربيع. واجتمع وزراؤه وأهل دولته وعذلوه في إهمال أمر عدوّه، فسار من نيسابور إلى مرو في طلبهم فدخلوا المفازة، فدخل وراءهم مرحلتين وقد ضجر العسكر من طول السفر وعنائه. وكانوا منذ ثلاث سنين منقلبين فيه منذ سفرهم مع   [1] هو سباشي: ابن الأثير ج 9 ص 457. [2] العبارة مشوشة وغير واضحة ولم نهتد الى تصويبها في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 سباسي فنزل بعض الأيام في منزلة على قليل من الماء، وازدحم الناس على الورود واستأثر به أهل الدولة والحاشية، فقاتلهم عليه الجمهور، ووقعت في العساكر لذلك هيعة. وخالفهم الدعرة إلى الخيام ينهبون ويتخطّفون. وكان داود وأحياؤه متابعا للعسكر على قرب يتخطّف الناس من حولهم، فشعر بتلك الهيعة فركب في قومه وصدم العساكر وهم في تلك الحال فولّوا منهزمين، والسلطان والوزير ثابتان في موقفهما يحرّضان الناس على الثبات، فلم يثبت أحد، فانصرفا مع المنهزمين في فلّ وأتبعهم داود وأثخن فيهم بالقتل. ثم رجع إلى العسكر وقد غنمه أصحابه فآثرهم بالغنائم، وقسّم فيهم ما حصل له وقعد على كرسيّ السلطان، وأقام عسكره ثلاثة أيام ولياليها على ظهر خشية من كرّ العسكر السلطانية عليهم. ونجا السلطان إلى غزنة فدخلها في شوّال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبض على سباسي وغيره من الأمراء، وسار طغرلبك إلى نيسابور فملكها آخر إحدى وثلاثين وأربعمائة، ونهب عسكره أهلها، وكان بها هرج عظيم من الدعرة. وكانوا ينالون من الناس بالنهب والزنا والقتل فارتدعوا لذلك لهيبة طغرلبك، وسكن الناس. وملك السلجوقية البلاد فسار بيقو إلى هراة فملكها وسار داود إلى بلخ وبها الحاجب التوتناش فاستخلفه السلطان عليها، فأرسل إليه داود في الطاعة فسجن الرسل، وحاصره داود. وبعث السلطان مسعود جيشا كثيفا لإمداده، ودفع السلجوقية عن البلاد، فسار فريق منهم إلى الرخّج، فدفعوا من كان بها من السلجوقية وهزموهم، وأفحشوا في قتلهم وأسرهم. وسار فريق منهم إلى بيقو في هراة فقاتلوه ودفعوه عنها ثم بعث السلطان ابنه مودود بعساكر أخرى، وجعل معه وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبّره، فسار عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فلما قارب بلخ وداود يحاصرها، بعث داود جماعة من عسكره فلقوا طلائع مودود فهزمهم، فلمّا وصلت منهزمة تأخّر مودود عن نهايته، وأقام وسمع التوتناش بأحجام مودود عنه فأطاع داود وخرج إليه. (خلع السلطان مسعود ومقتله وولاية أخيه محمد مكانه) ولما بعث السلطان ولده مودود إلى خراسان لمدافعة السلجوقية عنها، وأقام بعده سبعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 أيام، وخرج من غزنة في ربيع سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة يريد الهند للمشتى به على عادة أبيه، ويستنفر الهنود لقتال السلجوقية. واستصحب أخاه محمدا المسمول معه. وكان أهل الدولة قد ضجروا منه فتفاوضوا في خلعه وولاية أخيه محمد، وأجمعوا ذلك. فلما عبروا نهر سيحون وتقدّم بعض الخزائن فتخلّف أنوش تكين البلخيّ في جماعة من الغلمان الفداوية، ونهبوا بقية الخزائن، وبايعوا لمحمد المسمول وذلك في منتصف ربيع الآخر من السنة. وافترق العسكر واقتتلوا وعظم الخطب وانهزم السلطان مسعود، وحاصروه في رباط هناك. ثم استنزلوه على الأمان وخيّره أخوه محمد في السكنى فاختار مسعود قلعة كيدي فبعث إليها، وأمر بإكرامه، ورجع محمد بالعساكر إلى غزنة. وفوّض إلى ابنه أحمد أمر دولته وكان أهوج فاعتزم على قتل عمّه مسعود، وداخل في ذلك عمّه يوسف، وعلي خشاوند فوافقوه عليه، وحرّضوه فطلب من أبيه خاتمه ليختّم به بعض خزائنهم، وبعث به إلى القلعة مع بعض خدمه ليؤدّي رسالة مسعود، وهو بخراسان يعتذر بأن أولاد أحمد نيال تكين قتلوا السلطان مسعود قصاصا بأبيهم، فكتب إليه يتوعّده. ثم طمع الجند في السلطان محمد ومدّو أيديهم إلى الرعايا ونهبوها، وخربت البلاد وارتحل عنها محمد. وكان السلطان مسعود شجاعا كريما غزير الفضل حسن الخط، سخيّا محبا للعلماء مقرّبا لهم محسنا إليهم وإلى غيرهم من ذوي الحاجات، كثير الصلات والعطاء والجوائز للشعراء، حليت تصانيف العلوم باسمه، وكثرت المساجد في البلاد بعمارته. وكان ملكه فسيحا، ملك أصفهان وهمذان والريّ وطبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الدارون وكرمان وسجستان والسند والرخّج وغزنة وبلاد الغور، وأطاعه أهل البرّ والبحر وقد صنّف في أخباره ومناقبه. (مقتل السلطان محمد وولاية مودود ابن أخيه مسعود) لما بلغ الخبر بمقتل السلطان مسعود إلى ابنه مودود بخراسان سار مجدّا في عساكره إلى غزنة فلقيه عمّه محمد في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وانهزم محمد وقبض عليه وعلى أبيه أحمد وعبد الرحمن، وعلى أنوش تكين البلخيّ الخصيّ، وعلى علي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 خشاوند وقتلهم أجمعين، إلّا عبد الرحمن لرفقه بأبيه مسعود عند القبض عليه. وقتل كل من داخل في قبض أبيه وخلعه، وسار سيرة جدّه محمود، وبلغ الخبر إلى أهل خراسان فثار أهل هراة بمن عندهم من السلجوقية فأخرجوهم، وتشوّف أهل خراسان للنصر على الغزّ من قبل مودود، وكان أبوه السلطان مسعود قد بعث ابنه الآخر إلى الهند أميرا عليها سنة ست وعشرين وأربعمائة فلمّا بلغه موت أبيه بايع لنفسه وقفل إلى لهاور والملتان فملكهما، وأخذ الأموال وجمع العساكر وأظهر الخلاف على أخيه مودود. وحضر عيد الأضحى فأصبح ثالثه ميتا بلهاور، بعد أن كان مودود يجّهز العساكر من غزنة لقتاله، وهو في شغل شاغل من أمره، ففرغ عن الشواغل ورسخت قدمه في ملكه، وخالفه السلجوقية بخراسان وخاطبه خان الترك من وراء النهر بالانقياد والمتابعة. (استيلاء طغرلبك على خوارزم) كانت خوارزم من ممالك محمود بن سبكتكين وابنه مسعود من بعده، وكان عليها التوتناش حاجب محمود من أكابر أمرائه، ووليها لهما معا، ولما شغل مسعود بفتنة أخيه محمد عند مهلك أبيهما أغار على تكين صاحب بخارى من أطراف البلاد وغيرهما. فلمّا فرغ مسعود من مراجعة محمد واستقل بالملك بعث إلى التوتناش بالمسير إلى أعمال علي وانتزاع بخارى وسمرقند منه، وأمدّه بالعساكر فعبر جيحون سنة أربع وعشرين وأربعمائة وأخذ من بلاد تكين كثيرا فأقام بها، وهرب تكين بين يديه. ثم دعته الحاجة إلى الأموال للعساكر، ولم يكن في جبايته تلك البلاد. وجاء بها فاستأذن في العود إلى خوارزم، وعاد واتبعه علي تكين وكبسه على غرّة، فثبت وانهزم علي تكين ونجا إلى قلعة دبوسية. وحاصره التوتناش وضيّق عليه فبعث إليه واستعطفه فأفرج عنه، وعاد إلى خوارزم، وكانت به جراحة من هذه الوقعة، فانتقض عليه ومات وترك من الولد ثلاثة وهم: هارون ورشيد وإسماعيل، وضبط وزيره أحمد بن عبد الصمد البلد والخزائن حتى جاء هارون الأكبر من الولد من عند السلطان بعهده على خوارزم، ثم توفي المتميدي وزير السلطان مسعود، وبعث على أبي نصر لوزارته، واستناب أبو نصر عند هارون بخوارزم ابنه عبد الجبّار. ثم استوحش من هارون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 وسخطه وأظهر العصيان في رمضان سنة خمس وعشرين وأربعمائة فاختفى عبد الجبّار خوفا من غائلته، وسعى عند السلطان مسعود. وكتب مسعود إلى شاه ملك بن علي أحد ملوك الأطراف بنواحي خوارزم بالمسير لقتال إسماعيل فسار وملك البلد فهزمهما، وهرب إسماعيل وشكر إلى طغرلبك وداود صريخين، فسار داود إلى خوارزم فلقيهما شاه ملك وهزمهما. ثم قتل مسعود وملك ابنه مودود فدخل شاه ملك بأمواله وذخائره في المفاوز إلى دهستان ثم إلى طبس، ثم إلى نواحي كرمان ثم إلى أعمال البتر ومكران. وقصد أرتاش أخا إبراهيم نيال وهو ابن عم طغرلبك في أربعة آلاف فارس، فأسره وسلّمه إلى داود واستأثر هو بما غنم من أمواله. ثم أعاد أرتاش إلى باذغيس، وأقام على محاصرة هراة على طاعة مودود بن مسعود فامتنعوا منه خوفا من معرّة هجومه عليهم. (مسير العساكر من غزنة الى خراسان) ولما ملك الغزّ خراسان واستولوا على سائر أملاكها وأعمالها. واستولى طغرلبك على جرجان وطبرستان وخوارزم، وإبراهيم نيال على همذان وعلى الريّ والجبل، وولّى على خراسان وأعمالها داود بن ميكائيل، وبعث السلطان أبو الفتح مودود عساكره مع بعض حجّابه إلى خراسان سنة خمس وثلاثين، فسرّح إليهم داود ابنه آلب أرسلان في العساكر فاقتتلوا، وكان الغلب لألب أرسلان. وعاد عسكر غزنة مهزوما، وسار عسكر من الغز إلى نواحي بست. وعاثوا وأفسدوا، فبعث أبو الفتح مودود إليهم عسكرا فقاتلهم، وانهزموا وظفر عسكر مودود بهم وأثخنوا فيهم. (مسير الهنود لحصار لهاور وامتناعها وفتح حصون اخرى من بلادهم) وفي سنة خمس وثلاثين اجتمع ثلاثة من ملوك الهند على لهاور، فجمع مقدّم العساكر الإسلامية هناك عسكره وبعثهم للدفاع عنها. وبعث إلى السلطان مودود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 وحاصرها الثلاثة ملوك. ثم أفرج الآخران وعادا إلى بلادهما. وسارت عساكر الإسلام في اتباع أحدهما وهو دوبالي هربابة فانهزم منهم، وامتنع بقلعة له هو وعساكره، وكانوا خمسة آلاف فارس وسبعين ألف راجل، وحاصرهم المسلمون حتى استأمنوا وسلّموا ذلك الحصن وجميع الحصون التي من أعمال الملك، وغنموا أموالهم، وأطلقوا من كان في الحصون من أسرى المسلمين بعد أن أعطوهم خمسة آلاف، ثم ساروا إلى ولاية الملك الآخر واسمه باس الريّ فقاتلوه وهزموه، وقتل في المعركة هو وخمسة آلاف من قومه، وأسر الباقون، وغنم المسلمون ما معهم. وأذعن ملوك الهند بعدها بالطاعة، وحملوا الأموال وطلبوا الأمان والإقرار على بلادهم فأجيبوا. (وفاة مودود وولاية عمه عبد الرشيد) ثم توفي أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بغزنة لعشر سنين من ولايته في رجب سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وقد كان كاتب فأجابوه [1] وجمع كليجار صاحب أصفهان العساكر، وسار في المفازة لنصره فمرض في طريقه ورجع. وسار خاقان إلى ترمذ لنصره، وطائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم. وسار مودود من غزنة فعرض له بعد رحيله من غزنة مرض القولنج، فعاد إلى غزنة، وبعث إلى وزيره أبي الفتح عبد الرزاق بن أحمد المتميدي في العساكر إلى سجستان لانتزاعها من الغزّ. ثم اشتدّ وجعه فمات ونصّب ابنه للأمر خمسة أيام. ثم عدل الناس عنه إلى عمّه عليّ بن مسعود، وكان مسعود لأوّل ولايته قبض على عمّه عبد الرشيد أخي محمود وحبسه بقلعة بطريق بست. فلمّا قاربها الوزير أبو الفتح وبلغه وفاة مودود، نزل عبد الرشيد الى العسكر فبايعوا له ورجعوا به إلى غزنة فهرب عليّ بن مسعود، واستقرّ الأمر لعبد الرشيد. ولقّب سيف الدولة وقيل جمال الدولة. واستقام أمر السلجوقيّة بخراسان، واندفعت العوائق عنهم.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 558: «وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد، ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر، وبذل لهم الأموال الكثيرة، وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم، فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار، صاحب أصبهان، فإنه جمع عساكره وسار في المفازة فهلك كثير من عسكره، ومرض وعاد» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 (مقتل عبد الرشيد وولاية فرخزاد) كان لمودود صاحب اسمه طغرل، وجعله حاجبا ببابه، وكان السلجوقيّة قد ملكوا سجستان وصارت في قسم بيقو أخي طغرلبك، وولّى عليها أبا الفضل من قبله، فأشار طغرلبك على عبد الرشيد بانتزاعها منهم، وألحّ عليهم في ذلك، فبعث إليها طغرل في ألف فارس، فحاصر حصن الطاق أربعين يوما. وكتب أبو الفضل من سجستان يستنجده، وسار طغرل، ولمّا سمع أصوات البوقات والدبادب، وأخبر أنه بيقو، فتحاجزوا، وعلم أنه تورط ولقيهم مستميا فهزمهم وسار إلى هراة. واتبعهم طغرل فرسخين وعاد إلى سجستان فملكها، وكتب إلى عبد الرشيد بالخبر، واستمدّه لغزو خراسان فأمدّه بالعساكر. ثم حدّثته نفسه بالملك، فاغذّ السير إلى غزنة حتى كان على خمسة فراسخ منها، كتب إلى عبد الرشيد باستيجاش العسكر وطلبهم الزيادة في العطاء، فشاور أصحابه فكشفوا له وجه المكيدة في ذلك وحذّروه من طغرل، فصعد إلى قلعة غزنة وتحصّن بها. وجاء طغرل من الغد فنزل في دار الإمارة، وراسل أهل القلعة في عبد الرشيد فأسلموه إليه فقتله واستولى على ملكهم، وتزوّج ابنة السلطان عبد الرشيد [1] ويحضّهم على الأخذ بثأره فأجابوا ودخلوا عليه في مجلسه [2] ، وقتلوه وجاء ذخير الحاجب لخمسة أيام من مقتله، وجمع وجوه القوّاد وأعيان البلد، وبايع قرخاد ابن السلطان مسعود، وقام بتدبير دولته وقتل الساعين في [3] إلى غزنة ولقي الغزّ وهزمهم. ودخل غزنة فملكها   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 584: «فقتله واستولى على البلد، وتزوج ابنة مسعود كرها، وكان في الأعمال الهندية أمير يسمّى خرخيز، ومعه عسكر كثير، فلما قتل طغرل عبد الرشيد واستولى على الأمر، كتب إليه ودعاه الى الموافقة والمساعدة على إنجاح الأعمال من ايدي الغزّ، ووعده على ذلك وبذل البذول الكثيرة فلم يرض فعله، وأنكره وامتعض منه، وأغلظ له في الجواب، وكتب إلى ابنة مسعود بن محمود زوجة طغرل ووجوه القوّاد ينكر ذلك عليهم، ويوبخهم على إغضائهم وصبرهم على ما فعله طغرل من قتل ملكهم وابن ملكهم، ويحثّهم على الأخذ بثأره» . [2] هكذا بالأصل وفي الكامل: «فلما وقفوا على كتبه عرفوا غلطهم. ودخل جماعة منهم على طغرل ووقفوا بين يديه فضربه أحدهم بسيفه» . [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 584: «وجمع وجوه القوّاد وأعيان أهل البلد وقال لهم: قد عرفتم ما جرى مما خولفت به الديانة والأمانة، وأنا تابع، ولا بدّ للأمر من سائس فاذكروا ما عندكم من- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 من أيديهم. ثم سار إلى كرمان وسنوران فملكها وكرمان هذه بين غزنة والهند، وليست كرمان المعروفة. ثم سار غيّاث الدين إلى نهر السند ليعبر إلى لهاور كرسي خسرو شاه بن بهرام شاه، فبادر خسرو شاه ومنعه العبور فرجع وملك ما يليه من جبال الهند وأعمال الأنبار. وولّى على غزنة أخاه شهاب الدين ورجع الى فيروزكوه. (استيلاء الغورية على لهاور ومقتل خسرو شاه وانقراض دولة بني سبكتكين) ولما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم، وافتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه، وتطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه، فسار سنة تسع وسبعين وأربعمائة في عسكر غزنة والغور، وعبر إليها وحاصرها، وبذل الأمان لخسروشاه وأنكحه ابنته وسوّغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه ويخطب لأخيه فأبى من ذلك. وأقام شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه، وخذله أهل البلد، فبعث القاضي والخطيب يستأمنان له فأمّنه ودخل شهاب الدين، وبقي خسرو شاه عنده مكرّما، وبقي شهرين ينتظر المعونة من يد غيّاث الدين، فأنقذ خسرو شاه إليه فارتاب من ذلك، وأمّنه شهاب الدين وحلف له، وبعث به وبأهله وولده مع جيش يحفظونهم. فلمّا وصلوا بلد الغور حبسهم غيّاث الدين ببعض قلاعه، فكان آخر العهد به. وانقرضت دولة بني سبكتكين بموته، وكان مبدؤها سنة ست وستين وثلاثمائة، فتكون مدّة الدولة مائتين وثلاث عشرة سنة.   [ (-) ] ذلك فأشاروا بولاية فرخزاد بن مسعود بن محمود، وكان محبوسا في بعض القلاع فأحضر وأجلس بدار الامارة. وأقام خرخيز بين يديه يدبر الأمور، وأخذ من أعان على قتل عبد الرشيد فقتله، فلما سمع داود أخو طغرلبك صاحب خراسان قتل عبد الرشيد جمع عساكره، وسار إلى غزنة فخرج إليه خرخيز ومنعه، وقاتله فانهزم داود، وغنم ما كان معه. ولما استقر ملك فرخزاد وثبت قدمه جهّز جيشا جرارا إلى خراسان فاستقبلهم الأمير كلسارغ وهو من أعظم الأمراء فقاتلهم، وصبر لهم فظفروا به، وانهزم أصحابه عنه، وأخذ أسيرا، وأسر معه كثير من عسكر خراسان ووجوههم وأمرائهم. فجمع ألب أرسلان عسكرا كثيرا، وسيّر والده داود في ذلك العسكر إلى الجيش الّذي أسروا كلسارغ فقاتلهم وهزمهم، وأسر جماعة من أعيان العسكر فأطلق فرخزاد الأسرى، وخلع على كلسارغ وأطلقه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 (دولة الترك الخبر عن دولة الترك في كاشغر وأعمال تركستان وما كان لهم من الملك في الملة الإسلامية بتلك البلاد وأوّلية أمرهم ومصاير أحوالهم) كان هؤلاء الترك ملوك تركستان، ولا أدري أولية أمرهم بها إلّا أنّ أوّل من أسلم منهم سبق قراخان، وتسمّى عبد الملك، وكانت له تركستان وقاعدتها كاشغر، وبلاساغون وخيمو وما يتصل بها إلى أوان المفازة المتّصلة بالصين في ناحية الشمال عنهم، أعمال طراز والشاش وهي للترك أيضا. إلّا أنّ ملوك تركستان أعظم ملكا منهم بكثير. وفي المغرب عنهم بلاد ما وراء النهر التي كان ملكها لبني سامان وكرسيّهم بخارى. ولما أسلم ملكهم عبد الكريم سبق أقام على ملكه بتلك الناحية، وكان يطيع بني سامان هو وعقبه يستنفرونهم في حروبهم إلى أن ملك عهد الأمير نوح بن منصور في عشر التسعين والثلاثمائة على حين اضطراب دولة بني سامان، وانتقاض عمّالهم بخراسان. وانتقض أبو علي بن سيجور فراسل بقراخان وأطمعه في ملك بخارى فطمع بقراخان في البلاد. ثم قصد أعمال بني سامان وملكها شيئا فشيئا. وبعث الأمير نوح إليه العساكر مع قائده أنج فلقيهم بقراخان وهزمهم، وأسر أنج وجماعة من القوّاد. وسار فائق إلى بقراخان واختصّ به، وصار في جملته، ورجع الأمير نوح إلى بخارى كما مرّ من قبل، وهلك بقراخان في طريقه. (وفاة بقراخان وملك أخيه ايلك خان سليمان) ولما ارتحل بقراخان من بخارى وهو على ما به من المرض، أدركه الموت في طريقه فمات سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وكان ديّنا عادلا حسن السيرة، محبّا للعلماء وأهل الدين مكرّما لهم، متشيّعا سنيا. وكان مواليا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 ولمّا مات ولي بعده أخوه ايلك خان سليمان، ولقبه شهير الدولة. واستوثق ملكه بتركستان وأعمالها، ووفد عليه فائق بعد حروبه بخراسان مع جيوش الأمير نوح وسبكتكين وابنه محمود، ولحق به مستصرخا فأكرمه ووعده، وكتب إلى الأمير نوح يشفع في فائق وأن يولّيه سمرقند فولّاه عليها وأقام بها. (استيلاء ايلك خان على ما وراء النهر) لما عاد بقراخان على بخارى وعاد إليها الأمير نوح، وقد كان من أبي علي بن سيجور وإجلائه عن خراسان ماكان، استدعى الأمير نوح مولاه سبكتكين بعد ذلك، واختلف ابناه بكثرزون ومنصور كما تقدّم ذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة ثم هلك سبكتكين كما تقدّم ذلك كله قبل. ثم استوحش بكثرزون من منصور واتفق مع فائق على خلعه، فخلعه وسمله بخراسان سنة تسع وثمانين وأربعمائة وكان فائق خصيّا من موالي نوح بن منصور. وهذه الأخبار كلّها مستوفاة في دولة بني سامان. ثم بلغ الخبر إلى أيلك خان، فطمع في ملك بخارى وأعمالها، وسار في جموع الترك إلى بخارى موريا بالمحامات عن عبد الملك والنصرة له. وخرج بكثرزون والأمراء والقوّاد للقائه فقبض عليهم، وسار فدخل بخارى عاشر ذي القعدة من سنة تسع وثمانين واربعمائة ونزل دار الإمارة، وظفر بعبد الملك فحبسه فانكدر حتى مات. وحبس معه أخاه المخلوع أبا الحرث منصور، وأخويه الآخرين إسماعيل ويوسف ابني نوح، وأعمامه محمودا وداود وغيرهم. وانقرضت دولة بني سامان والبقاء للَّه. (ثورة إسماعيل الى بخارى ورجوعه عنها) قد تقدّم لنا أنّ إسماعيل فرّ من محبسه ولحق بخوارزم، واجتمع إليه قوّادهم وبايعوه ولقّبوه المستنصر. وبعث قائدا من أصحابه إلى بخارى ففرّ من كان بها من عساكر ايلك خان فهزمهم، وقتل منهم وحبس. وكان النائب بها جعفر تكين أخي ايلك خان فحبسه، واتبع المنهزمين إلى سمرقند، ولحق إسماعيل بأحياء الغزّ، وجمعوا عليه. ابن خلدون م 33 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 وجاء ايلك خان في جيوشه، والتقوا فانهزم ايلك خان وأسروا قوّاده، وغنموا سواده ورجعوا إلى بلادهم. وتشاوروا في الأسرى فارتاب بهم إسماعيل، وعبر النهر وانضمّت إليه فتيان سمرقند. واتصل الخبر بايلك خان فجمع والتقى هو وإسماعيل وهزمه بنواحي أسروشنة، وعبر النهر إلى نواحي الجوزجان. ثم إلى مرو، وبعث محمود العساكر في أثره من خراسان، وكذلك قابوس من جرجان فعاد إلى ما وراء النهر وقد ضجر أصحابه، ونزل بحيّ من العرب فأمهلوه الليل وقتلوه. واستقرّت بخارى في ملك ايلك خان، وولّى عليها أخوه علي تكين. (عبور ايلك خان الى خراسان) قد تقدم لنا ما كان انعقد بين ايلك خان ومحمود من المواصلة. ثم دبّت عقارب السعاية بينهما، وأكثر محمود من غزو بلاد الهند. ولمّا سار إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة في خراسان وبعث سباسي تكين صاحب جيشه وأخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء وأرسلان الحاجب. فسار أرسلان إلى غزنة وملك سباسي هراة وأقام بها، وبعث إلى نيسابور عسكرا فاستولى عليها وبادر محمود بالرجوع من الهند، وفرّق العطايا وأزاح العلل واستنفر الأتراك الخلنجيّة. وسار إلى جعفر تكين ببلخ ففارقها إلى ترمذ، وبعث العساكر إلى سباسي بهراة، ففارقها إلى مرو ليعبر النهر، فاعترضه التركمان فأوقع بهم، وسار إلى أبيورد والعساكر في اتباعه. ثم سار إلى خراسان فاعترضه محمود وهزمه، وأسر أخاه وجماعة من قوّاده، وعبر النهر إلى ايلك، وأجلى عساكره وأصحابه عن خراسان، فبعث ايلك خان إلى قراخان ملك الختّل، فاستنفر الترك الغزّية والخلنجيّة والهنود، وعسكر على فرسخين من بلخ، وتقدّم ايلك وقراخان في عساكرهما، ونزلوا قبالته، واقتتلوا يوما إلى الليل، ومن الغد اشتدّت الحرب ونزل الصبر. ثم حمل محمود في الفيلة على ايلك خان في القلب، فاختلّ المصاف، وانهزم الترك، واتبعهم عساكر محمود وأثخنوا فيهم القتل والأسر إلى أن عبر النهر، وانقلب ظافرا غانما وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 (وفاة ايلك خان وولاية أخيه طغان خان) ثم هلك ايلك خان سنة ثلاث وأربعمائة وكان مواليا للسلطان محمود ومظاهرا له على أخيه طغان خان. فلما ولي تجدّد ما بينه وبين السلطان من الولاية، وصلحت الأحوال وانمحت آثار الفتنة في خراسان وما وراء النهر. (وفاة طغان خان وولاية أخيه أرسلان خان) ثم توفي طغان خان ملك الترك سنة ثمان وأربعمائة بعد أن كان له جهاد خرجوا من الصين في زهاء ثلاثمائة ألف وقصدوا بلاده في ساعون [1] وهال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان طوائف المسلمين وغيرهم، واستقبلهم فهزمهم، وقتل منهم نحو مائة ألف وأسر مثلها، ورجع الباقون منهزمين. ومات طغان إثر ذلك، وولي بعده أخوه أرسلان. وكان من الغريب الدال على قصد إيمان طغان، أنه كان عند خروج الترك إلى بلاساغون عليلا، فلمّا بلغه الخبر تضرّع للَّه أن يعافيه حتى ينتقم من هؤلاء الكفرة ويدفعهم عن البلاد، فاستجاب الله دعاءه. وكان محبا لأهل العلم والدين. ولما توفي واصل أرسلان خان الولاية مع السلطان محمود، وأصهر إلى ابنه مسعود في بعض كرائمه فاستحكم الاتصال بينهما. (انتقاض قراخان على أرسلان وصلحه) كان أرسلان خان قد ولّى على سمرقند قراخان يوسف بن بقراخان هارون الّذي ملك بخارى، فانتقض عليه سنة تسع وأربعمائة وكاتب السلطان محمود صاحب خراسان يستظهر به على أرسلان خان فعقد السلطان على جيحون جسرا من السفن محكمة   [1] بلاساغون: ابن الأثير ج 9 ص 297. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 الربط بسلاسل الحديد وعبر إليه. ثم خام عن لقائه فعاد إلى خراسان، وانقطعت الموالاة بينه وبين أرسلان خان، وتصالح مع قراخان واتفقا على محاربة السلطان محمود، والمسير إلى بلاده، فسار إلى بلخ، وقاتلهما السلطان قتالا شديدا حتى انهزم الترك، وعبروا النهر إلى بلادهم، وكان من غرق أكثر ممن نجا وعبر السلطان في أثرهم (أخبار قراخان) الّذي يظهر من كلام ابن الأثير: أن قراخان ولي بلاد الترك بتركستان وبلاساغون، فإنه ذكره عقب هذا الخبر بالعدل وحسن السيرة وكثرة الجهاد. ثم قال عقب كلامه: فمن فتوحاته ختن بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء. ثم قال: وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها. ولمّا توفي خلّف ثلاثة بنين: أرسلان خان وكنيته أبو شجاع ولقبه شرف الدولة، وبقراخان، ولم يذكر الثالث. والظاهر أنه شرف الدولة. قال: وكان لأرسلان كاشغر وختن وبلاساغون، وخطب له على منابرها، وكان عادلا مكرّما للعلماء وأهل الدين، محسنا لهم. وقصده كثير منهم فأكرمهم. قال: وكان لبقراخان طراز وأسبيجاب، ووقعت الفتنة بين بقراخان وأرسلان فغلبه بقراخان وحبسه وملك بلاده. وقال في موضع آخر: كان يقنع من إخوته وأقاربه بالطاعة فقسّم البلاد بينهم، وأعطى أخاه أرسلان تكين كثيرا من بلاد الترك، وأعطى أخاه طراز وأسبيجاب، وأعطى عمّه طغان خان فرغانة بأسرها، وأعطى ابنه علي تكين بخارى وسمرقند وغيرهما. وقنع هو ببلاساغون وكاشغر. قال: وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة أسلم كثير من كفّار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي بلاساغون وكاشغر، ويعيثون فيها ويصيّفون ببلاد بلغار فأسلموا وافترقوا في البلاد، وبقي من لم يسلم، التتر والخطا في نواحي الصين انتهى. ورجع إلى بقراخان الأوّل وقال فيه حبس أخاه أرسلان خان وملك بلاده. ثم عهد بالملك لولده الأكبر واسمه حسين جعفر تكين. وكان له ولد آخر أصغر من حسين اسمه إبراهيم، فغارت أمّه لذلك، وقتلت بقراخان بالسم، وخنقت أخاه أرسلان في محبسه. ثم استلحمت وجوه أصحابه وأمرائه، وملكت ابنها إبراهيم سنة تسع وثلاثين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 وأربعمائة وبعثته في العساكر إلى برسخان، مدينة بنواحي تركستان، وكان صاحبها يسمّى نيال تكين. فانهزم إبراهيم وظفر به نيال تكين وقتله. واختلف أولاد بقراخان وفسد أمرهم، وقصدهم طقفاج خان صاحب سمرقند وفرغانة، فأخذ من أولاد بقراخان الملك من أيديهم [1] . (الخبر عن طقفاج خان وولده) كان بسمرقند وفرغانة أيام بني بقراخان وإخوته ملك من الترك الخانية اسمه نصر ايلك، ويلقّب عماد الدولة ويكنّى أبا المظفّر. ثم فلج سنة اثنتين وأربعمائة ومات، وقد عهد بملكه لابنه شمس الدولة نصر، فقصده أخوه طغان خان ابن طقفاج وحاصره بسمرقند وبيّته شمس الدولة فهزمه وظفر به. وكان ذلك في حياة أبيهما. ثم جاء بعد مماته إلى محاربة شمس الدولة بقراخان هارون بن قدرخان يوسف وطغرك خان، وكان طقفاج قد استولى على ممالكها وحاصره بسمرقند، ولم يظفروا به ورجعوا عنه، وصارت أعمال الخانية كلّها في أيديهما، والأعمال المتاخمة لسيحون لشمس الدولة، والتخم بينهما خجندة. وكان السلطان آلب أرسلان قد تزوّج بابنة قدرخان، وكانت قبله زوجا لمسعود بن محمود بن سبكتكين. وتزوّج شمس الدولة بابنة آلب أرسلان شمس الملك، وذلك سنة خمس وستين وأربعمائة وملكها [2] ونقل ذخائرها إلى سمرقند. وخاف أهل بلخ منه فاستأمنوا إليه وخطبوا له فيها، لأن أرباس [3] آلب أرسلان سار إلى الجوزجان، وجاء إليها التكين، وولّى عليها وعاد إلى ترمذ فثار أهل بلخ بأصحابه وقتلوهم فرجع إليهم، وأمر بإحراق المدينة ثم عفا عنهم وصادر التجّار، وبلغ الخبر إلى آلب أرسلان فعاد من الجوزجان وسار في العساكر إلى   [1] العبارة هكذا غير صحيحة والصواب: فأخذ الملك من ايدي أولاد بقراخان. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 77: «فقصد ترمذ أول ربيع الآخر، وفتحها ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها الى سمرقند» . [3] كلمة أرباس زائدة ولا معنى لها وفي الكامل ج 10 ص 77: «وكان أياز بن ألب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان، فخاف أهل بلخ، فأرسلوا الى التكين يطلبون منه الأمان، فأمنهم، فخطبوا له فيها وورد إليها، فنهب عسكره شيئا من أموال الناس، وعاد الى ترمذ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 ترمذ في منتصف سنة خمس وستين واربعمائة فلقيه التكين وهزمه وغرق كثير من أصحابه في النهر. ثم استقامت الأمور للسلطان ملك شاه فسار إلى ترمذ سنة ست وستين وأربعمائة وحاصرها ورماها بالمنجنيق، وطمّ خندقها حتى استأمن أهلها واعتصم بقلعتها أخو التكين. ثم استأمن وأطلقه السلطان إلى أخيه. ثم سار ملك شاه إلى سمرقند ففارقها، وبعث أخوه السلطان في الصلح فأجابه وردّه إلى سمرقند. ورجع السلطان إلى خراسان انتهى. قال ابن الأثير: ثم مات شمس الدولة وولّي بعده أخوه خضرخان. ثم مات خضرخان فولي بعده ابنه أحمد خان. وكان أحمد هذا أسره ملك شاه في سمرقند لما فتحها، ووكّل به جماعة من الديلم، فلقّن عنهم معتقدات الإباحة والزندقة. فلمّا ولّي أظهر الانحلال، فاعتزم جنده على قتله، وتفاوضوا في ذلك مع نائبة بقلعة قاشان، فأظهر العصيان عليه، فسار في العساكر وحاصر القلعة، وتمكّن جنده منه فقبضوا عليه ورجعوا به إلى سمرقند فدفعوه إلى القضاة وقتلوه بالزندقة. وولّوا مكانه مسعود خان ابن عمّه. قال ابن الأثير: وكان جدّه من ملوكهم وكان أصمّ. وقصده طغان خان بن قراخان صاحب طراز فقبله واستولى على الملك، وولّى على سمرقند أبا المعالي محمد بن محمد بن زيد العلويّ فوليها ثلاث سنين. ثم عصى عليه فحاصره وأخذه فقتله. ثم خرج طغان خان الى ترمذ فلقيه السلطان سنجر وظفر به وقتله، وأخذها منه عمرخان. وملك سمرقند ثم هرب من جنده إلى خوارزم فظفر به السلطان أحمد. وولي سمرقند محمد خان، وولي بخارى محمد تكين. وقال ابن الأثير في ذكر كاشغر وتركستان: إنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدرخان كما ذكرنا. ثم صارت لمحمود نورا خان صاحب طراز والشاش فملكها سنة وثلاثة أشهر، ثم مات، فولى بعده طغرا خان بن يوسف قدرخان، وملك بلاساغون وأقام ست عشرة سنة. ثم توفي فملك ابنه طغرل تكين شهرين. ثم جاء هارون بقراخان بن طقفاج ثورا خان وهو أخو يوسف طغرل خان فملك كاشغر، وقبض على هارون واستولى على ختن، وما يتصل به إلى بلاساغون، وأقام عشرين سنة، وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولي بعده أحمد بن أرسلان خان، وبعث إليه المستظهر بالخلع، ولقبه نور الدولة . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 (مقتل قدرخان صاحب سمرقند) قال ابن الأثير سنة خمس وتسعين وأربعمائة: ولمّا سار سنجر إلى بغداد مع أخيه السلطان محمد، طمع قدرخان جبريل بن عمر صاحب سمرقند في خراسان، فخالف إليها سنجر بعد رجوعه إليها، وقد عظم الخلاف بين بركيارق وأخيه محمد. وكان بعض أمراء سنجر اسمه كنذعري [1] يكاتب قدرخان ويغريه ويستحثّه إلى البلاد، فسار قدرخان إلى بلخ سنة سبع وتسعين وأربعمائة في مائة ألفا. وبادر سنجر إليها في ستة آلاف، فلمّا تقاربا لحق كنذعري بقدرخان، فبعثه إلى ترمذ وملكها. وجاء الخبر إلى سنجر بأنّ قدرخان نزل قريبا من بلخ، وأنه خرج متصيّدا في ثلاثمائة فارس، فجرّد إليه عسكرا مع أميره برغش [2] فهزمهم، وجاء بكنذعري وقدرخان أسيرين. وقيل إنه وقع بينهما مصاف، وانهزم قدرخان وأسر فقتله سنجر، وسار إلى ترمذ فحاصرها حتى استأمن إليه كنذعري فأمّنه، ولحق بغزنة وكان محمد أرسلان خان بن سليمان بن داود بقراخان نازلا بمرو فبعث عنه السلطان سنجر، وولّاه على سمرقند وهو من نسل الخانية مما وراء النهر، وأمّه بنت السلطان سنجر، وولي ملك شاه [3] دفع عن ملك آبائه فقصد مرو، وأقام بها، فلمّا قتل قدرخان ولّاه سنجر أعماله، وبعث معه العساكر الكثيرة فاستولى عليها، واستفحل ملكه. ثم انتقض عليه من أمراء الترك تيمور لنك، وجمع وسار إلى محمد خان بسمرقند وغيرها فاستنجد محمد خان بالسلطان سنجر فأنجده بالعساكر، وسار إلى تيمور لنك فهزمه وفضّ جموعه، ورجعت العساكر إليه.   [1] كندغدي: ابن الأثير ج 10 ص 347. [2] بزغش: ابن الأثير ج 10 ص 348. [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 350: «في هذه السنة- 495- أحضر السلطان سنجر محمدا أرسلان خان بن سليمان بن داود بقراخان من مرو، وملّكه سمرقند بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملك شاه، فدفع عن ملك آبائه، فقصد مرو.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 (انتقاض محمد خان عن سنجر) ثم بلغ السلطان سنجر سوء سيره محمد في رعيّته وإهماله لأوامر السلطان، فسار إليه سنة سبع وخمسمائة فخاف محمد خان غائلته، وبعث إلى الأمير قماج أعظم أمراء سنجر يعتذر ويسأله الصلح، فشرط عليه الحضور عند السلطان، فاعتذر بالخوف، وأنه يقف من وراء جيحون ويقبّل الأرض من لك فأجيب إلى ذلك، ووقفوا بعدوة النهر حتى وافى محمد خان بشرطه وسكنت الفتنة. (استيلاء السلطان سنجر على سمرقند) كان السلطان سنجر لما ملك سمرقند ولّى عليها أرسلان خان بن سليمان بقراخان داود فأصابه الفالج، واستناب ابنه نصر خان فوثب به أهل سمرقند وقتلوه. وتولّى كبر ذلك اثنان منهم أحدهما علويّ، وكان أبوه محمد المفلوج غائبا فعظم عليه، وبعث عن ابنه الآخر من تركستان فجاء وقتل العلويّ وصاحبه. وكان والد أرسلان خان قد بعث الى السلطان سنجر يستحثّه قبل قدوم ابنه الآخر فسار سنجر لذلك. فلمّا قدم إلى أبيه أرسلان وقتل قاتلي أخيه، بعث أرسلان إلى السلطان سنجر يعرّفه، ويسأله العود إلى بلده فغضب لذلك، وأقام أياما ثم جيء إليه بأشخاص واعترفوا بأنّ محمدا خان بعثهم لقتله فغضب، وسار إلى سمرقند فملكها عنوة، وتحصّن محمد خان ببعض الحصون حتى استنزله سنجر بالأمان بعد مدّة وأكرمه. وكانت بنته تحبّه، فبعثه إليها وأقام عندها. وولّى على سمرقند حسين تكين، ورجع إلى خراسان. ومات حسين تكين فولي بعده عليها محمود بن محمد خان أخا زوجته. (استيلاء الخطا على تركستان وبلاد ما وراء النهر وانقراض دولة الخانية) نقل ابن الأثير هذا الخبر عن اضطراب عنده فيه، على أنّ أخبار هذه الدولة الخانية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 في كتابه ليست جليّة ولا متّضحة، وأرجو إن مدّ الله في العمر أن أحقّق أخبارها بالوقوف عليها في مظان الصحّة وألخّصها مرتّبة، فإنّي لم أوفّها حقّها من الترتيب لعدم وضوحها في نقله. وحاصل ما قرّر في هذا الخبر من أحد طرقه أنه قال: إنّ بلاد تركستان وهي كاشغر وبلاساغون وختن وطراز وغيرها مما بجوارها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية من الترك، وهم من نسل فراسياب ملكهم الأوّل المنازع لملوك الكينيّة من الفرس. وأسلم جدّهم الأوّل سبق قراخان. ويقال سبب إسلامه أنه رأى في منامه رجلا نزل من السماء، فقال له باللسان التركي ما معناه أسلم تسلم في الدنيا والآخرة فأسلم في منامه، وأصبح مظهرا لإسلامه. ولما مات قام مقامه ابنه موسى واتصل الملك في عقبه إلى أرسلان خان بن محمد بن سليمان سبق فخرج عليه قدرخان في ملكه سنة أربع وتسعين وأربعمائة. واجتمع الترك عليه وكانوا طوائف فكان منهم القارغلية، وبقيّة الغزّ الذين عبروا إلى خراسان ونهبوها على ما مرّ. وكان لأرسلان ابن اسمه نصر خان، وفي صحابته شريف علويّ اسمه الأشرف محمد بن أبي شجاع السمرقنديّ، فحسّن له طلب الملك من أبيه وأطمعه فيه فقتلهما أرسلان. ثم وقعت بينه وبين القارغلية من الترك وحشة دعتهم إلى الانتقاض والعصيان، واستنجد بالسلطان سنجر فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ووصل إلى سمرقند وهرب القارغلية بين يديه. ثم عثر على رجّالة استراب بهم فقبض عليهم، وتهدّدهم فذكروا أنّ أرسلان خان وضعهم على قتله فرجع إلى سمرقند، وملك القلعة وبعث أرسلان أميرا إلى بلخ فمات بها. وقيل إنه اختراع منه، ووضع هذه الحكاية وسيلة لذلك. ثم ولّى السلطان سنجر على سمرقند قلج طمغاج، وهو أبو المعالي الحسن بن علي المعروف بحسين تكين، كان من أعيان بيت الخانية فلم تطل أيامه. ومات فولّى سنجر مكانه محمود ابن أخته، وهو ابن السلطان أرسلان فأقام ملكا عليها. وكان ملك الصين كوخان قد وصل إلى كاشغر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة في جيوش كثيفة. ومعنى كوبلسان أهل الصين أعظم، وخان سمة ملوك الترك. وكان أعور وكان يلبس لبسة ملوك الترك، وهو مانويّ المذهب. ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه طوائف الخطا من الترك، وكانوا قد خرجوا قبله من الصين، وأقاموا في خدمة الخانية أصحاب تركستان فانضافوا إلى كوملك الصين وكثف جمعه بهم. وزحف إليه صاحب كاشغر، وهو الخان أحمد بن الحسين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 بجموعه فهزمه، وأقامت طوائف الخطا معه في تلك البلاد. وكان سبب خروجهم من الصين ونزولهم بلاساغون، أن أرسلان محمد كان يستنجد بهم ويجري عليهم الأرزاق والأقطاعات، وينزلهم مسالح في ثغوره. ثم استوحشوا منه ونفروا وطلبوا الرحلة إلى غير بلده، وارتادوا البلاد واختاروا منها بلد الساغون فساروا إليها وردّد عليهم أرسلان الغزو. ولما جاء كوخان ملك الصين صاروا في جملته حتى إذا رجع زحفوا إلى بلاد تركستان فملكوها بلدا بلدا. وكانوا إذا ملكوا المدينة يأخذون دينارا من كل بيت ولا يزيدون عليه، ويكلّفون من يطيعهم من الملوك أن يعلّق في منطقته لوحا من فضّة علامة على الطاعة. ثم ساروا إلى بلاد ما رواء النهر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ولقيهم محمود خان بن أرسلان خان فهزموه إلى سمرقند وبخارى، واستنجد بالسلطان سنجر ودعاه لنصر المسلمين، فجمع العساكر واستنجد صاحب سجستان ابن خلف والغوريّ صاحب غزنة، وملوك ما وراء النهر وغيرهم. وسار للقائهم وعبر النهر في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وشكا إليه محمود من القارغلية، فأراد أخذهم فهربوا إلى كوخان، وسألوه أن يشفع لهم عند السلطان سنجر، وكتب إليه يشفع لهم فلم يشفعه. وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ويتهدّده. ولمّا بلغ الكتاب إلى كوخان عاقب الرسول، وسار للقاء سنجر في أمم الترك والخطا والقارغلية، فلقيه السلطان سنجر أوّل صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة وعلى ميمنته قماج وعلى ميسرته صاحب سجستان، وأبلى ذلك اليوم وساء أثر القارغلية في تلك الحرب، وانهزم السلطان سنجر والمسلمون، واستمرّ القتل فيهم. وأسر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان ابنة أرسلان خان محمد، وأطلقهم الكفّار. ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أفحش قتلا. واستقرّت الدولة فيما وراء النهر للخطأ والترك، وهم يومئذ على دين الكفر، وانقرضت دولة الخانية المسلمين الذين كانوا فيها. ثم هلك كوخان منتصف سبع وثلاثين وكان جميلا حسن الصوت، ويلبس الحرير الصيني، وكان له هيبة على أصحابه ولا يقطع أحدا منهم خوفا على الرعية من العسف. ولا يقدّم أميرا على فوق مائة فارس خشية أن تحدّثه نفسه بالعصيان. وينهى عن الظلم وعن السكر ويعاقب عليه. ولا ينهي عن الزنا ولا يقبّحه. ولما مات ملكت بعده ابنته وماتت قريبا فملكت بعدها أمّها زوجة كوخان، وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه علاء الدين محمد بن خوارزم شاه صاحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 دولة الخوارزميّة سنة اثنتي عشرة وستمائة على ما يأتي في أخبار دولتهم. (إجلاء القارغلية من وراء النهر) لما ملك ما وراء النهر سمرقند وبخارى جقري خان بن حسين تكين من بيت الخانية، وأمره سنة تسع وخمسين وخمسمائة بإجلاء الترك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وإلزامهم الفلاحة ومجانبة حمل السلاح فامتنعوا من ذلك. وألحّ عليهم جقري خان فامتنعوا واجتمعوا لحربه. وسار إلى بخارى فبعث إليهم بالوعظ في ذلك والوعد الجميل بخلال ما جمع بقراخان، وكبسهم على بخارى فانهزموا، وأثخن فيهم وقطع دابرهم وأجلاهم عن نواحي سمرقند، وصلحت تلك النواحي والله أعلم. (الخبر عن دولة الغورية القائمين بالدولة العباسية بعد بني سبكتكين وما كان لهم من السلطان والدولة وابتداء أمرهم ومصاير أحوالهم) كان بنو الحسين أيام سبكتكين ملوكا على بلاد الغور لبني سبكتكين وكانت لهم شدّة وشوكة. وكان منهم لآخر دولة بني سبكتكين أربعة أمراء قد اشتهروا واستفحل ملكهم: وهم محمد وشوري والحسين شاه وسام بنو الحسين، ولا أدري إلى من ينسب الحسين وأظنّهم إلى بهرام شاه آخر ملوك بني سبكتكين، والتحم به فعظم شأنه. ثم كانت الفتنة بين بهرام وأخيه أرسلان فمال محمد إلى أرسلان، وارتاب به بهرام لذلك. ثم انقضى أمر أرسلان، وسار محمد بن الحسين في جموعه إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، موريا بالزيارة وهو يريد الغدر به، وشعر بذلك بهرام فحبسه ثم قتله، واستوحش الغورية لذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 (مقتل محمد بن الحسين الغوري وولاية أخيه الحسين شاه ثم أخيه شوري) ولما قتل محمد ولي من بعده أخوه شاه بن الحسين. ثم كانت الوقعة. وملك بعده أخوه شوري بن الحسين، وأجمع الأخذ بثأر أخيه من بهرام شاه فجمع له، وسار إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فملكها، وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند فجمع عسكره التي هناك، ورجع إلى غزنة وعلى مقدّمته السلّار بن الحسين، وأمير هندوخان [1] إبراهيم العلويّ. وسار شوري للقائه فانفضّ عنه عسكر غزنة إلى بهرام شاه فانهزم وأسره بهرام، ودخل غزنة في محرّم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وصلب شوري [2] على باب غزنة واستقرّ في ملكه. (مقتل شوري بن الحسين وولاية أخيه علاء الدين ابن الحسين واستيلاؤه على غزنة وانتزاعها منه) لما هلك شوري بن الحسين ملك الغور من بعده أخوه الحسين، ويلقّب علاء الدولة. واستولى على جبال الغور ومدينة بيروزكوه [3] المجاورة لأعمال غزنة من بلاد الهند، وهي تقارب في اتساعها بلاد خراسان فاستفحل ملكه، وطمع في ملك خراسان وسار إلى هراة باستدعاء أهلها، فحاصرها ثلاثا ثم ملكها بالأمان وخطب فيها للسلطان سنجر. وسار إلى بلخ وبها الأمير قماج من قبل السلطان سنجر، فغدر به أصحابه، فملك علاء الدولة بلخ، وسار إلى السلطان سنجر وقاتله وظفر به فأسره. ثم خلع عليه وردّه إلى بيروزكوه. ثم سار علاء الدين يريد غزنة سنة سبع وأربعين وخمسمائة ففارقها صاحبها بهرام شاه، وملكها علاء الدولة، وأحسن السيرة واستخلف عليهم أخاه سيف الدولة، وعاد إلى بلاد الغور، فلما جاء فصل الشتاء   [1] أمير هندوستان: ابن الأثير ج 11 ص 135. [2] سوري: المرجع السابق. [3] فيروزكوه: ابن الأثير ج 11 ص 164. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 وسدّ الثلج المسالك، كتب أهل غزنة إلى بهرام شاه واستدعوه، فلمّا وصل وثبوا بسيف الدولة وصلبوه. وبايعوا لبهرامشاه وملّكوه عليهم كما كان. (انتقاض شهاب الدين وغياث الدين على عمهما علاء الدولة) لما استفحل أمر علاء الدولة واستفحل ملكه استعمل على البلاد العمّال وكان فيمن ولاه بلاد الغور ابنا أخيه سالم بن الحسين، وهما غيّاث الدين وشهاب الدين، فأحسنا السيرة في عملهما، ومال إليهما الناس، وكثرت السعاية فيهما عند عمّهما بأنهما يريدان الوثوب فبعث عنهما فامتنعا، فجهّز إليهما العساكر فهزماها وأظهرا عصيانه، وقطعا خطبته فسار إليهما فقاتلاه قتالا شديدا حتى انهزم فاستأمن إليهما فأجلساه على التخت، وقاما بخدمته. وزوّج بنته غيّاث الدين منهما [1] وبقي مستبدّا على عمّه علاء الدولة، ثم عهد إليه بالأمر من بعده ومات. (وفاة علاء الدولة وولاية غياث الدين ابن أخيه من بعده وتغلب الغز على غزنة) ثم توفي علاء الدولة ملك الغورية سنة ست وخمسين، وقام بالأمر من بعده ببيروز كوه غيّاث الدين أبو الفتح ابن أخيه سالم، وطمع الغز بموته في ملك غزنة فملكوها من يده، وبقي غياث الدين في كرسيه ببيروز كوه وأعمالها، وابنه سيف الدين محمد في بلاد الغور. ثم أساء السيرة الغز في غزنة بعد مقامهم فيها خمس عشرة سنة، واستفحل أمر غياث الدين فسار إلى غزنة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة في عساكر الغوريّة والخلخ والخراسانية ولقي الغزّ فهزمهم وملك غزنة من أيديهم. وسار إلى كرمان وشنوران فملكهما، وكرمان هذه بين غزنة والهند وليست كرمان المعروفة. ثم سار غيّاث الدين إلى لهاور ليملكها من يد خسرو شاه بن بهرام، فبادر خسرو شاه إلى نهر المدّ   [1] العبارة غير صحيحة والصواب: وزوّج غيّاث الدين أحدهما بنتا له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 ومنعه العبور منه، فرجع وملك ما يليه من جبال الهند وأعماله الأثغار، وولّى غزنة أخاه شهاب الدين ورجع إلى بيروز كوه. (استيلاء شهاب الدين الغوري على لهاور ومقتل خسرو شاه صاحبها) ولما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم، وافتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه، وتطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه، فسار سنة تسع وسبعين وخمسمائة في عسارك خراسان والغور وعبر إليها وحاصرها، وبذل الأمان لخسروشاه وأنكحه ابنته وسوّغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه ويخطب لأخيه فأبى من ذلك، وبقي شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه بالحصار. وخذله أهل البلد، فبعث بالقاضي والخطيب يستأمنان له فأمّنه ودخل شهاب الدين البلد، وبقي خسرو شاه عنده مكرّما، وبعد شهرين وصل الأمر من غيّاث الدين بإنفاذ خسرو شاه إليه، فارتاب من ذلك فأمنه شهاب الدين، وحلف له وبعث به وبأهله وولده مع جيش يحفظونهم، فلمّا وصلوا بلاد الغور حبسهم غيّاث الدين ببعض قلاعه، فكان آخر العهد به وبابنه. (استيلاء غياث الدين على هوّارة وغيرها من خراسان) ولما استقرّ ملك غيّاث الدين بلهاور كتب إلى أخيه شهاب الدين الّذي تولّى فتحها أن يقيم الخطبة له، ويلقّبه بألقاب السلطان، فلقّبه غياث الدنيا والدين معين الإسلام والمسلمين، قسيم أمير المؤمنين. ولقّب أخاه شهاب الدين بعزّ الدين. ثم لما فرغ شهاب الدين من أمور لهاور وسار إلى أخيه غيّاث الدين ببيروز كوه واتفق رأيهما على المسير إلى هراة من خراسان سار في العساكر فحاصرها، وبها عسكر السلطان سنجر وأمراؤه فاستأمنوا إليهما، وملكا هراة. وسار إلى بوشنج فملكها، ثم إلى باذغيس كذلك. وولّى غياث الدين على ذلك وعاد إلى بيروزكوه وشهاب الدين إلى غزنة ظافرين غانمين . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 (فتح أجرة على يد شهاب الدين) لما عاد شهاب الدين إلى غزنة راح بها أياما حتى استراحت عساكره. ثم سار غازيا إلى بلاد الهند سنة سبع وأربعين وخمسمائة وحاصر مدينة أجرة وبها ملك من ملوكهم فلم يظفر منه بطائل، فراسل امرأة الملك في أنه يتزوّجها إذا ملك البلد، فأجابت بالعذر، ورغبت في ابنتها فأجاب فقتلت زوجها بالسمّ وملّكته البلد، فأخذ الصبية وأسلمت، وحملها إلى غزنة ووسّع عليها الجراية، ووكّل بها من يعلّمها القرآن حتى توفت والدتها، وتوفت هي من بعدها لعشر سنين، ولما ملك البلد سار في نواحي الهند فدوّخها، وفتح الكثير منها، وبلغ منها ما لم يبلغه أحد قبله. (حروب شهاب الدين مع الهنود وفتح دهلي وولاية قطب الدين أيبك عليها) ولما اشتدّت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند، تراسل ملوكهم وتلاوموا بينهم وتظاهروا على المسلمين، وحشدوا عساكرهم من كل جهة، وجاءوا بقضهم وقضيضهم في حكم امرأة ملكت عليهم، وسار هو في عساكره من الغوريّة والخلخ والخلنجية والخراسانية وغيرهم، والتقوا فمحّص الله المسلمين وأثخن فيهم الكفرة بالقتل. وضرب شهاب الدين في يده اليسر فشلّت، وعلى رأسه فسقط عن فرسه، وحجز بينهم الليل وحمله جماعة من غلمانه إلى منجاته ببلده. وسمع الناس بنجاته فتباشروا ووفدوا عليه من كل جهة، وبعث إليه أخوه غياث الدين بالعساكر، وعذله في عجلته. ثم ثارت الملكة ثانيا إلى بلاد شهاب الدين بالعساكر، وبعثت إلى شهاب الدين بالخروج عن أرض الهند إلى غزنة، فأجاب إلى ذلك بعد أن يستأذن أخاه غياث الدين وينظر جوابه. وأقاموا على ذلك وقد حفظ الهنود مخاضات النهر بينهم وهو يحاول العبور فلا يجد، وبينما هو كذلك جاءه بعض الهنود، فدلّه على مخاضة فاستراب به حتى عرفه قوم من أهل أجرة والملتان. وبعث الأمير الحسن بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 حرميد الغوري في عسكر كثيف، وعبر تلك المخاضة ووضع السيف في الهنود فأجفل الموكّلون بالمخاضات. وعبر شهاب الدين وباقي العساكر وأحاطوا بالهنود، ونادوا بشعار الإسلام فلم ينج منهم إلّا الأقل، وقتلت ملكتهم وأسروا منهم أمما. وتمكّن شهاب الدين بعدها من بلاد الهند وحملوا له الأموال وضربت عليهم الجزية فصالحوه وأعطوه الرهن عليها. وأقطع قطب الدين أيبك مدينة دلهي، وهي كرسي الممالك التي فتحها، وأرسل عسكرا من الخلخ مختارين ففتحوا من بلاد الهند ما لم يفتحه أحد، حتى قاربوا حدود الصين من جهة الشرق، وذلك كله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. (مقتل ملك الغور محمد بن علاء الدين) قد تقدّم لنا أن محمد بن علاء الدين ملك الغور بعد أبيه، وأقام مملكا عليها. ثم سار سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بعد أن احتفل في الاحتشاد وجمع العساكر، وقصد بلخ وهي يومئذ للغزّ فزحفوا إليه. وجاءهم بعض العيون بأنه خرج من معسكره لبعض الوجوه في خفّ من الجند، فركبوا لاعتراضه، ولقوة فقتلوه في نفر من أصحابه، وأسروا منهم آخرين، ونجا الباقون إلى المعسكر فارتحلوا هاربين إلى بلادهم، وتركوا معسكرهم بما فيه فغنمه الغزّ وانقلبوا إلى بلخ ومروا ظافرين غانمين. (الفتنة بين الغورية وبين خوارزم شاه على ما ملكوه من بلاد خراسان) قد تقدّم لنا أنّ غيّاث الدين وشهاب الدين ابني أبي الفتح سام بن الحسين الغوري رجعا إلى خراسان سنة سبع وأربعين وخمسمائة فملكا هراة وبوشنج وباذغيس وغيرها. وذلك عند انهزام سنجر أمام الغزّ، وافترق ملكه بين أمرائه ومواليه فصاروا طوائف، وأظهرهم خوارزم شاه بن أنس بن محمد بن أنوشتكين صاحب خوارزم. فلما كان سنة خمس وسبعين وخمسمائة قام بأمره ابنه سلطان شاه، ونازعه أخوه علاء الدين تكين فغلبه على خوارزم. وخرج سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغزّ. ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 أخرجوه منها فاستجاش بالخطا وأخرجهم من مرو وسرخس ونسا وأبيورد، وملكها جميعا، وصرف الخطا إلى بلادهم. وكتب إلى غيّاث الدين أن ينزل له عن هراة وبوشنج وباذغيس وما ملكه من خراسان وهدّده على ذلك فراجعه بإقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من خراسان، فامتعض لذلك سلطان شاه وسار إلى بوشنج فحاصرها وعاث في نواحيها. وجهز غيّاث الدين عساكره مع صاحب سجستان وابن أخته بهاء الدين سام بن باميان لغيبة أخيه شهاب الدين في الهند، فساروا إلى خراسان، وكان سلطان شاه يحاصر هراة فخام عن لقائهم ورجع إلى مرو، وعاث في البلاد في طريقه، وأعاد الكتاب إلى غيّاث الدين بالتهديد فاستقدم أخاه شهاب الدين من الهند، فرجع مسرعا، وساروا إلى خراسان. وجمع سلطان شاه جموعا ونزل الطالقان، وتردّدت الرسل بين سلطان شاه وغيّاث الدين حتى جنح إلى الصلح بالنزول له عن بوشنج وباذغيس، وشهاب الدين يجنح إلى الحرب، وغيّاث الدين يكفهم. وجاء رسول سلطان شاه لا تمام العقد، فقام شهاب الدين العلويّ وقال: لا يكون هذا أبدا، ولا تصالحوه، وقام شهاب الدين ونادى في عسكره بالحرب، والتقدّم الى مروالروذ. وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه ودخل إلى مرو في عشرين فارسا، وبلغ الخبر إلى أخيه فسار لتعرّضه عن جيحون وسمع سلطان شاه بتعرّض أخيه له فرجع عن جيحون، وقصد غيّاث الدين فأكرمه وأكرم أصحابه، وكتب أخوه علاء الدين في ردّه إليه، وكتب إلى نائب هراة يتهدّده، فامتعض غيّاث الدين لذلك، وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير وشفيع له، ويطلب بلاده وميراثه من أبيه، ويضمن له الصلح مع أخيه سلطان شاه. وطلب منه مع ذلك أن يخطب له بخوارزم، ويزوّج أخته من شهاب الدين فامتعض علاء الدين لذلك، وكتب بالتهديد فسرّح غيّاث الدين جميع عساكره مع سلطان شاه إلى خوارزم شاه، وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده، فجمع عساكره وقام في انتظارهم، وسمع بذلك علاء الدين تكش، وهو زاحف للقاء أخيه سلطان شاه، وعساكر الغورية، فخشي أن يخالفوه إلى خوارزم وكرّ إليها راجعا. واحتمل أمواله وعبر إلى الخطا. وقدّم فقهاء خوارزم في الصلح والصهر، ووعظه الفقهاء وشكوا إليه بأنّ علاء الدين يستجيش بالخطا، فإمّا أن تتخذ مرو كرسيّا لك فتمنعنا منهم، أو تصالحه، فأجاب إلى الصلح، وترك معاوضة البلاد ورجع إلى كرسيّه. ابن خلدون م 34 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 (غزوة شهاب الدين الى الهند وهزيمة المسلمين بعد الفتح ثم غزوته الثانية وهزيمة الهنود وقتل ملكهم وفتح اجمير) كان شهاب الدين قد سار سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة الى الهند، وقصد بلاد أجمير وتعرف بولاية السواك، واسم ملكهم كوكه، فملك عليهم مدينة تبرندة ومدينة أسرستي وكوه رام، فامتعض الملك وسار للقاء المسلمين ومعه أربعة عشر فيلا ولقيهم شهاب الدين في عساكر المسلمين، فانهزمت ميمنته وميسرته، وحمل على الفيلة فطعن منها واحدا، ورمي بحربة في ساعده فسقط عن فرسه. وقاتل أصحابه عليه فخلصوه وانهزموا، ووقف الهنود بمكانهم ولما أبعد شهاب الدين عن المعركة نزف من جرحه الدم فأصابه الغشي، وحمله القوم على أكتافهم في محفّة اتخذوها من اللبود ووصلوا به إلى لهاور. ثم سار منها إلى غزنة فأقام إلى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وخرج من غزنة غازيا لطلب الثأر من ملك الهند، ووصل إلى برساور [1] وكان وجوه عسكره في سخطة منه منذ انهزموا عنه في النوبة الأولى، فحضروا عنده واعتذروا ووعدوا من أنفسهم الثبات، وتضرّعوا في الصفح فقبل منهم، وصفح عنهم، وسار حتى انتهى إلى موضع المصاف الأوّل وتجاوزه بأربع مراحل، وفتح في طريقه بلادا. وجمع ملك الهند وسار للقائه فكرّ راجعا الى أن قارب بلاد الإسلام بثلاث مراحل، ولحقه الهنود قريبا من بربر [2] فبعث شهاب الدين سبعين ألفا من عسكره لياتوا العدوّ من ورائهم، وواعدهم هو الصباح، وأسرى هو ليلة فصابحهم فذهلوا، وركب الملك فرسه للهروب فتمسّك به أصحابه، فركب الفيل واستماتت قومه عنده، وكثر فيهم القتل، وخلص إليه المسلمون فأخذوه أسيرا، وأحضروه عند شهاب الدين فوقف بين يديه وجذبوا بلحيته حتى قبّل الأرض. ثم أمر به فقتل ولم ينج من الهنود إلا الأقل. وغنم المسلمون جميع ما معهم وكان في جملة الغنائم الفيول. ثم سار شهاب الدين إلى حصنهم الأعظم وهو أجمير ففتحه عنوة، وملك جميع البلاد التي   [1] برشاوور: ابن الأثير ج 12 ص 91 [2] مرنده: ابن الأثير ج 12 ص 92 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 تقاربه، وأقطعها كلّها لمملوكه أيبك [1] نائبة في دلهي وعاد إلى غزنة. (غزوة بناوس ومقتل ملك الهند ثم فتح بهنكر) كان شهاب الدين ملك غزنة قد أمر مملوكه قطب الدين أيبك خليفته على دلهي أن يغزو بلاد الهند من ناحيته، فسار فيها ودوّخها وعاث في نواحيها. وسمع ملك بناوس [2] وهو أكبر ملوك الهند، وولايته من تخوم الصين إلى بلاد ملئوا طولا، ومن البحر الأخضر إلى عشرة أيام من لهاور عرضا وأهل تلك البلاد من أيام السلطان محمود مقيمون على إسلامهم، فاستنفر معه مسلمون كانوا في تلك البلاد، فسار إلى شهاب الدين سنة تسعين وخمسمائة والتقوا على ماحون [3] نهر كبير يقارب دجلة فاقتتلوا، ونزل الصبر. ثم نصر الله المسلمين واستلحم الهنود، وقتل ملكهم، وكثر السبي في جواريهم والأسرى من أبنائهم، وغنموا منهم تسعين فيلا. وهرب بقية الفيول وقتل بعضها. ودخل شهاب الدين بلاد بناوس، وحمل من خزائنها ألفا وأربعمائة حمل، وعاد إلى غزنة. ثم سار سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى بلاد الهند وحاصر قلعة بهنكر حتى تسلّمها على الأمان، ورتّب فيها الحامية. وسار إلى قلعة كواكير [4] ، وبينهما خمس مراحل يعترضها نهر كبير فحاصرها شهرا حتى صالحوه على مال يحملونه، فحملوا إليه حمل فيل من الذهب، فرحل عنهم إلى بلاد أبي رسود [5] فأغار ونهب وسبى وأسر، وعاد إلى غزنة ظافرا. (استيلاء الغورية على بلخ وفتنتهم مع الخطا بخراسان) كان الخطا قد غلبوا على مدينة بلخ وكان صاحبها تركيا اسمه ازبة [6] يحمل إليهم   [1] هو قطب الدين أيبك [2] بنارس: ابن الأثير ج 12 ص 105 [3] ماجون: ابن الأثير ج 12 ص 105 [4] قلعة كوالير: ابن الأثير ج 12 ص 121 [5] آي وسور: المرجع السابق. [6] أزيه: المرجع السابق ص 134. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 الخراج كل سنة وراء النهر، فتوفي أزبة سنة أربع وتسعين وخمسمائة وكان بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود صاحب باميان من قبل خاله غيّاث الدين فسار إلى بلخ، وقطع الحمل للخطأ، وخطب لغياث الدين وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكفّار. فامتعض الخطا لذلك، واعتزموا على فتنة الغورية. واتفق أنّ علاء الدين تكش صاحب خوارزم بعث إليهم يغريهم ببلاد غيّاث الدين. وكان سبب ذلك أنه ملك الريّ وهمذان وأصفهان وما بينهما، وتعرّض لعساكر الخليفة، وطلب الخطبة والسلطنة ببغداد مكان ملوك السلجوقية، فبعث الخليفة يشكوه إلى غيّاث الدين يقبح فعله وينهاه عن قصد العراق، ويتهدّده بسلطان شاه وأخذ بلاده، فأنف من ذلك وبعث إلى الخطا يغريهم ببلاده، فجهّز ملك الخطا جيشا كثيفا مع مقدّم عساكره وعبروا النهر إلى بلاد الغور. وسار علاء الدين تكش إلى طوس لحصارها، لأنّ غياث الدين عاجز عن الحركة بعلّة النقرس، فعاثوا في بلاده ما شاء الله وحاصر الخطا بهاء الدين فاشتدّت الحرب وثبت المسلمون. وجاء المدد من عند غيّاث الدين، ثم حملوا جميعا على الخطا فهزموهم إلى جيحون وألقى الكثير منهم أنفسهم في الماء، فهلك منهم نحو اثني عشر ألفا، وعظم الأمر على ملك الخطا، وبعث إلى علاء الدين تكش صاحب خوارزم يطوقه الذنب ويطالبه بدية القتلى من أصحابه. والزمه الحضور عنده، فبعث علاء الدين تكش يشكو ذلك إلى غيّاث الدين فردّ جوابه باللوم على عصيان الخليفة، ودعا ذلك علاء الدين إلى الفتنة مع الخطا وانتزاعه بخارى من أيديهم كما يأتي في أخبارهم. (استيلاء الغورية على ملك خوارزم شاه بخراسان) ثم توفي علاء الدين تكش صاحب خوارزم وكان قد ملك بعض خراسان وبلاد الريّ والبلاد الجبالية، فولي بعده ابنه قطب الدين، ولقّب علاء الدين بلقب أبيه، وولّى علاء الدين أخاه علي شاه خراسان، وأقطعه نيسابور. وكان هندوخان ابن أخيهما ملك شاه فخاف عمه فلحق بمرو، وجمع الجموع وبعث إليه عمّه محمد العسكر مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 جنقر التركي [1] فهرب هندوخان، ولحق بغياث الدين مستنجدا به على عمّه فأكرمه ووعده. ودخل جنقر إلى مرو، وحمل منها ولد خان وأمّه مكرّمين إلى خوارزم. وأرسل غيّاث الدين إلى صاحب الطالقان محمد بن خربك [2] بأن يتهدد جنقر، فسار من الطالقان واستولى على مروالروذ [3] وبعث إلى جنقر يأمره بالخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارقها، فأساء الجواب ظاهرا، واستأمن إلى غيّاث الدين سرا، ولما علم غيّاث الدين بذلك قوي طمعه في البلاد، وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان، فسار من غزنة في عساكره في منتصف سنة ست وتسعين وخمسمائة ولما انتهى إلى الطالقان استحثّه جنقر صاحب مرو للبلد، وأخبره بطاعته حتى إذا وصل إليه خرج في العساكر فقاتله، وهزمه شهاب الدين، وزحف بالفيلة إلى السور فاستأمن جنقر وخرج إليه، وملك شهاب الدين مرو وبعث بالفتح إلى غياث الدين فجاء إلى مرو، وبعث جنقر إلى هراة مكرّما، وسلّم مرو إلى هندوخان ابن ملك شاه المستنجد به، وأوصاه بالإحسان إلى أهلها. وسار إلى سرخس فحاصرها ثلاثا وملكها على الأمان، وأرسل إلى علي شاه نائب علاء الدين محمد بنيسابور، وينذره الحرب إن امتنع من الطاعة فاستعدّ للحصار، وخرّبوا العمائر بظاهرها وقطعوا الأشجار، وحمل محمود بن غيّاث الدين فضايق البلد، وملك جانبها ورفع راية أبيه على السور. وحمل شهاب الدين من الناحية الأخرى، فسقط السور بين يديه وملك البلد ونهب الجند عامتها. ثم نادوا بالأمان ورفع النهب، واعتصم الخوارزميّون بالجامع فأخرجهم أهل البلد إلى غيّاث الدين. ثم سار إلى قهستان، فذكر له عن قرية في نواحيها أنّ أهلها إسماعيلية فدخلها وقتل المقاتلة وسبى الذريّة، وخرّب القرية. ثم سار إلى مدينة أخرى [4] ذكر له عنها مثل ذلك، وأرسل صاحب قهستان إلى غيّاث الدين يستغيثون من شهاب الدين ويذكرونه العهد، فأرسل غيّاث الدين إلى أخيه شهاب الدين بالرجوع عنهم طوعا أو كرها.   [1] جقر التركي: ابن الأثير ج 12 ص 157 [2] محمد بن جربك: المرجع السابق. [3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 158: «فأخذ مروالروذ، والخمس قرى وتسمّى بالفارسية بنج ده، وأرسل الى جقر يأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين.» [4] هي مدينة كناباد وكان جميع أهلها من الإسماعيلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 ووصل الرسول بذلك فامتنع، فقطع طنب خيمته ورحل العسكر فرحل شهاب الدين كرها ورجع إلى غزنة. (فتح نهر واكد [1] من الهند) لما رجع شهاب الدين من خراسان غاضبا من فعل أخيه، لم يعرّج على غزنة، ودخل بلاد الهند غازيا سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وبعث في مقدّمته مملوكه قطب الدين أيبك، ولقيه عساكر الهند دون نهر واكد [1] فهزمهم أيبك، واستباحهم وتقدّم إلى نهر واكد فملكها عنوة، وفارقها ملكها وجمع، ورأى شهاب الدين أنه لا يقوم بحمايتها إلا مقامه فيها، فصالح ملكها على مال يؤدّيه إليه عنها، ورجع إلى غزنة. (اعادة علاء الدين محمد صاحب خوارزم ما أخذه الغورية من خراسان) لما فصل الغورية عن خراسان وملكوا ما ملكوه منها، وسار شهاب الدين إلى الهند غازيا، بعث علاء الدين محمد صاحب خوارزم إلى غيّاث الدين يعاتبه على ما فعل في خراسان، ويطلب إعادة بلده، ويهدّده باستدعاء عساكر الخطا، فصانعه في الخطا حتى قدم شهاب الدين فطمع بالمصانعة. وبعث إلى نائبهم بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور، ويتهدّده، فكتب إلى غيّاث الدين بذلك، وبميل أهل نيسابور إلى عدوّهم، فوعده النصر. وسار إليه علاء الدين صاحب خوارزم آخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة. فلما انتهى إلى نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخيه، ولحق بغيّاث الدين في فيروزكوه وملك علاء الدين مدينة مرو وسار إلى نيسابور وحاصرها شهرين، فلما أبطأ عن نائبها المدد من غيّاث الدين استأمن لصاحب خوارزم، وخرج إليه هو وأصحابه فأحسن إليهم، وطلب علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه   [1] نهر واله: ابن الأثير ج 12 ص 169. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 وبين غيّاث الدين وأخيه، فوعده بذلك، وسار إلى هراة فأقام بها ولم يمض إلى غياث الدين سخطه لتأخر المدد عنه. واختصّ صاحب خوارزم الحسن بن حرميل [1] من أعيان الغوريّة، واستحلفه أن يكون معه عند غيّاث الدين. ثم سار إلى سرخس وبها الأمير زنكي، فحاصره أربعين يوما، وتعدّدت بينهما حروب. ثم بعث ابنه زنكي بأن يتأخّر عن البلد قليلا حتى يخرج هو وأصحابه، فتأخّر بأصحابه، وخرج زنكي فشحن البلد بالأقوات والحطب، وأخرج من ضاق به الحصار. وتحصّن فندم صاحب خوارزم على تأخره، وجهّز عسكرا لحصاره ورجع. فلمّا بعد سار محمد بن خربك من الطالقان، وأرسل إلى زنكي بأن يكبس العسكر الّذي عليه. ونذر بذلك أهل العسكر، فأفرجوا عن سرخس. وخرج زنكي ولقي محمد بن خربك في مرو، وجبوا خراج تلك الناحية، وبعث إليهم صاحب خوارزم عسكرا من الثلاثة آلاف فارس فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فهزمهم، وغنم معسكرهم، وعاد صاحب خوارزم إلى بلده وأرسل إلى غيّاث الدين في الصلح فأجابه مع أمير من أكابر الغوريّة اسمه الحسن بن محمد المرغنيّ فقبض عليه صاحب خوارزم وحبسه. ومرغن من قرى الغور. (حصار هراة) لما بعث صاحب خوارزم إلى غياث الدين في الصلح وجاء عند الحسن المرغني تبين عنه المغالطة فحبسه، وسار إلى هراة وحاصرها، وكان بها أخوان من خدمة السلطان شاه تكش، فكتبا إلى صاحب خوارزم ووعداه بالثورة له في البلد، وكانا يليان مفاتح الأبواب وأمور الحصار في داخل، فأطلع الأمير الحسن المرغني المحبوس عند صاحب خوارزم على أمرهما، فبعث إلى أخيه بذلك عمر صاحب هراة [2] فاعتقلهما. وبعث غيّاث الدين العساكر مددا لهراة مع ابن أخته ألب غازي فنزل على خمسة فراسخ منها، ومنع المسيرة عن عسكر صاحب خوارزم فبعث صاحب   [1] الحسين بن خرميل: ابن الأثير ج 12 ص 174. [2] هكذا بالأصل وتصويب العبارة: فبعث بذلك إلى أخيه عمر صاحب هراة فاعتقلهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 خوارزم عسكرا إلى الطالقان للغارة عليها، فقاتلهم الحسن بن خربك فظفر بهم، ولم يفلت منهم أحد. ثم سار غيّاث الدين في عساكره ونزل قريبا من هراة، فاعتزم صاحب خوارزم على الرحيل بعد حصار أربعين يوما لهزيمة أصحابه بالطالقان، ومسير العساكر مع ألب غازي، ثم مسير غيّاث الدين. ثم توقعه عود شهاب الدين من الهند. وكان قد وصل إلى غزنة منتصف ثمان وتسعين وخمسمائة فراسل أمير هراة وصالحه على مال حمله إليه، وارتحل عن البلد وبلغ الخبر شهاب الدين، وجاء إلى طوس وشتّى بها عازما على حصار خوارزم، فجاء الخبر بوفاة أخيه غيّاث الدين، فأثنى عزمه وسار إلى هراة. (وفاة غياث الدين وانفراد شهاب الدين بالملك) ثم توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام صاحب غزنة وبعض خراسان وفيروزكوه ولهاوور ودهلي [1] من الهند وكان أخوه شهاب الدين بطوس كما ذكرنا فسار إلى هراة، وأظهر وفاة أخيه، وجلس للعزاء، وخلف غيّاث الدين ابنا اسمه محمود، فلقّب غيّاث الدين. ولما سار شهاب الدين عن طوس استخلف مرو الأمير محمد بن خربك، وبعث إليه صاحب خوارزم العساكر، فبيّتهم ولم ينج منهم إلا القليل، وأنفذ بالأسارى والرءوس إلى هراة وأعاد إليه صاحب خوارزم الجيوش مع منصور التركيّ، فلقيهم على عشرة فراسخ من مرو فهزموه وحاصروه خمسة عشر يوما حتى استأمن إليهم وخرج فقتلوه. وتردّدت الرسل بين شهاب الدين وصاحب خوارزم في الصلح فلم يتفق بينهما أمر. ولما اعتزم شهاب الدين على العود إلى غزنة ولّى على هراة ابن أخته ألب غازي وقلّد علاء الدين محمد الغوري مدينة فيروز كوه وبلد الغور، وجعل إليه حرب خراسان وأمور المملكة. وجاءه محمود ابن أخيه غيّاث الدين فولّاه على بست وأسفراين [2] وتلك الناحية وبعده عن الملك جملة. وكانت لغياث الدين   [1] لهاور ولوهور: معجم البلدان وتعرف اليوم باسم لاهور. أما دهلي فلا وجود لها وهي مدينة دلهي الشهيرة. وقد يكون هذا تحريف من الناسخ. [2] أسفرار: ابن الأثير ج 12 ص 181 وفي معجم البلدان: أسفرايين، وقد مرّ ذكرها معنا من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 زوجة مغنّية شغف بها وتزوّجها، فقبض عليها شهاب الدين وضربها ضربا مبرحا وضرب ولدها غيّاث الدين وزوّج أختها واستصفاهم وغرّبهم إلى بلاد الهند. وكانت بنت مدرسة ودفنت فيها أباها [1] ، فخرّبها ونبش قبورهم ورمى بعظامهم. وكان غيّاث الدين ملكا عظيما مظفرا على قلّة حروبه، فإنه كان قليل المباشرة للحروب، وكان ذا هيبة جوادا حسن العقيدة، كثير الصدقة، بنى بخراسان وغيرها المساجد والمدارس للشافعيّة، وبنى الخوانك في الطرق، وبنى على ذلك الأوقاف الكثيرة، وأسقط المكوس، وكان لا يتعرّض إلى مال أحد، ومن مات ووارثه غائب دفعه إلى أمناء التجّار من أهل بلده ليوصلوه إلى ورثته، فإن لم يجد تاجرا ختم عليه القاضي إلى أن يصل مستحقّه. وإن كان لا وارث له تصدّق عنه بماله. وكان يحسن إلى أهل البلد إذا ملكها، ويفرض الأعطيات للفقهاء كل سنة من خزائنه، ويفرّق الأموال على الفقراء، ويصل العلويّة والشعراء. وكان أديبا بليغا بارع الخطّ ينسخ المصاحف ويفرّقها في المدارس التي بناها. وكان شافعيّ المذهب من غير تعصّب لهم، ويقول التعصّب في المذاهب هلاك. فتنة الغورية مع محمد بن تكش صاحب خوارزم وحصار هراة ثم حصارهم خوارزم وحروب شهاب الدين مع الخطا لما هلك غياث الدين ملك أخوه شهاب الدين بعده، فطمع محمد بن تكش صاحب خوارزم في ارتجاع هراة. وكان قد راسل شهاب الدين في الصلح فلم يتم. وسار شهاب الدين عن غزنة إلى لهاور غازيا، فسار حينئذ محمد بن تكش إلى هراة منتصف سنة ستمائة، وحاصرها وكان بها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين. وطال حصارها إلى سلخ شعبان، وقتل بين الفريقين خلق منهم رئيس خراسان المقيم يومئذ بمشهد طوس. وكان الحسين بن حرميل من أعيان الغوريّة بجوربان [2] وهو إقطاعه، فمكر بصاحب خوارزم، وأظهر له الموالاة وأشار بأن يبعث إليه فوارس يعطيهم بعض   [1] دفنت فيها أباها وأمها وأخاها فهدمها ونبش قبور الموتى ورمى بعظامهم منها: ابن الأثير ج 12 ص 181. [2] كرزبان: ابن الأثير ج 12 ص 185. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 الفيلة. وقعد لهم هو والحسين بن محمد المرغني بالمراصد، فاستلحموهم. ثم مات ألب غازي وضجر صاحب خوارزم من الحصار. فارتحل إلى سرخس وحاصرها، وبلغت هذه الأخبار شهاب الدين ببلاد الهند، فكرّ راجعا وقصد مدينة خوارزم، فأغذ محمد بن تكش السير من سرخس، ونزل أثقاله وسبقه إليها وقاتله الخوارزميّة قتالا شديدا وفتكوا فيه. وهلك من الغوريّة جماعة منهم الحسين بن محمد المرغنيّ وأسر جماعة من الخوارزمية فأمر شهاب الدين بقتلهم. ثم بعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم أن يخالفوا شهاب الدين إلى بلاد الغوريّة فساروا إليها. ولما سمع شهاب الدين كرّ راجعا إلى البلاد، فلقي مقدّمة عسكرهم بصحراء أيدخوي [1] في صفر سنة إحدى وستمائة، فأوقع بهم وأثخن فيهم، وجاءت ساقتهم على أثر ذلك، فلم يكن له بهم قبل فانهزم، ونهبت أثقاله، وقتل الكثير من أصحابه، ونجا في الفلّ إلى أيدخوي وحاصروه حتى أعطاهم بعض الفيلة وخلص. وكثر الإرجاف في بلاد الغور بمهلكه، ووصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد لحق بها نائبها الحسين بن حرميل ناجيا من الوقعة، فاستكثر له من الزاد والعلوفة وكفاه مهمه. وكان مستوحشا مع من استوحش من الأمراء بسبب انهزامهم عن شهاب الدين، فحمله شهاب الدين إلى غزنة تأنيسا له، واستحجبه، ولما وقع الإرجاف بموت شهاب الدين جمع مولاه تاج الدين العسكر وجاء إلى قلعة غزنة طامعا في ملكها، فمنعه مستحفظها فرجع إلى إقطاعه، وأعلن بالفساد، وأغرى بالخلخ من الترك فكثر عيثهم. وكان له مولى. آخر اسمه أيبك فلحق بالهند عند نجاته من المعركة، وأرجف بموت السلطان واستولى على الملتان، وأساء فيها السيرة. فلما وصل خبر شهاب الدين جمع تاج الدين الذّر- وهو مملوك اشتراه شهاب الدين- الناس من سائر النواحي ثم جمع شهاب الدين لغزو الخطا والثأر منهم. (حروب شهاب الدين مع بني كوكر والتفراهية [2] ) كان بنو كوكر هؤلاء موطنين في الجبال بين لهاور والملتان معتصبين بها لمنعتها، وكانوا   [1] أندخوي: ابن الأثير ج 12 ص 186 [2] التيراهية: ابن الأثير ج 12 ص 211 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 في طاعة شهاب الدين، يحملون إليه الخراج، فلمّا وقع الإرجاف بموته، انتقضوا وداخلوا صاحب جبل الجودي وغيره من أهل الجبال في ذلك وجاهروا بالعيث والفساد وقطع السابلة ما بين غزنة ولهاور وغيرها. وبعث شهاب الدين إلى محمد بن أبي علي بلهاوز والملتان يأمره بحمل المال بعد أن قتل مملوكه أيبك. قال: ومهّد البلاد فاعتذر بنو كوكر فبعث شهاب الدين مملوكه أيبك إلى بني كوكر يتهددهم على الطاعة، فقال كبيرهم: لو كان شهاب الدين حيّا لكان هو المرسل إلينا، واستخفوا أمر أيبك، فعاد الرسول بذلك، فأمر شهاب الدين بتجهيز العساكر في قرى سابور. ثم عاد إلى غزنة في شعبان سنة إحدى وستمائة ونادى بالمسير إلى الخطا. ورجع بنو كوكر الى حالهم من اخافة السابلة ودخل معهم كثير من الهنود في ذلك وخشي على انتقاض البلاد فأثنى عزمه عن الخطا وسار إلى غزنة، وزحف إلى جبال بني كوكر في ربيع الأوّل سنة اثنتين وستمائة ولما انتهى إلى قرى سابور أغذّ السير وكبس بني كوكر في محالهم، وقد نزلوا من الجبال إلى البسيط يرومون اللقاء، فقاتلوه يوما إلى الليل، وإذا بقطب الدين أيبك في عساكره منادين بشعار الإسلام فحملوا عليهم، وانهزموا وقتلوا بكل مكان. واستنجوا بأجمة فأضرمت عليهم نارا، وغنم المسلمون أهاليهم وأموالهم حتى بيع المماليك خمسة بدينار. وقتل كبير بني كوكر الّذي كان مملكا عليهم، وقصد دانيال صاحب الجند الجودي، وسار إليها فأقام بها منتصف رجب، وهو يستنفر الناس. ثم عاد نحو غزنة وأرسل بهاء الدين سام صاحب باميان بالنفير إلى سمرقند، وأن يتّخذ الجسر لعبور العساكر. وكان أيضا ممن دعاه هذا الإرجاف إلى الانتقاض التتراهية [1] وهم قوم من أهل الهند بنواحي قرى سابور، دينهم المجوسية ويقتلون بناتهم بعد النداء عليهنّ للتزويج، فإذا لم يتزوّجها أحد قتلوها، وتزوّج المرأة عندهم بعدّة أزواج. وكانوا يفسدون في نواحي قرى سابور، ويكثرون الغارة عليها، وأسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوريّ. ثم انتقضوا عند هذا الإرجاف وخرجوا إلى حدود سوران ومكران، وشنّوا الغارة على المسلمين فسار إليهم الخلخي [2] نائب   [1] هي التيراهية. وقد مرّت من قبل التفراهية وهنا التتراهية وكل هذا تحريف. وكذلك بالنسبة الى باقي الأعلام فمعظمها يختلف من مرجع إلى آخر وهكذا يتعذر علينا ضبطها. [2] الحلحي: ابن الأثير ج 12 ص 211 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 تاج الدين الّذي بتلك الجهة، فأوقع بهم وأثخن فيهم وبعث برءوس الأعيان منهم فعلّقت ببلاد الإسلام وصلح أمر البلاد. (مقتل شهاب الدين الغوري وافتراق المملكة بعده) لما قضى شهاب الدين شأنه من بلاد الغور وأصلح ما كان بها من الفساد، ارتحل من لهاور عائدا إلى غزنة عازما على قصد الخطا بعد أن استنفر أهل الهند وأهل خراسان، فلما نزل بدميل قريبا من لهاور طرق خيمته جماعة من الدعّار فقتلوا بعض الحرس، وثار بهم الناس وذهل باقي الحرس بالهيعة فدخل منهم البعض على شهاب الدين وضربوه في مصلّاه وقتلوه ساجدا، وقتلوا عن آخرهم أوّل شعبان سنة اثنتين وستمائة. فيقال إنّ هذه الجماعة من الكوكريّة الذين أحفظهم ما فعل بهم، ويقال من الإسماعيلية لأنهم كانوا غلّوا منه، وكانت عساكره تحاصر قلاعهم. ولما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيّد الدين خواجاسحتا [1] ، واتفقوا على حفظ المال إلى أن يقوم بالأمر من يتولّاه من أهله، وتقدّم الوزير إلى أمير العسكر بضبط العسكر، وحملت جنازة شهاب الدين في المحفّة، وحملوا خزائنه، وكانت ألفين ومائتي حمل. وتطاول الموالي مثل صونج صهر الذر [2] وغيره إلى نهب المال، فمنعهم الأمراء الكبار، وصرفوا الجند الذين أقطاعهم عند قطب الدين أيبك ببلاد الهند أن يعودوا إليه، وساروا إلى غزنة متوقّعين البيعة على الملك بين غيّاث الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وبين بهاء الدين سام صاحب باميان ابن أخت شهاب الدين فيملك الخزانة والأتراك يريدون طريق سوران ليقربوا من فارس. وكان هوى الوزير مؤيد الملك مع الأتراك، فلم يزل بالغوريّة حتى إذا وصلوا طريق كرمان ساروا عليها، ولقوا بها مشقة من غارات التتراهية واقعان وغيرهم. ولما وصلوا إلى كرمان استقبلهم تاج الدين الذر ونزل عن فرسه، وقبّل الأرض بين يدي المحفّة. ثم كشف عن وجهه فمزّق ثيابه وأجدّ بالبكاء حتى رحمه الناس. وكان شهاب الدين شجاعا قرما عادلا كثير الجهاد،   [1] مؤيد الملك بن خوجا سجستان: ابن الأثير ج 12 ص 213. [2] صونج صهر الدز: ابن الأثير ج 12 ص 214 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 وكان القاضي بغزنة يحضر داره أربعة أيام في كل أسبوع، فيحكم بين الناس وأمراء الدولة ينفذون أحكامه، وإن رافع أحد خصمه إلى السلطان سمع كلامه وردّه إلى القاضي، وكان شافعيّ المذهب. (قيام الذر بدعوة غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين) كان تاج الدين الذر من موالي شهاب الدين وأخصّهم به، فلما قتل طمع في ملك غزنة وأظهر القيام بدعوة غيّاث الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وأنه كتب إليه بالنيابة عنه بغزنة لشغله بأمر خراسان. وتسلّم الخزائن من الوزير وسار إلى غزنة فدفن شهاب الدين بتربته في المدرسة التي أنشأها، وذلك في شعبان من سنة اثنتين وستمائة وأقام بغزنة. (مسير بهاء الدين سام الى غزنة وموته وملك بهاء الدين ابنه بعده غزنة) كان بهاء الدين قد أقطع باميان ابن عمّه شمس الدين محمد بن مسعود عند ما ملكها، وأنكحه أخته فولدت ابنا وهو سام، وكان له ابن آخر من امرأة تركيّة اسمه عبّاس، فلما مات ملك ابنه الأكبر عبّاس، فغضب غيّاث الدين وشهاب الدين لابن أختهما، وعزلوا عبّاسا وولّوه مكانه على باميان، فعظم شأنه، وجمع الأموال، وترشّح للملك بعد أخواله لميل أمراء الغزّ إليه بعد أخواله. فلما قتل شهاب الدين كان في قلعة غزنة نائب اسمه أمير دان فبعث ابنه إلى بهاء الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وابن حرميل عامل هراة بحفظ أعمالها، وإقامة الخطبة له بها. والغوريّة والأتراك على ما ذكرناه من الاختلاف فسار في عساكره إلى غزنة ومعه ابنا علاء الدين وأمرهما جميعا بالمسير إلى غزنة، وبلاد الهند. فلما مات ثار ابناه في غزنة وخرج أمراء الغوريّة لغياث الدين وتلقوهما والأتراك معهم مغلبين فملكوا البلد، ونزلوا دار السلطنة مستهل رمضان من سنة اثنتين وستمائة، واعتزم الأتراك على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 منعهم، وعادلهم الأمير مؤيد الملك لاشتغال غيّاث الدين منهم بابن حرميل عامل هراة فلم يرجعوا، ونبذوا إلى علاء الدين وأخيه العهد وآذنوهما بالحرب إن لم يرجعا، فبعثا إلى تاج الدين الذر، وهو بإقطاعه يستدعيانه ويرغّبانه بالأموال والمراتب السلطانية والترغيب في الدولة. (استيلاء الذر على غزنة) كان الذر بكرمان لما بلغه مقتل شهاب الدين، تسلّم الأموال والخزائن من الوزير وأظهر دعوة غيّاث الدين ابن مولاه السلطان غيّاث الدين، وسار بهاء الدين سام من باميان كما ذكرنا، ومات في طريقه، وملك ابنه علاء الدين غزنة كما ذكرنا. واستعطف الأتراك وبعث إلى الذر يرغّبه ويسترضيه فأبى من طاعته، وأساء الردّ عليه. وسار عن كرمان في عساكر كثيفة من الترك والخلخ والغزّ وغيرهم، وبعث إلى علاء الدين وأخيه بالنذير، فأرسل علاء الدين وزيره ووزير ابنه صلة إلى باميان وبلخ وترمذ ليحشد العساكر، وبعث الذر إلى الأتراك الذين بغزنة بأنّ مولاهم غيّاث الدين. واجتمعت جماعة الغوريّة والأتراك فالتقوا في رمضان، ونزع الأتراك إلى الذر فانهزم محمد بن حدرون وأسر. ودخل عسكر الذر المدينة فنهبوا بيوت الغوريّة والباميانيّة. واعتصم علاء الدين بالقلعة، وخرج جلال الدين في عشرين فارسا إلي باميان، وحاصر الذر القلعة حتى استأمن علاء الدين في المسير من غزنة إلى باميان. ولما نزل من القلعة تعرّض له بعض الأتراك فأرجلوه عن فرسه وسلبوه، فبعث إليه الذر بالمال والمركب والثياب، فوصل إلى باميان، فشرع في الاحتشاد. وأقام الذر بغزنة يظهر طاعة غيّاث الدين، ويترحّم على شهاب الدين، ولم يخطب له ولا لأحد. وقبض على داود والي القلعة بغزنة، وأحضر القضاة والفقهاء، وكان رسول الخليفة مجد الدين أبو عليّ بن الربيع الشافعيّ مدرّس النظاميّة ببغداد، وفد على شهاب الدين رسولا من قبل الخليفة، وأحضره الذر ذلك اليوم، وشاورهم بالجلوس على التخت والمخاطبة بالألقاب السلطانية، وأمضى ذلك. واستوحش الترك حتى بكى الكثير منهم، وكان هناك جماعة من ولد ملوك الغور وسمرقند فأنفوا من خدمته، وانصرفوا إلى علاء الدين وأخيه في باميان، وأرسل غيّاث الدين محمود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 أن يصهر إليه في بنته بابنه فأبى من ذلك. ثم جاء في عسكر من الغوريّين من باميان، وأرسل غيّاث الدين وفرّق في أهلها الأموال، واستوزر مؤيد الملك فوزر له على كره. (أخبار غياث الدين بعد مقتل عمه) لما قتل السلطان شهاب الدين، كان غيّاث الدين محمود ابن أخيه السلطان غيّاث الدين في أقطاعه ببست. وكان شهاب الدين قد ولّى على بلاد الغور علاء الدين محمد بن أبي علي من أكابر بيوت الغوريّة، وكان إماميا غاليا، فسار إلى بيروزكوه [1] يسابق إليها غيّاث الدين. وكان الأمراء الغوريّة أميل إلى غيّاث الدين، وكذا أهل بيروزكوه، فلما دخل خوارزم دعا محمد المرغنيّ ومحمد بن عثمان من أكابر الغوريّة، واستحلفهم على قتال محمد بن تكش صاحب خوارزم. وأقام غيّاث الدين بمدينة بست ينتظر مآل الأمر لصاحب باميان لأنهما كان بينهما العهد من أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين، وغزنة والهند لبهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين، فلمّا بلغه موت شهاب الدين دعا لنفسه، وجلس على الكرسي في رمضان سنة ثلاث وستمائة، واستخلف الأمراء الذين في أثره فأدركوه وجاءوا به، وملك بيروزكوه وقبض على جماعة من أصحاب علاء الدين، ولما دخل بيروزكوه جاء إلى الجامع فصلّى فيه. ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها وأعاد الرسوم، وقدم عليه عبد الجبّار محمد بن العشير الى وزير أبيه فاستوزره، واقتفى بابيه في العدل والإحسان. ثم كاتب ابن حرميل بهراة ولاطفه في الطاعة، وكان ابن حرميل لما بلغه مقتل السلطان بهراة خشي عادية خوارزم شاه، فجمع أعيان البلد وغيرهم، واستحلفهم على الإنجاز والمساعدة. وقال القاضي وابن زياد: يحلف كل الناس إلّا ابن غيّاث الدين، وينتظر عسكر خوارزم شاه، وشعر غيّاث الدين بذلك من بعض عيونه، فاعتزم على المسير إلى هراة. واستشار ابن حرميل القاضي وابن زياد، فأشارا عليه بطاعة غيّاث الدين على مكر ابن حرميل، وميله إلى خوارزم شاه، وحثّه على   [1] فيروز كوه هكذا عند ابن الأثير وقد مرّت معنا في السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 قصد هراة ليكون ذلك حجّة عليه ففعل، وبعث به مع ابن زياد. ثم كاتب غيّاث الدين صاحب الطالقان وصاحب مرو يستدعيهما فتوقفوا عن إجابته. فقال أهل مرو لصاحبها: إن لم تسلّم البلد إلى غيّاث الدين وتتوّجه وإلّا سلّمناك وقعّدناك وأرسلنا إليه فاضطر إلى المجيء إلى فيروز كوه. فخلع عليه غيّاث الدين ووفر له الأقطاع، وأقطع الطالقان لسونج مولى أبيه المعروف بأمير شكار. (استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان) كان الحسن بن حرميل نائب الغورية بهراة منتقضا عليهم كما ذكرنا، ومداخلا لخوارزم شاه في الباطن، واستدعى العساكر من عنده، وبعث ابن زياد يستوثق له من غيّاث الدين، وأقام يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. ووصل ابن زياد بالولاية والخلع، فلم يثنه ذلك عمّا هو فيه من المكاذبة لهم. ثم وصل عسكر خوارزم شاه فتلقّاهم وأكرمهم. وبلغه أنّ خوارزم شاه في أثرهم على أربع فراسخ من بلخ، فندم في أمره وردّ إليه عسكره، وبلغ غيّاث الدين عسكر خوارزم شاه ووصولهم إلى هراة، فاستدعى ابن حرميل فقبض على أملاكه، ونكب أصحابه. وردّ أقطاعه فاعتزم أهل هراة على القبض عليه. وكتب القاضي وابن زياد بذلك إلى غيّاث الدين. ونمي الخبر إلى ابن حرميل فخشي على نفسه منهم، وأوهمهم أنه يكاتب غيّاث الدين وطلبهم في الكتاب مع رسوله، وأوصى الرسول أن يعدل إلى طريق خوارزم شاه. ولحق بهم فردّهم وأصبحوا على البلد لرابعة يوم من سفر الرسول فأدخلهم ابن حرميل البلد، وأمكنهم من أبوابها. وقبض على ابن زياد وسمله، وأخرج القاضي فلحق بغيّاث الدين في بيروز كوه، ونمي الخبر بذلك إلى غيّاث الدين فاعتزم على المسير بنفسه، فبلغه سير علاء الدين صاحب باميان إلى غزنة فاقتصر عن ذلك وأقام ينتظر شأنه مع الذر. وأمّا بلخ فإنّ خوارزم شاه لما بلغه مقتل شهاب الدين أطلق أسرى الغوريّين الذين كانوا عنده، وخلع عليهم واستألفهم، وبعث أخاه علي شاه في العساكر إلى بلخ فقاتله عمر بن الحسين الغوريّ نائبها. ونزل منها على أربعة فراسخ. وجاءه خوارزم شاه مددا بنفسه اخر سنة اثنتين وستمائة فحاصرها، فاستمدّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 عمر بن الحسين علاء الدين وجلال الدين من باميان، وشغلوا عنه بغزنة، فأقام خوارزم شاه محاصرا له أربعين يوما، وكان عنده محمد بن عليّ بن بشير، وأطلقه في أسرى الغورية وأقطعه، فبعثه إلى عمر بن الحسين صاحب بلخ في الطاعة فأبى من ذلك، واعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة، ثم بلغه ما وقع بين الذر وبين علاء الدين وجلال الدين، وأن الذر أسرهما، وأنّ عمر بن الحسين صاحب بلخ أبى ذلك، فأعاد عليه ابن بشير، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى أطاع صاحب خوارزم، وخطب له. وخرج إليه فخلع عليه وأعاده إلى بلده في سلخ ربيع سنة ثلاث وستمائة ثم سار إلى جورقان ليحاصرها، وبها عليّ بن أبي عليّ فوقعت المراوضة بينهما. ثم انصرف عن جورقان [1] وتركها لا بن حرميل، واستدعى عمر بن الحسين الغوريّ وصاحب بلخ فقبض عليه، وبعثه إلى خوارزم، ومضى إلى بلخ فملكها، وولّى عليها جعفرا التركيّ ورجع إلى خوارزم. (استيلاء علاء الدين ثانيا على غزنة ثم انتزاع الذر إياها من يده) قد تقدّم لنا استيلاء الذر على غزنة وإخراجه علاء الدين وجلال الدين منها إلى باميان، فأقاما بها شهرين، ولحق كثير من الجند بعلاء الدين صاحبهم، وأقام الذر بغزنة متوقفا عن الخطبة لغياث الدين يروم الاستبداد، وهو يعلّل الأتراك برجوع رسوله من عند غيّاث الدين مخافة أن ينفضّوا عنه. فلمّا ظفر بعلاء الدين وملك القلعة أظهر الاستبداد وجلس على الكرسيّ وجمع علاء الدين وجلال الدين العساكر وساروا من باميان الى غزنة، وسرّح الذر عساكره للقائهما فهزماها وأثخناها [2] . وهرب الذر إلى بلد كرمان واتبعه بعض العسكر فقاتلهم ودفعهم. وسار علاء الدين وأخوه إلى غزنة وملكوها، وأخذوا خزانة شهاب الدين التي كان الذر أخذها من يد الوزير مؤيد الدين عند مقدمه بجنازة شهاب الدين الى كرمان كما مرّ. ثم اعتزم علاء   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 230: «ثم سار خوارزم الى كرزبان ليحاصرها، وبها عليّ بن أبي عليّ ... » [2] الضمير عائد الى عساكر الذر. ابن خلدون م 35 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 الدين وأخوه على العود إلى غزنة [1] وأهلها متوقعون النهب من عسكرهم والفيء. وكان بينهم رسول الخليفة مجد الدين بن الربيع مدرّس النظامية، جاء إلى شهاب الدين فقتل وهو عنده. وأقام بغزنة فقصده أهل غزنة أن يشفع فيهم، فشفع وسكن الناس. وعاد علاء الدين وأخوه إلى غزنة. ثم وقع بينهما تشاجر على اقتسام الخزانة، وعلى وزارة مؤيد الملك فندم الناس على طاعتهما. وسار جلال الدين ومعه عبّاس الى باميان، وبقي علاء الدولة بغزنة، وأساء وزيره السيرة في الجند والرعيّة، ونهب الأموال حتى باعوا أمّهات أولادهم. ويشكون فلا يشكيهم أحد، فسار الذر في جموع الأتراك والغزّ والغوريّة، فكبسهم إيدكز [2] الشر في مولى شهاب الدين في ألفين وملك كرمان. وجاء الذر إثر ذلك وأنكر على إيدكز وملك كرمان، وأحسن إلى أهلها. وبلغ الخبر إلى علاء الدين بغزنة، فبعث وزيره إلى أخيه جلال الدين في باميان، وكانت عساكر الغوريّة قد فارقوه ولحقوا بغيّاث الدين، ووصل الذر آخر سنة اثنتين وستمائة إلى غزنة فملكها، وامتنع علاء الدين بالقلعة، فسكّن الذر الناس وأمّنهم، وحاصروا القلعة. وجاء الخبر إلى الذر بأنّ جلال الدين قادم عليك بعساكره، ولحق سليمان بن بشير بغيّاث الدين ببيروز كوه فأكرمه، وجعله أمير داره، وذلك في صفر سنة ثلاث وستمائة وسار الذر فلقي جلال الدين وهزمه، وسيق أسيرا إليه، ورجع إلى غزنة وتهدّد علاء الدين بقتل الأسرى إن لم يسلّم القلعة. وقتل منهم أربعمائة أسير فبعث علاء الدين يستأمنه، فأمّنه. ولما خرج قبض على وزيره عماد الملك وقتله، وبعث إلى غيّاث الدين بالفتح. (انتقاض عباس في باميان ثم رجوعه الى الطاعة) لما أسر علاء الدين وجلال الدين كما قلناه في غزنة وصل الخبر إلى عمّهما عباس في باميان ومعه وزير أبيهما. وسار الوزير الى خوارزم شاه يستنجده على الذر ليخلّص   [1] قبل قليل تحدث ابن خلدون عن ملك غزنة من قبل علاء الدين وأخيه، ثم يذكر ان علاء الدين وأخيه يعتزمان على العود الى غزنة! وكيف يكون هذا؟ وربما يقصد ابن خلدون ان علاء الدين وجلال الدين يودان جعل غزنة قاعدة لهما حسب مقتضى السياق. [2] وفي نسخة اخرى ايدكن وفي مكان آخر من هذا الكتاب ايدكين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 صاحبيه، فاغتنم عبّاس غيبته وملك القلعة، وكان مطاعا، وأخرج أصحاب علاء الدين وجلال الدين، فرجع الوزير من طريقه فحاصره بالقلعة، وكان مطاعا في تلك الممالك من لدن بهاء الدين ومن بعده. فلما خلّص جلال الدين من أسر الذر، وصل إلى مدينة باميان واجتمع مع الوزير، وبعثوا إلى عبّاس ولاطفوه حتى نزل عمّا كان استولى عليه من القلاع، وقال: إنما أردت حفظها من خوارزم شاه. (استيلاء خوارزم شاه على ترمذ ثم الطالقان من يد الغورية) كان خوارزم شاه لما ملك بلخ من يد عمر بن الحسين الغوريّ سار منها إلى ترمذ وبها ابنه. وقدم إليه محمد بن بشير بما كان من نزول أبيه عن بلخ، وأنه انتظم في أهل دولته. وبعثه إلى خوارزم مكرّما، ورغّبه بالأقطاع والمواعيد، وكان قد ضاق ذرعه من الخطا ووهن من أسر الذر أصحابه بغزنة، فأطاع واستأمن وملك خوارزم شاه ترمذ ورأى أن يسلّمها للخطأ ليتمكن بذلك من خراسان، ثم يعود عليهم فينتزعها منهم. ولما فرغ من ذلك سار إلى الطالقان وبها سونج نائبا عن غيّاث الدين محمود، وأرسل من يستميله، فلجّ وسار لحربه حتى إذا التقيا نزل عن فرسه وسأل العفو فذمّه بذلك، وأخذ ما كان بالطالقان بعض أصحابه، وسار إلى قلاع كاكوير [1] وسوار، فخرج إليه حسام الدين عليّ بن أبي عليّ صاحب كالوين وقاتله، وطالبه في تسليم البلاد فأبى، وسار خوارزم شاه إلى هراة ونزل بظاهرها وابن حرميل في طاعته، فكفّ عساكره عن أهل هراة، ولقيه لك رسول غيّاث الدين بالهدايا. ثم سار ابن حرميل إلى أسفزار [2] في صفر، وقد كان صاحبها سار إلى غيّاث الدين فحاصرها حتى استأمن إليه وملك البلد. ثم أرسل إلى صاحب سجستان بطاعة خوارزم والخطبة له، فأجاب إلى ذلك بعد أن طلبه في ذلك غيّاث الدين فامتنع. وعند مقام خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الّذي كان ابن حرميل   [1] وفي نسخة أخرى كاكوين. ثم يذكرها ابن خلدون كالوين وهو اسمها الحقيقي، كما في الكامل ج 12 ص 245. [2] وفي نسخة اخرى: أسفراين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 أخرجه منها فلحق بشهاب الدين. ثم رجع من عنده إلى خوارزم شاه فسعى به ابن حرميل عنده حتى سجنه بقلعة زوزن، وولّى على القضاء بهراة الصفي أبا بكر محمد بن السرخسي. (خبر غياث الدين مع الذر وايبك مولى أبيه) لما ملك الذر غزنة وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين كتب إليه غيّاث الدين يأمره بالخطبة، وطاول في ذلك فبعث إليه يستحثّه بأمر الخطيب بالترحّم على شهاب الدين والخطبة لنفسه، فاستراب الأتراك به، وبعث هو يشترط على غيّاث الدين العتق فأجابه الى ذلك بعد توقف. وكان عزمه على أن يصالح خوارزم شاه ويستمدّه على الذر، فلما طلب العتق أعتقه، وأعتق قطب الدين أيبك مملوك عمّه شهاب الدين ونائبة ببلاد الهند. وأرسل إلى كلّ منهما هدية وردّ الخبر [1] واستمرّ الذر على مراوغته وأيبك على طاعته، فاستمدّ غيّاث الدين خوارزم شاه على الذر فأمدّه على أن يردّ ابن حرميل صاحب هراة إلى طاعته، وأن يقسّم الغنيمة أثلاثا بينهما وبين العسكر. وبلغ الخبر إلى الذر فسار إلى بكتاباد فملكها، ثم إلى بست وأعمالها كذلك، وقطع خطبة غياث الدين منها، وأرسل إلى صاحب سجستان بقطع خطبة خوارزم شاه، وإلى ابن حرميل كذلك ويتهددهما، وأطلق جلال الدين صاحب باميان وزوّجه بنته، وبعث معه خمسة آلاف فارس مع أيدكين مملوك شهاب الدين ليعيدوا جلال الدين الى ملكه بباميان. وينزلوا ابن عمّه. فلما سار معه أيدكين أغراه بالعود إلى غزنة وأعلمه أنّ الأتراك مجمعون على خلاف الذر، فلم يجبه جلال الدين إلى ذلك فرجع عنه أيدكين إلى إقطاعه بكابل، ولقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الذر يتهدده على عصيانه على غيّاث الدين، ويأمره بالخطبة له، ووصّل معه الهدايا والألطاف إلى غياث الدين. وأشار عليه أيبك بإجابة خوارزم إلى جميع ما طلب حتى يفرغ من أمر غزنة. وكتب إلى أيبك يستأذنه في المسير إلى غزنة ومحاربة   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 248: «وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء وألف قلنسوة ومناطق الذهب وسيوفا كثيرة وجترين ومائة رأس من الخيل، وأرسل الى كل واحد منهما رسولا، فقبل الذر الخلع وردّ الجتر وقال: نحن عبيد ومماليك والجتر له أصحاب، وسار رسول ايبك إليه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 الذر فأذن له بمحاربته، ووصل ايدكين في رجب سنة ثلاث وستمائة وخطب لغياث الدين بغزنة، وامتنعت عليه القلعة فنهب البلد، ووصل الخبر إلى الذر بشأن ايدكين في غزنة ومراسلة أيبك له ففتّ ذلك في عضده، وخطب لغياث الدين في بكتاباد وأسقط اسمه ورحل إلى غزنة فرحل ايدكين عنها إلى بلد الغور، وأقام في تمواز، وكتب إلى غيّاث الدين بالخبر وأنفذ إليه أموالا، فبعث إليه غيّاث الدين بالخلع وأعتقه وخاطبه بملك الأمراء. وسار غيّاث الدين إلى بست وأعمالها فاستردّها وأحسن إلى أهلها وأقام الذر بغزنة. (مقتل ابن حرميل واستيلاء خوارزم شاه على هراة) كان ابن حرميل كما قدّمناه استدعى عسكر خوارزم شاه إلى هراة وأنزلهم معه بهراة، فساء أمرهم في الناس وكثر عيثهم فحبسهم، وبعث إلى خوارزم شاه بصنيعهم ويعدّده، وكان مشتغلا بقتال الخطا، فكتب إليه يحسّن فعله ويستدعي الجند الذين حبسهم. وبعث إلى عزّ الدين خلدك [1] أن يحتال في القبض على ابن حرميل، فسار في ألفي فارس، وكان خلدك أيام السلطان سنجر واليا على هراة، فلما قدم خرج ابن حرميل لتلقّيه، فنزل كل واحد منهما إلى صاحبه، وأمر خلدك أصحابه بالقبض على ابن حرميل فقبضوا عليه، وانفضّ عنه أصحابه إلى المدينة، فأمر الوزير خواجه الصاحب بغلق الأبواب والاستعداد للحصار، ونادى بشعار غيّاث الدين محمود فحاصره خلدك وبذل له الأمان وتهدّده بقتل ابن حرميل، وخاطبه بذلك ابن حرميل ففعل، وكتب بالخبر إلى خوارزم شاه فبعث ولاته بخراسان يأمرهم بحصار هراة، فسار في عشرة آلاف وامتنعت هراة عليهم. وكان ابن حرميل قد حصّنها بأربعة أسوار محكمة وخندق، وشحنها بالميرة، وصار يعدهم إلى حضور خوارزم شاه، وأسروه أياما حتى فادى نفسه ورجع إلى خوارزم كما يذكر في أخبار دولته، وأرجف بموته في خراسان فطمع أخوه علي شاه في طبرستان، وكزلك خان في نيسابور الى الاستبداد بالملك، فلما وصل خوارزم شاه هرب أخوه علي شاه ولحق   [1] جلدك: ابن الأثير ج 12 ص 261. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 بشهاب الدين في بيروز كوه، فتلقّاه وأكرمه، وسار خوارزم شاه إلى نيسابور وأصلح أمرها واستعمل عليها، وسار إلى هراة وعسكره على حصارها، وقيل للوزير قد وصل خوارزم شاه لما وعدته. وتحدّث في ذلك جماعة من أهل البلد فقبض عليهم، ووقعت بذلك هيعة وشعر بها خوارزم شاه فزحف إلى السور وخرّب برجين منه، ودخل البلد فملكه وقتل الوزير وولّى على هراة من قبله، وذلك سنة خمس وستمائة ورجع إلى قتال الخطا. (مقتل غياث الدين محمود) لما ملك خوارزم شاه مدينة هراة وولّى عليها خاله أمير ملك، وأمره أن يسير إلى بيروز كوه ويقبض على صاحبها غيّاث الدين محمود بن غيّاث الدين الغوريّ، وعلى أخيه علي شاه بن خوارزم شاه، فسار أمير ملك واستأمن له محمود فأمّنه وخرج إليه هو وعلي شاه فقبض عليهما أمير ملك وقتلهما، ودخل فيروز كوه سنة خمس وستمائة وصارت خراسان كلها لخوارزم شاه. (استيلاء خوارزم شاه على غزنة وأعمالها) ولما استولى خوارزم شاه على عامّة خراسان وملك باميان وغيرها أرسل إلى تاج الدين الذر صاحب غزنة في الخطبة والسكة وأن يقرّر الصلح على غزنة بذلك فشاور أهل دولته، وفيهم قطلوتكين من موالي شهاب الدين، وهو النائب عن الذر بغزنة، فأشار عليه بطاعته، وأعاد الرسول بالإجابة، وخطب له وسار عن غزنة متصدّيا، وبعث قطلوتكين الى خوارزم شاه سرّا أن يبعث إليه من يسلّمه غزنة، فجاء بنفسه وملك غزنة. وهرب الذر إلى لهاور. ثم أحضر خوارزم شاه قطلوتكين وقتله بعد أن استصفاه وحصل منه على أموال جمّة، وولّى على غزنة ابنه جلال الدين، وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة ورجع الى بلده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 (استيلاء الذر على لهاور ومقتله) لما هرب الذر من غزنة أمام خوارزم شاه لحق بلهاور، وكان صاحبها ناصر الدين قباجة من موالي شهاب الدين وله معها ملتان وآجر والدبيل إلى ساحل البحر، وله من العسكر خمسة عشر ألف فارس، وجاء الذر في ألف وخمسمائة فقاتله على التعبية ومعه الفيلة، فانهزم الذر أوّلا، وأخذت فيوله. ثم كانت له الكرّة وحمل فيل له على علم قباجة بإغراء الفيال، وصدق هو الحملة فانهزم قباجة وعسكره، وملك الذر مدينة لهاور، ثم سار إلى الهند ليملك مدينة دهلي وغيرها من بلاد المسلمين، وكان قطب الدين أيبك صاحبها قد مات، ووليها بعده مولاه شمس الدين فسار إليه، والتقيا عند مدينة سمابا واقتتلا، فانهزم الذر وعسكره وأسر فقتل. وكان محمود السيرة في ولايته كثير العدل والإحسان إلى الرعيّة لا سيما التجّار والغرباء. وكان بملكه انقراض دولة الغورية والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن دولة الديلم وما كان لهم من الملك والسلطان في ملة الإسلام ودولة بني بويه منهم المتغلبين على الخلفاء على العباسيين ببغداد وأولية ذلك ومصايره) قد تقدّم لنا نسب الديلم في أنساب الأمم وأنهم من نسل ماذاي بن يافث، وماذاي معدود في التوراة من ولد يافث. وذكر ابن سعيد ولا أدري عمن نقله: أنهم من ولد سام بن باسل بن أشور بن سام، وأشور مذكور في التوراة من ولد سام. وقال: إنّ الموصل من جرموق بن اشور، والفرس والكرد والخزر من إيران بن أشور، والنبط والسوريان من نبيط بن أشور. هكذا ذكر ابن سعيد والله أعلم. والجيل عند كافة النسّابين إخوانهم على كل قول من هذه الأقوال، وهم أهل جيلان جميعا عصبية واحدة من سائر أحوالهم. ومواطن هؤلاء الديلم والجيل بجبال طبرستان وجرجان إلى جبال الريّ وكيلان وحفافي البحيرة المعروفة ببحيرة طبرستان من لدن أيام الفرس وما قبلها، ولم يكن لهم ملك فيما قبل الإسلام. ولما جاء الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 بالإسلام وانقرضت دولة الأكاسرة واستفحلت دولة العرب وافتتحوا الأقاليم بالمشرق والمغرب والجنوب والشمال كما مرّ في الفتوحات، وكان من لم يدخل من الأمم في دينهم دان لهم بالجزية، وكان هؤلاء الديلم والجيل على دين المجوسيّة، ولم تفتح أرضهم أيام الفتوحات، وإنما كانوا يؤدّون الجزية. وكان سعيد بن العاص قد صالحهم على مائة ألف في السنة، وكانوا يعطونها وربما يمنعونها، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، وكانوا يمنعون الطريق من العراق إلى خراسان على قومس. ولما ولي يزيد بن المهلّب خراسان سنة ست وثمانين للهجرة، ولم يفتح طبرستان ولا جرجان، وكان يزيد بن المهلّب يعيّره بذلك إذا قصّت عليه أخباره في فتوحات بلاد الترك ويقول: ليست هذه الفتوح بشيء، والشأن في جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور، فلمّا أولاه سليمان بن عبد الملك خراسان سنة تسع وتسعين، أجمع على غزوها ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومحاصر، يقوم الرجل على باب منها فيمنعه، وكانت طبرستان مدينة وصاحبها الأصبهبذ. ثم سار إلى جرجان مولاه فراسة، وسار الهادي إليهما وحاصرهما حتى استقاما على الطاعة. ثم بعث المهدي سنة ثمان وتسعين يحيى الحرسيّ في أربعين ألفا من العساكر فنزل طبرستان وأذعن الديلم. ثم لحق بهم أيام الرشيد يحيى ابن عبد الله بن حسن المثنّى فأجاروه، وسرّح الرشيد الفضل بن يحيى البرمكي لحربهم، فسار إليهم سنة خمس وتسعين ومائة فأجابوه إلى التمكين منه على مال شرطوه وعلى أن يجيء بخط الرشيد وشهادة أهل الدولة من كبار الشيعة وغيرهم، فبذل لهم المال، وكتب الكتاب. وجاء الفضل بيحيى فحبسه عند أخيه جعفر حسبما هو مذكور في أخباره. وفي سنة تسع وثمانين ومائة كتب الرشيد وهو بالريّ كتاب الأمان لسروين بن أبي قارن ورنداهرمز بارخشان صاحب الديلم، وبعث بالكتاب مع حسن الخادم إلى طبرستان فقدم بارخشان ورنداهرمز وأكرمهما الرشيد وأحسن إليهما، وضمن رنداهرمز الطاعة والخراج عن سروين بن أبي قارن. ثم مات سروين وقام مكانه ابنه شهريار، ثم زحف سنة إحدى وثمانين ومائة عبد الله بن أبي خرداذبه وهو عامل طبرستان إلى البلاد والسيزر من بلاد الديلم، فافتتحها وافتتح سائر بلاد طبرستان، وأنزل شهريار بن سروين عنها. وأشخص مازيار بن قارن ورنداهرمز إلى المأمون وأسر أبا ليلى. ثم مات شهريار بن سروين سنة عشر ومائتين وقام مكانه ابنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 سابور، فحاربه مازيار بن قارن بن رنداهرمز وأسره، ثم قتله. ثم انتقض مازيار على المعتصم وحمل الديلم وأهل تلك الأعمال على بيعته كرها، وأخذ رهنهم وجبى خراجهم، وخرّب أسوار آمل وسارية، ونقل أهلها إلى الجبال وبنى على حدود جرجان سورا من طميس إلى البحر مسافة ثلاثة أميال وحصّنه بخندق. وكانت الأكاسرة بنته سدّا على طبرستان من الترك. وقد نقل أهل جرجان إلى نيسابور وأملى له في انتقاضه الأفشين مولى المعتصم كبير دولته، طمّعه في ولاية خراسان بما كان يضطغن ابن طاهر صاحب خراسان، فدسّ إليه بذلك كتابا ورسالة حتى امتعض. وجهّز عبد الله بن طاهر العساكر لحربه مع عمّه الحسن ومولاه حيّان بن جبلة. وسرّح المعتصم العساكر يردف بعضها بعضا حتى أحاطوا بجباله من كل ناحية، وكان قارن بن شهريار أخو مازيار على سارية فدسّ إلى قوّاد ابن طاهر بالرجوع من كل ناحية، وكان قارن قد أتى إلى الطاعة والنزول لهم عن سارية على أن يملّكوه جبال آبائه، وأسجل له ابن طاهر بذلك، فقبض على عمّه قارن في جماعة من قوّاد مازيار، وبعث بهم فدخل قوّاد ابن طاهر جبال قارن وملكوا سارية. ثم استأمن إليهم قوهيار أخو مازيار ووعدهم بالقبض على أخيه على أن يولّوه مكانه، فأسجل له ابن طاهر بذلك، فقبض على أخيه مازيار، وبعث به إلى المعتصم ببغداد فصلبه، واطلع منه على دسيسة الأفشين مولاه فنكبه وقتله. ووثب مماليك مازيار بقوهيار فثاروا منه بأخيه وفرّوا إلى الديلم، فاعترضتهم العساكر وأخذوا جميعا، ويقال إنّ الّذي كان غدر بمازيار هو ابن عمّه، كان يضطغن عليه عزله عن بعض جبال طبرستان، وكان مولاه ورأيه عن رأيه. ثم تلاشت الدعوة العبّاسيّة بعد المتوكّل وتقلّص ظلّها. واستبدّ أهل الأطراف بأعمالهم وظهرت دعاة العلوية في النواحي إلى أن ظهر بطبرستان أيام المستعين الحسن بن زيد الداعي العلويّ من الزيديّة، وقد مرّ ذكره. وكان على خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وقد ولّى على طبرستان عمّه سليمان بن عبد الله بن طاهر فكان محمد بن أوس ينوب عنه مستبدا عليه فأساء السيرة، وانتقض لذلك بعض عمّال أهل الأعمال ودعوا جيرانهم الديلم إلى الانتقاض. وكان محمد بن أوس قد دخل بلادهم أيام السلم وأثخن فيها بالقتل والسبي، فلمّا استنجدهم أولئك الثوّار لحرب سليمان ونائبة محمد بن أوس نزعوا لإجابتهم واستدعوا الحسن بن زيد مكانه، وبايعوه جميعا وزحفوا به إلى آمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 فملكوها. ثم ساروا الى سارية فهزموا عليها سليمان وملكوها. ثم استولى الحسن الداعي على طبرستان وكانت له ولأخيه بعده الدولة المعروفة، كما هو معروف في أخبارهم، أقامت قريبا من أربعين سنة، ثم انقرضت بقتل محمد بن زيد. ودخل الديلم الحسن الأطروش من ولد عمر [1] بن زين العابدين وكان زيديّ المذهب فنزل فيما وراء السعيد دوى [2] إلى آمل، ولبث في الديلم ثلاث عشرة سنة وملكهم يومئذ حسّان بن وهشوذان وكان يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر ويدافع عنهم ملكهم ما استطاع، فأسلم على يديه منهم خلق كثير، وبنى لهم المساجد، وزحف بهم إلى قزوين فملكها، وسالوس من ثغور المسلمين فأطاعوه، وملك آمل ودعاهم إلى غزو طبرستان وهي في طاعة ابن سامان فأجابوه وساروا إليها سنة إحدى وثلاثمائة. وبرز إليها عاملها ابن صعلوك فهزمه الأطروش واستلحم سائر أصحابه، ولحق ابن صعلوك بالريّ، ثم إلى بغداد، واستولى الأطروش على طبرستان وأعمالها، وقد ذكرنا دولته وأخبارها في دول العلويّة، وكان استظهاره على أمره بالديلم وقوّاده في حروبه وولاته على أعماله منهم. ثم قتلته جيوش السعيد بن سامان سنة أربع وثلاثمائة، ودال الأمر بين عقبه قوّاد الديلم كما هو مذكور في أخبارهم. (الخبر عن قواد الديلم وتغلبهم على اعمال الخلفاء بفارس والعراقين) كان للديلم جماعة من القوّاد بهم استظهر الأطروش وبنوه على أمرهم منهم: سرخاب بن وهشوذان أخو حسّان، وهو معدود في ملوكهم، وكان صاحب جيش أبي الحسين بن الأطروش. ثم أخوه علي، ولّاه المقتدر على أصفهان. ثم ليلى بن النعمان من ملوكهم أيضا وكان قائدا للأطروش وولّاه بعده صهره الحسن المعروف بالداعي الصغير على جرجان. ثم ما كان بن كالي، وهو ابن عمّ سرخاب وحسّان ابني   [1] قوله من ولد عمر ... إلخ عبارة المسعودي الأطروش الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن أبي طالب انتهى. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 81: «وكان الحسن بن على الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمد بن زيد، وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 وهشوذان، وولّاه أبو الحسين بن الأطروش مدينة أستراباذ وأعمالها. ثم كان دون هؤلاء جماعة أخرى من القوّاد فمنهم من أصحاب ماكان بن كالي أسفار بن شيرويه ومرداويج بن زيار بن بادر وأخوه وشمكير ولشكري. ومن أصحاب مرداويج بنو بويه الملوك الأعاظم ببغداد والعراقين وفارس. ولما تلاشت دولة العلوية واستفحل هؤلاء القوّاد بالاستبداد على أعقابهم في طبرستان وجرجان، وكانت خراسان عند تقلّص الدولة العبّاسيّة على الأطراف قد غلب عليها الصفّار وملكها من يد بني طاهر. ثم نازعه فيها بنو سامان والداعي العلويّ فأصبحت مشاعا بينهم. ثم انفرد بها ابن سامان وكل منهم يعطي طاعة معروفة للخلفاء. ومركز ابن سامان وراء النهر وخراسان في أطراف مملكتهم. وزاد تقلّص الخلافة عمّا وراءها، فتطاول ملوك الديلم هؤلاء قوّاد الدولة العلويّة بطبرستان إلى ممالك البلاد، وتجافوا عن أعمال ابن سامان لقوّة سورته واستفحال ملكه. وساروا في الأرض يرومون الملك وانتشروا في النواحي، وتغلّب كل منهم على ما دفع إليه من البلاد. وربما تنازعوا بعضها فكانت لهم دون طبرستان وجرجان بلاد الريّ، وظفر بنو بويه منهم بملك فارس والعراقين. وحجر الخلفاء ببغداد فذهبوا بفضل القديم والحديث، وكانت لهم الدولة العظيمة التي باهى الإسلام بها سائر الأمم حسبما نذكر ذلك كله في أخبار دولتهم. (أخبار ليلى بن النعمان ومقتله) كان ليلى بن النعمان من قوّاد الديلم وكان أولاد الأطروش ينعتونه في كتابهم إليه المؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان كريما شجاعا قد ولّاه الحسن بن القاسم الداعي الصغير على جرجان بعد الأطروش سنة ثمان وثلاثمائة، فسار من جرجان إلى الدّامغان وهي في طاعة ابن سامان، وعليها مولاه قراتكين، فبرزوا إليه وقاتلوه فهزمهم وأثخن فيهم، وعاد إلى جرجان، فابتنى أهل الدامغان حصنا يمتنعون به. وسار قراتكين إلى ليلى فبرز إليه من جرجان وقاتله على عشرة فراسخ فانهزم قراتكين وأثخن في عسكره، وسار إليه فارس مولى قراتكين فأكرمه وزوّجه أخته وكثرت أجناده، وضاقت أمواله فأغراه أبو حفص القاسم بن حفص بنيسابور، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 وأمره الحسن الداعي بالمسير إليها فسار وملكها آخر ثمان وثلاثمائة وخطب بها للداعي. وأنفذ السعيد نصر بن سامان عساكره من بخارى مع قوّاده حمويه بن عليّ ومحمد ابن عبد الله البلغميّ وأبو حفص بنيسابور وأبو الحسن صعلوك وسيجور الدواني، فقاتلوا ليلى بن النعمان عن طوس وهزموه، فلحق بآمل واختفى فيها، وجاءه بقراخان وأخرجه من الاختفاء وأنفذ بالخبر إلى حمويه، فأمره بقتله وتأمين أصحابه، فقتل وحمل رأسه إلى بغداد، وذلك في ربيع سنة تسع وثلاثمائة، وبقي فارس غلام قراتكين بجرجان، وعاد قراتكين إلى جرجان فاستأمن إليه مولاه فارس فقتله قراتكين وانصرف عن جرجان. (أخبار سرخاب بن وهشوذان ومهلكه وقيام ما كان بن كالي بمكانه) كان سرخاب بن وهشوذان الديلميّ من قوّاد الأطروش وبنيه، وبايع لأبي الحسن بن الأطروش الناصر بعد مهلك أبيه بطبرستان وأستراباذ وكان صاحب جيشه، ولمّا انصرف قراتكين عن جرجان بعد مهلك ليلى بن النعمان، سار إليها أبو الحسن بن الأطروش وسرخاب فملكوها، وأنفذ السعيد نصر بن سامان سنة عشر سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لقتاله، ونزل على فرسخين من جرجان وحاصرها أشهرا، ثم برزوا إليه، وأكمن لهم سيجور كمينا فتباطأ الكمين وانهزم سيجور واتبعه سرخاب. ثم خرج الكمين بعد حين وانهزم أبو الحسن إلى أستراباذ وترك جرجان، واتبعه سرخاب في الفل بمخلفه ومخلف أصحابه ورجع سيجور إلى جرجان فملكها. ثم مات سرخاب ولحق ابن الأطروش بسارية فأقام بها واستخلف ماكان بن كالي وهو ابن عمّ سرخاب، فسار محمد بن عبيد الله البلغمي وسيجور لحصاره وأقاموا عليه طويلا. ثم بذلوا له مالا على أن يخرج لهم عنها فتقوم لهم بذلك حجّة عند ابن سامان ثم يعود ففعل ذلك، وخرج إلى سارية ثم نزل إلى الشمانية عن أستراباذ، وولّوا عليها بقراخان فعاد إليها ما كان وملكها ولحق بقراخان بأصحابه في نيسابور . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 (بداية أسفار بن شيرويه وتغلبه على جرجان ثم طبرستان) كان أسفار هذا من الديلم من أصحاب ما كان بن كالي، وكان سيّئ الخلق صعب العشرة وأخرجه ما كان من عسكره فاتصل ببكر بن محمد بن أليسع في نيسابور وهو عامل عليها من قبل ابن سامان فأكرمه واختصه في العساكر سنة خمس عشرة وثلاثمائة لفتح جرجان وكان ما كان بن كالي يومئذ بطبرستان، وولّى على جرجان أبا الحسن بن كالي، واستراب بأبي علي بن الأطروش فحبسه بجرجان فجعله عنده في البيت، وقام ليلة إليه ليقتله فأظفر الله العلويّ به وقتله، وتسرّب من الدار وأرسل من الغد إلى جماعة من القوّاد فجاءوا إليه وبايعوه وألبسوه القلنسوة، وولّى على جيشه علي بن خرشية [1] وكاتبوا أسفار بن شيرويه بذلك وهو في طريقه إليهم، واستدعوه فاستأذن بكر بن محمد وسار إليهم، وسار على ابن خرشية في القيام بأمر جرجان بدعوة العلويّ الّذي معهم وضبط ناحيتها. وسار إليهم ما كان بن كالي في العساكر من طبرستان وقاتلوه فهزموه واتبعوه إلى طبرستان فملكوها من يده وقاموا بها. ثم هلك أبو علي الأطروش وعلي بن خرشية صاحب الجيش وانفرد أسفار بطبرستان وسار بكر بن محمد بن أليسع إلى جرجان فملكها وأقام فيها دعوة نصر بن سامان. ثم رجع ماكان إلى طبرستان وبها أسفار فحاربه وغلبه، وملك طبرستان من يده ولحق أسفار بجرجان فأقام بها عند بكر بن أليسع إلى أن توفي بكر، فولّاه السعيد على جرجان سنة خمس عشرة وثلاثمائة ثم ملك نصر بن سامان الري بولاية المقتدر وولّى عليها محمد بن عليّ بن صعلوك فطرقه المرض في شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة وكاتب الحسن الداعي أسفار ملك جرجان بولاية نصر بن سامان، فاستدعى مرداويج بن زيار من ملوك الجبل وجعله أمير جيشه وسار إلى طبرستان فملكها.   [1] على بن خرشيد: ابن الأثير ج 8 ص 176. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 (استيلاء أسفار على الري واستفحال أمره) لما استولى أسفار على طبرستان ومرداويج معه، وكان يومئذ على الريّ وملكها من يد صعلوك كما ذكرناه. واستولى على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ ومعه الحسن بن القاسم الداعي الصغير [1] وهو قائم بدعوته. فلما خالفه أسفار إلى طبرستان وملكها واستضافها إلى جرجان سار إليه ما كان والداعي والتقوا بسارية واقتتلوا، وانهزم ما كان وقتل الداعي، وكانت هزيمته بتخاذل الديلم عنه فإنّ الحسن كان يشتدّ عليهم في النهي عن المنكر فنكروه، واستقدموا خال مرداويج من الجبل واسمه هزرسندان [2] وكان مع أحمد الطويل بالدّامغان، فمكروا بالداعي واستقدامه للاستظهار به، وهم يضمرون تقديمه عوض ما كان، ونصّب أبي الحسن بن الأطروش عوض الحسن الداعي، ودسّ إليه بذلك أحمد الطويل صاحب الدّامغان بعد موت صعلوك، فحذّرهم حتى إذا قدم هزرسندان أدخله مع قوّاد الديلم إلى قصره بجرجان. ثم قبض عليهم وقتلهم جميعا، وأمر أصحابه بنهب أموالهم، فامتعض لذلك سائر الديلم وأقاموا على مضيض حتى إذا كان يوم لقائه أسفار خذلوه فقتل. وفرّ ما كان واستولى أسفار على ما كان لهم من الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ واستضافها إلى طبرستان وجرجان، وأقام فيها دعوة السعيد بن سامان. ونزل سارية واستعمل على الريّ هارون بن بهرام صاحب جناح، وكان يخطب فيها لأبي جعفر العلويّ، فاستدعاه إليه وزوجه من آمل. وجاء أبو جعفر لوليمته مع جماعة من العلويّين فكبسهم أسفار وبعث بهم إلى بخارى فحبسهم بها إلى أن خلّصوا مع يحيى أخي السعيد، وكانوا في فتية حسبما ذكرناه. ولما فرغ أسفار من الريّ تطاول إلى قلعة ألموت ليحصّن بها عياله وذخيرته، وكانت لسياه جشم بن مالك الديلميّ ومعناه الأسود العين، فاستقدمه أسفار وولّاه قزوين، وسأله في ذلك فأجابه فنقل عياله إليها   [1] العبارة مشوشة والضمائر مبهمة وفي الكامل ج 8 ص 189: «استيلاء أسفار بن شيرويه الديلميّ على طبرستان ومعه مرداويج، فلما استولوا عليها كان الحسن بن القاسم بالريّ، واستولى عليها، وأخرج منها أصحاب السعيد نصر بن أحمد واستولى على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ وكان معه ماكان بن كالي الديلميّ، فسار نحو طبرستان، والتقوا هم واسفار عند سارية ... » . [2] هروسندان: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 وسرّب الرجال إليهم لخدمتهم حتى كملوا مائة. ثم استدعاه فقبض عليه، وثار أولئك بالقلعة فملكوها، وكان في طريقه إلى الريّ استأمن إليه صاحب جبلي نهاوند وقم ابن أمير كان فملكها، ومرّ بسمنان فامتنع منه صاحبها محمد بن جعفر، وبعث إليه من الريّ بعض أصحابه فاستأمن إليه وخدعه حتى قتله وتدلى من ظهر القلعة. ثم استفحل أمر أسفار وانتقض على السعيد بن سامان، وأراد أن يتتوّج ويجلس على سرير الذهب، واعتزم على حرب ابن سامان والخليفة، فبعث المقتدر العساكر إلى قزوين مع هارون بن غريب الحال فقاتله أسفار وهزمه. ثم سار ابن سامان إلى نيسابور لحربه، فأشار على أسفار وزيره مطرّف بن محمد الجرجاني بمسالمته وطاعته، وبذل الأموال له فقبل إشارته. وبعث بذلك إلى ابن سامان وتلطّف أصحابه في رجوعه إلى ذلك فرجع وشرط عليه الخطبة والطاعة فقبل، وانتظم الحال بينهما ورجع إلى السطوة بأهل الريّ. ولما كانوا عابوا عليه عسكر القتال ففرض عليهم الأموال وعسف بهم، وخصّ أهل قزوين بالنهب لمّا تولّوا من ذلك، وسلّط عليهم الديلم فضاقت بهم الأرض. (مقتل اسفار وملك مرداويج) كان مرداويج بن زيار من قوّاد أسفار وكان قد سئم عسفه وطغيانه كما سئمه الناس، وبعثه أسفار إلى صاحب سميران الطر الّذي ملك أذربيجان بعد ذلك يدعوه إلى طاعته، ففاوضه في أمر أسفار وسوء سيرته في الناس، واتفقا على الوثوب عليه به فأجابوه وفيهم مطرّف بن محمد وزيره فسار هو وسلّار إليه، وبلغه الخبر فثار به الجند فهرب إلى الريّ، وكتب إلى ماكان بن كالي بطبرستان يستألفه على أسفار فسار إليه ما كان فهرب أسفار من بيهق إلى بست، ثم دخل مفازة الريّ قاصدا قلعة ألموت التي حصّن بها أهله وذخيرته. وتخلّف عنه بعض أصحابه في المفازة، وجاء إلى مرداويج يخبره، فسار إليه وتقدّم بين يديه بعض القوّاد فلقي أسفار وساءله عن قوّاده، فأخبره أنّ مرداويج قتلهم فسرّ بذلك. ثم حمله القائد إلى مرداويج فأراد أن يحبسه بالريّ فحذّره بعض أصحابه غائلته، فأمر بقتله ورجع إلى الريّ. ولما قتل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 أسفار تنقّل مرداويج في البلاد يملكها، فملك قزوين، ثم الريّ، ثم همذان، ثم كنكور، ثم الدّينور، ثم دجرد [1] ، ثم قم، ثم قاشان، ثم أصفهان، ثم جرباد [2] . واستفحل ملكه وعتا وتكبّر، وجلس على سرير الذهب، وأجلس أكابر قوّاده على سرير الفضّة، وتقدّم لعسكره بالوقوف على البعد منه، ونودي بالخطّاب بينهم وبين حاجبه. (استيلاء مرداويج على طبرستان وجرجان) قد ذكرنا أنّ الألفة الواقعة بين مرداويج وما كان وتظاهرهما على أسفار حتى قتل وثبت مرداويج في الملك، واستفحل أمره فتطاول إلى ملك طبرستان وجرجان. وسار إليهما سنة ست عشرة وثلاثمائة فانهزم ما كان أمامه واستولى مرداويج على طبرستان، وولّى عليها أسفهسلان، وأمّر على عسكره أبا القاسم [3] ، وكان حازما شجاعا. ثم سار إلى جرجان فهرب عامل ما كان عنها وملكها مرداويج، وولّى عليها صهره أبا القاسم المذكور خليفة عنه، ورجع إلى أصفهان ولحق أبو القاسم وهزمه، فرجع السائر إلى الديلم ولحق ما كان بنيسابور، واستمدّ أبا علي بن المظفّر صاحب جيوش ابن سامان، فسار معه في عساكره إلى جرجان فهزمهما أبو القاسم ورجعا إلى نيسابور. ثم سار ما كان إلى الدّامغان فدفعه عنها أبو القاسم فعاد إلى خراسان. (استيلاء مرداويج على همذان والجبل وحروبه مع عساكر المقتدر) لما ملك مرداويج بلاد الريّ أقبلت الديلم إليه، فأفاض فيهم العطاء وعظمت عساكره، فلم تكفه جباية أعماله، وامتدّت عينه إلى الأعمال التي تجاوره، فبعث إلى   [1] هي بروجرد. [2] جرباذقان: ابن الأثير ج 8 ص 196. [3] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 197: «واستولى على طبرستان ورتّب فيها بلقاسم بن بانجين وهو أسفهسلار عسكره، وكان حازما، شجاعا، جيّد الرأي» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 همذان سنة تسع عشرة جيشا كثيفا مع ابن أخته، وبها محمد بن خلف وعسكر المقتدر، فاقتتلوا وأعان على همذان عسكر الخليفة فظفروا بعسكر مرداويج، وقتلوا ابن أخته، فسار إليهم مرداويج من الريّ وهرب عسكر الخليفة من همذان ودخلها عنوة، فأثخن فيهم واستلحمهم وسباهم، ثم أمّنهم. وزحفت إليه عساكر المقتدر مع هارون بن غريب الحال فهزمهم بنواحي همذان، وملك بلاد الجبل وما وراء همذان، وبعث قائدا من أصحابه إلى الدينور ففتحها عنوة، وبلغت عساكره نحو حلوان، وامتلأت أيديهم من الذهب والسبي ورجعوا. (خبر لشكري في أصفهان) كان لشكري من الديلم ومن أصحاب أسفار، واستأمن بعد قتله إلى المقتدر، وصار في جند هارون بن غريب الحال. ولما انهزم هارون أمام مرداويج سنة تسع عشرة وثلاثمائة، أقام في قرقلنين [1] ينتظر مدد المقتدر، وبعث لشكري هذا إلى نهاوند يجيئه بمال منها، فتغلّب عليها وجمع بها جندا، ثم مضى إلى أصفهان في منتصف السنة وبها أحمد بن كيغلغ فحاربه وهزمه، وملك أصفهان، ودخل إليها عسكره، وأقام هو بظاهرها، فرأى لشكري فقصده يظنّه من بعض جنده أي أحمد، فلما تراءى دافع أحمد بن كيغلغ عن نفسه فقتل وهرب أصحابه ورجع ابن كيغلغ إلى أصفهان [2]   [1] قرميسين: ابن الأثير ج 8 ص 228. [2] العبارة مشوشة وغير واضحة، فقد سبق ان لشكري احتل أصفهان وأن أحمد هزم، ثم يعود أحمد الى أصفهان! وبمقتضى ذلك ينبغي ان تكون قتل عائدة الى لشكري وليس الى أحمد بن كيغلغ. وحسب مقتضى السياق ينبغي ان يكون العكس تماما. والواضح أن أكثر من عبارة سقطت أثناء النسخ مما سبب اضطراب العبارة والمعنى بشكل عام. وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 228 «ولما انهزم أحمد نجا الى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارسا، وركب لشكري يطوف بسور أصبهان من ظاهره، فنظر إلى أحمد في جماعته فسأل عنه فقيل: لا شك أنه من أصحاب أحمد بن كيغلغ، فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم، وكانوا عدة يسيرة، فلما قرب منهم تعارفوا فاقتتلوا فقتل لشكري، قتله أحمد بن كيغلغ، ضربه بالسيف على رأسه فقدّ المغفر والخوذة، ونزل السيف حتى خالط دماغه فسقط ميتا. وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين. فلما قتل لشكري انهزم من معه فدخلوا أصبهان واعلموا أصحابهم فهربوا على وجوههم وتركوا اثقالهم وأكثر رحالهم، ودخل أحمد الى أصبهان» . ابن خلدون م 36 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 (استيلاء مرداويج على أصفهان) ثم بعث مرداويج [1] عسكرا آخر إلى أصفهان سنة تسع عشرة فملكوها وجدّدوا له مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف فنزلها وعسكره يومئذ أربعون أو خمسون الفا، ثم بعث عسكرا إلى الأهواز وخوزستان فملكوها وجبوا أعمالها، وبعث إلى المقتدر وضمن هذه البلاد بمائتي ألف دينار في كل سنة فقرّرت عليه، وأقطعه المقتدر همذان وماه الكوفة. (قدوم وشمكير على أخيه مرداويج) وفي سنة ستّ عشرة وثلاثمائة بعث مرداويج رسوله من الجند ليأتيه بأخيه وشمكير، فبعث إليه وأبلغه رسالة أخيه وأعلمه بمقامه في الملك، فاستبعد ذلك، ثم استغربه ونكر على أخيه مشايعته للمسودة، لأن الديلم والجيل كانوا شيعة للعلويّة بطبرستان، فلم يزل الرسول به حتى سار به إلى أخيه، فخرج به إلى قزوين وألبسه السواد بعد مراوضة. وقدم على أخيه بدويا حافيا مستوحشا فلم يكن إلا أن رهف الملك أعطافه فأصبح أرقّ الناس حاشية وأكثر الناس معرفة بالسياسة. (خبر مرداويج مع ابن سامان على جرجان) كان أبو بكر المظفّر صاحب جيوش ابن سامان بخراسان قد غلب على جرجان وانتزعها من ملكه مرداويج، فلما فرغ مرداويج من أمر خوزستان والأهواز رجع إلى الري وسار منها إلى جرجان، فخرج ابن المظفّر عن جرجان إلى نيسابور وبها يومئذ   [1] قوله مرداويج هو بالحاء المهملة في النسخ التي بين أيدينا. وفي تاريخ ابن الوردي مرداويج بفتح الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملتين ثم ألف وواو محالة وياء مثناة تحت وجيم فارسية معناها معلّق الرجال انتهى- وفي المسعودي أنه يقال بالزاي أيضا بدل الراء ولكنه في نسخة بالحاء المهملة انتهى. مصححه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 السعيد نصر بن سامان، فسار لمدافعة مرداويج عن جرجان، وكاتب محمد بن عبد الله البلغمي من قوّاد ابن سامان مطرّف بن محمد وزير مرداويج واستماله. وشعر بذلك فقتل وزيره وبعث إليه البلغمي يعذله في قصد جرجان، ويطوّق ذلك بالوزير مطرّف، ويذكّره حقوق السعيد بن سامان قبله وقصور قدرته عنه، ويشير عليه بالنزول له عن جرجان وتقرير المال عليه بالريّ، فقبل مرداويج إشارته وعاد عن جرجان وانتظم الحال بينهما. (بداية أمر بني بويه) وكانوا إخوة ثلاثة أكبرهم عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة الحسن، ومعزّ الدولة أبو الحسن أحمد. لقّبهم بهذه الألقاب الخلفاء عند ما ملكوا الأعمال، وقلّدوهم إيّاها على ما نذكر بعد. وهم الذين تولّوا حجر الخلفاء بعد ذلك ببغداد كما يأتي. وأبوهم أبو شجاع بويه بن قناخس وللناس في نسبهم خلاف، فأبو نصر بن ماكولا ينسبهم إلى كوهي بن شيرزيك الأصغر ابن شير كوه بن شيرزيك الأكبر ابن سران شاه بن سيرقند بن سيسان شاه بن سير بن فيروز بن شروزيل بن سنساد بن هراهم جور، وبقيّة النسب مذكور في ملوك الفرس. وابن مسكويه قال: يزعمون أنهم من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس. والحق أنّ هذا النسب مصنوع تقرّب إليهم به من لا يعرف طبائع الأنساب في الوجود، ولو كان نسبهم ذا خلل في الديلم لم تكن لهم تلك الرئاسة عليهم، وإن كانت الأنساب قد تتغيّر وتخفى وتنتقل من شعب إلى شعب ومن قوم إلى قوم فإنما هو بطول الأعصار وتناقل الأجيال واندراس الأزمان والأحقاب. وأمّا هؤلاء فلم يكن بينهم وبين يزدجرد وانقطاع الملك من الفرس إلا ثلاثمائة سنة، فيها سبعة أجيال أو ثمانية أجيال ميّزت فيها أنسابهم وأحصيت أعقابهم. فكيف يدرك مثل هذه الأنساب الخفاء في مثل هذه الاعصار. وإن قلنا كان نسبهم إلى الفرس ظاهرا منع ذلك من رياستهم على الديلم فلا شك في هذه التقادير في ضعة هذا النسب والله أعلم. وأمّا بدايتهم فإنّهم كانوا من أوسط الديلم نسبا وحالا. وفي أخبارهم أنّ أباهم أبا شجاع كان فقيرا، وأنه رأى في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 منامه أنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة فاستضاءت الدنيا بها، فاستطالت وارتفعت الى السماء. ثم افترقت ثلاث شعب ومن كل شعب عدّة شعب فاستضاءت الدنيا بها والناس خاضعون لتلك النيران. وان عابرا عبّر له الرؤيا بأنه يكون له ثلاثة أولاد يملكون الأرض، ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت النار، ويولد لهم ملوك بقدر الشعب. وأنّ أبا شجاع استبعد ذلك واستنكره لما كانوا عليه من توسّط الحال في المعيشة، فرجع المعبر إلى السؤال عن وقت مواليدهم فأخبروه بها، وكان منّجما فعدل طوالعهم وقضى لهم جميعا بالملك فوعدوه وانصرف. ولما خرج قوّاد الديلم لملك البلاد وانتشروا في الأعمال مثل ليلى وما كان وأسفار ومرداويج خرج مع كل واحد منهم جموع من الديلم رءوس وأتباع، وخرج بنو أبي شجاع هؤلاء في جملة قوّاد ما كان، فلمّا اضطرب أمره وغلبه مرداويج عن طبرستان وجرجان مرّة بعد مرّة لحق آخرا بنيسابور مهزوما فاعتزم بنو بويه على فراقه واستأذنوه في ذلك، وقالوا إنما نفارقك تخفيفا عليك فإذا صلح أمرك عدنا إليك. وساروا إلى مرداويج، وتبعتهم جماعة من قوّاد ما كان فقبلهم مرداويج. وقلّد كل واحد منهم ناحية من نواحي الجبل. وقلّد علي بن بويه كرمس وكتب لهم العهود بذلك. وساروا إلى الريّ وبها يومئذ أخوه وشمكير ومعه وزيره الحسين بن محمد العميد والد أبي الفضل. ثم بدا لمرداويج في ولاية هؤلاء القوّاد المستأمنة فكتب إلى أخيه وشمكير ووزيره العميد بردّهم عن تلك الأعمال. وكان عليّ بن بويه قد أسلف عند العميد يدا في بغلة فارهة عرضها للبيع، واستامها العميد فوهبها له فرعى له العميد هذه الوسيلة. فلمّا قرأ كتاب مرداويج دسّ إلى ابن بويه بأن يغذّ السير إلى عمله فسار من حينه. وغدا وشمكير على بقيّة القوّاد، فاستعاد العهود من أيديهم، وأمر ابن بويه فأشار عليه أصحابه بترك ذلك لما فيه من الفتنة فتركه. (ولاية عماد الدولة بن بويه على كرج وأصفهان) ولما وصل عماد الدولة إلى كرج ضبط أمورها وأحسن السياسة في أهلها وأعمالها، وقتل جماعة من الخرّمية كانوا فيها وفتح قلاعهم، وأصاب فيها ذخائر كثيرة فأنفقها في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 جنده فشاع ذكره وحمدت سيرته. وكتب أهل الناحية إلى مرداويج بالنبإ فغصّ. وجاء من طبرستان إلى الريّ وأطلق مالا لجماعة من قوّاده على كرج فاستمالهم عماد الدولة وأحسن إليهم، فأقاموا عنده. واستراب مرداويج فكتب إلى عماد الدولة في استدعائهم، فدافعه وحذّرهم منه فحذروا. ثم استأمن إليه سيراذ [1] من أعيان قوّاد مرداويج، فكثف به جمعه وسار إلى أصفهان وبها المظفّر بن ياقوت من قبل القاهر، في عشرة آلاف مقاتل، وعلى خراجها ابو علي بن رستم، فاستاذنهما في الانحياز إليهما، والدخول في طاعة الخليفة، فأعرضا عنه، ومات خلال ذلك ابن رستم وبرز ابن ياقوت من أصفهان لمدافعته، واستأمن إليه من كان مع ابن ياقوت من الجيل والديلم، ثم لقيه عماد الدولة في تسعمائة فهزمه وملك أصفهان. (استيلاء ابن بويه على أرجان وأخواتها ثم على شيراز وبلاد فارس) ولما بلغ خبر أصفهان إلى مرداويج اضطرب، وكتب إلى عماد الدولة بن بويه يعاتبه ويستميله، ويطلب منه إظهار طاعته، ويمدّه بالعساكر في البلاد والأعمال، ويخطب له فيها. وجهّز له أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبسه وهو مطمئن إلى تلك الرسالة، وشعر ابن بويه بالمكيدة فرحل عن أصفهان بعد أن جباها شهرين، وسار إلى أرّجان وبها أبو بكر بن ياقوت من أصفهان واليا عليها، ففصل عنها. ولما ملك ابن بويه أرّجان كاتبه أهل شيراز يستدعونه إليهم، وعليهم يومئذ ياقوت عامل الخليفة، وثقلت وطأته عليهم وكثر ظلمه، فاستدعوا ابن بويه وخام عن المسير إليهم، فأعادوا إليه الكتاب بالحثّ على ذلك، وأنّ مرداويج طلب الصلح من ياقوت فعاجل الأمر قبل أن يجتمعا، فسار إلى النوبندجان في ربيع سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وسبقته إليها مقدّمة ياقوت في ألفين من شجعان قومه. فلما وافاهم ابن بويه انهزموا إلى كرمان وجاءهم ياقوت هنالك في جميع أصحابه. وأقام عماد الدولة بالنّوبندجان، وبعث أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس،   [1] شيرزاد: ابن الأثير ج 8 ص 269. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 فلقي هنالك عسكرا لياقوت فهزمهم وجبى تلك الأعمال ورجع إلى أخيه بالأموال. ثم وقعت المراسلة بين مرداويج وياقوت في الصلح وسار وشمكير إليه عن أخيه فخشيهما عماد الدولة وسار من نوبندجان إلى إصطخر، ثم إلى البيضاء وياقوت في اتباعه. وسبقه ياقوت إلى قنطرة على طريق كرمان فصدّه عن عبوره، واضطرّه للحرب، فتحاربوا واستأمن جماعة من أصحاب ابن بويه إلى ياقوت فقتلهم، فخشيه الباقون واستماتوا. وقدّم ياقوت أمام عسكره رجاله بقوار النفط، فلما أشعلوها وقذفت أعادتها الريح عليهم فعلقت بهم، فاضطربوا، وخالطهم أصحاب ابن بويه في موقفهم وكانت الدبرة على ياقوت. ثم صعد إلى ربوة ونادى في أصحابه بالرجوع، فاجتمع إليه نحو اربعة آلاف فارس، وأراد الحملة عليهم لاشتغالهم بالنهب ففطنوا له، وتركوا النهب وقصدوه فانهزم واتبعوهم فأثخنوا فيهم. وكان معزّ الدولة أحمد بن بويه من أشدّ الناس بلاء في هذه الحرب، ابن تسع عشرة سنة لم يطرّ شاربه. ثم رجعوا إلى السواد فنهبوه وأسروا جماعة منهم، فأطلقهم ابن بويه وخيّرهم، فاختاروا المقام عنده فأحسن إليهم. ثم سار إلى شيراز فأمّنها ونادى بالمنع من الظلم، واستولى على سائر البلاد وعرفوه بذخائر في دار الإمارة وغيرها من ودائع ياقوت وذخائر بني الصفار. فنادى في الجند بالعطاء وأزاح عللهم، وامتلأت خزائنه، وكتب إلى الراضي وقد أفضت إليه الخلافة، وإلى وزيره أبي علي بن مقلة تقرير البلاد عليه بألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك، وبعثوا إليه بالخلع واللواء، وكان محمد بن ياقوت قد فارق أصفهان عند خلع القاهر وولاية الراضي، وبقيت عشرين يوما دون أمير، فجاء إليها وشمكير وملكها، فلما وصل الخبر إلى مرداويج باستيلاء ابن بويه على فارس سار إلى أصفهان للتدبير عليه، وبعث أخاه وشمكير إلى الريّ. (استيلاء ما كان بن كالي على الريّ) قد ذكرنا في دولة بني سامان أنّ أبا علي محمد بن الياس كان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بكرمان منتقضا على السعيد، فبعث إليه في هذه السنة جيشا كثيفا فاستولى على كرمان، وأقام فيها الدعوة لابن سامان، وكان أصل محمد بن الياس من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 أصحاب السعيد فسخطه وحبسه ثم أطلقه بشفاعة البلغميّ. وبعث مع صاحب خراسان محمد بن المظفّر إلى جرجان حتى إذا خرج أخوه السعيد من محبسهم، وبايعوا ليحيى منهم، كان محمد بن الياس معهم حتى تلاشى أمرهم، ففارقه ابن الياس من نيسابور إلى كرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية فأزاله عنها ماكان ولحق بالدّينور وأقام ماكان واليا بكرمان بدعوة بني سامان. (مقتل مرداويج وملك أخيه وشمكير من بعده) لما استفحل أمر مرداويج كما قلنا عتا وتجبّر وتتوج بتاج مرصّع على هيئة تاج كسرى، وجلس على كرسي الذهب وأجلس أكابر قوّاده على كراسي الفضّة، واعتزم على قصد العراق، وبنى المدائن وقصور كسرى وأن يدعى بشاه. وكان له جند من الأتراك، كان كثير الإساءة إليهم، ويسمّيهم الشياطين والمردة فثقلت وطأته على الناس، وخرج ليلة الميلاد من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، إلى جبال أصفهان وكانوا يسمونها ليلة الوقود لما يضرم فيها من النيران. فأمر بجمع الحطب على الجبل من أوّله إلى آخره أمثال الجبال والتلال، وجمع ألفي طائر من الغربان والحدءات، وجعل النفط في أرجلها ليضرم الجبل نارا حتى يضيء الليل. واستكثر من أمثال هذا اللعب، ثم عمل سماطا للأكل بين يديه فيه مائة فرس ومائتا بقرة وثلاثة آلاف كبش وعشرة آلاف من الدجاج وأنواع الطير، وما لا يحصى من أنواع الحلوى، وهيّأ ذلك كله ليأكل الناس، ثم يقوموا إلى مجلس الشرب والندمان فتشعل النيران. ثم ركب آخر النهار ليطوف على ذلك كلّه بنفسه، فاحتقره وسخط من تولّى ترتيبه، ودخل خيمته مغضبا ونام، فأرجف القوّاد بموته فدخل إليه وزيره العميد وأيقظه، وعرّفه بما الناس فيه، فخرج وجلس على السماط وتناول لقمتين ثم ذهب، وعاد إلى مكانه، فقام في معسكره بظاهر أصفهان ثلاثا لا يظهر للناس. ثم قام في اليوم الرابع ليعود إلى قصره بأصفهان فاجتمعت العساكر ببابه، وكثر صهيل الخيل ومراحها فاستيقظ لكثرة الضجيج، فازداد غضبه وسأل عن أصحاب الدواب، فقيل إنها للأتراك نزلوا للخدمة وتركوها بين يدي الغلمان، فأمر أن تحل عنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 السروج، وتجعل على ظهور الأتراك ويقودونهم إلى اصطبلات الخيل، ومن امتنع من ذلك ضرب، فأمسكوا ذلك على أقبح الهيئات، واصطنعوا [1] ذلك عليه، واتفقوا على الفتك به في الحمّام. وكان كورتكين يحرسه في خلواته وحمّامه، فسخطه ذلك اليوم وطرده، فلم يتقدّم إلى الحرس لمراعاته وداخلوا الخادم الّذي يتولى خدمته في الحمام في أن يفقده سلاحه، وكان يحمل خنجرا فكسر حديد الخنجر وترك النصاب لمرداويج، فلم يجد له حدّا فأغلق باب الحمام ودعمه من ورائه بسرير الخشب الّذي كان صاعدا عليه، فصعدوا إلى السطح وكسروا الجامات ورموه بالسهام فانحجر في زوايا الحمّام وكسروا الباب عليه وقتلوه. وكان الّذي تولى كبر ذلك جماعة من الأتراك، وهم توزون الّذي صار بعد ذلك أمير الأمراء ببغداد، ويارق بن بقراخان ومحمود بن نيال الترجمان [2] ويحكم [3] الّذي ولي إمارة الأمراء قبل توزون. ولما قتلوه خرجوا إلى أصحابهم فركبوا ونهبوا قصر مرداويج وهربوا. وكان الديلم والجيل بالمدينة فركبوا في أثرهم فلم يدركوا منهم إلّا من وقفت دابته فقتلوهم، وعادوا لنهب الخزائن، فوجدوا العميد قد أضرمها نارا. ثم اجتمع الديلم والجيل وبايعوا أخاه وشمكير بن زيار وهم بالريّ، وحملوا معهم جنازة مرداويج، فخرج وشمكير وأصحابه لتلقيهما على أربع فراسخ حفاة، ورجع العسكر الّذي كان بالأهواز إلى وشمكير واجتمعوا عليه، وتركوا الأهواز لياقوت فملكها، وقام وشمكير بملك أخيه مرداويج في الديلم والجيل، وأقام بالريّ، وجرجان في ملكه. وكتب السعيد بن سامان إلى محمد بن المظفر صاحب خراسان، وإلى ماكان بن كالي صاحب كرمان بالمسير إلى جرجان والريّ، فسار ابن المظفّر إلى قومس ثم إلى بسطام، وسار ماكان على المفازة إلى الدّامغان واعترضه الديلم من أصحاب وشمكير في جيش كثيف فهزموهم ولحق بنيسابور آخر ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وجعلت ولايتها لما كان بن كالي فأقام بها. وسار أبو عليّ بن الياس إلى كرمان بعد انصراف ماكان عنها فملكها وصفت له بعد حروب شديدة طويلة مع جيوش السعيد بن سامان. وكان له الظفر آخرا. وأمّا الأتراك الذين قتلوا مرداويج فافترقوا في هزيمتهم   [1] حسب مقتضى السياق ينبغي ان تكون: اضطغنوا وقد تكون محرفة أثناء النسخ. [2] ياروق وابن بغرا ومحمد بن ينال الترجمان: ابن الأثير ج 8 ص 301. [3] بجكم: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 فرقتين. فسارت فرقة إلى عماد الدولة بن بويه وهم الأقل، وفرقة إلى الجيل مع يحكم وهم الأكثر فجبوا خراج الدينور وغيره. ثم ساروا إلى النهروان وكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد فأذن لهم واستراب الحجرية بهم، فردّهم الوزير ابن مقلة إلى بلد الجيل [1] وأطلق لهم مالا فلم يرضوا به، فكاتبهم ابن رائق وهو يومئذ صاحب واسط والبصرة فلحقوا به، وقدم عليهم يحكم، فكاتب الأتراك من أصحاب مرداويج فقدم عليه منهم عدّة وافرة، واختص يحكم وتولّاه ونعته بالرائقي نسبة إليه، وأمره أن يرسمها في كتابه. (مسير معز الدولة بن بويه الى كرمان وهزيمته) لما ملك عماد الدولة بن بويه وأخوه ركن الدولة بلاد فارس والجيل، بعثا أخاهما الأصغر معز الدولة إلى كرمان خالصة له، فسار في العسكر إليها سنة أربع وعشرين وثلاثمائة واستولى على السيرجان وكان إبراهيم بن سيجور الدواني [2] قائد ابن سامان يحاصر محمد بن الياس ابن أليسع في قلعته هنالك. فلما بلغه خبر معزّ الدولة سار من كرمان إلى خراسان، وخرج محمد بن الياس من القلعة التي كان محاصرا بها إلى مدينة قمّ [3] على طرف المفازة بين كرمان وسجستان فسار إلى جيرفت وهي قصبة كرمان. وجاء رسول علي بن أبي الزنجي المعروف بعلي بن كلونة [4] أمير القفص والبلوص، كان هو وسلفه متغلّبين على تلك الناحية ويعطون طاعتهم للأمراء والخلفاء على البعد ويحملون إليهم المال. فلما جاء رسوله بالمال امتنع معزّ الدولة من قبوله إلّا بعد دخول جيرفت، فلمّا دخل جيرفت صالحه وأخذ رهنه على الخطبة له. وكان عليّ بن كلونة قد نزل بمكان صعب المسلك على عشرة فراسخ من جيرفت، فأشار على معزّ الدولة   [1] ترد هذه الكلمة عدة مرات الجيل ومرارا الجبل وفي معجم البلدان: الجبل «اسم جامع لهذه الأعمال التي يقال لها الجبال في بلاد العجم. وهو اسم علم للبلاد المعروفة اليوم باضطلاع العجم بالعراق، ونسبة العجم له بالعراق غلط» وقد تكون محرفة عن الجيلان وهي بلاد كثيرة وراء بلاد طبرستان، ويقطن بلاد جيلان قبيلة تسمى الجيل. [2] إبراهيم بن سيمجور الدواتي: ابن الأثير ج 8 ص 324. [3] هي مدينة بمّ وليست قمّ كما في الكامل. [4] علي بن كالويه المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 بعض أصحابه أن يغدر به ويكبسه ففعل ذلك، وأتى لعليّ بن كلونة عيونه بالخبر، فأرصد جماعة لمعز الدولة بمضيق في طريقه، فلمّا مر بهم ساريا ثاروا به من جوانبه وقتلوا من أصحابه وأسروا وأصابته جراح كثيرة، وقطعت يده اليسرى من نصف الذراع، وأصابع يده اليمنى وسقط بين القتلى، وبلغ الخبر إلى جيرفت فهرب أصحابه منها، وجاء علي بن كلونة فحمله من بين القتلى إلى جيرفت وأحضر الأطباء لعلاجه، وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعتذر ويبذل الطاعة فأجابه وأصلحه، وسار محمد بن الياس من سجستان إلى بلد خبابة [1] فتوجه إليه معز الدولة وهزمه وعاد ظافرا، ومرّ بابن كلونة فقاتله وهزمه وأثخن في أصحابه، وكتب إلى أخيه عماد الدولة بخبره مع ابن الياس وابن كلونة، فبعث قائدا من قوّاده واستقدمه إليه بفارس فأقام عنده بإصطخر إلى أن قدم عليهم أبو عبد الله البريدي منهزما من ابن رائق ويحكم المتغلّبين على الخلافة ببغداد، فبعث عماد الدولة أخاه معز الدولة وجعل له ملك العراق عوضا عن ملك كرمان كما يذكر بعد. (استيلاء ماكان على جرجان وانتقاضه على ابن سامان) قد ذكرنا انهزام ما كان على جرجان أيام بانجين الديلميّ ورجوعه إلى نيسابور، فأقام بها ثم بلغ الخبر بمهلك بانجين بجرجان فاستأذن ماكان محمد بن المظفّر في الخروج لاتباع بعض أصحابه هرب عنه وطالبه به عارض الجيش فأذن له، وسار إلى أسفراين [2] وبعث معه جماعة من عسكره إلى جرجان فاستولى عليها. ثم أظهر لوقته الانتقاض على ابن المظفّر وسار إليه بنيسابور، فتخاذل أصحابه وهرب عنها الى سرخس، وعاد عنها ماكان خوفا من اجتماع العساكر عليه. وذلك في رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.   [1] جنّابة: ابن الأثير ج 8 ص 327. [2] أسفرايين: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570 الخبر عن دولة بني بويه من الديلم المتغلبين على العراقين وفارس والمستبدين على الخلفاء ببغداد من خلافة المستكفي الى أن صاروا في كفالتهم وتحت حجرهم الى انقراض دولتهم وأولية ذلك ومصايره قد تقدّم لنا التعريف ببني بويه وذكر نسبهم وهم من قوّاد الديلم الذين تطاولوا للاستيلاء على أعمال الخلفاء العباسيّين، ولمّا لم يروا عنها مدافعا ولا لها حامية فتنقّلوا في نواحيها، وملك كل واحد منهم أعمالا منها. واستولى بنو بويه على أصفهان والريّ، ثم انعطفوا على بلاد فارس فملكوا أرّجان وما إليها. ثم استولوا على شيراز وأعمالها وأحاطوا بأعمال الخلافة بنواحي بغداد من شرقها وشمالها، وكانت الخلافة قد طرقها الإعلال، وغلب عليها الموالي والصنائع، وقد كان ابو بكر محمد بن رائق عاملا بواسط، واضطرب حال الراضي ببغداد فاستقدمه وقلّده إمارة الجيوش، ونعته أمير الأمراء. وكان بنو البريديّ في خوزستان والأهواز فغصّوا به، ووقعت الوحشة بينه وبينهم فبعث ابن رائق بدرا الخرشنيّ ويحكم الّذي نزع إليه أتراك مرداويج، فساروا في العسكر لقتال ابن البريديّ، واستولوا على الأهواز سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ولحق ابن البريديّ بعماد الدولة بن بويه لما ملك العراق، وسهّل عليه أمره. وذلك عند رجوع أخيه معز الدولة من كرمان وامتناعها عليه كما ذكرناه فبعث معه العساكر. (استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز) لما لحق أبو عبد الله البريدي بعماد الدولة ناجيا من الأهواز، مستنجدا له، بعث أخاه معزّ الدولة في العساكر بعد أن أخذ منه ابنيه أبا الحسن محمدا وأبا جعفر الفياض رهنا. وسار معزّ الدولة سنة ست وعشرين وثلاثمائة فانتهى إلى أرّجان ويحكم جاء للقائهم، وانهزم أمامهم إلى الأهواز فأقام بها، وأنزل بها بعض عسكره في عسكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 571 مكرم، فقاتلوا معزّ الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انهزموا الى تستر، فرحل معزّ الدولة إلى عسكر مكرم، وأنفذ ابن البريدي خليفته إلى الأهواز. ثم بعث إلى معزّ الدولة بأن ينتقل الى السوس، ويبعد عنه فيؤمن له الأهواز فعزله وزيره أبو جعفر الصيمريّ وغيره من أصحابه، وأروه أنّ البريديّ يخادعه، فامتنع معزّ الدولة من ذلك، وبلغ اختلافهم إلى يحكم، فبعث عسكرا من قبله فاستولى على الناس وجنّد نيسابور وبقية الأهواز بيد ابن البريدي وعسكر مكرم بيد معز الدولة. وضاق حال جنده وتحدّثوا في الرجوع إلى فارس فواعدهم لشهر، وكتب إلى أخيه عماد الدولة بالخبر، فبعث إليه مددا من العسكر، فعادوا واستولوا على الأهواز. وسار يحكم من واسط فاستولى على بغداد وقلّده الراضي إمارة الأمراء، وهرب ابن رائق فاختفى ببغداد. انتزاع وشمكير أصفهان من يد ركن الدولة ومسيره الى واسط ثم استرجاعه أصفهان قد ذكرنا أن وشمكير المستولي بعد أخيه مرداويج على الريّ، كان عماد الدولة استولى على أصفهان ودفعها إلى أخيه ركن الدولة فبعث إليها وشمكير سنة سبع وعشرين وثلاثمائة جيشا كثيفا من الريّ فملكوها من يده وخطبوا فيها لوشمكير. ثم سار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها، ورجع فلحق ركن الدولة بإصطخر، وجاءه لك رسول أخيه معز الدولة من الأهواز بأنّ ابن البريدي أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدها من الديلم، وأنّ الوزير أبا جعفر الصيمري كان على خراجها محتصرا بقلعة السوس، فسار ركن الدولة إلى السوس وهرب عساكر ابن البريدي بين يديه. ثم سار إلى واسط ليستولي عليها لأنه قد خرج عن أصفهان وليس له ملك يستقل به، فنزل بالجانب الشرقي وسار الراضي ويحكم من بغداد لحربه، فاضطرب أصحابه، واستأمن جماعة منهم لابن البريدي فخام ركن الدولة عن اللقاء، ورجع إلى الأهواز فسار إلى أصفهان، وهزم عسكر وشمكير بها وملكها. وكان هو وأخوه عماد الدولة بعثا لابن محتاج صاحب خراسان يحرّضانه على ماكان ووشمكير، واتصلت بينهم مودّة . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 572 (مسير معز الدولة الى واسط والبصرة) كان ابن البريدي بالبصرة وواسط قد صالح يحكم [1] أمير الأمراء ببغداد، وحرّضه على المسير إلى الجبل ليرجعها من يد ركن الدولة بن بويه، ويسير هو إلى الأهواز فيرتجعها من يد معز الدولة. واستمدّ يحكم فأمدّه بخمسمائة رجل، وسار إلى حلوان في انتظاره. وأقام ابن البريدي يتربّص به، وينتظر أن يبعد عن بغداد فيهجم هو عليها، وعلم يحكم بذلك فرجع إلى بغداد، ثم سار إلى واسط فانتزعها من يد ابن البريدي، وذلك لسنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وولي الخلافة المتّقي، وكان ظلّ الدولة العبّاسيّة قد تقلّص حتى قارب التلاشي والاضمحلال وتحكّم على الدولة بعد مولاه ابن رائق وابن البريدي الّذي كان يزاحمه في التغلب على الدولة، فبعث عساكره من البصرة إلى واسط، فسرّح إليه يحكم العساكر مع مولاه توزون فهزمهم، وجاء يحكم على أثره، ولقيه خبر هزيمتهم، فاستقام أمره، وطفق يتصدّق في تلك النواحي إلى أن عرض له بعض الأكراد ممن له عنده ثأر وهو منفرد عن عسكره فقتله، وافترق أصحابه فلحق جماعة من الأتراك بالشام، ومقدّمهم توزون وولّى الباقون عليهم يكسك مولى يحكم، وكان الديلم عند مقتله قد ولّوا عليهم باسوار بن ملك بن مسافر بن سلّار [2] وسلّار جدّه صاحب شميران الطرم الّذي داخل مرداويج في قتل أسفار وملك ابنه محمد بن مسافر بن سلّار أذربيجان، فكانت له ولولده بها دولة. ووقعت الفتنة بين الديلم والأتراك فقتله الأتراك، وولّى الديلم مكانه كورتكين، ولحقوا بابن البريديّ فزحف بهم إلى بغداد. ثم تنكّروا واتفقوا مع الأتراك على طرده فلحقوا بواسط، واستفحل الديلم وغلبوا الأتراك وقتل كورتكين كثيرا من الديلم، واستبدّ بإمرة الأمراء ببغداد. ثم جاء توزون من الشام بابن رائق وهزم كورتكين الديلم وقتل أكثرهم، وانفرد ابن رائق بإمرة الأمراء ببغداد سنة اثنتين وثلاثمائة. وكان ابن البريدي في هذه الفترة بعد يحكم قد استولى على واسط، فبعث   [1] هو بجكم كما مر معنا من قبل. [2] بلسواز بن مالك بن مسافر: ابن الأثير ج 8 ص 372. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 573 إليه ابن رائق واستوزره ففعل على أن يقيم بمكانه ويستخلف ابن شيرزاد ببغداد. ثم سار إليهم إلى واسط فهرب ابن رائق والمقتفي إلى الموصل، وتخلّف عنهم توزون، وعاث أصحاب ابن البريدي في بغداد، فشكا له الناس. ولما وصل المقتفي ولي ابن حمدان إمرة الأمراء بمكانه، وقصدوا بغداد فهرب، وخالفه توزون إلى المقتفي وابن حمدان وملكوا بغداد. وسار سيف الدولة أمام ابن البريديّ وخرج ناصر الدولة في اتباعه، فنزل المدائن وانكشف سيف الدولة أمام ابن البريديّ حتى انتهوا إلى أخيه ناصر الدولة بالمدائن، فأمدّه ورجع فهزم ابن البريدي وغلبه على واسط فملكها، ولحق ابن البريدي بالبصرة وأقام سيف الدولة بواسط ينتظر المدد ليسير إلى البصرة. وجاءه أبو عبد الله الكوفي بالأموال، فشغب عليه الأتراك في طلب المال وثاروا به، ومقدّمهم توزون، فهرب إلى بغداد وهم في اتباعه، وكان أخوه قد انصرف إلى بغداد، ثم إلى الموصل فلحق به. ودخل توزون بغداد وولي الأمر بها. ثم استوحش من المقتفي وتربّص مسيره إلى واسط لقتال ابن البريدي، وسار إلى الموصل سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ومعزّ الدولة بن بويه في أثناء هذا كلّه مقيم بالأهواز، مطلّ على بغداد وأعمال الخليفة يروم التغلّب عليها، وأخوه عماد الدولة بفارس، وركن الدولة بأصفهان والريّ، فلمّا سار المقتفي من الرقّة إلى توزون خلعه وسمله ونصّب المكتفي. وقد قدمنا هذه الأخبار كلها مستوعبة في أخبار الدولة العبّاسية وإنما أعددناها توطئة لاستيلاء بني بويه على بغداد واستبدادهم على الجلالقة. ثم عاد معزّ الدولة إلى واسط سنة ثلاث وثلاثين فسار توزون والمستكفي لدفاعه، ففارقها وعاد إلى الأهواز. (استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد واندراج أحكام الخلافة في سلطانه) ثم إنّ توزون في فاتح سنة أربع وثلاثين عقد الأتراك الرئاسة عليهم لابن شيرزاد، وولّاه المستكفي إمرة الأمراء في الأرزاق، فضاقت الجبايات على العمّال والكتّاب والتجّار، وامتدّت الايدي إلى أموال الرعايا، وفشا الظلم وظهرت اللصوص، وكبسوا المنازل وأخذ الناس في الجلاء عن بغداد. ثم استعمل ابن شيرزاد على واصل نيال كوشه، وعلى تكريت الفتح اليشكري فانتقضا، وسار الفتح لابن حمدان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 574 فولّاه على تكريت من قبله وبدعوته، وبعث نيال كوشه إلى معزّ الدولة وقام بدعوته. واستدعاه لملك بغداد فزحف إليها في عساكر الديلم، ولقيه ابن شيرزاد والأكراد فهزمهم، ولحقوا بالموصل وأخفي المستكفي وقدّم معز الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلّبيّ إلى بغداد فدخلها، وظهر الخليفة من الاختفاء، وحضر عند المهلّبيّ فبايع له عن معزّ الدولة أحمد بن بويه، وعن أخويه عماد الدولة وركن الدولة الحسن. وولّاهم المستكفي على أعمالهم ولقّبهم بهذه الألقاب ورسمها على سكّته. ثم جاء معزّ الدولة إلى بغداد فملكها وصرف الخليفة في حكمه، واختصّ باسم السلطان، وبعث إليه أبو القاسم البريدي صاحب البصرة فضمن واسط وأعمالها وعقد له عليها. (خلع المستكفي وبيعة المطيع وما حدث في الجباية والاقطاع) وبعد أشهر قلائل من استيلاء معزّ الدولة على بغداد نمي إليه أن المستكفي يريد الادالة منه فتنكّر له، وأجلسه في يوم مشهود للقاء وافد من أصحاب خراسان، وحضر معزّ الدولة في قومه وعشيرته، وأمر رجلين من نقباء الديلم بالفتك بالخليفة، فتقدّما ووصلاه ليقبّلا يد المستكفي، ثم جذباه عن سريره وقاداه ماشيا واعتقلاه بداره، وذلك في منتصف أربع وثلاثين وثلاثمائة فاضطرب الناس وعظم النهب، ونهبت دار الخلافة. وبايع معزّ الدولة للفضل بن المقتدر ولقبه المطيع للَّه، وأحضر المستكفي فأشهد على نفسه بالخلع، وسلّم على المطيع بالخلافة، وسلب الخليفة من معاني الأمر والنهي وصيّرت الوزارة إلى معزّ الدولة يولى فيها من يرى. وصار وزير الخليفة مقصور النظر على إقطاعه ومقتات داره، وتسلّم عمّال معز الدولة وجنده من الديلم وغيرهم أعمال العراق وأراضيه ولاية وإقطاعا حتى كان الخليفة يتناول الإقطاع بمراسم معزّ الدولة، وإنما ينفرد بالسرير والمنبر والسكّة والختم على الرسائل والصكوك، والجلوس للوفد وإجلال التحيّة والخطاب، ومع ذلك بأوضاع القائم على الدولة وترتيبه، وكان القائم منهم على الدولة تفرّد في دولة بني بويه والسلجوقيّة بلقب السلطان ولا يشاركه فيه غيره، ومعاني الملك من القدرة والأبهة والعزّ وتصريف الأمر والنهي حاصل للسلطان دون الخليفة. وكانت الخلافة حاصلة للعبّاسي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 575 المنصوب لفظا مسلوبة عنه معنى. ثم طلب الجند أرزاقهم بأكثر من العادة لتجدّد الدولة فاضطر إلى ضرب المكوس، ومدّ الأيدي إلى أموال الناس، وأقطعت جميع القرى والضياع للجند، فارتفعت أيدي العمّال وبطلت الدواوين لأنّ ماكان منها بأيدي الرؤساء لا يقدرون على النظر فيها، وماكان بأيدي الأتباع خرّب بالظلم والمصادرات والحيف في الجباية وإهمال النظر في إصلاح القناطر وتعديل المشارب، وما خرّب منها عوّض صاحبه عنه بآخر، فيخرّبه كما يخرّب الآخر. ثم إنّ معزّ الدولة أفرد جمعها من المكوس والظلامات وعجز السلطان عن ذخيرة يعدّها لنوائبه. ثم استكثر من الموالي ليعتزّ بهم على قومه، وفرض لهم الأرزاق والأقطاع فحدثت غيرة قومه من ذلك، وآل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في الدول. (مسير ابن حمدان إلى بغداد وانهزامه أمام معز الدولة) ولما بلغ استيلاء معزّ الدولة على بغداد، وخلعه المستكفي إلى ناصر الدولة بن حمدان امتعض لذلك وسار من الموصل إلى بغداد في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فقدّم معز الدولة عساكره فأوقع بها ابن حمدان بعكبرا. ثم سار معزّ الدولة ومعه المطيع إلى مدافعته ولحق به ابن شيرزاد فاستحثّه إلى بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وخالفه معزّ الدولة إلى تكريت ونهبها، وتسابقوا جميعا إلى بغداد، فنزل معزّ الدولة والمطيع بالجانب الشرقي وابن حمدان بالجانب الغربي، فقطع الميرة عن معسكر معزّ الدولة فغلت الأسعار وعزّت الأقوات. ونهب عسكره مرارا فضاق به الأمر واعتزم على العود إلى الأهواز فأمر وزيره أبا جعفر الصيمريّ بالعبور في العساكر لقتال ابن حمدان فظفر به الصيمريّ وغنم الديلم أموالهم وظهرهم. ثم أمّن معز الدولة الناس وأعاد المطيع إلى داره في محرّم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ورجع ابن حمدان إلى عكبرا، وأرسل في الصلح سرا فنكر عليه الأتراك التورونية وهمّوا بقتله، وفرّ إلى الموصل ومعه ابن شيرزاد، ثم صالحه معز الدولة كما طلب. ولما فرّ عن الأتراك التورونية أعلمهم تكين الشيرازي فقبضوا على من تخلّف من أصحابه، وساروا في اتباعه وقبض هو في طريقه على ابن شيرزاد، وتجاوز الموصل إلى نصيبين فملكها تكين، وسار في اتباعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 576 إلى السّند، فلحقه هنالك عسكر من معزّ الدولة كما طلب، وأمدّه به مع وزيره أبي جعفر الصيمريّ، وقاتل الأتراك فهزمهم، وسار إلى الموصل هو والصيمريّ فدفع ابن شيرزاد إلى الصيمريّ وحمله إلى معز الدولة، وذلك سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. (استيلاء معز الدولة على البصرة والموصل وصلحه مع ابن حمدان) وفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة انتقض أبو القاسم بن البريدي بالبصرة، فجهّز معزّ الدولة الجيش إلى واسط ولقيهم جيش ابن البريدي في الماء وعلى الظهر، فانهزموا إلى البصرة وأسروا من أعيانهم جماعة. ثم سار معزّ الدولة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى البصرة ومعه المطيع كارها من قتال أبي القاسم البريدي، وسلكوا إليها البرّية وبعث القرامطة يعزلون في ذلك معزّ الدولة، فكتب يتهدّدهم. ولما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم، وهرب هو إلى القرامطة فأجاروه وملك معزّ الدولة البصرة. ثم سار هو منها إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة، وترك المطيع وأبا جعفر الصيمري بالبصرة، وانتقض على معزّ الدولة كوكير من أكابر الديلم، فقاتله الصيمريّ وهزمه وأسره، وحبسه معز الدولة بقلعة رامهرمز. ثم لقي أخاه معزّ الدولة بأرّجان في شعبان من السنة، وسلك في تعظيمه وإجلاله من وراء الغاية. وكان عماد الدولة يأمره بالجلوس في مجلسه فلا يفعل. ثم عاد معزّ الدولة والمطيع إلى بغداد، ونودي بالمسير إلى الموصل فتردّدت الرسل من ابن حمدان في الصلح وحمل المال. ثم سار إليه سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة في شهر رمضان واستولى على الموصل، وأراد الإثخان في بلاد ابن حمدان فجاءه الخبر عن أخيه ركن الدولة بأنّ عساكر خراسان قصدت جرجان، واضطرّ إلى الصلح. واستقرّ الصلح بينهما على أن يعطي ابن حمدان عن الموصل والجزيرة والشام ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة، ويخطب لعماد الدولة ومعزّ الدولة في بلاده، وعاد إلى بغداد. ابن خلدون م 37 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 577 (استيلاء ركن الدولة على الريّ ثم طبرستان وجرجان ومسير عساكر ابن سامان اليها) قد تقدّم لنا استيلاء ركن الدولة على أصفهان من يد وشمكير حين بعث عساكره مددا لما كان بن كالي، وكان ركن الدولة وأخوه عماد الدولة بعثا إلى أبي علي بن محتاج قائد بني سامان يحرّضانه على ماكان ووشمكير، ويعدانه المظاهرة عليهما، فسار أبو علي إلى وشمكير بالريّ ولقيه ركن الدولة بنفسه. واستمدّ وشمكير ماكان فجاءه في عساكره والتقوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان. ثم سار بعساكره إلى بلد الجيل فاقتحمها واستولى على زنجان وأبهر وقزوين وقمّ وكرج وهمدان ونهاوند والدّينور إلى حدود حلوان، ورتّب فيها العمّال وجبى أموالها. ثم وقع خلاف بين وشمكير والحسن بن الفيرزان ابن عم ماكان، واستنجد الحسن بأبي علي بن محتاج فأنجده حتى وقع بينهما صلح، وعاد أبو علي إلى خراسان وصحبه الحسن بن الفيرزان، ولقيه في طريقه رسل السعيد بن سامان، وأمر أبا علي بن محتاج سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بغدر الحسن بأبي علي [1] ونهب سواده وعاد إلى جرجان فملكها وملك معها الدّامغان وسمنان، وسار وشمكير من طبرستان إلى الريّ فاستولى عليها أجمع، وكان في فلّ من العسكر لفناء رجاله في حروبه مع أبي علي بن محتاج والحسن بن الفيرزان، فتطاول حينئذ ركن الدولة إلى الاستيلاء على الريّ، وسار إلى الريّ وقاتل وشمكير فهزمه، فلحق بطبرستان واستولى ركن الدولة على الريّ. وأجمع مخالصة الحسن بن الفيرزان وزوّجه ابنته، وتمسّك بمواصلته ومودّته واستفحل بذلك ملك بني بويه وامتنع وصارت لهم أعمال الريّ والجيل وفارس والأهواز والعراق. ويحمل إليهم ضمان الموصل   [1] العبارة غير واضحة ومبهمة وفي الكامل تصويب لهذه العبارة في الجزء الثامن ص 444: «فوضع أعداء أبي عليّ جماعة من الغوغاء والعامة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوّابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور وعاد عنها إلى بخارى في رمضان، وكان مرادهم بذلك أن يقطعوا طمع أبي علي عن خراسان ليقيم بالريّ وبلاد الجبل، فاستوحش ابو عليّ لذلك، فإنه كان يعتقد أنه يحسن إليه بسبب فتح الريّ وتلك الأعمال. فلمّا عزل شقّ ذلك عليه، ووجّه أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمد إلى كور الجبال، وولّاه همذان، وجعله خليفة على من معه من العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 578 وديار بكر. ثم سار ركن الدولة بن بويه إلى بلاد وشمكير سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومعه الحسن بن الفيرزان مددا، ولقيهما وشمكير فانهزم أمامهما، ولحق بخراسان مستنجدا بابن سامان، وملك ركن الدولة طبرستان وسار منها إلى جرجان فأطاعه الحسن بن الفيرزان وولّاه ركن الدولة عليها، واستأمن إليه قوّاد وشمكير ورجع إلى أصفهان. (بداية بني شاهين ملوك البطيحة أيام بني بويه) كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة وكان يتصرّف في الجباية، وحصل منها بيده مال فصرفه وهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة. وأقام هنالك بين القصب والآجام يقتات بسمك الماء وطيره، ويأخذ الرفاق التي تمرّ به، واجتمع إليه لصوص الصيّادين فقوي وامتنع على السلطان وتمسّك بطاعة أبي القاسم بن البريدي بالبصرة فقلّده حماية الجامدة وحماية البطائح ونواحيها، فعزّ جانبه وكثر جمعه وسلاحه، واتّخذ معاقل على التلال بالبطيحة وغلب على تلك النواحي. وأهمّ معزّ الدولة أمره وبعث وزيره أبا جعفر الصيمريّ في العساكر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وحصره، وأيقن بالهلاك وما نفس عن مخنقه إلا وصول الخبر بوفاة عماد الدولة بن بويه، ومبادرة الوزير الصيمريّ إلى شيراز، فعاد عمران إلى حاله وقوي أمره كما يأتي في أخبار دولته. (وفاة عماد الدولة بن بويه وولاية عضد الدولة ابن أخيه على بلاد فارس مكانه) ثم توفي عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بمدينة شيراز كرسي مملكة فارس في منتصف سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد أن كان طلب من أخيه ركن الدولة أن ينفذ إليه ابنه عضد الدولة، فتأخر ليوليه عهده إذ لم يكن له ولد ذكر، فأنفذه إليه ركن الدولة في جماعة من أصحابه لسنة بقيت من حياته. وركب عماد الدولة للقائه ودخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 579 به إلى داره في يوم مشهود، وأجلسه على السرير وأمر الناس أن يحيّوه بتحية الملك. وكان في قوّاد عماد الدولة جماعة أكابر لا يستكينون لعماد الدولة فضلا عن عضد الدولة مكانه بفارس، واختلف عليه أصحابه، فجاء إليه ركن الدولة أبوه من الريّ بعد أن استخلف عليها علي بن كتامة، وكتب معزّ الدولة إلى وزيره الصيمريّ بأن يترك محاربة ابن شاهين ويسير إلى شيراز مددا لعضد الدولة. وأقام ركن الدولة في شيراز تسعة أشهر، وبعث إلى أخيه معزّ الدولة بهدية من الأموال والسلاح، وكان عماد الدولة هو أمير الأمراء وإنما كان معزّ الدولة نائبا عنه في كفالة الأموال وولاية أعمال العراق، فلما مات عماد الدولة وانقلبت إمرة الأمراء إلى ركن الدولة. وبقي معزّ الدولة نائبا عنه كما كان عن عماد الدولة لأنه كان أصغر منهما. (وفاة الصيمري ووزارة المهلبي) كان أبو جعفر أحمد الصيمري وزير معز الدولة قد عاد من فارس إلى أعمال الجامدة، وأقام يحاصر عمران بن شاهين إلى أن هلك منتصف تسع وثلاثين وثلاثمائة وكان يستخلف بحضرة معزّ الدولة في وزارته أبا محمد الحسن بن محمد المهلبيّ، فباشره معزّ الدولة وعرف كفايته واضطلاعه، فاستوزره مكان الصيمريّ فحسن أثره في جمع الأموال وكشف الظلامات وتقريب أهل العلم والأدب والإحسان إليهم. (مسير عساكر ابن سامان إلى الري ورجوعها) لما سار ركن الدولة إلى بلاد فارس بعث الأمير نوح بن سامان إلى منصور بن قراتكين صاحب جيوشه بخراسان أن يسير إلى الريّ، فسار إليها سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وكان بها عليّ بن كتامة خليفة ركن الدولة، ففارقها إلى أصفهان وملك منصور الري، وبث العساكر في البلاد فملكوا الجيل إلى قرميس، واستولوا على همذان، وبعث ركن الدولة من فارس إلى أخيه معزّ الدولة بإنفاذ العساكر إلى مدافعتهم، فبعث سبكتكين الحاجب في جيش كثيف من الديلم وغيرهم، فكبسهم وأسر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 580 مقدّمهم فأعادوا إلى همذان. ثم سار إليهم ففارقوها، وملكها وورد عليه ركن الدولة بهمذان، فعدل منصور بن قراتكين إلى أصفهان فملكها، وسار إليها ركن الدولة وسبكتكين في مقدّمته، وشغب عليه بعض الأتراك فأوقع بهم وتردّدوا في تلك الناحية. وكتب معزّ الدولة إلى ابن أبي الشوك الكرديّ يتبعهم فقتل منهم وأسر، ونجا بعض إلى الموصل. وترك ركن الدولة قريبا من أصفهان، وجرت بينه وبين منصور حروب، وضاقت الميرة على الفريقين إلّا أنّ الديلم كانوا أصبر على الجوع وشظف العيش من أهل خراسان لقرب عهدهم بالبداوة. ومع ذلك فهمّ ركن الدولة بالفرار لولا وزيره ابن العميد كان يثبته ويريه أنه لا يغني عنه، وأنّ الاستماتة أولى به، فصبر وشغب على منصور بن قراتكين جنده وانفضّوا جميعا إلى الريّ وتركوا مخلفهم بأصفهان، فاحتوى عليه ركن الدولة، وذلك فاتح سنة أربعين وثلاثمائة ومات منصور بن قراتكين بالريّ في ربيع الأوّل من السنة، ورجعت العساكر إلى نيسابور. (استيلاء ركن الدولة ثانيا على طبرستان وجرجان) قد كنا قدّمنا استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وأنه استخلف على جرجان الحسن بن الفيرزان. وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان، فسار معه صاحب جيوش خراسان منصور بن قراتكين، وحاصر جرجان، فصالحه الحسن بن الفيرزان بغير رضا من وشمكير لانحرافه عنه وعن الأمير نوح. ورجع إلى نيسابور وأقام وشمكير بجرجان والحسن بزوزن. ثم سار ركن الدولة سنة أربعين وثلاثمائة من الريّ إلى طبرستان وجرجان ففارقها وشمكير إلى نيسابور، واستولى ركن الدولة عليها، واستخلف بجرجان الحسن بن الفيرزان وعليّ بن كتامة، وعاد إلى الريّ فقصدهما وشمكير وانهزما منه، واستردّ البلاد من ركن الدولة، وكتب الأمير نوح يستنجده على ركن الدولة، فأمر أبا عليّ بن محتاج بالمسير معه في جيوش خراسان، فسار في ربيع سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وامتنع ركن الدولة ببعض معاقلة، وحاربه أبو عليّ بن محتاج في جيوش خراسان حتى ضجرت عساكره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 581 وأظلهم فصل الشتاء، فراسل ركن الدولة في الصلح على أن يعطيهم ركن الدولة مائتي ألف دينار في كل سنة، وعاد إلى خراسان. وكتب وشمكير إلى الأمير نوح بأنّ ابن محتاج لم ينصح في أمر ركن الدولة، وأنه ممالئ، فسخطه من أجل ذلك وعزله عن خراسان. ولما عاد ابن محتاج عن ركن الدولة سار هو إلى وشمكير فانهزم وشمكير إلى أسفراين، واستولى ركن الدولة على طبرستان. (اقامة الدعوة لبني بويه بخراسان) ولما عزل الأمير نوح أبا علي بن محتاج عن خراسان استعمل مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، فانتقض حينئذ وخطب لنفسه بنيسابور، وتحيّز عنه ابن الفيرزان مع وشمكير إلى الأمير نوح، فخام ابن محتاج عن عداوتهم، واستأذن ركن الدولة في المسير إليه. ثم سار سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فتلقّاه بأنواع الكرامات وسأل منه ابن محتاج أن يقتضي له عهد الخليفة بولاية خراسان، فبعث ركن الدولة في ذلك إلى أخيه معزّ الدولة ببغداد، وجاءه العهد والمدد، فسار إلى خراسان فخطب بها للخليفة وركن الدولة. ثم مات نوح خلال ذلك وولي ابنه عبد الملك فبعث بكر بن مالك من بخارى إلى خراسان لإخراج ابن محتاج منها، فسار إليه وهرب ابن محتاج إلى الريّ فآواه ركن الدولة وأقام عنده، واستولى بكر بن مالك على خراسان. ثم سار ركن الدولة إلى جرجان ومعه ابن محتاج فتركها [1] وملكها، ولحق وشمكير بخراسان. (مسير عساكر ابن سامان الى الري وأصفهان) ولما فرغ بكر بن مالك من أمر خراسان وأخرج منها ابن محتاج، سار منها سنة أربع وأربعين وثلاثمائة في أتباعه الى الري وأصفهان، وكان ركن الدولة غائبا بجرجان فملكها ورجع إلى الريّ في المحرّم من السنة، وكتب إلى أخيه معز الدولة يستمدّه فأمده   [1] حسب مقتضى السياق دخلها وليس تركها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 582 بالعساكر مع ابن سبكتكين، وجاء مقدّمة العساكر من خراسان إلى أصفهان من طريق المفازة وبها الأمير منصور بن بويه بن ركن الدولة، ومقدّم العساكر محمد بن ماكان فملك أصفهان وخرج في طلب ابن بويه [1] ، واتفق وصول الوزير أبي الفضل بن العميد فلقيه محمد بن ماكان فهزمه، وعاد أولاد ركن الدولة وحرمه إلى أصفهان. وراسل ركن الدولة بكر بن مالك صاحب العساكر بخراسان في الصلح على مال يحمله إليه، وتكون الريّ وبلد الجيل في ضمانه، فأجابه بكر بن مالك إلى ذلك وصالحه عليه، وكتب ركن الدولة إلى أخيه معزّ الدولة بأن يبعث إلى بكر بن مالك خلعا ولواء لولاية خراسان فبعث بها في ذي القعدة من السنة. (خروج روزبهان على معز الدولة وميل الديلم اليه) كان روزبهان ونداد خرسية [2] من كبار قوّاد الديلم، وكان معزّ الدولة قد رفعه ونوّه بذكره، فخرج سنة خمس وأربعين بالأهواز ومعه أخوه أسفار، وخرج أخو بلكا بشيراز. ولمّا خرج روزبهان زحف إليه الوزير المهلّبيّ لقتاله فنزع الكثير من أصحابه إلى روزبهان فانحاز عنه، وبعث بالخبر إلى معزّ الدولة فسار إليهم واختلف عليه الديلم ومالوا مع روزبهان وفصل معزّ الدولة من بغداد خامس شعبان من السنة قاصدا لحربه، وبلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان، فبعث ابنه أبا الرجال في العساكر للاستيلاء على بغداد، فخرج الخليفة عنها منحدرا، وأعاد معزّ الدولة سبكتكين الحاجب وغيره لمدافعة ابن حمدان عن بغداد. وسار إلى أن قارب الأهواز   [1] المعنى غير واضح والضمائر متداخلة والجمل معقدة وهذا الأسلوب كثيرا ما يلجأ إليه ابن خلدون مما يجعل القارئ امام حيرة وتتحول المعاني البسيطة الى الغاز. وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 511 «وفي هذه السنة- 344- خرج عسكر خراسان إلى الريّ، وبها ركن الدولة وكان قد قدمها من جرجان أول المحرّم، فكتب إلى أخيه معز الدولة يستمده، فأمدّه بعسكر مقدّمهم الحاجب سبكتكين، وسيّر من خراسان عسكرا آخر إلى أصبهان على طريق المفازة، وبها الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة. فلما بلغه خبرهم سار عن أصفهان بالخزائن والحرم التي لأبيه فبلغوا خان لنجان، وكان مقدّمهم العسكر الخراساني محمد بن ماكان، فوصلوا إلى أصبهان، فدخلوها، وخرج ابن ماكان منها في طلب بويه ... » . [2] روزبهان بن ونداد خرشيد الديلميّ: ابن الأثير ج 8 ص 514. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 583 والديلم في شغب عليه وعلى عزم اللحاق بروزبهان إلّا نفرا يسيرا من الديلم كانوا خالصة، فكان يعتمد عليهم وعلى الأتراك، وكان يفيض العطاء في الديلم فيمسكون عما يهمون به. ثم ناجز روزبهان الحرب سلخ رمضان فانهزم وأخذ أسيرا، وعاد إلى بغداد إلى أبي الرجال بن حمدان، وكان بعكبرا فلم يجده لأنه بلغه خبر روزبهان فأسرع العود الى الموصل ودخل معز الدولة بغداد وغرق روزبهان وكان أخوه بلكا الخارج بشيراز أزعج عنها عضد الدولة، وسار إليه أبو الفضل بن العميد وقاتله فظفر به، وعاد عضد الدولة إلى ملكه وانمحى أثر روزبهان وإخوته، وقبض معز الدولة على جماعة منهم ممن ارتاب بهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم وأقطع لهم فاعتزوا وامتدّت أيديهم. (استيلاء معز الدولة على الموصل ثم عودها) كان ناصر الدولة بن حمدان قد صالح معز الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة، ثم لم يحمل، فسار إليه معزّ الدولة منتصف سبع وأربعين وثلاثمائة ففارق الموصل إلى نصيبين، وحمل معه سائر أهل دولته من الوكلاء والكتّاب ومن يعرف وجوه المال، وأنزلهم في قلاعه كقلعة كواشي والزعفران وغيرهما. وقطع الميرة عن عسكر معزّ الدولة فضاقت عليهم الأقوات، فسار معز الدولة إلى نصيبين للميرة، وبلغه أنّ أبا الرجاء وهبة الله في عسكر سنجار، فبعث إليهم بعض عساكره وكبسوهم فهربوا، واستولى العسكر على مخلّفهم، ونزلوا في خيامهم، وكرّ عليهم أولاد ناصر الدولة وهم غارّون فأثخنوا فيهم وأقاموا بسنجار. وسار معزّ الدولة إلى نصيبين فلحق ناصر الدولة بميافارقين، واستأمن الكثير من أصحابه إلى معز الدولة فلحق بأخيه سيف الدولة بحلب، فبالغ في تكرمته وخدمته، وتوسّط في الصلح بينه وبين معزّ الدولة بثلاثة آلاف ألف فأجابه معزّ الدولة وتم ذلك بينهما. ورجع معزّ الدولة العراق في محرّم سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 584 (العهد لبختيار) وفي سنة خمس [1] وأربعين وثلاثمائة طرق معزّ الدولة مرض استكان له وخشي على نفسه، فأراد العهد لابنه بختيار، وعهد إليه بالأمر وسلّم له الأموال، وكان بين الحاجب سبكتكين والوزير المهلّبيّ منافرة فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وعهد إليه بالأمور واعتزم على العود إلى الأهواز مستوحشا هواء بغداد، فلما بلغ كلواذا اجتمع به أصحابه وسفّهوا رأيه في الانتقال من بغداد على ملكه، وأشاروا عليه بالعود إليها وأن يستطيب الهواء في بعض جوانبها المرتفعة ويبني بها دورا لسكنه ففعل، وأنفق فيها ألف ألف دينار وصادر فيها جماعة من أصحابه. (استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان) وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة سار ركن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير فحاصره بمدينة سارية وملكها، ولحق وشمكير بجرجان وترك طبرستان فملكها ركن الدولة وأصلح أمرها. ثم سار إلى جرجان فخرج عنها وشمكير واستولى عليها ركن الدولة، واستأمن إليه من عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل فازداد بهم قوة، ودخل وشمكير بلاد الجيل مسلوبا واهنا. (ظهور البدعة ببغداد) وفي هذه السنة كتب الشيعة على المساجد بأمر معزّ الدولة لعن معاوية بن أبي سفيان صريحا، ولعن من غصب فاطمة فدك، ومن منع أن يدفن الحسن عند جدّه، ومن نفى أبا ذرّ الغفاريّ ومن أخرج العبّاس من الشورى، ونسب ذلك كلّه لمعزّ الدولة لعجز الخليفة. ثم أصبح ممحوّا وأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير المهلّبيّ بأن يكتب مكانه لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يذكر أحدا باللعن إلّا معاوية رضي الله عنه.   [1] وفي الكامل ج 8 ص 510: سنة 344. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 585 (وفاة الوزير المهلبي) وفي سنة اثنتين وخمسين سار المهلبّي وزير معز الدولة إلى عمان ليفتحها، فلما ركب البحر طرقه المرض فعاد إلى بغداد، ومات في طريقه في شعبان من السنة، ودفن ببغداد. وقبض معزّ الدولة أمواله وذخائره وقبض على حواشيه وحبسهم، ونظر في الأمور بعده أبو الفضل بن العبّاس بن الحسن الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العبّاس بن نساقجر، ولم يتسمّوا باسم الوزارة. (استيلاء معز الدولة ثالثا على الموصل) كان ناصر الدولة بن حمدان قد ضمن الموصل كما تقدّم، وأجابه معزّ الدولة إلى ضمانه، فبذل له ناصر الدولة زيادة على أن يدخل معه في الضمان أبو ثعلب فضل الله الغضنفر، ويحلف لهما معزّ الدولة فأبى من ذلك، وسار إلى الموصل منتصف ثلاث وخمسين وثلاثمائة ففارقها ابن حمدان الى نصيبين وملكها معز الدولة. ثم خرج إلى طلب ابن حمدان منتصف شعبان واستخلف على الموصل بكتوزون [1] وسبكتكين العجميّ وسار ابن حمدان عن نصيبين وملكها معزّ الدولة، وخالفه ابن حمدان إلى الموصل وحارب عسكر معز الدولة فيها فهزموه، وجاء الخبر إلى معزّ الدولة، فظفر أصحابه بابن حمدان، وسار ونزل جزيرة ابن عمر، فسار في اتباعه، فوصل سادس رمضان فوجده قد جمع أولاده وعساكره إلى الموصل، فأوقع بأصحاب معز الدولة وأسر الأميرين اللذين خلفا بها، واستولى على ما خلّفوه من مال وسلاح، وحمل الجميع مع الأسرى إلى قلعة كواشى، فأعيا معزّ الدولة أمره وهو من مكان إلى مكان في اتباعه، فأجابه إلى الصلح وعقد عليه ضمان الموصل وديار ربيعة والرحبة بمال قرّره، فاستقرّ الصلح على ذلك، وأطلق ابن حمدان الأسرى، ورجع معز الدولة إلى بغداد.   [1] بكتوزون: ابن الأثير ج 8 ص 553. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 586 (استيلاء معز الدولة على عمان) قد تقدّم لنا أن عمان كانت ليوسف بن وجيه وأنه حارب بني البريديّ بالبصرة حتى قارب أخذها حتى عملوا الحيلة في إضرام النار في سفنه فولّى هاربا في محرّم سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وأنه ثار عليه مولاه في هذه السنة فغلبه على البلد وملكها من يده. ولما استوحش معزّ الدولة من القرامطة، كتب إليهم ابن وجيه صاحب عمان يطمعهم في البصرة، واستمدّهم في البرّ وسار هو في البحر سنة إحدى وأربعين، وسابقه الوزير المهلّبيّ من الأهواز إليها، وأمدّه معزّ الدولة بالعساكر والمال فاقتتلوا أياما، ثم ظفر المهلّبيّ بمراكبه وما فيها من سلاح وعدّة. ولم يزل القرامطة يثاورونها حتى غلبوا عليها سنة أربع وخمسين وثلاثمائة واستولوا عليها وهرب رافع عنها. وكان له كاتب يعرف بعليّ بن أحمد ينظر في أمور البلد، والقرامطة بمكانهم من هجر، فاتفق قاضي البلد وكان ذا مشير وعصابة على أن ينصبّوا للنظر في أمورهم أحد قوّادهم، فقدّموا لذلك ابن طغان ففتك بجميع القوّاد الذين معه، وثأر منه بعض قرابتهم فقتلوه، فاجتمع الناس على تقديم عبد الوهاب بن أحمد بن مروان من قرابة القاضي مكانه فولّوه، واستكتب عليّ بن أحمد كاتب القرامطة قبله من الجند فامتعضوا لذلك فدعاهم إلى بيعته فأجابوه وسوّاهم في العطاء مع البيض فسخط البيض ذلك [1] ، ودارت بينهم حرب سكنوا آخرها واتفقوا وأخرجوا عبد الوهاب من البلد، واستقرّ عليّ بن أحمد الكاتب أميرا فيها، ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وقدّم إليه نافع مولى ابن أخيه الّذي كان ملكها بعد مولاه، فأحسن إليه وأقام عنده حتى فرغ من أمر عمران بن شاهين، وانحدر إلى الأبلّة في   [1] المعنى غير واضح ومبتور وربما سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وتصويب هذه العبارة في الكامل ج 8 ص 567: «واستكتب عليّ بن أحمد الّذي كان مع الهجريين، فأمر عبد الوهاب كاتبه عليّا أن يعطي الجند أرزاقهم صلة، ففعل ذلك، فلما انتهى الى الزنج، وكانوا ستة آلاف رجل، ولهم بأس وشدّة، قال لهم عليّ: إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أعطي البيض من الجند كذا وكذا، وأمر لكم بنصف ذلك فاضطربوا وامتنعوا، فقال لهم: هل لكم ان تبايعوني فأعطيكم مثل سائر الأجناد؟ فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، وأعطاهم مثل البيض من الجند، فامتعض البيض من ذلك ووقع بينهم حرب، فظهر الزنج عليهم فسكنوا» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 587 رمضان من السنة، وجهّز المراكب إلى عمان مائة قطعة، وبعث فيها الجيوش بنظر أبي الفتوح محمد بن العبّاس، وتقدّم إلى عضد الدولة بفارس أن يمدّهم بالعساكر من عنده فوافاهم المدد بسيراف وساروا إلى عمان فملكوها يوم الجمعة يوم عرفة من السنة، وفتكوا فيها بالقتل، وأحرقوا لهم تسعين مركبا، وخطب لمعز الدولة وصارت من أعماله. (وفاة معز الدولة وولاية ابنه بختيار) كان معز الدولة قد سار سنة خمس وخمسين وثلاثمائة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين فطرقه المرض سنة ست وخمسين وثلاثمائة فسار إلى بغداد، وخلّف أصحابه بواسط على أن يعود إليهم فاشتدّ مرضه ببغداد، وجدّد العهد لابنه بختيار. ثم مات منتصف ربيع الآخر من السنة فقام ابنه عزّ الدولة بختيار مكانه، وكتب إلى العساكر بمصالحة عمران بن شاهين ففعلوا وعادوا. وكان فيما أوصى به معزّ الدولة ابنه بختيار طاعة عمّه ركن الدولة والوقوف عند إشارته وابن عمّه عضد الدولة لعلوّ سنّه عليه وتقدّمه في معرفة السياسة، وأن يحفظ كاتبيه أبا الفضل العبّاس بن الحسن وأبا الفرج بن العبّاس والحاجب سبكتكين، فخالف جميع وصاياه وعكف على اللهو وعشرة النساء والمغنّين والصفّاعين، فأوحش الكاتبين والحاجب، فانقطع الحاجب عن حضور داره. ثم طرد كبار الديلم عن مملكته طمعا في أقطاعاتهم، فشغب عليه الصغار واقتدى بهم الأتراك في ذلك، وطلبوا الزيادات، وركب الديلم الى الصحراء وطلبوا إعادة من أسقط من كبارهم، ولم يجد بدّا من إجازتهم لانحراف سبكتكين عنه، فاضطربت أموره وكان الكاتب أبو الفرج العبّاس في عمان منذ ملكها، فلمّا بلغه موت معزّ الدولة خشي أن ينفرد عنه صاحبه أبو الفضل العبّاس بن الحسين بالدولة، فسلّم عمان لعضد الدولة، وبادر إلى بغداد فوجد أبا الفضل قد انفرد بالوزارة ولم يحصل على شيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 588 (مسير عساكر ابن سامان الى الري ومهلك وشمكير) كان أبو علي بن الياس قد سار من كرمان إلى بخارى مستنجدا بالأمير منصور بن نوح بن سامان، فتلقّاه بالتكرمة فأغراه ابن الياس بممالك بني بويه وأشار له [1] قوّاده في أمرهم فصدق ذلك عند ما كان يذكر وشمكير عنهم. وتقدّم إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان بالمسير مع عساكره إلى الري. ثم جهّز العساكر مع صاحب خراسان أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور الدواني وأمره بطاعة وشمكير وقبول إشارته فسار لذلك سنة ست وخمسين وثلاثمائة وأنزل ركن الدولة أهله بأصفهان، وكتب إلى ابنه عضد الدولة بفارس وإلى ابن أخيه عزّ الدين بختيار ببغداد يستنجدهما، فأنفذ عضد الدولة العساكر على طريق خراسان ليخالفهم إليها، فأحجموا وتوقّفوا وساروا إلى الدّامغان، وقصدهم ركن الدولة في عساكره من الريّ، وبينما هم كذلك هلك وشمكير، استعرض خيلا واختار منها واحدا وركب للصيد، واعترضه خنزير فرماه بحربة، وحمل الخنزير عليه فضرب الفرس فسقط إلى الأرض وسقط وشمكير ميتا وانتقض جميع ما كانوا فيه ورجعوا الى خراسان. (استيلاء عضد الدولة على كرمان) كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة من بني سامان، واستبدّ بها كما مرّ في أخبارهم، ثم أصابه فالج وأزمن به وعهد الى ابنه أليسع ثم لإلياس من بعده، وأمرهما بإجلاء أخيهما سليمان إلى أرضهم ببلاد الروم يقيم لهم ما هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان وأليسع فلم يرض سليمان ذلك، وخرج فوثب على السيرجان فملكها، فسار إليه أخوه أليسع فحبسه. وهرب من محبسه واجتمع إليه العسكر   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 577: «فلما ورد عليه أكرمه وعظمه، فأطمعه في ممالك بني بويه، وحسّن له قصدها، وعرّفه أن نوّابه لا يناصحونه، وانهم يأخذون الرشى من الديلم، فوافق ذلك ما كان يذكره له وشمكير» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 589 وأطاعوه، ومالوا إليه مع أبيه. ثم إنّ أبا عليّ همّ أن يلحق بخراسان فلحق، ثم سار إلى الأمير أبي الحرث ببخارى وأغراه بالريّ كما مرّ، وتوفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وصفت كرمان لأليسع. وكان عضد الدولة مزاحما لأليسع في بعض حدود عمله، مدلّا بجهل الشباب، فاستحكمت القطيعة بينهما وهرب بعض أصحاب عضد الدولة إليه، فزحف إليه واستأمن إليه أصحابه، وبقي في قلّ من أصحابه فاحتمل أهله وأمواله، ولحق ببخارى. وسار عضد الدولة إلى كرمان فملكها وأقطعها ولده أبا الفوارس الّذي ملك العراق بعد، ولقّب شرف الدولة. واستخلف عليها كورتكين بن خشتان [1] وعاد إلى فارس وبعث إليه صاحب سجستان الطاعة وخطب له. ولما وصل أليسع إلى بخارى أنذر بني سامان على تقاعدهم عن نصره فوثبوا عليه فنفوه إلى خوارزم، وكان قد خلّف أثقاله بنواحي خراسان فاستولى عليها أبو علي بن سيجور، وأصاب أليسع رمد اشتدّ به بخوارزم فضجر منه وقطع عرقه بيده. وكان ذلك سبب هلاكه، ولم يعد لبني إلياس بكرمان بعده ملك. (مسير ابن العميد الى حسنويه ووفاته) كان حسنويه بن الحسن الكرديّ من رجالات الكرد، واستولى على نواحي الدّينور واستفحل أمره، وكان يأخذ الخفارة من القفول التي تمرّ به ويخيف السابلة، إلّا أنه كان فئة للديلم على عساكر خراسان متى قصدتهم [2] . وكان ركن الدولة يرعى له ذلك ويغضى عن إساءته. ثم وقعت بينه وبين سلار بن مسافر بن سلار [3] فتنة وحرب فهزمه حسنويه وحصره وأصحابه من الديلم في مكان، ثم جمع الشوك وطرحه بقربهم وأضرمه نارا حتى نزلوا على حكمه فأخذهم، وقتل كثيرا منهم، فلحقت ركن الدولة النفرة لعصبية الديلم، وأمر وزيره أبا الفضل بن العميد بالمسير إليه فسار في محرّم سنة   [1] جستان: ابن الأثير ج 8 ص 587. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 605: «وكان سبب ذلك ان حسنوي ابن الحسين الكردي كان قد قوي واستفحل أمره لاشتغال ركن الدولة بما هو أهم منه، ولأنه كان يعين الديلم على جيوش خراسان إذا قصدتهم» . [3] سهلان بن مسافر: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 590 تسع وخمسين وثلاثمائة وقعد ابنه أبو الفتح، وكان شابا مليحا قد أبطره العزّ والدالة على أبيه، وكان يتعرّض كثيرا لما يغضبه. وكانت بأبي الفضل علّة النقرس فتزايدت عليه وأفحشت عليه، ولمّا وصل إلى همذان توفي بها لأربع وعشرين سنة من وزارته، وأقام ابنه أبا الفتح مقامه وصالح حسنويه على مال أخذه منه، وعاد إلى الريّ إلى مكانه من خدمة ركن الدولة. وكان أبو الفضل بن العميد كاتبا بليغا، وعالما في عدة فنون مجيدا فيها ومطّلعا على علوم الأوائل، وقائما بسياسة الملك مع حسن الخلق ولين العشرة والشجاعة المعروفة بتدبير الحروب، ومنه تعلّم عضد الدولة السياسية وبه تأدّب. (انتقاض كرمان على عضد الدولة) ولما ملك عضد الدولة كرمان كما قلناه اجتمع القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد وأولاده واتفقوا على الانتقاض والخلاف. واستمدّ عضد الدولة كورتكين بن حسّان بعابد بن عليّ، فسارا في العساكر إلى جيرفت وحاربوا أولئك الخوارج فهزموهم وأثخنوا فيهم وقتلوا من شجعانهم، وفيهم ابن لأبي سعيد. ثم سار عابد بن عليّ في طلبهم وأوقع بهم عدّة وقائع وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرمز فملكها واستولى على بلاد التّيز ومكران وأسر منهم ألف أسير [1] حتى استقاموا على الطاعة وإقامة حدود الإسلام. ثم سار عائدا إلى طائفة أخرى يعرفون بالحروميّة والجاسكيّة [2] يخيفون السبيل برّا وبحرا، وكانت قد تقدّمت لهم إعانة سليمان بن أبي عليّ بن إلياس، فلمّا أوقع بهم أثخن فيهم حتى استقاموا على الطاعة وصلحت تلك البلاد مدّة. ثم عاد البلوص إلى ما كانوا عليه من إخافة السبيل بها، فسار عضد الدولة إلى كرمان في القعدة اثنتين وانتهى إلى السّيرجان وسرّح عابد بن عليّ في العساكر لاتباعهم، فأوغلوا في الهرب ودخلوا إلى مضايق يحسبونها تمنعهم، فلما زاحمتهم العساكر كربها آخر ربيع الأوّل من سنة إحدى وستين وثلاثمائة صابروا يوما، ثم انهزموا آخره فقتلت مقاتلتهم وسبيت   [1] يذكر ابن الأثير ان ابنين لأبي سعيد البلوصي قد قتلا، وان عابد بن علي قد اسر من الخوارج الفين: ج 8 ص 613. [2] الحاسكيّة: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 591 ذراريهم ونساؤهم، ولم ينج منهم إلّا القليل. ثم استأمنوا فأمّنوا ونقلوا من تلك الجبال، وأنزل عضد الدولة في تلك البلاد أكرة وفلاحين، ثم شملوا الأرض بالعمل وتتبّع العابد أثر تلك الطوائف حتى بدّد شملهم، ومحا ما كان من الفساد منهم. (عزل أبي الفضل ووزارة ابن بقية) كان أبو الفضل العبّاس بن الحسين وزيرا لمعزّ الدولة ولابنه بختيار من بعده، وكان سيّئ التصرّف وأحرق في بعض أيامه الكرخ ببغداد فاحترق فيه عشرون ألف إنسان وثلاثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا، ومن الأموال ما لا يحصى، وكان الكرخ معروفا بسكنى الشيعة، وكان هو يزعم أنه يتعصّب لأهل السنّة، وكان كثير الظلم للرعيّة غصّابا للأموال مفرّطا في أمر دينه، وكان محمد بن بقية وضيعا في نفسه من الفلّاحين في أوانا من ضياع بغداد. واتصل ببختيار وكان يتولى الطعام بين يديه، ويتولى الطبخ ومنديل الخوان على كتفه، فلما ضاقت الأحوال على الوزير أبي الفضل وكثرت مطالبته بالأرزاق والنفقات عزله بختيار وصادره وسائر أصحابه على أموال عظيمة أخذت منهم، واستوزر محمد بن بقيّة فاستقامت أموره ونمت أحواله بتلك الأموال، فلما نفدت عاد إلى الظلم، ففسدت الأحوال وخرّبت تلك النواحي، وظهر العيّارون وتزايد شرّهم وفسادهم. وعظم الاختلاف بين بختيار والأتراك، ومقدّمهم يومئذ سبكتكين، وتزيادت نفرته. ثم سعى ابن بقيّة في إصلاحه وجاء به إلى بختيار ومعه الأتراك فصالحه بختيار، ثم قام غلام ديلميّ فرمى وتينه بحربة في يده فأثبته، فصاح سبكتكين بغلمانه فأخذوه يظنّ أنه وضع على قتله، وقرّره فلم يعترف، فبعث إلى بختيار فأمر به فقتل، فعظم ارتيابه وأنه إنما قتل حذرا من إفشاء سرّه، فعظمت الفتنة، وقصد الديلم قتل سبكتكين، ثم أرضاهم بختيار بالمال فسكنوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 592 (استيلاء بختيار على الموصل ثم رجوعه عنها) فلما قبض أبو ثعلب بن ناصر الدولة بن حمدان على أبيه وحبسه، واستقل بملك الموصل وعصى عليه إخوته من سائر النواحي غلبهم، ولحق أخوه أحمد وإبراهيم ببختيار فاستصرخاه فوعدهما بالمسير معهما، وأن يضمن حمدان البلاد. ثم أبطأ عليهما فرجع إبراهيم إلى أخيه أبي ثعلب، وقارن ذلك وزارة ابن بقيّة، وقصّر أبو ثعلب في خطابه فأغرى به بختيار فسار إليه، ونزل الموصل، وفارقها أبو ثعلب إلى سنجار وأخلاها من الميرة والكتّاب والدواوين. ثم سار من سنجار إلى بغداد فحاربها، ولم يحدث في سوادها حدثا. وبعث بختيار إثره العساكر مع ابن بقيّة والحاجب سبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد، وأقام سبكتكين بجدي. وثار العيّارون واضطربت الفتنة بين أهل السنّة والشيعة، وضربوا الأمثال (لنشتدّ على الوزير بحرب الجمل) ، وهذا كلّه في الجانب الغربي. ونزل أبو ثعلب حذاء سبكتكين بجدي واتفقا في سرّ على خلع الخليفة ونصب غيره والقبض على الوزير وعلى بختيار وتكون الدولة لسبكتكين ويعود أبو ثعلب إلى الموصل ليتمكّن من بختيار. ثم قصر سبكتكين عن ذلك وخشي سوء المغبّة، واجتمع به الوزير ابن بقيّة وصالحوا أبا ثعلب على ضمان أعماله كما كانت، وزيادة ثلاثة آلاف كرّ من الغلّة لبختيار، وأن يردّ على أخيه حمدان أملاكه وأقطاعه إلّا ماردين. وأرسلوا إلى بختيار بذلك. ودخل أبو ثعلب إلى الموصل، فلمّا نزل الموصل وبختيار بالجانب الآخر فغضب أهل الموصل لأبي ثعلب لما نالهم من عسف بختيار، فتراسلوا في الصلح ثانيا، وسأل أبو ثعلب لقبا سلطانيا وتسليم زوجته ابنة بختيار فأبى ذلك، ورحل عنه إلى بغداد. وبلغه في طريقه أن أبا ثعلب قتل مخلّفين من أصحاب بختيار، فأقام بالكحيل وبعث بالوزير وابن بقية وسبكتكين فجاءوه في العساكر، ورجع إلى الموصل وفارقها أبو ثعلب، وبعث إلى الوزير كاتبه ابن عرس وصاحبه ابن حوقل معتذرا وحلفا عنه عن العلم بما وقع، فاستحكم بينهم صلح آخر. وانصرف كل منهم إلى بلده، وبعث بختيار إليه زوجته واستقرّ أمرهما على ذلك. ابن خلدون م 38 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 593 (الفتنة بين الديلم والأتراك وانتقاض سبكتكين) كان جند بختيار وأبيه معزّ الدولة طائفتين من الديلم عشيرتهم والأتراك المستنجدين عندهم، وعظمت الدولة وكثرت عطاياها وأرزاق الجند حتى ضاقت عنها الجباية وكثر شغب الجند، وساروا إلى الموصل لسدّ ذلك فلم يقع لهم ما يسدّه، فتوجّهوا إلى الأهواز صحبة بختيار ليظفروا من ذلك بشيء، واستخلف سبكتكين على بغداد، فلمّا وصلوا إلى الأهواز صحبة بختيار حمل إليه حملين من الأموال والهدايا ما ملأ عينه، وهو مع ذلك يتجنّى عليه. ثم تلاحى خلال ذلك عاملان ديلميّ وتركي وتضاربا ونادى كل منهما بقومه فركبوا في السلاح بعضهم على بعض، وسالت بينهما الدماء، وصاروا إلى النزاع، واجتهدوا في تسكين الناس فلم يقدروا. وأشار عليه الديلم بالقبض على الأتراك، فأحضر رؤساءهم واعتقلهم، وانطلقت أيدي الديلم على الأتراك فافترقوا، ونودي في البصرة بإباحة دمائهم، واستولى بختيار على أقطاع سبكتكين، ودسّ بأن يرجفوا بموته، فإذا جاء سبكتكين للعزاء قبضوا عليه. وقيل كان وطأهم على ذلك قبل سفره، وجعل موعده قبضه على الأتراك، فلما أرجفوا بموته ارتاب سبكتكين بالخبر، وعلم أنها مكيدة ودعاه الأتراك للأمر عليهم فأبى، ودعا ابن معزّ الدولة أبا إسحاق إليها فمنعته أمّه، فركب سبكتكين في الأتراك وحاصروا بختيار يومين. ثم أحرقها وبعث لأبي إسحاق وأبي ظاهر ابني معزّ الدولة، وسار بهما إلى واسط فاستولى عليها على ماكان لبختيار، وأنزل الأتراك في دور الديلم، وثار العامّة بنصر سبكتكين وأوقعوا بالشيعة وقتلوهم وأحرقوا الكرخ. (مسير بختيار لقتال سبكتكين وخروج سبكتكين الى واسط ومقتله) ولما انتقض سبكتكين انتقض الأتراك في كل جهة حتى اضطرب على بختيار غلمانه الذين بداره، وعاتبه مشايخ الأتراك على فعلته، وعذله الديلم أصحابه وقالوا: لا بدّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 594 لنا من الأتراك ينصحون عنّا، فأطلق المعتقلين عنهم ورجع، وجعل أردويه [1] صاحب الجيش مكان سبكتكين، وكتب إلى عمّه ركن الدولة وابنه عضد الدولة يستنجدهما، وإلى أبي ثعلب بن حمدان يستمدّه بنفسه، ويسقط عنه مال الضمان، وإلى عمران بن شاهين بأن يمدّه بعسكر، فبعث عمّه ركن الدولة العساكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وأمر ابنه عضد الدولة بالمسير معهم، فتربّص به ابن العميد. وأنفذ أبو ثعلب بن حمدان أخاه أبا عبد الله الحسين بن حمدان إلى تكريت، وأقام ينتظر خروج سبكتكين والأتراك عن بغداد فيملكها، وانحدر سبكتكين ومعه الأتراك إلى واسط وحمل معه الخليفة الطائع الّذي نصّبه وأباه المطيع مكانه أفتكين [2] وساروا إلى بختيار ونازلوه بواسط خمسين يوما والحرب بينهم متّصلة والظفر للأتراك في كلّها، وهو يتابع الرسل إلى عضد الدولة ويستحثه. (استيلاء عضد الدولة على العراق واعتقال بختيار ثم عوده إلى ملكه) ولما بلغ عضد الدولة ما فعله الأتراك مع بختيار اعتزم على المسير إليه بعد أن كان يتربّص به فسار في عساكر فارس وسار معه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه من الأهواز في عساكر الري وقصدوا واسط ورجع أفتكين والأتراك إلى بغداد وكان أبو ثعلب عليها فأجفل، وكتب بختيار إلى طبة الأسديّ صاحب عين التمر، وإلى بني شيبان بمنع الميرة عن بغداد وإفساد سابلتها، فعدمت الأقوات وسار عضد الدولة إلى بغداد، ونزل في الجانب الشرقي وبختيار في الجانب الغربيّ. وخرج أفتكين والأتراك لعضد الدولة فلقيهم بين دبانى والمدائن منتصف جمادى سنة أربع وستين وثلاثمائة فهزمهم وغرق كثير منهم. وساروا إلى تكريت، ودخل عضد الدولة بغداد ونزل دار الملك، واستردّ الخليفة الطائع من أفتكين والأتراك، وكانوا أكرهوه على   [1] آزادرويه: ابن الأثير ج 8 ص 643. [2] المفهوم ان أفتكين قد خلع المطيع وولّى الخلافة بعده ابنه الطائع. وقد ورد اسمه في الكامل ج 8 ص 148: الفتكين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 595 الخروج معهم، وخرج للقائه في دجلة وأنزله بدار الخلافة وحدّثته نفسه بملك العراق، واستضعف بختيار ووضع عليه الجند يطالبونه بأرزاقهم، ولم يكن عنده في خزانته شيء. وأشار عليه بالزهد في إمارتهم يتنصّح له بذلك سرّا، والرسل تتردّد إلى بختيار والجند فلا يقبل عضد الدولة تقرّبهم. ثم تقبّض عليه آخرا ووكّل به، وجمع الجند ووعدهم بالإحسان والنظر في أمورهم فسكنوا، وبعث عضد الدولة عسكره إلى ابن بقيّة ومعه عسكر ابن شاهين فهزموا عسكر عضد الدولة، وكاتبوا ركن الدولة، فكتب إليه بالثبات على شأنهم. فلمّا علم أهل النواحي بأفعال عضد الدولة اضطربوا عليه وانقطعت عنه موادّ فارس، وطمع فيه الناس حتى عامّة بغداد، فحمل الوزير أبا الفتح بن العميد إلى أبيه ركن الدولة الرسالة بما وقع، وبضعف بختيار وأنه إن عاد إلى الأمر خرجت المملكة والخلافة عنه، وأنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم في كل سنة، ويبعث إليه بختيار بالريّ وإلّا قتلت بختيار وأخويه وجميع شيعتهم وأترك البلاد، فخشي ابن العميد من هذه الرسالة، وأشار بأن يبعث بها غيره ويمضي هو إلى ركن الدولة فيحاول على مقاصد عضد الدولة، فمضى الرسول إلى ركن الدولة فحجبه أولا، ثم أحضره وذكر له الرسالة فهمّ بقتله، ثم ردّه وحمّله من الإساءة في الخطاب فوق ما أراد. وجاء ابن العميد فحجبه ركن الدولة وأنفذ إليه بالوعيد. وشفع إليه أصحابه واعتذر بأنه إنما جعل رسالة عضد الدولة طريقا الى الخلاص منه فأحضره، وضمن له ابن العميد إطلاق بختيار. ثم سار إلى عضد الدولة وعرفه بغضب أبيه فأطلق بختيار من محبسه وردّه إلى ملكه على أن يكون نائبا عنه ويخطب له، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعفه عن الملك. وخلّف أبا الفتح بن العميد لقضاء شئونه فتشاغل هو مع بختيار فيما كان فيه من اللذّات عن ركن الدولة. وجاء ابن بقيّة فأكّد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة وجبى الأموال واختزنها، وأساء التصرّف واحترز من بختيار . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 596 (أخبار عضد الدولة في ملك عمان) لما توفي معز الدولة كان أبو الفرج [1] بعمان، فسار عنها لبغداد وبعث إلى عضد الدولة بأن يتسلّمها فوليها عمر بن نبهان الطائي بدعوة عضد الدولة. ثم قتلته الزنج وملكوا البلد. وبعث عضد الدولة إليها جيشا من كرمان مع قائده أبي حرب طغان، وساروا في البحر وأرسوا على صحار وهي قصبة عمان، ونزلوا إلى البرّ فقاتلوا الزنج وظفروا بهم، واستولى طغان على صحار سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. ثم اجتمع الزنج إلى مدين رستان [2] على مرحلتين من صحار، فأوقع بهم طغان واستلحمهم وسكنت البلاد. ثم خرج بجبال عمان طوائف الشّراة مع ورد بن زياد منهم، وبايعوا لحفص بن راشد، واشتدّت شوكتهم، وبعث عضد الدولة المظفّر بن عبد الله في البحر فنزل في أعمال عمان وأوقع بأهل خرخان [3] . ثم سار إلى دما على أربع مراحل، وقاتل الشّراة فهزمهم وهرب أميرهم ورد بن حفص إلى يزوا [4] ، وهي حصن تلك الجبال، ولحق حفص باليمن فصار فيه معلّما، واستقامت البلاد ودانت لطاعة عضد الدولة. (اضطراب كرمان على عضد الدولة) كان ظاهر بن الصنمد من الحرومية [5] ، وهي البلاد الحارة، قد ضمن من عضد الدولة ضمانات واجتمعت عليه أموال. ولما سار عضد الدولة إلى العراق وبعث وزيره المظهر بن عبد الله [6] إلى عمان خلت كرمان من العساكر، فطمع فيها ظاهر وجمع الرجال الحروميّة. وكان بعض موالي بني سامان من الأتراك واسمه مؤتمر [7] استوحش   [1] هو ابو الفرج بن العبّاس وكان نائبا لمعز الدولة في عمان. [2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 646: «ثم إن الزنج اجتمعوا الى بريم وهو رستاق بينه وبين صحار مرحلتان» . [3] حرفان: المرجع السابق. [4] نزوى: المرجع السابق ص 647. [5] طاهر بن الصّمّة من الجروميّة: ابن الأثير ج 8 ص 655. [6] المطهّر بن عبد الله: المرجع السابق. [7] يوزتمر: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 597 من ابن سيجور [1] صاحب خراسان فكاتبه ظاهر وأطمعه في أعمال كرمان، فسار إليه وجعله ظاهر أميرا. ثم شغب عليه بعض أصحاب ظاهر، فارتاب به مؤتمر وقاتله فظفر به وبأصحابه، وبلغ الخبر إلى الحسين بن علي بن الياس بخراسان فطمع في البلاد وسار إليها، واجتمعت عليه جموع. وكتب عضد الدولة إلى المظهر بن عبد الله وقد فرغ من أمر عمان بالمسير إلى كرمان، فسار إليه سنة أربع وستين وثلاثمائة ودوّخ البلاد في طريقه. وكبس مؤتمرا بنواحي مدينة قمّ [2] فلحق بالمدينة وحصره فيها حتى استأمن، وخرج إليه ومعه ظاهر فقتله المظهّر وحبس مؤتمرا ببعض القلاع، وكان آخر العهد به. ثم سار إلى ابن إلياس وقاتله على باب جيرفت وأخذه أسيرا وضاع بعد ذلك خبره، ورجع المظهر ظافرا وصلّحت كرمان لعضد الدولة. (وفاة ركن الدولة وملك ابنه عضد الدولة) كان ركن الدولة ساخطا على ابنه عضد الدولة كما قدّمناه وكان ركن الدولة بالريّ فطرقه المرض سنة خمس وستين وثلاثمائة فسار إلى أصفهان، وتلطّف الوزير أبو الفتح بن العميد إليه في الرضا عن ابنه عضد الدولة، وأن يحضره ويعهد إليه، فأحضره من فارس وجمع سائر ولده. وكان ركن الدولة قد خفّ من مرضه فعمل الوزير ابن العميد بداره صنيعا وأحضرهم جميعا. فلما قضوا شأن الطعام خاطب ركن الدولة بولاية أصفهان وأعمالها نيابة عن أخيه عضد الدولة، وخلع عضد الدولة في ذلك اليوم على سائر الناس الأقبية والأكسية بزيّ الديلم. وحيّاه إخوته والقوّاد بتحيّة الملك المعتاد لهم، وأوصاهم أبوهم بالاتّفاق وخلع عليهم من الخاص، وسار عن أصفهان في رجب من السنة. ثم اشتدّ به المرض في الريّ فتوفي في محرّم سنة ست وستين وثلاثمائة لأربع وأربعين سنة من ولايته. وكان حليما كريما واسع المعروف حسن السياسة لجنده ورعيته، عادلا فيهم، متحرّيا من الظلم عفيفا عن الدماء، بعيد الهمّة عظيم الجدّ والسعادة، محسنا لأهل البيوتات، معظّما للمساجد متفقدا لها في المواسم، متفقدا أهل البيت بالبرّ والصلات، عظيم الهيبة ليّن الجانب مقرّبا للعلماء محسنا إليهم، معتقدا للصلحاء برّا بهم رحمه الله تعالى.   [1] ابن سيمجور وهو صاحب خراسان وقد مرّ معنا من قبل عدة مرات. [2] هي مدينة بم وليس قم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 598 (مسير عضد الدولة الى العراق وهزيمة بختيار) ولما توفي ركن الدولة ملك عضد الدولة بعده، وكان بختيار وابن بقيّة يكاتبان أصحاب القاصية مثل فخر الدولة أخيه وحسنويه الكرديّ وغيرهم للتظافر على عضد الدولة، فحرّكه ذلك لطلب العراق، فسار لذلك وانحدر بختيار إلى واسط لمدافعته، وأشار عليه ابن بقيّة بالتقدّم إلى الأهواز، واقتتلوا في ذي القعدة من سنة ست وستين وثلاثمائة ونزع بعض عساكر بختيار إلى عضد الدولة فانهزم بختيار ولحق بواسط، ونهب سواده ومخلفه، وبعث إليه ابن شاهين بأموال وسلاح وهاداه وأتحفه، فسار إليه إلى البطيحة وأصعد منها إلى واسط، واختلف أهل البصرة فمالت مضر إلى عضد الدولة وربيعة مع بختيار، صوبت [1] مضر عند انهزامه، وكاتبوا عضد الدولة فبعث إليهم عسكرا واستولوا على البصرة، وأقام بختيار بواسط، وقبض الوزير ابن بقيّة لاستبداده واحتجازه الأموال، وليرضى عضد الدولة بذلك. وتردّدت الرسل بينهم في الصلح، وتردّد بختيار في إمضائه. ثم وصله ابنا حسنويه الكرديّ في ألف فارس مددا فاعتزم على محاربة عضد الدولة. ثم بدا له وسار إلى بغداد فأقام بها، ورجع ابنا حسنويه إلى أبيهما، وسار عضد الدولة إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر بعد اختلافهما مائة وعشرين سنة. (نكبة أبي الفتح بن العميد) كان عضد الدولة يحقد على أبي الفتح بن العميد مقامه عند بختيار ببغداد ومخالطته له، وما عقده معه من وزارته بعد ركن الدولة. وكان ابن العميد يكاتب بختيار بأحواله وأحوال أبيه، وكان لعضد الدولة عين على بختيار يكاتبه بذلك ويغريه. فلمّا ملك عضد الدولة بعد أبيه كتب إلى أخيه فخر الدولة بالريّ بالقبض على ابن العميد وعلى أهله وأصحابه، واستصفيت أموالهم ومحيت آثارهم، وكان أبو   [1] هكذا بالأصل ومقتضى السياق. وقويت مضر عند انهزامه، والضمير عائد إلى بختيار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 599 الفضل [1] بن العميد ينذرهم بذلك لما يرى من مخايل أبي الفتح وإنكاره عليه. (استيلاء عضد الدولة على العراق ومقتل بختيار وابن بقية) ولما دخلت سنة سبع وستين سار عضد الدولة إلى بغداد، وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته، وأن يسير عن العراق إلى أيّ جهة أراد فيمدّه بما يحتاج إليه من مال وسلاح، فضعفت نفسه فقلع عينه وبعثها إليه، وخرج بختيار عن بغداد متوجّها إلى الشام. ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له بها، ولم يكن خطب لأحد قبله، وضرب على بابه ثلاث نوبات ولم يكن لمن تقدّمه، وأمر أن يلقى ابن بقيّة بين أرجل الفيلة فضربته حتى مات وصلب على رأس الجسر في شوّال سنة سبع وستين وثلاثمائة، ولما انتهى بختيار إلى عكبرا وكان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فزيّن له قصد الموصل، واستماله إليه عن الشام، وقد كان عقد معه عضد الدولة أن لا يقصد الموصل لموالاة بينه وبين أبي ثعلب [2] ، فسار هو إلى الموصل ونقض عهده، وانتهى إلى تكريت فبعث إليه أبو ثعلب يعده المسير معه لقتال عضد الدولة، وإعادة ملكه على أن يسلّم إليه أخاه حمدان، فقبض بختيار عليه وسلّمه إلى سفرائه وحبسه أبو ثعلب، وسار بختيار إلى الحديثة، ولقيه أبو ثعلب في عشرين ألف مقاتل، ورجع معه إلى العراق ولقيهما عضد الدولة بنواحي تكريت فهزمهما، وجيء ببختيار أسيرا، فأشار أبو الوفاء طاهر بن إسماعيل كبير أصحاب عضد الدولة بقتله فقتل لاثنتي عشرة سنة من ملكه. واستلحم كثير من أصحابه، وانهزم أبو ثعلب بن حمدان إلى الموصل. (استيلاء عضد الدولة على أعمال بني حمدان) ولما انهزم أبو ثعلب سار عضد الدولة في أثره فملك الموصل منتصف ذي القعدة سنة   [1] ابو الفضل هو والد أبي الفتح بن العميد. [2] هو ابو تغلب بن حمدان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 600 ست وستين وثلاثمائة وكان حمل معه الميرة والعلوفات خوفا أن يقع به مثل ما وقع بسلفه، فأقام بالموصل مطمئنا وبثّ السرايا في طلب أبي ثعلب، ولحق بنصيبين ثم بميّافارقين، فبعث عضد الدولة في أثره سريّة عليها أبو ظاهر بن محمد إلى سنجار، وأخرى عليها الحاجب أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر، فترك أبو ثعلب أهله بميّافارقين وسار إلى تدلس [1] ووصل أبو الوفاء في العساكر إلى ميّافارقين فامتنعت عليه، فسار في اتباع أبي ثعلب إلى أرزن الروم ثم إلى الحسنيّة من أعمال الجزيرة، وصعد أبو ثعلب إلى قلعة كواشى فأخذ أمواله منها وعاد أبو الوفاء وحاصره بميّافارقين، وسار عضد الدولة وقد افتتح سائر ديار بكر. وسار أبو ثعلب إلى الرحبة ورجع أصحابه إلى أبي الوفاء فأمّنهم وعاد إلى الموصل، فتسلّم ديار مضر من يده. وكان سعد الدولة على الرحبة وتقرّى أعمال أبي ثعلب وحصونه، مثل هوا والملاسي وفرقى والسفياني وكواشى [2] بما فيها من خزائنه وأمواله، واستخلف أبو الوفاء على الموصل وجميع أعمال بني ثعلب وعاد إلى بغداد، وسار أبو ثعلب إلى الشام فكان فيه مهلكه كما مرّ في أخباره. (إيقاع العساكر ببني شيبان) كان بنو شيبان قد طال إفسادهم للسابلة، وعجز الملوك عن طلبهم، وكانوا يمتنعون بجبال شهرزور لما بينهم وبين أكرادها من المواصلة، فبعث عضد الدولة العساكر سنة تسع وستين وثلاثمائة فنازلوا شهرزور واستولوا عليها وعلى ملكها رئيس بني شيبان، فذهبوا في البسيط، وسار العسكر في طلبهم فأوقعوا بهم واستباحوا أموالهم ونساءهم، وجيء منهم إلى بغداد بثلاثمائة أسير، ثم عاودوا الطاعة وانحسمت علّتهم.   [1] بدليس: ابن الأثير ج 8 ص 692. [2] هي: هرور والملاسي وبرقي والشّعباني وكواشى: ابن الأثير ج 8 ص 696 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 601 (وصول ورد بن منير البطريق الخارج على ملك الروم الى ديار بكر والقبض عليه) كان أرمانوس ملك الروم لما توفي خلّف ولدين صغيرين ملكا بعده، وكان نقفور وهو يومئذ الدمستق غائبا ببلاد الشام، وكان نكاء فيها، فلمّا عاد حمله الجند وأهل الدولة على النيابة عن الولدين فامتنع. ثم أجاب وأقام بدولة الولدين وتزوّج أمّهما ولبس التاج، ثم استوحشت منه فراسلت ابن الشمسيق [1] في قتله، وبيّته في عشرة من أصحابه فقتلوا نقفور واستولى ابن الشمسيق على الأمر، واستولى على الأولاد وعلى ابنه ورديس واعتقلهم في بعض القلاع، وسار في أعمال الشام فعاث فيها وحاصر طرابلس فامتنعت عليه. وكان لوالد الملك أخ خصي [2] وهو الوزير يومئذ فوضع عليه من سقاه السمّ، وأحسّ به فأسرع العود إلى القسطنطينية ومات في طريقه، وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة فطمع في الملك، وكاتب أبا ثعلب بن حمدان عند خروجه بين يدي عضد الدولة وظاهره، واستجاش بالمسلمين بالثغور وساروا إليه وقصد القسطنطينية، وبرزت إليه عساكر الملكين فهزمهم مرّة بعد أخرى، فأطلق الملكان ورديس بن لاوون وبعثاه في العساكر لقتال ورد فهزمهم بعد حروب صعبة، ولحق ورد ببلاد الإسلام ونزل ميّافارقين، وبعث أخاه إلى عضد الدولة ببذل الطاعة وبطلب النصرة. وبعث إليه ملك [3] الروم واستمالاه فجنح إليهما، وكتب إلى عامله بميّافارقين بالقبض على ورد وأصحابه، فيئسوا منه، وتسلّلوا عنه، فبعث أبو عليّ الغنمي [4] عنه إلى داره للحديث معه، ثم قبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه، واعتقلهم بميّافارقين، ثم بعث بهم إلى بغداد فحبسوا بها.   [1] ابن الشمشقيق: ابن الأثير ج 8 ص 703 وقد مرّ معنا في مكان سابق من هذا الكتاب. [2] هو خال الملكين اي شقيق والدتهما الملكة. كما عند ابن الأثير ج 8 ص 703. [3] حسب مقتضى السياق: ملكا الروم. [4] ابو علي التميمي: ابن الأثير ج 8 ص 704. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 602 (دخول بني حسنويه في الطاعة وبداية أمرهم) كان حسنويه بن حسن الكرديّ من جنس البرز [1] فكان من الأكراد من طائفة منهم يسمّون الذولنية [2] وكان أميرا على البرز مكان خاله ونداد، وكان ابنا أحمد بن علي من طائفة أخرى من البرز، فكانوا يسمون العيشائية [3] وغلبا على أطراف الدّينور وهمذان ونهاوند والدّامغان وبعض أطراف أذربيجان إلى حدّ شهرزور، وبقيت في أيديهم خمسين سنة. وكانت تجتمع عليها من الأكراد جموع عظيمة. ثم توفي عام ست وخمسين وثلاثمائة. وكانت له قلعة بسنان [4] وغانم أبار [5] وغيرها، فملكها بعده ابنه أبو سالم غنم [6] إلى أن غلبه الوزير أبو الفتح بن العميد. وتوفي ونداد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وقام ابنه عبد الوهاب أبو الغنائم مقامه، وأراد الشاذنجان، وأسلمه إلى حسنويه فاستولى على أملاكه وقلاعه. وكان حسنويه عظيم السياسة حسن السيرة، وبنى أصحابه حصن التلصّص، وهي قلعة سرماج بالصخور المهندسة، وبنى بالدّينور جامعا كذلك، وكان كثير الصدقة بالحرمين. ثم توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة وافترق أولاده من بعده، فبعضهم صار إلى طاعة فخر الدولة صاحب همذان وأعمال الجيل، والآخرون صاروا إلى عضد الدولة، وكان بختيار منهم بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فكاتب عضد الدولة بالطاعة، ثم انتقض. فبعث عضد الدولة عسكرا فحاصروه وملكوا القلعة من يده والقلاع الأخرى من إخوته. واستولى عضد الدولة على أعمالهم واصطنع من بينهم أبا النجم بن حسنويه، وأمدّه بالعسكر فضبط تلك النواحي، وكفّ عادية الأكراد بها واستقام أمرها.   [1] من جنس البرزيكاني: ابن الأثير ج 8 ص 705. [2] البرزينيّة: المرجع السابق. [3] العيشانية: المرجع السابق. [4] هي قلعة قسان أو سنان. [5] هي قلعةآباد. [6] هو ابو سالم ديسم بن غانم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 603 (استيلاء عضد الدولة على همذان والريّ من يد أخيه فخر الدولة وولاية أخيهما مؤيد الدولة عليها) قد تقدّم أنّ ركن الدولة عهد إلى ابنه فخر الدولة، وكان يكاتب بختيار، وعلم بذلك عضد الدولة فأغضى، فلمّا فرغ من شأن بختيار وابن حمدان وحسنويه، وعظم استيلاؤه أراد إصلاح الأمر بينه وبين أخيه وقابوس بن وشمكير، فكاتب مؤيد الدولة وفخر الدولة يعاتبه ويستميله [1] ، وكان الرسول خواشادة من أكبر أصحاب عضد الدولة، فاستمال أصحاب فخر الدولة وضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، واعتزم عضد الدولة على المسير إلى الريّ وهمذان، وسرّب العساكر إليها مسالمة، فأبو الوفاء طاهر في عسكر، وخواشادة في عسكر، وأبو الفتح المظفّر بن أحمد في عسكر. ثم سار عضد الدولة في أثرهم من بغداد، ولما أطلّت عساكره استأمن قوّاد فخر الدولة وبنو حسنويه ووزيره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه، ولحق فخر الدولة ببلاد الديلم، ثم بجرجان، ونزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير مستجيرا، فأمّنه وآواه وحمل إليه فوق ما أمّله، وشاركه فيما بيده من الملك وغيره. وملك عضد الدولة همذان والريّ وما بينهما من الأعمال، وأضافها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه صاحب أصفهان وأعمالها. ثم عطف على ولاية حسنويه الكردي وفتح نهاوند والدّينور وسرماج، وأخذ ما كان فيها لبني حسنويه، وفتح عدّة من قلاعهم، وخلع على بدر بن حسنويه وأحسن إليه وولّاه رعاية الأكراد، وقبض على إخوته عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان. ولمّا لحق فخر الدولة بجرجان وأجاره قابوس بعث إليه أخوه عضد الدولة في طلبه، فأجاره وامتنع من إسلامه. فجهّز إليه عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة صاحب أصفهان بالعساكر والأموال والسلاح، فسار إلى جرجان، وبرز قابوس للقائه، والتقوا بنواحي أستراباذ في منتصف إحدى وسبعين وثلاثمائة فانهزم قابوس ومرّ ببعض قلاعه   [1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 8 ص 707: «فراسل أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة وقابوس بن وشمكير. فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة فيشكره على طاعته وموافقته، فأنه كان مطيعا له غير مخالف. وأما الى فخر الدولة فيعاتبه ويستميله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 604 فاحتمل منها ذخيرته ولحق بنيسابور. وجاء فخر الدولة منهزما على أثره، وكان ذلك لأوّل ولاية حسام الدولة تاش خراسان من قبل أبي القاسم بن منصور من بني سامان، فكتب بخبرهما إلى الأمير نوح ووزيره العتبيّ أبي العبّاس تاش، فجاءه الجواب بنصرهما، فجمع عساكر خراسان وسار معهما إلى جرجان فحاصروا بها مؤيد الدولة شهرين حتى ضاقت أحوال مؤيد الدولة، واعتزم هو وأصحابه على الخروج والاستماتة بعد أن كاتب فائقا الخاصة الساماني، ورغّبه، فوعده بالانهزام عند اللقاء. وخرج مؤيّد الدولة، وانهزم فائق وتبعه العسكر وثبت تاش وفخر الدولة وقابوس إلى آخر النهار. ثم انهزموا ولحقوا بنيسابور، وبعثوا بالخبر إلى الأمير نوح، فبعث إليهم بالعساكر ليعود إلى جرجان، ثم قتل الوزير العتبي كما تقدّم في أخبار دولتهم وانتقض ذلك الرأي. (استيلاء عضد الدولة على بلاد الهكارية وقلعة سندة) كان عضد الدولة قد بعث عساكره الى بلاد الأكراد الهكاريّة من أعمال الموصل، فحاصر قلاعهم وضيّق عليهم، وكانوا يؤمّلون نزول الثلج فترحل عنهم العساكر، وتأخّر نزوله فاستأمنوا ونزلوا من قلاعهم إلى الموصل، واستولت عليها العساكر وغدر بهم مقدّم الجيش فقتلهم جميعا. وكانت قلعة بنواحي الجبل لأبي عبد الله المرّيّ مع قلاع أخرى، وله فيها مساكن نفيسة، وكان من بيت قديم، فقبض عليه عضد الدولة وعلى أولاده واعتقلهم وملك القلاع. ثم أطلقهم الصاحب بن عبّاد فيما بعد واستخدم أبا طاهر من ولده واستكتبه وكان حسن الخط واللفظ. (وفاة عضد الدولة وولاية ابنه صمصام الدولة) ثم توفي عضد الدولة ثامن شوّال سنة اثنتين وسبعين لخمس سنين ونصف من ولايته العراق، وجلس ابنه صمصام الدولة أبو كليجار المرزبان للعزاء، فجاءه الطائع معزّيا، وكان عضد الدولة بعيد الهمّة شديد الهيبة حسن السياسة ثاقب الرأي محبّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 605 للفضائل وأهلها، وكان كثير الصدقة والمعروف ويدفع المال لذلك إلى القضاة ليصرفوه في وجوهه. وكان محبّا للعلم وأهله مقرّبا لهم محسنا إليهم، ويجلس معهم ويناظرهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنّفت الكتب باسمه كالإيضاح في النحو والحجّة في القراءات والملكي في الطلب والتاجي في التواريخ وعمل البيمارستانات وبنى القناطر. وفي أيامه حدثت المكوس على المبيعات، ومنع من الاحتراف ببعضها، وجعلت متجرا للدولة. ولمّا توفي عضد الدولة اجتمع القوّاد والأمراء على ابنه أبي كليجار المرزبان وولّوه الملك مكانه، ولقّبوه صمصام الدولة، فخلع على أخيه الحسن أحمد وأبي ظاهر فيروز شاه وأقطعهما فارس وبعثهما إليها. (استيلاء شرف الدولة بن عضد الدولة على فارس واقتطاعها من أخيه صمصام الدولة) كان شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك [1] قد ولّاه أبوه عضد الدولة قبل موته كرمان وبعث إليه، فلمّا بلغه وفاة أبيه سار إلى فارس فملكها وقتل نصر بن هارون النصراني وزير أبيه لأنه كان يسيء عشرته، وأطلق الشريف أبا الحسن محمد بن عمر العلويّ، كان أبوه حبسه بما قال عنه وزيره المظهر بن عبد الله عند قتله نفسه على البطيحة. وأطلق النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي والقاضي أبا محمد بن معروف وأبا نصر خواشادة، وكان أبوه حبسهم وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة وخطب لنفسه، وتلقّب بأخي الدولة ووصل أخوه أبو الحسن أحمد وأبو ظاهر فيروز شاه اللذان أقطعهما صمصام الدولة بشيراز فبلغهما خبر شرف الدولة بشيراز فعاد إلى الأهواز. وجمع شرف الدولة وفرّق الأموال، وملك البصرة وولّى عليها أخاه أبا الحسين. ثم بعث صمصام الدولة العساكر مع ابن تتش حاجب أبيه، وأنفذ مشرف الدولة مع أبي الأغرّ دبيس بن عفيف الأسديّ، والتقيا بظاهر قرقوب، وانهزم عسكر صمصام الدولة وأسر ابن تتش الحاجب واستولى حينئذ الحسين بن عضد الدولة على الأهواز ورامهرمز وطمع في الملك.   [1] شرف الدولة ابو الفوارس شيرزيل: ابن الأثير ج 9 ص 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 606 (وفاة مؤيد الدولة صاحب أصفهان والري وجرجان وعود فخر الدولة الى ملكه) ثم توفي مؤيد الدولة يوسف بن بويه بن ركن الدولة صاحب أصفهان والريّ بجرجان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة واجتمع أهله للشورى فيمن يولّونه، فأشار الصاحب إسماعيل بن عبّاد بإعادة فخر الدولة إلى ملكه لكبر سنه. وتقدّم إمارته بجرجان وطبرستان، فاستدعوه من نيسابور، وبعث ابن عبّاد من استخلفه لنفسه، وتقدّم إلى جرجان فتلقّاه العسكر بالطاعة وجلس عليّ كرسيّه وتفادى ابن عبّاس من الوزارة فمنعه واستوزره، والتزم الرجوع إلى إشارته في القليل والكثير. وأرسل صمصام الدولة وعاهده على الاتحاد والمظاهرة. ثم عزل الأمير نوح أبا العبّاس تاش عن خراسان، وولّى عليها ابن سيجور، فانتقض تاش ولقيه ابن سيجور فهزمه فلحق بجرجان، فكافأه فخر الدولة وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ وسار عنها إلى الريّ وأمدّه بالأموال والآلات، وطلب خراسان فلم يظفر بها فأقام بجرجان ثلاث سنين. ثم مات سنة سبع وتسعين وثلاثمائة [1] كما ذكرنا في أخبار بني سامان. (انتقاض محمد بن غانم على فخر الدولة) قد تقدّم لنا ذكر غانم البرزنكاني خال حسنويه، وأنهم كانوا رؤساء الأكراد، وأنه مات سنة خمسين وثلاثمائة وكان ابنه دلسيم مكانه في قلاعه قستتان وغانم أبا. وملكها منه أبو الفتح بن العميد. ولما كانت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة انتقض محمد بن غانم بناحية كردون من أعمال قمّ على فخر الدولة، ونهبت غلّات السلطان وامتنع بحصن الفهجان واجتمع إليه البرزنكان [2] . وسارت العساكر لقتاله في شوّال فهزمها مرّة بعد   [1] يذكر ابن الأثير وفاته سنة 377 وقال إنه مات مسموما. [2] التحريف في أسماء الأعلام والأمكنة يثير العجب وهذه الأسماء تختلف في مصادر عديدة، حتى عند ابن خلدون تجد تحريف الأسماء بين صفحة واخرى، وربما يعود هذا الأمر الى الناسخ. وفي الكامل ج 9 ص 31: «وفيها- 373- عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر من أعمال قمّ على فخر الدولة، وأخذ بعض غلات السلطان، وامتنع بحصن الهفتجان، وجمع البرزيكانيّ الى نفسه» . أما دلسيم فهو دسيم بن غانم وأما قلعة قستتان فهي قلعة قستان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 607 أخرى إلى أن بعث فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه بالنكير في ذلك، فصالحه أوّل أربع وسبعين وثلاثمائة ثم سارت إليه العساكر سنة خمس وسبعين وثلاثمائة فقاتلها وأصيب بطعنة، ثم أخذ أسيرا ومات بطعنته. (تغلب باد الكردي على الموصل من يد الديلم ثم رجوعها اليهم) قد تقدّم لنا استيلاء عضد الدولة على الموصل وأعمالها، وتقدّم لنا ذكر باد الكرديّ خال بني مروان، وكيف خان عضد الدولة لما ملك الموصل، وطلبه فصار يخيف ديار بكر ويغير عليها حتى استفحل أمره وملك ميافارقين كما ذكرنا ذلك كله في أخبار بني مروان، وأنّ صمصام الدولة جهّز إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام بن أردشير، فهزمه باد وأسر أصحابه، فأعاد صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد الحاجب، وفتك باد في الديلم بالقتل والأسر. ثم اتبع سعيد خانور الحسينية من بلد كواشى [1] فانهزم سعيد الحاجب إلى الموصل وثارت العامّة بالديلم. وملك باد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة الموصل، وحدّث نفسه بملك بغداد، وأخرج [2] الديلم عنها. واهتم صمصام الدولة بأمره، وبعث زياد بن شهراكونه [3] من أكبر قوّاد الديلم لقتاله، واستكثر له من الرجال والعدد والمال، وسار إلى باد فلقيه في صفر سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وانهزم باد وأسر أكثر أصحابه، ودخل زياد بن شهراكونه الموصل، وبعث سعيد الحاجب في طلب باد فقصد جزيرة ابن عمر وعسكر آخرا إلى نصيبين. وجمع باد الجموع بديار بكر، وكتب صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بتسليم ديار بكر له، فبعث إليها عساكره من حلب وحاصروا ميّافارقين وخاموا عن لقاء باد فرجعوا عن حلب، ووضع سعيد الحاجب رجلا لقتل باد، فدخل عليه وضربه في خيمته فأصابه وأشرف على الموت منها، فطلب الصلح على أن يكون له ديار بكر والنصف من طور عبدين، فأجابه الديلم إلى ذلك، وانحدروا إلى   [1] هكذا بالأصل في الكامل ج 9 ص 35: «فالتفوا بباجلايا على خابور الحسنيّة من بلد كواشى» . [2] حسب مقتضى السياق وإخراج الديلم عنها. [3] زيار بن شهراكويه: ابن الأثير ج 9 ص 38. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 608 بغداد وأقام سعيد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة أيام مشرف الدولة فتجرّد الكرديّ وطمع في الموصل، وولّى شرف الدولة عليها أبا نصر خواشاده، وجهّزه بالعساكر، ولما زحف إليه باد الكرديّ كتب إلى مشرف الدولة يستمد العساكر والأموال، فأبطأ عليه المدد، فاستدعى العرب من بني عقيل وبني نمير وأقطعهم البلاد ليدافعوا عنها، وانحدر باد واستولى على طور عبدين ولم يقدر على النزول على الصحراء، وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فهزموه وقتلوه. ثم أتاهم الخبر بموت مشرف الدولة، فعاد خواشاده إلى الموصل وأقامت العرب بالصحراء يمنعون باد من النزول وينتظرون خروج خواشاده لمدافعة باد وحربه، وبينما هم في ذلك جاء إبراهيم وأبو الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فملكا الموصل كما ذكرنا في أخبار دولتهم. (استيلاء صمصام الدولة على عمان ورجوعها لمشرف الدولة) كان مشرف الدولة استولى على فارس وخطب له بعمان، وولّى عليها أستاذ هرمز فانتقض عليه وصار مع صمصام الدولة، وخطب له بعمان فبعث مشرف الدولة إليه عسكرا فهزموا أستاذ هرمز وأسروه، وحبس ببعض القلاع وطولب بالأموال، وعادت عمان إلى مشرف الدولة. (خروج نصر بن عضد الدولة على أخيه صمصام الدولة وانهزامه وأسره) كان أسفار بن كردويه من أكابر قوّاد الديلم واستوحش من صمصام الدولة فمال عن طاعته إلى أخيه مشرف الدولة وهو بفارس، وداخل رجال الديلم في صمصام الدولة وأن ينصبّوا بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه مشرف الدولة حتى يقدم من فارس، وتمكّن أسفار من الخوض في ذلك، فمرض صمصام الدولة وتأخر ابن خلدون م 39 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 609 عن حضور الدار وراسله صمصام الدولة [1] أنه لا ذنب له لأنه كان صبيا، فاعتقله مكرّما، وسعي إليه بابن سعدان وزيره ارهواه كان معهم [2] فعزله وقتله ومضى أسفار إلى أبي الحسن بن عضد الدولة بالأهواز ومضى بقية العسكر إلى مشرف الدولة بفارس. (استيلاء القرامطة على الكوفة بدعوة مشرف الدولة ثم انتزاعها منهم) كان للقرامطة محل من البأس والهيبة عند أهل الدول، وكانوا يدافعونهم في أكثر الأوقات بالمال، وأقطعهم معزّ الدولة وابنه بختيار ببغداد وأعمالها، وكان يأتيهم ببغداد أبو بكر بن ساهويه يحتكم بحكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة وكان على القرامطة في هجر ونيسابور مشتركان في إمارتهما، وهما إسحاق وجعفر. فلما بلغهما الخبر سارا إلى الكوفة فملكاها وخطبا لمشرف الدولة، وكاتبهما صمصام الدولة بالعتب فذكرا أمرهما ببغداد، وانتشر القرامطة في البلاد وجبوا الأموال، ووصل أبو قيس الحسن بن المنذر من أكابرهم إلى الجامعين فسرّح صمصام الدولة العسكر ومعهم العرب، فعبروا الفرات وقاتلوه فهزموه وأسروه، وقتلوا جماعة من قوّاد القرامطة. ثم عاودوا عسكرا آخر ولقيتهم عساكر صمصام الدولة بالجامعين فانهزم القرامطة وقتل مقدّمهم وغيره، وأسروا منهم العساكر وساروا في اتباعهم إلى القادسية فلم يدركوهم.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 41: «وراسله صمصام الدولة يستميله ويسكّنه، فما زاده إلا تماديا، فلما رأى ذلك من حاله راسل الطائع يطلب منه الركوب معه، وكان صمصام الدولة أبلّ من مرضه، فامتنع الطائع من ذلك، فشرع صمصام الدولة، واستمال فولاذ زماندار، وكان موافقا لأسفار إلّا أنه كان يأنف من متابعته لكبر شأنه. فلما راسله صمصام الدولة أجابه، واستحلفه على ما أراد، وخرج من عنده، وقاتل أسفار، فهزمه فولاذ، وأخذ الأمير ابو نصر أسيرا، وأحضر عند أخيه صمصام الدولة، فرقّ له، وعلم أنه لا ذنب له، فاعتقله مكرّما، وكان عمره حينئذ خمس عشرة سنة» . [2] العبارة غير واضحة وفي الكامل: «وسعي إليه بابن سعدان الّذي كان وزيره، فعزله، وقيل إنه كان هواه معهم» . ص 42. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 610 (استيلاء مشرف الدولة على الأهواز ثم على بغداد واعتقال صمصام الدولة) ثم سار مشرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس لطلب الأهواز، وقد كان أخوه أبو الحسين تغلّب عليها عند انهزام عساكر صمصام الدولة سنة اثنتين وسبعين، وكان صمصام الدولة عند ما ملك بعث أبا الحسين وأبا ظاهر أخويه على فارس كما قدّمناه، فوجدا أخاهما مشرف الدولة قد سبقهما إلى ملكها. وعند ما ملك فارس والبصرة ولّاهما على البصرة، فلما انهزمت عساكر صمصام الدولة امام عسكر مشرف الدولة بعث أبا الحسين على الأهواز فملكها وأقام بها، واستخلف على البصرة أخاه أبا ظاهر، فلما سار مشرف الدولة هذه السنة إلى الأهواز قدّم إليه الكتّاب بأن يسير إلى العراق، وأنه يقرّه على عمله، فشقّ ذلك على أبي الحسين، وتجهّز للمدافعة، فعاجله مشرف الدولة عن ذلك. وأغذّ السير إلى أرّجان فملكها، ثم رامهرمز، وانتقض أجناده ونادوا بشعار مشرف الدولة، فهرب إلى عمّه فخر الدولة بالريّ، وأنزلها بأصفهان ووعده بالنصر، وأبطأ عليه فثار في أصفهان بدعوة أخيه مشرف الدولة فقبض عليه جندها وبعثوا به إلى الريّ، فحبسه فخر الدولة إلى أن مرض واشتدّ مرضه فأرسل من قتله في محبسه. ولمّا هرب أبو الحسين من الأهواز سار إليها مشرف الدولة، وأرسل إلى البصرة قائدا فملكها، وقبض على أخيه أبي ظاهر وبعث إليه صمصام الدولة في الصلح، وأن يخطب له ببغداد، وسارت إليه الخلع والألقاب من الطائع، وجاء من قبل صمصام الدولة من يستخلفه، وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر الكوفيّ، فكان يستحثّه إلى بغداد. وفي خلال ذلك جاءته كتب القوّاد من بغداد بالطاعة، وبعث أهل واسط بطاعتهم فامتنع من إتمام الصلح، وسار إلى واسط فملكها وأرسل صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بالسلافة فلم يعطف عليه. وشغب الجند على صمصام الدولة فاستشار صمصام الدولة أصحابه في طاعة أخيه فنهوه. وقال بعضهم: نصعد الى عكبرا ونتبين الأمر، وإن دهمنا ما لا نقوى عليه سرنا إلى الموصل وننتصر بالديلم، وقال آخرون: نقصد فخر الدولة بأصفهان، ثم نخالفه إلى فارس فنحتوي على خزائن مشرف الدولة وذخائره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 611 فيصالح كرها فأعرض عنهم، وركب صمصام الدولة إلى أخيه مشرف الدولة في خواصّه فتلقّاه بالمبرة. ثم قبض عليه وسار إلى بغداد فدخلها في رمضان سنة ست وسبعين وثلاثمائة وأخوه صمصام الدولة في اعتقاله بعد أربع سنين من إمارته بالعراق. (أخبار مشرف الدولة في بغداد مع جنده ووزرائه) لما دخل مشرف الدولة بغداد كان الديلم معه في قوّة وعدد، تنتهي عدّتهم الى خمسة عشر ألفا، والأتراك لا يزيدون على ثلاثة آلاف، فاستطال الديلم بذلك وجرت بين اتباعهم لأوّل دخولهم بغداد مصاولة آلت إلى الحرب بين الفريقين، فاستظهر الديلم على الترك وتنادوا بإعادة صمصام الدولة إلى ملكه، فارتاب بهم مشرف الدولة ووكّل بصمصام الدولة من يقتله إن همّوا بذلك. ثم أتيحت الكرة للأتراك على الديلم وفتكوا فيهم، وافترقوا واعتصهم بعضهم بمشرف الدولة. ثم دخل من الغد إلى بغداد فتقبّله الطائع وهنّأه بالسلامة. ثم أصلح بين الطائفتين واستحلفهم جميعا، وحمل صمصام الدولة إلى قلعة ورد بفارس فاعتقل بها، وكان نحرير الخادم يشير بقتله فلا يجيبه أحد، واعتقل سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وأشرف على الهلاك، ثم أشار نحرير في قتله أو سمله، فبعث لذلك من يثق به فلم يقدم على سمله حتى استشار ابا القاسم بن الحسن الناظر هناك فأشار به فسمله. وكان صمصام الدولة يقول: إنما أعماني العلاء لأنه في معنى حكم سلطان ميت [1] . ولما فرغ مشرف الدولة من فتنة الجند صرف نظره إلى تهذيب ملكه، فردّ على الشريف محمد بن عمر الكوفي جميع أملاكه، وكانت تغلّ في كل سنة ألفي ألف وخمسمائة ألف درهم، وردّ على النقيب أبي أحمد والد الرضي جميع أملاكه. وأقرّ الناس على مراتبهم، وكان قبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس وأفرج عن أبي منصور الصاحب، واستوزره فأقرّه على وزارته ببغداد. وكان قراتكين قد أفرط في الدولة والضرب على أيدي الحكّام فرأى أن يخرجه الى بعض الوجوه، وكان حنقا على بدر بن حسنويه لميله مع عمّه فخر الدولة، فبعثه إليه في العساكر سنة سبع وسبعين وثلاثمائة فهزمهم بدر بوادي   [1] وفي الكامل ج 9 ص 61: «ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى في حكم سلطان قد مات» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 612 قرمسين بعد أن هزمه قراتكين أوّلا. ونزل العسكر فكرّ عليهم بدر فهزمهم وأثخن فيهم ونجا قراتكين في الفلّ إلى جسر النهروان حتى اجتمع إليه المنهزمون، ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل. ولما رجع قراتكين أغرى الجند بالشغب على الوزير أبي منصور بن صالحان، فأصلح مشرف الدولة بينه وبين قراتكين. وحقدها له فقبض عليه بعد أيام وعلى جماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم وشغب الجند من أجله فقتله، وقدّم عليهم مكانه طغان الحاجب. ثم قبض سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة على شكر الخادم خالصة أبيه عضد الدولة وخالصته، وكان يحقد عليه من أيام أبيه من سعاياته فيه منها إخراجه من بغداد إلى كرمان تقرّبا إلى أخيه صمصام الدولة بإخراجه. فلما ملك مشرف الدولة بغداد اختفى شكر فلم يعثر عليه، وكان معه في اختفائه جارية حسناء فعلقت بغيره، وفطن لها فضربها فخرجت مغاضبة له. وجاءت إلى مشرف الدولة فدلّت عليه فأحضره وهمّ بقتله، وشفع فيه نحرير الخادم حتى وهبه له. ثم استأذن في الحجّ وسار من مكّة إلى مصر فاختصّه خلفاء الشيعة وأنزلوه عندهم بالمنزلة الرفيعة. (وفاة مشرف الدولة وولاية أخيه بهاء الدولة) ثم توفي مشرف الدولة أبو الفوارس سرديك بن عضد الدولة ملك العراق في منتصف تسع وسبعين وثلاثمائة لثمانية أشهر وسنتين من ملكه، ودفن بمشهد عليّ عليه السلام. ولما اشتدّت علته بعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس بالخزائن والعدد مع أمّه وجواريه في جماعة عظيمة من الأتراك، وسأله أصحابه أن يعهد فقال: أنا في شغل عن ذلك، فسألوه نيابة أخيه بهاء الدولة ليسكن الناس إلى أن يستفيق من مرضه، فولّاه نيابته. ولما جلس بهاء الدولة في دست الملك، ركب إليه الطائع فعزّاه وخلع عليه خلع السلطنة، وأقرّ بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته. (وثوب صمصام الدولة بفارس وأخباره مع أبي علي ابن أخيه مشرف الدولة) قد تقدّم لنا أن صمصام الدولة اعتقله أخوه مشرف الدولة بقلعة ورد قرب شيراز من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 613 أعمال فارس عند ما ملك بغداد سنة ست وسبعين وثلاثمائة. فلما مات مشرف الدولة وكان قد بعث ابنه أبا علي إلى فارس، ولحقه موت أبيه بالبصرة فبعث ما معه في البحر إلى أرّجان، وسار إليها في البرّ مخفا. والتفّ عليه الجند الذين بها، وكاتبه العلاء بن الحسن من شيراز بخبر صمصام الدولة، فسار إلى شيراز واختلف عليه الجند، وهمّ الديلم بإسلامه إلى صمصام الدولة، فتحرّك الأتراك وقاتل الديلم أياما، ثم سار إلى نسا والأتراك معه، فأخذوا ما بها من المال وقتلوا الديلم ونهبوا أموالهم وسلاحهم. وسار أبو علي إلى أرّجان، وبعث الأتراك إلى شيراز فقاتلوا صمصام الدولة والديلم ونهبوا البلد، وعادوا إليه بأرّجان. وجاءه رسول عمّه بهاء الدولة من بغداد بالمواعيد الجميلة، ودسّ مع رسوله إلى الأتراك واستمالهم فحسّنوا لأبي عليّ المسير إلى عمّه بهاء الدولة، فسار إليه ولقيه بواسط منتصف ثمانين وثلاثمائة وقد أعدّ له الكرامة والنزول، ثم قبض عليه لأيام وقتله، وتجهّز للمسير إلى فارس. (مسير فخر الدولة صاحب الريّ وأصفهان وهمذان الى العراق وعوده) كان الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة بن ركن الدولة يحب العراق ويريد بغداد، لما كان بها من الحضارة واستئثار الفضائل. فلمّا توفي مشرف الدولة سلطان بغداد رأى أنّ الفرصة قد تمكنت فدسّ إلى فخر الدولة من يغريه بملك بغداد، حتى استشاره في ذلك، فتلطّف في الجواب بأن أحاله على سعادته فقبل إشارته، وسار إلى حمدان ووفد عليه بدر بن حسنويه ودبيس بن عفيف الأسديّ، وشاوروا في المسير فسار الصاحب بن عبّاد وبدر في المقدمة على الجادة، وفخر الدولة على خوزستان. ثم ارتاب فخر الدولة بالصاحب بن عبّاد خشية من ميله مع أولاد عضد الدولة فاستعاده، وساروا جميعا إلى الأهواز فملكها فخر الدولة وأساء السيرة في جندها وجنده، وحبس عنهم العطاء فتخاذلوا وكان الصاحب منذ اتهمه وردّه عن طريقه معرضا عن الأمور ساكتا، فلم تستقم الأمور بإعراضه. ثم بعث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 614 بهاء الدولة عساكره إلى الأهواز فقاتلوهم وزادت دجلة إلى الأهواز، وانفتقت أنهارها فتوهّم الجند وحسبوها مكيدة فانهزموا، وأشار عليه الصاحب بإطلاق الأموال فلم يفعل، فانفضّت عنه عساكر الأهواز، وعاد إلى الريّ وقبض في طريقه على جماعة من قوّاد الديلم والريّ، وعادت الأهواز الى دعوة بهاء الدولة. (مسير بهاء الدولة إلى أخيه صمصام الدولة بفارس) ثم سار بهاء الدولة سنة ثمانين وثلاثمائة إلى خوزستان عازما على قصد فارس، وخلّف ببغداد أبا نصر خواشاده من كبار قوّاد الديلم، ومرّ بالبصرة فدخلها، وسار منها الى خوزستان، وأتاه نعي أخيه أبي ظاهر فجلس لعزائه، ودخل أرّجان وأخذ جميع ما فيها من الأموال، وكانت ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم، وهرعت إليه الجنود ففرّقت فيهم تلك الأموال كلها. ثم بعث مقدّمته أبا العلاء بن الفضل إلى النوبندجان فهزموا بها عسكر صمصام الدولة، فأعاد صمصام الدولة العساكر مع فولاد بن ماندان فهزموا أبا العلاء بمراسلة وخديعة من فولاذ، كبسه في أثرها، فعاد إلى أرّجان مهزوما. ولحق صمصام الدولة من شيراز بفولاذ. ثم تردّدت الرسل في الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرّجان ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، ويكون لكلّ منهما أقطاع في بلد صاحبه، فتمّ ذلك بينهما وتحالفا عليه، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز. وبلغه ما وقع ببغداد من العيّارين وبين الشيعة وأهل السنّة وكيف نهبت الأموال وخرجت المساكين فأعاد السير إلى بغداد وصلحت الأحوال. (القبض على الطائع ونصب القادر للخلافة) قد ذكرنا أنّ بهاء الدولة قد شغب الجند عليه لقلّة الأموال، وقبض وزيره فلم يغن عنه. وكان أبو الحسن بن المعلّم غالبا على هواه، فأطمعه في مال الطائع، وزيّن له القبض عليه. فأرسل إليه بهاء الدولة في الحضور عنده، فجلس على العادة، ودخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 615 بهاء الدولة في جمع كبير وجلس على كرسيّه، وأهوى بعض الديلم إلى يد الطائع ليقبّلها، ثم جذبه عن سريره. وهو يستغيث ويقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 واستصفيت خزائن دار الخلافة فمشى بها الحال أياما ونهب الناس بعضهم بعضا. ثم أشهد على الطائع بالخلع ونصّبوا للخلافة عمّه القادر أبا العبّاس أحمد المقتدر، استدعوه من البطيحة وكان فرّ إليها أمام الطائع كما تقدّم في أخبار الخلفاء. وهذا كلّه سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. (رجوع الموصل الى بهاء الدولة) كان أبو الرواد محمد بن المسيب أمير بني عقيل قتل أبا طاهر بن حمدان آخر ملوك بني حمدان بالموصل وغلب عليها، وأقام بها طاعة معروفة لبهاء الدولة، وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة كما مرّ في أخبار بني حمدان وبني المسيب. ثم بعث بهاء الدولة أبا جعفر الحجّاج بن هرمز من قوّاد الديلم في عسكر كبير إلى الموصل فملكها آخر إحدى وثمانين فاجتمعت عقيل مع أبي الرواد على حربه وجرت بينهم عدّة وقائع، وحسن فيها بلاء أبي جعفر بالقبض عليه، فخشي اختلاف أمره هناك وراجع في أمره، وكان بإغراء ابن المعلّم وسعايته. ولما شعر الوزير بذلك صالح أبا الروّاد وأخذ رهنه، وأعاده الى بغداد فوجد بهاء الدولة قد نكب ابن المعلم. (أخبار ابن المعلم) هو أبو الحسن بن المعلم قد غلب على هوى بهاء الدولة وتحكّم في دولته، وصدر كثير من عظائم الأمور بإشارته، فمنها نكبة أبي الحسن محمد بن عمر العلويّ، وكان قد عظم شأنه مع مشرف الدولة وكثرت أملاكه. فلما ولي بهاء الدولة سعى به عنده وأطمعه في ماله، فقبض عليه واستصفى سائر أملاكه، ثم حمله على نكبة وزيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 616 أبي منصور بن صالحان سنة ثمان [1] واستوزر أبا النصر سابور بن أردشير قبل مسيره إلى خوزستان، ثم حمله على خلع الطائع واستصفى أمواله وحمل ذخائر الخلافة إلى داره، ثم حمله على نكبة وزيره أبي نصر سابور واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، وبعد مرجعه من خوزستان قبض على أبي خواشاده وأبي عبد الله بن ظاهر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة لأنهما لم يوصلا لابن المعلّم هداياهما، فحمل بهاء الدولة على نكبتهما. ولما استطال على الناس وكثر الضجر منه شغب الجند على بهاء الدولة وطالبوه بإسلامه إليهم، وراجعهم فلم يقبلوا، فقبض عليه وعلى سائر أصحابه ليسترضيهم بذلك فلم يرضوا إلّا به، فأسلمه إليهم وقتلوه. ثم اتّهم الوزير أبا القاسم بمداخلة الجند في الشغب على الوزير، فقبض عليه واستوزر مكانه أبا نصر سابور وأبا نصر بن الوزير الأوّلين وأقاما شريكين في الوزارة. (خروج أولاد بختيار وقتلهم) كان عضد الدولة قد حبس أولاد بختيار فأقاموا معتقلين مدّة أيامه وأيام صمصام الدولة من بعده. ثم أطلقهم مشرف الدولة وأحسن إليهم وأنزلهم بشيراز وأقطعهم. فلما مات مشرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس، فاستمالوا الموكّل الّذي عليهم والجند الّذي معه من الديلم، فأفرجوا عنهم وذلك سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. واجتمع إليهم أهل تلك النواحي وأكثرهم رجّالة، وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة فبعث أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر، فافترقت تلك الجموع وتحصّن بنو بختيار ومن معهم من الديلم، وحاصرهم أبو علي، وأرسل أحد الديلم معهم فأصعدهم سرّا وملكوا القلعة وقتلوا أولاد بختيار. (استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ورجوعها منه) ثم انتقض الصلح سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة بين بهاء الدولة صاحب بغداد وأخيه   [1] هكذا بالأصل، والصحيح ان بهاء الدولة قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان سنة 380 كما في الكامل ج 9 ص 77. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 617 صمصام الدولة صاحب خوزستان، وذلك أنّ بهاء الدولة بعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز، وأسرّ إليه أن يبعث العساكر متفرّقة، فإذا اجتمعوا عنده صدم بهم بلاد فارس. فسار أبو العلاء، وتشاغل بهاء الدولة عن ذلك، وظهر الخبر فجهّز صمصام الدولة عسكره إلى خوزستان، واستمدّ أبو العلاء بهاء الدولة فتوافت عساكره، والتقى العسكران وانهزم أبو العلاء وأخذ أسيرا، فأطلقته أم صمصام الدولة. وقلق بهاء الدولة لذلك، وافتقد الأموال فأرسل وزيره أبا نصر سابور إلى واسط، وأعطاه جواهر واعلاقا يسترهنها [1] عند مهذّب الدولة صاحب البطيحة فاسترهنها، ولما هرب الوزير أبو نصر استعفى ابن الصالحان من الانفراد بالوزارة فأعفي. واستوزر بهاء الدولة أبا القاسم علي بن أحمد، ثم عجز وهرب. وعاد أبو نصر سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم. ثم بعث بهاء الدولة طغان التركي إلى الأهواز في سبعمائة من المقاتلة فملكوا السوس، ورحل أصحاب صمصام الدولة عن الأهواز، وانتشرت عساكر طغان في أعمال خوزستان، وكان أكثرهم من الترك، فغصّ الديلم بهم الذين في عسكر طغان، فضلّ الدليل وأصبح على بعد منهم، ورآهم الأتراك فركبوا إليهم وأكمن ألوفا، واستأمن كثير منهم وأمّنهم طغان حتى نزلوا بأمر الأتراك فقتلوهم كلهم، وانتهى الخبر إلى بهاء الدولة بواسط، وسار إلى الأهواز وسار صمصام الدولة إلى شيراز وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وأمر صمصام الدولة بقتل الأتراك في جميع بلاد فارس سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فقتل منهم جماعة وهرب الباقون، فعاثوا في البلاد ولحقوا بكرمان، ثم ببلاد السند حتى توسّطهم الأتراك [2] فأطبقوا عليهم واستلحموهم.   [1] مقتضى السياق: يرهنها. [2] معنى العبارة ان الأتراك اطبقوا على الأتراك، وحسب مقتضى السياق ان المعركة وقعت بين الديلم والأتراك. وفي الكامل ج 9 ص 111: «أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون فعاثوا في البلاد، وانصرفوا الى كرمان، ثم منها الى بلاد السند، واستأذنوا ملكها في دخول بلاده، فأذن لهم وخرج الى تلقّيهم، ووافق أصحابه على الإيقاع بهم، فلما رآهم جعل أصحابه صفّين: فلما حصل الأتراك في وسطهم اطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 618 (استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ثم على البصرة) ثم بعث صمصام الدولة عساكره الديلم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة إلى الأهواز، وكان نائب بهاء الدولة قد توفي وعزم الأتراك على العود إلى بغداد، فبعث بهاء الدولة مكانه أبا كاليجار المرزبان بن سفهيعون [1] ، وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى رامهرمز مددا لنائبها لفتكين [2] ، وقد انهزم إليها أمام عسكر صمصام الدولة، فترك أبا محمد بن مكرم بها. ومضى إلى الأهواز وسار إلى خوزستان، فكاتبه العلاء بن الحسن يخادعه. ثم سار إلى رامهرمز وحارب ابن مكرم ولفتكين وبعث بهاء الدولة ثمانين من الأتراك يأتون من خلف الديلم، فشعروا بهم وقتلوهم أجمعين. وخام بهاء الدولة عن اللقاء، فرجع إلى الأهواز. ثم سار إلى البصرة ونزل بها، وانتهى خبره إلى ابن مكرم، فعاد إلى عسكر مكرم واتبعه العلاء والديلم فأجلوه عنها إلى قرب تستر. وتكرّرت الوقائع بين الفريقين، فكان بيد الأتراك من تستر إلى رامهرمز، وبيد الديلم من رامهرمز [3] ، ورجع الأتراك واتبعهم العلاء فوجدهم قد سلكوا طريق واسط فرجع عنهم، وأقام بعسكر مكرم. ورجع بهاء الدولة إلى بغداد، وكان مع العلاء قائد من قوّاد الديلم اسمه شكراستان، فاستأمن إليه من الديلم الذين مع بهاء الدولة نحو من أربعمائة رجل فاستكثر بهم، وسار إلى البصرة وحاصرها، ومال إليهم أبو الحسن بن جعفر العلويّ من أهل البصرة، وكانوا يحملون الميرة. وعلم بهاء الدولة فأنفذ من يقبض عليهم فهربوا إلى ذلك القائد وقوي بهم، وجمعوا له السفن فركبها إلى البصرة، وقاتل أصحاب بهاء الدولة وهزمهم وملك البصرة واستباحها. وكتب بهاء الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة بأن يرتجعها من يد الديلم ويتولّاها، فأمدّه عبد الله بن مرزوق، وأجلى الديلم عنها، ثم رجع للقاء شكراستان. وهجم   [1] المرزبان بن شهفيروز: ابن الأثير ج 9 ص 112. [2] ورد اسمه من قبل افتكين وفي الكامل الفتكين وهذا ربما تحريف من الناسخ. [3] هكذا بالأصل والعبارة مبتورة ولعله سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 113: «وكان بيد الأتراك، أصحاب بهاء الدولة من تستر الى رامهرمز ومع الديلم منها الى أرجان، وأقاموا ستة أشهر ثم رجعوا الى الأهواز، ثم عبر بهم النهر الى الديلم واقتتلوا نحو شهرين، ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء فوجد قد سلكوا طريق واسط» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 619 عليها في السفن فملكها وكاتب بهاء الدولة بالطاعة والضمان فأجابه وأخذ ابنه رهينة، وكان يظهر طاعة بهاء الدولة وصمصام الدولة. (وفاة الصاحب بن عباد) وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة توفي أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة بالريّ، وكان أوحد زمانه علما وفضلا ورياسة ورأيا وكرما وعرفا بأنواع العلوم، عارفا بالكتابة ورسائله مشهورد مدوّنه. وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد حتى يقال: كانت تنقل في أربعمائة حمل. ووزر بعده لفخر الدولة أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم الضبّي الملقّب بالكافي. ولمّا توفي استصفى فخر الدولة أمواله بعد أن أوصاه عند الموت، فلم ينفّذ وصيته. وكان الصاحب قد أحسن إلى القاضي عبد الجبّار المعتزلي وقدّمه وولّاه قضاء الريّ وأعمالها. فلمّا مات قال عبد الجبّار لا أرى الترحّم عليه لأنه مات على غير توبة ظهرت منه، فنسب إليه قلّة الوفاء بهذه المقالة. ثم صادر فخر الدولة عبد الجبّار فباع في المصادرة ألف طيلسان وألف ثوب من الصوف الرفيع. ثم تتبّع فخر الدولة آثار ابن عبّاد وأبطل ما كان عنده من المسامحات، وقبض على أصحابه والبقاء للَّه وحده. (وفاة فخر الدولة صاحب الريّ وملك ابنه مجد الدولة) ثم توفي فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه صاحب الريّ وأصفهان وهمذان في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة بقلعة طبرك، ونصّب للملك من بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم وعمره أربع سنين، نصّبه الأمراء وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميس إلى حدود العراق. وكان زمام الدولة بيد أمّ رستم مجد الدولة وإليها تدبير ملكه، وبين يديها في مباشرة الأعمال أبو ظاهر صاحب فخر الدولة، وأبو العبّاس الضبيّ الكافي . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 620 (وفاة العلاء بن الحسن صاحب خوزستان) ثم توفي العلاء بن الحسن عامل خوزستان لصمصام الدولة بعسكر مكرم، فبعث صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز بالمال ففرّقه في الديلم، ودفع أصحاب بهاء الدولة عن جند نيسابور بعد وقائع كان الظفر فيها له، ثم دفعهم عن خوزستان إلى واسط واستمال بعضهم فنزعوا إليه، ورتّب العمّال في البلاد وجبى الأموال سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ثم سار أبو محمد بن مكرم من واسط مع الأتراك فدافعهم، وكانت بينه وبينهم وقائع. ثم سار بهاء الدولة في أثرهم من واسط، وكان لحق بهم في واسط أبو عليّ بن إسماعيل الّذي كان نائبا ببغداد عند مسيره إلى الأهواز سنة ست وثمانين وثلاثمائة وجاء المقلّد بن المسيّب من الموصل للعيث في جهات بغداد، فبرز أبو علي لقتاله، فنكر ذلك بهاء الدولة مغالطة، وبعث من يصالحه ويقبض على أبي عليّ، فهرب أبو علي إلى البطيحة، ثم لحق بهاء الدولة وهو بواسط فوزر له وزير أمره وأشار عليه بالمسير لانجاد أبي محمد بن مكرم في قتال أبي عليّ بن أستاذ هرمز بخوزستان، فسار بهاء الدولة ونزل القنطرة البيضاء، وجرت بينه وبين أبي علي بن استاذ هرمز وقائع، وانقطعت الميرة عن عسكر بهاء الدولة، فاستمدّ بدر بن حسنويه فأمدّه ببعض الشيء، وكثرت سعاية الأعداء في أبي علي بن إسماعيل فكاد ينكبهم، وبينما هم على ذلك بلغهم مقتل صمصام الدولة فصلحت الأحوال واجتمعت الكلمة. (مقتل صمصام الدولة) كان أبو القاسم وأبو نصر ابنا بختيار محبوسين كما تقدّم، فخدعا المتوكّلين بهما في القلعة، وخرجا فاجتمع إليهما لفيف من الأكراد، وكان صمصام الدولة قد عرض جنده وأسقط منهم نحوا من ألف لم يثبت عنده نسبهم في الديلم فبادروا إلى ابني بختيار والتقوا عليهما في أرّجان. وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيما، فثار به الجند ونهبوا داره فاختفى، ثم انتقضوا على صمصام الدولة ونهبوه، وهرب إلى الرودمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 621 على مرحلتين من شيراز فقبض عليه صاحبها، وجاء أبو نصر بن بختيار فأخذه منه وقتله في ذي الحجّة سنة ثمان لتسع سنين من إمارته بفارس، وأسلمت أمّه إلى بعض قوّاد الديلم فقتلها ودفنها بداره حتى ملك بهاء الدولة فارس، فنقلها الى تربة بني بويه. (استيلاء بهاء الدولة على فارس وخوزستان) ولما قتل صمصام الدولة وملك ابنا بختيار فارس بعثا إلى أبي علي بن أستاذ هرمز يستميلانه، ويأمرانه بأخذ العهد لهما على الذين معه من الديلم، ومحاربة بهاء الدولة. وكتب إليه بهاء الدولة يستميله ويؤمّنه ويؤمّن الديلم الذين معه ويرغّبهم، واضطرب رأي أبي علي لخوفه من ابني بختيار لما أسلف من قتل إخوتهما وحبسهما فمال عنهما، ومال الديلم عن بهاء الدولة خوفا من الأتراك الذين معه، فما زال أبو علي بهم حتى بعثوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة، واستوثقوا يمينه ونزلوا إلى خدمته، وساروا إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز وأرّجان. واستولى بهاء الدولة على سائر بلاد خوزستان وبعث وزيره أبا علي بن إسماعيل إلى فارس، فنزل بظاهر شيراز وبها ابنا بختيار فحاربهما، ومال بعض أصحابهما إليه. ثم انفضّوا عنهما إلى أبي علي وأطاعوه، واستولى على شيراز ولحق أبو نظر ابن بختيار ببلاد الديلم وأخوه أبو القاسم ببدر بن حسنويه ثم بالبطيحة. وكتب الوزير أبو علي إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار إلى شيراز وأمر بنهب قرية الرودمان فملكها، وأقام بهاء الدولة بالأهواز، واستخلف ببغداد أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز ولقّبه عميد العراق. وبقي ملوك الديلم بعد ذلك يقيمون بفارس الأهواز ويستخلفون على العراق مدّة طويلة. (مقتل ابن بختيار بكرمان واستيلاء بهاء الدولة عليها) لما استقرّ أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم كاتب جند الديلم بفارس وكرمان واستمالهم، فاستدعوه إلى فارس، فاجتمع إليه كثير من الربض والديلم والأكراد. ثم سار إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 622 كرمان وبها أبو جعفر بن السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها وملك أكثر كرمان، فبعث بهاء الدولة وزيره الموفّق أبا علي بن إسماعيل في العساكر، ولما وصل جيرفت استأمن إليه أهلها وملكها، وهرب ابن بختيار فاختار الوزير من أصحابه ثلاثمائة رجل وسار في أتباعه، وترك باقي العسكر بجيرفت. ولما أدركه أوقع به وغدر بابن بختيار بعض أصحابه فقتله، وجاء برأسه الى الموفّق، واستلحم الباقين، وذلك سنة تسعين وثلاثمائة. واستولى الموفّق على كرمان، وولّى عليها أبا موسى سياه جشم، وعاد إلى بهاء الدولة فقبض عليه واستصفاه، وكتب إلى وزيره سابور بالقبض على أنسابه وأصحابه، فدسّ إليهم سابور بذلك وهربوا. ثم قتل بهاء الدولة الموفّق سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، ثم استعمل بهاء الدولة على خوزستان وأعمالها أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز، ولقّبه عميد الجيوش، وعزل عنها أبا جعفر الحجّاج بن هرمز لسوء سيرته، وفساد أحوالها بولايته، وكثرة مصادراته، فصلحت حالها بولاية أبي علي، وحصّل إلى بهاء الدولة منها الأموال مع كثرة العدل. (مسير ظاهر بن خلف الى كرمان واستيلاؤه عليها ثم ارتجاعها) قد تقدّم لنا أنّ ظاهر بن خلف خرج عن طاعة أبيه خلف بن أحمد السجستاني، وحاربه فظفر به أبوه، فسار إلى كرمان يروم التوثّب عليها، وتكاسل عاملها عن أمره، فكثر جمعه واجتمع إليه بحيالها كثير من المخالفين، فنزل بهم إلى جيرفت فملكها وملك غيرها سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. وكان بكرمان أبو موسى سياه جشم، فسار إليه بمن معه من الديلم فهزمه ظاهر وأخذ ما بقي بيده، فبعث بهاء الدولة أبا جعفر استاذ هرمز في العساكر إلى كرمان فهزم ظاهرا إلى سجستان وملك كرمان وعادت الديلم. (حروب عساكر بهاء الدولة مع بني عقيل) كان قرواش بن المقلّد قد بعث جمعا من بني عقيل سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 623 فحاصروا المدائن، وبعث أبو جعفر الحجّاج بن هرمز وهو ببغداد نائب لبهاء الدولة عساكره فدفعوهم عنها، فاجتمع بنو عقيل وأبو الحسن بن مزيد من بني أسد، وبرز إليهم الحجّاج، واستدعى خفاجة من الشام وقاتلهم فانهزم واستبيح عسكره، وانهزم ثانيا، وبرز إليهم فالتقوا بنواحي الكوفة فهزمهم وأثخن فيهم ونهب من حلل بني يزيد ما لا يعبر عنه من العين والمصاغ والثياب. (الفتنة بين أبي علي وأبي جعفر) لما غاب أبو جعفر الحجّاج عن بغداد قام بها العيّارون واشتدّ فسادهم وكثر القتل والنهب، فبعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز لحفظ العراق، فانهزم أبو جعفر بنواحي الكوفة مغضبا. ثم جمعوا الجموع من الديلم والأتراك والعرب، فانهزم أبو جعفر وأمن أبو علي جانبه، فسار إلى خوزستان وبلغ السوس. فأتاه الخبر بأنّ أبا جعفر عاد إلى الكوفة فكرّ راجعا، وعاد الحرب بينهم، وبينما هم على ذلك أرسل بهاء الدولة إلى أبي علي يستدعيه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة لحرب ابن واصل بالبصرة فسار إليه، وكانت الحرب بينه وبين ابن واصل كما يأتي في اخبار ملوك البطيحة، ورجع إلى بغداد ونزل أبو جعفر على فلح حامي طريق خراسان وأقام هنالك، وكان فلح مباينا لعميد الجيوش أبي علي. وتوفي سلخ سنة سبع وتسعين وثلاثمائة فولّى أبو عليّ مكانه أبا الفضل بن عنّان، وكان بهاء الدولة في محاربة ابن واصل بالبصرة، فأتاهم الخبر بظهور بهاء الدولة عليه، فأوهن ذلك منهم وافترقوا ولحق ابن مزيد ببلده، وسار أبو جعفر وابن عيسى إلى حلوان. وأرسل أبو جعفر في إصلاح حاله عند بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك، وحضر عنده بتستر، فأعرض عنه خوفا أن يستوحش أبو علي. وحقد بهاء الدولة لبدر بن حسنويه فسار إليه، وبعث إليه بدرا في المصالحة فقبله وانصرف، وتوفي أبو جعفر الحجّاج بن هرمز بالأهواز سنة إحدى وأربعمائة . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 624 (الفتنة بين مجد الدولة صاحب الريّ وبين أمّه واستيلاء ابن خالها علاء الدين بن كاكويه على أصفهان) قد تقدّم لنا ولاية مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة على همذان وقرميس إلى حدود العراق، وتدبير الدولتين لأمّه وهي متحكّمة عليهما، فلمّا وزر لمجد الدولة الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء عنها وخوّف مجد الدولة عنها، فاسترابت وخرجت من الريّ إلى القلعة، فوضع عليها من يحفظها فأعملت الحيلة حتى لحقت ببدر بن حسنويه مستنجدة به. وجاءها ابنها شمس الدولة في عساكر همذان وسار معهما بدر، وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة فحاصروا أصفهان وملكوها عنوة. وعاد إليها الأمر فاعتقلت مجد الدولة ونصبت شمس الدولة للملك، ورجع بدر إلى بلده ثم بعد سنة استرابت بشمس الدولة، فأعادت مجد الدولة إلى ملكه. وسار شمس الدولة إلى همذان، وانتقض بدر بن حسنويه لذلك، وكان في شغل بفتنة ولده هلال. واستمدّ شمس الدولة فأمدّه بعسكر وحاصر قمّ فاستصعبت عليه، وكان علاء الدين أبو حفص بن كاكويه ابن خال هذه المرأة، وكاكويه هو الخال بالفارسية، فلذلك قيل له ابن كاكوي، وكانت قد استعملته على أصفهان، فلما فارق أمرها فسد حاله، فسار هو إلى بهاء الدولة بالعراق، وأقام عنده. فلما عادت إلى حالها هرب أبو حفص إليها من العراق، فأعادته إلى أصفهان، ورسخ فيها ملكه وملك بنيه كما يأتي في أخبارهم. (وفاة عميد العراق وولاية فخر الملك) كان أبو جعفر أستاذ هرمز من حجّاب عضد الدولة وخواصه، وصيّر ابنه أبا علي في خدمة ابنه صمصام الدولة، فلمّا قتل صمصام الدولة رجع إلى بهاء الدولة، وبلغه ما وقع ببغداد في مغيبه من الهرج وظهور العيّارين، فبعث بهاء الدولة مكانه على العراق فخر الملك أبا غالب، وأصعد إلى بغداد فلقيه الكتّاب والقوّاد والأعيان في ابن خلدون م 40 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 625 ذي الحجّة من السنة، وبعث العساكر من بغداد لقتال أبي الشوك حتى استقام. وكانت الفتنة قد وقعت بين بدر بن حسنويه وابنه هلال، واستنجد بدر ببهاء الدولة فأنجده [1] من يده وأخذ ما فيها من الأموال، وفتح دير العاقول، وجاء سلطان وعلوان ورجب بنو ثمال الخفاجي في أعيان قومهم، وضمنوا حماية سقي الفرات من بني عقيل، وساروا معه إلى بغداد فبعثهم مع ذي السعادتين الحسن بن منصور للأنبار فعاثوا في نواحيها، وحبس ذو السعادتين نفرا منهم. ثم أطلقهم فهمّوا بقبضه، وشعر بهم فحاول عليهم حتى قبض على سلطان منهم وحبسهم ببغداد. ثم شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد فأطلقهم، فاعترضوا الحاج سنة اثنتين وأربعمائة ونهبوهم فبعث فخر الملك إلى أبي الحسن بن مزيد بالانتقام منهم، فلحقهم بالبصرة فأوقع بهم وأثخن فيهم، واستردّ من أموال الحاج ما وجد وبعث به وبالأسرى إلى فخر الملك. ثم اعترضوا الحاج مرّة أخرى ونهبوا سواد الكوفة فأوقع بهم أبو الحسن بن مزيد مثل ذلك، وبعث بأسراهم إلى بغداد.   [1] هكذا بياض بالأصل في الكامل ج 9 ص 215: «وأرسل بدر الى الملك بهاء الدولة يستنجده، مجهّز فخر الملك أبا غالب في جيش، وسيّره الى بدر، فسار حتى وصل الى سابور خواست، فقال هلال لأبي عيسى شاذي: قد جاءت عساكر بهاء الدولة، فما الرأي؟ قال: الرأي أن تتوقف عن لقائهم، وتبذل لبهاء الدولة الطاعة، وترضيه بالمال، فإن لم يجيبوك فضيّق عليهم، وانصرف بين أيديهم، فإنّهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظنّ هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند، فإنّ أولئك ذلّلهم أبوك على ممرّ السنين. فقال: غششتني ولم تنصحني، وأردت بالمطاولة ان يقوى أبي وأضعف أنا، وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلا. فلما وصل اليهم وقع الصوت، فركب فخر الملك في العساكر، وجعل عند أثقالهم من يحميها، وتقدم الى قتال هلال، فلما رأى هلال صعوبة للأمر ندم، وعلم أن أبا عيسى بن شاذي نصحه، فندم على قتله، ثم أرسل الى فخر الملك يقول له: إنّني ما جئت لقتال وحرب، إنما جئت لأكون قريبا منك، وأنزل على حكمك، فتردّ العسكر عن الحرب، فإنّني أدخل في الطاعة. فمال فخر الملك الى هذا القول، وأرسل الرسول الى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبّه وطرده، وأرسل الى فخر الملك يقول له: إنّ هذا مكر من هلال، لما رأى ضعفه، والرأي ان لا تنفّس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه، وكان يتّهم بدرا بالميل الى ابنه، وتقدّم الى الجيش بالحرب، فقاتلوا فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيرا، فقبّل الأرض، وطلب ان لا يسلّمه إلى أبيه، فأجابه الى ذلك، وطلب علامته بتسليم القلعة، فأعطاهم العلامة، فامتنعت أمّه ومن بالقلعة من التسليم، وطلبوا الأمان، فأمّنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه، ثم نزل منها وسلّمها الى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 626 (وفاة بهاء الدولة وولاية ابنه سلطان الدولة) ثم توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه هلك بالعراق منتصف ثلاث وأربعمائة بأرّجان، وحمل إلى تربة أبيه بمشهد عليّ فدفن بها لأربع وعشرين سنة من ملكه، وملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع، وسار من أرّجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة أبا ظاهر على البصرة وأخاه أبا الفوارس على كرمان. (استيلاء شمس الدولة على الريّ من يد أخيه مجد الدولة ورجوعه عنها) قد تقدّم لنا أنّ شمس الدولة بن فخر الدولة كان ملك همذان وأخوه مجد الدولة ملك الريّ بنظر أمّه، وكان بدر بن حسنويه أمير الأكراد وبينه وبين ولده هلال فتنة وحروب نذكرها في أخبارهم. واستولى شمس الدولة على كثير من بلادهم وأخذ ما فيها من الأموال كما يذكر في أخبارهم. ثم سار إلى الريّ يروم ملكها ففارقها أخوه مجد الدولة ومعه أمّه إلى دنباوند واستولى شمس الدولة على الريّ وسار في طلب أخيه وأمّه فشغب الجند عليه وطالبوه بأرزاقهم، فعاد إلى همذان وعاد أخوه مجد الدولة وأمّه إلى الريّ. (مقتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان) ثم قبض سلطان الدولة على نائبة بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب وقتله في سلخ ربيع الأول سنة ست وأربعمائة لخمس سنين ونصف من ولايته، واستصفى أمواله، وكانت ألف ألف دينار سوى العروض وما نهب. وولّى مكانه بالعراق أبا محمد الحسن بن سهلان ولقّبه عميد الجيوش، واستوزر مكانه الرجّحي بعد أن كان ابن سهلان هرب إلى قرواش فأقامه عنده بهيت، وولّى سلطان الدولة مكانه في الوزارة أبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 627 القاسم جعفر بن فسانجس. ثم رجع ابن سهلان الى سلطان الدولة. فلما قتل فخر الملك ولّاه مكانه، فسار إلى العراق في محرّم سنة تسع وأربعمائة، ومرّ في طريقه ببني أسد فرأى أن يثأر منهم من مضر بن دبيس بما كان قبض عليه قديما بأمر فخر الملك، فأسرى إليه وإلى أخيه مهارش، وفي جملته أخوهم طراد، واتبعهما حتى أدركهما، وقاتله رجال الحيّ فقتل جماعة من الديلم والأتراك. ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم وسبى حريمهم، وبذل الأمان لمضر ومهارش وأشرك بينهما وبين طراد في الجزيرة. ونكر عليه سلطان الدولة ذلك، ورحل هو إلى واسط والفتن بها فقتل جماعة منهم وأصلحها، وبلغه ما ببغداد من الفتنة فسار إليها ودخلها في ربيع من السنة، وهرب منه العيّارون ونفى جماعة من العبّاسيّين وأبا عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم بأطراف البلد فكثر فسادهم وفساد الأتراك، وساروا إلى سلطان الدولة بواسط شاكين من ابن سهلان فوعدهم وأمسكهم، وبعث عن ابن سهلان فارتاب وهرب إلى بني خفاجة، ثم إلى الموصل، ثم استقرّ بالبطيحة. وبعث سلطان الدولة العساكر في طلبه فأجاره واليها الشرابي وهزم العساكر وكان ابن سهلان سار إلى جلال الدولة بالبصرة ثم أصلح الرجّحي حاله مع سلطان الدولة ورجع إليه. وضعف أمر الديلم في هذه السنة ببغداد وواسط، وثارت لهم العامّة فلم يطيقوا مدافعتهم. ثم قبض سلطان الدولة على وزيره فسانجس وأخويه، واستوزر أبا غالب ذا السعادتين الحسن بن منصور، وقبض جلال الدولة صاحب البصرة على وزيره أبي سعد عبد الواحد علي بن ماكولا. (انتقاض أبي الفوارس على أخيه سلطان الدولة) كان سلطان الدولة قد ولّى أخاه أبا الفوارس على كرمان فاجتمع إليه بعض الديلم، وداخلوه في الانتقاض فانتقض، وسار إلى شيراز فملكها سنة سبع وأربعمائة. وسار سلطان الدولة فهزمهم إلى كرمان، وسار في اتباعه فلحق بمحمود بن سبكتكين ببست ووعده بالنصرة، وبعث معه أبا سعيد الطائي في العساكر إلى كرمان، وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 628 انصرف عنها سلطان الدولة إلى بغداد فملكها أبو الفوارس وسار إلى بلاد فارس فملكها، ودخل إلى شيراز فسار سلطان الدولة إليه فهزمه فعاد إلى كرمان سنة ثمان وأربعمائة. وبعث سلطان الدولة في أثره فملكوا عليه كرمان، ولحق بشمس الدولة صاحب همذان لأنه كان أساء معاملة أبي سعيد الطائي، فلم يرجع إلى محمود بن سبكتكين. ثم فارق شمس الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة فبالغ في تكرمته وأنزله بداره. وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة مالا، وعرض عليه المسير إليه فأبى. ثم تردّدت الرسل بينه وبين أخيه سلطان الدولة، فعاد إلى كرمان وبعث إليه التقليد والخلع. (وثوب مشرف الدولة على أخيه سلطان الدولة ببغداد واستبداده آخرا بالملك) ثم شغب الجند على سلطان الدولة ببغداد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ونادوا بولاية مشرف الدولة أخيه فهمّ بالقبض عليه فلم يتمكّن من ذلك، ثم أراد الانحدار إلى واسط لبعض شئون الدولة فطلب الجند أن يستخلف فيهم أخاه مشرف الدولة فاستخلفه، ورجع من واسط إلى بغداد. ثم اعتزم على قصد الأهواز فاستخلف أخاه مشرف الدولة ثانيا على العراق بعد أن كانا تحالفا أن لا يستخلف أحد منهما ابن سهلان. فلما بلغ سلطان الدولة تستر استوزر ابن سهلان فاستوحش من مشرف الدولة. ثم بعث سلطان الدولة إلى الأهواز فنهبوها، فدافعهم الأتراك الذين بها، وأعلنوا بدعوة مشرف الدولة، فانصرف سلطان الدولة عنهم. ثم طلب الديم من مشرف الدولة المسير إلى بيوتهم بخوزستان فأذن لهم وبعث معهم وزيره أبا غالب، ولحق الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس الأسدي بجزيرة بني دبيس وذلك لسنة ونصف من ولايته الوزارة، وصودر ابنه أبو العبّاس على ثلاثة ألف دينار وسرّ سلطان الدولة بقتل أبي غالب، وبعث أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها. ثم تراسل سلطان الدولة ومشرف الدولة في الصلح، وسعى فيه بينهما أبو محمد بن مكرم صاحب سلطان الدولة ومؤيد الملك الرجّحي وزير مشرف الدولة، على أن يكون العراق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 629 لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة، وتم ذلك بينهما سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. (استيلاء ابن كاكويه على همذان) كان شمس الدولة بن بويه صاحب همذان قد توفي ووليّ مكانه ابنه سماء الدولة، وكان فرهاد بن مرداويج مقطع يزدجرد، فسار إليها سماء الدولة وحاصره، فاستنجد بعلاء الدولة بن كاكويه، فأنجده بالعساكر، ودفع سماء الدولة عن فرهاد. ثم سار علاء الدولة وفرهاد إلى همذان وحاصراها، وخرجت عساكر همذان مع عساكر تاج الملك الفوهي قائد سماء الدولة فدفعهم، ولحق علاء الدولة بجرباذقان فهلك الكثير من عسكره بالبرد. وسار تاج الملك الفوهي إلى جرباذقان فحاصر بها علاء الدولة حتى استمال بها قوما من الأتراك الذين مع تاج الملك. وخلص من الحصار وعاود المسير إلى همذان، فهزم عساكرها وهرب القائد تاج الملك، واستولى علاء الدولة على سماء الدولة فأبقى عليه رسم الملك، وحمل إليه المال، وسار فحاصر تاج الملك في حصنه حتى استأمن اليه فأمّنه وسار به وبسماء الدولة إلى همذان فملكها، وملك سائر أعمالها، وقبض على جماعة من أمراء الديلم فحبسهم وقتل آخرين وضبط الملك، وقصد أبا الشوك الكردي فشفع فيه مشرف الدولة فشفعه وعاد عنه، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة. (وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولة ثم عزله) كان عنبر الخادم مستوليا على دولة مشرف الدولة بما كان حظي أبيه وجدّه، وكان يلقّب بالأثير، وكان حاكما في دولة بني بويه مسموع الكلمة عند الجند. وعقد الوزير مؤيد الملك الرجّحي على بعض اليهود من جواشيه مائة ألف دينار، فسعى الأثير الخادم وعزله في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة واستوزر لناصر الدولة بن حمدان، ونزع عنه إلى خلفاء العبيديّين، وولّاه الحاكم بمصر. وولد له بها ابنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 630 أبو القاسم الحسين، ثم قتله الحاكم فهرب ابنه أبو القاسم إلى مفرّج بن الجرّاح أمير طيِّئ بالشام، وداخله في الانتقاض على العبيديّين بأبي الفتوح أمير مكة فاستقدمه وبايع له بالرملة. ثم صونع مع مصر بالمال فانحلّ ذلك الأمر ورجع أبو الفتوح إلى مكة، وقصد أبو القاسم العراق واتصل بالعميد فخر الملك أبي غالب، فأمره القادر بإبعاده، فقصد الموصل واستوزره صاحبها، ثم نكبه وعاد الى العراق، وتقلّب به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرجّحي، فساء تصرّفه في الجند وشغب الأتراك عليه وعلى الأثير عنبر بسببه، فخرجا إلى السّندية، وخرج معهما مشرف الدولة فأنزلهم قرواش. ثم ساروا إلى أوانا، وندم الأتراك فبعثوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي يسألون الإقالة، وكتب إليهم أبو القاسم المغربي بأنّ أرزاقكم عند الوزير مكرا به. وشعر بذلك فهرب إلى قرواش لعشرة أشهر من وزارته، وجاء الأتراك إلى مشرف الدولة والأثير عنبر فردّهما إلى بغداد. (وفاة سلطان الدولة بفارس وملك ابنه أبي كليجار وقتل ابن مكرم) ثم توفي سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة صاحب فارس بشيراز، وكان محمد بن مكرم صاحب دولته، وكان هواه مع ابنه أبي كليجار، وهو يومئذ أمير على الأهواز، فاستقدمه للملك بعد أبيه وكان هوى الأتراك مع عمّه أبي الفوارس صاحب كرمان فاستقدموه. وخشي محمد بن مكرم جانبه وفرّ عنه أبو المكارم إلى البصرة، وسار العادل أبو منصور بن مافنّة إلى كرمان لاستقدام أبي الفوارس وكان صديقا لابن مكرم [1] فحسن أمره عند أبي الفوارس، وأحال الأجناد بحق البيعة على ابن مكرم فضجر وماطلهم، فقبض عليه أبو الفوارس وقتله. ولحق ابنه القاسم بأبي كليجار بالأهواز فتجهّز إلى فارس، وقام بتربيته بابن مزاحم [2] صندل   [1] يبدو ان أبا منصور بن مافنة كان صديقا لابن مكرم هكذا يقتضي السياق وفي الكامل ج 9 ص 337: «فقال له العادل أبو منصور بن مافنة: الصلحة أن تقصد سيراف، وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك. فركب سفينة ليمضي اليها، فأصابه برد فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس» . [2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 9 ص 338: «وقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم، وكان مربيه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 631 الخادم. وسار في العساكر إلى فارس ولقيهم أبو منصور الحسن بن علي النّسويّ وزير أبي الفوارس فهزموه وغنموا معسكره وهرب أبو الفوارس إلى كرمان وملك أبو كليجار شيراز واستولى على بلاد فارس. وتنكّر للديلم الذين بها، فبعثوا الى من كان منهم بمدينة نسا فتمسّكوا بطاعة أبي الفوارس. ثم شغب عسكر أبي كليجار عليه، وطالبوه بالمال فظاهرهم الديلم، فسار إلى النوبندجان ثم الى شعب بوّان، وكاتب الديلم بشيراز أبا الفوارس يستحثّونه. ثم أصلحوا بينهما على أن تكون لأبي الفوارس كرمان، ويعود أبو كيجار لفارس لما فارقه بها من نعمته. وكان الديلم يطيعونه فساروا في العساكر وهزموا أبا الفوارس، فلحق بدارابجرد واستولى أبو كليجار على فارس. ثم زحف إليه أبو الفوارس في عشرة آلاف من الأكراد فاقتتلوا بين البيضاء، وإصطخر فانهزم أبو الفوارس ولحق بكرمان، واستولى أبو كليجار على فارس واستقرّ ملكه بها سنة سبع عشرة وأربعمائة. (وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة) ثم توفي مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بن بويه سلطان بغداد في ربيع الأوّل سنة ست عشرة وأربعمائة، لخمس سنين من ملكه. ولما توفي خطب ببغداد لأخيه جلال الدولة وهو بالبصرة، واستقدم فلم يقدم، وانتهى إلى واسط فأقام بها يخطب لأبي كليجار ابن أخيه سلطان الدولة، وهو يومئذ بخوزستان مشغول بحرب عمّه أبي الفوارس كما قدّمناه. فحينئذ أسرع جلال الدولة من واسط إلى بغداد، فسار الجند ولقوة بالنهروان وردّوه كرها بعد أن نهبوا بعض خزائنه، وقبض على وزيره أبي سعيد بن ماكولا واستوزر ابن عمّه أبا علي، واستحثّ الجند أبا كليجار فعلّلهم بالوعد وشغل بالحرب، وكثر الهرج ببغداد من العيّارين، وانطلقت أيديهم وأحرقوا الكرخ، ونهاهم الأمير عنبر عن ذلك فلم ينتهوا، فخافهم على نفسه، فلحق بقرواش في الموصل وعظمت الفتن ببغداد . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 632 (استيلاء جلال الدولة على ملك بغداد) ولما عظم الهرج ببغداد ورأى الأتراك أنّ البلاد تخرب وأنّ العرب والأكراد والعامّة قد طمعوا فيهم، ساروا جميعا إلى دار الخلافة مستعتبين ومعتذرين عمّا صدر منهم من الانفراد باستقدام جلال الدولة، ثم ردّه واستقدام أبي كليجار مع أنّ ذلك ليس لنا وإنما هو للخليفة، ويرغبون في استدعاء جلال الدولة لتجتمع الكلمة ويسكن الهرج، ويسألون أن يستخلف فأجابهم الخليفة القادر، وبعث إلى جلال الدولة، فسار من البصرة، فبعث الخليفة القاضي أبا جعفر السّمنانيّ لتلقّيه، ويستخلفه لنفسه، فسار ودخل بغداد سنة ثمان عشرة وأربعمائة وركب الخليفة لتلقّيه، ثم سار إلى مشهد الكاظم ورجع، ودخل دار الملك وأمر بضرب النوب الخمس، فراسله القادر في قطعها فقطعها غصبا، ثم أذن له في إعادتها، وبعث جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرجحي [1] إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش بالتأنيس والمحبّة والعذر عن فعل الجند. (أخبار ابن كاكويه صاحب أصفهان مع الأكراد ومع الأصبهبذ) كان علاء الدولة بن كاكويه قد استعمل أبا جعفر عليّا ابن عمه على نيسابور خوست ونواحيها، وضمّ إليه الأكراد الجودرقان [2] ومقدّمهم أبو الفرج البابوني. فجرت بين أبي جعفر وأبي الفرج البابوني مشاجرة، وترافعا إليه فأصلح بينهما علاء الدولة وأعادهما. ثم قتل أبو جعفر أبا الفرج فانتقض الجودرقان وعظم فسادهم، فبعث علاء الدولة عسكرا وأقاموا أربعة أيام ثم فقدوا الميرة، وجاء علاء الدولة وأعطاهم المال فافترقوا واتبعهم. وجاء إليه بعض الجودرقان وانتهى في اتباعهم إلى وفد وقاتلوه عندها فهزمهم وقتل ابني ولكين في المعركة، ونجا هو في الفلّ إلى جرجان، وأسر   [1] هو أبو علي الرخّجي: ابن الأثير ج 9 ص 362 [2] الجوزقان: المرجع السابق ص 357 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 633 الأصبهبذ وابنان له ووزيره، وهلك في الأسر منتصف سنة تسع عشرة وأربعمائة وتحصّن علي بن عمران بقلعة كنكور فحاصره بهاء الدولة، وصار [1] ولكين إلى صهره منوجهر قابوس وأطمعه في الدخس [2] . وكان ابنه صهر علاء الدولة على ابنته وأقطعه مدينة قمّ فعصى عليه وبعث إلى أبيه ولكين. فسار بعساكره وعساكر منوجهر ونازلوا مجد الدولة بن بويه بالريّ وجرت بينهم وقائع فصالح علاء الدولة عليّ بن عمران ليسير إليهم فارتحلوا عن الريّ. وجاء علاء الدولة إليها وأرسل إلى منوجهر يوبخه ويتهدّده فسار منوجهر وتحصّن بكنكور وقتل الذين قتلوا أبا جعفر ابن عمّه وقبل الشرط [3] ، وخرج إلى علاء الدولة فأقطعه الدينور عوضا عن كنكور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة في الصلح فصالحه. (دخول خفاجة في طاعة أبي كليجار) كان هؤلاء خفاجة وهم من بني عمرو بن عقيل موطنين بضواحي العراق ما بين بغداد والكوفة وواسط والبصرة. وأميرهم بهذه العصور منيع بن حسّان، وكانت بينه وبين صاحب الموصل منافسات جرّتها المناهضة والجوار، فتردّدت الرسل بين السلم والحرب. وسار منيع بن حسّان سنة سبع عشرة وأربعمائة إلى الجامعين من أعمال دبيس فهبها، وسار دبيس في طلبه ففارق الكوفة وقصد الأنبار من أعمال قرواش فحاصرها أيام، ثم افتتحها وأحرقها، وجاء قرواش لمدافعته ومعه غريب بن معن فلم يجدوه فمضوا إلى القصر فخالفهم منيع إلى الأنبار فعاث فيها ثانية. فسار قرواش إلى الجامعين واستنجد دبيس بن صدقة فسار معه في بني أسد، ثم خاموا عن لقاء منيع فافترقوا ورجع قرواش إلى الأنبار فأصلحها، ورمّ أسوارها. وكان دبيس وقرواش في   [1] مقتضى السياق: سار [2] وفي نسخة اخرى الدخكث وفي الكامل ج 9 ص 358: «وأطمعه في الريّ وملكها.» [3] المعنى مضطرب ولا يخلو من التشويش وفي الكامل ج 9 ص 358: «وجمع عنده الذخائر بكنكور، وقصده علاء الدولة وحصره وضيّق عليه، فغنى ما عنده، فأرسل يطلب الصلح، فاشترط علاء الدولة أن يسلّم قلعة كنكور والذين قتلوا أبا جعفر عمه، والقائد الّذي سيّره إليه منوجهر، فأجابه الى ذلك وسيّرهم إليه، فقتل قتلة ابن عمّه، وسجن القائد وتسلّم القلعة، وأقطع عليّا عوضا عنها مدينة الدينور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة فصالحه، فأطلق صاحبه.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 634 طاعة جلال الدولة، فسار منيع بن حسّان إلى أبي كليجار بالأهواز فأطاعه وخلع عليه ورجع إلى بلده يخطب له بها. (شغب الأتراك على جلال الدولة) ولما استقل جلال الدولة بملك بغداد وكثر جنده من الأتراك واتسعت أرزاقهم من الديوان، وكان الوزير أبو علي بن ماكولا فطالبوه بأرزاقهم فعجز عنها، وأخرج جلال الدولة صياغات وباعها وفرّقها في الجند. ثم ثاروا عليه وطالبوه بأرزاقهم وحصروه في داره حتى فقد القوت والماء. وسأل الإنزال إلى البصرة وخرج بأهله ليركب السفن إلى البصرة وقد ضرب سرادقا على طريقهم ما بين داره والسفن، فقصد الأتراك السرادق فامتعض جلال الدولة لحريمه، ثم نادى في الناس وخرج الجند ونادوا بشعاره ثم شغبوا عليه بعد أيام قلائل في طلب أرزاقهم، واضطرّ جلال الدولة إلى بيع ملبوسه وفرشه وخيامه، وفرّق أثمانها فيهم. وعزل جلال الدولة وزيره أبا علي واستوزر أبا طاهر، ثم عزله بعد أربعين يوما وولّى سعيد بن عبد الرحيم وذلك سنة تسع عشرة وأربعمائة. (استيلاء أبي كليجار على البصرة ثم على كرمان) ولما أصعد جلال الدولة إلى بغداد استخلف على البصرة ابنه الملك العزيز أبا منصور، وكان بين الأتراك وبين الديلم من الفتنة ما ذكرناه، فتجدّدت بينهم الفتنة فغلب الأتراك، وأخرجوا الديلم إلى الأبلة مع بختيار بن علي، فسار إليهم الملك العزيز ليرجعهم فحاربوه ونادروا بشعار أبي كليجار بن سلطان الدولة وهو بالأهواز فعاد منهزما. ونهب الديلم الأبلة ونهب الأتراك البصرة. وبلغ الخبر إلى أبي كليجار فبعث من الأهواز عسكرا إلى بختيار والبصرة والديلم، فقاتلوا الملك العزيز وأخرجوه، فلحق بواسط وملكوا البصرة ونهبوا أسواقها سنة تسع عشرة وأربعمائة وهمّ جلال الدولة بالمسير إليهم وطلب المال للجند وشغل بمصادرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 635 أرباب الأموال، وبلغ خبر استيلاء أبي كليجار على البصرة إلى كرمان وكان بها عمه قوام الدولة أبو الفوارس، وقد تجهّز لقصد بلاد فارس فأدركه أجله فمات، فنادى أصحابه بشعار أبي كليجار واستدعوه، فسار ملك بلاد كرمان، وكان أبو الفوارس سيّئ السيرة في رعيته وأصحابه. (قيام بني دبيس بدعوة أبي كليجار) كانت جزيرة بني دبيس بنواحي خوزستان لطراد بن دبيس، وغلب عليه فيها منصور وخطب فيها لأبي كاليجار، ومات طراد فسار إلى منصور ابنه علي، واستنجد جلال الدولة عليه فأمدّه بعسكر من الأتراك وسار عجلا. واتفق أنّ أبا صالح كوكين هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأراد أن يفتتح طاعته باعتراض أصحاب جلال الدولة فسار إلى منصور بالجزيرة. وخرجوا لقتال علي بن طراد ولقوة بمبرود فهزموه وقتلوه، واستقرّ منصور بالجزيرة على طاعة أبي كليجار. (استيلاء أبي كليجار على واسط ثم انهزامه وعودها لجلال الدولة) ثم انّ نور الدولة دبيس [1] على صاحب حلب والنيل، خطب لأبي كليجار في أعماله لما بلغه أن ابن عمّه المقلّد بن الحسن ومنيع بن حسّان أمير خفاجة سارا مع عساكر بغداد إليه، فخطب هو لأبي كليجار واستدعاه فسار من الأهواز إلى واسط، وقد كان لحق بها الملك العزيز بن جلال الدولة ومعه جماعة من الأتراك. فلما وصل أبو كليجار فارقها الملك العزيز إلى النعمانيّة، واستولى أبو كليجار على واسط. ووفد عليه دبيس وبعث إلى قرواش صاحب الموصل والأثير عنبر عنده،   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 374: «وكان ابتداء ذلك ان نور الدين دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة والنيل ولم تكن الحلّة بنيت ذلك الوقت، خطب لأبي كاليجار في أعماله» وهكذا تكون حلب محرّفة ربما من الناسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 636 وأمرهما أن ينحدرا إلى العراق فانحدرا، ومات الأثير عنبر بالكحيل. ورجع قرواش وجمع جلال الدولة العساكر واستنجد أبا الشوك وغيره وسار إلى واسط، وضاقت عليه الأمور لقلّة المال. وأشار عليه أصحابه بمخالفة أبي كليجار إلى الأهواز لأخذ أمواله، وأشار أصحاب أبي كليجار بمخالفة جلال الدولة إلى العراق. وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر من أبي الشوك بمسير عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق. ويشير بإجماع الكلمة. وبعث أبو كليجار بكتابه إلى جلال الدولة فلم يعرج عليه، وسار إلى الأهواز ونهبها وأخذ من دار الإمارة خاصة مائتي ألف دينار سوى أموال الناس، وأخذت والدة أبي كليجار وبناته وعياله وحملن إلى بغداد. وسار جلال الدولة لاعتراضه وتخلّف عنه دبيس بن مزيد خشية على أحيائه من خفاجة، والتقى أبو كليجار وجلال الدولة في ربيع سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فاقتتلوا ثلاثا، ثم انهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه نحو من ألفين ورجع إلى الأهواز. وأتاه العادل بن مافنّة بمال أنفقه في جنده، ورجع جلال الدولة إلى واسط واستولى عليها وأنزل ابنه العزيز بها ورجع. (استيلاء محمود بن سبكتكين صاحب خراسان على بلاد الريّ والجيل وأصفهان) كان مجد الدولة بن فخر الدولة متشاغلا بالنساء والعلم، وتدبير ملكه لأمّه. وتوفيت سنة تسع عشرة وأربعمائة فاختلفت أحواله، وطمع فيه جنده، فكتب إلى محمود بن سبكتكين يشكو إليه، فبعث إليه عسكرا مع حاجبه، وأمره بالقبض عليه، فركب مجد الدولة لتلقّيه فقبض عليه وعلى ابنه أبي دلف وطيّر بالخبر إلى محمود فجاء إلى الريّ ودخلها في ربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة، وأخذ منها مال مجد الدولة ألف ألف دينار، ومن الجواهر قيمة خمسمائة ألف دينار، وستة آلاف ثوب، ومن الحرير والآلات ما لا يحصى. وبعث بمجد الدولة إلى خراسان فاعتقل بها. ثم ملك قزوين وقلاعها ومدينة ساوة وآوة ويافت، وقبض على صاحبها ولكين وبعث به إلى خراسان، وقتل من الباطنية خلقا ونفي المعتزلة الى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 637 والاعتزال والنجامة، وملك حدود أرمينية وخطب له علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان، واستخلف على الريّ ابنه مسعودا فافتتح زنجان وأبهر، ثم ملك أصفهان من يد علاء الدولة، واستخلف عليها بعض أصحابه فثار به أهل أصفهان وقتلوه، فسار إليها وفتك فيهم، يقال قتل منهم خمسة آلاف قتيل وعاد إلى الريّ فأقام بها. (اخبار الغز بالريّ وأصفهان وأعمالها وعودهما إلى علاء الدولة) قد تقدّم لنا في غير موضع بداية هؤلاء الغزّ، وأنهم كانوا بمفازة بخارى وكانوا فريقين: أصحاب أرسلان بن سلجوق وأصحاب بني أخيه ميكائيل بن سلجوق، وأن يمين الدولة محمود بن سبكتكين لما ملك بخارى وما وراء النهر قبض على أرسلان ابن سلجوق، وسجنه بالهند ونهب أحياءه. ثم نهض إلى خراسان ولحق بعضهم بأصفهان، وبعث محمود في طلبهم الى علاء الدولة بن كاكويه فحاول على أخذهم، وشعروا ففرّوا الى نواحي خراسان، وكثر عيثهم فأوقع بهم تاش الفوارس قائد مسعود ابن سبكتكين فساروا الى الري قاصدين أذربيجان، وكانوا يسمّون العراقية، وكان أمراء هذه الطائفة كوكتاش ويرفأ وقزل ويعمر وناصفلي [1] ، فلما انتهوا إلى الدّامغان خرج إليهم عسكرها فلم يطيقوا دفاعهم فتحصنوا بالجبل. ودخل الغز البلد ونهبوه، ثم فعلوا في سمنان مثل ذلك، ثم في جوار الريّ وفي إسحاقاباذ وما جاورها من القرى، ثم ساروا إلى مسكويه من أعمال الري فنهبوها. وكان تاش الفوارس قائد بني سبكتكين بخراسان ومعه أبو سهل الحمدونيّ من قوّادهم فاستنجدوا مسعود بن سبكتكين وصاحب جرجان وطبرستان فأنجداهم وقاتلا الغز فانهزما وقتل تاش الفوارس. وسار إلى الريّ أبو سهل الحمدونيّ فهزموه وتحصن بقلعة طبرك، ودخل الغز الريّ ونهبوه. ثم قاتلوه ثانيا فأسر منهم ابن أخت لعمر من قوادهم فبذلوا فيه ثلاثين ألف دينار واعادة ما أخذوا من عسكر تاش من المال والأسرى فأبى أبو سهل من إطلاقه، وخرج الغز من الرقّ ووصل عسكر جرجان وقاتلوا الغز عند ما   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 379: «كوكتاش وبوقا وقزل ويغمر وناصغلي.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 638 قاربوا الريّ وأسروا قائدهم وألفين معه، وساروا إلى أذربيجان وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة. ولما سار الغز إلى أذربيجان سار علاء الدولة إلى الريّ فدخلها بدعوة مسعود بن سبكتكين، وأرسل الى أبي سهل الحمدونيّ أن يضمنه على البلد مالا فأبى [1] فأرسل علاء الدولة يستدعي الغز فرجع إليه بعضهم وأقام عنده. ثم استوحشوا منه وعادوا الى العيث بنواحي البلاد، فكرّر علاء الدولة مراسلة أبي سهل في الضمان ليكون في طاعة مسعود بن سبكتكين. وكان أبو سهل بطبرستان فأجابه وسار إلى نيسابور وملك علاء الدولة الريّ. ثم اجتمع أهل أذربيجان لمدافعة الغز الذين طرقوا بلادهم وانتقموا من الغز، فافترقوا فسارت طائفة الى الري ومقدّمهم يرقأ وطائفة الى همذان ومقدّمهم منصور وكوكتاش فحاصروا بها أبا كليجار بن علاء الدولة، وأنجده أهل البلاد على دفاعهم وطال حصارهم لهمذان حتى صالحهم أبو كليجار وصاهر كوكتاش. وأما الذين قصدوا الريّ فحاصروا بها علاء الدولة بن كاكويه وانضم اليهم فناخسرو بن مجد الدولة وكامد صاحب ساوة، فطال حصارهم وفارق البلد في رجب ليلا إلى أصفهان، وأجفل أهل البلد وتمزقوا ودخلها الغز من الليل واستباحوها. واتبع علاء الدولة جماعة منهم فلم يدركوه فعدلوا الى كرج ونهبوها، ومضى ناصفلي منهم إلى قزوين فقاتلهم حتى صالحوه على سبعة آلاف دينار وصاروا الى طاعته. ولما ملكوا الريّ رجعوا إلى حصار همذان ففارقها أبو كليجار وصحبه الوجوه والأعيان وتحصّنوا بكنكون [2] ، وملك الغز همذان ومقدّمهم كوكتاش ومنصور ومعهم فناخسرو بن مجد الدولة في عدد من الديلم فاستباحوها، وبلغت سراياهم إلى أستراباذ وقرى الدينور   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 381: «فأرسل الى أبي سهل الحمدونيّ يطلب منه ان يقرر الّذي عليه بمال يؤدّيه، فامتنع من إجابته مخافة علاء الدولة، فأرسل الى الغز يستدعيهم ليعطيهم الأقطاع، ويتقوّى بهم على الحمدونيّ، فعاد منهم نحو ألف وخمسمائة مقدّمهم قزل، وسار الباقون الى أذربيجان. فلما وصل الغز الى علاء الدولة أحسن اليهم وتمسّك بهم، وأقاموا عنده، ثم ظهر على بعض القواد الخراسانية الذين عنده انه دعا الغز الى موافقته على الخروج عليه والعصيان، فأرسل اليه علاء الدولة وأحضره وقبض عليه، وسجنه في قلعة طبرك، فاستوحش الغز لذلك ونفروا، فاجتهد علاء الدولة في تسكينهم، فلم يفعلوا، وعاودوا الفساد والنهب وقطع الطريق، وعاد علاء الدولة فراسل أبا سهل الحمدونيّ وهو بطبرستان، وقرّر معه أمر الريّ ليكون في طاعة مسعود، فأجابه إلى ذلك وسار إلى نيسابور وبقي علاء الدولة بالريّ. [2] كنكور: ابن الأثير ج 9 ص 384. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 639 وقاتلهم صاحبها أبو الفتح ابن أبي الشوك فهزمهم وأسر منهم حتى صالحوه على إطلاقهم فأطلقهم. ثم راسلوا أبا كليجار بن علاء الدولة في المتقدّم عليهم يدبّر ملكهم بهمذان، فلما جاءهم وثبوا به فنهبوا ماله وانهزم وخرج علاء الدولة من أصفهان فوقع في طريقه بطائفة من الغز فظفر بهم ورجع إلى أصفهان منصورا. ولما أجاز الفريق الثاني من الغز السلجوقيّة من وراء النهر، وهم أصحاب طغرلبك وداود وجغربيك وبيقو وأخوهم إبراهيم نيال في العسكر لاتباع هؤلاء الذين بالريّ وهمذان ساروا إلى أذربيجان وديار بكر والموصل، وافترقوا عليها وفعلوا فيها الأفاعيل كما تقدّم في أخبار قرواش صاحب الموصل وابن مروان صاحب ديار بكر، وكما يأتي في أخبار ابن وهشودان. (استيلاء مسعود بن سبكتكين على همذان وأصفهان والريّ ثم عودها الى علاء الدولة بن كاكويه) ولما فارق الغز همذان بعث إليها مسعود بن سبكتكين عسكرا فملكوها وسار هو إلى أصفهان فهرب عنها علاء الدولة واستولى على ما كان له بها من الذخائر، ولحق علاء الدولة إلى أبي كاليجار بتستر يستنجده عقب انهزامه أمام جلال الدولة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة كما قدّمنا فوعده بالنصر إذا اصطلح مع عمّه جلالا الدولة. ثم توفي محمود بن سبكتكين ورجع مسعود من خراسان، وكان فناخسرو بن مجد الدولة معتصما بعمران، فطمع في الريّ وجمع جمعا من الديلم والأكراد وقصدها فهزمه نائب مسعود بها. وقتل جماعة من عسكره وعاد إلى حصنه. وعاد علاء الدولة من عند أبي كليجار، وقد كان خائفا من مسعود أن يسير إليهم ولا طاقة لهم به، فجاء بعد موت محمود، وملك أصفهان وهمذان والريّ وتجاوز إلى أعمال أنوشروان وسروا إليه بالريّ واشتدّ القتال وغلبوه على الريّ ونهبوها ونجا علاء الدولة جريحا إلى قلعة فردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان فاعتصم بها، وخطب بالريّ وأعمال أنوشروان لمسعود بن سبكتكين، وولّى عليها تاش الفوارس فأساء السيرة فولّى علاء الدولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 640 (استيلاء جلال الدولة على البصرة ثم عودها لأبي كليجار) كنا قدّمنا أنّ جلال الدولة خالف أبا كليجار إلى الأهواز واتبعه أبو كليجار من واسط فهزمه جلال الدولة، ورجع إلى واسط فارتجعها. وبعث أبو منصور بختيار بن علي نائبا لأبي كليجار فبعث أربعمائة سفينة للقائهم مع عبد الله السراني [1] الزركازي صاحب البطيحة فانهزموا وعزم بختيار على الهرب، ثم ثبت وأعاد السفن لقتالهم والعسكر في البرّ، وجاء الوزير أبو علي لحربهم في سفينة، فلما وصل نهر أبي الخصيب وبه عساكر بختيار رجع مهزوما، وتبعه أصحاب بختيار. ثم ركب بختيار بنفسه وأخذوا سفن أبي علي كلّها وأخذوه أسيرا وبعثه بختيار الى أبي كاليجار فقتله بعض غلمانه اطلع له على ريبة وخشيه فقتله. وكان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة من المكوس، ويعيّن فيها [2] ، ولما بلغ خبره إلى جلال الدولة استوزر مكانه ابن عمّه أبا سعيد عبد الرحيم، وبعث الأجناد لنصرة الذين كانوا معه فملكوا البصرة في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ولحق بختيار بالأبلّة في عساكره واستمدّ أبا كليجار فبعث إليه العساكر مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس فقاتلوا عساكر جلال الدولة بالبصرة، فانهزم بختيار أوّلا وأخذ كثير من سفنه. ثم اختلف أصحاب جلال الدولة بالبصرة وتنازعوا وافترقوا واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات فركبوا إلى البصرة وملكوها، وعادت لأبي كليجار كما كانت. (وفاة القادر ونصب القائم للخلافة) وفي ذي الحجّة سن اثنتين وعشرين وأربعمائة توفي الخليفة القادر لإحدى وأربعين سنة من خلافته، وكان مهيبا عند الديلم والأتراك. ولما مات نصب جلال الدولة للخلافة   [1] ابو عبد الله الشرابي: ابن الأثير ج 9 ص 406. [2] عين تعيينا الشيء: خصّصه من الجملة وأفرده. (قاموس) . ابن خلدون م 41 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 641 ابنه القائم بأمر الله أبا جعفر عبد الله بعد أبيه ولقّبه القائم، وبعث القاضي أبا الحسن الماورديّ إلى أبي كاليجار في الطاعة، فبايع وخطب له في بلاده وأرسل إليه بهدايا جليلة وأموال، ووقعت الفتنة ببغداد في تلك الأيام بين السنّة والشيعة، ونهب دور اليهود وأحرقت من بغداد أسواق، وقتل بعض جباة المكس، وثار العيّارون. ثم همّ الجند بالوثوب على جلال الدولة وقطع خطبته، ففرّق فيهم الأموال فسكتوا، ثم عاودوا، فلزم جلال الدولة الأصاغر فشكا من قوّاده الأكابر وهما بارسطعان وبلدوك [1] ، وأنهما استأثرا بالأموال فاستوحشا لذلك، وطالبهما الغلمان بعلوفتهم وجراياتهم فسارا إلى المدائن، وندم الأتراك على ذلك. وبعث جلال الدولة مؤيّد الملك الرجحي [2] فاسترضاهما ورجعا. وزاد شغب الجند عليه ونهبوا دوابه وفرشه، وركب إلى دار الخليفة متغضبا من ذلك وهو سكران، فلاطفه وردّه الى بيته. ثم زاد شغبهم وطالبوه في الدواب لركوبهم فضجر وأطلق ما كان في إسطبله من الدواب، وكانت خمس عشرة وتركها عائرة، وصرف حواشيه وأتباعه لانقطاع خزائنه فعوتب بتلك الفتنة، وعزل وزيره عميد الملك، ووزر بعده أبو الفتح محمد بن الفضل أياما ولم يستقم أمره فعزله، ووزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين السهيليّ وزير مأمون صاحب خوارزم وهرب لخمسة وعشرين يوما. وثوب الأتراك ببغداد بجلال الدولة بدعوة أبي كاليجار ثم رجوعهم الى جلال الدولة ثم تجدّدت الفتنة بين الأتراك وجلال الدولة سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة في ربيع الأوّل فأغلق بابه، ونهب الأتراك داره وسلبوا الكتّاب وأصحاب الدواوين، وهرب الوزير أبو إسحاق السهيليّ [3] إلى حيّ غريب بن محمد بن معن. وخرج جلال الدولة إلى عكبرا وخطبوا لأبي كاليجار واستدعوه من الأهواز فمنعه العادل بن ماقته [4] إلى أن يحضره بين قوّادهم فعادوا إلى جلال الدولة وتطارحوا عليه، فعاد   [1] بارسطغان ويلدرك: ابن الأثير ج 9 ص 420 [2] الرخجيّ وقد مرّ معنا من قبل [3] ابو إسحاق السهلي: ابن الأثير ج 9 ص 421 [4] العادل بن مافنّة: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 642 لثلاث وأربعين يوما من مغيبه. واستوزر أبا القاسم بن ماكولا ثم عزله لفتنة الأتراك به، وإطلاق بعض المصادرين من يده. (استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا ثم عودها لابي كاليجار) ثم توفي أبو منصور بختيار بن علي نائب أبي كاليجار بالبصرة منتصف أربع وعشرين وأربعمائة فقام مكانه صهره أبو القاسم لاضطلاعه وكفايته، واستبدّ بها ونكر أبو كاليجار استبداده، وبعث بعزله فامتنع وخطب لجلال الدولة، وبعث لابنه يستدعيه من واسط فجاء وملك البصرة وطرد عساكر أبي كاليجار. ثم فسد ما بين أبي القاسم والعزيز واستجار منه بعض الديلم بالعزيز، وشكوا منه فأخرجه العزيز عن البصرة وأقام بالأبلّة، ثم عاد إلى محاربة العزيز حتى أخرجه عن البصرة ورجع أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار. (إخراج جلال الدولة من دار الملك ثم عوده) وفي رمضان من سنة أربع وعشرين وأربعمائة استقدم جلال الدولة الوزير أبا القاسم فاستوحش الجند، واتهموه بالتعرّض لأموالهم فهجموا عليه في دار الملك وأخرجوه إلى مسجد في داره، فاحتمل جلال الدولة الوزير أبا القاسم وانتقل إلى الكرخ، وأرسل إليه الجند بأن ينحدر عنهم إلى واسط على رسمه، ويقيم لإمارتهم بعض ولده الأصاغر فأجاب، وبعث إليهم واستمالهم فرجعوا عن ذلك واستردّوه إلى داره، وحلفوا له على المناصحة. واستوزر عميد الدولة أبا سعد سنة خمس وعشرين وأربعمائة عوضا من ابن ماكولا فاستوحش ابن ماكولا، وسار إلى عكبرا فردّه إلى وزارته، وعزل أبا سعد فبقي أياما. ثم فارقها إلى أوانا فأعاد أبا سعد عبد الرحيم إلى وزارته. ثم خرج أبو سعد هاربا من الوزارة ولحق بأبي الشوك، ووزر بعده أبو القاسم فكثرت مطالبات الجند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 643 له وهرب لشهرين فحمل إلى دار الخلافة مكشوف الرأس، وأعيد أبو سعد إلى الوزارة، وعظم فساد العيّارين ببغداد وعجز عنهم النوّاب، فولّى جلال الدولة البساسيري من قوّاد الديلم حماية الجانب الغربي ببغداد فحسن فيه غناؤه، وانحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد حتى أغار الأكراد والجند على بستان الخليفة، ونهبوا ثمرته وطلب أولئك الجند جلال الدولة فعجز عن الانتصاف منهم أو إسلامهم للخليفة، فتقدّم الخليفة الى القضاة والشهود والفقهاء بتعطيل رسومهم فوجم جلال الدولة، وحمل أولئك الجند بعد غيبتهم أياما إلى دار الخليفة فاعترضهم أصحابهم وأطلقوهم، وعجز النوّاب عن إقامة الأحكام في العيّارين ببغداد، وانتشر العرب في ضواحي بغداد وعاثوا فيها حتى سلبوا النساء في المقابر عند جامع المنصور، وشغب الجند سنة سبع وعشرين وأربعمائة بجلال الدولة فخرج متنكرا في سيما بدويّ إلى دار المرتضى بالكرخ، ولحق منها برافع بن الحسين بن معن [1] بتكريت، ونهب الأتراك داره وخرّبوها. ثم أصلح القائم أمر الجند وأعاده. (فتنة بادسطفان ومقتله) قد قدّمنا ذكر بادسطفان [2] هذا وأنه من أكابر قوّاد الديلم ويلقّب حاجب الحجّاب، وكان جلال الدولة ينسبه لفساد الأتراك والأتراك ينسبونه إلى إحجاز الأموال فاستوحش واستجار بالخليفة منتصف سبع وعشرين وأربعمائة فأجاره وكان يراسل أبا كاليجار ويستدعيه، فبعث أبو كاليجار عسكرا إلى واسط وثار معهم العسكر الذين بها وأخرجوا العزيز بن جلال الدولة إلى بغداد، وكشف بادسطفان القناع في الدعاء لأبي كاليجار وحمل الخطباء على الخطبة لامتناع الخليفة منها. وجرت بينه وبين جلال الدولة حرب. وسار إلى الأنبار وفارقه قرواش إلى الموصل، وقبض بادسطفان على ابن فسانجس، فعاد منصور بن الحسين إلى بلده. ثم جاء الخبر بأنّ أبا كاليجار سار إلى فارس فانتقض عن بادسطفان الديلم الذين كانوا معه،   [1] الحسين بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 446 [2] بارسطغان. وقد مرّ معنا من قبل في هذا الكتاب بارسطعان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 644 وترك ماله وخدمه وما معه بدار الخليفة القائم وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغداد وبعث البساسيري وبني خفاجة في طلب بادسطفان، وسار هو ودبيس في اتباعهم فلحقوه بالخزرانية فقاتلوه وهزموه، وجاءوا به أسيرا إلى جلال الدولة ببغداد، وطلب من القائم أن يخطب له ملك الملوك فوقف عن ذلك إلا أن يكون بفتوى الفقهاء فأفتاه القضاة أبو الطيب الطبري وأبو عبد الله الصيمري وأبو القاسم الكرخي بالجواز ومنع أبو الحسن الماوردي، وجرت بينهم مناظرات حتى رجحت فتواهم وخطب له بملك الملوك. وكان الماوردي من أخصّ الناس بجلال الدولة فخجل وانقطع عنه ثلاثة أشهر، ثم استدعاه وشكر له إيثار الحق وأعاده إلى مقامه. (مصالحه جلال الدولة وأبي كاليجار) ثم تردّدت الرسل بين جلال الدولة وأبي كاليجار ابن أخيه، وتولى ذلك القاضي أبو الحسن الماورديّ وأبو عبد الله المردوسي، فانعقد بينهما الصلح والصهر لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنه جلال الدولة، وأرسل القائم إلى أبي كاليجار بالخلع النفيسة. (عزل الظهير أبي القاسم عن البصرة واستقلال أبي كاليجار بها) قد قدّمنا حال الظهير أبي القاسم في ملك البصرة بعد صهره أبي منصور بختيار، وأنه عصى على أبي كاليجار بدعوة جلال الدولة. ثم عاد إلى طاعته واستبدّ بالبصرة، وكان ابن أبي القاسم بن مكرّم صاحب عمان يكاتب أبا الجيش وأبا كاليجار بزيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة فأجيب إلى ذلك، وجهّز له أبو كاليجار العساكر مع العادل أبي منصور بن ماقته [1] . وجاء أبا الجيش بعساكره في البحر من عمان وحاصروا البصرة برّا وبحرا وملكوها، وقبض على الظهير واستصفيت   [1] ابن مافنّة كما مرّ معنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 645 أمواله، وصودر على تسعين ألفا فحملها في عشرة أيام، ثم على مائة ألف وعشرة آلاف فحملها كذلك، ووصل الملك أبو كاليجار إلى البصرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وأنزل بها ابنه عزّ الملوك والأمير أبا الفرج فسانجس وعاد إلى الأهواز ومعه الظهير أبو القاسم. (أخبار عمان وابن مكرم) قد قدّمنا خبر أبي محمد بن مكرم وأنه كان مدبّر دولة بهاء الدولة وقبله ابنه أبو الفوارس، وأنّ ابنه أبا القاسم كان أميرا بعمان منذ سنة خمس عشرة وأربعمائة ثم توفي سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وخلّف بنين أربعة وهم: أبو الجيش والمهذّب وأبو محمد وآخر صغير لم يذكر اسمه. وكان علي بن هطال صاحب جيش أبي القاسم فأقرّه أبو الجيش وبالغ في تعظيمه حتى كان يقوم له إذا دخل عليه في مجلسه فنكر ذلك المهذّب على أخيه، وحقدها له ابن هطال فعمل دعوة واستأذن أبا الجيش في إحضار أخيه المهذّب لها، وأحضره وبالغ في خدمته حتى إذا طعموا وشربوا وانتشوا فاوضه ابن هطال في التوثّب بأخيه أبي الجيش واستكتبه بما يوليه من المراتب ويعطيه من الأقطاع على مناصحته في ذلك. ثم وقف أبا الجيش على خطة أخبره أنه لم يوافقه ثم قال له: وبسبب ذلك كان نكيره عليك في شأني، فقبض أبو الجيش على أخيه واعتقله ثم خنقه. ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير وهمّ ابن هطال بتولية أخيه محمد فأخفته أمّه حذرا عليه، ورفعت الأمر إلى ابن هطال فولي عمان وأساء السيرة وصادر التجّار، وبلغ ذلك إلى أبي كاليجار فأمر العادل أبا منصور بن ماقته أن يكاتب المرتضى نائب أبي القاسم بن مكرّم بجبال عمان، ويأمره بقصد ابن هطال في عمان، وبعث إليه العساكر من البصرة، فسار إلى عمان وحاصرها واستولى على أكثر أعمالها. ثم دس إلى خادم كان لابن مكرم وصار لابن هطال وأمره باغتياله فاغتاله وقتله. ومات العادل أبو منصور بهرام بن ماقته وزير أبي كاليجار سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ووزر بعده مهذّب الدولة وبعث لمدافعتهم عنها، وكانوا يحاصرون جيرفت فأجفلوا عنها، ولم يزل في اتباعهم حتى دخلوا المفازة ورجع مهذّب الدولة إلى كرمان فأصلح فسادهم . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 646 (وفاة جلال الدولة سلطان بغداد وولاية أبي كاليجار) ثم توفي جلال الدولة ببغداد في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشرة سنة من ملكه، وقد كان بلغ في الضعف وشغب الجند عليه واستبداد الأمراء والنوّاب فوق الغاية. ولما توفي انخذل الوزير كمال الملك عبد الرحيم وأصحاب السلطان الأكابر إلى حريم دار الخلافة خوفا من الأتراك والعامّة، واجتمع قوّاد العسكر فمنعوهم من النهب، وكان ابنه الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط فكاتبه الجند بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل حق البيعة فأبطأ عنهم، وبادر أبو كاليجار صاحب الأهواز فكاتبهم ورغّبهم في المال وتعجيله فعدلوا عن الملك العزيز إليه. وأصعد بعد ذلك من الأهواز فلما انتهى إلى النعمانيّة غدر به أصحابه فرجع إلى واسط، وخطب الجند ببغداد لأبي كاليجار. وسار العزيز إلى دبيس بن مزيد، ثم الى قرواش بن المقلّد بالموصل. ثم فارقه إلى أبي الشوك لصهر بينهما فغدر به. وألزمه على طلاق بنته، فسار إلى إبراهيم نيال أخي طغرلبك، ثم قدم بغداد مختفيا يروم الثورة بقتل [1] بعض أصحابه ففرّ ولحق بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين، وقدم أبو كاليجار بغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وخطب له بها واستقر سلطانه فيها بعد أن بعث بأموال فرّقت على الجند ببغداد وبعشرة آلاف دينار وهدايا كثيرة للخليفة، وخطب له فيها أبو الشوك ودبيس بن مزيد كل بأعماله، ولقبه الخليفة بمحيي الدولة، وجاء في قلّ من عساكره خوفا أن يستريب به الأتراك فدخل بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره أبو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن فسانجس، واستعفى القائم من الركوب للقائه، وتقدّم بإخراج عمّيه من بغداد، فمضيا إلى تكريت وخلع على أصحاب الجيوش وهم البساسيري والساري والهمّام أبو اللقاء وثبت قدمه في الملك.   [1] مقتضى السياق: وقدم بغداد متخفّيا يروم الثورة فقتل بعض أصحابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 647 (أخبار ابن كاكويه مع عساكر مسعود وولايته على أصفهان ثم ارتجاعه منها) قد تقدّم انهزام علاء الدولة بن كاكويه من الريّ ومسيره جريحا ومعه فرهاد بن مرداويج جاءه إلى قلعة فردخان مددا وساروا منها إلى يزدجرد، واتبعهم عليّ بن عمران قائد تاش قرواش. وافترقوا من يزدجرد فمضى أبو جعفر الى نيسابور عند الأكراد الجردقان [1] وصعد فرهاد إلى قلعة سمكيس واستمال الأكراد الذين مع عليّ بن عمران وحملهم على الفتك به، فشعر وسار الى همذان، واتبعه فرهاد والأكراد فحصروه في قرية بطريقة فامتنع عليهم بكثرة الأمطار ورجعوا عنه، وبعث علي بن عمران إلى الأمير تاش يستمدّه وعلاء الدولة إلى ابن أخيه بأصفهان يستمدّ المال والسلاح فاعترضه علي بن عمران من همذان وكبسه بجردقان وغنم ما معه وأسره [2] ، وخلفه علاء الدولة وأقرّه على أصفهان على ضمان معلوم وكذلك قابوس في جرجان وطبرستان وولّى على الري أبا سهل الحمدونيّ. وأمرتاش قرواش صاحب خراسان بطلب شهربوس بن ولكين صاحب ساوة، وكان يفسد السابلة ويعترض الحاج، وسار إلى الريّ وحاصرها بعد موت محمود، فبعث تاش العساكر في أثره وحاصروه ببعض قلاع قمّ وأخذوه أسيرا فأمر بصلبه على ساوة، ثم اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاد بن مرداويج على قتال أبي سهل الحمدونيّ وقد زحف في العساكر من خراسان فقاتلاه وقتل فرهاد وانهزم علاء الدولة إلى جبل بين أصفهان وجرجان فاعتصم به. ثم لحق بأيدج وهي للملك أبي كاليجار،   [1] هكذا بالأصل ويوجد تحريف كثير في الأسماء وبالمقارنة مع الكامل ج 9 ص 424: «فلما وصل الى قلعة فردجان اقام بها لتندمل جراحة، ومعه مرهاذ بن مرداويج، كان قد جاءه مددا له، وتوجهوا الى بروجرد، فسيّر تاش فرّاش مقدّم عسكر خراسان جيشا الى علاء الدولة ... ونزل عند الأكراد الجوزقان» . [2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 9 ص 425: «وراسل علي بن عمران الأمير تاش فرّاش يستنجده ويطلب العسكر الى همذان، ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد واتفقا على قصد همذان، وسير علاء الدولة الى أصبهان وبها ابن أخيه يطلبه، وأمره بإحضار السلاح والمال، ففعل وسار. فبلغ خبره علي بن عمران، فسار إليه من همذان جريدة، فكبسه بجرباذقان وأسره وأسر كثيرا من عسكره وقتل منهم، وغنم ما معه من سلاح ومال وغير ذلك» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 648 واستولى أبو سهل على أصفهان ونهب خزائن علاء الدولة وحملت كتبه الى غزنة الى أن أحرقها الحسين بن الحسين الغوري، وذلك سنة خمس وعشرين وأربعمائة ثم سار علاء الدولة سنة سبع وعشرين وأربعمائة وحاصر أبا سهل في أصفهان وغدرته الأتراك فخرج إلى يزدجرد ومنها إلى الطرم فلم يقبله ابن السلّار خوفا من ابن سبكتكين، فسار عنه، ثم غلبه طغرلبك على خراسان سنة تسع وعشرين وأربعمائة وارتجعها مسعود سنة ثلاثين وأربعمائة كما ذكرناه ونذكره. (وفاة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه) ثم توفي علاء الدولة شهربان بن كاكويه في محرّم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وقد كان عاد إلى أصفهان عند شغل بن سبكتكين بفتنة طغرلبك فملكها. ولما توفي قام مكانه بأصفهان ابنه الأكبر ظهير الدين أبو منصور قرامرد [1] وسار ولده الآخر أبو كاليجار كرساسف [2] إلى نهاوند فملكها، وضبط البلد وأعمال الجبل. وبعث أبو منصور قرامرد إلى مستحفظ قلعة نظير [3] التي كان فيها ذخائر أبيه وأمواله فامتنع بها وعصى، وسار أبو منصور لحصاره ومعه أخوه أبو حرب فلحق أبو حرب بالمستحفظ، ورجع أبو منصور إلى أصفهان. وبعث أبو حرب إلى السلجوقيّة بالريّ يستنجدهم، فسار طائفة منهم إلى جرجان فنهبوها وسلموها لأبي حرب. فسيّر أبو منصور العساكر وارتجعها، فجمع أبو حرب فهزموه، وحاصروا أبا حرب بالقلعة فأسرى من القلعة ولحق بالملك أبي كاليجار صاحب فارس، واستنجده على أخيه أبي منصور فأنجده بالعساكر وحاصروا أبا منصور وأوقعوه عدّة وقائع، ثم اصطلحوا آخرا على مال يحمله أبو منصور إلى أبي كاليجار، وعاد أبو حرب إلى قلعة نظير واشتدّ الحصار عليه. ثم صالح أخاه أبا منصور على أن يعطيه بعض ما في القلعة وتبقى له فاتفقا على ذلك. ثم سار إبراهيم نيّال [4] إلى الريّ وطلب الموادعة من أبي منصور فلم يجبه، فسار إلى   [1] ظهير الدين أبو منصور قرامرز: ابن الأثير ج 9 ص 495 [2] كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكاويه: المرجع السابق. تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 168 [3] قلعة نطنز: المرجع السابق [4] إبراهيم ينّال وقد مرّ ذكره من قبل كذا في الكامل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 649 همذان ويزدجرد فملكهما وسعى الحسن الكيا [1] في اتفاقه مع أخيه أبي حرب فاتفقا، وخطب أبو حرب لأخيه أبي منصور في بلاده، وأقطعه أبو منصور همذان. ثم ملك طغرلبك البلاد من يد ابن سبكتكين واستولى على خوارزم وجرجان وطبرستان. وكان إبراهيم نيال عند ما استولى طغرلبك على خراسان وهو أخوه لأمّه تقدّم في عساكر السلجوقية إلى الريّ فاستولى عليها. ثم ملك يزدجرد، ثم قصد همذان سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ففارقها صاحبها [2] ابن علاء الدولة إلى نيسابور، وجاء إبراهيم إلى همذان بطلب طاعتهم فشرطوا عليه استيلاءه على عسكر كرشاسف، فسار إليها وتحصّن في سابورخواست وملك عليه البلاد وعاث في نواحيها، وتحصّن هو بالقلعة وعاد هو إلى الريّ. وقد صمّم طغرلبك على قصدها، فسار إليه وترك همذان ورجع كرشاسف وملك طغرلبك الري من يد إبراهيم. وبعث إلى سجستان وأمر بعمارة ما خرّب من الري، ووجد بدار الإمارة مراكب ذهب مرصّعة بالجواهر، وبرنيتين من النحاس مملوءتين جواهر وذخائر مما سوى ذلك وأموالا كثيرة. ثم ملك قلعة طبرك من يد مجد الدولة بن بويه، وأقام عنده مكرما وملك قزوين فصالحه صاحبها بثمانين ألف دينار وصار في طاعته. ثم بعث إلى كركتاش وموقا من الغزّ العراقيّة الذين تقدّموا إلى الريّ واستدعاهم من نواحي جرجان فارتابوا وشرّدوا خوفا منه. ثم بعث إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة ويطلب منه المال، فأجاب وحمل، وبعث إلى سلّار الطرم بمثل ذلك فأجاب وحمل مائتي ألف دينار وقرّر عليه ضمانا معلوما. ثم بعث السرايا إلى أصفهان وخرج من الريّ في اتباعها فصانعه قرامرد بالمال فرجع عنه. وسار إلى همذان فملكها، وقد كان سار إليه كرشاسف بن علاء الدولة وهو بالري فأطاعه، وسار معه إلى ابروزنجان فملكهما، وأخذ منه همذان وتفرّق عنه أصحابه. وطلب منه طغرلبك قلعة كشكور فأرسل إلى مستحفظها بنزولهم عنها فامتنعوا، واتبعه طغرلبك إلى الريّ واستخلف على همذان ناصر الدين العلويّ، وكان كرشاسف قد قبض عليه فأخرجه طغرلبك وجعله رديفا للذي ولّاه البلد من السلجوقيّة، ثم نزل كرشاسف على كنكور سنة ست وثلاثين وأربعمائة وجاء إلى همذان فملكها وطرد عنها   [1] هو الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله [2] بياض بالأصل وحسب مقتضى السياق كرشاسف بن علاء الدولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 650 عمال طغرلبك وخطب للملك أبي كاليجار فبعث طغرلبك أخاه إبراهيم نيال سنة سبع وثلاثين وأربعمائة إلى همذان، ولحق كرشاسف بشهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين صاحب جزيرة بني دبيس، وارتاع الناس بالعراق لوصول إبراهيم نيال إلى حلوان، وبلغ الخبر إلى أبي كاليجار فأراد التجمّع لإبراهيم نيال فمنعه قلة الظهر. وحدثت فتنة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم نيال وأخذ الري وبلاد الجيل من يده. ثم سار إلى أصفهان فحاصرها في محرّم سنة اثنين وأربعين، وبعث السرايا فبلغت البيضاء، وأقام يحاصرها حولا كاملا حتى جهدهم الحصار، وعدموا الأقوات وحرقوا السقف لوقودهم حتى سقف الجامع، ثم استأمنوا وخرجوا إليه وملك أصفهان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وأقطع صاحبها أبا منصور وأجناده في بلاد الجبل ونقل أمواله وسلاحه من الريّ إليها وجعلها كرسيا لملكه، وانقرضت دولة فخر الدولة بن بويه من الريّ وأصفهان وهمذان، وبقي منهم بالعراق وفارس أبو كاليجار والبقاء للَّه وحده. (موت أبي كاليجار) ولما رأى أبو كاليجار استيلاء طغرلبك على البلاد، وأخذه الريّ وأصفهان وهمذان والجيل من قومه، وإزالة ملكهم راسله في الصهر والصلح، بأن يزوّجه ابنته، وزوّج داود أخو طغرلبك ابنته من أبي منصور بن أبي كاليجار، وانعقد ذلك بينهما في منتصف تسع وثلاثين وأربعمائة وكتب طغرلبك إلى أخيه إبراهيم نيال عن العراق وأعماله [1] ابن سكرستان من الديلم، وقرّر عليه مالا فطاول في حمله،   [1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 536: «وكتب طغرلبك الى أخيه ينّال يأمره بالكف عما وراء ما بيده» . والظاهر من متابعة النص ان بعض العبارات قد سقطت أثناء النسخ حيث يظهر عدم الانسجام في السياق. وفي الكامل أيضا ص 547 عند ذكر موت الملك أبي كاليجار يذكر ابن الأثير: «في هذه السنة- 440- توفي الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، رابع جمادى الأولى بمدينة جناب من كرمان. وكان سبب مسيره إليها انه كان قد عوّل في ولاية كرمان حربا وخرابا على بهرام بن لشكرستان الديلميّ وقرّر عليه مالا:» وفي تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 169: «وكان الملك أبو كاليجار سار الى بلاد كرمان لخروج عامله بهرام الديلميّ عن طاعته» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 651 ورافع [1] فشكر له أبو كاليجار، وانتزع من يده قلعة يزدشير وهي تعلقه [2] ثم استمال أجناده فقتلهم بهرام، واستوحش فسار إليه أبو كاليجار، وانتهى إلى قصر مجامع [3] من خراسان فطرقه المرض وضعف عن الركوب فرجعوا به إلى مدينة خبايا وتوفي بها في جمادى الأولى سنة أربعين وأربعمائة، لأربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه العراق. ولما توفي نهب الأتراك خزائنه وسلاحه ودوابه وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور وكانت منفردة عن العسكر فأقام عنده، واختلف الأتراك والديلم وأراد الأتراك نهب الأمير والوزير فمنعهم الديلم، واختلفوا إلى شيراز فملكها الأمير أبو منصور وامتنع الوزير بقلعة حزقه، وبلغ وفادة أبي كاليجار إلى بغداد وبها ابنه أبو نصر، فاستخلف الجند وأمر القائم بالخطبة على عادة قومه. وسأل أن يلقّب بالرحيم فمنع الخليفة من ذلك أدبا ولقّبه به أصحابه واستقرّ بالعراق وخوزستان والبصرة. وكان بالبصرة أخوه أبو علي فأقرّه عليها. ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر في شوّال من السنة إلى شيراز فملكها وخطبوا له بها وقبضوا على أخيه أبي منصور وأمّه وجاءوا بهما إليه. وكان الملك العزيز بن جلال الدولة عند إبراهيم نيّال لحق به بعد مهلك أبيه. فلما مات أبو كاليجار زحف إلى البصرة طامعا في ملكها فدافعه الجند الذين بها، وبلغه استقامة الملك ببغداد للرحيم فأقطع وذهب إلى ابن مروان فهلك عنده كما مرّ. (ملك الملك الرحيم بن أبي كاليجار ومواقعة) قد تقدّم لنا أن أبا منصور فلاستون بن أبي كاليجار سار إلى فارس بعد موت أبيه فملكها، وأنه بعث أخاه أبا سعيد بالعساكر فقبضوا عليه وعلى أمه، ثم انطلق ولحق بقلعة إصطخر ببلاد فارس، فسار الملك الرحيم من الأهواز في اتباعه سنة إحدى وأربعين وأطاعه أهل شيراز وجندها، ونزل قريبا منها. ثم وقع الخلاف بين جند شيراز وبين جند بغداد، وعادوا إلى العراق فعاد معهم الملك الرحيم لارتيابه بجند   [1] مقتضي السياق ورفع، اي رفع المال الى أبي كاليجار [2] هي قلعة بردسير، ومقتضى السياق وهي معقلة اي الّذي يحتمي به ويعوّل عليه. [3] قصر مجاشع: ابن الأثير ج 9 ص 547. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 652 شيراز، وبعث الجند والديلم جميعا ببلاد فارس إلى أخيه فلاستون ولما عاد استخلف العساكر وسار إلى أرّجان عازما على قصد الأهواز. وعاد الملك الرحيم للقائه من الأهواز في ذي القعدة من السنة واقتتلوا وانهزم الملك الرحيم، وعاد إلى واسط منهزما. وسار بعض الى الملك الرحيم يستجيشون به للرجوع إلى فارس، فأرسل إلى بغداد واستنفر الجند وسار إلى الأهواز فبلغه طاعة أهل فارس وأنهم منتظرون قدومه، فأقام بالأهواز ينتظر عساكر بغداد. ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ثم اجتمع جمع من العرب والأكراد مقدّمهم طراد بن منصور ومذكور بن نزار فقصدوا سرف [1] فنهبوها ونهبوا درق [2] . وبعث الملك الرحيم بعساكره في محرّم سنة ثلاث وأربعين فهزموا العرب والأكراد وقتل مطارد وأسر ابنه واستردّ النهب. وبلغ الخبر إلى الملك الرحيم وهو بعسكر مكرم فتقدّم إلى قنطرة أربق ومعه دبيس بن مزيد والبساسيريّ وغيرهما. ثم سار هزارشب بن تنكر [3] ومنصور بن الحسين الأسدي بمن معهما من الديلم والأتراك من أرّجان إلى تستر، فسابقهم الملك الرحيم فكان الظفر له. ثم زحف في عسكر إلى رامهرمز وبها أصحاب هزارشب فهزموهم وأثخنوا فيهم، وتحيّزوا إلى رامهرمز في طاعة الملك الرحيم. ثم قبض هزارشب عليهم وأرسل إلى الملك الرحيم بطاعته، فبعث أخاه أبا سعيد إليه فملك إصطخر، وخدمه أبو نصر بعسكره وماله، وأطاعته جموع من عساكر فارس من الديلم والترك والعرب والأكراد وحاصروا قلعة بهندر فخالفه هزارشب ومنصور بن الحسين الأسدي إلى الملك الرحيم فهزموه. وفارق الأهواز إلى واسط وعاد إلى سعد بشيراز فقاتلهم وهزمهم. ثم عاودوا القتال فهزمهم وأثخن فيهم واستأمن إليه كثير منهم، وصعد فلاستون إلى قلعة بهندر فامتنع بها، وأعيدت الخطبة للملك الرحيم بالأهواز. ثم مضى فلاستون وهزارشب إلى إيدج وبعثوا بطاعتهم إلى السلطان طغرلبك واستمدّوه، وبعث إليهم العساكر والملك الرحيم بعسكر مكرم وقد انصرف عنه البساسيريّ إلى العراق، ودبيس بن مزيد والعرب والأكراد، وبقي معه ديلم الأهواز، وأنزل بغداد فسار من عسكر مكرم إلى الأهواز   [1] سرّف: ابن الأثير ج 9 ص 572 [2] دورق: ابن الأثير ج 9 ص 572 [3] هزارسب بن بنكير: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 653 وحاصروه بها فبعث أخاه أبا سعد صاحب فارس حين طلبه صاحب إصطخر ليفتّ في عضد فلاستون وهزارشب ويرجعوا عنه. فلم يهجهم ذلك وساروا إلى الأهواز وقاتلوه فهزموه، ولحق في الفلّ بواسط ونهبت الأهواز. وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم وكانت السلجوقية قد ساروا إلى فارس، فاستولى آلب أرسلان ابن أخي طغرلبك على مدينة نسا وعاثوا فيها وذلك سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. ثم ساروا سنة أربع وأربعين وأربعمائة إلى شيراز ومعهم العادل بن ماقته [1] وزير فلاستون فقبضوا عليه وملكوا منه ثلاث قلاع وسلّموها إلى أبي سعد أخي الملك الرحيم، واجتمعت عساكر شيراز فهزموا الغز الذين ساروا إليها وأسروا بعض مقدّميهم. ثم ساروا إلى نسا وقد كان تغلّب عليها بعض السلجوقيّة فأخرجوهم عنها وملكوها. (الفتنة بين البساسيري وبني عقيل واستيلاؤه على الأنبار) لما سار الملك الرحيم إلى شيراز سنة إحدى وأربعين ثار بعض بني عقيل باردوقا [2] فنهبوها وعاثوا فيها وكانت من أقطاع البساسيري، فلما عاد من فارس سار إليهم من بغداد فأوقع بأبي كامل بن المقلّد، واقتتلوا قتالا شديدا. ثم تحاجزوا ورفع إلى البساسيري أن قرواش أساء السيرة في أهل الأنبار، وجاء أهلها متظلّمين منه، فبعث معهم عسكرا فملكوها، وجاء على أثرهم فأصلح أحوالها. وزحف قريش [3] إليها سنة ست وأربعين فملكها وخطب فيها لطغرلبك، ونهب ما كان فيها للبساسيري، ونهب حلل أصحابه بالخالص، وجمع البساسيري وقصد الأنبار وجرى فاستعاد من يد قريش ورجع إلى بغداد.   [1] العادل بن مافنّة وقد مرّ معنا من قبل [2] بادوريا: ابن الأثير ج 9 ص 555 [3] هو ابو المعالي قريش بن بدران الجزء: 4 ¦ الصفحة: 654 (استيلاء الخوارج على عمان) كان أبو المظفّر بن أبي كاليجار أميرا على عمان، وكان له خادم مستبدّ عليه فأساء السيرة في الناس ومدّ يده إلى الأموال فنفروا منه، وعلم بذلك الخوارج في جبالها فجمعهم ابن رشد منهم وسار إلى المدينة فبرز إليه أبو المظفّر وظفر بالخوارج. ثم جمع ثانية وعاد لقتال أبي المظفّر والديلم وأعانه عليهم أهل البلد لسوء سيرتهم فهزمهم ابن رشد وملك البلد، وقتل الخادم وكثيرا من الديلم والعمّال، وأخرب دار الإمارة وأسقط المكوس، واقتصر على ربع العشر من أموال التجّار والواردين. وأظهر العدل ولبس الصوف وبنى مسجدا لصلاته، وخطب لنفسه وتلقّب الراشد باللَّه. وقد كان أبو القاسم بن مكرم بعث إليه من قبل ذلك من حاصره في جبله وأزال طمعه. (الفتنة بين العامّة ببغداد) وفي صفر من سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة تجدّدت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة، وعظمت، وتظاهر الشيعة بمذاهبهم وكتبوا بعض عقائدهم في الأبواب، وأنكر ذلك أهل السنّة، واقتتلوا وأرسل القائم نقيبي العبّاسيّة والعلويّة لكشف الحال فشهدوا للشيعة، ودام القتال وقتل رجل من الهاشميّة من أهل السنّة، فقصدوا مشهد باب النصر ونهبوا ما فيه وأحرقوا ضريح موسى الكاظم وحاقده محمد المتقي وضرائح بني بويه وبعض خلفاء بني العباس، وهموا بنقل شلو الكاظم إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال دون ذلك جهلهم بعين الجدث. وجاء نقيب العبّاسيّة فمنع من ذلك، وقتل أهل الكرخ من الشيعة أبا سعيد السرخسي مدرّس الحنفيّة. وأحرقوا محال الفقهاء ودورهم، وتعدّت الفتنة إلى الجانب الشرقيّ، وبلغ إحراق المشهد إلى دبيس فعظم عليه، وقطع خطبة القائم لأنه وأهل ناحيته كانوا شيعة، وعوتب في ذلك فاعتذر بأنّ أهل الناحية تغري القائم بأهل السنّة، وأعاد الخطبة بحالها. ثم عظمت الفتنة سنة خمس وأربعين وأربعمائة واطرحوا مراقبة السلطان ودخل معهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 655 طوائف من الأتراك وقتل بعض العلويّة فصرخ النساء بثأره، واجتمع السواد الأعظم، وركب القوّاد لتسكين الفتنة فقاتلهم أهل الكرخ قتالا شديدا، وحرقت أسواق الكرخ ثم منع الأتراك من الدخول بينهم فسكنوا قليلا. (استيلاء الملك الرحيم على البصرة) قد كنا قدّمنا أن الملك الرحيم لما تولّى بغداد بعد أبيه أقرّ أخاه أبا علي على إمارة البصرة، ثم بدا منه العصيان، فبعث إليه العساكر مع البساسيري القائم بدولته، فزحف إلى البصرة وبرزوا إليه في الماء فقاتلهم عدّة أيام ثم هزمهم وملك عليهم الأنهار، وسارت العساكر في البرّ إلى البصرة، واستأمنت ربيعة ومضر فأمّنهم وملك البصرة، وجاءته رسل الديلم بخوزستان يعتذرون، ومضى أبو علي فتحصّن بشطّ عثمان وخندق عليه فمضى الملك الرحيم إليه وملكه، ومضى أبو علي وابنه إلى عبادان ولحق منها إلى جرجان متوجّها إلى السلطان طغرلبك. فلما وصل إليه بأصفهان لاقاه بالتكرمة وأنزله بعض قلاع جرباذقان، وأقطع له في أعمالها وأقام الملك الرحيم بالبصرة أياما واستبدل من أجناد أخيه أبي عليّ بها، واستخلف عليها البساسيريّ، وسار إلى الأهواز وتردّدت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزارشب فدخلوا في طاعته، وصارت تستر إليه، وأنزل بأرّجان فولاد بن خسرو الديلميّ، فسار في أعمالها وحمل المتغلّبين هناك على طاعة الملك الرحيم حتى أذعنوا. (استيلاء فلاستون على شيراز بدعوة طغرلبك) قد قدّمنا أنه كان بقلعة إصطخر أبو نصر بن خسرو مستوليا عليها، وأنه أرسل بطاعته سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة إلى الملك الرحيم عند ما ملك رامهرمز، واستدعى منه أخاه أبا سعيد ليملّكه بلاد فارس، فسار إليه في العساكر وملك البلاد، ونزل شيراز، وكان معه عميد الدولة أبو نصر الظهير قد استبدّ في دولته، وساءت سيرته في جنده، وأوحش أبا نصر مستدعيهم للملك فانتقض عليهم، وداخل الجند في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 656 الانتقاض فشغبوا وقبضوا على عميد الدولة، ونادوا بدعوة أبي منصور فلاستون، واستدعوه وأخرجوا أبا سعيد عنهم إلى الأهواز، ودخل أبو منصور إلى الأهواز فملكها وخطب لطغرلبك وللملك الرحيم ثم لنفسه بعدهما. (وقائع البساسيري مع الاعراب والأكراد لطغرلبك) لما استولى طغرلبك على النواحي وأحاط بأعمال بغداد من جهاتها، وأطاعه أكثر الأكراد إلى حلوان وكثر فسادهم وعيثهم، والتفت عليهم الأعراب وأهمّ الدولة شأنهم سار إليهم البساسيري واتبعهم إلى البوازيج فظفر بهم وقتل وغنم، وعبروا الزاب، وجاء الديلم فتمكّن من العبور إليهم وذلك سنة خمس وأربعين وأربعمائة ثم دعاه دبيس صاحب الحلّة إلى قتال خفاجة، وقد عاثوا في بلاده، فاستنجد به وسار إليهم فأجلاهم عن الجامعين، ودخلوا المفازة واتبعهم فأدركهم بخفان فأوقع بهم وغنم أموالهم وأنعامهم، وحاصر حصن خفّان وفتحه وخرّبه. وأراد تخريب القائم الّذي به، وهو بناء في غاية الارتفاع كالعلم يهتدى به. قيل إنه وضع لهداية السفن لمّا كان البحر إلى النجف، فصانع عنه ربيعة بن مطاعم بالمال وترك له، وعاد إلى بغداد فصلب من كان معه من أسرى العرب. ثم سار إلى خويّ فحصرها وقرّر عليها سبعة آلاف دينار. (فتنة الأتراك واستيلاء عساكر طغرلبك على النواحي) كان الأتراك من جند بغداد قد استفحل أمرهم على الدولة، واشتطوا وتطاولوا إلى الفتنة عند ما هبّت ريحها بظهور طغرلبك واستيلائه على النواحي، فطالبوا الوزير في محرّم سنة ست وأربعين وأربعمائة بمبلغ كبير من أرزاقهم ورسومهم وأرهقوه، واختفى في دار الخلافة فاتبعوه وطلبوه من أهل الدار فجحدوه فشغبوا على الديوان، وتعدّوا إلى الشكوى من الخليفة، وساء الخطاب بينهم وبين أهل الديوان وانصرفوا، وشاع بين الناس أنهم محاصرون دار الخلافة فانزعجوا، وركب البساسيري وهو النائب يومئذ ابن خلدون م 42 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 657 ببغداد إلى دار الخلافة، وطلب الوزير وكبس الدور من أجله، فلم يوقف له على خبر. وشغب الجند ونهبوا دار الروم وأحرقوا البيع، وكبسوا دار ابن عبيد وزير البساسيريّ، ووقف أهل الدروب لمنع بيوتهم من الأتراك فنهبوا الواردين، وعدمت الأقوات، والبساسيري في خلال ذلك مقيم بدار الخلافة إلى أن ظهر الوزير، وقام بهم بما عليهم من أثمان دوابه وقماشه. واتصل الهرج وعاد الأعراب والأكراد إلى العيث والإغارة والنهب والقتل، وجاءت أصحاب قريش صاحب الموصل فكبسوا حلل كامل ابن عمّه بالبردوان، ونهبوا منها دوابّ وجمالا من البخاتي. كانت هناك للبساسيري فتضاعف الهرج وانحل نظام الملك. ووصل عساكر الغز إلى الدسكرة مع إبراهيم بن إسحاق من أمراء طغرلبك ورستبارد فاستباحوها. ثم تقدّموا إلى قلعة البردوان وقد عصى صاحبها سعدي على طغرلبك فامتنعت عليهم، فعاثوا في نواحيها وخربت تلك الأعمال وانجلى أهلها. وسارت طائفة أخرى إلى الأهواز فخرّبوا نواحيها، وقوي طمع السلجوقيّة في البلاد وخافت الديلم ومن معهم من الأتراك وضعفت نفوسهم، ثم بعث طغرلبك أبا علي بن أبي كاليجار الّذي كان صاحب البصرة في عساكر السلجوقيّة إلى خوزستان، فانتهى إلى سابور خواست، وكاتب الديلم بالوعد والوعيد فنزع إليه أكثرهم واستولى على الأهواز، ونهبها عساكر السلجوقيّة وصادروا أهلها وهرب أهلها منهم. (الوحشة بين القائم والبساسيري) قد قدّمنا ما وقع من قريش بن بدران في نهب حلل البساسيري أصحابه سنة ست وأربعين وأربعمائة ثم وصل إلى بغداد أبو الغنائم وأبو سعد ابنا المحلبان صاحب [1] قريش ودخلا في خفية، فهمّ البساسيري بأخذهما، فأجارهما الوزير رئيس الرؤساء عليه، فغضب وسار إلى جرى والأنبار فملكهما ورجع ولم يعرج على دار الخلافة وأسقط مشاهرات القائم والوزير وحواشي الدار من دار الضرب، ونسب إلى الوزير مكاتبته طغرلبك. ثم سار في ذي الحجّة من سنة ست وأربعين وأربعمائة إلى الأنبار   [1] حسب مقتضى السياق صاحبي قريش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 658 وبها أبو الغنائم بن المحلبان، ونصب عليها المجانيق ودخلها عنوة وأسر أبا الغنائم في خمسمائة من أهلها، ونهب البلاد وعاد إلى بغداد وقد شهر أبا الغنائم وهمّ بصلبه، فشفع فيه دبيس بن صدقة، وكان قد جاء مددا له على حصار الأنبار فشفعه وصلب جماعة من الأسرى. (وثوب الأتراك بالبساسيري ونهب داره) كان هذا البساسيري مملوكا لبعض تجّار بسا من مدائن فارس فنسب إليها. ثم صار لبهاء الدولة بن عضد الدولة، ونشأ في دولته وأخذت النجابة بضبعه. وتصرّف في خدمة بيته إلى أن صار في خدمة الملك الرحيم. وكان يبعثه في المهمات ومدافعة هذه الفتن. فدافع الأكراد من جهة حلوان، ودافع قريش بن بدران من الجانب الغربي وهما قائمان بدعوة طغرلبك. ثم سار إلى الملك الرحيم بواسط وقد تأكدت الوحشة بينه وبين الوزير رئيس الرؤساء كما تقدّم. وبعث إليه وزيره أبو سعد النصراني بجرار خمر، فدسّ عليها الوزير قوما ببغداد كانوا يقومون في تغيير المنكر فكسروها. وأراقوا خمرها فتأكدت الوحشة بذلك، واستفتى البساسيري الفقهاء الحنفيّة في ذلك فأفتوه باحترام مال النصراني، ولا يجوز كسرها عليه ويغرم من أتلفها. وتأكدت الوحشة بين الوزير وبين البساسيري وكانت الوحشة بينه وبين الأتراك كما مرّ. فدسّ الوزير بالشغب على البساسيري فشغبوا، واستأذنوا في نهب دوره، فأذن لهم من دار الخلافة فانطلقت أيدي النهب عليها، وأشاع رئيس الرؤساء أنه كاتب المستنصر العلويّ صاحب مصر، واتسع الخرق، وكاتب القائم الملك الرحيم بإبعاد البساسيري، وأنه خلع الطاعة وكاتب المستنصر العلويّ فأبعده الملك الرحيم. (استيلاء طغرلبك على بغداد والخليفة ونكبة الملك الرحيم وانقراض دولة بني بويه) كان طغرلبك قد سار غازيا إلى بلاد الروم فأثخن فيها. ثم رجع إلى الري فأصلح فسادها. ثم وصل همذان في المحرّم سنة سبع وأربعين وأربعمائة عاملا على الحجّ، وأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 659 يمرّ بالشام ويزيل دولة العلويّة بمصر. وتقدّم إلى أهل الدينور وقرميس وغيرهما باعداد العلوفات والزاد في طريقه، وعظم الإرجاف بذلك في بغداد وكثر شغب الأتراك، وقصدوا ديوان الخلافة يطلبون القائم في الخروج معهم لمدافعة، وعسكروا بظاهر البلد. فوصل طغرلبك إلى حلوان وانتشر أصحابه في طريق خراسان وأجفل الناس إلى غربي بغداد، وأصعد الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد عنه البساسيري بأمر القائم، فلحق بدبيس بن صدقة صاحب الحلّة لصهر بينهما. وبعث طغرلبك إلى القائم بطاعته والى الأتراك بالمواعيد الجميلة، فردّ الأتراك كتابه وسألوا من القائم ردّه عنهم فأعرض، وجاء الملك الرحيم يعرض نفسه فيما يختاره فأمر بتقويض الأتراك خيامهم، وأن يبعثوا بالطاعة لطغرلبك ففعلوا وأمر القائم الخطباء بالخطبة لطغرلبك، فبعث إلى طريقهم الوزير أبا نصر الكندري، وأمر الأجناد ثم دخل طغرلبك بغداد يوم الخميس ليومين من رمضان، ونزل بباب الشمناسية، ووصل قريش صاحب الموصل وكان في طاعته قبل ذلك. ثم انتشرت عساكر طغرلبك في البلد وأسواقها فوقعت الهيعة، وظنّ الناس أنّ الملك الرحيم أذن بقتال طغرلبك فأقبلوا من كل ناحية، وقتلوا الغزّ في الطرقات إلا أهل الكرخ فإنهم أمّنوهم، وأجاروهم وشكر الخليفة لهم ذلك، وتمادى العامّة في ثورتهم وخرجوا إلى معسكر طغرلبك. ودخل الملك الرحيم بأعيان أصحابه إلى دار الخلافة تفاديا من الظنّة به، وركبت عساكر طغرلبك فهزموا العامّة وكسروهم، ونهبوا بعض الدروب ودروب الخلفاء والرصافة ودرب الدروب. وكانت هذه الدروب قد نقل الناس إليها أموالهم ثقة باحترامها، وفشا النهب واتسع الخرق، وأرسل طغرلبك من الغد إلى القائم بالعتب على ما وقع، ونسبه إلى الملك الرحيم ويطلب حضوره وأعيان أصحابه فيكون براءة لهم، فأمرهم الخليفة بالركوب إليه، وبعث معهم رسوله ليبرّثهم فساروا في ذمامه، وأمر طغرلبك بالقبض عليهم ساعة وصولهم. ثم حمل الملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وذلك لست سنين من ولايته، وانقرض أمر بني بويه ونهب في الهيعة حلّة قريش صاحب الموصل. ونجا سليمان إلى خيمة بدر بن مهلهل فأجاره، ثم خلع عليه طغرلبك وردّه إلى حلله. ونقم القائم على طغرلبك ما وقع، وبعث في إطلاق المحبوسين فاتهم في ذمامه، وهدّده بالرحيل عن بغداد فأطلق بعضهم ومحا عسكر الرحيم من الدواوين، وأذن لهم في السعي في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 660 معاشهم، فلحق كثير منهم بالبساسيري فكثر جمعه. واستصفى طغرلبك أموال الأتراك ببغداد من أجله، وبعث إلى دبيس بابعاده، فلحق بالرّحبة وكاتب المستنصر صاحب مصر بالطاعة. وخطب دبيس لطغرلبك في بلاده وانتشر الغزّ في سواد بغداد فنهبوه، وفشا الخراب فيه، وانجلى أهله، وولّى طغرلبك البصرة والأهواز هزارشب فخطب لنفسه بالأهواز فقط، وأقطع الأمير أبا علي ابن الملك أبي كاليجار قرميس وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم في نداء الصبح الصلاة خير من النوم، وأمر بعمارة دار الملك فعمرت على ما اقترحه، وانتقل إليها في شوّال سنة سبع وأربعين وأربعمائة واستقرّت قدمه في الملك والسلطان، وكانت له الدولة التي ورثها بنوه وقومه السلجوقية ولم يكن للإسلام في العجم أعظم منها. والملك للَّه يؤتيه من يشاء. (الخبر عن دولة وشمكير وبنيه من الجيل اخوة الديلم وما كان لهم من الملك والسلطان بجرجان وطبرستان وأوّلية ذلك ومصايره) قد تقدّم لنا ذكر مرداويج بن زيار، وأنه كان من قوّاد الديلم للأطروش، وأنه من الجيل إخوة الديلم، وكانت حالهم واحدة. وكان منهم قوّاد للعلويّة استظهروا بهم على أمرهم حتى إذا انقرضت دولة الأطروش وبنيه على حين فشل الدولة العبّاسية، ومحي أعمالها من السلطان، ساروا في النواحي لطلب الملك متفرّقين فيها فملكوا الريّ وأصفهان وجرجان وطبرستان والعراقين وفارس وكارمان، كل منهم في ناحية وتغلّب بنو بويه على الخليفة وحجروه إلى آخر أيامهم. وذكرنا أنّ مرداويج عند ما استفحل ملكه بعث عن أخيه وشمكير من بلاد كيلان سنة عشرين وأربعمائة فاستظهر به على أمره، وولّاه على الأعمال الجليلة، وكان قد استولى على أصفهان والري وأصبح من أعظم الملوك، وكان له موال من الأتراك تنكروا له لشدّته عليهم فاغتالوه، وقتلوه في محرّم سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فاجتمعت العساكر بعده على أخيه وشمكير بالريّ، وبعث إلى ما كان بن كالي وهو بكرمان بعد ما ملكها من أبي عليّ بن إلياس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 661 بالمسير إليه بالريّ مع ابن محتاج. وسار ما كان على المفازة إلى الدّامغان وبعث وشمكير قائده تاتجيز الديلميّ مع جيش كثيف لاعتراضه، ومع ما كان عسكر ابن مظفّر مددا له، فتقاتلوا وهزمهم تاتجيز فعادوا إلى نيسابور، وجعلت ولايتها لما كان وقد مرّ ذكر ذلك كله. ثم سار تاتجيز إلى جرجان وأقام بها، ثم هلك آخر السنة من سقطة عن فرسه، فاستولى عليها ما كان وحاصره ابن محتاج سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة فملكها وسار ما كان إلى طبرستان فأقام بها. وكان ركن الدولة بن بويه غلب على أصفهان فبعث وشمكير عساكره إلى ما كان مددا له في حروبه مع ابن محتاج، فاغتنم ركن الدولة خلوّ [1] وشمكير من العساكر فسار إلى أصفهان فملكها، واتصل ما بينه وبين صاحب خراسان وانفرد وشمكير بملك الريّ. (استيلاء عساكر خراسان على الري والجيل وملك وشمكير طبرستان) لما ملك ركن الدولة أصفهان وصل يده بأبي علي بن محتاج صاحب خراسان، هو وأخوه عماد الدولة صاحب فارس، وحرّضاه على أخذ الريّ من وشمكير رجاء أن يكون طرفا لعمله فيتمكّن به من ملكها، فسار أبو علي لذلك، واستمدّ وشمكير ما كان للمدافعة فجاء بنفسه. وبعث ركن الدولة مددا لابن محتاج فلقوه بإسحاق آباد وتقاتلوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان فملكها، وقتل ما كان بالمعركة واستولى أبو عليّ على الريّ. ثم بعث أبو علي العساكر إلى بلد الجيل فاستولى على زنكان وأبهر وقزوين وكرج وهمذان ونهاوند والدّينور إلى حلوان. (استيلاء الحسن بن القيرزان [2] على جرجان) كان الحسن بن القيرزان ابن عمّ ما كان، وكان مناهضه في الصرامة، فلما قتل ما كان   [1] معنى السياق فاغتنم ركن الدولة عدم وجود عساكر مع وشمكير ... لان كلمة خلو لا تعطي المعنى المقصود. [2] الحسن بن الفيرزان وقد مرّ معنا من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 662 وملك وشمكير طبرستان بعث إليه بالدخول في طاعته فأبى، ونسبه إلى المواطأة على قتل ما كان فقصده وشمكير ففارق سارية وسار إلى ابن محتاج صاحب خراسان. واستنجده فسار معه ابن محتاج وحاصر وشمكير بسارية حولا كاملا حتى رجع إلى طاعة ابن سامان، وأعطى ابنه سلّار رهينة بذلك ورجع هو والحسن إلى خراسان وهو مكابده للصلح، ولقيهما موت سعيد بن سامان فثار الحسن بأبي عليّ بن محتاج ونهب سواده وأخذ ابن وشمكير الّذي كان عنده، ورجع فملكها من يد إبراهيم بن سيجور الدواني [1] ولحق ابن سيجور بنيسابور فعصى عليّ بن محتاج كما مرّ في أخبارهم. (رجوع الري لوشمكير واستيلاء ابن بويه عليها) لما انصرف ابو علي إلى خراسان وفعل به الحسن ما ذكرناه، سار وشمكير إلى الريّ فملكها وراسله ابن القيرزان يستميله، وردّ عليه ابنه سلّار فصانعه ولم يبالغ محافظة على عهد ابن محتاج. ثم طمع ركن الدولة بن بويه في ملك الريّ لخلوّ يده وقلّة عسكره فسار إليه وهزمه، واستأمن كثير من عسكره إليه وملك الريّ، ورجع وشمكير إلى طبرستان فاعترضه الحسن وهزمه فلحق بخراسان، وراسل ابن القيرزان ركن الدولة بن بويه وواصله. (استيلاء وشمكير على جرجان) لما ملك ابن بويه الريّ من يد وشمكير ولحق طبرستان واعترضه ابن القيرزان وهزمه، ولحق بخراسان سار إلى نوح بن سامان مستنجدا به، وبعث معه عسكرا، وأرسل إلى ابن محتاج صاحب خراسان بمظاهرته، فبعثه فيمن معه إلى جرجان وبها الحسن بن القيرزان فهزمه وشمكير وملك جرجان.   [1] إبراهيم بن سيمجور الدواتي وقد مرّ ذكره معنا من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 663 (استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان) لما ملك وشمكير جرجان من يد الحسن بن القيرزان سار إلى ركن الدولة بن بويه، وأقام عنده بالريّ ثم سار سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى بلاد وشمكير ولقيهم فهزموه وملك ركن الدولة طبرستان، وسار منها إلى جرجان، واستأمن إليه قوّاد وشمكير وولّى الحسن بن القيرزان على جرجان ورجع إلى الريّ، وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان، فأمر منصور بن قراتكين صاحب خراسان أن يستوفد العساكر لإنجاده فسار معه، وكان مصطنعا عليه، وكتب وشمكير إلى ابن سامان يشكو من ابن قراتكين، ثم كتب الأمير نوح إلى أبي عليّ بن محتاج أن يسير معه إلى الريّ فسار معه وقاتلوا ركن الدولة فلم يظفروا به حتى صالحهم كما تقدّم، ورجع إلى وشمكير فانهزم أمامه إلى أسفراين، وملك ابن بويه طبرستان وحاصر سارية وملكها، ولحق وشمكير بجرجان وسار [1] إلى جرجان في طلب وشمكير إلى بلد الجيل واستولى ابن بويه عليها. (وفاة وشمكير وولاية ابنه بهستون) لما غلب بنو بويه على كرمان من يد أبي عليّ بن إلياس لحق وشمكير بالأمير منصور بن نوح ببخارى مستنصرا به، وأطمعه في ممالك بني بويه. وأسرّ إليه أنّ قوّاده بخراسان لا يناصحونه في شأنه فكتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب خراسان بالمسير إلى الريّ بطاعة وشمكير والتصرّف عن رأيه، واستعدّ ركن الدولة للقائهم واستنجد ابنه عضد الدولة وخالفهم إلى خراسان وبلغهم الخبر فتوقّفوا بالدّامغان يستطلعون الأخبار. وركب وشمكير للصيد فاعترضه خنزير فرماه بحربة من يده فحمل عليه الخنزير فشبّ الفرس وسقط وشمكير إلى الأرض ومات من سقطته   [1] الضمير المستتر يعود الى ابن بويه وليس الى وشمكير حسب الظاهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 664 في محرّم سنة سبع وخمسين وأربعمائة وانتقض جميع ما كانوا فيه [1] ، ولما مات وشمكير قام ابنه بهستون مقامه، وراسل ركن الدولة وصالحه فأمدّه بالعساكر والأموال. (وفاة بهستون وولاية أخيه قابوس) ثم توفي بهستون بن وشمكير بجرجان سنة ست وستين وثلاثمائة لسبع سنين من ولايته، وكان أخوه قابوس عند خاله رستم بجبل شهريار، وترك بهستون ابنا صغيرا بطبرستان في كفالة جدّه لأمّه فطمع له جدّه في الملك وبادر به إلى جرجان وقبض على من كان عنده ميل إلى قابوس من القوّاد، وفي خلال ذلك وصل قابوس فخرج الجيش إليه واجتمعوا عليه وملكوه، وهرب أصحاب ابن منصور فكفله عمه قابوس وجعله إسوة بنيه، وقام بملك جرجان وطبرستان. (استيلاء عضد الدولة على جرجان وطبرستان) لما توفي ركن الدولة سنة ست وستين وثلاثمائة وعهد لابنه عضد الدولة وولّى ابنه فخر الدولة على همذان وأعمال الجيل، وابنه مؤيد الدولة على أصفهان. وكان بختيار بن معزّ الدولة ببغداد فاستولى عليه. ثم سار إلى أخيه فخر الدولة بهمذان فهرب إلى قابوس ونزل عضد الدولة الريّ. وبعث إلى قابوس في طلب أخيه فخر الدولة فأبى، فأمر أخاه مؤيد الدولة بخراسان أن يسير إليه، وأمدّه بالأموال والعساكر. وسار إلى جرجان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ولقيه فخر الدولة بخراسان عند ما وليها حسام الدولة أبو العبّاس تاش من قبل الأمير أبي القاسم بن نوح، وكتب إلى العبّاس تاش يأمره بإنجاد قابوس بن وشمكير وفخر الدولة على مؤيد الدولة، وإعادة قابوس إلى بلده، فزحف في العساكر إلى جرجان وحاصرها شهرين حتى ضاقت أحوالهم.   [1] مقتضى السياق جميع من كانوا معه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 665 وكاتب مؤيد الدولة فائقا الخاصة من قوّاد خراسان واستماله فوعده أن ينهزم بمن معه يوم اللقاء. وخرج مؤيد الدولة فقاتلهم وانهزم فائق بمن معه كما وعد، ووقف حسام الدولة وفخر الدولة قليلا، ثم اتبعوه منهزمين إلى خراسان. ثم استدعى تاش لتدبير الدولة ببخارى بعد قتل الوزير العتبي، فسار إليه سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة مؤيد الدولة وكان من خبر وفاته ما قدّمناه. ووقعت الفتنة بين تاش وابن سيجور وانهزم تاش إلى جرجان وقابله، فخر الدولة من الكرامة والنصرة بما لم يعهد مثله حسبما مرّ في أخبارهم. ولما ملك فخر الدولة جرجان وطبرستان والريّ اعتزم على ردّ جرجان وطبرستان إلى قابوس رغبا لما كان بينهما بدار الغربة، وأنه الّذي جرّ على قابوس الخروج عن ملكه فشاور عن ذلك وزيره الصاحب بن عبّاد فلم يوافقه، وبقي مقيما بخراسان، وأنجده بنو سامان بالعساكر المرّة بعد المرّة فلم يقدر له الظفر حتى كان استيلاء سبكتكين. (عود قابوس الى جرجان وطبرستان) ولما ولي سبكتكين خراسان وعد قابوس بردّه إلى ملكه جرجان وطبرستان. ثم مضى إلى بلخ فمات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فأقام قابوس إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فبعث الأصبهبذ إلى جبل شهريار وعليه رستم بن المرزبان خال مجد الدولة. وجمع له فقاتله وانهزم رستم واستولى أصبهبذ على الجيل. وخطب فيه لشمس المعالي قابوس. وكان نائب ابن سعيد بناحية الاستنداويه وكان يميل إلى شمس المعالي فسار إلى آمد وطرد عنها عسكر مجد الدولة واستولى عليها، وخطب فيها القابوس وكتب إليه بذلك. ثم كتب أهل جرجان إلى قابوس يستدعونه فسار إليهم من نيسابور، وسار أصبهبذ، وباتي بن سعيد إليها من مكانهما فخرج إليهما عساكر جرجان فقاتلوهما فانهزم العسكر، ورجعوا إلى جرجان فلقوا مقدّمة قابوس عندها فانهزموا ثانية إلى الريّ. ودخل شمس المعالي قابوس جرجان في شعبان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وجاءت العساكر من الريّ لحصاره فأقاموا ودخل فصل الشتاء وتوالت عليهم الامطار وعدمت الأقوات فارتحلوا وتبعهم قابوس وقاتلهم فهزمهم وأسر جماعة من أعيانهم. وملك ما بين جرجان وأستراباذ. ثم أنّ الأصبهبذ حدّث نفسه بالملك، واغترّ بما اجتمع له من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 666 الأموال والذخائر فسارت إليه العساكر من الريّ مع المرزبان خال مجد الدولة فهزموه وأسروه، وأظهروا دعوة شمس المعالي بالجيل لأنّ المرزبان كان مستوحشا من مجد الدولة، فانضافت مملكة الجيل جميعا الى مملكة جرجان وطبرستان، وولّى عليها قابوس ابنه منوجهر ففتح الريّ وآيات وشالوش [1] وقارن ذلك استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان، فراسله قابوس وهاداه وصالحه على سائر أعماله. (مقتل قابوس وولاية ابنه منوجهر) كان شمس المعالي قابوس قد استفحل ملكه، وكان شديد السطوة مرهف. الحدّ فعظمت هيبته على أصحابه وتزايدت حتى انقلبت إلى العتوّ، فأجمعوا على خلعه، وكان ببعض القلاع فساروا إليه ليمسكوه بها فامتنع عليهم فانتهبوا موجودة، ورجعوا إلى جرجان وجاهروا بالخلعان، واستدعوا ابنه من طبرستان فأسرع إليهم مخافة أن يولّوا غيره، واتفقوا على طاعته بأن يخلع أباه فأجاب إلى ذلك كرها. وسار قابوس من حصنه إلى بسطام يقيم بها حتى تضمحل الفتنة فساروا إليه، وأكرهوا منوجهر على المسير معهم وينفرد هو للعبادة بقلعة ابخيا [2] وأذن له أبوه بالقيام بالملك حذرا من خروجه عنهم، وبقي المتولّون لكبر تلك الفتنة من الجند مرتابين من قابوس، وكتبوا من جرجان إلى منوجهر يستأذنونه في قتله، ولم ينتظروا ردّ الجواب وساروا إليه فدخلوا عليه البيت وجرّدوه من ثيابه، فما زال يستغيث حتى مات من شدّة البرد، وذلك سنة ثلاث وأربعمائة لخمس عشرة سنة من استيلائه، وقام بالملك ابنه منوجهر   [1] الرّويان وسالوس: ابن الأثير ج 9 ص 141 [2] هكذا بالأصل والمعنى مبتور وغير واضح ولعله سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 239: «فأخذوا منوجهر معهم، عازمين على قصد والده وإزعاجه من مكانه، فسار معهم مضطرا، فلما وصل إلى أبيه أذن له وحده دون غيره، فدخل عليه وعنده جمع من أصحابه المحامين عنه، فلما دخل عليه تشاكيا ما هما فيه، وعرض عليه منوجهر ان يكون بين يديه في قتال أولئك القوم ودفعهم وإن ذهبت نفسه. فرأى شمس المعالي ضد ذلك، وسهل عليه حيث صار الملك إلى ولده، فسلّم إليه خاتم الملك، ووصّاه بما يفعله، واتفقا على ان ينتقل هو الى قلعة جناشك يتفرغ للعبادة الى ان يأتيه اليقين وينفرد منوجهر بتدبير الملك.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 667 وخطب له على منابره ولم يزل في التدبير على الرهط الذين قتلوا أباه حتى أباد كثيرا منهم وشرّد الباقين. (وفاة منوجهر وولاية ابنه أنوشروان) ولما سار محمود بن سبكتكين سنة عشرين وأربعمائة عند ما قبض حاجبه على مجد الدولة، وملك الريّ بدعوة محمود. وسار إليه محمود فهرب منوجهر بن قابوس من جرجان، وبعث إليه بأربعمائة ألف دينار ليصلحه، وتحصّن منه بجبال وعرة. ثم أبعد المذهب ودخل في الغياض الملتفة، وأجابه محمود فبعث إليه منوجهر بالمال ونكب عنه في رجوعه إلى نيسابور. ثم توفي منوجهر إثر ذلك سنة ست وعشرين وأربعمائة وولي بعده ابنه أنوشروان، فأقرّه محمود على ولايته وقرّر عليه خمسمائة ألف أميري، وخطب لمحمود في بلاد الجيل إلى حدود أرمينية. ثم استولى مسعود بن محمود أعوام الثلاثين على جرجان وطبرستان، ومحا دولة بني قابوس كأن لم تكن والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن دولة مسافر من الديلم بآذربيجان ومصايره) كانت أذربيجان عند ظهور الديلم وانتشارهم في البلاد واستيلائهم على الأعمال أعوام الثلاثين والثلاثمائة بيد رستم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج. وكان من خبره أنّ أباه إبراهيم من الخوارج من أصحاب هارون الشادي [1] الخارج بالموصل هرب بعد مقتله إلى أذربيجان. وأصهر في الأكراد إلى بعض رؤسائهم، فولد له ابنه رستم ونشأ في أذربيجان. ولما كبر استضافه ابن أبي الساج، وتنقّل في الأطوار إلى أن استولى على أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج، وكان معظم جيوشه الأكراد. ولما استولى الديلم على البلاد وملك وشمكير الريّ ولّى أعمال الجيل لشكري   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 385: «كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي، وكان قد صحب يوسف بن أبي الساج، وخدم وتقدم حتى استولى على أذربيجان وكان يقول بمذهب السراة هو وأبوه، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 668 وجمع الأموال والرجال، وسار لشكري الى أذربيجان ليملكها سنة ست وعشرين وثلاثمائة وحاربه دسيم في بعض جهات أذربيجان، واستولى لشكري على سائر بلاد أذربيجان إلّا أردبيل، فإنّ أهلها امتنعوا ثقة بحصن بلادهم. وراسلهم فلم يجيبوه وحاصرها وشدّ حصارها، وثلم سورها وملكها أياما يدخل نهارا ويخرج إلى عساكره ليلا. ثم ثدّوا ثلم السور وامتنعوا وعادوا إلى الحصان. واستدعوا دسيما فجاء لقتال لشكري من ورائه، وناشبته أهل أردبيل القتال من أمامه فانهزم وقتل عامّة أصحابه، وتحيزوا إلى موقان. واستنجد أصبهبذ بن دوالة فجمعوا وساروا إلى دسيم فانهزم أمامهم، وعبر نهر أرس، وقصد وشمكير في الري واستنجده، وضمن له مالا كل سنة، فبعث معه عسكرا واستمال عسكر لشكري فداخلوه وكاتبوا وشمكير بالطاعة. وعلم بذلك لشكري فتأخر إلى الزوزن عازما على الموصل أن يملكها، ومرّ بأرمينية فنهب وسبى، ولما انتهى إلى الزوزن لقيه بعض الرؤساء من الأرمن وصانعه بالمال على بلده حتى كفّ عنها وأكمن له في مضيق بطريقة، ودسّ لبعض الأرمن أن ينهبوا شيئا من ثقله، ويسلكوا المضيق، وركب لشكري في أثرهم فقتله الكمين ومن معه، وقدّم أهل العسكر عليهم ابنه الشكرستان، ورجعوا إلى بلد الطرم الأرميني ليثأروا من الأرمن بصاحبهم. وكان أكثر بلده مضايق فقاتلهم الأرمن عليها وفتكوا فيهم، ولحق العسكر والشكرستان في الفلّ بالموصل فأقام بها عند ناصر الدولة بن حمدان، وكانت له معادن أذربيجان وولّى عليها ابن عمّه أبا عبد الله الحسين ابن سعيد بن حمدان. وبعث الشكرستان وأصحابه فقاتلهم دسيم على المعادن، وغلبهم عليها ورجعوا واستولى دسيم على أذربيجان. (استيلاء المرزبان بن محمد بن مسافر على آذربيجان) كان محمد بن مسافر من كبار الديلم وكان صاحب الطرم وكان له أولاد كثيرون منهم سلّار ومنهم صعلوك ومنهم وهشودان والمرزبان أمّه بنت حسّان ووهشودان ملك الديلم وقد مرّ خبره، وكان دسيم بن إبراهيم الكردي بعد مدافعة لشكري وابنه عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 669 أذربيجان أقام عنده بعض الديلم من عسكر وشمكير الذين أنجدوه على شأنه. ثم إنّ قومه من الأكراد استبدّوا عليه بأطراف أعماله، وملكوا بعض القلاع فاستظهر عليهم بأولئك الديلم وغلبهم، واستدعى صعلوك بن محمد من قلعة أبيه الطرم فجاء إليه جماعة من الديلم وسار بهم إلى التي تغلّب عليها الأكراد فانتزعها منهم، وقبض على جماعة منهم. ثم استوحش منه وزيره أبو القاسم عليّ بن جعفر من أهل أذربيجان فهرب إلى الطرم ونزل على محمد بن مسافر عند ما استوحش منه ابناه وهشودان والمرزبان، وغلبا على بعض قلاعه. ثم قبضا عليه وانتزعا منه أمواله وذخائره فتقرّب الوزير عليّ بن جعفر إلى المرزبان وكان يشاركه في دين الباطنية، وأطمعه في أذربيجان فاستوزره المرزبان، وكانت الديلم الذين عند دسيم وغيره من جنده واستمالهم فأجابوه، وسار المرزبان إلى أذربيجان وبرز دسيم للقائه فنزع الديلم إلى المرزبان، واستأمن إليه كثير من الأكراد، وهرب دسيم إلى أرمينية ونزل على صاحبها حاجيق بن الديراني. وملك المرزبان أذربيجان سنة ثلاثين وثلاثمائة، وأساء وزيره عليّ بن جعفر السيرة مع أصحابه فتظافروا عليه وشرعوا في السعاية فيه، فأطمع المرزبان في أموال تبريز يضمنها له. وسار إليها في عسكر من الديلم وأسرّ لأهلها أنه جاء لمصادرتهم، فوثبوا بمن معه من الديلم وقتلوهم، واستدعوا دسيم بن إبراهيم فجاء إلى تبريز وملكوه، ولحق به الأكراد الذين استأمنوا إلى المرزبان، فسار المرزبان في عساكره وحاصرهم دسيم بتبريز، وكاتب عليّ بن جعفر وحلف له على الوفاء بما يرومه منه فطلب منه السلامة، وترك العمل فأجابه واشتدّ الحصار على دسيم فهرب من تبريز إلى أردبيل، وخرج الوزير إليه فوفّى له المرزبان. ثم طلب دسيم أن ينزله بأهله بقلعة من قلاع الطرم ففعل وأقام المرزبان فيها. (استيلاء الروس على مدينة بردعة وظفر المرزبان بهم) هؤلاء الروس من طوائف الترك ويجاورون الروم في مواطنهم، وأخذوا بدين النصرانية معهم منذ أزمان متطاولة، وبلادهم تجاور بلاد أذربيجان، فركبت طائفة منهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 670 البحر سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ثم صعدوا من البحر في نهر اللكنهر، وانتهوا إلى مدينة بردعة من بلاد أذربيجان وبها المرزبان فخرج إليهم في نحو خمسة آلاف مقاتل من الديلم وغيرهم فهزمهم الروس، وقتلوا الديلم وتبعوهم إلى البلد فملكوه ونادوا بالأمان، وأحسنوا السيرة، وجاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية فلم يقدروا عليهم. وظاهرهم العوامّ والرعاع، فلما انصرفت العساكر غدرت الروسية بهم فقتلوهم، ونهبوا أموالهم واستعبدوهم. وأحزن المسلمين ذلك واستنفر المرزبان الناس وسار لهم وأكمن لهم كمينا، وزحف إليهم، وخرجوا إليه واستطرد لهم حتى جاوزوا موضع الكمين، فاستمرّ أصحابه على الهزيمة ورجع هو مع أخيه وصاحب له مستميتين، وخرج الكمين من ورائهم واستلحم الروسية وأميرهم، ونجا فلّهم إلى البلد فاعتصموا بحصنه، وكانوا قد نقلوا إليه السبي والأموال، وحاصرهم المرزبان وصابروه. ثم إن ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل بعث إلى ابن عمّه الحسين بن سعد بن حمدان في هذه السنة إلى أذربيجان ليملكها، فبلغ الخبر إلى المرزبان بأنه انتهى إلى سلماس، فجهّز عسكرا إلى الروس وسار لقتال ابن حمدان، فقاتله أياما ثم استدعاه ابن عمّه ناصر الدولة من الموصل وأخبره بموت توزون وأنه سائر إلى بغداد، وأمره بالرجوع فرجع. وأمّا الروس فحاصرهم العسكر أياما واشتدّ فيهم الوباء فانقضوا من الحصن ليلا وحملوا ما قدروا عليه من الأموال ولحقوا باللكن [1] فركبوا سفنهم ومضوا إلى بلادهم، وطهر الله البلاد منهم. (مسير المرزبان الى الري وهزيمته وحبسه) ولما سارت عساكر خراسان إلى الريّ وظنّ المرزبان أنّ ذلك يشغل ركن الدولة بن بويه عنه، وكان قد بعث رسوله إلى معزّ الدولة ببغداد فصرفه مذموما مدحورا، فاعتزم على غزو الريّ، وطمع في ملكه واستأمن إليه بعض قوّاد الري وأغراه بذلك. وراسله ناصر الدولة بن حمدان يستحثّه لذلك، ويشير عليه ببغداد قبل الريّ.   [1] الكرّ: ابن الأثير ج 8 ص 414. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 671 وكتب ركن الدولة إلى أخويه عماد الدولة ومعزّ الدولة يستنجدهما، فبعثوا إليه بالعساكر، وسار بها من بغداد سبكتكين الحاجب. ولما انتهى إلى الدّينور انتقض عليه الديلم ووثبوا به، فركب في الأتراك فتخاذل الديلم وأعطوه الطاعة. وكان المرزبان قبل وصول العساكر زحف إلى الريّ وهزمه ركن الدولة وحبسه، ورجع الفلّ إلى أذربيجان ومعهم محمد بن عبد الرزاق. واجتمع أصحاب المرزبان على أبيه محمد بن مسافر، وأساء السيرة فهمّوا بقتله، وكان ابنه وهشودان قد هرب منه واعتصم بحصن له فلحق به أبوه محمد فقبض عليه وهشوذان وضيّق عليه حتى مات. ثم استدعى دسيم الكرديّ من مكانه بقلعة الطرم حيث أنزله المرزبان عند ظفره به، وبعثه إلى محمد بن عبد الرزاق، وأقام بنواحي أذربيجان. ثم رجع إلى الريّ سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة واستعتب إلى سلطانه نوح بن سامان فأعتبه وعاد إلى طوس. واستولى دسيم على أذربيجان لوالي القلعة حتى تمكّنوا من قتله فقتله المرزبان، ولحق بأخيه وهشوذان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. وكان عليّ بن منسلى [1] من قوّاد ركن الدولة قد لحق بوهشودان، وأغراه بدسيم، فبعثه وهشودان في العساكر، وكاتب الديلم واستمالهم، وسار إليه دسيم وخلّف وزيره أبا عبد الله النعيمي بأردبيل فجمع مالا كان صادره عليه، وهرب بما معه من المال إلى عليّ بن منسلى. وبلغ الخبر إلى دسيم عند أذربيجان، فعاد الى أردبيل، وشغب عليه الديلم ففرّق فيهم ما كان معه من المال، وسار للقاء عليّ بن منسلى فالتقيا. وهرب الديلم الذين معه إلى علي بن منكلى، وانهزم هو إلى أرمينية. ثم جاءه الخبر بأنّ المرزبان تخلّص من محبسه بقلعة سيرم وملك أردبيل، واستولى على أذربيجان. وأنفذ العساكر في طلبه فهزم دسيم إلى بغداد فأكرمه معز الدولة وأقام عنده. ثم استدعاه شيعته بأذربيجان سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فسار إليهم وطلب من معزّ الدولة المدد لأنّ أخاه ركن الدولة كان قد صالح المرزبان، فسار دسيم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، واستنجد به فلم ينجده، فسار إلى سيف الدولة، فأقام عنده بالشام. فلما كان سنة أربع وأربعين خرج على المرزبان خارج باب الأبواب فسار إليه، وخالفه دسيم إلى أذربيجان فاستدعاه مقدّم من الأكراد وملك سلماس فبعث اليه المرزبان   [1] وفي نسخة ثانية منكلى وفي الكامل: علي بن ميسكي: ابن الأثير ج 8 ص 500 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 672 قائدا من قوّاده فهزمه دسيم. ولما فرغ المرزبان من أمر الخارج وعاد إلى أذربيجان هرب دسيم إلى أرمينية واستجاش بابن الديراني، وكتب إليه المرزبان بحمل دسيم إليه، فسلّمه وحبسه حتى إذا توفي المرزبان قتله بعض أصحابه حذرا من فتنته. (وفاة المرزبان وولاية ابنه خستان) ثم توفي المرزبان صاحب أذربيجان سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وعهد بالملك إلى أخيه وهشودان وبعده لابنه خستان [1] ، وكان قد أوصى نوّابه بالقلاع أن يسلّموها لابنه خستان، ثم لأخويه إبراهيم وناصر، ثم إلى أخيه وهشودان عند ما عهد بالعهد الثاني إلى أخيه عرّفه بإمارات بينه وبين نوّابه يرجعون إليها في ذلك. وبعث إلى النوّاب عبد الله النعيمي. وهرب وهشودان من أردبيل فلحق بالطّرم وجاء قوّاد المرزبان إلى خستان بن شرمول [2] فإنه كان مقيما على أرمينية فانتقض بها. (مقتل خستان واخوته واستيلاء عمهم وهشودان على آذربيجان) ولما ولي خستان بن المرزبان انغمس في لذّاته وعكف على اللهو، وقبض على وزيره أبي عبد الله النعيمي، وكان خستان بن برسموه منتقضا بأرمينية وقد ملكها، وكان وزيره أبو الحسن عبد الله بن محمد بن حمدويه صهرا للوزير النعيمي فاستوحش لنكبته، وحمل صاحبه ابن سرمدن [3] على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان، فأطمعه في الملك وسار به إلى مراغة فملكها فراسله أخوه خستان، وسار إلى موقان وكان   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 519: وفي هذه السنة- 346- في رمضان توفي السلّار المرزبان بأذربيجان وهو صاحبها، فلما يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان بالملك، وبعده لابنه جستان بن المرزبان» . [2] جستان بن شرمزن: المرجع السابق. [3] التحريف ظاهر لقد كان اسمه خستان بن شرمول وهنا ابن سرمدن وفي الكامل جستان بن شرمزن وفي بعض النسخ شرمون. ابن خلدون م 43 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 673 بأذربيجان رجل من ولد المكتفي متنكرا يدعو للرضا من آل محمد ويأمر بالعدل، ويلقب بالمجير، وكثرت جموعه، فبعث إليه النعيمي من موقان وأطمعه في الخلافة، وأن يملّكه أذربيجان على أن يقصد بغداد ويترك لهم أذربيجان، فسارا إليه خستان وإبراهيم ابنا المرزبان فهزماه وقتلاه فلما رأى وهشودان الخلاف بين بني أخيه المرزبان استمال إبراهيم، وسار ناصر إلى موقان وطمع الجند في المال فساروا إلى ناصر وملكوا بهم أردبيل. وطالبه الجند بالمال فعجز وقعد عمّه وهشودان عن نصره وتبين له أنه كان يخادعه، فاجتمع مع أخيه خستان واضطربت عليهما الأمور وانتقضت أصحاب الأطراف فاضطرهما الحال إلى طاعة عمّهما وهشودان وراسلاه في ذلك، واستحلفاه وقدما عليه مع أمّهما، فغدر وقبض عليهم، وعقد الإمارة على أذربيجان لابنه إسماعيل، وسلّم له أكثر قلاعه. ولحق إبراهيم بن المرزبان بمراغة، وجمع لاستنقاذ أخويه ومنازعة إسماعيل فقتل وهشودان أخويه وأمّهما، وأمر خستان بن سرمدن بقتال إبراهيم بمراغة وبعث اليه بالمدد. وانضمّ إبراهيم إلى نواحي أرمينية سنة تسع وأربعين فاستولى ابن سرمدن على مراغة واستضافها إلى أرمينية. وجمع إبراهيم. وكانت ملوك أرمينية من الأرمن والأكراد، وأصلح خستان بن سرمدن. ثم جاء الخبر بوفاة إسماعيل ابن عمّه فسار إلى أردبيل فملكها، وانصرف ابن منسلى إلى وهشودان، وزحف إليهما إبراهيم وهزمهما، فلحقا ببلاد الديلم، واستولى إبراهيم على أعمال وهشودان. ثم جمع وهشودان وعاد إلى قلعته بالطرم، وبعث أبو القاسم بن منسلى العساكر لقتال إبراهيم فهزموه، ونجا إلى الريّ مستنجدا بركن الدولة لصهر بينهما. (استيلاء إبراهيم بن المرزبان ثانيا على آذربيجان) قد تقدّم هزيمة إبراهيم بن المرزبان أمام عساكر ابن منسلى، وأنه لحق بركن الدولة مستنجدا به، فبعث معه الأستاذ أبا الفضل بن العميد في العساكر فاستولى على أذربيجان، وحمل أهلها على طاعة إبراهيم، وقاد له خستان بن سرمدن وطوائف الأكراد فتمكّن من البلاد وكتب ابن العميد إلى ركن الدولة أن يعطيه ملكها. ولعله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 674 يعوض إبراهيم عنها لكثرة جبايتها وقلّة معرفة إبراهيم بالجباية، وأن يشهد فيها بالخروج عن ملكه فأبى من ذلك، وقال لا أفعل ذلك بمن استجار بي فسلّم له ابن العميد البلاد ورجع. (تنبيه) أخبار بني مسافر المعروفين ببني السلّار ملوك أذربيجان نقلتها من كتاب ابن الأثير وإلى هاهنا انتهى في أخبارهم وأحال على ما بعده فقال بعد ذلك: وكان الأمير كما ذكر ابن العميد قد أخذ إبراهيم وحبسه على ما ذكره، ولم نقف على ذكر شيء من أخبار إبراهيم بعد ذلك ولا من خبر قومه. وذكر أن محمود بن سبكتكين بعد خبر استيلائه على الريّ سنة عشرين وأربعمائة أنه بعث إلى المرزبان بن الحسين بن حرابيل [1] من أولاد ملوك الديلم، والتجأ الى محمود فبعثه إلى بلاد السلّار، وهو إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل بن وهشودان بن محمد بن مسافر الديلميّ، وكان له من البلاد شهرخان [2] وزنجان وشهرزور وغيرها فقصدها واستمال الديلم. وعاد محمود إلى خراسان فسار السلّار إبراهيم إلى قزوين فملكها وقتل من عساكر محمود الذين بها وتحصّن بقلعة الريّ، وكان بينهما وقائع ظهر فيها السلّار، ثم استمال مسعود بن محمود طوائف من عسكره وجاءوا إليه ودلّوه على عورة الحصن الّذي فيه السلّار وسلكوا بعسكره من طرق غامضة. وبعث إليه العسكر في رمضان سنة ست وعشرين وأربعمائة فانهزم، وقبض عليه مسعود وحمله الى سرجهار وبها ولده [3] ، وطالب أن يسلّم إليه القلعة فأبي، وعاود عنه. وتسلّم بقية قلاعه، وأخذ أمواله وقرّر على ابنه بسرجهار مالا وعلى الأكراد الذين في جواره. وعاد إلى الريّ، وهذا السلّار الّذي ذكر غير السلّار الأوّل، ولم يتّصل الخبر بالخبر المتقدّم. ثم ذكر أخبار الغز الذين تقدّموا بين يديّ السلجوقية وانتشروا في بلاد الريّ وملكوها وكثيرا من بلادها، ووصلت طائفة منهم إلى أذربيجان الذين كان مقدّمهم بوقا وكوكتاش ومنصور ودانا. (دخول الغز آذربيجان) يقال دخل هؤلاء الغزّ إلى أذربيجان وسمّر صاحبها يومئذ وهشودان بن غلاك،   [1] الحسن بن خراميل: ابن الأثير ج 9 ص 373 [2] سرجهان: المرجع السابق. [3] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 420 حيث يذكر انه قبض على السلار وحمل الى سرجهان وبها ولده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 675 فأكرمهم وصاهرهم يدافع شرّهم بذلك، ويستميلهم لنصرته فلم يحصل من ذلك بطائل. وعاثوا في البلاد أشدّ العيث ودخلوا مراغة سنة تسع وعشرين وأربعمائة فقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها. وفعلوا كذلك بالأكراد الهمذانية [1] ، فاتفق أهل البلاد على مدافعتهم. وأصلح أبو الهيجاء ابن ربيب الدولة ووهشوذان صاحبا أذربيجان، واتفقت كلمتهما واجتمع معهما أهل همذان فانصرفت تلك الطائفة عن أذربيجان، وافترقوا على الريّ كما تقدّم في أخبارهم. وبقي الغزّ الذين تقدّموا قبلهم، فقاسى منهم أهل أذربيجان شدّة، وفتك فيهم وهشوذان بتبريز سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فتكة أوهنت منهم. ودعا منهم جمعا كثيرا إلى صنيع، وقبض على ثلاثين من مقدّميهم فقتلهم، وفرّ الباقون من أرمينية إلى بلاد الهكّارية من أعمال الموصل، وكانت بينهم وبين الأكراد وقائع ذكرناها في أخبار الغزّ بالموصل، ولم يعد ابن الأثير لبني المرزبان ملوك أذربيجان ذكرا إلى أن ذكر استيلاء طغرلبك على البلاد، والمفهوم من فحوى الأخبار أنّ الأكراد استولوا عليها بعد بني المرزبان والله أعلم. (استيلاء طغرلبك على آذربيجان) قال ابن الأثير وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة سار طغرلبك إلى أذربيجان وقصد تبريز، وصاحبها الأمير منصور بن وهشوذان بن محمد الرواديّ فأطاعه وخطب له وحمل إليه، ورهن عنده ولده، فسار طغرلبك عنه إلى الأمير أبي الأسوار صاحب جنزة فأطاع وخطب، وكذلك سائر النواحي أرسلوا إليه يبذلون الطاعة والخطبة، وانقاد العساكر إليه فأبقى عليهم بلادهم، وأخذ رهنهم وسار إلى أرمينية كذلك، وقصد ملازكرد وهي للنصرانية، فعاث في بلادها وخرّب أعمالها، وغزا من هنالك بلاد الروم وانتهى إلى أرزن الروم فأثخن في بلادهم ودوّخها، وعاد ابن السلّار وذكر ابن الأثير خلال هذا غزوة فضلون الكردي إلى الخزر من التركمان على ما مرّ أوّل الكتاب فقال: كان بيد فضلون الكردي قطعة كبيرة من أذربيجان فغزا إلى الخزر   [1] هم الأكراد الهذبانية وليس الهمذانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 676 سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ودوّخ البلاد وقفل، فجاءوا في أثره وكبسوه وقتلوا أيضا بخطط ملك الإنجاز إلى مدينة تفليس فقال: وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف ملك الأنجاز إلى أذربيجان ليتعرّف المسلمين على حين وصول الغز إلى أذربيجان وما فعلوه فيها، وسمع الأنجاز بأخبارهم فأجفلوا عن مخلفهم، ووصل وهشوذان صاحب أذربيجان وصرف نظره إلى ملاطفة الغزّ ومصاهرتهم ليستعين بهم كما مرّ [1] . هذا آخر ما وجدناه من أخبار ملوك أذربيجان، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (الخبر عن بني شاهين ملوك البطيحة ومن ملكها من بعدهم من قرابتهم وغيرهم وابتداء ذلك ومصايره) كان عمران بن شاهين من الجامدة، وكان يتصرّف في الجباية، وحصل بيده منها مال فتخوّف وألحّ عليه الطلب فهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة. وكان له نجدة وبأس وصبر على الشظف فأقام هنالك بين القصب والآجام يقتات بسمك الماء والطير، ويتعرّض للرفاق التي تمرّ بالطريق فيأخذها. واجتمع إليه لصوص الصيّادين فقوي وامتنع على السلطان، وتمسك بخدمة أبي القاسم بن البريديّ صاحب البصرة فأمّنه، ووصل حبل الطاعة بيده وقلّده حماية تلك النواحي إلى الجامدة دفعا لضرره عن السابلة، فعزّ جانبه وكثر جمعه وسلاحه، واتخذ معاقل على التلال بالبطائح وغلب على تلك النواحي، ولما استولى معزّ الدولة على بغداد، وقام بكفالة الخلافة والنظر في أمورها، أهمه شأن عمران هذا وامتناعه في معاقلة في نواحي بغداد، فجهّز إليه وزيره أبا جعفر الصيمريّ في العساكر، وسار إليه سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وتعدّدت بينهما الحروب والوقائع، ثم هزمه الصيمريّ. ثم أتاه الخبر بمسيره إلى شيراز كما تقدّم في أخبار دولتهم.   [1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 9 ص 457: «في هذه السنة حصر ملك الأبخاز مدينة تفليس، وامتنع أهلها عليه، فأقام محاصرا ومضيقا فنفدت الأقوات وانقطعت الميرة، فأنفذ أهلها الى أذربيجان يستفرون المسلمين ويسألونهم اعانتهم، فلما وصل الغز الى أذربيجان وجمع الإنجاز بقربهم، وبما فعلوا بالأرمن، ورحلوا عن تفليس مجفلين خوفا، ولما رأى وهشوذان صاحب أذربيجان قوة الغز وأنه لا طاقة له بهم لاطفهم وصاهرهم واستعان بهم» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 677 (مسير العساكر الى عمران بن شاهين وانهزامها) ولما انصرف الصيمري عن عمران عاد إلى حاله فبعث معزّ الدولة لقتاله روزبهان من أعيان الديلم في العساكر، فتحصّن منه في مضايق البطائح، فطاوله فضجر روزبهان واستعجل قتاله فهزمه عمران وغنم ما معهم، فاستفحل وقوي وأفسد السابلة. وكان أصحابه يطلبون الخفارة من جند السلطان إذا مرّوا بهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة، فبعث معزّ الدولة بالعساكر مع المهلّبيّ، وزحف إلى البطائح سنة أربعين وثلاثمائة ودخل عمران في مضايقه، وأشاروا عليه بالهجوم فلم يفعل، فكتب إليه معز الدولة بذلك بإشارة روزبهان فدخل المهلبي المضايق بجميع عسكره، وقد أكمن لهم عمران، فخرج عليهم الكمين وتقسّموا بين القتل والغرق والأسر، ونجا المهلّبيّ سابحا في الماء. وكان روزبهان متأخّرا في الزحف فسلم، وأسر عمران كثيرا من قوّادهم الأكابر ففاداه معزّ الدولة بمن في أسره من أهله وأصحابه، وقلّده ولاية البطائح فاستفحل أمره. ثم انتقض سنة أربع وأربعين وثلاثمائة لخبر بلغه عن مرض طرق معز الدولة، وأرجف أهل بغداد بموته، ومرّ به مال من الأموال يحمل إلى معز الدولة ومعه جماعة من التجّار فكبسهم وأخذ جميع ما معهم. ثم ردّ ذلك بعد إبلال معز الدولة من مرضه، وفسد ما بينهما من الصلح! ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فبعث العساكر من هنالك لقتال عمران مع أبي الفضل العبّاس بن الحسن، وقدم عليه نافع مولى ابن وجيه صاحب عمان يستنجده عليها، فانحدر إلى الأبلة، وبعث معه المراكب إلى عمان، وسارت عساكره إلى البطائح، فنزلوا الجامدة وسدّوا الأنهار التي تصبّ إليها. ثم رجع معز الدولة من الأبلة وطرقه المرض فجهّز العساكر لقتال عمران، وعاد إلى بغداد فهلك، وولي بعده ابنه عز الدولة بختيار فأعاد العساكر المجمّرة على عمران، وعقد معه الصلح فاستمرّ حاله. ثم زحف بختيار إليه سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وأقام بواسط يتصيّد شهرا. ثم بعث وزيره إلى الجامدة وطرق البطيحة فسدّ مجاري المياه وقلبها إلى أنهارها، وهي الجسور إلى العراق. ثم جاء المدّ من دجلة وخرّب جميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 678 ذلك. ثم انتقل عمران إلى معقل آخر ونقل ماله إليه حتى إذا حسر المياه وانتهجت الطرق فقدوا عمران من مكانه، وطال عليهم الأمر وشغب الجند على الوزير فأمر بختيار بمصالحته على ألف ألف درهم، ولما رحل العسكر عنه ثار أصحابه في أطراف الناس فنهبوا كثيرا من العساكر ووصلوا إلى بغداد سنة إحدى وستين وثلاثمائة (وفاة عمران بن شاهين وقيام ابنه الحسن مقامه ومحاربته عساكر عضد الدولة) ثم توفي عمران بن شاهين فجأة في محرّم سنة تسع وستين وثلاثمائة لأربعين سنة من ثورته بعد أن طلبه الملوك والخلفاء وردّدوا عليه العساكر فلم يقدروا عليه. ولما هلك قام بعده ابنه الحسن فطمع عضد الدولة فيه، وجهّز العساكر مع وزيره وسدّوا عليه المياه وأنفق فيها أموالا وجاء المدّ فأزالها، وبقوا كلما سدّوا فوهة فتق الحسن أخرى وفتح الماء أمثالا لها، ثم وافقهم في الماء فاستظهر عسكر الحسن وكان معه [1] المظفّر أبو الحسن ومحمد بن عمر العلويّ الكوفي، فاتهمه [2] بمراسلة الحسن وإفشاء سرّه إليه، وخاف أن تنقص منزلته عند عضد الدولة فطعن نفسه فمات، وأدرك بآخر رمق فقال: محمد بن عمر حملني على هذا، وحمل إلى ولده بكازرون فدفن هنالك، وأرسل عضد الدولة إلى العسكر من رجعه إليه وصالح الحسن بن عمران على مال يحمله وأخذ رهنه بذلك. (مقتل الحسن بن عمران وولاية أخيه أبي الفرج) كان الحسن بن عمران آسفا على أخيه أبي الفرج وحنقا عليه، ولم يزل يتحيّل عليه إلى أن دعاه إلى عيادة أخت لهما مرضت، وأكمن في بيتها جماعة أعدّها لقتله، فدخل الحسن منفردا عن أصحابه، فأغلقوا الباب دونهم وقتلوه، وصعد أبو الفرج   [1] وزير عضد الدولة هو المطهّر بن عبد الله، وكان معه- اي مع وزير عضد الدولة وليس مع الحسن بن عمران حسب ظاهر النص- أبو الحسن محمد بن عمر العلويّ الكوفي. [2] الضمير يعود الى أبي الحسن محمد بن عمر وقد اتهم المطهّر وزير عضد الدولة بمراسلة الحسن بن عمران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 679 إلى السطح فأعلمهم بقتله ووعدهم فسكتوا. ثم بذل لهم المال فأقرّوه، وكتب إلى بغداد بالطاعة، فكتب له بالولاية، وذلك لثلاث سنين من ولاية الحسن. (مقتل أبي الفرج وولاية أبي المعالي بن الحسن) ثم إنّ أبا الفرج لما قتل أخاه الحسن قدّم الجماعة الذين قتلوه على أكبار القوّاد، وكان الحاجب المظفّر بن علي كبير قوّاد عمران والحسن، فاجتمع إليه القوّاد وشكوا إليه فسكّنهم فلم يرضوا وحملوه على قتل أبي الفرج فقتله، ونصّب أبا المعالي ابن أخيه الحسن مكانه لأشهر من ولايته. ثم تولّى تدبيره بنفسه لصغره، وقتل من كان يخافه من القوّاد واستولى على أموره كلها. (استيلاء المظفّر وخلع أبي المعالي) ثم إنّ المظفّر بن علي الحاجب القائم بأمر أبي المعالي طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فصنع كتابا على لسان صمصام الدولة سلطان بغداد بولايته، وجاء به ركابي عليه أثر السفر وهو بدست إمارته فقرأه بحضرتهم، وتلقّاه بالطاعة وعزل أبا المعالي وأخرجه مع أمّه إلى واسط وكان يصلهما بالنفقة. وأحسن السيرة بالناس، وانقرض بيت عمران بن شاهين. ثم عهد إلى ابن أخته عليّ بن نصر ويكنّى أبا الحسن، وتلقّب بالأمير المختار، وبعده إلى ابن أخته الأخرى ويكنى أبا الحسن ويسمّى عليّ بن جعفر. (وفاة المظفر وولاية مهذب الدولة) ثم توفي الحاجب المظفّر صاحب البطيحة سنة ست وسبعين وثلاثمائة لثلاث سنين من ولايته، وولي بعده ابن أخيه أبو الحسن علي بن نصر بعهده إليه كما مرّ. وكتب إلى شرف الدولة سلطان بغداد بالطاعة، فقلّده ولقّبه مهذّب الدولة، فأحسن السيرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 680 وبذل المعروف وأجار الخائف، فقصده الناس وأصبحت البطيحة معقلا. واتخذها الأكابر وطنا، وبنوا فيها الدور والقصور. وكاتب ملوك الأطراف وصاهره بهاء الدولة بابنته، وعظم شأنه واستجار به القادر عند ما خاف من الطائع، وهرب إليه فأجاره، ولم يزل عنده بالبطيحة ثلاث سنين إلى أن استدعي منها للخلافة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. (بعث ابن واصل على البطيحة وعزل مهذب الدولة) كان من خبر أبي العبّاس بن واصل هذا أنه كان ينوب عن رزبوك الحاجب، وارتفع معه ثم استوحش منه ففارقه وسار إلى شيراز، واتصل بخدمة فولاد وتقدّم عنده. ثم قبض على فولاد فعاد إلى الأهواز. ثم أصعد إلى بغداد، ثم خرج منها وخدم أبا محمد ابن مكرم، ثم انتقل إلى خدمة مهذّب الدولة بالبطيحة وتقدّم عنده. ولمّا استولى السكرستان [1] على البصرة بعثه مهذّب الدولة في العساكر لحربه فقتله وغلبه، ومضى إلى شيراز فأخذ سفن محمد بن مكرّم وأمواله، ورجع إلى أسافل دجلة فتغلّب عليها، وخلع طاعة مهذّب الدولة، فأرسل إليه مائة سميرية مشحونة بالمقاتلة فغرق بعضها وأخذ ابن واصل الباقي وعاد إلى الأبلة فبعث إليه أبا سعيد بن ماكولا فهزمه ثانية، واستولى على ما معه وأصعد إلى البطيحة وخرج مهذّب الدولة إلى شجاع بن مروان وابنه صدقة فغدروا به، وأخذوا أمواله، ولحق بواسط، واستولى ابن واصل على البطيحة وعلى أموال مهذّب الدولة، وجمع ما كان لزوج له ابنة بهاء الدولة. وبعث به إلى أبيها وكانت قد لحقت ببغداد. ثم اضطرب عليه أهل البطائح وبعث سبعمائة فارس إلى البلاد المجاورة فقاتلهم أهلها وظفروا بهم، وخشي ابن واصل على نفسه فعاد إلى البصرة وترك البطائح فوضى، ونزل البصرة في قوّة واستفحال. وخشي أهل النواحي عاديته فسار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليتلافى أمره، واستدعى عميد الجيوش من بغداد وسيّره في العساكر إليه فجاء إلى واسط، واستكثر من السفن   [1] لشكرستان: ابن الأثير ج 9 ص 180 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 681 وسار إلى البطائح وسار إليه ابن واصل من البصرة فهزمه وغنم ثقله وخيامه ورجع ابن واصل مفلولا [1] (عود مهذب الدولة الى البطيحة) ولما انهزم عميد الجيوش أقام بواسط فجمع عساكره لمعاودة ابن واصل، ثم بلغه أنّ نائب بن واسط بالبطائح قد خرج منها مجفلا، فبعث إلى بغداد وبعث بالعساكر، وهمّ بالانتقاض فاستدعى عميد الجيوش مهذّب الدولة من بغداد، وبعثه بالعساكر في السفن إلى البطيحة سنة خمس وستين [2] وثلاثمائة فاستولى عليها. واجتمع عليه أهل الولايات وأطاعوه، وقرّر عليها بهاء الدولة خمسين ألف دينار في كل سنة، وشغل عن ابن واصل بتجهيز العساكر إلى خوزستان وطمع في الملك واجتمع عنده كثير من الديلم وأصناف الأجناد. وسار إلى الأهواز وسيّر بهاء الدولة عسكرا للقائه فهزمهم، ودخل دار الملك وأخذ ما كان فيها. وبعث إلى بهاء الدولة في الصلح فصالحه وزاد في أقطاعه. ثم بعث بهاء الدولة العساكر للقائه وسار إلى الأهواز وزحف إليها ابن واصل ومعه بدر بن حسنوية، فبعث بهاء الدولة الوزير بالبطيحة فهزمه الوزير ثانية، فمضى مع حسّان بن محال الخفاجي الكوفي وملك إلى الكوفة، وملك البصرة. وسار ابن واصل إلى دجلة قاصدا بدر بن حسنوية فبلغ جامعين فأنزله أصحاب بدر، وكان أصحاب أبي الفتح بن عنّان قريبا منه فكبسه، وجاء به إلى بغداد فبعثه عميد الجيوش إلى بهاء الدولة فقتله سنة ست وتسعين وثلاثمائة كما مرّ في أخبار الدولة.   [1] مفلولا أي مهزوما والمعلوم ان عميد الجيوش هو المهزوم وليس ابن واصل حسب ظاهر المعنى والواضح انه سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 181: «ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد، فسار من فارس الى الأهواز لتلافي أمره وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد، وجهّز معه عسكرا كثيفا، وسيرهم الى أبي العباس فأتى الى واسط، وعمل ما يحتاج اليه من سفن وغيرها وسار الى البطائح وسمع ابو العباس (ابن واصل) بمسيره اليه فاصعد اليه من البصرة. ووصل الى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه فلقيه فيمن معه بالصليق فانهزم عميد الجيوش ووقع من معه بعضهم على بعض، ولقي عميد الجيوش شدة الى ان وصل الى واسط وذهب ثقله وخيامه وخزائنه.» [2] الصحيح ان عودة مهذّب الدولة الى البطيحة كان سنة 395 وليس 365 كما ذكر ابن خلدون ولعل هذا الخطأ عائد الى الناسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 682 (وفاة مهذب الدولة وولاية ابن أخته عبد الله بن نسي) ثم توفي مهذّب الدولة عبد الله بن علي بن نصر في جمادى سنة ثمان وأربعمائة، وكان ابن أخته أبو عبد الله محمد بن نسي [1] قائما بأموره ومرشحا للولاية مكانه. وقد اجتمع عليه الجند واستحلفهم لنفسه. وبلغه قبل وفاة خاله أنّ ابنه أبا الحسن أحمد داخل بعض الجند في البيعة له بعد أبيه فاستدعاه، وحمله إليه الجند فقبض عليه، ودخلت إليه أمّه فخبرته الخبر فلم يزد على الأسف له. وتوفي مهذّب الدولة من الغد، وولي أبو محمد بن نسي مكانه وقتل أبو الحسين ابن خاله الثلاث من وفاة أبيه. (وفاة ابن نسي وولاية السراني) ثم توفي أبو عبد الله محمد بن نسي [2] لثلاثة أشهر من ولايته، واتفق الجند على ولاية أبي محمد الحسين بن بكر السراني [3] من خواص مهذّب الدولة فولّوه عليهم، وبذل لسلطان الدولة ملك بغداد مالا فأقرّه على ولايته. (نكبة السراني وولاية صدقة المازياري) وأقام أبو محمد السراني على البطيحة إلى سنة عشر وأربعمائة، وبعث سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياريّ فنكبه وملك البطيحة، وبقي عنده أسيرا إلى أن توفي صدقة وخلص على ما يذكر.   [1] هو أبو محمد عبد الله بن ينيّ: ابن الأثير ج 9 ص 303 [2] هو أبو محمد عبد الله بن ينيّ كما مرّ معنا من قبل. [3] هو أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي: ابن الأثير ج 9 ص 303 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 683 (وفاة صدقة وولاية سابور بن المرزبان) ثم توفي صدقة بن فارس المازياري في محرم لاثنتي عشرة سنة من ولايته، وكان سابور ابن المرزبان بن مردان قائد جيشه. وكان أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين قد تنقل بعد موت أبيه في البلاد بمصر، وعند بدر بن حسنويه حتى استقرّ عند الوزير أبي غالب، ونفق عنده بما كان لديه من الأدب. (عزل سابور وولاية أبي نصر) ثم إنّ أبا نصر بن مردان زاد في المقاطعة ولم يبلغها سابور، وتخلّى عن الولاية وفارق البطيحة إلى جزيرة بني دبيس، واستقرّ أبو نصر في ولايتها. ثم عادت إلى أبي عبد الله الحسين بن بكر السراني. (عصيان أهل البطيحة على أبي كاليجار) وبعث أبو كاليجار سنة ثمان عشرة وأربعمائة وزيره أبا محمد بن نابهشاد [1] إلى البطيحة، ومقدّمها يومئذ أبو عبد الله الحسين بن بكر السراني فعسف بالناس في أموالهم، وقسط عليهم مقادير تؤخذ منهم فانجلوا إلى البلاد. وعزم الباقون على قتل السراني، ونما الخبر إلى السراني فجاء إليهم واعتذر إليهم، وأوعدهم بالمساعدة وأشار عليه الوزير بإصلاح السفن حتى زحزحها بحيث لا يتمكن منها. ثم وثبوا به فأخرجوه، وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة محبوسين فأخرجوهم، واستعانوا بهم وعادوا إلى الامتناع الّذي كانوا عليه أيام مهذّب الدولة فتمّ لهم ذلك. ثم جاء ابن المعبراني فغلب على البطيحة وأخرج منها السراني فلحق بيزيد بن مزيد،   [1] هو محمد بن بابشاذ: ابن الأثير ج 9 ص 359 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 684 وأقام بها ابن المعبراني سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فزحف إليه أبو نصر بن الهيثم فغلبه عليه ونهبها واستقرّ في ملكها على مال يؤدّيه لجلال الدولة. (استيلاء أبي كاليجار على البطيحة) ولما كانت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة بعث أبو كاليجار أبا الغنائم أبا السعادات الوزير في عسكر لحصار البطيحة فحاصرها، وبها أبو منصور بن الهيثم حتى جنح إلى الصلح، واستأمن نفر من أصحابه إلى أبي الغنائم وأخبروه بضعفه وعزمه على الهرب، فحفظ عليه الطرق ولما كان شهر صفر من السنة واقعهم أبو الغنائم فظفر بهم، وقتل من أهل البطيحة خلقا كثيرا وغرقت منهم سفن متعدّدة وتفرّقوا في الآجام، وركب ابن الهيثم السفن ناجيا بنفسه وأحرقت داره ونهب ما فيها. (ولاية مهذب الدولة بن أبي الخير على البطيحة) ثم كان بعد ذلك لبني أبي الخير ولاية على البطيحة فيما قبل المائة الخامسة وما بعدها ولا أدري ممن هؤلاء بنو أبي الخير، إلا أنّ ابن الأثير قال: كان إسماعيل ولقبه المصطنع، ومحمد ولقبه المختص، هما ابنا أبي الخير، ولهما رياسة قومهما. وهلك المختص وقام مكانه ابنه مهذب الدولة. ونازع ابن الهيثم صاحب البطيحة إلى أن غلبه مهذّب الدولة أيام كوهوايين الشحنة ببغداد. وكان بنو عمّه وعشيرته تحت حكمه. وأقطع السلطان محمد سنة خمس وتسعين وخمسمائة مدينة واسط لصدقة بن مزيد صاحب البطيحة والحلّة فضمنها منه مهذّب الدولة أحمد بن أبي الخير صاحب البطيحة، وفرّق أولاده في الأعمال وطالبه صدقة بالأموال وحبسه وضمن حمّاد ابن عمّه واسط. وكان مهذّب الدولة يصانع حمّاد ابن عمّه إسماعيل ويداريه، وحمّاد يطمح إلى رياسته، فلمّا هلك كوهوايين نازع حماد مهذّب الدولة ابن عمه، واجتهد مهذّب الدولة في إصلاحه فلم يقدر، فجمع النفيس بن مهذّب الدولة فهرب حمّاد إلى صدقة مستجيشا به، فعاد بالجيش وحاربه مهذّب الدولة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 685 وزاده صدقة المدد، فانهزم مهذّب الدولة وهلك أكثر عسكره وقوي طمع حماد. واستمدّ صدقة فأمدّه بالعساكر مع مقدّم جيشه حميد بن سعيد. وبعث مهذب الدولة لصاحب الجيش بالإقامات والصلات فمال إليه، وأصلح ما بينه وبين صدقة. وبعث مهذّب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة فأصلح بينهم وبين حماد ابن عمّهم، وكان ذلك أعوام الثلاثين. (ولاية نصر بن النفيس والمظفر بن حماد من بعده على البطيحة) ثم كان انتقاض دبيس بن صدقة أيام المسترشد والسلطان محمود، وكان البرسقي شحنة ببغداد فانتزع السلطان البطيحة من يد دبيس وأقطعها إلى سحان الخادم مولاه، فولّى عليها نصر بن النفيس بن مهذّب الدولة أحمد بن محمد بن أبي الخير. وأمر السلطان محمود البرسقي بالمسير لقتال دبيس فاحتشد وسار لذلك ومعه نصر بن النفيس صاحب البطيحة، وابن عمه المظفر بن حماد بن إسماعيل بن أبي الخير، وبينهما من العداوة المتوارثة ما كان بين سلفهما. والتقى البرسقي ودبيس وهزمه دبيس وجاءت العساكر منهزمة، وبقي نصر بن النفيس وابن عمه حمّاد عند ساباط النهر فقتله، ولحق بالبطيحة فملكها، وبعث إلى دبيس بطاعته، وبعث دبيس إلى الخليفة يصانعه بالطاعة على البعد، وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فقبض على منصور بن صدقة أخي دبيس وولده فكحلهما فاستشاط دبيس وساء أثره في البلاد، وبعث إلى أحيائه بواسط فمنعهم الأتراك الذين بها، فبعث مهلهل بن أبي العسكر مقدّم عساكره في جيش، وكتب إلى المظفّر بن حمّاد صاحب البطيحة بمعاضدته على قتال واسط فتجهز وأصعد، وعاجل مهلهل الحرب قبل وصوله فهزمه أهل واسط وغنموا ما معه، وكان في جملتها بخط دبيس وصار معهم، وساءت آثار دبيس في البلاد، ولم يزل حال البطيحة على ذلك. ثم صار أمرها لبني معروف وأجلاهم الخلفاء عنها . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 686 (اجلاء بني معروف من البطيحة) كان بنو معروف هؤلاء أمراء بالبطيحة في آخر المائة السادسة، ولا أدري ممن هم. فلما استجمع للخلفاء أمرهم وخرجوا عن استبداد ملوك السلجوقية واقتطعوا الأعمال من أيديهم شيئا فشيئا فصار لهم الحلّد والكوفة وواسط والبصرة وتكريت وهيت والأنبار والحديثة. وجاءت دولة الناصر وبنو معروف على البطيحة وكبيرهم معلّى. قال ابن الأثير وهم قوم من ربيعة، كانت بيوتهم غربي الفرات تحت سوراء وما يتصل بها من البطائح، وكثرت أذاياتهم وإفسادهم في النواحي. وبلغت الشكوى بهم إلى الديوان فأمر الخليفة الناصر مغذا [1] الشريف متولّي بلاد واسط أن يسير إلى قتالهم فاستعدّ لذلك. وجمع من سائر تلك الأعمال، فسار إليهم سنة ست عشرة وستمائة العير من بلاد البطيحة وفشا القتل بينهم. ثم انهزم بنو معروف، وتفرّقوا بين القتل والأسر والغرق، واستبيحت أموالهم وانتظمت البطيحة في أعمال الناصر، ولم يبق بها ملك ولا دولة. (الخبر عن دولة بني حسنويه من الأكراد القائمين بالدعوة العباسية بالدينور والصامغان ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم) كان حسنويه بن الحسين الكردي من طائفة الأكراد يعرفون بالريزنكاس، وعشيرة منهم يسمّون الدويلتية، وكان مالكا قلعة سرياج وأميرا على البررفكان. وورث الملك عن خاليه ونداد وغانم ابني أحمد بن عليّ، وكان صنفهما من الأكراد يسمون العبابيّة [2] وغلبا على أطراف الدينور وهمذان ونهاوند والصامغان، وبعض نواحي   [1] معدا: ابن الأثير ج 12 ص 356 [2] هكذا بالأصل وهناك تحريف في الأسماء وفي الكامل ج 8 ص 705: «في هذه السنة- 369- توفي حسنويه بن الحسين الكردي البرزيكاني بسرماج، وكان أميرا على جيش من البرزيكان يسمّون البرزينية، وكان خالاه: ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف آخر منهم يسمّون العيشانية» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 687 أذربيجان إلى حدود شهرزور فملكاها نحوا من خمسين سنة، ولكل واحد منهما ألوف من العساكر، وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وقام مقامه ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنجان من طوائف الأكراد، وسلّموه إلى حسنويه فأخذ قلاعه وأملاكه. وتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة فقام ابنه أبو سالم دسيم مكانه بقلعة فتنان إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد، واستصفى قلاعه المسمّاة بستان وغانم أفاق وغيرهما [1] . وكان حسنويه حسن السيرة ضابطا لأمره، وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندسة وبنى بالدينور جامعا كذلك، وكان كثير الصدقة للحرمين. ولما ملك بنو بويه البلاد واختصّ ركن الدولة بالريّ وما يليه كان شيعة ومددا على عدوه فكان يرعى ذلك. ويغضي عن أموره إلى أن وقعت بين ابن مسافر من قوّاد الديلم وكبارهم وقعة هزمه فيها حسنويه، وتحصّن بمكان فحاصره فيه وأضرمه عليه نارا فكاد يهلك. ثم استأمن له فغدر به وامتعض لذلك ركن الدولة وأدركته نغرة العصبية، وبعث وزيره أبا الفضل بن العميد في العساكر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة فنزل همذان وضيّق على حسنويه، ثم مات أبو الفضل فصالحه ابنه أبو الفتح على مال ورجع عنه. (وفاة حسنويه وولاية ابنه بدر) ثم توفي حسنويه سنة تسع وستين وثلاثمائة وافترق ولده على عضد الدولة لقتال أخيه محمد وفخر الدولة. وكانوا جماعة أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك. وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته، ثم رغب عنه فسيّر إليه عضد الدولة جيشا وملك قلعته وغيرها من قلاعهم. ولما سار عضد الدولة لقتال أخيه فخر الدولة وملك همذان والريّ وأضافهما إلى أخيه مؤيّد الدولة، ولحق فخر الدولة بقابوس بن وشمكير   [1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 705: «وتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة، فكان ابنه ابو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان إلى ان ازاله أبو الفتح بن العميد واستصفى قلاعه المسمّاة قسنان وغانم آباد وغيرهما.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 688 عرّج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي فافتتح نهاوند والدّينور وسرماج وأخذ ما فيها من ذخائره، وكانت جليلة المقدار وملك معها عدّة من قلاع حسنويه ووفد عليه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان، واصطنع من بينهم أبا النجم بدر بن حسنويه وخلع عليه وولّاه على الأكراد وقوّاه بالرجال فضبط ملك النواحي وكفّ عادية الأكراد بها. واستقام أمره فحسده أخواه، وأظهر عاصم وعبد الملك منهم العصيان، وجمعا الأكراد المخالفين وبعث عضد الدولة العساكر فأوقعوا بعاصم وهزموه وجاءوا به أسيرا إلى همذان، ولم يوقف له بعد ذلك على خبر، وذلك سنة سبعين وثلاثمائة وقتل جميع أولاد حسنويه وأقرّ بدرا على عمله. (حروب بدر بن حسنويه وعساكر مشرف الدولة) ولما توفي عضد الدولة وملك ابنه صمصام الدولة ثار عليه أخوه مشرف الدولة بفارس، ثم ملك بغداد. وكان فخر الدولة بن ركن الدولة قد عاد من خراسان إلى مملكة أصفهان والريّ بعد وفاة أخيه مؤيد الدولة، ووقع بينه وبين مشرف الدولة فكان مشرف الدولة يحقد عليه. فلما استقرّ ببغداد وانتزعها من يد صمصام الدولة، وكان قائده قراتكين الجهشياري مدلا عليه متحكّما في دولته، وكان ذلك يثقل على مشرف الدولة، جهّزه في العساكر لقتال بدر بن حسنويه يروم إحدى الراحتين، فسار إلى بدر سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ولقيه على وادي قرميسين. وانهزم بدر حتى توارى ولم يتلقوه ونزلوا في خيامه، ثم كرّ بدر فأعجلهم عن الركوب، وفتك فيهم واحتوى على ما معهم. ونجا قراتكين في فلّ إلى جسر النهروان فلحق به المنهزمون، ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل وقويت شوكته واستفحل أمره. ولم يزل ظاهرا عزيزا وقلّد من ديوان الخلافة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أيام السلطان بهاء الدولة ولقّب ناصر الدولة. وكان كثير الصدقات بالحرمين، وكثير الطعام للعرب بالحجاز لخفارة الحاج، وكفّ أصحابه من الأكراد عن إفساد السابلة فعظم محله وسار ذكره. ابن خلدون م 44 ج 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 689 (مسير ابن حسنويه لحصار بغداد مع أبي جعفر بن هرمز) كان أبو جعفر الحجّاج بن هرمز نائبا بالعراق عن بهاء الدولة، ثم عزله فدال منه بأبي عليّ بن أبي جعفر أستاذ هرمز، وتلقّب عميد الجيوش فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة، وقاتل عميد الجيوش فهزمه العميد. ثم جرت بينهما حروب سنة ثلاث وستين [1] وثلاثمائة وأقاما على الفتنة والاستنجاد بالعرب من بني عقيل وخفاجة وبني أسد، وبهاء الدولة مشتغل بحرب ابن واصل في البصرة. واتصل ذلك إلى سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وكان ابن واصل قد قصد صاحب طريق خراسان وهو قلج، ونزل عليه واجتمعا على فتنة عميد الجيوش. وتوفي قلج هذه السنة فولّى عميد الجيوش مكانه أبا الفتح محمد بن عنّان عدوّ بدر بن حسنويه. وفحل الأكراد المسامي لبدر في الشؤون وهو من الشاذنجان من طوائف الأكراد، وكانت حلوان له فغضب لذلك بدر ومال إلى أبي جعفر، وجمع له الجموع من الأكراد مثل الأمير هندي بن سعدي، وأبي عيسى سادي بن محمد وورام بن محمد وغيرهم. واجتمع له معهم علي بن مزيد الأسدي. وزحفوا جميعا إلى بغداد ونزلوا على فرسخ منها. ولحق أبو الفتح بن عنّان بعميد الجيوش، وأقام معه ببغداد حاميا ومدافعا إلى أن وصل الخبر بهزيمة ابن واصل وظهور بهاء الدولة عليه، فأجفلوا عن بغداد. وسار أبو جعفر إلى حلوان ومعه أبو عيسى، وراسل بهاء الدولة، ثم سار ابن حسنويه إلى ولاية رافع بن معن من بني عقيل يجتمع مع بني المسيب في المقلّد، وعاث فيها لأنه كان آوى أبا الفتح بن عنّان حين أخرجه بدر من حلوان وقرميسين، واستولى عليها فأرسل بدر جيشا إلى أعمال رافع بالجناب ونهبوها وأحرقوها. وسار أبو الفتح بن عنّان إلى عميد الجيوش ببغداد فوعده النصر حتى إذا فرغ بهاء الدولة من شأن ابن واصل وقتله، أمر عميد الجيوش بالمسير إلى بدر بن حسنويه لإعانته على بغداد وإمداده ابن واصل [2] فسار لذلك،   [1] الصحيح ان هذه الحروب وقعت سنة 393 وليس 363. [2] العبارة مشوشة والمقصود ان بدرا كان عونا لابن واصل وهو عدو بهاء الدولة! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 690 ونزل جنديسابور وبعث إليه بدر في الصلح على أن يعطيه ما أنفق على العساكر فحمل إليه ورجع عنه. (انتقاض هلال بن بدر بن حسنويه على أبيه وحروبهما) كانت أمّ هلال هذا من الشاذنجان رهط أبي الفتح بن عنّان وأبي الشوك بن مهلهل، واعتزلها أبوه لأوّل ولادته فنشأ مبعدا عن أبيه، واصطفى بدر ابنه الآخر أبا عيسى وأقطع هلالا الصامغان، فأساء مجاورة ابن المضاضي [1] صاحب شهرزور وكان صديقا لبدر فنهاه عن ذلك فلم ينته وبعث ابن المضاضي يتهدّده فبعث إليه أبوه بالوعيد فجمع وقصد ابن المضاضي وحاصره في قلعة شهرزور حتى فتحها، وقتل ابن المضاضي واستباح بيته. فاتسع الخرق بينه وبين أبيه، واستمال أصحاب أبيه بدر، وكان بدر نسيكا فاجتمعوا إلى هلال وزحف لحرب أبيه والتقيا على الدّينور، وانهزم بدر وحمل أسيرا إلى ابنه هلال فردّه في قلعته للعبادة، وأعطاه كفايته بعد أن ملك الحصن الّذي تملكه بما فيه. فلما استقرّ بدر بالقلعة حصّنها وأرسل إلى أبي الفتح بن عنّان وإلى أبي عيسى سادي بن محمد بأسترآباذ [2] وأغراهما بأعمال هلال، فسار أبو الفتح إلى قرميسين وملكها. وأساء [3] الديلم فاتبعه هلال إليها ووضع السيف في الديلم. وأمكنه ابن رافع من أبي عيسى فعفا عنه وأخذه معه، وأرسل بدر من قلعته يستنجد بهاء الدولة فبعث إليه الوزير فخر الملك في العساكر، وانتهى إلى سابور خواست. واستشار هلال أبا عيسى بن سادي فأشار عليه بطاعة بهاء الدولة وإلّا فالمطاولة وعدم العجلة باللقاء فاتهمه وسار العسكر ليلا فكبسه. وركب فخر الملك في العسكر وثبت، فبعث إليه هلال بأني إنما جئت للطاعة. ولما عاين بدر رسوله طرده وأخبر الوزير أنها خديعة فسرّ بذلك، وانتفت عنه الظنة ببدر، وأمر العساكر بالزحف فلم يكن بأسرع من مجيء   [1] ابن الماضي: ابن الأثير ج 9 ص 214 [2] هكذا بالأصل وفي الكامل: وراسل أبا الفتح بن عنّاز، وأبا عيسى شاذي بن محمد وهو بأسادآباذ. [3] ومقتضى السياق واستمال الديلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 691 هلال أسيرا فطلب منه تسليم القلعة لبدر فأجاب على أن لا يمكن أبوه منه، واستأمنت أمّه ومن معها بالقلعة فأمّنهم الوزير وملك القلعة، وأخذ ما فيها من الأموال يقال أربعون ألف بدرة دنانير، وأربعمائة ألف بدرة دراهم سوى الجواهر والثياب والسلاح، وسلّم الوزير فخر الملك القلعة لبدر وعاد إلى بغداد. (استيلاء ظاهر بن هلال على شهرزور) كان بدر بن حسنويه قد نزل عن شهرزور لعميد الجيوش ببغداد، وأنزل بها نوبة، فلمّا كانت سنة أربع وأربعمائة، وكان هلال بن بدر معتقلا سار ابنه ظاهر الى شهرزور، وقاتل عساكر فخر الملك منتصف السنة وملكها من أيديهم. وأرسل إليه الوزير يعاتبه ويأمره بإطلاق من أسر من أصحابه ففعل، وبقيت شهرزور بيده. (مقتل بدر بن حسنويه وابنه هلال) ثم سار بدر بن حسنويه أمير الجيل الى الحسن بن مسعود الكردي [1] ليملك عليه بلاده، وحاصره بحصن كوسجة [2] ، وأطال حصاره فغدر أصحاب بدر وأجمعوا قتله. وتولّى ذلك الجورقان من طوائف الأكراد فقتلوه وأجفلوا فدخلوا في طاعة شمس الدولة بن فخر الدولة صاحب همذان وتولّى الحسين بن مسعود تكفين بدر ومواراته في مشهد عليّ. ولما بلغ ظاهر بن هلال مقتل جدّه وكان هاربا منه بنواحي شهرزور، جاء لطلب ملكه، فقاتله شمس الدولة فهزمه وأسره وحبسه بهمذان، واستولى على بلاده، وصار الكرية والشاذنجان من الأكراد في طاعة أبي الشوك [3] . وكان أبوه هلال بن بدر محبوسا عند سلطان الدولة ببغداد فأطلقه وجهّز معه العساكر ليستعيد بلاده من شمس الدولة، فسار ولقيه شمس الدولة فهزمه وأسره وقتله،   [1] الحسين بن مسعود الكردي وقد مرّ معنا من قبل. [2] حصن كوسحد: ابن الأثير ج 9 ص 248. [3] هكذا بالأصل وفي الكامل: «وسار اللّريّة والشاذنجان الى أبي الشوك فدخلوا في طاعته» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 692 ورجعت العساكر منهزمة إلى بغداد. وكان في ملك بدر سابورخواست والدّينور وبروجرد ونهاوند وأستراباذ [1] وقطعة من أعمال الأهواز وما بين ذلك من القلاع والولايات. وكان عادلا كثير المعروف عظيم الهمّة. ولما هلك هو وابنه هلال بقي حافده ظاهر محبوسا عند شمس الدولة بهمذان. (مقتل ظاهر بن هلال واستيلاء أبي الشوك على بلادهم ورياستهم) كان أبو الفتح محمد بن عنّان [2] أمير الشاذنجان من الأكراد، وكانت بيده حلوان وأقام عليها أميرا وعلى قومه عشرين سنة. وكان يزاحم بدر بن حسنويه وبنيه في الولايات والأعمال بالجيل. وهلك سنة إحدى وأربعمائة وقام مكانه ابنه أبو الشوك، وطلبته العساكر من بغداد فقاتلهم وهزموه، فامتنع بحلوان إلى أن أصلح حاله مع الوزير فخر الملك لمّا قدم العراق بعد عميد الجيوش من قبل بهاء الدولة. ثم إنّ شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه أطلق ظاهر بن هلال بن بدر من محبسه بعد أن استحلفه على الطاعة، وولّاه على قومه وعلى بلاده بالجيل، وأبو الشوك صاحب حلوان والسهل، وبينهما المنافسة القديمة، فجمع ظاهر وحارب أبا الشوك فهزمه وقتل سعدي بن محمد أخاه. ثم جمع ثانية فانهزم أبو الشوك أيضا وامتنع بحلوان وملك ظاهر عامّة البسيط، وأقام بالنهروان. ثم تصالحا وتزوّج ظاهر أخت أبي الشوك فلمّا أمّنه ظاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي ودفنه أصحابه بمقابر بغداد، وملك سائر الأعمال ونزل الدّينور. ولما استولى علاء الدولة بن كاكويه على همذان سنة أربع عشرة وأربعمائة عند ما هزم عساكر شمس الدولة بن بويه واستبدّ عليه، سار الى الدّينور فملكها من يد أبي الشوك، ثم إلى سابور خواست وسائر تلك الأعمال. وسار في طلب أبي الشوك فأرسل إليه مشرف الدولة سلطان بغداد وشفع فيه فعاد عنه علاء الدولة. ولمّا زحف الغز إلى   [1] اسادآباذ وقد مرّت معنا من قبل. [2] هو ابو الفتح محمد بن عنّاز وقد مرّ معنا من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 693 بلاد الريّ سنة عشرين وأربعمائة وملكوا همذان وعاثوا في نواحيها إلى أستراباذ وقرى الدّينور، خرج إليهم أبو الفتح بن أبي الشوك وقاتلهم فهزمهم وأسر منهم جماعة. ثم عقد الصلح معهم على إطلاق أسراهم ورجعوا عنه. ثم استولى أبو الشوك سنة ثلاثين وأربعمائة على قرميسين من أعمال الجيل، وقبض على صاحبها من الأكراد الترهية وسار اخوه إلى قلعة أرمينية فاعتصم بها من أبي الشوك، وكانت لهم مدينة خولنجان، فبعث إليها عسكرا فلم يظفروا وعادوا عنها. ثم جهّز آخر وبعثهم ليومهم يسابقون جندهم، ومرّوا بأرمينية فنهبوا ربضها، وقاتلوا من ظفروا به، وانتهوا إلى خولنجان فكبسوها على حين غفلة واستأمن إليهم أهلها وتحصّن الحامية بقلعة وسط البلد فحاصروها وملكوها عليهم في ذي القعدة من السنة. (الفتنة بين أبي الفتح بن أبي الشوك وعمه مهلهل) كان أبو الفتح بن أبي الشوك نائبا عن أبيه بالدّينور، واستفحل بها وملك قلاعا عدة، وحمى أعماله من الغزّ فأعجب بنفسه ورأى التفوّق على أبيه. وسار في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة إلى قلعة بكورا [1] من قلاع الأكراد وصاحبها غائب وبها زوجته فراسلت مهلهلا لتسلم له القلعة نكاية لأبي الفتح، وكانت حلّة مهلهل في نواحي الصّامغان فانتظر حتى عاد أبو الفتح عن القلعة وجمعا العساكر لحصارها، وسار إليها أبو الفتح فوري له عن قصده، ورجع فأتبعه أبو الفتح فقاتله عمّه مهلهل، ثم ظفر به وأسره وحبسه. وجمع أبو الشوك وقصد شهرزور وحاصرها. ثم قصد بلاد مهلهل وطال الأمر ولجّ مهلهل في شأنه وأغرى علاء الدولة بن كاكويه ببلد أبي الفتح فملك عليه الدّينور وقرميسين سنة اثنتين وثلاثين. ثم سار أبو الشوك إلى دقوقا وقدم إليها ابنه سعدي فحاصرها وجاء على أثره فنقبوا سورها وملكها عنوة، ونهب بعض البلد وأخذت أسلحة الأكراد وثيابهم، وأقام أبو الشوك بها ليله. ثم بلغه أنّ أخاه سرخاب بن محمد قد أغار على مواضع من ولايته فخاف على البندنجين. ورجع وبعث إلى جلال الدولة سلطان بغداد يستنجده،   [1] قلعة بلوار: ابن الأثير ج 9 ص 470. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 694 فبعث إليه العساكر وأقاموا عنده، وسار مهلهل إلى علاء الدولة بن كاكويه يستصرخه على أخيه أبي الشوك على الاعتصام بقلعة السّيروان. ثم بعث الى علاء الدولة يعرض له بالرجوع إلى جلال الدولة صاحب بغداد فصالحه على أن يكون الدّينور لعلاء الدولة ورجع عنه. ثم سار أبو الشوك إلى شهرزور فحاصرها وعاث في سوادها، وحصر قلعة بيزاز شاه فدافعه أبو القاسم بن عيّاض عنها، ووعده بخلاص ابنه أبي الفتح من أخيه مهلهل، فسار من شهرزور إلى نواحي سند من أعمال أبي الشوك، ولما بعث إليه ابن عيّاض بالصلح مع أخيه أبي الشوك امتنع فسار أبو الشوك من حلوان إلى الصّامغان. ونهب ولاية مهلهل كلّها وأجفل مهلهل بين يديه. ثم تردّد الناس بينهما في الصلح وعاد عنه أبو الشوك. (استيلاء نيال أخي طغرلبك على ولاية أبي الشوك) ثم سار إبراهيم نيّال [1] بأمر أخيه طغرلبك من كرمان إلى همذان فملكها، ولحق كرساشف [2] بن علاء الدولة بالأكراد الجورقان [3] وكان أبو الشوك حينئذ بالدّينور ففارقها إلى قرميسين وملكها نيال. وسار في اتباعه إلى قرميسين ففارقها إلى حلوان وترك كل من في عسكره من الديلم والأكراد الشاذنجان. وسار إليها نيال وملكها عليهم عنوة واستباحها وفتك في العسكر ولحق فلّهم بأبي الشوك في حلوان فقدّم أهله وذخيرته إلى قلعة السّيروان وأقام. ثم سار نيال إلى الصيمرة فملكها ونهبها، وأوقع بالأكراد المجاورين لها في الجورقان فانهزموا. وكان عندهم كرساشف بن علاء الدولة فلحق ببلد شهاب الدولة وشرد أهلها في البلاد، ووصل إليها نيال آخر شعبان فملكها وأحرقها، وأحرق دار أبي الشوك. وسارت طائفة من الغزّ في أثر جماعة منهم فأدركوهم بخانقين فغنموا ما معهم، وانتشر الغزّ في تلك النواحي. وتراسل أبو الشوك وأخوه مهلهل وكان ابنه أبو الفتح قد مات في سجن مهلهل. فبعث مهلهل   [1] إبراهيم ينال: ابن الأثير ج 9 ص 506. [2] كرشاسف: المرجع السابق. [3] الجوزقان: المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 695 ابنه وحلف له أنه لم يقتله، وإن ثبت فاقتل أبا الغنائم بثأره فقبل ورضي، واصطلحا على دفاع نيال عن أنفسهما. وكان أبو الشوك قد أخذ سرخاب أخوه ما عدا قلعة دور بلونه، وتقاطعا لذلك، فسار سرخاب إلى البندنجين وبها سعدي بن أبي الشوك، ففارقها سعدي إلى أبلة ونهبها سرخاب. (وفاة أبي الشوك وقيام أخيه مهلهل مقامه) ثم توفي أبو الشوك فارس بن محمد سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقلعة السيروان من حلوان وقام مقامه أخوه مهلهل واجتمع إليه الأكراد مائلين إليه عن ابن أخيه سعدي بن أبي الشوك فلحق سعدي بنيال أخي طغرلبك يستدعيه لملك البلاد. ولما استولى مهلهل بعد موت أخيه أبي الشوك وكان نيال عند ما غدا من حلوان ولّى على قرميسين بدر بن ظاهر بن هلال بن بدر بن حسنويه، فسار إليها مهلهل سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فهرب بدر عنها وملكها وبعث ابنه محمدا إلى الدّينور وبها عساكر نيال فهزمهم وملكها. (استيلاء سعدي بن أبي الشوك على أعمالهم بدعوة السلجوقية) ولما ملك مهلهل بعد أخيه أبي الشوك تزوّج بأمّ سعدي وأهله وأساء معاملة الأكراد الشاذنجان فراسل سعدي نيال. وسار إليه بالشاذنجان فبعث معهم عسكرا من الغزّ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة فملك حلوان وخطب فيها لإبراهيم نيال. ورجع إلى مايدشت، فخالفه عمه مهلهل إلى حلوان فملكها، وقطع منها خطبة نيال فعاد سعدي إلى عمّه سرخاب فكبسه ونهب حلله وسيّر إلى البندنجين جمعا فقبضوا على نائب سرخاب ونهبوها، وصعد سرخاب الى قلعة دور بلونة [1] ، وعاد سعدي إلى قرميسين، وبعث مهلهل ابنه بدرا إلى حلوان فملكها، فجمع سعدي وأكثر من الغزّ، وسار فملك   [1] دزديلوية: ابن الأثير ج 9 ص 532 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 696 حلوان، وتقدّم إلى عمّه مهلهل فلحق بتيرازشاه [1] من قلاع شهرزور واستباح الغزّ سائر تلك النواحي. وحاصر سعدي تيراز شاه ومعه أحمد بن ظاهر قائد نيال، ونهب الغزّ حلوان وأراد مهلهل أن يسير إلى ابن أخيه فتكاسلوا، ثم قطع سعدي البندنجين لأبي الفتح بن دارم على أن يحاصر معه عمّه سرخاب بقلعة دور بلونة، فساروا إليها وكانت ضيّقة المسلك، فدخلوا المضيق فلم يخلصوا، وأسر سعدي وأبو الفتح وغيرهما من الأعيان، ورجع الغزّ عن تلك النواحي بعد أن كانوا ملكوها. (نكبة سرخاب واستيلاء نيال على أعمالهم كلها) ثم إنّ سرخاب لما قبض سعدي ابن أخيه أبي الشوك غاضبه ابنه أبو العسكر واعتزله، وكان سرخاب قد أساء السيرة في الأكراد فاجتمعوا وقبضوا عليه وحملوه إلى نيال، فاقتلع عينه وطالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فأطلقه أبو العسكر ابنه واستحلفه على السعي في خلاص أبيه سرخاب، فانطلق سعدي، واجتمع عليه كثير من الأكراد، وسار إلى نيال فاستوحش منه، وسار إلى الدسكرة وكاتب أبا كاليجار بالطاعة. ثم سار إبراهيم نيال إلى قلعة كلجان وامتنعت عليهم. ثم حاصروا قلعة دور بلونة فتقدّمت طائفة إلى البندنجين فنهبوها، وسار إبراهيم فيها بالنهب والقتل والعقوبة في المصادرة حتى يموتوا. وتقدّمت طائفة إلى الفتح فهرب وترك حلله، فعرجوا عليها واتبعوه فقاتلهم وظفر بهم، وبعث مستنجدا فلم ينجدوه، فعبر وأمر بنزول حلله إلى جانب الغزّ. وكان سعدي بن أبي الشوك نازلا على فرسخين من باجس فكبسه الغز فهرب وترك حلله وغنمها الغزّ ونهبوا تلك الأعمال والدسكرة والهارونية وقصر سابور، وتقسّم أهلها بين القتل والغرق والهلاك بالبرد. ووصل سعدي الى دبال ولحق منها بأبي الأغرّ دبيس بن مزيد، فأقام عنده وحاصر نيال قلعة السّيروان وضيّق عليها وضربت سراياه في البلاد وانتهت إلى قرب تكريت. ثم استأمن أهل قلعة السّيروان إلى نيال فلمكها وأخذ منها ذخيرة سعدي، وولّى عليها من أصحابه. ثم مات صاحب قلعة السّيروان وبعث   [1] قلعة تيران شاه: ابن الأثير ج 9 ص 533. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 697 وزيره إلى شهرزور فملكها، وهرب مهلهل وأبعد في الهرب، وحاصر عسكر نيال قلعة هوازشاه [1] . ثم راسل مهلهل أهل شهرزور بالتوثّب بالغزّ الذين عندهم فقتلوهم ورجع قائد نيال ففتك فيهم. ثم سار الغزّ المقيمون بالبندنجين إلى نهر سليلي [2] ، وقاتلوا أبا دلف القاسم بن محمد الجاوانيّ فهزمهم وظفر بهم وغنم ما معهم. وسار في ذي الحجّة جمع من الغزّ إلى بلد عليّ بن القاسم فعاثوا فيها، فأخذ عليهم المضيق فأوقع بهم واستردّ ما غنموه. ولم يزل أحمد بن ظاهر قائد نيال محاصرا قلعة تيراز شاه في شهرزور إلى أن دخلت سنة أربعين وأربعمائة، ووقع الموتان في عسكره واستمدّ نيال فلم يمدّه، فرحل عنها إلى مايدشير [3] ، وبلغ ذلك مهلهلا فبعث أحد أولاده إلى شهرزور فملكها، وأجفل الغزّ من السّيروان، وسارت عساكر بغداد إلى حلوان وحاصروا قلعتها ولم يظفروا فنهبوا مخلّف الغزّ وخرّبوا الأعمال، وسار مهلهل إلى بغداد فأنزل أهله وأمواله بها، وأنزل حلله على ستة فراسخ منها، فسار عسكر من بغداد إلى البندنجين وقاتلوا الغزّ الذين بها فهزمهم الغزّ وقتلوهم جميعا. (بقية أخبار مهلهل وابن أبي الشوك وانقراض أمرهم) ثم سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة فأحسن إليه وأقرّه على أقطاعه السّيروان ودقوقا وشهرزور والصّامغان، وسعى في أخيه سرخاب وكان محبوسا عنده فأطلقه وسوّغه قلعة الماهكي، وكانت له فسار إليها، وأقطع سعدي بن أبي الشوك الرادندبين [4] ثم بعثه سنة ست وأربعين في عسكر من الغزّ إلى نواحي العراق، فنزل بمايدشت وسار منها إلى أبي دلف الجاوانيّ، فهرب بين يديه وأدركه فنهب أمواله وفلت بنفسه. وكان خالد ابن عمه مع الوزير ومطر ابني   [1] هي قلعة تيران شاه. وهي أيضا مدينة في نواحي شهرزور (معجم البلدان) . [2] السّليل: ابن الأثير ج 9 ص 540. [3] مايدشت: ابن الأثير ج 9 ص 545. وهي قلعة وبلد في ضواحي خانقين بالعراق (معجم البلدان) . [4] الراوندين: ابن الأثير ج 9 ص 570. ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان ولعلها الراوندان وهي قلعة حصينة وكورة طيبة معشبة مشجرة من نواحي حلب. (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 698 عليّ بن معن العقيليّ، فوفد أولادهم على سعدي يشكون مهلهلا فوعدهم النصر، ورجعهم من عنده فاعترضهم أصحاب مهلهل فأسرهم بنو عقيل ففداهم مهلهل وأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم، فساروا إلى سعدي وهو بسامرّا. وأتبع عمه مهلهلا وظفر به وأسره وأسر مالكا ابنه، وردّ غنائم بني عقيل ورجع إلى حلوان. واضطربت بغداد واجتمعت عساكر الملك الرحيم ومعهم أبو الأغرّ دبيس بن مزيد يسعى عند سعدي في أبيه. وكان ابن سعدي عنه السلطان طغرلبك رهينة فردّه على أبيه عوضا عن مهلهل، وأمره بإطلاق مهلهل، فامتعض لذلك سعدي وعصى على طغرلبك. وسار إلى حلوان فامتنعت عليه، وأقام يتردّد بين رشقباد والبردان [1] . وأظهر مخالفة طغرلبك، ورجع إلى طاعة الملك الرحيم، فبعث طغرلبك العساكر مع بدران بن مهلهل إلى شهرزور، ووجد إبراهيم بن إسحاق من قوّاده فأوقعوا به، ومضى إلى قلعة رشقباد. وسار بدر بن مهلهل الى شهرزور ورجع إبراهيم بن إسحاق إلى حلوان فأقام بها. ثم نهض سنة ست وأربعين إلى الدسكرة فنهبها واستباحها، وسار إلى رشقباد وهي قلعة سعدي وفيها ذخيرته، وفي القلعة البردان فامتنعت عليه فخرّب أعماله ووهن الديلم في كل ناحية. وبعث طغرلبك أبا عليّ بن أبي كاليجار صاحب البصرة في عسكر من الغزّ إلى الأهواز فملكها، ونهبها الغز ولقي الناس منهم عيثا بالنهب والمصادرة، وأحاطت دعوة طغرلبك ببغداد من كل ناحية. وانقرض الأكراد من أعمالهم واندرجوا في جملة السلطان طغرلبك. (وتلك الأيام نداولها بين الناس، والله يؤتي ملكه من يشاء والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين) لا رادّ لأمره. (تم طبع الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس أوّله الخبر عن دولة السلجوقية)   [1] قلعة روشنقباذ والبردان: ابن الأثير ج 9 ص 595. «والبردان مواضع كثيرة منها بردان من قرى بغداد على سبعة فراسخ منها قرب صريفين، وهي من نواحي دجيل. وبرده بالفارسية الرقيق المجلوب في أول إخراجه من بلاد الكفر ولعل هذه القرية كانت منزل الرقيق فسميت بذلك، لانهم يلحقون الدال والألف والنون في ما يجعلونهم وعاء للشيء» . (معجم البلدان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 699 [ المجلد الخامس ] بسم الله الرحمن الرحيم [تتمة الكتاب الثاني ... ] [تتمة القول في أجيال العرب ... ] [تتمة الطبقة الثالثة من العرب ... ] الخبر عن دولة السلجوقية من الترك المستولين على ممالك الإسلام ودوله بالمشرق كلها الى حدود مصر مستبدّين على الخليفة ببغداد من خلافة القائم الى هذا الزمان وما كان لهم من الملك والسلطان في أقطار العالم وكيف فعلوا بالعلماء وحجروهم وما تفرّع عن دولتهم من الدول قد تقدم لنا ذكر أنساب الأمم والكلام في أنساب الترك وأنهم من ولد كومر بن يافث أحد السبعة المذكورين من بني يافث في التوراة وهم ماواق وماذاي وماغوغ وقطوبال وماشخ وطيراش [1] وعدّ ابن إسحاق منهم ستة ولم يذكر ماذاي وفي التوراة أيضا انّ ولد كومر ثلاثة توغرما وأشكان وريعات ووقع في الإسرائيليات أنّ الافرنج من ريعات والصقالبة من أشكان والخزر من توغرما والصحيح عند نسّابة الإسرائيليين أنّ الخزر هم التركمان وشعوب   [1] قوله: وهم ماواق وماذاي ... إلخ. وكذا في النسخ التي بأيدينا ووقع في أول الجزء الثاني ما يخالفه. وقد ذكرنا أسماءهم هناك. في أول الجزء الثاني، كما هي مذكورة في التوراة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 الترك كلهم من ولد كومر ولم يذكر من أيّ ولده الثلاثة والظاهر أنهم من توغرما وزعم بعض النسابة أنهم من طيراش بن يافث ونسبهم ابن سعيد الى ترك بن عامور بن سويل والظاهر أنه غلط وأنّ غامور تصحيف كما مرّ وأمّا سويل فلم يذكر أحد أنه من بني يافث وقد مرّ ذكر ذلك كله (والترك أجناس) كثيرة وشعوب فمنهم الروس والإعلان ويقال إبلان والخفشاخ وهم القفجق والهياطلة والخلج والغزّ الذين منهم السلجوقية والخطا وكانوا بأرض طمعاج ويمك والقور وتزكس واركس والططر ويقال الطغرغر وأنكر وهم مجاورون للروم وأعلم أنّ هؤلاء الترك أعظم أمم العالم وليس في أجناس البشر أكثر منهم ومن العرب في جنوب المعمور وهؤلاء في شماله قد ملكوا عامة الأقاليم الثلاثة من الخامس والسادس والسابع في نصف طوله مما يلي المشرق فأوّل مواطنهم من الشرق على البحر بلاد الصين وما فوقها جنوبا الى الهنك وما تحتها شمالا الى سدّ يأجوج ومأجوج وقد قيل انهم من شعوب الترك وآخر مواطنهم من جهة الغرب بلاد الصقالبة المجاورين للافرنج مما يلي رومة الى خليج القسطنطينية وأوّل مواطنهم من جهة الجنوب بلاد القور المجاورة للنهر ثم خراسان وآذربيجان وخليج القسطنطينية وآخرها من الشمال بلاد فرغانة والشاش وما وراءها من البلاد الشمالية المجهولة لبعدها وما بين هذه الحدود من بلاد غزنة ونهر جيحون وما بحفافيه من البلاد وخوارزم ومفاوز الصين وبلاد القفجق والروس حفافي خليج القسطنطينيّة من جهة الشمال الغربي قد اعتمر لهذه البسائط منهم أمم لا يحصيهم الا خالقهم رحّالة متنقلون فيها مستنجعين مساقط الغيث في نواحيه يسكنون الخيام المتخذة من اللبود لشدّة البرد في بلادهم فقروا عليها ومرّ بديار بكر [1] وخرج اليه صاحبها نصر بن مروان وحمل مائة ألف دينار لنفقته فلما سمع أنه قبضها من الرعايا ردّها عليه ثم مرّ بناهرو وأمنها وأطاف على السور وجعل يمسحه بيده ويمرّ بها على خدوده تبركا بثغر المسلمين ثم مرّ بالرها وحاصرها فامتنعت عليه ثم سار الى حلب فبعث اليه صاحبها محمود ريعول القائد الّذي عنده يخبر بطاعته وخطبته ويستعفيه من الخروج اليه منكرا منه الأذى ويحيّ على خير العمل فقال لا بدّ من خروجه واشتدّ الحصار فخرج محمود ليلا مع أمّه بنت وثاى الهني متطارحا على السلطان فأكرم مقدمها وخلع عليه وأعاده الى بلده.   [1] قوله ومر بديار بكر ... إلخ. غير ملتئم مع ما قبله. فلعل المصنف ترك هنا بياضا، ولم يلتفت اليه الناسخ كما يظهر لمن تأمل النص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 غزاة السلطان آلب أرسلان الى خلاط واسر ملك الروم كان ملك الروم بالقسطنطينية لهذا العهد اسمه أرمانوس وكان كثيرا ما يخيف ثغور المسلمين وتوجه في سنة اثنتين وستين في عساكر كثيرة الى الشام ونزل على مدينة منبج واستباحها وجمع له محمود بن صالح بن مرداس الكلابي وابن حسان الطائي قومهما ومن اليهم من العرب فهزمتهم الروم ثم رجع أرمانوس الى القسطنطينية واحتشد الروم والفرنج والروس والكرخ ومن يليهم من العرب والطوائف وخرج الى بلاد كرد من أعمال خلاط وكان السلطان آلب أرسلان بمدينة حوف من أذربيجان منقلبا من حلب فبعث بأهله وأثقاله الى همدان مع وزير نظام الملك وسار هو في خمسة عشر ألف مقاتل وتوجه نحوهم متهيئا ولقيت مقدمته الروس فهزموهم وجاءوا بملكهم أسيرا الى السلطان فجدعه وبعث اسلابهم الى نظام الملك ثم توجّه الى سمرقند ففارقها ألتكير وأرسل في الصلح ويعتذر عن تومق فصالحه ملك شاه وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين مكين الى خراسان ثم الى الريّ. (فتنة قاروت بك صاحب كرمان ومقتله) كان بكرمان قاروت [1] بك أخو السلطان البارسلان أميرا عليها فلما بلغه وفاة أخيه سار الى الريّ لطلب الملك فسبقه اليها السلطان ملك شاه ونظام الملك ومعهما مسلم بن قريش ومنصور بن دبيس وأمراء الأكراد والتقوا على نهرمان فانهزم قاروت بك وجيء به الى أمام سعد الدولة كوهراس [2] فقتله خنقا وأمر كرمان بسير بنيه وبعث اليهم بالخلع وأقطع العرب والأكراد مجازاة لما أبلوا في الحرب وقد كان السلطان البارسلان شافعا فيه على الخليفة فلقيهم خبر وفاة البارسلان في طريقهم فرّوا الى ملك شاه وسبق اليه مسلم بطاعته وأمّا بهاء الدولة منصور بن دبيس فانّ أباه أرسله بالمال الى ملك شاه فلقيه سائرا للحرب فشهدها معه ثم توفي أياز أخو السلطان ملك شاه ببلخ سنة خمس وستين فكفله ابنه ملك شاه الى سنة سبع وستين وتوفي القائم منتصف شعبان منها لخمس وأربعين سنة من خلافته ولم يكن له يومئذ ولد وانما كان له حافد وهو المقتدي عبد الله بن محمد وكان أبوه محمد بن القائم ولي عهده   [1] كذا، واسمه في الكامل: قاروت بك ج 9 ص 645. [2] كوهراس هو كوهرابين، كما في نسخة أخرى أو كوهرائين كما في الكامل لابن الأثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وكان يلقب ذخيرة الدين ويكنى ابا العباس وتوفي سنة [1] وعهد القائم لحافده فلما توفي اجتمع أهل الدولة وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونقيب النقباء طراد وقاضي القضاة الدامغانيّ فبايعوه بالخلافة لعهد جدّه اليه بذلك وأقرّ فخر الدولة بن جهير على الوزارة وبعث ابنه عميد الدولة الى السلطان ملك شاه لأخذ بيعته والله الموفق للصواب. استيلاء السلجوقية على دمشق وحصارهم مصر ثم استيلاء تتش ابن السلطان آلب أرسلان على دمشق قد تقدم لنا ملك انسز [2] الرملة وبيت المقدس وحصاره دمشق سنة احدى وستين ثم عاد عنها وجعل يتعاهد نواحيها بالعيث والإفساد كل سنة ثم سار اليها في رمضان سنة سبع وستين وحاضرها ثم عاد عنها وهرب منها أميرها من قبل المستنصر العلويّ صاحب مصر المعلى بن حيدرة لأنه كثر عسفه بالجند والرعية وظلمه فثاروا به فهرب الى بانياس ثم الى صور ثم الى مصر فحبس ومات بها محبوسا واجتمعت المصامدة بدمشق وولي عليهم أنصار بن يحيى المصمودي ويلقب نصير الدولة وغلت الأقوات عندهم واضطربوا فعاد اليها انسز في شعبان سنة ثمان وستين فاستأمنوا اليه وعوض انتصارا منها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل ودخلها في ذي القعدة وخطب بها للمقتدي ومنع من النداء بحيّ على خير العمل وتغلب على كثير من مدن الشام ثم سار سنة تسع وستين الى مصر وحاصرها وضيق عليها واستنجد المنتصر بالبوادي من نواحيها فوعدوه بالنصر وخرج بدر الجمالي في العساكر التي كانت بالقاهرة وجاء أهل البلاد لميعادهم فانهزم أنسز وعساكره ونجا الى بيت المقدس فوجدهم قد [3] بمخلفه فتحصنوا منه بالمعاقل فافتتحها عليهم عنوة واستباحها حتى قتلهم في المسجد وقد تقدم ضبط هذا الاسم وأنه عند أهل الشأم انسيس والصحيح انسز وهو اسم تركي ثمّ انّ السلطان ملك شاه أقطع أخاه تتش بن آلب أرسلان بلاد الشأم وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فقصد حلب أولا وحاصرها ومعه جموع من   [1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي لدينا على سنة وفاته. [2] اسمه في الكامل: انسز، ج 10 ص 99. [3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 103، وأتى البيت المقدس فرأى أهله قد قحوا على أصحابه ومخلفيه، وحصروهم في محراب داود عليه السلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 التركمان وكان بدر الجمالي المستولي على مصر قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها أنسز فبعث الى تتش وهو على حلب يستنجده فسار اليه وأخرت عساكر مصر عنه منهزمين ولما وصل الى دمشق قعد انسز على لقائه وانتظر قدومه فلقيه عند السور وعاتبه على ذلك فتساهل في العذر فقتله لوقته وملك البلد واستولى على الشام أجمع كما سيأتي وكان يلقب تاج الدولة ثم سار في سنة اثنتين وسبعين الى حلب فحاصرها أياما وأفرج عنها وملك مراغة والبيرة وعاد الى دمشق وخالفه مسلم بن قريش الى حلب فملكها كما تقدم في أخباره وضمنها للسلطان ملك شاه فولاه إياها وسار مسلم بن قريش فحاصرها آخر سنة أربع وسبعين ثم أفرج عنها فخرج تتش وقصد طرسوس من الساحل فافتتحها ورجع [1] ثم حاصرها مسلم ثانية سنة تسع وسبعين وبلغه أن تاج الدولة تتش سار الى بلاد الروم غازيا فخالفه الى دمشق وحاصرها معه العرب والأكراد وبعث اليه العلويّ صاحب مصر بعده بالمدد وبلغ الخبر الى تتش فكرّ راجعا وسبقه الى دمشق فحاصرها أياما ثم خرج اليه تتش في جموعه فهزمه واضطرب أمره ووصله الخبر بانتقاض أهل حرّان فرحل من مرج الصّفر راجعا الى بلاده ثم سار أمير الجيوش من مصر في العساكر الى دمشق سنة ثمان وسبعين وحاصرها فامتنعت عليه ورجع فلحقوا بأخيه تكش في [2] فقوي به وأظهر العصيان واستولى على مروالرّوذ ومره الساهجان وغيرهما وسار الى نيسابور طامعا في ملك خراسان وبلغ الخبر الى السلطان فسبقه الى نيسابور فرجع تتش وتحصن بترمذ وحاصره السلطان حتى سأل الصلح وأطلق من كان في أسره من عسكر السلطان ونزل عن ترمذ وخرج اليه فأكرمه ثم عاود العصيان سنة سبع وسبعين [3] وملك مروالرّوذ ووصل قريبا من سرخس وحاصر قلعة هناك لمسعود ابن الأمير فاخر وتحيل أبو الفتوح الطوسي صاحب نظام وهو بنيسابور على ملطفة وضعوها على شبه خط نظام الملك يخاطب فيها صاحب القلعة بأنه واصل في ركاب السلطان ملك شاه وأنه مصالح للقلعة وتعرّض حاملها لأهل المعسكر حتى أخذوا كتابه بعد الضرب والعرض على القتل وحدّثهم بمثل ما في الصحيفة وانّ السلطان وعساكره في الريّ فأجفلوا لوقتهم الى قلعة   [1] وكذا في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 145: وفي هذه السنة (478) في ربيع الأول وصل أمير الجيوش في عساكر مصر الى الشام فحصر دمشق وبها صاحبها تاج الدولة تتش فضيّق عليه، وقاتله فلم يظفر منها بشيء، فرحل عنها عائدا الى مصر. [2] كذا بياض بالأصل ولم نعثر في المراجع التي لدينا على اسم الموقع الّذي التقوا فيه. [3] كذا بالأصل ويظهر أن تنسيق العبارات والحوادث غير وطرد. وان خطأ وقع أثناء النسخ لأن عصيان تكش على أخيه السلطان ملك شاه كان سنة 477 ومسير أمير الجيوش من مصر الى دمشق وقع سنة 478. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 ربح وخرج أهل الحصن فأخذوا ما في العسكر وجاء السلطان بعد ثلاثة أشهر فحاصره في قلعته حتى افتتحها وحده ودفعه الى ابنه أحمد فتسلمه وحبسه فخرجا من يمينه معه. (سفارة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن الخليفة) كان الخليفة المقتدي وكان عميد العراق أبو الفتح بن أبي الليث يسيء معاملة الخليفة فبعث المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي الى السلطان ملك شاه وزيره نظام الملك بأصفهان شاكيا من العميد فسار الشيخ لذلك ومعه الإمام أبو بكر الشاشي وغيره من الأعيان ورأى الناس عجبا في البلاد التي يمرّ بها من إقبال الخلق عليه وازدحامهم على محفته يتمسحون بها ويلثمون أذيالها وينشرون موجودهم عليها من الدراهم والدنانير لأهلها والمصنوعات لأهل الصنائع والبضائع للتجار والشيخ في ذلك يبكي وينتحب ولما حضر عند السلطان أظهر المحرمة وأجابه الى جميع ما طلبه ورفعت يد العميد عن كل ما يتعلق بالخليفة وحضر الشيخ مجلس نظام الملك فجرت بينه وبين إمام الحرمين مناظرة خبرها معروف. اتصال بني جهير بالسلطان ملك شاه ومسير فخر الدولة لفتح ديار بكر كان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير المقتدي قد عزل سنة احدى وسبعين على يد نظام الملك ولحق به ابنه عميد الدولة واسترضاه فرضي نظام الملك وشفع الى الخليفة فاعتمد عميد الدولة دون أبيه كما تقدم في أخبار الخلفاء ثم أرسل المقتدي سنة أربع وسبعين فخر الدولة الى ملك شاه يخطب له ابنته فسار الى أصبهان وعقد له نكاحها على خمسين ألف دينار معجلة وعاد الى بغداد ثم عزل المقتدي ابنه عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين وكانوا قد علقوا بخطة من نظام الملك فبعث عن نفسه وعن ملك شاه يطلب حضور بني جهير عندهم فساروا بأهليهم فعظمت حظوظهم عند السلطان وعقد لفخر الدولة على ديار بكر وبعث معه العساكر لفتحها من يد بني مروان وأذن له في اتخاذ الآلة وأن يخطب لنفسه ويكتب اسمه على السّكة فسار في العساكر السلطانيّة. (استيلاء ابن جهير على الموصل) ولما سار فخر الدولة ابن جهير لفتح ديار بكر استنجد ابن مروان مسلم بن قريش وشرط له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 أمرا وتحالفا على ذلك واجتمعا لحرب ابن جهير وبعث السلطان الأمير ارتق بن أكسك في العساكر مددا لابن جهير فجنح ابن جهير الى الصلح وبادر أرتق الى القتال فهزم العرب والأكراد وغنم معسكرهم ونجا مسلم بن قريش الى آمد وأحاطت به العسكر فلما اشتدّ مخنقه راسل الأمير أرتق في الخروج على مال بذله له فقبله وكانت له حراسة الطريق فخرج الى الرقة وسار ابن جهير الى ميافارقين وفارقه منصور بن مزيد وابنه صدقة فعاد منها الى خلاط ولما بلغ السلطان انحصار مسلم في آمد بعث عميد الدولة في جيش كثيف الى الموصل ومعه آقسنقر قسيم الدولة الّذي أقطعه بعد ذلك حلب وساروا الى الموصل فلقيهم أرتق ورجع معهم ولما نزلوا على الموصل بعث عميد الدولة الى أهلها بالترغيب والترهيب فأذعنوا واستولى عليها وجاء السلطان في عساكره الى بلاد مسلم بن قريش وقد خلص من الحصار وهو مقيم قبالة الرحبة فبعث اليه مؤيد الكتاب ولا طف السلطان واسترضاه ووفد اليه بالقوارح وردّه السلطان الى أعماله وعاد لحرب أخيه تتش الّذي ذكرناه آنفا. فتح سليمان بن قطلمش انطاكية والخبر عن مقتله ومقتل مسلم ابن قريش واستيلاء تتش على حلب كان سليمان بن قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق قد ملك قرسة واقتصروا أعمالها من بلاد الروم الى الشأم وكانت انطاكية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وكان ملكها لعهده الفردروس فأساء السيرة الى جنده ورعاياه وتنكر لابنه وحبسه فداخل الشحنة في تمكين سلمان من البلد فاستدعوه سنة سبع وسبعين فركب إليها البحر وخرج الى البرّ في أقرب السواحل اليها في ثلاثمائة ألف فارس ورجل كثير وسار في جبال واوعار فلما انتهى الى السور وأمكنه الشحنة من تسلم السور دخل البلد وقاتل أهلها فهزمهم وقتل كثيرا منهم ثم عفا عنهم وملك القلعة وغنم من أموالهم ما لا يحصى وأحسن الى أهلها وأمر لهم بعمارة ما خرب وأرسل الى السلطان ملك شاه بالفتح ثم بعث اليه مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمل اليه الفردروس ملك انطاكية من المال ويخوفه معصية السلطان فأجابه بتقرير الطاعة للسلطان وبأنّ الجزية لا يعطيها مسلم فسار مسلم ونهب نواحي انطاكية فنهب سليمان نواحي حلب ثم جمع سليمان العرب والتركمان وسار لنواحي انطاكية ومعه جماهير التركمان وجمع سليمان كذلك والتقيا آخر صفر سنة ثمان وسبعين وانحاز جقّ الى سليمان فانهزمت العرب وقتل مسلم وسار سليمان بن قطلمش الى حلب وحاصرها فامتنعت عليه وأرسل اليه ابن الحثيثي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 العباسي كبير حلب بالأموال وطالبه أن يمهل حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودس الى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعيه لملكها فجاء لذلك ومعه أرسوس أكسك وكان خائفا على نفسه من السلطان ملك شاه لفعلته في أمر فاستجار بتتش وأقطعه المورس وسار معه لهذه الحرب وبادر سليمان بن قطلمش الى اعتراضهم وهم على تعبية وأبلى أرتق في هذه الحروب وانهزم سليمان وطعن نفسه بخنجر فمات وغنم تتش معسكره وبعث الى ابن الحثيثي العباسي فيما استدعاه اليه فاستمهله الى مشورة السلطان ملك شاه وأغلظ في القول فغضب تتش وداخله بعض أهل البلد فتسوّرها وملكها واستجار ابن الحثيثي بالأمير أرتق فأجاره وسمع له. (استيلاء ابن جهير على ديار بكر) ثم بعث ابن جهير سنة ثمان وسبعين ابنه زعيم الرؤساء ابا القاسم الى حصار آمد ومعه جناح الدولة اسلار فحاصرها واقتلع شجرها وضيق عليها حتى جهدهم الجوع وغدر بعض العامة في ناحية من سورها ونادى بشعار السلطان واجتمع اليه العامة لما كانوا يلقون من عسف العمال النصارى فبادر زعيم الرؤساء الى البلد وملكها وذلك في المحرّم وكان أبوه فخر الدولة محاصرا لميافارقين ووصل اليه سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد بمدد العساكر فاشتدّ الحصار وسقطت من السور ثلمة في سادس جمادى فنادوا بشعار السلطان ومنعوا ابن جهير من البلد واستولى على أموال بني مروان وبعثها مع ابنه زعيم الرؤساء الى السلطان فسار مع كوهراس الى بغداد ثم فارقه الى السلطان بأصبهان ولما انقضى أمر ميافارقين بعث فخر الدولة جيشا الى جزيرة ابن عمر فحاصرها وقام بعض أهلها بدعوة السلطان وفتحوا مما يليهم بابا قريبا دخل منه العسكر فملكوا البلد وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر والبقاء للَّه ثم أخذ السلطان ديار بكر من فخر الدولة بن جهير وسار الى الموصل فأقام بها الى أن توفي سنة ثلاث وثمانين. (استيلاء السلطان ملك شاه على حلب وولاية آقسنقر عليها) لما ملك تاج الدولة تتش مدينة حلب وكان بها سالم بن ملك بن مروان ابن عم مسلم بن قريش وامتنع بالقلعة وحاصره تتش سبعة عشر يوما حتى وصل الخبر بمقدم أخيه السلطان ملك شاه وقد كان ابن الحثيثي كتب اليه يستدعيه لما خاف من تتش فسار من أصبهان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 منتصف تسع وسبعين وفي مقدمته برسق وبدران وغيرهما من الأمراء ومرّ بالموصل في رجب ثم سار الى هراة وبها ابن الشاطي فملكها وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وأقطعه معها مدينة الرحبة وأعمالها. حرّان وسروج والرّقة وخابور وزوّجه أخته زليخا خاتون ثم سار الى الرها وافتتحها من الروم وكانوا اشتروها من ابن عطيّة كما مرّ وسار الى قلعة جعفر فملكها وقتل من كان بها من بني قشير وكان صاحبها جعفر أعمى وكان يخيف السابلة هو وولده فأزال ضررهم ثم ملك منبج وعبر الفرات الى حلب فأجفل تتش عن المدينة ودخل [1] ومعه الأمير أرتق ورجع الى دمشق فلما وصل السلطان الى حلب ملكها ثم الى القلعة فملكها من سالم بن ملك على أن يعطيه قلعة جعفر فلم تزل بيد عقبه الى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد ثم بعث اليه نصر بن علي بن منقذ الكناني بالطاعة فأقره على شيراز [2] وتسلم منه اللاذقية وبعرطاف وجامية [3] ورجع ثم رجع السلطان بعد أن ولى على حلب قسيم الدولة آق سنقر ورغب اليه أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فأخرجه عنهم الى ديار بكر وتوفي بها ثم رجع السلطان الى بغداد فدخلها في ذي الحجة من سنته ونزل بدار المملكة وأهدى للخليفة هدايا كثيرة واجتمع بالخليفة ليلا ثم دخل اليه في مجلسه نهارا وأفيضت عليه الخلع وسلم أمراء السلجوقية على الخليفة ونظام الملك قائم يقرّ بهم واحدا واحدا ويعرف بهم ثم صرّح المقتدي للسلطان ملك شاه بالتفويض وأوصاه بالعدل فقبل يده ووضعها على عينيه وخلع الخليفة على نظام الملك وجاء الى مدرسته التي فيها الحديث وأملى. (خبر الزفاف) قد قدّمنا أنّ السلطان ملك شاه زوّج ابنته من الخليفة المقتدي سنة أربع وسبعين بخطبة الوزير ابن جهير فلما كان سنة ثمانين في المحرّم نقل جهازها للزفاف الى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي أكثرها ذهب وفضة ومعه ثلاث عماريات ومعها أربع وسبعون بغلا مجللة بأنواع الديباج المكيّ وقلائدها الذهب وعلى ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة مملوءة بالحليّ والجواهر ومهد عظيم من ذهب وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 147: وسار منها يسلك البرية ومعه الأمير أرتق. [2] وفي بعض النسخ شيزر. [3] وفي بعض النسخ افامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 كوهراس والأمير أرتق وغيرهما من الأمراء والناس ينثرون عليهم الدنانير والثياب وبعث الخليفة وزيره أبا شجاع الى زوجة السلطان تركمان خاتون ومعه خادمه ظفر بمحفة لم ير مثلها ومعهم ثلاثمائة من الشمع الموكف ومثلها مشاعل وأوقدت الشموع في دكاكين الحريم الخلافيّ وقال الوزير لخاتون سيدنا أمير المؤمنين يقول أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة الى داره فقالت سمعا وطاعة ومشى بين يديها أعيان الدولة مع كل واحد الشمع والمشاعل يحملها الفرسان ثم جاءت المأمون من بعدهم في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر ما لا يحدّ ويحيط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك على مراكب رائعة وأولم الخليفة وليمة لم يسمع بمثلها ثم أطلع للناس من الغد سماط مائدة عليها أربعون ألفا من السكر وخلع على أعيان العسكر وعلى جميع الحواشي. (استيلاء السلطان ملك شاه على ما وراء النهر) كان صاحب سمرقند لهذا العهد من الخانية أحمد خان بن خضر خان أخى شمس الملك الّذي كان أميرا عليها وعمته خاتون زوجة ملك شاه وكان رديء السيرة فبعثوا الى السلطان يسألونه الرجوع الى ايالته وجاء بذلك مفتي سمرقند أبو طاهر الشافعيّ قدم حاجا وأسر ذلك الى السلطان فسار من أصبهان سنة اثنتين وثمانين ومعه رسول الروم بالخراج المقدر عليهم فاستعجم وأحضر للفتح ولما انتهى الى خراسان جمع العساكر وعبر النهر بجيوش لا تحصى وأخذ ما في طريقه من البلاد ثم انتهى الى بخارى فملكها وما جاورها ثم سار الى سمرقند فحاصرها وأخذ بهجتها ثم رماها بالمنجنيق وثلم سورها ودخل من الثلمة وملك البلد واختفى أحمد خان ثم جيء به أسيرا فأطلقه وبعث به الى أصبهان وولى على سمرقند أبا طاهر عميد خوارزم وسار الى كاشغر فبلغ الى نور وكمن وبعث الى كاشغر بالخطبة وضرب السكة فأطاع وحضر عند السلطان فأكرمه وخلع عليه وأعاده الى بلده ورجع السلطان الى خراسان وكان بسمرقند عساكر يعرفون بالحكليّة فأرادوا الوثوب بالعميد نائب السلطان فلاطفهم ولحق ببلده خوارزم. (عصيان سمرقند وفتحها ثانيا) كان مقدّم الحكلية بسمرقند اسمه عين الدولة وخاف السلطان لهذه الحادثة فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر وكانت مملكته تعرف بارياسي فاستحضره وملكه ثم شكر له يعقوب وحمل أعداءه من الرعية على طلب الثأر منه وقتله بفتاوى الفقهاء واستبدّ بسمرقند وسار السلطان ملك شاه اليها سنة اثنتين وثمانين لما انتهى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 الى بخارى هرب يعقوب الى فرغانة ولحق بولايته وجاء بعسكره مستأمنين الى السلطان فلقوه بالطواويس من قرى بخارى ووصل السلطان الى سمرقند وولى عليها الأمير انز [1] وأرسل العساكر في طلب يعقوب وأرسل الى ملك كاشغر بالجدّ في طلبه وشعب على يعقوب عساكره ونهبوا خزائنه ودخل على أخيه كاشغر مستجيرا به وبعث السلطان في طلبه منه فتردّد بين المخافة والأنفة ثم غلب عليه الخوف فقبض على أخيه يعقوب وبعثه مع ابنه وأصحابه الى السلطان وأمرهم أن يسملوه في طريقه فان قنع السلطان بذلك والا أسلموه اليه فلما قربوا على السلطان وعزموا على تسليمه بلغهم الخبر بأن طغرل بن نيال أسرى من ثمانين فرسخا بعساكر لا تحصى فكبس ملك كاشغر وأسره فأطلقوا يعقوب ثم خشي السلطان شأن طغرل بن نيال وكثرة عساكره فرجع على البلد ودس تاج الملك في استصلاح يعقوب فشفع له وردّ الى كاشغر وردّ الطغرل ورجع هو الى خراسان ثم قدم الى بغداد سنة أربع وثمانين العزمة الثانية ووجد عليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب الشام وقسيم الدولة آق سنقر صاحب حلب وبوران صاحب الرها وعمال الأطراف وأقام صنيع الميلاد ببغداد وتأنق بما لم يعهد مثله وأمر وزيره نظام الملك وأمراءه ببناء الدور ببغداد لنزلهم ورجع الى أصبهان. (استيلاء تتش على حمص وغيرها من سواحل الشام) لما قدم السلطان سنة أربع وثمانين وفد عليه أمراء الشام كما قدّمنا فلما انصرفوا من عنده أمر أخاه تاج الدولة تتش أن يذهب دولة العلويين من ساحل الشام ويفتح بلادهم وأمر آق سنقر وبوران أن يسيرا لانجاده فلما رجعوا الى دمشق سار الى حمص وبها صاحبها ابن ملاعب وقد عظم ضرره وضرر ولده على الناس فحاصرها وملكها ثم سار الى قلعة عرفة فملكها عنوة ثم الى قلعة افامية فاستأمن اليه خادم كان بها فأرسل الى أمراء تتش في إصلاح حاله فسدّوا عليه المذاهب فأرسل الى وزير آقسنقر يسعى له عند صاحبه وعمل له على ثلاثين ألف دينار ومثلها عروضا فجنح الى مصالحته واختلف مع تتش على ذلك وأغلظ كل منهما لصاحبه في القول فرحل آق سنقر مغاضبا واضطرّ الباقون الى الرحيل وانتقض أمرهم.   [1] انز: ورد اسمه آنر في كتاب العلاقات الاجتماعية (للدكتور زكي النقاش) ص 40. وفي الكامل ج 10 ص 214 أنر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 (ملك اليمن) كان فيمن حضر عند السلطان ببغداد كما قدّمناه عثمان حق أمير التركمان صاحب قرمسيس وغيرها فأمره السلطان أن يسير في جموع التركمان للحجاز واليمن فيظهر أمرهم هناك وفوّض الى سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد فولى عليهم أمير اسمه ترشك وسار الى الحجاز فاستولى عليه وأساء السيرة فيه حتى جاء أمير الحجاز محمد بن هاشم مستغيثا منهم ثم ساروا سنة خمس وثمانين الى اليمن وعاثوا في نواحيه وملكوا عدن وأساءوا السيرة في أهلها وأهلكوا ترشك سابع دخولها وأعاده أصحابه الى بغداد فدفنوه بها. (مقتل الوزير نظام الملك) ثم ارتحل السلطان ملك شاه الى بغداد سنة خمس وثمانين فانتهى الى أصبهان في رمضان وخرج نظام الملك من بيته بعد الإفطار عائدا الى خيمته فاعترضه بعض الباطنيّة في صورة متظلّم فلما استدناه لسماع شكواه طعنه بخنجر فأشواه وعثر الباطني في أطناب الخيام ودخل نظام الملك الخيمة فمات لثلاثين سنة من وزارته واهتاج عسكره فركب اليه السلطان وسكن الناس ويقال أن السلطان ملك شاه وضع الباطني على قتله لما وقع منه ومن بنيه من الدالة والتحكم في الدولة وقد كان السلطان دس على ابنه جمال الدين من قتله سنة خمس وسبعين كان بعض حواشي السلطان سعى به فسطا به جمال الدين وقتله فأحقد السلطان بذلك وأخذ عميد خراسان فقتله خنقا فدس لخادم من خدم جمال الدين بذلك وأنهم إذا تولوا قتله بأنفسهم كان أحفظ لنعمتهم فسقاه الخادم سما ومات وجاء السلطان الى نظام الملك وأغراه به وما زال بطانة السلطان يغضون منه ويحاولون السعاية فيه الى أن ولى حافده عثمان بن جمال الملك على مرو وبعث السلطان اليها كردن من أكابر المماليك والأمراء شحنة ووقعت بينه وبين عثمان منازعة في بعض الأيام فأهانه وحبسه ثم أطلقه وجاء الى السلطان شاكيا فاستشاط غضبا وبعث فخر الملك البارسلان الى نظام الملك وأغراه به وما زال يقول إن كنت تابعا فقف عند حدّك وان كنت شريكي في سلطاني فافعل ما بدا لك وقرّر عليه فعل حافده وسائر بنيه في ولايتهم وأرسل معه نكبرذ من خواصه ثقة على ما يؤدّيه من القول ويجيبه الآخر فانبسط لسان نظام الملك يعدّد الوسائل منه والمدافعة عن السلطان وجمع الكلمة وفتح الأمصار في كلام طويل حملته عليه الدالة وقال في آخره ان شاء فله مؤيد مرو آتي ومتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 أطعت هذه زالت تلك فليأخذ حذره ثم زاد في انبساطه وقال قولوا عني ما أردتم فان توبيخكم نتأ في عضدي ومضى نكبرذ فصدّق السلطان الخبر وجاء الآخرون وحاولوا الكتمان فلم يسعهم لما وشي نكبرذ بجلية القول فصدّقوه كما صدّقه ومات نظام الملك بعدها بقليل ومات السلطان بعده بنحو شهر وكان أصل نظام الملك من طوس من أبناء الدهاقين اسمه أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق ذهبت نعمة آبائه وماتوا فنشأ يتيما ثم تعلم وحذق في العلوم والصنائع وعلق بالخدم السلطانية في بلاد خراسان وغزنة وبلخ ثم لازم خدمة أبي علي بن شاذان وزير البارسلان ومات ابن شاذان فأوصى به السلطان البارسلان وعرّفه كفايته فاستخدمه فقام بالأمور أحسن قيام فاستوزره ثم هلك السلطان البارسلان وهو في وزارته ثم استوزره ملك شاه بعد أبيه وكان عالما جوادا صفوحا مكرما للعلماء وأهل الدين ملازما لهم في مجلسه شيّد المدارس وأجرى فيها الجرايات الكثيرة وكان يملي الحديث وكان ملازما للصلوات محافظا على أوقاتها وأسقط في أيامه كثيرا من المكوس والضرائب وأزال لعن الأشعريّة من المنابر بعد أن فعله الكندوي من قبله وحمل عليه السلطان طغرلبك وأجراهم مجرى الرافضة وفارق امام الحرمين وأبو القاسم القشيري البلاد من أجل ذلك فلما ولى آلب أرسلان حمله نظام الملك على ازالة ذلك ورجع العلماء الى أوطانهم ومناقبه كثيرة وحسبك من عكوف العلماء على مجلسه وتدوينهم الدواوين باسمه فعل ذلك أمام الحرمين وأشباهه وأمّا مدارسه فقد بنى النظاميّة ببغداد وناهيك بها ورتب الشيخ أبا إسحاق الشيرازي للتدريس بها وتوفي سنة ست وسبعين فرتب ابنه مؤيد الملك مكانه أبا سعيد المتولي فلم يرضه نظام الملك وولى فيها الإمام أبا نصر الصباغ صاحب الشامل ومات أبو نصر في شعبان من تلك السنة فولى أبو سعيد من سنة ثمان وسبعين ومات فدرس بعده الشريف العلويّ أبو القاسم الدبوسي وتوفي سنة اثنتين وثمانين وولى تدريسه بعدها أبو عبد الله الطبري والقاضي عبد الوهاب الشيرازي بالنوبة يوما بيوم ثم ولى تدريسها الإمام أبو حامد الغزالي سنة أربع وثمانين واتصل حكمها على ذلك وفي أيامه عكف الناس على العلم واعتنوا به لما كان من حسن أثره في ذلك والله أعلم. وفاة السلطان ملك شاه وولاية ابنه محمود ثم لما سار السلطان بعد مقتل نظام الملك الى بغداد ودخلها آخر رمضان وكان معه في الدولة أبو الفضل الهروستماني وزير زوجته الخاتون الجلالية من الملوك الخانية فيما وراء النهر وكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 أشدّ الناس سعاية في نظام الملك وعزم السلطان أن يستوزره لأوّل دخوله بغداد فعاقت المنيّة عن ذلك وطرقه المرض ثالث الفطر وهلك منتصف شوّال سنة خمس وثمانين وكانت زوجته تركمان خاتون الجلالية عنده في بغداد وابنها محمود غائبا في أصبهان فكتمت موته وسارت بشلوه الى أصبهان وتاج الملك في خدمتها وقدّمت بين يديها قوام الدين كربوقا الّذي ولى الموصل من بعد وأرسلته بخاتم السلطان الى مستحفظ القلعة فملكها وجاءت على أثره وقد أفاضت الأموال في الأمراء والعساكر ودعتهم الى بيعة ولدها محمود وهو ابن أربع سنين فأجابوا الى ذلك وبايعوه وأرسلت الى المقتدر في الخطبة له فأجابها على أن يكون الأمير أنز قائما بتدبير الملك ومجد الملك مشيرا وله النظر في الأعمال والجباية فنكرت ذلك أمّه خاتون وكان السفير أبا حامد الغزالي فقال لها أنّ الشرع لا يجيز ولاية ابنك فقبلت الشرط وخطب له آخر شوّال سنة خمس وثلاثين وأرسلت تركمان خاتون الى أصبهان في القبض على بركيارق فحبس بأصبهان وكان السلطان ملك شاه من أعظم ملوك السلجوقية ملك من الصين الى الشام ومن أقصى الشام الى اليمن وحمل اليه ملوك الروم الجزية ومناقبه عظيمة مشهورة. منازعة بركيارق لأخيه محمود وانتظام سلطانه كان بركيارق أكبر أولاد السلطان ملك شاه وكانت أمّه زبيدة بنت ياقوتي بن داود وياقوتي عمّ ملك شاه ولما حبس بركيارق وخافت عليه أمّه زبيدة دست لمماليك نظام الملك فتعصبوا له وكانت خاتون غائبة ببغداد مع ابنها محمود لفقد سلطانه فوثب المماليك النظامية على سلاح لنظام الملك بأصبهان وأخرجوا بركيارق من محبسه وخطبوا له وبلغ الخبر الى خاتون فسارت من بغداد وطلب العسكر تاج الملك في عطائهم فهرب الى قلعة بوجين لينزل منها الأموال وامتنع فيها ونهب العسكر خزائنه وساروا الى أصبهان وقد سار بركيارق والنظامية الى الري فأطاعه أرغش النظامي في عساكره وفتحوا قلعة طغر عنوة وبعثت خاتون العساكر لقتال بركيارق فنزع اليه سبكرد وكمستكن الجاندار وغيرهما من أمراء عساكره ولقيهم بركيارق فهزمهم وسار في أثرهم الى أصفهان فحاصرهم بها وكان عز الملك بن نظام الملك بأصبهان وكان واليا على خوارزم فحضر عند السلطان قبل مقتل أبيه وبقي هناك بعد وفاة السلطان فخرج الى بركيارق ومعه جماعة من إخوانه فاستوزره بركيارق وفوّض اليه الأمور كما كان أبوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 (مقتل تاج الملك) وهو أبو الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز كان وزيرا لخاتون وابنها ولما هرب الى قلعة بوجين خوفا من العسكر كما قدمنا وملكت خاتون أصبهان عاد اليها واعتذر بأن صاحب القلعة حبسه فقبلت عذره وبعثته مع العساكر لقتال بركيارق فلما انهزموا حل أسيرا عنده وكان يعرف كفاءته فأراد أن يستوزره وكان النظامية ينافرونه ويتهمونه بقتل نظام الملك وبذل فيهم أموالا فلم يغنه ووشوا به فقتلوه في المحرّم سنة ست وثمانين وكان كثير الفضائل جمّ المناقب وانما غطى على محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك وهو الّذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي والمدرسة بإزائها ورتب بها أبا بكر الشاشي مدرّسا. (مهلك محمود) ثم هلك السلطان محمود وهو محاصر بأصبهان لسنة من ولايته واستقل بركيارق بالملك. (منازعة تتش بن آلب أرسلان وأخباره الى حين انهزامه كان تاج الدولة تتش أخو السلطان ملك شاه صاحب الشام وسار الى لقاء أخيه ملك شاه ببغداد قبيل موته فلقيه خبر موته بهيت فاستولى عليها وعاد الى دمشق فجمع العساكر وبذل الأموال وأخذ في طلب الملك فبدأ بحلب ورأى صاحبها قسيم الدولة آق سنقر اختلاف ولد ملك شاه وحقرهم فأطاع تاج الدولة تتش وتبعه في طاعته وبعث الى باغي يسار صاحب انطاكية وإلى مران صاحب الرها وحرّان يشير عليهما بمثل ذلك فأجابا وخطبوا لتاج الدولة تتش في بلادهم وساروا معه الى الرحبة فملكها ثم الى نصيبين فملكها واستباحها وسلمها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وساروا الى الموصل وقدم عليه الكافي بن فخر الدولة ابن جهير من جزيرة ابن عمر فاستوزره وكانت الموصل قد ملكها علي بن شرف الدولة مسلم بن قريش وأمّه صفيّة عمة ملك شاه وأطلقت تركمان خاتون عمه إبراهيم فجاء وملك الموصل من يده كما تقدم في أخبار بني المقلّد فبعث اليه تتش في الخطبة وأن يهيئ له الطريق الى بغداد فامتنع وزحف لحربه فانهزم العرب وسيق إبراهيم أسيرا الى تتش في جماعة من أمراء العرب فقتلوا صبرا ونهبت أموالهم واستولى تتش على الموصل وغيرها واستناب عليها علي بن مسلم وهو ابن صفيّة عمة أبيه وبعث الى بغداد في الخطبة ووافقه كوهراس [1] الشحنة وحزر الجواب بانتظار الرسل من العسكر فسار تتش الى ديار بكر   [1] وفي بعض النسخ كوهرائن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 فملكها ثم سار الى آذربيجان وزحف بركيارق يعتذر من سعيه مع تتش فعزله بركيارق بسعاية كمستكن الجاندار بقسيم الدولة وأقام عوضه شحنة ببغداد الأمير مكرد وأعطاه أقطاعه وسار الى بغداد ثم ردّه من دقوقا لكلام بلغه عنه وقتله وولى على شحنة بغداد فتكين حب. مقتل إسماعيل بن ياقوتي كان إسماعيل بن ياقوتي بن داود بن عمّ ملك شاه وخال بركيارق أميرا على أذربيجان فبعثت تركمان خاتون اليه فأطمعته في الملك وأنها تتزوج به فجمع جموعا من التركمان وغيرهم وسار لحرب بركيارق فلقيه عند كرخ ونزع عنه مكرد الى بركيارق فانهزم إسماعيل الى أصبهان فخطبت له خاتون وضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود وأرادت العقد معه فمنعها الأمير أنز مدبر الدولة وصاحب العسكر وخوفهم وفارقهم ثم أرسل أخته زبيدة أمّ بركيارق فأصلحت حاله مع ابنها وقدم عليه فأكرمه واجتمع به رجال الدولة كمستكن الجاندار وآق سنقر وبوران وكشفوا سرّه في طلب الملك ثم قتلوه وأعلموا بركيارق فأهدر دمه. (مهلك توران شاه بن قاروت بك) كان توران شاه بن قاروت بك صاحب فارس وأرسلت خاتون الجلالية الأمير أنز لفتح فارس سنة سبع وثمانين فهزمه أولا ثم أساء السيرة مع الجند فلحقوا بتوران شاه وزحف الى أنز فهزمه واستردّ البلد من يده وأصاب توران شاه في المعركة بسهم هلك معه بعد شهرين. (وفاة المقتدي وخلافة المستظهر وخطبته لبركيارق) ثم توفي المقتدي منتصف محرّم سنة سبع وثمانين وكان بركيارق قد قدم بغداد بعد هزيمة عمه تتش فخطب له وحملت اليه الخلع فلبسها وعرض التقليد على المقتدي فقرأه وتدبره وعلم فيه وتوفي فجأة وبويع لابنه المستظهر بالخلافة فأرسل الخلع والتقليد الى بركيارق وأخذت عليه البيعة للمستظهر. استيلاء تتش على البلاد بعد مقتل آق سنقر ثم هزيمة بركيارق لما عاد تتش منهزما من أذربيجان جمع العساكر واحتشد الأمم وسار من دمشق الى حلب سنة سبع وثمانين واجتمع قسيم الدولة آق سنقر وبوران [1] وجاء كربوقا مددا من عند   [1] كذا واسمه في الكامل ج 10 ص 148 بوزان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 بركيارق وساروا لحرب تتش ولقوة على ستة فراسخ من حلب فهزمهم وأخذ آق سنقر أسيرا فقتله ولحق كربوقا وبوران بحلب واتبعهما تتش فحاصرهما وملك حلب وأخذهما أسيرين وبعث الى حرّان والرها في الطاعة فامتنعوا فبعث اليهم برأس بوران وملك البلدين وبعث بكربوقا الى حمص فحبسه بها وسار الى الجزيرة فملكها ثم الى ديار بكر وخلاط فملكها ثم الى أذربيجان ثم سار الى همدان ووجد بها فخر الدولة ابن نظام الملك جاء من خراسان الى بركيارق فلقيه الأمير قماج من عسكر محمود بأصبهان فنهب ماله ونجا الى همذان فصادف بها تتش فأراد قتله وشفع فيه باغي يسار وأشار بوزارته لميل الناس الى بيته واستوزره وكان بركيارق قد سار الى أقسيس فحالفه تتش الى أذربيجان وهمذان فسار بركيارق من نصيبين وعبر دجلة من فوق الموصل الى أربل فلما تقارب العسكران أشرف الأمير يعقوب بن أنق [1] من عسكر تتش فكبس بركيارق وهزمه ونهب سواده ولم يبق معه الا برسق وكمستكن الجاندار والبارق من أكابر الأمراء فلجئوا الى أصبهان وكانت خاتون أم محمود قد ماتت فمنعه محمود وأصحابه من الدخول ثم خرج اليه محمود وأدخله الى أصبهان واحتاطوا عليه وأرادوا أن يسلموه فرفض محمود فأبقوه. مقتل تتش واستقلال بركيارق بالسلطان ثم مات محمود منسلخ شوّال سنة سبع وثمانين واستولى بركيارق على أصبهان وجاء مؤيد الملك الأمراء واستمالهم فرجعوا الى بركيارق وكشف جمعه وبعث تاج الملك تتش بعد هزيمة بركيارق يوسف بن أنق التركماني شحنة الى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخول بغداد وزحف اليه صدقة بن مزيد صاحب الحلّة فقاتله في يعقوب وانهزم صدقة الى الحلّة ودخل يوسف بن أنق بغداد وأقام بها وكان تتش لما هرم بركيارق سار الى همذان وقد تحصن بها بعض الأمراء فاستأمن اليه واستولى على همذان وسار في نواحي أصبهان وإلى مرو وراسل الأمراء بأصبهان يستميلهم بالمقاربة والوعد وبركيارق مريض فلما أفاق من مرضه خرج الى جرباذقان واجتمع اليه من العسكر ثلاثون ألفا ولقيه تتش فهزمه بركيارق وقتله بعض أصحاب آق سنقر بثأر صاحبه وكان فخر الملك بن نظام الملك أسيرا عنده فانطلق عند هزيمته واستقامت أمور بركيارق وبلغ الخبر الى يوسف يوسف بن أبق التركماني الكامل 10/ 244) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 استيلاء كربوقاالموصل قد كناأنّ تاج الدولة تتش أسر قوام الدولة أباكربوقا وحبسه بعد ما قتل آق سنقر بوران فأقام محبوسا بحلب الى أن قتل تتش واستولى رضوان ابنه على حلب فأمره السلطان بركيارق بإطلاقه لأنه كان من جهة الأمير أنز [1] فأطلقه رضوان وأطلق أخاه التوسطاش [2] فاجتمعت عليهما العساكر وكان بالموصل علي بن شرف الدولة مسلم منذ ولاه عليها تتش بعد وقعة المضيع وكان بنصيبين أخوه محمد بن مسلم ومعه مروان بن وهب [3] وأبو الهيجاء الكردي وهو يريد الزحف الى الموصل فكاتب كربوقا واستدعاه للنصرة ولقيه على مرحلتين من نصيبين فقبض عليه كربوقا وسار الى نصيبين وحاصرها أربعين يوما وملكها ثم سار الى الموصل فامتنعت عليه فتحوّل عنها الى بلد [4] وقتل بها محمد بن شرف الدولة تغريقا وعاد الى حصار الموصل ونزل منها على فرسخ واستنجد علي بن مسلم بالأمير مكرس [5] صاحب جزيرة ابن عمر فجاء لانجاده واعترضه التوسطاش فهزمه ثم سار الى طاعة كربوقا وأعانه على حصار الموصل ولما اشتدّ بصاحبه علي بن مسلم الحصار بعد تسعة أشهر هرب عنها ولحق بصدقة بن مزيد ودخل كربوقا الى الموصل وعاث التوسطاش في أهل البلد ومصادرتهم واستطال على كربوقا فأمر بقتله ثالثة دخوله سنة تسع وثمانين وسار كربوقا الى الرحبة فملكها وعاد فأحسن السيرة في أهل الموصل ورضوا عنه واستقامت أموره. استيلاء أرسلان أرغون اخي السلطان ملك شاه على خراسان ومقتله كان أرسلان أرغون مقيما عند أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فلما مات وبويع ابنه محمود سار الى خراسان في سبعة من مواليه واجتمعت عليه جماعة وقصد نيسابور فامتنعت عليه فعاد الى مرو وكان بها شحنة الأمير قودر [6] من موالي السلطان ملك شاه وكان أحد الساعين في قتل   [1] كذا في الأصل: وكذا في الكامل لابن الأثير، واسمه في الكتب الحديثة آنز (كتاب العلاقات الاجتماعية للدكتور زكي النقاش) طبع دار الكتاب اللبناني- بيروت ص 42. [2] اسمه في الكامل ج 10 ص 259: التونتاش. [3] اسمه في الكامل ثروان بن وهيب. [4] اسم بلدة في العراق. [5] كذا وهو جكرمش. [6] ورد اسمه في الكامل قودن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 نظام الملك فمال الى طاعة أرغون وملكه البلد وسار الى بلخ وكان بها فخر الملك بن نظام الملك ففرّ عنها ووصل الى همدان ووزر لتاج الدولة تتش كما مرّ وملك ارسلان أرغون بلخ وترمذ ونيسابور وسائر خراسان وأرسل الى السلطان بركيارق وزيره مؤيد الملك في تقرير خراسان عليه بالضمان كما كانت لجدّه داود ما عدا نيسابور فأعرض عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش ثم عزل بركيارق مؤيد الملك عن الوزارة بأخيه فخر الملك واستولى فخر الملك البارسلان على الأمور فقطع ارسلان مراسلة بركيارق فبعث حينئذ عمه بورسوس [1] في العساكر لقتاله فانهزم ارسلان الى بلخ وأقام بورسوس بهراة وسار أرسلان الى مرو وفتحها عنوة وخرّبها واستباحها وسار اليه بورسوس من هراة سنة ثمان وثمانين وكان معه مسعود بن تأخر [2] الّذي كان أبوه مقدّم عساكر داود ومعه ملك شاه من أعاظم الأمراء فبعث اليه ارسلان واستماله فمال اليه ووثب لمسعود بن تأخر وابنه فقتلهما في خيمته فضعف أمر بورسوس وانفض الناس عنه وجيء به أسيرا الى أخيه أرسلان أرغون فحبسه بترمذ ثم قتله في محبسه بعد سنة وقتل أكابر خراسان وخرب أسوارها مثل سودان ومرو الشاهجان وقلعة سرخس ونهاوند ونيسابور وصادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك على ثلاثمائة ألف دينار ثم قتله واستبدّ بخراسان وكان مرهف الحدّ كثير العقوبة لمواليه وأنكر على بعضهم يوما بعض فعلاته وهو في خلوة وضربه فطعنه الغلام بخنجر معه فقتله وذلك في المحرّم من سنة تسعين. ولاية سنجر على خراسان ولما قتل ارسلان أرغون ملّك أصحابه من بعده صبيا صغيرا من ولده وكان السلطان بركيارق قد جهز العساكر لخراسان للقتال ومعه الأتابك قماج ووزيره علي بن الحسن الطغرائي وانتهى اليه مقتل أرسلان بالدامغان فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق وساروا الى نيسابور فملكها في جمادى سنة تسعين وأربعمائة وملك سائر خراسان وسار الى بلخ وكان أصحاب أرسلان قد هربوا بابنه الّذي نصبوه للملك الى جبل طخارستان وبعثوا يستأمنون له ولهم فأمنهم السلطان وجاءوا بالصبي في آلاف من العساكر فأكرمه السلطان وأقطعه ما   [1] ورد اسمه في الكامل ج 10 ص 75 بوري برش. [2] ورد اسمه في الكامل ج 10 ص 263 مسعود بن تاجر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 كان لأبيه أيام ملك شاه وانفض عنه العسكر الذين كانوا معه وافترقوا على أمراء السلطان وأفردوه فضمته أم السلطان اليها وأقامت من يتولى رتبته وسار السلطان الى ترمذ فملكها وخطب له بسمرقند ودانت له البلاد وأقام على بلخ سبعة أشهر ثم رجع وترك أخاه سنجر نائبا بخراسان. ظهور المخالفين بخراسان لما كان السلطان بخراسان خالف عليه محمود بن سليمان من قرابته ويعرف بأمير أميران وسار إلى بلخ واستمدّ صاحب غزنة من بني سبكتكين فأمدّه بالعساكر والخيول على أن يخطب له فيما يفتحه من خراسان فقويت شوكته فسار اليه الملك سنجر وكبسه فانهزم وجيء به أسيرا فسلمه ولما انصرف السلطان عن خراسان سار نائب خوارزم واسمه أكنجي في اتباعه وسبق الى مرو فتشاغل بلذاته وكان بها الأمير تورد قد تشاغل عن السلطان واعتذر بالمرض فداخل بارقطاش من الأمراء في قتل أكنجي صاحب خوارزم فكبسه في طائفة من أصحابه وقتلوه وساروا الى خوارزم فملكوها مظهرين أنّ السلطان ولاهما عليها وبلغ الخبر الى السلطان وكان قد بلغه في طريقه خروج الأمير أنز بفارس عن طاعته فمضى الى العراق وأعاد داود الحبشي ابن التونطاق في العساكر لقتالهما فسار الى العراق من هراة وأقام في انتظار العسكر فعاجلاه فهرب أمامهما وهرب جيحون وتقدّم بارقطاش قبل تودن وقاتله فهزمه داود وأسره وبلغ الخبر الى تودن فثار به عسكره ونهبوا أثقاله ولحق بسنجار فقبض عليه صاحبها ثم أطلقه فلحق بالملك سنجر ببلخ فقتله وأفرغ هو طاعته في نظمه وجمع العساكر على طاعته ثم مات قريبا وبقي بارقطاش أسيرا عند داود الى أن قتل. بداية دولة بني خوارزم شاه كان أبو شكين مملوكا لبعض أمراء السلجوقية واشتراه من بعض أهل غرشفان فدعى أبا شكين غرشه [1] ونشأ على حال مرضية وكان مقدما وولد له ابنه محمد فأحسن تأديبه وتقدّم هو بنفسه ولما سار الأمير داود الحبشي الى خراسان كما مرّ سار محمد في جملته فلما مهد   [1] ورد اسمه في الكامل ج 10 ص 267: نوشتكين غرشجه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 خراسان وأزال الخوارج نظر فيمن يوليه خوارزم وكان نائبها أكنجي قد قتله كما مرّ فوقع اختياره على محمد بن أبي شكين فولاه ولقبه خوارزم شاه فحسنت سيرته وارتفع محله وأقرّه السلطان سنجر وزاده عناية بقدر كفايته واضطلاعه وغاب في بعض الأيام عن خوارزم فقصدها بعض ملوك الأتراك وكان طغرلتكين محمد الّذي كان أبوه أكنجي نائبا بخوارزم وبادر محمد بن أبي شكين الى خوارزم بعد أن استمدّ السلطان سنجر وسار بالعساكر مددا له وتقدم محمد بن أبي شكين فتأخر الأتراك الى منقشلاع ورحل طغرلتكين الى جرجان وازداد محمد بذلك عناية عند سنجر ولما توفي ولى ابنه بعده أقسر وأحسن السيرة وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاع ولما توفي اختصه السلطان سنجر وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه واتصل الملك في بني محمد أبي شكين خوارزم شاه وكانت لهم الدولة وتمت دولة بني ملك شاه وعليها كان ظهور الططر [1] بعد المائة السادسة ومنهم أخذوا الملك كما سيأتي في أخبارهم. استيلاء الافرنج على انطاكية وغيرها من سواحل الشام كان الافرنج قد ظهر أمرهم في هذه السنين وتغلبوا على صقلّيّة واعتزموا على قصد الشام وملك بيت المقدس وأرادوا المسير اليها في البرّ فراسلوا ملك الروم بالقسطنطينية أن يسهل لهم الطريق الى الشام فأجابهم على أن يعطوه انطاكية فعبروا خليج القسطنطينية سنة تسعين وأربعمائة وسار ارسلان بن سليمان بن قطلمش صاحب مرقيه وبلاد الروم لمدافعتهم فهزموه ثم مرّوا ببلاد ابن لبون الارمني ووصلوا الى انطاكية فحاصروها تسعة أشهر وصاحبها يومئذ باغي سيان فأحسن الدفاع عنها ثم تبوّءوا البلد بمداخلة بعض الحامية أصعدهم السور بعد أن رغبوه بالأموال والاقطاع وجاءوا الى السور فدلهم على بعض المخادع ودخلوا منه ونفخوا البوق فخرج باغي سيان هاربا حتى إذا كان على أربعة فراسخ راجع نفسه وندم فسقط مغشيا عليه ومرّ به أرمني فحمل رأسه الى انطاكية وذلك سنة احدى وتسعين وأربعمائة واجتمعت عساكر المسلمين وزحفوا الى انطاكية من كل ناحية ليرتجعوها من الافرنج وجاء قوام الدين كربوقا الى الشام واجتمعت عليه العساكر بمرج دابق فكان معه دقاق بن تتش وطغرلتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وارسلان تاش صاحب سنجار وسقمان بن أرتق   [1] وهي التتر أو التتار، كما في كتب التاريخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وغيرهم وساروا الى انطاكية فنازلوها واستوحش الأمراء من كربوقا وأنفوا من ترفعه عليهم وضاق الحصار بالافرنج لعدم الأقوات لأنّ المسلمين عاجلوهم عن الاستعداد فاستأمنوا كربوقا فمنعهم الأمان وكان معهم من الملوك بردويل وصخبل وكمدمري والقمط صاحب الرها وسمند [1] صاحب انطاكية وهو مقدم العساكر فخرجوا مستأمنين وضربوا مصافّ وتخاذل الناس لما كان في قلوبهم من الاضغان لكربوقا فتمت الهزيمة عليهم وآخر من انهزم سقمان بن أرتق واستشهد منهم العرب وغنم العدوّ سوادهم بما فيه وساروا الى معرة النعمان فملكوها وأفحشوا في استباحتها ثم ساروا الى غزة فحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم وصالحهم ابن منقذ على بلده شيراز وحاصروا حمص فصالحهم صاحبها جناح الدولة ثم ساروا الى عكا فامتنعت عليهم وكان هذا بداية الافرنج بسواحل الشام ويقال انّ المصريين استنابوا رجلا يعرف بافتخار الدولة من خلفاء العميد بن نصر لما خشوا من السلجوقية عند استيلائهم على الشام الى غزة وزحف الاقسيس من أمرائهم الى مصر وحاصرها فراسلوا الى الافرنج واستدعوهم لملك الشام لينشلوهم عن أنفسهم ويحولوا بينهم وبين مصر والله سبحانه وتعالى أعلم. انتقاض الأمير انز وقتله لما سار السلطان بركيارق الى خراسان ولى على بلاد فارس الأمير انز وكانت قد تغلبت الشوانكار واستظهروا بإيران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان فلما سار اليهم انز قاتلوه فهزموه ورجع الى أصبهان فاستأذن السلطان فأمره بالمقام هناك وولاه امارة العراق وكانت العساكر في جواره بطاعته وجاءه مؤيد الملك بن نظام الملك من بغداد على الحلة فأغراه بالخلاف وخوّفه غائلة بركيارق وأشار عليه بمكاتبة محمد بن ملك شاه وهو في كنجه وشاع عنه ذلك فازداد خوفه وجمع العساكر وسار من أصبهان الى الريّ وجاهر السلطان بالخلاف وطلب منه أن يسلم اليه فخر الملك البارسلان وبينما هو في ذلك إذ هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم من جنده فطعنوه فقتلوه واهتاج عسكره فنهبوا خزائنه وحمل شلوه الى أصبهان فدفن بها وأشهر خبر قتله الى السلطان في أحواز الريّ وهو سائر لقتاله فسرّ بذلك هو وفخر الملك البارسلان وذلك في سنة ثنتين وتسعين وكان محمود المذاهب كبير المناقب ولما   [1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 276 وكان معهم من الملوك بردويل. صنجيل وكندفري والقمّص صاحب الرها وبيمنت صاحب انطاكية وهو القدم عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 قتل هرب اصهنر صبار [1] الى دمشق فأقام بها مدّة ثم قدم على السلطان محمد سنة احدى وخمسمائة فأكرمه وأقطعه رحبة مالك بن طوق. استيلاء الافرنج على بيت المقدس كان بيت المقدس لتاج الدولة تتش وأقطعه الأمير سقمان بن أرتق التركماني وكان تتش ملكه من يد العلويين أهل مصر فلما وهن الأتراك بواقعة انطاكية طمع المصريون في ارتجاعه وسار صاحب دولتهم الأفضل بن بدر الجمالي وحاصر الأمير سقمان وأخاه ايلغاري وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج ونصب المجانيق فثلموا سوره ثم ملكوه بالأمان لأربعين يوما من حصاره في شعبان سنة تسع وثمانين وأحسن الأفضل الى سقمان وايلغاري ومن معهما وأطلقهم فأقام سقمان ببلد الرها وسار ايلغاري الى العراق وولى الأفضل على بيت المقدس افتخار الدولة من أمرائهم ورجع الى مصر فلما رجع الافرنج من عكا جاءوا الى بيت المقدس فحاصروه أربعين يوما واقتحموه من جهة الشمال آخر شعبان من سنة اثنتين وتسعين وعاثوا في أهله واعتصم فلهم بمحراب داود عليه السلام ثلاثا حتى استأمنوا وخرجوا ليلا الى عسقلان وقتل بالمسجد سبعون ألفا أو يزيدون من المجاورين فيهم العلماء والزهاد والعباد وأخذوا نيفا وأربعين قنديلا من الفضة زنة كل واحد ثلاثة آلاف وستمائة درهم ومائة وخمسين قنديلا من الصغار وتنورا من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي وغير ذلك مما لا يحصى ووصل الصريخ الى بغداد مستغيثين فأمر المقتدي أن يسير الى السلطان بركيارق أبو محمد الدامغانيّ وأبو بكر الشاشي وأبو القاسم الزنجاني وأبو الوفاء بن عقيد وأبو سعد الحلواني وأبو الحسين بن السماك فساروا الى بركيارق يستصرخونه للمسلمين فانتهوا الى حلوان وبلغهم مقتل مجد الملك الباسلاني [2] وفتنة بركيارق مع أخيه محمد فرجعوا وتمكن الافرنج من البلاد ونحن عازمون على افراد أخبارهم بالشام وما كان لهم فيه من الدولة على حكم أخبار الدول في كتابنا. ظهور السلطان محمد بن ملك شاه والخطبة له ببغداد وحروبه مع أخيه بركيارق كان محمد وسنجر شقيقين وكان بركيارق استعمل سنجر على خراسان ثم لحق به محمد   [1] وهو الاصيهبذ صباوو (الكامل في التاريخ ج 10 ص 239) [2] مجد الملك البلاساني (الكامل في التاريخ 9/ 591. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 بأصبهان وهو يحاصرها سنة ثمان وثمانين فأقطعه كنجة وأعمالها وأنزل معه الأمير قطلغ تكين أتابك وكانت كنجة من أعمال ارّان وكانت لقطون فانتزعها ملك شاه وأقطعه أستراباذ وولى على ارّان سرهنك ساوتكين الخادم ثم ضمن قطون بلاده وأعيد اليها فلما قوي رجع الى العصيان فسرّح اليه ملك شاه الأمير بوزان فغلبه على البلاد وأسره ومات ببغداد سنة أربع وثمانين وأقطع ملك شاه بلاد ارّان لأصحاب باغي سيان صاحب انطاكية ولما مات باغي سيان رجع ابنه الى ولاية أبيه ثم أقطع السلطان بركيارق كنجة وأعمالها لمحمد كما قلناه سنة ست وثمانين ولما اشتدّ واستفحل قتل أتابك قطلغ تكين واستولى على بلاد ارّان كلها ولحق مؤيد الملك عبد الله بن نظام الملك بعد مقتل صاحبه أنز فاستخلصه وقرّبه وأشار عليه مؤيد الملك فطلب الأمر لنفسه فخطب له بأعماله واستوزر مؤيد الملك وقارن ذلك مقتل مجد الملك الباسلانيّ المتغلب في دولة بركيارق فاستوحش أصحابه لذلك ونزعوا الى محمد وساروا جميعا الى الريّ وكان بركيارق قد سبقهم اليها واجتمع اليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي [1] من أكابر الأمراء وعز الملك بن نظام الملك ولما بلغه مسير أخيه محمد اليه رجع الى أصبهان فمنعوه من الدخول فسار الى خوزستان وملك محمد الريّ في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين ووجد بها زبيدة أم بركيارق قد تخلفت عن ابنها فحبسها مؤيد الملك وصادرها ثم قتلها خنقا بعد ان تنصح له أصحابه في شأنها فلم يقبل وكان سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد قد استوحش من بركيارق فاتفق هو وكربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر وسرخاب بن بدر صاحب كنكسون وساروا الى السلطان محمد بقمّ فخلع عليهم وردّ كوهراس الى بغداد في شأن الخطبة فخطب له بالخليفة ولقبه حياة الدين والدنيا وسار كربوقا وجكرمش مع السلطان محمد الى أصبهان والله سبحانه وتعالى أعلم. مقتل الباسلاني كان أبو الفضل سعد الباسلاني ويلقب مجد الملك متحكما عند السلطان بركيارق ومتحكما في دولته ولما فشا القتل في أمرائه من الباطنية استوحشوا ونسبوا ذلك للباسلاني وكان من أعظم من قتل منهم الأمير برسق فأتهم ابنه زنكي وأقبورني الباسلاني في قتله ونزعوا عن بركيارق الى السلطان محمد فاجتمع الأمراء ومقدّمهم أمير الحيرة لكابك وطغايرك من الروز وبعثوا   [1] ينال بن انوشتكين الحسامي: ابن الأثير ج 10/ 288. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 الى بني برسق يستدعونهم للطلب بثار أبيهم فجاءوا واجتمعوا قريبا من همدان ووافقهم العسكر جميعا على ذلك وبعثوا الى بركيارق يطلبون الباسلاني فامتنع وأشار عليه الباسلاني بإجابتهم لئلا يفعلوا ذلك بغير رأي السلطان فيكون وهنا على الدولة فاستحلفهم السلطان فدفعه اليهم فقتله الغلمان قبل أن يتصل بهم وسكنت الفتنة وحمل رأسه الى مؤيد الملك واستوحش الأمراء لذلك من بركيارق وأشاروا عليه بالعود الى الريّ ويكفونه قتال أخيه محمد فعاد متشاغلا ونهبوا سرادقه وساروا الى أخيه محمد ولحق بركيارق بأصبهان ثم لحق رستاق كما تقدّم. اعادة الخطبة ببغداد لبركيارق ولما سار بركيارق الى خوزستان ومعه نيال بن أبي شكين الحسامي مع عسكره سار من هنالك الى واسط ولقيه صدقة بن مزيد صاحب الحلة ثم سار الى بغداد وكان سعد الدولة كوهراس الشحنة على طاعة محمد فخرج عن بغداد ومعه أبو الغازي بن بن ارتق وغيره وخطب لبركيارق ببغداد منتصف صفر سنة ثلاث وتسعين بعد ان فارقها كوهراس وأصحابه وبعثوا الى السلطان محمد ومؤيد الملك يستحثونهما فأرسلا اليهم كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر يستكثرون بهم في المدافعة وطلب جكرمش من كوهراس السير لبلده خشية عليها فأذن له ثم يئس كوهراس وأصحابه من محمد فبعثوا الى بركيارق بطاعتهم فخرج اليهم واسترضاهم ورجع الى بغداد وقبض على عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة وطالبه بما أخذ هو وأبوه من الموصل وديار بكر أيام ولايتهم عليها فصادرهم على مائة وستين ألف دينار واستوزر الأغر أبا المحاسن عند الجليل ابن علي بن محمد الدهستاني وخلع الخليفة على بركيارق. المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد ومقتل كوهراس وهزيمة بركيارق والخطبة لمحمد ثم سار بركيارق من بغداد لحرب أخيه محمد ومر بشهرزور فاجتمع اليه عسكر كثير من التركمان وكاتب رئيس همدان يستحثه فركب وسار للقاء أخيه على فراسخ من همذان في أوّل رجب من سنة ثلاث وتسعين وفي ميمنته كوهراس وعزّ الدولة بن صدقة بن مزيد وسرحاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 ابن بدر وفي ميسرته كربوقا وفي ميمنته محمد بن أضر وابنه أيار [1] وفي ميسرته مؤيد الملك والنظامية ومعه في القلب أمير سرخو شحنة أصبهان فحمل كوهراس من الميمنة على مؤيد الملك والنظامية فهزمهم وانتهى الى خيامهم فنهبها وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزموا وحمل محمد على بركيارق فهزمه ووقف محمد مكانه وعاد كوهراس من طلب المنهزمين فكبا به فرسه فقتل وجيء بالاغر أبي المحاسن يوسف وزير بركيارق أسيرا فأكرمه مؤيد الملك ونصب له خيمة وبعثه الى بغداد في الخطبة لمحمد فخطب له منتصف رجب من السنة وكانت أوليّة سعد الدولة كوهراس انه كان خادما للملك أبي كلينجار بن بويه وجعله في خدمة ابنه أبي نصر ولما حبسه طغرلبك مضى معه الى قلعة طغرل فلما مات انتقل الى خدمة السلطان البارسلان وترقّى عنده وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد وحضر يوم قتله فوقّاه بنفسه ثم أرسله ملك شاه الى بغداد في الخطبة وجاء بالخلع والتقليد وحصل له من نفوذ الأمر واتباع الناس ما لم يحصل لغيره الى أن قتل في هذه المعركة وولى شحنة بغداد بعده ايلغازي بن أرتق. مسير بركيارق خراسان وانهزامه من أخيه سنجر ومقتل الأمير داود حبشي أمير خراسان لما انهزم بركيارق من أخيه محمد خلص في الفلّ الى الريّ واجتمع له جموع من شيعته فسار الى خراسان وانتهى الى أسفراين وكتب الأمير داود حبشي [2] الى التونطاق يستدعيه من الدامغان وكان أميرا على معظم خراسان وعلى طبرستان وجرجان فأشار عليه بالمقام بنيسابور فقصدها وقبض على عميدها أبي محمد وأبي القاسم بن امام الحرمين ومات أبو القاسم في محبسه مسموما ثم زحف سنجر الى الأمير داود فبعث الى بركيارق يستدعيه لنجدته فسار اليه والتقى الفريقان بظاهر بوشنج وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته الأمير كوكر [3] ومعه في القلب الأمير رستم فحمل بركيارق على رستم فقتله وانقضّ الناس على سنجر وكاد ينهزم وأخذ بركيارق أمّ سنجر أسيرة وشغل أصحاب بركيارق بالنهب فحمل عليهم برغش وكوكر فانهزموا واستمرّت الهزيمة على بركيارق وهرب الأمير داود فجيء به الى برغش أسيرا   [1] وكان محمد في القلب ومعه الأمير سرمز وعلى ميمنته أمير آخر وابنه أياز الكامل ج 10 ص 295. [2] الأمير دازحبشي (الكامل ج 10 ص 296) . [3] كندكز (الكامل ج 10 ص 297) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 فقتله وسار بركيارق الى جرجان ثم الى الدامغان ودخل البرية ثم استدعاه أهل أصبهان وجاءه جماعة من الأمراء منهم جاول سقاوو وسبقه محمد الى أصبهان فعدل عنها الى عسكر مكرم. المصاف الثاني بين بركيارق ومحمد وهزيمة محمد وقتل وزيره مؤيد الملك والخطبة لبركيارق لما انهزم بركيارق أمام سنجر سنة ثلاث وتسعين وسار الى أصبهان فوجد أخاه محمدا قد سبقه اليها فعدل عنها الى خوزستان ونزل الى عسكر مكرم وقدم عليه هناك الأميران زنكي والبكي ابنا برسق سنة أربع وتسعين وساروا معه الى همذان وهرب اليه الأمير أياز في خمسة آلاف من عسكر محمد لأنّ صاحب أميرا ضر [1] مات في تلك الأيام وظنوا أن مؤيد الملك دسّ عليه وزيره فسمه وكان أياز في جملة أمير أضر فقتل الوزير المتهم ولحق بركيارق ثم وصل اليه سرحاب بن كنجر وصاحباه فاجتمع له نحو من خمسين ألف فارس ولقيه محمد في خمسة عشر ألفا واستأمن أكثرهم إلى بركيارق يوم أوّل جمادى الأخيرة سنة أربع وتسعين واستولت الهزيمة على محمد وجيء بمؤيد الملك أسيرا فوبخه ثم قتله بيده لانه كان سيّئ السيرة مع الأمراء كثير الحيل في تدبير الملك ثم بعث الاغرّ أبو المحاسن وزير بركيارق أبا إبراهيم الأستراباذيّ لاستقصاء أحوال مؤيد الملك وذخائره ببغداد فحمل منها ما لا يسعه الوصف يقال انه وجد في ذخائره ببلاد العجم قطعة بلخش زنتها أربعون مثقالا واستوزر محمد بعده خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين ثم سار السلطان بركيارق الى الريّ ووفد عليه هنالك كربوقا [2] صاحب الموصل ودبيس بن صدقة وأبوه يومئذ صاحب الحلة وسار السلطان قافلا الى جرجان وبعث الى أخيه سنجر يستجديه فبعث اليه ما أقامه ثم طلبه في المدد فسار اليه سنجر من خراسان ثم سارا جميعا الى الدامغان فخرباها وسار الى الري   [1] أمير أضر: ورد في الكامل أمير آخر وهو الصحيح وآخر: (بضم الخاء المعجمة والراء: قصبة ناحية دهستان، بين جرجان وخوارزم وقيل آخر قرية بدهستان نسب اليها جماعة من أهل العالم، منهم أبو الفضل العباس بن احمد بن الفضل الزاهد وكان فقيها، فاضلا، معتزليا، أديبا، لغويا ومنهم أبو الفتيان عمر بن عبد الكريم الروّاسي ونيرار بن عبد الواحد الدهستاني وغيرهم. وآخر قرية بين سمنان ودامغان، بينها وبين سمنان تسعة فراسخ، سمع بها الحافظ أبو عبد الله بن النّجّار نقلته من خطّة وأخبرني به من لفظة) معجم البلدان. [2] وفي الكتب الحديثة اسمه كريوخا (العلاقات الاجتماعية، نقاش ص 21) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 واجتمعت عليه النظامية وغيرهم فكثرت جموعهم وكان بركيارق بعد الظفر قد فرق عساكره لضيق الميرة ورجع دبيس بن صدقة الى أبيه وخرج بآذربيجان داود بن إسماعيل ابن ياقوتي فبعث لقتاله قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف واستأذنه أياز في المسير الى ولايته بهمدان ويعود بعد الفطر فبقي في قلة من العساكر فلما بلغه قرب أخيه محمد وسنجر اضطرب حاله وسار الى همذان ليجتمع مع أياز فبلغه انه قد راسل أخاه محمدا وأطاعه فعاد الى خوزستان ولما انتهى الى تستر استدعى ابن برسق وكان من جملة أياز فلم يحضر وتأخر فآمنه فسار نحو العراق فلما بلغ حلوان لحق به أياز وكان راسل محمدا فلم يقبله وبعث عساكره الى همدان فلحق بهمدان أياز وأخذ محمد محلة [1] أياز بهمدان وكانت كثيرا من كل صنف وصودر أصحابه [2] بهمدان بمائة ألف دينار وسار بركيارق وأياز الى بغداد فدخلها منتصف ذي القعدة من سنة أربع وتسعين وطلب من الخليفة المال للنفقة فبعث اليه بعد المراجعة بخمسين ألف دينار وعاث أصحاب بركيارق في أموال الناس وضجروا منه ووفد عليه أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن المصلحية [3] قاضي جبلة من سواحل الشام منهزما من الافرنج بأموال جليلة المقدار فأخذها بركيارق منه وقد تقدّم خبر ابن المصلحية في دولة العباسيين ثم بعث وزير بركيارق الأغر [4] بالمحاسن الى صدقة بن مزيد صاحب الحلة في ألف ألف دينار يزعم أنها تخلفت عنده من ضمان البلاد وتهدده عليها فخرج عن طاعة بركيارق وخطب لمحمد أخيه وبعث اليه بركيارق في الحضور والتجاوز عن ذلك وضمن له أياز جميع مطالبه فأبي الا ان يدفع الوزير واستمرّ على عصيانه وطرد عامل بركيارق عن الكوفة واستضافها اليه. مسير بركيارق عن بغداد ودخول محمد وسنجر اليها ولما استولى السلطان محمد وأخوه سنجر على همذان سار في اتباع بركيارق الى حلوان فقدم عليه هنالك أبو الغازي ابن ارتق في عساكره وخدمه وكثرة جموعه فسار الى بغداد وبركيارق عليل بها فاضطرب أصحابه وعبروا به الى الجانب الغربي ووصل محمد الى بغداد آخر سنة   [1] وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير أياز بهمذان (الكامل ج 10 ص 307) [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ونهبوا داره وصادروا جماعة من أصحابه وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار. [3] ورد اسمه في الكامل ابن صليحة [4] وهو الأغر أبو المحاسن الدهستاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 أربع وتسعين وتراءى الجمعان بشاطئ دجلة وجرت بينهم المراماة والنشاب وكان عسكر محمد ينادون عسكر بركيارق يا باطنية ثم سار بركيارق الى واسط ونهب عسكره جميع ما مرّوا عليه ودخل محمد الى دار المملكة ببغداد وجاءه توقيع المستظهر بالاستبشار بقدومه وخطب له ونزل الملك سنجر بدار كوهراس ووفد على السلطان محمد ببغداد صدقة صاحب الحلة في محرّم سنة خمس وسبعين [1] . قتل بركيارق الباطنية كان هؤلاء الباطنية قد ظهروا بالعراق وفارس وخراسان وهم القرامطة والدعوة بعينها دعوتهم الا أنهم سمعوا في هذه الأجيال بالباطنية والإسماعيلية والملاحدة والفداوية وكل اسم منها باعتبار فالباطنية لانهم يبطنون دعوتهم والإسماعيلية لانتساب دعوتهم في أصلها لإسماعيل الامام بن جعفر الصادق والملاحدة لان بدعتهم كلها الحاد والفداوية لانهم يفادون أنفسهم بالمال على قتل من يسلطون والقرامطة نسبة الى قرمط منشئ دعوتهم وكان أصلهم من البحرين في المائة الثالثة وما بعدها ثم نشأ هؤلاء بالمشرق أيام ملك شاه فأوّل ما ظهروا بأصبهان واشتدّ في حصار بركيارق وأخيه محمود وأمه خاتون فيها ثم ثارت عامة أصبهان بهم بإشارة القضاة وأهل الفتيا فقتلوهم في كل جهة وحرقوهم بالنار ثم انتشروا واستولوا على القلاع ببلاد العجم كما تقدّم في أخبارهم ثم أخذ بمذهبهم نيران شاه بن بدران شاه بن قارت بك [2] صاحب كرمان حمله عليه كاتب من أهل خوزستان يسمى أبا زرعة وكان بكرمان فقيه من الحنفية يسمى أحمد بن الحسين البلخي مطاع في الناس فخشي من نكيره فقتله فهرب عنه صاحب جيشه وكان شحنة البلد ولحق بالسلطان محمد ومؤيد الملك بأصبهان وثار الجنا بعده بنيران شاه الى مدينة كرمان فمنعه أهلها ونهبوه فقصد قلعة سهدم [3] واستجار بصاحبها محمد بهستون وبعث أرسلان شاه عساكر لحصارها فطرده بهستون وبعث مقدم العساكر في طلبه فجيء به أسيرا وبأبي زرعة الكاتب معه فقتلهما أرسلان شاه واستولى على بلاد كرمان وكان بركيارق كثيرا ما يسلطهم على من يريد قتله من الأمراء مثل انز شحنة أصبهان وأرغش وغيرهم فامنوا جانبه وانتشروا في عسكره وأغروا الناس ببدعتهم   [1] ذكرت هذه الحادثة في الكامل ج 10 ص 308: من حوادث سنة اربع وتسعين واربعمائة. [2] نيران شاه بن توران شاه بن قاروت بك الكامل ج 10 ص 320 وورد اسمه في نسخة اخرى نيران شاه. [3] وفي الكامل: قلعة سجرم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وتجاوزوا الى التهديد عليها حتى خافهم أعيان العسكر وصار بركيارق يصرفهم على أعدائه والناس يتهمونه بالميل اليهم فاجتمع أهل الدولة وعذلوا بركيارق في ذلك فقبل نصيحتهم وأمر بقتل الباطنية حيث كانوا فقتلوا وشردوا كل مشرد وبعث الى بغداد بقتل أبي إبراهيم الأستراباذيّ الّذي بعثه أبو الأغر لاستقصاء أموال مؤيد الملك وكان يتهم بمذهبهم فقتل وقتل بالعسكر الأمير محمد من ولد علاء الدين بن كاكويه وهو صاحب مدينة تيرد وكان يتهم بمذهبهم وسعى بالكيا الهراسي مدرس النظامية انه باطني فأمر السلطان محمد بالقبض عليه حتى شهد المستظهر ببراءته وعلو درجته في العلم فاطلقه وحسمت علة الباطنية بين الجمهور وبقي أمرهم في القلاع التي ملكوها الى ان انقرضوا كما تقدّم في اخبارهم مستوفي. (المصاف الثالث بين بركيارق ومحمد والصلح بينهما) ولما رحل بركيارق عن بغداد الى واسط ودخل اليها السلطان محمد اقام بها الى منتصف المحرم من سنة خمس وتسعين ثم رحل الى همدان وصحبه السلطان سنجر لقصد خراسان موضع إمارته وجاءت الاخبار الى المستظهر باعتزام بركيارق على المسير الى بغداد ونقل له عنه قبائح من أقواله وأفعاله فاستدعى السلطان محمدا من همدان وقال أنا أسير معك لقتاله فقال محمد أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين ورجع ورتب ببغداد أبا المعالي شحنة وكان بركيارق لما سار من بغداد الى واسط هرب أهلها منه الى الزبيدية ونزل هو بواسط عليلا فلما أفاق أراد العبور الى الجانب الشرقي فلم يجد سفنا ولا نواتية وجاءه القاضي أبو علي الفارسيّ الى العسكر واجتمع بالأمير أياز والوزير فاستعطفهما لأهل واسط وطلب اقامة الشحنة بينهم فبعثاه وطلبا من القاضي من يعبر فأحضر لهم رجالا عبروا بهم فلما صاروا في الجانب الشرقي نهب العسكر البلد فجاء القاضي واستعطفهم فمنعوا النهب واستأمن اليهم عسكر واسط فأمنوهم وسار بركيارق الى بلاد بلخ وبرسق في الأهواز وساروا معه ثم بلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار في اتباعه على نهاوند الى أن أدركه وتصافوا ولم يقتتلوا لشدّة البرد ثم عاودوا في اليوم الثاني كذلك وكان الرجل يخرج لقريبه من الصف الأخر فيتصافحان ويتساءلان ويفترقان ثم جاء الأمير بكراج وعبر من عسكر محمد الى الأمير أياز والوزير الأغر فاجتمعوا وعقدوا الصلح بين الفريقين على ان السلطان بركيارق والملك محمد ويضرب له ثلاث نوب ويكون له من البلاد حرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل ويمده بركيارق بالعساكر على من يمتنع عليه منها وتحالفا على ذلك وافترقا وكان العقد في ربيع الأوّل سنة خمس وتسعين وسار بركيارق الى ساوة ومحمد الى أستراباذ وكل أمير على أقطاعه والله سبحانه وتعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 انتقاض الصلح والمصاف الرابع بين السلطانين وحصار محمد بأصبهان لما انصرف السلطان محمد الى أستراباذ وكان اتهم الأمراء الذين سعوا في الصلح بالخديعة فسار الى قزوين ودس الى رئيسها لان يصنع صنيعا ويدعوه اليه مع الأمراء ففعل وجاء السلطان الى الدعوة وقد تقدم الى أصحابه بحمل السلاح ومعه يشمك وافتكين من أمرائه فقبض عليهما وقتل يشمك وسمل افتكين وورد عليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي نازعا عن أخيه بركيارق. ولما التقى الفريقان حمل سرخاب بن كشمر [1] الديليّ صاحب ساوة على نيال الحسامي فهزمه واتبعه عامّة العسكر واستولت الهزيمة على عسكر محمد ومضى بعضهم الى طبرستان وبعضهم الى قزوين وذلك في جمادى من سنة خمس وتسعين لاربعة أشهر من المصاف قبله ولحق محمد في الفل بأصبهان ومعه نيال الحسامي وأصبهان في حكمه فحصنها وسدّ ما ثلم من سورها وأعمق الخندق وفرّق الأمراء في الأسوار وعلى الأبواب ونصب المجانيق وجاء بركيارق في خمسة عشر ألف مقاتل فأقام محاصرا للبلد حتى اشتدّ الحصار وعدمت الأقوات واستقرض محمد المال للجند من أعيان البلدة مرّة بعد أخرى فلما جهده الحصار خرج من البلد ومعه الأمير نيال وترك باقي الأمراء وبعث بركيارق الأمير أياز في عسكر لطلبه فلم يدركه وقيل بل أدركه وذكره العهد فرجع عنه بعد ان أخذ رايته وجشره [2] وثلاثة أحمال من المال ولما خرج محمد عن أصبهان طمع المفسدون والسودية في نهبها فاجتمع منهم ما يزيد على مائة ألف وزحفوا بالسلالم والذبابات وطموا الخندق وصعدوا في السلالم بإشارة أهل البلد وجدّوا في دفاعهم وعادوا خائبين ورحل بركيارق آخر ذي القعدة من سنة خمس وتسعين واستخلف على البلاد القديم الّذي يقال له شهرستان مرشد الهراس في ألف فارس مع ابنه ملك شاه وسار الى همدان وفي هذا الحصار قتل وزير بركيارق الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني عرض له يوما بعض الباطنية عند ما ركب من خيمته لباب السلطان طعنه طعنات   [1] وفي بعض النسخ سرخاب بن كيخسرو الديلميّ وفي الكامل ج 10 ص 303، وحضر الدعوة ومعه الأمير افتكين وبسمل فقتل الأمير بسمل، وهو من أكابر الأمراء، وكحل الأمير افتكين، وكان الأمير نيال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق، وأقام مجاهدا للباطنية الذين في القلاع والجبال فقصد الآن السلطان محمد وسار معه الى الريّ يضرب النوب الخمس [2] وفي الكامل: وأخذ علمه والجنز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 وتركه بآخر رمق وقتل غلام من غلمان بعض المكوس للوزير ثار فيه بمولاه وكان كريما واسع الصدر وولى الوزارة على حين فساد القوانين وقلة الجباية فكان يضطرّ لاخذ أموال الناس بالإضافة فنفرت الصفوة منه ولما مات استوزر بركيارق بعده الخطير أبا منصور الميبذي كان وزيرا لمحمد وقد وكله في الحصار ببعض الأبواب فبعث اليه محمد نيال بن أبي شكين يطالبه بالأموال لإقامة العسكر فخرج من الباب ليلا ولحق ببلده وامتنع بقلعتها فأرسل السلطان بركيارق اليها عساكر وخاصروها حتى استأمن وجاء عند قتل وزيره الأغر فاستوزره بركيارق مكانه والله تعالى أعلم بغيبه. مسير صاحب البصرة الى واسط كان صاحب البصرة لهذا العهد إسماعيل بن ارسلان حين كان السلطان ملك شاه شحنة بالريّ وولاه عليها عند ما اضطرّ أهلها وعجز الولاة عنهم فحسنت كفايته وأثخن فيهم وأصلح أمورها ثم عزل عنها وأقطع السلطان بركيارق البصرة للأمير قماج وكان ممن لا يفارقه فاختار إسماعيل لولاية البصرة ثم نزع قماج عن بركيارق وانتقل الى خراسان فحدّثت إسماعيل نفسه بالاستبداد بالبصرة وانتقض وزحف اليه مهذب الدولة بن أبي الخير من البطيحة ومعقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الاسدي من الجزيرة في العساكر والسفن فقاتلوه في مطاري وقتل معقل بسهم أصابه فعاد ابن أبي الخير الى البطيحة فأخذ إسماعيل السفن وذلك سنة احدى وتسعين وأسرهما واستفحل أمره بالبصرة وبنى قلعة بالايلة وقلعة بالشاطئ قبالة مطاري وأسقط كثيرا من المكوس واتسعت إمارته لشغل السلاطين بالفتنة وملك المسبار وأضافها الى ما بيده ولما كان سنة خمس وتسعين طمع في واسط وداخل بعض أهلها وركب اليها السفن الى نعماجار وخيم عليها بالجانب الشرقي أياما ودافعوه فارتحل راجعا حتى ظنّ خلاء البلد من الحامية فدس اليها من يضرم النار بها ليرجعوا فرجع عنهم فلما دخل أصحابه البلد فتك أهل البلد فيهم وعاد الى البصرة منهزما فوجد الأمير أبا سعيد محمد بن نصر بن محمود صاحب الأعمال لعمان وجنايا وشيراز وجزيرة بني نفيس محاصرا للبصرة وكان أبو سعيد قد استبدّ بهذه الأعمال منذ سنين وطمع إسماعيل في الاستيلاء على أعماله وبعث اليها السفن في البحر فرجعوا خائبين فبعث أبو سعيد خمسين من سفنه في البحر فظفروا بأصحاب إسماعيل معهم الى الصلح ولم يقع منه وفاء به فسار أبو سعيد بنفسه في مائة سفينة وأرسى بفوهة نهر الأبلة ووافق دخول إسماعيل من واسط فتزاحفوا برّا وبحرا فلما رأى إسماعيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 عجزه عن المقاومة كتب الى ديوان الخليفة بضمان البلد ثم تصالحا ووقعت بينهما المهاداة وأقام إسماعيل مستبدّا بالبصرة الى أن ملكها من يده صدقة بن مزيد في المائة الخامسة كما مرّ في اخباره وهلك برامهرمز. وفاة كربوقا صاحب الموصل واستيلاء جكرمش عليها واستيلاء سقمان بن ارتق على حصن كيفا كان السلطان بركيارق أرسل كربوقا الى أذربيجان لقتال مودود بن إسماعيل بن ياقوتي الخارج بها سنة أربع وتسعين فاستولى على أكثر أذربيجان من يده ثم توفي منتصف ذي القعدة سنة خمس وتسعين وكان معه أصهر صباوة بن خمار تكين وسنقرجه من بعده وأوصى الترك بطاعته فسار سنقرجه الى الموصل واستولى عليها وكان أهل الموصل لما بلغهم وفاة كربوقا قد استدعوا موسى التركماني من موضع نيابته عن كربوقا بحصن كيفا للولاية عليهم فبادر اليهم وخرج سنقرجه للقائه فظنّ انه جاء اليه وجرت بينهما محاورات وردّ سنقرجه الأمر الى السلطان فآل الأمر بينهما الى المطاعنة وكان مع موسى منصور بن مروان بقية أمراء ديار بكر وضرب سنقرجه فأبان رأسه وملك موسى البلد ثم زحف جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر الى نصيبين فملكها وخالفه موسى الى الجزيرة فبادر اليه جكرمش وهزمه واتبعه الى الموصل فحاصره بها فبعث موسى الى سقمان بن أرتق بديار بكر يستنجده على أن يعطيه حصن كيفا [1] فسار سقمان اليه وأفرج عنه جكرمش وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه ورجع سقمان الى كيفا وجاء جكرمش الى الموصل فحاصرها وملكها صلحا واستلحم قتلة موسى ثم استولى بعد ذلك على الخابور وأطاعه العرب والأكراد وأمّا سقمان بن أرتق فسار بعد مقتل موسى الى حصن كيفا واستمرّ بيده قال ابن الأثير وصاحبها الآن في سنة خمس وعشرين وستمائة محمود بن الفراء ارسلان بن داود بن سقمان بن أرتق والله تعالى أعلم. (أخبار نيال بالعراق) كان نيال بن أبي شكين الحسامي مع السلطان محمد بأصبهان لما حاصرها بركيارق بعد المصاف الرابع سنة خمس وتسعين فلما خرج محمد من الحصار الى أذربيجان ومعه نيال استأذنه في قصد الريّ ليقيم بها دعوتهم وسار هو وأخوه علي وعسف بأهل الريّ وصادرهم وبعث السلطان بركيارق الأمير برسق بن برسق في ربيع من سنة ست   [1] وفي بعض النسخ حصن كبيفا وهو تحريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وتسعين فقاتله وهزمه واستولى برسق على الريّ وأعاده على ولاية بقزوين وسلك نيال على الجبال وهلك كثير من أصحابه وخلص الى بغداد فأكرمه المستظهر وأظهر طاعة السلطان محمد وتحالف هو وأبو الغازي وسقمان بن أرتق على مناصحة السلطان محمد وساروا الى صدقة بن مزيد بالحلة فاستخلفوه على ذلك ثم انّ نيال بن أبي شكين عسف بأهل بغداد وتسلط عليهم وصادر العمال فاجتمع الناس الى أبي الغازي بن أرتق وكان نيال صهره على أخته التي كانت زوجا لتتش وطلبوا منه أن يشفع لهم عنده وبعث المستظهر اليه قاضي القضاة أبا الحسن الدامغانيّ بالنهي عما يرتكبه فأجاب وحلف ثم نكث فأرسل المستظهر الى صدقة بن مزيد يستدعيه فوصل في شوّال من السنة واتفق مع نيال على الرحيل من بغداد ورجع الى حلته وترك ولده دبيسا يزعج نيال للخروج فسار نيال الى أوان، وعاث في السابلة وأقطع القرى لأصحابه وبعث الى صدقة فأرسل اليه العساكر وخرج فيها أبو الغازي بن أرتق وأصحاب المستظهر فسار نيال الى أذربيجان ورجعوا عنه. ولاية كمستكين النصيري شحنة بغداد وفتنته مع أبي الغازي وحربه كان أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد ولاه عليها السلطان محمد عند مقتل كوهراس ولما ظهر الآن بركيارق على محمد وحاصره بأصبهان ونزل بركيارق همذان وأرسل الى بغداد كمستكين النصيري في ربيع سنة ست وتسعين وسمع أبو الغازي بمقدمة فاستدعى أخاه سقمان بن أرتق من حصن كبيعا [1] يستنجده وسار الى صدقة بن مزيد فحالفه على النصرة والمدافعة ورجع الى بغداد ووصل اليه أخوه سقمان بعد أن نهب في طريقه ووصل كمستكين الى قرقيسيا ولقيه شيعة بركيارق وخرج أبو الغازي وسقمان عن بغداد ونهب قرى دجيل واتبعتهما العساكر ثم رفعت عنهما وأرسل كمستكين الى صدقة صاحب الحلة فامتنع من طاعة بركيارق وسار من الحلة الى صرصر وقطع خطبة بركيارق وعبر بغداد واقتصر على الدعاء للخليفة وبعث صدقة الى أبي الغازي وسقمان يعرفهما بوصوله وهما بالحرني [2] وجاء الى دجيل ونهب القرى واشتدّ فسادهم وأضرّ ذلك بحال بغداد في غلاء الأسعار وجاء أبو الغازي وسقمان ومعهما دبيس بن   [1] وفي بعض النسخ حصن كيفا. [2] وفي الكامل ج 10 ص 357 وكان بحربي يعرفهما انه أتى لنصرتهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 صدقة فخيموا بالرملة وقاتلهم العامّة ففتكوا فيهم وبعث المستظهر قاضي القضاة أبا الحسن الدامغانيّ وتاج الرؤساء بن الرحلات الى صدقة بن مزيد بمراجعة الطاعة فشرط خروج كمستكين عن بغداد فأخرجه المستظهر الى النهروان وعاد صدقة الى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد ثم سار كمستكين النصيري الى واسط وخطب فيها لبركيارق ونهب عسكره سوادها فسار صدقة وأبو الغازي اليه وأخرجاه من واسط وتحصن بدجلة فقصده صدقة فانفض عنه أصحابه ورجع الى صدقة بالأمان فأكرمه وعاد الى بركيارق وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط وبعده لصدقة وأبي الغازي وولى كل واحد فيها ولده وعاد أبو الغازي الى بغداد وعاد صدقة الى الحلة وبعث ابنه منصورا مع أبي الغازي يطلب الرضا من المستظهر لانه كان سخطه من أجل هذه الحادثة. المصاف الخامس بين بركيارق ومحمد كان السلطان محمد لما سار عن كنجة وبلاد ارّان استخلف بها الأمير غزغلي وأقام بها في طائفة من عسكره مقيما خطبة السلطان محمد في جميع أعماله الى زنجان من آخر أذربيجان فلما انحصر محمد بأصبهان سار غزغلي لانجاده ومعه منصور بن نظام الملك ومحمد ابن أخيه مؤيد الملك فانتهوا الى الريّ وملكوها آخر خمس وتسعين ولقوا السلطان محمدا بهمدان عند ما خرج من أصبهان ومعه نيال بن أبي شكين وأخوه علي وأقاموا معه بهمدان ثم جاء الخبر بمسير بركيارق اليهم فتوجه السلطان محمد قاصدا شروان وانتهى الى أذربيجان فبعث اليه مودود بن إسماعيل بن ياقوتي الّذي كان بركيارق قتل أباه إسماعيل وكانت أخت مودود هذا تحت محمد وكان له طائفة من أعمال أذربيجان فاستدعى محمدا ليظاهره على بركيارق فسار اليه وانتهى الى سقمان وتوفي مودود في ربيع سنة ست وتسعين واجتمع عساكره على السلطان محمد وفيهم سقمان [1] القبطي ومحمد بن باغي بركيارق وقاتلهم على خراسان وسار أياز من عسكر بركيارق وجاء من خلف السلطان محمد فانهزم محمد وأصحابه ولحق بارقيش من أعمال خلاط ولقيه الأمير علي صاحب ارزن الرومي فمضى الى أصبهان وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي ثم سار الى هرمز وأمّا محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك فنجا من الوقعة الى ديار بكر ثم الى جزيرة ابن عمر ثم الى بغداد وكان أيام أبيه مقيما ببغداد في جوار المدرسة النظامية فشكى الى أبيه وخاطب كوهراس بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة   [1] وفي الكامل ج 10 ص 360 سكمان القبطي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 ولحق سنة اثنتين وتسعين بمجد الملك؟ الباسلّاني وأبوه بكنجة عند السلطان محمد فلما خطب السلطان محمد لنفسه واستوزر أباه مؤيد الملك لحق محمد هذا بأبيه ثم قتل أبوه وبقي في جملة السلطان محمد. استيلاء ملك بن بهرام على مدينة غانة كان ملك بن بهرام بن ارتق ابن أخي أبي الغازي بن ارتق مالكا مدينة سروج فملكها الفرنج من يده فسار عنها الى غانة وغلب عليها بني العيش بن عيسى بن خلاط كانت لهم فقصدوا صدقة بن مزيد مستنجدين به فأنجدهم وجاء معهم فرحل ملك بن بهرام والتركمان عنها ودخلها بنو العيش وأخذ صدقة رهائنهم وعاد الى الحلة فرجع ملك إليها في ألفي رجل من التركمان وحار بها قليلا ثم عبر المخاضة وملكها واستباح أهلها ومضى الى هيت ورجع عنها. (الصلح بين السلطان بركيارق ومحمد) ثم استقر الأمر أخيرا بالسلطان بركيارق في الريّ وكان له الجبال وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين ولمحمد آذربيجان وبلاد أران وارمينية وأصبهان والعراق جميعا غير تكريت والبطائح بعضها وبعضها والبصرة لهما جميعا وخراسان لسنجر من جرجان الى ما وراء النهر يخطب فيها لأخيه محمد وله من بعده والعساكر كلهم يتحكمون عليهم بسبب الفتنة بينهما وقد تطاول الفساد وعمّ الضرر واختلفت قواعد الملك فأرسل بركيارق الى أخيه محمد في الصلح مع فقيهين من أماثل الناس ورغباه في ذلك وأعاد معهما رسلا آخرين وتقرّر الأمر بينهما أن يستقر محمد على ما بيده سلطانا ولا يعارضه بركيارق في الطول ولا يذكر اسمه في أعمال محمد وأن المكاتبة تكون بين الوزيرين والعساكر بالخيار في خدمة من شاءوا منهما ويكون للسلطان محمد من النهر المعروف باسترد الى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام والعراق بلاد صدقة بن مزيد وبقية الممالك الإسلامية لبركيارق وتحالفا على ذلك وانتظم الأمر وأرسل السلطان محمد الى أصحابه بأصبهان بالخروج عنها لأخيه بركيارق واستدعاهم إليه فأبوا وجنحوا الى خدمة بركيارق وساروا إليه بحريم السلطان محمد الّذي كانوا معهم فأكرمهم بركيارق ودلهم الى صاحبهم وحضر أبو الغازي بالديوان ببغداد وسار المستظهر في الخطبة لبركيارق فخطب له سنة سبع وتسعين وكذلك بواسط وكان أبو الغازي قبل ذلك في طاعة محمد فأرسل صدقة الى المستظهر يعذله في شأنه ويخبره بالمسير لإخراجه من بغداد ثم سار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 صدقة ونزل عند الفجاج وخرج أبو الغازي الى عقربا وبعث لصدقة بأنه انما عدل عن طاعة محمد للصلح الوقع بينه وبين أخيه وأنهما تراضيا على أن بغداد لبركيارق وانا شحنة بها واقطاعي حلوان فلا يمكنني التحوّل عن طاعة بركيارق فقبل منه ورجع الى الحلة وبعث المستظهر في ذي القعدة سنة سبع وتسعين بالخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والوزير الخطير واستخلفهم جميعا وعاد الى بغداد والله سبحانه ولىّ التوفيق. (حرب سقمان وجكرمس [1] الافرنج) قد تقدم لنا استيلاء الافرنج على معظم بلاد الشام وشغل الناس عنهم بالفتنة وكانت حرّان لقراجا من مماليك ملك شاه وكان غشوما فخرج منها لبعض مذاهبه وولى عليها الأصبهاني من أصحابه فعصى فيها وطرد أصحاب قراجا منها ما عدا غلاما تركيا اسمه جاولى جعله مقدم العسكر وأنس به فقرّره وتركه وملك حرّان وسار الافرنج إليها وحاصروها وكان بين جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وسقمان صاحب كيفا حروب وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه فانتدبا لنصر المسلمين واجتمعا على الخابور وتحالفا وسار سقمان في سبعة آلاف من التركمان وجكرمس في ثلاثة آلاف من الترك والعرب والأكراد والتقوا بالافرنج على نهر بلخ فاستطرد لهم المسلمون نحو فرسخين ثم كرّوا عليهم فغنموا فيهم وقتلوا سوادهم وأخذ القمص بردويل صاحب الرها أسره تركمانيّ من أصحاب سقمان في نهر بلخ وكان سمند صاحب انطاكية من الافرنج ونيكري [2] صاحب الساحل منهم قد كمنا وراء الجبل ليأتيا المسلمين من ورائهم عند المعركة فلما عاينوا الهزيمة كمنوا بقية يومهم ثم هربوا فاتبعهم المسلمون واستلحموهم وأسروا منهم كثيرا وفلت سمند ونيكري بدماء أنفسهم ولما حصل الظفر للمسلمين عصى أصحاب جكرمس باختصاص سقمان بالقمّص وحملوه على أخذه لنفسه فأخذ جكرمس من خيام سقمان وشق ذلك عليه وأراد أصحابه [3] فأبى حذرا من افتراق المسلمين ورحل وفتح في طريقه عدّة حصون وسار جكرمس الى حران ففتحها ثم سار الى الرها فحاصرها خمس عشرة ليلة وعاد الى الموصل وقاد من القمص   [1] وفي بعض النسخ جكرمش. [2] وفي بعض النسخ: وكان بيمنر صاحب انطاكية من الافرنج وطنكري صاحب الساحل. [3] كذا بياض في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 375: فلما عاد سكمان شق عليه الأمر وركب أصحابه للقتال فردهم وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمّهم باختلافنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 بخمسة وثلاثين ألف دينارا ومائة وستين أسيرا من المسلمين. (وفاة بركيارق وولاية ابنه ملك شاه) ثم توفي السلطان بركيارق بن ملك شاه بنردجرد [1] في أوائل ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين لاثنتي عشرة سنة ونصف من ملكه جاء إليها عليلا من أصبهان واشتدّ مرضه بنردجرد فولى عهد لابنه ملك شاه وعمره نحو من خمس سنين وخلع عليه وجعل الأمير أياز كافلة وأوصى أهل الدولة بالطاعة والمساعدة وبعثهم الى بغداد فأدركهم خبر وفاته بالطريق ورجع أياز حتى دفنه بأصبهان وجمع السرادقات والخيام والجثر والسمسمة لابنه ملك شاه وكان بركيارق قد لقي في ملكه من الرخاء والشدّة والسلم ما لم يلقه أحد فلما استقر [2] واستقامت سعادته أدركته المنية ولما توفي خطب لابنه ملك شاه ببغداد وكان أبو الغازي قد سار من بغداد إليه وهو بأصبهان يستحثه الى بغداد وجاء معه فلما مات سار مع ابنه ملك شاه والأمير أياز الى بغداد وركب الوزير أبو القاسم علي بن جهير فلقيهم به [3] ما لي وحضر أبو الغازي والأمير طغلبرك بالديوان وطلبا الخطبة لملك شاه فخطب له ولقب بألقاب جده ملك شاه. حصار السلطان محمد الموصل لما انعقد الصلح بين بركيارق ومحمد واختص كل منهما اعماله وكانت آذربيجان في قسمة محمد رجع محمد الى أذربيجان ولحق به سعد الملك أبو المحاسن الّذي كان نائبا بأصبهان بعد أن أبلى في المدافعة عنها ثم سلمها بعد الصلح الى نواب بركيارق واستوزره فأقام محمد الى صفر من سنة ثمان وتسعين ثم سار يريد الموصل على طريق مراغة ورحل وبلغ الخبر الى جكرمس فاستعد للحصار وأدخل أهل الضاحية الى البلد وحاصره محمد ثم بعث له يذكره ما استقر عليه بينه وبين أخيه وأن الموصل والجزيرة له وعرض عليه خط بركيارق بذلك وبإيمانه عليه ووعده أن يقرّها في عمالته فقال له جكرمس انّ السلطان كتب إلي بعد الصلح بخلاف ذلك فاشتدّ في حصاره واشتدّ أهل البلد في المدافعة ونفس الله عنهم برخص الأسعار وكان عسكر جكرمس مجتمعين قريبا من الموصل وكانوا يغزون على أطراف العسكر   [1] وفي بعض النسخ بترجرد وفي الكامل بروجرد وهو الصحيح. [2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 381: ولما قوي أمره في هذا الوقت وأطاعه المخالفون وانقادوا له أدركته منيته. [3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 382: فلقيهم من ديالى وكانوا خمسة آلاف فارس، وحضر ايلغازي والأمير طغا بدك بالديوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 ويمنعون عنهم الميرة ثم وصل الخبر عاشر جمادى الاولى بوفاة السلطان بركيارق فاستشار جكرمس أهل البلد فردّوا النظر إليه واستشار الجند فأشاروا بطاعة السلطان محمد فأرسل إليه بذلك واستدعى وزيره سعد الملك فدخل عليه وأشار عليه بلقاء السلطان فخرج إليه على كره من أهل البلد فتلقاه السلطان بالكرامة وأعاده سريعا الى البلد ليطمئن الناس. استيلاء السلطان محمد على بغداد وخلع ملك شاه ابن أخيه ومقتل أياز قد كنا قدّمنا صلح بركيارق وأخيه محمد من أنه يستقل بركيارق بالسلطنة وينفرد محمد بالأعمال التي ذكرنا وموت بركيارق أثر ذلك وتقديم ابنه ملك شاه ببغداد فوصل الخبر بذلك إلى محمد وهو يحاصر الموصل فأطاعه جكرمس وسار محمد إلى بغداد ومعه جكرمس وسقمان القطبي مولى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتي بن داود وياقوتي عمّ ملك شاه ومحمد وغيرهما من الأمراء وجمع صدقة صاحب الحلة العساكر وبعث ابنه بدران ودبيسا إلى محمد يستحثانه وجاء السلطان محمد الى بغداد فاعتزم الأمير أياز أتابك ملك شاه على دفاعه وخيم خارج بغداد وأشار عليه بذلك أصحابه وخالفهم وزيره أبو المحاسن الضبعي وأبلغ في النصيحة له بطاعة السلطان فأقام مترددا ونزل محمد بالجانب الغربي وخطب له هنالك منفردا ولهما معا في بعض الجوامع واقتصر على سلطان العالم في بعضها ورجع أياز إلى استحلاف الأمراء ثانيا فوقف بعضهم وقال لا فائدة في إعادة اليمين وارتاب أياز عندها وبعث وزيره الضبعي أبا المحاسن لعقد الصلح مع السلطان واستحلافه فقرأ على وزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد فدخل معه الى السلطان وأجابه الى ما طلب وجاء معه من الغد قاضي القضاة والفتيان واستحلفاه لاياز وللامراء فحلف إلا أن ينال الحسامي و [1] وقال أما ملك شاه فهو ابني وأنا أبوه وجاء أياز من الغد وقارن وصول صدقة بن مزيد فانزلهما واحتفى بهما وذلك آخر جمادى الاولى من سنة ثمان وتسعين ثم احتفل أياز بعدها في عمل صنيع للسلطان في بيته وهي دار كوهراس وأهدى إليه تحفا من جملتها حبل   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 385 فلما سمع الأمير أياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذين معه من الدور ونصبوا الخيام بالزاهر خارج بغداد، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعله فبذلوا له الطاعة واليمين على قتاله وحربه ومنعه عن السلطنة والاتفاق معه عن طاعة ملك شاه بن برقيارف وكان أشدهم في ذلك نيال وصباوة فإنّهم بالغا في الأطماع بالسلطان محمد والمنع له عن السلطنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 البلخش الّذي أخذه من تركة نظام الملك بن مؤيد الملك واتفق انّ أياز تقدّم لمواليه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان وكان عندهم مصفعان فألبسوه درعا تحت ثيابه وتناوله بالنخس فهرب عنهم ودخل في حاشية السلطان مذعورا فلمسوه فإذا الدرع تحت ثيابه فارتابوا ونهض السلطان إلى داره ثم دعا الأمراء بعد ذلك بأيام [1] فاستشارهم في بعث يبعثهم إلى ديار بكر [1] انّ ارسلان بن سليمان بن قطلمش قصدها فاتفقوا على الإشارة بمسير أياز وطلب هو أن يكون معه صدقة بن مزيد فأسعفه السلطان بذلك واستدعاهما لانفاذ ذلك وقد أرصد في بعض المخادع بطريقهم جماعة لقتل أياز فلما مرّ بهم تعاورته سيوفهم وقطع رأسه وهرب صدقة وأغمى على الوزير وهرب عسكر أياز فنهبوا داره وأرسل السلطان من دفعهم عنها وسار السلطان من بغداد الى أصبهان وهذا أياز من موالي السلطان ملك شاه ثم سار في جملة ملك آخر فساء وأمّا الضبعي وزير أياز فاختفى أشهرا ثم حمل إلى الوزير سعد الملك في رمضان فلما وصل كان ذلك سبب رياسته بهمدان. استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين وموته كان هذا الحصن في ديار بكر أقطعه السلطان بركيارق لمغن كان عنده وكان حواليها خلق كثير من الأكراد يغيرون عليها ويخيفون سابلتها واتفق أنّ كربوقا خرج من الموصل لحصار آمد وكانت لبعض التركمان فاستنجد بسقمان فسار لانجاده ولقيه كربوقا ومعه زنكي بن آقسنقر وأصحابه وأبلوا ذلك اليوم بلاء شديدا فانهزم وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق فحبسه بقلعة ماردين عند المغني فبقي مدّة محبوسا وكثر خروج الأكراد بنواحي ماردين فبعث ياقوتي الى المغني يسأله أن يطلقه ويقيم عنده بالريف لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي الى خلاط وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة فلا يهيجهم ثم حدّثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام بعد مرجعه من الاغارة ودنا من القلعة وعرّضهم للقتل ان لم يفتحها أهلوهم ففتحوها وملكها وجمع الجموع وسار الى نصيبين وإلى جزيرة ابن عمر وهي لجكرمس فكبسه جكرمس وأصحابه وأصابه في الحرب سهم فقتله   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 388: استدعي السلطان الأمير صدقة وأياز وجكرمش وغيرهم من الأمراء فلما حضروا أرسل إليهم أنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها ويسير منها إلى الجزيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وبكاه جكرمش وكانت تحت ياقوتي بنت عمه سقمان فمضت الى أبيها وجمعت التركمان وجاء [1] بهم الى نصيبين لطلب الثأر فبعث اليه جكرمش ما أرضاه من المال في ديته. فرجع وأقام بماردين بعد ياقوتي أخوه على طاعة جكرمش وخرج منها لبعض المذاهب وكتب نائبة بها الى عمه سقمان بأنه تملك ماردين على جكرمش فبادر إليها سقمان واستولى عليها وعوض عنها ابن أخيه جبل جور وأقامت ماردين في حكمه مع حصن كيفا واستضاف إليها نصيبين ثم بعث إليها فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يستنجده على الافرنج وكان استبدّ بها على الخلفاء العبيد بين أهل مصر وثار له الافرنج عند ما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن ارتق سنة ثمان وتسعين فأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغتكين صاحب دمشق المستبدّ بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الفرنج فأسرع السير معتزما على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين وندم طغتكين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه ومات هو بالقريتين فكفاهم الله تعالى أمره وقد كان أصحابه عند ما أيقن بالموت أشاروا عليه بالعود إلى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وان مت كان لي ثواب شهيد. خروج منكبرس على السلطان محمد ونكبته كان منكبرس بن يورس [2] بن البارسلان مقيما بأصبهان وانقطعت عنه المواد من السلطان فخرج إلى نهاوند ودعا لنفسه وكاتب الأمراء بني برسق بخوزستان يدعوهم إلى طاعته وكان أخوهم زنكين عند السلطان محمد فقبض عليه وكاتب إخوته في التدبير على منكبرس فأرسلوا إليه بالطاعة حتى جاءهم فقبضوا عليه بخوزستان وبعثوا به إلى أصبهان فاعتقل مع ابن عمه تتش وأطلق زنكين بن برسق وأعيد إلى مرتبته وكانت اقطاع بني برسق الأسير وسابور وخوزستان وغيرها ما بين الأهواز وهمدان فعوضهم عنها بالدينور وأخرجهم من تلك الناحية والله تعالى أعلم.   [1] كذا بياض بالأصل: وفي الكامل ج 10 ص 392: وجمعت التركمان وطلبت بثأر ابن ابنها وحصر سلمان نصيبين، وهي لجكرمش، فسير جكرمش إلى سكمان مالا كثيرا سرا فأخذه ورضي وقيل: أنه قتل في الحرب ولا يعرف قاتله. [2] وفي الكامل بور برس وفي كتب التاريخ الحديثة بربروس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 (مقتل فخر الملك بن نظام الملك) قد ذكرنا قبل أن فخر الملك بن نظام الملك كان وزيرا لتتش ثم حبسه ولما هزمه بركيارق ووجده في محبسه أطلقه وكان أخوه مؤيد الملك وزيرا له فمال إليه فخر الدولة بسعاية مجد الملك الباسلاني واستوزره سنة ثمان وثمانين ثم فارق وزارته ولحق بسنجر بن ملك شاه بخراسان فاستوزره فلما كان في آخر المائة الخامسة جاء باطني يتظلم إلى باب داره فأدخله يسمع شكواه فطعنه بخنجر فقتله وأمر السلطان سنجر بضربه فأقرّ على جماعة من الناس وقتل. ولاية جاولي سكاور [1] على الموصل وموت جكرمش كان جاولي سكاور قد استولى على ما بين خوزستان وفارس فعمر قلاعها وحصنها وأساء السيرة في أهلها فلما استقلّ السلطان محمد بالملك خافه جاولي وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن أنوتكين فتحصن منه جاولي وحاصره مودود ثمانية أشهر ودس جاولي إلى السلطان بطلب غيره فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر فسار إليه بأصبهان وجهزه في العساكر لجهاد الافرنج بالشام واسترجاع البلاد منهم وكان جكرمش صاحب الموصل قد قطع الحمل فأقطع السلطان الموصل وديار بكر والجزيرة لجاولي فسار إلى الموصل وجعل طريقه على بغداد على البواريخ [2] فاسباحها أياما ثم سار إلى أربل وكان صاحبها أبو الهيجاء بن برشك الكردي الهرباني [3] إلى جكرمش يستحثه فسار في عسكر الموصل والقوا قريبا من اريل فانهزم أصحاب جكرمش وكان يحمل في المحفة [4] فقاتل عنده غلمانه وأحمد بن قاروت بك فخرج وانهزم إلى الموصل ومات وجيء بجكرمش فحبسه ووصل من الغد إلى الموصل فولوا ازنكين بن جكرمش وأقام بالجزيرة وقام بأمره غزغلي مولى أبيه وفرّق الأموال والخيول وكتب إلى قلج أرسلان صاحب بلاد الروم ميتا وكان قد شيد الموصل وبنى أسوارها وحصنها بالخندق وبينما هو كذلك سار إليه قلج ارسلان من بلاد الروم باستدعاء غزغلي كما تقدم وانتهى إلى نصيبين فرحل جاولي عن الموصل ثم جاء البرسقي شحنة بغداد   [1] وفي بعض النسخ سكاوو. [2] وفي الكامل البوزيج والأصوب: البوازيج كما في معجم البلدان. [3] وفي الكامل: فأتاه كتاب أبي الهيجاء بن موسك الكردي الهذباني صاحب أربل لذكر استيلاء جاولي على البوازيج. [4] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 423: وأرسل إليه أبو الهجاء عسكره مع أولاده، فاجتمعوا بقرية باكلبا من أعمال أربل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 ونزل عن الموصل وخاطبهم فلم يجيبوه فرجع من يومه وسار قلج ارسلان من نصيبين إلى الموصل وتأخر عنها جاولي إلى سنجار واجتمع ابو الغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش وجاء جريح رضوان بن تتش من الشام على الافرنج [1] فسار إلى الرحبة وبعث أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين واستحلفوه فحلف وجاء إلى الموصل فملكها في منتصف ختام المائة الخامسة وخلع على ابن جكرمش وخطب لنفسه بعد الخليفة وقطع خطبة السلطان محمد وأحسن إلى العسكر وأخذ القلعة من غزغلي فولى جكرمش وأقرّ القاضي أبا محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوريّ على القضاء وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن محمد بن خميس وكان في جملة فلهم أرسلان إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد ومحمد بن حموا صاحب خرتبرت كان إبراهيم ابن نيال ولاة تتش على آمد فبقيت بيده وكان ابن حموا ملك خرتبرت من يد القلادروس ترجمان الروم كانت له الرها وانطاكية فملك سليمان قطلمش انطاكية وبقيت له الرها وخرتبرت وأسلم القلادروس على القيام بأعماله فملك محمد بن حموا خرتبرت وأسلم القلادروس فلما ولى فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف القلادروس عن الرها على يد ملك شاه وأمره عليها ولما سار جاولي إلى الرحبة قاصدا صريخ رضوان بن تتش نزل عليها آخر رمضان من السنة وحاصرها وبها محمد بن السباق من بني شيبان ولاه عليها دقاق فاستبدّ بها وخطب لقلج أرسلان فحاصره جاولي وكتب إلى رضوان يستدعيه ويعده بالمسير معه لدفاع فجاء رضوان وحاصر معه الرحبة ثم دس إلى جاولي جماعة من حامية الأسوار فوثبوا بها وأدخلوا وملك البلد وأبقى على محمد الشيبانيّ وسار معه ثم انّ قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل ولّى عليها ابنه ملك شاه في عسكر ومعه أمير يدبره وسار إلى قتال جاولي ورجع عنه إبراهيم بن نيال إلى بلده آمد من الخابور فبعث إلى بلده في الحشد فعاجله جاولي بالحرب والتقوا في آخر ذي القعدة من السنة وانهزم أصحاب قلج أرسلان على دفاعه وأعاد الخطبة للسلطان واستصفى أصحاب جكرمش ثم سار إلى الجزيرة وبها جيش بن جكرمش ومعه غزغلي من موالي أبيه فحاصره مدّة ثم صالحه على ستة آلاف دينار ورجع إلى الموصل وأرسل ملك شاه من قلج أرسلان إلى السلطان محمد والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] وفي الكامل ج 10 ص 426: فأتاه كتاب الملك رضوان يستدعيه إلى الشام ويقول له: إن الفرنج قد عجز من بالشام عن منعهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 مقتل صدقة بن مزيد ولما استوحش صدقة بن مزيد صاحب الحلة من السلطان محمد سار إليه السلطان وملك أعماله ولقيه صدقة فهزمه السلطان وقتل في المعركة كما ذكرنا ذلك في أخبار صدقة في دولة ملوك الحلة والله سبحانه وتعالى أعلم. (قدوم ابن عمار صاحب طرابلس على السلطان محمد) كان فخر الدولة أبو علي بن عمار صاحب طرابلس استبدّ بها على العبيديين فلما ملك الافرنج سواحل الشام ردّدوا عليها الحصار فضاقت أحوالها فلما انتظم الأمر للسلطان محمد واستقام ملكه قصده فخر الملك بن عمار صريخا للمسلمين بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب وفرق في الجند عطاءهم لستة أشهر ورتب الجامكية في مقاعدهم للقتال وسار إلى دمشق فلقيه طغتكين أتابك وخيم بظاهرها أياما ورحل إلى بغداد فأركب السلطان الأمراء لتلقيه ولم يدخر عنه برا ولا عرامة وكذلك الخليفة وأتحف السلطان بهدايا وذخائر نفيسة وطلب النجدة وضمن النفقة على العسكر فوعده بالنصر وأقام ثم لقي الأمير حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال صدقة وجاولي ثم يسير حسين معه إلى الشام ثم رحل السلطان عن بغداد سنة إحدى وخمسمائة لقتال صدقة واستدعى ابن عمار وهو بالنهروان فودّعه وسار معه الأمير حسين إلى دمشق وكان ابن عمار لما سار عن طرابلس استخلف عليها ابن عمه ذا المناقب فانتقض واجتمع مع أهل طرابلس على إعادة الدولة العلوية وبعثوا إلى الأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على الدولة بمصر بطاعتهم ويسألون الميرة فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليا معه الزاد من الأقوات والسلام فدخل البلد وقبض على أهل ابن عمار وأصحابه واستصفى ذخائرهم وحمل الجميع إلى مصر في البحر. استيلاء مودود بن أبي شكين على الموصل من يد جاولي قد تقدم لنا استيلاء جاولي على الموصل من يد قلج بن أرسلان وابن جكرمش وهلاكهما على يده واستفحل ملكه بالموصل وجعل السلطان محمد ولاية ما يفتحه من البلاد له فقطع الحمل عن السلطان واستنفره لحرب صدقة فلم ينفر معه وداخل صدقة بأنه معه فلما فرغ السلطان من أمر صدقة بعث مودود بن أبي شكين في العساكر وولاه الموصل وبعث معه الأمراء ابن برسق وسقمان القبطي وآق سنقر البرسقي ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 الكردي وأبو الهيجاء صاحب أربل مددا فوصلوا الموصل وخيموا عليها فوجدوا جاولي قد استعدّ للحصار وحبس الأعيان وخرج عن البلد وترك بها زوجته هي وابنه برسق في ألف وخمسمائة مقاتل فأحسن في مصادرة الناس واشتد عليهم الحصار فلما كان المحرم سنة اثنتين خرج بعض الحامية من فرجة من السور وأدخلوا منها مودود والعساكر وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام ثم استأمنت وخرجت إلى أخيها يوسف بن برسق بأموالها واستولى مودود على الموصل وأعمالها وأمّا جاولي فلما سار عن الموصل حمل معه القمص الّذي كان أسر بنعمان وأخذه منه جكرمش وسار به إلى نصيبين وسأل من صاحبها أبو الغازي بن أرتق المظاهر على السلطان فلم يحبه إلى ذلك ورحل عن نصيبين إلى ماردين بعد أن ترك ابنه مقيما مع الحامية فتبعه جاولي ودخل عليه وحده بالقلعة متطارحا عليه فأجابه وسار معه إلى نصيبين إلى سنجار وحاصراها فامتنعت عليهما ثم هرب أبو الغازي ليلا إلى نصيبين وتركه فسار جاولي إلى الرحبة وأطلق القمص بردويل لخمس سنين من الصرّة على مال قرّره عليه وأسرى من المسلمين يطلقهم وعلى النصرة مهما طلبه وأرسله إلى سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاء ابن خالته جوسكر صاحب تل ناشز [1] من زعماء الفرنج وكان أسر مع القمص فافتدى بعشرين ألف دينار وأقام جوسكر رهينة وسار القمص إلى انطاكية ثم أطلق جاولي جوسكر وأخذ رهنا عنه صهره وصهر القمص وبعثه في إتمام ما ضمن ولما وصل إلى انطاكية أعطاه شكري صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلا وسلاحا وغير ذلك وكانت الرها ومروج بيد القمص ولما أسر ملك جكرمش الرها من أصحابه طلبها منه إلآن فلم يجبه فخرج القمص مغاضبا له ولحق بتل ناشز وقدم عليه جوسكر عند ما أطلقه جاولي ثم سار إليهما شكري يعاجلهما قبل اجتماع أمرهما فحاصرهما أياما ورجع القمص وجوسكر على حصون شكري صاحب انطاكية واستمدّ أبو سيل الأرمني صاحب رعيان وكيسوم والقلاع شمالي حلب فأنجدهم بألف فارس وسار إليهم شكري وحضر البترك وشهد جماعة من القسيسين والبطارقة أنّ أسمند خال شكري قال له عند ما ركب البحر إلى بلاده أعد الرها إلى القمص إذا خلص من الأسر فحكم البترك بإعادتها فأعادها تاسع صفر من السنة وعبر القمص الفرات ليرفع إلى جاولي المال والأسرى كما شرط له وكان جاولي لما أطلق القمص سار إلى الرحبة ولقيه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور وكانا مقيمين بعد قتل أبيهما عند سالم بن مالك فاستنجداه ووعداه أن يسير معهما إلى الحلة واتفقوا على تقديم أبي الغازي تكين ثم قدم عليهم أصبهبذ صباوو وقد أقطعه السلطان   [1] وفي نسخة أخرى تل باشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 الرحبة فأشار على جاولي بقصد الشام لخلوها عن العساكر والتجنب عن العراق وطريق السلطان فقبل إشارته وأحصر على الرحبة ثم وفد عليه صريح سالم بن مالك صاحب قلعة جعفر يستغيث به من بني نمير وكان حيوش البصري قد نزل على ابن سالم بالرقّة وملكها وسار إليه رضوان من حلب فصالحه بنو نمير بالمال ورجع عليهم فاستنجد سالم الآن جاولي فجاء وحاصر بني نمير بالرقة سبعين يوما فأعطوه مالا وخيلا ورحل عنهم واعتذر لسالم ثم وصل جاولي الى الأمير حسين بن أتابك قطلغ تكين كان أبوه أتابك السلطان محمد بكنجة فقتلته وتقدم ولده هذا عند السلطان وبعثه مع ابن عمار ليصلح أمر جاولي وتسير العساكر كلها الى الجهاد مع ابن عمار فأجاب جاولي لذلك وقال لحسين سر إلى الموصل ورحّل العساكر عنها وأنا أعطيك ولدي رهينة وتكون الجباية لوال من قبل السلطان فجاء حسين إلى العساكر قبل أن يفتحوها فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه امتنع من الرحيل إلا بإذن من السلطان وأقام محاصرا لها حتى افتتحها وعاد ابن قطلغ إلى السلطان فأحسن الاعتذار عن جاولي وسار جاولي إلى بالس فملكها من أصحاب رضوان بن تتش وقتل جماعة من أهلها فيهم القاضي محمد بن عبد العزيز بن الياس وكان فقيها صالحا ثم سار رضوان بن دقاق لحرب جاولي واستمدّ شكري صاحب انطاكية فأمدّه بنفسه وبعث جاولي إلى القمص بالرها يستمدّه وترك له مال المفاداة فباء إليه بنفسه ولحقه بمنبج وجاء الخبر إلى جاولي باستيلاء مودود وعساكر السلطان على الموصل وعلى خزائنه فاضطرب أمره وانفض عنه كثير من أصحابه منهم زنكي بن آق سنقر وبكتاش وبقي معه أصبهبذ صباوو وبدران بن صدقة وابن جكرمش وانضمّ إليه كثير من المتطوّعة ونزل تل ناشر وأتى عسكر رضوان وشكري وكاد أن يهزمهم لولا أنّ أصحابه ساروا عنه وسار في أتباعهم فأبوا عليه فمضى منهزما وقصد أصبهبذ الشام وبدران بن صدقة قلعة جعفر وابن جكرمش جزيرة ابن عمر وقتل من المسلمين خلق ونهب صاحب انطاكية سوادهم وهرب القمص وجوسكر إلى تل ناشر وكان المنهزمون من المسلمين يمرون بهم فيكرمونهم ويجيزونهم إلى بلادهم ولحق جاولي بالرحبة فلقي بها سرايا مودود صاحب الموصل وخفي عنهم فارتاب في أمره ولم ير الخير له من قصد السلطان محمد ثقة بما ألقى إليه حسين بن قطلغ تكين في شأنه فأوغر في السير ولحق بالسلطان قريبا من أصبهان ونزل حسين بن قطلغ فدخل به إلى السلطان فأكرمه وطلب منه بكتاش ابن عمه تتش واعتقله بأصبهان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 مقتل مودود بن توتكين [1] صاحب الموصل في حرب الافرنج وولاية البرسقي مكانه كان السلطان محمد قد أمر مودودا صاحب الموصل سنة خمس وخمسمائة بالمسير لقتال الإفرنج وأمدّه بسقمان القبطي صاحب ديار بكر وأرمينية واياكي وزنكي ابني برسق أمراء همدان وما جاورها والأمير أحمد بك أمير مراغة وأبو الهيجاء صاحب اربل والأمير أبو الغازي صاحب ماردين وبعث إليه أياز مكانه فسار إلى سنجار وفتحوا حصونا للإفرنج وحاصروا مدينة الرها فامتنعت عليهم وأقام الإفرنج على الفرات بعد أن طرقوا أعمال حلب فعاثوا فيها ثم حاصر العساكر الإسلامية قلعة ناشر فامتنعت ودخلوا إلى حلب فامتنع رضوان من لقائهم فعادوا ومات سقمان القبطي في دلاس فحمله أصحابه في تابوت إلى بلاده واعترضهم أبو الغازي بن أرتق ليأخذهم فهزموه ثم افترقت العساكر بمرض ابن برسق ومسير أحمد ابن صاحب مراغة إلى السلطان لطلب بلاد سقمان القبطي واجتمع قطلغتكين صاحب دمشق بمودود ونزل معه على نهر القاضي وسمع الإفرنج بافتراق العساكر فساروا إلى افاميه وجاء السلطان ابن منقذ صاحب شيراز إلى مودود وقطلغتكين وحصرهما على الجهاد ونزلوا جميعا على شيراز ونزل الفرنج قبالتهم ثم رأوا قوّة المسلمين فعادوا إلى أفامية ثم سار مودود سنة ست إلى الرها وسروج فعاث في نواحيها فكبسه جوسكر صاحب تل ناشر في الإفرنج ونال منه ثم اجتمع المسلمون سنة سبع للجهاد باستنجاد قطلغتكين صاحب دمشق لمودود فاجتمع معه بمنزل صاحب سنجار وأياز بن أبي الغازي وعبروا الفرات إلى قطلغتكين وقصدوا القدس فسار إليهم صاحبها بقزوين ومعه جوسكر صاحب تل ناشر على جيشه ونزلوا الأردن واقتتلوا قريبا من طبرية فانهزم الافرنج وقتل كثير منهم وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن وغنم المسلمون سوادهم ثم لقيهم عسكر طرابلس وانطاكية من الفرنج فاستعانوا بهم وعادوا الحرب ونزلوا في جبل طبرية فحاصرهم فيه المسلمون ثم ساروا فعاثوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا إلى القدس ثم نزلوا دمشق وفرق مودود عساكره ووعدهم العود من قابل للجهاد ودخل دمشق ليستريح عند قطلغتكين فصلى الجمعة في الجامع فطعنه باطني فأثواه وهلك لآخر يومه واتهم قطلغتكين به وقتل الباطني من يومه ولما بلغ الخبر السلطان بقتل مودود ولي   [1] وفي بعض النسخ انوتكين. ومودود بن أبي شكين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 على الموصل وأعمالها آق سنقر البرسقي سنة ثمان وخمسمائة وبعث معه ابنه الملك مسعود في جيش كثيف وأمره بجهاد الإفرنج وكتب إلى الأمراء بطاعته فوصل إلى الموصل واجتمعت إليه عساكر النواحي فيهم عماد الدين زنكي بن آق سنقر ونمير صاحب سنجار وسار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر فأطاعه نائب مودود بها ثم سار إلى ماردين فأطاعه أبو الغازي صاحبها وبعث معه ابنه أياز فسار إلى الرها فحاصرها شهرين ثم ضاقت الميرة على عسكره ثم رحل إلى شميشاط بعد أن خرب نواحي الرها وسروج وشميشاط وكانت مرعش للإفرنج هي وكسوم ورعيان وكان صاحبها كراسك واتفقت وفاته وملكت زوجته بعده فراسلت البرسقي بالطاعة وبعث إليها رسوله فأكرمته وأرجعته إلى البرسقي بالهدايا والطاعة وفرّ عنها كثير من الإفرنج إلى أنطاكية ثم قبض البرسقي على أياز بن أبي الغازي لاتهامه إياه في الطاعة فسار إليه أبو الغازي في العساكر وهزمه واستنقذ ابنه أياز من أسره كما ترى في أخبار دولة أبي الغازي وبنيه وبعث السلطان يهدده فوصل يده بقطلغتكين صاحب دمشق والفرنج وتحالفوا على التظاهر ورجع أبو الغازي إلى ديار بكر فسار إليه قزجان بن مراجا صاحب حمص وقد تفرّق عنه أصحابه فظفر به وأسره وجاء قطلغتكين في عساكره وبعث الى قزجان في إطلاقه فامتنع وهم بقتله فعاد عنه قطلغتكين الى دمشق وكان قزجان قد بعث الى السلطان بخبره وانتظر من يصل في قتله فأبطأ عليه فأطلق أبا الغازي بعد أن توثق منه بالحلف وأعطاه ابنه أياز رهينة ولما خرج سار إلى حلب وجمع التركمان وحاصر قزجان في طلب ابنه إلى أن جاءت عساكر السلطان. مسير العساكر لقتال أبي الغازي وقطلغتكين والجهاد بعدهما ولما كان ما ذكرناه من عصيان أبي الغازي وقطلغتكين على السلطان محمد وقوّة الفرنج على المسلمين جهز السلطان جيشا كثيرا مقدمهم الأمير برسق صاحب همدان ومعه الأمير حيّوش بك والأمير كشغرة وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بقتال أبي الغازي وقطلغتكين فإذا فرغوا منهما ساروا إلى الفرنج فارتجعوا البلاد من أيديهم فساروا لذلك في رمضان من سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرّقة وجاءوا إلى حلب وطلبوا من صاحبها لؤلؤ الخادم ومن مقدم العسكر المعروف بشمس الخواص تسليم حلب بكتاب السلطان في ذلك فتعلل عليهم وبعث إلى أبي الغازي وقطلغتكين بالخبر واستنجدهما فسار إليه في ألفين وامتنعت حلب على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 عساكر السلطان فسار برسق بالعساكر إلى حماة وهي لقطلغتكين فملكها عنوة وسلمها إلى قزجان صاحب حمص بعهد السلطان له بذلك في كل ما يفتحونه من البلاد فثقل ذلك على الأمراء وتخاذلوا وتسلم قزجان حماة بن برسق وأعطاه ابن أبي الغازي ابنه رهينة عنده ثم سار أبو الغازي وقطلغتكين وشمس الخواص الى أنطاكية مستنجدين بصاحبها بردويل وجاءهم بعد ذلك بغدوين صاحب القدس وصاحب طرابلس وغيرهما من الإفرنج واتفقوا على تأخير الحرب إلى انصرام الشتاء واجتمعوا بقلعة أفامية وأقاموا شهرين وانصرم الشتاء والمسلمون مقيمون فوهنت عزائم الإفرنج وعادوا إلى بلادهم وعاد أبو الغازي إلى ماردين وقطلغتكين إلى دمشق وسار المسلمون إلى كفر طاب من بلاد الإفرنج فحاصروه وملكوه عنوة وأسروا صاحبه واستلحموا من فيه ثم ساروا إلى قلعة أفامية فامتنعت عليهم فعادوا إلى المعرة وفارقهم حيوش بك إلى مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرة إلى حلب وقدموا أثقالهم وخيامهم فصادفهم بردويل صاحب أنطاكية في خمسمائة فارس وألفي راجل صريخا لأهل كفر طاب وصادف مخيم العسكر ففتك فيه وفعل الأفاعيل وهم متلاحقون وجاء الأمير برسق وعاين مصارعهم وأشار عليه إخوته بالنجاء بنفسه فنجا بنفسه وأتبعهم الإفرنج ورجعوا عنهم على فرسخ وعاثوا في المسلمين في كلّ ناحية وقتل أياز بن أبي الغازي قتله الموكلون به وجاء أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين ما لم يحتسبوه ويئسوا من النصرة ورجعت العساكر منهزمة إلى بلادها وتوفي برسق زنكي سنة عشر بعدها. ولاية حيوش بك ومسعود بن السلطان محمد علي الموصل ثم أقطع السلطان الموصل وما كان بيد آق سنقر البرسقي للأمير حيوش بك وبعث معه ابنه مسعود وأقام البرسقي بالرحبة وهي اقطاعه إلى أن توفي السلطان محمد. ولاية جاولي سكاوو على فارس وأخباره فيها ووفاته كان جاولي سكاوو لما رجع إلى السلطان محمد ورضي عنه ولاه فارسا وأعمالها وبعث معه ابنه جعفري بك طفلا كما فصل من الرضاع وعهد إليه بإصلاحها فسار إليها ومرّ بالأمير بلداجي في بلاده كليل وسرماة وقلعة إصطخر وكان من مماليك السلطان ملك شاه فاستدعاه للقاء جعفري بك وتقدّم إليه بأن يأمر بالقبض عليه فقبض عليه ونهبت أمواله وكان أهله وذخائره في قلعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 إصطخر وقد استناب فيها وزيره الخيمي ولم يمكنه الّا من بعض أهله فلما وصل جاولي إلى فارس ملكها منه وجعل فيها ذخائر ثم أرسل إلى خسرو وهو الحسين بن مبارز صاحب نسا وأمير الشوامكار من الأكراد فاستدعاه للقاء جعفري بك من السلطان خشية مما وقع لبلداجي فأعرض عنه وأظهر الرجوع إلى السلطان ومضى رسول خبره فبشر بانضافه عن فارس فما أدّى إليه الخبر إلا وجاولي قد خالطهم رجع من طريقه وأوغر في السير إليهم ثم هرب خسرو إلى عمدالج وفتك جاولي في أصحابه وماله ثم سار جاولي إلى مدينة نسا فملكها ونهب جهرم وغيرها وسار إلى خسرو فامتنع عليه بحصنه فرجع إلى شيراز وأقام بها ثم سار إلى كازرون فملكها وحاصر أبا سعيد بن محمد في قلعته مدّة عامين وراسله في الصلح فقتل الرسل مرّتين ثم اشتدّ عليه الحصار واستأمن فأمنه وملك الحصن ثم استوحش من جاولي فهرب وقبض على ولده وجيء به أسيرا فقتل ثم سار جاولي إلى دار بكرد فهرب صاحبها إبراهيم إلى كرمان وصاحبها أرسلان شاه كرمان شاه ابن أرسلان بن قاروت بك فسار جاولي إلى حصار درابكرد فامتنعت عليه فخرج إلى البرية ثم جاءهم من طريق كرمان كاءنة مدد لهم من صاحب كرمان فأدخلوه فملك البلد واستلحم أهله ثم سار إلى كرمان وبعث إلى خسرو مقدّم الشوذكان يستدعيه للمسير معه فلم يحد بدّا من موافقته وجاء وصاحبه الى كرمان وبعث إلى ملك كرمان بإعادة الشواذكان الذين عنده فبعث بالشفاعة فيهم فاستخلص السلطان الرسول بالإحسان وحثه على صاحبه ووعده بأن يرد العساكر عن وجهه ويخذلهم عنه ما استطاع وانقلب عنه إلى صاحبها ففي عساكر كرمان وزيره بالسيرجان فتراءى لهم أنّ جاولي عازم على مواصلتهم وأنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان وأشار عليه بالرجوع فرجعوا وسار جاولي في أثر الرسول وحاصر حصنا بطرف كرمان فارتاب ملك كرمان بخبر الرسول ثم أطلع عليه من غير جامعة فقتله ونهب أمواله وبعث العساكر لقتاله واجتمع معهم صاحب الحصن المحاصر وسلك بهم غير الجادة وسمع جاولي بخبرهم فأرسل بعض الأمراء ليأتيه بالخبر فلم يحد بالجادة أحدا فرجع وأخبره أن عسكر كرمان قد رجع فاطمأنّ ولم يكن الا قليل حتى بيتته عساكر كرمان في شوّال سنة ثمان وخمسمائة فانهزم وفتكوا فيه قتلا وأسرا وأدركه خسرو بن أبي سعد الّذي كان قتل أباه فلما رآهما خاف منهما فآنساه وأبلغاه إلى مأمنه بمدينة نسا ولحقته عساكره وأطلق ملك كرمان الأسرى وجهزهم إليه وبينما هو يجهز العساكر لكرمان لأخذ ثاره توفي جعفري بك ابن السلطان في ذي الحجة من سنة تسع لخمس سنين من عمره فقطعه ذلك عن معاداة كرمان ثم بعث ملك كرمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 إلى السلطان ببغداد في منع جاولي عنه فقال له لا بدّ أن تسلم الحصن إلى حاصره جاولي في حدّ كرمان وانهزم عليه وهو حصن فرح ثم توفي جاولي في ربيع سنة عشر فامنوا إعادته والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة سنة اثنتي عشرة من ملكه بعد أن أجلس ولده محمودا على الكرسي قبل وفاته بعشر ليال وفوّض إليه أمور الملك فلما توفي نفذت وصيته لابنه محمود فأمره فيها بالعدل والإحسان وخطب له ببغداد وكان مناهز الحلم وكان السلطان محمد شجاعا عادلا حسن السيرة وله آثار جميلة في قتال الباطنية قد مرّ ذكرها في أخبارهم ولما ولي قام بتدبير دولته الوزير أبو منصور وأرسل إلى المستظهر في طلب الخطبة ببغداد له في منتصف المحرم من سنة اثنتي عشرة وأقر طهرون شحنة على بغداد وقد كان السلطان محمد ولاه عليها سنة اثنتين وخمسمائة ثم عاد البرسقي وقاتله وانهزم إلى عسكر السلطان محمود على الحلة دبيس بن صدقة وقد كان عند السلطان محمد منذ قتل أبوه صدقة وأحسن إليه وأقطعه وولي على الحلة سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة فلما توفي رغب من ابنه السلطان محمود العود إلى الحلة فأعاده واجتمع عليه العرب والأكراد. وفاة المستظهر وخلافة ابنه المسترشد ثم توفي المستظهر بن المقتدي سنة اثنتي عشرة وخمسمائة منتصف ربيع الآخر ونصب للخلافة ابنه المسترشد واسمه الفضل وقد تقدّم ذلك في أخبار الخلفاء. خروج مسعود ابن السلطان محمد على أخيه محمود تقدّم لنا أنّ السلطان ولى على الموصل ابنه مسعودا ومعه حيوس بك وان السلطان محمود اودبيس بن صدقة سارا إلى الحلة فلما توفي السلطان محمد وولي ابنه محمود سار مسعود من الموصل مع أتابك حيوس بك ووزيره فخر الملك على بن عمار وقسيم الدولة وزنكي بن آقسنقر صاحب سنجار وأبي الهيجاء صاحب أربل وكرباوي بن خراسان صاحب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 المواريح [1] وقصدوا الحلة فدافعهم دبيس فرجعوا إلى بغداد وسار البرسقي إلى قتالهم فبعث إليه حيوس بك بأنهم إنما جاءوا لطلب الصريخ على دبيس صاحب الحلة فاتفقوا وتعاهدوا ونزل مسعود بدار الملك ببغداد وجاء الخبر بوصول عماد الدين منكبرس الشحنة وقد كان البرسقي هزم ابنه حسينا كما مر فسار بالعساكر إلى البرسقي فلما علم بدخول مسعود إلى بغداد عبر دجلة من النعمانية إلى دبيس بن صدقة فاستنجده وخرج مسعود وحيوس بك والبرسقي ومن معهم للقائهم وانتهوا إلى المدائن فأتتهم الأخبار بكثرة جموع منكبرس ودبيس فرجعوا وأجازوا نهر صرصر ونهبوا السواد من كل ناحية وبعث المسترشد إلى مسعود والبرسقي [2] والحث على الموادعة والصلح وجاءهم الخبر بأنّ منكبرس ودبيس بعثا مع منصور أخي دبيس وحسين بن أرز [3] وبني منكبرس عسكرا لحماية بغداد فرجع البرسقي إلى بغداد دليلا ومعه زنكي بن آق سنقر وترك ابنه عز الدين مسعودا على العسكر بصرصر فالتقى [4] ومنع عسكر منكبرس من العبور وأقام يومين ثم وافاه كتاب ابنه بأن الصلح تمّ بين الفريقين بعده ففشل وعبر إلى الجانب الغربي ومنصور وحسين في أثره ونزلا عند جامع السلطان وخيم البرسقي عند القنطرة القبلية وخيم مسعود وحيوس بك عند المارستان ودبيس ومنكبرس تحت الرقة وعز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفردا عن أبيه وكان سبب انعقاد الصلح أن حيوس بك أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود فأقطعهما أذربيجان ثم وصل الخبر بمسيرهما إلى بغداد فاستشعر منهما العصيان وجهز العساكر الى الموصل فكتب إليه رسوله بذلك ووقع الكتاب بيد منكبرس الشحنة فبعث إليه وضمن له إصلاح الحال له وللسلطان مسعود وكان منكبرس متزوّجا بأم السلطان مسعود واسمها سر جهان فكان يؤثر مصلحته فاستقر الصلح واتفقوا على إخراج البرسقي من بغداد إلى الملك وأقام عنده واستقر منكبرس شحنة بغداد وساء أثره في الرعية وتعرض لأموال الناس وحرمهم وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فاستدعاه إليه فبقي يدافع ثم سار خوفا من عامة بغداد والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] وفي بعض النسخ البوازيج. [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 540: فأرسل المسترشد باللَّه إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال ويأمرهم بحقن الدماء وترك الفساد. [3] الأمير حسين بن أزبك ربيب منكبرس. [4] كذا بياض بالأصل وفي الكامل، واستحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر فوصل إلى ديالى، ومنع عسكر منكبرس من العبور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 خروج الملك طغرل [1] على أخيه السلطان محمود كان الملك طغرل بن السلطان محمد عند وفاة أبيه مقيما بقلعة سر جهان وكان أبوه أقطعه سنة أربع سماوة وآوة وزنجان وجعل أتابك الأمير شيركير الّذي حاصر قلاع الإسماعيلية كما مرّ في أخبارهم وكان عمره يومئذ عشرا فأرسل السلطان محمد الأمير كسعدي أتابكا له وأعجله إليه وكان كسعدي حاقدا عليه فحمل طغرل على العصيان ومنعه من المجيء إلى أخيه وانتهى ذلك إلى محمود فأرسل إلى أخيه بتحف وخلع وثلاثين ألف دينار ومواعد جميلة فلم يصيخوا إليها وأجابه كسعدي [2] إننا في الطاعة ومعترضون لمراسم الملك فسار إليهم السلطان مغذا ليكبسهم وجعل طريقه على قلعة شهران التي فيها ذخائر طغرل وأمواله ونما الخبر إلى طغرل وكسعدي فخرجا من العسكر في خفية قاصدين شهران وأخلى الطريق عنها لما سبق من اللطف فوقعا على قلعة سرجهان وجاء السلطان إلى العسكر فأخذ خزائن أخيه طغرل وفيها ثلاثمائة ألف دينار ثم أقام بزنجان أياما ولحق منها بالريّ ولحق طغرل وكسعدي بكنجة واجتمع إليه أصحابه وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه. فتنة السلطان محمود مع عمه سنجر ولما توفي السلطان محمد بلغ الخبر إلى أخيه سنجر بخراسان أظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله حتى جلس للعزاء على الرماد وأغلق بابه سبعا ثم سمع بولاية ابنه محمود فنكر ذلك وعزم على قصد بلاد الجبل والعراق وطلب السلطنة لنفسه مكان أخيه وكان قد سار إلى غزنة سنة ثمان وخمسين وفتحها وتنكر لوزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر ابن نظام الملك لما بلغه أنه أخذ عليه الرشوة من صاحب غزنة ليثنيه عن قصده إليه وفعل مثل ذلك بما وراء النهر وامتحن أهل غزنة بعد فتحها وأخذ منها أموالا عظيمة وشكا إليه الأمراء اهانته إياهم فلما عاد إلى بلخ قبض عليه وقتله واستصفى أمواله وكانت لا يعبر عنها كان فيها من العين وحده ألف دينار مرتين واستوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك وكان يعرف بابن الفقير فلما مات أخوه السلطان محمد عزم على طلب الأمر   [1] وبعض النسخ طغرل [2] ورد اسمه في الكامل كنتغدي ج 10 ص 347. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 لنفسه وعاوده الندم على قتل وزيره أبي جعفر لما يعلم من اضطجاعه بمثلها ثم انّ السلطان محمود أبعث إليه يصطنعه بالهدايا والتحف وضمن له ما يزيد عن مائتي ألف دينار كل سنة وبعث في ذلك شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغرل فقال لهما سنجر أن ابن أخي صغير وقد تحكم عليه وزيره وعلي بن عمر الحاجب فلا بدّ من المسير وبعث في مقدمته الأمير أنزوسار السلطان محمود وبعث في مقدّمته الحاجب علي بن محمد وكان حاجب أبيه قبله فلما تقاربت المقدّمتان بعث الحاجب علي بن عمر إلى الأمير أنز وهو بجرجان بالعتاب ونوع من الوعيد فتأخر عن جرجان فلحقته بعض العساكر ونالوا منه ورجع الحاجب إلى السلطان محمود بالري فشكر له فعله وأقاموا بالري ثم ساروا إلى كرمان وجاءته الإمداد من العراق مع منكبرس ومنصور بن صدقة أخي دبيس وأمراء فسار إلى همدان وتوفي وزيره الربيب فاستوزر أبا طالب الشهيري ثم سار السلطان في عشرين ألفا وثمانية عشر فيلا ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد والأمير أنز والأمير قماج وكرشاسف بن ضرام بن كاكويه صاحب برد وهو صهره على أخته وكان خصيصا بالسلطان محمد فاستدعاه بعد موته سنجر وتأخر عنه وأقطع بلده لقراجا السامر فبادر إليه وتراجعوا بقرب ساوة في جمادى ثالث عشرة فسبقت عساكر السلطان محمود إلى الماء من أجل المسافة التي بين ساوة وخراسان وكانت عساكر السلطان ثلاثين ألفا ومعه الحاجب علي بن عمر ومنكبرس وأتابك غزغلي وبنو برسق وآق سنقر البحاري وقراجا الساني ومعه سبعمائة حمل من السلاح فعند ما اصطفوا إلى الحرب انهزم عساكر السلطان سنجر ميمنة وميسرة وثبت هو في القلب والسلطان محمود قبالته وحمل السلطان سنجر في الفيلة فانهزمت عساكر السلطان محمود واسر أتابك غزغلي وكان يكاتب السلطان سنجر بأنه يحمل إليه ابن أخيه فعاتبه على ذلك ثم قتله ونزل سنجر في خيام محمود واجتمع إليه أصحابه ونجا محمود من الواقعة وأرسل دبيس ابن صدقة للمسترشد في الخطبة لسنجر فخطب له أواخر جمادى الأولى من السنة وقطعت خطبة محمود ثم أنّ السلطان سنجر رأى قلة أصحابه وكثرة أصحاب محمود فراسله في الصلح وكانت تحضه على ذلك فامتنع ولحق البرسقي بسنجر وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من يوم خروجه من بغداد فسار سنجر من همدان إلى الكرخ وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح ووعده بولاية عهده فأجاب وتحالفا على ذلك وسار محمود إلى عمه سنجر في شعبان بهدية حافلة ونزل على جدته فتقبل منه سنجر وقدّم له خمسة أفراس عربية وكتب لعماله بالخطبة لمحمود بعده في جميع ولايته وإلى بغداد بمثل ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 وأعاد عليه جميع ما أخذه من بلاده سوى الريّ وصار محمود في طاعة عمه سنجر ثم سار منكبرس عن السلطان محمود إلى بغداد وبعث دبيس بن صدقة من منعه من دخولها فعاد ووجه الصلح بين الملكين قد أسفر فقصد السلطان سنجر مستجيرا به من الاستبداد عليه ومسيره لشحنة بغداد من غير إذنه ثم أنّ الحاجب علي بن عمر ارتفعت منزلته في دولته وكثرت سعاية الأمراء فيه فأضمر السلطان نكبته فاستوحش وهرب إلى قلعة له كان ينزل بها أهله وأمواله وسار منها إلى خوزستان وكانت بنو برسق اسوري وابن أخويه ارغوي بن ملتكى وهدد بن زنكي [1] بعثوا عسكرا يصدّونه عن بلادهم ولقوة قريبا من تستر فهزموه وجاءوا به أسيرا وكاتبوا السلطان محمودا بأمره فأمرهم بقتله وحمل رأسه إليه ثم أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الذين تهدّدوا إلى شحنة بغداد فعاد إليها وعزل نائب دبيس بن صدقة [2] . استبداد علي بن سكمان بالبصرة كان السلطان محمد قد أقطع البصرة للأمير آقسنقر البخاري واستخلف عليها سنقر الشامي فأحسن السيرة فلما توفي السلطان محمد وثب عليه غزغلي مقدّم الأتراك الإسماعيلية وكان يحج بالناس منذ سنين وسنقر ألبا وملكا البصرة من يده وحبساه وذلك سنة احدى عشرة وهمّ سنقر البا بقتله فعارضه غزغلي فلم يرجع وقتله فقتله غزغلي به وسكن الناس وكان بالبلد أمير اسمه علي بن سكمان حج بالناس وغاب عن هذه الواقعة فغصّ به غزغلي لتمام الحج على يده وخشي أن يثأر منهم بسنقر البا لتقدّمه عليهم فأوغر الى عرب البرية فنهب الحاج [3] وانثنى علي بن سكمان في الدفاع عنهم الى أن قارب البصرة والعرب يقاتلونه فبعث اليه غزغلي بالمنع من البصرة فقصد القرى أسفل دجلة وصدق الحملة على العرب فهزمهم ثم سار اليه غزغلي وقاتله فأصابه سهم فمات وسار علي بن سكمان الى البصرة وملكها وكاتبه آقسنقر البخاري صاحب عمان بالطاعة واقترنوا به على أعماله وكان عند السلطان وطلبه أن يوليه البصرة فأبى وبقي ابن سكمان مستبدا بالبصرة الى أن بعث السلطان آق سنقر البخاري الى البصرة سنة أربع   [1] كذا الأصل وفي الكامل ج 10 ص 557: وكانت بيراقبوري بن برسق وابني أخويه أرغلي بن يلبكي وهندو بن زنكي. [2] كذا في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 560 أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز إلى شحنكية الطرق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة فعزل عنها. [3] توصل لفرض فاسد بلحوف ضرر لحجاج بيت الله الحرام فلم يتم له ذلك الغرض وحالت المنية دون الامنية- (من خط الشيخ العطار) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 عشرة فملكها علي بن سكمان. استيلاء الكرج على تفليس كان الكرج قديما يغيرون على أذربيجان وبلاد ارّان قال ابن الأثير والكرج هم الخزر وقد بينا الصحيح من ذلك عند ذكر الأنساب وأن الخزر هم التركمان [1] الا أن يكون الكرج من بعض شعوبهم فيمكن ولما استفحل ملك السلجوقية أمسكوا عن الاغارة على البلاد المجاورة لهم فلما توفي السلطان محمد رجعوا الى الغارة فكانت سراياهم وسرايا القفجاق تغير على البلاد ثم اجتمعوا وكانت بلد الملك طغرل وهي ارّان ونقجوان الى أوس مجاورة لهم فكانوا يغيرون عليها الى العراق لملك بغداد ونزل على دبيس ابن صدقة فسار هو وأتابك كبغري ودبيس بن صدقة وأبي الغازي بن أرتق وسار في ثلاثين ألفا الى الكرج والقفجاق فاضطرب المسلمون وانهزموا وقتل منهم خلق وتبعهم الكفار عشرة فراسخ وعادوا عنهم وحاصروا مدينة تفليس وأقاموا عليها سنة وملكوها عنوة سنة خمس عشرة [2] ووصل صريخهم سنة ست عشرة الى السلطان محمود بهمدان فسار لصريخهم وأقام بمدينة تبريز وانفذ عساكره الى الكرج فكان من أمرها ما يذكر ان شاء الله تعالى. الحرب بين السلطان محمود وأخيه مسعود قد تقدّم لنا مسير مسعود الى العراق وموت أبيه السلطان محمد وما تقرّر بينهما من الصلح ورجوعه الى الموصل بلده وان السلطان محمودا زاده آذربيجان ولحق به قسيم الدولة البرسقي عند ما طرده عن شحنة بغداد فأقطعه مسعود مراغة مضافة الى الرحبة وكاتب دبيس حيوس بك أتابك مسعود يحرضه على نكبة البرسقي وانه يباطن السلطان محمودا ووعده على ذلك بالأموال وحرضهم على طلب الأمر لمسعود ليقع الاختلاف فيحصل له علو الكلمة كما حصل لأبيه في فتنة بركيارق ومحمد وشعر البرسقي بسعاية دبيس فخشي على نفسه ولحق بالسلطان محمود فقبله وأعلى محله ثم اتصل بالملك مسعود الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي   [1] الصحيح ان الكرج من الأرمن، واما الخزر فهم يعدون من الأتراك، والآن اختلطوا مع الروم لقرب الديار والتغلب عليهم. [2] كانت تفليس داخلة في الفتح الإسلامي، واستمرت بيد المسلمين الى هذا الحد، وبعد أخذها بقيت بيد الكرج واتخذوها مقر- (من خطه أيضا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الأصبهاني الطغرائي [1] وكان ابنه أبو الوليد محمد بن أبي إسماعيل يكتب الطغري للملك مسعود فلما وصل أبوه استوزره مسعود وعزل أبا علي بن عمار صاحب طرابلس سنة ثلاث عشرة فأغري مسعودا بالخلاف على أخيه السلطان محمود فكتب اليهم السلطان بالترغيب والترهيب فأظهروا أمرهم وخاطبوا الملك مسعودا بالسلطان وضربوا له النوب الخمس واغزّوا اليه السير وهو في خف من العسكر فسار اليهم في خمسة عشر ألفا وفي مقدّمته البرسقي ولقيهم بعقبة أستراباذ منتصف ربيع الأول سنة أربع عشرة فانهزم الملك مسعود وأصحابه وأسر جماعة من أعيانهم منهم الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي وزير الملك مسعود فأمر السلطان محمود بقتله وقال ثبت عندي فساد عقيدته وكان قتله لسنة من وزارته وكان كاتبا شاعرا يميل الى صناعة الكيمياء وله فيها تصانيف معروفة ولما انهزم الملك مسعود لحق ببعض الجبال على اثني عشر فرسخا من المعركة فاختفى فيه مع غلمان صغار وبعث يستأمن من أخيه فأرسل اليه آق سنقر البرسقي يؤمنه ويجيء به إليه وخالفه إليه بعض الأمراء فحرضه على اللحاق بالموصل وآذربيجان ومكاتبة دبيس ومعاودة الحرب فسار معه لذلك وجاء البرسقي الى مكانه الأوّل فلم يحده فاتبعه الى أن أدركه على ثلاثين فرسخا وأعلمه حال أخيه من الرضا عنه وأعاده فرجع ولقيه العساكر بأمر السلطان محمود وأنزله عند أمه ثم أحضره وهش له وبكى وخلطه بنفسه وذلك لثمانية وعشرين يوما من الخطبة بآذربيجان وأما حيوس بك الاتابك فافترق من السلطان من المعركة وسار الى الموصل وجمع الغلال من سوادها واجتمعت اليه العساكر وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار الى الزاب موريا بالصيد ثم أجدّ السير الى السلطان بهمدان فأمنه وأحسن اليه وبلغ الخبر بالهزيمة الى دبيس وهو بالعراق فنهب البلاد وأخربها وبعث اليه السلطان فلم يصغ الى كتابه. ولاية آقسنقر البرسقي على الموصل ثم على واسط وشحنة العراق ولما وصل حيوس بك الى السلطان محمود بعثه الى أخيه طغرل وأتابك كبغري فسار الى كنجة وبقي أهل الموصل فوضى من غير وال وكان آقسنقر البرسقي قد أبلى في خدمة السلطان محمود وردّ اليه أخاه مسعودا يوم الهزيمة فعرف له حق نصحه وحسن أثره فأقطعه الموصل وأعمالها   [1] وهو صاحب اللامية المشهورة بلامية المعجم، وهي من فرائد الشعر مملوءة حكما وأمثالا. يقال ان الطغرائي كان من الواصلين في علم الكيمياء- (من خط الشيخ العطار) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وما يضاف اليها كسنجار والجزيرة فسار اليها سنة خمس عشرة وتقدّم الى سائر الأمراء بطاعته وأمره بمجاهدة الافرنج واسترجاع البلاد منهم فوصل الى الموصل وقام بتدبيرها وإصلاح أحوالها ثم أقطعه سنة ست عشرة بعدها مدينة واسط وأعمالها مضافة الى الموصل وجعله شحنة بالعراق فاستخلف عماد الدين زنكي بن آقسنقر وبعثه اليها فسار اليها في شعبان من السنة. مقتل حيوس بك والوزير الشهيرمي ثم انّ السلطان بعد وصول حيوس بك بعثه لحرب أخيه طغرل كما قلناه وأقطعه أذربيجان فتنكر له الأمراء وأغروا به السلطان فقتله على باب هرمز في رمضان سنة عشر وأصله تركي من موالي السلطان محمد وكان عادلا حسن السيرة ولما ولى الموصل والجزيرة وكان الأكراد بتلك الأعمال انتشروا وكثرت قلاعهم وعظم فسادهم فقصدهم وفتح كثيرا من قلاعهم كبلد البكارية [1] وبلد الزوزن وبلد النكوسة وبلد التخشيبة وهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق وصلحت السابلة وأمن الناس وأمّا الوزير الكمال أبو طالب الشهيرمي فإنه برز مع السلطان دبيس الى همدان وخرج في موكبه وضاق الطريق فتقدّم الموكب بين يديه فوثب عليه باطني وطعنه بسكين فأنفذه واتبعه الغلمان فوثب عليه آخر فجذبه عن سرجه وطعنه طعنات وشرّدهم الناس عنه فوثب آخر فجذبه وذلك لأربع سنين من وزارته وكان سيّئ السيرة ظلوما غشوما كثير المصادر ولما قتل رفع السلطان ما كان أحدث من المكوس. رجوع طغرل الى طاعة أخيه السلطان محمود قد ذكرنا عصيان طغرل على أخيه السلطان محمود بالريّ سنة ثلاث عشرة وأنّ السلطان محمود سار اليه وكبسه فلحق بر جهان ثم لحق منها بكنجة وبلاد أرّان ومعه أتابك كبغري [2] فاشتدّت شوكته وقصد التغلب على بلاد آذربيجان وهلك كبغري في شوّال سنة خمس عشرة ولحق بأقسنقر الارمني صاحب مراغة ليقيم له الاتابكية وحرّضه على قتال السلطان محمود فسار معه الى مراغة ومروا بأردبيل فامتنعت عليهم فساروا الى هرمز وجاءهم الخبر   [1] وفي بعض النسخ الهكارية. [2] وفي الكامل ج 10 ص 567: كنتغدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 هنالك بأنّ السلطان محمود بعث الأمير حيوس بك الى أذربيجان وأقطعه البلاد وأنه وصل الى مراغة في عسكر كثيف فساروا عن هرمز الى خونج وانتقض عليهم وراسلوا الأمير بشيركين [1] الّذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يستنجد به وكان كبغري الاتابك قبض عليه بعد السلطان محمد ثم أطلقه السلطان سنجر وعاد الى أبهر وزنجان وكانت أقطاعه فأجاب داعيهم وسار أمامهم الى أبهر ولم يتم أمرهم فراسلوا السلطان في الطاعة وعاد طغرل الى أخيه وانتظم أمرهم. مقتل وزير السلطان محمود كان وزير السلطان محمود شمس الملك بن نظام الملك وكان حظيا عنده فكثرت سعاية أصحابه فيه وكان ابن عمه الشهاب أبو المحاسن وزير السلطان سنجر فتوفي واستوزر سنجر بعده أبا طاهر القمي عدوا لبني نظام الملك فأغرى السلطان سنجر حتى أمر السلطان محمود بنكبته فقبض عليه ودفعه الى طغرل فحبسه بقلعة جلجلال [2] ثم قتله بعد ذلك وكان أخوه نظام الدين أحمد قد استوزره المسترشد وعزل به جلال الدين أبا علي بن صدقة فلما بلغه نكبة شمس الملك ومقتله عزل أخاه نظام الدين وأعاد ابن صدقة الى وزارته والله سبحانه وتعالى أعلم. ظفر السلطان بالكرج ثم وفد سنة سبع عشرة على السلطان محمود جماعة من أهل دنباوند وشروان يستصرخونه على الكرج ويشكون ما يلقون منهم فسار لصريخهم ولما تقارب الفئتان همّ السلطان بالرجوع وأشار به وزيره شمس وتطارح عليه أهل شروان فأقام وباتوا على وجل ثم وقع الاختلاف بين الكرج وقفجاق واقتتلوا ليلتهم ورحلوا منهزمين وعاد السلطان الى همدان والله تعالى أعلم.   [1] وفي بعض النسخ الأمير شيركير. [2] كذا في الأصل وفي الكامل ج 10 ص 614: فبعثه الى بلدة خلخال فحبسه فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 عزل البرسقي عن شحنة العراق وولاية برتقش الزكوي كان الخليفة المسترشد قد وقعت بينه وبين دبيس بن صدقة حروب شديدة بنواحي المباركة من أطراف غانة وكان البرسقي معه وانهزم دبيس فيها هزيمة شنيعة كما مرّ في أخباره وقصد غزنة صريخا فلم يصرخوه فقصد المنتفق وسار بهم الى البصرة فدخلوها واستباحوها وقتلوا سلمان نائبها فأرسل الخليفة الى البرسقي بالنكير على إهمال أمر دبيس حتى فتك في البصرة فسار البرسقي اليه وهرب دبيس فلحق بالافرنج وجاء معهم لحصار حلب فامتنعت فلحق بطغرل ابن السلطان محمد يستحثه لقصد العراق كما مر ذلك في أخبار دبيس وبقيت في نفس المسترشد عليه ولحق بها أمثالها فتنكر له وبعث الى السلطان محمود في عزله فعزله وأمره بالعود الى الموصل لجهاد الافرنج ووصل نائب برتقش الى بغداد وأقام بها الشحنة وبعث السلطان ابنا له صغيرا ليكون معه على الموصل وسار البرسقي به ووصل الموصل وقام بولايتها. بداية أمر بني آقسنقر وولاية عماد الدين زنكي على البصرة كان عماد الدين زنكي في جملة البرسقي ولما أقطعه السلطان واسط بعث عليها زنكي فأقام فيها أياما ثم كان مسير البرسقي الى البصرة في أتباع دبيس فلما هرب دبيس عنها بعث البرسقي اليها عماد الدين زنكي فأقام بحمايتها ودفع العرب عنها ثم استدعاه البرسقي عند ما سار الى الموصل فضجر من تلوّن الأحوال عليه واختار اللحاق بأصبهان [1] فقدم عليه بأصبهان فأكرمه السلطان وأقطعه البصرة وعاد اليها سنة ثمان عشرة والله تعالى أعلم. استيلاء البرسقي على حلب لما سار دبيس الى الافرنج حرّضه على حلب وان ينوب فيها عنهم ووجدهم قد ملكوا مدينة صور وطمعوا في بلاد المسلمين وساروا مع دبيس الى حلب فحاصروها حتى جهد أهلها الحصار وبها يومئذ تأس بن [2] ابن ارتق فاستنجد بالبرسقي صاحب الموصل وشرط عليهم ان يمكنوه من القلعة ويسلموها الى نوابه وسار الى انجادهم فاجفل عنهم   [1] وفي بعض النسخ: أصفهان. [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 623: حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي بن ارتق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 الافرنج ودخل الى حلب فأصلح أمورها ثم سار الى كفر طاب فملكها من الافرنج ثم سار الى قلعة إعزاز من أعمال حلب وصاحبها جوسكين فحاصرها وسارت اليه عساكر الافرنج فانهزم وعاد الى حلب فخلف فيها ابنه مسعودا وعبر الفرات الى الموصل. مسير طغرل ودبيس الى العراق ولما ارتحل الافرنج عن حلب فارقهم دبيس ولحق بالملك طغرل فتلقاه بالكرامة والميرة وأغراه بالعراق وضمن له ملكه فساروا لذلك سنة تسع عشرة وانتهوا الى دقوقا فكتب مجاهد الدين بهرام بن تكريت الى المسترشد يخبرهم فتجهز للقائهم وأمر برتقش الزكوي ان يتجهز معه [1] خامس صفر وانتهى الى الخالص وعدل طغرل ودبيس الى طريق خراسان ثم نزلوا رباط جلولاء ونزل الخليفة بالدسكرة وفي مقدّمته الوزير جلال الدين بن صدقة وسار دبيس الى جسر النهروان لحفظ المقابر وقد كان رأيه مع طغرل أن يسير طغرل الى بغداد فيملكها وتقدّم دبيس في انتظاره فقعد به المرض عن لحاقه وغشيتهم أمطار أثقلتهم عن الحركات وجاء دبيس الى النهروان طريحا من التعب والبرد والجوع واعترضوا ثلاثين حملا للخليفة جاءت من بغداد بالملبوس والمأكول فطعموا وأكلوا وناموا في دفء الشمس وإذا بالمسترشد قد طلع عليهم في عساكره بلغه الخبر بأن دبيسا وطغرل خالفوه الى بغداد فاضطرب عسكره واجفلوا راجعين الى بغداد فلقوا في طريقهم دبيسا كما ذكرنا على دبال غرب النهروان وقف الخليفة عليه فقبل دبيس الأرض واستعطف حتى همّ الخليفة بالعفو عنه ثم وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه ووقف دبيس مع برتقش الزكوي يحادثه ثم شغل الوزير بمدّ الجسر للعبور فتسلل دبيس ولحق بطغرل وعاد المسترشد الى بغداد ولحق طغرل ودبيس بهمدان فعاثوا في أعمالها وصادروا أهلها وخرج اليهم السلطان محمود فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر بخراسان شاكين من المسترشد برتقش الشحنة والله أعلم بغيبه وأحكم.   [1] كذا بياض بالأصل: وفي الكامل ج 10 ص 626 وامر يرنقش الزكويّ شحنة العراق ان يكون مستعدا للحرب. وجمع العساكر والأمراء البكجيّة وغيرهم فبلغت عدة العساكر اثني عشر الفا سوى الرجالة وأهل بغداد، وفرق السلاح وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة ورجّالة ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 مقتل البرسقي وولاية ابنه عز الدين على الموصل ثم ان المسترشد تنكر للشحنة برتقش وتهدّده فلحق بالسلطان محمود في رجب سنة عشرين فأغراه بالمسترشد وخوفه غائلته وانه تعود الحروب وركب العيث ويوشك أن يمتنع عنك ويستصعب عليك فاعتزم السلطان على قصد العراق وبعث اليه الخليفة يلاطفه في الرد لغلاء البلاد وخرابها ويؤخره الى حين صلاحها فصدق عنده حديث الزكوي وسار مجدّا فعبر المسترشد بأهله وولده وأولاد الخلفاء الى الجانب الغربي في ذي القعدة راحلا عن بغداد والناس باكون لفراقه وبلغ ذلك الى السلطان فشق عليه وأرسل يستعطفه في العود الى داره فشرط عليه الرجوع عن العراق في القوت كما شرط أوّلا فغضب السلطان وسار نحو بغداد والخليفة بالجانب الغربي ثم أرسل خادمه عفيفا الى واسط يمنع عنها نواب السلطان فسار اليه عماد الدين زنكي من البصرة وهزمه وفتك في عسكره قتلا وأسرا وجمع المسترشد السفن اليه وسد أبواب قصره ووكل حاجب الباب ابن الصاحب بدار الخلافة ووصل السلطان الى بغداد في عشر من ذي الحجة ونزل باب الشماسية وأرسل المسترشد في العود والصلح وهو يمتنع وجرت بين العسكرين مناوشة ودخل جماعة من عسكر السلطان الى دار الخليفة ونهبوا التاج أوّل المحرّم سنة احدى وعشرين وخمسمائة فضج العامة لذلك ونادوا بالجهاد وخرج المسترشد من سرادقه ينادي بأعلى صوته وضربت الطبول ونفخت البوقات ونصب الجسر وعبر الناس دفعة وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب في دور الخلافة والأمراء وكان في دار الخلافة ألف رجل كامنون في السرداب فخرجوا عند ذلك ونالوا من عسكر السلطان وأسروا جماعة من أمرائه ونهب العامة دور وزير السلطان وأمرائه وحاشيته ومثل منهم خلق وعبر المسترشد الى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد ودفع السلطان وعسكره عن بغداد وحفر عليها الخنادق واعتزموا على كبس السلطان فأخافهم أبو الهيجاء الكردي صاحب اربل ركب للقتال فلحق بالسلطان ووصل عماد الدين زنكي من البصرة في جيش عظيم في البرّ والبحر أذهل الناس برؤيته فحام المسترشد عن اللقاء وتردّد الرسل بينهما فأجاب الى الصلح وعفا السلطان عن أهل بغداد وأقام بها الى عاشر ربيع الآخر وأهدى اليه المسترشد سلاحا وخيلا وأموالا ورحل الى همدان وولى زنكي بن آقسنقر شحنة بغداد ثقة بكفايته واستقامت أحواله مع الخليفة وأشار به أصحابه ورأوا أنه يرقع الخرق ويصلح الأمر فولاه على ذلك مضافا الى ما بيده من البصرة وواسط وسار الى همدان وقبض في طريقه على وزيره أبي القاسم علي بن الناصر الشادي اتهمه بممالأة المسترشد لكثرة سعيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 في الصلح فقبض عليه واستدعى شرف الدولة أنوشروان بن خالد من بغداد فلحقه بأصبهان في شعبان واستوزره عشرة أشهر ثم عزله ورجع الى بغداد وبقي أبو القاسم محبوسا الى أن جاء السلطان سنجر الى الريّ فأطلقه وأعاده الى وزارة السلطان محمود آخر اثنتين وعشرين. وفاة عز الدين بن البرسقي وولاية عماد الدين زنكي على الموصل وأعمالها ثم استيلاؤه على حلب ولما استولى عز الدين على الموصل وأعمالها واستفحل أمره طمحت همته الى الشام فاستأذن السلطان في المسير اليه وسار الى دمشق ومرّ بالرحبة فحاصرها وملكها ثم مات اثر ذلك وهو عليها وافترقت عساكره وشغلوا عن دفنه ثم دفن بعد ذلك ورجعت العساكر الى الموصل وقام بالأمر مملوكه جاولي ونصب أخاه الأصغر وأرسل الى السلطان يطلب تقرير الولاية له وكان الرسول في ذلك القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي الشهرزوريّ وصلاح الدين محمد الباغسياني أمير حاجب البرسقي واجتمعا بنصير الدين جعفر مولى عماد الدين زنكي وكان بينه وبين صلاح الدين سر فخوفهما جعفر ابن جاولي وحملهما على طلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنه الولايات والاقطاع فأجابوه وجاء بهما الى الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد فقالا له انّ الجزيرة والشام قد تمكن منهما الافرنج من حدود ماردين الى عريش مصر وكان البرسقي يكفهم وقد قتل وولده صغير ولا بد للبلد ممن يضطلع بأمرها ويدفع عنها وقد خرجنا عن النصيحة إليكم فبلغ الوزير مقالتهما الى السلطان فأحضرهما واستشارهما فذكر جماعة منهم عماد الدين زنكي وبذلا عنه مقربا الى خزانة السلطان مالا جزيلا فولاه السلطان لما يعلم من كفايته وولى مكانه شحنة العراق مجاهد الدين بهروز صاحب تكريت وسار عماد الدين زنكي فبدأ بالبوازيج وملكها ثم سار الى الموصل وتلقاه جاولي مطيعا وعاد الى الموصل في خدمته فدخلها في رمضان وأقطع جاولي الرحبة وبعثه اليها وولى نصير الدين جعفرا قلعة الموصل وسائر القلاع وجعل صلاح الدين محمد الباغسياني أمير صاحب وولى بهاء الدين الشهرزوريّ قضاء بلاده جميعا وزاده أملاكا وأقطاعا وشركه في رأيه ثم سار الى جزيرة ابن عمر وقد امتنع بها مماليك البرسقي فجدّ في قتالهم وكانت دجلة تحول بينه وبين البلد فعبر بعسكره الماء سبحا واستولى على المسافة التي بين دجلة والبلد وهزم من كان فيها من الحامية حتى أحجزهم بالبلد وضيق حصارهم فاستأمنوا وأمنهم ثم سار الى نصيبين وهي لحسام الدين تمرتاش ابن أبي الغازي صاحب ماردين فحاصرها واستنجد حسام الدين ابن عمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 ركن الدولة داود بن سكمان بن ارتق صاحب كيفا فأنجده بنفسه وأخذ في جمع العساكر وبعث تمرتاش ماردين الى نصيبين يعرّف العساكر بالخبر وأنّ العساكر واصلة اليهم عن خمسة أيام وكتبه في رقعة وعلقها في جناح طائر فاعترضه عسكر زنجي وصادوه وقرأ زنكي الرقعة وعوض الخمسة أيام بعشرين يوما وأطلق الطائر بها الى البلد فقرءوا الكتاب وسقط في أيديهم واستطالوا العشرين واستأمنوا لعماد الدين زنكي فأمنهم وملك نصيبين وسار عنها الى سنجار فملكها صلحا وبعث العساكر الى الخابور فملكها ثم سار الى حرّان وخرج اليه أهل البلد بطاعتهم وكانت الرها وسروج والميرة ونواحيها للافرنج وعليها جوسكين صاحب الرها فكاتب زنكي وهادنه ليتفرّغ للجهاد بعد ثم عبر الفرات الى حلب في المحرّم سنة اثنتين وعشرين وقد كان عز الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي لما سار عنها الى الموصل بعد قتل أبيه استخلف عليها قرمان من أمرائه ثم عزله بآخر اسمه قطلغ ابه وكتب له الى قرمان فمنعه الا أن يرى العلامة التي بينه وبين عز الدين ابن البرسقي فعاد قطلغ الى مسعود ليجيء بالعلامة فوجده قد مات بالرحبة فعاد الى حلب وأطاعه رئيسها فضائل بن بديع والمقدّمون بها واستنزلوا قرمان من القلعة على ألف دينار وأعطوه إياها وملك قطلغ القلعة منتصف احدى وعشرين ثم ساءت سيرته وظهر ظلمه وجوره وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار ابن ارتق وكان ملكها قبل وخلع عنها فدعاه الناس الى البيعة وثاروا بقطلغ فامتنع بالقلعة فحاصروه وجاء مهيار صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح أمرهم فلم يتفق وطمع الافرنج في ملكها وتقدّم جوسكين بعسكره اليها فدافعوه بالمال ثم وصل صاحب انطاكية فحاصرهم الى آخر السنة وهم محاصرون القلعة فلما ملك عماد الدين زنكي الموصل والجزيرة والشام فأطاعوا وسار عبد الجبار وقطلغ الى عماد الدين بالموصل وأقام أحد الأميرين بحلب حتى بعث عماد الدين زنكي صاحبه صلاح الدين محمد الباغسياني في عسكر فملك القلعة ورتب الأمور وولى عليها وجاء عماد الدين بعساكره في أثره وملك في طريقه منبج ومراغة ثم دخل حلب وأقطع أعمالها الأجناد والأمراء وقبض على قطلغ ابه وسلمه لابن بديع فكحله فمات واستوحش ابن بديع فهرب الى قلعة جعفر وأقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق. قدوم السلطان سنجر الى الريّ ثم قدوم السلطان محمود الى بغداد الموصل طغرل ودبيس الى السلطان سنجر بخراسان حرضه دبيس على العراق والسلطان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 محمود قد اتفقا على الامتناع منه [1] فسار سنجر وأخبر السلطان محمود باستدعائه فوافاه لا قرب وقت وأمر العساكر بتلقيه وأجلسه معه على التخت وأقام السلطان محمود عند الى آخر اثنتين وعشرين ثم رجع سنجر الى خراسان بعد أن أوصى محمود بدبيس وأعاده الى بلده ورجع محمود الى همذان ثم سار الى العراق وخرج الوزير للقائه ودخل بغداد في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين ثم لحقه دبيس بمائة ألف دينار في ولاية الموصل وسمع بذلك زنكي وجاء الى السلطان وحمل المائة ألف مع هدايا جليلة فخلع عليه وأعاده وسار منتصف السنة عن بغداد الى همذان بعد أن ولى الحلة مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد. (وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود) ثم توفي السلطان محمود بهمذان في شوّال سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه بعد أن كان قبض على جماعة من أمرائه وأعيان دولته منهم عزيز الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي وأبو شنكين المعروف بشيركين بن حاجب وابنه عمر فخافهم الوزير أبو القاسم الشابادي؟ فانرى بهم السلطان فنكبهم وقتلهم ولما توفي اجتمع الوزير أبو القاسم والاتابك آقسنقر الأحمد يلي وبايعوا لابنه داود وخطبوا له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل ثم سكنت وهرب الوزير الى الريّ مستجيرا بالسلطان فأمّر بها. منازعة السلطان مسعود لداود ابن أخيه واستيلاؤه على السلطان بهمذان لما هلك السلطان محمود سار أخوه مسعود من جرجان الى تبريز فملكها فسار داود من همذان في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وحاصره بتبريز في محرّم سنة ست وعشرين ثم اصطلحوا وتأخر داود عن الأمر لعمه مسعود فسار مسعود من تبريز الى همذان وكاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل يستنجده فوعده بالنصر وأرسل الى المسترشد في طلب الخطبة ببغداد وكان   [1] كذا بالأصل، عبارات غير مترابطة وغير منسجمة وفي الكامل ج 10 ص 651: في هذه السنة (522) خرج السلطان سنجر من خراسان الى الري في جيش كثير وكان سبب ذلك ان دبيس بن صدقه لمّا وصل اليه هو والملك طغرل على ما ذكرناه لم يزل يطمعه في العراق ويسهل عليه قصده، ويلقي في نفسه ان المسترشد باللَّه والسلطان محمودا متفقان على الامتناع منه. ولم يزل به حتى اجابه الى السير الى العراق. فلما ساروا وصل الى الري وكان السلطان محمود بهمذان فأرسل اليه السلطان سنجر يستدعيه اليه لينظر هل هو على طاعته أم قد تغير على ما زعم دبيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 داود قد أرسل في ذلك قبله وردّ المسترشد الأمر في الخطبة الى السلطان سنجر ودسّ اليه أن لا يأذن لواحد منهما وان تكون الخطبة له فقط وحسن موقع ذلك عنده وسار السلطان مسعود الى بغداد وسبقه إليها أخوه سلجوق شاه مع أتابك قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان ونزل في دار السلطان واستخلفه الخليفة لنفسه ولما سار السلطان مسعود أوعز الى عماد الدين زنكي أن يسير الى بغداد فسار من الموصل اليها وانتهى السلطان مسعود الى عباسة الخالص وبرزت اليه عساكر المسترشد وسلجوق شاه وسار قراجا الساقي الى مدافعة زنكي فدافعه على المعشوق فهزمه وأسر كثيرا من أصحابه ومرّ منهزما الى تكريت وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو الاملاك الايوبية فهيأ له المعابر وعبر دجلة الى بلاده وسار السلطان مسعود من العباسة وقاتلت طلائعه طلائع أخيه سلجوق وبعث سلجوق يستحث قراجا بعد انهزام زنكي فعاد سريعا وتأخر السلطان مسعود بعد هزيمة زنكي وأرسل الى المسترشد بأنّ عمه سنجر وصل الى الريّ عازما على بغداد ويشير بمدافعته عن العراق وتكون العراق لوكيل الخليفة ثم تراسل القوم واتفقوا على ذلك وتحالفوا عليه وان يكون مسعود السلطان ولىّ العهد ودخلوا الى بغداد فنزل مسعود ديار السلطان وسلجوق دار الشحنة والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق. هزيمة السلطان مسعود وملك طغرل أخيه لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر من خراسان الى بلاد الجبل ومعه طغرل ابن أخيه محمد وانتهى الى الريّ ثم سار الى همذان فسار مسعود لقتاله ومعه قراجا الساقي وسلجوق شاه وقد كان الخليفة عزم أن لا يتجهز معهم فأبطأ فبعثوا اليه قراجا فسار الى خانقين وأقام وقطعت خطبة سنجر من العراق وخالفهم الى بغداد دبيس وزنكي وقد سمي اقطاعه لسنجر الحلة وزنكي ولاه شحنة بغداد فرجع المسترشد الى بغداد لموافقتهما وسار السلطان وأخوه سلجوق شاه للقاء سنجر ثم سمعا بكثرة عساكره فتأخرا فسار في طلبهم يوما وليلة ثم تراجعوا عند الدينور وكان مسعود يماطل باللقاء انتظارا للمسترشد فلم يجد بدّا من اللقاء فالتقوا على النقيبة [1] وحمل قراجا عليهم وتورّط في المعركة وأصيب بجراحات ثم   [1] لم يذكرها صاحب معجم البلدان ولعلها قرية صغيرة في العراق وورد في معجم البلدان: النقيب: تصغير نقب، موضع في بلاد الشام بين تبوك ومعان على طريق حاج الشام. وورد أيضا نقيب بالفتح: شعب من اجاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 التفوا عليه وأسروه وانهزم من أصحاب مسعود قزل وقد كان واطأهم على الهزيمة فانهزم السلطان مسعود عند ذلك منتصف ستة وعشرين وقتل كثير من أكابر الأمراء ونزل سنجر في خيامهم وأحضر قراجا فقتله وجيء اليه بالسلطان مسعود فأكرمه وأعاده الى كنجة وخطب للملك طغرل ابن أخيه في السلطنة وخطب له في جميع البلاد واستوزر له أبا القاسم الساباذي وزير السلطان محمود وعاد الى نيسابور آخر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة. هزيمة السلطان داود واستيلاء طغرل بن محمد على الملك لما ولىّ طغرل همذان وولىّ عنه السلطان سنجر الى خراسان وبلغه أن صاحب ما وراء النهر المرخان قد انتقض عليه فسار لإصلاحه وشغل بذلك فقام الملك داود بأذربيجان وبلاد كنجة وطلب الأمر لنفسه وجمع العساكر وسار الى همذان ومعه برتقش الزكوي وأتابك آقسنقر الأحمد يلي ومعه طغرل بن برسق ونزل وقد استقرّ ثم اضطرب عسكر داود وأحسوا من برتقش الزكوي بالفشل فنهب التركمان خيامه وهرب آقسنقر أتابك وانهزم في رمضان سنة ست وعشرين ثم قدم بغداد في ذي القعدة ومعه أتابك آقسنقر فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان. عود السلطان مسعود الى الملك وهزيمة طغرل قد تقدّم لنا هزيمة السلطان مسعود من عمه سنجر وعوده الى كنجة وولاية طغرل السلطان ثم محاربة داود ابن أخيه له وانهزام داود ثم رجوع داود الى بغداد فلما بلغ الخبر الى مسعود جاء الى بغداد ولقيه داود قريبا منها وترجل له عن فرسه ودخلا بغداد في صفر سنة سبع وعشرين ونزل مسعود بدار السلطان وخطب له ولداود بعده وطلبا من السلطان عسكرا ليسير معهما الى أذربيجان فبعث معهما العساكر الى أذربيجان ولقيهم آقسنقر الاحمديلي في مراغة بالإقامة والأموال وملك مسعود بلاد أذربيجان وهرب بين يديه من كان بها من الأمراء وامتنعوا بمدينة أذربيجان فحاصرهم بها وملكها عليهم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون ثم سار الى همذان لمحاربة أخيه طغرل فهزمه وملك همذان في شعبان من السنة ولحق طغرل بالريّ وعاد الى أصبهان ثم قتل آقسنقر الاحمديلي بهمذان غيلة ويقال انّ السلطان مسعودا دسّ عليه من قتله ثم سار الى حصار طغرل بأصبهان ففارقها طغرل الى فارس وملكها مسعود وسار في اثر طغرل الى البيضاء فاستأمن اليه بعض أمراء طغرل فأمنه وخشي طغرل أن يستأمنوا اليه فقصد الريّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وقتل في طريقه وزيره أبا القاسم الساباذي في شوّال من السنة ومثل به غلمان الأمير شيركين الّذي سعى في قتله كما مرّ ثم سار الأمير مسعود يتبعه الى أن تراجعا ودارت بينهما حرب شديدة وانهزم طغرل وأسر من أمرائه الحاجب تنكي وأتى بقرا وأطلقهما السلطان مسعود وعاد الى همذان والله تعالى أعلم. عود الملك طغرل الى الجبل وهزيمة السلطان مسعود ولما عاد مسعود من حرب أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار اليه وحاصره بقلعة [1] فحصر جمع طغرل العساكر وتغلب على بلاده وسار اليه واستعمل بعض قوّاده فسار مسعود للقائه ولقيه عند قزوين وفارق مسعود الأمراء الذين استمالهم طغرل ولحقوا به فانهزم مسعود في رمضان سنة ثمان وعشرين وبعث الى المسترشد يستأذنه في دخول بغداد فأذن له وكان أخوه سلجوق بأصبهان مع نائبة فيها البقش السلاحي فلما سمع بانهزامه سبقه الى بغداد وأنزله المسترشد بدار السلطان وأحسن اليه بالأموال ووصل مسعود وأكثر أصحابه رجلا فوسع عليه الخليفة بالإنفاق والمراكب والظهر واللباس والآلة ودخل دار السلطان منتصف شوّال وأقام طغرل بهمذان. وفاة طغرل واستيلاء مسعود على الملك ولما وصل مسعود الى بغداد حمل اليه المسترشد ما يحتاج اليه وأمره بالمسير الى همذان لمدافعة طغرل ووعده بالمسير معه بنفسه فتباطأ مسعود عن المسير واتصل جماعة من أمرائه بخدمة الخليفة ثم اطلع على مداخلة بعضهم لطغرل فقبض عليه ونهب ماله وارتاب الآخرون فهربوا عن السلطان مسعود وبعث المسترشد في إعادتهم اليه فدافعه ووقعت لذلك بينهما وحشة فقعد المسترشد عن نصره بنفسه وبينما هم في ذلك وصل الخبر بوفاة أخيه طغرل في المحرّم سنة تسع وعشرين فسار مسعود الى همذان واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد حمله من بغداد وأقبلت اليه العساكر فاستولى على همذان وبلاد الجبل انتهى. فتنة المسترشد مع السلطان مسعود ومقتله وخلافة ابنه الراشد قد تقدّم لنا انّ الوحشة وقعت عند ما كان ببغداد بسبب أمرائه الذين اتصلوا بخدمة   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 12: فسار اليه وحصره بقلعة (روئين دزوكان) فتحصن بها واشتغل بخصمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 المسترشد ثم هربوا عنه الى السلطان مسعود فلما سار السلطان مسعود الى همذان بعد موت أخيه طغرل وملكها استوحش منه جماعة من أعيان أمرائه منهم برتقش وقزل وقراسنقر الخمارتكين والي همذان وعبد الرحمن بن طغرلبك ودبيس بن صدقة وساروا الى خوزستان ووافقهم صاحبها برسق بن برسق واستأمنوا الى الخليفة فارتاب من دبيس وبعث الى الآخرين بالأمان مع سديد الدولة بن الانباري وارتاب دبيس منهم أن يقبضوا عليه فرجع الى السلطان مسعود وسار الآخرون الى بغداد فاستحثوا المسترشد للمسير الى قتال مسعود فأجابهم وبالغ في تكرمتهم وبرز آخر رجب من سنة تسع وعشرين وهرب صاحب البصرة اليها وبعث اليه بالأمان فأبى فتكاسل عن المسير فاستحثوه وسهلوا له الأمر فسار في شعبان ولحق به برسق بن برسق وبلغ عدّة عسكره سبعة آلاف وتخلف بالعراق مع خادمه إقبال ثلاثة آلاف وكاتبه أصحاب الاطراف بالطاعة وأبطأ في مسيره فاستعجلهم مسعود وزحفوا اليه فكان عسكره خمسة عشر ألفا وتسلل عن المسترشد جماعة من عسكره وأرسل اليه داود ابن محمود من أذربيجان يشير بقصد الدينور والمقام بها حتى يصل في عسكره فأبى واستمرّ في مسيره وبعث زنكي من الموصل عسكرا فلم يصل حتى تواقعوا وسار السلطان محمود الى مجدّا فوافاهم عاشر رمضان ومالت ميسرة المسترشد اليه وانهزمت ميمنته وهو ثابت لم يتحرّك حتى أخذ أسيرا ومعه الوزير والقاضي وصاحب المحرّر وابن الانباري والخطباء والفقهاء والشهود فأنزل في خيمة ونهب مخيمه وحمل الجماعة أصحابه الى قلعة ترجمعان ورجع بقية الناس الى بغداد ورجع السلطان الى همذان وبعث الأمير بك ابه الى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عميد وقبضوا أملاك المسترشد وغلاتها وكانت بينهم وبين العامّة فتنة قتل فيها خلق من العامّة وسار السلطان في شوّال الى مراغة وقد تردّدت الرسل بينهما في الصلح على مال يؤدّيه المسترشد وأن لا يجمع العساكر ولا يخرج من داره لحرب ما عاش وأجابه السلطان وأذن له في الركوب وحمل الغاشية وفارق المسترشد بعض الموكلين به فهجم عليه جماعة من الباطنية فألحموه جراحا وقتلوه ومثلوا به جدعا وصلبا وتركوه سليبا في نفر من أصحابه قتلوهم معه وتبع الباطنية فقتلوا وكان ذلك منتصف ذي القعدة سنة ستة وعشرين لثمان عشرة سنة من خلافته وكان كاتبا بليغا شجاعا قرما ولما قتل بمراغة كتب السلطان مسعود الى بك ابه شحنة بغداد بأن يبايع لابنه فبويع ابنه الراشد أبو جعفر منصور بعهده اليه لثمانية أيام من مقتله وحضر بيعته جماعة من أولاد الخلفاء وأبو النجيب الواعظ وأمّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 إقبال خادم المسترشد فلما بلغه خبر الواقعة وكان مقيما ببغداد كما قد مناه عبر الى الجانب الغربيّ ولحق بتكريت ونزل على مجاهد الدين بهروز. فتنة الراشد مع السلطان مسعود لما بويع الراشد بعث اليه السلطان مسعود برتقش الزكوي يطالبه بما استقرّ عليه الصلح مع أبيه المسترشد وهو أربعمائة ألف دينار فأنكر الراشد أن يكون له مال وانما مال الخلافة كان مع المسترشد فنهب ثم جمع الراشد العساكر وقدّم عليهم كجراية وشرع في عمارة السور واتفق برتقش مع بك ايه على هجوم دار الخلافة وركبوا لذلك في العساكر فقاتلهم عساكر الراشد والعامّة وأخرجوهم عن البلد الى طريق خراسان وسار بك ايه [1] الى واسط وبرتقش الى سرخس ولما علم داود بن محمود فتنة عمه مسعود مع الراشد سار من أذربيجان الى بغداد في صفر سنة ثلاثين ونزل بدار السلطان ووصل بعده عماد الدين زنكي من الموصل وصدقة بن دبيس من الحلة ومعه عش بن أبي العسكر يدبر أمره ويديره وكان أبوه دبيس قد قتل بعد مقتل المسترشد بأذربيجان وملك هو الحلة ثم وصل جماعة من أمراء مسعود منهم برتقش بازدار صاحب فروق والبقش الكبير صاحب أصبهان وابن برسق وابن الاحمديلي وخرج للقائهم كجراية والطرنطاي وكان إقبال خادم المسترشد قد قدم من تكريت فقبض عليه الراشد وعلى ناصر الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير فاستوحش أهل الدولة وركب الوزير جلال الدين بن صدقة الى لقاء عماد الدين زنكي فأقام عنده مستجيرا حتى أصلح حاله مع الراشد واستجار به قاضي القضاة الزينبيّ ولم يزل معه الى الموصل وشفع في إقبال فأطلق وسار اليه ثم جدّ الراشد في عمارة السور وسار الملك داود لقتال مسعود استخلفه الراشد واستخلفه عماد الدين زنكي وقطعت خطبة مسعود من بغداد وولىّ داود شحنة بغداد برتقش بازدار ثم وصل الخبر بأنّ سلجوق شاه أخا الأمير مسعود ملك واسط وقبض على الأمير بك ايه فسار الأمير زنكي لدفاعه فصالحه ورجع وعبر الى طريق خراسان للحاق داود واحتشد العساكر ثم سار السلطان مسعود لقتالهم وفارق زنكي داود ليسير الى مراغة ويخالف السلطان مسعود الى همذان وبرز الراشد من بغداد أوّل رمضان وسار الى طريق خراسان وعاد بعد ثلاث وعزم على الحصار ببغداد واستدعى داود الأمراء ليكونوا معه عنده فجاءوا لذلك ووصلت رسل السلطان مسعود بطاعة الراشد والتعريض بالوعيد   [1] ورد اسمه بك ابه (الكامل) ج 11 ص 25 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 للامراء المجتمعين عنده فلم يقبل طاعة من أجلهم والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار بغداد ومسير الراشد الى الموصل وخلعه وخلافة المقتفى ثم انّ السلطان مسعودا أجمع المسير الى بغداد وانتهى الى الملكية فسار زين الدين علي من أصحاب زنكي حتى شارف معسكره وقاتلهم ورجع ونزل السلطان على بغداد والعيارون فأفسدوا سائر المحال ببغداد وانطلقت أيديهم وأيدي العساكر في النهب ودام الحصار نيفا وخمسين يوما وتأخر السلطان مسعود الى النهروان عازما على العود الى أصبهان فوصله طرنطاي صاحب واسط في سفن كثيرة فركب الى غربيّ بغداد فاضطرب الأمراء وافترقوا وعادوا إلى أذربيجان وكان زنكي بالجانب الغربي فعبر اليه الراشد وسار معه الى الموصل ودخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة فسكن الناس وجمع القضاة والفقهاء وأوفقهم على يمين الراشد التي كتبها بخطه اني متى جمعت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه واتفق أرباب الدولة ممن كان ببغداد ومن أسر مع المسترشد وبقي عند السلطان مسعود كلهم على ذمّه وعدم أهليته على ما مرّ في أخباره بين أخبار الخلفاء وبويع محمد بن المستظهر ولقب المقتفي وقد قدّمت هذه الاخبار بأوسع من ذلك ثم بعث السلطان العساكر مع قراسنقر لطلب داود فأدركته عند مراغة وقاتله فهزمه وملك آذربيجان ومضى داود الى خوزستان واجتمع عساكر من التركمان وغيرهم فحاصر تستر وكان عمه سلجوق بواسط فسار اليه بعد ان أمره أخوه مسعود بالعساكر ولقي داود على تستر فهزمه داود ثم عزل السلطان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد واستوزر كمال الدين أبا البركات بن سلامة من أهل خراسان ثم بلغه انّ الراشد قد فارق الموصل فأذن للعساكر التي عنده ببغداد في العود الى بلادهم وصرف فيهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد ان أصهر اليه في ابنته وقدم عليه جماعة من الأمراء الذين كانوا مع داود منهم البقش اسلامي وبرسق بن برسق وصاحب تستر وسنقر الخمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم وأمنهم وعاد الى همذان سنة احدى وثلاثين. الفتنة بين السلطان مسعود وبين داود والراشد وهزيمة مسعود ومقتل الراشد كان الأمير بوزابة صاحب خوزستان والأمير عبد الرحمن طغرلبك صاحب خلخال والملك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان فاجتمعوا عند الأمير منكبرس صاحب فارس وبلغهم مسير الراشد من الموصل الى مراغة فراسلوه في أن يجتمعوا عليه ويردّوه الى خلافته فأجابهم وبلغ الخبر الى السلطان مسعود فسار اليهم في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأوقع بهم وأخذ منكبرس أسيرا فقتله وافترقت عساكره للنهب فانفرد بوزابة وطغرلبك وصدقا الحملة عليه فانهزم وقبض على جماعة من الأمراء مثل صدقة بن دبيس صاحب الحلة وكافله غبتر ابن أبي العساكر وابن أتابك قراسنقر صاحب آذربيجان وحبسهم بوزابة حتى تحقق قتل منكبرس ولحق السلطان مسعود بآذربيجان منهزما وسار داود الى همذان فملكها ووصل اليه الراشد هنالك وأشار بوزابة وكان كبير القوم بالمسير الى فارس فساروا معه واستولى عليها وملكها ولما علم سلجوق شاه وهو بواسط انّ أخاه السلطان مسعود امضى الى آذربيجان سار هو الى بغداد ليملكها ودافعه البقش التخت ونظم الخادم أمير الحاج وثار العيارون بالبلدان وأفحشوا في النهب فلما رجع الشحنة استأصل شأفتهم وأخذ المستورين بجنايتهم فجلا الناس عن بغداد الى الموصل وغيرها ولما قتل صدقة بن دبيس أقرّ السلطان مسعود أخاه محمدا على الحلة ومعه مهلهل بن أبي العساكر أخو عش المقتول كما مرّ في أخباره ثم لما ملك بوزابة فارس رجع مع الراشد والملك داود ومعهما خوارزم شاه الى خوزستان وخربوا الجزيرة فسار اليهم مسعود ليمنعهم عن العراق فعاد الملك داود الى فارس وخوارزم شاه الى بلده وسار الراشد الى أصبهان فثار به نفر من الخراسانية كانوا في خدمته فقتلوه عند القائلة في خامس عشر رمضان من السنة ودفن بظاهر أصبهان ثم قبض السلطان آخر السنة على وزيره أبي البركات بن سلامة الدركزيني واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الخازن وكان نبيها حسن السيرة فرفع المظالم وأزال المكوس وأقام وظائف السلطان وجمع له الأموال وضرب على أيدي العمال وكشف خيانتهم فثقل عليهم وأوقعوا بينه وبين الأمراء فبالغوا في السعاية فيه عند السلطان وتولى كبرها قراسنقر صاحب آذربيجان فإنه بعث الى السلطان يتهدّده بالخروج عن طاعته فأشار على السلطان خواصه بقتله خشية الفتنة فقتله على كره وبعث برأسه الى قراسنقر فرضي وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة لسبعة أشهر من وزارته واستوزر بعده أبا العز طاهر بن محمد اليزدجردي وزير قراسنقر ولقب عز الملك وضاقت الأمور على السلطان وأقطع البلاد للامراء ثم قتل السلطان البقش السلاحي الشبحنة بما ظهر منه من الظلم والعسف فقبض عليه وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز ثم أمر بقتله فلما قرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 للقتل ألقى نفسه في دجلة فمات وبعث برأسه الى السلطان فقدّم مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فحسن أثره ثم عزله السلطان سنة ست وثلاثين وولىّ فيها قرلي أميرا آخرا من موالي السلطان محمود وكانت له يزدجر والبصرة فأضيف له اليهما والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه. فتنة السلطان سنجر مع خوارزم شاه وهو أوّل بداية بني خوارزم قد تقدّم لنا ذكر أولية محمد خوارزم شاه وهو محمد بن أبي شنتكين وانّ خوارزم شاه لقب له وانّ الأمير داود حبشي لما ولاه بركيارق خراسان وقتله أكنجي ولىّ محمد بن أبي شنتكين وولىّ بعده ابنه أتسز فظهرت كفاءته وقرّ به السلطان سنجر واستخلصه واستظهر به في حروبه فزاده ذلك تقدّما ورفعة واستفحل ملكه في خوارزم ونمي للسلطان سنجر انه يريد الاستبداد فسار اليه سنة ثلاث وثلاثين وبرز أتسز ولقيه في التعبية فلم يثبت وانهزم وقتل من عسكره خلق وقتل له ابن فحزن عليه حزنا شديدا وملك سنجر خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمد ورتب له وزيرا وأتابك وحاجبا وعاد الى مرو منتصف السنة فخالفه أتسز الى خوارزم وهرب سليمان شاه ومن معه الى سنجر واستولى أتسز على خوارزم وكان من أمره ما يذكر بعد ان شاء الله تعالى. استيلاء قراسنقر صاحب آذربيجان على بلاد فارس ثم جمع أتابك قراسنقر صاحب آذربيجان وبرّز طالبا ثأر أبيه الّذي قتله بوزابة في المصاف كما مرّ وأرسل السلطان مسعود في قتل وزيره الكمال فقتله كما مرّ فانصرف عنه الى بلاد فارس وتحصن عنه بوزابة في القلعة البيضاء ووطئ قراسنقر البلاد وملكها ولم يمكنه مقام فسلمها لسلجوق شاه ابن السلطان محمود وهو أخو السلطان مسعود وعاد الى آذربيجان فنزل بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين وهزم سلجوق شاه وأسره وحبسه ببعض قلاعه واستولى على البلاد ثم هلك قراسنقر صاحب آذربيجان وارّان بمدينة أردبيل وكان من مماليك طغرل وولىّ مكانه جاولي الطغرلي والله سبحانه ولىّ التوفيق. مسير جهان دانكي الى فارس ثم أمر السلطان سنة خمس وثلاثين الأمير إسماعيل جهان دانكي فسار اليها ومنعها مجاهد الدين بهروز من الوصول واستعدّ لذلك بخسف المعابر وتغريقها فقصد الحلة فمنعها أيضا فقصد واسط فقاتله طرنطاي وانهزم ودخل واسط ونهبها ونهب النعمانية وما اليها واتبعهم طرنطاي الى البطيحة ثم فارقه عسكره الى طرنطاي فلحق بتستر وكتب إسماعيل الى السلطان فعفا عنه . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 هزيمة السلطان سنجر امام الخطا واستيلاؤهم على ما وراء النهر وتلخيص هذا الخبر من كتاب ابن الأثير أنّ أتسز بن محمد ملك خوارزم واستقرّ بها فبعث الى الخطا وهم أعظم الترك فيما وراء النهر وأغراهم بمملكة السلطان سنجر واستحثهم لها فساروا في ثلاثمائة ألف فارس وسار سنجر في جميع عساكره وعبر اليهم النهر ولقيهم سنة ست وثلاثين واقتتلوا أشدّ قتال ثم انهزم سنجر وعساكره وقتل منهم مائة ألف فيهم أربعة آلاف امرأة وأسرت زوجة السلطان سنجر ولحق سنجر بترمذ وسار منها الى بلخ وقصد أتسز مدينة مرو فدخلها مراغما للسلطان وفتك فيها وقبض على جماعة من الفقهاء والأعيان وبعث السلطان سنجر الى السلطان مسعود يأذن له في النصر وفي الريّ ليدعوه ان احتاج اليه فجاء عباس صاحب الريّ بذلك الى بغداد وسار السلطان مسعود الى الريّ امتثالا لأمر عمه سنجر قال ابن الأثير وقيل انّ بلاد تركستان وهي كاشغر وبلاد سامسون وجبى [1] وطراز وغيرها مما وراء النهر كانت بيد الخانيّة وهم مسلمون من نسل مراسيان ملك الترك المعروف خبره مع ملوك الكينيّة وأسلم جدّهم الأوّل سبق قراخان لأنه رأى في منامه انّ رجلا نزل من السماء وقال له بالتركية ما معناه أسلم تسلم في الدنيا والآخرة وأسلم في منامه ثم أسلم في يقظته ولما مات ملك مكانه موسى بن سبق ولم يزل الملك في عقبه الى ارسلان خان بن سليمان بن داود ابن بقرخان بن إبراهيم طغاج خان بن ايلك نصر بن ارسلان بن علي بن موسى بن سبق فخرج عليه قردخان وانتزع الملك منه ثم نصر سنجر وقتل قردخان وخرج بعد ذلك خوارزم ونصره السلطان سنجر منهم وأعاده الى ملكه وكان في جنده نوع من الأتراك يقال لهم القارغليّة والأتراك الغزيّة الذين نهبوا خراسان على ما نذكره بعد وهم صنفان صنف يقال لهم حق وأميرهم طوطي بزداديك وصنف يقال لهم برق وأميرهم برغوث بن عبد الحميد. وكان لأرسلان نصر خان شريف يصحبه من أهل سمرقند وهو الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلويّ فحمل ابن ارسلان نصر خان وطلبوا انتزاع الملك منه فاستصرخ السلطان سنجر فعبر اليه في عساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة وانتهى الى سمرقند فهرب القارغليّة أمامه وعاد الى سمرقند فقبض على ارسلان خان وحبسه ببلخ فمات بها وولى على   [1] جبي: بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة وفي الآخر ياء آخر الحروف، مدينة كثيرة النخل وقصب السكر، ومنها ابو علي الجبائي المعتزلي، قال في المشترك جبى كورة وبلد من نواحي خوزستان، قال وجبي أيضا قرية من نواحي النهروان (تقويم البلدان لأبي الفداء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 سمرقند مكانه قلج طمقاج أبا المعالي الحسن بن علي بن عبد المؤمن ويعرف بحسن تكر من أعيان بيت الخانية الا أن ارسلان خان اطرحه فولاه سنجر ولم تطل أيامه فولى بعده محمود بن ارسلان خان وأبوه هو الّذي ملك سمرقند من يده وهو ابن أخت سنجر وكان في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة قد خرج كوهرخان من الصين الى حدود كاشغر في جموع عظيمة وكوهر الأعظم بلسانهم وخان السلطان. فمعناه أعظم ملك ولقيه صاحب كاشغر أحمد بن الحسن الخان فهزمه وقد كان خرج قبله من الصين أتراك الخطا وكانوا في خدمة الخانيّة أصحاب تركسان وكان ارسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم على الدروب بينه وبين الصين مسالح ولهم على ذلك جرايات واقطاعات وسخط عليهم بعض السنين وعاقبهم بما عظم عليهم فطلبوا فسيحا من البلاد يأمنون فيه من ارسلان خان لكثرة ما كان يغزوهم ووصفت لهم بلاد سامسون فساروا اليها ولما خرج كونان من الصين ساروا اليه واجتمعوا عليه ثم ساروا جميعا الى بلاد ما وراء النهر ولقيهم الخان محمود بن ارسلان خان محمد في حدود بلاده في رمضان سنة احدى وثلاثين فهزموه وعاد الى سمرقند وعظم الخطب على أهلها وأهل بخارى واستمدّ محمود السلطان سنجر وذكر ما لقي السلطان من العنت واجتمع عنده ملوك خراسان وملك سجستان من بني خلف وملك غزنة من الغوريين وملك مازندران وعبر النهر للقاء الترك في أكثر من مائة ألف وذلك لآخر خمس وثلاثين وخمسمائة وشكا اليه محمود خان من القارغليّة فقصدهم واستجاروا بكوهرخان ملك الصين فكتب الى سنجر بالشفاعة فيهم فلم يشفعه وكتب اليه يدعوه للإسلام ويتهدّده بكثرة العساكر فأهان الرسول وزحف للقاء سنجر والتقى الجمعان بموضع يسمى قطران خامس صفر سنة ست وثلاثين وأبلى القارغليّة من الترك وصاحب سجستان من المسلمين ثم انهزم المسلمون فقتل كثير منهم وأسر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان سنجر فأطلقهم كوهرخان ومضى السلطان سنجر منهزما وملك الترك الكفار والخطا بلاد ما وراء النهر الى أن مات كوهرخان ملكهم سنة سبع وثلاثين ووليت بعده ابنته ثم ماتت قريبا وملكت أمّها من بعدها وهو زوجة كوهرخان وابنه محمد وصار ما وراء النهر بيد الخطا الى أن غلبهم عليه عماد الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 أخبار خوارزم شاه بخراسان وصلحه مع سنجر ولما عاد السلطان منهزما سار خوارزم شاه الى سرخس في ربيع سنة ست وثلاثين فأطاعته ثم الى مرو الشاهجان فشفع فيهم الامام أحمد الباخرزي ونزل بظاهرها وبينما هو قد استدعى أبا الفضل الكرماني وأعيان أهلها للشورى ثار عامّة البلد وقتلوا من كان عندهم من جنده وامتنعوا فطاولها ودخلها عنوة وقتل كثيرا من علمائها ثم رجع في شوّال من السنة الى نيسابور وخرج اليه علماؤها وزهادها يسألون معافاتهم مما نزل بأهل مرو فأعفاهم واستصفى أصحاب السلطان وقطع خطبة سنجر وبعث عسكرا الى أعمال صغد فقاتلوهم أياما ولم يطق سنجر مقاومته لمكان الخطا وجوارهم له ثم سار السلطان سنجر سنة ثمان وثلاثين لقتال خوارزم وحاصرها أياما وكاد يملكها واقتحمها بعض أمرائه يوما فدافعه أتسز بعد حروب شديدة ثم أرسل أتسز الى سنجر بالطاعة والعود الى ما كان عليه فقبله وعاد سنة ثمان وثلاثين. صلح زنكي مع السلطان مسعود ثم وصل السلطان مسعود سنة ثمان وثلاثين الى بغداد [1] عادته فتجهز لقصد الموصل وكان يحمل لزنكي جميع ما وقع من الفتن فبعث اليه زنكي يستعطفه مع أبي عبد الله بن الأنباري وحمل معه عشرين ألف دينار وضمن مائة ألف على أن يرجع عنه فرجع وانعقد الصلح بينهما وكان مما رغب السلطان في صلحه أنّ ابنه غازي بن زنكي هرب من عند السلطان خوفا من أبيه فردّه الى السلطان ولم يجتمع به فوقع ذلك من السلطان أحسن موقع والله تعالى أعلم. انتقاض صاحب فارس وصاحب الري ّ كان بوزابة صاحب فارس وخوزستان كما قدمنا فاستوحش من السلطان مسعود فانتقض سنة أربعين وخمسمائة وبايع لمحمد ابن محمود وهو ابن أخي السلطان مسعود وسار الى مامشون واجتمع بالأمير عباس صاحب الريّ ووافقه على شأنه واتصل به سليمان شاه أخو السلطان مسعود وتغلبوا على كثير من بلاده فسار اليهم من بغداد في رمضان من السنة ومعه الأمير طغايرك حاجبه وكان له التحكم في الدولة والميل الى القوم واستخلفه على بغداد الأمير مهلهل ونصير أمير الحاج وجماعة من غلمان بهروز وسار فلما تقاربوا للحرب نزع السلطان شاه عنهم الى أخيه مسعود وسعى عبد الرحمن في الصلح   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 93: وصل السلطان مسعود الى بغداد على عادته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 فانعقد بينهما على ما أحبه القوم وأضيف الى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وارّان الى خلخال عوضا من جاولي الطغرلي واستوزر أبا الفتح بن دراست وزير بوزابة وقد كان السلطان سنة تسع وثلاثين قبض على وزيره اليزدجردي واستوزر مكانه المرزبان بن عبد الله بن نصر الأصبهاني وسلم اليه اليزدجردي واستصفى أمواله فلما كان هذه السنة وفعل بوزابة في صلح القوم ما فعل اعتضد بهم على مقامه عند السلطان وتحكم عليه وعزل وزيره واستوزر له أبا الفتح هذا. مقتل طغايرك [1] وعباس قد قدّمنا ان طغايرك وعبد الرحمن تحكما على السلطان واستبدّا عليه ثم آل أمره الى أن منعا بك ارسلان المعروف بابن خاص بك بن البتكري [2] من مباشرة السلطان وكان تربيته وخاصا به ونجيّ خلوته وتجهز طغايرك لبعض الوجوه فحمله في جملته فأسرّ السلطان الى بك ارسلان الفتك بطغابرك وداخل رجال العسكر في ذلك فأجاب منهم زنكي جاندار ان يباشر قتله بيده ووافق بك ارسلان جماعة من الأمراء واعترضوا له في موكبه فضربه الجاندار فصرعه عن فرسه وأجهز عليه ابن خاص بك ووقف الأمراء الذين واطئوه على ذلك دون الجاندار فمنعوه وكان ذلك بظاهر صهوة [3] وبلغ الخبر الى السلطان مسعود ببغداد ومعه عباس صاحب الريّ في جيش كثيف فامتعض لذلك ونكره فداراه السلطان حتى سكن وداخل بعض الأمراء في قتله فأجابوه وتولى كبر ذلك البقش حروسوس [4] للحف وأحضر السلطان عبّاسا وأدخله في داره وهذان الأميران عنده وقد أكمنوا له في بعض المخادع رجالا وعدلوا به الى مكانهم فقتلوه ونهبت خيامه وأصاخت البلاد لذلك ثم سكنت وكان عبّاس من موالي السلطان محمود وكان عادلا حسن السيرة وله مقامات حسان في جهاد الباطنية وقتل في ذي القعدة سنة احدى وأربعين ثم حبس السلطان أخاه سليمان شاه في قلعة تكريت وسار عن بغداد الى أصبهان والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق.   [1] وقد ورد اسمه أيضا طغايرك [2] ورد في بعض النسخ المعروف بابن خاص بك بن بتكرى. [3] كذا بالأصل وفي معجم البلدان: صهوة كل شيء اعلاه والصهوة بنواحي المدينة. وفي الكامل: قتله بظاهر جنزة. وجنزة اسم مدينة باران كما في معجم البلدان واستنادا الى رواية معجم البلدان تكون رواية ابن الأثير أصح. [4] وفي الكامل: البقش كون خر وتنر، وهو أمير اللحف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 مقتل بوزابة صاحب فارس قد تقدّم لنا أنّ طغايرك كان مستظهرا على السلطان بعبّاس صاحب الريّ وبوزابة صاحب فارس وخوزستان فلما قتل طغايرك وامتعض له عبّاس قتل اثره وانتهى الخبر الى بوزابة فجمع العساكر وسار الى أصبهان سنة اثنتين وأربعين فحاصرها وبعث عسكرا آخر لحصار همذان وآخر الى قلعة الماهكي من بلاد اللحف وكان بلاد اللحف من قلاع البقش كوزحر [1] فسار اليها ودفعهم عنها ثم سار بوزابة عن أصبهان لطلب السلطان مسعود فامتنع وتراجفا بمرج مزاتكن واشتدّ القتال بينهما وكبا الفرس ببوزابة وسيق إلى السلطان فقتل بين يديه وقيل أصابه سهم فسقط ميتا وانهزمت عساكره وكان هذا الحرب من أعظم الحروب بين السلجوقية. انتقاض الأمراء على السلطان ولما قتل طغايرك وعباس وبوزابة اختص بالسلطان ابن خاص بك لميله اليه واطرح بقية الأمراء فاستوحشوا وارتابوا بأنفسهم أن يقع بهم ما وقع بالآخرين ففارقوه وساروا نحو العراق أبو ركن المسعودي صاحب كنجة وارّان والبقش كوزحر صاحب الجبل والحاجب خريطاي المحمودي شحنة واسط وابن طغايرك والركن وقرقوب ومعهم ابن أخي السلطان وهو محمد بن محمود وانتهوا الى حرّان فاضطرب الناس ببغداد وغلت الأسعار وبعث اليهم المقتفي بالرجوع فلم يرجعوا ووصلوا الى بغداد في ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين ونزلوا بالجانب الشرقي وهرب أجناد مسعود شحنة بغداد الى تكريت ووصل اليهم علي بن دبيس صاحب الجبلة ونزل بالجانب الغربي وجمع الخليفة العساكر ثم قاتل العامة عساكر الأمراء فاستطردوا لهم ثم كروا عليهم فملئوا الأرض بالقتلى ثم جاست خيولهم خلال الديار فنهبوا وسبوا ثم جاءوا مقايل التاج يعتذرون وردّدوا الرسل الى الخليفة سائر يومهم ثم ارتحلوا من الغد الى النهر وان فعاثوا فيها وعاد مسعود من بلاد تكريت الى بغداد ثم افترق الأمراء وفارقوا العراق ثم عاد البقش كوزحر والطرنطاي وابن دبيس سنة أربع وأربعين ومعهم ملك شاه بن محمود وهو ابن أخي السلطان وطلبوا من الخليفة الخطبة لملك شاه فأبى وجمع العساكر وشغل بما كان فيه من أمر عم السلطان سنجر وذلك أن السلطان سنجر بعث اليه يلومه في تقديم ابن خاص بك ويأمره بابعاده وتهدّده فغالطه ولم يفعل فسار الى الريّ فبادر اليه مسعود وترضاه فرضي عنه ولما علم البقش كوزحر مراسلة   [1] وفي بعض النسخ كون خر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 المقتفي لمسعود نهب النهروان وقبض على عليّ بن دبيس وسار السلطان بعد لقاء عمه الى بغداد فوصلها منتصف شوّال سنة أربع وأربعين فهرب الطرنطاي الى النعمانيّة ورحل البقش الى النهروان بعد أن أطلق علي بن دبيس فجاء الى السلطان واعتذر فرضي عنه. وفاة السلطان مسعود وولاية ملك شاه بن أخيه محمود ثم أخيه محمد من بعده ثم توفى السلطان مسعود بهمذان في رجب منتصف سبع وأربعين لاثنتين وعشرين سنة من طلبه الملك وبه كمل استفحال ملك السلجوقية وركب الخمول دولتهم بعده وكان عهد الى ملك شاه بن أخيه محمود فلما توفى بايع له الأمير ابن خاص بك وأطاعه العسكر وانتهى خبر موته الى بغداد فهرب الشحنة بلاك الى تكريت وأمر المقتفى بالحوطة على داره ودور أصحاب السلطان مسعود ثم بعث السلطان ملك شاه عسكر الى الجبلة مع سلادكرد من أمرائه فملكها وسار اليه بلاك الشحنة فخادعه حتى استمكن منه فقبض عليه وغرّقه واستبدّ بلاك الشحنة بالجبلة وجهز المقتفي العساكر مع الوزير عون الدين بن عبيرة الى الجبلة وبعث عساكرا الى الكوفة وواسط فملكهما ووصلت عساكر السلطان ملك شاه فملكوها وسار اليها الخليفة بنفسه فارتجعها منهم وسار منها الى الجبلة ثم الى بغداد آخر ذي القعدة من السنة ثم انّ ابن خاص بك طمع في الانفراد بالأمر فاستدعى محمد بن محمود من خوزستان فأطمعه في الملك ليقبض عليه وعلى أخيه ملك شاه فقبض على ملك شاه أولا لستة أشهر من ولايته ووصل محمد في صفر من سنة ثمان وأربعين فأجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة وحمل اليه الهدايا وقد سعى للسلطان محمد بما انطوى عليه ابن خاص بك فلما باكره صبيحة وصوله فتك به وقتله وقتل معه زنكي الجاندار قاتل طغايرك وأخذ من أموال ابن خاص بك كثيرا وكان صبيا كما بينا اتصل بالسلطان مسعود وتنصح له فقدّمه على سائر العساكر والأمراء وكان أنوغري التركي المعروف بشملة في جملة ابن خاص بك ومن أصحابه ونهاه عن الدخول الى السلطان محمد فلما قتل ابن خاص بك نجا شملة الى خوزستان وكان له بها بعد ذلك ملك والله أعلم بغيبه وأحكم. تغلب الغز على خراسان وهزيمة السلطان سنجر وأسره كان هؤلاء الغز فيما وراء النهر وهم شعب من شعوب الترك ومنهم كان السلجوقية أصحاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 هذه الدولة وبقوا هنالك بعد عبورهم وكانوا مسلمين فلما استولى الخطا على ملك الصين وعلى ما وراء النهر حجر هؤلاء الغزّ الى خراسان وأقاموا بنواحي بلخ وكان لهم من الأمراء محمود ودينار وبختيار وطوطي وارسلان ومعز وكان صاحب بلخ الأمير قماج فتقدّم اليهم أن يبعدوا عن بلخ فصانعوه فتركهم وكانوا يعطون الزكاة ويؤمنون السابلة ثم عاد اليهم في الانتقال فامتنعوا وجمعوا فخرج اليهم في العساكر وبذلوا له مالا فلم يقبل وقاتلوه فهزموه وقتلوا العسكر والرعايا والفقهاء وسبوا العيال ونجا قماج الى مرو وبها السلطان سنجر فبعث اليهم يتهدّدهم ويأمرهم بمفارقة بلاده فلاطفوه وبذلوا له فلم يقبل وسار اليهم في مائة ألف فهزموه وأثخنوا في عسكره وقتل علاء الدين قماج وأسروا السلطان سنجر ومعه جماعة من الأمراء فقتلوا الأمراء واستبقوا السلطان سنجر وبايعوه ودخلوا معه الى مرو فطلب منه بختيار اقطاعها فقال هي كرسي خراسان فسخروا منه ثم دخل سنجر خانقاه فقسط على الناس وأطرهم وعسفهم وعلق في الأسواق ثلاث غرائر وطالبهم بملئها ذهبا فقتله العامّة ودخل الغز نيسابور ودمّروها تدميرا وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها وقتلوا القضاة والعلماء في كل بلد ولم يسلم من خراسان غير هراة وسبستان لحصانتهما وقال ابن الأثير عن بعض مؤرّخي العجم ان هؤلاء الغز انتقلوا من نواحي التغرغر من أقاصي الترك الى ما وراء النهر أيام المقتفي وأسلموا واستظهر بهم المقنّع الكنديّ على مخارقه وشعوذته حتى تمّ أمره فلما سارت اليه العساكر خذلوه وأسلموه وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخانية ثم طردهم الأتراك القارغلية عن اقطاعهم فاستدعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيبانيّ المستولي على حدود طخارستان وأنزلهم بلاده واستظهر بهم على قماج صاحب بلخ وسار بهم لمحاربته فخذلوه لأنّ قماج كان استمالهم فانهزم زنكي وأسر هو وابنه وقتلهما قماج وأقطع الغز في بلاده فلما سار الحسين بن الحسين الغوري الى بلخ برز اليه قماج ومعه هؤلاء الغز فخذلوه ونزعوا عنه الى الغوري حتى ملك بلخ فسار السلطان سنجر الى بلخ وهزم الغوري واستردّها وبقي الغزّ بنواحي طخارستان وفي نفس قماج حقد عليهم فأمرهم بالانتقال عن بلاده فتألفوا وتجمّعوا في طوائف من الترك وقدموا عليهم أرسلان بوقاء التركي ولقيهم قماج فهزموه وأسروه وابنه أبا بكر وقتلوهما واستولوا على نواحي بلخ وعاثوا فيها وجمع السلطان سنجر وفي مقدمته محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول والمؤيد ابنه في محرّم سنة ثمان وأربعين وجاء السلطان سنجر على أثرهم وبعثوا اليه بالطاعة والأموال فلم يقبل منهم وقاتلهم فهزموه الى بلخ ثم عاود قتالهم فهزموه الى مرو واتبعوه فهرب هو وعسكره من مرو رعبا منهم ودخلوا البلد وأفحشوا فيه قتلا ونهبا وقتلوا القضاة والأئمة والعلماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 ولما خرج سنجر من مرو وأسروه وأجلسوه على التخت على عادته وآتوه طاعتهم ثم عاودوا الغارة على مرو فمنعهم أهلها وقاتلوهم ثم عجزوا واستسلموا فاستباحوها أعظم من الاولى ولما أسر سنجر فارقه جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك ووصلوا الى نيسابور واستدعوا سليمان شاه بن السلطان محمود وخطبوا له بالسلطان في منتصف السنة واجتمعت عليه عساكر خراسان وساروا لطلب الغزّ فبارزوهم على مرو وانهزمت العساكر رعبا منهم وقصدوا نيسابور والغز في اتباعهم ومرّوا بطوس فاستباحوها وقتلوا حتى العلماء والزهاد وخربوا حتى المساجد ثم ساروا الى نيسابور في شوّال سنة تسع وأربعين ففعلوا فيها أفحش من طوس حتى ملئوا البلاد من القتلى وتحصن طائفة بالجامع الأعظم من العلماء والصالحين فقتلوهم عن آخرهم وأحرقوا خزائن الكتب وفعلوا مثل ذلك في جوين وأسفراين فحاصروهما واقتحموهما مثل ما فعلوا في البلاد الأخرى وكانت أفعال الغز في هذه البلاد أعظم وأقبح من أفعال الغز في غيرها ثم انّ السلطان سليمان شاه توفى وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك في شوّال سنة ثمان وأربعين فاستوزر ابنه نظام الملك وانحلّ أمره وعجز عن القيام بالملك فعاد الى جرجان في صفر سنة تسع وأربعين فاجتمع الأمراء وخطبوا للخان محمود بن محمد بن بقراخان وهو ابن أخت سنجر واستدعوه فملكوه في شوّال من السنة وساروا معه لقتال الغز وهم محاصرون هراة فكانت حروبه معهم سجالا وأكثر الظفر للغز ثم رحلوا عن هراة الى مرو منتصف خمسين وأعادوا مصادرة أهلها وسار الخان محمد الى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد كما يذكر فراسل الغز في الصلح فصالحوه في رجب. استيلاء المؤيد على نيسابور وغيرها هذا المؤيد من موالي سنجر واسمه وكان من أكابر أوليائه ومطاعا فيهم ولما كانت هذه الفتنة وافترق أمر الناس بخراسان تقدم فاستولى على نيسابور وطوس ونسا [1] وان ورد وشهرستان والدامغان وحصنها ودافع الغز عنها ودانت له الرعية لحسن سيرته فعظم شأنه وكثرت جموعه واستبدّ بهذه الناحية وطالبه الخان محمود عند ما ملكوه بالحضور عنده وتسليم البلاد فامتنع وتردّدت الرسل بينهما على مال   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 236: تقدم المؤيد «اي ابه» بقبض أعيان نيسابور وحبسهم وقال: أنتم الذين اطمعتم الزنود والمفسدين حتى فعلوا هذه الفعال، ولو أردتم منعهم لاقتنعوا. وقتل من أهل الفساد وجماعة فخر بن نيسابور بالكلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 يحمله للخان محمود فضمنه المؤيد وكف عنه محمود واستقرّ الحال على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء ايتاخ على الري ّ كان ايتاخ من موالي السلطان سنجر وكانت الريّ أيضا من أعمال سنجر فلما كانت فتنة الغز لحق بالريّ واستولى عليها وصانع السلطان محمد شاه ابن محمود صاحب همذان وأصبهان وغيرهما وبذل له الطاعة فأقرّه فلما مات السلطان محمد مدّ يده الى أعمال تجاوزته وملكها فعظم أمره وبلغت عساكره عشرة آلاف فلما ملك سليمان شاه همذان على ما نذكره وقد كان أنس به عند ولاية سليمان على خراسان سار اليه وقام بخدمته وبقي مستبدا بتلك البلاد والله سبحانه وتعالى أعلم. الخبر عن سليمان شاه وحبسه بالموصل كان سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر وجعله وليّ عهده وخطب له على منابر خراسان فلما وقعت فتنة الغز وأسر سنجر قدمه أمراء خراسان على أنفسهم ثم عجز ومضى الى خوارزم شاه فزوّجه ابنة أخيه ثم سعى به عنده فأخرجه من بلده وجاء الى أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فمضى الى قاشان فبعث السلطان محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا ليدفعه عنها فسار الى خوزستان فمنعه ملك شاه منها فقصد اللحف ونزل وأرسل المقتفي في أثره فطلبه في زوجته رهينة ببغداد فبعث بها مع جواريها وأتباعها فأكرمهم المقتفي وأذن له في القدوم وخرج الوزير ابن هبيرة وقاضي القضاة والفتيان لتلقيه وخلع عليه المقتفي وأقام ببغداد حتى إذا دخلت سنة احدى وخمسين أحضر بدار الخلافة وحضر قاضي القضاة والأعيان واستحلف على الطاعة والتجافي للخليفة عن العراق وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه وأمدّ بثلاثة آلاف من العسكر وجعل معه الأمير دوران أمير حاجب صاحب الجبلة وسار الى بلاد الجبل في ربيع الأوّل من السنة وسار المقتفي الى حلوان وبعث الى ملك شاه بن السلطان محمود يدعوه الى موافقة عمه سليمان شاه وان يكون وليّ عهده فقدم في ألفي فارس وتحالفا وأمدّهما المقتفي بالمال والاسلحة واجتمع معهم ايلدكز صاحب كنجة وأرانية وساروا لقتال السلطان محمد فلما بلغه خبرهم أرسل الى قطب الدين مودود بن زنكي ونائبة زين الدين على كوجك في المساعدة والارتفاق فاجاباه وسارا للقاء عمه سليمان شاه ومن معه واقتتلوا في جمادى الاولى فهزمهما السلطان محمد وافترقوا وتوّجه سليمان شاه الى بغداد على شهرزور وكانت لصاحب الموصل وبها الأمير بوران من جهة على كوجك نائب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 الموصل فاعترضه هنالك كوجك وبوران فاحتمله كوجك الى الموصل فحبسه بها وبعث الى السلطان محمد بالخبر وانه على الطاعة والمساعدة فقبل منه وشكر له. فرار سنجر من أسر الغز قد تقدّم لنا ما كان من أسر السلطان سنجر بيد الغز وافتراق خراسان واجتماع الأمراء بنيسابور وما اليها على الخان محمود بن محمد وامتنعوا من الغز وامتنع أتسز بن محمد أنوشتكين بخوارزم وانقسمت خراسان بينهم وكانت الحرب بين الغز وبينهما سجالا ثم هرب سنجر من أسر الغز وجماعة من الأمراء كانوا معه في رمضان سنة احدى وخمسين ولحق بترمذ ثم عبر جيحون الى دار ملكه بمرو فكانت مدّة أسره من جمادى سنة ثمان وأربعين ثلاث سنين وأربعة أشهر ولم يتفق فراره من الأسر الا بعد موت علي بك مقدّم القارغلية لأنه كان أشدّ شيء عليه فلما توفي انقطعت القارغلية اليه وغيرهم ووجد فسحة في أمره والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار السلطان محمد بغداد كان السلطان محمد بن محمود لأوّل ولايته الملك بعد عمه مسعود بعث الى المقتفي في الخطبة له ببغداد والعراق على عادتهم فمنعه لما رجا من ذهاب دولتهم استفحالهم واستبدادهم فسار السلطان من همذان في العساكر نحو العراق ووعده صاحب الموصل ونائبة بمدد العساكر فقدم آخر احدى وخمسين وبعث المقتفي في الحشد فجاء خطا وفرس في عسكر واسط وخالفهم مهلهل الى الجبلة فملكها واهتم المقتفي وابن هبيرة بالحصار وقطع الجسر وجمع السفن تحت التاج ونودي في الجانب الغربي بالعبور فعبروا في محرم سنة اثنتين وخمسين وخرب المقتفي ما وراء الخرسة صلاحا في استبداده وكذلك السلطان محمد من الجهة الأخرى ونصبت المنجنيقات والعرّادات وفرّق المقتفي السلاح على الجند والعامة وجاء زين الدين كجك في عسكر الموصل ولقي السلطان علي أوانا واتصلت الحرب واشتدّ الحصار وفقدت الأقوات وانقطعت المواد عن أهل بغداد وفتر كجك وعسكره في القتال أدبا مع المقتفي وقيل أوصاه بذلك نور الدين محمود بن زنكي أخو قطب الدين الأكبر ثم جاء الخبر بأنّ ملك شاه أخا السلطان محمد وايلدكز صاحب ارّان وربيبه ارسلان بن طغرل قصدوا همذان فسار عن بغداد مسرعا الى همذان آخر ربيع الأوّل وعاد زين الدين الى الموصل ولما وصل ملك شاه وايلدكز وربيبه ارسلان الى همذان أقاموا بها قليلا وسمعوا بمجيء السلطان فاجفلوا وساروا الى الري فقاتلهم الشحنة انبانج فهزموه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وحاصروه وأمدّه السلطان محمد بعسكر بن سقمس بن قماز فوجدهم قد أفرجوا عنه وقصدوا بغداد فقاتلهم فهزموه ونهبوا عسكره فسار السلطان محمد ليسابقهم الى بغداد فلما انتهى الى حلوان بلغه أن ايلدكز بالدينور ثم وافاه رسول انبانج بانه ملك همذان وخطب له فيها وان شملة صاحب خراسان هرب عن ايلدكز وملك شاه الى بلاده فعاد الى ارّان ورجع السلطان الى همذان قاصدا للتجهز الى بلاد ايلدكز باران. وفاة سنجر ثم توفي السلطان سنجر صاحب خراسان في ربيع سنة اثنتين وخمسين وقد كان ولى خراسان منذ أيام أخيه بركيارق وعهد له أخوه محمد فلما مات محمد خوطب بالسلطنة وكان الملوك كلهم بعدها في طاعته نحو أربعين سنة وخطب له قبلها بالملك عشرين سنة وأسره الغز ثلاث سنين ونصف ومات بعد خلاصه من الأسر وقطعت خطبته ببغداد والعراق ولما احتضر استخلف على خراسان ابن أخته محمد بن محمود بن بقراخان فأقام بجرجان وملك الغز مرو وخراسان وملك به المؤيد نيسابور وناحيته من خراسان وبقي الأمر على هذا الخلاف سنة اربع وخمسين وبعث الغز الى محمود الخان ليحضر عندهم فيملكوه فخافهم على نفسه وبعث ابنه اليهم فأطاعوه مدّة ثم لحق هو بهم كما نذكر بعد. منازعة ايتاق للمؤيد كان ايتاق هذا من موالي السلطان سنجر فلما كانت الفتنة وافترق الشمل ومات السلطان سنجر وملك المؤيد نيسابور وحصل له التقدّم بذلك على عساكر خراسان حسده جماعة من الأمراء وانحرف عنه ايتاق هذا فتارة يكون معه وتارة يكون في مازندان فلما كان سنة اثنتين وخمسين سار من مازندران في عشرة آلاف فارس من المنحرفين عن المؤيد وقصد نسا وأبيورد وأقام بها [1] المؤيد ايتاق فسار اليه وكبسه وغنم معسكره ومضى ايتاق منهزما الى مازندران وكان بين ملكها رستم وبين أخيه علي منازعة فتقرب ايتاق الى رستم بقتال أخيه علي فوجد لذلك غلبة ودفعه عنه وسار يتردد في نواحي خراسان بالعيث والفساد وألح على   [1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 226: واقام بنواحي نسا وأبيورد لا يظهر المخالفة للمؤيد، بل يراسله بالموافقة والمعاضدة له ويبطن ضدها. وانتقل المؤيد من المكاتبة الى المكافحة وسار اليه جريدة فأغار عليه وأوقع به فتفرق عنه جموعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 أسفراين فخربها وراسله السلطان محمود الخان والمؤيد في الطاعة والاستقامة فامتنع فساروا اليه في العساكر في صفر سنة ثلاث وخمسين فهرب الى طبرستان وبعث رستم شاه مازندان الى محمود والمؤيد بطاعته وبأموال جليلة وهدية فقبلوا منه وبعث ايتاق ابنه رهنا على الطاعة فرجعوا عنه واستقرّ بجرجان ودستان وأعمالها. منازعة سنقر العزيزي للمؤيد ومقتله كان سنقر العزيزي من أمراء السلطان سنجر وكان في نفسه من المؤيد ما عند الباقين فلما شغل المؤيد بحرب ايتاق سار سنقر من عسكر السلطان محمود بن محمد الى هراة فملكها واشترط عليه أن يستظهر بملك الغورية الحسين فأبى وطمع في الاستبداد لما رأى من استبداد الأمراء على السلطان محمود بن محمد فحاصره المؤيد بهراة واستمال الأتراك الذين كانوا معه فأطاعوه وقتلوا سنقر العزيزي غيلة وملك السلطان محمد هراة ولحق الفل من عسكر سنقر بإيتاق وتسلطوا على طوس وقراها واستولى الخراب على البلاد والله تعالى أعلم. فتنة الغز الثانية بخراسان وخراب نيسابور على يد المؤيد كان الغز بعد فتنتهم الاولى أوطنوا بلخ ونزعوا عن النهب والقتل بخراسان واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان محمود بن محمد الخان وكان القائم بدولته المؤيد أبوابه فلما كان سنة ثلاث وخمسين في شعبان سار الغز الى مرو فزحف المؤيد اليهم وأوقع طائفة منهم وتبعهم الى مرو وعاد الى سرخس وخرج معه الخان محمود لحربهم فالتقوا خامس شوّال وتواقعوا مرارا ثلاثا انهزم فيها الغز على مرو وأحسنوا السيرة وأكرموا العلماء والأئمة ثم أغاروا على سرخس وطوس واستباحوهما وخربوهما وعادوا الى مرو وأمّا الخان محمود بن محمد فسار الى جرجان ينتظر مآل أمرهم وبعثوا اليه الغز سنة أربع وخمسين يستدعونه ليملكوه فاعتذر لهم خشية على نفسه فطلبوا منه جلال الدين عمر فتوثق منهم بالحلف وبعثه اليهم فعظموه وملكوه في ربيع الآخر من سنة أربع ثم سار أبوه محمود الى خراسان وتخلف عنه المؤيد أبوابه وانتهى الى حدود نساوا بيورد فولى عليهم الأمير عمر بن حمزة النسوي فقام في حمايتهما المقام المحمود بظاهر نسا ثم سار الغز من نيسابور الى طوس لامتناع أهلها من طاعتهم فملكوها واستباحوها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 وعادوا الى نيسابور فساروا مع جلال الدين عمر بن محمود الخان الى حصار سارورا [1] وبها النقيب عماد الدين محمد بن يحي العلويّ الحسيني فحاصروه وامتنعت عليهم فرجعوا الى نسا وأبيورد للقاء الخان محمود بجرجان كما قدّمناه فخرج منها سائر الى خراسان واعترضه الغز ببعض القرى في طريقه فهرب منه وأسر بعضهم ثم هرب منه ولحق بنيسابور فلما جاء الخان محمود اليها مع الغز فارقها منتصف شعبان ودخلها الغز وأحسنوا السيرة وساروا الى سرخس ومرو فعاد المؤيد في عساكره الى نيسابور وامتنع أهلها عليه فحاصرها وافتتحها عنوة وخربها ورحل عنها الى سبق في شوّال سنة أربع وخمسين. استيلاء ملك شاه بن محمود على خوزستان ولما رجع السلطان ملك شاه محمد بن محمود من حصار بغداد وامتنع الخليفة من الخطبة له أقام بهمذان عليلا وسار أخوه ملك شاه الى قم وقاشان فافحش في نهبها ومصادرة أهلها وراسله أخوه السلطان محمد في الكف عن ذلك فلم يفعل وسار الى أصبهان وبعث الى ابن الجمقري وأعيان البلد في طاعته فاعتذروا بطاعة أخيه فعاث في قراها ونواحيها فسار السلطان اليه من همذان وفي مقدّمته كرجان الخادم فافترقت جموع ملك شاه ولحق ببغداد فلما انتهى الى قوس لقيه موبذان وسنقر الهمذاني فأشارا عليه بقصد خوزستان من بغداد فسار الى واسط ونزل بالجانب الشرقي وساء أثر عسكره في النواحي ففتحوا عليهم البثوق وغرق كثير منهم ورجع ملك شاه الى خوزستان فمنعه شملة من العبور فطلب الجوار في بلده الى أخيه السلطان فمنعه فنزل على الأكراد الذين هنالك فاجتمعوا عليه من الجبال والبسائط وحارب شملة ومع ملك شاه سنقر الهمذاني وموبذان وغيرهما من الأمراء فانهزم شملة وقتل عامّة أصحابه واستولى ملك شاه على البلاد وسار الى فارس والله هو المؤيد بنصره. وفاة السلطان محمد وولاية عمه سليمان شاه ثم توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملك شاه آخر سنة أربع وخمسين وهو الّذي حاصر بغداد يطلب الخطبة له من الخليفة ومنعه فتوفي آخر هذه السنة لسبع سنين ونصف من ولايته وكان له ولد صغير فسلّمه الى سنقر الاحمديلي وقال هو وديعة عندك فأوصل به   [1] وردت في الكامل ج 11 ص 233: (سابزوار) . ولم يذكر صاحب معجم البلدان سارورا ولعلها سارية. وقال البلاذري: كور طرستان ثماني كور، سارية وبها منزل العامل في أيام الطاهرية، وكان العامل قبل ذلك في آمل، وجعلها أيضا الحسن بن زيد ومحمد بن زيد العلويان دار مقامهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 الى بلادك فانّ العساكر لا تطيعه فوصل به الى مراغة واتفق معظم الجند على البيعة لعمه سليمان شاه وبعث أكابر الأمراء بهمذان الى أتابك [1] زين الدين مودود أتابك ووزير مودود وزيره فأطلقه مودود وجهزه بما يحتاج اليه في سلطانه وسار معه زين الدين على كجك في عساكر الموصل فلما انتهى الى بلاد الجبل وأقبلت العساكر للقاء سليمان شاه ذكر معاملتهم مع السلطان ودالتهم عليه فخشي على نفسه وعاد الى الموصل ودخل سليمان شاه همذان وبايعوا له والله سبحانه تعالى أعلم. وفاة المقتفي وخلافة المستنجد ثم توفي المقتفي لأمر الله في ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة من خلافته وقد كان استبدّ في خلافته وخرج من حجر السلجوقية عند افتراق أمرهم بعد السلطان مسعود كما ذكرناه في أخبار الخلفاء ولما توفي بويع بعده بالخلافة ابنه المستنجد فجرى على سنن أبيه في الاستبداد واستولى على بلاد الماهلي ونزل اللحف وولى عليها من قبله كما كانت لأبيه وقد تقدّم ذكر ذلك في أخبارهما انتهى. اتفاق المؤيد مع محمود الخان قد كنا قدّمنا أنّ الغز لما تغلبوا استدعوا محمود الخان ليملكوه فبعث اليهم بابنه عمر فملكوه ثم سار محمود من جرجان الى نسا وجاء الغز فساروا به الى نيسابور فهرب عنها المؤيد ودخلها محمود والغز ثم ساروا عنها فعاد اليها المؤيد فحاصرها وملكها عنوة وخربها في شوّال سنة أربع وخمسين ورحل عنها الى سرخس فعاد اليها المؤيد فحاصرها وملكها عنوة ورحل عنها الى بيهق ثم رجع اليها سنة خمس وخمسين وعمر خرابها وبالغ في الإحسان اليها ثم سار لإصلاح أعمالها ومحو آثار المفسدين والثّوار من نواحيها ففتح حصن إشقيل وقتل الثوار الزيدية وخرّبه وفتح حصن خسر وجور من أعمال بيهق وهو من بناء كنجر وملك الفرس أيام حربه مع جراسياق وملكه ورتب فيه الحامية وعاد الى نيسابور ثم قصد مدينة كندر من أعمال طرسا وفيها متغلب اسمه خرسده يفسد السابلة ويخرب الأعمال ويكثر الفتك وكان البلاء به عظيما في خراسان فحاصره ثم ملك عليه الحصن عنوة وقتله وأراح البلاد منه ثم قصد في رمضان من السنة مدينة بيهق وكانوا قد   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 254: سار سليمان شاه من الموصل الى همذان لتولي السلطنة. وقد تقدم سبب قبضه واخذه الى الموصل. وسبب مسيره اليها ان الملك محمد بن السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان الى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه اليهم ليولوه السلطنة فاستقرت القاعدة بينهم ان يكون سليمان شاه سلطانا وقطب الدين أتابك وجمال الدين وزير قطب الدين وزيرا لسليمان شاه وتحالفوا على هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 عصوا عليه فراجعوا الطاعة وقبلهم واستفحل أمره فأرسل اليه الخان محمود بن محمد وهو مع الغز بالولاية على نيسابور وطوس وما اليها فاتصلت يده به واستحكم الصلح بينه وبين الغز وذهبت الفتن. الحرب بين عسكر خوارزم شاه والأتراك البرزية كان هؤلاء الأتراك البرزية من شعوب الترك بخراسان وأميرهم بقراخان بن داود فأغار عليهم جمع من عساكر خوارزم شاه وأوقعوا بهم وفتكوا فيهم ونجا بقراخان في الفل منهم الى السلطان محمود بخراسان ومن معه من الغز مستصرخا بهم وهو يظن أن أيتاق هو الّذي هيج عليهم فسار الغز معه على طريق نسا وأبيورد وقصدوا ايتاق فلم يكن له بهم قوّة فاستنصر شاه مازندان فسار لنصره واحتشد في أعماله من الأكراد والديلم والتركمان وقاتلوا الغز والبرزية [1] بنواحي دهستان فهزمهم خمسا وكان ايتاق في ميمنة شاه مازندان وأفحش الغز في قتل عسكرهم ولحق شاه مازندان بسارية وايتاق شهروز خوارزم ثم ساروا الى دهستان فنهبوها وخربوها سنة ست وخمسين وخربوا جرجان كذلك وافترق أهلها في البلاد ثم سار ايتاق الى بقراتكن المتغلب على أعمال قزوين فانهزم من بين يديه ولحق بالمؤيد وصار في جملته واكتسح ايتاق سائر أعماله ونهب أمواله فقوى بها. وفاة ملك شاه بن محمود قد قدّمنا انّ ملك شاه بن محمود سار بعد أخيه السلطان محمد من خوزستان الى أصبهان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس فأطاعه ابن الخجنديّ رئيس أصبهان وسائر أهلها وجمع له الأموال وأرسل ملك شاه الى أهل الدولة بأصبهان يدعوهم الى طاعته وكان هو أهم مع عمه سليمان فلم يجيبوه الى ذلك وبعثوا عن سليمان من الموصل وملكوه وانفرد ملك شاه بأصبهان واستفحل أمره وبعث الى المستنجد في الخطبة له ببغداد مكان عمه سليمان شاه وان تعاد الأمور الى ما كانت ويتهدّدهم فوعد الوزير عميد الدين بن هبيرة جارية جاعلها على سمه فسمته في الطعام وفطن المطبب بأنه مسموم وأخبر بذلك شملة   [1] كذا بياض بالأصل، وعبارة ابن الأثير ج 10 ص 261: فاستنجد شاه مازندران فجاءه ومعه من الأكراد والديلم والأتراك والتركمان الذين يسكنون نواحي ايسكون جمع كثير فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 ودكلا فاحضروا الجارية وأقرت ومات ملك شاه وأخرج أهل أصبهان أصحابه وخطبوا لسليمان شاه وعاد شملة الى خراسان فارتجع ما كان ملك شاه تغلب عليه منها. قتل سليمان شاه والخطبة لأرسلان كان سليمان لما ملّك أقبل على اللهو ومعاقرة الخمر حتى في نهار رمضان وكان يعاشر الصفاعين والمساخر وعكف على ذلك مع ما كان فيه من الخرق والتهور فقعد الأمراء عن غشيان بابه وشكوا الى شرف الدين كردبازه الخادم وكان مدبر مملكته وكان حسن التربية والدين فدخل عليه يوما يعذله على شأنه وهو مع ندمائه بظاهر همذان فأشار اليهم أن يعبثوا بكردبازه فخرج مغضبا واعتذر اليه عند ما صحا فأظهر له القبول وقعد عن غشيان مجلسه وكتب سليمان شاه الى انبانج صاحب الريّ يدعوه الى الحضور فوعده بذلك إذا أفاق من مرضه وزاد كردبازه استيحاشا فاستحلف الأمراء على خلع سليمان وبدأ بقتل جميع الصفاعين الذين كانوا ينادمونه وقال انما فعلته صونا لملكك ثم عمل دعوة في داره فحضر سليمان شاه والأمراء وقبض على سليمان شاه ووزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحاقدي وعلى خواصه وذلك في شوّال سنة خمس وخمسين وقتل وزيره وخواصه وحبس سليمان شاه قليلا ثم قتله ثم أرسل الى ايلدكز صاحب أرّان وأذربيجان يستقدم ربيبه أرسلان بن طغرل ليبايع له بالسلطنة وبلغ الخبر الى انبانج صاحب الريّ فسار الى همذان ولقيه كردبازه وخطب له بالسلطنة بجميع تلك البلاد وكان ايلدكز قد تزوّج بأم أرسلان وولدت له ابنه البهلوان محمد ومزدارسلان عثمان فكان ايلدكز أتابك وابنه البهلوان حاجبا وهو أخو أرسلان لأمّه وايلدكز هذا من موالي السلطان مسعود ولما ملك أقطعه ارّان وبعض أذربيجان وحدثت الفتن والحروب فاعتصم هو باران ولم يحضر عند أحد من ملوكهم وجاء اليه ارسلان شاه من تلك الفتن فأقام عنده الى أن ملك ولما خطب له بهمذان بعث ايلدكز أتابك الى انبانج صاحب الريّ ولاطفه وصاهره في ابنته لابنه البهلوان وتحالفا على الاتفاق وبعث الى المستنجد بطلب الخطبة لارسلان في العراق واعادة الأمور الى عادتها أيام السلطان مسعود فطرد رسوله بعد الإهانة ثم أرسل ايلدكز الى آقسنقر الاحمديلي يدعوه الى طاعة السلطان ارسلان فامتنع وكان عنده ابن السلطان شاه بن محمود المدني أسلمه اليه عند موته فتهدّده بالبيعة له وكان الوزير ابن هبيرة يكاتبه من بغداد ويقمعه في الخطبة لذلك الصبي قصدا للنصر من بينهم فجهز ايلدكز العساكر مع البهلوان الى آقسنقر واستمدّ آقسنقر شاهر بن سقمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 القطبي صاحب خلاط وواصله فمدّه بالعساكر وسار نحو البهلوان وقاتله فظفر به ورجع البهلوان الى همذان مهزوما والله تعالى أعلم. الحرب بين ايلدكز وانبانج لما مات ملك شاه بن محمود بأصبهان كما قلناه لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس ومعهم ابنه محمود فانتزعه منهم صاحب فارس زنكي بن دكلا السلقدي [1] وأنزله في قلعة إصطخر فلما ملك ايلدكز السلطان ارسلان وطلب الخطبة ببغداد وأخذ الوزير ابن هبيرة في استفساد الاطراف عليهم وبعث لابن آقسنقر في الخطبة لابن السلطان محمد شاه الّذي عنده وكاتب صاحب فارس أيضا يشير عليه بالبيعة للسلطان محمد بن السلطان ملك شاه الّذي عنده ويعده بالخطبة له إن ظفر بايلدكز فبايع له ابن دكلا وخطب له بفارس وضرب النوب الخمس على بابه وجمع العساكر وبلغ الى ايلدكز فجمع وسار في أربعين ألفا الى أصبهان يريد فارس فأرسل الى زنكي في الخطبة لارسلان شاه فأبى فقال له ايلدكز أنّ المستنجد أقطعني بلادك وأنا سائر اليها وتقدّمت طائفة الى نواحي أرجان فلقيتها سريّة لارسلان بوقا صاحب أرجان فأوقعوا بطائفته وقتلوا منهم وبعثوا بالخبر الى انبانج فنزل [2] من الري في عشرة آلاف وأمدّه آقسنقر الأحمد يلي [3] بخمسة آلاف فقصد [4] وهرب صاحب ابن البازدان وابن طغايرك وغيرهما من أولياء ايلدكز للقاء انبانج ورد عسكر المدافعة زنكي عن شهبرم وغيرها من البلاد فهزمهم زنكي بن دكلا ورجعوا اليه فاستدعى عساكره من أذربيجان وجاء هبيس بن مزدارسلان واستمدّ انبانج وقتل أصحابه ونهب سواده ودخل الريّ وتحصن في قلعة طبرك ثم تردّدت الرسل بينه وبين ايلدكز في الصلح وأقطعه حربادفان [5] وغيرها وعاد ايلدكز الى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم. الفتنة بنيسابور وتخريبها وفي ربيع سنة ست وخمسين قبض المؤيد على أحياء [6] نيسابور وحبسهم وفيهم نقيب   [1] وقد ورد اسمه أيضا السلفري (الكامل) ج 10 ص 346. [2] وقد ورد اسمه أيضا اينانج (الكامل) ج 11 ص 266. [3] ورد في بعض النسخ آقسنقر الاحمديلي وفي الكامل أيضا ج 11 ص 270. [4] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 271: فأرسل اليه ابنه آقسنقر الاحمديلي خمسة الاف فارس وهرب ابن البازداد صاحب قزوين. [5] لم يذكر صاحب معجم البلدان بلدة بهذا الاسم، وفي الكامل ج 9 ص 75: جرماذقان. [6] ورد في الكامل أعيان نيسابور ج 11 ص 271. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وآخذهم على ما فعله آباؤهم بأهل البلد من أهل البلد من النهب والاعتداء على الناس في أموالهم وحرصهم فأخذ هؤلاء الأعيان ينهونهم كأنهم لم يضربوا على أيديهم [1] وقتل جماعة من أهل الفساد فخرب البلد وامتدّت الايدي الى المساجد والمدارس وخزائن الكتب وأحرق بعضها ونهب بعضها وانتقل المؤيد الى الشادباخ فأصلح سوره وسدّ ثلمة وسكنه وخرب نيسابور بالكلية وكان الّذي اختط هذا الشادباخ عبد الله بن طاهر أيام ولايته على خراسان يتفرد بسكناه هو وحشمه عن البلد تجافيا عن مزاحمتهم ثم خربت وجدّدها البارسلان ثم خربت فجدّدها الآن المؤيد وخربت نيسابور بالكلية ثم زحف الغز والخان محمود معهم وهو ملك خراسان لذلك العهد فحاصروا المؤيد بالشادباخ شهرين ثم هرب الخان عنهم الى شهرستان كأنه يريد الحمام وأقام بها وبقي الغز إلى آخر شوّال ثم رجعوا فنهبوا البلاد ونهبوا طوس ولما دخل الخان الى نيسابور أمهله المؤيد الى رمضان سنة سبع وخمسين ثم قبض عليه وسمله وأخذ ما كان معه من الذخائر وحبسه وحبس معه جلال محمد فماتا في محبسهما وخطب المؤيد لنفسه بعد المستنجد ثم زحف المؤيد الى شهرستان وقرب نيسابور فحاصرها حتى نزلوا على حكمه في شعبان سنة تسع وخمسين ونهبها عسكره ثم رفع الايدي عنها واستقامت في ملكه والله أعلم. فتح المؤيد طوس وغيرها ثم زحف المؤيد الى قلعة دسكرة من طوس وكان بها أبو بكر جاندار ممتنعا فحاصره بها شهرا وأعانه أهل طوس لسوء سيرته فيهم ثم جهده الحصار فاستأمن ونزل فحبسه وسار الى كرمان فأطاعوه وبعث عسكرا الى أسفراين فتحصن بها رئيسها عبد الرحمن بن محمد بالقلعة فحاصره واستنزله وحمله مقيدا الى الشادباخ فحبس ثم قتل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين ثم ملك المؤيد قهندر ونيسابور واستفحل ملكه وعاد الى ما كان عليه وعمر الشادباخ وخرّب المدينة العتيقة ثم بعث عسكرا الى بوشنج وهراة وهي في ولاية محمد بن لحسين ملك الغور فحاصرها وبعث الملك محمد عسكرا لمدافعته فأفرجوا عنها وصفت ولاية هراة للغورية.   [1] وفي الكامل: وحبسهم في ربيع الأخر سنة ست وخمسين وقال: أنتم الذين أطعتم الزنود والمفسدين حتى فعلوا هذه الفعال ولو أردتم منعهم لامتنعوا (ج 11 ص 271) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 الحرب بين المسلمين والكرج كان الكرج قد ملكوا مدينة انى من بلاد أران في شعبان سنة ست وخمسين واستباحوها قتلا وأسرا وجمع لهم شاه ارمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط جموعا من الجند والمتطوّعة وسار اليهم فقاتلوه وهزموه وأسر كثير من المسلمين ثم جمع الكرج في شعبان سنة سبع وخمسين ثلاثين ألف مقاتل وملكوا دوس من أذربيجان والجبل وأصبهان فسار اليهم ايلدكز وسار معه شاه ارمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط وآقسنقر صاحب مراغة في خمسين ألفا ودخلوا بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين فاستباحوها وأسروا الرجال وسبوا النساء والولدان وأسلم بعض أمراء الكرج ودخل مع المسلمين وكمن بهم في بعض الشعاب حتى زحف الكرج وقاتلوا المسلمين شهرا أو نحوه ثم خرج الكمين من ورائهم فانهزموا واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وعادوا ظافرين. ملك المؤيد اعمال قومس والخطبة للسلطان ارسلان بخراسان ثم سار المؤيد الى ابه صاحب نيسابور الى بلاد قومس فملك بسطام ودامغان وولى بسطام مولاه تنكز فجرى بينه وبين شاه مازندان اختلاف أدى الى الحرب واقتتلوا في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ولما ملك المؤيد قومس بعث اليه السلطان ارسلان بن طغرل بالخلع والاولية لما كان بين المؤيد وايلدكز من المودّة وأذن له في ولاية ما يفتحه من خراسان ويخطب له فيها فخطب له في أعمال قومس وطوس وسائر أعمال نيسابور ويخطب لنفسه بعد ارسلان وكانت الخطب في جرجان ودهستان لخوارزم شاه ارسلان بن اتسز وبعده للأمير ايتاق والخطبة في مرو وبلخ وسرخس وهي بيد الغز وهراة وهي بيد الأمير اتيكين وهو مسالم للغز للسلطان سنجر يقولون اللهمّ اغفر للسلطان السعيد سنجر وبعده لأمير تلك المدينة والله تعالى وليّ التوفيق. اجلاء القارغلية من وراء النهر كان خان خاقان الصيني ولي على سمرقند وبخارى الخان جغرا بن حسين تكين وهو من بيت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 قديم في الملك ثم بعث اليه سنة سبعة وخمسين باجلاء القارغلية من أعماله الى كاشغر ويشتغلون بالمعاش من الزراعة وغيرها فامتنعوا فألح عليهم فاجتمعوا وساروا الى بخارى فدس أهل بخارى الى جغراخان وهو بسمرقند ووعدوا القارغلية بالمصانعة وطاوعوهم الى أن صجهم جغر في عساكره فأوقع بهم وقطع دابرهم والله تعالى أعلم. استيلاء سنقر على الطالقان وغرشستان وفي سنة تسع وخمسين استولى الأمير صلاح الدين سنقر من موالي السلطان سنجر على بلاد الطالقان وأغار على غرشستان حتى ملكها وصارت في حكمه بحصونها وقلاعها وصالح أمراء الغز وحمل لهم الاتاوة. قتل صاحب هراة كان صاحب هراة الأمير اتيكين وبينه وبين الغز مهادنة فلما قتل الغز ملك الغور محمد بن الحسين كما مرّ في أخباره طمع اتيكين في بلاده فجمع جموعه وسار اليها في رمضان سنة تسع وخمسين وتوغل في بلاد الغور فقاتله أهلها وهزموه وقتل في المعركة وقصد الغز هراة وقد اجتمع أهلها على أثير الدين منهم فاتهموه بالميل للغز وقتلوه واجتمعوا على أبي الفتوح بن علي ابن فضل الله الطغرائي ثم بعثوا الى المؤيد بطاعتهم فبعث اليهم مملوكه سيف الدين تنكز فقام بأمرهم وبعث جيشا الى سرخس ومرو وأغاروا على دواب الغز فأفرجوا عن هراة ورجعوا لطاعته والله تعالى أعلم. ملك شاه مازندران قومس وبسطام ووفاته قد ذكرنا استيلاء المؤيد على قومس وبسطام وولاية مولاه تنكز عليها ثم أنّ شاه مازندران وهو رستم بن علي بن هربار بن قاروت [1] جهز اليها عسكرا مع سابق الدين القزويني من أمرائه فملك دامغان وسار إليه تنكز ممن معه من العسكر فكبسهم القزويني وهزمهم واستولى على البلاد وعاد تنكز إلى المؤيد بنيسابور وجعل يغير على بسطام قومس ثم توفي شاه مازندان في ربيع سنة ستين فكتم ابنه علاء الدين موته حتى استولى على حصونه وبلاده ثم أظهره وملك مكانه ونازعه اتياق صاحب جرجان ودهستان ولم يرع ما كان بينه وبين أبيه فلم يظفر بشيء والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] وفي الكامل ج 1/ 500 رستم بن علي بن شهريار بن قارن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 حصر عسكر المؤيد نسا ثم بعث المؤيد عساكره في جمادى سنة ستين لحصار مدينة نسا فبعث خوارزم شاه بك ارسلان بن اتسز في عساكره إليها فأجفلت عنها عساكر المؤيد ورجعوا إلى نيسابور وصارت نسا في طاعة خوارزم شاه وخطب له فيها ثم سار عسكر خوارزم إلى دهستان وغلبوه عليها وأقام فيها بطاعته والله أعلم. الحرب بين البهلوان وصاحب مراغة ثم بعث آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة سنة ثلاث وستين إلى بغداد في الخطبة للملك الّذي عنده وهو ابن السلطان محمد شاه على أن يتجافى عن العراق ولا يطلب الخطبة منه إلا إذا أسعف بها فأجيب بالوعد الجميل وبلغ الخبر إلى ايلدكز صاحب البلاد فبعث ابنه البهلوان في العساكر لحرب آقسنقر فحاربه وهزمه وتحصن بمراغة فنازله البهلوان وضيق عليه وتردّد بينهما الرسل واصطلحوا وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان. ملك شملة فارس وإخراجه عنها كان زنكي بن دكلا قد أساء السيرة في جنده فأرسلوا إلى شملة صاحب خوزستان واستدعوه ليملكوه فسار ولقي زنكي وهزمه ونجا إلى الأكراد الشوابكار وملك شملة بلاد فارس فأساء السيرة في أهلها ونهب ابن أخيه خرسنكا البلاد فنفر أهل فارس عنه ولحق بزنكي بعض عساكره فزحف إلى فارس وفارقها شملة إلى بلاده خوزستان وذلك كله سنة أربع وستين وخمسمائة. ملك ايلدكز الري كان إنبانج قد استولى على الريّ واستقرّ فيها بعد حروبه مع ايلدكز على جزية يؤديها إليه ثم منع الضريبة واعتذر بنفقات الجند فسار إليه ايلدكز سنة أربع وستين وحاربه إنبانج فهزمه ايلدكز وحاصره بقلعة طبرك وراسل بعض مماليكه ورغبهم فغدروا به وقتلوه واستولى أيلدكز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 على طبرك وعلى الريّ وولي عليها علي بن عمر باغ ورجع إلى همذان وشكر لموالي إنبانج الذين قتلوه ولم يف لهم بالوعد فافترقوا عنه وسار الّذي تولى قتله إلى خوارزم شاه فصلبه لما كان بينه وبين انبانج من الوصلة والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه. وفاة صاحب كرمان والخلف بين أولاده ثم توفي سنة خمس وستين الملك طغرل بن قاروت بك صاحب كرمان وولى ابنه أرسلان شاه مكانه ونازعه أخوه الأصغر بهرام شاه فحاربه أرسلان وهزمه فلحق بالمؤيد في نيسابور فأنجده بالعساكر وسار إلى أخيه أرسلان فهزمه وملك كرمان ولحق أرسلان بأصبهان مستنجدا بايلدكز فأنجده بالعساكر وارتجع كرمان ولحق بهرام بالمؤيد وأقام عنده ثم هلك أرسلان فسار بهرام إلى كرمان وملكها ثم توفي المستنجد وولي ابنه المستضيء ولم نترجم لوفاة الخلفاء هاهنا لأنها مذكورة في أخبارهم وإنما ذكرناها قبل هؤلاء لأنهم كانوا في كفالة السلجوقية وبني بويه قبلهم فوفاتهم من جملة أخبار الدولتين وهؤلاء من لدن المقتفي قد استبدوا بأمرهم وخلافتهم من بعد ضعف السلجوقية بوفاة السلطان مسعود وافترقت دولتهم في نواحي المشرق والمغرب واستبد منها الخلفاء ببغداد ونواحيها ونازعوا من قبلهم أنهم كانوا يخطبون لهم في أعمالهم ونازعهم فيها مع ذلك حرصا على الملك الّذي سلبوه وأصبحوا في ملك منفرد عن أولئك المنفردين مضافا إلى الخلافة التي هي شعارهم وتداول أمرهم إلى أن انقرضوا بمهلك المستعصم على يد هلاكو. وفاة خوارزم شاه وولاية ابنه سلطان شاه ومنازعته مع أخيه الأكبر علاء الدين تكش لما انهزم خوارزم شاه أرسلان أمام الخطا رجع إلى خوارزم فمات سنة ثمان وستين وولي ابنه سلطان شاه فنازعه أخوه الأكبر علاء الدين تكش واستنجد بالخطا وسار إلى خوارزم فملكها ولحق سلطان شاه بالمؤيد صريخا فسار معه بجيوشه ولقيهم تكش فانهزم المؤيد وجيء به أسيرا إلى تكش فقتل بين يديه صبرا وعاد أصحابه إلى نيسابور فولوا ابنه طغان شاه أبو بكر ابن المؤيد وكان من أخبار طغان شاه وتكش ما نذكره في أخبار دولتهم وفي كيفية قتله خبر آخر نذكره هنالك ثم سار خوارزم شاه سنة تسع وستين إلى نيسابور وحاصرها مرّتين ثم هزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 في الثانية طغان شاه بن المؤيد وأخذه أسيرا وحمله إلى خوارزم وملك نيسابور وأعمالها وجميع ما كان لبني المؤيد بخراسان وانقرض أمرهم والبقاء للَّه وحده والله تعالى أعلم. وفاة الأتابك شمس الدين أيلديكز وولاية ابنه محمد البهلوان ثم توفي الاتابك شمس الدين أيلدكز أتابك أرسلان شاه بن طغرل صاحب همذان وأصبهان والريّ وأذربيجان وكان أصله مملوك الكمال الشهير ابن وزير السلطان محمود ولما قتل الكمال صار السلطان وترقى في كتب الولاية فلما ولي السلطان مسعود ولاه أرانية فاستولى عليها وبقيت طاعته للملوك على البعد واستولى على أكثر أذربيجان ثم ملك همذان وأصبهان والريّ وخطب لربيبه أرسلان بن طغرل وبقي أتابك وبلغ عسكره خمسين ألفا واتسع ملكه من تفليس إلى مكران وكان متحكما على أرسلان وليس له من الدولة إلا جراية تصل إليه ولما هلك أيلدكز قام بالأمر بعده ابنه محمد البهلوان وهو أخو السلطان أرسلان لامّه فسار أوّل ملكه لإصلاح أذربيجان وخالفه ابن سنكي وهو ابن أخي شملة صاحب خوزستان إلى بلد نهاوند فحاصرها ثم تأخر ابن سنكي من تستر وصحبهم من ناحية أذربيجان يوهمهم أنه مدد البهلوان ففتحوا له البلد ودخل فطلب القاضي والأعيان ونصبهم وتوجه نحو ما سندان قاصدا العراق ورجع إلى خوزستان ثم سار شملة سنة سبعين وقصد بعض التركمان فاستنجدوا البهلوان بن أيلدكز فأنجدهم وقاتلوه فهزموه وأسر شملة جريحا وولده وابن أخيه وتوفي بعد يومين وهو من التركمان الأتسزية وملك ابنه من بعده وسار البهلوان سنة سبعين إلى مدينة تبريز وكان صاحبها آقسنقر الأحمديلي قد هلك وعهد بالملك بعده لابنه ملك الدين فسار إلى بلاده وحاصر مراغة وبعث أخاه فنزل وعاد عن مراغة إلى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة السلطان أرسلان بن طغرل ثم توفي السلطان أرسلان بن طغرل مكفول البهلوان بن أيلدكز وأخوه لامّه بهمذان سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وخطب بعده لابنه طغرل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 وفاة البهلوان محمد بن أيلديكز وملك أخيه قزل ثم توفي البهلوان محمد بن أيلدكز أوّل سنة اثنتين وخمسمائة وكانت البلاد والرعايا في غاية الطمأنينة فوقع عقب موته بأصبهان بين الحنفية والشافعية وبالريّ بين أهل السنة والشيعة فتن وحروب آلت إلى الخراب وملك البلاد بعد البهلوان أخوه فنزل أرسلان واسمه عثمان وكان البهلوان كافلا للسلطان طغرل وحاكما عليه ولما هلك قزل لم يرض طغرل بتحكمه عليه وفارق همذان ولحق به جماعة من الأمراء والجند وجرت بينه وبين قزل حروب ثم غلبه طغرل إلى الخليفة فأمره بعمارة دار السلطان فطرد رسوله وهدمت دار السلطنة وألحقت بالأرض وبعث الخليفة الناصر لدين الله سنة أربع وثمانين عسكرا مع وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس لانجاده قزل على طغرل قبل همذان وهزمهم ونهب جميع ما معهم وأسر الوزير ابن يونس. قتل قزل أرسلان قتلغ وولاية أخيه قد تقدّم لنا ما كان بين السلطان طغرل وبين قزل بن أيلدكز من الحروب ثم أن قزل غلبه واعتقله في بعض القلاع ودانت له البلاد وأطاعه ابن دكلا صاحب فارس وخوزستان وعادا إلى أصبهان والفتن بها متصلة فأخذ جماعة من أعيان الشافعية وصلبهم وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة سنة سبعة وثمانين ثم قتل غلبة على فراشه ولم يعرف قاتله وأخذ جماعة من غلمانه بالظنة وكان كريما حليما يحب العدل ويؤثره ولما هلك ولى من بعده قتلغ ابن أخيه البهلوان واستولى على الممالك التي كانت بيده. قتل السلطان طغرل وملك خوارزم شاه الري ووفاة أخيه سلطان شاه ولما توفي قزل وولي قتلغ بن أخيه البهلوان كما قلناه أخرج السلطان طغرل من محبسه بالقلعة التي كان بها واجتمع إليه العساكر وسار إلى همذان فلقيه قتلغ بن البهلوان فانهزم بين يديه ولحق بالريّ وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تتش ليستنجده فسار إليه سنة ثمان وثمانين وندم قتلغ على استدعائه فتحصن ببعض قلاعه وملك خوارزم شاه الري وملك قلعة طبرك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 وصالح السلطان طغرل وولى على الريّ وعاد إلى خوارزم سنة تسعين فأحدث أحدوثة السلطان شاه [1] نذكره في أخبارهم وسار السلطان طغرل إلى الري فأغار عليها وفر منه قتلغ بن البهلوان وبعث إلى خوارزم شاه يستنجده ووافق ذلك وصول منشور من الخليفة إليه بإقطاعه البلاد فسار من نيسابور إلى الريّ وأطاعه قتلغ وسار معه إلى همذان وخرج طغرل للقائهم قبل أن يجمع العساكر ولقيهم قريبا من الريّ في ربيع الأوّل فحمل عليهم وتورط بينهم فصرع عن فرسه وقتل وملك خوارزم شاه همذان وتلك البلاد جميعا وانقرضت مملكة بني ملك شاه وولى خوارزم شاه على همذان وملك الأعمال فبلغ انبانج بن البهلوان وأقطع كثيرا منها مماليكه وقدم عليهم مساحق منهم ثم استولى وزير الخليفة ابن العطاف على همذان وأصبهان والريّ من يدمو إليه وانتزعها منهم خوارزم كما ذكرناه في أخبار الخلفاء وجاءت العساكر من قبل الخليفة إلى همذان مع أبي الهيجاء الشمس من أمراء الايوبية وكان أميرا على القدس فعزلوه عنها وسار إلى بغداد فبعثه الناصر سنة ثلاث وتسعين بالعساكر إلى همذان ولقي عندها أزبك بن البهلوان مطيعا فقبض عليه وأنكر الخليفة ذلك وبعث بإطلاقه وخلع عليه وعاد إلى بلاد أذربيجان. ملك الكرج الدويرة كان أزبك بن البهلوان قد استولى على أذربيجان بعد موته وكان مشغولا بلذاته فسار الكرج إلى مدينة دوير [2] وحاصرها وبعث أهلها إليه بالصريخ فلم يصرخهم حتى ملكها الكرج عنوة واستباحوها والله تعالى أعلم.   [1] وفي الكامل ج 12 ص 107: فشتى خوارزم شاه بخوارزم فلما انقضى الشتاء سار إلى مرو لقصد أخيه سنة تسع وثمانين فترددت الرسل بينهما في الصلح. وإذ قد ورد على خوارزم شاه رسول من مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسلم إليه القلعة لأنه قد استوحش من صاحبه سلطان شاه، فسار خوارزم شاه إليه مجدا فتسلم القلعة وصار معه. وبلغ ذلك سلطان شاه ففت ذلك في عضده، وتزايد كمده فمات سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعته إلى مرو فتسلمها، وتسلم مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه. [2] ورد اسمها في بعض النسخ دوبرة وفي الكامل ج 12 ص 283: استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان ونهبوها واستباحوها وأكثروا القتل في أهلها، وكانت هي وجميع بلاد أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 قتل كوجه ببلاد الجبل وملك آيدغمش كان كوجه [1] من موالي البهلوان قد تغلب على الريّ وهمذان وبلاد الجبل واصطنع صاحبه آيدغمش ووثق به فنازعه الأمر وحاربه فقتله واستولى آيدغمش على البلاد وبقي أزبك بن البهلوان مغلبا ليس له من الحكم شيء. قصد صاحب مراغة وصاحب أربل أذربيجان قد ذكرنا أن أزبك كان مشغولا بلذاته مهملا لملكه ثم حدثت بينه وبين صاحب أربل وهو مظفر الدين كوكبري سنة اثنتين وستمائة فتنة حملت مظفر الدين على قصده فسار إلى مراغة واستنجد صاحبها علاء الدين بن قراسنقر الأحمديلي فسار معه لحصار تبريز وبعث أزبك الصريخ إلى آيدغمش بمكانه من بلاد الجبل فسار إليه وأرسل مظفر الدين بالفتن والتهديد فعاد إلى بلده وعاد علاء الدين بن قراسنقر إلى بلاد مراغة فسار آيدغمش وأزبك وحاصروه بمراغة حتى سلم قلعة من قلاعه ورجعوا عنه والله تعالى أعلم. وفاة صاحب مازندان والخلف بين أولاده ثم توفي حسام الدين أزدشير صاحب مازندان [2] وولي ابنه الأكبر وأخرج أخاه الأوسط عن البلاد فلحق بجرجان وبها على شاه برتكش نائبا عن أخيه خوارزم فاستنجده على شرط الطاعة له وأمره أخوه تكش بالمسير معه فساروا من جرجان وبلغهم في طريقهم مهلك صاحب مازندان المتولي بعد أبيه وأنّ أخاه الأصغر استولى على الكراع والأموال فساروا إليه وملكوا البلاد ونهبوها مثل سارية وآمد وغيرها وخطب لخوارزم شاه فيها وعاد علي شاه إلى خراسان وأقام ابن صاحب مازندان وهو الأوسط الّذي استصرخ به وقد امتنع أخوه الأصغر بقلعة كوري ومعه الأموال والذخائر وأخوه الأوسط فراسله واستعطف وقد ملك البلاد جميعا والله وليّ التوفيق.   [1] ورد اسمه في الكامل: كوكجا. [2] ورد في بعض النسخ مازندان وهو الصحيح وفي معجم البلدان: مازندران: بعد الزاي نون ساكنة، ودال مهملة وراء وآخره نون: اسم لولاية طبرستان، وما أظن هذا إلا اسما محدثا لها فإنّي لم أره مذكورا في كتب الأوائل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 ملك ابن البهلوان مراغة ثم توفي سنة أربع وستمائة علاء الدين بن قراسنقر الأحمديلي صاحب مراغة وأقام بأمرها من بعده خادمه ونصب ابنه طفلا صغيرا وعصى عليه بعض الأمراء وبعث العسكر لقتاله فانهزموا أوّلا ثم استقرّ ملك الطفل ثم توفي سنة خمس وستمائة وانقرض أهل بيته فسار أزبك ابن البهلوان من تبريز إلى مراغة واستولى على مملكة آل قراسنقر ما عدا القلعة التي اعتصم بها الخادم وعنده الخزائن والذخائر. استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها وهرب آيدغمش وقتله لما تمكن آيدغمش في بلاد الجبل بهمذان وأصبهان والريّ وما إليها عظم شأنه حتى طلب الأمر لنفسه وسار لحصار أزبك ابن مولاه الّذي نصبه للأمر وكان بأذربيجان فخرج عليه مولى من موالي البهلوان اسمه منكلي وكثر جمعه واستولى على البلاد وقدم آيدغمش إلى بغداد واحتفل الخليفة لقدومه وتلقاه وذلك سنة ثمان وأقام بها [1] كان ايدغمش قد وفد سنة ثمان وستمائة إلى بغداد وشرفه الخليفة بالخلع والألوية وولاه على ما كان بيده ورجع إلى همذان ووعده الخليفة بمسير العساكر فأقام ينتظرها عند سليمان بن مرحم [2] أمير الإيوانية من التركمان فدس إلى منكلي بخبره ثم قتل آيدغمش وحمل أصحابه إلى منكلي وافترق أصحابه واستولى منكلي وبعث إليه الخليفة بالنكير فلم يلتفت إليه فبعث إلى مولاه أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان يحرّضه عليه وإلى جلال الدين الإسماعيلي صاحب قلعة الموت لمساعدته على أن يكون للخليفة بعض البلاد ولأزبك بعضها ولجلال الدين بعضها وبعث الخليفة العساكر مع مولاه سنقر ووجه السبع [3] وأمره بطاعة مظفر الدين كوكبري بن زين الدين على كجك صاحب أربل وشهرزور وهو مقدّم العساكر جميعا فسار   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 296: فخرج الناس كافة، وكان يوم وصوله مشهودا ثم قدمت زوجته في رمضان في محمل فأكرمت وأنزلت عند زوجها، وأقام ببغداد إلى سنة عشر وستمائة. [2] ورد اسمه في الكامل: ابن ترجم. [3] وفي بعض النسخ: وبعث الخليفة العساكر مع مولاه سنقر الملقب بوجه السبع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 لذلك وهرب منكلي وتعلق بالجبل ونزلوا بسفحه قريبا من كوج فناوشهم الحرب فانهزم أزبك ثم عاد ثم أسرى من ليلته منهزما وأصبحوا فاقتسموا البلاد على الشريطة وولي أزبك فيما أخذ منها [1] مولى أخيه فاستولى عليها ومضى منكلي إلى ساو وبها شحنة له فقتله وبعث برأسه إلى أزبك واستقر [2] في بلاد الجبل حتى قتله الباطنية سنة أربع عشرة وستمائة وجاء خوارزم شاه فملكها كما نذكر في أخباره ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران في طاعته وخطب له على منابر أعماله وانقرض أمر بني ملك شاه ومواليهم من العراقين وخراسان وفارس وجميع ممالك المشرق وبقي أزبك ببلاد أذربيجان ثم استولى التتر على أعمال محمد بن تكش فيما وراء النهر وخراسان وعراق العجم سنة ثماني عشرة وستمائة وموالي الهند وسار جنكزخان فأطاعه أزبك بن البهلوان سنة إحدى وعشرين وأمره بقتل من عنده من الخوارزمية ففعل ورجع عنه إلى خراسان ثم جاء جلال الدين بن محمد بن تكش من الهند سنة اثنتين وعشرين فاستولى على عراق العجم وفارس وسار إلى أذربيجان فملكها ومرّ أزبك إلى كنجة من بلاد أران ثم ملك كنجة وبلاد أران ومد أزبك إلى بعض القلاع هنالك ثم هلك وملك جلال الدين على جميع البلاد وانقرض أمر بني أزبك واستولى التتر على البلاد وقتلوا جلال الدين سنة ثمان وعشرين كما يأتي في أخبارهم جميعا وانتهى الكلام في دولة السلجوقية فلنرجع إلى أخبار الدول المتشعبة عنها واحدة بعد واحدة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 307: واستولى عسكر الخليفة وأوزبك على البلاد فأعطى جلال الدين ملك الإسماعيلية من البلاد ما كان استقر له، وأخذ الباقي أوزبك فسلمها إلى غلمش مملوك أخيه. وكان توجه الى خوارزم شاه علاء الدين محمد وبقي عنده. ثم عاد عنه وشهد الحرب فابلى فيها فولاه اوزبك البلاد، وعالى كل طائفة من العسكر الى بلادهم. [2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: وأرسل رأسه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد وفي صفحة 316: ومنها أن أغلمش لما ملك بلاد الجبل خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش فيها جميعا، فلما قتله الباطنية غضب له وخرج لئلا تخرج البلاد عن طاعته، فسار مجدا في عساكر تطبق الأرض فوصل إلى الرّيّ فملكها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 بنو أنوشتكين كان أنوشتكين جدّهم تركيا مملوكا لرجل من غرشستان ولذلك يقال له أنوشتكين غرشه ثم صار لرجل من أمراء السلجوقية وعظمائهم اسمه ملكابك وكان مقدما عنده لنجابته وشجاعته ونشأ ابنه محمد على مثل حاله من النجابة والشجاعة وتحلى بالأدب والمعارف واختلط بأمراء السلجوقية وولي لهم الأعمال واشتهر فيهم بالكفاية وحسن التدبير ولما ولي بركيارق ابن السلطان ملك شاه وانتقض عليه عمه أرسلان أرغون واستولى على خراسان بعث إليه العساكر سنة تسعين وأربعمائة مع أخيه سنجر وسار في أثره ولقيهم في طريقهم خبر مقتل أرغون عمهم وأن بعض مواليه خلفه فعدا عليه فقتله كما مر قبل فسار بركيارق في نواحي خراسان وما وراء النهر حتى دوّخها وولي عليها أخاه سنجر وانتقض عليه أمير ميران [1] من قرابته اسمه محمد بن سليمان فسار إليه سنجر وظفر به وسمله وعاد بركيارق إلى العراق بعد أن ولى على خوارزم أكنجي شاه ومعنى شاه بلسانهم السلطان فأضيف إلى خوارزم على عادتهم في تقديم المضاف إليه على المضاف ولما انصرف بركيارق إلى العراق تأخر من أمرائه قودز [2] وبارقطاش وانتقضا على السلطان ووثبا بالأمير اكنجي صاحب خوارزم وهو بمرو ذاهبا إلى السلطان شاه فقتلاه وبلغ الخبر إلى السلطان وقد انتقض عليه بالعراق الأمير أنزو مؤيد الملك بن نظام الملك فمضى لحربهما وأعاد الأمير داود حبشي بن أيتاق في عسكر إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة وعاجلاه قبل اجتماع عساكره فعبر جيحون وسبق إليه بارقطاش فهزمه داود وأسره وبلغ الخبر إلى قودز فثار به عسكره وفرّ إلى بخارى فقبض عليه نائبا ثم أطلقه ولحق بالملك سنجر فقبله وأقام برقطاش أسيرا عند الأمير داود وصفت خراسان من الفتنة والثوار واستقام أمرها للأمير داود حبشي فاختار لولاية خوارزم محمد بن أنوشتكين فولاه وظهرت كفايته وكان محبا لأهل الدين والعلم مقرّ بالهم عادلا في رعيته فحسن ذكره وارتفع محله ثم استولى الملك سنجر على خراسان فأقر محمد بن أنوشتكين وزاده تقديما وجمع بعض ملوك الترك وقصد خوارزم وكان محمد غائبا عنها ولحق بالترك محمد بن اكنجي الّذي كان أبوه أميرا على خوارزم واسمه طغرل تكين محمد فحرض الترك على خوارزم وبلغ الخبر إلى محمد بن أنوشتكين فبعث إلى سنجر بنيسابور يستمده وسبق إلى خوارزم فافترق الترك وطغرل تكين   [1] ورد في بعض النسخ: أميران ولم يذكرها صاحب معجم البلدان. [2] قودن: ابن الأثير: ج 10/ 205 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 محمد وسار كلّ منهما إلى ناحية ودخل محمد بن أنوشتكين إلى خوارزم فازداد بذلك عند سنجر ظهورا والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق لا رب سواه. وفاة محمد بن أنوشتكين وولاية ابنه أتسز ثم هلك محمد بن أنوشتكين خوارزم وولي بعده ابنه اتسز وسار بسيرة أبيه وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وحارب الأعداء فلما ولي افتتح أمره بالاستيلاء على مدينة مقشلاع وظهرت كفايته في شأنها فاستدعاه السلطان سنجر فاختصه وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه وكلما مرّ يزيد تقدّما عنده والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم. الحرب بين السلطان سنجر واتسز خوارزم شاه ثم كثرت السعاية عند السلطان سنجر في اتسز خوارزم شاه وإنه يحدّث نفسه بالامتناع فسار سنجر إليه لينتزع خوارزم من يده فتجهز اتسز للقائه واقتتلوا فانهزم اتسز وقتل ابنه وخلق كثير من أصحابه واستولى سنجر على خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمدا ورتب له وزيرا وأتابك وحاجبا الى مرو منتصف ثلاث وثلاثين وكان أهل خوارزم يستغيثون لأتسز فعاد إليهم بعد سنجر فأدخلوه البلد ورجع سليمان شاه الى عمه سنجر واستبدّ اتسز بخوارزم والله أعلم. انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا وملكهم ما وراء النهر ثم سار سنجر سنة ست وثلاثين لقتال الخطا من الترك فيما وراء النهر لما رجعوا لملك تلك البلاد فيقال أن اتسز أغراهم بذلك ليشغل السلطان سنجر عن بلده وأعماله ويقال أن محمود بن محمد سليمان بن داود بقراخان ملك الخانية في كاشغر وتركستان وهو ابن أخت سنجر زحفت إليه أمم الخطا من الترك ليتملكوا بلاده فسار إليهم وقاتلهم فهزموه وعاد إلى سمرقند وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فعبر النهر إليه في عساكر المسلمين وملوك خراسان والتقوا في أوّل صفر سنة ست وثلاثين فانهزم سنجر والمسلمون وفشا القتل فيهم يقال كان القتلى مائة ألف رجل وأربعة آلاف امرأة وأسرت زوجة السلطان سنجر وعاد منهزما وملك الخطا ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وراء النهر وخرجت عن ملك الإسلام وقد تقدّم ذكر هذه الواقعة مستوفي في أخبار السلطان سنجر ولما انهزم السلطان سنجر قصد اتسز خوارزم شاه خراسان فملك سرخس ولقي الإمام أبا محمد الزيادي وكان يجمع بين العلم والزهد فأكرمه وقبل قوله ثم قصد مرو الشاهجان فخرج إليه الإمام أحمد الباخوري وشفع في أهل مرو وأن لا يدخل لهم أحد من العسكر فشفعه وأقام بظاهر البلد فثار عامة مرو وأخرجوا أصحابه وقتلوا بعضهم وامتنعوا فقاتلهم اتسز وملكها عليهم غلابا أوّل ربيع من سنة ست وثلاثين وقتل الكثير من أهلها وكان فيهم من أكابر العلماء وأخرج كثيرا من علمائها إلى خوارزم منهم أبو بكر الكرماني ثم سار في شوّال إلى نيسابور وخرج إليه جماعة من العلماء والفقهاء متطارحين أن يعفيهم مما وقع بأهل مرو فأعفاهم واستصفى أموال أصحاب السلطان وقطع الخطبة لسنجر وخطب لنفسه ولما صرح باسمه على المنبر هم أهل نيسابور بالثورة ثم ردّهم خوف العواقب فاقصروا وبعث جيشا إلى أعمال بيهق فحاصرها خمسا ثم ساروا في البلاد ينهبون ويكتسحون والسلطان سنجر خلال ذلك متغافل عنه فيما يفعله في خراسان لما وراءه من مدد الخطا وقوتهم ثم أوقع الغزسنة ثمان وأربعين بالسلطان سنجر واستولوا على خراسان وكان هؤلاء الغز مقيمين بما وراء النهر منذ فارقهم ملوك السلجوقية وكانوا يدينون بالإسلام فلما استولى الخطا على ما وراء النهر أخرجوهم منها فأقاموا بنواحي بلخ وأكثروا فيها العيث والفساد وجمع لهم سنجر وقاتلهم فظفروا به وهزموه وأسروه وانتثر سلك دولته فلم يعد انتظامه وافترقت أعماله على جماعة من مواليه واستقلّ حينئذ اتسز بملك خوارزم وأعماله وأورثها بنيه ثم استولوا على خراسان والعراق عند ما ركدت ريح السلجوقية وكانت لهم بعد ذلك دولة عظيمة نذكر أخبارها مفصلة عند دول أهلها والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. وفاة اتسز وملك ولده أرسلان ثم توفي اتسز بن محمد بن أنوشتكين في منتصف إحدى وخمسين وخمسمائة لستين سنة من ولايته وكان عادلا في رعيته حسن السيرة فيهم ولما توفي ملك بعده أرسلان بن اتسز فقتل جماعة من عماله وسمل أخاه ثم بعث بطاعته للسلطان سنجر عند ما هرب من أسر الغز فكتب له بولاية خوارزم وقصد الخطا خوارزم وجمع أرسلان للقائهم وسار غير بعيد ثم طرقه المرض فرجع وأرسل الجيوش لنظر أمير من أمرائه فقاتله الخطا وهزموه وأسروه ورجع إلى ما وراء النهر والله سبحانه وتعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وفاة خوارزم شاه ارسلان وملك ولده سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وملك طغان شاه بن المؤيد ثم موته وملك ابنه سنجر شاه ثم توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز من مرضه الّذي قعد به عن لقاء الخطا وملك بعده ابنه الأصغر سلطان شاه محمود في تدبير أمه وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما في إقطاعه بالجند فاستنكف من ولاية أخيه الأصغر وسار إلى ملك الخطا مستنجدا ورغبه في أموال خوارزم وذخائرها فأنجده بجيش كثيف وجاء إلى خوارزم ولحق سلطان شاه وأمه بالمؤيد أنه صاحب نيسابور والمتغلب عليها بعد سنجر وأهدى له ورغّبه في الأموال والذخائر فجمع وسار معه إذا كان على عشرين فرسخا من خوارزم سار إليه تكش وهزمه وجيء بالمؤيد أسيرا إلى تكش فأمر بقتله وقتل بين يديه صبرا ولحق أخوه سلطان شاه بدهستان وتبعه تكش فملكها عنوة وهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش وعاد إلى خوارزم ولحق سلطان شاه بنيسابور وقد ملكوا طغان شاه أبا بكر ابن ملكهم المؤيد ثم سار سلطان شاه من عنده إلى غياث الدين ملك الغورية فأقام عنده وعظم تحكم الخطا على علاء الدين تكش صاحب خوارزم واشتطوا عليه وبعثوا يطلبونه في المال متفرقين على أهل خوارزم ودس إليهم فبيتوهم ولم ينج منهم أحد ونبذ إلى ملك الخطا عهده وسمع ذلك أخوه سلطان شاه فسار من غزنة إلى ملك الخطا يستنجده على أخيه تكش وادعى أنّ أهل خوارزم يميلون إليه فبعث معه جيشا كثيفا من الخطا وحاصروا خوارزم فامتنعت وأمر تكش بإجراء ماء النهر عليهم فكادوا يغرقون وأفرجوا عن البلاد ولاموا سلطان شاه فيما غرّهم فقال لقائدهم أبعث معي الجيش لمرو لانتزعها من دينار الغزي الّذي استولى عليها من حين فتنتهم مع سنجر فبعث معه الجيش وسار إلى سرخس واقتحمها على الغز الذين بها وأفحش في قتلهم واستباحهم ولجأ دينار إلى القلعة فتحصن بها ثم سار سلطان شاه إلى مرو وملكها وأقام بها ورجع الخطا إلى ما وراء النهر وأقام سلطان شاه بخراسان يقاتل الغز فيصيب منهم كثيرا وعجز دينار ملك الغز عن سرخس فسلمها لطغان شاه بن المؤيد صاحب نيسابور فولى عليها مراموش من أمرائه ولحق دينار بنيسابور فحاصر دينار سلطان شاه وعاد إلى نيسابور ولحق به مراموش وترك قلعة سرخس ثم ملك نطوش والتم وضاقت الأمور على طغان شاه بنيسابور إلى أن مات في محرم سنة اثنتين وثمانين وملك ابنه سنجر شاه واستبدّ عليه منكلي تكين مملوك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 جدّه المؤيد وأنف أهل الدولة من استبداده وتحكمه فلحق أكثرهم بسلطان شاه في سرخس وسار الملك دينار من نيسابور في جموع الغز إلى كرمان فملكها ثم أساء منكلي تكين السيرة بنيسابور في الرعية بالظلم وفي أهل الدولة بالقتل فسار إليه خوارزم شاه علاء الدين تكش في ربيع سنة اثنتين وثمانين فحاصره بنيسابور شهرين فامتنعت عليه فعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث وثمانين فحاصرها وملكها على الأمان وقتل منكلي تكين وحمل سنجر شاه إلى خوارزم فأنزله بها وأكرمه ثم بلغه أنه يكاتب أهل نيسابور فسلمه وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين قال ابن الأثير ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقيّ في كتاب مسارب التجارب وذكر غيره أن تكش بن أرسلان لما أخرج أخاه سلطان شاه من خوارزم وقصد سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغز ثم ارتجعوها منه ونالوا من عساكره فعبر إلى الخطا واستنجدهم وضمن لهم المال وجاء بجيوشهم فملك مرو وسرخس ونسا وأبيورد من يد الغز وصرف الخطا فعادوا إلى بلادهم ثم كاتب غياث الدين الغوري وله هراة وبوشنج وباذغيس وأعمالها من خراسان يطلب الخطبة له يتوعده فأجابه غياث الدين بطلب الخطبة منه بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان ثم ساءت سيرة سلطان شاه في خراسان وصادر رعاياها فجهز غياث الدين العساكر مع صاحب سجستان وأمر ابن أخته بهاء الدين صاحب باميان بالمسير معه فساروا إلى هراة وخاف سلطان شاه من لقائهم فرجع من هراة إلى مرو حتى انصرم فصل الشتاء ثم أعاد مراسلة غياث الدين فامتعض وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالخبر وكان بالهند فرجع مسرعا إليه وساروا إلى خراسان واجتمعوا بعسكرهم الأوّل على الطالقان وجمع سلطان شاه جموعه من الغز وأهل الفساد ونزل بجموع الطالقان وتواقفوا كذلك شهرين وتردّدت الرسل بين سلطان شاه وغياث الدين حتى جنح غياث الدين إلى النزول له عن بوشنج وباذغيس وشهاب الدين ابن أخته وصاحب سجستان يحنحان إلى الحرب وغياث الدين يكفهم حتى حضر رسول سلطان شاه عند غياث الدين لإتمام العقد والملوك جميعا حاضرون فقام [1] الدين العلويّ الهودي وكان غياث الدين يختصه وهو يدلّ عليه فوقف في وسط المجمع ونادى بفساد الصلح وصرخ ومزق ثيابه وحتى التراب على رأسه وأفحش لرسول سلطان شاه وأقبل على غياث الدين وقال كيف تعمد إلى ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك والسنجرية فتعطيه   [1] كذا بياض في الأصل، وفي الكامل ج 11 ص 381: فبينما الناس مجتمعون في تحرير الأمر وإذ قد أقبل مجد الدين العلويّ الهرويّ إليه، وكان خصيصا بغياث الدين، بحيث يفعل في ملكه ما يختار له فلا يخالف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 هذا الطريد إذ لا يقنع منا أخوه وهو الملك بخوارزم ولا بغزنة والهند فأطرق غياث الدين ساكتا فنادى في عسكره بالحرب والتقدّم الى مروالروذ وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه وأخذ أكثر أصحابه أسرى ودخل إلى مرو في عشرين فارسا ولحق الفل من عسكره وبلغ الخبر إلى أخيه تكش فسار من خوارزم لاعتراضه وقدم العساكر إلى جيحون يمنعون [2] إلى الخطا وسمع أخوه سلطان شاه بذلك فرجع عن جيحون وقصد غياث الدين ولما قدم عليه أمر بتلقيه وأنزله معه في بيته وأنزل أصحابه عند نظرائهم من أهل دولته وأقام إلى انصرام الشتاء وكتب أخوه علاء الدين خوارزم إلى غياث الدين في ردّه إليه ويعدّد فعلاته في بلاده وكتب مع ذلك إلى نائب غياث الدين بهراة يتهدّده فامتعض غياث الدين لذلك وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير له وشفيع في التجافي عن بلاده وانصافه من وراثة أبيه ويطلب مع ذلك الخطبة له بخوارزم والصهر مع أخيه شهاب الدين فامتعض خوارزم شاه وكتب إليه يتهدّده ببعض بلاده فجهز غياث الدين إليه العساكر مع ابن أخته أبو غازي إلى بهاء الدين سامي صاحب سجستان وبعثهما مع سلطان شاه إلى خوارزم وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده وكانت ابنته تحت غياث الدين فجمع المؤيد عساكره وخيم بظاهر نيسابور وكان خوارزم شاه عزم على لقاء أخيه والغورية وسار عن خوارزم فلما سمع خبر المؤيد عاد إلى خوارزم واحتمل أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا وترك خوارزم وسار أعيانها إلى أخيه سلطان شاه والبوغازي ابن أخت غياث الدين فآتوا طاعتهم وطلبوا الوالي عليهم وتوفي سلطان شاه منسلخ رمضان سنة تسع وعاد البوغازي إلى خاله غياث الدين ومعه أصحاب سلطان شاه فاستخدمهم غياث الدين وأقطعهم وبلغ وفاة سلطان شاه إلى أخيه خوارزم تكش فعاد إلى خوارزم وعاد الشحنة إلى بلاد سرخس ومرو فجهز إليهم نائب الغورية بمرو عمر المرغني عسكرا ومنعهم منها حتى يستأذن غياث الدين وأرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح والصهر في وفد من فقهاء خراسان والعلوية يعظمونه ويستجيرون به من خوارزم شاه أن يجيز إليهم الخطا ويستحثهم ولا يحسم ذلك إلا صلحه أو سكناه بمرو فأجابهم إلى الصلح وعقدوه وردّ على خوارزم تكش بلاد أخيه وطمع الغز فيها فعاثوا في نواحيها وجاء خوارزم شاه إليها ودخل مرو وسرخس فسار البورد وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد ابنه فجمع وسار إليها وعاد خوارزم شاه إلى بلده وأفسد الماء في طريقه وأتبعه المؤيد   [2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: وأرسل إلى جيحون ثلاثة آلاف فارس يقطعون الطريق على أخيه إن أراد الخطا. ج 11 ص 382. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 فلم يحد ماء ثم كرّ عليه خوارزم شاه وقد جهد عسكره العطش فأوقع بهم وجيء إليه بالمؤيد أسيرا فقتله وعاد إلى خوارزم وقام بنيسابور بعد المؤيد ابنه [1] طغان شاه ورجع إليه خوارزم شاه من قابل فحاصره بنيسابور وبرز إليه فأسره وملك نيسابور واحتمل طغان شاه وعياله وقرابته فأنزلهم بخوارزم قال ابن الأثير هذه الرواية مخالفة للأولى وإنما أوردتها ليتأمل الناظر ويستكشف أيهما أوضح فيعتمدها والله تعالى أعلم. وفاة أيلديكز وملك ابنه محمد البهلوان قد تقدم لنا في أخبار الدولة السلجوقية ولاية أرسلان شاه بن طغرل في كفالة أيلدكز وابنه محمد البهلوان من بعده ثم أخيه أزبك أرسلان بن أيلدكز وأنه اعتقل السلطان طغرل ثم توفي فولي مكانه قطلغ ابن أخيه البهلوان فخرج السلطان من محبسه وجمع لقتاله سنة ثمان وثمانين فهزمه ولحق قطلغ بالريّ وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش فسار إليه وندم قطلغ على استدعائه فتحصن منه ببعض قلاعه وملك خوارزم شاه الريّ وقلعة طبرك ورتب فيها الحامية وعاد إلى خوارزم لما بلغه أنّ أخاه سلطان شاه خالفه إليها ولما كان ببعض الطريق لقيه الخبر بأنّ أهل خوارزم منعوا سلطان شاه وعادى خائبا فتمادى إلى خوارزم وأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء ثم سار إلى أخيه سلطان شاه بمرو سنة تسع وثمانين وتردّدت الرسل بينهما في الصلح ثم استأمن إليه نائب أخيه بقلعة سرخس فسار إليها وملكها ومات أخوه سلطان شاه سنة تسع فسار خوارزم شاه إلى مرو وملكها وملك أبيورد ونسا وطوس وسائر مملكة أخيه واستولى على خزائنه وبعث على ابنه علاء الدين محمد فولاه مرو وولي ابنه الكبير ملك شاه نيسابور وذلك آخر تسع وثمانين ثم بلغه أنّ السلطان طغرل أغار على أصحابه بالريّ قطلغ ابنانج فبعث إليه بابنه يستنجده ووصل إليه رسول الخليفة يشكو من طغرل وأقطعه أعماله فسار من نيسابور إلى الريّ وتلقاه قطلغ أبنانج بطاعته وسار معه ولقيهم السلطان طغرل قبل استكمال تعبيته وحمل عليهم بنفسه وأحيط به فقتل في ربيع سنة تسعين وبعث خوارزم شاه برأسه إلى بغداد وملك همذان وبلاد الجبل أجمع وكان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد بعثه الخليفة الناصر مددا لخوارزم شاه في أمره فرحل إليه واستوحش ابن القصاب فامتنع ببعض الجبال هنالك وعاد خوارزم شاه إلى همذان وسلمها وأعمالها إلى قطلغ أبنانج وأقطع   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 378: فلما قتل ملك نيسابور ملك ما كان له ابنه طغان شاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 كثيرا منها مماليكه وقدم عليهم مناجي وأنزل معه ابنه وعاد إلى خوارزم ثم اختلف مناجي وقطلغ أبنانج واقتتلوا سنة أحدى وتسعين فانهزم قطلغ وكان الوزير ابن القصاب قد سار إلى خوزستان فملكها وكثيرا من بلاد فارس وقبض على بني شملة أمرائها وبعث بهم إلى بغداد وأقام هو يمهد البلاد فلحق به قطلغ أبنانج هنالك مهزوما سليبا واستنجده على الري فأزاح علله وسار معه إلى همذان فخرج مناجي وابن خوارزم شاه إلى الريّ وملك ابن القصاب همذان في سنة إحدى وتسعين وسار إلى الريّ فأجفل الخوارزميون أمامهم وبعث الوزير العساكر في أثرهم حتى لحقوهم بالدامغان وبسطام وجرجان ورجعوا عنهم واستولى الوزير على الريّ ثم انتقض قطلغ ابنانج على الوزير وامتنع بالريّ فحاصره الوزير وغلبه عليها ولحق أبنانج بمدينة ساوة ورحل الوزير في أتباعه حتى لحقه على دريندكرخ فهزمه ونجا أبنانج بنفسه وسار الوزير إلى همذان فأقام بظاهرها ثلاثة أشهر وبعث إليه خوارزم شاه بالنكير على ما فعل ويطلب إعادة البلاد فلم يجب إلى ذلك وسار خوارزم إليه وتوفي قبل وصوله فقاتل العساكر بعده في شعبان سنة اثنتين وتسعين فهزمهم وأثخن فيهم وأخرج الوزير من قبره فقطع رأسه وبعث به إلى خوارزم لأنه كان قتل في المعركة واستولى على همذان وبعث عسكره إلى أصبهان فملكها وأنزل بها ابنه وعاد إلى خوارزم وجاءت عساكر الناصر أثر ذلك مع سيف الدين طغرل فقطع بلاد اللحف من العراق فاستدعاه أهل أصبهان فملكوا البلد ولحق عسكر خوارزم شاه بصاحبهم ثم اجتمع مماليك البهلوان وهم أصحاب قطلغ وقدموا على أنفسهم كركجة من أعيانهم وساروا إلى الريّ فملكوها ثم إلى أصبهان كذلك وأرسل كركجة الى الديوان ببغداد يطلب أن يكون الريّ له مع جوار الريّ وساوة وقم وقاشان وما ينصاف إليها وتكون أصبهان وهمذان وزنجان ومرو من الديوان فكتب له بذلك والله أعلم. وفاة ملك شاه بن خوارزم شاه تكش قد تقدّم لنا أنّ خوارزم شاه تكش ولي ابنه ملك شاه علي نيسابور سنة تسع وثمانين وأضاف إليه خراسان وجعله ولي عهده في الملك فأقام بها إلى سنة ثلاث وتسعين ثم هلك في ربيع منها وخلف ابنا اسمه هندوخان وولى خوارزم شاه على نيسابور ابنه الآخر فطلب الّذي كان ولاه بمرو . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 الخطا انهزام الخطا من الغورية كان خوارزم شاه تكش لما ملك الريّ وهمذان وأصبهان وهزم ابن القصاب وعساكر الخليفة بعث إلى الناصر يطلب الخطبة ببغداد فامتعض الناصر لذلك وأرسل إلى غياث الدين ملك غزنة والغور فقصد بلاد خوارزم شاه فكتب إليه غياث الدين يتهدّده بذلك فبعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم على غياث الدين ويحذرهم أن يملك البلاد كما ملك بلخ فسار الخطا في عساكرهم ووصلوا بلاد الغور وراسلوا بهاء الدين سام ملك باميان وهو ببلخ يأمرونه بالخروج عنها وعاثوا في البلاد وخوارزم شاه قد قصد هراة وانتهى إلى طوس واجتمع أمراء الغورية بخراسان مثل محمد بن بك مقطع الطالقان والحسين بن مرميل وحروس [1] وجمعوا عساكرهم وكبسوا الخطا وهزموهم وألحقوهم بحيمون فتقسموا بين القتل والغرق وبعث ملك الخطا إلى خوارزم شاه يتجنى عليه في ذلك ويطلب الدية على القتلى من قومه ويجعله السبب في قتلهم فراجع غياث الدين واستعطفه ووافقه على طاعة الخليفة وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام وأجاب ملك الخطا بأن قومه إنما جاءوا لانتزاع بلخ من يد الغورية ولم يأتوا لنصرتي وأنا قد دخلت في طاعة غياث الدين فجهز ملك الخطا عساكره إليه وحاصروه فامتنع فرجعوا عنه بعد أن فني أكثرهم بالقتل وسار في أثرهم وحاصر بخارى وأخذ بمخنقها حتى ملكها سنة أربع وتسعين فأقام بها مدّة وعاد إلى خوارزم والله تعالى ولي التوفيق. ملك خوارزم شاه تكين الريّ وبلاد الجبل ثم سار خوارزم شاه تكين لارتجاع الريّ وبلاد الجبل من يد مناجق والبهلوانية الذين انتفضوا عليه فهرب مناجق عن البلاد وتركها وملكها خوارزم شاه واستدعاه فامتنع من الحضور واتبعه فاستأمن أكثر أصحابه ورجعوا عنه ولحق هو بقلعة من أعمال مازندان فامتنع بها فبعث خوارزم شاه إلى الخليفة الناصر فبعث بالخلع له ولولده قطب الدين وكتب له تقليدا   [1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 136: فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوريّ، وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين وكان شجاعا، وكاتب الحسين بين حرميل وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأمير حروش الغوري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 بالأعمال التي بيده ثم سار خوارزم شاه لقتال الملحدة فافتتح قلعة لهم قريبة من قزوين وانتقل إلى حصار قلعة الموت من قلاعهم فقتل عليها رئيس الشافعية بالريّ صدر الدين محمد بن الوزان وكان مقدّما عنده ولازمه ثم عاد إلى خوارزم فوثب الملحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه فجهز ابنه قطب الدين لقتالهم فسار إلى قلعة مر نسيس من قلاعهم فحاصرها حتى سألوه في الصلح على مائة ألف دينار يعطونها فامتنع أوّلا ثم بلغه مرض أبيه فأجابهم وأخذ منهم المال المذكور وعاد والله أعلم. وفاة خوارزم شاه ثم توفي خوارزم شاه تكش بن البارسلان بن أتسز بن محمد أنوشتكين صاحب خوارزم بعد أن استولى على الكثير من خراسان وعلى الريّ وهمذان وغيرها من بلاد الجبل وكان قد سار من خوارزم إلى نيسابور فمات في طريقه إليها في رمضان سنة ست وتسعين وخمسمائة وكان عند ما اشتدّ مرضه بعث لابنه قطب الدين محمد يخبره بحاله ويستدعيه فوصل بعد موته فبايع له أصحابه بالملك ولقبوه علاء الدين لقب أبيه وحمل شلو أبيه إلى خوارزم فدفنه بالمدرسة التي بناها هنالك وكان تكش عادلا عارفا بالأصول والفقه على مذهب أبي حنيفة ولما توفي ابنه علاء الدين محمد كان ولده الآخر علي شاه بأصبهان فاستدعاه أخوه محمد فسار إليه ونهب أهل أصبهان فخلعه وولاه أخوه على خراسان فقصد نيسابور وبها هندوخان ابن أخيهما ملك شاه منذ ولاه جدّه تكش عليها بعد أبيه ملك شاه وكان هندوخان يخاف عمه محمدا لعداوة بينه وبين أبيه ملك شاه ولما مات جدّه تكش نهب الكثير من خزائنه ولحق بمرو وبلغ وفاة تكش الى غياث الدين ملك غزنة فجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة إعظاما لقدره ثم جمع هندوخان جموعا وسار إلى خراسان فبعث علاء الدين محمد بن تكش العساكر لدفاعه مع جنقر التركي فخام هندوخان عن لقائه ولحق بغياث الدين مستنجدا فأكرمه ووعده النصر ودخل جنقر مدينة مرو وبعث بأمّ هندوخان وولده الى خوارزم مكرمين فأرسل غياث الدين صاحب غزنة إلى محمد بن ضربك نائبة بالطالقان أن ينبذ إلى جنقر العهد ففعل وسار من الطالقان إلى مروالروذ فملكها وبعث الى جنقر يأمره بالخطبة في مرو لغياث الدين أو يفارقها فبعث إليه جنقر يتهدّده ظاهرا ويسأله سرّا أن يستأمن له غياث الدين فقوي طمعه في البلاد بذلك وأمر أخاه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 ملوك الغوريّة استيلاء ملوك الغورية على أعمال خوارزم شاه محمد تكش بخراسان وارتجاعه إياها منهم ثم حصاره هراة من أعمالهم ولما استأمن جنقر [1] نائب مرو الى غياث الدين طمع في أعمال خوارزم شاه بخراسان كما قلناه واستدعاه أخوه شهاب الدين للمسير اليها فسار الى غزنة واستشار غياث الدين نائبة بهراة عمر بن محمد المرغني في المسير الى خراسان فنهاه عن ذلك ووصل أخوه شهاب الدين في عساكر غزنة والغور وسجستان وساروا منتصف سبع وتسعين ووصل كتاب جنقر نائب مرو الى شهاب الدين وهو بقرب الطالقان يحثه للوصول وأذن له غياث الدين فسار الى مرو وقاتل العساكر الذين بها من الخوارزمية فغلبهم وأحجرهم بالبلد وسار بالفيلة الى السور فاستأمن أهل البلد وأطاعوا وخرج جنقر الى شهاب الدين ثم جاء غياث الدين بعد الفتح الى هراة مكرما وسلم مرو الى هندوخان بن ملك شاه كما وعده ثم سار الى سرخس فملكها صلحا وولىّ عليها زنكي بن مسعود من بني عمه وأقطعه معها نسا وأبيورد ثم سار الى طوس وحاصرها ثلاثا واستأمن اليه أهلها فملكها وبعث الى علي شاه علاء الدين محمد بن تكش بنيسابور في الطاعة فامتنع فسار اليه وقاتل نيسابور من جانب وأخوه شهاب الدين من الجانب الآخر [2] اليه سقوطه ودخلوا نيسابور وملكوها ونادوا بالأمان وجيء بعلي شاه من خوارزم الى غياث الدين فأمّنه وأكرمه وبعثه بالامراء الخوارزمية الى هراة وولى على خراسان ابن عمه وصهره على ابنته ضياء الدين محمد بن علي الغوري ولقبه علاء الدين وأنزله نيسابور في جمع من وجوه الغورية وأحسن الى أهل نيسابور وسلم على شاه الى أخيه شهاب الدين ورحل الى هراة ثم سار شهاب الدين الى قهستان [3] وقيل له عن قرية من قراها انهم إسماعيلية فأمر بقتلهم وسبى ذراريهم ونهب أموالهم وخرّب القرية ثم سار الى حصن من   [1] اسمه في الكامل ج 12 ص 164: جقر التركي، نائب علاء الدين خوارزم شاه بمرو [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: فلم يردهم أحد عن السور، حتى اصعدوا علم غياث الدين اليه. فلما رأى شهاب الدين علم أخيه على السور قال لأصحابه: اقصدوا بنا هذه الناحية، واصعدوا السور من هاهنا، وأشار الى مكان فيه، فسقط السور منهدما، فضج الناس بالتكبير، وذهل الخوارزميون وأهل البلد، ودخل الغوريّة البلد وملكوه عنوة. (ج 12 ص 165) . [3] كذا بالأصل، وكذا بالكامل. وفي معجم البلدان قوهستان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 أعمال قهستان وهم إسماعيلية فملكه بالأمان بعد الحصار ووليّ عليه بعض الغورية فأقام بها الصواب وشعار الإسلام وبعث صاحب قهستان الى غياث الدين يشكو من أخيه شهاب الدين ويقول انّ هذا نقض العهد الّذي بيني وبينكم فما راعه الا نزول أخيه شهاب الدين على حصن آخر للاسماعيلية من أعمال دهستان فحاصره فبعث بعض ثقاته الى شهاب الدين يأمره بالرحيل فامتنع فقطع أطناب سرادقه ورحل مراغما وقصد الهند مغاضبا لأخيه ولما اتصل بعلاء الدين محمد بن تكش مسيرهما عن خراسان كتب الى غياث الدين يعاتبه عن أخذه بلاده ويطلب إعادتها ويتوعده باستنجاد الخطا عليه فماطله بالجواب الى خروج أخيه شهاب الدين من الهند لعجزه عن الحركة لاستيلاء مرض النقرس عليه فكتب خوارزم شاه الى علاء الدين الغوريّ نائب غياث الدين بنيسابور يأمره بالخروج عنها فكتب بذلك الى غياث الدين فأجابه يعده بالنصر وسار اليه خوارزم شاه محمد بن تكش آخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة فلما قرب أبيورد هرب هندوخان من موالي غياث الدين وملك محمد بن تكش مدينة مرو ونسا وأبيورد وسار الى نيسابور وبها علاء الدين الغوري فحاصرها وأطال حصارها حتى استأمنوا اليه واستحلفوه وخرجوا اليه فأحسن اليهم وسأل من علاء الدين الغوريّ السعي في الإصلاح بينه وبين غياث الدين فضمن ذلك وسار الى هراة وبها أقطاعه وغضب على غياث الدين لقعوده عن انجاده فلم يسر اليه وبالغ محمد بن تكش في الإحسان الى الحسن بن حرميل من أمراء الغورية ثم سار الى سرخس وبها الأمير زنكي من قرابة غياث الدين فحاصرها أربعين يوما وضيق مخنقها بالحرب وقطع الميرة ثم سأله زنكي الإفراج ليخرج عن الأمان فأفرج عنه قليلا ثم ملأ البلد من الميرة بما احتاج اليه وأخرج العاجزين عن الحصار وعاد الى شأنه فندم محمد بن تكش ورحل عنها وجهز عسكرا لحصارها وجاء نائب الطالقان ممدا لمحمد بن خربك داحس بعد ان أرسل اليه بأنه [1] عساكر الخوارزمية المجمرة عليه وأشاع ذلك فأفرجوا عنه وجاء اليه زنكي من الطالقان فخرج معه ابن خربك الى مروالروذ وجبي خراجها وما يحاورها وبعث اليه محمد بن تكش عسكرا نحوا من ثلاثة آلاف مع خاله فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فارس فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا وغنم سوادهم وعاد خوارزم شاه محمد بن تكش الى خوارزم وأرسل الى غياث الدين في الصلح فأجابه مع الحسن بن محمد المرغني من كبراء   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 175: فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان، وهو من أمراء الغورية وأرسل الى زنكي أمير سرخس يعرفه انه يريد يكبس أن الخوارزميين لئلّا ينزعج إذا سمع الفلبة. وسمع الخوارزميّون الخبر ففارقوا سرخس، وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكرا في مروالروذ ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 الغورية وغالطه في القول ولما وصل الحسن المرغني الى خوارزم شاه واطلع على أمره قبض على الحسن وسار الى هراة فحاصرها وكتب الحسن الى أخيه عمر بن محمد المرغني أمير هراة بالخبر فاستعدّ للحصار وقد كان لحق بغياث الدين أخوان من حاشية سلطان شاه عمّ محمد بن تكش المتوفى في سرخس فأكرمهما غياث الدين وأنزلهما بهراة فكاتبا محمد بن تكش وداخلاه في تمليكه هراة فسار لذلك وحاصر البلد وأميرها عمر المرغني مرّ الى الأخوين وعندهما مفاتيح البلد واطلع أخوه الحسن في محبسه على شأن الأخوين في مداخلة محمد بن تكش فبعث الى أخيه عمر بذلك فلم يسعفه فبعث اليه بخط أحدهما فقبض عليهما وعلى أصحابهما واعتقلهم وبعث محمد بن تكش عسكرا الى الطالقان للغارة عليها فظفر بهم ابن خربك ولم يفلت منهم أحد ثم بعث غياث الدين ابن أخته البوغاني في عسكر من الغورية فنزلوا قريبا من عسكر خوارزم شاه محمد بن تكش وقطع عنهم الميرة ثم جاء غياث الدين في عسكر قليل لأنّ أكثرها مع أخيه شهاب الدين بالهند وغزنة فنزل قريبا من هراة ولم يقدم على خوارزم فلما بلغ الحصار أربعين يوما وانهزم أصحاب خوارزم شاه بالطالقان ونزل غياث الدين وابن أخته البوغاني قريبا منه وبلغه وصول أخيه شهاب الدين من الهند الى غزنة أجمع الرحيل عن هراة وصالح عمر المرغني على مال حمله اليه وارتحل الى مرو منتصف ثمان وتسعين وسار شهاب الدين من غزنة الى بلخ ثم الى باميان معتزما على محاربة خوارزم شاه والتقت طلائعهما فقتل بين الفريقين خلق ثم ارتحل خوارزم شاه عن مرو فجفلا الى خوارزم وقتل الأمير سنجر صاحب نيسابور لاتهامه بالمخادعة وسار شهاب الدين الى طوس وأقام بها الى انسلاخ الشتاء معتزما على السير لحصار خوارزم فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فرجع الى هراة واستخلف بمرو محمد بن خربك فسار اليه جماعة من أمراء خوارزم شاه سنة تسع وتسعين [1] ابن خربك ولم ينج منهم الا القليل فبعث خوارزم شاه الجيوش مع منصور التركي لقتال ابن خربك ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو وقاتلهم فهزموه ودخل مرو منهزما فحاصروه خمسة عشر يوما ثم استأمن اليهم وخرج فقتلوه وأسف ذلك شهاب الدين وتردّدت الرسل بينه وبين خوارزم شاه في الصلح فلم يتمّ وأراد العود الى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخته البوغاني وملك علاء الدين بن أبي على الغوري مدينة مرو وزكورة وبلد الغور واعمال خراسان وفوّض اليه في مملكته وعاد الى غزنة سنة تسع وتسعين وخمسمائة ثم عاد خوارزم شاه الى هراة منتصف سنة ستمائة وبها البوغاني ابن أخت شهاب   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 176: فخرج اليهم محمد ليلا وبيتهم فلم ينج منهم الا القليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 الدين الغوري وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة الى لهاوون [1] غازيا فحصر خوارزم شاه هراة الى منسلخ شعبان وهلك في الحصار بين الفريقين خلق وكان الحسن بن حرميل مقيما بخوزستان وهي اقطاعه فأرسل الى خوارزم شاه يخادعه ويطلب منه عسكرا يستلمون الفيلة وخزانة شهاب الدين فبعث اليه ألف فارس فاعترضهم هو والحسن بن محمد المرغني فلم ينج منهم الا القليل فندم خوارزم شاه على إنفاذ العسكر وبعث الى البوغاني أن يظهر بعض طاعته ويفرج عنه الحصار فامتنع ثم أدركه المرض فخشي أن يشغله المرض عن حماية البلد فيملكها عليه خوارزم شاه فرجع الى اجابته واستحلفة وأهدى وخرج له ليلقاه ويعطيه بعض الخدمة فمات في طريقه وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار الى سرخس فأقام بها. حصار شهاب الدين خوارزم شاه وانهزامه أمام الخطا ولما بلغ شهاب الدين بغزنة ما فعل خوارزم شاه بهراة وموت نائبة بها البوغاني ابن أخته وكان غازيا الى الهند فانثنى عزمه وسار الى خوارزم وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس وأقام بظاهر مرو فلما بلغه خبر مسيره أجفل راجعا الى خوارزم فسبق شهاب الدين اليها وأجرى الماء في السبخة حواليها وجاء شهاب الدين فأقام أربعين يوما يطرق المسالك حتى أمكنه الوصول ثم التقوا واقتتلوا وقتل بين الفريقين خلق كان منهم الحسن المرغني من الغورية وأسر جماعة من الخوارزمية فقتلهم شهاب الدين صبرا وبعث خوارزم شاه الى الخطا فيما وراء النهر يستنجدهم على شهاب الدين فجمعوا وساروا الى بلاد الغور وبلغ ذلك شهاب الدين فسار اليهم فلقيهم بالمفازة فهزموه وحصروه في أيد حوى حتى صالحهم وخلص الى الطالقان وقد كثر الإرجاف بموته فتلقاه الحسن بن حرميل صاحب الطالقان وأزاح علله ثم سار الى غزنة واحتمل ابن حرميل معه خشية من شدّة جزعه أن يلحق بخوارزم شاه ويطيعه فولاه حجابته وسار معه ووجد الخلاف قد وقع بين أمرائه لما بلغهم من الإرجاف بموته حسبما مرّ في أخبار الغورية فأصلح من غزنة ومن الهند وتأهب للرجوع لخوارزم شاه وقد وقع في خبر هزيمته أمام الخطا بالمفازة وجه آخر ذكرناه هنالك وهو أنه فرّق عساكره في المفازة لقلة الماء فأوقع بهم الخطا منفردين وجاء في الساقة فقاتلهم أربعة أيام مصابرا وبعث اليه صاحب   [1] (وفي الكامل لهاوور) واسمها اليوم لاهور ج 12- ص 185) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 سمرقند من عسكر الخطا وكان مسلما وأشار عليه بالتهويل عليهم فبعث عسكرا من الليل وجاءوا من الغد متسايلين وخوّفهم صاحب سمرقند بوصول المدد لشهاب الدين فرجعوا الى الصلح وخلص هو من تلك الواقعة وذلك سنة احدى وستمائة ومات شهاب الدين اثر ذلك. استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان كان نائب الغورية بهراة من خراسان الحسن بن حرميل ولما قتل شهاب الدين الغوري في رمضان سنة اثنتين وستمائة قام بأمرهم غياث الدين محمود ابن أخيه غياث الدين واستولى على الغور من يد علاء الدين محمد بن أبي علي سروركاه ولما بلغ وفاة شهاب الدين الى الحسن بن حرميل نائب هراة جمع أعيان البلد وقاضيهم واستحلفهم على الامتناع من خوارزم شاه ظاهرا ودسّ الى خوارزم شاه بالطاعة ويطلب عسكرا يمتنع به من الغورية وبعث ابنه رهينة في ذلك فأنفذ اليه عسكرا من نيسابور وأمرهم بطاعة ابن حرميل وغياث الدين خلال ذلك يكاتب ابن حرميل ويطلبه في الطاعة فيراوغه بالمواعدة وبلغه خبره مع خوارزم شاه فاعتزم على النهوض اليه واستشار ابن حرميل بهراة أعيان البلد يختبر ما عندهم فقال له عليّ بن عبد الخالق مدرّس مية وناظر الأوقاف الرأي صدق الطاعة لغياث الدين فقال انما أخشاه فسر اليه وتوثق لي منه ففعل وسار الى غياث الدين فأطلعه على الجليّ من أمر ابن حرميل ووعده الثورة به وكتب غياث الدين الى نائبة بمرو يستدعيه فتوقف وحمله أهل مرو على المسير فسار فخلع عليه غياث الدين وأقطعه واستدعى غياث الدين أيضا نائبة بالطالقان أميران قطر فتوقف فأقطع الطالقان سونج مملوك ابنه المعروف بأمير شكار وبعث الى ابن حرميل مع ابن زياد بالخلع ووصل معه رسوله يستنجز خطبته له فمطله أياما حتى وصل عسكر خوارزم شاه من نيسابور ووصل في أثرهم خوارزم شاه وانتهى الى بلخ على أربعة فراسخ فندم ابن حرميل عند ما عاين مصدوقة الطاعة وعرف عسكر خوارزم شاه بأنّ صاحبهم قد صالح غياث الدين وترك له البلاد فانصرفوا الى صاحبهم وبعث اليه معهم بالهدايا ولما سمع غياث الدين بوصول عسكر خوارزم شاه الى هراة أخذ اقطاع ابن حرميل وقبض على أصحابه واستصفى أمواله وما كان له من الذخيرة في حروبان وتبين ابن حرميل في أهل هراة الميل الى غياث الدين والانحراف عنه وخشي من ثورتهم به فأظهر طاعة غياث الدين وجمع أهل البلد على مكاتبته بذلك فكتبوا جميعا وأخرج الرسول بالكتاب ودسّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 اليه بأن يلحق عسكر خوارزم شاه فيردّهم اليه فوصل الرسول بهم لرابع يومه ولقيهم ابن حرميل وأدخلهم البلد وسمل ابن زياد الفقيه وأخرج صاعدا القاضي وشيع الغورية فلحقوا بغياث الدين وسلم البلد لعسكر خوارزم شاه وبعث غياث الدين عسكره مع على بن أبي علي وسار معه أميران صاحب الطالقان وكان منحرفا عن غياث الدين بسبب عزله فدسّ الى ابن حرميل بأن يكبسه وواعده الهزيمة وحلف له على ذلك فكبسه ابن حرميل فانهزم عسكر غياث الدين وأسر كثير من أمرائه وشنّ ابن حرميل الغارة على بلاد باذغيس وغيرها من البلاد واعتزم غياث الدين على المسير بنفسه الى هراة ثم شغل عن ذلك بأمر غزنة ومسير صاحب باميان الى الدوس فأقصر واستظهر خوارزم شاه الى بلخ وقد كان عند مقتل شهاب الدين أطلق الغورية الذين كان أسرهم في المصاف على خوارزم وخيرهم في المقام عنده أو اللحاق بقومهم واستصفى من أكابرهم محمد بن بشير وأقطعه فلما قصد الآن بلخ قدم اليه أخوه علي شاه في العساكر وبرز اليه عمر بن الحسن أميرها فدافعه عنها ونزل على أربعة فراسخ وأرسل الى أخيه خوارزم شاه بذلك فسار اليه في ذي القعدة من السنة ونزل على بلخ وحاصرها وهم ينتظرون المدد من صاحبهم باميان بن بهاء الدين وقد شغلوا بغزنة فحاصرها خوارزم شاه أربعين يوما ولم يظفر فبعث محمد بن بشير الغوري الى عماد الدين عمر بن الحسن نائبها يستنزله فامتنع فاعتزم خوارزم شاه على المسير الى هراة ثم بلغه أن أولاد بهاء الدين أمراء باميان ساروا الى غزنة وأسرهم تاج الدين الزر فأعاد محمد بن بشير الى عمر بن الحسين فأجاب الى طاعة خوارزم شاه والخطبة له وخرج اليه فأعاده الى بلده وذلك في ربيع سنة ثلاث وستمائة ثم سار خوارزم شاه الى جوزجان وبها علي بن أبي علي فنزل له عنها وسلمها خوارزم شاه الى ابن حرميل لأنها كانت من أقطاعه وبعث الى غياث الدين عمر بن الحسين من بلخ يستدعيه ثم قبض عليه وبعث به الى خوارزم شاه وسار الى بلخ فاستولى عليها واستخلف عليها جغري التركي وعاد الى بلاده. استيلاء خوارزم شاه على ترمذ وتسليمها للخطأ ولما أخذ خوارزم شاه بلخ سار عنها الى ترمذ وبها عماد الدين عمر بن الحسين الّذي كان صاحب بلخ وقدم اليه محمد بن بشير بالعذر عن شأن أبيه وانه انما بعثه لخوارزم مكرما وهو أعظم خواصه ويعده بالاطلاع فاتهم [1] على صاحبها أمره واجتمع عليه خوارزم شاه   [1] مقتضى السياق: فأبهم على صاحبها امره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 والخطا من جميع جوانبه وأسر أصحابه ملوك باميان بغزنة فاستأمن الى خوارزم شاه وملك منه البلد ثم سلمها الى الخطا وهم على كفرهم ليسالموه حتى يملك وينتزعها منهم فكان كما قدّره والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء خوارزم شاه على الطالقان ولما ملك خوارزم شاه ترمذ سار الى الطالقان وبها سونج واستناب على الطالقان أمير شكار نائب غياث الدين محمود وبعث اليه يستميله فامتنع وبرز للحرب حتى تراءى الجمعان فنزل عن فرسه ونبذ سلاحه وجاء متطارحا في العفو عنه فأغرض عنه وملك الطالقان واستولى على ما فيها وبعث اليه سونج واستناب على الطالقان بعض أصحابه وسار الى قلاع كالومين ومهوار وبها حسام الدين عليّ بن أبي عليّ فقاتله ودفعه على ناحيته وسار الى هراة وخيم بظاهرها وجاء رسول غياث الدين بالهدايا والتحف ثم جاء ابن حرميل في جمع من عساكر خوارزم شاه الى أسفراين فملكها على الأمان في صفر من السنة وبعث الى صاحب سجستان وهو حرب بن محمد بن إبراهيم من عقب خلف الّذي كان ملكها منذ عهد ابن سبكتكين في الطاعة لخوارزم والخطبة له فامتنع وقصد خوارزم شاه وهو على هراة القاضي صاعد بن الفضل الّذي أخرجه ابن حرميل ولحق بغياث الدين فلما جاء الى خوارزم شاه رماه ابن حرميل بالميل الى الغورية فحبسه بقلعة زوزن ووليّ القضاء بهراة الصفي أبا بكر بن محمد السرخسي وكان ينوب عن صاعد وابنه في القضاء. استيلاء خوارزم شاه على مازندان وأعمالها [1] ثم توفي صاحب مازندان حسام الدين ازدشير وولىّ مكانه ابنه الأكبر وطرد أخاه الأوسط فقصد جرجان وبها الملك على شاه ينوب عن أخيه خوارزم شاه محمد بن تكش واستنجده فاستأذن أخاه وسار معه من جرجان سنة ثلاث وستمائة ومات الأخ الّذي ولىّ على مازندان وولىّ مكانه أخوهما الأصغر ووصل على شاه ومعه أخو صاحب مازندان فعاثوا في البلاد وامتنع الملك بالقلاع مثل سارية وآمد فملكوها من يده وخطب فيها لخوارزم شاه وعاد علي شاه الى جرجان وترك ابن صاحب مازندان الّذي استجار به ملكا في تلك البلاد وأخوه بقلعة كورة.   [1] مازندان (معجم البلدان) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 استيلاء خوارزم شاه على ما وراء النهر وقتاله مع الخطا وأسره وخلاصه قد تقدّم لنا كيف تغلب الخطا على ما وراء النهر منذ هزموا سنجر بن ملك شاه وكانوا أمّة بادية يسكنون الخيام التي يسمونها الخركاوات وهم على دين المجوسية كما كانوا وكانوا موطنين بنواحي أوزكنده وبلاساغون وكاشغر وكان سلطان سمرقند وبخارى من ملوك الخانية الأقدمين عريقا في الإسلام والبيت والملك ويلقب خان خاقان بمعنى سلطان السلاطين وكان الخطا وضعوا الجزية على بلاد المسلمين فيما وراء النهر وكثر عيثهم وثقلت ووطأتهم فأنف صاحب بخارى من تحكمهم وبعث الى خوارزم شاه يستصرخه لحادتهم على أن يحمل اليه ما يحملونه للخطأ وتكون له الخطبة والسكة وبعث في ذلك وجوه بخارى وسمرقند فحلفوا له ووضعوا رهائنهم عنده فتجهز لذلك وولّى أخاه على شاه على طبرستان مع جرجان وولّى على نيسابور الأمير كزلك خان من أخواله وأعيان دولته وندب معه عسكرا وولىّ على قلعة زوزن أمين الدين أبا بكر وكان أصله حمالا فارتفع وترقي في الرتب الى ملك كرمان وولىّ على مدينة الجام الأمير جلدك وأقرّ على هراة الحسن بن حرميل وأنزل معه ألفا من المقاتلة واستناب في مرو وسرخس وغيرهما وصالح غياث الدين محمودا على ما بيده من بلاد الغور وكرمسين وجمع عساكر وسار الى خوارزم فتجهز منها وعبر جيحون واجتمع بسلطان بخارى وسمرقند وزحف اليه الخطا فتواقعوا معه مرّات وبقيت الحرب بينهم سجالا ثم انهزم المسلمون وأسر خوارزم شاه ورجعت العساكر الى خوارزم معلولة وقد أرجف بموت السلطان وكان كزلك خان نائب نيسابور محاصرا لهراة ومعه صاحب زوزن فرجعوا الى بلادهما وأصلح كزلك خان سور نيسابور واستكثر من الجند والأقوات وحدّثته نفسه بالاستبداد وبلغ خبر الإرجاف الى أخيه علي شاه بطبرستان فدعا لنفسه وقطع خطبة أخيه وكان مع خوارزم شاه حين أسر أمير من أمرائه يعرف بابن مسعود فتحيل للسلطان بأن أظهر نفسه في صورته واتفقا على دعائه باسم السلطان وأوهما صاحبهما الّذي أسرهما انّ ابن مسعود هو السلطان وانّ خوارزم شاه خديمه فأوجب ذلك الخطائي حقه وعظمه لاعتقاده انه السلطان وطلب منه بعد أيام أن يبعث ذلك الخديم لأهله وهو خوارزم شاه في الحقيقة ليعرف أهله بخبره ويأتيه بالمال فيدفعه اليه فأذن له الخطائيّ في ذلك وأطلقه بكتابه ولحق بخوارزم ودخل اليها في يوم مشهود وعلم بما فعله أخوه علي شاه بطبرستان وكزلك خان بنيسابور وبلغهما خبر خلاصه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 فهرب كزلك خان الى العراق ولحق علي شاه بغياث الدين محمود فأكرمه وأنزله وسار خوارزم شاه الى نيسابور فأصلح أمورها وولّى عليها وسار الى هراة فنزل عليها وعسكره محاصر دونها وذلك سنة أربع وستمائة والله أعلم. مقتل ابن حرميل ثم استيلاء خوارزم شاه على هراة كان ابن حرميل قد تنكر لعسكر خوارزم شاه الذين كانوا عنده بهراة لسوء سيرتهم فلما عبر خوارزم شاه جيحون واشتغل بقتال الخطا قبض ابن حرميل على العسكر وحبسهم وبعث الى خوارزم شاه يعتذر ويشكو من فعلهم فكتب اليه يستحسن فعله ويأمره بإنفاذ ذلك العسكر اليه ينتفع بهم في قتال الخطا وكتب الى جلدك بن طغرل صاحب الجام أن يسير اليه بهراة ثقة بفعله وحسن سريرته وأعلم ابن حرميل بذلك ودسّ الى جلدك بالتحيل على ابن حرميل بكل وجه والقبض عليه فسار في ألفى مقاتل وكان يهوي ولاية هراة لأنّ أباه طغرل كان واليا بها لسنجر فلما قارب هراة أمر ابن حرميل الناس بالخروج لتلقيه وخرج هو في أثرهم بعد ان أشار عليه وزيره خواجا الصاحب فلم يقبل فلما التقى جلدك وابن حرميل ترجلا عن فرسيهما للسلام وأحاط أصحاب جلدك بابن حرميل وقبضوا عليه وانهزم أصحابه الى المدينة فأغلق الوزير خواجا الأبواب واستعدّ للحصار وأظهر دعوة غياث الدين محمود وجاء جلدك فناداه من السور وتهدّده بقتل ابن حرميل وجاء بابن حرميل حتى أمره بتسليم البلد لجلدك فأبي وأساء الردّ عليه وعلى جلدك فقتل ابن حرميل وكتب الى خوارزم شاه بالخبر فبعث خوارزم شاه الى كزلك خان نائب نيسابور والى أمين الدين أبي بكر نائب زوزن بالمسير الى جلدك وحصار هراة معه فسار لذلك في عشرة آلاف فارس وحاصروها فامتنعت وكان خلال ذلك ما قدّمناه من انهزام خوارزم شاه أمام الخطا وأسرهم إياه ثم تخلص ولحق بخوارزم ثم جاء الى نيسابور ولحق بالعساكر الذين يحاصرون هراة فأحسن الى أمرائهم لصبرهم وبعث الى الوزير خواجا في تسليم البلد لانه كان يعد عسكره بذلك حين وصوله فامتنع وأساء الردّ فشدّ خوارزم في حصاره وضجر أهل المدينة وجهدهم الحصار وتحدّثوا في الثورة فبعث جماعة من الجند للقبض عليه فثاروا بالبلد وشعر جماعة العسكر من خارج بذلك فرجعوا الى السور واقتحموه وملك البلد عنوة وجيء بالوزير أسيرا الى خوارزم شاه فأمر بقتله فقتل وكان ذلك سنة خمس وستمائة ووليّ على هراة خاله أمير ملك وعاد وقد استقرّ له أمر خراسان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 [1] استيلاء خوارزم شاه على بيروز كوه [1] وسائر بلاد خراسان لما ملك خوارزم شاه هراة وولىّ عليها خاله أمير ملك وعاد الى خوارزم بعث الى أمير ملك يأمره [2] بيروزكوه وكان بها غياث الدين محمود بن غياث الدين وقد لحق به أخوه علي شاه وأقام عنده فسار أمير ملك وبعث اليه محمود بطاعته ونزل اليه فقبض عليه أمير ملك وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه وقتلهما جميعا سنة خمس وستمائة وصارت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش وانقرض أمر الغورية وكانت دولتهم من أعظم الدول وأحسنها والله تعالى ولىّ التوفيق. هزيمة الخطا ولما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه واستنغر وعبر نهر جيحون وسار اليه الخطا وقد احتفلوا للقائه وملكهم يومئذ طانيكوه ابن مائة سنة ونحوها وكان مظفرا مجربا بصيرا بالحرب واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند وبخارى وتراجعوا سنة ست وستمائة ووقعت بينهم حروب لم يعهد مثلها ثم انهزم الخطا وأخذ فيهم القتل كل مأخذ وأسر ملكهم طانيكوه فأكرمه خوارزم شاه وأجلسه معه على سريره وبعث به الى خوارزم وسار هو الى وراء النهر وملكها مدينة مدينة الى أوركند وأنزل نوّابه فيها وعاد الى خوارزم ومعه صاحب سمرقند فأصهر اليه خوارزم شاه بأخته وردّه الى سمرقند وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان أيام الخطا والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء. انتقاض صاحب سمرقند ولما عاد صاحب سمرقند الى بلده أقام شحنة خوارزم شاه وعسكره معه نحوا من سنة ثم استقبح سيرتهم وتنكر لهم وأمر أهل البلاد فثاروا بهم وقتلوهم في كل مذهب وهمّ بقتل   [1] بيروزكوه من المشترك بكسر الباء الوحدة وسكون المثناة التحتية وضم الراء المهملة وواو ثم زاء معجمة وضم الكاف ثم واو وهاء، معناه الجبل الأزرق، وهي قلعة حصينة دار مملكة جبال الغور (أهـ من أبي الفداء) . [2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 265: وبلغ أخاه علي شاه فخافه وسار على طريق قهستان ملتجئا الى غياث الدين محمود الغوري صاحب فيروزكوه وأكرمه وأنزله عنده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 زوجته أخت خوارزم شاه فغلقت الأبواب دونه واسترحمته فتركها وبعث الى ملك الخطا بالطاعة وبلغ الخبر الى خوارزم شاه فامتعض وهمّ بقتل من في بلده من أهل سمرقند ثم انثنى عن ذلك وأمر عساكره بالتوجه الى ما وراء النهر فخرجوا أرسالا وهو في أثرهم وعبر بهم النهر ونزل على سمرقند وحاصرها ونصب عليها الآلات وملكها عنوة واستباحها ثلاثا قتل فيها نحوا من مائتي ألف واعتصم صاحبها بالقلعة ثم حاصرها وملكها عنوة وقتل صاحبها صبرا في جماعة من أقرانه ومحا آثار الخانية وأنزل في سائر البلاد وراء النهر نوّابه وعاد الى خوارزم والله تعالى ولىّ النصر بمنه وفضله. استلحام الخطا قد تقدّم لنا وصول طائفة من أمم الترك الى بلاد تركستان وكاشغر وانتشارهم فيما وراء النهر واستخدموا للملوك الخانية أصحاب تركستان وكان ارسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الريف فيما بينه وبين الصين ولهم على ذلك الاقطاعات والجرايات وكان يعاقبهم على ما يقع منهم من الفساد والعيث في البلاد ويوقع بهم ففرّوا من بلاده وابتغوا عنه فسيحا من الأرض ونزلوا بلاساغون ثم خرج كوخان ملك الترك الأعظم من الصين سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فسارت اليه أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بقراخان وهو ابن أخت السلطان سنجر فهزموه وبعث بالصريخ الى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم في صفر سنة ست وثلاثين ولقيه أمم الترك والخطا فهزموه واثخنوا في المسلمين وأسرت زوجة السلطان سنجر ثم أطلقها كوخان بعد ذلك وملك الترك بلاد ما وراء النهر ثم مات كوخان ملكهم سنة سبع وثلاثين ووليت بعده ابنته وماتت قريبا وملكت من بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر الى آن غلبهم عليه خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش كما قدّمنا وكانت قد خرجت قبل ذلك خارجة عظيمة من الترك يعرفون بالتتر ونزلوا في حدود الصين وراء تركستان وكان ملكهم كشلى خان ووقع بينه وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم وزحف كشلى في أمم التتر الى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا الى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوّهم قبل أن يستحكم أمرهم وتضيق عنه قدرته وقدرتهم وبعث اليه كشلى يغريه بهم وأن يتركه وإياهم ويحلف له على مسالمة بلاده فسار خوارزم شاه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 يوهم كل واحد من الفريقين انه له وأقام منتبذا عنهما حتى تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه ولم ينج منهم الا القليل فتحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه كانوا معه وبعث خوارزم شاه الى كشلى خان ملك التتر يعتدّ عليه بهزيمة الخطا وانها انما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وسار لحربهم ثم علم انه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم على اللقاء كشلى خان يعذ له في ذلك وهو يغلطه واستولى كشلى خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وبلاساغون ثم عمد خوارزم شاه الى الشاش وفرغانة واسحان وكاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله انزه منها ولا أحسن عمارة فجلا أهلها الى بلاد الإسلام وخرّب جميعها خوفا أن يملكها التتر ثم اختلف التتر بعد ذلك وخرج على كشلى طائفة أخرى منهم يعرفون بالمغل وملكهم جنكزخان فشغل كشلى خان بحربهم عن خوارزم شاه فعبر النهر الى خراسان وترك خوارزم شاه الى أن كان من أمره ما نذكره والله تعالى أعلم. استيلاء خوارزم شاه على كرمان ومكران والسند قد تقدّم لنا أنه كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش تاج الدين أبو بكر وانه كان كريا للدواب ثم ترقت به الأحوال الى أن صار سروان لتكش والسروان مقدّم الجهاد ثم تقدّم عنده لجلده وإماتته وصار أمير وولاه قلعة زوزن ثم تقدّم عند علاء الدين محمد بن تكش واختصه فأشار عليه بطلب بلاد كرمان لما كانت مجاورة لوطنه فبعث معه عسكرا وسار الى كرمان سنة اثنتي عشرة وصاحبها يومئذ محمد بن حرب أبي الفضل الّذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر فغلبه على بلاده وملكها ثم سار الى كرمان وملكها كلها الى السند من نواحي كابل وسار الى هرمز من مدن فارس بساحل البحر واسم صاحبها مكيك فأطاعه وخطب لخوارزم شاه وضمن مالا يحمله وخطب له بقلعات وبعض عمان من وراء النهر لانهم كانوا يتقربون الى صاحب هرمز بالطاعة وتسير سفنهم بالتجار الى هرمز لانه المرسي العظيم الّذي تسافر اليه التجار من الهند والصين وكان بين صاحب هرمز وصاحب كيش مغاورات وفتن وكل واحد منهما ينهى مراكب بلاده أن ترسي ببلاد الآخر وكان خوارزم شاه يطيف بنواحي سمرقند خشية أن يقصد التتر أصحاب كشلى خان بلاده . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 استيلاء خوارزم شاه على غزنة وأعمالها ولما استولى خوارزم شاه محمد بن تكش على بلاد خراسان وملك باميان وغيرها وبعث تاج الدين المرز صاحب غزنة وقد تغلب عليها بعد ملوك الغورية وقد تقدّم في أخبار دولتهم فبعث اليه في الخطبة له وأشار عليه كبير دولته قطلغ تكين مولى شهاب الدين الغوري وسائر أصحابه بالإجابة الى ذلك فخطب له ونقش السكة باسمه وسار قنصيرا وترك قطلغ تكين بغزنة نائبا عنه فبعث قطلغ تكين لخوارزم شاه يستدعيه فأغذ له السير وملك غزنة وقلعتها وقتل الغورية الذين وجدوا بها خصوصا الأتراك وبلغ الخبر المرز فهرب الى أساون ثم أحضر خوارزم شاه قطلغ ووبخه على قلة وفائه لصاحبه وصادره على ثلاثين حملا من أصناف الأموال والأمتعة وأربعمائة مملوك ثم قتله وعاد الى خوارزم وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة وقيل سنة اثنتي عشرة بعد ان استخلف عليها ابنه جلال الدين منكبرس والله أعلم بغيبه وأحكم. استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل كان خوارزم شاه محمد بن تكش قد ملك الرها وهمذان وبلاد الجبل كلها أعوام تسعين وخمسمائة من يد قطلغ آبنايخ [1] بقية أمراء السلجوقية ونازعه فيها ابن القصاب وزير الخليفة الناصر فغلبه خوارزم شاه وقتله كما مرّ في أخباره ثم شغل عنها تكش الى أن توفي وذلك سنة سبع وتسعين وصار ملكه لابنه علاء الدين محمد بن تكش وتغلب موالي البهلوان على بلاد الجبل واحدا بعد واحد ونصبوا أزبك بن مولاهم البهلوان ثم انتقضوا عليه وخطبوا لخوارزم شاه وكان آخر من ولىّ منهم أغماش وأقام بها مدّة يخطب لعلاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه ثم وثب عليه بعض الباطنية وطمع أزبك بن محمد البهلوان بقية الدولة السلجوقية بآذربيجان وارّان في الاستيلاء على أعمال أصبهان والريّ وهمذان وسائر بلاد الجبل وطمع سعد بن زنكي صاحب فارس ويقال سعد بن دكلا في الاستيلاء عليها أيضا كذلك وسار في العساكر فملك أزبك أصبهان بممالأة أهلها وملك سعد الريّ وقزوين وسمنان وطار الخبر الى خوارزم شاه بأصبهان بسمرقند فسار في العساكر سنة أربع عشرة وستمائة في مائة ألف بعد ان جهز العساكر فيما وراء النهر وبثغور الترك وانتهى الى قومس ففارق العساكر وسار متجرّدا في اثني عشر ألفا فلما ظفرت مقدمته بأهل الريّ وسعد مخيم بظاهرها ركب   [1] وفي مكان آخر: آبنانج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 للقتال بظنّ انه السلطان ثم تبين الآلة والمركب واستيقن انه السلطان فولت عساكره منهزمة وحصل في أسر السلطان وبلغ الخبر الى أزبك بأصبهان فسار الى همذان ثم عدل عن الطريق في خواصه وركب الاوعار الى أذربيجان وبعث وزيره أبا القاسم بن علي بالاعتذار فبعث اليه في الطاعة فأجابه وحمله الضريبة فاعتذر بقتال الكرج وأمّا سعد صاحب فارس فبلغ الخبر بأسره الى ابنه نصرة الدين أبي بكر فهاج بخلعان أبيه وأطلق السلطان سعدا على أن يعطيه قلعة إصطخر ويحمل اليه ثلث الخراج وزوّجه بعض قرابته وبعث معه من رجال الدولة من يقبض إصطخر فلما وصل الى شيراز وجد ابنه منتقضا فداخله بعض أمراء ابنه وفتح له باب شيراز ودخل على ابنه واستولى على ملكه وخطب لخوارزم شاه واستولى خوارزم شاه على شاورة وقزوين وجرجان وابهر وهمذان وأصبهان وقم وقاشان وسائر بلاد الجبل واستولى عليها كلها من أصحابها واختص الأمير طائيين بهمذان وولىّ ابنه ركن الدولة ياور شاه عليهم جميعا وجعل معه جمال الدين محمد بن سابق الشاوي وزيرا. طلب الخطبة وامتناع الخليفة منها ثم بعد ذلك بعث خوارزم شاه محمد بن تكش الى بغداد يطلب الخطبة بها من الخليفة كما كانت لبني سلجوق وذلك سنة أربع عشرة وذلك لما رأي من استفحال أمره واتساع ملكه فامتنع الخليفة من ذلك وبعث في الاعتذار عنه الشيخ شهاب الدين السهروردي فأكبر السلطان مقدمه وقام لتلقيه وأوّل ما بدأ به الكلام على حديث الخطبة ببغداد وجلس على ركبتيه لاستماعه ثم تكلم وأطال وأجاد وعرض بالموعظة في معاملة النبيّ صلّى الله عليه وسلم في بني العباس وغيرهم والتعرّض لاذايتهم فقال السلطان حاش للَّه من ذلك وأنا ما آذيت أحدا منهم وأمير المؤمنين كان أولى مني بموعظة الشيخ فقد بلغني أنّ في محبسه جماعة من بني العباس مخلدين يتناسلون فقال الشيخ الخليفة إذا حبس أحدا للإصلاح لا يعترض عليه فيه فما بويع الا للنظر في المصالح ثم ودّعه السلطان ورجع الى بغداد [1] وكان ذلك قبل أن يسير الى العراق [2] فلما استولى على بلاد الجبل وفرغ من أمرها سار الى بغداد وانتهى الى عقبة سراباد وأصابه هنالك ثلج عظيم أهلك الحيوانات وعفن أيدي الرجال وأرجلهم حتى   [1] أي رجع الشيخ الى بغداد [2] أي يسير السلطان الى العراق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 قطعوها ووصله هنالك شهاب الدين السهروردي ووعظه فندم ورجع عن قصده فدخل الى خوارزم سنة خمس عشرة والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق. قسمة السلطان خوارزم شاه الملك بين ولده ولما استكمل السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش ملكه بالاستيلاء على الريّ وبلاد الجبل قسم أعمال ملكه بين ولده فجعل خوارزم وخراسان ومازندان لولىّ عهده قطب الدين أولاغ شاه وانما كان ولىّ عهده دون ابنه الأكبر جلال الدين منكبرس لأنّ أمّ قطب الدين وأمّ السلطان وهي تركمان خاتون من قبيلة واحدة وهم فياروت من شعوب يمك احدى بطون الخطا فكانت تركمان خاتون متحكمة في ابنها السلطان محمد بن تكش وجعل غزنة وباميان والغور وبست ومكساماد وما من الهند لابنه جلال الدين منكبرس وكرمان وكيس ومكرمان لابنه غياث الدين يتر شاه وبلاد الجبل لابنه ركن الدين غور شاه كما قدّمناه وأذن لهم في ضرب النوب الخمس له وهي دبادب صغار تقرع عقب الصلوات الخمس واختص هو بنوبة سماها نوبة ذي القرنين سبع وعشرين دبدبة كانت مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة بالجواهر هكذا ذكر الوزير محمد بن أحمد السنوي المنشى كاتب جلال الدين منكبرس في أخباره ابنه علاء الدين محمد بن تكش وعلى كتابه اعتمدت دون غيره لانه أعرف بأخبارهما وكانت كرمان ومكران وكيش لمؤيد الملك قوام الدين وهلك منصرف السلطان من العراق فأقطعها لابنه غياث الدين كما قلناه وكان الملك هذا سوقة فأصبح ملكا وأصل خبره أنّ أمّه كانت داية في دار نصرة الدين محمد بن أبز صاحب زوزن ونشأ في بيته واستخدمه وسفر عنه للسلطان فسعى به أنه من الباطنية ثم رجع فخوّفه من السلطان بذلك فانقطع نصرة الدين الى الإسماعيلية وتحصن ببعض قلاع زوزن وكتب قوام الدين بذلك الى السلطان فجعل اليه وزارة زوزن وولاية جبايتها ولم يزل يخادع صاحبه نصرة الدين الى أن راجع فتمكن من السلطان وسمله ثم طمع قوام الدين في ملك كرمان وكان بها أمير من بقية الملك دينار وأمدّه السلطان بعسكر من خراسان فملك كرمان وحسن موقع ذلك من السلطان فلقبه مؤيد الملك وجعلها في أقطاعه ولما رجع السلطان من العراق وقد نفقت جماله بعث اليه بأربعة آلاف بختي وتوفي أثر ذلك فردّ السلطان أعماله الى ابنه غياث الدين كما قلناه وحمل من تركته الى السلطان سبعون حملا من الذهب خلا الأصناف . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 أخبار تركمان خاتون أمّ السلطان محمد بن تكش كانت تركمان خاتون أمّ السلطان محمد بن تكش من قبيلة بياروت من شعوب الترك يمك من الخطا وهي بنت خان حبكش من ملوكهم تزوّجها السلطان خوارزم شاه تكش فولدت له السلطان محمدا فلما ملك لحق بها طوائف يمك ومن جاورهم من الترك واستظهرت بهم وتحكمت في الدولة فلم يملك السلطان معها أمره وكانت تولى في النواحي من جهتها كما يولي السلطان وتحكم بين الناس وتنحف من الظلامات وتقدم على الفتك والقتل وتقيم معاهد الخير والصدقة في البلاد وكان لها سبعة من الموقعين يكتبون عنها وإذا عارض توقيعها لتوقيع السلطان عمل بالمتأخر منهما وكان لقبها خداوند جهان أي صاحبة العالم وتوقيعها في الكتاب عصمة الدنيا والدين اولاغ تركمان ملك نساء العالمين وعلامتها اعتصمت باللَّه وحده تكتبها بقلم غليظ وتجوّد كتابتها أن تروّر عليها واستورت للسلطان وزيره نظام الملك وكان مستخدما لها فلما عزل السلطان وزيره أشارت عليه بوزارة نظام الملك هذا فوزر له على كره من السلطان وتحكم في الدولة بتحكمها ثم تنكر له السلطان لأمور بلغته عنه وعزله فاستمرّ على وزارتها وكان شأنه في الدولة أكبر وشكاه اليه بعض الولاة بنواحي خوارزم أنه صادره فأمر بعض خواصه بقتله فمنعته تركمان من ذلك وبقي على حاله وعجز السلطان عن إنفاذ أمره فيه والله يؤيد بنصره من يشاء. التتر (خروج التتر وغلبهم على ما وراء النهر وفرار السلطان أمامهم من خراسان ولما عاد السلطان من العراق سنة خمس عشرة كما قدّمناه واستقرّ بنيسابور وفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من المعدنين ونوافج المسك وحجر البشم والثياب الطائية التي تنسج من وبر الإبل البيض ويخبر أنه ملك الصين وما يليها من بلاد الترك ويسأل الموادعة والاذن للتجار من الجانبين في التردّد في متاجرهم وكان في خطابه اطراء السلطان بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك واستدعى محمودا الخوارزمي من الرسل واصطنعه ليكون عينا له على جنكزخان واستخبره على ما قاله في كتابه من ملكه الصين واستيلائه على مدينة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 طوغاج فصدق ذلك ونكر عليه الخطاب بالولد وسأله عن مقدار العساكر فغشه وقللها وصرفهم السلطان بما طلبوه من الموادعة والاذن للتجار فوصل بعض التجار من بلادهم الى انزار وبها نيال خان ابن خال السلطان في عشرين ألفا من العساكر فشره الى أموالهم وخاطب السلطان بأنهم عيون وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم فقتلهم خفية وأخذ أموالهم وفشا الخبر الى جنكزخان فبعث بالنكير الى السلطان في نقض العهد وان كان فعل نيال افتياتا فبعث اليه يتهدّده على ذلك فقتل السلطان الرسل وبلغ الخبر الى جنكزخان فسار في العساكر واعتزم السلطان أن يحصن سمرقند بالاسوار فجبي لذلك خراج سنتين وجبي ثالثة استخدم بها الفرسان وسار الى احياء جنكزخان فكبسهم وهو غائب عنها في محاربة كشلي خان فغنم ورجع واتبعهم ابن جنكزخان فكانت بينهم واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين ولجأ خوارزم شاه الى جيحون فأقام عليه ينتظر شأن التتر ثم عاجله جنكزخان فأجفل وتركها وفرّق عساكره في مدن ما وراء النهر انزار وبخارى وسمرقند وترمذ وجند وأنزل آبنايخ من كبراء أمرائه وحجاب دولته في بخارى وجاء جنكزخان الى انزار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها نيال خان الّذي قتل التجار وأذاب الفضة في أذنيه وعينيه ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى ملكوها ثم غدر بهم وقتلهم وسلبهم وخرّبها ورحل جنكزخان الى سمرقند ففعلوا فيها مثل ذلك سنة تسع عشرة وستمائة ثم كتب كتبا على لسان الأمراء قرابة أمّ السلطان يستدعون جنكزخان ويعدها بزيادة خراسان الى خوارزم وبعث من يستخلفه على ذلك وبعث الكتب مع من يتعرّض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمّه وبقرابتها. إجفال السلطان خوارزم شاه الى خراسان ثم الى طبرستان ومهلكه ولما بلغ السلطان استيلاء جنكزخان على انزار وبخارى وسمرقند وجاءه نائب بخارى ناجيا في الفلّ أجفل حينئذ وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وعلاء الدين صاحب قيدر وتخاذل الناس وسرّح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا يسميهم التتر المغرّبة لسيرهم نحو غرب خراسان فتوغلوا في البلاد وانتهوا الى بلاد بيجور واكتسحوا كل ما مرّوا عليه ووصل السلطان الى نيسابور فلم يثبت بها ودخل الى ناحية العراق بعد أن أودع أمواله قال المنشي في كتابه حدّثني الأمير تاج الدين البسطامي قال لما انتهى خوارزم شاه في مسيره الى العراق استحضرني وبين يديه عشرة صناديق مملوءة لآلئ لا تعرف قيمتها وقال في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 اثنين منها فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بأسرها وأمرني بحملها الى قلعة اردهز من أحصن قلاع الأرض وأخذت خط يد الموالي بوصولها ثم أخذها التتر بعد ذلك حين ملكوا العراق انتهى ولما ارتحل خوارزم شاه من نيسابور قصد مازندران والتتر في أثره ثم انتهى الى أعمال همذان فكبسوه هناك ونجا الى بلاد الجبل وقتل وزيره عماد الملك محمد بن نظام الملك وأقام هو بساحل البحر بقرية عند الفريضة يصلي ويقرأ ويعاهد الله على حسن السيرة ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا ووصلوا الى جزيرة في بحر طبرستان فأقام بها وطرقه المرض فكان جماعة من أهل مازندان يمرضونه ويحمل اليه كثيرا من حاجته فيوقع لحاملها بالولايات والاقطاع وأمضى ابنه جلال الدين بعد ذلك جميعها ثم هلك سنة سبع عشرة وستمائة ودفن بتلك الجزيرة لإحدى وعشرين سنة من ملكه بعد أن عهد لابنه جلال الدين منكبرس وخلع ابنه الأصغر قطب الدين أولاغ شاه ولما بلغ خبر اجفاله الى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت هاربة بعد أن قتلت نحوا من عشرين من الملوك والأكابر المحبوسين هنالك ولحقت بقلعة ايلان من قلاع مازندان فلما رجع التتر المغربة عن السلطان خوارزم شاه بعد ان خاض بحر طبرستان الى الجزيرة التي مات بها فقصدوا مازندان وملكوا قلاعها على ما فيها من الامتناع ولقد كان فتحها بأخر الى سنة تسعين أيام سليمان بن عبد الملك فملكوها واحدة واحدة وحاصروا تركمان خاتون في قلعة ايلان الى أن ملكوا القلعة صلحا وأسروها وقال ابن الأثير انهم لقوها في طريقها الى مازندان فأحاطوا بها وأسروها ومن كان معها من بنات السلطان وتزوّجهنّ التتر وتزوّج دوشي خان بن جنكزخان بإحداهنّ وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهنّ في خمول وذل وكانت تحضر سماط جنكزخان كاحداهنّ وتحمل قوتها منه وكان نظام الملك وزير السلطان مع أمّه تركمان خاتون فحصل في قبضة جنكزخان وكان عندهم معظما لما بلغهم من تنكر السلطان له وكانوا يشاورونه في أمر الجباية فلما استولى دوشي خان على خوارزم وجاء بحرم السلطان الذين كانوا بها وفيهنّ مغنيات فوهب احداهنّ لبعض خدمه فمنعت نفسها منه ولجأت للوزير نظام الملك فشكاه ذلك الخادم لجنكزخان ورماه بالجارية فأحضره جنكزخان وعدّد عليه خيانة استاذه وقتله. مسير التتر بعد مهلك خوارزم شاه من العراق الى أذربيجان وما وراءها من البلاد هنالك ولما وصل التتر الى الريّ في طلب خوارزم شاه محمد بن تكش سنة سبع عشرة وستمائة ولم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 يحدوه عادوا الى همذان واكتسحوا ما مرّوا عليه وأخرج اليهم أهل همذان ما حضرهم من الأموال والثياب والدواب فأمّنوهم ثم ساروا الى زنجان ففعلوا كذلك ثم الى قزوين فامتنعوا منهم فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها ويقال أنّ القتلى بقزوين زادوا على أربعين ألفا ثم هجم غليهم الشتاء فساروا الى أذربيجان على شأنهم من القتل والاكتساح وصاحبها يومئذ أزبك بن البهلوان مقيم بتبريز عاكف على لذاته فراسلهم وصانعهم وانصرفوا الى بوقان ليشتوا بالسواحل ومرّوا الى بلاد الكرج فجمعوا لقتالهم فهزمهم التتر وأثخنوا فيهم فبعثوا الى ازبك صاحب أذربيجان والى الأشرف بن العادل بن أيوب صاحب خلاط والجزيرة يطلبون اتصال أيديهم على مدافعة التتر وانضاف الى التتر اقرش من موالي أزبك واليه [1] جموع من التركمان والأكراد وسار مع التتر الى الكرج واكتسحوا بلادهم وانتهوا الى بلقين [2] وسار اليهم الكرج فلقيهم اقرش أوّلا ثم لقيهم التتر فانهزم الكرج وقتل منهم ما لا يحصى وذلك في ذي القعدة من سنة سبع عشرة ثم عاد التتر الى مراغة ومرّوا بتبريز فصانعهم صاحبها كعادته وانتهوا الى مراغة فقاتلوها أياما وبها امرأة تملكها ثم ملكوها في صفر سنة ثماني عشرة واستباحوها ثم رحلوا عنها الى مدينة اربل وبها مظفر الدين بن [3] فاستمد بدر الدين صاحب الموصل فأمدّه بالعساكر ثم همّ بالخروج لحفظ الدروب على بلاده فجاءت كتب الخليفة الناصر اليهم جميعا بالمسير الى دقوقا ليقيموا بها مع عساكره ويدافع عن العراق وبعث معهم بشتمر كبير أمرائه وجعل المقدّم على الجميع مظفر الدين صاحب اربل فخاموا عن لقاء التتر وخام التتر عن لقائهم وساروا الى همذان وكان لهم بها شحنة منذ ملكوها أوّلا فطالبوه بفرض المال على أهلها وكان رئيس همذان شريفا علويا قديم الرئاسة بها فحضهم على ذلك فضجروا وأساءوا الردّ عليه وأخرجوا الشحنة وقاتلوا التتر وغضب العلويّ فتسلل عنهم الى قلعة بقربها فامتنع وزحف التتر الى البلد فملكوه عنوة واستباحوه واستلحموا أهله ثم عادوا الى أذربيجان فملكوا أردبيل واستباحوها وخربوها وساروا الى تبريز وقد فارقها ازبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وارّان وقصد نقجوان وبعث بأهله وحرمه الى حوى فرارا من التتر لعجزه وانهماكه فقام بأمر تبريز شمس الدين الطغرائي وجمع أهل البلد واستعدّ للحصار فأرسل اليه التتر في المصانعة فصانعهم وساروا الى مدينة سوا   [1] اي وانضاف اليه. [2] وهي البليقان كما في معجم البلدان. [3] كذا بياض بالأصل ج 12 ص 423: مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي صاحب إربل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 فاستباحوها وخرّبوها وساروا الى بيلقان فحاصروها وبعثوا الى أهل البلد رجلا من أكابرهم يقرّر معهم في المصانعة والصلح فقتلوه فأسرى التتر في حصارهم وملكوا البلد عنوة في رمضان سنة ثمان عشرة واستلحموا أهلها وأفحشوا في القتل والمثلة حتى بقروا البطون على الأجنة واستباحوا جميع الضاحية قتلا ونهبا وتخريبا ثم ساروا الى قاعدة ارّان وهي كنجة ورأوا امتناعها فطلبوا المصانعة من أهلها فصانعوهم ولما فرغوا من أعمال أذربيجان وارّان ساروا الى بلاد الكرج وكانوا قد جمعوا لهم واستعدّوا ووقعوا في حدود بلادهم فقالتهم التتر فهزموهم الى بلقين قاعدة ملكهم فجمعوا هنالك ثم خاموا عن لقائهم لما رأوا من اقتحامهم المضايق والجبال فعادوا الى بلقين واستولى التتر على نواحيها فخربوها كيف شاءوا ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة الاوعار والدوسرات فعادوا عنها ثم قصدوا درنبر [1] شروان وحاصروا مدينة سماهي [2] وفتكوا في أهلها ووصلوا الى السور فعالوه باشلاء القتلى حتى ساموه [3] واقتحموا البلد فأهلكوا كل من فيه ثم قصدوا الدربند فلم يطيقوا عبوره فأرسلوا الى شروان في الصلح فبعث اليهم رجلا من أصحابه فقتلوا بعضهم واتخذوا الباقين أذلاء فسلكوا بهم دربند شروان وخرجوا الى الأرض الفسيحة وبها أمم القفجاق واللان واللكن وطوائف من الترك مسلمون وكفار فأوقعوا بتلك الطوائف واكتسحوا عامّة البسائط وقاتلهم قفجاق واللان ودافعوهم ولم يطق التتر مغالبتهم ورجعوا وبعثوا الى القفجاق وهم واثقون بمسالمتهم فأوقعوا بهم وجر من كان بعيدا منهم الى بلاد الروس واعتصم آخرون بالجبال والغياض واستولى التتر على بلادهم وانتهوا الى مدينتهم الكبرى سراي على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهي مادّتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال وركب بعضهم الى بلاد الروم في ايالة بني قلج ارسلان ثم سار التتر سنة عشر وستمائة من بلاد قفجاق الى بلاد الروم المجاورة لها وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا الى مدافعتهم في تخوم بلادهم ومعهم جموع من القفجاق سافروا اليهم فاستطرد لهم التتر مراحل ثم كرّوا عليه وهم غارون فطاردهم القفجاق والروم أياما ثم انهزموا وأثخن التتر فيهم   [1] وهي مدينة دربند (معجم البلدان) . [2] وهي مدينة شماخي (معجم البلدان) . [3] كذا، وفي الكامل ج 12 ص 384: ثم ان التتر صعدوا سورها بالسلاليم، وقيل بل جمعوا كثيرا من الجمال والبقر والغنم وغير ذلك، ومن قتل الناس منهم وممن قتل من غيرهم، والقوا بعضه فوق بعض وصار مثل التل وصعدوا عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 قتلا وسبيا ونهبا وركبوا السفن هاربين الى بلاد المسلمين وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر ثم عادوا اليها وقصدوا بلغار أواخر السنة واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم الا القليل وارتحلوا عائدين الى جنكزخان بأرض الطالقان ورجع القفجاق الى بلادهم واستقرّوا فيها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء. أخبار خراسان بعد مهلك خوارزم شاه قد كنا قدّمنا مهلك خوارزم شاه ومسير هؤلاء التتر المغربة في طلبه ثم انتهائهم بعد مهلكه الى النواحي التي ذكرناها وكان جنكزخان بعد إجفال خوارزم شاه من جيحون وهو بسمرقند قد بعث عسكرا الى ترمذ فساروا منها الى كلات من أحصن القلاع الى جانب جيحون فاستولوا عليها وأوسعوها نهبا وسير عسكرا آخر الى فرغانة وكذلك عسكرا آخر الى خوارزم وعسكرا آخر الى خوزستان فعبر عسكر خراسان الى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع وستمائة ولم يعرضوا لها بعيث وانزلوا شحنتهم بها ثم ساروا الى زوزن وميمنة وايدخوي وفارياب فملكوها وولوا عليها ولم يعرضوا لأهلها بأذى وانما استنفروهم لقتال البلد معهم ثم ساروا الى الطالقان وهي ولاية متسعة فقصدوا قلعة صوركوه من أمنع بلادها فحاصروها ستة أشهر وامتنعت عليهم فسار اليهم جنكزخان بنفسه وحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى إذا رأى امتناعها أمر بنقل الخشب والتراب حتى اجتمع منه تلّ مشرف على البلد واستيقن أهل البلد الهلكة واجتمعوا وفتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرّقوا في الجبال والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر البلد فاستباحوها ثم بعث جنكزخان صهره قفجاق قوين الى خراسان ومرواسا وقاتلوها فامتنعت عليهم وقتل قفجاق قوين فأقاموا على حصارها وملكوها عنوة واستباحوها وخرّبوها ويقال قتل فيها أزيد من سبعين ألفا وجمع عددا من الجثث فكان كالتلال العظيمة وكان رؤساؤها بني حمزة بخوارزم منذ ملكها خوارزم شاه تكش فعاد اليها اختيار الدين جنكي بن عمر بن حمزة وبوعمه وضبطوها ثم بعث جنكزخان ابنه في العساكر الى مدينة مرو واستنفر أهل البلاد التي ملكوها قبل مثل بلخ وأخواتها وكان الناجون من هذه الوقائع كلها قد لحقوا بمرو واجتمع بها ما يزيد على مائتي ألف وعسكروا بظاهرها لا يشكون في الغلب فلما قاتلهم التتر صابروهم فوجدوا في مصابرتهم ما لم يحتسبوه فولوا منهزمين وأثخن التتر فيهم ثم حاصروا البلد خمسة أيام وبعثوا الى أميرها يستميلونه للنزول عنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 فاستأمن اليهم وخرج فأكرموه أولا ثم أمروا بإحضار جنده للعرض حتى استكملوا وقبضوا عليهم ثم استكتبوه رؤساء البلد وتجاره وصناعة على طبقاتهم وخرج أهل البلد جميعا وجلس لهم جنكزخان على كرسي من ذهب فقتل الجند في صعيد واحد [1] وقسم العامة رجالا وأطفالا ونساء بين الجند فاقتسموهم وأخذوا أموالهم وامتحنوهم في طلب المال ونبشوا القبور في طلبه ثم أحرقوا البلد وتربة السلطان سنجر ثم استلحم في اليوم الرابع أهل البلد جميعا يقال كانوا سبعمائة ثم ساروا الى نيسابور وحاصروها خمسا ثم اقتحموها عنوة وفعلوا فيها فعلهم في مرو وأشدّ ثم بعثوا عسكرا الى طوس وفعلوا فيها مثل ذلك وخربوها وخربوا مشهد علي بن موسى الرضا ثم ساروا الى هراة وهي من أمنع البلاد فحاصروها عشرا وملكوها وأمنوا من بقي من أهلها وأنزلوا عندهم شحنة وساروا لقتال جلال الدين بن خوارزم شاه كما يذكر بعد فوثب أهل هراة على الشحنة وقتلوه فلما رجع التتر منهزمين اقتحموا البلد واستباحوه وخربوه وأحرقوه ونهبوا نواحيه اجمع وعادوا الى جنكزخان بالطالقان وهو يرسل السرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا وكان ذلك كله سنة سبع عشرة وبقيت خراسان خرابا وتراجع أهلها بعض الشيء فكانوا فوضى واستبدّ آخرون في بعض مدنها كما نذكر ذلك في أماكنه والله أعلم. أخبار السلطان جلال الدين منكبرس مع التتر بعد مهلك خوارزم شاه واستقراره بغزنة ولما توفي السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش بجزيرة بحر طبرستان ركب ولده البحر الى خوارزم يقدمهم كبيرهم جلال الدين منكبرس وقد كان وثب بها بعد منصرف تركمان خاتون أمّ خوارزم شاه رجل من العيارين فضبطها وأساء السيرة وانطلقت اليها أيدي العيارين ووصل بعض نواب الديوان فأشاعوا موت السلطان ففرّ العيارون ثم جاء جلال الدين واخوته واجتمع الناس اليهم فكانوا معهم سبعة آلاف من العساكر أكثرهم اليارونية قرابه أمّ خوارزم شاه فمالوا الى أولاغ شاه وكان ابن أختهم كما مرّ وشاوروا في الوثوب بجلال الدين وخلعه ونمى الخبر اليه فسار الى خراسان في ثلاثمائة فارس وسلك المفازة الى بلد نسا فلقى هنالك رصدا من التتر فهزمهم ولجأ فلهم الى نسا وكان بها الأسير اختيار زنكي بن محمد بن   [1] وفي الكامل ج 12 ص 392: وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم فاحضروا وضربت رقابهم جرا، والناس ينظرون اليهم ويبكون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 عمر بن حمزة قد رجع اليها من خوارزم كما قدّمناه وضبطها فاستلحم فل التتر وبلغ وبعث الى جلال الدين بالمدد فسار الى نيسابور ثم وصلت عساكر التتر الى خوارزم بعد ثلاث من مسير جلال الدين فأجفل أولاغ واخوته وساروا في اتباعه ومرّوا بنسا فسار معهم اختيار الدين صاحبها واتبعتهم عساكر التتر فأدركوهم بنواحي خراسان وكبسوهم فقتل أولاغ شاه وأخوه انشاه واستولى التتر على ما كان معهم من الأموال والذخائر وافترقت في أيدي الجند والفلاحين فبيعت بأبخس الأثمان ورجع اختيار الدين زنكي الى نسا فاستبدّ بها ولم يسم الى مراسم الملك وكتب له جلال الدين بولايتها فراجع أحوال الملك ثم بلغ الخبر الى جلال الدين بزحف التتر الى نيسابور وأنّ جنكزخان بالطالقان فسار الى نيسابور ومن نيسابور الى بست واتبعه نائب هراة أمير ملك ابن خال السلطان خوارزم شاه في عشرة آلاف فارس هاربا أمام التتر وقصد سجستان فامتنعت عليه فرجع واستدعاه جلال الدين فسار اليه واجتمعوا فكبسوا التتر وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحموهم ولم يفلت منهم أحد فرجع جلال الدين الى غزنة وكانت قد استولى عليها اختيار الدين قربوشت صاحب الغور عند ما ساروا اليها عن جلال الدين صريخا عن أمس ملك سجستان فخالفه قربوشت اليها وملكها فثار به صلاح الدين النسائي والى قلعتها وقتله وملك غزنة، وكان بها رضا الملك شرف الدين بن أمور ففتك به رضا الملك واستبدّ بغزنة فلما ظفر جلال الدين بالتتر على قندهار رجع الى غزنة فقتله وأوطنها وذلك سنة ثمان عشرة. استيلاء التتر على مدينة خوارزم وتخريبها قد كنا قدّمنا أنّ جنكزخان بعد ما أجفل خوارزم شاه من جيحون بعث عساكره الى النواحي وبعث الى مدينة خوارزم عسكرا عظيما لعظمها لأنها كرسي الملك وموضع العساكر فسارت عساكر التتر اليها مع ابنه جنطاي واركطاي فحاصروها خمسة أشهر ونصبوا عليها الآلات فامتنعت فاستمدّوا عليها جنكزخان فأمدّهم بالعساكر متلاحقة فزحفوا اليها وملكوا جانبا منها وما زالوا يملكونها ناحية ناحية الى أن استوعبوها ثم فتحوا السدّ الّذي يمنع ماء جيحون عنها فسار اليها جيحون فغرّقها وانقسم أهلها بين السيف والغرق هكذا قال ابن الأثير وقال النسائي الكاتب انّ دوشي خان بن جنكزخان عرض عليهم الأمان فخرجوا اليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرّم سنة سبع عشرة ولما فرغ التتر من خراسان وخوارزم رجعوا الى ملكهم جنكزخان بالطالقان . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 خبر آبنايخ نائب بخارى وتغلبه على خراسان ثم فراره أمام التتر الى الريّ كان آبنايخ [1] أمير الأمراء والحجاب أيام خوارزم شاه وولاه ثانيا بخارى فلما ملكها التتر عليه كما قلناه أجفل الى المفازة وخرج منها الى نواحي نسا وراسله اختيار الدين صاحبها يعرضها عليه للدخول عنده فأبى فوصله وأمده وكان رئيس بشخوان من قرى نسا أبو الفتح فداخل التتر فكتب الى شحنة خوارزم بمكان آبنايخ فجرّد اليهم عسكرا فهزمه آبنايخ وأثخن فيهم وساروا الى بشخوان فحاصروها وملكوها عنوة وهلك أبو الفتح أيام الحصار ثم ارتحل آبنايخ الى أبيورد وقد تغلب تاج الدين عمر بن مسعود على أبيورد وما بينها وبين مرو فجبى خراجها واجتمع عليه جماعة من أكابر الأمراء وعاد الى نسا وقد توفى نائبها اختيار الدين زنكي وملك بعده ابن عمه عمدة الدين حمزة بن محمد بن حمزة فطلب منه آبنايخ خراج سنة ثمان عشرة وسار الى شروان وقد تغلب عليها ايكجي بهلوان فهزمه وانتزعها من يده ولحق بهلوان بجلال الدين في الهند واستولى آبنايخ خان على عامّة خراسان وكان تكين بن بهلوان متغلبا بمرو فعبر جيحون وكبس شحنة التتر ببخارى فهزموه سنة سبع ورجع الى شروان وهم باتباعه ولحقوا بآبنايخ خان على جرجان فهزموه ونجا الى غياث الدين يترشاه بن خوارزم شاه بالريّ فأقام عنده الى أن هلك كما نذكر ان شاء الله تعالى. خبر ركن الدين غور شاه صاحب العراق من ولد خوارزم شاه قد كان تقدّم لنا أنّ السلطان لما قسم ممالكه بين أولاده جعل العراق في قسمة غورشاه منهم ولما أجفل السلطان الى ناحية الريّ لقيه ابنه غورشاه ثم سار الى الريّ الى كرمان فملكها تسعة أشهر ثم بلغه أن جلال الدين محمد بن آبه القزويني وكان بهمذان أراد أن يملك العراق واجتمع اليه بعض الأمراء وأنّ مسعود بن صاعد قاضي أصبهان مائل اليه فعاجله ركن الدولة واستولى على أصبهان وهرب القاضي الى الاتابك سعد بن زنكي صاحب فارس فأجاره وبعث ركن الدين العساكر لقتال همذان فتخاذلوا ورجعوا دون قتال ثم مضى الى الريّ ووجد بها قوما من الإسماعيلية يحاولون إظهار دعوتهم ثم زحف التتر الى ركن الدولة فحاصروه بقلعة رواند واقتحموها فقاتلوه واستأمن اليهم ابن آبه صاحب همذان فأمنوه ودخلوا همذان فولوا عليها علاء الدين الشريف الحسيني عوضا من ابن آبه.   [1] وفي مكان آخر: آبنانج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 خبر غياث الدين ثير شاه صاحب كرمان من ولد السلطان خوارزم شاه قد كنا قدّمنا أنّ السلطان خوارزم شاه ولى ابنه غياث الدين ثير شاه كرمان وكيش ولم ينفذ اليها أيام أبيه ولما كانت الكبسة على قزوين خلص الى قلعة ماروت من نواحي أصبهان وأقام عند صاحبها ثم رجع الى أصبهان ومرّ به التتر ذاهبين الى أذربيجان فحاصروه وامتنع عليهم وأقام بها الى آخر سنة عشرين وستمائة فلما جاء أخوه ركن الدين غور شاه من كرمان الى أصبهان لقيه هنالك وحرّضه غياث الدين على كرمان فنهض اليها وملكها فلما قتل ركن الدين كما قلناه سار غياث الدين الى العراق وكان ركن الدين لما ولاه أبوه العراق جعل معه الأمير بقاطابستي اتابكين [1] فاستبدّ عليه فشكاه الى أبيه وأذن له في حبسه فحبسه ركن الدين بقلعة سرجهان فلما قتل ركن الدين كما قلناه أطلقه نائب القلعة أسد الدين حولي فاجتمع عليه الناس وكثير من الأمراء واستماله غياث الدين وأصهر اليه بأخته وماطله في الزفاف يستبرئ ذهاب الوحشة بينهما وكانت أصبهان بعد مقتل ركن الدين غلب عليها أزبك خان واجتمعت عليه العساكر وزحف اليه الأمير بقاطابستي فاستنجد ازبك غياث الدين فانجده بعسكر مع الأمير دولة ملك وعاجله بقاطابستي فهزمه بظاهر أصبهان وقتله وملكها ورجع دولة ملك إلى غياث الدين فزحف غياث الدين إلى أصبهان وأطاعه القاضي والرئيس صدر الدين وبادر بقاطابستي الى طاعته ورضي عنه غياث الدين وزفّ اليه أخته واستولى غياث الدين على العراق ومازندان وخراسان وأقطع مازندان وأعمالها دولة ملك وبقاطابستي همذان وأعمالها ثم زحف غياث الدين الى آذربيجان وشنّ الغارة على مراغة وتردّدت رسل صاحب آذربيجان ازبك بن البهلوان في المهادنة فهادنه وتزوّج بأخته صاحب بقحوان وقويت شوكته وعظم فكان بقاطابستي في دولته وتحكم فيها ثم حدّثته نفسه بالاستبداد وانتقض وقصد آذربيجان وبها مملوكان منتقضان على ازبك بن البهلوان فاجتمعا معه وزحف اليهم غياث الدين فهزمهم ورجعوا مغلوبين الى آذربيجان ويقال انّ [2] الخليفة دسّ بذلك الى بقاطابستي وأغراه بالخلاف على غياث الدين ثم لحق بغياث الدين آبنايخ خان نائب بخارى مفلتا من واقعته مع التتر بجرجان فأكرمه وقدّمه ونافسه خال السلطان دولة ملك وأخوه وسعوا اليها فزجرهما عنه فذهبا مغاضبين ووقع   [1] وفي بعض النسخ بقاطابستي اتابكا وفي الكامل ج 12 ص 415. ايغان طائسي [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 415: وقيل ان الخليفة الناصر لدين الله اقطعه البلاد سرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 دولة ملك في عساكر التتر بمرو وزنجان فقتل وهرب ابنه بركة خان الى ازبك بآذربيجان ثم أوقع عساكر التتر بقاطابستي وهزموه ونجا الى الكرم وخلص الفل الى غياث الدين وعاد التتر الى ما وراء جيحون ثم تذكر [1] صاحب فارس سعد الدين بن زنكي وكاتبته أهل أصبهان حين كانوا منهزمين عنه فسار اليه وحاصره في قلعة إصطخر وملكها ثم سار الى شيراز وملكها عليه عنوة ثم سار الى قلعة حرة فحاصرها حتى استأمنوا وتوفى عليها آبنايخ خان ودفن هنالك بشعب سلمان وبعث عسكرا الى كازرون فملكها عنوة واستباحها ثم سار الى ناحية بغداد وجمع الناس الجموع من اربل وبلاد الجزيرة ثم راسل غياث الدين في الصلح فصالحه ورجع الى العراق. أخبار السلطان جلال الدين منكبرس وهزيمته أمام التتر ثم عوده الى الهند قد كان تقدّم لنا أن أباه خوارزم شاه لما قسم البلاد بين ولديه جعل في قسمه غزنة وباميان والغور وبست وهكياباد وما يليها من الهند واستناب عليها أمير ملك وأنزله غزنة فلما انهزم السلطان خوارزم شاه أمام التتر زحف اليه حربوشة والي الغور فملكها من يده وكان من أمره ما قدّمناه الى أن استقرّ بها رضا الملك شرف الدين ولما أجفل جلال الدين من نيسابور الى غزنة واستولى التتر على بلاد خراسان وهرب أمراؤها فلحقوا بجلال الدين فقتل نائب هراة أمين الملك خال السلطان وقد قدّمنا محاصرته بسجستان ثم مراجعته طاعة السلطان جلال الدين ولحق به أيضا سيف الدين بقراق البلخي وأعظم ملك من بلخ ومظهر ملك والحسن فزحف كل منهم في ثلاثين ألفا ومع جلال الدين من عسكره مثلها فاجتمعوا وكبسوا التتر المملوكة محاصرين قلعة قندهار كما قلناه واستلحموهم ولحق فلهم بجنكزخان فبعث ابنه طولى خان في العساكر فساروا الى جلال الدين فلقيهم بشروان وهزمهم وقتل طولى خان بن جنكزخان في المعركة وذهب التتر منهزمين واختلف عسكر السلطان جلال الدين على الغنائم وتنازع سيف الدين بقراق مع أمين الملك نائب هراة وتحيز الى العراق وأعظم ملك ومظهر ملك وقاتلوا أمين الملك فقتل أخ لبقراق وانصرف مغاضبا الى الهند وتبعه أصحابه ولاطفهم جلال الدين ووعظهم فلم يرجعوا وبلغ خبر الهزيمة الى جنكزخان فسار في أمم التتر وسار   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 420: ففي آخر سنة عشرين وستمائة سار الى بلاد فارس، فلم يشعر صاحبها وهو أتابك سعد بن دكلا الا وقد وصل غيّاث الدين الى بلاده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 جلال الدين فلقى مقدّمة عساكره فلم يفلت من التتر الا القليل ورجع فنزل على نهر السند وبعث بالصريخ الى الأمراء المنحرفين عنه وعاجله جنكزخان قبل رجوعه فهزمه بعد القتال والمصابرة ثلاثا وقتل أمين الملك قريب أبيه واعترض المنهزمين نهر السند فغرق أكثرهم وأسر ابن جلال الدين فقتل وهو ابن سبع سنين ولما وقف جلال الدين على النهر والتتر في اتباعه فقتل أهله وحرمه جميعا واقتحم النهر بفرسه فخلص الى عدوته وتخلص من عسكره ثلاثمائة فارس وأربعة آلاف راجل وبعض أمرائه ولقوة بعد ثلاث وتخلص بعض خواصه بمركب مشحون بالأقوات والملابس فسد من حاجتهم وتحصن أعظم ملك ببعض القلاع وحاصره جنكزخان وملكها عنوة وقتله ومن معه ثم عاد التتر الى غزنة فملكوها واستباحوها وأحرقوها وخربوها واكتسحوا سائر نواحيها وكان ذلك كله سنة تسع عشرة ولما سمع صاحب جبل جردي من بلاد الهند بجلال الدين جمع للقائه وخام جلال الدين وأصحابه عن اللقاء لما نهكتهم الحرب فرجعوا ادراجهم وأدركهم صاحب جلال الدين صوري فقاتلهم وهزموه وملكوا أمرهم وبعث اليهم نائب ملك الهند فلاطفهم وهاداهم والله تعالى وليّ التوفيق. أخبار جلال الدين بالهند كان جماعة من أصحاب جلال الدين وأهل عسكره لما عبروا اليهم حصلوا عند قباجة ملك الهند منهم بنت أمين الملك خلصت الى مدينة ارجاء من عمله ومنهم شمس الملك وزير جلال الدين حياة أبيه ومنهم قزل خان بن أمين الملك خلص الى مدينة كلور فقتله عاملها وقتل قباجة شمس الملك الوزير لخبر جلال الدين بأموره وبعث أمين الملك ولحق بجلال الدين جماعة من أمراء أخيه غياث الدين فقوى بهم وحاصر مدينة كلور وافتتحها وافتتح مدينة ترنوخ كذلك فجمع قباجة للقائه وسار اليه جلال الدين فخام عن اللقاء وهرب وترك معسكره فغنمه جلال الدين بما فيه وسار الى لهاوون [1] وفيها ابن قباجة ممتنعا عليه فصالحه على مال يحمله ورحل الى تستشان وبها فخر الدين السلاوي نائب قباجة فتلقاه بالطاعة ثم سار الى اوجا وحاصرها فصالحوه على المال ثم سار الى جانس وهي لشمس الدين اليتمشي من ملوك الهند ومن موالي شهاب الدين الغوري فأطاعه أهلها وأقام بها وزحف اليه ايتش في ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل وثلاثمائة فيل وزحف جلال الدين في عساكره وفي مقدّمته جرجان بهلوان ازبك واختلفت المقدّمتان فلم يمكن اللقاء وبعث ايتش في الصلح   [1] هي مدينة لاهور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 فجنح اليه جلال الدين ثم اجتمع قباجة وايتش وسائر ملوك الهند فخام عن لقائهم ورجع لطلب العراق واستخلف جهان بهلوان الملك على ما ملك من الهند وعبر النهر الى غزنة فولى عليها وعلى الغور الأمير وفاملك واسمه الحسن فزلف وسار الى العراق وذلك سنة احدى وعشرين بعد مقدّمه لها بسنتين. أحوال العراق وخراسان في ايالة غياث الدين كان غياث الدين بعد مسير جلال الدين الى الهند اجتمع اليه شراد [2] العساكر بكرمان وسار بهم الى العراق فملك خراسان ومازندان كما تقدّم وأقام منهمكا في لذاته واستبدّ الأمراء بالنواحي فاستولى قائم الدين على نيسابور وتغلب يقز بن ايلجي بهلوان على شروان وتملك ينال خطا بهاتر ونظام الملك أسفراين ونصرة الدين بن محمد مستبدّ بنسا كما مرّ واستولى تاج الدين عمر بن مسعود التركماني على أبيورد وغياث الدين مع ذلك منهمك في لذاته وسارت اليه عساكر التتر فخرج لهم عن العراق الى بلاد الجبل واكتسحوا سائر جهاته واشتط عليه الجند وزادهم في الاقطاع والإحسان فلم يشبعهم وأظهروا الفساد وعاثوا في الرعايا وتحكمت أمّ السلطان غياث الدين في الدولة لاغفاله أمرها واقتفت طريقة تركمان خاتون أم السلطان خوارزم شاه وتلقبت بلقبها خداوند جهان الى أن جاء السلطان جلال الدين فغلب عليه كما قلناه. وصول جلال الدين من الهند الى كرمان وأخباره بفارس والعراق مع أخيه غياث الدين ولما فارق جلال الدين الهند كما قلناه سنة احدى وعشرين وسار الى المفازة وخلص منها الى كرمان بعد أن لقي بها من المتاعب والمشاق ما لا يعبر عنه وخرج معه أربعة آلاف راكب على الحمير والبقر ووجد بكرمان براق الحاجب نائب أخيه غياث الدين وكان من خبر براق هذا أنه كان حاجبا لكوخان ملك الخطا وسفر عنه الى خوارزم شاه فأقام عنده ثم ظفر خوارزم شاه بالخطا وولاه حجابته ثم صار الى خدمة ابنه غياث الدين ترشه بمكران فأكرمه ولما سار جلال الدين الى الهند ورجع عنه التتر سار غياث الدين لطلب العراق فاستناب براق في   [2] والصحيح: شرد جمع شرود، أو شرد جمع شارد. اي الخارج عن الطاعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 كرمان فلما جاء جلال الدين من الهند اتهمه وهمّ بالقبض عليه فنهاه عن ذلك وزيره شرف الملك فخر الدين علي بن أبي القاسم الجندي خواجا جهان أن يستوحش الناس لذلك ثم سار جلال الدين الى شيراز وأطاعه صاحبها برد الاتابك وأهدى له وكان أتابك فارس سعد بن زنكي قد استوحش من غياث الدين فاصطلحه جلال الدين وأصهر اليه في ابنته ثم سار الى أصبهان فأطاعه القاضي ركن الدين مسعود يستعطفه وأهدى له سلب طولي خان بن جنكزخان الّذي قتل في حرب بزوان كما مرّ وفرسه وسيفه ودس الى الأمراء الذين معه بالاستمالة فمالوا اليه ووعدوه بالمظاهرة ونمى الخبر الى غياث الدين فقبض على بعضهم ولحق الآخرون بجلال الدين فجاءوا به الى المخيم فمال اليه أصحاب غياث الدين وعساكره واستولى على مخيمه وذخائره وأمه ولحق غياث الدين بقلعة سلوقان وعاتب جلال الدين أمه في فراره فاستدعته وأصلحت بينهما ووقف غياث الدين موقف الخدمة لأخيه السلطان جلال الدين وجاء المتغلبون بخراسان والعراق وأذعنوا الى الطاعة وكانوا من قبل مستبدين على غياث الدين فاختبر السلطان طاعتهم وعمل فيها على شاكلتها والله أعلم. استيلاء ابن آبنايخ على نسا كان نصرة الدين بن محمد قد استولى على نسا بعد ابن عمه اختيار الدين كما مرّ واستناب في أموره محمد بن أحمد النسائي المنشي صاحب التاريخ المعتمد عليه في نقل أخبار خوارزم شاه وبنيه فأقام فيها تسع عشرة سنة مستندا على غياث الدين ثم انتقض عليه وقطع الخطبة له فسرّح اليه غياث الدين العساكر مع طوطي بن آبنايخ وأنجده بأرسلان وكاتب المتغلبين بمساعدته فراجع نصرة الدين محمد بن حمزة نفسه وبعث نائبة محمد بن أحمد المنشي الى غياث الدين بمال صالحه عليه فبلغه الخبر في طريقه بوصول جلال الدين واستيلائه على غياث الدين فأقام بأصبهان ينتظر صلاح السابلة وزوال الثلج ثم سار الى همذان فوجد السلطان غائبا في غزو الاتابك بقطابستي وكان من خبره أنه صهر الى غياث الدين على أخته كما قدّمنا فهرب بعد خلعه الى آذربيجان واتفق هو والاتابك سعد وسار اليهما جلال الدين فخالفه الأمير ايغان طائسي الى همذان وسار الى جلال الدين وكبسه هنالك فأخذه ثم أمنه وعاد الى مخيمه ولقيه وافد نصرة الدين على بلاد نسا وما يتاخمها وبعث الى ابن آبنايخ بالافراج عن نسا ثم بلغ الخبر بعد يومين بهلاك نصرة الدين واستيلاء ابن آبنايخ على نسا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 مسير السلطان جلال الدين الى خوزستان ونواحي بغداد ولما استولى السلطان جلال الدين على أخيه غياث الدين واستقامت أموره سار الى خوزستان شاتيا وحاصر قاعدتها مظفر الدين وجه السبع مولى الخليفة الناصر وانتهت سراياه في الجهات الى بادرايا والى البصرة فأوقع بهم تلكين [1] نائب البصرة وجاءت عساكر الناصر مع مولاه جلال الدين قشتمر وخاموا عن اللقاء وأوفد ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود السوي العارض على الخليفة ببغداد عاتبا وكان في مقدّمته جهان بهلوان فلقي في طريقه جمعا من العرب وعساكر الخليفة فرجع وأوقع بهم ورجعوا الى بغداد وجيء بأسرى منهم الى السلطان فأطلقهم واستعدّ أهل بغداد للحصار وسار السلطان الى يعقوبا على سبع فراسخ من بغداد ثم الى دقوقا فملكها عنوة وخربها وقاتلت بعوثه عسكر تكريت وتردّدت الرسل بينه وبين مظفر الدين صاحب اربل حتى اصطلحوا واضطربت البلد بسبب ذلك وأفسد العرب السابلة وأقام ضياء الملك ببغداد الى أن ملك السلطان مراغة والله تعالى أعلم. أولية الوزير شرف الدين هذا الوزير هو فخر الدين علي بن القاسم خواجه جهان ويلقب شرف الملك أصله من أصفهان وكان أوّل أمره ينوب عن صاحب الديوان بها وكان نحيب الدين الشهرستاني وزير السلطان وابنه بهاء الملك وزير الجند وفخر الدين هذا يخدمه بها ثم تمكن من منصب الإفتاء وطمح الى مغالبة نجيب الدين على الوزارة وسعى عند السلطان بأنه تناول من جبايتها مائتي ألف دينار فسامحه بها السلطان ولم يعرض له ثم سعى بفخر الدين ثانية فولى وزارة الجند وأقام بها أربع سنين حتى عبر السلطان الى بخارى فكثرت به الشكايات فأمر بالقبض عليه فاختفى ولحق بالطالقان الى أن اتصل بجلال الدين حين كان بغزنة بعد مهلك ابنه فرتبه في الحجابة الى أن أجاز بحر السند وكان وزيره شهاب الدين الهروي فقتله قباجة ملك الهند كما مرّ واستوزر جلال الدين مكانة فخر الدين هذا ولقبه شرف الملك ورفع رتبته على الوزراء وموقفه وسائر آدابه وأحواله.   [1] وفي الكامل ج 12 ص 426: شحنة البصرة الأمير ملتكين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 عود التتر الى الريّ وهمذان وبلاد الجبل وبعد رجوع التتر المغربة من أذربيجان وبلاد قفجاق وسروان كما قدّمناه وخراسان يومئذ فوضى ليس بها ولاة الا متغلبون من بعض أهلها بعد الخراب الأوّل والنهب فعمروها فبعث جنكزخان عسكرا آخر من التتر اليها فنهبوها ثانيا وخربوها وفعلوا في ساوة وقاشان وقم مثل ذلك ولم يكن التتر أوّلا أصابوا منها ثم ساروا الى همذان فاجفل أهلها وأوسعوها نهبا وتخريبا وساروا في اتباع أهلها الى أذربيجان وكبسوهم في حدودها فأجفلوا وبعضهم قصد تبريز فسار التتر في اتباعهم وراسلوا صاحبها ازبك بن البلهوان في إسلام من عنده فبعث بهم بعد ان قتل جماعة منهم وبعث برءوسهم وصانعهم بما أرضاهم فرجعوا عن بلاده والله تعالى أعلم. وقائع أذربيجان قبل مسير جلال الدين اليها لما رجع التتر من بلاد قفجاق والروس وكانت طائفة من قفجاق لما افترقوا وفروا أمام التتر ساروا الى درنبر شروان واسم ملكه يومئذ رشيد وسألوه المقام في بلاده وأعطوه الرهن على الطاعة فلم يجبهم ريبة بهم فسألوه الميرة فأذن لهم فيها فكانوا يأتون اليها زرافات وتنصح له بعضهم بأنهم يرومون الغدر به وطلب منه الانجاد بعسكره وسار في أثرهم فأوقع بهم وهم باخلون بالطاعة فرجع ذلك القفجاقي بالعسكر ثم بلغه انهم رحلوا من مواضعهم فاتبعهم ثانيا بالعساكر حتى أوقع بهم ورجع الى رشيد ومعه جماعة منهم مستأمنين وقد اختفى فيهم كبير من مقدميهم وتلاحق به جماعة منهم فاعتزموا على الوثوب فهرب خائفا ولحق ببلاد شروان واستولت طائفة القفجاق على القلعة وعلى مخلف رشيد فيها من المال والسلاح واستدعوا أصحابهم فلحقوا بهم واعتزموا وقصدوا قلعة الكرج فحاصروها وخالفهم رشيد الى القلعة فملكها وقتل من وجد بها منهم فعادوا من حصار تلك المدينة الى درنبر وامتنعت عليهم القلعة فرجعوا الى تلك المدينة فاكتسحوا نواحيها وساروا الى كنجة من بلاد ارّان وفيها مولى لازبك صاحب أذربيجان فراسلوه بطاعة ازبك فلم يجبهم اليها وعدد عليهم ما بدر منهم في الغدر ونهب البلاد واعتذروا بأنهم انما غدروا شروان لانه منعهم الجواز الى صاحب أذربيجان وعرضوا عليه الرهن فجاءهم بنفسه ولقوة في عدد قليل فعدا عن محال التهمة فبعث بطاعتهم الى سلطانه وبعث بذلك الى أزبك وجاء بهم الى كنجة فأفاض فيهم الخلع والأموال وأصهر اليهم وأنزلهم بجبل كيكلون وجمع لهم الكرج فآواهم الى كنجة ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 سار اليهم أمير من أمراء قفجاق ونال منهم فرجعوا الى جبل كيكلون وسار القفجاق الذين كبسوهم الى بلاد الكرج فاكتسحوها وعادوا فاتبعهم الكرج واستنقذوا الغنائم منهم وقتلوا ونهبوا فرحل القفجاق الى بردعة وبعثوا الى أمير كنجة في المدد على الكرج فلم يحبهم فطلبوا رهنهم فلم يعطهم فمدّوا أيديهم في المسلمين واسترهنوا أضعاف رهنهم وثار بهم المسلمون من كلّ جانب فلحقوا بشروان وتخطفهم المسلمون والكرج وغيرهم فافنوهم وبيع سبيهم وأسراهم بأبخس ثمن وذلك كله سنة تسع عشرة وكانت مدينة فيلقان من بلاد ارّان فأخر بها التتر كما قدّمناه وساروا عنها الى بلاد قفجاق فعاد اليها أهلها وعمروها وسار الكرج في رمضان من هذه السنة اليها فملكوها وقتلوا أهلها وخربوها واستفحل الكرج ثم كانت بينهم وبين صاحب خلاط غازي بن العادل بن أيوب واقعة هزمهم فيها وأثخن فيهم كما يأتي في دولة بني أيوب ثم انتقض على شروان شاه ابنه وملك البلاد من يده فسار الى الكرج واستصرخ بهم وساروا معه فبرز ابنه اليهم فهزمهم واثخن فيهم فتشاءم الكرج بشروان شاه فطردوه عن بلادهم واستقر ابنه في الملك واغتبط النّاس بولايته وذلك سنة اثنتين وعشرين ثم سار الكرج من تفليس الى أذربيجان وأتوها من الاوعار والمضايق يظنون صعوبتها على المسلمين فسار المسلمون وولجوا المضايق اليهم فركب بعضهم بعضا منهزمين ونال المسلمون منهم أعظم النيل وبينما هم يتجهزون لاخذهم الثأر من المسلمين وصلهم الخبر بوصول جلال الدين الى مراغة فرجعوا الى مراسلة ازبك صاحب أذربيجان في الاتفاق على مدافعته وعاجلهم جلال الدين عن ذلك كما نذكره ان شاء الله تعالى. استيلاء جلال الدين على أذربيجان وغزو الكرج قد تقدّم لنا مسير جلال الدين في نواحي بغداد وما ملك منها وما وقع بينه وبين صاحب اربل من الموافقة والصلح ولما فرغ من ذلك سار الى أذربيجان سنة اثنتين وعشرين وقصد مراغة أوّلا فملكها وأقام بها وأخذ في عمارتها وكان بغان طابش [1] حال أخيه غياث الدين مقيما بأذربيجان كما مرّ فجمع عساكره ونهب البلد وسار الى ساحل ارّان فشتى هنالك ولما عاث جلال الدين في نواحي بغداد كما قدّمناه بعث الخليفة الناصر الى بغان طابش وأغراه بجلال الدين وأمره بقصد همذان واقطعه أياما وما يفتحه من البلاد فعاجله جلال الدين وصبحه بنواحي همذان على غرة وعاين الجند فسقط في يده وأرسل زوجته أخت   [1] ورد اسمه في الكامل: ايغان طائسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 السلطان جلال الدين فاستأمنته له فآمنه وجرد العساكر عنه وعاد الى مراغة وكان ازبك بن البهلوان قد فارق تبريز كرسي ملكه الى كنجة فأرسل جلال الدين الى أهل تبريز يأمرهم بميرة عسكره فأجابوا الى ذلك وتردّدت عساكره اليها فتجمع الناس وشكا أهل تبريز الى جلال الدين ذلك فأرسل اليهم شحنة يقيم عندهم للنصفة بين الناس وكانت زوجة ازبك بنت السلطان طغرلبك بن ارسلان وقد تقدّم ذكرها في أخبار سلفها مقيمة بتبريز حاكمة في دولة زوجها ازبك ثم ضجر أهل تبريز من الشحنة فسار جلال الدين اليها وحاصرها خمسا واشتدّ القتال وعابهم بما كان من إسلام أصحابه الى التتر فاعتذروا بأنّ الأمر في ذلك لغيرهم والذنب لهم ثم استأمنوا فآمنهم وأمر ببنت السلطان طغرل وأبقى لها مدينة طغرل الى خوي كما كانت وجمع ما كان لها من المال والاقطاع وملك تبريز منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وبعث بنت السلطان طغرل الى خوي مع خادميه فليح وهلال وولى على تبريز ربيبها نظام الدين ابن أخي شمس الدين الطغرائي وكان هو الّذي داخله في فتحها وأفاض العدل في أهلها وأوصلهم اليها وبالغ في الإحسان اليهم ثم بلغه آثار الكرج في أذربيجان وارّان وأرمينية ودرنبر شروان وما فعلوه بالمسلمين فاعتزم على غزوهم وبلغه اجتماعهم برون فسار اليهم وعلى مقدّمته جهان بهلوان الكعبي فلما تراءى الجمعان وكان الكرج على جبل لم يستهلوه فتسنمت اليهم العساكر الاوعار فانهزموا وقتل منهم أربعة آلاف أو يزيدون وأسر بعض ملوكهم واعتصم ملك آخر منهم ببعض قلاعهم فجهز جلال الدين عليها عسكرا لحصارها وبعث عساكره في البلاد فعاثوا فيها واستباحوها. فتح السلطان مدينة كنجة ونكاحه زوجة ازبك لما فرغ السلطان من أمر الكرج واستولى على بلادهم وكان قد ترك وزيره شرف الدين بتبريز للنظر في المسالح وولىّ عليها نظام الملك الطغرائي فقصد الوزير به وكتب الى السلطان بأنه وعمه شمس الدين داخلوا أهل البلد في الانتقاض واعادة ازبك لشغل السلطان بالكرج فلما بلغ ذلك الى السلطان أسرّه حتى فرغ من أمر الكرج وترك أخاه غياث الدين نائبا على ما ملك منها وآمره بتدويخ بلادهم وتخريبها وعاد الى تبريز فقبض على نظام الملك الطغرائي وأصحابه فقتلهم وصادر شمس الدين على مائة ألف وحبسه بمراغة ففرّ منها الى ازبك ثم لحق ببغداد وحج سنة خمس وعشرين وبلغ السلطان تنصله في المطاف ودعاؤه على نفسه أن كان فعل شيئا من ذلك فأعاده الى تبريز ورد عليه أملاكه ثم بعثت اليه زوجة ازبك في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 الخطبة وأنّ ازبك حنث فيها بالطلاق فحكم قاضي تبريز عزّ الدين القزويني بحلها للنكاح فتزوّجها السلطان جلال الدين وسار اليها فدخل في خوي ومات ازبك لما لحقه من الغمّ بذلك ثم عاد السلطان الى تبريز فأقام بها مدّة ثم بعث العساكر مع ارخان الى كنجة من أعمال نقجوان وكان بها ازبك ففارقها وترك بها جلال الدين القمي نائبا فملكها عليه ارخان واستولى على أعمالها مثل وشمكور وبردعة وشنة وانطلقت أيدي عساكره في النهب فشكا ازبك الى جلال الدين فكتب الى ارخان بالمنع من ذلك وكان مع ارخان نائب الوزير الى السلطان فعزل ارخان وذهب مغاضبا الى أن قتلته الإسماعيلية وفي آخر رمضان من سنة اثنتين وعشرين توفي الخليفة الناصر لسبع وأربعين سنة من خلافته واستخلف بعده ابنه الظاهر أبو نصر محمد بعهده اليه بذلك كما مرّ في أخبار الخلفاء. استيلاء جلال الدين على تفليس من الكرج بعد هزيمته إياهم كان هؤلاء الكرج اخوة الأرمن وقد تقدّم نسبة الأرمن الى إبراهيم عليه السلام وكان لهم استطالة بعد الدولة السلجوقية وكانوا من أهل دين النصرانية فكان صاحب أرمن الروم يخشاهم ويدين لهم بعض الشيء حتى ان ملك الكرج كان يخلع عليه فيلبس خلعته وكان شروان صاحب الدربند يخشاهم وكذلك ملكوا مدينة أرجيش من بلاد ارمينية ومدينة فارس وغيرها وحاصروا مدينة خلاط قاعدتها فأسر بها مقدّمهم ايواي وفادوه بالرحيل عنهم بعد ان اشترطوا عليه متابعته لهم في قلعة خلاط فبنوها وكذلك هزموا ركن الدولة فليحا ارسلان صاحب بلاد الروم لما زحف لأخيه طغرل شاه بارزن الروم استنجدهم طغرل فأنجدوه وحزموا ركن الدين أعظم ما كان ملكا واستفحالا وكانوا يجوسون خلال أذربيجان ويعيثون في نواحيها وكان ثغر تفليس من أعظم الثغور طرزا على من يجاوره منذ عهد الفرس وملكه الكرج سنة خمس عشرة وخمسمائة أيام محمود بن ملك شاه ودولة السلجوقية يومئذ أفحل ما كانت وأوسع ايالة وأعمالا فلم يطق ارتجاعه من أيديهم واستولى ايلدكز بعد ذلك وابنه البهلوان على بلاد الجبل والريّ وأذربيجان وأران وارمينية وخلاط وجاورهم بكرسيه ومع ذلك لم يطلق ارتجاعه منهم فلما جاء السلطان جلال الدين الى أذربيجان وملكها زحف الى الكرج وهزمهم سنة اثنتين وعشرين وعاد الى تبريز في مهمه كما قدّمناه فلما فرغ من مهمه ذلك وكان قد ترك العساكر ببلاد الكرج مع أخيه غياث الدين ووزيره شرف الدين فأغذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 السير اليه غازيا من تبريز وقد جمع الكرج واحتشدوا وأمدّهم القفجاق واللكز وساروا للقاء فلما التقى الفريقان انهزم الكرج وأخذتهم سيوف المسلمين من كلّ جانب ولم يبقوا على أحد حتى استلحموهم وافنوهم ثم قصد جلال الدين تفليس في ربيع الأوّل سنة ثلاث وعشرين ونزل قريبا منها وركب يوما لاستكشاف أموالها وترتيب مقاعد القتال عليها وأكمن الكمائن حولها واطلع عليهم في خف من العسكر فطمعوا فيه وخرجوا فاستطرد لهم حتى تورطوا والتفت عليهم الكمائن فهربوا الى البلد والقوم في اتباعهم ونادى المسلمون من داخلها بشعار الإسلام وهتفوا باسم جلال الدين فالقى الكرج بأيديهم وملك المسلمون البلد وقتلوا كل من فيها الا من اعتصم بالإسلام واستباحوا البلد وامتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى والسبايا وكان ذلك من أعظم الفتوحات هذه سياقة ابن الأثير في فتح تفليس وقال النسائي الكاتب أنّ السلطان جلال الدين سار نحو الكرج فلما وصل نهر أرس مرض واشتد الثلج ومر بتفليس فبرز أهلها للقتال فهزمهم العساكر وأعجلوهم عن دخولها فملكوها واستباحوها وقتلوا من كان فيها من الكرج والأرمن واعتصم أهلها بالقلعة حتى صالحوا على أموال عظيمة فحملوها وتركوهم. انتقاض صاحب كرمان ومسير السلطان اليه ولما اشتغل السلطان جلال الدين بشأن الكرج وتفليس طمع براق الحاجب في الانتقاض بكرمان والاستيلاء على البلاد وقد كنا قدمنا خبره وان غياث الدين استخلفه على كرمان عند مسيره الى العراق وان جلال الدين لما رجع من الهند ارتاب به وهم بالقبض عليه ثم تركه وأقره على كرمان فلما انتقض الآن وبلغ خبره الى السلطان وهو معتزم على قصد خلاط فتركها وأغذ السير اليه واستصحب أخاه غياث الدين ووعده بكرمان وترك مخلفه بكيكلون وترك وزيره شرف الدين بتفليس وأمره باكتساح بلاد الكرج وقدّم الى صاحب كرمان بالخلع والمقاربة والوعد فارتاب بذلك ولم يطمئن وقصد بعض قلاعه فاعتصم بها ورجع الرسول الى جلال الدين فلما علم أن المكيدة لم تتم عليه أقام بأصبهان وبعث اليه وأقره على ولايته وعاد وكان الوزير شرف الدين بتفليس كما قلناه وضاق الحل به من الكرج وأرجف عند الأمراء بكيكلون أنّ الكرج حاصروه بتفليس فسار ارخان منهم في العساكر الى تفليس ثم وصل البشير من نقجوان برجوع السلطان من العراق فأعطاه الوزير أربعة آلاف دينار ثم افترقت العساكر في بلاد الكرج وبها ايواني مقدّمهم مع بعض أعيانهم وبعث عسكرا آخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 الى مدينة فرس واشتدّ عليها الحصار ثم جمر العساكر عليها وعاد الى تفليس. مسير جلال الدين الى حصار خلاط كانت خلاط في ولاية الأشرف بن العادل بن أيوب وكان نائبة بها حسام الدين علي الموصلي وكان الوزير شرف الدين حين أقام بتفليس عند مسير جلال الدين الى كرمان ضاقت على عساكره الميرة فبعث عسكرا منهم الى أعمال أرزن الروم فاكتسحوا نواحيها ورجعوا فمروا بخلاط فخرج نائبها حسام الدين واعترضهم واستنقذ ما معهم من الغنائم وكتب الوزير شرف الدين بذلك الى جلال الدين وهو بكرمان فلما عاد جلال الدين من كرمان وحاصر مدينة اني استقر حسام الدين نائب خلاط للامتناع منه فارتحل هو الى بلاد انحاز ليأتيه على غرة ورحل جلال الدين من انحاز فسار الى خلاط وحاصر مدينة ملاذ كرد في ذي القعدة من السنة وانتقل منها الى مدينة خلاط وحاصرها وضيق مخنقها وقاتلها مرارا واشتدّ أهل البلد في مدافعته لما يعملون من سيرة الخوارزمية الالوائية وكانوا متغلبين على الكثير من بسائط ارمينية وأذربيجان فبلغه أنهم أفسدوا البلاد وقطعوا السابلة وأخذوا الضريبة من أهل خوي وخربوا سائر النواحي وكتب اليه بذلك نوابه وبنت السلطان طغرل زوجته فلما رحل عن خلاط قصدهم على غرّة قبل أن يصعدوا الى حصونهم بجبالهم الشاهقة فأحاطت بهم العساكر واستباحوهم واقتسموهم بين القتل والغنيمة وعاد الى تبريز. دخول الكرج مدينة تفليس وإحراقها ولما عاد السلطان من خلاط وغزو التركمان فرق عساكره للمشتى وكان الأمراء أساءوا السيرة الى تفليس وهرب العسكر الذين بها واستلحموا بقيتهم وخربوا البلاد وحرقوها لعجزهم عن حمايتها من جلال الدين وذلك في ربيع سنة أربع وعشرين وستمائة وعند النسائي الكاتب أن استيلاء الفرنج على تفليس وإحراقهم إياها كان والسلطان جلال الدين على خلاط وانه لما بلغه ذلك رجع وأغار على التركمان في طريقه لما بلغه من افسادهم فنهب أموالهم وساق مواشيهم الى موقان وكان خمسها ثلاثين ألفا ثم سار الى خوي لملاقاة بنت طغرل ثم سار الى كنجة فبلغه الخبر بانصراف الكرج على تفليس بعد إحراقها قال ولما وصل كنجة قدم عليه هنالك خاموش بن الاتابك ازبك بن البهلوان مؤدّيا منطقة بلخش قدر الكف مصنوعا عليه منقوشا اسم كيكاوس وجماعة من ملوك الفرس فغير السلطان صناعتها ونقشها على اسمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 وكان يلبس تلك المنطقة في الأعياد وأخذها التتر يوم كبسوه وحملت الى الخان الأعظم ابن جنكزخان بقراقرم وأقام خاموش في خدمة السلطان الى أن صرعة الفقر ولحق بعلاء الملك ملك الإسماعيلية فتوفي عنده انتهى كلام النسائي. أخبار السلطان جلال الدين مع الإسماعيلية كان السلطان جلال الدين بعد وصوله من الهند ولى ارخان على نيسابور وأعمالها وكان وعده بذلك بالهند فاستخلف عليها وأقام مع السلطان وكان نائبة بها يتعرّض لبلاد الإسماعيلية المتاخمة له بهستان وغيرها بالنهب والقتل فأوفدوا على السلطان وهو بخوي وقد أمنهم يشكون من نائب ارخان وأساء عليهم ارخان في المجاورة ولما عاد السلطان الى كنجة وكان قد أقطعها وأعمالها لارخان فلما خيم بظاهرها وثب ثلاثة من الباطنية ويسمون الفداوية لانهم يقتلون من أمرهم أميرهم بقتله ويأخذون فديتهم منه وقد فرغوا عن أنفسهم فوثبوا به فقتلوه وقتلتهم العامة وكانت الإسماعيلية قد استولوا على الدامغان أيام الفتنة ووصل رسولهم بعد هذه الواقعة الى السلطان وهو ببيلقان فطالبهم بالنزول على الدامغان فطلبوا ضمانها بثلاثين ألف دينار وقرّرت عليهم وكان الرسول الوافد في خدمة الوزير وهم راجعون الى أذربيجان فاستخفه الطرب ليلة وأحضر له خمسة من الفداوية معه بالعسكر وبلغ خبرهم السلطان فأمره بإحراقهم انتهى كلام النسائي وقال ابن الأثير أنّ السلطان بعد مقتل ارخان سار في العساكر الى بلاد الإسماعيلية من الموت الى كردكوه فاكتسحها وخرّبها وانتقم منهم وكانوا بعد واقعته قد طمعوا في بلاد الإسلام فكف عاديتهم وقطع اطماعهم وعاد فبلغه أنّ طائفة من التتر بلغوا الدامغان قريبا من الريّ فسار اليهم وهزمهم وأثخن فيهم ثم جاء الخبر بأن جموع التتر متلاحقة لحربه فأقام في انتظارهم في الريّ انتهى. استيلاء حسام الدين نائب خلاط على مدينة خوى قد تقدّم لنا أن بنت السلطان طغرل زوجة ازبك بن البهلوان لما ملك السلطان جلال الدين تبريز من يدها أقطعها مدينة خوى ثم تزوّجها بعد ذلك كما قدّمناه وتركها لما هو فيه من أشغال ملكه فوجدت لذلك ما فقدته من العز والتحكم قال النسائي الكاتب وأضاف لها السلطان مدينتي سلماس وارمينية وعين رجلا لقبض أقطاعها فتنكر لها وأغرى بها الوزير فكاتب السلطان بأنها تداخل الاتابك ازبك وتكاتبه ثم وصل الوزير الى خوى فنزل بدارها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 واستصفى وكانت مقيمة بقلعة طلع فحاصرها وسألت المضي الى السلطان فأبى الا نزولها على حكمه انتهى وكان أهل خوى مع ذلك قد ضجروا من ملكة جلال الدين وجوره وتسلط عساكره فاتفقت الملكة معهم وكاتبوا حسام الدين الحاجب النائب عن الأشرف بخلاط فسار اليهم في مغيب السلطان جلال الدين بالعراق واستولى على مدينة خوى وأعمالها وما يحاورها من الحصون وكاتبه أهل نقجوان وسلموها له وعاد الى خلاط واحتمل الملكة بنت طغرل زوجة جلال الدين الى خلاط الى أن كان ما نذكره. واقعة السلطان مع التتر على أصبهان ثم بلغ الخبر الى السلطان بأنّ التتر زحفوا من بلادهم فيما وراء النهر الى العراق فسار من تبريز للقائهم وجرد أربعة آلاف فارس الى الريّ والدامغان طليعة فرجعوا وأخبروه بوصولهم الى أصبهان فنهض للقائهم واستخلف العساكر على الاستماتة وأمر القاضي بأصبهان باستنفار العامّة وبعث التتر عسكرا الى الريّ فبعث السلطان عسكرا لاعتراضهم فأوقعوا بالتتر فنالوا منهم ثم التقي الفريقان في رمضان سنة خمس وعشرين لرابعة وصولهم الى أصبهان وانتقض عنه أخوه غياث الدين وجهان بهلوان الكجي في طائفة من العسكر وانهزمت مسيرة التتر والسلطان في اتباعهم وكانوا قد أكمنوا له فخرجوا من ورائه وثبت واستشهد جماعة من الأمراء وأسر آخرون وفيهم علاء الدولة صاحب يزد ثم صدق السلطان عليهم الحملة فأفرجوا له وسار على وجهه وانهزمت العساكر فبلغوا فارس وكرمان ورجعت ميمنة السلطان من قاشان فوجدوه قد انهزم فتفرّقوا أشتاتا وفقد السلطان ثمانية من فرقه وكان بقاطابستي مقيما بأصبهان فاعتزم أهل أصبهان على بيعته ثم وصل السلطان فاقصروا عن ذلك وتراجع بعض العسكر وسار السلطان فيهم الى الريّ وكان التتر قد حاصروا أصبهان بعد الهزيمة فلما وصل السلطان خرج معه أهل أصبهان فقاتلوا التتر وهزموهم وسار السلطان في اتباعهم الى الريّ وبعث العساكر وراءهم الى خراسان وعند ابن الأثير أن صاحب بلاد فارس وهو ابن الاتابك سعد الّذي ملك بعد أبيه حضر مع السلطان في هذه الواقعة وأنّ التتر انهزموا أوّلا فاتبعهم صاحب فارس حتى إذا أبعدوا انفرد عن العسكر ورجع عنهم فوجد جلال الدين قد انهزم لانحراف أخيه غياث الدين وأمرائه عنه ومضى الى شهرم تلك الأيام ثم عاد الى أصبهان كما ذكرناه . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 الوحشة بين السلطان جلال الدين وأخيه غياث الدين كان ابتداؤها أنّ الحسن بن حرميل نائب الغوية بهراة لما قتلته عساكر خوارزم شاه محمد بن تكش وحاصروا وزيره الممتنع بها حتى اقتحموها عليه عنوة وقتلوه، هرب محمد بن الحسن بن حرميل الى بلاد الهند فلما سار السلطان جلال الدين وحظي لديه وأقامه شحنة بأصبهان فلما سار السلطان الى أصبهان للقاء التتر انحرف جماعة من غلمان غياث الدين عنه فصاروا الى نصرة الدين بن حرميل واسترجعهم منه غياث الدين في بيته وطعنه فأشواه ومات لليال وأحفظ ذلك السلطان وأقام غياث الدين مستوحشا فلما كان يوم اللقاء انحرف عن أخيه ولحق بخوزستان وخاطب الخليفة فبعث اليه بثلاثين ألف دينار وسار من هنالك الى قلعة الموت عند صلاح الدين شيخ الإسماعيلية فلما رجع السلطان من وقعة التتر الى الريّ سار الى قلعة الموت وحاصرها فاستأمن علاء الدين الى السلطان لغياث الدين فأمنه وبعث من يأتيه به فامتنع غياث الدين وفارق القلعة واعترضه عساكر السلطان بنواحي همذان وأوقعوا به وأسروا جماعة من أصحابه ونجا الى براق الحاجب بكرمان فتزوّج بأمّه كرها ونمي اليه أنها تحاول سمه فقتلها وقتل معها جهان بهلوان الكجي وحبس غياث الدين ببعض القلاع ثم قتله بمحبسه ويقال بل هرب من محبسه ولحق بأصبهان وقتل بأمر السلطان قال النسائي وقفت على كتاب براق الحاجب الى الوزير شرف الملك والسلطان بتبريز وهو يعدّد سوابقه فعد منها قتله أعدى عدوّ السلطان والله تعالى ولىّ التوفيق. انتقاض البهلوانية لما ارتحل السلطان والوزير شرف الملك معه وانتهى الى همذان بلغه أنّ الأمراء البهلوانية اجتمعوا بظاهر تبريز يرومون الانتقاض واتبعه خاموش بن الاتابك ازبك من قلعة قوطور وكان مقيما بها فرجع السلطان اليهم وقدّم بين يديه الوزير شرف الملك فلقيهم قريبا من تبريز وهزمهم وقبض على الذين تولوا أكبر الفتنة منهم ودخل تبريز قصبتهم وقبض على القاضي المعزول فصادمه قوام الدين الحرادي ابن أخت الطغرائي وصادره وسار السلطان للقاء التتر وأقام الوزير نائبا للبلاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 إيقاع نائب خلاط بالوزير ولما كان ما ذكرناه من مسير حسام الدين نائب خلاط الى أذربيجان واحتماله زوجة السلطان جلال الدين إلى خلاط امتعض الوزير لذلك فسار الى موقان من بلاد أران وجمع التركمان وفرّق العمال للجباية وطلب الحمل من شروان شاه وهو خمسون ألف دينار فتوقف وأغار على بلاده فلم يظفر بشيء ورجع إلى أذربيجان وكانت بنت الأتابك بهلوان في بقجان فارقها مولانا ايدغمش وجاء الى الوزير فأطمعه فيها وصار الوزير مضمرا الغدر بها وامتنعت عليه ونزل بالمرج فأكرمته وقربته ورحل الى حورس من أعمالها وكانت للأشرف صاحب خلاط أيام أزبك فانتشرت أيدي العسكر في تلك الضياع وقاتلها الوزير وجاء الحاجب صاحب خلاط في عساكره فانهزم الوزير ترك أثقاله وذلك سنة أربع وعشرين وكان مع الحاجب فخر الدين سام صاحب حلب وهشام الدين خضر صاحب تبريز برم وكان الوزير [1] وتكاليفه فظهر الآن بمخلفه وخلص الوزير الى أران وسار الحاجب على في اتباعه ثم عاد الى تبريز ومرّ بخوي فنهبها ثم سار الى بقجان فملكها ثم الى تدمر كذلك وأقام الوزير بتبريز وكان بها الاتابك ازبك متنسكا منعه أهل تبريز من الدخول وحملوا اليه النفقة ثم جاء الخبر برجوع السلطان الى أصبهان بعد الهزيمة كما مرّ فسار الوزير الى أذربيجان ولقي ثلاثة من الأمراء جاءوا مددا له من عند السلطان وأمره بحصار خوى فسار اليها وبها نائب الحاجب حسام الدين صاحب خلاط وهو بدر الدين بن صرهنك والحاجب حسام الدين على منوشهر فنهض اليه الوزير من خوى فتأخر الى تركري والتقيا هنالك فانهزم الحاجب ودخل تركري فاعتصم بها وحاصره الوزير وطلب الصلح فلم يسعفه ورجع الأمراء الذين كانوا معه بعساكرهم الى أذربيجان وأفرج الوزير عن حصار تركري ومرّ بخوي وقد فارقها ابن صرهنك الى قلعة قوطور واستأمن للسلطان من بعد ذلك ودخل الوزير مدينة خوى وصادر أهلها وسار الى ترمذ ونقجوان ففعل فيهما مثل ذلك وانقطعت ايالة الحاجب صاحب خلاط والله أعلم.   [1] كذا بياض بالأصل، ويظهر من الفصول التالية ان اسم هذا الوزير: ابو المكارم على بن أبي القاسم، وانه كان منبسطا في العطاء حتى استغرق اموال الديوان، لذلك يكون مقتضى سياق العبارة هنا: وكان الوزير منبسطا في عطائه وتكاليفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فتوحات الوزير بآذربيجان وارّان ولما تخلف الوزير عن السلطان صرف همته الى تمهيد البلاد ومدافعة صاحب خلاط وارتجاع البلاد التي ملك من آذربيجان وارّان وفتح القلاع العاصية فكان بينه وبين الحاجب حسام الدين صاحب خلاط ما ذكرناه وهو خلال ذلك يستميل أصحاب القلاع ويفيض فيهم الأموال والخلع حتى أجاب أكثرهم ثم قبض على ناصر الدين محمد من أمراء البهلوانية وكان معتزلا عند نصرة الدين محمد بن سبكتكين فصادره على مال وتسلم من نائبة قلعة كانت بيده ثم مات نائب السلطان بكنجة آقسنقر الاتابكي فنهض اليها وقبض على نائبة شمس الدين كرشاسف وصادره وتسلم منه قلعة هردوجاربرد من أعمال ارّان ثم جر العساكر لحصار قلعة زونين وبها زوجة السلطان خاموش فأطال حصارها وعرضت عليه نكاحها فأبى ولما رجع السلطان من العراق تزوّجها وولّى خادمه سعد الدين على القلعة فأساء اليها وانتزع أملاكها فأخرجوه وعادوا الى الانتقاض ولما خلص الوزير من واقعته مع الحاجب نائب خلاط قصد أرّان فجبى الأموال وجمع واحتشد وقصد قلعة مردانقين وكانت لصهر الوزير ركبة الدين فصانعه بأربعة آلاف دينار حملها اليه ثم سار الى قلعة حاجين وبها جلال الدولة ابن أخت أبواني أمير الكرج فصالحه على عشرين ألف دينار وسبعمائة أسير من المسلمين ثم كانت فتنة البهلوانية فسكنها وسرح الجند عنها وشرح الخبر عنها أنّ بعض مماليك أتابك ازبك كان قد أفحش في قتل الخوارزمية بأذربيجان عند زحفهم اليها أيام فرارهم من التتر فلما ملك السلطان جلال الدين أذربيجان ومحاملك البهلوانية منها لحق الأمير مقدي هذا بالأشرف بن العادل بن أيوب صاحب الشام وأقام عنده فلما بلغه انهزام الوزير شرف الملك أمام الحاجب حسام الدين نائب الأشرف بخلاط فرّ من الشام الى آذربيجان ليقيم مع الاتابكية ومرّ بالحاجب في خوى فاتبعه وعبر النهر وخاطب من عدوته معتذرا فرجع عنه ودخل مقدي بلاد قبار وفيها قلاع استولى عليها المنتقضون والعصاة فراسلهم في اقامة الدعوة الاتابكية والبيعة لابن خاموش بن ازبك يستدعونه من قلعة قوطور واتصل ذلك بالوزير فأقلقه ثم جاء خبر هزيمة السلطان بأصبهان فازداد قلقا وسار الأمير مقدي الى نصرة الدين محمد بن سبكتكين يدعوه لذلك فلاطفه في القول وكتب للوزير بالخبر فأجابه بأن يضمن لمقدي ما أحب في مراجعة الطاعة ففعل وجاء به الى الوزير فأكرمه وخلع عليه وعلى من جاء معه وعاهده على العفو عن دماء الخوارزمية وجاء الخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 برجوع السلطان من أصبهان فارتحل الوزير للقائه ومعه الأمير مقدي وابن سبكتكين وأكرمهما السلطان. أخبار الوزير بخراسان كان صفي الدين محمد الطغرائي وزيرا بخراسان وأصل خبره انه كان قرية من كلاجرد وأبوه رئيسها وكان هو حسن الخط ورتبة الأطوار ثم لحق بالسلطان في الهند وخدم الوزير شرف الملك فلما عادوا الى العراق ولاه الطغرائي ولما ملك السلطان تفليس من يد الكرج ولىّ عليها آقسنقر مملوك الاتابك ازبك وأقام صفي الدين في وزارتها فلما حاصرها الكرج هرب آقسنقر وأقام صفي الدين فحاصروه أياما ثم أفرجوا ووقع ذلك من السلطان أحسن المواقع وولاه وزارة خراسان فأقام بها سنة وضجر منه أهلها فلما جاء السلطان الى الريّ وأقام بها كثرت به الشكايات ونكبه السلطان واستصفي أمواله وقبض على مواليه وحاشيته وقيدت خيله الى مرابط السلطان وكانت ثلاثمائة وخلص من مواليه على الكرماني الى قلعة كان حصنها فامتنع بها واستوزر السلطان مكانه تاج الدين البلخي المستوفي وسلم اليه الصفي ليستصفيه ويقلع القلعة من مولاه وشدّد في امتحانه وكان عدوّه فلم يظفر منه بشيء وكان لما نكب طالبه خاتون السلطان بإحضار الجواهر وما ساقه لخدمة الوزير وغيره فاحضر أربعة آلاف دينار وسبعين فصا من ياقوت وبلخش واستأثر الخازن بها الظنة أنه مقتول ثم كاتب الصفي أرباب الدولة ووعدهم بالأموال فشفعوا فيه وخلصوه وكتب السلطان بخطه بسراحه فجاء واستخلص ماله من الخازن الا الفصوص فأنه تعذر عليه ردها وولىّ السلطان على وزارة نسا محمد بن مودود النسوي العارض من بيت رياسة بها ورمت به الحادثة الى غزنة فلما جاء السلطان من الهند ولاه الإنشاء والحبس وعظم أمره وغص به الوزير شرف الملك فلما ورد أحمد بن محمد المنشي الكاتب رسولا عن نصرة الدين محمد بن حمزة صاحب نسا كما مرّ ولاه السلطان الإنشاء فارتمض لذلك ضياء الدين وطلب وزارة نسا فولاه السلطان إياها وأقطع له عشرة آلاف دينار في السنة زيادة على أرزاق الوزارة وذهب اليها لإقامة وظيفته واستناب في ديوان العرض مجد الملك النيسابورىّ ثم قطع الحمل فعزله السلطان ووليّ مكانه الكاتب أحمد بن محمد المنشئ وتعرض للسعاية فيه فطرده السلطان وهلك في طرده. خبر بلبان صاحب خلخال كان من أتابكية ازبك ولما كانت فتنة التتر وخلاء خراسان واستيلاء السلطان جلال الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 على آذربيجان لحق بمدينة خلخال فاستولى عليها وعلى قلاعها وشغل عنه السلطان بأمر العراق وصاحب خلاط فلما انصرف المسلمون من واقعة التتر بالعراق حاصروه بقلعة فيروزاباذ حتى استأمن وملكها السلطان وولىّ عليها حسام الدين بكتاش مولى سعد أتابك فارس ثم خلف السلطان أثقاله بموقان وتجرد لخلاط وعاقه البردبار جيش فنهب بعض قلاع وكان عز الدين الخلخالي في كفر طاب قريبا من أرجيش فلحق بخلاط وجهزه الحاجب الى آذربيجان يشغلهم باثارة الفتنة فيها فلم يتمّ قصده من ذلك فلحق بجبال زنجان وأقام يخيف السابلة وكتب له السلطان بالأمان ونزل الى أصبهان فبعث نائبها شرف الدولة برأسه الى السلطان ثم رجع السلطان من كفر طاب الى خرت برت فنهبها وخرّبها ووصله خلال ذلك الخبر بوفاة الخليفة الظاهر منتصف ثلاث وعشرين وولاية ابنه المنتصر وجاءه كتابه بأخذ البيعة وأن يبعث اليه بالخلع والله تعالى ولىّ التوفيق لا رب غيره. تنكر السلطان للوزير شرف الملك لما رجعت العساكر الى موقان وأقام السلطان بخويّ شكا اليه أهلها بكثرة مصادرة الوزير لهم واطلع على إساءته للملكة بنت طغرل واستصفائه مالها مع براءتها مما نسب اليها ثم جاء الى تبريز فبلغه عنه أكثر من ذلك وهو بقرية كورتان من أعمالها فافتقد رئيسها وكان يخدمه فقيل أن الوزير صادره على ألف دينار لمملوكين له فلما وصل الى تبريز حبس من أخذها حتى ردّها على صاحبها وأسقط عن أهل تبريز خراج ثلاث سنين وكتب لهم بذلك وكثرت الشناعات على الوزير بما فعله في مغيب السلطان هذا مع ما كان منه في محاربة الإسماعيلية بأنّ السلطان كاتبه من بغداد بأن يفتش فلول الشام من أجل رسول من عند التتر بعثوه الى الشام وقصد بذلك معاتبة الخليفة إن عثر على الرسول فمرّ به فلّ الإسماعيلية فقتلهم واستولى على أموالهم فلما عاد السلطان الى آذربيجان وصله رسول علاء الدين ملك الإسماعيلية يعاتبه على ذلك ويطلب المال فنكر السلطان على الوزير ما فعله ووكل به أميرين حتى ردّ ما أخذ من أموالهم وكانت ثلاثين ألف دينار وعشرة أفراس فانطوى السلطان للوزير من ذلك كله على سخط وأعرض عن خطابه وكان يكاتب فلا يجاب وعجزت تبريز عن علوفة السلطان فأمر بفتح اهراء الوزير والتصرف فيها ورجع السلطان الى موقان فلم يغير عليه شيئا ووقع له بتناول عشر الخاص فكان يأخذ من عشر العراق سبعين ألف دينار في كلّ سنة والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 وصول القفجاق لخدمة السلطان كان للقفجاق على قديم العهد هوى مع قوم هذا السلطان وأهل بيته وكانوا يصهرون اليهم غالبا ببناتهم ومن أجل ذلك استأصلهم جنكزخان واشتدّ في طلبهم فلما عاد السلطان من واقعة أصبهان وقد هاله أمر التتر رأى أن يستظهر عليهم بقبائل قفجاق وكان في جملته سبيرجنكش منهم فبعثه اليهم يدعوهم لذلك ويرغبهم فيه فأجابوا وجاءت قبائلهم إرسالا وركب البحر كوركان من ملوكهم في ثلاثمائة من قرابته ووصل الى الوزير بموقان فشتى بها ثم جاء السلطان فخلع عليه وردّه بوعد جميل في فتح دربند وهو باب الأبواب ثم أرسل السلطان لصاحب دربند وكان طفلا وأتابكه يلقب بالأسد يدبر أمره فقدم على السلطان فخلع عليه وأقطع له وملكه العمل على أن يفتح له الدربند وجهز عساكر وأمراء فلما فصلوا من عنده قبضوا على الأسد وشنوا الغارة على نواحي الباب واعمل الأسد الحيلة وتخلص من أيديهم وتعذر عليهم ما أرادوه. استيلاء السلطان على أعمال كستاسفى كان علم الوزير يشكر أنّ السلطان أراد أن ينتصح له ببعض مذاهب الخدمة فسار في العساكر وعبر نهر زاس [1] فاستولى على أعمال كستاسفي من يد شروان شاه فلما عاد السلطان الى موقان أقطعها لجلال الدين سلطان شاه بن شروان شاه وكان أسيرا عند الكرج أسلمه أبوه اليهم على أن يزوّجوه بنت الملك رسودان بنت تاماد فلما فتح السلطان بلاد الكرج استخلصه من الأسر ورباه وبقي عنده وأقطعه الآن كستاسفي وكان أيضا عند الكرج ابن صاحب ارزن الروم وكان تنصر فزوّجوه رسودان بنت تاماد فأخرجه السلطان لما فتح بلاد الكرج ثم رجع الى ردنّة ولحق بالكرج فوجد رسودان قد تزوّجت. قدوم شروان شاه كان السلطان ملك شاه بن البارسلان لما ملك ارّان أطلق الغارة على بلاد شروان فوفد عليه ملكها أفريدون بن فرتبريز وضمن حمل مائة ألف دينار في السنة فلما ملك السلطان جلال الدين ارّان سنة اثنتين وعشرين وستمائة طلب شروان شاه أفريدون بالحمل فاعتل بتغلب   [1] وفي نسخة ثانية: نهر أذس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 الكرج وضعف البلاد فأسقط عنه نصف الحمل فلما عاد الآن قدم عليه شروان شاه وأهدى له خمسمائة فرس وللوزير خمسين فاستقلها وأشار على السلطان بحبسه فلم يقبل إشارته ورده بالخلع والتشريف وأسقط عنه من الحمل عشرين ألفا فبقي ثلاثون قال النسائي الكاتب وأعطاني في التوقيع ألف دينار والله تعالى أعلم. مسير السلطان الى بلاد الكرج وحصاره قلاع بهرام لما كان السلطان مقيما بموقان منصرفه من آذربيجان بعث عساكره مع ايلك خان فأغار على بلاد الكرج واكتسحها ومر ببحيرة بتاج فكبسه الكرج وأوقعوا به وفقد اريطاني وامتعض السلطان لما وقع بعسكره وارتحل لوقته وقد جمع له الكرج فهزمت مقدّمته مقدّمتهم وجيء بالأسرى منهم فقتلهم وسار في اتباعهم ونازل كوري وطالبهم بإطلاق أسرى البحيرة فأطلقوهم وأخبر أنّ اريطاني خلص تلك الليلة الى آذربيجان ثم وجده السلطان في نقجوان ثم سار الى بهران الكرجي وقد كان أغار على نواحي كنجة فعاث في أعماله وحاصر قلعة سكان ففتحها عنوة وكذلك قلعة عليا ثم حاصر قلعة كاك وبعث الوزير لحصار كوزاني فحاصرها ثلاثة أشهر حتى طلبوا الصلح على مال حملوه فرحل عنهم الى خلاط والله أعلم. مسير السلطان الى خلاط وحصارها ولما فرغ السلطان من شأن الكرج قدّم أثقاله الى خلاط على طريق قاقروان وسار هو الى نقجوان وصبح الكرج واستاق مواشيهم ثم أقام أياما وقضى أشغال أهل خراسان والعراق ليفرغ لحصار خلاط قال النسائي الكاتب وحصل لي منهم تلك الأيام ألف دينار ثم ارتحل الى خلاط ولحق بعساكره ولقيه رسول من عز الدين أيبك نائب الأشرف بخلاط وقد كان الأشرف بعثه وأمره بالقبض على نائبها حسام الدين علي بن حماد فقبض عليه ثم قتله غيلة وبعث الى السلطان يستخدم اليه بذلك وانّ سلطانه الأشرف أمره بطاعة السلطان جلال الدين وبالغ في الملاطفة فأبي السلطان الا إمضاء ما عزم عليه وقال ان كان هذا حقا فابعث اليّ بالحاجب فلما سمع هذا الجواب قتله وسار السلطان الى خلاط ونزل عليها بعد عيد الفطر من سنة ست وعشرين وجاءه ركن الدين جهان بن طغرل صاحب ارزن الروم فكان معه وحاصرها ونصب عليها المجانيق وأخذ بمخنقها حتى فرّ أهلها عنها من الجوع وتفرقوا في البلاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 ثم داخله بعض أهلها في أن يمكنهم من بقيتها على أن يؤمنوه ويقطعوه في آذربيجان فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع هنالك وأصعد الرجال ليلا الى الأسوار فقاتلوا الجند بالمدينة وهزموهم وملكوها وأسروا من كان بها وأسروا النصارى وأسد بن عبد الله وتحصن النائب عز الدين أيبك بالقلعة فآمنه وحبسه بقلعة درقان فلما وقعت المراسلة في الصلح قفل لئلا يشترط وقال ابن الأثير إن مولى من موالي حسام الدين كان هرب الى السلطان فلما ملك خلاط طلب أن يثأر منه بمولاه فدفعه اليه وقتله ونهب البلد ثلاثا وسرّح السلطان صاحب ارزن وهرب القمهري من محبسه فقتل أسد بن عبد الله المهراني بجزيرته وأقطع السلطان خلاط للامراء وعاد والله تعالى ولىّ التوفيق. واقعة السلطان جلال الدين مع الأشرف وكيقباد وانهزامه أمامهما ولما استولى السلطان جلال الدين على خلاط تجهز الأشرف من دمشق وقد كان ملكها وسار لقتال السلطان جلال الدين في عساكر الجزيرة والشام وذلك في سنة تسع وعشرين ولقيه علاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم على سيراس وكان كيقباد قد خشي من اتصال جهان شاه ابن عمه طغرل صاحب ارزن الروم بالسلطان جلال الدين لما بينهما من العداوة فسار الأشرف وكيقباد من سيراس وفي مقدّمة الأشرف عز الدين عمر بن علي من أمراء حلب من الأكراد الهكارية وله صيت في الشجاعة وجاء السلطان علاء الدين للقائهم فلما تراءى الجمعان حمل عز الدين صاحب المقدّمة عليهم فهزمهم وعاد السلطان الى خلاط وكان الوزير على ملازكرد يحاصرها فلحق به وارتحلوا جميعا الى آذربيجان وأسر ركن الدين جهان شاه بن طغرل وجيء به الى ابن عمه علاء الدين كيقباد فجاء به الى ارزن فسلمها وسائر أعمالها ووصل الأشرف الى خلاط فوجدها خاوية ولما رجع السلطان الى آذربيجان ترك العساكر مع الوزير سكمان وأقام بخوي وخلص الترك في الهزيمة الى موقان وتردّد شمس الدين التكريتي رسول الأشرف بينه وبين السلطان جلال الدين في الصلح بينهم ودخل فيه علاء الدين صاحب الروم وانعقد بينهم جميعا وسلم لهم السلطان سرمن رأى مع خلاط والله تعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 الحوادث أيام حصار خلاط منها وفادة نصر الدين اصبهبد صاحب الجبل مع ارخا من أمراء السلطان يصهره على أخيه فقبض السلطان عليه الى أن عاد من بلاد الروم منهزما فأقطعه وأعاده الى بلاده ومنها رسالة أخت السلطان وكانت عند دوشي خان أخذها من العيال الذين جاءوا معه وتركمان خاتون من خوارزم وأولدها وكانت تكاتب أخاها بالاخبار فبعثت اليه الآن في الصلح مع خاقان والمصاهرة وأن يسلم له فيما وراء جيحون فلم يجبها ومنها وفادة ركن الدين شاه بن طغرل صاحب ارزن الروم وكان في طاعة الأشرف ومظاهرا للحاجب نائب خلاط على عداوة السلطان منافرة لابن عمه علاء الدين كيقباد بن كنخسرو صاحب الروم وكان قتل رسول السلطان منقلبا من الروم ومنع الميرة عن العسكر فلما طال حصار السلطان بخلاط استأمن وقدم عليه السلطان فاحتفل لقدومه واركب الوزير للقائه ثم خلع عليه وردّه الى بلاده واستدعى منه آلات الحصار فبعث بها ثم حضر بعد ذلك واقعة الأشرف مع السلطان كما مرّ ومنها وصول سعد الدين الحاجب برسالة الخليفة الى السلطان بالخطبة في أعمالها وان لا يتعرض لمظفر الدين كوكبرون صاحب اربل ولا للمولد صاحب الموصل ولا لشهاب الدين سليمان شاه ملك [1] ولا لعماد الدين بهلوان بن هراست ملك الجبال ويعدهم في أولياء الديوان فامتثل مراسله وبعث نائب العراق شرف الدين على بأنّ ملك العراق لا يتمّ إلا بطاعة ملك الجبال عماد الدين بهلوان وملك [1] سليمان شاه فبعث اليهما السلطان من لاطفهما حتى كانت طاعتهما اختيارا منهما وبعث السلطان الحاجب بدر الدين طوطو بن ابنايخ خان فأحسن في تأدية رسالته وجاء بهدية حافلة من عند الخليفة خلعتان للسلطان إحداهما جبة وعمامة وسيف هندي مرصع الحلية والأخرى قنع وكمة وفرجية وسيف محلى بالذهب وقلادة مرصعة ثمينة وفرسان رائعان بعدّتين كاملتين ونعال لكلّ واحدة من أربعمائة دينار وترس ذهب مرصع بالجوهر وفيه أحد وأربعون فصا من الياقوت وبندخستاني في وسطه فيروزجة كبيرة وثلاثون فرسا عربية مجللة بالاطلس الرومي المبطن بالاطلس البغدادي بمقاود الحرير ونعال الذهب لكلّ واحدة منها ستون دينارا وعشرون مملوكا بالعدة والمركوب وعشرة فهود بجلال الأطلس وقلائد الذهب وعشرة صقور بالأكمام   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 267 يظهر بوضوح ان سليمان شاه كان ملك همذان وانه قتل بها سنة ست وخمسين وخمسمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 الملكة ومائة وخمسون بقجة في كلّ واحدة عشرة ثياب وخمس أكر من العنبر مضلعة بالذهب وشجرة من العود الهندي طولها خمسة أذرع وأربع عشرة خلعة نسوانية للخانات من خوالص الذهب وكنائس للخيل تفليسية وللامراء ثلاثمائة خلعة لكلّ أمير خلعة قباء وكمة وللوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيف هندي واكرتان من العنبر وخمسون ثوبا وبغلة ولأصحاب الديوان عشرون خلعة في كلّ خلعة جبة وعمامة وعشرون ثوبا أكثرها اطلس رومي وبغدادي وعشرون بغلة شهباء ورفعت للسلطان خباء فدخلها ولبس الخلعتين وشفع الرسول في أهل خلاط فاعتذر له السلطان ومنها وصول هدية من صاحب الروم ثلاثون بغلا مجللة بثياب الأطلس الخطائي وفرو القندسي والسمور وثلاثون مملوكا بالخيل والعدة ومائة فرس وخمسون بغلا ولما مروا بآذربيجان اعترضهم ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب ارزن وكان في طاعة الأشرف فأمسك الهدية عنده الى أن وفد على السلطان بطاعته فأحضرها ومنها اسار وزير المورخا جاء الى الجبل المطلّ على قزوين لحصاد الحشيش على عادته وكان السلطان قد تغير على علاء الدين صاحبهم بسبب أخيه غياث الدين ولحاقه بهم في الموت فسار مقطع ساوة الى ذلك الجبل وأكمن لهم وأسر الوزير وبعث به الى السلطان وهو يحاصر خلاط فحبسه بقلعة رزمان وهلك لاشهر قلائل ثم بعث السلطان كاتبه محمد بن أحمد النسائي الى علاء الدين صاحب قلعة الموت بطلب الخوارج وطلب الخطبة فامتنع منها أوّلا واحتج عليه بأنّ أباه جلال الدين الحسن خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش والد السلطان فأنكر والتزم أن يبعث الى الديوان مائة ألف في كل سنة. وصول جهان بهلوان ازبك من الهند كان السلطان لما فصل من الهند بقصد العراق واستخلف على البلاد التي ملكها هنالك جهان بهلوان ازبك فأقام هنالك الى أن قصده عسكر شمس الدين ايتماش صاحب لهاوون ففارق مكانه وسار الى بلاد قشمير فزاحموه وطردوه عن البلاد فقصد العراق وتخلف عنه أصحابه وعادوا الى ايتماش وفيهم الحسن برلق الملقب رجا ملك وكاتب جهان عليها ملك العراق بوصوله في سبعمائة فارس فأجاب الحسن رأي السلطان فيه وبعث اليه بعشرة آلاف دينار للنفقة ووصل توقيع السلطان بأن تحمل اليه عشرون ألفا وأن يشتى بالعراق يستريح بها من التعب فصادف عود السلطان من بلاد الروم وزحف السلطان الى آذربيجان فحال قدر الله بينه وبين مرامه وقتل هناك سنة ثمان وعشرين . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 وصول التتر الى آذربيجان كان التتر عند ما ملكوا ما وراء النهر وزحفوا الى خراسان فضعضعوا ملك بني خوارزم شاه وانتهوا الى قاصية البلاد وخربوا ما مرّوا عليه واكتسحوا ونهبوا وقتلوا ثم استقر ملكهم بما وراء النهر وعمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوّض منها وبقيت خراسان خالية واستبدّ بالمدن فيها أمراء شبه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين لما جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وآذربيجان وارّان وما وراء ذلك وبقيت خراسان مجالات لغارات التتر وحروبهم ثم سارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين فكان بينهم وبين جلال الدين لما جاء من الهند المواقعة على أصبهان كما مرّ ثم كان بين جلال الدين وبين الأشرف صاحب الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب الروم المواقعة سنة سبع وعشرين كما مرّ وأوهنت من جلال الدين وحلت عرى ملكه وكان علاء الدين مقدّم الإسماعيلية في قلعة الموت فعادى جلال الدين لما أثخن في بلاده وقرر عليه وظائف الأموال فبعث الى التتر يخبرهم بالهزيمة الكائنة عليه وانها أوهنته ويحثهم على قصده فساروا الى أذربيجان أوّل سنة ثمان وعشرين وبلغ الخبر الى السلطان بمسيرهم فبعث بوغر من أمرائه طليعة لاستكشاف خبرهم فلقي مقدّمتهم فانهزم ولم ينج من أصحابه غيره وجاء بالخبر فرحل من تبريز الى موقان وخلف عياله بتبريز لنظر الوزير وأعجله الحال عن أن يبعثهم الى بعض الحصون ثم ورد كتاب من حدود زنجان بأن المقدّمة التي لقيها بوغر باهر أقاموا بمرج الخان وانهم سبعمائة فارس فظنّ السلطان أنهم لا يجاوزونهما فسرى عنه ورحل الى موقان فأقام بها وبعث في احشاد العساكر الأميرين بغان شحنة خراسان وأوسمان بهلوان شحنة مازندان وشغل بالصيد وبينما هو كذلك كبسه التتر بمكانه ونهبوا معسكره وخلص الى نهر أوس ثم وري بقصد كنجة وعطف الى أذربيجان فتنكر لماهان وكان عز الدين صاحب قلعة شاهن غاضبا منذ سنين لاغارة الوزير على بلده فلما نزل السلطان ماهان كان يخدمه بالميرة وباخبار التتر ثم أنذره آخر الشتاء بمسير التتر اليه من أرجان وأشار عليه بالعود الى ارّان لكثرة ما فيها من العساكر وأجناد التركمان متحصنين بها فلما فارقها وكان الوزير فوق بيوت السلطان وخزائنه في قلاع حسام الدين منهم ارسلان كبير أمراء التركمان بارّان وكان قد عمر هنالك قلعة سنك سراخ من أحصن القلاع فأنزل عياله بها وكان مستوحشا من السلطان فجاهر بالعصيان وكانت وحشته من السلطان لأمور منها تبذير أمواله في العطاء والنفقة ومنها أنه ظنّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 أنّ السلطان مجفل الى الهند فكاتب الأشرف صاحب الشام وكيقباد صاحب الروم فوعدهم من نفسه الطاعة وهما عدوّا السلطان ومنها أنه كاتب قلج ارسلان التركماني فأمره بحفظ حرم السلطان وخزائنه ولا يسلمها اليه وبعث في الكتاب له والكباس قبله ليغزو الروم فلما مرّ السلطان بقلعته بعث اليه يستدعيه فوصل وحمل كفنه في يده فلاطفه السلطان وكايده فظنها مخالصة فاطمأنّ والله تعالى ولىّ التوفيق. استيلاء التتر على تبريز وكنجة ولما اجفل السلطان بعد الكبسة من موقان الى ارّان بلغ الخبر الى أهل تبريز فثاروا بالخوارزمية وأرادوا قتلهم ووافقهم بهاء الدين محمد بن بشير فاربك الوزير بعد الطغرياني وكان الطغرياني رئيس البلد كما مرّ فمنعهم من ذلك وعدوا على واحد من الخوارزمية وقتلوه فقتل به اثنين من العامة واجتهد في تحصين تبريز وحراستها وشحنها بالرجال ولم تنقطع كتبه عن السلطان ثم هلك فسلمها العوام الى التتر ثم ثار أهل كنجة وسلموا بلدهم للتتر وكذا أهل ببلغازة والله أعلم. نكبة الوزير ومقتله لما وصل السلطان الى قلعة جاربرد بلغه استيحاش الوزير وخشي أن يفرّ الى بعض الجهات فركب الى القلعة موريا بالنظر في أحوالها والوزير معه وأسرّ الى والي القلعة أن يمسك الوزير ويقيده هنالك ففعل ونزل السلطان فجمع مماليك الوزير وكبيرهم الناصر قشتمر وضمهم الى أوترخان ثم نمي الى والي القلعة أنّ السلطان مستبدل منه فاستوحش وبعث بخاتم الوزير الى قشتمر كبير المماليك يقول نحن وصاحبكم متوازرون فمن أحب خدمته فليأت القلعة فسقط في يد السلطان وكان ابن الوالي في جملته وحاشيته فأمره السلطان أن يكاتب أباه ويعاتبه ففعل وأجابه بالتنصل من ذلك فقال له السلطان فليبعث اليّ برأس الوزير فبعث به وكان الوزير مكرما للعلماء والأدباء مواصلا لهم كثير الخشية والبكاء متواضعا منبسطا في العطاء حتى استغرق أموال الديوان لولا أنّ السلطان جذب من عنانه وكان فصيحا في لغة الترك وكانت عمالته على التواقيع السلطانية الحمد للَّه العظيم وعلى التواقيع الديوانية يعتمد ذلك وعلى تواقيعه الى بلاده أبو المكارم على بن أبي القاسم خالصة أمير المؤمنين . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 ارتجاع السلطان كنجة لما ثار أهل كنجة بالخوارزمية كان القائم بأمرهم رجل منهم اسمه بندار وبعث السلطان اليهم رسوله يدعوهم الى الطاعة فوصلوا قريبا منه وأقاموا وخرج اليهم الرئيس جمال الدين القمي بأولاده وامتنع الباقون ثم وصل السلطان وردّد اليهم فلم تغن وبرزوا بعض الأيام للقتال ورموا على خيمته فركب وحمل عليهم فانهزموا وازدحموا في الباب فمنعهم الزحام من اغلاقه فاقتحم السلطان المدينة وقبض على ثلاثين من أهل الفتنة فقتلهم وجيء ببندار وكان بالغا في الفساد وكسر سرير الملك الّذي نصبه بها محمد بن ملك شاه فمثل به وفصل أعضاءه بين يديه وأقام السلطان بكنجة نحوا من شهر ثم سار الى خلاط مستمدا للأشرف فارتحل الأشرف الى مصر وعلل بالمواعيد ووصل السلطان في وجهته الى قلعة شمس وبها أراك بن ايوان الكرجي فخرج وقبل الأرض على البعد ثم بعث الى السلطان ما أمري وبعث السلطان الى جيرانه من الملوك مثل صاحب حلب وآمد وماردين يستنجدهم بعد يأسه من الأشرف وجرّد عسكرا الى خرت برت وملطية وآذربيجان فأغاروا في تلك النواحي واستاقوا نعمها لما بين ملكها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميعهم من ذلك وقعدوا عن نصرته والله تعالى ولىّ التوفيق. واقعة التتر على السلطان بآمد ومهلكه كان السلطان بلغه وهو بخلاط أن التتر ساروا اليه فبعث السلطان الأمير أوترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبر أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد وكان الأمراء أشاروا على السلطان [1] الانتقال بديار بكر وينجرون الى أصبهان ثم جاءه رسول صاحب آمد وزين له له قصد بلاد الروم وأطعمه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر وأنه يمدّه بنفسه في أربعة آلاف فارس وكان صاحب آمد يروم الانتقام من صاحب الروم بما ملك من قلاعه فجنح السلطان الى كلامه وعدل عن أصبهان الى آمد   [1] كذا بياض بالأصل ويذكر ابن الأثير هذه الواقعة باختلاف كثير عما هي هنا في حوادث 628 في ج 12 ص 498: وما بعدها وتصويب العبارة: وكان الأمراء أشاروا على السلطان بترك خلاط والانتقال بديار بكر، الى ان يصل الى أصفهان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 فنزل بها وبعث اليه التركمان بالنذير وانهم رأوا نيران التتر بالمنزل الّذي كانوا به أمس فاتهم خبرهم وصبحه التتر على آمد وأحاطوا بخيمته قبل أن يركب فحمل عليهم اوترخان حتى كشفهم عن الحركات وركب السلطان وركض وأسلم زوجته بنت الاتابك سعد الى أميرين يحملانها الى حيث تنتهي الجفلة ثم ردّ أو ترخان العساكر عنه ليتوارى بانفراده عن عين العدوّ وسار أو ترخان في أربعة آلاف فارس فخلص الى أصبهان واستولى عليها الى أن ملكها التتر عليه سنة تسع وثلاثين وذهب السلطان مستخفيا الى باشورة آمد والناس يظنون أن عسكره غدروا به فوقفوا يردّونهم فذهب الى حدود الدربندات وقد ملئت المضايق بالمفسدين فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع وانتهى الى قرية من قرى ميافارقين فنزل في بيدرها وفارقه أوترخان الى شهاب الدين غازي صاحب حلب لمكاتبات كانت بينهما فحبسه ثم طلبه الكامل فبعث به اليه محبوسا ثم سقط من سطح فمات وهجم التتر على السلطان بالبيدر فهرب وقتل الذين كانوا معه وأخبر التتر أنه السلطان فاتبعوه وأدركه اثنان منهم فقتلهما ويئس منه الباقون فرجعوا عنه وصعد جبل الأكراد فوجدهم مترصدين في الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله وأسرّ الى بعضهم أنه السلطان فمضى به الى بيته ليخلصه الى بعض النواحي ودخل البيت في غيبه بعض سفلتهم وبيده حربة وهو يطلب الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله ولم يغن عنه البيت وكانت الوقعة منتصف شوّال سنة ثمان وعشرين هذه سياقة الخبر من كتاب النسائي كاتب السلطان جلال الدين وأمّا ابن الأثير فذكر الواقعة وأنه فقد فيها وبقوا أياما في انتظار خبره ولم يذكر مقتله وانتهى به التأليف ولم يزد على ذلك قال النسائي وكان السلطان جلال الدين أسمر قصيرا تركيا شجاعا حليما وقورا لا يضحك الا تبسما ولا يكثر الكلام مؤثرا للعدل الا أنه مغلوب من أجل الفتنة وكان يكتب للخليفة والوحشة قائمة بينهما كما كان أبوه يكتب خادمه المطواع فلان فلما بعث اليه بالخلع عن خلاط كما مر كتب اليه عبده فلان والخطاب بعد ذلك سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وأمام المسلمين وخليفة رب العالمين قدوة المشارق والمغارب المنيف على الذروة العليا ابن لؤيّ بن غالب ويكتب لملوك الروم ومصر والشام السلطان فلان بن فلان ليس معها أخوه ولا محبه وعلامته على تواقيعه النصرة من الله وحده وعلامته لصاحب الموصل بأحسن خط وشق القلم شقين ليغلظ ولما وصل من الهند كاتبه الخليفة الجناب الرفيع الخاقاني فطلب الخطاب بالسلطان فأجيب بأنه لم تجر به عادة مع أكابر الملوك فألح في ذلك حين حملت له الخلع فخوطب بالجناب العالي الشاهستاني ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها وملكوا مدينة اسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام ومروا بماردين فامتنعت ثم وصلوا الى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم الى سنجار وجبالها والخابور ثم ساروا الى تدليس فأحرقوها ثم الى أعمال خلاط فاستباحوا أباكري وارتجيس وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان الى أعمال اربل ومروا في طريقهم بالتركمان الاموامية والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا وخرج مظفر الدين صاحب اربل بعد ان استمدّ صاحب الموصل فلم يدركهم وعادوا وبقيت البلاد قاعا صفصفا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وافترق عسكر جلال الدين منكبرس وساروا الى كيقباد ملك الروم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 فأثبتهم في ديوانه واستخدمهم ثم هلك سنة أربع وثلاثين وولى ابنه غياث الدين كنخسرو فارتاب بهم وقبض على كبيرهم وفر الباقون واكتسحوا ما مروا به وأقاموا مستبدين بأطراف البلاد ثم استمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وكان نائبا لأبيه بالبلاد الشرقية حران وكيفا وآمد واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له كما يأتي في أخباره والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وفضله. الخبر عن دولة بني تتش بن البارسلان ببلاد الشام دمشق وحلب وأعمالهما وكيف تناوبوا فيها القيام بالدعوة العباسية والدعوة العلوية الى حين انقراض أمرهم قد تقدّم لنا استيلاء السلجوقية على الشام لأوّل دولتهم وكيف سار أتسز بن ارتق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه الى فلسطين ففتح الرملة وبيت المقدس وأقام فيهما الدعوة العباسية ومحا الدعوة العلوية ثم حاصر دمشق وذلك سنة ثلاث وستين وأربعمائة ثم أقام يردّد الحصار على دمشق حتى ملكها سنة ثمان وستين وسار الى مصر سنة تسع وستين وحاصرها وعاد منها وولى السلطان ملك شاه بعد أبيه البارسلان سنة خمس وستين فأقطع أخاه تتش بلاد الشام وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فسار الى حلب وحاصرها وكان أمير الجيوش بدر الجمالي قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها أتسز فبعث بالصريخ الى تاج الدولة تتش فسار لنصرته وأجفلت عساكر مصر وخرج أتسز لتلقيه فتعلل عليه ببطئه عن تلقيه وقتله واستولى على دمشق وقد تقدّم ذلك كله ثم استولى سليمان بن قطلمش على انطاكية وقتل مسلم بن قريش وسار الى حلب فملكها وسمع بذلك تتش فسار اليها واقتتلا سنة تسع وسبعين وقتل سليمان بن قطلمش في الحرب وسار السلطان ملك شاه الى حلب فملكها وولى عليها قسيم الدولة آقسنقر جدّ نور الدين العادل ثم جاء السلطان الى بغداد سنة أربع وثمانين وسار اليه أخوه تاج الدين تتش من دمشق وقسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب وبوزان صاحب الرها وحضروا معه صنيع المولد النبوي ببغداد فلما وعدوه العود الى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان بأن يسيرا بعسكرهما مع تاج الدولة تتش لفتح البلاد بساحل الشام وفتح مصر من يد المستنصر العلويّ ومحو الدولة العلوية منها فساروا لذلك وملك تتش حمص من يد ابن ملاعب وغزة عنوة وأماسية من يد خادم العلويّ بالأمان وحاصر طرابلس وبها جلال الدين بن عمار فداخل قسيم الدولة آقسنقر وصانعه بالمال في أن يشفع له عند تتش فلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 يشفعه فرحل مغاضبا وأجفلوا الى جبلة وانتقض أمرهم وهلك السلطان ملك شاه سنة خمس وثمانين ببغداد وقد كان سار الى بغداد وسار تتش أخوه من دمشق للقائه وبلغه في طريقه خبر وفاته وتنازع ولده محمود وبركيارق الملك فاعتزم على طلب الأمر لنفسه ورجع الى دمشق فجمع العساكر وقسم العطاء وسار الى حلب فأعطاه آقسنقر الطاعة لصغر أولاد ملك شاه والتنازع الّذي بينهم وحمل صاحب انطاكية وبوزان صاحب الرها وحران على طاعته وساروا جميعا في محرّم سنة ست وثمانين فحاصروا الرحبة وملكوها وخطب فيها تتش لنفسه ثم ملك نصيبين عنوة واستباحها وأقطعها لمحمد بن مسلم بن قريش ثم سار الى الموصل وبها إبراهيم بن قريش بن بدران وبعث اليه في الخطبة على منابرة فامتنع وبرز للقائه في ثلاثين ألفا وكان تتش في عشرة آلاف والتقوا بالمضيع من نواحي الموصل فانهزم إبراهيم وقتل واستبيحت أحياء العرب وقتل أمراؤهم وأرسل الى بغداد في طلب الخطبة فلم يسعف الا بالوعد ثم سار الى ديار بكر فملكها في ربيع الآخر وسار منها الى أذربيجان وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الريّ وهمذان وكثير من بلاد الجبل فسار في العساكر لمدافعته فلما تقاربا نزع آقسنقر وبوزان الى بركيارق وعاد تتش منهزما الى الشام وجمع العساكر واستوعب في الحشد وسارا الى آقسنقر في حلب فبرز اليه ومعه بوزان صاحب الرها وكربوقا الّذي ملك الموصل فيما بعد ولقيهم تتش على ستة فراسخ من حلب فانهزموا وجيء بأقسنقر أسيرا فقتله صبرا ولحق كربوقا وبوزان بحلب فحاصرها تتش وملكها وأخذهما أسيرين وبعث الى حران والرها في الطاعة فامتنعوا فقتل بوزان وملكهما وحبس كربوقا بحمص ثم سار الى الجزيرة فملكها جميعا ثم الى ديار بكر وخلاط ثم آذربيجان ثم همذان وبعث الى بغداد في الخطبة وكان بركيارق يومئذ بنصيبين فعبر دجلة الى اربل ثم منها الى بلد سرحاب بن بدر وسار الأمير يعقوب بن ارتق من عسكر تتش فكبسه وهزمه ونجا الى أصبهان فكان من خبره ما تقدّم وبعث تتش يوسف ابن ارتق التركماني شحنة الى بغداد فمنع منها فعاث في نواحيها ثم بلغه مهلك تتش فعاد الى حلب وهذه الاخبار كلها قد تقدّمت في أوّل دولة السلجوقية وانما ذكرناها هنا توطئة لدولة بني تتش بدمشق وحلب والله أعلم. مقتل تتش ولما انهزم بركيارق أمام عمه تتش لحق بأصبهان وبها محمود وأهل دولته فأدخلوه وتشاوروا في قتله ثم أبقوه الى إبلال محمود من مرضه فقدر هلاك محمود وبايعوا لبركيارق فبادر الى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 أصبهان وقدم أميرا آخر بين يديه لاعداد الزاد والعلوفة وسار هو الى أصبهان ورجع تتش الى الريّ وأرسل الى الأمراء بأصبهان يدعوهم ويرغبهم فأجابوه باستبراء أمر بركيارق ثم إبل بركيارق من مرضه وسار في العساكر الى الريّ فانهزم تتش وانهزم عسكره وثبت هو فقتله بعض أصحاب آقسنقر بثأر صاحبه واستقام الأمر لبركيارق والله تعالى أعلم. استيلاء رضوان بن تتش على حلب كان تتش لما انفصل من حلب استخلف عليها أبا القاسم الحسن بن علي الخوارزمي وأمكنه من القلعة ثم أوصى أصحابه قبل المصاف بطاعة ابنه رضوان وكتب اليه بالمسير الى بغداد ونزول دار السلطنة فسار لذلك وسار معه أبو الغازي بن ارتق وكان أبوه تتش تركه عنده وسار معه و [1] معه محمد بن صالح بن مرداس وغيرهما وبلغه مقتل أبيه عند هيت فعاد الى حلب ومعه الأميران الصغيران أبو طالب وبهرام وأمّه وزوجها جناح الدولة الحسن بن افتكين لحق بهم من المعركة فلما انتهوا الى حلب امتنع أبو القاسم بالقلعة ومعه جماعة من المغاربة وهم أكثر جندها فاستمالهم جناح الدولة فثاروا بالقلعة من الليل ونادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على أبي القاسم فبعث اليه رضوان بالأمان وخطب له على منابر حلب وأعمالها وأقام بتدبير دولته جناح الدولة وأحسن السيرة وخالف عليهم الأمير باغيسيان بن محمد بن ابه التركماني صاحب انطاكية ثم أطاع وأشار على رضوان بقصد ديار بكر وسار معه لذلك وجاءهم أمراء الاطراف الذين كان تتش رأسهم فيها وقصدوا سروح فسبقهم اليها سلمان بن ارتق وملكها فساروا الى الرها وبها الفارقليط من الروم كان يضمن البلاد من بوزان فتحصن بالقلعة ودافعهم ثم غلبوه عليها وملكها رضوان وطلبها منه باغيسيان وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان فأقطعها له ثم سار الى حران وأميرها قراجا فدسّ اليهم بعض أهلها بالطاعة واتهم قراجا بذلك ابن المعني من أعيانها كان تتش يعتمد عليه في حفظ البلد فقتله وقتل بني أخيه ثم فسد ما بين جناح الدولة وباغيسيان وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان الى بلده انطاكية وسار معه أبو القاسم الخوارزمي ودخل رضوان الى حلب دار ملكه وكان من أهل دولته   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 115: الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 يوسف ابن ارتق الخوارزمي الّذي بعثه تتش الى بغداد شحنة وكان [1] من الفتيان بحلب وكان قنوعا وكان يعادي يوسف بن اتق فجاء الى جناح الدولة القائم بأمر من رضوان ورمى يوسف بن ارتق عنده بأنه يكاتب باغيسيان ويداخله في الثورة واستأذنه في قتله فأذن له وأمدّه بجماعة من الجند وكبس يوسف في داره فقتله ونهب فيها واستطال على الدولة وطمع في الاستبداد على رضوان ودس لجناح الدولة أنّ رضوان أمره بقتله فهرب الى حمص وكانت اقطاعا له واستبدّ على رضوان ثم تنكر له رضوان سنة تسع وثماني وأمر بالقبض عليه فاختفى ونهبت دوره وأمواله ودوابه ثم قبض عليه فامتحن وقتل هو وأولاده. استيلاء دقاق بن تتش على دمشق كان تتش قد بعث ابنه دقاقا الى أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فأقام هنالك الى أن توفي ملك شاه فسار معه ابنه محمود وأمه خاتون الجلالية الى أصبهان ثم ذهب عنهم سرّا الى بركيارق ثم لحق بأبيه وحضر معه الواقعة التي قتل فيها ولما قتل تتش أبوه سار به مولاه تكين الى حلب فأقام عند أخيه رضوان وكان بقلعة من قلاعها ساوتكين الخادم من موالي تتش ولاه عليها قبل موته فبعث الى دقاق يستدعيه للملك فسار اليه وبعث رضوان في طلبه فلم يدركه ووصل دمشق وكتب اليه باغيسيان صاحب انطاكية يشير عليه بالاستبداد بدمشق على أخيه رضوان ووصل معتمد الدولة طغتكين مع جماعة من خواص تتش وكان قد حضر المعركة وأسر فخلص الآن من الاسار وجاء الى دمشق فلقيه دقاق ومال اليه وحكمه في أمره وداخله في مثل ساوتكين الخادم فقتلوه ووفد عليهم باغيسيان من انطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي فأكرمهما واستوزر الخوارزمي وحكمه في دولته. الفتنة بين دقاق وأخيه رضوان ثم سار رضوان الى دمشق سنة تسعين وأربعمائة قاصدا انتزاعها من يد دقاق فامتنعت عليه فعاد الى مالس وقصد الورس فامتنعت عليه فعاد الى حلب وفارقه باغيسيان صاحب انطاكية الى أخيه دقاق وحض على المسير الى أخيه بحلب فسار لذلك واستنجد رضوان   [1] كذا بياض بالأصل: وفي الكامل ج 10 ص 255: وكان بحلب إنسان يقال له: «المجن» وهو رئيس الاحداث بها، وله اتباع كثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 سكمان من سروج في أمم من التركمان ثم كان اللقاء بقنسرين فانهزمت عساكر دقاق ونهب سوادهم وعاد رضوان الى حلب ثم سعى بينهما في الصلح على أن يخطب لرضوان بدمشق وانطاكية قبل دقاق فانعقد ذلك بينهما ثم لحق جناح الدولة بحمص عند ما عظمت فيه سعاية المجن كما ذكرناه وكان باغيسيان منافرا له فلما فصل من حلب جاء باغيسيان الى رضوان وصالحه ثم بعث الى رضوان المستعلي خليفة العلويين بمصر يعده بالامداد على أخيه على أن يخطب له على منابره وزين له بعض أصحابه صحة مذهبهم فخطب له في جميع أعماله سوى انطاكية والمعرّة وقلعة حلب ثم وفد عليه بعد شهرين من هذه الخطبة سكمان بن ارتق صاحب سروج وباغيسيان صاحب انطاكية فلم يقم بها غير ثلاث حتى وصل الفرنج فحاصروه وغلبوه على انطاكية وقتلوه كما مرّ في خبره. استيلاء دقاق على الرحبة كانت الرحبة بيد كربوقا صاحب الموصل فلما قتل كما مرّ في خبره استولى عليها قانمار من موالي السلطان البارسلان فسار دقاق بن تتش ملك دمشق وأتابكه طغركين اليها سنة خمس وتسعين وحاصروها فامتنعت عليهم فعادوا عنها وتوفى قانمار صاحبها في صفر سنة ست وتسعين وقام بأمرها حسن من موالي الأتراك فطمع في الاستبداد وقتل جماعة من أعيان البلد وحبس آخرين واستخدم جماعة من الجند وطرد آخرين وخطب لنفسه فسار دقاق اليه وحاصره في القلعة حتى استأمن وخرج اليه وأقطعه بالشام اقطاعات كثيرة وملك الرحبة وأحسن الى أهلها وولى عليهم ورجع الى دمشق والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق لا ربّ غيره. وفاة دقاق وولاية أخيه تلتاش ثم خلعه ثم توفي دقاق صاحب دمشق سنة سبع وتسعين واستقلّ أتابكه طغركين بالملك وخطب لنفسه سنة ثم قطع خطبته وخطب لتلتاش أخي دقاق صبيا مراهقا وخوّفته أمه من طغركين بزواجه أم دقاق وأنه يميل الى ابن دقاق من أجل جدّته فاستوحش وفارق دمشق الى بعلبكّ في صفر سنة ثمان وتسعين ولحقه ايتكين الحلبي صاحب بصرى وكان ممن حسن له لذلك فعاث في نواحي خوارزم ولحق به أهل الفساد وراسلا هدويل ملك الفرنج فأجابهما بالوعد ولم يوف لهما فسار الى الرحبة واستولى عليها تلتاش وقيل انّ تلتاش لما استوحش منه طغركين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 من دخول البلد مضى الى حصون له وأقام بها ونصب طغركين الطفل ابن دقاق وخطب له واستبدّ عليه وأحسن الى الناس واستقام أمره والله تعالى وليّ التوفيق وهو نعم الرفيق. الحرب بين طغركين والفرنج أشهرا كان قمص من قمامصة الفرنج على مرحلتين من دمشق فلج بالغارات على دمشق فجمع طغركين العساكر وسار اليه وجاء معرون ملك القدس وعكا من الفرنج بانجاد القمص فأظهر الغنية [1] عليه وعاد الى عكا وقاتل طغركين [2] القمص فهزمه وأحجزه بحصنه ثم حاصره حتى ملك الحصن عنوة وقتل أهله وأسر جماعته وعاد الى دمشق ظافرا غانما ثم سار الى حصن رمسة من حصون الشام وقد ملكه الفرنج وبه ابن أخت سميل المقيم على طرابلس يحاصرها فحاصر طغركين حصن رمسة حتى ملكه وقتل أهله من الفرنج وخرّبه والله أعلم. مسير رضوان صاحب حلب لحصار نصيبين ثم ان رضوان صاحب حلب اعتزم غزو الفرنج واستدعى الأمراء من النواحي لذلك فجاءه أبو الغازي بن ارتق الّذي كان شحنة ببغداد وأصبهان وصباوو والبي بن ارسلان ماش صاحب سنجار وهو صهر جكرمش صاحب الموصل وأشار أبو الغازي بالمسير الى بلاد جكرمش للاستكثار بعسكرها وأموالها ووافقه البي وساروا الى نصيبين في رمضان سنة تسع وتسعين وأربعمائة فحاصروها وفيها أميران من قبل جكرمش واشتدّ الحصار وجرح البي بن ارسلان بسهم أصابه فعاد الى سنجار وأجفل أهل السواد الى الموصل وعسكر جكرمش بظاهرها معتزما على الحرب ثم كاتب أعيان العسكر وحثهم على رضوان وأمر أصحابه بنصيبين بإظهار طاعته وطلب الصلح معه وبعث الى رضوان بذلك والامداد بما يشاؤه على أن يقبض على أبي الغازي فمال الى ذلك واستدعى أبا الغازي فخبره أنّ المصلحة في صلح   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 399: فسار بغدوين ملك القدس وعكا وغيرها الى هذا القمص ليعاضده ويساعده على المسلمين، فعرّفه القمص غناه عنه وانه قادر على مقارعة المسلمين ان قاتلوه فعاد بغدوين الى عكا. [2] كذا وفي الكامل: طغتكين بدلا من طغركين. ج 10 ص 399. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 جكرمش ليستعينوا به في غزو الفرنج وجمع شمل المسلمين فجاوبه أبو الغازي بالمنع من ذلك ثم قبض عليه وقيده فانتقض التركمان ولجئوا الى سور المدينة وقاتلوا رضوان وبعث رضوان بأبي الغازي الى نصيبين فخرجت منها العساكر لإمداده فافترق منها التركمان ونهبوا ما قدروا عليه ورحل رضوان من وقته الى حلب وانتهى الخبر الى جكرمش بتلّ أعفر وهو قاصد حرب القوم فرحل عند ذلك الى سنجار وبعث اليه رضوان في الوفاء بما وعده من النجدة فلم يف له ونازل صهره البي بن ارسلان بسنجار وهو جريح من السهم الّذي أصابه على نصيبين فخرج اليه البي محمولا واعتذر اليه فأعتبه وأعاده الى بلده فمات وامتنع أصحابه بسنجار رمضان وشوّالا ثم خرج اليه [1] عمّ البي وصالح جكرمش وعاد الى الموصل والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه. استيلاء الفرنج على افامية كان خلف بن ملاعب الكلابي في حمص وملكها منه تاج الدولة تتش فسار الى مصر وأقام بها ثم بعث صاحب افامية من جهة رضوان بن تتش بطاعته الى صاحب مصر العلويّ فبعث اليها ابن ملاعب وملكها وخلع طاعة العلوية وأقام يخيف السبيل كما كان في حمص فلما ملك الافرنج سرمين لحق به قاضيها وكان على مذهب الرافضة فكتب الى ابن الطاهر الصانع من أكابر الغلاة ومن أصحاب رضوان وداخلهم في الفتك بابن ملاعب ونمى الخبر إليه من أولاده فحلف له القاضي بما اطمأن اليه وتحيل مع ابن الصانع في جند من قبلهم يستأمنون الى ابن ملاعب ويعطونه خيلهم وسلاحهم ويقيمون للجهاد معه ففعلوا وأنزلهم بربض افامية ثم بيته القاضي ليلا بمن معه من أهل سرمين ورفع أولئك الجند من الربض بالحبال وقتلوا ابن ملاعب في بيته وقتلوا معه ابنه وفرّ الآخر الى أبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر وجاء الصانع من حلب الى القاضي فطرده واستبدّ بأفامية وكان بعض أولاد ابن ملاعب عند طغركين وولاه حماية بعض الحصون فعظم ضرره فطلب طغركين فهرب الى الافرنج وأغراهم بأفامية ودلهم على عورتها وعدم الأقوات فيها فحاصروها شهرا وملكوها عنوة وقتلوا القاضي والصانع وذلك سنة تسع وتسعين وقد ذكرنا قبل أنّ الصانع قتله ابن بديع أيام تتش صاحب حلب إثر مهلك رضوان فاللَّه أعلم أيهما الصحيح ثم ملك صاحب   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 407: فجاء تميرك أخو ارسلان تاش عم البي فأصلح حاله مع جكرمش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 انطاكية من الافرنج حصن الامارة بعد حصار طويل فملكه عنوة واستلحم أهله وفعل في ذرّيته مثل ذلك ورحل أهل منبج وبالس وتركوهما خاويين وملكوا حيد بالأمان وطلب الفرنج من أهل الحصون الإسلامية الجزية فأعطوهم ذلك على ضريبة فرضوها عليهم فكان على رضوان في حلب وأعمالها ثلاثون ألف دينار وعلى صور سبعة آلاف وعلى ابن منقذ في شيزر أربعة آلاف وعلى حماة ألفا دينار وذلك سنة خمس وخمسمائة. استيلاء طغركين على بصرى قد تقدّم لنا سنة سبع وتسعين حال تلتاش بن تتش والخطبة له بعد أخيه دقاق وخروجه من دمشق واستنجاده الفرنج وانّ الّذي تولى كبر ذلك كله اسكين الحملي صاحب بصرى فسار طغركين سنة المائة الخامسة الى بصرى وحاصرها حتى أذعنوا وضربوا له أجلا للفرنج فعاد الى دمشق حتى انقضى الأجل فآتوه طاعتهم وملك البلد وأحسن اليهم والله تعالى وليّ التوفيق لا ربّ غيره. غزو طغركين وهزيمته ثم سار طغركين سنة اثنتين وخمسمائة الى طبرية ووصل اليها ابن أخت بغدوين ملك القدس [1] من الفرنج فاقتتلوا فانهزم المسلمون أوّلا فنزل طغركين ونادى بالمسلمين فكرّوا وانهزم الفرنج وأسر ابن أخت بغدوين وعرض طغركين عليه الإسلام فامتنع فقتله بيده وبعث بالأسرى الى بغداد ثم انعقد الصلح بين طغركين [2] وبغدوين بعد أربع سنين وسار بعدها طغركين الى حصن غزة في شعبان من السنة وكان ليد مولى القاضي فخر الملك بن علي ابن عمار صاحب طرابلس فعصى عليه وحاصره الافرنج وانقطعت عنه الميرة فأرسل طغركين صاحب دمشق أن يمكنه من الحصن فأرسل اليه إسرائيل من أصحابه فملك الحصن وقتل صاحبه مولى بن عمار غيلة ليستأثر بمخلفه فانتظر طغركين دخول الشتاء وسار الى الحصن لينظر في أمره وكان السرداني من الافرنج يحاصر طرابلس فلما سمع بوصول طغركين حصن الاكمة أغذ السير اليه فهزمه وغنم سواده ولحق طغركين بحمص ونازل السرداني غرّة فاستأمنوا اليه وملكها وقبض على إسرائيل فادى به أسيرا كان لهم بدمشق منذ سبع سنين ووصل طغركين   [1] كذا بياض بالأصل، وهو بغدوين الأول، امبراطور اللاتين على القسطنطينية قائد الحملة الصليبية الرابعة. [2] وفي نسخة ثانية: نيدغ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 الى دمشق ثم قصد ملك الافرنج رمسة من أعماله دمشق فملكها وشحنها بالأقوات والحامية فقصدها طغركين بعد أن نمى اليه الخبر بضعف الحامية الذين بها فكبسها عنوة وأسر الافرنج الذين بها والله سبحانه وتعالى أعلم. انتقاض طغركين على السلطان محمد كان السلطان محمد بن ملك شاه قد أمر مودود بن بوشكين صاحب الموصل بالمسير لغزو الافرنج لأن ملك القدس تابع الغارات على دمشق سنة ست وخمسمائة واستصرخ طغركين بمودود فجمع العساكر وسار سنة تسع ولقيه طغركين بسهلة وقصدوا القدس وانتهوا الى الانحوانة على الأردن وجاء بغدوين فنزل قبالتهما على النهر ومعه جوسكين صاحب جيشه واقتتلوا منتصف محرّم سنة عشر على بحيرة طبرية فانهزم الافرنج وقتل منهم كثير وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن ولقيتهم عساكر طرابلس وانطاكية فاشتدّوا وأقاموا بجبل قرب طبرية وحاصرهم المسلمون فيه ثم يئسوا من الظفر به فساحوا في بلادهم واكتسحوها وخربوها ونزلوا مرج الصفر وأذن مودود للعساكر في العود والراحة ليتهيأوا للغزو. وسلخ الشتاء ودخل دمشق آخر ربيع من سنة [1] ليقيم عند طغركين تلك المدّة وصلى معه أوّل جمعة ووثب عليه باطني بعد الصلاة فطعنه ومات آخر يومه واتهم طغركين بقتله وولى السلطان مكانه على الموصل آقسنقر البرسقي فقبض على أياز بن أبي الغازي وأبيه صاحب حصن كيفا فسار بنو أرتق الى البرسقي وهزموه وتخلص أياز من أسره فلحق أبو الغازي أبوه بطغركين صاحب دمشق وأقام عنده وكان مستوحشا من السلطان محمد لاتهامه بقتل مودود فبعث الى صاحب انطاكية من الفرنج وتحالفوا على المظاهرة وقصد أبو الغازي ديار بكر فظفر به قيرجان بن قراجا صاحب حمص وأسره وجاء طغركين لاستنفاذه فحلف قيرجان ليقتلنه ان لم يرجع طغركين الى بلاده وانتظر وصول العساكر من بغداد تحمله فأبطأت فأجاب طغركين الى إطلاقه ثم بعث السلطان محمد العساكر لجهاد الافرنج والبداءة بقتال طغركين وأبي الغازي فساروا في رمضان سنة ثمان وخمسمائة ومقدّمهم برسق بن برسق صاحب همذان وانتهوا الى حلب وبعثوا الى متوليها لؤلؤ الخادم ومقدّم عسكرها شمس الخواص يأمرونهما بالنزول عنها وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك فدافعا بالوعد واستحثا طغركين   [1] كذا بياض بالأصل، وذكر ابن الأثير هذه الحادثة في حوادث سنة سبع وخمسمائة، وحادث الاقتتال على بحيرة طبرية المذكور هنا في منتصف محرم سنة عشر، ذكره ابن الأثير في حوادث سنة ست وخمسمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 وابا الغازي في الوصول فوصلا في العساكر وامتنعت حلب على العساكر وأظهروا العصيان فسار برسق الى حماة وهي لطغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسألهما الأمير قيرجان صاحب حمص وكان جميع ما يفتحه من البلاد له بأمر السلطان فانتقض الأمراء من ذلك وكسلوا عن الغزو وسار أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص الى انطاكية يستنجدون صاحبها دجيل من الافرنج ثم توادعوا الى انصرام الشتاء ورجع أبو الغازي الى ماردين وطغركين الى دمشق ثم كان في اثر ذلك هزيمة المسلمين واستشهد برسق وأخوه زنكي وقد تقدّم خبر هذه الهزيمة في أخبار البرسقي ثم قدم السلطان محمد بغداد فوفد عليه أتابك طغركين صاحب دمشق في ذي القعدة من سنة تسع مستعينا فأعانه وأعاده الى بلده والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة رضوان بن تتش صاحب حلب وولاية ابنه البارسلان ثم توفي رضوان بن تتش صاحب حلب سنة تسع وخمسمائة وقد كان قتل أخويه أبا طالب وبهرام وكان يستعين بالباطنية في أموره ويداخلهم ولما توفي بايع مولاه لؤلؤ الخادم لابنه البارسلان صبيا مغتلما وكانت في لسانه حبسة فكان يلقب الأخرس وكان لؤلؤ مستبدّا عليه لأوّل ملكه قتل أخويه وكل ملك شاه منهما شقيقه وكانت الباطنية كثيرا في حلب في أيام رضوان حتى خافهم ابن بديع وأعيانها فلما توفي أذن لهم البارسلان في الإيقاع بهم فقبضوا على مقدّمهم ابن طاهر الصابغ وجماعة من أصحابهم فقتلوهم وافترق الباقون. مهلك لؤلؤ الخادم واستيلاء أبي الغازي ثم مقتل البارسلان وولاية أخيه السلطان شاه كان لؤلؤ الخادم قد استولى على قلعة حلب وولىّ أتابكية البارسلان ابن مولاه رضوان ثم تنكر له فقتله لؤلؤ ونصب في الملك أخاه سلطان شاه واستبدّ عليه فلما كان سنة احدى عشرة سار الى قلعة جعفر للاجتماع بصاحبها سالم بن مالك فغدر به مماليكه الأتراك وقتلوه عند خرتبرت وأخذوا خزائنه واعترضهم أهل حلب فاستعادوا منهم ما أخذوه وولىّ أتابكية سلطان شاه بن رضوان شمس الخواص بارقياس وعزل لشهر وولىّ بعده أبو المعالي بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 الملحي الدمشقيّ ثم عزل وصدور واضطربت الدولة وخاف أهل حلب من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق وحكموه على أنفسهم ولم يجد فيها مالا فصادر جماعة الخدم وصانع بمالهم الافرنج حتى صار الى ماردين بنية العود الى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش وانقرض ملك رضوان بن تتش من حلب والله سبحانه وتعالى أعلم. هزيمة طغركين أمام الافرنج كان ملك الافرنج بغدوين صاحب القدس قد توفي سنة اثنتي عشرة وقام بملكهم بعده القمص صاحب الرها الّذي كان أسره جكرمس وأطلقه جاولى كما تقدّم في أخبارهم وبعث الى طغركين في المهادنة وكان قد سار من دمشق لغزوهم فأبى من اجابته وسار الى طبرية فنهبها واجتمع بقواد المصريين في عسقلان وقد أمرهم صاحبهم بالرجوع الى رأي طغركين ثم عاد الى دمشق وقصد الافرنج حصنا من أعماله فاستأمن اليهم أهله وملكوه ثم قصدوا أذرعات فبعث طغركين ابنه بوري لمدافعتهم فتنحوا عن أذرعات الى جبل هناك وحاصرهم بوري وجاء اليه أبو طغركين فراسلوه ليفرج عنهم فأبى طمعا في أخذهم فاستماتوا وحملوا على المسلمين حملة صادقة فهزموهم ونالوا منهم ورجع الفل الى دمشق وسار طغركين الى أبي الغازي بحلب يستنجده فوعده بالنجدة وسار الى ماردين للحشد ورجع طغركين الى دمشق كذلك وتواعدوا للجبال وسبق الافرنج الى حلب وكان بينه وبين أبي الغازي ما نذكره في موضعه من دولة بني ارتق والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق لا ربّ غيره. منازلة الافرنج دمشق ثم اجتمع الافرنج سنة عشرين وخمسمائة ملوكهم وقمامصتهم وساروا الى دمشق ونزلوا مرج الصفر وبعث أتابك طغركين بالصريخ الى تركمان بديار بكر وغيرها وخيم قبالة الافرنج واستخلف ابنه بوري على دمشق ثم ناجزهم الحرب آخر السنة فاشتدّ القتال وصرع طغركين عن فرسه فانهزم المسلمون وركب طغركين واتبعهم ومضت خيالة الافرنج في اتباعهم وبقي رجالة التركمان في المعركة فلما خلص اليهم رجالة الافرنج اجتمعوا واستماتوا وحملوا على رجالة الافرنج فقتلوهم ونهبوا معسكرهم وعادوا غانمين ظافرين الى دمشق ورجعت خيالة الافرنج من اتباعهم منهزمين فوجدوا معسكرهم منهوبا ورجالتهم قتلى وكان ذلك من الصنع الغريب . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 وفاة طغركين وولاية ابنه بوري ثم توفي أتابك طغركين صاحب دمشق في صفر سنة اثنتين وعشرين وكان من موالي تاج الدولة تتش وكان حسن السيرة مؤثرا للعدل محبا في الجهاد ولقبه ظهير الدين ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الدولة بوري أكبر أولاده بعهده اليه بذلك وأقر وزير أبيه أبي علي طاهر بن سعد المزدغاني على وزارته وكان المزدغاني يرى رأي الرافضية الإسماعيلية وكان بهرام ابن أخي إبراهيم الأستراباذيّ لما قتل عمه إبراهيم ببغداد على هذا المذهب لحق بالشام وملك قلعة بانياس ثم سار الى دمشق وأقام بها خليفة يدعو الى مذهبه ثم فارقها وملك القدموس وغيره من حصون الجبال وقابل البصرية والدرزة بوادي اليتيم [1] من أعمال بعلبكّ سنة اثنتين وعشرين وغلبهم الضحاك وقتل بهرام وكان المزدغاني قد أقام له خليفة بدمشق يسمى أبا الوفاء فكثر اتباعه وتحكم في البلد وجاء الخبر الى بوري بأنّ وزيره المزدغاني والإسماعيلية قد راسلوا الافرنج بأن يملكوهم دمشق فجاء اليها وقتل المزدغاني ونادى بقتل الإسماعيلية وبلغ الخبر الى الافرنج فاجتمع صاحب القدس وصاحب انطاكية وصاحب طرابلس وسائر ملوك الافرنج وساروا لحصار دمشق واستصرخ تاج الملك بالعرب والتركمان وجاء الافرنج في ذي الحجة من السنة وبثوا سراياهم للنهب والاغارة ومضت منها سرية الى خوارزم فبعث تاج الدولة بوري سرية من المسلمين مع شمس الخواص من أمرائه لمدافعتهم فلقوهم وظفروا بهم واستلحموهم وبلغ الخبر الى الافرنج فأجفلوا منهزمين وأحرقوا مخلفه واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون والله تعالى ولىّ التوفيق. أسر تاج الملك لدبيس بن صدقة وتمكين عماد الدين زنكي منه كان بصرخد من أرض الشام [2] أميرا عليها فتوفي سنة خمس وعشرين وخلف سريته واستولت على القلعة وعملت أنه لا يتمّ لها استيلاؤها الا بتزويج رجل من أهل العصابة فوصف لها دبيس فكتبت اليه تستدعيه وهو على البصرة منابذا للسلطان عند ما   [1] كذا بالأصل والصحيح: وقابل النصيرية والدروز بوادي التيم [2] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا الأمير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 رجع من عند سنجر فاتخذ الأدلاء وسار الى صرخد فضل به الدليل بنواحي دمشق ونزل على قوم من بني كلاب شرقي الغوطة فحملوه الى تاج الملك فحبسه وبعث به الى عماد الدين زنكي يستدعيه ويتهدّده على منعه وأطلق سريج بن تاج الملك الملوك والأمراء الذين كانوا مأسورين معه فبعث تاج الملك بدبيس اليه وأشفق على نفسه فلما وصل الى زنكي خالف ظنه وأحسن اليه وسدّ خلته وبسط أمله وبعث فيه المسترشد أيضا يطلبه وجاء فيه الانباري وسمع في طريقه بإحسان زنكي اليه فرجع ثم أرسل المسترشد يشفع فيه فأطلق. وفاة تاج الملوك بوري صاحب دمشق وولاية ابنه شمس الملوك إسماعيل كان تاج الملوك بوري قد ثار به جماعة من الباطنية سنة خمس وعشرين وطعنوه فأصابته جراحة واندملت ثم انتقضت عليه في رجب من سنة ست وعشرين لأربع سنين ونصف من إمارته وولىّ بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل بعهده اليه بذلك وكان عهد بمدينة بعلبكّ وأعمالها لابنه الآخر شمس الدولة وقام بتدبير أمره الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق وأحسن الى الرعية وبسط العدل فيهم والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء شمس الملوك على الحصون ولما تولّى شمس الملوك إسماعيل وسار أخوه محمد الى بعلبكّ خرج اليها وحاصر أخاه محمدا بها وملك البلد واعتصم محمد بالحصن وسأل الإبقاء فأبقى عليه ورجع الى دمشق ثم سار الى باشاش وقد كان الافرنج الذين بها نقضوا الصلح وأخذوا جماعة من تجار دمشق في بيروت فسار اليها طاويا وجه مذهبه حتى وصلها في صفر سنة سبع وعشرين وقاتلها ونقب أسوارها وملكها عنوة ومثل بالافرنج الذين بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا وملكها ورجع الى دمشق ثم بلغه انّ المسترشد زحف الى الموصل فطمع هو في حماة وسار آخر رمضان وملكها يوم الفطر من غده فاستأمنوا اليه وملكها واستولى على ما فيها ثم سار الى قلعة شيرز وبها صاحبها من بني منقذ فحاصرها وصانعه صاحبها بمال حمله اليه فأفرج عنه وسار الى دمشق في ذي القعدة من السنة ثم سار في محرّم سنة ثمان وعشرين الى حصن شقيق [1] في   [1] هي قلعة الشقيف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 الجبل المطل على بيروت وصيدا وبه الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه وامتنع به وتحاماه المسلمون والافرنج يحتمي من كل طائفة بالأخرى فسار اليه وملكه من وقته وعظم ذلك على الافرنج فساروا الى جوران وعاثوا في نواحيها فاحتشد هو واستنجد بالتركمان وسار حتى نزل قبالتهم وجهز العسكر هنالك وخرج في البرّ وأناخ على طبرية وعكا فاكتسح نواحيها وامتلأت أيدي عسكره بالغنائم والسبي وانتهى الخبر الى الافرنج بمكانهم من بلاد حوران فأجفلوا الى بلادهم وعاد هو الى دمشق وراسله الافرنج في تجديد الهدنة فهادنهم. مقتل شمس الملوك وولاية أخيه شهاب الدين محمود كان شمس الملوك سيّئ السيرة كثير الظلم والعدوان على رعيته مرهف الحدّ لأهله وأصحابه حتى انه وثب عليه بعض مماليك جدّه سنة سبع وعشرين وعلاه بالسيف ليقتله فأخذ وضرب فأقرّ على جماعة داخلوه فقتلهم وقتل معهم أخاه سونج فتنكر الناس له وأشيع عنه بأنه كاتب عماد الدين زنكي ليملكه دمشق واستحثه في الوصول لئلا يسلم البلد الى الافرنج فسار زنكي فصدق الناس الاشاعة وانتقض أصحاب أبيه لذلك وشكو الأمّة فأشفقت ثم تقدّمت الى غلمانه بقتله فقتلوه في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وقيل انه اتهم أمّه بالحاجب يوسف بن فيروز فاعتزم على قتلها فهرب يوسف وقتلته أمّه ولما قتل ولىّ أخوه شهاب الدين محمود من بعده ووصل أتابك زنكي بعد مقتله فحاصر دمشق من ميدان الحصار وجدّوا في مدافعته والامتناع عليه وقام في ذلك معين الدين أنز مملوك جدّه طغراكين مقاما محمودا وجلا في المدافعة والحصار ثم وصل رسول المسترشد أبو بكر بن بهثر الجزري الى أتابك زنكي يأمره بمسالمة صاحب دمشق الملك البارسلان شهاب الدين محمود وصلحه معه فرحل عن دمشق منتصف السنة. استيلاء شهاب الدين محمود على حمص كانت حمص لقيرجان بن قراجا ولولده من بعده والموالي بها من قبلهما وطالبهم عماد الدين زنكي في تسليمها وضايقهم في نواحيها فراسلوا شهاب الدين صاحب دمشق في أن يملكها ويعوّضهم عنها بتدمر فأجاب واستولى على حمص وسار اليها سنة ثلاثين وأقطعها لمملوك جدّه معين الدين أنز وأنزل معه حامية من عسكره ورجع الى دمشق واستأذنه الحاجب يوسف بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 فيروز في العود من تدمر الى دمشق وقد كان هرب اليها كما قدّمناه وكان جماعة من الموالي منحرفين عنه بسبب ما تقدّم في مقتل سونج فنكروا ذلك فلاطفهم ابن فيروز واسترضاهم وحلف لهم انه لا يتولى شيئا من الأمور ولما دخل رجع الى حاله فوثبوا عليه وقتلوه وخيموا بظاهر دمشق واشتطوا في الطلب فلم يسعفوا بكلمة فلحقوا بشمس الدولة محمد بن تاج الملوك في بعلبكّ وبثوا السرايا الى دمشق فعاثت في نواحيها حتى أسعفهم شهاب الدين بكل ما طلبوه فرجعوا الى ظاهر دمشق وخرج لهم شهاب الدين وتحالفوا ودخلوا الى البلد وولىّ مرواش كبيرهم على العساكر وجعل اليه الحلّ والعقد في دولته والله أعلم. استيلاء عماد الدين زنكي على حمص وغيرها من أعمال دمشق ثم سار أتابك زنكي إلى حمص في شعبان سنة إحدى وثلاثين وقدم إليه حاجبه صلاح الدين الباغيسياني وهو أكبر أمرائه مخاطبا واليها معين الدين انز في تسليمها فلم يفعل وحاصرها فامتنعت عليه فرحل عنها آخر شوّال من السنة ثم سار سنة اثنتين وثلاثين إلى نواحي بعلبكّ فملك حصن المحولي على الأمان وهو لصاحب دمشق ثم سار إلى حمص وحاصرها وعاد ملك الروم إلى حلب فاستدعى الفرنج وملك كثيرا من الحصون مثل عين زربة وتل حمدون وحصر أنطاكية ثم رجع وأفرج أتابك زنكي خلال ذلك عن حمص ثم عاود منازلتها بعد مسير الروم وبعث إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمّه مرد خاتون ابنة جاولي طمعا في الاستيلاء على دمشق فزوّجها له ولم يظفر بما أمله من دمشق وسلموا له حمص وقلعتها وحملت إليه خاتون في رمضان من السنة والله أعلم. مقتل شهاب الدين محمود وولاية أخيه محمد لما قتل شهاب الدين محمود في شوّال سنة ثلاث وثلاثين اغتاله ثلاثة من مواليه في مضجعه بخلوته وهربوا فنجا واحد منهم وأصيب الآخران كتب معين الدين أنز إلى أخيه شمس الدين محمد بن بوري صاحب بعلبكّ بالخبر فسارع ودخل دمشق وتبعه الجند والأعيان وفوّض أمر دولته إلى معين الدين أنز مملوك جدّه وأقطعه بعلبكّ واستقامت أموره . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 استيلاء زنكي على بعلبكّ وحصاره دمشق ولما قتل شهاب الدين محمود وبلغ خبره إلى أمّه خاتون زوجة أتابك زنكي بحلب عظم جزعها عليه وأرسلت إلى زنكي بالخبر وكان بالجزيرة وسألت منه الطلب بثأر ابنها فسار الى دمشق واستعدّوا للحصار فعدل الى بعلبكّ وكانت لمعين الدين أنز كما قلناه وكان أتابك زنكي دسّ إليه الأموال ليمكنه من دمشق فلم يفعل فسار الى بلده بعلبكّ وجدّ في حربها ونصب عليها المجانيق حتى استأمنوا إليه وملكها في ذي الحجة آخر سنة ثلاث وثلاثين واعتصم جماعة من الجند بقلعتها ثم استأمنوا فقتلهم وأرهب الناس بهم ثم سار إلى دمشق وبعث إلى صاحبها في تسليمها والنزول عنها على أن يعوّضه عنها فلم يجب إلى ذلك فزحف إليها ونزل دار يا منتصف ربيع الأول سنة اربع وثلاثين وبرزت إليه عساكر دمشق فظفر بهم وهزمهم ونزل المصلي وقاتلهم فهزمهم ثانيا ثم أمسك عن قتالهم عشرة أيام وتابع الرسل إليه بأن يعوّضه عن دمشق ببعلبكّ أو حمص أو ما يختاره فمنعه أصحابه فعاد زنكي الى القتال واشتدّ في الحصار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. وفاة جمال الدين محمد بن بوري وولاية ابنه مجير الدين أنز ثم توفي جمال الدين محمد بن بوري صاحب دمشق رابع شعبان سنة أربع وثلاثين وزنكي محاصر به وهو معه في مراوضة الصلح وجمع زنكي فيما عساه أن يقع بين الأمراء من الخلاف فاشتدّ في الزحف فما وهنوا لذلك وولوا من بعد جمال الدين محمدا ابنه مجير الدين أنز وقام بتربيته وتدبير دولته معين الدين أنز مدبر دولته وأرسل إلى الإفرنج يستنجدهم على مدافعة زنكي على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم إياها فأجابوا إلى ذلك حذرا من استطالة زنكي بملك دمشق فسار زنكي للقائهم قبل اتصالهم بعسكر دمشق ونزل حوران في رمضان من السنة فخام الإفرنج عن لقائه وأقاموا ببلادهم فعاد زنكي إلى حصار دمشق في شوّال من السنة ثم أحرق قرى المرج والغوطة ورحل عائدا إلى بلده ثم وصل الإفرنج إلى دمشق بعد رحيله فسار معهم معين الدين أنز إلى قاشاش من ولاية زنكي ليفتحها ويعطيها للافرنج كما عاهدهم عليه وقد كان واليها أغار على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق لإنجاد صاحبها علي زنكي فقتل الوالي ومن معه من العسكر ولجأ الباقون إلى قاشاش وجاء معين الدين أنز أثر ذلك في العساكر فملكها وسلمها للافرنج وبلغ الخبر إلى أتابك زنكي فسار إلى دمشق بعد أن فرّق سراياه وبعوثه على حوران وأعمال دمشق وسار هو متجرّدا إليها فصبحها وخرج العسكر لقتاله فقاتلهم عامّة يومه ثم تأخر إلى مرج راهط وانتظر بعثوه حتى وصلوا إليه وقد امتلأت أيديهم بالغنائم ورحل عائدا إلى بلده. مسير الإفرنج لحصار دمشق كان الإفرنج منذ ملكوا سواحل الشام ومدنه تسير إليهم أمم الإفرنج من كل ناحية من بلادهم مددا لهم على المسلمين لما يرونه من تفرّد هؤلاء بالشام بين عدوّهم وسار في سنة ثلاث وأربعين ملك الالمان من أمراء الإفرنج من بلاده في جموع عظيمة قاصدا بلاد الإسلام لا يشك في الغلب والاستيلاء لكثرة عساكره وتوفر عدده وأمواله فلما وصل الشام اجتمع عليه عساكر الإفرنج الذين له ممتثلين أمره فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق فساروا لذلك سنة ثلاث وأربعين وحاصروها فقام معين الدين أنز في مدافعتهم المقام المحمود ثم قاتلهم الإفرنج سادس ربيع الأوّل من السنة فنالوا من المسلمين بعد الشدّة والمصابرة واستشهد ذلك اليوم الفقيه حجة الدين يوسف العندلاوي المغربي وكان عالما زاهدا وسأله معين الدين يومئذ في الرجوع لضعفه وسنه فقال له قد بعت واشترى مني فلا أقيل ولا أستقيل يشير إلى آية الجهاد وتقدّم حتى استشهد عند أسرت على نصف فرسخ من دمشق واستشهد معه خلق وقوي الإفرنج ونزل ملك الألمان الميدان الأخضر وكان عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة إحدى وأربعين وولي ابنه سيف الدين غازي الموصل وابنه نور الدين محمود حلب فبعث معين الدين أنز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجاء لإنجاده ومعه أخوه نور الدين وانتهوا إلى مدينة حمص وبعث إلى الإفرنج يتهدّدهم فاضطرّوا إلى قتاله وانقسمت مؤنتهم بين الفريقين وأرسل معين الدين إلى الألمان يتهدّدهم بتسليم البلد إلى ملك المشرق يعني صاحب الموصل وأرسل إلى فرنج الشام يحذرهم من استيلاء ملك الألمان على دمشق فإنه لا يبقى لكم معه مقام في الشام ووعدهم يحصن قاشاش فاجتمعوا إلى ملك الألمان وخوفوه من صاحب الموصل أن يملك دمشق فرحل عن البلد وأعطاهم معين الدين قلعة قاشاش وعاد ملك الألمان إلى بلاده على البحر المحيط في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 أقصى الشمال والمغرب ثم توفي معين الدين أنز مدبر دولة أرتق والمتغلب عليه سنة أربع وأربعين لسنة من حصار ملك الألمان والله أعلم. استيلاء نور الدين محمود العادل على دمشق وانقراض دولة بني تتش من الشام كان سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة أربع وأربعين وملك أخوه قطب الدين وانفرد أخوه الآخر نور الدين محمود بحلب وما يليها وتجرّد لطلب دمشق ولجهاد الإفرنج واتفق أنّ الإفرنج سنة ثمان وأربعين ملكوا عسقلان من يد خلفاء العلوية لضعفهم كما مرّ في أخبار دولتهم ولم يجد نور الدين سبيلا إلى ارتجاعها منهم لاعتراض دمشق بينه وبينهم ثم طمعوا في ملك دمشق بعد عسقلان وكان أهل دمشق يؤدّون إليهم الضريبة فيدخلون لقبضها ويتحكمون فيهم ويطلقون من أسرى الإفرنج الذين بها كل من أراد الرجوع إلى أهله فخشي نور الدين عليها من الافرنج ورأى أنه أن قصدها استنصر صاحبها عليه بالإفرنج فراسل صاحبها مجير الدين واستماله بالهدايا حتى وثق به فكان يغريه بأمرائه الذين يجد بهم القوّة على المدافعة واحدا واحدا ويقول له أنّ فلانا كاتبني بتسليم دمشق فيقتله مجير الدين حتى كان آخرهم عطاء بن حافظ السلمي الخادم وكان شديدا في مدافعة نور الدين فأرسل إلى مجير الدين بمثلها فيه فقبض عليه وقتله فسار حينئذ نور الدين الى دمشق بعد أن كاتب الأحداث الذين بها واستمالهم فوعدوه وأرسل مجير الدين الى الإفرنج يستنجده من نور الدين على أن يعطيهم بعلبكّ فأجابوه وشرعوا في الحشد وسبقهم نور الدين الى دمشق فثار الأحداث الذين كاتبهم وفتحوا له الباب الشرقي فدخل منه وملكها واعتصم مجير الدين بالقلعة فراسله في النزول عنها وعوّضه مدينة حمص فسار إليها ثم عوّضه عن حمص بالس فلم يرضها وسار إلى بغداد واختط بها دارا قرب النظامية وتوفي بها واستولى نور الدين على دمشق وأعمالها واستضافها إلى ملكه فجلب وانقرض ملك بني تتش من الشام والبلاد الفارسية أجمع والبقاء للَّه وحده والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه وتعالى . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 الخبر عن دولة قطلمش وبنيه ملوك قونية وبلاد الروم من السلجوقية ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم كان قطلمش هذا من عظماء أهل هذا البيت ونسبه فيهم مختلف فقيل قطلمش بن بيقو وابن الأثير تارة يقول قطلمش ابن عم طغرلبك وتارة يقول قطلمش بن إسرائيل من سلجوق ولعله بيان ذلك الاجمال ولما انتشر السلجوقية في البلاد طالبين للملك دخل قطلمش هذا إلى بلاد الروم وملك قونية وأقصرا ونواحيها وبعثه السلطان طغرلبك بالعساكر مع قريش بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 بدران صاحب الموصل في طلب دبيس بن مزيد عند ما أظهر الدولة العلوية في الحلة وأعمالها فهزمهم دبيس والبساسيري كما تقدّم في أخبارهم ثم عصى على السلطان البارسلان بعد طغرلبك وقصد الريّ ليملكه وقاتله البارسلان سنة ست وخمسين فانهزم عسكر قطلمش ووجد بين القتلى فتجمع له البارسلان وقعد للعزاء فيه كما تقدّم في أخبارهم وقام بأمره ابنه سليمان وملك قونية وأقصرا وغيرهما من الولاية التي كانت بيد أبيه وافتتح أنطاكية من يد الروم سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقد كانوا ملكوها منذ خمس وخمسين وأربعمائة فأخذها منهم وأضافها إلى ملكه وقد تقدّم خبر ملكه إياها في دولتهم وكان لمسلم بن قريش صاحب الموصل ضريبة على الروم بأنطاكية فطالب بها سليمان بن قطلمش فامتعض لذلك وأنف منه فجمع مسلم العرب والتركمان لحصار أنطاكية ومعه جق أمير التركمان والتقيا سنة ثمان وسبعين وانحاز جق إلى سليمان فانهزم العرب وسار سليمان بن قطلمش لحصار حلب فامتنعت عليه وسألوه الإمهال حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودسوا إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعونه فأغذ السير واعترضه سليمان بن قطلمش على تعبية فانهزم وطعن نفسه بخنجر فمات وغنم تتش معسكره وملك بعده ابنه قلج أرسلان وأقام في سلطانه ولما زحف الإفرنج إلى سواحل الشام سنة تسعين وأربعمائة جعلوا طريقهم على القسطنطينية فمنعهم من ذلك ملك الروم حتى شرط عليهم أن يعطوه أنطاكية إذا ملكوها فأجابوا لذلك وعبروا خليج القسطنطينية ومروا ببلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قطلمش فلقيهم في جموعه قريبا من قونية فهزموه وانتهوا الى بلاد ابن ليون الارمني فمروا منها الى أنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فاستعدّ للحصار وأمر بحفر الخندق فعمل فيه المسلمون يوما ثم عمل فيه النصارى الذين كانوا بالبلد من الغد فلما جاءوا للدخول منعهم وقال أنا لكم في مخلفكم حتى ينصرف هؤلاء الإفرنج وزحفوا إليه فحاصروه تسعة أشهر ثم عدا بعض الحامية من سور البلد عليهم فادخلوهم من بعض مسارب الوادي وأصبحوا في البلد فاستباحوه وركب بغيسيان للصلح فهرب ولقيه حطاب من الأرمن فجاء برأسه إلى الإفرنج وولي عليها بمشد من زعماء الإفرنج وكان صاحب حلب وصاحب دمشق قد عزما على النفير إلى أنطاكية لمدافعتهم فكاتبهم بالمسالمة وأنهم لا يعرضون لغير أنطاكية فأوهن ذلك من عزائمهم وأقصروا عن انجاد باغيسيان وكان التركمان قد انتشروا في نواحي العراق وكان كمشتكين بن طبلق المعروف أبوه بالدانشمند ومعناه المعلم عندهم قد ملك سيواس من بلاد الروم مما يلي أنطاكية وكان بملطية مما يجاورها متغلب آخر من التركمان وبينه وبين الوانشمند حروب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 فاستنجد صاحب ملطية عليه الإفرنج وجاء بيضل من أنطاكية سنة ثلاث وتسعين في خمسة آلاف فلقيه ابن الوانشمند وهزمه وأخذه أسيرا وجاء الإفرنج لتخليصه فنازلوا قلعة أنكوريّة وهي أنقرة فأخذوها عنوة ثم ساروا إلى أخرى فيها إسماعيل بن الوانشمند وحاصروها فجمع ابن الوانشمند وقاتلهم وأكمن لهم وكانوا في عدد كثير فلما قاتلهم استطرد لهم حتى خرج عليهم الكمين وكرّ عليهم فلم يفلت منهم أحد وسار إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها وجاءه الإفرنج من أنطاكية فهزمهم. استيلاء قليج أرسلان على الموصل كانت الموصل وديار بكر والجزيرة بيد جكرمش من قواد السلجوقية فمنع الحمل وهم بالانتقاض فأقطع السلطان الموصل وما معها لجاولي سقاوو والكل من قوادهم وأمرهم بالمسير لقتال الإفرنج فسار جاولي وبلغ الخبر لجكرمش فسار من الموصل إلى أربل وتعاقد مع أبي الهيجاء بن موشك الكردي الهدباي صاحب أربل وانتهى إلى البوازيج فعبر إليه جكرمش دجلة وقاتله فانهزمت عساكر جكرمش وبقي جكرمش واقفا لفالج كان به فأسره جاولي ولحق الفل بالموصل فنصبوا مكانه ابنه زنكي صبيا صغيرا وأقام بأمره غزغلي مولى أبيه وكانت القلعة بيده وفرّق الأموال والخيول واستعدّ لمدافعة جاولي وكاتب صدقة بن مزيد والبرسقي شحنة بغداد وقلج أرسلان صاحب بلاد الروم يستنجدهم ويعد كلا منهم بملك الموصل إذا دافعوا عنه جاولي فأعرض صدقة عنه ولم يحتفل بذلك ثم سار جاولي إلى الموصل وحاصرها وعرض جكرمش للقتل أو يسلموا إليه البلد فامتنعوا وأصبح جكرمش في بعض أيام حصارها [1] وسمع جاولي بأن قلج أرسلان سار في عساكره إلى نصيبين فأفرج عن الموصل وسار إلى سنجار وسبق البرسقي إليها بعد رحيل جاولي وأرسل إلى أهلها فلم يجيبوه بشيء وعاد إلى بغداد واستدعى رضوان صاحب دمشق جاولي سقاوو لمدافعة الإفرنج عنه فساروا إليه وخرج من الموصل عسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين فتحالفوا معه وجاءوا به إلى الموصل فملكها آخر رجب من سنة خمسمائة وخرج إليه ابن جكرمش وأصحابه وملك القلعة من غزغلي وجلس على التخت وخطب لنفسه بعد الخليفة وأحسن الى العسكر وسار في الناس بالعدل وكان في جملته إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 458: فلما اصطفوا للحرب حمل جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه، وبقي جكرمش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 ومحمد بن جق التركماني صاحب حصن زياد وهو خرت برت وكان إبراهيم بن نيال قد ولى تتش على آمد حين ولي ديار بكر وكانت بيده وأمّا خرت برت فكانت بيد القلادروس ترجمان الروم والرها وأنطاكية من أعماله فملك سليمان بن قطلمش أنطاكية وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر فضعف القلادروس وملك جق خرت برت من يده وأسلم القلادروس على يد السلطان ملك شاه وأمره على الرها فأقام بها حتى مات وملكها جق هي وما جاورها من الحصون وأورثها ابنه محمدا بعد موته والله تعالى وليّ التوفيق. الحرب بين قليج أرسلان وبين الإفرنج كان سمند صاحب أنطاكية من الإفرنج قد وقعت بينه وبين ملك الروم بالقسطنطينية وحشة واستحكمت وسار سمند فنهب بلاد الروم وعزم على قصد أنطاكية فاستنجد ملك الروم بقليج أرسلان فأمدّه بعساكره وسار مع ذلك الروم فهزموا الإفرنج وأسروهم ورجع الفلّ إلى بلادهم بالشام فاعتزموا على قصد قليج أرسلان بالجزيرة فأتاهم خبر مقتله فاقصروا والله تعالى ولي التوفيق. مقتل قليج أرسلان وولاية ابنه مسعود قد تقدم لنا استيلاء قليج أرسلان على الموصل وديار بكر وأعمالها وجلوسه على التخت وإن جاولي سكاوو سار إلى سنجار ثم سار منها إلى الرحبة وكان قلج أرسلان خطب له بها صاحبها محمد بن السباق من بني شيبان بعد مهلك دقاق وانتفاضة على أبيه فلما حاصرها جاولي بعث إليه رضوان بن تتش صاحب حلب في النجدة على الإفرنج لما ساروا إلى بلاده فوعده لانقضاء الحصار وجاء رضوان فحضر عنده واشتدّ الحصار على أهل الرحبة وغدر بعضهم فأدخل أصحاب جاولي ليلا ونهبوها إلى الظهر وخرج إليه صاحبها محمد الشيبانيّ فأطاعه ورجع عنه وبلغ الخبر إلى قلج أرسلان فسار من الموصل لحرب جاولي واستخلف عليها ابنه ملك شاه صبيا صغيرا مع أمير يدبره فلما انتهى إلى الخابور هرب عنه إبراهيم بن نيال صاحب آمد ولحق ببلده واعتزم قلج أرسلان على المطاولة واستدعى عسكره الذين أنجدهم ملك الروم على الإفرنج فجاءوا إليه واغتنم جاولي قلة عسكره فلقيه آخر ذي القعدة من السنة واشتدّت الحرب وحمل قليج أرسلان على جاولي بنفسه وصرع صاحب الراية وضرب جاولي بسيفه ثم حمل أصحاب جاولي عليه فهزموه وألقى نفسه في الخابور فغرق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 وسار جاولي إلى الموصل فملكها وأعاد خطبة السلطان محمد وبعث إليه ملك شاه بن قلج [1] أرسلان وولي مكان قليج أرسلان في قونية وأقصرا وسائر بلاد الروم ابنه مسعود واستقام له ملكها. استيلاء مسعود بن قليج أرسلان على ملطية وأعمالها كانت ملطية وأعمالها وسيواس لابن الوانشمند من التركمان كما مرّ وكانت بينه وبينهم حروب وهلك كمستكين بن الوانشمند وولي مكانه ابنه محمد واتصلت حروبه مع الإفرنج كما كان أبوه معهم ثم هلك سنة سبع وثلاثين فاستولى مسعود بن قليج أرسلان على الكثير منها وبقي الباقي بيد أخيه باغي أرسلان بن محمد. وفاة مسعود بن قليج وولاية ابنه قليج أرسلان ثم توفي مسعود بن قليج أرسلان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملك مكانه ابنه قليج أرسلان فكانت بينه وبين باغي أرسلان ابن الوانشمند وصاحب ملطية وما جاورها من ملك الروم وحروب بسبب أنّ قليج تزوّج بنت الملك طليق بن علي بن أبي القاسم فزوّجها إليه بجهاز عظيم وأغار عليه باغي أرسلان صاحب ملطية فأخذها بما معها وزوّجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن الوانشمند بعد أن أشار عليها بالردّة لينفسخ النكاح ثم عادت إلى الإسلام وزوّجها بابن أخيه فجمع قليج أرسلان عساكره وسار إلى باغي أرسلان بن الوانشمند فهزمه باغي أرسلان واستنجد ملك الروم فأمده بعسكر وسار باغي أرسلان خلال ذلك وولي إبراهيم ابن أخيه محمد وملك قليج أرسلان بعض بلاده واستولى أخوه ذو النون بن محمد الوانشمند على قيسارية وانفرد شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان بمدينة أنكوريّة وهي انقرة واستقرت الحال على ذلك ثم وقعت الفتنة بين قليج أرسلان وبين نور الدين محمود بن زنكي وتراجعوا للحرب وكتب الصالح بن زربك المتغلب على العلويّ بمصر إلى قليج أرسلان ينهاه عن ذلك ثم هلك إبراهيم بن محمد بن الوانشمند وملك مكانه أخوه ذو النون وانتقض قليج أرسلان عليه وملك ملطية من يده والله تعالى أعلم. مسير نور الدين العادل إلى بلاد قليج أرسلان ثم سار نور الدين محمود بن زنكي سنة ثمان وستين إلى ولاية أرسلان بن قليج أرسلان بن مسعود   [1] هكذا في الأصل في هذه النسخة وهو قلج أرسلان كما في الكامل لابن الأثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 ببلاد الروم وهي ملطية وسيواس وأقصرا فجاءه قليج أرسلان متنصلا معتذرا فأكرمه وثني عزمه عن قصد بلاده ثم أرسل إليه شفيعا في ذي النون بن الوانشمند [1] يرد عليه بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك مرعش ونهسنا [2] وما بينهما في ذي القعدة من السنة وبعث عسكرا إلى سيواس فملكوها فمال قليج أرسلان إلى الصلح وبعث إلى نور الدين يستعطفه وقد بلغه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه على أن يمدّه بالعساكر للغزو وعلى أن يبقى سيواس بيد نواب نور الدين وهي لذي النون بن الوانشمند ثم جاءه كتاب الخليفة باقطاع البلاد ومن جملتها بلاد قليج أرسلان وخلاط وديار بكر ولما مات نور الدين عادت سيواس لقليج أرسلان وطرد عنها نواب ذي النون. مسير صلاح الدين لحرب قليج أرسلان كان قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم قد زوّج بنته من نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود بن سقمان صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر وأعطاه عدّة حصون فلم يحسن عشرتها وتزوّج عليها وهجر مضجعها وامتعض أبوها قليج أرسلان لذلك واعتزم على غزو نور الدين في ديار بكر وأخذ بلاده فاستجار نور الدين بصلاح الدين بن أيوب واستشفع به فلم يشفعه وتعلل بطلب البلاد التي أعطاه عند المصاهرة فامتعض صلاح الدين لذلك وكان يحارب الإفرنج بالشام فصالحهم وسار في عساكره إلى بلاد الروم وكان الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بالشام فعدل عنه ومرّ على تل ناشر إلى زغبان ولقي بها نور الدين محمود صاحب كيفا وبعث إليه قليج أرسلان رسولا يقرر غدره بابنته فاغتاظ على الرسول وتوعده بأخذ بلادهم فتلطف له الرسول وخلص معه نجيا فقبح له ما ارتكبه من أجل هذه المرأة من ترك الغزو ومصالحة العدوّ وجمع العساكر وخسارة وأن بنت قليج أرسلان لو بعث إليه بعد وفاة أبيها تسأل منه النصفة بينها وبين زوجها لكان أحق ما تقصده فامتنعت وعلم أن على نفسه الحق فأمر الرسول أن يصلح بينهم ويكون هو عونا له على ذلك فداخلهم ذلك الرسول في الصلح على أن يطلق هذه المرأة بعد سنة ويعقد بينهم ذلك ورجع كل الى بلده ووفى نور الدين بما عقد على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] في الكامل ج 11 ص 391: ذي النون ابن دانشمند صاحب ملطية وسيواس. [2] في الكامل: فسار نور الدين إليه فابتدأ بكيّسون وبهنسى ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها. ج 11 ص 391. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 قسمة قليج أرسلان أعماله بين ولده وتغلبهم عليه ثم قسم قليج أرسلان سنة سبع وثمانين أعماله بين ولده فأعطى قونية بأعمالها لغياث الدين كسنجر وأقصرا وسيواس لقطب الدين ودوقاط لركن الدين سليمان وأنقرة وهي أنكوريّة لمحيي الدين وملطية لعز الدين قيصر شاه و [1] لغيث الدين وقيسارية لنور الدين محمود وأعطى تكسار وأماسا لابني أخيه وتغلب عليه ابنه قطب الدين وحمله على انتزاع ملطية من يد قيصر شاه فانتزعها ولحق قيصر شاه بصلاح الدين بن أيوب مستشفعا به فأكرمه وزوّجه ابنة أخيه العادل وشفع له عند أبيه وأخيه فشفعوه وردوا عليه ملطية ثم زاد تغلب ركن الدين وحجر عليه وقتل دائبة في مدينته [2] وهو اختيار الدين حسن فخرج سائر بنيه عن طاعته وأخذ قطب الدين أباه وسار به إلى قيسارية ليملكها من أخيه فهرب قليج أرسلان ودخل قيسارية وعاد قطب الدين إلى قونية وأقصرا فملكها وبقي أرسلان ينتقل بين ولده من واحد إلى آخر وهم معرضون عنه حتى استنجد بغياث الدين كسنجر صاحب [3] منهم فأنجده وسار معه إلى قونية فملكها ثم سار إلى أقصرا وحاصرها ثم مرض قليج أرسلان وعاد إلى قونية فتوفي فيها وقبل إنما اختلف ولده عليه لأنه ندم على قسمة أعماله بينهم وأراد إيثار ابنه قطب الدين بجميعها وانتقضوا عليه لذلك وخرجوا عن طاعته وبقي يتردّد بينهم وقصد كسنجر وصاحب قونية فأطاعه وخرج معه بالعساكر لحصار محمود أخيه في قيسارية وتوفي قليج أرسلان وهو محاصر لقيسارية ورجع غياث الدين إلى قونية. وفاة قليج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين ثم توفي قليج أرسلان بمدينة قونية أو على قيسارية كما مرّ من الخلاف منتصف ثمان وثمانين لسبع وعشرين سنة من ملكه وكان مهيبا عادلا حسن السياسة كثير الجهاد ولما توفي واستقلّ ابنه غياث الدين كسنجر بقونية وما إليها وكان قطب الدين أخوه صاحب أقصرا وسيواس وكان كلما سار من إحداهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية وبها أخوه نور الدين محمود   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 88. وسلم أبلستين إلى ولده مغيث الدين. [2] كذا بالأصل وهي عبارة محرفة، وفي الكامل: وحجر عليه قطب الدين وكان قليج أرسلان قد استناب في مدينة ملكه رجلا يعرف باختيار الدين حسن، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسنا. [3] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ولم يذل قليج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد وكل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياث الدين كسنجر وصاحب مدينة برغلوا فلما رآه خرج به وخدمه. ج 12 ج 89. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 يتلقاه بظاهرها حتى استنام إليه مدّة فغدر به وقتله وامتنع أصحابه بقيسارية كبيرهم حسن فقتله مع أخيه ثم أطاعوه وأمكنوه من البلد ومات قطب الدين أثر ذلك. استيلاء ركن الدين سليمان على قونية وأكثر بلاد الروم وفرار غياث الدين ولما توفي قليج أرسلان وولي بعده في قونية ابنه غياث الدين كسنجر وبنوه يومئذ على حالتهم في ولايتهم التي قسمها بينهم أبوهم وملك قطب الدين منهم قيسارية بعد أن غدر بأخيه محمود صاحبها ومات قطب الدين أثر ذلك فسار ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى التغلب على أعمال سلفه ببلاد الروم فسار إلى سيواس وأقصرا وقيسارية أعمال قطب الدين فملكها ثم سار إلى قونية فحاصر بها غياث الدين وملكها ولحق غياث الدين بالشام كما يأتي خبره ثم سار إلى نكسار وأماسا فملكهما وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين فملكها من يد معز الدين قيصر شاه ولحق معز الدين بالعادل أبي بكر بن أيوب ثم سار إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن حليق من بيت قديم وخرج إليه صاحبها ليقرر معه صلحا فقبض عليه وملك البلد فاجتمع لركن الدين سائر أعمال إخوته ما عدا أنقرة لحصانتها فجمر عليها الكتائب وحاصرها ثلاثا ثم دس من قتل أخاه وملك البلد سنة إحدى وستمائة وتوفي هو عقب ذلك والله تعالى أعلم. وفاة ركن الدين وولاية ابنه قليج أرسلان ثم توفي ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان أوائل ذي القعدة من تمام سنة إحدى وستمائة وولي بعده ابنه قليج أرسلان فلم تطل مدّته وكان ركن الدين ملكا حازما شديدا على الأعداء إلا أنه ينسب إلى التزين بالفلسفة والله تعالى أعلم. استيلاء غياث الدين كسنجر على بلاد الروم من أخيه ركن الدين كان غياث الدين كسنجر بن قليج أرسلان لما ملك أخوه ركن الدين قونية من يده لحق بحلب وفيها الظاهر غازي بن صلاح الدين فلم يجد عنده قبولا فسار إلى القسطنطينية وأكرمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 ملك الروم وأصهر إليه بعض البطارقة في ابنته وكانت له قرية حصينة في أعمال قسطنطينية فلما استولى الإفرنج على القسطنطينية سنة ستمائة لحق غياث الدين بقلعة صهره البطريق وبلغ إليه خبر أخيه تلك السنة وبعث بعض الأمراء من قونيّة يستدعيه فسار إليه واجتمعوا على حصار قونية وخرجت إليهم العساكر منها فهزموه ولحق ببعض البلاد فتحصن بها ثم قام أهل اقصرا بدعوته وطردوا واليهم وبلغ الخبر إلى أهل قونية فثاروا بقليج أرسلان بن ركن الدين وقبضوا عليه واستدعوا غياث الدين فملكوه وأمكنوه من ابن أخيه وكان أخوه قيصر شاه قد لحق بصهره العادل أبي بكر بن أيوب فاستنصر به على أخيه ركن الدين عند ما ملك ملطية من يده فأمر له بالرها واستفحل ملك غياث الدين وقصده عليّ بن يوسف صاحب شميشاط ونظام الدين بن أرسلان صاحب خرت برت وغيرهما وعظم شأنه إلى أن قتله أشكر صاحب قسطنطينية سنة سبع وستمائة والله تعالى وليّ التوفيق. مقتل غياث الدين كسنجر وولاية ابنه كيكاوس ولما قتل غياث الدين كسنجر وولي بعده ابنه كيكاوس ولقبوه الغالب باللَّه وكان عمه طغرك شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم طلب الأمر لنفسه وسار إلى قتال كيكاوس ابن أخيه وحاصره في سيواس وقصد أخوه كيغباد بن كسنجر بلد انكوريه من اعماله فاستولى عليها وبعث كيكاوس صريخه إلى الملك العادل صاحب دمشق فأنفذ إليه العساكر وأفرج طغرك عن سيواس قبل وصولهم فسار كيكاوس إلى أنكوريّة وملكها من يد أخيه كيغباد وحبسه وقتل أمراءه وسار إلى عمه طغرك في أرزن الروم فظفر به سنة عشر وقتله وملك بلاده. مسير كيكاوس إلى حلب واستيلاؤه على بعض أعمالها ثم هزيمته وارتجاع البلد من يده كان الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قد توفي وملك بعده ابنه طفلا صغيرا وكان بعض أهل حلب قد لحق بكيكاوس فرارا من الظاهر وأغراه بملك حلب وهوّن عليه أمرها وملك ما بعدها ولما مات الظاهر قوي عزمه وطمعه في ذلك واستدعى الأفضل بن صلاح الدين بن شميشاط للمسير معه على أن تكون الخطبة لكيكاوس والولاية للأفضل في جميع ما يفتحونه من حلب وأعمالها فإذا افتحوا بلاد الجزيرة مثل حران والرها من يد الأشرف تكون ولايتها لكيكاوس وتعاقدوا على ذلك وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 رغبان وتسلمها الأفضل على الشرط ثم ملكوا قلعة تل ناشر فاستأثر بها كيكاوس وارتاب الأفضل ثم بعث ابن الظاهر صاحب حلب إلى الأشرف بن العادل صاحب الجزيرة وخلاط يستنجده على أن يخطب له بحلب وينقش اسمه على السكة فسار لإنجاده ومعه أحياء طيِّئ من العرب فنزل بظاهر حلب وسار كيكاوس والأفضل إلى منبج ولقيت طليعتهم طليعة الظاهر فاقتتلوا وعاد عسكر كيكاوس منهزمين إليه فأجفل وسار الأشرف إلى رغبان وتل ناشر وبهما أصحاب كيكاوس فغلبهم عليهما وأطلقهم إلى صاحبهم فأحرقهم بالنار وسلم الأشرف الحصنين إلى شهاب الدين بن الظاهر صاحب حلب وبلغه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل بمصر فرجع عن قصد بلاد الروم. وفاة كيكاوس وملك أخيه كيغباد كان كيكاوس بعد الواقعة بينه وبين الأشرف قد اعتزم على قصد بلاد الأشرف بالجزيرة واتفق مع صاحب آمد وصاحب أربل على ذلك وكانا يخطبان له ثم سار إلى ملطية يشغل الأشرف عن الموصل حتى ينال منها صاحب أربل ومرض في طريقه فعاد ومات سنة ست عشرة وخلف بنيه صغارا وكان أخوه كيغباد محبوسا منذ أخذه من أنكوريّة فأخرجه الجند من محبسه وملكوه وقيل بل أخرجه هو من محبسه وعهد إليه ولما ملك خالف عليه عمه صاحب أرزن الروم فوصل يده بالأشرف وعقد معه صلحا. الفتنة بين كيغباد وصاحب آمد من بني أرتق وفتح عدة من حصونه كانت الفتنة قد حدثت بين الأشرف صاحب الجزيرة والمعظم صاحب دمشق وجاء جلال الدين خوارزم من الهند سنة ثلاث وعشرين بعد هروبه أمام التتر فملك أذربيجان واعتضد به المعظم صاحب دمشق على الأشرف وظاهرهما الملك مسعود صاحب آمد من بني أرتق فأرسل الأشرف إلى كيغباد ملك الروم يستنجده على صاحب آمد والأشرف يومئذ محاصر لماردين فسار كيغباد وأقام على ملطية وجهز العساكر من هناك إلى آمد ففتح حصونا عدّة وعاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف فكتب إلى كيغباد أن يرد عليه ما أخذه فامتنع فبعث عساكره إلى صاحب آمد مددا على كيغباد وكان محاصرا لقلعة الكحنا فلقيهم وهزمهم وأثخن فيهم وعاد ففتح القلعة والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 استيلاء كيغباد على مدينة أرزنكان كان صاحب ارزنكان هذه بهرام شاه من بني الأحدب بيت قديم في الملك وملكها ستين سنة ولم يزل في طاعة قليج أرسلان وولده وتوفي بعده ابنه علاء الدين داود شاه وأرسل عنه كيغباد سنة خمس وعشرين ليعسكر معه إليه وقبض عليه وملك مدينة ارزنكان وكان من حصونه كماح فامتنع نائبة فيه وتهدّد داود شاه فبعث إلى نائبة فسلم له الحصن ثم قصد ارزن الروم وبها ابن عمر طغرك شاه بن قليج أرسلان فبعث ابن طغرك شاه بطاعته إلى الأشرف واستنجد نائبة بخلاط حسام الدين علي فسار إليه فخام كيغباد عن لقائه وعاد من ارزنكان إلى بلاده فوجد العدوّ من الإفرنج قد ملك قلعة منها تسمى صنوبا مطلة على بحر الخزر فحاصرها برا وبحرا وارتجعها المسلمون والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق. فتنة كيغباد مع جلال الدين كان صاحب أرزن الروم وهو ابن عمّ كيغباد صار إلى طاعة جلال الدين خوارزم شاه وحاصر معه خلاط وفيها أيبك مولى فملكها جلال الدين وقتل أيبك كما يأتي في أخباره فخافهما كيغباد صاحب الروم فاستنجد الملك الكامل وهو بحران فأمدّه بأخيه الأشرف من دمشق فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى كيغباد فلقيه بسيواس واجتمعوا في خمسة وعشرين ألفا وساروا من سيواس إلى خلاط فلقيهم جلال الدين في نواحي ارزنكان فهاله منظرهم ومضى منهزما إلى خلاط ثم سار منها إلى أذربيجان فنزلوا عند خوي وسار الأشرف إلى خلاط فوجد جلال الدين قد خربها فعادوا إلى بلادهم وتردّدت الرسل إلى الصلح فاصطلحوا. مسير بني أيوب إلى كيغباد وهزيمتهم كان علاء الدين كيغباد قد استفحل ملكه ببلاد الروم ومد يده إلى ما يجاوره من البلاد فملك خلاط بعد أن دافع عنها مع الأشرف بن العادل جلال الدين خوارزم شاه فنازعه الأشرف في ذلك واستصرخ بأخيه الكامل فسار في العساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم وبعث في مقدّمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيغباد وهزمه وحصره في خرت برت وكانت لبني أرتق ورجع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيغباد في أتباعهم ثم سار إلى حران والرها فملكهما من يد نواب الكامل وولى عليهما من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين فارتجعهما. وفاة كيغباد وملك ابنه كنجسرو [1] ثم توفي علاء الدين كيغباد سنة أربع وثلاثين وستمائة وملك بعده ابنه غياث الدين كنجسرو وقارن ذلك انقراض الدولة السلجوقية من ممالك الإسلام واختلال دولة بني خوارزم شاه وخروج التتر من مفازة الترك وراء النهر واستيلاء جنكزخان سلطانهم على الممالك وانتزاعها من يد بني خوارزم شاه وفر جلال الدين آخرهم إلى الهند ثم رجع واستولى على أذربيجان وعراق العجم وكان بنو أيوب يومئذ بممالك الشام وأرمينية كما نذكر ذلك كله في أماكنه إن شاء الله تعالى وانتشر التتر في سائر النواحي وعاثوا فيها وتغلبوا عليها واستفحل ملكهم فسارت منهم طوائف إلى بلاد الروم سنة إحدى وأربعين فبعث غياث الدين كنجسرو بالصريخ إلى بني أيوب وغيرهم من الترك في جواره وجاء المدد من كلّ جانب فسار للقائهم ولقيتهم المقدّمة على قشمير زنجان فانهزمت المقدّمة ووصلوا إليه فانهزم ونجا بعياله وذخيرته الى مدينة على مسيرة شهر من المعترك ونهبوا سواده ومخلفه وانتشروا في نواحي بلاد الروم وعاثوا فيها وتحصن غياث الدين بهذه المدينة واستولى التتر على خلاط وآمد ثم استأمن لهم غياث الدين ودخل في طاعتهم واستقامت أموره معهم إلى أن مات قريبا من رجوعه وملك التتر قيسارية والله أعلم. وفاة غياث الدين وولاية ابنه كيغباد ثم توفي غياث الدين كنجسرو سنة أربع وخمسين وترك ثلاثا من الولد أكبرهم علاء الدين كيغباد وعز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وولى علاء الدين كيغباد بعهده إليه وكان يخطب لهم جميعا وأمرهم واحد وكان جنكزخان ملك التتر قد ملك وكان كرسي سلطانهم بقراقرم وولي مكانه ابنه طلو خان وجلس على كرسيه وهو الخان الأعظم عندهم وحكمه ماض في ملوك الشمال والعراق من أهل بيته وسائر عشيرته ثم هلك طلو خان وولي مكانه في كرسيه ابنه منكوفان فبعث أخاه هلاكو لفتح العراق وبلاد الإسماعيلية سنة   [1] وفي بعض النسخ: كنخسرو وفي الكامل كنجسرو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 خمسين وستمائة فسار لذلك وملك العراقين وبغداد ثم جرد الخان الأعظم منكوفان إلى بلاد الروم سنة أربع وخمسين أميرا من أمراء المغل اسمه بيكوفي العساكر فسار الى أرزن الروم وبها سنان الدين ياقوت موسى السلطان علاء الدين فحاصرها شهرين ونصب عليها المجانيق ثم ملكها عنوة وأسر ياقوت واستلحم الجند بأسرهم واستبقى الباعة والصناع ثم سار الى بلاد الروم فملك قيسارية ومسيرة شهر معها ورجع ثم عاد سنة خمس وخمسين وعاث في البلاد واستولى على أكثر من الأولى والله تعالى أعلم. وفاة كيغباد وملك أخيه كيكاوس ولما كثر عيث التتر الذين مع بيكوفي مملكة علاء الدين كيغباد واعتزم على المسير إلى الخان الأعظم منكوفان يؤكد الدخول في طاعته ويقتضي مراسمه الى بيكو ومن معه من المغل بالكف عن البلاد سار من قونية سنة خمس وخمسين ومعه سيف الدين طرنطاي من موالي أبيه واحتمل معه الأموال والهدايا وسار ووثب أخوه عز الدين كيكاوس على أخيه الآخر قليج أرسلان فاعتقله بقونية واستولى على الملك وكتب في أثر أخيه إلى سيف الدين طرنطاي مع بعض الأكابر من أصحابه أن يمكنوه من الهدايا التي معهم يتوجه بها إلى الخان ويردوا علاء الدين فلم يدركوه حتى دخل بلاد الخان ونزل على بعض أمرائه فسعى ذلك الرسول في علاء الدين وطرنطاي بأنّ معهم سما فكبسهم الأمير فوجد شيئا من المحمودة فعرض عليهم أكلها فامتنعوا فتخيل تحقيق السعاية فسألوه احضار الأطباء فأزالوا عنه الشك وبعث بهم إلى الخان ومات علاء الدين أثناء طريقه ولما اجتمعوا عند الخان اتفقوا على ولاية عز الدين كيكاوس وأنه أكبر وعقدوا له الصلح مع الخان فكتب له وخلع عليهم ثم كتب بيكو إلى الخان بأن أهل بلاد الروم قاتلوه ومنعوه العبور فأحضر الرسل وعرّفهم الخبر فقالوا إذا بلغناهم كتاب السلطان أذعنوا فكتب الخان بتشريك الأميرين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج أرسلان على أن تكون البلاد قسمة بينهما فمن سيواس إلى القسطنطينية غربا لعز الدين ومن سيواس إلى أرزن الروم شرقا المتصلة ببلاد التتر ركن الدين وعلى الطاعة وحمل الإتاوة لمنكو خان ملكهم صاحب الكرسي بقراقرم ورجعوا إلى بلاد الروم وحملوا معه شاه وكيغباد إلى أن دفنوه . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 استيلاء التتر على قونية ثم سار في عساكر المغل إلى بلاد الروم ثالثة فبعث عز الدين كيكاوس العساكر للقائه مع أرسلان آيدغمش من أمرائه فهزمه بيكو وجاء في إتباعه إلى قونية فهرب عز الدين كيكاوس إلى العلايا بساحل البحر فنزل بيكو على قونية وحاصرها حتى استأمنوا إليه على يد خطيبهم ولما حضر إليه أكرمه ورفع منزلته وأسلمت امرأته على يده وأمّن أهل البلد ثم سار هلاكو إلى بغداد سنة خمس وستين وبعث عن بيكو وعساكره من بلاد الروم بالحضور معه فاعتذر بالأكراد الذين في طريقه من الفراسلية والياروقية فبعث إليهم هلاكو العساكر فأجفلوا وانتهت العساكر إلى أذربيجان وقد أجفل أهلها أمام الأكراد فاستولوا عليها ورجعوا صحبة بيكو إلى هلاكو فحضر معه فتح بغداد وقد مرّ خبرها في أخبار الخلفاء ويأتي في أخبار هلاكو ونيال أن بيكو لما بعث عنه هلاكو لم يحضر معه فتح بغداد واستمرّ على غدره فلما انقضى أمر بغداد بعث إليه هلاكو من سقاه السمّ فمات لأنه اتهمه بالاستبداد ثم سار هلاكو بعد فتح بغداد إلى الشام سنة ثمان وخمسين وحاصر حلب وبعث عن عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعن معين الدين سليمان البر نواه صاحب دولتهم وكان من خبره أنّ أباه مهذب الدين علي كان من الديلم وطلب العلم ونبغ فيه ثم تعرّض للوزير سعد الدين المستوفي أيام علاء الدين كيغباد يسأله إجراء رزقه وكان وصافا فاستحسنه وزوجه ابنته فولدت سليمان ونشأ في الدولة ومات سعد الدين المستوفي فرقي السلطان مهذب الدين إلى الوزارة وألقى إليه بالمقاليد وتوفي مهذب الدين وترقي ابنه سليمان مهذب الدولة وكان يلقب معين الدين وترقي في الرتب إلى أن ولي الحجابة وكان يدعي البرنواه ومعناه الحاجب بلغتهم وكان مختصا بركن الدين فلما حضر معهما عند هلاكو كما قلناه حلا بعينه وقال لركن الدين لا يأتني في أموركم إلا هذا فرقت حاله الى أن ملك بلاد الروم أجمع. الفتنة بين عز الدين كيكاوس وأخيه قليج أرسلان واستيلاء قليج أرسلان على الملك ثم وقعت الفتنة سنة تسع وخمسين بين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج أرسلان وسار ركن الدين ومعه البرنواه إلى هلاكو يستمدّه على أخيه فأمدّه بالعساكر وحارب أخاه فهزمه عز الدين أوّلا ثم أمدّه هلاكو فانهزم عز الدين ولحق بالقسطنطينية واستولى ركن الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 على سائر الأعمال وهرب التركمان إلى أطراف الجبال والثغور والسواحل وبعثوا إلى هلاكو يطلبون الولاية منه على أحيائهم فولاهم وأذن لهم في اتخاذ الآلة فصاروا ملوكا من حينئذ وكان محمد بك أميرهم وأخوه علي بك رديفه فاستدعى علي هلاكو محمدا بك فلم يأته فأمر قليج أرسلان وعساكر التتر الذين معه بقتاله فساروا وقاتلوه فانهزم ثم استأمن إلى السلطان ركن الدين فأمنه وجاء به إلى قونية فقتله واستقرّ علي بك أميرا على التركمان وأورثها بنيه واستولى التتر على البلاد إلى. خبر عز الدين كيكاوس ولما انهزم عز الدين كيكاوس ولحق بالقسطنطينية أحسن إليه مخاييل الشكري صاحب قسطنطينية وأجرى عليه الرزق وكان معه جماعة من الروم أخواله فحدّثتهم أنفسهم بالثورة وتملك القسطنطينية ونمى ذلك عنهم فقبض الشكري عليه وعلى من معه واعتقله ببعض القلاع ثم وقعت بين الشكري وبين منكوتمر بن طغان ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان فتنة وغزا منكوتمر القسطنطينية وعاث في نواحيها فهرب إليه كيكاوس من محبسه فمضى معه إلى كرسيه بصراي فمات هنالك سنة سبع وسبعين وخلف ابنه مسعودا وخطب منكوتمر ملك صراي أمّه فمنعها وهرب عنه ولحق بابق بن هلاكو ملك العراق فأحسن إليه وأقطعه سيواس وارزن الروم وارزنكان فاستقرّ بها. مقتل ركن الدين قليج أرسلان وولاية ابنه كنجسرو كان معين الدين سليمان البرنواه قد استبدّ على ركن الدين قليج أرسلان ثم تنكر له ركن الدين فخاف سليمان البرنواه على مكان أخيه عز الدين كيكاوس بالقسطنطينية أن يحدث فيه أمرا فلما بلغه خبر كيكاوس واعتقاله بالقسطنطينية أحكم تدبيره في ركن الدولة فقتله غيلة ونصب للملك ابنه غياث الدين في كفالته وتحت حجره واستقلّ بملك بلاد الروم واستقامت أموره والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء الظاهر ملك مصر على قيسارية ومقتل البرنواه كان هلاكو قد زحف إلى الشام سنة ثمان وخمسين مرارا وزحف ابنه إبقا كذلك وقاتلهم الملك الظاهر صاحب مصر والشام وكان كثيرا ما يخالفهم إلى بلادهم فدخل سنة خمس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 وسبعين إلى بلاد الروم وأميرها يومئذ من التتر طغا وأمده إبقا بأميرين من التتر وهما كداون وترقو لحماية بلاد الروم من الظاهر فزحفوا إلى الشام وسار إليهم الظاهر من مصر في مقدّمته سقر الأسقر فلقيت مقدّمته مقدّمتهم على كوكصو فانهزم التتر وتبعهم الظاهر والتقى الجمعان على إبليش فانهزموا ثانية وأثخن فيهم الظاهر بالقتل والأسر إلى قيسارية فملكها وكان البرنواه قد دس إليه واستحثه للوصول إلى بلاده فأقام الظاهر على قيسارية ينتظره وبلغ ملك التتر إبقا خبر الواقعة فزحف في جموع المغل إلى قيسارية بعد منصرف الظاهر إلى بلاده فلما وقف على مصارع قومه وجد على البرنواه وصدقت عنه السعاية فيه وأنه الّذي استحث الظاهر لأنه لم ير في المعركة مصرع أحد من بلاد الروم ورجع إلى معسكره ومعه سليمان البرنواه واستبدّ بملكه والله تعالى وليّ التوفيق وهو نعم الرفيق لا ربّ سواه ولا معبود إلا إياه سبحانه. خلع كنجسرو ثم مقتله وولاية مسعود ابن عمه كيكاوس كان قنطغرطاي بن هلاكو مقيما ببلاد الروم مع غياث الدين كنجسرو ملك بلاد الروم وصار أمير المغل بها منذ عهد أبقا ولما ولي أحمد تكرار بن هلاكو بعد أخيه أبقا بعث عن أخيه قنطغرطاي فامتنع من الوصول إليه خشية على نفسه ثم حمله غياث الدين على إجابة أخيه وسار معه فقتل تكرار أخاه قنطغرطاي واتهم المغل غياث الدين بأنه علم برأي تكرار فيه واعتمد فلما ولي أرغون بن إبقا بعد تكرار عزل غياث الدين عن بلاد الروم وحبسه بارزنكاي وولي مكانه على المغل ببلاد الروم أولاكو وذلك سنة اثنتين وثمانين وأقام مسعود ملكا ببلاد الروم سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأصابه الفقر وانحل أمره وبقي الملك بها للتتر ثم فشل أمرهم واضمحلت دولتهم لا بقايا بسيواس من بني أرثا مملوك دمرداش بن جومان واستولى التركمان على تلك البلاد أجمع وأصبح ملكها لهم والله غالب على أمره يؤتي الملك من يشاء وهو العزيز الحكيم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 ملوك قونية من بلاد الروم وملكها من أيديهم التتر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 الخبر عن بني سكمان موالي السلجوقية ملوك خلاط وبلاد أرمينية ومصير الملك الى مواليهم من بعدهم ومبادي أمرهم وتصاريف أحوالهم كان صاحب مزيد من أذربيجان إسماعيل بن ياقوتي بن داود أخو البارسلان وداود أخو طغرلبك كما مرّ ولقب إسماعيل قطب الدولة وكان له مولى تركي اسمه سكمان بالكاف والقاف وكان ينسب اليه فيقال سكمان القطبي وكان شهما عادلا في أحكامه وكانت خلاط وارمينية لبني مروان ملوك ديار بكر وكانوا في آخر دولتهم قد اشتدّ عسفهم وظلمهم وساء حال أهل البلد معهم فاجتمع أهل خلاط وكاتبوا سكمان واستدعوه ليملكوه عليهم فسار اليهم سنة اثنتين وخمسمائة الى ميافارقين من ديار، بكر فحاصرها حتى استأمنوا اليه وملكها ثم أمر السلطان محمد شاه بن ملك شاه الأمير مودود بن زيد بن صدقة صاحب الموصل بغزو الافرنج وانتزاع البلاد من أيديهم وأمر أمراء الثغور بالمسير معه فسار معه برسق صاحب همذان وأحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب اربل وأبو الغازي صاحب ماردين وسقمان القطبي صاحب ديار بكر فساروا لذلك وفتحوا عدّة حصون وحاصروا الرها فامتنعت عليهم ثم تل ناشر كذلك واستدعاهم رضوان بن تتش صاحب حلب [1] فلما ساروا اليه امتنع من لقائهم ومرض سكمان القطبي هنالك فرجع عنهم وتوفي في طريقه ببالس وافترقت العساكر وملك خلاط وبلاد ارمينية بعد مهلكه ابنه ظهير الدين إبراهيم وسار فيهم بسيرة أبيه الى أن هلك سنة احدى وعشرين وملك بعده أخوه أحمد بن سكمان عشرة أشهر ثم توفي فنصب أصحابه للملك بارمينية وخلاط شاه أرمن سكمان ابن أخيه إبراهيم بن سكمان صبيا دارجا واستبدّت عليه جدّته أم إبراهيم ثم أزمعت قتله فقتلها أهل الدولة وعمد سنة ثمان وعشرين واستبدّ شاه أرمن وكانت بينه وبين الكرج وقائع وساروا سنة ست وخمسمائة الى مدينة اني من اعمال ارّان فاستباحوها وسار اليهم في العساكر فهزموه ونالوا منه وكانت عنده أخت طليق بن علي صاحب ارزن الروم ووقعت بينه وبين الكرج حرب فانهزم طليق وأسر وبعث شاه ارمن الى ملك الكرج وفادى طليقا ورده الى ملكه   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 486: «ووصلوا الى حلب فأغلق الملك رضوان أبواب البلد ولم يجتمع بهم من هنا يظهر انه لا شيء وكان البياض في الأصل، ان العبارة هنا مستقيمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 بارزن ثم استولى صلاح الدين بن أيوب على مصر والشام واستفحل ملكه وكاتبه مظفر الدين كوكبري وأغراه بملك الجزيرة ووعده بخمسين ألف دينار وسار صلاح الدين الى سنجار فحاصرها وهو مجمع المسير الى الموصل وبها يومئذ عز الدين مودود بن زنكي فاستنجد بشاه ارمن صاحب خلاط فبعث شاه ارمن مولاه مكتمر [1] الى صلاح الدين شفيعا في صاحب الموصل ووفد عليه وهو محاصر لسنجار ولم يشفعه صلاح الدين فرجع عنه مغاضبا وسار شاه ارمن لقتاله واستدعى قطب الدين نجم الدين الى صاحب ماردين وهو ابن أخيه وابن خال عز الدين وحضر معه دولة شاه بن طغرك شاه بن قليج ارسلان صاحب [2] وسار سنة ثمان وسبعين وقد ملك صلاح الدين سنجار وافترقت العساكر فلما بلغه مسيرهم بعث عن تقي الدين ابن أخيه شاه من حماة فوافاه سريعا ورحل الى رأس عين وافترقت جموعهم وسار صلاح الدين الى ماردين فعاث في نواحيها ورجع ثم سار الى الموصل آخر احدى وثلاثين وعبر الى الجزيرة وانتهى الى حران ولقيه مظفر الدين كوكبري بن زين الدين ولم يف له بالخمسين ألفا التي وعده بها وأخذ منه حران والرها ثم أطلقه بما نفذه من مكاتبته وأعاد عليه بلدته وسار من حران فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ولقيه سنجر شاه صاحب الجزيرة ابن أخي عز الدين مودود مفارقا لطاعة عمه وسار معه الى الموصل ولما انتهى الى مدينة بله بعث اليه عز الدين ابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة راغبين في الصلح فأكرمهم واستشار أصحابه من أعيان الدولة فأشار علي بن أحمد المشطوب كبير الهكارية بالامتناع من ذلك فردّهم صلاح الدين واعتذر وسار فنزل على فرسخين من الموصل واشتدّوا في مدافعته فامتنعوا عليه فندم على عدم الصلح ورجع على علي المشطوب ومن وافقه باللائمة وخاطبه القاضي الفاضل البيساني من مصر وعزله في ذلك وجاء زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فتلقاهما بالتكرمة وأنزلهما مع الحشود الوافدة بالجانب الشرقي وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري الى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فحاصرها واجتمع عليه الأكراد ولم يزل محاصرا لها حتى عاد صلاح الدين من الموصل وأقام صلاح الدين على حصارها مدّة وبلغ عز الدين أن نائبة بالقلعة يكاتبه فمنعه من الصعود اليها وكان يقتدى برأي مجاهد الدين وبعثه في الصلح فسعى فيه الى أن تحمله ووصل صلاح الدين الى ميافارقين.   [1] وقد وردت في الكامل بكتمر. [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 489: دولة شاه صاحب بدليس وأرزن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 وفاة شاه ارمن سكمان وولاية مكتمر مولى أبيه ثم توفي شاه أرمن سقمان بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست وسبعين وكان مكتمر مولى أبيه بميافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك واستولى على كرسي بني سكمان وولى على ميافارقين أسد الدين برتقش من موالي شاه ارمن وكان البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان مرّ بقائد ملوك السلجوقية وقد زوّج ابنته من شاه ارمن طمعا في ملك خلاط فلما توفي شاه ارمن سار اليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن أيوب ودافعوا كلا منهما بالآخر وسار صلاح الدين في مقدّمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما ونزلوا قريبا من خلاط فتردّد الرسل من صلاح الدين ومن شمس الدين البهلوان الى أهل خلاط وهم يدافعون الفريقين وكان قد بلغه صاحبها قطب الدين وان برتقش نصب ابنه طفلا صغيرا واستبدّ عليه فسار صلاح الدين اليها وحاصرها حتى تسلمها على الأمان وأقام مكتمر أميرا بخلاط وطالت مدّته وجرت بينه وبين صلاح الدين فتن وحروب الى أن توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين فأظهر الشماتة به وتسمى عبد العزيز وتلقب سيف الدين وتوفى أثر ذلك والله تعالى أعلم. وفاة مكتمر وولاية آقسنقر كان مكتمر لأوّل ولايته قد اختص آقسنقر من موالي شاه ارمن وتلقب هزار ديناري وزوّجه بنته وجعله اتابكه فأقام على ذلك مدّة ثم استوحش من مكتمر وتربص به حتى إذا توفى صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين فأمكنته فيه الفرصة فقتله لعشر سنين من ولايته وذلك بعد وفاة صلاح الدين بشهرين واستبدّ بملك خلاط وارمينية واعتقل ابن مكتمر وأمه في بعض القلاع والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة آقسنقر وولاية محمد بن مكتمر ثم هلك آقسنقر صاحب خلاط وارمينية سنة أربع وتسعين لخمس سنين من ملكه وقام بملك خلاط بعده حجر اشتدّ قطلغ الارمني ولم يرضه أهل خلاط فوثبوا به لسبعة أيام من ولايته وقتلوه واستدعوا محمد بن مكتمر من محبسه وملكوه ولقبوه الملك المنصور وقام بدولته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 شجاع الدين قطلغ القفجاقي دوادار شاه ارمن وأقام تحت استبداده الى سنة ثلاث وستمائة ثم دبر الدوادار وقبض عليه وكان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند والعامّة وعكف بعد نكبة الدوادار على لذاته فاجتمع أهل خلاط والجند وكبيرهم بلبان مملوك شاه ارمن وكتبوا الى ارتق بن أبي الغازي بن البي صاحب ماردين يستدعونه للملك بما كان ابن أخت شاه ارمن وجاهر بلبان بالعصيان الى ملازكرد واجتمع الجند عليه. نكبة ابن مكتمر واستيلاء بلبان على خلاط وأعمالها ولما ملك بلبان مدينة ملازكرد وأعمالها واجتمع عليه الجند وسار يريد خلاط ووصل ارتق بن أبي الغازي صاحب ماردين لموعدهم ونزل قريبا من خلاط فبعث اليه بلبان أن الجند والرعية اتهموني فيك فارجع وإذا ملكت البلد سلمته إليك فتنحى قليلا فبعث اليه يتوعده على مقالته وبطئه فعاد الى ماردين وكان الأشرف موسى بن العادل بن أيوب صاحب الجزيرة وحران لما سمع بمسير ارتق الى خلاط طمع فيها لنفسه وخشي أن يزداد بملكها قوة عليهم فخالفه الى ماردين وأقام بتدليس وجبى ديار بكر حتى استوعبها وعاد الى حران ثم جمع بلبان العساكر وسار الى خلاط فحاصرها وبرز ابن مكتمر فيمن عنده فانهزم بلبان وعاد الى ولايته بملازكرد وارجيش وغيرها ثم جمع ورجع الى خلاط فحاصرها وضيق عليها وابن مكتمر عاكف على لذاته فلما جهدهم الحصار ثاروا به وقبضوه ومكنوا بلبان منه ودخل الى خلاط واستولى عليها وعلى سائر أعمالها وحبس ابن مكتمر في قلعة هناك واستبدّ بملكها وكان الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب قد ولى على ميافارقين من قبل أبيه الى خلاط سنة أربع وستمائة وقصد مدينة سيواس وحاصرها وملك ما يجاورها وعجز بلبان عنه ثم ملك سوس وقصد خلاط فبرز له بلبان وهزمه فعاد الى ميافارقين وجمع واستمدّ أباه العادل فأمدّه بالعساكر ونهض الى خلاط فبرز له بلبان ثانية وهزمه الأوحد وحاصره في خلاط فبعث بلبان الى طغرك يستنجده فانهزم الأوحد امامهما وسار بلبان مع طغرك الى مراش فحاصراها وغدر به طغرك هناك وقتله وسار الى خلاط فمنعه أهلها فسار الى ملازكرد فمنعوه كذلك فعاد الى ارزن وأرسل أهل خلاط بطاعتهم الى الأوحد نجم الدين فجاء وملك خلاط واستولى على أعمالها وزحف الكرج فأغاروا على خلاط وعاثوا في نواحيها والأوحد مقيم بخلاط لم يفارقها وانتقض عليه جماعة من العسكر بحصن رام وساروا الى مدينة ارجيش فملكوها واجتمع اليهم المفسدون وبعث نجم الدين الى أبيه العادل يستنجده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 فأمّده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر حصن رام حتى استأمن اليه من كان به من الجند ورجع الأشرف الى عمله بحران والرها واستقرّ نجم الدين بخلاط ثم سار الى ملازكرد ليطالع أمورها ويمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فأخرجوهم وحصروا أصحاب نجم الدين بالقلعة ونادوا بشعار شاه ارمن وقومه فرجع الأوحد ولاقاه عسكر الجزيرة وحاصر خلاط ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة واستباحها ونقل جماعة من أعيانها الى ميافارقين وقتل كثيرا منهم هنالك واستكان أهل خلاط بعدها وانمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا مستحكمين فيها يولون ملوكها ويخلعونهم وانقرضت دولة بني سكمان من خلاط وصارت لبني أيوب والبقاء للَّه وحده والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين واليه المرجع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 آخر دولة السلجوقية بخلاط وأرمينية وملكها منهم بنو أيوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 أخبار الإفرنج فيما ملكوه من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصايره قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة عند ذكر أنساب الأمم وأنهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث إخوة الصقالبة والخزر والترك وقال هروشيوش أنهم من عصرما بن غومر وأمّا مواطنهم من بلاد المعمور فإنّهم في شمال البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غربا وشمالا وكانوا أوّلا يدينون لليونان والروم بالطاعة عند استفحال أمرهم فلما انقرضت دولة أولئك استقلّ هؤلاء الإفرنج بملكهم وافترقوا دولا مثل دولة القوط بالأندلس والجلالقة بعدهم وملك اللمانيين بالتفخيم من جزيرة إنكلطرة بالبحر المحيط الغربي الشمالي وما يحاذيه ويقابله من المعمور ومثل ملوك إفرنسة وهو عندهم اسم إفرنجة بعينه والجيم ينطقون بها سينا وهم ما وراء خليج رومة غربا إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط بها من شرقيها وتسمى تلك الثنايا البردت وكانت دولة هؤلاء الإفرنس منهم من أعظم دولهم واستفحل أمرهم بعد الروم وصدرا من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلّيّة وملكها من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من إفريقية وبلاد الشام والاستيلاء على بيت المقدس وطال تردّدهم في ذلك ثم استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيديين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية وانتزعوا الشام من أيديهم وحاصروهم في مصر فيقال أنّ المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك وجعلوا طريقهم في البرّ على القسطنطينية ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له أنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه وسهل العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد والعدّة وانتهوا إلى بلاد قليج أرسلان وجمع للقائهم فهزموه وفرّ [1] بلاد ابن اليون الأرمني ووصلوا أنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصوا غير أنطاكية   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 274: فلما وصلوا إليها لقيهم قليج أرسلان في جموعه ومنعهم مقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني مملكوها وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض الحامية فملك الإفرنج البلاد وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه وكان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريري والقمص وإسمند وهو مقدم العساكر فردّوا إليه أمر أنطاكية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقا وغربا وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل وجمع عساكر الشام وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان [1] صاحب سنجار وسكمان أرتق وغيرهم من الأمراء وزحفوا إلى أنطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوما ووهن الإفرنج واشتدّ عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين وأساء كربوقا السيرة فيهم وأزمعوا من استكثاره عليهم [2] فخرج الإفرنج إليهم واستماتوا فتخاذل المسلمون وانهزموا من غير قتال حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن إتباعهم واستشهد من المسلمين ألوف والله تعالى أعلم. استيلاء الإفرنج على معرّة النعمان ثم على بيت المقدس ولما حصلت الإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلدا وساروا الى معرّة النعمان وحاصروها واشتدّ القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا بالدور وتركوا السور فملكه الإفرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثا وأقاموا بها أربعين يوما ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش وأقطعه لسكمان بن أرتق من التركمان فلما كانت واقعة الإفرنج بأنطاكية طمع أهل مصر فيهم وسار الأفضل بن بدر الجمال المستولى على العلويين بمصر إلى بيت المقدس وبها سكمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن عمهما سوع وابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفا وأربعين يوما ونصبوا عليه نيفا وأربعين منجنيقا وملكوه بالأمان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الأفضل إلى سكمان وأبي الغازي وأصحابهما وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات وأقام سكمان بالرها وسار أبو الغازي إلى العراق واستناب الأفضل عليها افتخار الدولة الّذي كان بدمشق فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا وامتنعت عليهم   [1] كذا بياض بالأصل واسمه أرسلان تاش. [2] كذا بياض بالأصل: عبارة مضطربة وفي الكامل: فاغضبهم ذلك وأضمروا له أنفسهم العذر إذا كان قتال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 فحاصروه أربعين ليلة وافترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة واستباحوها وأقاموا فيها أسبوعا واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثا حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان وأحصى القتلى من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفا ويزيدون وأخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة وستون درهما من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي ومائة وخمسون قنديلا من الصغار وما لا يحصى من غير ذلك وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء والأسف ووسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان والعلماء فيهم القاضي أبو محمد الدامغانيّ وأبو بكر الشاشي وأبو ألوفا بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للإسلام فساروا إلى حلوان وبلغهم اضطراب الدولة السلجوقية وقتل محمد الملك البارسلان المتحكم في الدولة واختلاف السلاطين فعادوا وتمكن الإفرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفري من ملوكهم. عساكر مصر وحرب الإفرنج مسبر العساكر من مصر لحرب الإفرنج لما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش والعساكر واحتشد وسار إلى عسقلان وأرسل إلى الإفرنج بالنكير والتهديد فأعادوا الجواب ورحلوا مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبة فهزموه واستلحموا المسلمين ونهبوا سوادهم ودخل الأفضل عسقلان وافترق المنهزمون واستبدّوا بخر الحمير [1] ووصل الأفضل من عسقلان إلى مصر ونازلها الإفرنج حتى صانع أهلها الإفرنج بعشرين ألف دينار وعادوا إلى القدس. إيقاع ابن الدانشمند بالإفرنج كان كمستكين بن الدانشمند من التركمان ويعرف بطابوا ومعنى الدانشمند المعلم كان أبوه يعلم التركمان وتقلبت به الأحوال حتى ملك سيواس وغيرها وكان صاحب ملطية يعاديه فاستنجد عليه إسمند صاحب أنطاكية فجاءه في خمسة آلاف وسار إليه ابن الدانشمند وأسره ثم جاء الإفرنج الى قلعة أنكوريّة فملكوها وقتلوا من بها من المسلمين ثم حاصروا إسماعيل بن   [1] كذا بالأصل ولا معنى لها، وفي الكامل ج 10 ص 286: ومضى جماعة من المنهزمين فاستثروا بشجر الجميز، وكان هناك كثيرا فأحرق الفرنج بعض الشجر حتى هلك من فيه وقتلوا من خرج منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 الدانشمند فلقيهم كمستكين وهزمهم واستلحمهم وكانوا ثلاثمائة ألف ثم ساروا إلى ملطية فملكوها وأسروا صاحبها وزحف إليه إسمند من أنطاكية في الإفرنج فهمّ بهم ابن الدانشمند فأتاح الله للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد متقاربة حتى خلص إسمند من الأسر وجاء إلى أنطاكية والإفرنج بها وبعث إلى قيس العواصم وما جاورها يطلب الإمارة فامتعض المسلمون لذلك وقلدوه بعد العهد الّذي التزمه. حصار الإفرنج قلعة جبلة كانت جبلة من أعمال طرابلس وكان الروم قد ملكوها وولوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم فلما صارت للمسلمين رجع أمرها لجمال الملك أبي الحسن علي بن عمار المستبدّ بطرابلس وبقي منصور بن صليحة على عادته فيها ثم توفي منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار وأراد القبض عليه فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العباسية واستنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش فجاءه أتابك طغركين فامتنع عليهم ورجعوا ثم جاء الإفرنج فحاصروها فامتنعت عليهم أيضا وشاع أنّ بركيارق جاء إلى الشام فرحلوا ثم عادوا وأظهروا أنّ المصريين جاءوا لإنجاده فرحلوا ثم عادوا فتقدّم للنصارى الذين عنده أن يدخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم ثلاثمائة من أعيانهم فرفعهم بالحبال واحدا بعد واحد وهو قاعد على السور حتى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه ثم عادوا إليه فهزمهم وأسر ملكهم كبرانيطل وفادى نفسه منه بمال عظيم ثم [1] ابن صليحة وجهده الحصار فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق وبعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله ويعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحلة من الأنبار فبعث الوزير من استولى عليها فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كله ولما ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا علي بن عمار صاحب طرابلس واستدعوه لملكها فبعث إليهم عسكرا وقاتلوا تاج الملك ومن معه فهزموه وأخذوه أسيرا   [1] كذا بياض بالأصل وهي عبارة مضطربة والأسماء محرفة. وفي الكامل 810 ص 311: وأتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين واسر مقدمهم المعروف بكذا اصطبل فافتدى نفسه بمال جزيل، ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه وليس له ما يمنعهم عنه فأرسل إلى طغمكين أتابك يلتمس منه إنقاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبله، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بما له وأهله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 وملكوا جبلة بدعوة ابن عمار وحملوا تاج الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه وبعث إلى أبيه بدمشق واعتذر له بأنه خاف على جبلة من الإفرنج. استيلاء الإفرنج على سروج وقيسارية وغيرهما ثم سار كبر يرى ملك الإفرنج من بيت المقدس سنة أربع وتسعين لحصارها فأصابه منهم سهم فقتله فسار أخوه بغدوين في خمسمائة فارس إلى القدس ونهض دقاق صاحب دمشق ومعه جناح الدولة صاحب حمص لاعتراضه فهزموا الإفرنج وأثخنوا فيهم ثم كاتب أهل مدينة الإفرنج وكان أكبرهم ودخل في طاعتهم وكان سقمان بن أرتو صاحب سروج جمع جموعه من التركمان وسار إلى الرها فلقيه الإفرنج وهزموه في ربيع سنة أربع وتسعين وساروا إلى سروج فحاصروهم حتى ملكوها عنوة واستباحوها ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة وملكوا أرسوف بالأمان ثم ساروا في رحب إلى قيسارية فملكوها عنوة واستباحوها والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه. حصار الإفرنج طرابلس وغيرها كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس وزحف إليه قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به وعاد صنجيل مهزوما فأرسل الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مددا من عند دقائق واجتمعوا على طرابلس وفرّق صنجيل الفلّ الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم وفتك هو في أهل طرابلس وشدّ حصارها وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها ثم صالحوه على مال وخيل ورحل عنهم إلى طرسوس من أعمال طرابلس فحاصرها وملكها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار ومقدّمه ابن العريض فامتنع عليهم وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا زعيما من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة ثم سار صنجيل إلى حصن الأكراد وحاصره [1] جناح الدولة لغزوه فوثب عليه   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 345: وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحاصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه فقتله باطني بالمسجد الجامع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 باطني بالمسجد وقتله ويقال أنّ رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص وحاصرها وملك أعمالها ثم نزل القمص على عكا في جمادى الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل لقتاله وهزموه وأحرقوا أهله والمنجنيقات التي نصبت للحرب ثم سار القمص صاحب الرها الى السروج وحاصرها فامتنعت عليه وزحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون ونجا إلى الرملة وهم في أتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا وفشا القتل والأسر في الإفرنج والله تعالى وليّ التوفيق. حصار الإفرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر لما طمع الإفرنج في عسقلان واستفحل أمرهم بالشام جهز الأفضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسي مولى أبيه وزحف بغدوين [1] ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا وهزمهم ومات سعد الدولة متردّيا عن فرسه واستولى الإفرنج على سواده وبعث الأفضل بعده ابنه شرف المعالي فلقيهم في العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم ونال منهم ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة ليلة وملك الحصن فقتل وأسر ونجا بقدوين إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيارة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فامتنعت ورجعوا وبعث شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البرّ مع تاج العجم مولى أبيه والأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس فلما وصل الأسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الأفضل من قبض عليه وولي العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرمت السنة وبيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان ولهم أيضا من الشام يافا وأرسوف وقيسارية وصيفا وطبرية والأردن واللاذبية وانطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس وهو يرسل أسطوله للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعفر واكتسحوا نواحيها وكانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه إياها سنة تسع وسبعين كما مرّ والله أعلم.   [1] هكذا ورد في بعض الأماكن من هذه النسخة والصحيح بغدوين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 استيلاء الإفرنج على جبيل وعكا وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقا كثيرا من التجار والحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصرها حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في استباحتها ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها برّا وبحرا وفيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا وهرب عنها إلى دمشق وملك الإفرنج عكا عنوة وأفحشوا في استباحتها والله تعالى أعلم. غزو أمراء السلجوقية بالجزيرة الفرنج كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة واختلاف تمكن بها الإفرنج واستطالوا وكانت حران وحمص لمولى من موالي ملك شاه اسمه قراجا والموصل لجكرمش وحصن كيفا لسقمان بن أرتق وعصى في حران على قراجا بأمته فيها فاغتاله جاولي مولى من موالي الترك وقتله فطمع الإفرنج في حران وحاصروها وكان بين جكرمش وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران واجتمعا على الخابور وتحالفا ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك ومن العرب والأكراد وسار إليهم الإفرنج من حران فاقتتلوا واستطرد لهم [1] المسلمون بعيدا ثم كرّوا عليهم فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم وكان إسمند صاحب انطاكية وشكري [2] صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم وأقاموا هنالك إلى الليل ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا فيهم وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من الغنائم وحسنوا له أخذ القمص من [3] سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة جكرمش وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذرا من اختلاف المسلمين وسار مفارقا لهم وكان يمرّ   [1] استطرد له: أظهر له الانهزام مكيدة. [2] كذا بالأصل وفي الكامل: بيمند صاحب أنطاكية وطنكري صاحب الساحل. [3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 375: وحسنوا له أخذ القمص، فأنفذ أخذ القمص من خيم سقمان فلما عاد سقمان شق عليه الأمر وركب أصحابه للقتال فردهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظنا بنصر أصحابهم فملكها عليهم وسار جكرمش إلى حران فملكها وولي عليها من قبله ثم سار إلى الرها وحاصرها أياما وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردوبل بخمسة وثلاثين ألف دينار ومائة وستين أسيرا والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه. حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب ثم سار شكري صاحب أنطاكية من الإفرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن أريام من حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم وخرج الإفرنج للقائه ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز ولقيهم الإفرنج فانهزموا أوّلا ثم استماتوا وكرّوا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم وقتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى ونجا رضوان وأصحابه إلى حلب ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق ورجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب وملكه الإفرنج والله تعالى ولي التوفيق. حرب الإفرنج مع عساكر مصر كان الأفضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين ابنه شرف المعالي في العساكر إلى الرملة فملكها وقهر الإفرنج ثم اختلف العسكر في ادعاء الظفر وكادوا يقتتلون وأغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر فبعث الأفضل ابنه الآخر سناء الملك حسينا مكانه في العساكر وخرج معه جمال الدين صاحب عسقلان واستمدّوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم أصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية وقصدهم بقدوين صاحب القدس وعكا فاقتتلوا وكثرت بينهم القتلى واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل إلى بلده وكان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكباش بن تتش ذهب مغاضبا عن دمشق لما عدل عنه طغركين الأتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق وأقام عند الإفرنج والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه. حرب الإفرنج مع طغركين كان قمص من قمامصة الإفرنج بالقرب من دمشق وكان كثيرا ما يغير عليها ويحارب عساكرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 فسار إليه طغركين في العساكر وجاء بقدوين ملك القدس لإنجاده على المسلمين فردّه ذلك القمص ثقة بكفائه فرجع إلى عكا وسار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم ثم خرب الحصن وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به وقتل من سواهم من أهله وعاد إلى دمشق ظافرا ثم سار بعد أسبوع إلى [1] وبه ابن أخت صنجيل فملكه وقتل حاميته. استيلاء الإفرنج على حصن أفامية كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلبا على حمص وملكها منه تتش كما مرّ وانتقلت الأحوال إلى مصر ثم أنّ رضوان صاحب حلب انتفض عليه وإليه بحصن أفامية وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر واستدعى منهم واليا فبعثوا خلف بن ملاعب لايثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعبى [2] في افامية واستبدّ بها واجتمع عليه المفسدون ثم ملك الإفرنج [3] من أعمال حلب وأهله رافضة ولحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية ثم اعمل التدبير عليه وبعث إلى أبي طاهر الصائغ من أصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان وشعر بذلك ابنا ابن ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضي عليه وجاء القاضي فحلف له على كذبه وصدّقه وعاد القاضي إلى مداخلة أبي طاهر ورضوان في ذلك التدبير وبعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض أفامية حتى تمّ التدبير وأصعدهم القاضي وأصحابه ليلا إلى القلعة فملكوها وقتلوا ابن ملاعب وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيرز وقتل الآخر وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد ان الحصن له فلم يمكنه القاضي وأقام عنده وكان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضبا لأبيه فولاه حصنا من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه طغركين فهرب إلى الإفرنج واستحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع وقتلوا القاضي المتغلب فيه والصائغ وذلك سنة تسع وتسعين وخمسمائة.   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 400: وعاد طغتكين إلى دمشق منصورا فزين البلد أربعة أيام وخرج منها إلى رفنية وهو من حصون الشام وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس فحصره طغتكين وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج. [2] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 408: وأقام بأفامية يخيف السبيل ويقطع الطريق، فاجتمع عنده كثير من المفسدين. [3] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ثم أن الفرنج ملك أسرمين، وهي من أعمال حلب (ج 10 ص 408) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 خبر الإفرنج في حصار طرابلس كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازما لحصار طرابلس وملك جبلة من يد ابن أبي صليحة وبنى على طرابلس حصنا وأقام عليها ثم هلك وحمل إلى القدس ودفن وأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الإفرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا وأسروا واستمرّ الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات واستنفد أهل الثروة مكسوبهم في الإنفاق وضاقت أحوالهم وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص وأنطاكية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم ثم بلغ ابن عمار انتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخا واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس وخيم ابن عمار على دمشق وأكرمه طغركين ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر بتبليغه والاحتفال لقدومه ووعده بالإنجاد ولما رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان وأمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه وأن يستصحب العساكر التي بعثها مع الأمير مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو وأمره بإصلاح جاولي والمسير مع ابن عمار حسبما مرّ في أخبارهم ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد واصطلحوا وودّعه ابن عمار بعد أن خلع عليه وسار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر الموصل [1] مودود والانتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرّم سنة اثنتين وخمسمائة وسار منها إلى [1] فملكها وبعث أهل طرابلس إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر يستمدّونه ويسألون الوالي عليهم فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب بالمدد والأقوات والسلاح وعدّة الحصار واستولى على ذخائر ابن عمار وقبض على جماعة من أهله وحمل الجميع في البحر إلى مصر. خبر القمص صاحب الرها مع جاولي ومع صاحب أنطاكية كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمش ثم انتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل وحمل معه القمص بردويل صاحب الرها الّذي كان   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 464: فقفل حسين ذلك، وسار معه صاحب جاولي، فلما وصل إلى العسكر الّذي على الموصل وكانوا لم يفتحوها بعد، أمرهم حسين بالرحيل فكلّهم أجاب إلّا الأمير مودود فإنه قال: لا أرحل إلّا بأمر السلطان وقبض على صاحب جاولي وأقام على الموصل حتى فتحها كما ذكرناه وعاد حسين بن قطلغتكين إلى السلطان فأحسن النيابة عن جاولي عنده. وسار جاولي إلى مدينة بالس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وأصحابه وترك الموصل ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرّره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم وعلى أن يمدّه بنفسه وعساكره وماله متى أحتاج إلى ذلك ولما انبرم العقد بينهما بعث يوالي سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل ناشر [1] فأقام رهينة مكانه ثم أطلقه جاولي ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة القمص فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها ونهبها وسبى جماعة من أصحاب جاولي الى الغدر فاعتذر بأنّ هذه البلاد ليست لكم ولما أطلق القمص سار إلى أنطاكية ليستردّ الرها من يد شكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردّها وأعطاه ثلاثين ألف دينار ثم سار القمص إلى تل ناشر وقدم عليه أخوه جوسكين الّذي وضعه رهينة عند جاولي وسار شكري صاحب أنطاكية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولي فقاتلوه ورجع إلى أنطاكية وأطلق القمص مائة وستين من أسرى المسلمين ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على حصون أنطاكية وأمدّهم صاحب زغبان وكيسوم [2] وغيرهما من القلاع شمال حلب وهو من الأرمن بألف فارس وألقى راجل وخرج إليهم شكري وتراجعوا للحرب ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على شكري بردّ الرها على القمص صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة والأساقفة بأنّ اسمند خال شكري لما انصرف إلى بلاده أوصاه بردّ الرها على صاحبها إذا خلص من الأسر فردّها شكري على القمص في صفر سنة ثلاث ووفى القمص لجاولي بما كان بينهما ثم قصد جاولي الشام ليملكه وتنقل في نواحيه كما مرّ في أخباره وكتب رضوان صاحب حلب إلى شكري صاحب أنطاكية يحذره من جاولي ويستنجده عليه فأجابه وبرز من أنطاكية وبعث إليه رضوان بالعساكر واستنجد جاولي القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه ولحق به على منبج وجاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل وعلى خزائنه بها وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن آق سنقر فنزل جاولي تل ناشر وتزاحف مع شكري [3] هنالك   [1] وفي بعض النسخ جوسكين تل باشر. وهنا عبارة مشوشة وفي الكامل 8 ص 253 فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها، وهو صاحب تل باشر وغيرها. [2] ورد في معجم البلدان: كيسوم: الكثير من الحشيش. وهي قرية مستطيلة من أعمال سميساط، وفيها حصن كبير على تلعه كانت لنصر بن شيث تحصن فيه من المأمون حتى ظفر به عبد الله بن ظاهر فأخرجه، ثم أحدث بعد فيها مياها وبساتين. [3] وفي الكامل ج 12/ 192 لشكري وهو الصحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 واشتدّ القتال واستمرّ أصحاب أنطاكية فتخاذل أصحاب جاولي وانهزموا وذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين إلى تل ناشر والله تعالى أعلم. حروب الإفرنج مع طغركين كان طغركين قد سار إلى طبرية سنة ثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت بقدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون ثم استماتوا وهزموا الإفرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل ثم اصطلح طغركين وبقدوين لمدّة أربع سنين وكان حصن غزيّة من أعمال طرابلس بيد مولى ابن عمار فعصى عليه وانقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن ونزل منه مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذرا أن يطلع الأتابك على مخلفه وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج حتى إذا انقشع وانجلى سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصونا للإفرنج منها حصن الأكمة وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه انهزم طغركين وأصحابه إلى حمص وملك السرداني حصن غزية بالأمان ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بقدوين من القدس بالبقاء على الصلح وذلك في شعبان سنة اثنتين. استيلاء الإفرنج على طرابلس وبيروت وصيدا وجبيل وبانياس ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولي عليها نائبة والإفرنج يحاصرونها وزعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل وليس صنجيل الأوّل وإنما هو قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين السرداني فتنة واقتتلوا وجاء شكري صاحب أنطاكية مددا للسرداني ثم جاء بقدوين ملك القدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس ونصبوا عليها الأبراج فاشتدّ بهم الحصار وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة ثم زحفوا إلى قتالها بالأبراج وملكوها عنوة ثاني الأضحى واستباحوها وأثخنوا فيها وكان النائب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال وملكها بالأمان ونزل على مدينة جبيل وبها فخر الملك بن عمار فاستأمنوا إلى شكري وملكها ولحق ابن عمار بشيرز فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن منقذ الكناني ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبداني من أعمال دمشق في محرّم سنة أربع ووصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فأرسى بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت ثم استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة وذلك أنه وصل أسطول للإفرنج من ستين مركبا مشحونة بالرجال والذخائر وبها ملوكهم بقصد الحج والغزو فاجتمع مع بقدوين صاحب القدس ونازلوا صيدا برّا وبحرا وأسطول مصر يعجز عن انجادهم ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الإفرنج في جمادى الأولى ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوما من الحصار وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وعاد بقدوين إلى القدس. استيلاء أهل مصر على عسقلان كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر وقد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم عليها وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مرّ آنفا وولي عليها شمس الخلافة فراسل بقدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر وبعث الأفضل ابن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد من قوادهم موريا بالغزو وأسرّ إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية مكانه بعسقلان وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها الإفرنج فراسله وأقرّه على عمله وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد ووثبوا به فقتلوه وبعثوا إلى الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله واستقامت أمورهم. استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب وغيره ثم جمع شكري صاحب أنطاكية واحتشد وسار إلى حصن الأقارب [1] على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي ثم سار إلى حصن وزدناد [2]   [1] هو حصن (الأثارب) كما في الكامل ج 10 ص 481. [2] هو حصن (زردنا) كما في الكامل ج 10 ص 481. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 ففعل فيه مثل ذلك وهرب أهله منه ومارس على بلديهما [1] ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان وأشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام وراسلوهم في الهدنة فامتنعوا الا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وعدّة من الخيول والثياب وصاحب صور على سبعة آلاف دينار وابن منقذ صاحب شيرز [2] على أربعة آلاف دينار وعلي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار ومدّة الهدنة إلى حصاد الشعير ثم اعترضت مراكب الإفرنج مراكب التجار من مصر فأخذوها وأسروهم وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء وقصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد وبعث من دار الخلافة منبرا للجامع ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم ومنعهم صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر وبطلت الجمعة وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء بالتجهز للجهاد وأرسل ابنه الملك مسعودا مع الأمير مودود صاحب الموصل ليلحق به الأمراء ويسيروا جميعا إلى قتال الإفرنج. مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج ولما سار مسعود ابن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل اجتمع معهم الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر وابنا برسق إبلتكي وزنكي أصحاب همذان والأمير أحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب أربل وأياز بن أبي الغازي بعثه أخوه صاحب ماردين وساروا جميعا إلى سنجار وفتحوا عدّة حصون للإفرنج ونزلوا على مدينة الرها وحاصروا واجتمعوا مع الإفرنج على الفرات وخام الطائفتان عن اللقاء وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها وشحنوها أقواتا وعدّة وأخرجوا الضعفاء منها ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب لأن الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها وجاءت عساكر السلطان إلى الرها وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات وحاصروا قلعة تل   [1] هنا عبارة سقطت أثناء النسخ أو الطبع. وفي الكامل: فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفا من الفرنج وكذلك أهل بالس. وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس فعادوا عنها. [2] شيزر. قلعة تشمل على كورة بالشام قرب المعرة، بينها وبين حماة يوم. وهي قديمة ذكرها امرؤ القيس في قوله: تقطع أسباب اللبانة والهوى عشبة جاوزنا حماة وشيزرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 ناشر شهرا ونصفا فامتنعت فرحلوا الى حلب فقعد الملك رضوان عن لقائهم ومرض هنالك سقمان القطبي ورجعوا فتوفي في بالس وحمل شلوه إلى بلده ونزلت العساكر السلطانية على معرّة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى مودود ونزل عليه ثم ارتاب لما رأى من الأمراء في حقه فدسّ للإفرنج بالمهادنة ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم وبقي مودود مع طغركين على نهر العاصي وطمع الإفرنج بافتراقهم فساروا إلى افامية وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيرز إلى مودود طغركين فرحل بهم إلى شيرز وهون عليهم أمر الإفرنج وضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا وأتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم أبعدوا والله تعالى أعلم. حصار الإفرنج مدينة صور ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بقدوين ملك القدس وجمع الافرنج ونزلوا على مدينة صور في جمادى الاولى من سنة خمس وهي للأمير الأفضل صاحب مصر ونائبة بها عز الملك الاغرّ ونصبوا عليها الأبراج والمجانيق وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم واشتدّ القتال بينهم وبعث أهل صور الى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء الى بانياس وبعث اليهم بمائتي فرس واشتدّ القتال وبعث نائب البلد الى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد وكان طغركين يغير على أعمال الافرنج في نواحيها وملك لهم حصنا من أعمال دمشق وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر ثم سار الى صيدا وأغار عليها ونال منها ثم أزهت الثمرة وخشي الافرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور الى عكا وجاء طغركين الى صور فأعطى [1] الأموال واشتغلوا بإصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم. أخبار مودود مع الإفرنج ومقتله ووفاة صاحب انطاكية ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست الى سروج وعاث في نواحيها فخرج جكرمش صاحب تل ناشر وأغار على دوابهم فاستاقها من راعيها وقتل كثيرا من العسكر   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 490: وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة فدام القتال الى أوان ادراك الفلات فخاف الفرنج ان طغتكين يستولي على غلات بلادهم فساروا عن البلد عاشر شوّال الى عكا، وعاد عسكر طغتكين اليه، وأعطاهم أهلها الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعّث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طمّوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 ورجع ثم توفي الأمير الارمني صاحب الدروب ببلاد ابن كاور فسار شكري صاحب انطاكية من الافرنج الى بلاده ليملكها فمرض وعاد الى انطاكية ومات منتصف سنة ست وملكها بعده ابن أخته سرجان واستقام أمره ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه تميرك صاحب سنجار وأياز بن أبي الغازي صاحب ماردين وطغركين صاحب دمشق ودخلوا في محرّم سنة سبع الى بلاد الافرنج وخرج بقدوين ملك القدس وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات وقصدوا القدس ونزلوا على الأردن والافرنج عدوتهم واقتتلوا منتصف المحرّم فانهزم الافرنج وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والأردن وغنم المسلمون سوادهم وساروا منهزمين فلقيهم عسكر طرابلس وانطاكية فشردوا معهم وأقاموا على جبل طبرية وحاصرهم المسلمون نحوا من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا [1] في بلاد الافرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا الى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فصل الربيع وأذنوا للعساكر في الانطلاق ودخل مودود الى دمشق يقيم بها الى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع منصرفه من صلاة الجمعة آخر ربيع الأوّل من السنة ومات من يومه وأتهم طغركين بقتله والله تعالى أعلم. أخبار البرسقي مع الافرنج ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه آقسنقر البرسقي ومعه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الافرنج وبعث الى الأمراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكي بن آقسنقر وتميرك صاحب سنجار وسار الى جزيرة ابن عمر وملكها من يد نائب مودود ثم سار الى ماردين فحاصرها الى أن أذعن أبو الغازي صاحبها وبعث معه ابنه ايازا في العساكر فساروا الى الرها وحاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدّة سبعين يوما فامتنعت وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا الى شمشاط وسروج وعاثوا في تلك النواحي وهلك في خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش وكيسوم وزغبان من الافرنج وملكت زوجته بعده وامتنعت من الافرنج وأرسلت الى البرسقي على الرها بطاعته فبعث اليها صاحب الخابور فردّته بالأموال والهدايا وبطاعتها فعاد من كان عندها من الافرنج الى انطاكية والله أعلم.   [1] انساحوا: اندفعوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 الحرب بين العساكر السلطانية والفرنج كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه إياه بقتل مودود فعصى وأظهر الخلاف وتابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه وبين البرسقي فاهتمّ السلطان شأنهما وشأن الافرنج وقوّتهم وجهز العساكر مع الأمير برسق صاحب همذان وبعث معه الأمير حيوس بك والأمير كسقري وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بغزو الافرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرميلة وجاءوا الى حلب وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص وعرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب واستنجدا أبا الغازي وطغركين فوصلا اليهما في ألفي فارس وامتعا بها على العسكر فسار الأمير برسق الى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسلمها للأمير قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء ذلك وفسدت ضمائرهم وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص قد ساروا الى انطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها ووصل اليهم بأنطاكية بقدوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الافرنج واجتمعوا على افامية واتفقوا على مطاولة المسلمين الى فصل الشتاء ليتفرّقوا فلما أظلّ الشتاء والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازي الى ماردين وطغركين الى دمشق والافرنج الى بلادهم وقصد المسلمون كفرطاب وكانت هي وافامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالافرنج فيها وأسروا صاحبها ثم ساروا الى قلعة افامية فاستعصت عليهم فعادوا الى المعرة وهي للافرنج وفارقهم الأمير حيوس بك الى وادي مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرّة الى حلب وأثقالهم ودوابهم وهم متلاصقون فوصلت مقدمتهم الى الشام وخربوا الابنية وكان روميل صاحب انطاكية قد سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمدافعة عن كفر طاب وأظلّ على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان وأقام الافرنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها حتى وصل الأمير برسق وأخوه زنكي فصعدا ربوة هناك وأحاط الفلّ من المسلمين به وعزم برسق على الاستماتة ثم غلبه اخوه زنكي على النجاة فنجا فيمن معه واتبعهم الافرنج فرسخا ورجعوا عنه وافترقت العساكر الإسلامية منهزمة الى بلادها وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد الشام من الافرنج بعد هذه الواقعة وسار الافرنج الى رميلة من أعمال دمشق فملكوها وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الافرنج ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 الحامية فبادر اليها سنة تسع وملكها عنوة وقاتل وأسر وغنم وعاد الى دمشق ولم تزل رميلة بين المسلمين الى أن حاصرها الافرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم. وفاة ملك الافرنج وأخبارهم بعده مع المسلمين ثم توفى بقدوين ملك الافرنج بالقدس آخر سنة احدى عشرة وخمسمائة وكان قد زحف الى ديار بكر طامعا في ملكها فانتهى الى تنيس وشج في الليل فانتقض عليه جرحه وعاد الى القدس فمات وعاد القمص صاحب الرها الّذي كان أسره جكرمش وأطلقه جاولي وكان حاضرا عنده لزيارة قمامة وكان أتابك طغركين قد سار لقتال الافرنج ونزل اليرموك فبعث اليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة الى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين الى طبرية ونهب نواحيها وسار منها الى عسقلان ولقي سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاءوا في أثر بقدوين عند ما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أنّ صاحبهم تقدّم اليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد الى دمشق وأتاه الخبر بأنّ الافرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد ان ملكوا حصنا من أعماله فأرسل اليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى يئسوا من أنفسهم وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل وعاد الفلّ الى دمشق وسار طغركين الى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأنّ الافرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران واكتسحوها فرجع طغركين الى دمشق وأبو الغازي الى ماردين الى حشد العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الافرنج ثم سار الافرنج سنة ثلاثة عشر الى نواحي حلب فملكوا مراغة ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم أملاكهم وزحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفا من العساكر والمتطوعة ومعه أسامة بن مالك بن شيرز الكاني والأمير طغان ارسلان بن افتكين ابن جناح صاحب ارزن وسار الافرنج الى صنبيل عرمس [1] قرب الاثارب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازي وسار اليهم ودخل عليهم في مجتمعهم وقاتلوه أشدّ القتال فلم يقاوموه وفتك فيهم فتكة شنعاء وقتل فيهم سرحان صاحب انطاكية وأسر سبعون من زعمائهم وذلك منتصف ربيع من السنة ثم اجتمع فلّ [2] الأفرنج   [1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 554: فنزلوا قريبا من الأثارب بموضع يقال له تل يمغرين بين جبال ليس. [2] فل: جمعها افلال وفلول: منهزم ومنهزمون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 وعادوا الحرب فهزمهم أبو الغازي وملك عليهم حصن آلات ربّ وزدناد [1] وجاء الى حلب فأصلح أحوالها وعاد الى ماردين ثم سار جوسكين صاحب تل ناشر في مائتين من الافرنج ليكبس حلة من احياء طيِّئ يعرفون ببني خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم ودلوه على بقية قومهم من بني ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه اليهم وسار هو من طريق آخر فضلّ عن الطريق ووصل أصحابه اليهم وأميرهم مر من ربيعة فقاتلهم وغلبهم وقتل منهم سبعين وأسر اثني عشر ففاداهم بمال جزيل وأصناف عدّتهم من الأسرى وبلغ الى جوسكين في طريقه فعاد الى طرابلس وجمع جمعا وأغار على عسقلان فهزمه المسلمون وعاد مفلولا والله أعلم. ارتجاع الرها من الافرنج ثم سار بهرام أخو أبي الغازي الى مدينة الرها وحاصرها مدّة فلم يظفر بها فرحل عنها ولقيه النذير بأنّ جوسكين صاحب الرها وسروج قد سار لاعتراضه وقد تفرّق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل اليه الافرنج ودفعهم لأرض سنجة فوصلت فيها خيولهم فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسكين وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته الا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت ومعه كلمام ابن خالته وكان من شياطينهم وجماعة من زعمائهم والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. استيلاء الافرنج على خرت برت وارتجاعها منهم كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت وكان في جواره الافرنج في قلعة كركر فحاصرهم بها وسار بقدوين اليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الافرنج وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها وأصحابه وسار مالك الى حران في ربيع الأول وملكها ولما غاب من خرت برت تحيل الافرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند وسار بقدوين الى بلده وملك الآخرون القلعة فعاد مالك اليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية والله تعالى وليّ التوفيق.   [1] وفي نسخة ثانية: حصن الاثارب ورزدنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 استيلاء الإفرنج على مدينة صور كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر وكان بها عز الملك من قبل الأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على الأمر بمصر وتجهز الإفرنج لحصارها سنة ست فاستمدّوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله اسمه مسعود فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة وكتب إلى الأفضل بذلك وسأله تردّد الأسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره ثم قتل الأفضل وجاء الأسطول إليها من مصر على عادته وقد أمر مقدّمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الأسطول وحمله إلى مصر وبعثوا به إلى دمشق وأقام الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر ولما بلغ الإفرنج انصراف مسعود عن صور قوى طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها وبعث الوالي الأمير بذلك وبعجزه عن مقاومة حصارهم لها وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريبا من صريخها [1] وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد وخروج من فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادى الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح البرسقي كفرطاب وانهزامه من الإفرنج ثم جمع البرسقي عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفرطاب [2] وحاصرها فملكها من الإفرنج ثم سار إلى قلعة أعزاز شمالي حلب وبها جوسكين فحاصرها واجتمع الإفرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديدا فحص الله المسلمين وانهزموا وفتك النصارى فيهم ولحق البرسقي بحلب بها ابنه مسعودا وعبر الفرات إلى الموصل ليستمدّ العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله بمقتله وولى ابنه عز الدين بعده قليلا ثم مات سنة إحدى وعشرين وولى السلطان محمود عماد الدين زنكي بن آقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة وديار بكر كما مرّ في أخبار دولة السلجوقية ثم استولى منها على الشام وأورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه   [1] صريخ: استغاثة. [2] كفرطاب: بلدة بين معرة النعمان ومدينة حلب في برية معطشة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 الأعمال نذكرها أن شاء الله تعالى ونشأت عن دولتهم دولة بني أيوب وتفرّعت منها كما نذكره ونحن الآن نترك من أخبار الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي وبني أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا تتكرّر الأخبار ونذكر في هذا الموضع من أخبار الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعة المتأمل علم كيف يردّ كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه. الحرب بين طغركين والإفرنج ثم اجتمعت الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاءوا إليه وكان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين وقاتلهم وسقط في المعترك فظنّ أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب فرسه وسار معهم منهزما والإفرنج في إتباعهم وقد أثخنوا في رجاله التركمان فلما أتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق ورجع الإفرنج عن المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغاني والإسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله وسار صاحب القدس وصاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة ومن وصل في البحر للتجارة أو الزيارة وساروا إلى دمشق في ألفي فارس ومن الرجال ما لا يحصى وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية آلاف فارس وجاء الإفرنج آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للإغارة بالنواحي وجمع الميرة وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه ولقوا سرية الإفرنج وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاءوا إلى دمشق وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثم أنّ إسمند صاحب أنطاكية سار إلى حصن القدموس وملكه والله تعالى يؤيد من يشاء. هزيمة صاحب طرابلس ثم اجتمع سنة سبع وعشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له ثم كرّوا عليه فهزموه ونالوا منه ونجا إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 قلعة بقوين [1] فتحصن بها وحاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه ونجا إلى طرابلس واستصرخ الإفرنج من كل ناحية وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة ثم تحيزوا إلى أرمينية وتعذر على التركمان أتباعهم فرجعوا عنهم انتهى. فتح صاحب دمشق بانياس كان بوري بن طغركين صاحب دمشق لما توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة وولي مكانه ابنه شمس الملوك إسماعيل فاستضعفه الإفرنج وتعرّضوا لنقض الهدنة ودخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم وراسلهم شمس الملوك في ردّها عليهم فلم يفعلوا فتجهز وسار إلى بانياس في صفر سنة سبع وعشرين فنازلها وشدّد حصارها ونقب المسلمون سورها وملكوها عنوة واستلحموا [2] الإفرنج بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين وكان الإفرنج قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا. استيلاء شمس الملوك على الشقيف ثم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت وهو في الجبل المطلّ على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم وهو ممتنع به وقد تحاماه المسلمون والإفرنج وهو يحتمي من كل منهما بالآخر فسار إليه شمس الملوك وملكه في المحرّم سنة ثمان وعشرين وعظم ذلك على الإفرنج وخافوا شمس الملوك فساروا إلى بلد حوران وعاثوا في جهاتها ونهض شمس الملوك ببعض عساكره وجمر الباقي قبالة الإفرنج وقصد طبرية والناصرة وعكا فاكتسح نواحيها وجاء الخبر إلى الإفرنج فاجفلوا إلى بلادهم وعظم عليهم خرابها وراسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجدّدها لهم انتهى والله أعلم. استيلاء الإفرنج على جزيرة جربة من إفريقية كانت جزيرة جربة من أعمال إفريقية ما بين طرابلس وقابس وكان أهلها من قبائل البربر قد   [1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 7 ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا عن التركمان. [2] استلحم الرجل: نشب في الحرب فلم يجد مخلصا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 استبدّوا بجزيرتهم عند ما دخل العرب الهلاليون إفريقية ومزقوا ملك صنهاجة بها وقارن ذلك استفحال ملك الإفرنج برومة وما اليها من البلاد الشمالية وتطاولوا إلى ملك بلاد المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم وأقماصهم إلى الشام فملكوا مدنه وحصونه كما ذكرناه آنفا وكان من ملوكهم القمص رجار بن نيغر بن خميرة وكان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلّيّة ولما ضعف أمر المسلمين بها وانقرضت دولة بني أبي الحسين الكلبي منها سما رجار هذا إلى ملكها وأغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في الأسطول في سبيل التضريب بينهم ثم ملكها من أيديهم معقلا معقلا إلى أن كان آخرها فتخاطر إبنّة وما زرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار بها فملكها من يده صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة وانقطعت كلمة الإسلام بها ثم مات رجار سنة أربع وتسعين فولي ابنه رجار مكانه وطالت أيامه واستفحل ملكه وذلك عند ما هبت ريح الإفرنج بالشام وجاسوا خلالها وصاروا يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين وكان رجار يتعاهد سواحل إفريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث وخمسين أسطول صقلّيّة إلى جزيرة جربة وقد تقلص عنها ظلّ الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها واشتدّ القتال ثم اقتحموا الجزيرة عليهم عنوة وغنموا وسبوا واستأمن الباقون وأقرّهم الإفرنج في جزيرتهم على جزية وملكوا عليهم أمرهم والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. فتح صاحب دمشق بعض حصون الإفرنج ثم بعث شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق عساكره مع الأمير خزواش سنة إحدى وثلاثين إلى طرابلس الشام ومعه جمع كثير من التركمان والمتطوعة وسار إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه وهزموه وأثخنوا في عساكره وأحجزه بطرابلس وعاثوا في أعماله وفتحوا حصن وادي ابن الأحمر من حصونه عنوة واستباحوه واستلحموا من فيه من الإفرنج ثم سار الإفرنج سنة خمس وثلاثين الى عسقلان [1] وأغاروا في نواحيها وخرج إليهم عسكر مصر الذين بها فهزموا الإفرنج وظفروا بهم وعادوا منهزمين وكفى الله شرهم بمنه وكرمه.   [1] عسقلان: مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين ويقال لها عروس الشام. وقد نزلها جماعة من الصحابة والتابعين وحدث بها خلق كثير. ولم تزل عامرة إلى أن استولى عليها الإفرنج. (معجم البلدان) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 استيلاء الإفرنج على طرابلس الغرب كان أهل طرابلس الغرب لما انحلّ نظام الدولة الصنهاجية بإفريقية وتقلص ظلها عنهم قد استبدّوا بأنفسهم وكان بالمهدية آخر الملوك من بني باديس وهو الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز فاستبدّ لعهده في طرابلس أبو يحيى بن مطروح ورفضوا دعوة الحسن وقومه وذلك عند ما تكالب الإفرنج على الجهات فطمع رجار في ملكها وبعث أسطوله في البحر فنازلها آخر سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فنقبوا سورها واستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم وخرجوا إلى الإفرنج فهزموهم وغنموا أسلحتهم ودوابهم ورجع الإفرنج إلى صقلّيّة فتجهزوا إلى المغرب وطرقوا جيجيل من سواحل بجاية وهرب أهلها الى الجبل ودخلوها فنهبوها وخربوا القصر الّذي بناه يحيى بن العزيز بن حماد ويسمى النزهة ورجعوا إلى بلادهم ثم بعث رجار أسطوله إلى طرابلس سنة إحدى وأربعين فأرسى عليها ونزل المقاتلة وأحاطوا بها برا وبحرا وقاتلوها ثلاثا وكان أهل البلد قد اختلفوا قبل وصول الإفرنج وأخرجوا بني مطروح وولوا عليهم رجلا من أمراء لمتونة قام حاجا في قومه فولوه أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الإفرنج اجتمعت شيعة بني مطروح وأدخلوهم للبلد ووقع بينهم القتال فلما شعر الإفرنج بأمرهم بادروا إلى الأسوار فنصبوا عليها السلالم وتسنموها وفتحوا البلد عنوة وأفحشوا في القتل والسبي والنهب ونجا كثير من أهلها إلى البربر والعرب في نواحيها ثم رفعوا السيف ونادوا بالأمان فتراجع المسلمون إلى البلد وأقروهم على الجزية وأقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها وفنادقها وولوا عليها ابن مطروح وأخذوا رهنه على الطاعة ونادوا في صقلّيّة بالمسير إلى طرابلس فسار إليها الناس وحسنت عمارتها. استيلاء الإفرنج على المهدية كانت قابس عند ما اختلّ نظام الدولة الصنهاجية واستبدّ بها [1] ابن كامل بن جامع من قبائل رياح إحدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجرائي وزير المستنصر بمصر على المعز بن باديس وقومه فأضرعوا الدولة وأفسدوا نظامها وملكوا بعض أعمالها واستبدّ آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس هذه في قسمة بني دهمان هؤلاء وكان لهذا العهد   [1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر على اسمه في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 رشيد أميرا بها كما ذكرنا ذلك في أخبار الدولة الصنهاجية من أخبار البربر وتوفي رشيد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ونصب مولاه يوسف ابنه الصغير محمد بن رشيد وأخرج ابنه الكبير معمرا واستبد على محمد وتعرض لحرمة سرّا وكان فيهن امرأة رشيد وساروا إلى التمحض بصاحب المهدية يشكون فعله وكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه وتهدّده بإدخال الإفرنج إلى قابس فجهز إليه العساكر وبعث يوسف إلى رجار صاحب طرابلس بطاعته وأن يوليه على قابس كما ولي ابن مطروح على طرابلس وشعر أهل البلد بمداخلته للإفرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم وتحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة وأخذ يوسف أسيرا وملك معمر قابس مكان أخيه محمد وامتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك وأخذ بنو قرة أختهم ولحق عيسى أخو يوسف وولد يوسف برجار صاحب صقلّيّة واستجاروا به وكان الغلاء قد اشتدّ بإفريقية سنة سبع وثلاثين ولحق أكثر أهلها بصقلية وأكل بعضهم بعضا وكثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة ونقض الصلح الّذي كان بينه وبين الحسن بن علي صاحب المهدية [1] لسنين وجهز أسطوله مائتين وخمسين من الشواني وشحنها بالمقاتلة والسلاح ومقدّم الأسطول جرجي بن ميخاييل أصله من المنتصرة وقد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة والموحدين فقصد قوصرة وصادف بها مركبا من المهدية فغنمه ووجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الإفرنج أقلع إلى القسطنطينية ثم أقلع فأصبح قريبا من المرسي في ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين وقد بعث الله الريح فعاقتهم عن دخول المرسي ففاته غرضه وكتب إلى الحسن بأنه باق على الصلح وإنما جاء طالبا بثأر محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع الحسن الناس واستشارهم فأشاروا بالقتال فخام عنه واعتذر بقلة الأقوات وارتحل من البلد وقد حمل ما خف حمله وخرج الناس بأهاليهم وما خف من أموالهم واختفى كثير من المسلمين في الكنائس ثم ساعد الريح أسطول الإفرنج ووصلوا إلى المرسي ونزلوا إلى البلد من غير مدافع ودخل جرجي القصر فوجده على حاله مملوءا بالذخائر النفسية التي يعز وجود مثلها وبعث بالأمان إلى كلّ من شرد من أهلها فرجعوا وأقرّهم على الجزية وسار الحسن بأهله وولده إلى المعلقة وبها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين ولقيه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال انكسر له في ديوانه فأخذ ابنه يحيى رهينة به ولما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه وبرّ مقدمه جزاء بما كان يؤثره على العرب ويرفع محله وأقام عنده شهرا ثم عزم على المسير إلى مصر وبها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجي الشواني في البحر   [1] المهدية: مدينة بإفريقية منسوبة إلى المهدي، وبينها وبين القيروان مرحلتان والقيروان في جنوبيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 فرجع عن ذلك واعتزم على قصد عبد المؤمن من ملوك الموحدين بالمغرب وفي طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بني عمه حماد فأرسل إليه أبناءه يحيى وتميما وعليا يستأذنه في الوصول فأذن له وبعث إليه من أوصله إلى جزائر بني مذغنة ووكل به وبولده حتى ملك عبد المؤمن بجاية سنة أربع وأربعين وخبرهم مشروع هنالك ثم جهز جرجي أسطولا آخر إلى صفاقس وجاء العرب لإنجادهم فلما توافوا للقتال استطرد لهم الإفرنج غير بعيد فهزموهم ومضى العرب عنهم وملك الإفرنج المدينة عنوة ثالث عشري صفر وفتكوا فيها ثم أمنوهم وفادوا وأسراهم وأقروهم على الجزية وكذا أهل سوسة [1] وكتب رجار صاحب صقلّيّة إلى أهل سواحل إفريقية بالأمان والمواعد ثم سار جرجي إلى إقليبية من سواحل تونس واجتمع إليها العرب فقاتلوا الإفرنج وهزموهم ورجعوا خائبين إلى المهدية وحدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلّيّة وبين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل رجار بها عن إفريقة وكان متولي كبرها جرجي بن ميخاييل صاحب المهدية ثم مات سنة ست وأربعين فسكنت تلك الفتنة ولم يقم لرجار بعده أحد مقامه والله تعالى أعلم [2] .   [1] سوسة بلد بالمغرب، وهي مدينة عظيمة بها قوم لونهم لون الحنطة يضرب إلى الصفرة. [2] تلاحظ ولا شك عدم الانسجام في سرد الحوادث، لذلك نقلنا ما كتبه ابن الأثير عن هذه الحادثة بالنص الكامل ليتمكن القارئ أن يتوصل إلى الحقائق التاريخية بعد المقارنة. عن كتاب الكامل ج 11 ص 125: (ذكر ملك الإفرنج مدينة المهدية بإفريقية) قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل يوسف صاحب قابس إلى رجار ملك صقلّيّة واستغاثتهم به فغضب لذلك، وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم ابن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية صلح وعهود إلى مدة سنتين، وعلم أنه فاته فتح البلاد في هذه الشدة التي أصابتهم، وكانت الشدة ودوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة. وكان أشد ذلك منه سنة اثنتين وأربعين، فإن الناس فارقوا البلاد والقرى، ودخل أكثرهم إلى مدينة صقلّيّة وأكل الناس بعضهم بعضا وكثر الموت في الناس فاغتنم رجار هذه السنة فعمر الأسطول وأكثر منه فبلغ نحو مائتين وخمسين شينيا مملوءة رجالا وسلاحا وقوتا. وسار الأسطول عن صقلّيّة ووصل إلى جزيرة قوصرة وهي ما بين المهدية وصقلّيّة فصدفوا بها مركبا ووصل من المهدية فأخذ أهله وأحضروا بين يدي جرجي مقدّم الأسطول فسألهم عن حال إفريقيا. ووجد في المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها فحلفوا باللَّه أنهم لم يرسلوا شيئا فأمر الرجل الّذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه أننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلّيّة فسألناهم عن الأسطول المخذول فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية. وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية فسر الأمير الحسن والناس، وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة. ثم سار وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل ان يخرج أهلها، فلو تم له ذلك لم يسلم منهم أحد، فقدر الله تعالى ان أرسل عليهم ريحا هائلا فلم يقدروا على السير إلا بالمقاذيف، فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم فرآهم الناس. فلما رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته أرسل إلى الأمير الحسن يقول إنما جئت بهذا الأسطول طالبا بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها. أما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة ونريد منك عسكرا يكون معنا فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم فقالوا نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برا وبحرا ويحول بيننا وبين الميرة وليس عندنا ما يقوتنا شهرا فتؤخذ قهرا. وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 استيلاء الإفرنج على بونة ووفاة رجار صاحب صقلّيّة وملك ابنه غليالم ثم سار أسطول رجار من صقلّيّة سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة وقائد الأسطول بها وقتات المهدوي فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها واستباحها وأغضى عن جماعة من أهل   [ () ] خيرا من الملك وقد طلب مني عسكرا إلى قابس فإن فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين، وإن امتنعت يقول انتقض ما بيننا من الصلح وليس الا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس بقتاله لنا طاقة والرأي أن نخرج بالأهل والولد وننزل عن البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا. وأمر في الحال بالرحيل وأخذ معه من حضره وما خف حمله وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد فوصل الفرنج ودخلوا البلد بغير مانع ولا دافع، ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيء غريب يقل وجوده مثله فختم عليه وجمع سراري الحسن من قصره. وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك ومدة ولايتهم مائة وثمانين سنة من إحدى وستين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة فأخذ لنفسه وأهله منه أمانا فلم يخرج معهم. ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ونودي بالأمان فخرج من كان مستخفيا وأصبح جرجي من الغد فأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا إليه فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة وأرسل من جند المهدية الذين تخلفوا بها جماعة ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك والجوع، ولهم بالمهدية خبايا وودائع، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا فلم يمض غير جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد. وأما الحسن فأنه سار بأهله وأولاده وكانوا اثني عشر ولدا ذكرا غير الإناث وخواص خدمه قاصرا إلى محرز بن زياد وهو بالمعلقة فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب، فطلب منه مالا انكسر له في ديوانه فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ فسلم إليه ولده يحيى رهينة، وسار فوصل في اليوم الثاني إلى محرز، وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه ووصله بكثير من المال فلقيه محرز لقاء جميلا وتوجع لما حل به فأقام عنده شهورا، والحسن كاره للإقامة فأراد المسير الى ديار مصر الى الخليفة الحافظ العلويّ واشترى مركبا السفرة فسمع جرجي الفرنجي فجهز شواني ليأخذه فعاد عن ذلك، وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب فأرسل كبار أولاد يحيى وتميما وعليا إلى يحيى بن عبد العزيز وهو من بني حماد وهما أولاد عم يستأذنه في الوصول إليه وتجديد العهد به والمسير من عنده إلى عبد المؤمن فأذن له يحيى فسار إليه، فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغنان هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين فحضر عنده، وقد ذكرنا حاله هناك. ولما استقر جرجي بالمهدية سير أسطولا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس وسير أسطولا آخر إلى مدينة سوسة، فأما سوسة فان أهلها لما سمعوا خبر المهدية وكان واليها علي بن الحسن الأمير فخرج إلى أبيه وخرج الناس لخروجه فدخلها الفرنج بلا قتال في 12 صفر. أما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب فامتنعوا بهم فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى القرى وأقام بها عشرا ورجع إلى المهدية ثم إلى صقلّيّة فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه ثم اتهم في دينه فاجتمع الأساقفة والقسوس وأحرقوه ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولى ابنه غليالم مكانه وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقياني فأساء التدبير واختلف عليه حصون من صقلّيّة وبلاد قلورية [1] وتعدّى الأمراء على إفريقية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم [2] .   [ () ] البلد وقوم إلى البرية وقتل منهم جماعة ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسر من بقي من الرجال وسبى الحريم وذلك في الثالث والعشرين من صفر، ثم نودي بالأمان فعاد أهلها إليها وأفتكوا حرمهم وأولادهم ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة. ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية وهي قلعة حصينة فلما وصل إليها سمعته العرب فاجتمعوا إليها، ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهدية، وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان والله أعلم. [1] قلوّرية: جزيرة في شرقي صقلّيّة وأهلها إفرنج، ولها مدن كثيرة وبلاد واسعة (معجم البلدان) . [2] ذكرت هذه الحادثة هنا مقتضية، وفي الكامل ج 11 ص 203 (ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم) قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجّار ملك صقلّيّة وملك ولده غليالم وأنه كان فاسد التدبير فخرج عن حكمه عدة من حصون صقلّيّة، فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنّة وأظهروا الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفريابي بمدينة سفاقس. وكان رجار قد استعمل عليها لما فتحها أباه أبا الحسين وكان من العلماء الصالحين فأظهر العجز والضعف وقال استعمل ولدي فاستعمله وأخذ أباه رهينة إلى صقلّيّة. فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر إنني كبير السن وقد قارب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فأفعل ولا تراقبهم ولا تنظر في أنني أقتل وأحسب أني قدمت، فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال: يطلع جماعة منكم إلى السور وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم ويقتلونهم كلهم فقالوا له: إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه، قال هو أمرني بهذا، وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات، فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ثم أتبعه يحيى بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونه فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة. وأرسل عمر بن أبي الحسين إلى زويلة وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان يحرضهم على الوثوب على من معهم من النصارى، ففعلوا ذلك وقدم عرب البلاد إلى زويلة فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج وقطعوا الميرة عن المهدية، فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلّيّة أحضر أبا الحسين وعرفه ما عمل ابنه فأمره أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك ويأمره بالعود إلى طاعته ويخوفه عاقبة فعله، فقال: من قدم على هذا يرجع بكتاب. فأرسل إليه ملك صقلّيّة رسولا يتهدده ويأمره بترك ما ارتكبه فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلما كان الغد خرج إلى الرسول يقول له هذا أبي قد دفنته وقد جلست للعزاء به فاصنعوا به ما أردتم، فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين فأخذ أباه وصلبه فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات. وأما زويلة فأنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم فحصروا المهدية وضيقوا عليها وكانت الأقوات بالمهدية قليلة فسير إليهم صاحب صقلّيّة عشرين شينيا فيها الرجال والطعام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 استيلاء الإفرنج على عسقلان كانت عسقلان في طاعة الظافر العلويّ ومن جملة ممالكه وكان الإفرنج يتعاهدونها بالحصار مرّة بعد مرّة وكان الوزراء يمدّونها بالأموال والرجال والأسلحة وكان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما قتل ابن السلار سنة ثمان وأربعين اضطرب الحال بمصر حتى ولي عباس الوزارة فسار الإفرنج خلال ذلك من بلادهم بالشام وحاصروا عسقلان وامتنعت عليهم ثم اختلف أهل البلد وآل أمرهم إلى القتال فاغتنم الإفرنج الفرصة وملكوا البلد وعاثوا فيها والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده [1] . ثورة المسلمين بسواحل إفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها قد تقدّم لنا وفاة رجار وملك ابنه غليالم وإنه ساء تدبير وزيره فاختلف عليه الناس وبلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بإفريقية وكان رجار قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس   [ () ] والسلاح فدخلوا البلد وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالا لينهزموا، وخرجوا من الغد فاقتتلوا هم وأهل زويلة فانهزمت العرب وبقي أهل زويلة وأهل سفاقس وركبوا في البحر فخرجوا. وبقي أهل زويلة فحمل عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت السور وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا. ومضى بعضهم إلى عبد المؤمن. فلما قتلوا هرب من سلم من الحرم والصبيان والشيوخ في البر ولم يعرّجوا على شيء من أموالهم. ودخل الفرنج زويلة فقتلوا من وجدوا فيها من النساء والأطفال ونهبوا الأموال واستقر الفرنج بالمهدية إلى أن أخذها منهم عبد المؤمن. [1] كذلك ذكرت هذه الحادثة هنا مقتضية وفي الكامل ج 11 ص 188: (ذكر ملك الفرنج مدينة عسقلان) في هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان، وكانت من جملة مملكة الظافر باللَّه العلويّ المصري وكان الفرنج كل سنة يقصدونها ويحصرونها فلا يحدون إلى ملكها سبيلا. وكان الوزراء بمصر لهم الحكم في البلاد، والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته. وكان الوزراء كل سنة يرسلون إليها من الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها. فلما كان في هذه السنة قتل ابن السلار على ما ذكرناه واختلفت الأهواء في مصر وولي عباس الوزارة وإلى أن استقرت قاعدة اغتنم الفرنج اشتغالهم عن عسقلان فاجتمعوا وحصورها فصبر أهلها وقاتلوهم قتالا شديدا، حتى أنهم بعض الأيام قاتلوا خارج السور وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين. وتبعهم أهل البلد إليها فأيس حينئذ من ملكه فبينا هم على عزم الرحيل إذ قد أتاهم الخبر أن البلد قد وقع بين أهله خلاف، وقتل منهم قتلى فصبروا. وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين ادعى كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت وأنهم الذين ردوا الفرنج خاسرين فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب وعظم حينئذ وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى فطمع الفرنج وزحفوا إليه وقاتلوا عليه فلم يحدوا من يمنعهم فملكوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 لما تغلب عليها أبو الحسين الفرياني منهم وكان من أهل العلم والدين ثم عجز عن ذلك وطلب ولاية ابنه عمر فولاه رجار وحمل أبا الحسين إلى صقلّيّة رهينة وأوصى ابنه عمرو قال يا بني أنا كبير السنّ وقد قرب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في إنقاذ المسلمين من ملكة العدوّ فأفعل ولا تخش عليّ وأحسبني قدمت فلما اختلّ أمر غليالم دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالإفرنج فثاروا بهم وقتلوهم سنة إحدى وخمسين وأتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس ومحمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وذهب حكم الإفرنج عن إفريقية ما عدا المهدية وسوسة وأرسل عمر الفرياني إلى زويلة [1] قريبا من المهدية يغريهم بالوثوب على الإفرنج الذين معهم فوثبوا وأعانهم أهل ضاحيتهم وقاتلوا الإفرنج بالمهدية وقطعوا الميرة عنهم وبلغ الخبر إلى غليالم فبعث إلى عمر الفرياني بصفاقس وأعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة ودفنها وقال هذا قد دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين ومات شهيدا رحمه الله تعالى وسار أهل صفاقس والعرب إلى زويلة واجتمعوا مع أهلها على حصار المهدية وأمدّهم غليالم بالأقوات والأسلحة وصانعوا العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب وركب أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضا وأتبعهم الإفرنج فعاجلوهم عن زويلة وقتلوهم ثم اقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها واستباحوهم. ارتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الإفرنج ولما وقع بأهل زويلة من الإفرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب يستصرخونه فأجاب صريخهم ووعدهم وأقاموا في نزله وكرامته وتجهز للمسير وتقدّم إلى ولاته وعماله بتحصيل الغلات وحفر الآبار ثم سار في صفر سنة اربع وخمسين في مائة ألف مقاتل وفي مقدّمته الحسن بن عليّ صاحب المهدية ونازل تونس منتصف السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة صنهاجة وجاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر ثم نزل إليه من سورها عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لأهل البلد ولأنفسهم فأمنهم على مقاسمتهم في أموالهم وعلى أن يخرج إليه ابن خراسان فتمّ ذلك كله وسار عنها إلى المهدية وأسطوله محاذية في البحر فوصلها منتصف رجب من السنة وبها أولاد الملوك والزعماء من الإفرنج وقد أخلوا   [1] زويلة: ورد في معجم البلدان: بهذا الاسم بلدان أحدها زويلة السودان مقابل أجدابية في البر بين بلاد السودان وإفريقية، والأخرى زويلة المهدية وهي مدينة بإفريقية بناها المهدي عبيد الله، وهي المذكورة هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 زويلة وهي على غلوة من المهدية فعمرها عبد المؤمن لوقتها وامتلأ فضاء المهدية بالعساكر وحاصرها أياما وضاق موضع القتال من البرّ لاستدارة البحر عليها لأنها صورة يد في البحر وذراعها في البرّ وآحاط الأسطول بها في البحر وركب عبد المؤمن البحر في الشواني [1] ومعه الحسن بن عليّ فرأى حصانتها في البحر وأخذ في المطاولة وجمع الأقوات حتى كانت في ساحة معسكره كالتلال وبعث إليه أهل صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة بطاعتهم وبعث عسكر إلى قابس فملكها عنوة وبعث ابنه عبد الله ففتح كثيرا من البلاد ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند صاحب قفصة [2] في جماعة من أعيانها فبذل طاعته ووصله عبد المؤمن بألف دينار ولما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلّيّة في مائة وخمسين من الشواني غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها وبعث إليه صاحب صقلّيّة بقصد المهدية فلما أشرفوا على المرسي قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن ووقف عسكره على جانب البرّ وعبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب ويجأر بالدعاء فانهزم أسطول الإفرنج وأقلعوا إلى بلادهم وعاد اسطول المسلمين ظافرا وأيس أهل المهدية من الأنجاد ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم الحصار ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الإسلام فأبوا ولم يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم وأعطاهم السفن فركبوا فيها وكان فصل شتاء فمال عليهم البحر وغرقوا ولم يفلت منهم إلى الأقل ودخل عبد المؤمن المهدية في محرّم سنة خمس وخمسين لثنتي عشرة سنة من ملك الإفرنج وأقام بها عشرين يوما فأصلح أمورها وشحنها بالحامية والأقوات واستعمل عليها بعض أصحابه وأنزل معه الحسن بن علي وأقطعه بأرضها له ولأولاده وأمر الوالي أن يقتدي برأيه ورجع إلى المغرب والله أعلم. حصار الإفرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس كان أسد الدين شيركوه بن شادي عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل سنة تسع وخمسمائة منجدا لشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعة الضرغام كما سيأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى وسار نور الدين من دمشق في عساكره إلى بلاد الإفرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه وخرج ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين   [1] الشواني: جمع شونة وهو المركب المعد للقتال في البحر. [2] قفصة: اسم عجمي، وهو اسم بلدة صغيرة في طرف إفريقيا من ناحية المغرب، مختطة في أرض سبخة لا تنبت إلّا الأشنان والشيح (معجم البلدان) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 على تنيس [1] وأتبعه إلى القاهرة ونزلها منتصف السنة وأعاد شاور إلى الوزارة ونقض ما بينه وبين أسد الدين وتأخر إلى تنيس وخشي منه ودس إلى الإفرنج يغريهم به وبذل لهم المال فطمعوا بذلك في ملك الديار المصرية وسار ملك القدس في عساكر الإفرنج واجتمعت معه عساكر المسلمين وساروا إلى أسد الدين فحاصروه في بلبيس [2] ثلاثة ولم يظفروا منه بشيء ثم جاءهم الخبر بأنّ نور الدين العادل هزم أصحابهم على خارد وفتحها ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم وطلبوا الصلح من أسد الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك وخرج من بلبيس سائرا إلى الشام ثم عاد إلى مصر سنة ثنتين وستين وعبر النيل من أطفج ونزل الجزيرة واستمدّ شاور الإفرنج فساروا إليه بجموعهم وكان أسد الدين قد سار إلى الصعيد وانتهى إلى [3] فسار الإفرنج والعساكر المصرية في أثره فأدركوه منتصف السنة واستشار أصحابه فاتفقوا على القتال وأدركته عساكر الإفرنج ومصر وهو على تعبيته وقد أقام مقامه في القلب راشد حذرا من حملة الإفرنج وانحاز فيمن يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الإفرنج على القلب فهزموهم وأتبعوهم وخالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم وأثخن فيهم ورجع الإفرنج من أثناء القلب فانهزموا وانهزم أصحابهم ولحقوا بمصر ولحق أسد الدين بالإسكندرية فملكها صلحا وأنزل بها صلاح الدين ابن أخيه وحاصرته عساكر الإفرنج ومصر وزحف إليهم عمه أسد الدين من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها إياه ولا يقيم في البلد أحد من الإفرنج ولا يملكون منها شيئا فقبلوا ذلك وعادوا إلى الشام وملك أهل مصر الإسكندرية واستقر بينهم وبين الإفرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وأن يكون أبوابها في غلقها وفتحها بأيديهم وأن لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة ولم [4] ذلك منه وعاد الإفرنج إلى بلادهم بالسواحل الشامية والله تعالى أعلم [5] .   [1] تنيس: جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ ما بين الفرما ودمياط والفرما في شرقيها (معجم البلدان) . [2] بلبيس: مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام (معجم البلدان) . [3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 325: وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين. [4] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: هذا كله استقر مع شاور، فإن العاضد لم يكن معه حكم، لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها. [5] عبارات غير مرتبطة مع بعضها البعض وقد وردت هذه الحادثة في الكامل ج 11 ص 298 بعنوان: (ذكر مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى ديار مصر وعودهم عنها) في هذه السنة في جمادى الأول سير نور الدين محمود بن زنكي عسكرا كثيرا إلى مصر وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي وهو مقدم عسكره وأكبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 حصار الإفرنج القاهرة ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر وقتله شاور سنة أربع وستين باستدعاء العاضد لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين وأرسل إلى الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة   [ () ] أمراء دولته وأشجعهم. وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلويّ صاحب مصر نازعه في الوزارة ضرغام وغلب عليها فهرب شاور منه إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا به فأكرم مثواه وأحسن إليه وأنعم عليه. وكان وصوله في ربيع الأول من السنة، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون شيركوه مقيما بعساكر في مصر ويتصرف هو بأمر نور الدين، يقدم إلى هذا الفرض رجلا ويؤخر أخرى، فتارة يحمله رعاية قصد شاور بابه وطلب الزيادة في الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق وان الفرنج فيه، وتخوف إن شاور أن استقرت قاعدته ربما لا يفي، ثم قوي عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزاحة عللها وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة. فتجهز وساروا جميعا وشاور في صحبتهم في جمادى الأول من سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم ممن نازعه فيه وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعريض لأسد الدين ومن معه فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين. ووصل أسد الدين والعساكر معه إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم، وعاد الى القاهرة، ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين. ثم حمل ودفن في القرافة وقتل أخوه فارس المسلمين وخلع على شاور مستهل رجب وأعيد إلى الوزارة وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاور، وعاد عما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين أيضا، وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام فأعاد الجواب بالامتناع وطلب ما كان قد استقر بينهم فلم يجبه شاور إليه. فلما رأى ذلك أرسل إلى نوابه فتسلموا مدينة بلبيس وحكم على البلاد الشرقية فأرسل شاور إلى الإفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين ان ملك مصر. وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها، فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته، وطمعوا في تلك الديار المصرية. وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه وتجهزوا وساروا. فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن السير فلم يمنعهم ذلك لعلهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد، فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر. وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس فاستعان بهم الفرنج الساحلية فأعانوهم، فسار بعضهم معهم وأقام بعضهم في البلاد لحفظها فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهرا يتحصن فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس وحصروه بها ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدا وليس لها خندق ولا فصل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا ولا نالوا منه شيئا فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم. حينئذ سقط في أيديهم وأرادوا العودة إلى بلادهم ليحفظوها فراسلوا أسد الدين في الصلح والعود إلى الشام ومفارقة مصر وتسليم ما بيده منها إلى المصريين، فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج ولأن الأقوات والذخائر قلت عليه. وخرج من بلبيس في ذي الحجة فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال: أخرج أصحابه بين يديه وبقي في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم وملك الإفرنج يومئذ بالشام مري ولم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأيا فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها وأن ملكها قبلنا احتاج إلى مصانعتنا [1] فأبوا عليه وقالوا إنما نزداد بها قوّة فرجع إلى رأيهم وساروا جميعا إلى مصر وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع وستين فملكوها عنوة واستباحوها ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر شاور بإحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة ونهب أموال أهلها وبغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدّة شهرين وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتدّ عليه الحصار وبعث شاور إلى ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف دينار مصرية ويهدّده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريبا حتى يصل إليهم بقية المال وعجز عن تحصيله والإفرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شير كوه في عسكر يقيمون عندهم على أنّ لنور الدين ثلث بلاد مصر ولأسد الدين إقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص وكانت إقطاعه وأمره بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن وما يحتاج إليه وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده وأعانهم أسد الدين بعشرين دينارا لكل فارس وبعث معه جماعة من الأمراء منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج وشرف الدين بن بخش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين نيال بن حسان وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب وسار إلى مصر فلما قاربها ارتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم ودخل هو إليها منتصف السنة وخلع عليه العاضد [2] وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات الوافرة ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين   [ () ] آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرون إليه. قال: فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية، فقال شيركوه يا ليتهم فعلوه حتى كنت ترى ما افعله، كنت والله أضع السيف فلا يقتل منها رجل حتى يقتل منهم رجال، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفني شجعانهم فنملك بلادهم ونهلك من بقي. والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم ولكنهم امتنعوا، فصلب على وجهه وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم، ثم رجع عنه وسار شيركوه إلى الشام فوصل سالما وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصدا ليأخذوه أو ينالوا منه ظفرا فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق ففيه يقول عمارة: أخذتم عن الإفرنج كل ثنية ... وقلت لأيدي الخيل مرّي على (مري) لئن نصبوا في البر جسر فإنكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر. وكلمة (مري) اسم ملك الفرنج. [1] صانعه: داهنه، وأراه، رشاه. ومنه المثل: من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة. [2] خلع عليه ثوبا: ألبسه إياه منحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 بما وقع اتفاقهم معه عليه وحدّث نفسه بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الإفرنج ولم يتمّ له ذلك وشعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خرديك مولاه عند قبر الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وقتلاه وفوّض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين وتقاصر الإفرنج عنها ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في أخبار دولته والله أعلم [1] .   [1] ذكرت هذه الحادثة في الكامل ج 11 ص 335 بعنوان. (ذكر ملك أسد الدين مصر ومقتل شاور) في هذه السنة في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى مصر فملكها ومعه العساكر النورية وسبب ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج من البلاد المصرية وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم. فلما رأوا ذلك وأن البلاد ليس فيها من يردهم أرسلوا إلى ملك الفرنج بالشام وهو (مري) ولم يكن للفرنج من ظهر بالشام مثله شجاعة ومكر أو دهاء يستدعونه ليملكها وأعلموه خلّوها من موانع وهونوا أمرها عليه فلم يجبهم فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذو الرأي منهم فأشاروا عليه بقصدها وتملكها فقال لهم: الرأي عندي أننا لا نقصدها ولا طمعة لنا فيها وأموالها تساق إلينا نتقوى بها على نور الدين، وان نحن قصدناها لنملكها فإن صاحبها وعساكره وعامه بلاده وفلاحيها لا يسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين، ولئن صار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من ارض الشام فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: إنها لا مانع فيها ولا حامي وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين ويسير إليها نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص. فلما سمع نور الدين شرع أيضا بجمع عساكره وأمرهم بالقدوم عليه، وجدّ الفرنج في السير إلى مصر فقدموها ونازلوا مدينة بلبيس وملكوها قهرا مستهل صفر ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور بن الخياط وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع فحفظوا البلد وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه. فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس ملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ذلك أي ما فعلوا (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد فانتقلوا وبقوا على الطرق ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم خوفا أن يملكها الفرنج فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج فشرع في تسيير الجيوش. وأما الفرنج فإنّهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال فضاق به الأمر وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحليلة فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودة ومحبة له قديما، وإن هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه ويشير بالصلح وأخذ مالا لئلا يتسلم البلاد نور الدين فأجابه الى ذلك على ان يعطوه ألف ألف دينار مصرية يعمل البعض ويمهل بالبعض فاستقرت القاعدة على ذلك، ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليه وربما سلمت إلى نور الدين فأجابوا كارهين وقالوا نأخذ المال فنتقوى به وتعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) فعجل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال فرحلوا قريبا، وجعل شاور يجمع المال من أهل القاهرة ومصر فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما فيها وما سلم نهب وهم لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 حصار الافرنج دمياط ولما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشيه الافرنج على ما بأيديهم من مدن الشام وسواحله وكاتبوا أهل ملتهم ونسبهم بصقلية وافرنسة يستنجدونهم على مصر ليملكوها وبعثوا الأقسة والرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم لحمايتها وواعدوهم بدمياط طمعا في أن يملكوها ويتخذوها ركابا للاستيلاء على مصر فاجتمعوا عليها وحاصروها لأوّل أيام صلاح الدين وأمدّهم صلاح الدين بالعساكر والأموال وجاء بنفسه وبعث الى نور الدين يستنجده ويخوفه على مصر فتابع اليه الامداد وسار بنفسه الى بلاد الافرنج بالشام واكتسحها وخربها   [ () ] يقدرون على الأقوات فضلا عن الأقساط، أما أهل القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم فلهذا تعذرت عليهم الأموال وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث مصر وأن يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر وأقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثلث الّذي لهم. وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه فخرج العاضد في طلبه فلقيه على باب حلب وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه. وكان سبب وصوله أن كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى فسار أيضا إلى نور الدين واجتمع به وعجب نور الدين من حضوره في الحال وسره ذلك وتفاءل به وأمر بالتجهيز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الشباب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى باب دمشق فوصلها سلخ صفر ورحل إلى رأس الماء وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين دينارا معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم مملوكه عز الدين جرديك وغرس الدين قليج شرف الدين برغش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي وصلاح الدين يوسف بن أيوب أخي شيركوه على كره منه (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.) أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه.، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا. وسمع نور الدين بعودهم فسره ذلك وأمر بضرب البشائر في البلاد وبث رسله في الافاق مبشرين بذلك فإنه كان فتحا جديدا لمصر وحفظا لبلاد الشام وغيرها. فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة ودخل إليها واجتمع بالعاضد لدين الله وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وفرح به أهل مصر وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة والإنعامات الوافرة ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال وإقطاع الجند وإفراد ثلث البلاد لنور الدين وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً 4: 120 ثم أنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم يستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج فنهاه ابنه الكامل وقال له: والله لئن عزوت على هذا الأمر لا عرفن شيركوه، فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا. فقال صدقت ولأن نقتل ونحن مسلحون والبلاد إسلامية خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارسا واحدا ويملكون البلاد فترك ما كان عزم عليه. ولما رأى العسكر النوري تطل شاور خافوا شره فاتفق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 فعاد الفرنج الى دمياط بعد حصار خمسين يوما نفس الله عليهم [1] ومن هذه القصة بقية أخبار الافرنج متعلقة بالدولتين دولة بني زنكي بالشام ودولة بني أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم الى أن نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسبما تراه ولم يبق الا استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه هاهنا. استيلاء الافرنج على القسطنطينية كان هؤلاء الافرنج بعد ما ملكوه من بلاد الشام اختلف أحوالهم في الفتنة والمهادنة مع الروم بالقسطنطينية لاستيلائهم على الثغور من بلاد المسلمين التي تجاور الروم التي كانت بأيديهم من قبل وظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرّات ثم غلبوا عليهم آخرا وملكوا القسطنطينية من أيديهم فأقامت في أيديهم مدّة ثم ارتجعها الروم على يد شكري من بطارقتهم وكيفية الخبر عن ذلك أنّ ملوك الروم أصهروا الى ملوك الافرنج وتزوّجوا منهم بنتا لملك الروم فولدت ذكرا خاله الافرنسيس وثب عليه أخوه فانتزع الملك من يده وحبسه ولحق الولد بملك الافرنج خاله مستصرخا به فوصل اليه وقد تجهز الافرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين وكان صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره ان شاء الله تعالى وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دموس البنادقة وهو صاحب الاسطول الّذي ركبوا فيه وكان   [ () ] صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جرديك وغيرهم على قتل شاور فنهاهم أسد الدين فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله، فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته فلم يجده في الخيام وكان قد مضى يزور قبر الشافعيّ رضي الله تعالى عنه فلقيه صلاح الدين وجرديك في جمع من العسكر، وخدموه وأعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعيّ فقال: نمضي إليه فساروا جميعا، فسايره صلاح الدين وجرديك والقوه إلى الأرض عن فرسه فهرب أصحابه عند فأخذه أسيرا فلم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين، فتوكلوا بحفظه وسيروا وأعلموا أسد الدين فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه. وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه رأس شاور وتابع الرسل بذلك فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخرة، ودخل أسد الدين القاهرة فرأى من اجتماع الخلق ما خافهم على نفسه فقال لهم أمير المؤمنين يعني العاضد يأمركم بنهب دار شاور، فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها وقصد هو قصر العاضد فخلع عليه خلع الوزارة ولقب الملك المنصور أمير الجيوش. وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور فلم ير فيها ما يقعد عليه واستقر في الأمر وغلب عليه ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق إليه من أصحابه واقطع البلاد لعساكره. أما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو إخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة. [1] يقال: نفّس فلانا: اي أمهله أو أزال كربه وغمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 شيخا أعمى لا يركب ولا يمشي الا بقائد ومقدّم الفرنسيس ويسمى المركيش والثالث يسمى كبد إقليد [1] وهو أكثرهم عددا فجعل الملك ابن أخته معهم وأوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية ووصلوا اليه في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فخرج عمّ الصبي وقاتلهم واضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلاد فاضطرب العسكر ورجعوا وفتح شيعة الصبيّ باب المدينة وأدخلوا الافرنج وخرج عمه هاربا ونصب الافرنج الصبيّ في الملك وأطلقوا أباه من السجن واستبدّوا بالحكم وصادروا الناس وأخذوا مال البيع وما على الصلبان من الذهب وما على تماثيل المسيح والحواريين وما على الإنجيل فعظم ذلك على الروم ووثبوا بالصبيّ فقتلوه وأخرجوا الافرنج من البلد وذلك منتصف سنة ستمائة وأقام الافرنج بظاهرها محاصرين لهم وبعث الروم صريخا الى صاحب قونية ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان فلم ينهض لذلك وكان بالمدينة متخلفون من الافرنج يناهزون ثلاثين ألفا فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال أصحابهم وأضرموا النار ثانيا فاقتحم الافرنج وأفحشوا في النهب والقتل ونجا كثير من الروم الى الكنائس وأعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم وخرج القسيسون والأساقفة في أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم ثم تنازع الملوك الثلاثة على الملك بها وتقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد فملكها على أن يكون لدموس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش ورودس وغيرهما ويكون لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج ولم يحصل أحد منهم شيئا الا ملك القسطنطينية كبداقليد وتغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة الروم اسمه شكري فلم يزل بيده الى أن مات ثم غلب بعد ذلك على القسطنطينية وملكها من يد الافرنج والله غالب على أمره [2] . الخبر عن دولة بني ارتق وملكهم لماردين وديار بكر ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم كان ارتق بن اكسك ويقال اكست والأوّل أصح كلمة أوّلها همزة ثم كافان الاولى ساكنة بينهما سين من مماليك السلطان ملك شاه بن البارسلان ملك السلجوقية وله مقام محمود في   [1] كذا بالأصل، وهنا أسماء افرنجية محرفة كما هي كذلك محرفة في كتب التاريخ القديمة. وفي الكامل ج 12 ص 191 وكانوا ثلاثة ملوك: دوقس البنادقة وهو صاحب المراكب البحرية، وفي مراكبه ركبوا الى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب تقاد فرسه، والآخر يقال له المركيس وهو مقدم الافرنسيس. والآخر يقال له كند افلنر وهو أكثرهم عددا. [2] وهنا أيضا عدم انسجام في العبارات وتحريف في الأسماء، راجع الكامل ج 12 ص 190- 193. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 دولتهم وكان على حلوان وما اليها من أعمال العراق ولما بعث السلطان ملك شاه عساكره الى حصار الموصل مع فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفه بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم بن قريش فحاصره بآمد ثم داخلة في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه ونجا الى الرقة ثم خشي ارتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار الى حلب طامعا في ملكها فلقيه تتش وهزمه وكان لارتق في تلك الواقعة المقام المحمود ثم سار تتش الى حلب وملكها واستجار مقدمها ابن الحسين بأرتق فأجاره من السلطان تتش ثم هلك ارتق سنة ثلاث وثمانين بالقدس وملكه من بعد ارتق ابناه أبو الغازي وسقمان وكان لهما معه الرها [1] وسروج [2] ولما ملك الافرنج انطاكية سنة احدى وتسعين وأربعمائة اجتمعت الأمراء بالشام والجزيرة وديار بكر [3] وحاصروها وكان لسقمان في ذلك المقام المحمود ثم تخاذلوا وافترقوا وطمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم وسار اليها الملك الأفضل المستولى على دولتهم فحاصرها أربعين يوما وملكها بالأمان وخرج سقمان وأبو الغازي ابنا ارتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج وأحسن اليهم الأفضل وولىّ على بيت المقدس ورجع الى مصر وجاء الافرنج فملكوها كما تقدّم في أخبار الدولة السلجوقية ولحق أبو الغازي بالعراق فولّى شحنة بغداد وسار سقمان الى الرها فأقام بها وكان بينه وبين كربوقا صاحب الموصل فتن وحروب أسر في بعضها ياقوتي ابن أخيه ثم توفي كربوقا سنة خمس وتسعين وولىّ الموصل بعده موسى التركماني وكان نائبا بحصن كيفا فزحف اليه جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وحاصره بالموصل واستنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كيفا [4] فأنجده وسار اليه وأفرج عنه جكرمس وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدرا ورجع سقمان الى حصن كيفا فملكه ثم كانت الفتنة بين أبي الغازي وكمستكين القيصري لما بعثه بركيارق شحنة على بغداد وكان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري من الدخول واستنجد أخاه سقمان فجاء اليه   [1] الرها: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام بينهما اربع فراسخ، سميت باسم الّذي استحدثها وهو الرهاء اليلندي بن مالك بن دعر. [2] سروج: بلدة قريبة من حران من ديار مصر، غلب عياض بن غنم على أرضها ما فتحها صلحا على مثل صلح الرها في سنة 17 في أيام عمر رضي الله عنه. ديار بكر: هي بلاد كبيرة واسعة تنسب الى بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن افصى بن دعمي بن جديله بن [3] أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وحدها ما غرّب من دجلة الى بلاد الجبل المطل على نصيبين الى دجلة وفيه حصن كيفا وآمد وميافارقين. [4] حصن كيفا: ويقال كيبا، وأظنها ارمينية وهي بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 من حصن كيفا في عساكره ونهب تكريت [1] وخرج اليه أبو الغازي واجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الحلة وعاثوا في نواحي بغداد وفتكوا بنفر من أهل البلد وبعث اليهم الخليفة في الصلح على أن يسير القيصري الى واسط [2] فسار اليها ودخل أبو الغازي بغداد ورجع سقمان الى بلده وقد مرّ ذلك في أخبارهم ثم استولى مالك بن بهرام أخى سقمان على عامّة الخرمية سنة سبع وتسعين وكان له مدينة سروج فملكها منه الافرنج وسار الى غانة فملكها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط واستصرخوا بصدقة بن مزيد وارتجعها لهم منه وعاد الى الحلة فعاد مالك فملكها واستقرّت في ملكه ثم اجتمع سقمان وجكرمس صاحب الموصل على جهاد الافرنج سنة سبع وتسعين وهم محاصرون حران [3] فتركوا المنافسة بينهم وقصدوهم وسقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الافرنج وأسروا القمص بردويل صاحب الرها أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمس وأخذوه وافترقوا بسبب ذلك وعادوا الى ما كان بينهم من الفتن والله أعلم. استيلاء سقمان بن ارتق على ماردين كان هذا الحصن ماردين [4] من ديار بكر وأقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده وكان في ولاية الموصل وكان ينجرّ اليه خلق كثير من الأكراد يفسدون السابلة واتفق ان كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد [5] وهي لبعض التركمان فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لانجاده وقاتل كربوقا قتالا شديدا ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق وحبسه بقلعة   [1] تكريت: بلدة مشهورة بين بغداد والموصل ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة وهي غربي دجلة. [2] واسط: واسط في عدة مواضع والمذكورة هنا هي واسط الحجاج وهو الّذي بناها وسميت واسطا لتوسطها بين البصرة والكوفة لان منها والى كل منهما خمسين فرسخا. والحجاج هو الّذي بناها. [3] حرّان: مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة اقور، وهي قصبة ديار مضر، بينها وبين الرها يوم واحد وبين الرقة يومان وهي على طريق الموصل والشام والروم وقيل سميت بهارات اخي إبراهيم عليه السلام، لانه أول من بناها فعرّبت مقيل حرّان، وذكر انها أول مدينة بنيت على الأرض بعد الطوفان. [4] ماردين: قلعة مشهورة على قنّة جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين، وذلك الفضاء الواسع، وقدامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط وخان قاهاث ودورهم فيها كالدرج. ومما لا شك فيه انه ليس في الأرض كلها أحسن من قلعتها ولا أحصن ولا احكم (معجم البلدان) . [5] آمد أعظم مدن ديار بكر وأجلها قدرا واشهرها ذكرا. بلد قديم حصين ركين مبني بالحجارة السود على نشز دجلة محيطة بأكثره مستديرة به كالهلال، وفي وسطه عيون وآبار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 ماردين عند المغنى فبقي محبوسا مدّة طويلة وكثر ضرر الأكراد فبعث ياقوتي الى المغنى صاحب الحصن في أن يطلقه ويقيم عنده بالربض لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي الى خلاط وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة معه فلا يهيجهم ثم حدّثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الاغارة ودنا من القلعة وعرضهم على القتل ان لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها وجمع الجموع وسار الى نصيبين [1] وأغار على جزيرة ابن عمر وهي لجكرمس فكبسه جكرمس وأصحابه في الحرب بينهم فقتله وبكاه جكرمس وكان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت الى أبيها وجمعت التركمان وجاء سقمان بهم الى نصيبين فترك طلب الثار فبعث اليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته ورجع وقدم بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمس وخرج منها لبعض المذاهب وكتب نائبة بها الى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمس فسار اليها سقمان وعوض عليا ابن أخته جبل جور وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا واستضاف اليهما نصيبين والله أعلم. وفاة سقمان بن ارتق وولاية أخيه أبي الغازي مكانه بماردين ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن ارتق على الافرنج وكان استبدّ بها على الخلفاء العلويين أهل مصر ونازلة الافرنج عند ما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ الى سقمان بن ارتق سنة ثمان وتسعين وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبدّ بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الافرنج فأسرع المسير اليه معتزما على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى الى القريتين [2] وندم طغركين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره وقد كان أصحابه عند ما أشفي على الموت أشاروا عليه بالرجوع الى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وان مت كان لي ثواب شهيد فلما مات حمله ابنه إبراهيم الى   [1] نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل الى الشام وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان (معجم البلدان) . [2] القريتين: قرية كبيرة من اعمال حمص في طريق البرية بينها وبين سخنة وأرك وقال ابو حذيفة في فتوح الشام: وسار خالد بن الوليد من تدمر الى القريتين وهي التي تدعى حوّارين. (معجم البلدان) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 حصن كيفا فدفنه بها وكان أبو الغازي بن ارتق شحنة بغداد كما قدّمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين أخيه بركيارق فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون بغداد له وممالك أخرى من الممالك الإسلامية ومن جملتها حلوان وهي أقطاع أبي الغازي فبادر وخطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد وكان من شيعة السلطان محمد فجاء الى بغداد ليزعج [1] أبا الغازي عنها ففارقها الى يعقوب وبعث الى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق ويحكم الصلح في اقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك ومات بركيارق على اثر ذلك فخطب أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما استولى على الأمر عز له عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمس فحاصروها وبعث جكرمس الى رضوان وأغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما ورحلوا مفترقين على نصيبين وسار أبو الغازي الى ماردين وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله تعالى أعلم. اضطراب أبي الغازي في طاعته وأسره ثم خلاصه لما ولى السلطان محمد على الموصل والجزيرة وديار بكر سنة اثنتين وخمسمائة مودود بن افتكين مكان جاولي سكاوو الّذي ملكها من يد جكرمس كما مرّ في أخبارهم فوصل مودود الى الموصل وسار جاولي الى نصيبين وهي يومئذ لابي الغازي وراسله في المظاهرة والانجاد فوصل اليه بماردين على حين غفلة مستنجدا به فلم يسعه الا اسعافه وسار معه الى سنجار والرحبة وحاصرهما وشق عليهما فلما نزل الخابور هرب أبو الغازي راجعا الى نصيبين ثم الى بلده وبقي مضطربا ثم بعث السلطان محمد سنة خمس وخمسمائة الى الأمير مودود بالمسير الى قتال الافرنج وأن يسير الأمراء معه من كل جهة مثل سقمان القطبي صاحب ديار بكر وأحمد بك صاحب مراغة وأبي الهيجاء صاحب اربل وأبي الغازي صاحب ماردين فحضروا كلهم الا أبا الغازي فإنه بعث ولده أياز في عسكر فسارت العساكر الى الرها وحاصروها وامتنعت عليهم ثم ساروا سنة ست وخمسمائة الى سروج كذلك ثم ساروا سنة سبع الى بلاد الافرنج فهزموهم على طبرية ودوّخوا بلادهم وعاد مودود الى دمشق وافترقت العساكر ودخل دمشق ليشتي بها عند طغركين صاحبها فقتل غيلة بها واتهم طغركين في أمره وبعث السلطان مكانه   [1] زعجه وأزعجه: اقلعه وقلعه من مكانه، طرده. أزعجه الى المعصية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 على العساكر والموصل آقسنقر البرسقي وأمره بقصد الافرنج وقتالهم وكتب الى الأمراء بطاعته وبعث ابنه الملك مسعودا في عسكر كثيف ليكونوا معه فسار آقسنقر سنة ثمان وخمسمائة وفرّ أبو الغازي وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه أياز في عسكر فحاصروا الرها وعاثوا في نواحيها ثم سروج وشمشاط وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع فقبض على أياز بن أبي الغازي ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته الى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان وهو بحصن كيفا مستنجدا به فأنجده وساروا الى البرسقي آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه أياز من الأسر وأرسل السلطان الى أبي الغازي يتهدّده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخا وكان طغركين مستوحشا لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد وبعثا بذلك الى صاحب انطاكية فجاء اليهما قرب حمص وتحالفا وعاد الى انطاكية وسار أبو الغازي الى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث الى السلطان بخبره وأبطأ عليه وصول جوابه فيه وجاء طغركين الى حمص فدخل على قيرجان وألحّ عليه بقتل أبي الغازي ثم أطلقه قيرجان وأخذ عليه وسار أبو الغازي الى حلب وبعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الأمراء لقتال أبي الغازي وقتال الافرنج بعده فساروا الى حلب وبها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش كفل ابنه البارسلان بعد موته ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان اليهما في ذلك وبادر أبو الغازي وطغركين فدخلا اليهما فامتنعت عليهما فساروا الى حماة من أعمال طغركين وبها ذخائره ففتحوها عنوة ونهبوها وسلموها الى الأمير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم أياز بن أبي الغازي وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص ساروا الى روجيل صاحب انطاكية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بقدوين صاحب القدس والقمص صاحب طرابلس وغيرهما واتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرّقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة افامية فلم تبرح العساكر مكانها فافترقوا وعاد طغركين الى دمشق وأبو الغازي الى ماردين والافرنج الى بلادهم ثم كان اثر ذلك فتح كفرطاب على المسلمين واعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب انطاكية وقد جاء في خمسمائة فارس مددا للافرنج في كفرطاب فانهزم المسلمون وكان تمحيصهم ورجع برسق أمير العساكر وأخوه منهزمين الى بلادهم وكان أياز بن أبي الغازي أسيرا عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 استيلاء أبي الغازي على حلب كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفي سنة سبع وخمسمائة قام بأمر دولته لؤلؤ الخادم ونصب ابنه البارسلان في ملكه ثم استوحش منه ونصب مكانه أخاه سلطان شاه واستبدّ عليه ثم سار لؤلؤ الخادم الى قلعة جعفر سنة احدى عشرة [1] بينه وبين مالك ابن سالم بن مالك بن بدران فغدر به مماليك الأتراك وقتلوه عند خرت برت واستولوا على خزائنه واعترضهم أهل حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولى شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ ثم عزل لشهر وولى أبو المعالي بن الملحي الدمشقيّ ثم عزل وصودر واضطربت الدولة وخشي أهل حلب على بلدهم من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق من ماردين وسلموا له البلد وانقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم ولما ملكها لم يجد فيها مالا فصادر جماعة من الخدم وصانع الافرنج بما لهم ثم سار الى ماردين بنية العود الى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش. واقعة أبي الغازي مع الافرنج ولما استولى أبو الغازي على حلب وسار عنها طمع فيها الافرنج وساروا اليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها وحاصروها فلم يكن لأهلها بدّ من مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل المصانعة وبعثوا الى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا وجمع أبو الغازي من العساكر والمتطوعة نحوا من عشرين ألفا وسار بهم الى الشام سنة ثلاث عشرة ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني وطغان ارسلان بن اسكين بن جناح صاحب ارزن الروم ونزل الافرنج قريبا من حصون الاماري في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش وتحصنوا بالجبال من كل جهة الا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي ودخل عليهم من تلك المسارب وهم غارّون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت الا القليل وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلاثمائة ألف دينار وقتل سرجان صاحب انطاكية ونجافلهم من المعركة فاجتمع جماعة من الافرنج وعاودوا اللقاء   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 109: سار منها الى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك العقيلي صاحبها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 فهزمهم أبو الغازي وفتح حصن الاربات ورزدنا وعاد الى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات الى ماردين وولى على حلب ابنه سليمان ثم وصل دبيس بن صدقة الى أبي الغازي مستجيرا به فكتب اليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي [1] بابعاد دبيس ثم وقع بينه وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع وسار أبو الغازي الى الافرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم ثم سار هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الافرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن وكان لا يطيل المقام بدار الحرب لأنّ أكثر الغزاة معه التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاه فيستعجل العودان فنيت ازوادهم والله أعلم. انتقاض سليمان بن أبي الغازي بحلب كان أبو الغازي قد ولى على حلب ابنه سليمان فحمله بطانته على الخلاف على أبيه وسار اليه أبوه [2] تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه وقبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك وكان متولي كبرها أمير كان لقيطا لأبيه ونشأ في بيته فسمله وقطع لسانه وكان منهم آخر من أهل حماه قدّمه أبو الغازي على أهل حلب فقطعه وسمله فمات وأراد قتل ابنه ثم ثنته الشفقة عليه وهرب الى دمشق وشفع فيه طغركين فلم يشفعه ثم استخلف على حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار ولقبه بدر الدولة وعاد الى ماردين وذلك سنة خمس عشرة ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضي بهاء الدولة أبي الحسن الشهرزوريّ شافعا في دبيس وضامنا في طاعته فلم يتمّ ذلك فلما انصرف تمرتاش الى أبيه أقطع السلطان أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين وكانت لسقمان القطبي صاحب خلاط فتسلمها أبو الغازي ولم تزل في يده الى أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة والله تعالى أعلم. واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها قد تقدّم لنا أنّ جوسكين من الافرنج كان صاحب الرها وسروج وأنّ مالك بن بهرام كان قد   [1] كذا بياض بالأصل. وفي الكامل ج 10 ص 568: أرسل المسترشد باللَّه خلعا مع سديد الدولة ابن الأنباري نجم الدين ايلغازي وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج ويأمره بابعاد دبيس. [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 591 فسمع والده الخبر فسار مجدا لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج اليه معتذرا فأمسك عنه. وقبض على من أشار عليه بذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 ملك مدينة غانة فسار سنة خمس عشرة الى الرها وحاصرها أياما فامتنعت عليه وسار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع الافرنج وقد تفرّق عن مالك أصحابه ولم يبق معه الا اربعمائة فلحقوه في أرض رخوة قد نضب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم ولم يقدروا على التخلص فظفر بهم أصحاب مالك وأسروهم وجعل جوسكين في إهاب جمل وخيط عليه وطلبوا منه تسليم الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالا فلم يفادوه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. وفاة أبي الغازي [1] وملك بنيه من بعده ثم توفي أبو الغازي بن ارتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة فولى بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش وملك سليمان ميافارقين وكان بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها ثم سار مالك بن بهرام بن ارتق الى مدينة حران فحاصرها وملكها وبلغه انّ سليمان ابن عمه بعد الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعة الافرنج وأعطاهم حصن الاماري فطمع في ملك بلاده وسار اليها في ربيع سنة ست عشرة وملكها من يده على الأمان ثم سار سنة ثمان عشرة الى منبج وحاصرها وملك المدينة وحبس صاحبها حسان التغلبي وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها وسمع الافرنج بذلك فساروا اليه فترك على القلعة من يحاصرها ونهض اليهم فهزمهم وأثخن فيهم وعاد الى منبج فحاصرها وأصابه بعض الأيام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر وافترقوا وخلص حسان من محبسه وكان تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين معه على منبج فلما قتل حمل شلوه الى حلب ودفنه بها واستولى عليها ثم استخلف عليها وعاد الى ماردين وجاء الافرنج الى مدينة صور فملكوها وطمعوا في غيرها من بلاد المسلمين ولحق بهم دبيس بن صدقة ناجيا من واقعته مع المسترشد فأطمعهم في ملك حلب وساروا معه فحاصروها وبنوا عليها المساكن وطال الحصار وقلت الأقوات واضطرب أهل البلد وظهر لهم العجز من صاحبهم ولم يكن في الوقت أظهر من البرسقي صاحب الموصل ولا أكثر قوّة وجمعا منه فاستدعوه ليدافع عنهم ويملكوه وشرط عليهم أن يمكنوه من القلعة قبل وصوله ونزل فيها بوابه وسار فلما أشرف على الافرنج ارتحلوا عائدين الى بلادهم وخرج أهل حلب فتلقوا البرسقي فدخل واستولى على حلب وأعمالها ولم تزل بيده الى ان هلك وملكها ابنه عز الدين ثم هلك فولى السلطان محمود عليها أتابك زنكي حسبما يأتي   [1] وفي الكامل ايلغازي. ج 10 ص 604 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 في أخبار دولته ورجع تمرتاش الى ماردين واستمرّ ملكه بها وكان مستوليا على كثير من قلاع ديار بكر ثم استولى سنة اثنتين وثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر وكانت بيد بعض بني مروان من بقايا ملوك الأوّلين وكان هذا آخرهم بهذه القلعة وكان ملك ميافارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش وملكها من يد أخيه سليمان ولم يزل تمرتاش ملكا بماردين الى أن هلك سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وثلاثين سنة من ملكه والله تعالى ولىّ التوفيق. وفاة تمرتاش وولاية ابنه البي بعده ثم توفي حسام الدين تمرتاش سنة سبع وأربعين وخمسمائة كما قلناه فملك بعده ابنه بماردين البي بن تمرتاش وبقي ملكا عليها الى أن مات وولى بعده ابنه أبو الغازي بن البي الى أن مات ولم يذكر ابن الأثير تاريخ وفاتهما وقال مؤرّخ حماة لم يقع اليّ تاريخ وفاتهما. ولاية حسام الدين بولق ارسلان بن أبي الغازي بن البي ولما توفي أبو الغازي بن البي قام بأمر ملكه نظام الملك النقش ونصب للملك مكانه ابنه بولق ارسلان طفلا واستبدّ عليه وكان النقش غالبا على هواه حيث صار أمر الطفل في يده ولم تزل حالهم على ذلك الى أن هلك حسام الدين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة على عهد بولق هذا وكناه ابن الأثير حسام الدين ناصر الملك قصد العادل أبو بكر ابن أيوب ماردين وخشيت ملوك الجزيرة ولم يقدروا على منعه ثم توفي العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر وولى أخوه الأفضل فاستنفر العادل أهل مصر ودمشق وأهل سنجار وبعثهم مع ابنه الكامل وحاصروا ماردين فبعث اليه النقش المستولي على بولق بالطاعة وتسليم القلعة لأجل معلوم على أن يدخل اليهم الأقوات ووضع العادل ابنه على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال وشحنوها بالأقوات وبينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لانجادهم وقاتلهم فانهزمت عساكر العادل وخرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه فرحلوا جميعا منهزمين ونزل حسام الدين بولق الى نور الدين ولقيه وشكر وعاد ونزل نور الدين على دبيس ثم رحل عنها قاصدا حوران كما نذكره في أخبار دولته ان شاء الله تعالى والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 وفاة بولق [1] وولاية أخيه ارتق ولما هلك بولق ارسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الأصغر ناصر الدين ارتق ارسلان بن قطب الدين أبي الغازي ولم يذكر ابن الأثير خبر وفاته أيضا وبقي مملكا في كفالة النقش الى سنة احدى وستمائة والله أعلم. مقتل النقش [2] واستبداد ارتق المنصور واتصال الملك في عقبه ثم استنكف ارتق من المحر ومرض النقش سنة احدى وستمائة فجاء ارتق لعيادته وقتل لؤلؤا خادمه في بعض زوايا بيته ورجع الى النقش فقتله في فراشه واستقلّ بملك ماردين وتلقب المنصور وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة [3] وملك بعده ابنه السعيد نجم الدين غازي بن ارتق وتوفي سنة ثمان أو ثلاث وخمسين وملك بعده أخوه المظفر قرا ارسلان بن ارتق فأقام سنة أو بعضها ثم هلك سنة ثلاث وتسعين وستمائة وملك بعده أخوه المنصور نجم الدين غازي بن قرا ارسلان الى أن توفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لأربع وخمسين سنة من ولايته وملك بعده ابنه المنصور أحمد الى أن توفي سنة تسع وستين لثلاث سنين من ولايته ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود اربعة أشهر وخلعه عمه المظفر فخر الدين داود بن المنصور أحمد الى أن توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وملك بعده ابنه مجد الدين عيسى وهو السلطان بماردين لهذا العهد والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده (ولما) ملك هلاكو بن طلو خان بن جنكزخان مدينة بغداد واعمالها أعطاه المظفر قرا ارسلان طاعته وخطب له في أعماله ولم يزالوا يدينون بطاعة بنيه الى أن هلك أبو سعيد بن خربهرا آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع وثلاثين فقطعوا الخطبة لهم واستبدّ أحمد المنصور منهم وهو الثاني عشر من لدن أبي الغازي جدّهم الأوّل (وأمّا) داود بن سقمان فإنه ملك حصن كيفا من بعد سقمان أبيه وإبراهيم أخيه ولم أقف على خبر وفاته (وملك بعده) ابنه فخر الدين قرا ارسلان بن داود وملك أكثر ديار بكر مع حصن كيفا وتوفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة (وملك بعده) ابنه نور الدين محمد بعهده   [1] وفي بعض النسخ بولق ارسلان. [2] وفي بعض النسخ البقش. [3] كذا بالأصل ويقتضي ان تكون وستمائة حسب سير الحوادث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 اليه بذلك وكانت بينه وبين صلاح الدين مواصلة ومظاهرة ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد فظاهره صلاح الدين وحاصرها من صاحبها ابن سان سنة تسع وستين وصارت من أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين ثم توفي نور الدين محمد سنة احدى وثمانين وخلف ولدين (فملك الأكبر) منهما قطب الدين سقمان وقام بتدبير دولته العوّام بن سماق الأسعد وزير أبيه وكان عماد الدين أخو نور الدين هو المرشح للامارة الا أنه سار في العساكر مددا لصلاح الدين على حصار الموصل فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد أخيه نور الدين فلم يظفر واستولى على خرت برت فانتزعها منهم وملكها وأورثها بنيه فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان وأقره على ملك أبيه بكيفا وأبقى بيده آمد التي كان ملكها لأبيه وشرط عليه مراجعته في أحواله والوقوف عند أوامره وأقام أميرا من أصحاب ابنه قرا ارسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته واستقرّ ملكه بكيفا وآمد وما اليهما الى أن توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة تردّى من جوسق له بحصن كيفا فمات وكان أخوه محمود مرشحا لمكانه الا أن قطب الدين سقمان كان شديد البغضاء له وأشخصه الى حصن منصور من آخر عملهم واصطفي مملوكه اياسا وزوّجه بأخته وجعله ولى عهده (ولما توفي) ملك بعده مملوكه وشخص أهل الدولة فدسوا الى محمود فسار الى آمد وسبقه اياس اليها ليدافعه فلم يطق وملك محمود آمد واستولى على البلد كلها وحبس اياسا الى أن أطلقه بشفاعة صاحب بلاد الروم ولحق به وانتظم في أمرائه واستقلّ محمود بملك كيفا وآمد وأعمالهما ولقب ناصر الدين وكان ظالما قبيح السيرة وكان ينتحل العلوم الفلسفية وتوفي سنة تسعة عشر وستمائة وولىّ مكانه المسعود وحدثت بينه وبين الأفضل بن العادل فتنة واستنجد عليه أخاه الكامل فسار في العساكر من مصر ومعه داود صاحب الكرك والمظفر صاحب حماة فحاصروه بآمد الى أن نزل عنها وجاء الى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيسا الى أن مات الكامل فذهب الى التتر فمات عندهم (وأمّا) عماد الدين بن قرا ارسلان الّذي ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين فلم تزل في يده الى أن توفي سنة احدى وستمائة لعشرين سنة من ملكه إياها (وملكها بعده) ابنه نظام الدين أبو بكر وكانت بينه وبين ناصر الدين محمود ابن عمه نور الدين صاحب آمد وكيفا عداوة ودخل محمود في طاعة العادل بن أيوب وحضر مع ابنه الأشرف في حصار الموصل على أن يسير معه بعدها الى خرت برت فيملكها له وكان نظام الدين مستنجدا به [1]   [1] كذا بياض بالأصل، والواضح من العبارة التالية انه غياث الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 الدين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فمات وسار الأشرف مع محمود بعساكره وحاضروا خرت برت في شعبان سنة احدى وستين وملكوا ربضها وبعثوا غياث الدين صاحب الروم الى نظام الدين المدد بالعساكر مع الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فلما انتهوا الى ملطية أفرج الأشرف ومحمود عن خرت برت الى بعض حصون نظام الدين بالصحراء ببحيرة سهنين وفتحت في ذي الحجة سنة احدى وستين فلما وصل الأفضل بعساكر غياث الدين ووصل الأشرف عن البحيرة راجعا جاء نظام الدين بالعساكر الى الحصن فامتنع عليه وبقي لصاحب آمد ثم ملك كيقباد صاحب الروم حصن خرت برت من أيديهم سنة احدى وثلاثين وانقرض منها ملك بني سقمان والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 دولة بني زنكي بن آقسنقر الخبر عن دولة بني زنكي بن آقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة والشام ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدّم لنا ذكر آقسنقر مولى السلطان ملك شاه وأنه كان يلقب قسيم الدولة وأن السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد ابن مروان واستنجد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل وهزمته العساكر وانحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة الى السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضي عنه ورده الى بلده الموصل واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكر كما مرّ في موضعه من دولة بني مروان ثم كان بعد ذلك شان حلب واستبدّ بها أهلها بعد انقراض دولة بني صالح بن مرداس الكلابي وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش وسليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم وتتش ابن السلطان البارسلان وقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء الى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة فحاصرها وقد كانوا بعثوا الى السلطان ملك شاه واستدعوه لملكها فوصل اليهم سنة تسع وسبعين ورحل تتش عن القلعة ودخل البرية واستولى السلطان على حلب وولىّ عليها قسيم الدولة آقسنقر وعاد الى العراق فعمرها آقسنقر وأحسن السيرة فيها وسار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه بفتح بلاد العلوية بمصر والشام ففتح الكثير منها وهو معه كما مرّ وزحف قبل ذلك سنة ثمانين الى بني منقذ بشيرز فحاصره وضيق عليه ثم رجع عنه عن صلح وأقام بحلب ولم يزل واليا عليها الى أن هلك السلطان سنة خمس وثمانين واختلف ولده من بعده وكان أخوه تتش قد استولى على الشام منذ سنة احدى وسبعين فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر وسار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه بالشام وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة آقسنقر وحمل باغيسيان صاحب انطاكية وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الأمر في ولد سيدهم ملك شاه وساروا مع تتش الى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها ثم الى نصيبين ففتحها عنوة ثم الى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران وتولى كبر هزيمته آقسنقر وقتل قريش بن إبراهيم وملك الموصل من يده وولىّ تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش وسار الى ديار بكر فملكها ثم الى أذربيجان وكان بركيارق بن ملك شاه قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 استولى على الريّ وهمذان وكثير من البلاد فسار لمدافعته وجنح قسيم الدولة آقسنقر وبوزان صاحب الرها الى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائدا الى الشام ساخطا على آقسنقر وبوزان ما فعلوه فجمع العساكر وسار الى حلب سنة سبع وثمانين لقتال قسيم الدولة وأمدّه بركيارق بالأمير كربوقا في العساكر فبرزوا الى لقائهم والتقوا على ست فراسخ من حلب ونزع بعض عساكر آقسنقر الى تتش فاختل مصافه وتمت الهزيمة عليه وجيء به أسيرا الى تتش فقتله صبرا ولحق كربوقا وبوزان بحلب وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مرّ في أخبار الدولة وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل وكانت بلاده آمنة ولما مات نشأ ولده في ظلّ الدولة السلجوقية وكان أكبرهم زنكي فنشأ مرموقا بعين التحلة ولما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق وأخيه محمد كان زنكي في جملته لانه كان صاحب أبيه وسار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان وأنجده سقمان بن ارتق وكان زنكي بن آقسنقر يومئذ صبيا وهو في جملة رجال كربوقا ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب وانهزم سقمان وظهر كربوقا وفي هذه الحرب أسر ابن ياقوتي بن ارتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سببا لملك بني ارتق فيها كما مرّ في أخبار دولتهم ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمس بعد كربوقا وبعده جاولى سكاوو وبعده مودود بن ايتكين وبعده آقسنقر البرسقي كما تقدّم في أخبار السلجوقية وولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين وبعث معه ابنه مسعودا وكتب الى سائر الأمراء هناك بطاعته ومنهم يومئذ عماد الدين زنكي بن آقسنقر فاختص به ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة احدى عشرة كان أخوه مسعود بالموصل كما تقدّم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقي من الموصل الى شحنة بغداد وانتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان محمود وجمع البرسقي العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود وأتابكه حيوس بك بالموصل وأغراهما بالمسير الى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس وزنكي بن قسيم الدولة آقسنقر وجماعة من أمراء الجزيرة ووصلوا الى بغداد وصالحهم البرسقي وسار معهم ودخل مسعود الى بغداد وجاء منكبرس الى بغداد ونزع اليه دبيس بن صدقة ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدّم في أخبار الدولة وأقام منكبرس ببغداد ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخيه مسعود مقامات جليلة وغلب السلطان أخاه مسعودا وأخذه عنده واستنزل أتابكه حيوس بك من الموصل وأعاد اليها البرسقي سنة خمسة عشر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 فعاد زنكي الى الاختصاص به كما مرّ ثم أضاف اليه السلطان محمود شحنة بغداد وولاية واسط مضافة الى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولّى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما ولما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد وبرز المسترشد لقتاله من بغداد وحضر البرسقي من الموصل وعماد الدين زنكي فانهزم دبيس [1] عماد الدين في ذلك المقام ثم ذهب دبيس الى البصرة وجمع المنتفق من بني عقيل فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها وبعث المسترشد الى البرسقي فعذله في إهماله أمر دبيس حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر الى قصره وهرب دبيس واستولى [2] على البصرة وولىّ عليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر فأحسن حمايتها والدفاع عنها وكبس العرب في حللهم بضواحيها وأجفلوا ثم عزل البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد وعاد الى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك وقال كلّ يوم للموصل جديد يستنجدنا وسار الى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصبهان أقطعه البصرة وأعاده عليها من قبله ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها سنة تسع عشرة وكان ابنه عز الدين مسعود بحلب فبادر الى الموصل وأقام ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود وبعث الخليفة عفيفا الخادم الى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار اليه عماد الدين زنكي من البصرة وقاتله فهزمه ونمي عفيف الى المسترشد [3] وأقام عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن وفي البر فجمع السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكي السلاح وأصعد في البرّ وقدم على السلطان وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم ووهن المسترشد لما رأى فأجابه الى الصلح.   [1] كذا بياض بالأصل: ويتضح من وقائع هذه المعركة كما ذكرها ابن الأثير في الكامل ج 10 ص 609 ان تصويب العبارة ينبغي ان يكون: فانهزم دبيس وابلى عماد الدين في ذلك المقام. [2] اي واستولى المسترشد على البصرة كما يتضح من العبارة التي بعدها. [3] كذا بالأصل، ويظهر ان هنا عبارة سقطت أثناء النسخ أو الطبع، وفي الكامل ج 10 ص 636: وأقام الخليفة بالجانب الغربي فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس وصلى بهم، فبكى الناس لخطبته وأرسل عفيفا الخادم وهو من خواصه في عسكر الى واسط ليمنع عنها نواب السلطان فأرسل السلطان اليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر وكان له حينئذ البصرة وقد فارق البرسقي واتصل بالسلطان فاقطعه البصرة. فلما وصل عفيف الى واسط سار اليه عماد الدين فنزل بالجانب الشرقي، وكان عفيف بالجانب الغربي فأرسل اليه عماد الدين يحذره القتال ويأمره بالانتزاح عنها فأبى ولم يفعل. فعبر اليه عماد الدين واقتتلوا فانهزم عسكر عفيف وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر مثلهم وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 ولاية زنكي شحنة بغداد والعراق ولما ظهر من عماد الدين زنكي من الكفاءة والغناء في ولاية البصرة وواسط ما ظهر ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مرّ ولاه شحنة بغداد والعراق لما رأى انه يستقيم اليه في أمور الخليفة بعد أن شاور أصحابه فأشاروا به وذلك سنة احدى وعشرين وسار عن بغداد بعد أن ولاه على كرسي ملكه بأصبهان والله تعالى أعلم. ولاية عماد الدين زنكي على الموصل واعمالها قد قدّمنا أن عز الدين مسعود بن البرسقي لما قتل الباطنية أباه بالموصل وكان نائبة بحلب فبادر الى الموصل وضبط أمورها وخاطب السلطان محمودا فولاه مكان أبيه وكان شجاعا قرما فطمع في ملك الشام فسار وبدأ بالرحبة فحاصرها حتى استأمن اليه أهل القلعة وطرقه مرض فمات وتفرّقت عساكره ونهب بعضهم بعضا حتى شغلوا عن دفنه وكان جاولى مولى أبيه مقدّم العساكر عنده فنصب مكانه أخاه الأصغر وكاتب السلطان في تقرير ولايته وأرسل في ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني والقاضي أبا الحسن علي بن القاسم الشهرزوريّ فأوصى صلاح الدين صهره جقري فيما جاء فيه وكان شيعة لعماد الدين زنكي فخوّف الحاجب وحذره مغبة حاله معه وأشار عليه وعلى القاضي بطلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنده الولايات والاقطاع وركب القاضي مع الحاجب الى الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد وذكر له حال الجزيرة والشام واستيلاء الافرنج على أكثرها من ماردين الى العريش وأنها تحتاج الى من يكف طغيانهم وابن البرسقي المنصوب بالموصل صغير لا يقوى على مدافعتهم وحماية البلاد منهم ونحن قد خرجنا عن العهدة وأنهينا الأمر إليكم فرفع الوزير قولهما الى السلطان فشكرهما واستدعاهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة وأدرجا فيهم عماد الدين زنكي وبذلا عنه مالا جزيلا لخزانة السلطان فأجابهما اليه لما يعلم من كيفياته وولاه البلاد كلها وكتب منشورة بها وشافهه بالولاية وسار الى ولايته فبدأ بالفوارع وملكها ثم سار الى الموصل وخرج جاولى والعساكر للقائه ودخل الموصل في رمضان سنة احدى وعشرين وبعث جاولى واليا على الرحبة وولى على القلعة نصير الدين جقري وولىّ على حجابته صلاح الدين الباغيسياني وعلى القضاء ببلاده جميعا بهاء الدين الشهرزوريّ وزاد في اقطاعه وكان لا يصدر الا عن رأيه ثم خرج الى جزيرة ابن عمر وبه موالي البرسقي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 فامتنعوا عليه وحاصرهم وكان بينه وبين البلد دجلة فعبرها وبين دجلة والبلد فسيح من الأرض فعبر دجلة وقاتلهم في ذلك الفسيح وهزمهم فتحصنوا بالاسوار ثم استأمنوا فدخل البلد وملكه وسار لنصيبين وكانت لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان صاحب كيفا فوعده بالنجدة وبعث حسام الدين بذلك الى أهل نصيبين يأمرهم بالمصابرة عشرين يوما الى حين وصوله فسقط في أيديهم لعجزهم عن ذلك واستأمنوا لعماد الدين فأمنهم وملكها وسار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أوّلا ثم استأمنوا وملكها وبعث منها الى الخابور فملك جميعه ثم سار الى حران وكانت الرها وسروج البيرة في جوارها للافرنج وكانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران الى طاعته وأرسل الى جوسكين وهادنه حتى يتفرغ له فاستقرّ بينهما لصلح والله تعالى أعلم. استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حلب كان البرسقي قد ملك حلب وقلعتها سنة ثمانية عشر واستخلف عليها ابنه مسعودا ثم قتل الباطنية البرسقي بالموصل فبادر ابنه مسعود الى الموصل واستخلف على حلب الأمير قزمان ثم عزله وبعث بولايتها الى الأمير قطلغ آية فمنعه قزمان وقال بيني وبينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع الى مسعود فوجده قد [1] الرحبة فعاد الى حلب مسرعا ومال اليه أهل البلد ورئيسها مضايل بن ربيع وأدخلوه وملكوه واستنزلوا قزمان من القلعة وأعطوه ألف دينار وبلغوه مأمنه وملك قطلغ القلعة والبلد منتصف احدى وعشرين ثم ساءت سيرته وفحش ظلمه واشتمل عليه الأشرار فاستوحش الناس منه وثاروا به في عيد الفطر من السنة وقبضوا على أصحابه وولوا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق الّذي كان ملكها من قبل وحاصروا قطلغ بالقلعة ووصل حسان صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح الأمر فلم يتمّ وزحف جوسكين صاحب الرها من الافرنج الى حلب فصانعوه بالمال ورجع فزحف صاحب انطاكية وحاصر البلد وهم يحاصرون القلعة الى منتصف ذي القعدة من آخر السنة وانتهى عماد الدين زنكي الى صاحب حران كما ذكرناه فبعث الى أهل حلب أميرين من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل والجزيرة والشام فبادروا الى الطاعة وسار اليه بدر الدولة ابن عبد الجبار وقطلغ آية وأقام أحد الأميرين بحلب ولما وصلا الى عماد الدين أصلح بينهما   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 649: فعاد قتلغ أبه الى مسعود وهو يحاصر الرّحبة فوجده قد مات فعاد الى حلب مسرعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 وأقاما عنده وبعث الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني في عسكر اليهما فملك القلعة ورتب الأمور وولى ثم وصل عماد الدين بعده في محرّم سنة اثنتين وعشرين وملك في طريقه منبج من يد حسان ومراغة من يد حسن وتلقاه أهل حلب فاستولى وأقطع أعمالها للامراء والأجناد ثم قبض على قطلغ آية وأسلمه الى ابن بديع فكحله ومات واستوحش ابن بديع فلحق بقلعة جعفر مستنجدا بصاحبها وأقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب علي بن عبد الرزاق وعاد الى الموصل والله أعلم. استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حماة ثم سار عماد الدين زنكي لجهاد الافرنج وعبر الفرات الى الشام واستنجد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه وبعث عسكره من دمشق الى ابنه سونج وأمره بالمسير الى زنكي فلما وصلوا اليه أكرمهم ثم غدر بهم بعد أيام وقبض على سونج والأمراء الذين معه فاعتقلهم بحلب ونهب خيامهم وبادر الى حماة وهي خلو من الحامية فملكها وسار عنها الى حمص وصاحبها قيرجان بن قراجا معه في عساكره وهو الّذي أشار بحبس سونج وأصحابه فقبض عليه يظنّ أهل حمص يسلمون بلادهم اليه فامتنعوا وبعث اليهم قيرجان بذلك فلحق اليها فحاصرها مدّة وامتنعت عليه فعاد الى الموصل ومعه سونج بن بوري والله أعلم. فتح عماد الدين حصن الاثارب وهزيمة الافرنج [1] ولما عاد عماد الدين الى الموصل أراح عساكره أياما ثم تجهز سنة أربع وعشرين الى الغزو وعاد الى الشام فقصد حلب واعتزم على قصد حصن الاثارب وهو على ثلاثة فراسخ من حلب وكان الافرنج الذين به قد ضيقوا على حلب فسار اليه وحاصره وجاء الافرنج من انطاكية لدفاعه فاستغرغوا فتبعهم وترك الحصن وسار اليهم واستماتت المسلمون فانهزم الافرنج وأسر كثير من زعمائهم وقتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك الموضع أكثر من ستين سنة ثم عاد الى حصن الاثارب فملكه عنوة وخرّبه وتقسم جميع من فيه بين القتل والأسر وسار الى   [1] قال ابو الفداء ومن الأماكن المشهورة بالشام: الاثارب بالهمزة المفتوحة والثاء المثلثة وألف وراء مهمل ة وباء موحدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 قلعة حارم [1] قرب انطاكية وهي للافرنج فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها ومليء الافرنج رعبا منه ومن استبداد المسلمين به وذهب ما كان عندهم من الطمع. واقعة عماد الدين مع بني ارتق ولما فرغ عماد الدين من غزو الافرنج وفتح الاثارب وقلعة حارم عاد الى الجزيرة وحاصر مدينة سرخس وهي لصاحب ماردين بينها وبين نصيبين فاجتمع حسام الدين صاحب ماردين وركن الدولة صاحب آمد وهما لابي الغازي صاحب ماردين ابن حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي وصاحب كيفا ركن الدولة داود بن سقمان وتمرتاش بن ارتق وجمعوا من التركمان نحوا من عشرين ألفا وساروا لمدافعة زنكي فهزمهم وملك سرخس وسار ركن الدولة الى جزيرة ابن عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع الى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه وملك من قلاعه همرد ورجع الى الموصل الى آخره. حصول دبيس بن صدقة في أسر الاتابك زنكي قد تقدّم لنا أنّ دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار الى سرخد من قلاع الشام سنة خمس وعشرين باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوّج بها وأنه مرّ في الغوطة يجيّ من أحياء كلب فأسروه وحملوه الى تاج الملوك صاحب دمشق وبلغ الخبر الى الاتابك زنكي وكان عدوّا له فبعث فيه الى تاج الملوك بوري وفادى من ابنه سونج والأمراء الذين معه عنده فأطلقهم وبعث بوري اليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه وأحسن اليه وأزاح علله وبعث المسترشد فيه الى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسلمه الى زنكي فذمّ الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم وسيقوا اليه وهم سديد الدولة بن الانباري وأبو بكر بن نشر الجزري فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد وبقي دبيس عنده حتى انحدر معه الى العراق.   [1] حارم: من اعمال حلب، وهي بلدة صغيرة ذات قلعة وأشجار وأعين ونهر صغير. قال ابن سعيد: هو حصن كثير الأرزاق. وقد خص بالرمان الّذي يظهر باطنه مع عدم العجم وكثرة المياه (أبي الفداء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 مسير الاتابك زنكي الى العراق لمظاهرة السلطان مسعود وانهزامه ولما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين واختلف ولده داود وأخوه مسعود وسار داود الى مسعود وحاصره بتبريز في محرّم سنة ست وعشرين ثم صالحه وخرج مسعود من تبريز واجتمعت عليه العساكر وسار الى همذان وبعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الاتابك عماد الدين زنكي يستنجده وسار الى بغداد فحاصرها وكان قد سبق اليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس وخوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير وأنزله المسترشد بدار السلطان فلما جاء مسعود ونزل عباسة وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه وقراجا الشامي لمحاربة مسعود فأتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكي من ورائهم وأنه وصل الى المعشوب فرجع قراجا الشامي الى محاربته وسار سلجوق شاه بالعساكر الى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير وصبح عماد الدين بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه وأسر كثيرا من أصحابه وسار زنكي منهزما الى [1] والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان صلاح فتأخر ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له والسلطنة لمسعود وولاية العهد لسلجوق شاه وذلك منتصف سنة ست وعشرين. مسير الاتابك عماد الدين الى بغداد بابنه وانهزامه قد قدّمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود وأخويه مسعود وسلجوق شاه ثم استقرّ مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه سلجوق على أن يكون وليّ عهده ثم أنّ السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيما فبلغ همذان وخرج السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم وخرج المسترشد الى [2] فجاءته الاخبار بوصول الاتابك زنكي ودبيس بن صدقة الى بغداد فذكر دبيس أنّ السلطان سنجر   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 675: وسار زنكي منهزما الى تكريت فعبر فيها دجلة وكان الدوادار بها حينئذ نجم الدين أيوب. [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود اليها وعبر الى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل والتقيا بحصن البرامكة سابع عشر رجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 أقطعه الحلة وبعث يسترضي فلم يشفعه وذكر الاتابك زنكي ان السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد واستمرّ السلطان مسعود وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مرّ فعاد المسترشد الى بغداد ونزل العباسيّة من الجانب الغربي ولقي الاتابك زنكي ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق الاتابك بالموصل. واقعة الافرنج على أهل حلب وفي غيبة الاتابك زنكي سار ملك الافرنج من القدس الى حلب فخرج نائبها عن الاتابك زنكي وهو الأمير أسوار وجمع التركمان مع عساكره وقاتل الافرنج عند قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا الى حلب وسار ملك الافرنج في أعمال حلب ظافرا ثم سار بعض الافرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج اليهم الأمير أسوار ومعه حسان التغلبي الّذي كان صاحب منبج فأوقعوا بهم واستلحموهم وأسروا من بقي منهم وعادوا ظافرين. حصار المسترشد الموصل ولما وقع ما قدّمناه من وصول زنكي الى بغداد وانهزامه أمام المسترشد حقد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية واعتزلهم جماعة من أمرائهم فرارا من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الاتابك زنكي فقدّم اليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسقر ابن الواعظ وحمله عتابا أغلظ فيه وزاده الواعظ غلظة حفظا على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الاتابك لما شافهه به وأهانه وحبسه وأرسل المسترشد الى السلطان مسعود [1] على قصد الموصل وحاصرها لما وقع من زنكي ثم سار في شعبان سنة سبع وعشرين الى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها الاتابك زنكي الى سنجار وترك نائبة بها نصر الدين جقري وجاء المسترشد فحاصرها والاتابك زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الأقوات وضاقت عليهم الأحوال وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها وسعي بهم فأخذوا وصلبوا ودام الحصار ثلاثة أشهر وامتنعت عليه فأفرج عنها وعاد الى بغداد وقيل انّ مطر الخادم جاءه من بغداد وأخبره أنّ السلطان مسعودا عازم على قصد العراق فعاد مسرعا.   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 5: فأرسل المسترشد باللَّه الى السلطان مسعود يعرفه الحال الّذي جرى من زنكي ويعرفه انه على قصد الموصل وحصرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 ارتجاع صاحب دمشق مدينة حماة قد كنا قدّمنا أنّ الاتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين وأقامت في ملكه أربع سنين وتوفي تاج الملوك بوري في رجب سنة ست وعشرين وولىّ بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل وملك بانياس من الافرنج في صفر سنة سبع وعشرين ثم بلغه أنّ المسترشد باللَّه حاصر الموصل فسار هو الى حماة وحاصرها وقاتلها يوم الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم ثم حصر الوالي ومن معه بالقلعة فاستأمنوا أيضا واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح وسار منها الى قلعة شيرز فحاصرها ابن منقذ فحمل اليه مالا صانعه به وعاد الى دمشق في ذي الحجة من السنة. حصار الاتابك زنكي قلعة آمد واستيلاؤه على قلعة النسور ثم حصار قلاع الحميدية وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الاتابك زنكي صاحب الموصل وصاحب ماردين على حصار آمد واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر وسار اليهما ليدافعهما عنه وقاتلاه فهزماه وقتل كثير من عسكره وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها وامتنعت عليهما فرحلا عنها وسار زنكي الى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثيّ فاستوزره الاتابك وكان حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محببا في الجند وتوفي سنة ست وثلاثين بعدها ثم استولى الاتابك على سائر قلاع الأكراد الحميدية مثل قلعة العقر وقلعة سوس وغيرهما وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الأمير عيسى الحميري على ولايتها فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام وجمع له الأكراد فلما عاد المسترشد الى بغداد من قتال الاتابك زنكي فحاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالا شديدا حتى ملكوها في هذه السنة ورفع الله شرّهم عن أهل السواد المحاربين لهم فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 استيلاء الاتابك على قلاع الهكارية وقلعة كواشي حدّث ابن الأثير عن الجنيبي أنّ الاتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء من عبد الله على قلعة أشب والجزيرة وكواشي فاستأمن الاتابك واستحلفه وحمل له مالا ثم وفد عليه بالموصل بعد أن اخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها وأعطاه قلعة كواشي وولى على أشب رجلا من الكرد واسمه باد الأرمني وابنه أحمد هذا هو أبو علي بن احمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين ولما مات أبو الهيجاء واسمه موسى وسار أحمد الى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلىّ الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الاتابك زنكي في عساكره ونزل على أشب وبرز أهلها لقتاله واستجرّهم حتى أبعدوا ثم كرّ عليهم فأفناهم قتلا وأسرا وملك القلعة في الحال وسيق اليه باد في جماعة من مقدّمي الأكراد وقتلهم وعاد الى الموصل ثم سار غازيا في بعض مذاهبه فبعث نائبة نصر الدين جقري عسكرا وخلى كنجاورسى وقلعة العماديّة وحاصروا قلعة الشغبان وفرح وكواشي والزعفرانيّ والغيّ وسرف وسفروه وهي حصون الهكارية فحصرها وملكها جميعا واستقام أمر الجبل والزوزن وأمنت الرعية من الأكراد وأمّا باقي قلاع الهكارية وهي حل وصورا وهزور والملايسي ويامرما ومانرحا وباكرا ونسر فإنّ قراجا صاحب العماديّة فتحها بعد قتل زنكي بمدّة طويلة كان أميرا على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي على ما قال ابن الأثير ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هنا قال وحدّثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد أنّ أبا بكر زنكي لما فتح قلعة اسب وحرساني وقلعة العماديّة ولم يبق في الهكارية الا صاحب جبل صورا وصاحب هزور لم يكن لهما شوكة يخشى منهما ثم عاد الى الموصل وخافه أهل القلاع الجليلة ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة والغي وفرح وملكها بعده ابنه علي وكانت أمّه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم وعيسى وهما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها علي الى أخويها المذكورين وهما خالاه ليستأمنا له من الاتابك فاستحلفاه وقدم عليه فأقرّه على قلاعه واستقلّ بفتح قلاع الهكارية وكان الشغبان هذا الأمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وخرّبه لكبره وقلة أعماله وكان نصر الدين جقري يكره عليا صاحب الريبة والغي وفرح فسعى عند الاتابك في حبسه فأمره بحبسه ثم ندم وكتب اليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين بقتله ثم بعث العساكر الى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة وملكوها عنوة وأسروا ولد علي واخوته ونجت أمّه خديجة لمغيبها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وجاء البشير الى الاتابك بفتح الريبة فسره ذلك وبعث العساكر الى ما بقي من قلاع علي فأبي الا أن يزيدوه قلعة كواشي فمضت خديجة أمّ علي الى صاحب كواشي من المهرانية واسمه جرك راهروا وسألته النزول عن كواشي لإطلاق اسراهم ففعل ذلك وتسلم زنكي القلاع وأطلق الأسرى واستقامت له جبال الأكراد والله تعالى أعلم. حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق كان شمس الملوك إسماعيل بن بوري قد انحلّ أمره وضعفت دولته واستطال عليه الافرنج وخشي عاقبه أمرهم فاستدعى الاتابك زنكي سرّا ليملكه دمشق ويريح نفسه وشعر بذلك أهل دولته فشكوا الى أمّه فوعدتهم الراحة منه ثم اغتالته فقتلته وجاء الأتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات وولي مكانه أخوه محمود واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا الخبر الى الاتابك فلم يحفل به وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتدّ أهل الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري الى الاتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه ورحل عنه منتصف السنة والله سبحانه وتعالى أعلم. فتنة الراشد مع السلطان مسعود ومسيره الى الموصل وخلعه كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود والخروج عليه ولحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنين وثلاثين فأنزل بدار السلطنة وراسله أولئك الأمراء وقدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين وصاحب أصبهان وصاحب الأهواز وصاحب الجبلة وصاحب الموصل الاتابك زنكي وخرجت اليهم العساكر من بغداد وولى داود شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي وكان الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضي القضاة الزينبي فسمع بهم الاتابك ثم وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود والاتابك زنكي وحلف كل منهم لصاحبه وبعث الراشد الى الاتابك بمائتي ألف دينار ووصل سلجوق شاه الى واسط وقبض على الأمير بك آبه ونهب ماله فانحدر الاتابك زنكي لمدافعته فاصطلحا وعاد زنكي الى بغداد ومرّ على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود وخرج على طريق خراسان وبلغهم أن السلطان مسعودا سار الى بغداد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 فعاد اليها ثم عاد الملك داود وجاء السلطان مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفا وخمسين يوما وارتحل الى النهروان ثم قدم عليه طرنطاي صاحب واسط بالسفن فرجع الى بغداد وعبر الى الجانب الغربي ثم اختلف العسكر ببغداد ورجع الملك داود الى ولايته بأذربيجان وافترق الأمراء الذين معه ولحق الراشد بالاتابك زنكي في نفر من أصحابه وهو بالجانب الغربي وسار معه الى الموصل ودخل السلطان مسعود الى بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين واستقرّ بها وسكن الناس وجمع القضاة والفقهاء وعرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة وغيرهم الى الراشد بموجبات العزل وكتبت وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل وحكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع الراشد ونصب للخلافة [1] ابن المستظهر وجاء رسول الاتابك زنكي الى بغداد وهو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوريّ وبايع [2] بعد أن ثبت عنده الخلع وانصرف الى الاتابك باقطاع من خاص الخليفة ولم يكن ذلك لأحد قبله وعاد كمال الدين الى الاتابك وحمل كتب الخلع فحكم بها قاضي القضاة بالموصل وانصرف الراشد عن الموصل الى أذربيجان كما مرّ في أخبار الخلفاء والسلجوقية والله تعالى ولىّ التوفيق. غزاة العساكر حلب الى الافرنج ثم اجتمعت عساكر حلب [3] مع الأمير أسوار نائب الاتابك زنكي بحلب في شعبان سنة ثلاثين وساروا غازين الى بلاد الافرنج وقصدوا اللاذقية على غرّة فنالوا منها وانساحوا في بسائطها واكتسحوها وامتلأت أيديهم من الغنائم وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيرز وملئوا الشام بالاتراك والظهر ووهن الافرنج لذلك والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.   [1] كذا بياض بالأصل وهو الأمير أبو عبد الله بن المستظهر (قبل الخلافة) ولقب بعد الخلافة المقتفي لأمر الله (الكامل ج 11 ص 42- 45) . [2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 43: وبلغني ان السلطان مسعود أرسل الى الخليفة المقتفي لأمر الله في تقرير اقطاع يكون لخاصته فكان صوابه: ان في الدار ثمانين بغلا تنقل الماء من دجلة فلينظر السلطان ما يحتاج اليه من يشرب هذا الماء ويقوم به فتقرّرت القاعدة على ان يجعل له ما كان للمستظهر باللَّه، فأجابه الى ذلك. وقال السلطان لما بلغه قوله لقد جعلنا في الخلافة رجلا عظيما. [3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: في هذه السنة في شعبان اجتمعت عساكر أتابك زنكي صاحب حلب وحماة مع الأمير أسوار نائبة بحلب وقصدوا بلاد الفرنج على حين غفلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 حصار الاتابك زنكي مدينة حمص واستيلاؤه على بعدوين وهزيمة الافرنج واستيلاؤه على حمص ثم سار الاتابك في العساكر في شعبان سنة احدى وثلاثين الى مدينة حمص وبها يومئذ معين الدين ابن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه فقدم اليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأنّ ذلك ليس من الاصابة فحاصرها والرسل تردّد بينهما وامتنعت عليه فرحل عنها الى بغدوين من حصون الافرنج في شوّال من السنة فجمع الافرنج وأوعبوا وزحفوا اليه واشتدّ القتال بينهم ثم هزم الله العدوّ ونجا المسلمين منهم ودخل ملوكهم الى حصن بغدوين فامتنعوا به وشدّ الاتابك حصاره وذهب القسوس والرهبان الى بلاد النصرانية من الروم والافرنج يستنجدونهم على المسلمين ويخوّفونهم استيلاء الاتابك على قلعة بغدوين وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس وجدّ الاتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها حتى جهدهم الحصار ومنع عنهم الاخبار ثم استأمنوا على أن يحملوا اليه خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة ثم سمعوا بمسير الروم والافرنج لانجادهم وكان الاتابك خلال الحصار قد فتح المعرّة وكفرطاب [1] في الولايات التي بين حلب وحماة ووهن الافرنج ثم سار الاتابك زنكي في محرّم سنة اثنين وثلاثين الى بعلبكّ وملك حصن الممدل من أعمال صاحب دمشق وبعث اليه نائب باساس بالطاعة كذلك ثم كانت حادثة ملك الروم ومنازلته حلب كما نذكره فسار الى سلمية ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمّه مردخان بنت جاولي التي قتلت ابنها فتزوجها وملك حمص وقلعتها وحملت الخاتون إليه في رمضان وظنّ أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. مسير الروم الى الشام وملكهم مراغة [2] ولما استنجد الافرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مرّ جمع ملك الروم بالقسطنطينية وركب البحر سنة احدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار الى مدينة قيقية فحاصرها وصالحوه   [1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على التصويب. [2] وفي الكامل: بزاعة ج 11 ص 56. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 بالمال وسار عنها الى ادنة والمصيصة وهما لابن ليون الارمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما وسار الى عين زربة فملكها عنوة وملك تل حمدون ونقل أهله الى جزيرة قبرص ثم ملك مدينة انطاكية في ذي القعدة من السنة وبها رغيد من ملوك الافرنج فصالحه ورجع الى بفراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالأموال ودخل في طاعته ثم خرج الى الشام أوّل سنة اثنتين وثلاثين وحاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب وبعثوا بالصريخ الى الاتابك زنكي فبعث بالعساكر الى حلب لحمايتها وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالأمان منتصف السنة ثم غدر بهم واستباحهم ورحل الى حلب فنزل بدابق ومعه الافرنج [1] ورجعوا من الغد الى حلب وحاصروها ثلاثا فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم ورحل عنها الى قلعة الاتاود في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها ووضع الروم بها الأسرى والسبي وأنزلوا بها حامية وبعث اليهم أسوار نائب حلب عسكرا فقتلوا الحامية وخلصوا الأسرى والسبي ورحل الاتابك من حصن الاثارب بعد فتحه الى سلمية وقطع الفرات الى الرقة واتبع الروم فقطع عنهم الميرة وقصد الروم قلعة شيزر وبها سلطان ابن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فحاصروها ونصبوا المجانيق عليها واستصرخ صاحبها بالاتابك زنكي فسار اليه ونزل نهر العاصي بين شيزر وحماة وبعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم وبعث الى الروم يدعوهم الى المناجزة والنزول الى البسيط فخافوا عن ذلك فرجع الى التضريب بين الروم والإفرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيزر أربعين يوما وأتبعه الاتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم ثم أرسل القاضي كما الدين محمد بن عبد الله الشهرزوريّ الى السلطان مسعود يستنجده على العدوّ ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب وينحدرون من الفرات الى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جماع القصر من ينادي بصريخ المسلمين والخطيب على المنبر وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء وتسايلت العوام من كلّ جانب وجاءوا الى دار السلطان في تلك الحالة وقد وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكرا عظيما وخاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر القاضي السلطان مسعود بذلك و [2] من مسير   [1] كذا بالأصل: عبارة مرتبكة وفي الكامل ج 11 ص 56: ثم رحلوا الى حلب من الغد في خيلهم ورجلهم فخرج اليهم احداث حلب فقاتلوهم قتالا شديدا. [2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: وإذا قد وصلني كتاب أتابك زنكي في الشام بخبر رحيل ملك الروم ويأمرني بأن لا استصحب من العسكر أحدا. فعرّفت السلطان ذلك فقال العسكر قد تجهّز ولا بدّ من الغزاة الى الشام، فبعد الجهد وبذل الخدمة العظيمة له ولأصحابه حتى أعاد العسكر. ج 11 ص 58. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 العساكر والله تعالى أعلم. استيلاء الاتابك زنكي على بعلبك ّ ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوّال كما مرّ في أخبار دولتهم وكانت أمّه زمرد خان متزوّجة بالاتابك كما مرّ فبعثت اليه وهو بالجزيرة تعرفه بالخبر وتطلب منه أن يسير الى دمشق ويثأر بولدها من أهل دولته فسار لذلك واستعدّ أهل دمشق للحصار ثم قصد الاتابك مدينة بعلبكّ ونزلها وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق وتزوّج أمّه وبعث بجاريته الى بعلبكّ فلما سار الاتابك الى دمشق قدم رسله الى انز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبي من ذلك وسار الاتابك الى بعلبكّ فنازلها آخر ذي الحجة من السنة ونصب عليها المجانيق وشد حصارها حتى استأمنوا فملكها واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا الى الاتابك فلما ملكها قبض عليهم وصلهم وتزوّج جارية انز ونقلها الى حلب الى أن بعثها ابنه نور الدين محمود الى صاحبها بعد موت الاتابك والله تعالى أعلم. حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق ثم سار الاتابك زنكي الى حصار دمشق في ربيع الأوّل من سنة أربع وثلاثين بعد الفراغ من بعلبكّ فنزل بالبقاع وأرسل الى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها اليه ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب الى ذلك فزحف اليه ونزل داريا والتقت الطلائع فكان الظفر لأصحاب الاتابك ثم تقدم الى المصلي فنزل بها وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم ثم أمسك عن القتال عشرا يراود فيها صاحب دمشق وبذل له بعلبكّ وحمص وما يختاره من البلاد فجنح الى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب ثم توفي صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة ونصب معين الدين انز مكانه ابنه محيي الدين أمو وقام بأمره وطمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه وبعث معز الدين انز الى الافرنج يستدعيهم الى النصر على الاتابك ويبذل لهم ويخوّفهم غائلته ويشترط لهم اعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الافرنج لذلك وأجفل زنكي الى حوران خامس رمضان من السنة معتزما على لقائهم فلم يصلوا فعاد الى حصار دمشق وأحرق قراها وارتحل الى بلاده ثم وصل الافرنج وارتحل معين الدين انز في عساكر دمشق الى بانياس وهي للاتابك زنكي ليوفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 للافرنج بشرطه لهم فيها وقد كان نائبها سار للاغارة على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب انطاكية ذاهبا الى دمشق منجدا فهزم عسكر بانياس وقتلوا ولحق فلهم بالبلد وقد وهنوا وحاصرهم معين الدين انز والافرنج وملكها عنوة وسلمها للافرنج وأحفظه ذلك وفرّق العسكر في حوران وأعمال دمشق وسار هو فصابح دمشق ولم يعلموا بمكانه فبرزوا اليه وقاتلوه وقتل منهم جماعة ثم احجم عنهم لقلة من معه وارتحل الى مرج راهط في انتظار عساكره فلما توافوا عنده عاد الى بلاده. استيلاء الاتابك على شهرزور وأعمالها كان شهرزور بيد قفجاق بن ارسلان شاه أمير التركمان وصالحهم وكانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه واشتمل عليه التركمان وسار اليه الاتابك زنكي سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به الاتابك واستباح معسكره وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها واستأمن اليه قفجاق فأمنه وسار في خدمته وخدمة بنيه بعده الى آخر المائة ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الاتابك زنكي وبين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة وحروب وانهزم داود وملك الاتابك من بلاده قلعة همرد وأدركه [1] فعاد الى الموصل ثم سار الاتابك الى مدينة الحرمية فملكها سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها الى الموصل ورتب أصحابه مكانهم ثم خطب له صاحب آمد وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه ثم بعث الاتابك لسنة سبع وثلاثين عسكرا الى قلعة أشهب وهي أعظم من حصون الأكراد الهكارية وأمنعها وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها وأمره الاتابك بتخريبها وبنى قلعة العماديّة عوضا عنها وكانت خربت قبل ذلك لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن وكان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم. صلح الاتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه على أكثر ديار بكر كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الاتابك زنكي شأن الخارجين على طاعته من أهل الاطراف وينسب ذلك اليه وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه فلما فرغ   [1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على اسم المكان الّذي أدركه به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة سار الى بغداد عازما على قصد الاتابك وحصار الموصل فأرسل الاتابك يستعطفه ويستميله على أن يدفع اليه مائة ألف دينار ويعود عنه فشرع في ذلك وحمل منها عشرين ألفا ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج الى مداراته وترك له الباقي وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث ان ابنه غازي كان عند السلطان فهرب الى الموصل فبعث الى نائبها نصير الدين جقري يمنعه من دخولها وبعث الى ابنه بالرجوع الى خدمة السلطان وكتب الى السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغيير السلطان عليه وقد أعدته الى الخدمة ولم ألفه وأنا مملوك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع ثم سار الاتابك الى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن ذي القرنين وغير هذه وملك أيضا من بلاد ماردين [1] الافرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان وأنزل بها الحامية وقصد آمد فحصرها وسير عسكرا الى مدينة غانة من أعمال الفرات فملكها وللَّه تعالى أعلم. فتح الرها وغيرها من أعمال الافرنج كان الافرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد ونصيبين ورأس عين والرقة وكان زعيمهم ومقدّمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم ورأى الاتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو ديار بكر كما قلناه و [2] جوسكين وعبر الفرات من الرها الى غزنة وجاء الخبر بذلك الى الاتابك فارتحل منتصف جمادى الاخيرة سنة تسع وثلاثين وحرّض المسلمين وحثهم على عدوّهم ووصل الى الرها وجوسكين غائب عنها فانحجز الإفرنج بالبلد وحاصرهم شهرا وشدّ في حصارهم وقتالهم ولج في ذلك قبل اجتماع الافرنج ومسيرهم اليه ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه وملك البلد عنوة ثم حاصر القلعة وملكها كذلك ثم ردّ على أهل البلد ما أخذ منهم وأنزل فيه حامية وسار الى سروج وجميع البلاد التي بيد الافرنج شرقيا فملكها جميعا الا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت ورحل عنها والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] هنا بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على التصويب. [2] كذا بياض بالأصل، في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب العبارة ومقتضى السياق. فوري بغزو ديار بكر كما قلناه، وخدع جوسكين وعبر الفرات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 مقتل نصير الدين جقري نائب الموصل وولاية زين الدين على كجك مكانه بالقلعة كان استقرّ عند الاتابك زنكي بالموصل الملك البارسلان ابن السلطان محمد ويلقب الخمفاجي وكان شبيها به وتوهم [1] السلطان ان البلاد له وأنه نائبة وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه وكان يتردّد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الاتابك وزين له قتل نصير الدين النائب والاستيلاء على الموصل فلما دخل اليه أغرى به أجناد الاتابك ومواليه فوثبوا به وقتلوه في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ثم ألقوا برأسه الى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوصبوا واقتحموا عليه الدار ودخل عليه القاضي تاج الدين يحي ابن الشهرزوريّ فأوهمه بطاعته وأشار عليه بالصعود الى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب وصعد معه وتقدّم الى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول ثم يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة وعاد القاضي الى البلد وطار الخبر الى الاتابك زنكي بحصار البيرة فخشي اختلاف البلد وعاد الى الموصل وقدم زين الدين على ابن كجك وولاه القلعة مكان نصير الدين وأقام ينتظر الخبر وخاف الافرنج الذين بالبيرة من عودته اليهم فبعثوا الى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها المسلمون. حصار زنكي حصن جعبر وفنك ثم سار الاتابك زنكي سنة احدى وأربعين في المحرّم الى حصن جعبر ويسمى دوس وهو مطل على الفرات وكان لسالم بن مالك العقيلي أقطعه السلطان ملك شاه لأبيه حين أخذ منه حلب وبعث جيشا الى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة ابن عمر فحاصروها وصاحبها يومئذ حسام الدين الكردي فحاصر قلعة جعبر حتى توسط الحال بينهما حسان المنبجي ورغبه ورهبه وقال في كلامه من يمنعك منه فقال الّذي منعك أنت من مالك بن بهرام وقد حاصر حسان منبج فأصابه في بعض الأيام سهم فقتله وأفرج عن حسان وقدر قتل الاتابك كذلك والله تعالى أعلم.   [1] بياض بالأصل، ومقتضى السياق: وتوهم ان يخدع السلطان ان البلاد له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 مقتل الاتابك عماد الدين زنكي كان الاتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل والشام محاصرا لقلعة جعبر كما ذكرنا واجتمع جماعة من مواليه اغتالوه ليلا وقتلوه على فراشه ولحقوا بجعبر وأخبروا أهلها فنادوا من السور بقتله فدخل أصحابه اليه وألفوه بجود بنفسه وكان قتل لخمس من ربيع الآخر سنة احدى وأربعين عن ستين سنة من عمره ودفن بالرقة وكان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين ولما قتل دفن بالرقة وكان حسن السياسة كثير العدل مهيبا عند جنده عمر البلاد وأمنها وأنصف المظلوم من الظالم وكان شجاعا شديد الغيرة كثير الجهاد ولما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك وصاحبها غفار قال ابن الأثير سمعتهم يزعمون أن لهم فيها نحو ثلاثمائة سنة وفيهم رفادة وعصبية ويجيرون كل من يلجأ اليهم والله أعلم. استيلاء ابنه غازي على الموصل وابنه الآخر محمود على حلب ولما قتل الاتابك زنكي نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده وسار به الى حلب فاستولى عليها وخرج الملك البارسلان ابن السلطان محمود واجتمعت عليه العساكر وطمع في الاستقلال بملك الموصل وحضر ابنه جمال الدين محمد بن علي ابن متولي الديوان وصلاح الدين محمد بن الباغيسياني الحاجب وقد اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لأصحابهما وحسنا لألب أرسلان ما هو فيه من الاشتغال بلذاته وأدخلاه الرقة فانغمس بها وهما يأخذان العهود على الأمراء لسيف الدين غازي ويبعثانهم الى الموصل وكان سيف الدين غازي في مدينة شهرزور وهي أقطاعه وبعث اليه زين الدين على كوجك نائب القلعة بالموصل يستدعيه ليحضر عنده وسار البارسلان الى سنجار والحاجب وصاحبه معه ودسوا الى نائبها بأن يعتذر للملك البارسلان بتأخره حتى يملك الموصل فساروا الى الموصل ومرّوا بمدينة [1] وقد وقف العسكر فأشاروا على البارسلان بعبور دجلة الى الشرق وبعثوا الى سيف الدين غازي بخبره وقلة عسكره فأرسل اليه عسكرا فقبضوه وجاءوا به فحسب بقلعة الموصل واستولى سيف الدين غازي على الموصل والجزيرة وأخوه نور الدين محمود على حلب ولحق به صلاح الدين الباغيسياني فقام بدولته والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.   [1] بياض بالأصل في هذه النسخة وفي نسخة ثانية: مدينة سنجار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 عصيان الرها ولما قتل الاتابك زنكي ملك الرها جوسكين كان جوسكين مقيما في ولايته بتل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وعامّتهم من الأرمن وحملهم على العصيان على المسلمين وتسليم البلد له فأجابوه وواعدوه ليوم عينوه فسار في عساكره وملك البلد وامتنعت القلعة وبلغ الخبر الى نور الدين محمود وهو بحلب فأغذ السير اليها وأجفل جوسكين الى بلده ونهب نور الدين المدينة وسبى أهلها وارتحلوا عنها وبعث سيف الدين غازي العساكر اليها فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا وذلك سنة احدى وأربعين ثم قصد صاحب دمشق بعد قتل الاتابك حصن بعلبكّ وبه نجم الدين أيوب بن شادي نائب الاتابك فأبطأ عليه انجاد بنيه فصالح صاحب دمشق وسلم له بعلبكّ على اقطاع ومال أعطاه إياه وعشر قرى من بلاد دمشق وانتقل معه إلى دمشق فسكنها وأقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة اثنتين وأربعين من حلب الى الافرنج ففتح مدينة ارتاج عنوة وحاصر حصونا أخرى وكان الافرنج بعد قتل الاتابك يظنون أنهم يستردّون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ولما قتل الاتابك زنكي طمع صاحب ماردين وصاحب كيفا أن يستردّوا ما أخذ من بلادهم فلما تمكن سيف الدين غازي سار إلى أعمال ديار بكر فملك دارا وغيرها وتقدم الى ماردين وحاصرها وعاث في نواحيها حتى ترحم صاحبها حسام الدين تمرتاش على الاتابك مع عداوته ثم أرسل الى سيف الدين غازي وصالحه وزوّجه بنته فعاد الى الموصل وزفت اليه وهو مريض فهلك قبل زفافها وتزوّجها أخوه قطب الدين من بعده والله أعلم. مصاهرة سيف الدين غازي لصاحب دمشق وهزيمة نور الدين محمود للافرنج كان تقدّم لنا في دولة بني طغركين موالي دقاق بن تتش أنّ ملك اللمان من الافرنج سار سنة ثلاث وأربعين وحاصر دمشق بجموع الافرنج وبها محيي الدين ارتق بن بوري بن محمد بن طغركين في كفالة معين الدين أنز مولى [1] فبعث معين الدين الى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي بالموصل يدعوه الى نصرة المسلمين فجمع عساكره وسار الى الشام   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 38: مملوك جده طغركين، وهو الّذي اقام مجير الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 واستدعى أخاه نور الدين من حلب ونزلوا على حمص فأخذوا بحجزة الافرنج عن الحصار وقوي المسلمون بدمشق عليهم وبعث معين الدين الى طائفتي الافرنج من سكان الشام واللمان الواردين فلم يزل يضرب بينهم وجعل لافرنج الشام حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك اللمانيين ففتلوا له في الذروة والغارب حتى رحل عن دمشق ورجع الى بلاده وراء قسطنطينية بالشمال وحسن أمر سيف الدين غازي وأخيه في الدفاع عن المسلمين وكان مع ملك اللمان حين خرج الى الشام ابن ادفونش ملك الجلالقة بالأندلس وكان جدّه هو الّذي ملك طرابلس الشام من المسلمين حين خروج الافرنج الى الشأم فلما جاء الآن مع ملك اللمان ملك حصن العريمة وأخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص فأرسل القمص الى نور الدين محمود ومعين الدين أنز وهما مجتمعان ببعلبكّ بعد رحيل ملك اللمانيين عن دمشق وأغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة واستخلاص حصن العريمة من يده فسارا لذلك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وبعث الى سيف الدين وهو بحمص فأمدّهما بعسكر مع الأمير عز الدين أبي بكر الديسي صاحب جزيرة ابن عمر وحاصروا حصن العريمة أياما ثم نقضوا سوره وملكوه على الافرنج وأسروا من كان به من الافرنج ومعهم ابن ادفونش وعاد الى سيف الدين عسكره ثم بلغ نور الدين ان الافرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشام للاغارة على أعمال حلب فسار اليهم وقتلهم وهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا وبعث من غنائمهم وأسراهم الى أخيه سيف الدين غازي والى المقتفي الخليفة انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة سيف الدين غازي وملك أخيه قطب الدين مودود ثم توفي سيف الدين غازي بن الاتابك زنكي صاحب الموصل منتصف أربع وأربعين وخمسمائة لثلاث سنين وشهرين من ولايته وخلف ولدا صغيرا ربي عند عمه نور الدين محمود وهلك صغيرا فانقرض عقبه وكان كريما شجاعا متسع المائدة يطعم بكرة وعشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة وهو أوّل من حمل الصنجق [1] على رأسه وأمر بتعليق السيوف بالمناطق وترك التوشح بها وحمل الدبوس في حلقة السرج وبني المدارس للفقهاء والربط للفقراء ولما أنشده حيص بيص الشاعر يمدحه   [1] كلمة تركية تعني العلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 الام يراك المجد في زي شاعر ... وقد نحلت شوقا إليك المنابر فوصله بألف مثقال سوى الخلع وغيرها ولما توفي سيف الدين غازي انتقض الوزير جمال الدين وأمير الجيوش زين الدين علي وجاءوا بقطب الدين مودود وبادروا الى تمليكه واستخلفوه وحلفوا له وركب الى دار السلطنة وزين الدين في ركابه فبايعوا له وأطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل والجزيرة وتزوّج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التي هلك أخوه قبل زفافها فكان ولده كلهم منها والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء السلطان محمود على سنجار ولما ملك قطب الدين مودود الموصل وكان أخوه نور الدين محمود بالشام وكان أكبر منه وله حلب وحماة كاتبه جماعة من الأمراء بعد أخيه غازي وفيمن كاتبه نائب سنجار المقدّم عبد الملك فبادر اليه في سبعين فارشا من أمرائه وسبق أصحابه في يوم مطير الى مساكن ودخل البلد ولم يعرفوا منه الا أنه أمير من جند التركمان ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده وأطاعه ولحق به أصحابه وساروا جميعا الى سنجار وأغذ السير فقطع عنه أصحابه وتوصل الى سنجار في فارسين ونزل بظاهر البلد وبعث الى المقدم فوصله وكان قد سار الى الموصل وترك ابنه شمس الدين محمد بالقلعة فبعث في أثر أبيه وعاد من طريقه وسلم سنجار الى نور الدين محمود فملكها واستدعى فخر الدين قرى ارسلان صاحب كيفا لمودة بينهما فوصل في عساكره وبلغ الخبر الى قطب الدين صاحب الموصل ووزيره جمال الدين وأمير جيشه زين الدين فساروا الى سنجار للقاء نور الدين محمود وانتهوا الى تل اعفر ثم خاموا عن لقائه وأشار الوزير جمال الدين بمصالحته وسار اليه بنفسه فعقد معه الصلح وأعاد سنجار على أخيه قطب الدين وسلم له أخوه مدينة حمص والرحبة والشام فانفرد بملك الشام وانفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة واتفقا وعاد نور الدين الى حلب وحمل ما كان لأبيهم الاتابك زنكي من الذخيرة واتفقا وعاد نور الدين الى حلب وحمل ما كان لأبيهم الاتابك زنكي من الذخيرة لسنجار وكانت لا يعبر عنها والله تعالى أعلم. غزو نور الدين الى انطاكية وقتل صاحبها وفتح افاميا ثم غزا نور الدين سنة أربع وأربعين الى انطاكية فعاث فيها وخرّب كثيرا من حصونها وبينما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الافرنج وزحفوا اليه فلقيهم وحاربهم وأبلى في ذلك الموقف فهزم الافرنج وقتل البرنس صاحب انطاكية وكان من عتاة الافرنج وملك بعده ابنه سمند طفلا وتزوّجت أمّه برنس آخر يكفل ولدها ويدبر ملكها فغزاه نور الدين ولقوة فهزمهم وأسر ذلك البرنس الثاني وتمكن الطفل سمند من ملكه بأنطاكية ثم سار نور الدين سنة خمس وأربعين الى حصن افاميا بين شيزر وحماة وهو من أحسن القلاع فحاصروه وملكه وشحنه حامية وسلاحا واقواتا ولم يفرغ من أمره الا والإفرنج الّذي بالشام جمعوا وزحفوا اليه وبلغهم الخبر فخاموا عن اللقاء وصالحوه في للهادنة فعقد لهم انتهى. هزيمة نور الدين جوسكين وأسر جوسكين ثم جمع نور الدين بعد ذلك وسار غازيا إلى بلاد زعيم الإفرنج وهي تل باشر وعنتاب وعذار وغيرها من حصون شمالي حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها ولقيه فاقتتلوا ومحص الله المسلمين واستشهد كثير منهم وأسر آخرون وفيهم صاحب صلاح نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج أرسلان يعيره به لمكان صهره نور الدين على ابنته فعظم ذلك عليه وأعمل الحيلة في جوسكين وبذل المال لأحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في القبض عليه ففعلوا وظفر به بعضهم فشاركهم في إطلاقه على مال وبعث من يأتي به وشعر بذلك وإلى حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكرا ليسوا من ذلك الحيّ جاءوا بجوسكين أسيرا إلى حلب وثار نور الدين إلى القلاع فملكها وهي تل باشر وعنتاب وعذار وتل خالد وقورص وداوندار ومرج الرصاص وحصن النادة وكفرشود وكفرلات ودلوكا ومرعش ونهر الجود وشحنها بالأقوات وزحف إليه الإفرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك وانهزم الإفرنج وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والأسر ورجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها وتأخر فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق واستأمنوا إليه وبعث إليهم حسان المنبجي فتسلمها منهم وحصنها وذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء نور الدين على دمشق كان الإفرنج سنة ثمان وأربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر واعترضت دمشق بين نور الدين وبينهما فلم يجد سبيلا إلى المدافعة عنها واستطال الإفرنج على دمشق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 بعد ملكهم عسقلان ووضعوا عليها الجزية واشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم وكان بها يومئذ مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغركين الأتابك واهن القوى مستضعف القوّة فخشي نور الدين عليها من الإفرنج وربما ضايق مجير الدين بعض الملوك من جيرانه فيفزع إلى الإفرنج فيغلبون عليه وأمعن النظر في ذلك وبدأ أمره بمواصلة مجير الدين وملاطفته حتى استحكمت المودّة بينهما حتى صار يداخله في أهل دولته ويرميهم عنده أنهم كاتبوه فيوقع الآخر بهم حتى هدم أركان دولته ولم يبق من أمرائه إلا الخادم عطاء بن حفاظ وكان هو القائم بدولته فعصى به نور الدين وحال بينه وبين دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه وقتله وخلت دمشق من الحامية فسار حينئذ نور الدين مجاهرا بعداوة مجير الدولة ومتجنيا عليه واستنجد بالإفرنج على أن يعطيهم الأموال ويسلم لهم بعلبكّ فجمعوا واحتشدوا وفي خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع وأربعين وكاتب جماعة من أحداثها ووعدهم من أنفسهم فلما وصل ثاروا بمجير الدين ولجأ إلى القلعة وملك نور الدين المدينة وحاصره بالقلعة وبذل له إقطاعا منها مدينة حمص فسار إليها مجير الدين وملك نور الدين القلعة ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها ولحق ببغداد وابتنى بها دارا وأقام بها إلى أن توفي والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء نور الدين على تل باشر وحصاره قلعة حارم ولما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الإفرنج الذين في تل باشر في شمالي حلب واستأمنوا إليه ومكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجي من كبراء أمراء نور الدين سنة تسع وأربعين ثم سار سنة إحدى وخمسين إلى قلعة بهرام بالقرب من أنطاكية وهي لسمند أمير أنطاكية من الإفرنج فحاصرها واجتمع الإفرنج لمدافعته ثم خاموا عن لقائه وصالحوه على نصف أعمال حارم فقبل صلحهم ورحل عنها والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه. استيلاء نور الدين على شيزر شيزر هذه حصن قريب من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا يسلك إليه إلّا من طريق واحدة وكانت لبني منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين وأربعمائة إلى أن انتهى ملكه إلى المرهف نصر بن علي بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 نصير بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي فلما حضره الموت سنة تسعين وأربعمائة عهد لأخيه أبي سلمة بن مرشد وكان عالما بالقراءات والأدب وولي مرشد أخاه الأصغر سلطان بن علي وكان بينهما من الاتفاق والملاءمة ما لم يكن بين اثنين ونشأ لمرشد بنون كثيرون و [1] في السود منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة وولده علي وتعدّد ولده ونافسوا بني عمهم وفشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد والتئامه بأخيه فلما مات مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة تنكر أخوه سلطان لولده وأخرجهم من شيزر فتفرّقوا وقصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم وكان مشتغلا عنهم بالإفرنج ثم توفي سلطان وقام بأمر شيزر أولاده وراسلوا الإفرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك ثم وقعت الزلازل بالشام وخرب أكثر مدنه مثل حماة وحمص وكفر طاب والمعرّة وأفامية وحصن الأكراد وعرقة ولاذقية وطرابلس وأنطاكية هذه سقطت جميعها وتهدّمت سنة اثنتين وخمسين وما سقط بعضه وتهدّمت أسواره فأكثر بلاد الشام وخشي نور الدين عليها من الإفرنج فوقف بعساكره في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من أسوارها وكان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة فأصابتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة ولم ينج منهم أحد وكان بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر وصعد إليها وملكها منه نور الدين ورم ما تثلم من أسوارها وجدّد بناءها فعادت كما كانت هكذا قال ابن الأثير وقال ابن خلكان وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة استولى بنو منقذ على شيزر من يد الروم والّذي تولى فتحها منهم علي بن منقذ بن نصر بن سعد وكتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه كتابي من حصن شيزر حماه الله وقد رزقني الله من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق في هذا الزمان وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هزبر هذه الأمّة وسليمان الجنّ والمردة وأنا أفرّق بين المرء وزوجه واستنزل القمر من محله أنا أبو النجم وشعري شعري نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمرا يذهل الألباب يسع ثلاثة آلاف رجل بالأهل والمال وتمسكه خمس نسوة فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالحواص ويسمى هذا التل بالحصن فعمرته حصنا وجمعت فيه أهلي وعشيرتي ونفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف من الروم ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وعشيرتي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بصوت الأذان ورأى أهل شيزر فعلي ذلك فأنسوا بي ووصل إليّ منهم قريب من نصفهم فبالغت في إكرامهم ووصل إليهم مسلم بن قريش العقيلي فقتل   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 219: فأولد مرشد عدة أولاد ذكور وكبروا وسادوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 من أهل شيزر نحو عشرين رجلا فلما انصرف مسلم عنهم سلموا إليّ الحصن انتهى كتاب علي بن منقذ وبين هذا الّذي ذكره ابن خلكان والّذي ذكره ابن الأثير نحو خمسين سنة وما ذكره ابن الأثير أولى لأنّ الإفرنج لم يملكوا من الشام شيئا في أوائل المائة الخامسة والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء نور الدين على بعلبك ّ كانت بعلبكّ في يد الضحاك البقاعي نسبة إلى بقاعة [1] والآن عليها صاحب دمشق فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبكّ وشغل نور الدين عنه بالإفرنج فلما كانت سنة اثنتين وخمسين استنزله نور الدين عنها وملكها والله أعلم. استيلاء أخي نور الدين على حران ثم ارتجاعها كان نور الدين سنة أربع وخمسين وخمسمائة بحلب ومعه أخوه الأصغر أمير أميران فمرض نور الدين بالقلعة واشتدّ مرضه فجمع أخوه وحاصر قلعة حلب وكان شيركوه بن شادي أكبر أمرائه بحمص فلما بلغه لأزحاف [2] سار إلى دمشق ليملكها وعليها أخوه نجم الدين أيوب فنكر عليه وأمره بالمسير إلى حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته فأغذ السير إلى حلب وصعد القلعة وأظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين علي كجك نائب أخيه قطب الدين بالموصل وسار إلى الرقة فحاصرها والله تعالى وليّ التوفيق. خبر سليمان شاه وحبسه بالموصل ثم مسيره منها إلى السلطنة بهمذان كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر بخراسان وقد عهد له بملكه وخطب باسمه على منابر خراسان فلما حصل سنجر في أسر العدو سنة ثمان وأربعين وخمسمائة كما مرّ في أخبار دولتهم واجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا وقدموه   [1] وهي البقاع وفي الكامل بقاع بعلبكّ. [2] كذا بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على التصويب والأصح: الزحف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 فلم يطق مقاومة العدوّ فمضى إلى خوارزم شاه وزوّجه ابنة أخيه ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم وقصد أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا دافعوه عنها فسار إلى خراسان فمنعه ملك شاه منها فقصد النجف ونزل [1] وأرسل للخليفة المستنصر وبعث أهله وولده رهنا بالطاعة واستأذن في دخول بغداد فأكرمهم الخليفة [2] وأذن له وخرج ابن الوزير ابن هبيرة لتلقيه في الموكب وفيه قاضي القضاة والتقيا ودخل بغداد وخلع عليه آخر سنة خمسين وبعد أيام أحضر بالقصر واستخلف بحضرة قاضي القضاة والأعيان وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه وأمر بثلاثة آلاف فارس وسار نحو بلاد الجبل في ربيع سنة إحدى وخمسين ونزل الخليفة حلوان واستنفر له ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان فقدم إليه في ألفي فارس وجعله سليمان شاه وليّ عهده وأمدّهما الخليفة بالمال والسلاح ولحق بهما ايلدكز صاحب الريّ فكثرت جموعهم وبعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل وزين الدين كجك علي نائبة في المظاهرة والأنجاد وسار إلى لقاء سليمان شاه فانهزم وتمزق عسكره وفارقه أيلدكز فذهب إلى بغداد على طريق بشهرزور وبلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين علي كجك فخرج في جماعة من عسكر الموصل وقعد له بشهرزور ومعه الأمير إيراق حتى مرّ بهم سليمان شاه فقبض عليه زين الدين وحمله إلى الموصل فحبسه بها مكرما وطير إلى السلطان محمود بالخبر فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس وخمسين أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين أتابك وزيره وزيرا له وتعاهدوا على ذلك وجهزه قطب الدين جهاز الملك وسار معه زين الدين علي كجك في عسكر الموصل إلى همذان فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والإمداد للقائهم إرسالا واجتمعوا على سليمان شاه وجروا معه على مذاهب الدولة فخشيهم زين الدين على نفسه وفارقهم إلى الموصل وسار سليمان شاه إلى همذان فكان من أمرهم ما تقدّم في أخبار الدولة السلجوقية.   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 206: ونزل البندنجين، وأرسل رسولا إلى الخليفة المقتفي يعلمه بوصوله. [2] كذا بياض بالأصل عبارة مرتبكة. وفي الكامل فأكرم الخليفة زوجته ومن معها، وأذن له في القدوم فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل: ج 11 ص 206. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 حصار قلعة حارم وانهزام نور الدين إمام الإفرنج ثم هزيمتهم وفتحها ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب وحاصر الإفرنج بقلعة حارم وجمعوا لمدافعته ثم خاموا عن لقائه ولم يناجزوه وطال عليه أمرها فعاد عنها ثم جمع عساكره وسار سنة ثمان وخمسين معتزما على غزو طرابلس وانتهى إلى البقيعة تحت حصن الأكراد فكبسهم الإفرنج هنالك وأثخنوا فيهم ونجا نور الدين في الفلّ إلى بحيرة مرس قريبا من حمص ولحق به المنهزمون وبعث إلى دمشق وحلب في الأموال والخيام والظهر وأزاح علل العسكر وعلم الإفرنج بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها وسألوه الصلح فامتنع فأنزلوا حاميتهم بحصن الأكراد ورجعوا وفي هذه الغزاة عزل نور الدين رجلا يعرف بابن نصري تنصح له بكثرة خرجه بصلاته وصدقاته على الفقراء والفقهاء والصوفية والقرّاء إلى مصارف الجهاد فغضب وقال والله لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنّهم يقاتلون عني بسهام الدعاء في الليل وكيف أصرفها عنهم وهي من حقوقهم في بيت المال ذلك شيء لا يحل لي ثم أخذ في الاستعداد للأخذ بثأره من الإفرنج وسار بعضهم إلى ملك مصر فأراد أن يخالفهم إلى بلادهم فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب كيفا وإلى نجم الدين وإلى صاحب ماردين بالنجدة فسار من بينهم أخوه قطب الدين وفي مقدمته زين الدين علي كجك صاحب جيشه ثم تبعه صاحب كيفا وبعث نجم الدين عسكره فلما توافت الإمداد سار نور الدين نحو حارم سنة تسع وخمسين فحاصرها ونصب عليها المجانيق واجتمع من بقي بالساحل من ملوك الإفرنج ومقدمهم البرنس سمند صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وابن جوسكين واستنفر لهم أمم النصرانية وقصدوه فأفرج عن حارم إلى إرتاج ثم خاموا عن لقائه وعادوا إلى حصن حارم وسار في إتباعهم وناوشهم الحرب فحملوا على عساكر حلب وصاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها ومرّوا في أتباعهم وحمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن فيهم واستلحمهم وعاد الإفرنج من أتباع الميمنة فسقط في أيديهم ودارت رحى الحرب على الإفرنج فانهزموا ورجع المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا منهم أمما فيهم سمند صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وبعث السرايا في تلك الأعمال بقصد أنطاكية لخلوها من الحامية فأبى وقال أخشى أن يسلمها أصحابها لملك الروم فإنّ سمند ابن أخته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 ومحاورته أحق إليّ من مجاورة ملك الروم ثم عاج على قلعة حارم فحاصرها وافتتحها ورجع مظفرا والله يؤيد بنصره من يشاء عباده. فتح نور الدين قلعة بانياس ولما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل وحصن كيفا بالانطلاق إلى بلادهم وعزم على منازلة بانياس وكانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الإفرنج همتهم إلى حمايتها وخالف هو إلى بانياس لقلة حاميتها فحاصرها وضيق عليها في ذي الحجة من سنة تسع وخمسين وكان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فأصيب بسهم في إحدى عينيه وأخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح وخافه الإفرنج فشاطروه في أعمال طبرية وضرب عليهم الجزية في الباقي ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح وعاد إلى دمشق ثم سار سنة إحدى وستين متجرّدا إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرّة وملكه عنوة ولم يجتمع الإفرنج إلا وقد ملكه فافترقوا ويئسوا من ارتجاعه والله تعالى أعلم. وفادة شاور وزير العاضد بمصر على نور الدين العادل صريخا وإنجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي وصارت إلى استبداد وزرائها على خلفائها وكان من آخر المسلمين بها شاور السعدي استعمله الصالح بن زربك على قوص وندم فلما هلك الصالح بن زربك [1] وكان مستبدّا على الدولة قام ابنه زربك مقامه فعزل شاور عن قوص فلم يرض بعزله وجمع وزحف إلى القاهرة فملكها وقتل زربك واستبدّ على العاضد ولقيه أمير الجيوش وكانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ثم نازعه الضرغام وكان صاحب الباب ومقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارته وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام وقصد نور الدين محمود بن زنكي مستنجدا به على أن يكون له ثلث الجباية بمصر ويقيم عسكر نور الدين بها مددا له فاختار من أمرائه لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي   [1] وفي الكامل ج 11 ص 290 الصالح بن رزّيك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 وكان بحمص وجهزه بالعساكر فسار لذلك في جمادى سنة تسع وخمسين وأتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الإفرنج فشغلها عن التعرّض للعساكر وسار أسد الدين مع شاور وسار معه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب وانتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فانهزم ورجع إلى القاهرة وأتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها وقتل أخوه وعاد شاور إلى وزارته وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد عليه نور الدين فنكث شاور العهد وبعث إليه بالرجوع إلى بلده فلجّ في طلب ضريبته ورحل إلى بلبيس والبلاد الشرقية فاستولى عليها واستمدّ شاور عليه بالإفرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوّف غائلته وطمعوا في ملك مصر وسار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجرتهم على المسير فلم يثنهم ذلك وتركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين واجتمع الإفرنج وعساكر مصر فحاصروه ثلاثة أشهر يغاديهم القتال ويراوحهم وجاءهم الخبر بهزيمة الإفرنج على حارم وما هيأ الله لنور الدين في ذلك فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح وطووا عنه الخبر فصالحهم وخرج ولحق بالشام ووضع له الإفرنج المراصد بالطريق فعدل عنها ثم أعاده نور الدين إلى مصر سنة اثنتين وستين فسار بالعساكر في ربيع ونزل اطفيح وعبر النيل وجاء إلى القاهرة من جانبها الغربي ونزل الجيزة في عدوة النيل وحاصرها خمسين يوما واستمدّ شاور بالإفرنج وعبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد ولقيهم منتصف السنة فهزمهم وسار إلى ثغر الإسكندرية فملكها وولي عليها صلاح الدين ابن أخيه ورجع فدوّخ بلاد الصعيد وسارت عساكره مصر والإفرنج إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فتلقوه بطلب الصلح فتمّ ذلك بينهم وعاد إلى الشام وترك لهم الإسكندرية وكاتب شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه وعن طائفة من الأمراء ثم استطال الإفرنج على أهل مصر وفرضوا عليهم الجزية وأنزلوا بالقاهرة الشحنة وتسلموا أبوابها واستدعوا ملكهم بالشام إلى الاستيلاء عليها فبادر نور الدين وأعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع وستين فملكها وقتل شاور وطرد الإفرنج عنها وقدّمه العاضد لوزارته والاستبداد عليه كما كان من قبله ثم هلك أسد الدين وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه وهو مع ذلك في طاعة نور الدين محمود وهلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بإقامة الدعوة العباسية بمصر والخطبة للمستضيء ويقال أنه كتب له بذلك في حياة العاضد وبين يدي وفاته وهلك لخمسين يوما أو نحوها فخطب للمستضيء العباسي وانقرضت الدولة العلوية بمصر وذلك سنة سبع وستين كما نأتي على شرحه وتفصيله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 في دولة بني أيوب إن شاء الله تعالى ووقعت خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود وبين صاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان سنة ستين وخمسمائة وكتب الصالح ابن زربك إلى قليج أرسلان ينهاه عن الفتنة والله تعالى وليّ التوفيق. فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر ثم جمع نور الدين عساكره سنة اثنتين وستين واستدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم عليه بحمص ودخلوا جميعا بلاد الإفرنج ومرّوا بحصن الأكراد واكتسحوا نواحيه ثم حاصروا عرقة وخرجوا جكة [1] وفتحوا العريمة وصافيتا وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان وانتقلوا إلى بانياس وقصدوا حصن حموص [2] فهرب عنه الإفرنج فهدم نور الدين سوره وأحرقه واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور الدين من عمله الرقة على الفرات ثم انتقض بمدينة منبج غازي بن حسان وبعث إليها العساكر فملكها عنوة وأقطعها أخاه قطب الدين نيال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر وكانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها وكان السلطان ملك شاه أعطاها لجدّه عند ما ملك حلب كما مرّ في أخباره ولم تزل بيده ويد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرما وحاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى [3] وبعث بالعساكر مع الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفرانيّ وحاصرها مدّة فامتنعت فبعث عسكرا آخر وقدّم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب وعوّضه نور الدين عنها سروج وأعمالها وساحة حلب ومراغة وعشرين ألف دينار وملك قلعة جعبر سنة أربع وستين وانقرض أمر بني مالك منها والبقاء للَّه وحده.   [1] وفي الكامل: ج 11 ص 327 وحصروا حلبة وأخذوها وخربوها. [2] وفي الكامل: (ج 11 ص 328) وقصدوا حصن هونين، وهو للفرنج أيضا من أمنع حصونهم ومعاقلهم. [3] كذا بالأصل والعبارة مرتكبة والأسماء محرفة، وفي الكامل: فاعتقله وأحسن لمواليه ورغبة في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده فلم يفعل فسير إليها نور الدين عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفرانيّ، فحصرها مدة فلم يظفر منها بشيء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 رحلة زين الدين نائب الموصل إلى أربل واستبداد قطب الدين بملكه قد كان تقدّم لنا أنّ نصير الدين جقري كان نائب الأتابك زنكي بالموصل وقتل البارسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعا في الملك لغيبة الأتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين الدين عليّ بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الأتابك وأيام ابنه غازي وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصبهاني فاعتقله وهلك لسنة من الاعتقال وحمل إلى المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم فدفن بها في رباط هناك أعدّه لذلك وكانت وفاته أيام سيف الدين غازي بن قطب الدين فولي مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه وكان زين الدين علي بن كمستكين ويعرف بكجك قد استبدّ في دولة قطب الدين واستغل بحكم الدولة وصارت بيده أكثر البلاد اقطاعا مثل أربل وشهرزور والقلاع التي في تلك البلاد الهكارية منها العماديّة وغيرها والحميدية وتكريت وسنجار وقد كان نقل أهله وولده وذخائر إلى أربل وأقام بمحلها نيابته من قلعة الموصل فأصابه الكبر وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته بأربل فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا أربل وسار إليها سنة أربع وستين وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصيا من موالي جدّه الأتابك زنكي وحكمه في دولته فنزل بالقلعة وعمرها وكان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء والله تعالى أعلم. حصار نور الدين قلعة الكرك ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر واجتمع إليه خلق من التجار ومن أصحاب صلاح الدين وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت العساكر إلى الكرك وهو حصن اختطه من الإفرنج البرنس إرقاط واختط له قلعة فحاصره نور الدين وجمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم وسار في بلادهم فاكتسحها وخرب ما مرّ به من القلاع وانتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب وبعث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس وستين وركب العاضد للقائه ولما كان نور الدين بعشيرا سار للقاء شهاب الدين محمد بن الياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره فلما انتهى إلى نواحي بعلبكّ لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم وجاء بالأسرى ورءوس القتلى إلى نور الدين وعرف الرءوس مقدم الإستبان [1] صاحب حصن الأكراد وكان شجّى في قلوب المسلمين وبلغه وهو بهذا المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام والموصل والجزيرة والعراق وخرجت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده واشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضا خوفا من غائلته والله تعالى أعلم. وفاة قطب الدين صاحب الموصل وملك ابنه سيف الدين غازي ثم توفي قطب الدين مودود بن الأتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة خمس وستين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه وعهد لابنه الأكبر عماد الدين بالملك وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح وكان شديد الطواعية لنور الدين محمود ويعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازي بن مودود بموافقة أمّه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصرا به وقام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبدّ بها والله تعالى أعلم. استيلاء نور الدين على الموصل وإقراره ابن أخيه سيف الدين عليها ولما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين واستبدّ عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدّم وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك وسار في خف من العسكر وعبر الفرات عند جعبر أوّل سنة ست وستين وقصد الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم   [1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 352: فرأى نور الدين في الرءوس رأس مقدم الإسبتار صاحب حصن الأكراد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 نصيبين وكلها من أعمال الموصل وجاءه هناك نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان صاحب كيفا مددا ثم سار إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين ثم جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك ثم عبر الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل وسقطت ذلك اليوم ثلمة كبيرة من سور الموصل وكان سيف الدين غازي قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الأتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل وأذربيجان وأصبهان والريّ يستنجده على عمه نور الدين فأرسل أيلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده وأقام يحاصر الموصل ثم اجتمع أمراؤها على طاعة نور الدين ولما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقى سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه على أن يخرج هو عنه ويكون معه بالشام وتمّ ذلك بينهما وملك نور الدين منتصف جمادى الأولى من سنة ست وستين ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصيا اسمه كمستكين ولقبه سعد الدين فأقرّ سيف الدين ابن أخيه على ملكه وخلع عليه خلعة وردت عليه من الخليفة المستضيء وهو يحاصرها وأمر ببناء جامع بالموصل فبني وشهر باسمه وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى الشام والله تعالى أعلم. الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازيا ونازل حصن الشويك من أعمال [1] واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام فأجابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازيا أيضا بلاد الإفرنج من جانب آخر وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك ان ظاهرته على الإفرنج اضمحلّ أمرهم فاستطال عليك نور الدين ولا تقدر على الامتناع منه فترك الشويك وكرّ راجعا إلى مصر وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر فاستشار صلاح الدين أباه وخاله شهاب الدين   [1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 371: ونازل حصن الشوبك وبينه وبين الكرك يوم، وحصره وضيق على من به من الفرنج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 الحارمي وقرابتهم فأشار عليه تقي الدين عمر بن أخيه بالامتناع والعصيان ففكر عليه نجم الدين أبوه وقال له ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة وأنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه وافترق المجلس فخلا به أبوه وقال مالك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في استطالتهم عليك ولو فعلتم ما فعلتم كنت أوّل الممتنعين عليه ولكن ملاطفته أولى وكتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه من الملاطفة فتركهم نور الدين وأعرض عن قصدهم ثم توفي واشتغل صلاح الدين بملك البلاد ثم جمع نور الدين العساكر وسار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من مراكب التجار ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم نحو أنطاكية وطرابلس وحاصر هو حصن عرقة وخرب ربضه وأرسل عسكرا إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة وخربهما ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح كل ما مرّ عليه حتى رجع الإفرنج إلى الإنصاف من أنفسهم وردّوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت أموالهم ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام [1] بالشام تطير إلى أوعارها من [1] لاتساع بلاده ووصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبة وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها ثم أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق وكان نور الدين بمنزل الكسوة فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد وتبعهم المسلمون ونالوا منهم ونزل نور الدين على عشيرا وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها وسار الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها وأتبعهم الإفرنج فعبروا النهر وطمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشدّ قتال إلى أن استنقذت وتحاجزوا ورجع الإفرنج خائبين والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه وكرمه. واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم كان مليح بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نور الدين محمود بن زنكي وأمره على الحمالة   [1] هنا بياضان بالأصل في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة ويدل سياق العبارة بحسب رأينا أن المقصود: ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام الزاجل بالشام لإرسال الأخبار بسرعة ضمن بلاده الواسعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 وأقطعه ببلاد الشام وكان يسير في خدمته ويشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته وكان الأرمني أيضا يستظهر به على أعدائه وكانت أذنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون وهي بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها وبعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشا كثيفا مع عظيم من بطارقته فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر وقاتلهم فهزمهم وبعث بغنائمهم وأسراهم إلى نور الدين وقويت شوكة ابن ليون ويئس الروم من تلك البلاد والله تعالى أعلم. مسير نور الدين إلى بلاد الروم كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس وأخصرى وقيسارية ملكها بعد عمه باغي أرسلان وأخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج أرسلان بن محمد بن قليج أرسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها ولحق ذو النون بنور الدين صريخا وأرسل إلى قليج أرسلان بالشفاعة في ردّ بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما في ذي القعدة سنة ثمان وستين ثم بعث عسكرا إلى سيواس فملكوها ثم أرسل قليج أرسلان إلى نور الدين يستعطفه وقد كان يجيز أمامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الافرنج ويبقى سيواس بيد ذي النون وعسكر نور الدين الّذي معه فيها ورجع نور الدين إلى بلاده وبقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين وعاد قليج أرسلان ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوريّ ومعه منشور من الخليفة المستضيء لنور الدين بالموصل والجزيرة وأربل وخلاط والشام وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدّمناه واعتزم نور الدين على عزله عن مصر واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرّر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك وأيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان وستين وسبق إلى الكرك وحاصره وخرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح الدين من مصر وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه وخشي أن يعزله عند لقائه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذر لنور الدين وكرّ راجعا إلى مصر وبعث الفقيه عيسى بذلك العذر وان حفظه مصر أهمّ عليه فلما وصل مصر وجد أباه قد توفي من سقطة سقطها عن مركوبة هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته وقيذا ومات لأيام قريبة آخر ذي الحجّة من السنة ورجع نور الدين إلى دمشق وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوريّ القاضي ببلاده وصاحب الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر والشام والجزيرة والموصل والتي دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم وأن يعادله ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق وهي صريفين ودرب هارون وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة للشافعية فاسعف بذلك كله. وفاة نور الدين محمود وولاية ابنه إسماعيل الصالح ثم توفي نور الدين محمود بن الأتابك زنكي حادي عشر شوّال سنة تسع وستين وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته وكان قد شرع في التجهز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر موريا بغزو الإفرنج وكان قد اتسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب وكان معتنيا بمصالح المسلمين مواظبا على الصلاة والجهاد وكان عارفا بمذهب أبي حنيفة ومتحرّيا للعدل ومتجافيا عن أخذ المكوس في جميع أعماله وهو الّذي حصن قلاع الشام وبني الأسوار على مدنها مثل دمشق وحمص وحماة وشيرز وبعلبكّ وحلب وبنى مدارس كثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل والمارستانات والخانات في الطريق والخوانق للصوفية في البلاد واستكثر من الأوقاف عليها يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائما ويؤنسهم في المجالسة ولا يردّ لهم قولا وكان متواضعا مهيبا وقورا ولما توفي اجتمع الأمراء والمقدّمون وأهل الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة وحلفوا له وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له هنالك وضرب السكة باسمه وقام بكفالته وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدّم وأشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوريّ بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك والله تعالى وليّ التوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة قد كنا قدّمنا أنّ نور الدين استولى على بلاد الجزيرة وأقرّ سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الّذي ولّى سيف الدين واستبدّ عليه بأمره وولّى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين ولما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي وكمستكين الخادم في العساكر وبلغهم في طريقهم خبر وفاته وكان كمستكين في المقدّمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الدين على مخلفه وسواده وعاد إلى نصيبين فملكها وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها ثم سار إلى حران وبها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياما ثم استنزله على أن يقطعه حران فلما نزل قبض عليه وملكها ثم سار إلى الرها وبها خادم لنور الدين استسلمها وعوّضه عنها قلعة الزعفرانيّ من جزيرة ابن عمر وانتزعها منه بعد ذلك سار إلى الرقة وسروج فملكها واستوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لامتناعها وسوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خاله وكان شمس الدين علي ابن الداية بحلب وهو من أكبر أمراء نور الدين ومعه العساكر ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن الدانشمند فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي وهو الّذي كان ملكه فوجده بالجزيرة وقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام وعارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله وعاد إلى الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة ويتهدّد ابن المقدّم وأهل الدولة على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازي ثم أرسل شمس الدين ابن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك مخافة أن يستولي عليه ابن الداية والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه. حصار الإفرنج بانياس ولما مات نور الدين اجتمع الإفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق وجمع شمس الدين بن المقدّم العساكر وسار عن دمشق وراسل الإفرنج وتهدّدهم بسيف الدين صاحب الموصل وصلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال يبعثه إليهم واشترى من الإفرنج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وأطلعهم وتقررت الهدنة وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح وأهل دولته يقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة الإفرنج وقصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد وإنما صالح ابن المقدّم الإفرنج خوفا منه ومن سيف الدين والله تعالى أعلم. استيلاء صلاح الدين على دمشق ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدّم إليه عسكرا فنهبوه وعاد إلى حلب ثم رأى ابن المقدّم وأهل الدولة بدمشق أنّ مسير الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك الصالح فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الداية وإخوته وعلى رئيس حلب ابن الخشاب وعلى مقدم الأحداث بها واستبدّ بأمر الصالح وخشي ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم وظنها مكيدة وبعث بخبرهم إلى كمستكين وصالحه على مال أخذه من البلاد فكثر ارتياب القوم في دمشق فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب فطار إليهم ونكب عن الإفرنج في طريقه وقصد بصرى وأطاعه صاحبها ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وهو الّذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مرّ ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفي وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضي كمال الدين الشهرزوريّ بأنه على طاعة الصالح والخطبة له في بلاده وانه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها من الأموال وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح ويخطب له وينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم. استيلاء صلاح الدين على حمص وحماة ثم حصاره حلب ثم ملكه بعلبك ّ ولما ملك صلاح الدين دمشق من إيالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف الإسلام طغركين بن أيوب وكانت حمص وحماة وقلعة مرعش وسليمية وتل خالد والرها من بلاد الجزيرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 في إقطاع فخر الدين مسعود الزعفرانيّ من أمراء نور الدين ما عدا القلاع منها ولما مات نور الدين أجفل الزعفرانيّ عنها لسوء سيرته ولما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك البلد وامتنعت القلعة بالوالي الّذي بها فجهز عسكرا لحصارها وسار إلى حماة فنازلها منتصف شعبان وبقلعتها الأمير خرديك فبعث إليه صلاح الدين بأنه في طاعة الملك صالح وإنما جاء لمدافعة الإفرنج عنه وارتجاع بلاده بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل واستخلفه على ذلك عز الدين ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الاتفاق وإطلاق شمس الدين علي حسن وعثمان تقي الدين من الاعتقال فسار عز الدين لذلك واستخلف بالقلعة أخاه ولما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين وحبسه فسلم أخوه قلعة حماة لصلاح الدين وملكها ثم سار صلاح الدين من وقته الى حلب وحاصرها وركب الملك الصالح وهو صبي مناهز فسار في البلد واستعان بالناس وذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له واستماتوا دونه وخرجوا فدافعوا عسكر صلاح الدين ودس كمستكين إلى مقدم الإسماعيلية في الفتك بصلاح الدين فبعث لذلك فداوية منهم وشعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين وجماعة منهم معه وقتلوا عن آخرهم وأقام صلاح الدين محاصرا لحلب وبعث كمستكين إلى الإفرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم وكان القمص سمند السنجيلي صاحب طرابلس أسره نور الدين في حارم سنة تسع وخمسين وبقي معتقلا بحلب فأطلقه الآن كمستكين بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير وكان متغلبا على ابن مري ملك الإفرنج لكونه محذوفا لا يصدر إلا عن رأيه فسار بجموع الإفرنج إلى حصن الرستن سابع رجب وصالحهم صلاح الدين من الغد فأجفلوا وحاصر هو القلعة وملكها آخر شعبان واستولى على أكثر الشام ثم سار إلى بعلبكّ وبها يمن الخادم من موالي نور الدين فحاصرها حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة وأقطعها شمس الدين محمد ابن عبد الملك المقدم بما تولى له من إظهار طاعته بدمشق وتسليمها له والله تعالى أعلم. حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب الموصل وغلبه إياه واستيلاؤه على بغدوين وغيرها من أعمال الملك الصالح ثم مصالحته على حلب لما ملك صلاح الدين حمص وحماة وحاصر حلب كاتب الملك الصالح إسماعيل من حلب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجمع عساكره واستنجد أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار فلم يجبه لما كان بينه وبين صلاح الدين وأنه ولاه سنجار ويطمعه في الملك فبعث سيف الدين غازي بالعساكر لمدافعة صلاح الدين عن الشام في رمضان سنة سبعين وخمسمائة مع أخيه عز الدين مسعود وأمير جيوش عز الدين القندار وجعل التدبير إليه وسار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين وامتنع عليه وبينما هو يحاصره جاءه الخبر بأنّ صلاح الدين هزم أخاه عز الدين وعساكره فصالح عماد الدين على سنجار وعاد إلى الموصل ثم جهز أخاه عز الدين في العساكر ثانية ومعه القندار وساروا إلى حلب فانضمت إليهم عساكره وساروا جميعا إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في الصلح بينه وبين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص وحماة ويسوغه الصالح دمشق فأبى إلا ارتجاع جميع بلاد الشام واقتصاره على مصر سار صلاح الدين إلى عساكرهم ولقيها قريبا من حماة فانهزمت وثبت عز الدين ليلا ثم صدق عليه صلاح الدين الحملة فانهزم وغنم سوادهم ومخلفهم وأتبع عساكر حلب حتى أخرجهم منها وحاصرها وقطع خطبة الملك الصالح وبعث بالخطبة للسلطان في جميع بلاده ولما طال عليهم الحصار صالحوه على إقراره على جميع ما ملك من الشام رحل عن حلب عاشر شوّال من السنة وعاد إلى حماة ثم سار منها إلى بغدوين وكانت لفخر الدين مسعود بن الزعفرانيّ من أمراء نور الدين وكان قد اتصل بالسلطان صلاح الدين واستخدم له ثم فارقه حيث لم يحصل على غرضه عنده فلحق ببغدوين وبها نائب الزعفرانيّ فحاصرها حتى استأمنوا إليه وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي وأقطع حمص ناصر الدين ابن عمه شيركوه وعاد إلى دمشق آخر سنة سبعين وكان سيف الدين غازي صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما قلناه إلى الموصل فجمع العساكر وفرّق الأموال واستنجد صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى إلى نصيبين في ربيع سنة إحدى وسبعين فأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء وسار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب وبعث صلاح الدين عن عساكره من مصر وقد كان أذن لهم في الانطلاق فجاءوا إليه وسار من دمشق إلى سيف الدين وكمستكين فلقيهم بتل الفحول وانهزموا راجعين إلى حلب وترك سيف الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر وعبر الفرات إلى الموصل يظنّ أنّ صلاح الدين في اتباعه وشاور الصالح وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 فعارضاه في ذلك ثم عزل القندار عن إمارة الجيوش لأنه كان جرّ الهزيمة برأيه ومفارقته وولى مكانه مجاهد الدين قايماز ولما انهزمت العساكر أمام صلاح الدين وغنم مخلفها سار إلى مراغة وملكها وولى عليها ثم سار إلى منبج وبها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي وكان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة وحاصره بالقلعة وضيق مخنقة ثم نقب أسوارها وملكها عليه عنوة وأسره ثم أطلقه سليبا فلحق بالموصل وأقطعه سيف الدين الرقة ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة عزاز [1] وهي في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوما حتى استأمنوا إليه فتسلمها في الأضحى ثم رحل إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واشتدّ أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة ثم سعى بينهما في الصلح وعلى أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل وصاحب كيفا وصاحب ماردين فاستقرّ الأمر على ذلك وخرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها وأفاض عليها العطاء وطلبت منه قلعة عزاز فأعطاها إياها ورحل إلى بلاد الإسماعيلية والله سبحانه وتعالى أعلم. عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين صاحب الموصل ورجوعه كان مجاهد الدين قايماز متولى مدينة اربل وكان بينه وبين شهاب الدين محمد بن بدران صاحب شهرزور عداوة فلما ولىّ سيف الدين مجاهد الدين قايماز نيابة الموصل خاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل وأظهر الامتناع وذلك سنة اثنتين وسبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في ذلك مخاطبة بليغة وحذره ورغبه فعاود الطاعة وبادر الى الحضور بالموصل والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. نكبة كمستكين الخادم ومقتله كان سعد الدين كمستكين الخادم قائما بدولة الملك الصالح في حلب وكان يناهضه فيها أبو صالح العجميّ فقدم عند نور الدين وعند ابن الملك الصالح وتجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله وخلا الجوّ لكمشتكين وانفرد بالاستبداد على الصالح وكثرت السعاية فيه بحجر السلطان والاستبداد عليه وأنه قتل وزيره فقبض عليه وامتحنه وكان قد أقطعه قلعة حارم فامتنع بها أصحابه وأرادهم الصالح على تسليمها فامتنعوا وهلك   [1] كذا في الكامل ج 10/ 115 وفي نسخة أخرى: إعزاز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 كمستكين في المحنة وطمع فيها وساروا اليها وحاصروها وصانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها وبعث هو عساكره اليها وقد جهدهم الحصار فسلموها له وولىّ عليها والله تعالى أعلم. وفاة الصالح إسماعيل واستيلاء ابن عمه عز الدين مسعود على حلب ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته وعهد بملكه لابن عمه عز الدين صاحب الموصل واستحلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد الدين صاحب سنجار أخي عز الدين الأكبر لمكان صهره على أخت الصالح وأن أباه نور الدين كان يميل اليه فأبي وقال عز الدين أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب فلما قضى نحبه أرسل الأمراء بحلب الى عز الدين مسعود يستدعونه [1] هو ومجاهد الدين قايماز الى الفرات ولقي هنالك أمراء حلب وجاءوا معه فدخلها آخر شعبان من السنة وصلاح الدين يومئذ بمصر بعيدا عنهم وتقي الدين عمر ابن أخيه في منبج فلما أحس بهم فارقها الى حماة وثار به أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين وأشار أهل حلب عليه بقصد دمشق وبلاد الشام وأطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الّذي بينه وبين صلاح الدين ثم أقام بحلب شهورا وسار عنها الى الرقة والله تعالى أعلم. استيلاء عماد الدين على حلب ونزوله عن سنجار لأخيه عز الدين ولما انتهى عز الدين الى الرقة منقلبا من حلب وافقه هنالك رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يملكه مدينة سنجار وينزل هو له عن حلب فلم يجبه الى ذلك فبعث عماد الدين اليه بأنه يسلم سنجار الى صلاح الدين فحمل الأمراء حينئذ على معارضته على سنجار وتحمّسهم له ولم يكن لعز الدين مخالفا لتمكنه في الدولة وكثرة بلاده وعساكره فأخذ سنجار من أخيه عماد الدين وأعطاه حلب وسار اليها عماد الدين وملكها وسهل أمره على صلاح الدين بعد ان كان متخوّفا من عز الدين على دمشق والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 473: الى أتابك عز الدين يستدعونه الى حلب فسار هو ومجاهد الدين قايماز الى الفرات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 مسير صلاح الدين الى بلاد الجزيرة وحصاره الموصل واستيلاؤه على كثير من بلادها ثم على سنجار كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك مدينة حرّان وقلعتها ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح اليه مظفر الدين ووعده النصر واستحثه للقدوم على الجزيرة فسار الى الفرات موريا بقصد [1] وعبر اليه مظفر الدين فلقيه وجاء معه الى البيرة وهي قلعة منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة وكان صاحبها من بني ارتق أهل ماردين قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها وعز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار ومعه مجاهد الدين الى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب فلما بلغهما عبوره الفرات عادا الى الموصل وبعثا حامية الى الرها وكاتب صلاح الدين ملوك النواحي بالنجدة والوعد على ذلك وكان تقدّم العهد بينه وبين نور الدين محمد بن قرا ارسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد ويسلمها اليه فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أوّل مجيب وسار صلاح الدين الى الرها فحاصرها في جمادى سنة ثمان وسبعين وبها يومئذ فخر الدين مسعود الزعفرانيّ فلما اشتدّ به الحصار استأمن الى صلاح الدين وحاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه وأقطعها صلاح الدين مظفر الدين كوكبري صاحب حرّان وسار عنها الى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنجي فاجفل عنها الى الموصل وملكها صلاح الدين وسار الى الخابور وهو قرقيسيا وماكسين وعرمان فاستولى على جميعها وسار الى نصيبين فملكها لوقتها وحاصر القلعة أياما وملكها وأقطعها أبا الهيجاء السمين من أكبر أمرائه وسار عنها وملكها ومعه صاحب كيفا وجاءه الخبر بأن الافرنج أغاروا على أعمال دمشق ووصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم واستمرّ على شأنه وأغراه مظفر الدين كوكبري وناصر الدين محمد بن شيركوه بالموصل ورجحا قصدها على سنجار وجزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار صلاح الدين وصاحبها عز الدين ونائبة مجاهد الدين وقد جمعوا العساكر وأفاضوا العطاء وشحنوا البلاد التي بأيديهم كالجزيرة وسنجار والموصل واربل وسار صلاح الدين حتى قاربها وسار هو ومظفر الدين وابن شيركوه في أعيان دولته الى السور فرآه مخايل الامتناع وقال لمظفر الدين ولناصر الدين ابن عمه قد   [1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 483: فجد صلاح الدين في السير مظهرا انه يريد حصر حلب سترا للحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 أغررتماني ثم صبح البلد وناشبه وركب أصحابه في المقاعد للقتال ونصب منجنيقا فلم يغن ونصب اليه من البلد تسعة ثم خرج اليه جماعة من البلد وأخذوه وكانوا يخرجون ليلا من البلد بالمشاعل يوهمون الحركة فخشي صلاح الدين من البيات وتأخر عن القصد وكان صدر الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من خواصه في الصلح بين الفريقين على اعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب على اعادة الآخرين حلب فامتنعوا ثم رجع عن شرط حلب الى ترك مظاهرة صاحبها فاعتذروا عن ذلك ووصلت رسل صاحب أذربيجان قرا ارسلان وأرسل صاحب خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر ورحل صلاح الدين عن الموصل الى سنجار فحاصرها وبها أمير أميران [1] وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر ولقيه شرف الدين وجاءها المدد من الموصل فحال بينهم وبينها وداخله بعض أمراء الأكراد من الدوادية من داخلها فكبسها صلاح الدين من ناحيته واستأمن شرف الدين لوقته فأمنه صلاح الدين ولحق بالموصل وملك صلاح الدين سنجار وصارت سياجا على جميع ما ملكه بالجزيرة وولى عليها سعد الدين بن معين الدين أنز الّذي كان متغلبا بدمشق على آخر [2] طغركين وعاد فمرّ بنصيبين وشكا اليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله وسار الى حران بلد مظفر الدين كوكبري فوصلها في القلعة من سنة سبع وثمانين فأراح بها وأذن لعساكره في الانطلاق وكان عز الدين قد بعث الى شاهرين صاحب خلاط يستنجده وأرسل شاهرين الى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلا عديدة آخرهم مولاه سكر جاه وهو على سنجار فلم يشفعه [3] أخاه من ذلك وفارقه مغاضبا وسار شاهرين [4] الى قطب الدين صاحب ماردين وهو ابن أخته وابن حال عز الدين وصهره على بنته فاستنجده وسار معه وجاءهم عز الدين من الموصل في عساكره واعتزموا على قصد صلاح الدين وبلغه الخبر وهو مريح بحران فبعث عن تقي الدين ابن أخيه صاحب حمص وحماة وارتحل للقائهم ونزل رأس عين فخاموا عن لقائه ولحق كل   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 487: وبها أمير أميران هندو أخو عز الدين صاحب الموصل. [2] بياض بالأصل وفي الكامل: واستناب بها سعد الدين بن معين الدين انز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى. [3] بياض بالأصل، وفي الكامل: فأرسل اليه أخيرا مملوكه سيف الدين بكتمر الّذي ملك خلاط بعد شاه ارمن فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب اليه ان يتركها ويرحل عنها. وقال له. ان رحل عنها والا فتهدده بقصده ومحاربته فأبلغه بكتمر الشفاعة فسوفه في الجواب رجاء ان يفتحها فلما رأى بكتمر ذلك أبلغه الرسالة بالتهديد وفارق غضبان. [4] واسمه في الكامل شاه ارمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 ببلده وسار صلاح الدين الى ماردين فأقام عليها أياما ورجع والله تعالى أعلم. استيلاء صلاح الدين على حلب وأعمالها ولما ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع وسبعين وملكها وسلمها لنور الدين محمد بن قرا ارسلان كما كان العهد بينهما وقد أشرنا اليه ثم سار الى الشام فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا اليه وملكها في محرّم سنة تسع وسبعين وسار منها الى عينتاب وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل خازن نور الدين محمود وصاحبه ولاه عليها نور الدين فلم يزل بها فاستأمن الى صلاح الدين على أن يقرّه على الحصن ويكون في خدمته فأقرّه وأطاعه ورحل صلاح الدين الى حلب وبها عماد الدين زنكي بن مودود ونزل عليها بالميلان الأخضر أياما ثم انتقل الى جبل جوشن أياما أخرى وأظهر أنه أبنى عليها وعجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل صلاح الدين أن يعوّضه عنها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فأجاب الى ذلك وأعطاه عنها تلك البلاد وملكها وكان في شرط صلاح الدين عليه انه يبادر الى الخدمة متى دعاه اليها وسار عماد الدين الى بلاده تلك ودخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع وسبعين ومات عليها أخوه الأصغر تاج الملوك بوري بضربة في ركبته تصدّعت لها ومات بعد فتح حلب ثم ارتحل صلاح الدين الى قلعة حارم وبها سرجك من موالي نور الدين ولاه عليها عماد الدين فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم فحاصره صلاح الدين وتردّدت الرسل بينهما وقد دس الى الافرنج ودعاهم وخشي الجند الذين معه أن يسلمها اليهم فحبسوه واستأمنوا الى صلاح الدين فملكها وولى عليها بعض خواصه وعلى تل خالد الأمير داروم الياروقي صاحب تل باشر وأقطع قلعة إعزاز الأمير سليمان بن جندر فعمرها بعد ان كان عماد الدين خربها وأقطع صلاح الدين أعمال حلب لأمرائه وعساكره والله تعالى أعلم. نكبة مجاهد الدين قايمان [1] كان مجاهد الدين قايمان قائما بدولة الموصل ومتحكما فيها كما قلناه وكان عز الدين محمود الملقب القندار صاحب الجيش وشرف الدين أحمد بن أبي الخير الّذي كان صاحب   [1] وفي بعض النسخ قايماز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 العراق كان من أكابر الأمراء عند السلطان عز الدين مسعود صاحب الموصل وكانا يغريانه بمجاهد الدين ويكثران السعاية عنده فيه حتى اعتزم على نكبته ولم يقدر على ذلك في مجلسه لاستبداد مجاهد الدين وقوّة شوكته فانقطع في بيته لعارض مرض وكان مجاهد الدين خصيا لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده فقبض عليه وركب الى القلعة فاحتوى على أمواله وذخائره وولى بها زلقندار [1] نائبا وجعل ابن صاحب العراق أمير حاجبا وحكمهما في دولته وكان في يد مجاهد الدين اربل وأعمالها فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي كجك صبيا صغيرا تحت استبداده وبيده أيضا جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي وهو صبيّ تحت استبداده وبيده أيضا شهرزور وأعمالها ودقوقا وقلعة عقر الحميدية ونوابه في جميعها ولم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل وقلعتها لمجاهد الدين وهو الملك في الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب اربل واستبدّ بنفسه وكان صاحب جزيرة ابن عمر وبعث بطاعته الى صلاح الدين وبعث الخليفة الناصر شيخ الشيوخ وبشير الخادم بالصلح بين عز الدين وصلاح الدين على أن تكون الجزيرة واربل من أعماله وامتنع عز الدين وقال هما من أعمالي وطمع صلاح الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقندار ولابن صاحب العراق لما حملاه عليه من الفساد لنكبة مجاهد الدين فبدأ أوّلا بعزل صاحب أذربيجان فقال له أنا أكفيكه وجهز له عسكرا نحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو اربل فاكتسحوا البلد وخربوها وسار اليهم زين الدين يوسف بإربل فوجدهم مفترقين في النهب فهزمهم وما كان معهم وعاد مظفرا ولحق العجم ببلادهم وعاد مجاهد الدين الى الموصل والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق. حصار صلاح الدين الموصل وصلحه مع عز الدين صاحبها ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذي القعدة سنة احدى وثمانين فلما انتهى الى حران قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري لانه كان لذلك وعده بخمسين ألف دينار حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه فأطلقه ورد عليه عمله بحران والرها وسار عن حران وجاء معه عساكر كيفا وداري وعساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز. الدين سنجر شاه ابن أخي عز الدين صاحب الموصل وقد كان استبدّ بأمره وفارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلناه فساروا مع صلاح الدين الى الموصل ولما انتهوا الى مدينة   [1] وفي نسخة ثانية القندار وكذا في هذه النسخة في مكان آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 بله وفدت عليه أم عز الدين وابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة ظنا بانه لا يردهم وأشار عليه الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهم ورحل الى الموصل فقاتلها وامتنعت عليه وندم على ردّ الوفد وجاءه كتاب القاضي الفاضل بالأئمة ثم قدم عليه زين الدين يوسف صاحب اربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبري وغيره من الأمراء ثم بعث الأمير علي بن أحمد المشطوب الى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الأكراد الهكارية وأقام يحاصرها وكاتب نائب القلعة زلقندار ونمي خبر مكاتبته الى عز الدين فمنعه واطرحه من المشورة وعدل الى مجاهد الدين قايمان وكان يقتدي برأيه فضبط الأمور وأصلحها ثم بلغه في آخر ربيع من سنة اثنتين وثمانين وقد ضجر من حصار الموصل ان شاهرين صاحب خلاط توفي تاسع ربيع واستولى عليها مولاه بكتمر فرحل عن الموصل وملك ميافارقين كما يأتي في أخبار دولته ولما فرغ منها عاد الى الموصل ومرّ بنصيبين ونزل الموصل في رمضان سنة اثنتين وثمانين وتردّدت الرسل بينهما في الصلح على أن يسلم اليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الفرائلي وما وراء الزاب ويخطب له على منابرها وينقش اسمه على سكته ومرض صلاح الدين أثناء ذلك ووصل الى حران ولحقته الرسل بالإجابة الى الصلح وتحالفا عليه وبعث من يسلم البلاد وأقام ممرضا بحران وعنده العادل وناصر الدولة ابن عمه شيركوه وأمنت بلاد الموصل ثم حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان والأكراد بالجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان وقتل فيها ما لا يحصى من الأمم واتصلت أعواما وسببها أن عروسا من التركمان أهديت الى زوجها ومرّوا بقلعة الزوزان والأكراد وطلبوا منهم الوليمة على الفتيان فأغلظوا في الرد فقتل صاحب القلعة الزوج وثار التركمان بجماعة من الأكراد فقتلوهم ثم أصلح مجاهد الدين بينهم وأفاض فيهم العطاء فعادوا الى الوفاق وذهبت بينهم الفتنة والله تعالى أعلم. وفاة زين الدين يوسف صاحب اربل وولاية أخيه مظفر الدين اقتهى كان زين الدين يوسف بن علي كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه قبل واربل من أعماله ووقع الصلح على ذلك بينه وبين عز الدين صاحب الموصل سنة ست وثمانين [1]   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 210 كان زين الدين يوسف صاحب اربل قد حضر عند صلاح الدين بعساكره فمرض ومات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة واستولى أخوه على موجودة وقبض على جماعة من أمرائه مثل بلداحي صاحب قلعة حقبيركان وغيره وطلب من صلاح الدين أن يقطعه اربل مكان أخيه وينزل عن حران والرها فأقطعه اربل وأضاف اليها شهرزور وأعمالها ودوقبر قرابلي وبني قفجاق وراسل أهل اربل مجاهد الدين قايمان واستدعوه ليملكوه وهو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفا من صلاح الدين ولان عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد ان أطلقه من الاعتقال لم يمكنه كما كان أوّل مرّة وجعل معه رديفا في الحكم كان من بعض غلمانه فكان أسفا لذلك فلما راسله أهل اربل قال والله لا أفعل لئلا يحكم معي فيها فلان وسار مظفر الدين اليها وملكها. حصار عز الدين صاحب الموصل جزيرة ابن عمر كان سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية أبيه وخرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه وصار عينا على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره ويغريه به ويسعى في القطيعة بينهما ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست وثمانين واستنفر لها أصحاب الاطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل وأخيه عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين وسنجر شاه هذا ابن عمه وصاحب كيفا وغيرهم واجتمعوا عنده على عكا وجاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف واستأذن في الانطلاق فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق هذه العساكر فألح عليه في ذلك وغدا عليه يوم الفطر مسلما فوعده وانصرف وكان تقي الدين عمر بن شاه أخي صلاح الدين مقبلا من حماة في عسكر فأرسل اليه صلاح الدين باعتراضه ورده طوعا أو كرها فلقيه بقلعة فنك ورده كرها وكتب صلاح الدين الى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة فتلقاها بالمراجعة وطلب اقطاع الجزيرة فأسعفه وسار اليها وحاصرها أربعة أشهر فامتنعت عليه ثم صالحه على نصف أعماله ورجع الموصل والله تعالى أعلم. مسير عز الدين صاحب الموصل الى بلاد العادل بالجزيرة ورجوعه عنها كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران والرها وسميساط وميافارقين وكانت بيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاه ثم توفي تقيّ الدين فاقطعها أخاه العادل أبا بكر بن أيوب ثم توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها واستشار أصحابه فأشار عليه بعضهم بمعاجلتها وأن تستنفر أصحاب الاطراف لها مثل صاحب اربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب سنجار ونصيبين ومن امتنع يعاجله حربا ويعاجل البلد قبل أن يستعدّ أهله للمدافعة وأشار مجاهد الدين قايمان بمشاورة هؤلاء الملوك والعمل بإشارتهم فقبل من مجاهد الدين وكاتبهم فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين وأن البلد في طاعته وأنه القائم بدولته وأنه بلغه أنّ صاحب ماردين تعرّض لبعض بلاده فجهز جيشا كثيفا لقصد ماردين فوجموا الكتابة وتركوا الحركة ثم بلغهم أنه بظاهر حران في خف من العسكر فتجهز للحركة عليه ولما وقع الاتفاق مع صاحب سنجار جاءت عساكر الشام الى العادل من الأفضل فامتنع وسار عز الدين في عساكره من الموصل الى نصيبين واجتمع بأخيه عماد الدين وساروا الى الرها وقد عسكر العادل قريبا منهم بمرج الريحان وخافهم فأقاموا أياما كذلك ثم طرق عز الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وسار الى الموصل والله تعالى أعلم. وفاة عز الدين صاحب الموصل وولاية ابنه نور الدين ولما رجع عز الدين الى الموصل أقام بها مدّة شهرين واشتدّ مرضه فتوفي آخر شعبان سنة تسع وثمانين وولى ابنه نور الدين ارسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي وقام بتدبير دولته مجاهد الدين قايمان مدبر دولة أبيه والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة عماد الدين صاحب سنجار وولاية ابنه قطب الدين ثم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب سنجار والخابور ونصيبين والرقة وسروج وهي التي عوّضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه توفي في محرّم سنة أربع وتسعين وملك بعده ابنه قطب الدين وتولى تدبير دولته مجاهد الدين برتقش مولى أبيه وكان دينا خيرا عادلا متواضعا محبا لأهل العلم والدين معظما لهم وكان متعصبا على الشافعية حتى انه بني مدرسة للحنفية بسنجار وكان حسن السيرة والله تعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 استيلاء نور الدين صاحب الموصل على نصيبين كان عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين قد امتدّت أيدي نوابه بنصيبين الى قرى من أعمال الموصل تجاورهم وبعث اليه في ذلك مجاهد الدين قايمان صاحب دولة الموصل يشكو اليه نوابه سرّا من سلطانه نور الدين فلج عماد الدين في ادعاء انها من أعماله وأساء الردّ فأعاد نور الدين الرسالة اليه مع بعض مشايخ دولته وقد طرقه المرض فأجاب مثل الأوّل فنصح الرسول وكان من بقية الاتابك زنكي وعاد الى [1] فأغلظ له في القول واعتزم نور الدين على المسير الى نصيبين ووصل الخبر اثر ذلك بوفاة عماد الدين وولاية ابنه قطب الدين فقوي طمع نور الدين في نصيبين وتجهز لها في جمادى سنة أربع وتسعين وسار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الدين الى نصيبين فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين ودخل الى قلعة نصيبين مهزوما ثم أسرى منها الى حران ومعه نائبة مجاهد الدين برتقش وكاتبوا العادل أبا بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق وأقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل الى الجزيرة ففارقها الى الموصل في رمضان من السنة وعاد قطب الدين اليها وكان الموتان قد وقع عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل ومات مجاهد الدين قايمان القائم بالدولة ولما عاد نور الدين الى الموصل وعاد قطب الدين الى نصيبين سار العادل الى ماردين فحاصرها أياما وضيق عليها ثم انصرف والله تعالى أعلم. هزيمة الكامل بن العادل على ماردين أمام نور الدين صاحب الموصل وبني عمه ملوك الجزيرة لما رحل العادل عن ماردين كما قدّمناه جر العساكر عليها للحصار مع ابنه الكامل وعظم ذلك على ملوك الجزيرة وديار بكر وخافوا أن ملكها يغلبهم على أمرهم ولم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين إلّا تقية لكثرة عساكره فلما رجع إلى دمشق وبقي الكامل على ماردين استهانوا بأمره وطمعوا في مدافعة وأغراهم بذلك الظاهر والأفضل ابنا   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 133: فلما سمع الرسالة لم يلتفت وقال: لا أعيد ملكي، فاشار الرسول من عنده حيث هو من مشايخ دولتهم بترك اللجاج وتسليم ما اخذه، وحذّره عاقبة ذلك فأغلظ عليه عماد الدين القول وعرض بذم نور الدين واحتقاره فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال، فغضب نور الدين وعزم على المسير الى نصيبين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل فتجهز نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل وسار أوّل شعبان سنة خمس وتسعين وانتهى إلى دبيس فأقام بها ولحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه الآخر سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر حتى إذا انقضى عيد الفطر ارتحلوا وتقدّموا الى مزاحمة الكامل على ماردين وكان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم وجهدهم الحصار وبعث النظام المستولى على دولة صاحبها الى الكامل يراوده في الصلح وتسليم القلعة له الى أجل سماه على أن يبيح لهم ما يقوّتهم من الميرة فأسعفهم بذلك وبينما هم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا وزحف الكامل مهزوما الى معسكره بالربض فخرج أهل القلعة اليهم وقاتلوهم الى المساء ثم أجفل الكامل من ليلته منتصف شوّال وعاد الى بلاده ونهبت أهل القلعة مخلفه وخرج صاحب ماردين وهو بولو ارسلان ابن أبي الغازي فلقي نور الدين وشكره وعاد الى حصنه ورجع نور الدين وأصحابه الى تستر ثم سار منها الى رأس عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه السكة والخطبة فوجم لذلك وثنى عزمه عن مظاهرتهم ثم طرقه المرض فبعث اليهم بالعذر وعاد الى الموصل في ذي الحجة آخر السنة والله تعالى أعلم. مسير نور الدين صاحب الموصل الى بلاد العادل بالجزيرة ثم انّ الملك العادل ملك مصر سنة ست وتسعين من يد الأفضل ابن أخيه فخشيه الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وراسلوا نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق وأن يسير الى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها والرقة وسنجار فسار نور الدين لملكها في شعبان سنة سبع وتسعين وسار معه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وحسام الدين صاحب ماردين وانتهوا الى رأس عين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل الى نور الدين في الصلح فبادر الى الاجابة لما وقع في عسكره من الموتان واستحلفهم وحلف لهم وبعثوا الى العادل فحلف وعاد نور الدين الى الموصل في ذي القعدة من السنة والله تعالى أعلم. هزيمة نور الدين صاحب الموصل أمام عسكر العادل لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار ويستميله الى أن خطب له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل الى نصيبين من أعمال قطب الدين فحاصرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 وملك المدينة وأقام يحاصر القلعة فبينما هو قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبة بالموصل بأنّ مظفر الدين كوكبري صاحب اربل [1] من أعمال الموصل فرحل عن نصيبين معتزما على قصد اربل فلم يجد كل الخبر صحيحا فسار الى تل اعفر من أعمال سنجار فحاصرها وملكها وكان الأشرف موسى بن العادل قد سار من حران الى رأس عين نجدة لصاحب سنجار وقد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب اربل وصاحب كيفا وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر وتراسلوا وتواعدوا للاجتماع فلما ارتحل نور الدين عن نصيبين اجتمعوا عليها وجاءهم أخو الأشرف نجم الدين صاحب ميافارقين وساروا الى البقعاء من تل اعفر الى كفررقان وقصده المطاولة حتى [2] جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه وأطمعه فيهم وكان من مواليه فوثق بقوله ورحل الى نوشرى قريبا منهم وتراءى الجمعان فالتقوا وانهزم نور الدين ونجا في فل قليل ونزلت العساكر كفررقان ونهبوا مدينة فيد وما اليها وأقاموا هنالك وتردّدت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل اعفر لقطب الدين صاحب سنجار فأعادها واصطلحوا سنة احدى وستمائة ورجع كل الى بلده والله تعالى ولىّ التوفيق. مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمرو ولاية ابنه محمود بعده كان سنجر شاه بن غازي بن مودود ابن الاتابك زنكي صاحب جزيرة ابن عمر وأعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مرّ وكان سيّئ السيرة غشوما ظلوما مرهف الحدّ على رعيته وجنده وحرمه وولده كثير القهر لهم والانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محمودا ومودودا الى قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهم توهمه فيهما وأخرج ابنه غازي الى دار بالمدينة ووكل به فساءت حاله وكانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله وتناول حية وبعثها الى أبيه فلم يعطف عليه فتسلل من الدار واستخفى في المدينة وبعث الى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله اليه فبعث اليه بنفقة وردّه خوفا من أبيه وترك أبوه طلبه لما   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 193: «ان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي صاحب اربل قد قصد اعمال الموصل فنهب تينوي وأحرق غلالها.» وترى ان اسم صاحب اربل هنا كوكبري وعند ابن الأثير بوكبري وكثيرا ما تختلف هذه الأسماء الاعجمية بين كتاب وآخر. [2] بياض بالأصل مع اختلاف في الأسماء وفي الكامل: وسار نور الدين من تل اعفر الى كفر زمّار وعزم على المطاولة ليتفرقوا فأتاه كتاب من بعض مماليكه يسمي جرديك وقد أرسله يتجسس اخبارهم فيقلّلهم في عينه ويطمعه فيهم ويقول: ان أذنت لي لقيتهم بمفردي ج 12 ص 193. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 شاع انه بالشام فلم يزل غازي يعمل الحيلة حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض حظاياه وطرق عليه الخلاء في بعض الليالي وهو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة ثم ذبحه وأقام مع الحرم وعلم أستاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة وأغلق أبواب القصر وبايع الناس لمحمود بن سنجر شاه واستدعاه وأخاه مودودا من قلعة فرح ثم دخلوا الى غازي وقتلوه ووصل محمود فملكوه ولقبوه معز الدين لقب أبيه وعمد الى الجواري التي واطأت على قتل أبيه فغرّقهنّ في الدجلة والله تعالى أعلم. استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من أعمال صاحب سنجار وحصاره إياه كان بين قطب الدين محمود بن زنكي بن مودود وبين ابن عمه نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة قد مرّ كثير من أخبارها ولما كانت سنة خمس وستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر والشام الى نور الدين في ابنته فزوّجها نور الدين من ابنه واستكثر به وطمح الى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر وتكون ولاية قطب الدين وهي سنجار ونصيبين والخابور للعادل وتكون ولاية غازي بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل فأجاب الى ذلك العادل وأطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا ملكها لابنه الّذي هو صهره على ابنته وتحالفا على ذلك وسار العادل سنة ست وستمائة من دمشق لملك الخابور وراجع نور الدين رأيه فإذا هو قد تورّط وانه يملك البلاد كما يحب دونه ان وفي له وسار نور الدين الى الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه وبين الموصل وان انتقض نور الدين عليه سار اليه فاضطرب في أمره وملك العادل الخابور ونصيبين واعتزم قطب الدين على أن يعتاض منه عن سنجار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن برتقش مولى أبيه وجهز نور الدين عسكرا مع ابنه القاهر مددا للعادل كما اتفقا عليه وفي خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه الى مظفر الدين صاحب اربل يستنجده فأرسل الى العادل شافعا في أمره فلم يشفعه لمظاهرة نور الدين إياه فغضب مظفر الدين وأرسل الى نور الدين في المساعدة على دفاع العدوّ فأجاب نور الدين الى ذلك ورجع عن مظاهرة العادل وأرسل هو ومظفر الدين الى الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب والى كسنجر بن قليج ارسلان صاحب الروم يستنجدانهما فأجاباهما وتداعوا الى قصد بلاد العادل ان لم يرحل عن سنجار وبعث الخليفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 الناصر أستاذا لدار أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير اقناش من خواص مواليه في الإفراج عن سنجار وتخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه وسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة فإنه جاهر بخلافه في ذلك فأجاب العادل في الصلح على أن تكون نصيبين والخابور اللذان ملكهما له وتبقى سنجار لقطب الدين وتحالفوا على ذلك ورجع العادل الى حرّان ومظفر الدين الى اربل والله تعالى أعلم. وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية ابنه القاهر ثم توفي نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي منتصف سنة سبع وستمائة لثمان عشرة سنة من ولايته وكان شهما شجاعا مهيبا عند أصحابه حسن السياسة لرعيته وجدّد ملك آبائه بعد أن أشفى على الذهاب ولما احتضر عهد بالملك لابنه عز الدين مسعود وهو ابن عشرين سنة وأوصاه أن يتولى تدبير ملكه مولاه بدر الدين لؤلؤ لما فيه من حسن السياسة وكان قائما بأمره منذ توفي مجاهد الدين قايمان وأوصى ولده الأصغر عماد الدين بقلعة عقر الحميدية وقلعة شوش وولايتها ولفته الى العقر فلما توفي نور الدين بايع الناس ابنه عز الدين مسعودا ولقبوه القاهر واستقرّ ملك الموصل أعمالها له وقام بدر الدين لؤلؤ بتدبير دولته والبقاء للَّه وحده. وفاة القاهر وولاية ابنه نور الدين ارسلان شاه في كفالة بدر الدين لؤلؤ لما توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب الموصل آخر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وخمسمائة [1] لثمان سنين من ولايته بعد أن عهد بالملك لابنه الأكبر نور الدين ارسلان شاه وعمره عشرون سنة وجعل الوصيّ عليه والمدبر لدولته لؤلؤا كما كان في دولة القاهر وابنه نور الدين فبايع له وقام بملكه وأرسل الى الخليفة في التقليد والخلع على العادة فوصلت وبعث الى الملوك في الأطراف في تجديد العهد كما كان بينهم وبين سلفه وضبط أموره وكان عمه نور الدين زنكي ارسلان شاه بقلعة عقر الحميدية لا يشك في مصير السلطان له فدفعه عن ذلك واستقامت أموره وأحسن السيرة   [1] تاريخ وفاته في (الكامل ج 12 ص 333) هو سنه خمس عشرة وستمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 وسمع شكوى المتظلمين وأنصفهم ووصل في تقليد الخليفة لنور الدين اسناد التتر في أموره لبدر الدين لؤلؤ [1] والله أعلم. استيلاء عماد الدين صاحب عقر على قلاع الهكارية والزوزان كان عماد الدين زنكي قد ولاه أبوه قلعتي العقر والشوش قريبا من الموصل وأوصى له بهما وعهد بالملك لابنه الأكبر القاهر فلما توفي القاهر كما ذكرنا طمح زنكي الى الملك وكان يحدّث به نفسه فلم يحصل له وكان بالعمادية نائب من موالي جدّه مسعود فداخله في الطاعة له وشعر بذلك بدر الدين لؤلؤ فعزل ذلك النائب وبعث اليها أميرا أنزله بها وجعل فيها نائبا من قبله واستبدّ بالنّواب في غيرها وكان نور الدين بن القاهر لا يزال عليلا لضعف مزاجه وتوالي الأمراض عليه فبقي محتجبا طول المدّة فأرسل زنكي الى نور الدين بالعمادية يشيع موته ويقول أنا أحق بملك سلفي فتوهموا صدقة وقبضوا على نائب لؤلؤ ومن معه وسلموا البلد لعماد الدين زنكي منتصف رمضان سنة خمس عشرة وجهز لؤلؤ العساكر وحاصروه بالعمادية في فصل الشتاء وكلب البرد وتراكم الثلج ولم يتمكنوا من قتاله وظاهره مظفر الدين صاحب اربل على شأنه وذكر لؤلؤا بالعهد الّذي بينهما أن لا يتعرّض لاعمال الموصل والنص فيها على قلاع الهكارية والزوزان وانه مظاهر لهم على من يتعرّض لها فلج في مظاهرته واعتمد نقض العهد وأقام العسكر محاصرا لزنكي بالعمادية وتقدموا بعض الليالي وركبوا الاوعار اليه فبرز اليهم أهل العماديّة وهزموهم في المضايق والشعاب فعادوا الى الموصل وراسل عماد الدين قلاع الهكارية والزوزان في الطاعة له فأجابوه وملكها وولىّ عليها والله أعلم. مظاهرة الأشرف بن العادل للؤلؤ صاحب الموصل ولما استولى عماد الدين زنكي على قلاع الهكارية والزوزان وظاهره مظفر الدين صاحب اربل خاف لؤلؤ غائلته فبعث بطاعته الى الأشرف موسى بن العادل وقد ملك أكثر بلاد الجزيرة وخلاط وأعمالها ويسأله المعاضدة فأجابه وكان يومئذ بحلب في مدافعة كيكاوس صاحب   [1] هنا عبارة ساقطة وفي الكامل: وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في امر دولته والتشريفات لهما أيضا. وأتتهم رسل الملوك بالتعزية وبذل ما طلب منهم من العهود واستقرت القواعد لهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 بلاد الروم عن أعمالها فأرسل الى مظفر الدين بالنكير عليه فيما فعل من نقضه العهد الّذي كان بينهم جميعا كما مرّ ويعزم عليه في اعادة ما أخذ من بلاد الموصل ويتوعده ان أصرّ على مظاهرة زنكي بقصد بلاده فلم يجب مظفر الدين الى ذلك واستألف على أمره صاحب ماردين وناصر الدين محمودا صاحب كيفا وآمد فوافقوه وفارقوا طاعة الأشرف في ذلك فبعث الأشرف عساكره الى نصيبين لانجاد لؤلؤ متى احتاج اليه والله تعالى أعلم. واقعة عساكر لؤلؤ بعماد الدين ولما عاد عسكر الموصل عن حصار العماديّة خرج زنكي الى قلعة العقر ليتمكن من أعمال الموصل الصحراوية إذ كان قد فرغ من أعمالها الجبلية وأمده مظفر الدين صاحب اربل بالعساكر وعسكر جند الموصل على أربع فراسخ من البلد من ناحية العقر ثم اتفقوا على المسير الى زنكي وصبحوه آخر المحرّم سنة ست عشرة وستمائة وهزموه فلحق بإربل وعاد العسكر الى مكانهم ووصل رسل الخليفة الناصر والأشرف ابن العادل في الصلح بينهما فاصطلحوا وتحالفوا والله تعالى أعلم. وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية أخيه ناصر الدين لما توفي نور الدين ارسلان شاه ابن الملك القاهر كما قدّمناه من سوء مزاجه واختلاف الأسقام عليه فتوفي قبل كمال الحول ونصب لؤلؤ مكانه أخاه ناصر الدين محمد بن القاهر في سنّ الثلاث واستحلف له الجند وأركبه في الموكب فرضي به الناس لما بلوا من عجز أخيه عن الركوب لمرضه والله تعالى ولىّ التوفيق. هزيمة لؤلؤ صاحب الموصل من مظفر الدين صاحب اربل ولما توفي نور الدين ونصب لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمدا على صغر سنه تجدّد الطمع لعماد الدين عمه ولمظفر الدين صاحب اربل في الاستيلاء على الموصل وتجهزوا لذلك وعاثت سراياه في نواحي الموصل وكذا لؤلؤ قد بعث ابنه الأكبر في العساكر نجده للملك الأشرف وهو يقصد بلاد الافرنج بالسواحل ليأخذ بحجزتهم عن امداد إخوانهم بدمياط عن أبيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 الكامل بمصر فبادر لؤلؤ الى عسكر الأشرف الذين بنصيبين واستدعاهم فجاءوا الى الموصل منتصف سنة عشر وستمائة وعليهم ايبك مولى الأشرف فاستقلهم لؤلؤ ورآهم مثل عسكره الذين بالشام أو دونهم وألحّ ايبك على عبور دجلة الى اربل فمنعه أياما فلما أصرّ عبر لؤلؤ معه ونزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة وجمع مظفر الدين زنكي وعبروا [1] الزاب وتقدّم اليهم ايبك في عسكره وأصحاب لؤلؤ وسار منتصف الليل من رجب وأشار عليه لؤلؤ بانتظار الصباح فلم يفعل ولقيهم بالليل وحمل ايبك على زنكي في المسيرة فهزمه وانهزمت ميسرة لؤلؤ فبقي في نفر قليل فتقدّم اليه مظفر الدين فهزمه وعبر دجلة الى الموصل وظهر مظفر الدين على تبريز ثلاثا ثم بلغه أنّ لؤلؤا يريد تبييته فأجفل راجعا وتردّدت الرسل بينهما فاصطلحا على كل ما بيده والله أعلم. وفاة صاحب سنجار وولاية ابنه ثم مقتله وولاية أخيه ثم توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب سنجار في ثامن صفر سنة ست عشرة وستمائة وكان حسن السيرة مسلما الى نوّابه وملك بعده ابنه عماد الدين شاهين شاه واشتمل الناس عليه فملك شهورا ثم سار الى تل اعفر فاغتاله أخوه عمر ودخل اليه في جمعة فقتلوه وملك بعده وبقي مدّة الى أن تسلم منها الأشرف بن العادل مدينة سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة والله اعلم. استيلاء عماد الدين على قلعة كواشي ولؤلؤ على تل أعفر والأشرف على سنجار كانت كواشي من أحسن قلاع الموصل وأمنعه وأعلاه ولما رأى الجند الذين بها بعد أهل العماديّة واستبدادهم بأنفسهم طمعوا في مثل ذلك وأخرجوا نواب لؤلؤ عنهم وتمسكوا بإظهار الطاعة على البعد خوفا على رهائنهم بالموصل ثم استدعوا عماد الدين زنكي وسلموا له القلعة وأقام عندهم وبعث لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكره العهود التي لم يجز ثلمها بعد فأعرض وأرسل   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 345: فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار اليهم ومعه زنكي فعبر الزاب، وسبق خبره فسمع بدر الدين فعبى أصحابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 إلى الأشرف بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات إلى حران وكان مظفر الدين صاحب أربل يراسل الملوك بالأطراف ويغريهم بالأشرف ويخوّفهم غائلته ولما كان بين كيكاوس بن كنجسرو صاحب الروم من الفتنة ما نذكره في أخباره وسار كيكاوس إلى حلب دعا مظفر الدين الملوك بناحيته إلى وفاق كيكاوس مثل صاحب كيفا وآمد وصاحب ماردين فأطاعوه وخطبوا له في أعمالهم ومات كيكاوس وفي نفس الأشرف منه ومن مظفر الدين ما في نفسه ولما سار الأشرف إلى حران لمظاهرة لؤلؤ راسل مظفر الدين جماعة من أمرائه مثل أحمد بن علي المشطوب وعز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما واستمالهم ففارقوا الأشرف ونازلوا دبيس تحت ماردين ليجتمعوا مع ملوك الأطراف لمدافعة الأشرف واستمال الأشرف صاحب آمد وأعطاه مدينة حالي وجبل حودي ووعده بدارا إذا ملكها فأجاب وفارقهم إليه واضطرّ آخرون منهم إلى طاعة الأشرف فانحلّ أمرهم وانفرد ابن المشطوب بمشاقة الأشرف فقصد أربل ومرّ بنصيبين فقاتله شيخ بها فانهزم إلى سنجار فأسره صاحبها وكان هواه مع الأشرف ولؤلؤ فصده ابن المشطوب عن رأيه فيهم حتى أجمع خلافه وأطلقه فجمع المفسدين وقصد البقعاء من أعمال الموصل فاكتسح نواحيها وعاد ثم سار من سنجار ثانية إلى الموصل وأرصد له لؤلؤ عسكرا فاعترضوه فهزمه واجتاز بتل أعفر من أعمال صاحب سنجار فأقاموا عليها وبعثوا إلى لؤلؤ فسار وحاصرها وملكها في ربيع سنة سبع عشرة وستمائة وأسر ابن المشطوب وجاء به إلى الموصل ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران سنين وهلك في محبسه ولما أطاع صاحب آمد الأشرف رحل من حران إلى ماردين ونزل دبيس وحاصر ماردين ومعه صاحب آمد وتردّدت الرسل بينه وبين صاحب ماردين على أن يرد عليه رأس عين وكان الأشرف قد أقطعها له على أن يحمل إليه ثلاثين ألف دينار وأن يعطي لصاحب آمد الورزني بلد [1] وانعقد الصلح بينهما وارتحل الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل فلقيه رسل صاحب سنجار يطلب من يتسلمها منه على أن يعوّضه الأشرف منها بالرقة بما أدركه من الخوف عند استيلاء لؤلؤ على تل أعفر ونفرة أهل دولته عنه لقتله أخاه كما ذكرناه فأجابه الأشرف وأعطاه الرقة وملك سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة ورحل عنها بأهله وعشيرته وانقرض أمر بني زنكي منها بعد أربع وتسعين سنة والبقاء للَّه وحده.   [1] بياض بالأصل وأخطاء بالأسماء، وفي الكامل ج 12 ص 343: ويأخذ منه صاحب آمد الموزر من بلد شبختان، فلم تم الصلح سار الأشرف من دنس إلى نصيبين يريد الموصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 صلح الأشرف مع مظفر الدين ولما ملك الأشرف سنجار سار إلى الموصل ووافاه بها رسل الخليفة الناصر ومظفر الدين صاحب أربل في الصلح وردّ القلاع المأخوذة من إيالة الموصل على صاحبها لؤلؤ ما عدي العماديّة فتبقى بيد زنكي وتردّد الحديث في ذلك شهرين ولم يتمّ فرحل الأشرف بقصد إربل حتى قارب نهر الزاب وكان العسكر قد ضجروا سوء صاحب آمد مع مظفر الدين فأشار بإجابته إلى ما سأل ووافق على ذلك أصحاب الأشرف فانعقد الصلح وساق زنكي إلى الأشرف رهينة على ذلك وسلمت قلعة العقروشوش لنوّاب الأشرف وهما لزنكي رهنا أيضا وعاد الأشرف إلى سنجار في رمضان سنة سبع عشرة وبعثوا إلى القلاع فلم يسلمها جندها وامتنعوا بها واستجار عماد الدين زنكي بشهاب بن العادل فاستعطف له أخاه الأشرف فأطلقه وردّ عليه قلعتي العقروشوش وصرف نوّابه عنهما وسمع لؤلؤ الأشرف يميل إلى قلعة تل أعفر وأنها لم تزل لسنجار قديما فبعث إليه بتسليمها والله تعالى أعلم. رجوع قلاع الهكارية والزوزان إلى طاعة صاحب الموصل لما رأى زنكي أنه ملك قلاع الهكارية والزوزان وساوة فلم يروا عنده ما ظنوه من حسن السيرة كما يفعله لؤلؤ مع جنده ورعاياه اعتزموا على مراجعة طاعة لؤلؤ وطلبوه في الإقطاع فأجابهم واستأذن الأشرف فلم يأذن له وجاء زنكي من عند الأشرف فحاصر العماديّة ولم يبلغ منها غرضا فأعادوا مراسلة لؤلؤ فاستأذن الأشرف وأعطاه قلعة جديدة ونصيبين وولاية بين النهرين وأذن له في تملك القلاع وأرسل نوّابه إليها ووفى لهم بما عاهدهم عليه وتبعهم بقية القلاع من أعمال الموصل فدخلوا كلهم في طاعة لؤلؤ وانتظم له ملكها والله تعالى أعلم. استيلاء صاحب الموصل على قلعة سوس كانت قلعة شوش وقلعة العقر متجاورتين على اثني عشر فرسخا من الموصل وكانتا لعماد الدين زنكي بن نور الدين أرسلان شاه بوصية أبيه كما مرّ وملك معها قلاع الهكارية والزوزان ورجعت إلى الموصل وسار هو سنة تسعة عشر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان من بقية السلجوقية فسار معه وأقطع له الإقطاعات وأقام عنده فسار لؤلؤ من الموصل إلى قلعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 شوش فحاصرها وضيق عليها وامتنعت عليه فجمر العساكر لحصارها وعاد إلى الموصل ثم اشتدّ الحصار بأهلها وانقطعت عنهم الأسباب فاستأمنوا إلى لؤلؤ ونزلوا له عنها على شروط اشترطوها وقبلها وبعث نوابه عليها والله تعالى أعلم. حصار مظفر الدين الموصل كان الأشرف بن العادل بن أيوب قد استولى على الموصل ودخل لؤلؤ في طاعته واستولى على خلاط وسائر أرمينية وأقطعها أخاه شهاب الدين غازي ثم جعله وليّ عهده في سائر أعماله ثم نشأت الفتنة بينهما فاستظهر غازي بأخيه المعظم صاحب دمشق وبمظفّر الدين كوكبري وتداعوا لحصار الموصل فجمع أخوهما الكامل عساكره وسار إلى خلاط فحاصرها بعد أن بعث إلى المعظم صاحب دمشق وتهدّده فأقصر عن مظاهرة أخيه واستنجد غازي مظفر الدين كوكبري صاحب أربل فسار إلى الموصل وحاصرها ليأخذ بحجزة الأشرف عن خلاط ونهض المعظم صاحب دمشق لإنجاد أخيه غازي وكان لؤلؤ صاحب الموصل قد استعدّ للحصار فأقام عليها مظفر الدين عشرا ثم رحل منتصف إحدى وعشرين لامتناعها عليه ولقيه الخبر بأنّ الأشرف قد ملك خلاط من يد أخيه فندم على ما كان منه. انتقاض أهل العماديّة على لؤلؤ ثم استيلاؤه عليها قد تقدّم لنا انتقاض أهل قلعة العماديّة من أعمال الموصل سنة خمس عشرة ورجوعه إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة لؤلؤ فأقاموا على ذلك مدّة ثم عادوا إلى ديدنهم من التمريض في الطاعة وتجنوا على لؤلؤ بعزل نوابه فعزلهم مرّة بعد أخرى ثم استبدّ بها أولاد خواجا إبراهيم وأخوه فيمن تبعهم وأخرجوا من خالفهم وأظهروا العصيان على لؤلؤ فسار إليهم سنة اثنتين وعشرين وحاصرهم وقطع الميرة عنهم وبعث عسكر الى قلعة هزوران وقد كانوا تبعوا أهل العماديّة في العصيان فحاصرهم حتى استأمنوا وملكها ثم جهز العساكر الى العماديّة مع نائبة أمين الدين وعاد إلى الموصل واستمر الحصار إلى ذي القعدة من السنة ثم راسلوا أمين الدين في الصلح على مال وأقطاع وعوض عن القلعة وأجاب لؤلؤ إلى ذلك وكان أمين الدين قد وليها قبل ذلك فكان له فيها بطانة مستمدّون على عهده ومكاتبته وسخط كثير من أهل البلد فعل أولاد خواجا إبراهيم واستئثارهم بالصلح دونهم فوجد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 أولئك البطانة سبيلا إلى التسلط عليهم ودسوا لأمين الدين أن يبيت البلد ويصالحهم فوثبوا بأولاد خواجا ونادوا بشعار لؤلؤ فصعد العسكر القلعة وملكها أمين الدين وبعث بالخبر الى لؤلؤ قبل أن ينعقد اليمين مع وفد أولاد خواجا والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق. مسير مظفر الدين صاحب أربل إلى أعمال الموصل وعوده عنها كان جلال الدين شكري بن خوارزم شاه قد غلبه التتر أوّل خروجهم سنة سبع عشرة وستمائة على خوارزم وخراسان وغزنة وفرّ أمامهم إلى الهند ثم رجع عنها لسنة اثنتين وعشرين واستولى على العراق ثم على أذربيجان وجاور الأشرف بن العادل في ولايته بخلاط والجزيرة وحدثت بينهما الفتنة وراسله أعيان الأشرف في الإغراء به مثل مظفر الدين صاحب أربل ومسعود صاحب آمد وأخيه المعظم صاحب دمشق واتفقوا على ذلك وسار جلال الدين إلى خلاط وسار مظفر الدين إلى الموصل وانتهى إلى الزاب ينتظر الخبر عن جلال الدين وسار المعظم صاحب دمشق إلى حمص وحماة وبعث لؤلؤ من الموصل يستنجد الأشرف فسار إلى حران ثم إلى دبيس فاكتسح أعمال ماردين وكان جلال الدين قد بلغه انتقاض نائبة بكرمان فاغذ السير إليه وترك خلاط بعد أن عاث في أعمالها وفت ذلك في أعضاد الآخرين وعظمت سطوة الأشرف بهم وبعث إليه أخوه المعظم وقد نازل حمص وحماة يتوعده بمحاصرتهما ومحاصرة مظفر الدين الموصل فرجع عن ماردين ورجع الآخران عن حمص وحماة والموصل ولحق كل ببلده والله تعالى أعلم. مسير التتر في بلاد الموصل وأربل ولما أوقع التتر بجلال الدين خوارزم شاه على آمد سنة ثمان وعشرين وقتلوه ولم يبق لهم مدافع من الملوك ولا ممانع انساحوا في البلاد طولا وعرضا ودخلوا ديار بكر واكتسحوا سواد آمد وارزن وميافارقين وحاصروا [1] وملكوها بالأمان ثم استباحوها وساروا إلى   [1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على اسم المكان الّذي حاصروه وملكوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 ماردين فعاثوا في نواحيها ثم دخلوا الجزيرة واكتسحوا أعمال نصيبين ثم مرّوا إلى سنجار فنهبوها ودخلوا الخابور واستباحوه وسارت طائفة منهم إلى الموصل فاستباحوا أعمالها ثم أعمال أربل وأفحشوا فيها وبرز مظفر الدين في عساكره واستمدّ عساكر الموصل فبعث بها لؤلؤ إليه ثم عاد التتر عنهم إلى أذربيجان فعاد كل إلى بلاده والله أعلم. وفاة مظفر الدين صاحب أربل وعودها إلى الخليفة ثم توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك صاحب أربل سنة تسع وعشرين لأربع وأربعين سنة من ولايته عليها أيام صلاح الدين بعد أخيه يوسف ولم يكن له ولد فأوصى بأربل للخليفة المستنصر فبعث إليها نوابه واستولى عليها وصارت من أعماله والله تعالى أعلم. بقية أخبار لؤلؤ صاحب الموصل كان عسكر خوارزم شاه بعد مهلكه سنة ثمان وعشرين على آمد لحقوا بصاحب الروم كيقباد فاستنجدهم وهلك سنة أربع وثلاثين وستمائة وولي ابنه كنجسرو فقبض على أميرهم ومرّ الباقون وانتبذوا بأطراف البلاد وكان الصالح نجم الدين أيوب في حران وكيفا وآمد نائبا عن أبيه الملك العادل فرأى المصلحة في استضافتهم إليه فاستمالهم واستخدمهم بعد أن أذن أبوه له في ذلك فلما مات أبوه سنة خمس انتقضوا ولحقوا بالموصل واشتمل عليهم لؤلؤ وسار معهم فحاصر الصالح بسنجار ثم بعث الصالح إلى الخوارزمية واستمالهم فرجعوا إلى طاعته على أن يعطيهم حران والرها ينزلون بها فأعطاهما إياهم وملكوهما ثم ملكوا نصيبين من أعمال لؤلؤ وبنو أيوب يومئذ متفرقون على كراسي الشام وبينهم من الأنفة والفرقة ما نتلو عليك قصصه في دولتهم ثم استقر ملك سنجار للجواد يونس منهم وهو ابن مودود بن العادل أخذها من الصالح نجم الدين أيوب عوضا عن دمشق واستولى لؤلؤ على سنجار من يده سنة سبع وثلاثين ثم حدثت بين صاحب حلب وبين الخوارزمية فتنة ولجئوا يومئذ لصفيتهم خاتون بنت العادل فبعثت العساكر إليهم مع المعظم بوران شاه بن صلاح الدين فهزموا عساكره وأسروا ابن أخيه الأفضل ودخلوا حلب واستباحوها فتحوا منبج وعاثوا فيها وقطعوا الفرات من الرقة وهم يذهبون وتبعهم عسكر دمشق وحمص فهزموهم وأثخنوا فيهم ولحقوا ببلدهم حران فسارت إليهم عساكر حلب واستولوا على حران ولحق الخوارزمية بغانة وبادر لؤلؤ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 صاحب الموصل إلى نصيبين فملكها من أيديهم ثم توفيت صفية بنت العادل سنة أربعين في حلب وكانت ولايتها بعد وفاة أبيها العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فولي بعدها ابنه الناصر يوسف ابن العزيز في كفالة مولاه إحيال الخاتوني فلما كانت سنة ثمان وأربعين وستمائة وقع بين عسكره وبين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل حرب انهزم فيها لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا وقرقيسيا ولحق لؤلؤ بحلب ثم زحف هلاكو ملك التتر إلى بغداد سنة [1] وملكها وقتل الخليفة المستعصم واستلحم العلية من بغداد كما مرّ في أخبار الخلفاء ويأتي في أخبار التتر وتخطي منها إلى أذربيجان فبادر لؤلؤ ووصل إليه بأذربيجان وآتاه طاعته وعاد إلى الموصل والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. وفاة صاحب الموصل وولاية ابنه الصالح ثم توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين وستمائة وكان يلقب الملك الرحيم وملك بعده على الموصل ابنه الصالح إسماعيل وعلى سنجار ابنه المظفر علاء الدين علي وعلى جزيرة ابن عمر ابنه المجاهد إسحاق وأبقاهم هلاكو عليها مدّة ثم أخذها منهم ولحقوا بمصر فنزلوا على الملك الظاهر بيبرس كما نذكر في أخباره وسار هلاكو إلى الشام فملكها وانقرضت دولة الأتابك زنكي وبينه ومواليه من الشام والجزيرة أجمع كان لم تكن والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء للَّه تعالى وحده والله تعالى أعلم.   [1] بياض بالأصل وقد ذكر أبو الفداء في أخبار البشر هذا الحدث في العشرين من محرم سنة ست وخمسين وستمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 دولة بني أيوب الخبر عن دولة بني أيوب القائمين بالدولة العباسية وما كان لهم من الملك بمصر والشام واليمن والمغرب وأولية ذلك ومصايره هذه الدولة من فروع دولة بني زنكي كما تراه وجدهم هو أيوب بن شادي بن مروان بن علي ابن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحرث بن سنان بن عمر بن مرّة بن عوف الحميري الدوسيّ هكذا نسبه بعض المؤرخين لدولتهم قال ابن الأثير أنهم من الأكراد الرواية وقال ابن خلكان شادي أبوهم من أعيان درين وكان صاحبه بها بهروز فأصابه خصي من بعض أمرائه وفرّ حياء من المثلة فلحق بدولة السلطان مسعود بن محمد بن ملك شاه وتعلق بخدمة داية بنيه حتى إذا هلك الداية أقامه السلطان لبنيه مقامه فظهرت كفايته وعلا في الدولة محله فبعث عن شادي بن مروان صاحبه لما بينهما من الألفة وأكيد الصحبة فقدم عليه ثم ولى السلطان بهروز شحنة بغداد فسار إليها واستصحب شادي معه ثم أقطعه السلطان قلعة تكريت فولى عليها شادي فهلك وهو وال عليها وولى بهروز مكانه ابنه نجم الدين أيوب وهو أكبر من أسد الدين شيركوه فلم يزل واليا عليها ولما زحف عماد الدين زنكي صاحب الموصل لمظاهرة مسعود على الخليفة المسترشد سنة عشرين وخمسمائة وانهزم الأتابك وانكفأ راجعا إلى الموصل ومرّ بتكريت قام نجم الدين بعلوفته وازواده وعقد له الجسور على دجلة وسهل له عبورها ثم أن شيركوه أصاب دما في تكريت ولم يفده منه أخوه أيوب فعزله بهروز وأخرجهما من تكريت فلحقا بعماد الدين بالموصل فأحسن إليهما وأقطعهما ثم ملك بعلبكّ سنة اثنتين وثلاثين جعله نائبا ولم يزل بها أيوب ولما مات عماد الدين زنكي سنة إحدى وأربعين زحف صاحب دمشق فخر الدين طغركين إلى بعلبكّ وحاصرها واستنزل أيوب منها على ما شرط لنفسه من الإقطاع وأقام معه بدمشق وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بن زنكي وأقطعه حمص والرحبة لاستطاعته وكفايته وجعله مقدّم عساكره ولما صرف نظره إلى الاستيلاء على دمشق واعتزم على مداخلة أهلها كان ذلك على يد شيركوه وبمكاتبته لأخيه أيوب وهو بدمشق فتم ذلك على أيديهما وبمحاولتهما وملكها سنة تسع وأربعين وخمسمائة وكانت دولة العلويين بمصر قد أخلقت جدّتها وذهب استفحالها واستبدّ وزراؤها على خلفائها فلم يكن الخلفاء يملكون معهم وطمع الإفرنج في سواحلهم وأمصارهم لما نالهم من الهرم والوهن فمالوا عليهم وانتزعوا البلاد من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 أيديهم وكانوا يردون عليهم كرسي خلافتهم بالقاهرة ووضعوا عليهم الجزية وهم يتجرّعون المصاب من ذلك ويتحملونه مع بقاء أمرهم كاد الأتابك زنكي وقومه السلجوقية من قبله أن يمحو دعوتهم ويذهبوا بدولتهم وأقاموا من ذلك على مضض وقلق وجاء الله بدعوة العاضد آخرهم وتغلب عليه بعد الصالح بن رزيك شاور السعدي وقتل رزيك بن صالح سنة ثمان وخمسين واستبدّ على العاضد ثم نازعه الضرغام لتسعة أشهر من ولايته وغلبه وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام ولحق بنور الدين صريخا سنة تسع وخمسين وشرط له على نفسه ثلث الجباية بأعمال مصر على أن يبعث معه عسكرا يقيمون بها فأجابه إلى ذلك وبعث أسد الدين شيركوه في العساكر فقتل الضرغام ورد شاور إلى رتبته وآل أمرهم إلى محو الدولة العلوية وانتظام مصر وأعمالها في ملكة ابن أيوب بدعوة نور الدين محمود بن زنكي ويخطب للخلفاء العباسيين لما هلك نور الدين محمود واستبدّ صلاح الدين بأمره في مصر ثم غلب على بني نور الدين محمود وملك الشام من أيديهم وكثر عيث ابن عمهم مودود واستفحل ملكه وعظمت دولة بنيه من بعده إلى أن انقرضوا والبقاء للَّه وحده. مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر وإعادة شاور إلى وزارته لما اعتزم نور الدين محمود صاحب الشام على صريخ شاور وإرسال العساكر معه واختار لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي وكان من أكبر أمرائه فاستدعاه من حمص وكان أميرا عليها وهي أقطاعه وجمع له العساكر وأزاح عللهم وفصل بهم شيركوه من دمشق في جمادى سنة تسع وخمسين وسار نور الدين بالعساكر إلى بلاد الإفرنج ليأخذ بحجزتهم عن اعتراضه أو صدّه لما كان بينهم وبين صاحب مصر من الألفة والتظاهر ولما وصل أسد الدين بلبيس لقيه هنالك ناصر الدين أخو الضرغام وقاتله فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوما وخرج الضرغام منسلخ جمادى الأخيرة فقتل عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها وقتل أخوه وأعاد شاور إلى وزارته وتمكن فيها وصرف أسد الدين إلى بلده وأعرض عما كان بينهما فطالبه أسد الدين بالوفاء فلم يجب إليه فتغلب أسد الدين على بلبيس والبلاد الشرقية وبعث شاور إلى الإفرنج يستنجدهم ويعدهم فبادروا إلى إجابته وسار بهم ملكهم مري لخوفهم أن يملك أسد الدين مصر واستعانوا بجمع من الإفرنج جاءوا الزيارة القدس وسار نور الدين إليهم ليشغلهم فلم يثنهم ذلك وطمعوا لعزمهم وزرأ أسد الدين إلى بلبيس واجتمعت العساكر المصرية والإفرنج عليه وحاصروه ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم وامتنع عليهم وقصاراهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 منع الأخبار عنه واستنفر نور الدين ملوك الجزيرة وديار بكر وقصر حارم وسار الإفرنج لمدافعته فهزمهم وأثخن فيهم وأسر صاحب أنطاكية وطرابلس وفتح حارم قريبا من حلب ثم سار إلى بانياس قريبا من دمشق ففتحها كما مرّ في أخبار نور الدين وبلغ الخبر بذلك إلى الإفرنج وهم محاصرون أسد الدين في بلبيس ففت في عزائمهم وطووا الخبر عنه وراسلوه في الصلح على أن يعود إلى الشام فصالحهم وعاد إلى الشام في ذي الحجة من السنة والله تعالى أعلم. مسير أسد الدين ثانيا إلى مصر وملكه لإسكندرية ثم صلحه عليها وعوده ولما رجع أسد الدين إلى الشام لم يزل في نفسه مما كان من غدر شاور وبقي يشحن لغزوهم إلى سنة اثنتين وستين فجمع العساكر وبعث معه نور الدين جماعة من الأمراء واكثف له العسكر خوفا على حامية الإسلام وسار أسد الدين إلى مصر وانتهى إلى أطفيح وعبر منها إلى العدوة الغربية ونزل الجيزة وأقام نحوا من خمسين يوما وبعث شاور إلى الإفرنج يستمدّهم على العادة وعلى مالهم من التخوّف من استفحال ملك نور الدين وشيركوه فسارعوا إلى مصر وعبروا مع عساكرها إلى الجيزة وقد ارتحل عنها أسد الدين إلى الصعيد وانتهى منها إلى [1] وأتبعوه وأدركوه بها منتصف اثنتين وستين ولما رأى كثرة عددهم واستعدادهم مع تخاذل أصحابه فاستشارهم فأشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية والعود إلى الشام وأبى زعماؤهم إلا الاستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين وتقدّم صلاح الدين بذلك وأدركهم القوم على تعبية وجعل صلاح الدين في القلب وأوصاه أن يندفع أمامهم ووقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته وحمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته وخالفهم أسد الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم وأثخن قتلا وأسرا ورجعوا عن صلاح الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم واستباحة فانهزموا إلى مصر وسار أسد الدين إلى الإسكندرية فتلقاه أهلها بالطاعة واستخلف بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فاستولى عليه وفرّق العمال على جباية أمواله ووصلت عساكر مصر والإفرنج إلى القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية فحاصروا   [1] بياض بالأصل: وفي الكامل ج 11 ص 345: وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 بها صلاح الدين وجهده الحصار وسار أسد الدين من الصعيد لإمداده وقد انتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره وبينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم الاسكندرية ويعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد فأجابهم إلى ذلك على أن يرجع الإفرنج إلى بلادهم ولا يملكوا من البلاد قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوّال وعاد أسد الدين وأصحابه إلى الشام منتصف ذي القعدة ثم شرط الإفرنج على شاور أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين فضربوا عليه مائة ألف دينار في كلّ سنة جزية فقبل ذلك وعاد الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام وتركوا بمصر جماعة من زعمائهم وبعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور الدين بطاعته وان يبث بمصر دعوته وقرر على نفسه ما لا يحمل كلّ سنة إلى نور الدين فأجابه إلى ذلك وبقي شيعة له بمصر والله تعالى أعلم. استيلاء أسد الدين على مصر ومقتل شاور ولما ضرب الإفرنج الجزية على القاهرة ومصر وأنزلوا بها الشحنة وملكوا أبوابها تمكنوا من البلاد وأقاموا فيها جماعة من زعمائهم فتحكموا وأطلعوا على عورات الدولة فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء وراسلوا بذلك ملكهم بالشام واسمه مري ولم يكن ظهر بالشام من الإفرنج مثله فاستدعوه لذلك وأغروه فلم يجبهم واستحثه أصحابه لملكها وما زالوا يفتلون له في الذروة والغارب ويوهمونه القوّة بتملكها على نور الدين ويريهم هو أن ذلك يؤل إلى خروج أصحابها عنها النور الدين فبقي بها إلى أن غلبوا عليه فرجع إلى رأيهم وتجهز وبلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره واستنفر من في ثغوره وسار الإفرنج إلى مصر مفتتح أربع وستين فملكوا بلبيس عنوة في صفر واستباحوها وكاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا مكاتبتهم وساروا إلى مصر ونازلوا القاهرة وأمر شاور بإحراق مدينة مصر لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحصار فانتقلوا وأخذهم الحريق وامتدّت الأيدي وانتهبت أموالهم واتصل الحريق فيها شهرين وبعث العاضد إلى نور الدين يستغيث به فأجاب وأخذ في تجهيز العساكر فاشتدّ الحصار على القاهرة وضاق الأمر بشاور فبعث إلى ملك الإفرنج يذكره بقديمه وأنّ هواه معه دون العاضد ونور الدين ويسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين مما سوى ذلك فأجابه ملك الإفرنج على ألف ألف دينار لما رأى من امتناع القاهرة وبعث إليهم شاور بمائة ألف منها وسألهم في الإفراج فارتحلوا وشرع في جمع المال فعجز الناس عنه ورسل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 العاضد خلال ذلك تردّد إلى نور الدين في أن يكون أسد الدين وعساكره حامية عنده وعطاؤهم عليه وثلث الجباية خالصة لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص وأعطاه مائتي ألف دينار وجهزه بما يحتاجه من الثياب والدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن ونقد العسكر عشرين دينارا لكل فارس وبعث معه من أمرائه مولاه عز الدين خردك وعز الدين قليج وشرف الدين ترعش [1] وعز الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وأمدّ صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه أسد الدين فتعلل عليه واعتزم عليه فأجاب وسار أسد الدين منتصف ربيع فلما قارب مصر رجع الإفرنج إلى بلادهم فسرّ بذلك نور الدين وأقام عليه البشائر في الشام ووصل أسد الدين القاهرة ودخلها منتصف جمادى الأخيرة ونزل بظاهرها ولقي العاضد وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عساكره الجرايات والاتاوات وأقام أسد الدين ينتظر شرطهم وشاور يماطله ويعلله بالمواعيد ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين واستخدام جنده فمنعه ابنه الكامل من ذلك فأقصر ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور وتفاوض أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين مع ابن أخيه وعز الدين خردك على قتل شاور وأسد الدين ينهاهم وغدا شاور يوما على أسد الدين في خيامه فألقاه قد ركب لزيارة تربة الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه فتلقاه صلاح الدين وخردك وركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم وطيروا بالخبر إلى أسد الدين وبعث العاضد لوقته يحرّضهم على قتله فبعثوا إليه برأسه وأمر العاضد بنهب دوره فنهبها العامّة وجاء أسد الدين لقصر العاضد فخلع عليه الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وخرج له من القصر منشور من إنشاء القاضي الفاضل البيساني وعليه مكتوب بخط الخليفة ما نصه: «هذا عهد لا عهد لوزير بمثله فتقلد ما رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحملة وعليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة وأسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا» . ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التي كان فيها شاور وجلس مجلس الأمر والنهي وولى على الأعمال وأقطع البلاد للعساكر وأمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم ورمّها وعمارتها وكاتب نور الدين بالواقع مفصلا وانتصب للأمور ثم دخل للعاضد وخطب الأستاذ جوهر الخصي عنه وهو يومئذ أكبر الأساتيذ فقال يقول لك مولانا نؤثر مقامك عندنا من أوّل قدومك وأنت تعلم الواقع من ذلك وقد تيقنا أن الله عز وجل أدّخرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة وإظهار الدولة فقال   [1] وفي نسخة ثانية: مرعش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 الأستاذ عن العاضد الأمر بيدك هذا وأكثر ثم جدّدت الخلع واستخلص أسد الدين الجليس عبد القوي وكان قاضي القضاة وداعي الدعاة واستحسنه واختصه وأمّا الكامل بن شاور فدخل القصر مع إخوته معتصمين به وكان آخر العهد به وأسف أسد الدين عليه لما كان منه في ردّ أبيه وذهب كل بما كسب والله تعالى أعلم. وفاة أسد الدين وولاية ابن أخيه صلاح الدين ثم توفي أسد الدين شيركوه آخر جمادى الأخيرة من سنة أربع وستين لشهرين من وزارته ولما احتضر أوصى حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له الحمد للَّه الّذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا وصار أهلها راضين عنا فلا تفارقوا سور القاهرة ولا تفرّطوا في الأسطول ولما توفي تشوّف الأمراء الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقي وشرف الدين المشطوب الهكاري وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وشهاب الدين الحارمي وهو خال صلاح الدين وجمع كل لمغالبة صاحبه وكان أهل القصر وخواص الدولة قد تشاوروا فأشار جوهر بإخلاء رتبة الوزارة واصطفاء ثلاثة آلاف من عسكر الغز يقودهم قراقوش ويعطي لهم الشرقية إقطاعا ينزلون بها حشدا دون الإفرنج [1] من يستبدّ على الخليفة بل يقيم واسطة بينه وبين الناس على العادة وأشار آخرون بإقامة صلاح الدين مقام عمه والناس تبع له ومال القاضي لذلك حياء من صلاح الدين وجنوحا إلى صغر سنه وأنه لا يتوهم فيه من الاستبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه وأنهم في سعة من رأيهم مع ولايته فاستدعاه وخلع عليه ولقبه الملك الناصر واختلف عليه أصحابه فلم يطيعوه وكان عيسى الهكاري شيعة له واستمالهم إليه إلا الباروقي فإنه امتنع وعاد إلى نور الدين بالشام وثبتت قدم صلاح الدين في مصر وكان نائبا عن نور الدين ونور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسار ويجمعه في الخطاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية وما زال صلاح الدين يحسن المباشرة ويستميل الناس ويفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس وضعف أمر العاضد ثم أرسل يطلب إخوته وأهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشام واستقامت أموره وأطردت سعادته والله تعالى وليّ التوفيق.   [1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 واقعة السودان بمصر كان بقصر العاضد خصىّ حاكم على أهل القصر يدعي مؤتمن الخلافة فلما غص أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم وكاتب الإفرنج يستدعيهم ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه ثم يتبعونه وقد ناشب الإفرنج فيأتون عليه وبعثوا الكتاب مع ذي طمرين حمله في [1] نعاله فاعترضه بعض التركمان واستلبه ورأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاءوا به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب ودخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الأمر فطوي ذلك وانتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزها وبعث من جاء برأسه ومنع الخصيين بالقصر عن ولاية أموره وقدّم عليهم بهاء الدين قراقوش خصيا أبيض من خدمه وجعل إليه جميع الأمور بالقصر وامتعض السودان بمصر لمؤتمن الخلافة واجتمعوا لحرب صلاح الدين وبلغوا خمسة آلاف وناجزوا عسكره من القصر في ذي القعدة من السنة وبعث إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم وأولادهم فلما سمعوا بذلك انهزموا وأخذهم السيف في السكك فاستأمنوا وعبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم وأبادهم والله أعلم. منازلة الإفرنج دمياط وفتح ايلة ولما استولى صلاح الدين على دولة مصر وقد كان الإفرنج أسفوا على ما فاتهم من صدّه وصدّ عمه عن مصر وتوقعوا الهلاك من استطالة نور الدين عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان والأقسة إلى بلاد القرانية يدعونهم الى المدافعة عن بيت المقدس وكاتبوا الإفرنج بصقلية والأندلس يستنجدونهم فنفروا واستعدّوا لإمدادهم واجتمع الذين بسواحل الشام في فاتح خمس وستين وثلاثمائة وركبوا في ألف من الأساطيل وأرسلوا لدمياط ليملكوها ويقربوا من مصر وكان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز في البرّ متتابعين وواصل المراكب بالأسلحة والإتاوات وخاطب نور الدين يستمدّه لدمياط لأنه لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر فبعث نور الدين إليها العساكر أرسالا ثم سار   [1] بياض بالأصل: في الكامل ج 11 ص 345 وسيروا الكتب مع إنسان يثقون إليه وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد الى البئر البيضاء فلقيه إنسان تركمانيّ فرأى معه نعلين جديدين فأخذهما منه، وارتاب به وبهما فأتى به صلاح الدين ففتقهما فرأى الكتاب فيهما فقرأه وسكت عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 بنفسه وخالف الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام فاستباحها وخربها وبلغهم الخبر بذلك على دمياط وقد امتنعت عليهم ووقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوما من حصارها ورجع أهل سواحل الشام لبلادهم فوجدوها خرابا وكان جملة ما بعثه نور الدين في المدد لصلاح الدين في شأن دمياط هذه ألف ألف دينار سوى الثياب والأسلحة وغيرها ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعي منه أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر واجتمع معهم من التجار جماعة وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج الذين بالكرك فسار إلى الكرك وحاصرهم بها وجمع الإفرنج الآخرون فصمد للقائهم فخاموا عنه وسار في وسط بلادهم وسار إلى عشيرا ووصل نجم الدين أيوب إلى مصر وركب العاضد لتلقيه ثم سار صلاح الدين سنة ست وستين لغزو بلاد الإفرنج وأغار على أعمال عسقلان والرملة ونهب ربط غزة ولقي ملك الإفرنج فهزمه وعاد إلى مصر ثم أنشأ مراكب وحملها مفصلة على الجمال إلى أيلة فألفها وألقاها في البحر وحاصر أيلة برّا وبحرا وفتحها عنوة في شهر ربيع من السنة واستباحها وعاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة وأقام قاضيا شافعيا فيها وولّى في جميع البلاد كذلك ثم بعث أخاه شمس الدولة توران شاه الى الصعيد فأغار على العرب وكانوا قد عاثوا وأفسدوا فكفهم عن ذلك والله تعالى أعلم. إقامة الخطبة العباسية بمصر ثم كتب نور الدين بإقامة الخطبة للمستضيء العباسي وترك الخطبة للعاضد بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويّين وفي باطن الأمر خشي من نور الدين فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك ولم تسعه مخالفته وأحجم عن القيام بذلك وورد على صلاح الدين شخص من علماء الأعاجم يعرف بالخبشاني ويلقب بالأمير العالم فلما رآهم محجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة قبل الخطيب ودعي للمستضيء فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد والخطبة للمستضيء فتراسلوا بذلك ثاني جمعة من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة وكان المستضيء قد ولي الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها ولما خطب له بمصر كان العاضد مريضا فلم يشعروه بذلك وتوفي يوم عاشوراء من السنة ولما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره ووكل به بهاء الدين قراقوش وكان فيه من الذخائر ما يعز وجوده مثل حبل الياقوت الّذي وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالا ومصاف الزمرد الّذي طوله أربعة أصابع طولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 في عرض ومثل طبل القولنج الّذي يضربه ضاربه فيعافى بذلك من داء القولنج وكسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم منفعته ندموا عليه ووجدوا من الكتب النفيسة ما لا يعدّ ونقل أهل العاضد إلى بعض حجر القصر ووكل بهم وإخراج الإماء والعبيد وقسمهم بين البيع والهبة والعتق وكان العاضد لما اشتدّ مرضه استدعاه فلم يجب داعيه وظنها خديعة فلما توفي ندم وكان يصفه بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه والانقياد ولما وصل الخبر إلى بغداد بالخطبة للمستضيء ضربت البشائر وزينت بغداد أياما وبعثت الخلع لنور الدين وصلاح الدين مع صندل الخادم من خواص المقتفي فوصل إلى نور الدين وبعث بخلعة صلاح الدين وخلع الخطباء بمصر والأعلام السود والله تعالى أعلم. الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين قد كان تقدّم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مستوفاة وأنّ صلاح الدين غزا بلاد الإفرنج سنة سبع وستين وحاصر حصن الشوبك على مرحلة من الكرك حتى استأمنوا إليه فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد الإفرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره وفي لقاء نور الدين وإظهار طاعته وما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر واعتذر لنور الدين بشيء بلغه عن شيعة العلويين ليعتزله نور الدين وأخذ في الاستعداد لعزله وبلغ ذلك صلاح الدين وأصحابه فتفاوضوا في مدافعته ونهاهم أبوه نجم الدين أيوب وأشار بمكاتبته والتلطف له مخافة أن يبلغه غير ذلك فيقوى عزمه على العمل به ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين وعادت المخالطة بينهما كما كانت واتفقا على اجتماعهما لحصار الكرك فسار صلاح الدين لذلك سنة ثمان وستين وخرج نور الدين من دمشق بعد أن تجهز فلما انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك وبلغ صلاح الدين خبره ارتاب به ثانيا وجاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكرّ راجعا وأرسل إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكاري بما وقع من حديث المرض بأبيه وأنه رجع من أجله فأظهر نور الدين القبول وعاد إلى دمشق والله تعالى أعلم. وفاة نجم الدين أيوب كان نجم الدين أيوب بعد انصراف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند نور الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عند ما استوثق له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس وستين في عسكره وسار لحصار الكرك ليشغل الإفرنج عن اعتراضه كما مرّ ذكره ووصل إلى مصر وخرج العاضد لتلقيه وأقام مكرما ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان وستين المرّة الثانية في مواعدة نور الدين وأقام نجم الدين بمصر وركب يوما في مركب وسار ظاهر البلد والفرس في غلواء مراحه وملاعبة ظله فسقط عنه وحمل وقيذا إلى بيته فهلك لأيام منها آخر ذي الحجة من السنة وكان خيرا جواد محسنا للعلماء والفقراء وقد تقدّم ذكر أوليته والله وليّ التوفيق. استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب كان قراقوش من موالي تقيّ الدين عمر بن شاه نجم الدين أيوب وهو ابن أخي صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات وذهب مغاضبا إلى المغرب ولحق بجبل نفوسه من ضواحي طرابلس الغرب وأقام هنالك دعوة مواليه وكان في بسائط تلك الجبال مسعود بن زمام المعروف بالبلط في أحيائه من رياح من عرب هلال بن عامر كان منحرفا عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين وخليفة المهدي فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب وإفريقية إلى تلك القاصية فدعاه قراقوش إلى إظهار دعوة مواليه بني أيوب فأجابه ونزل معه بأحيائه على طرابلس فحاصرها قراقوش وافتتحها ونزل بأهله وعياله في قصرها ثم استولى على قابس من ورائها وعلى توزر ونفطة وبلاد نفراوة من إفريقية وجمع أموالا جمة وجعل ذخيرته بمدينة قابس وخربت تلك البلاد أثناء ذلك باستيلاء العرب عليها ولم يكن لهم قدرة على منعهم ثم طمع في الاستيلاء على جميع إفريقية ووصل يده بيحيى بن غانية اللمتوني الثائر بتلك الناحية بدعوة لمتونة من بقية الأمراء في دولتهم فكانت لهما بتلك الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على ما ملك من تلك البلاد وقتله كما هو مذكور في أخبارهم والله أعلم. استيلاء نور الدين توران شاه بن أيوب على بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن كان صلاح الدين وقومه على كثرة ارتيابهم من نور الدين وظنهم به الظنون يحاولون ملك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 القاصية عن مصر ليمتنعوا بها أن طرقهم منه حادث أو عزم على المسير إليهم في مصر فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد النوبة أو بلاد اليمن وتجهز شمس الدولة توران شاه بن أيوب وهو أخو صلاح الدين الأكبر إلى ملك النوبة وسار إليها في العساكر سنة ثمان وستين وحاصر قلعة من ثغورهم ففتحها واختبرها فلم يجد فيها خرجا ولا في البلاد بأسرها جباية وأقواتهم الذرة وهم في شظف من العيش ومعاناة للفتن فاقتصر على ما فتحه من ثغورهم وعاد في غنيته بالعبدى والجواري فلما وصل إلى مصر أقام بها قليلا وبعثه صلاح الدين إلى اليمن وقد كان غلب عليه علي بن مهدي الخارجي سنة أربع وخمسين وصار أمره إلى ابنه عبد النبي وكرسي ملكه زبيد منها وفي عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بني الربيع وكان عمارة اليمنى شاعر العبيدي وصاحب بني رزيك من أمرائهم وكان أصله من اليمن وكان في خدمة شمس الدولة ويغريه به فسار إليه شمس الدولة بعد أن تجهز وأزاح العلل واستعدّ للمال والعيال وسار من مصر منتصف سنة تسع وستين ومرّ بمكة وانتهى إلى زبيد وبها ملك اليمن عبد النبي بن علي بن مهدي فبرز إليه وقاتله فانهزم وانحجر بالبلد وزحفت عساكر شمس الدولة فتسنموا أسوارها وملكوها عنوة واستباحوها وأسروا عبد النبي وزوجته وولّى شمس الدولة على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزركان في جملته ودفع إليه عبد النبي ليستخلص منه الأموال فاستخرج من قرابته دفائن كانت فيها أموال جليلة ودلتهم زوجته الحرّة على ودائع استولوا منها على أموال جمة وأقيمت الخطبة العباسية في زبيد وسار شمس الدولة توران شاه الى عدن وبها ياسر بن بلال كان أبوه بلال بن جرير مستبدّا بها على مواليه بني الزريع وورثها عنه ابنه ياسر فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة وسارت عساكره الى البلد فملكوها وجاءوا بياسر أسيرا إلى شمس الدولة فدخل عدن وعبد النبي معه في الاعتقال واستولى على نواحيها وعاد الى زبيد ثم سار إلى حصون الجبال فملك تعز وهي من أحصن القلاع وحصن التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون وولّى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلي واتخذ زبيد سببا لملكه ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير مكانا صحيح الهواء للسكنى فوقع اختيارهم على تعز فاختط هنالك مدينة واتخذها كرسيا لملكه وبقيت لبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكره في أخبارهم والله تعالى وليّ التوفيق. واقعة عمارة ومقتله كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر وعبد الصمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 الكاتب والقاضي العويدس وابن كامل وداعي الدعاة وجماعة من الجند وحاشية القصر اتفقوا على استدعاء الإفرنج من صقلّيّة وسواحل الشام وبذلوا لهم الأموال على أن يقصدوا مصرفان خرج صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة وأعادوا الدولة العبيدية وإلا فلا بدّ له إن أقام من بعث عساكره لمدافعة الإفرنج فينفردون به ويقبضون عليه وواطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين وتحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن وثقوا بأنفسهم وصدقوا توهماتهم ورتبوا وظائف الدولة وخططها وتنازع في الوزارة بنو رزيك وبنو شاور وكان على بن نجيّ الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو في الباطن إليهم ونمى الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الإفرنج فوضع على الرسول عنده عيونا جاءوه بحلية خبره فقبض حينئذ عليهم وقيل إنّ علي بن نجيّ أنمى خبرهم إلى القاضي فأوصله إلى صلاح الدين ولما قبض عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم ومرّ عمارة ببيت القاضي وطلب لقاءه فلم يسعفه وأنشد البيت المشهور عبد الرحيم قد احتجب ... أنّ الخلاص هو العجب ثم صلبوا جميعا ونودي في شيعة العلويين بالخروج من ديار مصر إلى الصعيد واحتيط على سلالة العاضد بالقصر وجاء الافرنج على ذلك من صقلّيّة إلى الإسكندرية كما يأتي خبره إن شاء الله تعالى والله أعلم. وصول الإفرنج من صقلّيّة إلى الإسكندرية لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الإفرنج بصقلية تجهزوا وبعثوا مراكبهم مائتي أسطول للمقاتلة فيها خمسون ألف رجل وألفان وخمسمائة فارس وثلاثون مركبا للخيول وستة مراكب لآلة الحرب وأربعون للازواد وتقدّم عليهم ابن عمّ الملك صاحب صقلّيّة ووصلوا إلى ساحل الإسكندرية سنة سبعين وركب أهل البلد الأسوار وقاتلهم الإفرنج ونصبوا الآلات عليها وطار الخبر إلى صلاح الدين بمصر ووصلت الأمراء إلى الإسكندرية من كل جانب من نواحيها وخرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الإفرنج فظفروا عليهم ثم جاءهم البشير آخر النهار بمجيء صلاح الدين فاهتاجوا للحرب وخرجوا عند اختلاط الظلام فكبسوا الإفرنج في خيامهم بالسواحل وتبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا بين القتل والغرق ولم ينج إلا القليل واعتصم منهم نحو من ثلاثمائة برأس رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم وأسر الباقون وأقلعوا بأساطيلهم راجعين والله تعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 واقعة كنز الدولة بالصعيد كان أمير العرب بنواحي أسوان يلقب كنز الدولة وكان شيعة للعلوية بمصر وطالت أيامه واشتهر ولما ملك صلاح الدين قسم الصعيد اقطاعا بين أمرائه وكان أخو أبي الهيجاء السمين من أمرائه واقطاعه في نواحيهم فعصى كنز الدولة سنة سبعين واجتمع اليه العرب والسودان وهجم على أخي أبي الهيجاء السمين في اقطاعه فقتله وكان أبو الهيجاء من أكبر الأمراء فبعثه صلاح الدين لقتال الكنز وبعث معه جماعة من الأمراء والتف له الجند فساروا الى أسوان ومرّوا بصدد فحاصروا بها جماعة وظفروا بهم فاستلحموهم ثم ساروا الى الكنز فقاتلوه وهزموه وقتل واستلحم جميع أصحابه وأمنت بلاد أسوان والصعيد والله تعالى ولىّ التوفيق. استيلاء صلاح الدين على قواعد الشام بعد وفاة العادل نور الدين كان صلاح الدين كما قدّمناه قائما في مصر بطاعة العادل نور الدين محمود بن زنكي ولما توفي سنة تسع وستين ونصب ابنه الصالح إسماعيل في كفالة شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدّم وبعث اليه صلاح الدين بطاعته ونقم عليهم انهم لم يردوا الأمر اليه وسار غازي صاحب الموصل بن قطب الدين مودود بن زنكي الى بلاد نور الدين التي بالجزيرة وهي نصيبين والخابور وحران والرها والرقة فملكها ونقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى يدافعه عن بلادهم وكان الخادم سعد الدين كمستكين الّذي ولاه نور الدين قلعة الموصل وأمر سيف الدين غازي بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور الدين بحلب وأقام بها عند شمس الدين علي ابن الداية المستبدّ بها بعد نور الدين فبعثه ابن الداية الى دمشق في عسكر ليجيء بالملك الصالح الى حلب لمدافعة سيف الدين غازي فنكروه أوّلا وطردوه ثم رجعوا الى هذا الرأي وبعثوا عنه فسار مع الملك الصالح الى حلب ولحين دخوله قبض على ابن الداية وعلى مقدمي حلب واستبدّ بكفالة الصالح وخاف الأمراء بدمشق وبعثوا الى سيف الدين غازي ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه وامتنع عليهم وصالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق الى صلاح الدين وتولى كبر ذلك ابن المقدّم فبادر الى الشام وملك بصرى ثم سار الى دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين وخمسمائة ونزل دار أبيه المعروفة بالعفيفي وبعث القاضي كمال الدين ابن الشهرزوريّ الى ريحان الخادم بالقلعة انه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 على طاعة الملك الصالح وفي خدمته وما جاء الا لنصرته فسلم اليه القلعة وملكها واستخلف على دمشق أخاه سيف الإسلام طغركين وسار الى حمص وبها وال من قبل الأمير مسعود الزعفرانيّ وكانت من أعماله فقاتلها وملكها وجمر عسكرا لقتال قلعتها وسار الى حماة مظهرا لطاعة الملك لصالح وارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة وبعث بذلك الى صاحب قلعتها خرديك واستخلفه وسار الى الملك الصالح ليجمع الكلمة ويطلق أولاد الداية واستخلف على قلعة حماة أخاه ولما وصل الى حلب حبسه كمستكين الخادم ووصل الخبر الى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين وسار الى حلب فحاصرها ثالث جمادى الاخيرة واستمات أهلها في المدافعة عن الصالح وكان بحلب سمند صاحب طرابلس من الافرنج محبوسا منذ أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين فأطلقه كمستكين على مال وأسرى ببلده وتوفي نور الدين أوّل السنة وخلف ابنا مجذوما فكفله سمند واستولى على ملكهم فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين الى سمند يستنجده فسار الى حمص ونزلها فسار اليه صلاح الدين وترك حلب وسمع الافرنج بمسيره فرحلوا عن خمص ووصل هو اليها عاشر رجب فحاصر قلعتها وملكها آخر شعبان من السنة ثم سار الى بعلبكّ وبها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى استأمن اليه وملكها رابع رمضان من السنة وصار بيده من الشام دمشق وحماة وبعلبكّ ولما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح كتب الصالح الى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود وصاحب جيشه عز الدين زلقندار وسارت معهم عساكر حلب وساروا جميعا لمحاربة صلاح الدين وبعث صلاح الدين الى سيف الدين غازي أن يسلم لهم حمص وحماة ويبقى بدمشق نائبا عن الصالح فأبي الا رد جميعها فسار صلاح الدين الى العساكر ولقيهم آخر رمضان بنواحي حماة فهزمهم واتبعهم الى حلب وحاصرها وقطع خطبة الصالح ثم صالحوه على ما بيده من الشام فأجابهم ورحل عن حلب لعشرين من شوّال وعاد الى حماة وكان فخر الدين مسعود بن الزعفرانيّ من الأمراء النورية وكانت ماردين من أعماله مع حمص وحماة وسلمية وتل خالد والرها فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب الى حماة سار الى بعلبكّ واستأمن اليه واليها فملكها وعاد الى حماة فأقطعها خاله شهاب الدين محمود وأقطع حمص ناصر الدولة بن شيركوه وأقطع بعلبكّ شمس الدين ابن المقدّم ودمشق الى عماد والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وكرمه . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 واقعة صلاح الدين مع الملك الصالح وصاحب الموصل وما ملك من الشام بعد انهزامهما ثم سار سيف الدين غازي صاحب الموصل في سنة احدى وسبعين بعد انهزام أخيه وعساكره واستقدم صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى الى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام وسار الى حلب فخرجت اليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم وسار صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم واتبعهم الى حلب وعبر سيف الدين الفرات منهزما الى الموصل وترك أخاه عز الدين بحلب واستولى صلاح الدين على مخلفهم وسار الى مراغة فملكها وولىّ عليها ثم الى منبج وبها قطب الدين نيال بن حسان المنجبي وكان حنقا عليه لقبح آثاره في عداوته فلحق بالموصل وولاه غازي مدينة الرقة ثم سار صلاح الدين الى قلعة إعزاز فحاصرها أوائل ذي القعدة من السنة أربعين يوما وشدّ حصارها فاستأمنوا اليه فملكها ثاني الأضحى من السنة وثب عليه في بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه وكان مسلحا فأمسك يد الفداوي حتى قتل وقتل جماعة كانوا معه لذلك ورحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على قلعة إعزاز الى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واعصوصب عليه أهل البلد واستماتوا في المدافعة عنه ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما وبين صاحب الموصل وكيفا وصاحب ماردين فانعقد بينهم في محرم سنة اثنتين وتسعين وعاد صلاح الدين الى دمشق بعد أن رد قلعة إعزاز الى الملك الصالح بوسيلة أخته الصغيرة خرجت الى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة إعزاز فوهبها لها والله تعالى أعلم. مسير صلاح الدين الى بلاد الإسماعيلية ولما رحل صلاح الدين عن حلب وقد وقع من الإسماعيلية على حصن إعزاز ما وقع قصد بلادهم في محرم سنة اثنتين وتسعين ونهبها وخربها وحاصرها قلعة باميان ونصب عليها المجانيق وبعث سنان مقدّم الإسماعيلية بالشام الى شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم ويتوعده بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم وقدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه وإظهار دعوتهم فيه وولى على مدنه وامصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق وسار الى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد ولما وصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 اليها أمر بإدارة سور على مصر القاهرة والقلعة التي بالجبل دوره تسعة وعشرون ألف ذراع ثلاثمائة ذراع بالهاشميّ واتصل العمل فيه الى أن مات صلاح الدين وكان متولي النظر فيه مولاه قراقوش والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه. غزوات بين المسلمين والافرنج كان شمس الدين محمد ابن المقدم صاحب بعلبكّ وأغار جمع من الافرنج على البقاع من أعمال حلب فسار اليهم وأكمن لهم في الغياض حتى نال منهم وفتك فيهم وبعث الى صلاح الدين بمائتي أسير منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أنّ جمعا من الافرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار اليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه وأسر سيف الدين أبو بكر بن السلار من أعيان الجند بدمشق وتجاسر الافرنج على تلك الولاية ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الافرنج فبعثوا في الهدنة وأجابهم اليها وعقد لهم والله تعالى ولىّ التوفيق. هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الافرنج ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين الى ساحل الشام لغزو بلاد الافرنج وانتهى الى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا للافرنج خبرا فانساحوا في البلاد وانقلبوا الى الرملة فما راعهم الا الافرنج مقبلين في جموعهم وإبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه واشتدّ القتال وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة وكان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطرّ شاربه فابلى يومئذ واستشهد وتمت الهزيمة على المسلمين وكان بعض الافرنج تخلصوا الى صلاح الدين فقتل بين يديه وعاد منهزما واسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديدا وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل ثم دخل البرية في فلّ قليل الى مصر ولحقهم الجهد والعطش ودخل الى القاهرة منتصف جمادى الاخيرة قال ابن الأثير ورأيت كتابه الى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة ذكرتك والخطيّ يخطر بيننا ... وقد فتكت فينا المثقفة السمر ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرّة وما نجانا الله سبحانه منه الا لأمر يريده وما ثبتت الا وفي نفسها أمر انتهى وأما السرايا التي دخلت بلاد الافرنج فتقسمهم القتل والأسر وأما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 الفقيه عيسى الهكاري فلما ولىّ منهزما ومعه أخوه الظهير ضل عن الطريق ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا وفداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار والله تعالى أعلم. حصار الافرنج مدينة حماة ثم وصل في جمادى الاولى الى ساحل الشام زعيم من طواغيت الافرنج وقارن وصوله هزيمة صلاح الدين وعاد الى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر وهو مع ذلك منهمك في لذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة وبها شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين مريضا وشدّ حصارها وقتالها حتى أشرف على أخذها وهجموا يوما على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم ومنعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام وساروا الى حارم فحاصروها ولما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي ولم يزل الافرنج على حارم يحاصرونها وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمشتكين الخادم كافل دولته ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها ثم عاد الافرنج الى مدينة حماة في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا أعمالها وخرج العسكر حامية البلد اليهم فهزموهم واستردوا ما أخذوا من السواد وبعثوا بالرءوس والأسرى الى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلبا من الشام فأمر بقتل الأسرى والله تعالى ولي التوفيق. انتقاض ابن المقدم ببعلبكّ وفتحها كان صلاح الدين لما ملك بعلبكّ استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق وكان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئا في ظل أخيه وكفالته فكان يميل اليه وطلب منه أقطاع بعلبكّ فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى وذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم الى بعلبكّ وامتنع فيها ونازلته العساكر فامتنع وطاولوه حتى بعث الى صلاح الدين يطلب العوض فعوّضه عنها وسار أخوه شمس الدين اليها فملكها والله تعالى ولىّ التوفيق . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 وقائع مع الافرنج وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الافرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال دمشق واكتسحها وأثخن فيها قتلا وسبيا وأرسل صلاح الدين فرخ شاه ابن أخيه في العسكر لمدافعته فسار يطلبهم ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال ونصر الله المسلمين وقتل جماعة من زعماء الافرنج منهم هنغري وكان يضرب به المثل ثم أغار البرنس صاحب انطاكية واللاذقية على صرح المسلمين بشيرز وكان صلاح الدين على بانياس ل تخريب حصن الافرنج بمخاضة الإضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وناصر الدين محمد الى حمص لحماية البلد من العدو كما نذكره ان شاء الله تعالى. تخريب حصن الافرنج كان الافرنج قد اتخذوا حصنا منيعا بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام ويسمي مكانه مخاضة الإضرار فسار صلاح الدين من دمشق الى بانياس سنة خمس وسبعين وأقام بها وبعث فيها الغارات على بلادهم ثم سار الى الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه الى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد الافرنج للغارة وجاء ملك الافرنج للغارة على سريته ومعه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون فهزم الافرنج وأثخن فيهم ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم وكان رديف ملكهم وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية ومقدم الفداوية ومقدم الاساتارية وغيرهم من طواغيتهم وفادى صاحب الرملة نفسه وهو ارتيرزان بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير من المسلمين وأبلى في هذا اليوم عز الدين فرخ شاه ابن أخي صلاح الدين بلاء حسنا ثم عاد صلاح الدين الى بانياس وبث السرايا في بلاد الافرنج وسار لحصار الحصن فقاتله قتالا شديدا وتسنم المسلمون سوره حتى ملكوا برجا منه وكان مدد الافرنج بطبرية والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور وأضرموا فيه النار فسقط وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين وأسروا كل من فيه وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فالحق بالأرض وبلغ الخبر الى الإفرنج وهم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا وانهزم الإفرنج والله سبحانه وتعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 الفتنة بين صلاح الدين وقليج ارسلان صاحب الروم كان حصن رعبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج ارسلان صاحب بلاد الروم وهو بيد شمس الدين ابن المقدم فلما انقطع حصن رعبان عن ايالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج ارسلان في استرجاعه فبعث اليه عسكرا يحاصرونه وبعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم فلقيهم وهزمهم وعاد الى عمه صلاح الدين ولم يحضر معه تخريب حصن الإضرار وكان نور الدين محمود بن قليج ارسلان بن داود صاحب حصن كيفا وآمد وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم بسبب اضراره ببنته وزواجه عليها واعتزم قليج ارسلان على حربه وأخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين وبعث الى قليج ارسلان يشفع في شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة ولج في ذلك صلاح الدين على قليج وسار الى رعبان ومرّ بحلب فتركها ذات الشمال وسلك على تل باشر ولما انتهى الى رعبان جاءه نور الدين محمود وأقام عنده وأرسل اليه قليج ارسلان يصف فعل نور الدين واضراره ببنته فلما أدّى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين وتوعدهم بالمسير الى بلده فتركه الرسول حتى سكن وغدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو ونفقة الأموال في هذا الغرض الحقير وان بنت قليج ارسلان يجب على مثلك من الملوك الامتعاض لها ولا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله وقال للرسول إنّ نور الدين استند الى فعلك فأصلح الأمر بينهما وأنا معين على ما تحبونه جميعا ففعل الرسول ذلك وأصلح بينهما وعاد صلاح الدين الى الشام ونور الدين محمود الى ديار بكر وطلق ضرة بنت قليج ارسلان للأجل الّذي أجله للرسول والله تعالى أعلم. مسير صلاح الدين الى بلاد ابن اليون كان قليج بن اليون من ملوك الأرض صاحب الدروب المجاورة لحلب وكان نور الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشام وكان يعسكر معه وكان جريئا على صاحب القسطنطينية وملك وادقة والمصيصة وطرسوس من يد الروم وكانت بينهما من أجل ذلك حروب ولما توفي نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده وكان التركمان يحتاجون الى رعي مواشيهم. بأرضه على حصانتها وصعوبة مضايقها وكان يأذن لهم فيدخلونها وغدر بهم في بعض السنين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 واستباحهم واستاق مواشيهم وبلغ الخبر الى صلاح الدين منصرفه من رعيان فقصد بلده ونزل النهر الأسود وبث الغارات في بلادهم واكتسحها وكان لابن اليون حصن وفيه ذخيرته فخشي عليه فقصد تخريبه وسابقه اليه صلاح الدين فغنم ما فيه وبعث اليه ابن اليون بردّ ما أخذ من التركمان واطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه فأجابه الى ذلك وعاد عنه في منتصف سنة خمس وسبعين والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. غزوة صلاح الدين الى الكرك كان البرنس ارناط صاحب الكرك من مردة الافرنج وشياطينهم وهو الّذي اختط مدينة الكرك وقلعتها ولم تكن هنالك واعتزم على غزو المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وسمع عز الدين فرخ شاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار الى الكرك سنة سبع وسبعين واكتسح نواحيه وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله وعاد الى الكرك فعاد فرخ شاه الى دمشق والله تعالى أعلم بغيبه. مسير سيف الإسلام طغركين بن أيوب الى اليمن واليا عليها قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين وأنه ولىّ على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجيلي واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها كرسيا لملكه ثم عاد الى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفا من حصار حلب فولاه على دمشق وسار الى مصر ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الاسكندرية وأقطعه إياها مضافة الى أعمال اليمن وكانت الأموال تحمل اليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه صلاح الدين ولما بلغه خبر وفاته سار الى مصر واستخلف على دمشق عز الدين فرخ شاه ابن شاهنشاه وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبة بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع الى وطنه واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين وكان محشدا فسعى فيه عنده أنه احتجر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 أموال اليمن ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه وكان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في نعض الأيام صنيعا دعي اليه أعيان الدولة واختلف مواليه وخدامه الى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين انه هارب الى اليمن فتمت حيلتهم فقبض عليه ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعطى لأهل الدولة فأطلقه وأعاده الى منزلته فلما بلغ شمس الدين الى اليمن اختلف نوابه بها حطان بن منقذ وعثمان بن الزنجبيلي وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من أمرائه الى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه فساروا لذلك سنة سبع وسبعين واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ ثم مات قريبا فعاد حطان الى زبيد وأطاعه الناس وقوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان الى صلاح الدين أن يبعث بعض قرابته فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين فسار الى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد وبعث الى حطان بالأمان فنزل اليه وأولاه الإحسان ثم طلب اللحاق بالشام فمنعه ثم ألح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله وجاء ليودّعه قبض عليه واستولى على ما معه ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به ويقال كان فيما أخذه سبعون حملا من الذهب ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها ولم يخلص الا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف الإسلام والله تعالى أعلم. دخول قلعة البيرة في ايالة صلاح الدين وغزوة الافرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر وبيروت كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن ارتق وهو ابن عمّ قطب الدين أبي الغازي بن ارتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام ثم مات وملك البيرة بعده ابنه ومات نور الدين فصار الى طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره الى قلعة شميشاط وأقام بها وبعث العسكر الى البيرة وحاصروها وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين الى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 وشغل عنه بأمر الافرنج ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها الى صلاح الدين وأعطاه طاعته وعاد في ايالته ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرّم سنة ثمان وسبعين قاصدا الشام ومرّ بايلة وجمع الافرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك الى دمشق ومال على بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشويك وعاد الى دمشق منتصف صفر وكان الافرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخ شاه نائب دمشق اليها واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث الى صلاح الدين بفتحه فسرّ بذلك ثم أراح صلاح الدين بدمشق أياما وسار في ربيع الأوّل من السنة وقصد طبرية وخيم بالأردن واجتمعت الافرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخ شاه ابن أخيه الى بيسان فملكها عنوة واستباحها وأغار على الغور فأثخن فيها قتلا وسبيا وسار الافرنج من طبرية الى جبل كوكب وتقدّم صلاح الدين اليهم بعساكره فتحصنوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقيّ الدين عمر وعز الدين فرخ شاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الافرنج قتالا شديدا ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين الى دمشق ثم سار الى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الاسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أيام ثم بلغه أنّ البحر قد قذف بدمياط مركبا للافرنج فيه جماعة منهم جاءوا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت الى الجزيرة كما نذكره أن شاء الله تعالى. مسير صلاح الدين الى الجزيرة واستيلاؤه على حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الّذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستوليا في دولة مودود وبنيه وانتقل آخر الى اربل ومات بها وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين ويؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت موريا بحلب وقصد الفرات ولقيه مظفر الدين وساروا الى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين الى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته فلما عبر الفرات عادوا الى الموصل وبعثوا حامية الى الرها وكاتب صلاح الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها بالوعد والمغاربة ووعد نور الدين محمودا صاحب كيفا أنه يملكه آمد ووصل اليه فساروا الى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفرانيّ واشتدّ عليه القتال فاستأمن الى صلاح الدين وملكه المدينة وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الّذي بها على مال شرطه فأضافها صلاح الدين الى مظفر الدين مع حران وساروا الى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها الى الموصل وملكها صلاح الدين ثم سار الى قرقيسيا وماسكين وعربان وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها وسار الى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياما ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزما على قصد الموصل وجاءه الخبر أنّ الافرنج أغاروا على نواحي دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب جامع داريا فتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع صاحبها العساكر واستعدّ للحصار وخلى نائبة في الاستعداد وبعث الى سنجار واربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالامداد من الرجال والسلاح والأموال وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدّم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد صاحب البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فإنهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل عليه أوّل رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي وقاتلهم فلم يظفر وخرج بعض الرجال فنالوا منه ونصب منجنيقا فنصبوا عليه من البلد تسعة ثم خرجوا اليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لانه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم قد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح وتردّدت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين ردّ ما أخذه من بلادهم فأجاب على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع الى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضا ثم وصلت أيضا رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل وسار اليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخو عز الدين صاحب الموصل في عسكر وبعث اليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مددا وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الّذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 وعسكره معه الى الموصل وملك صلاح الدين سنجار وولّى عليها سعد الدين بن معين الدين الّذي كان أبوه كامل بن طغركين بدمشق وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة وسار صلاح الدين الى نصيبين فشكا اليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم واستصحبه معه وسار الى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم. مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل كان عز الدين قد أرسل الى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث اليه عدّة رسل شافعا في أمره فلم يشفعه وغالطه فبعث اليه مولاه آخرا سيف الدين بكتمر وهو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه الى ذلك وسوّفه رجاء أن يفتحها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه وفارقه مغاضبا ولم يقبل صلته وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط الى ماردين وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته وهو قطب الدين ابن نجم الدين وسار اليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقيّ الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة ورحل الى رأس عين فافترق القوم وعاد كل الى بلده وقصد صلاح الدين ماردين فأقام عليها عدة أيام ورجع والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه. واقعة الافرنج في بحر السويس كان البرنس ارناط صاحب الكرك قد أنشأ اسطولا مفصلا وحمل أجزاءه الى صاحب ايلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة وقذفه في السويس وشحنه بالمقاتلة وأقلعوا في البحر ففرقة أقاموا على حصن ايلة يحاصرونه وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار وطرق الناس منهم بلية لم يعرفوها لانه لم يعهد ببحر السويس افرنجيّ محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائبا عن أخيه صلاح الدين فعمر اسطولا وشحنه بالمقاتلة وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الاساطيل بديار مصر فبدأ بأسطول الافرنج الّذي يحاصر ايلة فمزقهم كل ممزّق وبعد الظفر بهم اقلع في طلب الآخرين وانتهى الى عيذاب فلم يجدهم فرجع الى رابغ وأدركهم بساحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 الحوراء وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والاغارة على الحاج فلما أطلّ عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسنموا اليها واعتصموا بشعابها ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم الى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين الى مصر والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء. وفاة فرخ شاه ثم توفي عز الدين فرخ شاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه وخرج من دمشق غازيا الافرنج وطرقه المرض وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات الى الجزيرة والموصل فأعاد شمس الدين محمد ابن المقدم الى دمشق وجعله نائبا فيها واستمرّ لشأنه والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده. استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب كيفا قد تقدّم لنا مسير صلاح الدين الى ماردين وإقامته عليها أياما [1] من نواحيها ثم ارتحل عنها الى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكابسهم وكتب اليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل اليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرّحلة فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل اليها ذخيرته فلم يلتفت الناس اليه وتعذر عليه أمره فبعث الى صلاح الدين يسأله الاعانة فأمر له بالدواب والرجال فنقل في الأيام الثلاثة كثيرا من موجودة ومنع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها النفسه فأبى وقال ما   [1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 493: قد ذكرنا نزول صلاح الدين بجوزم تحت ماردين، فلم ير لطمعه وجها، وسار عنها الى آمد عن طريق البارعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 كنت لاعطي الأصل وأبخل بالفرع ودخل نور الدين البلد ودعا صلاح الدين وأمراءه الى صنيع صنعه لهم وقدّم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم وعاد صلاح الدين والله تعالى أعلم. استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار الى أعمال حلب فحاصر تل خالد ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرّم سنة تسع وسبعين ثم سار الى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الّذي كان خازن نور الدين العادل وصاحبه وهو الّذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرّها بيده ويكون في طاعته فأجابه الى ذلك وحلف له وسار في خدمته وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار اسطول مصر فلقي في البحر مركبا فيها نحو ستمائة من الافرنج بالسلاح والأموال قاصدون الافرنج بالشام فظفروا بهم وغنموا ما معهم وعادوا الى مصر سالمين ومنها في البرّ أغابر الدارون جماعة من الافرنج ولحقهم المسلمون بايلة واتبعوهم الى العسيلة وعطش المسلمون فانزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا وقاتلوا الافرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم واستقاموا معهم وعادوا سالمين الى مصر والله أعلم. استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق له من الشام غيرها وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبة مجاهد الدين قايمان اليها فملكها ثم طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار فأجابه الى ذلك وأخذ عز الدين سنجار وعاد الى الموصل وسار عماد الدين الى حلب فملكها وعظم ذلك على صلاح الدين وخشي أن يسير منها الى دمشق وكان بمصر فسار الى الشام وسار منها الى الجزيرة وملك ما ملك منها وحاصر الموصل ثم حاصر آمد وملكها ثم سار الى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب ثم سار الى حلب وحاصرها في محرّم سنة تسع وسبعين ونزل الميدان الأخضر أياما ثم انتقل الى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 ويراوحها وطلب عماد الدين جنده في العطاء وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين وأرسل اليه في ذلك الأمر طومان الباروقي وكان يميل الى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور وينزل له عن حلب وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة الى هذه البلاد ودخل صلاح الدين حلب بعد ان شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد ولما خرج عماد الدين الى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد ولما ملك صلاح الدين حلب سار الى قلعة حارم وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل وكان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده وتردّدت الرسل بينهم وهو يمتنع وقد أرسل الى الافرنج يدعوهم للانجاد وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه واستأمنوا الى صلاح الدين فملك الحصن وولىّ عليه بعض خواصه وقطع تل خالد [1] الباروقي صاحب تل باشر وأمّا قلعة إعزاز فإنّ عماد الدين إسماعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار [2] وأقام بحلب الى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها وسار الى دمشق والله تعالى أعلم. غزوة بيسان ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولىّ عليها ابنه الظاهر غازي ومعه الأمير سيف الدين تاوكج كافلا له لصغره وهو أكبر الأمراء الاسدية وسار الى دمشق فتجهز للغزو وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وقصد بلاد الافرنج فعبر الأردن منتصف سبع وسبعين وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وحرقها وأغار على نواحيها واجتمع الافرنج له فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا الى جبل وخندقوا عليهم وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم وأغاروا على تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا الى بلادهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 495: واقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الباروقي وهو صاحب تل باشر. [2] واسمه في الكامل: سليمان بن جندر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 غزو الكرك وولاية العادل على حلب ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه الى ذلك وأمره أن يجيء بأهله وماله فوافاه على الكرك وحاصروه أياما وملكوا أرباضه ونصبوا عليها المجانيق ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أنّ الافرنج يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقيّ الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل منعه الى دمشق فولاه مدينة حلب ومدينة منبج وما اليها وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة واستدعى ولده الظاهر غازي من حلب الى دمشق ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد ان جمع العساكر واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعد لحصاره ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون وبقي الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعا وراموا طمه فنضحوهم بالسهام ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها الى الخندق وأرسل أهل الحصن الى ملكهم يستمدّونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الافرنج وأوعبوا وساروا اليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى الى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم الى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ ومرّوا الى الكرك وعلم صلاح الدين أنّ الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه وسار الى نابلس فخربها وحرقها وسار الى سنطية [1] وبها مشهد زكريا عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين ورحل الى جينين [2] فنهبها وخربها وسار الى دمشق بعد ان بث السرايا في كل ناحية ونهب كل ما مرّ به وامتلأت الايدي من الغنائم وعاد الى دمشق مظفرا والله تعالى أعلم. حصار صلاح الدين الموصل ثم سار صلاح الدين من دمشق الى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان وعبر الفرات وكان مظفر الدين كوكبري على كجك يستحثه للمسير الى الموصل في كل وقت وربما وعده   [1] وهي سبسطية [2] وهي جنين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 بخمسين ألف دينار إذا وصل فلما وصل الى حران لم يف له فقبض عليه ثم خشي معيرة [1] أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها وسار في ربيع الأوّل ولقيه نور الدين صاحب كيفا ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبة وساروا كلهم مع صلاح الدين الى الموصل وانتهوا الى مدينة بلد فلقيه هنالك أمّ عز الدين وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظنا بأنه لا يردهنّ وسيما بنت نور الدين واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردّهنّ وساروا الى الموصل وقاتلوها واستمات أهلها وامتعضوا لردّ النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في اشارتهم وجاء زين الدين يوسف صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فانزلهما بالجانب الشرقي وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري الى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية الى أن عاد صلاح الدين عن الموصل وبلغ عز الدين أنّ نائبة بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها وانحرف عنه الى الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها وانه يستعين بها على أموره ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل اليها وكان أهل خلاط انما كاتبوه مكرا لأنّ شمس الدين البهلوان ابن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم بعد ان كان زوّج ابنته من شاهرين على كبره وجعل ذلك ذريعة الى ملك خلاط فلما سار اليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين صاحب اربل وغيرهما وتقدّموا الى خلاط وتقدّم صاحب أذربيجان فنزل قريبا من خلاط وتردّدت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء صلاح الدين على ميافارقين ولما خطب أهل خلاط للبهلوان وصلاح الدين على ميافارقين وكانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي وملك ابنه طفلا صغيرا بعده وردّ أمرها الى شاهرين صاحب خلاط وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين وحاصرها من أوّل جمادى سنة احدى   [1] وهي تصحيف عن معرة: بمعنى الأذى، الغرم، الجنابة. ومعرة الجيش: ان ينزلوا بقوم فيأكلوا من زرعهم شيئا بغير علم «قاموس» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وثمانين وعلى أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأنّ برنيقش قد مال اليها في تسليم البلد ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوّج بناتك من أبنائي وتكون البلد لنا ووضع على برنيقش من أخبره بأنّ الخاتون مالت الى صلاح الدين وأنّ أهل خلاط كاتبوه وكان خبر أهل خلاط صحيحا فسقط في يده وبعث في التسليم على شروط اشترطها من اقطاع ومال وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد الى الموصل ومرّ بنصيبين وانتهى الى كفر أرمان واعتزم على أن يشتوا به ويقطع جميع ضياع الموصل ويحيى أعمالها ويكتسح غلاتها وجنح مجاهد الدين الى مصالحته وتردّدت الرسل في ذلك على أن يسلم اليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي وما وراء الزاب من الأعمال ثم طرقه المرض فعاد الى حران وأدركه الرسل بالإجابة الى ما طلب فانعقد هنالك وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران وكان عنده أخوه العادل وبيده حلب وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين واشتدّ به المرض فقسم البلاد بين أولاده وأوصى أخاه العادل على الجميع وعاد الى دمشق في محرّم سنة اثنتين وثمانين وكان عنده بحران ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله الى حمص ومرّ بحلب وصانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته أن حدث بصلاح الدين أمر وبلغ الى حمص فبعث الى أهل دمشق بمثل ذلك وأفاق صلاح الدين من مرضه ومات ناصر الدين ليلة الأضحى ويقال دسّ عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه وهو ابن اثنتي عشرة سنة والله تعالى أعلم. قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه اليها عند ما استدعى العادل منها كما مرّ فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحدا من ولده استقلالا وسعى اليه بذلك بعض بطانته فبعث ابنه عثمان العزيز الى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب ثم اقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر ثم بعث عن ابنه الأفضل وتقيّ الدين ابن أخيه فامتنع تقيّ الدين من الحضور واعتزم على المسير الى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه ولما وصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 اقطعه حماة ومنبج والمعرّة وكفر طاب وجبل جوز وسائر أعمالها وقيل ان تقيّ الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرّك في طلب الأمر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعا فيهم وأمره بإخراج تقيّ الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة وأمر تقيّ الدين بالخروج فأقام خارج البلد وتجهز للمغرب فراسله صلاح الدين الى آخر الخبر والله تعالى أعلم. اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره إياه والاغارة على عكا كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوّج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل اليها فأقام عندها ومات ملك الافرنج بالشام وكان مجذوما كما مرّ وأوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله هذا القمص وقام بتدبيره لملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة الى الملك ثم مات الصغير فانتقل الملك الى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدّث به نفسه ثم أنّ الملكة تزوّجت ابن غتم من الافرنج القادمين من المغرب وتوّجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاستبارية والدواوية واليارونة وأشهدتهم خروجها له عن الملك ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبيّ فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم وراسل صلاح الدين وسار الى ولايته وخلف له على مصره من أهل ملته وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الافرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة اثنتين وثمانين وكان البرنس ارناط صاحب الكرك من أعظم الافرنج مكرا وأشدّهم ضررا وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الآمّين ثم مرّت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصرّ على غدرته فنذر أنه يقتله ان ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة واربل ومصر والشام وخرج من دمشق في محرّم سنة ثلاث وثمانين وانتهى الى رأس الماء وبلغه أنّ البرنس ارناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل عليّ وسار الى بصرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل الحاج سالمين وسار صلاح الدين الى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشويك فاكتسحوهما والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الافرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين ثم بعث صلاح الدين الى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث الى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الباروقي وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاستبارية فبرزوا اليهم وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الافرنج وقتل مقدمهم وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين ومرّوا بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدّم بينه وبين صلاح الدين من الولاية وعظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم. هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا ولما انهزم الفداوية والإستبارية بصفورية ومرّ المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الّذي مع ابنه ومرّ بالكرك واعتزم على غزو بلاد الافرنج فاعترض عساكره وبلغه ان القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه وأنّ البطرك والقسس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته للمسلمين ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوية والإستبارية أعيان الملة وتهدّدوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر إليهم فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجدّدوا الحلف والاجتماع وساروا من عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم ثم رحل من الأقحوانة أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية وتقدّم إلى معسكر الإفرنج فلم يفارقوا خيامهم فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر فسار إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص وعمد إلى الصلح وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين إلى معسكره وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم واشتدّت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين ثم حمل القمص على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 ناحية تقيّ الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته واختلّ مصاف الإفرنج وتابعوا الحملات وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم نارا فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى فني أكثرهم ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم والمسلمون يكرّون عليهم مرّة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية والإستبارية ولم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرّع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصا على الوفاء بنذره بعد أن عرّفه بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين وأمّا القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفا ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها وجمع أسرى الفداوية والاستبارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين دينارا مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الوقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أحجفتها السيول ومزقتها السباع ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرّة جمادى سنة ثلاث وثمانين وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخولهم فكانت أوّل جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيرا مما عجز الإفرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين ثم أقام صلاح الدين أياما حتى أصلح أحوالها ورحل عنها والله تعالى أعلم. فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيسارية وحيفا وسطورية وبعليا وشقيف [1] وغيرها في نواحي عكا فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سبطية مدينة الأسباط وبها قبر زكريا عليه السلام ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرّهم على أموالهم وبعث تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها وحاصرها وضيق عليها حتى استأمنوا فأمنهم وملكها ومرّ إلى صيدا ومرّ في طريقه بصرخد فملكها بعد قتال وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الأولى من السنة ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أنّ المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقرّوا ولا قدروا على تسكين الهيعة لكثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها وكان صاحب جبيل أسير بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم والله تعالى أعلم. وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة [2] لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس وبقيت صيدا وصور بدون حامية وجاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوّة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها وأنّ صور وعسقلان باقية لإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسي ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور   [1] وفي الكامل 11 ص 540: في مدة مقام صلاح الدين بعكا تفرق عسكره إلى الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا. [2] كذا بياض بالأصل. وفي الكامل ج 11 ص 543 ولما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور فأقام بها، وهي أعظم بلاد الشام حصانة، وأشد امتناعا على من رامها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه فلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطا كثيرة من فلّ الحصون المفتتحة فجاءوا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الإنفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره واستحلفهم على ذلك ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورمّ الأسوار واستبدّ بها والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح عسقلان وما جاورها ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف همته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس ولأنّ عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر ونازلها أوائل جمادى الأخيرة واستدعى ملك الإفرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما وأمرهما بالاذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك وأساءوا الردّ عليهما فاشتدّ في قتالهم ونصب المجانيق عليهم يردّد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق ويأخذ بالثار من المسلمين فلم يجيبوه ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من الهراسة لما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه وملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوما من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم البطرون وكل ما كان للفداوية وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحي والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره. فتح القدس لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران [1] صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك ومن نجا من زعمائهم من حطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين وبعد لصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا المجانيق من داخله وتقدّم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج فأوقعوا   [1] وفي الكامل ورد اسمه باليان بن بيرزان. (ج 11 ص 546) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون بقتله وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوّأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون يتحوّل إليه ونصب المجانيق عليها واشتدّ القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران وأبوه صاحب لمعة جعبر فأسف المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم البلد وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين أبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أوّل الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة واستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالاستئمان واستعطفه فأصرّ على الامتناع فتهدّده بالاستماتة وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر وغيره فحينئذ استشار صلاح الدين صحبه فجنحوا الى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين للولد صبي أو صبية وعلى أجل أربعين يوما فمن تأخر أداؤه عنها فهو أسير وبذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل ملته ثلاثين ألف دينار وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوما مشهودا ورتب على أبواب القدس الأمناء لقبض هذا المال ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإنّ الإفرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أنّ بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفا وعجز منهم ستة عشر ألفا وأخرج جميع الأمراء خلقا لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة واستوهب آخرون جموعا منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها وكان محبوسا بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له وجاءته امرأة البرنس صاحب الكرك الّذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيرا فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب وتسلق جماعة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الأرض بالتكبير والعويل ولما خلا القدس من العدوّ أمر صلاح الدين بردّ مشاعره إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأوّل وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار فطهرا ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظة الإسلام اقشعرت لها الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالا ثم أقام صلاح الدين بالمسجد للصلوات الخمس إماما وخطيبا وأمر بعمل المنبر له فتحدّثوا عنده بأنّ نور الدين محمودا اتخذ له منبرا منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى ثم أمر بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الّذي فوق الصخرة لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتا ويبيعونها بالذهب وزنا بوزن فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه [1] ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القرّاء ووفر لهم الجرايات وتقدّم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكازمه رحمه الله تعالى وارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا والله تعالى أعلم. حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور وقد اجتمع فيها من الإفرنج عوالم وقد نزل بها المركيش وضبطها ولما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياما فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق وإصلاح الأسوار وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال وصارت كالجزيرة وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال وجعل القتال على أقيال عسكره نوبا بين ابنه الأفضل وابنه الظاهر وأخيه   [1] كذا بالأصل والعبارة مرتبكة، وفي الكامل ج 11 ص 552: وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة فغيّبوها فأمر بكشفها وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة. ويجعل في مذبحها. فخاف بعض ملوكهم أن تغني فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 العادل وابن أخيه تقيّ الدين ونصب عليها المجانيق والعرادات وكان الإفرنج يركبون في الشواني والحراقات ويأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر ويقاتلونهم ويمنعونهم من الدنوّ إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء ودافع الإفرنج وتمكن المسلمون من قتال الأسوار وحاصروها برّا وبحرا ثم كبس أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم وردّ صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج فلما أرهقوهم في الطلب ألقوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها وجد في حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها واستدعوا الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر وأقاموا في انتظارهم ولما رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فتردّدوا وتخاذلوا في القتال فرحل آخر شوّال إلى عكا وأذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى فصل الربيع وعادت عساكر الشرق والشام ومصر وأقام بقلعة عكا في خواصه وردّ أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين وكان صلاح الدين عند ما اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكرا لحصار صور فشدّدوا حصارها وقطعوا عنها الميرة وبعثوا إلى صلاح الدين وهو يحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها فملكها وكان أيضا صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكرا لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها وهي مطلة على الأردن وهي للإستبارية وجهز عسكرا لحصار صفد وهي للفداوية مطلة على طبرية ولجأ إلى هذين الحصنين من سلم من وقعة حطين وامتنعوا بهما فلما جهز العساكر إليهما صلحت الطريق وارتفع منها الفساد فلما كان آخر ليلة من شوّال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب وكانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الإفرنج ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم وبلغ ذلك صلاح الدين وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته ثم جهز عسكرا على صور مع الأمير قايماز النجمي وارتحل إلى عكا فلما انصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرّم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها وامتنعت عليه ولم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها وغير صفد والكرك فلما امتنعت عليه جهز العسكر لحصارها مع قايماز النجمي ورحل عنها في ربيع الأوّل إلى دمشق ووافته رسل أرسلان [1] وفرح الناس بقدومه والله تعالى وليّ التوفيق.   [1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 6: وأتاه رسل الملك قليج أرسلان ونزل ارسلان وغيرها يهنونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب الى دمشق ففرح الناس بقدومه وكتب الى البلاد جميعا باجتماع العساكر بها. وأقام بها الى أن سار الى الساحل بالبلاد الشامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 غزو صلاح الدين إلى سواحل الشام وما فتحه من حصونها وصلحه آخرا مع صاحب انطاكية لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشام وأعمال انطاكية وسار عن دمشق في ربيع سنة أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الأطراف فاجتمعوا إليه وسار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك ودخل متجردا إلى القلاع بنواحي انطاكية فنقص طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفي نفسه من ارتيادها وعاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند حصن الأكراد ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة وكان من يوم استيلاء الافرنج على جبلة عند صاحب انطاكية حاكما على جميع المسلمين فيها ومتوليا أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين وظهوره نزل إليه ليكشف الغماء ودله على عورة جبلة واللاذقية واستحثه لهما فسار أوّل جمادى ونزل بطرسوس وقد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين وأخلوا المدينة فخربوها واستباحوها وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدّمهم الّذي أسره صلاح الدين يوم المصاف وأطلقه عند فتح القدس واستأمن إليه أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين وألقى حجارته في البحر وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للإستبارية ولا يرام لعلوه وارتفاعه وامتناعه والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمرّ به الواحد فالواحد. فتح جبلة وكان وصل أسطول من صاحب صقلّيّة مددا للإفرنج في تلك السواحل في ستين قطعة فأرسوا بطرابلس فلما سمعوا بصلاح الدين أقلعوا إلى المغرب ووقفوا قبالتها ينضحون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك الطريق سورا من جهة البحر من المتارس ووقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر المضيق إلى جبلة ووصلها آخر جمادى وسبق إليها القاضي وملكها صلاح الدين لحينه ورفع أعلام الإسلام على سورها ونفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم القاضي على الأمان واستمرّ منهم جماعة في رهن القاضي والمسلمين عند صاحب أنطاكية حتى أطلقهم وجاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين وهو بجبل ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 بين جبلة وحماة وكان الطريق عليه بينهما صعبا ففتحه صلاح الدين من ذلك الوقت واستناب بجبلة سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيرز وسار عنها للاذقية والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم. فتح اللاذقية ولما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقية فوصلها آخر جمادى الاولى وامتنع حاميتها بحصنين لها في أعلى الجبل وملك المسلمون المدينة وحصروا الإفرنج في القلعتين وحفروا تحت الأسوار وأيقن الإفرنج بالهلكة ودخل إليهم قاضي جبلة ثالث نزولها فاستأمنوا معه وأمنهم صلاح الدين ورفعوا أعلام الإسلام في الحصنين وخرب المسلمون المدينة وكانت مبانيها في غاية الوثاقة والضخامة وأقطعها لتقي الدين ابن أخيه فأعادها إلى أحسن ما كانت من العمارة والتحصين وكان عظيم الهمة في ذلك وكان أسطول صقلّيّة في مرسى اللاذقية وسخطوا ما فعله أهلها ومنعوهم من الخروج منها وجاء مقدّمهم إلى صلاح الدين فرغب منه إقامتهم على الجزية وعرّض في كلامه بالتهديد بامداد الإفرنج من وراء البحر فأجابه صلاح الدين باستهانة أمر الإفرنج وهدّده فانصرف إلى أصحابه ورحل صلاح الدين إلى صهيون والله تعالى أعلم. فتح صهيون ولما فرغ صلاح الدين من فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون وهي على جبل صعبة المرتقى بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق ويتصل بالجبل من جهة الشمال وعليها خمسة أسوار وخندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل لضيقها وقدّم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي ونصب المنجنيقات هنالك فرمى بها على الحصن ونضحهم بالسهام من سائر أصناف القسيّ وصابروا قليلا ثم زحف المسلمون ثاني جمادى الأخرى وسلكوا بين الصخور حتى ملكوا أحد أسوارها وقاتلوهم منه فملكوا عليهم سورين آخرين وغنموا جميع ما كان في البلد من الدواب والبقر والذخائر ولجأ الحامية إلى القلعة وقاتلهم المسلمون عليها فنادوا بالأمان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس وملك المسلمون الحصن وولي عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه وافترق المسلمون في تلك النواحي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 فوجدوا الإفرنج قد فروا من حصونها فملكوها جميعا وهيئوا اليها طريقا على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالإفرنج والإسماعيلية والله تعالى أعلم. فتح بكاس والشغر ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس وقد فارقها الإفرنج وتحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس وحاصر قلعة الشغر والطريق منها مسلوك إلى اللاذقية وجبلة وصهيون فقاتلهم ونصب المنجنيقات عليها فقصرت حجارتها عن الوصول وكانوا تمنعوا وبعثوا خلال ذلك إلى صاحب انطاكية وكان الحصن من إيالته فاستمدّوه وإلا أعطوا الحصن بما قذف الله في قلوبهم من الرعب فلما قعد عن نصرهم فاستأمنوا إلى صلاح الدين وسألوه إنظار ثلاث للفتح فأنظرهم وأخذ رهنهم ثم سلموه بعد الثلاث في منتصف جمادى من السنة والله تعالى أعلم. فتح سرمينية كان صلاح الدين عند اشتغاله بفتح هذه الحصون بعث ابنه الظاهر غازيا صاحب حلب إلى سرمينية وحاصرها واستنزل الإفرنج الذين بها على قطيعة أعطوها وهدم الحصن وكان فتحه آخر جمادى الأخيرة فانطلق جماعة من الأسارى كانوا بهذا الحصن وكانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر وجميعها من أعمال انطاكية والله تعالى أعلم. فتح برزية ولما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية قبالة افامية وتقاسمها في أعمالها وبينهما بحيرة من ماء العاصي والعيون التي تجري وكانوا أشدّ شيء في الأذى للمسلمين فنازلها في الرابع والعشرين من جمادى الأخيرة وهي متعذرة المصعد من الشمال والجنوب وصعبته من الشرق وبجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين ونصب المجانيق فلم تصل حجارتها لبعد القلعة وعلوّها فرجع إلى المزاحفة وقسم عساكره على أمرائها وجعل القتال بينهم نوبا فقاتلهم أوّلا عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار وأصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين وبلغوا مواقع سهامهم وحجارتهم من الحصن وكانوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها شيء فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا وصعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالا شديدا وصلاح الدين وتقي الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا وهموا بالرجوع فصاح فيهم صلاح الدين وفي أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم وجاء أهل نوبة عماد الدين على أثرهم وحمي الوطيس وردّوا الإفرنج على أعقابهم إلى حصنهم فدخلوا ودخل المسلمون معهم وكان بقية المسلمين في الخيام شرقي الحصن وقد أهمله الإفرنج فعمد أهل الخيام من تلك الناحية واجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الإفرنج عند الحصن فملكوه عنوة وجاء الإفرنج إلى قبة الحصن ومعهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود فلما سمعوا تكبير إخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الإفرنج وظنوا أن المسلمين خالطوهم فألقوا باليد وأسرهم المسلمون واستباحوهم وأحرقوا البلد وأسروا صاحبها وأهله وولده وافترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب انطاكية بعثهم إليها لأن زوجة صاحب أنطاكية كانت تراسل صلاح الدين بالأخبار وتهاديه فرعي لها ذلك والله تعالى ولي التوفيق. فتح دربساك ولما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على نهر العاصي قرب انطاكية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر ثم سار إلى قلعة دربساك ونزل عليها في رجب من السنة وهي معاقل الفداوية التي يلجئون إلى الاعتصام بها ونصب عليها المجانيق حتى هدم من سورها ثم هجمها بالمزاحفة وكشف المقاتلة عن سورها ونقبوا منها برجا من أسفله فسقط ثم باكروا الزحف من الغد وصابرهم الإفرنج ينتظرون المدد من صاحبهم سمند صاحب انطاكية فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في أنفسهم فقط وخرجوا إلى انطاكية وملك الحصن في عشرين من رجب من السنة والله تعالى أعلم. فتح بغراس ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعدّدها وقربها من انطاكية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه وبين انطاكية فحاصرها ونصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلوّها وشق عليهم حمل الماء إلى أعلى الجبل وبينما هم في ذلك إذ جاء رسولهم يستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط كما أمن أهل دربساك وتسلم القلعة بما فيها وخربها فجددها ابن اليون صاحب الأرمن وحصنها وصارت في إيالته والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 صلح انطاكية ولما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب انطاكية وأرسل إلى صلاح الدين في الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده وتحامل عليه أصحابه في ذلك ليريح الناس ويستعدّوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم عقد الهدنة وبعث إليه من استخلفه وأطلق الأسرى وكان سمند في هذا الوقت عظيم الإفرنج متسع المملكة وطرابلس وأعمالها قد صارت إليه بعد القمص واستخلف فيها ابنه الأكبر وعاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان من السنة وانطلق ملوك الأطراف بالجزيرة وغيرها إلى بلادهم ثم رحل إلى دمشق وكان معه أبو فليتة قاسم بن مهنا أمير المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم قد عسكر معه وشهد فتوجه وكان يتيمن بصحبته ويتبرك برؤيته ويجتهد في تأنيسه وتكرمته ويرجع إلى مشورته ودخل دمشق أوّل رمضان من السنة وأشير عليه بتفريق العساكر فأبى وقال هذه الحصون كوكب وصفد والكرك في وسط بلاد الإسلام فلا بدّ من البدار إلى فتحها والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح الكرك كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى دربساك وبغراس وأبعد في تلك الناحية فشدّ العادل حصارها حتى جهدوا وفنيت أقواتهم فراسلوه في الأمان فأجابهم وسلموا المعلقة فملكها وملك الحصون التي حواليها وأعظمها الشويك وأمنت تلك الناحية واتصلت إيالة المسلمين من مصر إلى القدس والله تعالى أعلم. فتح صفد لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان ثم تجهز لحصار صفد فنزل عليها ونصب المجانيق وكانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الأوّل فخافوا من نفادها فاستأمنوا فأمنهم وملكها ولحقوا بمدينة صور والله تعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 فتح كوكب لما كان صلاح الدين على صفد خافه الإفرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه نجدة وكان قايماز النجمي يحاصره فشعر بتلك النجدة وركب إليهم وهم مختفون ببعض الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد وكان فيهم مقدّمان من الإستبارية فحملهما إلى صلاح الدين على صفد فأحضرهما للقتل على عادته في الفداوية والإستبارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما وحبسهما ولما فتح صفد سار إلى كوكب وحاصره وأرسل إليهم بالأمان فاصرّوا على الامتناع عليه فنصب عليهم المجانيق وتابع المزاحفة ثم عافه المطر عن القتال وطال مقامه فلما انقضى المطر عاود المزاحفة وضايقهم بالسور ونقب منه برجا فسقط فارتاعوا واستأمنوا وملك الحصن منتصف ذي القعدة من السنة ولحق الإفرنج بصور واجتمع الزعماء وتابعوا الرسل إلى إخوانهم وراء البحر في حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد واتصل المسلمون في الساحل من أيلة إلى بيروت لا يفصل بينهم إلا مدينة صور ولما فرغ صلاح الدين من صفد وكوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الأضحى ثم سار إلى عكا فأقام بها إلى انسلاخ الشتاء والله تعالى أعلم. فتح الشقيف ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس وثمانين إلى محاصره الشقيف وكان لأرناط صاحب صيدا وهو من أعظم الناس مكرا ودهاء فلما نزل صلاح الدين بمرج العيون جاء إليه وأظهر له المحبة والميل وطلب المهلة إلى جمادى الأخيرة ليتخلص أهله وولده من المركيش بصور ويسلم له حصن الشقيف فأقام صلاح الدين هنالك لوعده وانقضت مدّة الهدنة بينه وبين سمند صاحب أنطاكية فبعث تقي الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التي قرب انطاكية ثم بلغه اجتماع الإفرنج بصور عند المركيش وان الإمداد وأفتهم من أهل ملتهم وراء البحر وان ملك الإفرنج بالشام الّذي أطلقه صلاح الدين بعد فتح القدس قد اتفق مع المركيش ووصل يده به واجتمعوا في أمم لا تحصى وخشي أن يتقدّم إليهم ويترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة فأقام بمكانه فلما انقضى الأجل تقدّم إلى الشقيف واستدعى أرناط فجاء واعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله وولده وطلب الإمهال مرّة أخرى فتبين صلاح الدين مكره فحبسه وأمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 بها وتقدّم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام مسلحة قبالة الإفرنج الذين بظاهر صور فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة وقاتلوهم فغلبوهم وأسروا سبعة من فرسانهم وقتلوا آخرين وقتل مولى لصلاح الدين من أشجع الناس وردّوهم على أعقابهم إلى معسكرهم بظاهر صور وجاء صلاح الدين بعد انقضاء الوقعة فأقام في المسلحة رجاء أن يصادف أحدا من الإفرنج فينتقم منهم وركب في بعض الأيام ليشارف معسكر الإفرنج فظن عسكره أنه يريد القتال فنجعوا وأوغلوا إلى العدوّ وبعث صلاح الدين الأمراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا ورآهم الإفرنج فظنوا أنّ وراءهم كمينا فأرسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين فحملوا عليهم وأناموهم جميعا وذلك تاسع جمادى الاولى من السنة ثم انحدر إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر وغرق منهم في البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل وعزم السلطان على حصارهم واجتمع إليه الناس ثم عاد الإفرنج إلى صور وعاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا ويرجع إلى مخيمه ولما وصل إلى المعسكر جاء الخبر بأن الإفرنج يتعدّون عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا ووعدهم ثامن جمادى الأخيرة يوافونه من ناحيتهم للإغارة عليهم وأكمن لهم في الأودية والشعاب من سائر النواحي واختار جماعة من فرسان عسكره وتقدّم إليهم بأن يتعرّضوا للإفرنج ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا وناشبوا الإفرنج وأنفوا من الاستطراد وطال على الكمناء الانتظار فخرجوا خشية على أصحابهم فوافوهم في شدّة الحرب فانهزم المسلمون ووقع التمحيص وكان أربعة في الكمين من أمراء طيِّئ فعدلوا عن طريق أصحابهم وسلكوا الوادي وتبعهم بعض العسكر من موالي صلاح الدين ورآهم الإفرنج في الوادي فعلموا أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم وقتلوهم والله تعالى أعلم. محاصرة الإفرنج أهل صور لعكا والحروب عليها كانت صور كما قدّمنا ضبطها المركيش من الإفرنج الواصل من وراء البحر وقام بها وكان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصنا على الأمان لحق أهلها بصور فاجتمع بها عدد عظيم من الإفرنج وأموال جمة ولما فتح القدس لبس كثير من رهبانهم وقسيسيهم وزعمائهم السواد حزنا على البيت المقدّس وارتحل بطرك من القدس وهم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء البحر للأخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد حتى النساء اللواتي يجدن القوّة على الحرب ومن لم يستطع الخروج استأجر مكانه وبذلوا الأموال لهم وجاء الإفرنج من كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 مكان ونزلوا بصور ومدد الرجال والأقوات والأسلحة متداركة لهم في كل وقت واتفقوا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس وثمانين وسلكوا على طريق الساحل وأساطيلهم تحاذيهم في البحر ومسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى عكا منتصف رجب وكان رأي صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم فخالفه أصحابه واعتذروا بضيق الطريق ووعره فسلك طريقا آخر ووافاهم على عكا وقد نزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين إليها طريق ونزل صلاح الدين قبالتهم وبعث إلى الأطراف يستنفر الناس فجاءت عساكر الموصل وديار بكر وسنجار وسائر بلاد الجزيرة وجاء تقي الدين ابن أخيه من حماة ومظفر الدين كوكبري من حران والرها وكان أمداد المسلمين تصل في البرّ وإمداد الإفرنج في البحر وهم محصورون في صور محاصرين وكانت بينهم أيام مذكورة ووقائع مشهورة واقام السلطان بقية رجب لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوما بكاملة وبات الناس على تعبية ثم صبحهم بالقتال ونزل الصبر وحمل عليهم تقي الدين ابن أخيه منتصف النهار من الميمنة حملة أزالتهم عن مواقفهم وملك مكانهم واتصل بالبلد فدخلها المسلمون وشحنها صلاح الدين بالمدد من كل شيء وبعث إليهم الأمير حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر أمرائه من الأكراد الخطية من أربل ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الإفرنج قد أداروا عليهم خندقا يمتنعون به ومنعوهم القتال يومهم وأقاموا كذلك ومع السلطان أحياء من العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الإفرنج على الساحل للخطف منهم وكبسوهم منتصف شعبان وقتلوهم وجاءوا برءوسهم إلى صلاح الدين فأحسن إليهم والله تعالى أعلم. الواقعة على عكا كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر وبلغ الخبر الإفرنج فأرادوا معاجلته قبل وصولهم وكانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل انطاكية وسمند من أعمال حلب ومسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس ومسلحة تقابل صور ومسلحة بدمياط والإسكندرية واعتزم الإفرنج على مهاجمتهم بالقتال ولم يشعروا بهم وصحبوهم لعشرين من شعبان وركب صلاح الدين وعبأ عساكره وقصدوا الميمنة وعليها تقي الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشيء وأمده صلاح الدين بالرجال من عنده فحطوا على صلاح الدين في القلب فتضعضع واستشهد جماعة منهم الأمير علي بن مردان والظهير أخو الفقيه عيسى والي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 القدس والحاجب خليل الهكاري وغيرهم وقصدوا خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه ونهبوا واستشهد جمال الدين بن رواحة من العلماء ووضعوا السيف في المسلمين وانهزم الذين كانوا حوالي الخيمة ولم تسقط وانقطع الذين ولوها من الإفرنج عن أصحابهم وراءهم وحملت ميسرة المسلمين عليهم فاحجمتهم وراء الخنادق وعادوا إلى خيمة صلاح الدين فقتلوا كل من وجدوا عندها من الإفرنج وصلاح الدين قد عاد من إتباع أصحابه يردّهم للقتال وقد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد وأسروا مقدّم الفداوية فأمر بقتله وكان أطلقه مرة أخرى وبلغت عدّة القتلى عشرة آلاف فألقوا في النهر واما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية ومنهم من جاوز الأردنّ ورجع ومنهم من بلغ دمشق واتصل قتال المسلمين للإفرنج وكادوا يلجون عليهم معسكرهم ثم جاءهم الصريخ بنهب أموالهم وكان المنهزمون قد حملوا أثقالهم فامتدت إليها أيدي الأوباش ونهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الإفرنج وأقاموا في ذلك يوما وليلة يستردون النهب من أيدي المسلمين ونفس بذلك عن الإفرنج بعض الشيء والله تعالى أعلم. رحيل صلاح الدين عن الإفرنج بعكا ولما انقضت هذه الواقعة وامتلأت الأرض من جيف الإفرنج تغير الهواء وأنتن وحدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالانتقال عسى الإفرنج ينتقلون وان أقاموا عدنا إليهم وحمله الأطباء على ذلك فرحل رابع رمضان من السنة وتقدّم إلى أهل عكا بحياطتها وأعلمهم سبب رحيله فلما ارتحل اشتدّ الإفرنج في حصار عكا وأحاطوا بها دائرة مع اسطولهم في البحر وحفروا خندقا على معسكرهم وأداروا عليهم سورا من ترابه حصنا من صلاح الدين أن يعود إليهم ومسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا يقاتلونهم وبلغ ذلك صلاح الدين وأشار أصحابه بإرسال العساكر ليمنع من التحصين فامتنع من ذلك لمرضه فتمّ للإفرنج ما أرادوه وأهل عكا يخرجون إليهم في كل يوم ويقاتلونهم والله تعالى أعلم. معاودة صلاح الدين حصار الإفرنج على عكا ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شوّال في عساكر مصر ومعه الجم الغفير من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 المقاتلة والأصناف الكثيرة من آلات الحصار ووصل على أثره أسطول مصر مع الأمير لؤلؤ وكبس مركبا فغنم ما فيه ودخل به إلى عكا وبريء صلاح الدين من مرضه وأقام بمكانه بالجزيرة إلى انسلاخ الشتاء وسمع الإفرنج أن صلاح الدين سار إليهم واستقلوا مسلحة المسلمين عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست وثمانين واستمات المسلمون وقتل بين الفريقين خلق وبلغ الخبر بذلك صلاح الدين وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحماة فتقدّم من الجزيرة إلى تل كيسان وتابع القتال على الإفرنج يشغلهم عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين وكان الإفرنج مدّة مقامهم على عكا قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب ارتفاع كل برج ستون ذراعا وفيه خمس طبقات وغشوها بالجلود وطلوها بالأدوية التي لا تعلق النار بها وشحنوها بالمقاتلة ودنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الأوّل سنة ست وثمانين وأشرفوا بها على السور فكشف من عليه المقاتلة وشرع الإفرنج في طم الخندق وبعث أهل عكا سابحا في البحر يصف لهم حالهم فركب في عساكره واشتد في قتال الإفرنج فخف على أهل البلد ما كانوا فيه وأقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين وعجزوا عن دفع الأبراج ورموها بالنفط فلم يؤثر فيها وكان عندهم رجل من أهل دمشق يعاني أحوال النفط فأخذ عقاقير وصنعها وحضر عند قراقوش حاكم البلد وأعطاه دواء وقال أرم بهذا في المنجنيق المقابل لإحدى الأبراج فيحترق فحرد عليه ثم وافق ورمى به في قدر ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوءة نارا فاضطرمت النار واحترق البرج بمن فيه ثم فعل بالثاني والثالث كذلك وفرح أهل البلد وتخلصوا من تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالإحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل وقال إنما فعلته للَّه ولا أريد الجزاء الا منه ثم بعث صلاح الدين الى ملوك الأطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء الدين بن طالب صاحب الموصل ثم عز الدين مسعود بن مودود وبعثه أبوه بالعساكر ثم زين الدين صاحب أربل وكان كلّ واحد منهم إذا وصل يتقدّم بعسكر فيقاتلون الإفرنج ثم يضربون أبنيتهم وجاء الخبر بوصول الأسطول من مصر فجهز الإفرنج أسطولا لقتاله وشغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن الأسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه وقاتلوا الفريقين برا وبحرا ودخل الأسطول إلى مرسى عكا سالما والله تعالى أعلم يغيبه. وصول ملك الألمان إلى الشام ومهلكه هؤلاء الألمان شعب من شعوب الإفرنج كثير العدد موصوف بالبأس والشدّة وهم موطنون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 بجزيرة إنكلطيرة [1] في الجهة الشمالية الغربية من البحر المحيط وهم حديثو عهد بالنصرانية ولما سار القسس والرهبان بخبر بيت المقدس واستنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه وفسح النصارى له الطريق وقصد القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد أن كان يعد بذلك نفسه وكتب بها إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضاقت عليهم الأقوات وعبروا خليج القسطنطينية ومرّوا بمملكة قليج أرسلان وتبعهم التركمان يحفون بهم ويتخطفون منهم وكان الفصل شتاء والبلاد باردة فهلك أكثرهم من البرد والجوع ومرّوا بقونية وبها قطب الدين ملك شاه بن قليج أرسلان قد غلب عليه أولاده وافترقوا في النواحي فخرج ليصدّهم فلم يطق ذلك ورجع فساروا في أثره إلى قونية وبعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فأذن لهم واسترهنوا عشرين من أمرائه وتكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك الأمراء وحبسوهم وساروا إلى بلاد الأرمن وصاحبها كاقولي بن حطفاي بن اليون [2] فأمدهم بالأزواد والعلوفات وأظهر طاعتهم وسار إلى أنطاكية ودخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق وملك بعده ابنه ولما بلغوا انطاكية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه وبعضهم مال إلى العود فعادوا كلهم وسار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفا وأصابهم الموتان وحسن إليهم صاحب انطاكية المسير إلى الإفرنج على عكا فساروا على جبلة واللاذقية ومرّوا بحلب وتخطف أهلها منهم خلقا وبلغوا طرابلس وقد أفناهم الموتان ولم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا البحر إلى عكا ثم رأوا ما هم فيه من الوهن والخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم وغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد وكان الملك قليج ارسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز عنهم وافتراق أولاده واستبدادهم عليه وأمّا صلاح الدين فإنه استشار أصحابه عند وصول خبرهم فأشار بعضهم إلى لقائهم في طريقهم ومحاربتهم وأشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الإفرنج عكا ومال صلاح الدين إلى هذا الرأي وبعث العساكر من جبلة واللاذقية وشيزر إلى حلب ليحفظوها من عاديتهم والله تعالى وليّ التوفيق. واقعة المسلمين مع الإفرنج على عكا ثم زحف الإفرنج على عكا في عشر من جمادى الأخيرة من سنة ست وثمانين وخرجوا من   [1] هي انكلترا. [2] وفي الكامل ج 12 ص 490: وصاحبها لافون بن إصطفانة بن ليون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين وقصد العادل أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كشفهم الإفرنج عن الخيام وملكوها ثم كرّ عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم وخالفهم بعض عساكر مصر إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف وقتل منهم ما يزيد على عشرين ألفا وكانت عساكر الموصل قريبا من عسكر مصر ومقدّمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فعدمت ميرتهم وأمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال وبلغه الخبر بموت الألمان وما أصاب قومه من الشتاب فسر المسلمون بذلك وظنوا وهن الإفرنج به ثم بعد يومين لحقت بالإفرنج إمداد في البحر مع كند من الكنود يقال له الكندهري ابن أخي الاقرسيس [1] لأبيه وابن أخي ملك انكلطيرة لأمّه ففرّق في الإفرنج أموالا وجند لهم أجنادا ووعدهم بوصول الإمداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الأخيرة لضيق المجال ونتن المكان من جيف القتلى ثم نصب الكندهري على عكا مجانيق وذبابات فأخذها أهل عكا وقتلوا عندها جموعا من الإفرنج فلم يتمكن من ذلك ولا من الستائر عليها لأنّ أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلا عاليا من التراب ونصب المجانيق من ورائه وضاقت الأحوال وقلت الميرة وأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية ببعث الأقوات في المراكب إلى عكا وبعث إلى بيروت بمثل ذلك فبعثوا مركبا ونصبوا فيها الصلبان يوهمون أنه للإفرنج حتى دخلوا إلى المرسي وجاءت بعد الميرة من الإسكندرية ثم جاءت ملكة من الإفرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمها فأخذت ببحر الإسكندرية هي وجميع ما معها ثم كتب البابا كبير الملّة النصرانية من كنيسة برومة يأمرهم بالصبر والجهاد ويخبرهم بوصول الإمداد وأنه راسل ملوك الإفرنج يحثهم على إمدادهم فأزدادوا بذلك قوة واعتزموا على مناجزة المسلمين وجمروا عسكرا لحصار عكا وارتحلوا حادي عشر شوّال من السنة فنقل صلاح الدين أثقال العسكر إلى [2] على ثلاثة فراسخ من عكا ولقي الإفرنج على التعبية وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر خضر في القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة بعساكر مصر ومن انضمّ إليهم وعماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه   [1] وفي الكامل ج 12 ص 52: أتت الفرنج إمداد في البحر مع كند من الكنود البحرية يقال له الكندهري ابن أخي ملك افرنسيس لأبيه وابن أخي ملك انكلتار لأمه. [2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 52: فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ من عكا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 صاحب جزيرة ابن عمر في المسيرة وصلاح الدين في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه فلما وصل الإفرنج وعاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم وباتوا ليلتهم وعادوا من الغد إلى معسكرهم فاتبعوهم أهل المقدمة وتخطفوهم من كلّ ناحية وأحجروهم وراء خنادقهم ثم ناوشوهم القتال في الثالث والعشرين من شوّال بعد أن أكمنوا لهم عسكرا فخرج لهم الإفرنج في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد واشتدّ الغلاء على الإفرنج وبلغت الغرارة مائة دينار صوري مع ما كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاحبها أسامة ومن صيدا على يد نائبها سيف الدين علي ابن أحمد المشطوب ومن عسقلان وغيرها ثم اشتدّ الحال عليهم عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء ثم هجم الشتاء وأرسى الإفرنج مراكبهم بصور خوفا عليها على عادتهم في صور في فصل الشتاء ووجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون ما نزل بهم وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين فشكى من ضجره بطول المقام والحرب فأمر صلاح الدين بإنفاذ نائب وعسكر إليها بدلا منهم وأمر أخاه العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل حيفا وجمع المراكب والشواني وبعث العساكر إليها شيئا فشيئا كلما دخلت طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميرا بدلا من ستين كانوا وأهملوا أهل الرجل وتعينت دواوين صاحب صلاح الدين وكانوا نصارى على الجند في إثباتهم وإطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا وضعفت وعادت مراكب الإفرنج بعد انحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا وعنها وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسلان مقدّم الأسدية وابن جاولي وغيرهم وكان دخولهم عكا أوّل سنة سبع وثمانين والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة زين الدين صاحب إربل وولاية أخيه كوكبري كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين وكانت له إربل كما مرّ لأبيه وحران والرها لأخيه مظفر الدين كوكبري وكان يعسكر مع صلاح الدين في غزواته وحضر عنده على عكا فأصابه المرض وتوفي في ثامن عشر رمضان سنة أربع وثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبري على بلد أمير من أمرائه وبعث إلى صلاح الدين يطلب إربل وينزل عن حران والرها فأجابه وأقطعه إياهما وأضاف إليهما شهرزور وأعمالها ودار بند العرابلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 وهي قفجاق وكاتب أهل إربل مجاهد الدين صاحب الموصل خوفا من صلاح الدين مع أنّ مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه كما مرّ ثم أطلقه وولاه نائبة وجعل بعض غلمانه عينا عليه فكان يناقضه في كثير من الأحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في إربل فامتنع منها وولاها مظفر الدين واستفحل أمره فيها ولما نزل مظفر الدين عن حران والرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مضافة إلى ميافارقين بديار بكر وحماة وأعمالها بالشام وتقدّم له أن يقطع أعمالها للجند فيتقوّى بهم على الإفرنج فسار تقيّ الدين إليها وقرّر أمورها ثم انتهى إلى ميافارقين وتجدّد له طمع فيما يحاورها من البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر وسار إليه سيف الدين بكتمر صاحب خلاط في عساكره وقاتله فهزمه تقيّ الدين ووطئ بلاده وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين وحبسه في قلعة هنالك فلما انهزم كتب إلى والي القلعة بقتله فوافاه الكتاب وتقيّ الدين محاصر له فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق وسار إلى خلاط وحاصرها فامتنعت عليه فعاد عنها إلى ملازكرد فضيق عليها حتى استأمنوا له وضرب لهم أجلا في تسليم البلد ثم مرض ومات قبل ذلك الأجل بيومين وحمله ابنه إلى ميافارقين فدفنه بها واستفحلت دولة بكتمر في خلاط والله تعالى أعلم. وصول إمداد الإفرنج من الغرب إلى عكا ثم تتابعت إمداد الإفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا وأوّل من وصل منهم الملك ملك إفرنسة وهو ذو نصب فيهم وملكه ليس بالقوى هكذا قال ابن الأثير وعنى أنه كان مستفحلا في ذلك العصر لأنه في الحقيقة ملك الإفرنج وهو في ذلك العصر أشدّ من كانوا قوّة واستفحالا فوصل ثاني عشر ربيع الأوّل سنة أربع وثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة والسلاح فقوي الإفرنج على عكا بمكانه وولي حرب المسلمين فيها وكان صلاح الدين على معمر عمر قريبا من معسكر الإفرنج فكان يصابحهم كل يوم عن مزاحفة البلد وتقدّم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب والشواني إلى مرسى عكا ليشغل الإفرنج أيضا فبعثها ولقيت خمسة مراكب في البحر وكان ملك الإنكلطيرة أقدمها وأقام على جزيرة قبرص طامعا في ملكها فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها ونفذت كلمة صلاح الدين إلى سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشواني وملئوا بها مرسى عكا وواصل الإفرنج قتال البلد ونصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادى وتحوّل صلاح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 الدين لمعسكره قريبا منهم ليشغلهم عن البلد فخف قتالهم عن أهل البلد ثم فرغ ملك إنكلطيرة من جزيرة قبرص وملكها وعزل صاحبها وبلغ إلى عكا في خمس وعشرين مركبا مشحونة بالرجال والأموال ووصل منتصف رجب ولقي في طريقه مركبا جهز من بيروت إلى عكا وفيه سبعمائة مقاتل فقاتله فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدّمهم وهو يعقوب الحلي غلام ابن شفنين [1] فحرق المركب خوفا من أن يظفر الإفرنج برجاله وذخائره فغرق ثم عمل الإفرنج ذبابات وكباشا وزحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها فرجع الإفرنج إلى نصب التلال من التراب يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة فيها وضاق حال أهل عكا. استيلاء الإفرنج على عكا ولما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك إفرنسة يستأمنه لأهل عكا فلم يجبه وضعفت نفوس أهل البلد لذلك ووهنوا ثم هرب من الأمراء عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الأرجاني في جماعة منهم ولحقوا بالعساكر فازداد أهل عكا وهنا وبعث الإفرنج إلى صلاح الدين في تسليمها فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد ويطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد ويعطيهم الصليب الّذي أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل إلى المسلمين بعكا أن يخرجوا بجمعهم ويتركوا البلد ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدوّ حملة مستميتين ويجيء المسلمون من وراء العدوّ فعساهم يخلصون بذلك فلما أصبحوا زحف الإفرنج إلى البلد ورفع المسلمون أعلامهم وأرسل المشطوب من البلد إلى الإفرنج فصالحهم على الأمان على أن يعطيهم مائتي ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب ويعطي للمركيش صاحب صور أربعة عشر ألف دينار فأجابوا إلى ذلك وضربوا المدّة للمال والأسرى شهرين وسلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم وحبسوهم رهنا بزعمهم في المال والأسرى والصليب ولم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة إنفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى اجتمع مائة ألف دينار وبعث نائبا يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف والضمان خوفا من غدر أصحابه وقال ملوكهم إذا سلمتم المال والأسرى والصليب تعطونا رهنا في بقية المال ونطلق أصحابكم وطلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن ويحلفوا فامتنعوا أيضا وقالوا   [1] هو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية، يعرف بغلام ابن شفتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 ترسلون المائة ألف دينار والأسرى والصليب فنطلق من نراه ونبقي الباقي إلى مجيء بقية المال فتبين المسلمون غدرهم وأنهم يطلقون من لا يعبأ به ويمسكون الأمراء والأعيان حتى يفادوهم فلم يجبهم صلاح الدين إلى شيء ولما كان آخر رجب ركب الإفرنج إلى ظاهر البلد في احتفال وركب المسلمون فشدّوا عليهم وكشفوهم عن مواقفهم فإذا المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم وتمسكوا بالأعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين وتمسك بالمال الّذي جمعه لغيرها من المصالح والله تعالى أعلم. تخريب صلاح الدين عسقلان ولما استولى الإفرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك إنكلطيرة وأحس منه بالغدر فلحق ببلده صور ثم سار الإفرنج مستهل شعبان لقصد عسقلان وساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه ونادى صلاح الدين باتباعهم مع ابنه الأفضل وسيف الدين أبي زكوش وعز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم ويتخطفونهم من كلّ ناحية ففتكوا فيهم بالقتل والأسر وبعث الأفضل إلى أبيه يستمدّه فلم يحد العساكر مستعدّة وسار ملك إنكلطيرة في ساقة الإفرنج فحملهم وانتهوا إلى يافا فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم مقيمون ولحق بهم من عكا من احتاجوا إليه ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يتبعونهم ويقتلون من ظفروا به منهم وزاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم وباتوا بها مثاورين وأختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا وأسروا وساروا من الغد إلى أرسوف وسبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم عندها حتى اضطروهم إلى البحر فحينئذ استمات الإفرنج وحملوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا في تابعهم وألحقوهم بالقلب وفيه صلاح الدين وتستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الإفرنج عنهم وانفرج ما كانوا فيه من الضيق المذكور وساروا إلى يافا فوجدوها خالية وملكوها وكان صلاح الدين قد سار من مكان الهزيمة إلى الرملة وجمع مخلفه وأثقاله واعتزم على مسابقة الإفرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه وقالوا نخشى أن تزاحمنا الافرنج عليها ويغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا ويملكوها آخرا ويقووا بما فيها من الذخائر والأسلحة فندبهم إلى المسير إليها وحمايتها من الإفرنج فلجوا في الامتناع من ذلك فسار وترك العساكر مع أخيه العادل قبالة الإفرنج ووصل إلى عسقلان وخربها تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وبقي أثرها وهلك فيها من الأموال والذخائر ما لا يحصى فلما بلغ الإفرنج ذلك أقاموا بيافا وبعث المركيش إلى ملك إنكلطيرة يعذله حيث لم يناجز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 صلاح الدين على عسقلان ويمنعه من تخريبها فما خربها حتى عجز عن حمايتها ثم رحل صلاح الدين من عسقلان ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها ثم سار إلى القدس من شدّة البرد والمطر لينظر في مصالح القدس وترتبهم في الاستعداد للحصار وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم للإراحة وعاد إلى مخيمه ثامن رمضان وأقام الإفرنج بيافا وشرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون وخيم به منتصف رمضان وتردّد الرسل بين ملك إنكلطيرة وبين العادل على أن يزوّجه ملك إنكلطيرة أخته ويكون القدس وبلاد المسلمين بالساحل للعادل وعكا وبلاد الإفرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية وأجاب صلاح الدين إلى ذلك ومنع الأقسة والرهبان أخت ملك إنكلطيرة من ذلك ونكروا عليها فلم يتم وإنما كان ملك إنكلطيرة يخادع بذلك ثم اعتزم الإفرنج على القدس ورحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة وسار صلاح الدين إلى القدس وقدّم عليه عسكر مصر مع أبي الهيجاء السمين فقويت به نفوس المسلمين وسار الإفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة والمسلمون يحاذونهم وكانت بينهم وقعات أسروا في واحد منها نيفا وخمسين من مقاتلة الإفرنج واهتم صلاح الدين بعمارة أسوار القدس ورمّ ما ثلم منها وضبط المكان الّذي ملك القدس منه وسدّ فروجه وأمر بحفر الخندق خارج الفصيل وقسم ولاية هذه الأعمال بين ولده وأصحابه وقلت الحجارة للبنيان وكان صلاح الدين يركب إلى الأماكن البعيدة وينقلها على مركوبة فيقتدي به العسكر ثم إنّ الإفرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون وقطع المسلمون عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عهده بالرملة وسأل ملك انكلطيرة عن صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له ورأى الوادي محيطا بها إلا قليلا من جهة الشمال مع عمقه ووعرة مسالكه فقال هذه لا يمكن حصارها لأنا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الأخرى وأن افترقنا على جانب الوادي والجانب الآخر كبس المسلمون إحدى الطائفتين ولم تصل الأخرى لإنجادهم خوفا من المسلمين على معسكرهم وإن تركوا من أصحابه حامية المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للإنجاد إلا بعد الوفاة هذا إلى ما يلحقنا من تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقه وارتحلوا عائدين إلى الرملة ثم ارتحلوا في محرّم سنة ثمان وثمانين إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها وسار ملك إنكلطيرة إلى مسلح المسلمين فواقعوهم وجرت بينهم حروب شديدة وصلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الإفرنج للإغارة وقطع الميرة فيغنمون ويعودون والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 مقتل المركيش وملك الكندهري مكانه ثم ارتحل صلاح الدين إلى سنان مقدّم الإسماعيلية بالشام في قتل ملك إنكلطيرة والمركيش وجعل له على ذلك عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك إنكلطيرة لما رأوه من المصلحة لئلا يتفرّغ لهم صلاح الدين وبعث رجلين لقتل المركيش في زي الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا وابن بازران صاحب [1] وأقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما حتى أنس بهما المركيش ثم دعاه الأسقف بصور دعوى فوثبا عليه فجرحاه ولجأ أحدهما إلى كنيسة واختفى فيها وحمل إليها المركيش لشدّة جراحة فأجهز عليه ذلك الباطني وقتله ونسب ذلك إلى ملك إنكلطيرة رجاء أن ينفرد بملك الإفرنج بالشام ولما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الإفرنج الواردين من وراء البحر يعرف بالكندهري ابن أخت ملك إفرنسة وابن أخي ملك إنكلطيرة من أبيه وتزوّج بالملكة في ليلته وبنى بها وملك عكا وسائر البلاد بعد عود ملك إنكلطيرة وعاش إلى سنة أربع وتسعين وسقط من سطح ولما رحل ملك إنكلطيرة إلى بلاده أرسل هذا الكندهري إلى صلاح الدين واستماله للصلح والتمس منه الخلعة فبعث إليه بها ولبسها بعكا والله تعالى أعلم. مسير الإفرنج إلى القدس ولما قدم صلاح الدين القدس وكان قد بلغه مهلك تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وأن ابنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة وهي حران والرها وسميساط وميافارقين وجان وبعث إلى صلاح الدين يسأل إبقاءها في يده مضافة إلى ما كان لأبيه من الأعمال بالشام فاستقصره صلاح الدين لصغره وطلب منه ابنه الأفضل أن يعطيها له وينزل عن دمشق فأجابه الى ذلك وأمره أن يسير إليها وكاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل وسنجار والجزيرة واربل وسار لإنجاده بالعساكر وعلم ناصر الدين أنه لا قبل له بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده ما كان لأبيه بالشام فقط وينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه الملك العادل وبعثه يتسلمها ويرد ابنه الأفضل فلحق   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 79: وأتصل بصاحب صيدا وابن بارزان صاحب رملة وكانا مع المركيس بصور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 بالأفضل بحلب وأعاده وعبر الفرات وتسلم البلاد من ناصر الدين بن تقيّ الدين وأنزل بها عماله واستصحبه وساير العساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس ولما بلغ الإفرنج أنّ صلاح الدين بعث ابنه الأفضل وأخاه العادل وفرّق العساكر عليهما ولم يبق معه بالقدس إلا بعض الخاصة فطمعوا فيه وأغاروا على عسكر مصر وهو قاصد إليه ومقدمهم سليمان أخو العادل لأمه فأخذوه بنواحي الخليل وقتلوا وغنموا ونجا فلهم الى جبل الخليل وساروا الى الداروم فخربوه ثم ساروا إلى القدس وانتهوا إلى بيت قوجة على فرسخين من القدس تاسع جمادى الاولى من سنة ثمان وثمانين واستعدّ صلاح الدين للحصار وفرّق أبراج السور على أمرائه وسلط السرايا والبعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به فتأخروا عن منازلتهم بيافا وأصبحت بقولهم وميرتهم غنائم للمسلمين وبلغهم أنّ العساكر الشرقية التي مع العادل والأفضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا وعزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين ابنه الأفضل أن يسير في العساكر الشرقية إليها فسار وانتهى إلى مرج العيون فلم يبرح الافرنج من عكا واجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب وغيرها فسار إلى يافا فحاصرها وملكها عنوة في عشري رجب من السنة ثم حاصر القلعة بقية يومه وأشرفوا على فتحها وكانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين بطلب الأمان إلى الغد فأجابوهم إليه وجاءهم ملك انكلطيرة ليلا وتبعه مدد عكا وبرز من الغد فلم يتقدّم إليه أحد من المسلمين ثم نزل بين السماطين وجلس للأكل وأمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدّم أخ المشطوب وكان يلقب بالجناح وقال لصلاح الدين نحن نتقدّم للقتال ومماليكك للغنيمة فغضب صلاح الدين وعاد عن الإفرنج إلى خيامه حتى جاء ابنه الأفضل وأخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر مآل أمره مع الإفرنج وأقاموا بيافا والله تعالى أعلم. الصلح بين صلاح الدين والإفرنج ومسير ملك إنكلطيرة إلى بلاده كان ملك انكلطيرة إلى هذه المدّة قد طال مغيبه عن بلاده ويئس من بلاد الساحل لأنّ المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في الصلح وظن صلاح الدين أنّ ذلك مكر فلم يجبه وطلب الحرب فألح ملك إنكلطيرة في السؤال وظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان وغزة والداروم والرملة وبعث إلى الملك العادل بأن يتوسط في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 ذلك فأشار على صلاح الدين بالإجابة هو وسائر الأمراء لما حدث عند العسكر من الضجر ونفاد النفقات وهلاك الدواب والأسلحة وما بلغهم أنّ ملك إنكلطيرة عائد إلى بلاده وان لم تقع الإجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل فلما وعي ذلك صلاح الدين وعلم صحته أجاب إلى الصلح وعقد الهدنة مع رسل الإفرنج في عشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين لمدّة أربعة وأربعين شهرا فتحالفوا على ذلك وأذن صلاح الدين للإفرنج في زيارة القدس وارتحل ملك انكلطيرة في البحر عائدا إلى بلده وأقام الكندهري صاحب صور بعد المركيش ملكا على الإفرنج بسواحل الشام وتزوّج الملكة التي كانت تملكهم قبله وقبل صلاح الدين كما مرّ وسار صلاح الدين إلى القدس فأصلح أسواره وأدخل كنيسة صهيون في البلد وكانت خارج السور واختط المدارس والربط والمارستان ووقف عليها الأوقاف واعتزم على الإحرام منه للحج فاعترضته القواطع دون ذلك فسار إلى دمشق خامس شوّال واستخلف عليه الأمير جرديك من موالي نور الدين ومرّ بكفور المسلمين نابلس وطبرية وصفد وبيروت ولما انتهى إلى بيروت أتاه بها سمند صاحب انطاكية وطرابلس وأعمالها فالتزم طاعة صلاح الدين وعاد ودخل صلاح الدين دمشق في الخامس والعشرين من شوّال وسرّ الناس بقدومه ووهن العدوّ والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة صلاح الدين وحال ولده وأخيه من بعده ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق وقد خف من شواغل الإفرنج بوهنهم وما عقد من الهدنة فأراح قليلا ثم اعتزم على احداث الغزو فاستشار ابنه الأفضل وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لأنه كان وعده أن يقطعه إياها إذا ملكها وأشار الأفضل ببلاد الروم إيالة بني قليج أرسلان لسهولة أمرها واعتراض الإفرنج فيها إذا قصدوا الشام لأنها طريقهم فقال لأخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدي وبعض العسكر وأذهب أنا إلى بلاد الروم فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى أذربيجان ثم إلى بلاد العجم وأمره بالمسير إلى الكرك وهي من أقطاعه ليتجهز منها ويعود لشأنه فسار إلى الكرك ومرض صلاح الدين بعده ومات في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه مصر رحمه الله تعالى وكان معه بدمشق ابنه الأفضل نور الدين والعساكر عنده فملك دمشق والساحل وبعلبكّ وصرخد وبصرى وبانياس وشوش وجميع الأعمال إلى الداروم وكان بمصر ابنه العزيز عثمان فاستولى عليها وكان بحلب ابنه الظاهر غازي فاستولى عليها وعلى أعمالها مثل حارم وتل باشر وإعزاز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 وبرزية ودربساك وغيرها وأطاعه صاحب حماة ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شيركوه وله مع حماة سلمية والمعرة ومنبج وابن محمد بن شيركوه وله مع الرحبة حمص وتدمر وببعلبكّ بهرام شاه بن فرخ شاه بن شاهنشاه ولقبه الأمجد وببصرى الظافر بن صلاح الدين ولقبه الأمجد مع أخيه الأفضل وشيرز سابق الدين عثمان ابن الداية وبالكرك والشويك الملك العادل وبلغ الخبر إلى العادل فأقام بالكرك واستدعاه الأفضل من دمشق فلم يجبه فخوّفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين صاحب الموصل وقد كان سار من الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة فوعده بالنصر منه وأوهمه الرسول إن لم يسر إلى الأفضل بدمشق أنه متوجه إلى العزيز بمصر ليحالفه عليه فحينئذ ارتاب العادل وسار إلى الأفضل بدمشق فتلقاه بالميرة وجهز له العساكر لمدافعة عز الدين صاحب الموصل عن بلاد الجزيرة وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة يحضهم على إنفاذ العساكر معه وعبر بها الفرات وأقام بنواحي الرها وكان عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها وسائرها ليرتجعها من يده ومجاهد الدين قايماز أتابك دولته يثنيه عن ذلك ويعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه وبينما هو في ذلك إذ جاءت الأخبار بأنّ العادل بحران ثم وافاهم كتابه بأنّ الأفضل ملك بعد أبيه صلاح الدين وأطاعه الناس فكاتب عز الدين جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار وصاحب ماردين يستنجدهم وجاء إليه أخوه على نصيبين وسار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه ورجع إلى الموصل فمات أوّل رجب من السنة واستقرّت إيالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم يهجه منها أحد والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. مسير العزيز من مصر إلى حصار الأفضل بدمشق وما استقرّ بينهم في الولايات كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقرّ بمصر كما ذكرناه وكان موالي أبيه منحرفين عن الأفضل ورؤساؤهم يومئذ جهاركس وقراجا وقد استقرّ بهم عدوّ الأفضل والأكراد وموالي شيركوه شيعة له فكان العدوّ يعدون العزيز بهؤلاء الشيع ويخوّفونه من أخيه الأفضل ويغرونه بانتزاع دمشق من يده فسار لذلك سنة تسعين وخمسمائة ونزل على دمشق واستنزل الأفضل وهو بأعماله بالجزيرة وسار لعمه العادل بنفسه وسار معه الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة وشيركوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 ابن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعساكر الموصل من قبل عز الدين مسعود بن مودود وساروا كلهم إلى الأفضل بدمشق لإنجاده فامتنع على العزيز مرامه وتراسلوا في الصلح على أن يكون القدس وأعمال فلسطين للعزيز وجبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب وتبقى دمشق وطبرية والغور للأفضل وأن يستقر العادل بمصر مدبرا دولة العزيز على إقطاعه الأوّل وانعقد الصلح على ذلك ورجع العزيز إلى مصر وعاد كل إلى بلده والله تعالى أعلم. حصار العزيز ثانيا دمشق وهزيمته ولما عاد العزيز إلى مصر عاد موالي صلاح الدين إلى أغرائه بأخيه الأفضل فتجهز لحصاره بدمشق سنة إحدى وتسعين وسار الأفضل من دمشق إلى عمه العادل بقلعة جعبر ثم إلى أخيه الظاهر غازي بحلب مستنجدا لهما وعاد إلى دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها واتفقا على أن تكون مصر للأفضل ودمشق للعادل ووصل العزيز إلى قرب دمشق وكان الأكراد وموالي شيركوه منحرفين عنه كما قدّمناه وشيعة للأفضل ومقدّمها سيف الدين أبو ركوش من الموالي وأبو الهيجاء السمين من الأكراد فدلسا للأفضل بالخروج إلى العزيز وواعداه الهزيمة عنه فخرجا في العساكر وانحاز إليهما الموالي والأكراد وانهزم العزيز إلى مصر وبعث الأفضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب العزيز وساروا في إتباعه إلى مصر والعساكر ملتفة على الأفضل فارتاب العادل وخشي أن لا يفي له الأفضل بما اتفقا عليه ولا يمكنه من دمشق فراسل العزيز بالثبات وأن ينزل حامية ووعد من نفسه المظاهرة على أخيه وتكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في عسكر من موالي أبيه وأراد الأفضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل إلى مصر فمنعه أيضا وقال له إن أخذت مصر عنوة انخرقت الهيبة وطمع فيها الأعداء والمطاولة أولى ودس إلى العزيز بإرسال القاضي الفاضل وكان مطاعا فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء إليهما وعقد الصلح بينهم على أن يكون للأفضل القدس وفلسطين وطبرية والأردن مضافة إلى دمشق ويكون للعادل كما كان القديم ويقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره وتحالفوا على ذلك وعاد الأفضل إلى دمشق وأقام العادل عند العزيز بمصر انتهى والله أعلم. استيلاء العادل على دمشق ثم أنّ العزيز استمال العادل وأطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه ويسلمها إليه وكان الظاهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 صاحب حلب يعذل الأفضل في موالاة عمه العادل ويحرضه على أبعاده فيلج في ذلك ثم أنّ العادل والعزيز ساروا من مصر وحاصروا دمشق واستمالوا من أمراء الأفضل أبا غالب الحمصي على وثوق الأفضل به وإحسانه إليه ففتح لهم الباب الشرقي عشيّ السابع والعشرين من رجب سنة اثنتين وتسعين فدخل العادل منه إلى دمشق ووقف العزيز بالميدان الأخضر وخرج إليه أخوه الأفضل ثم دخل الأفضل دار شيركوه وأظهروا مصالحة الأفضل خشية من جموعه وأعادوه إلى القلعة وأقاموا بظاهر البلد والأفضل يغاديهم كل يوم ويراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق وتسليم أعمالها وأعطوه قلعة صرخد وملك العزيز القلعة ونقل للعادل أنّ العزيز يريد أن يتردّد إلى دمشق فجاء إليه وحمله على تسليم القلعة فسلمها وخرج الأفضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به وسار منه إلى صرخد وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم. فتح العادل يافا من الإفرنج واستيلاء الإفرنج على بيروت وحصارهم تبنين ولما توفي صلاح الدين وملك أولاده بعده جدّد العزيز الهدنة مع الكندهري ملك الإفرنج كما عقد أبوه معه وكان الأمير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث الشواني للإغارة على الإفرنج وشكوا ذلك إلى العادل بدمشق والعزيز بمصر فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأمدّوهم بالعساكر وأكثرهم من الألمان ونزلوا بعكا واستنجد العادل بالعزيز فبعث إليه بالعساكر وجاءته عساكر الجزيرة والموصل واجتمعوا بعين جالوت وأقاموا رمضان وبعض شوّال من سنة اثنتين وتسعين ثم ساروا إلى يافا فملكوا المدينة أوّلا وخربوها وامتنع الحامية بالقلعة فحاصروها وفتحوها عنوة واستباحوها وجاء الإفرنج من عكا لصريخ إخوانهم وانتهوا إلى قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم وخبر وفادة الكندهري ملكهم بعكا فرجعوا ثم اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذرا عليها من الإفرنج فتكفل له أسامة عاملها بحمايتها وعاد ووصل إليها الإفرنج يوم عرفة من السنة وهرب منها أسامة وملكوها وفرّق العادل العساكر فخربوا ما كان بقي من صيدا بعد تخريب صلاح الدين وعاثوا في نواحي صور فعاد الإفرنج إلى صور ونزل المسلمون على قلعة هونين ثم نازل الإفرنج حصن تبنين في صفر سنة أربع وتسعين وبعث العادل عسكرا لحمايته فلم يغنوا عنه ونقب الإفرنج أسواره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 فبعث العادل بالصريخ إلى العزيز صاحب مصر فأغذ السير بعساكره وانتهى إلى عسقلان في ربيع من السنة وكان المسلمون في تبنين قد بعثوا إلى الإفرنج من يستأمن لهم ويسلمون لهم فأنذرهم بعض الإفرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم وأصرّوا على الامتناع حتى وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الإفرنج لوصوله ولم يكن لهم ملك وإنما كان معهم الجنصكير القسيس [1] من أصحاب ملك الألمان والمرأة زوجة الكندهري فاستدعوا ملك قبرص واسمه هبري وهو أخ الملك الّذي أسر بحطين فجاءهم وزوّجوه بملكتهم فلما جاء العزيز وسار من عسقلان إلى جبل الخليل وأطلّ على الإفرنج وناوشهم القتال رجع الإفرنج إلى صور ثم إلى عكا ونزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز واجتمع جماعة منهم وهم ميمون القصري وقراسنقر والحجاب وابن المشطوب على الغدر بالعزيز ومدبر دولته فخر الدين جهاركس فأغذا السير إلى مصر وتراسل العادل والإفرنج في الصلح وانعقد بينهم في شعبان من السنة ورجع العادل إلى دمشق وسار منها إلى ماردين كما يأتي خبره والله تعالى أعلم. وفاة طغتكين بن أيوب باليمن وملك ابنه إسماعيل ثم سليمان بن تقيّ الدين شاهنشاه قد كان تقدّم لنا أنّ سيف الإسلام طغتكين بن أيوب سار الى المدينة سنة ثمان وسبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه واختلاف نوّابه باليمن واستولى عليها ونزل زبيد وأقام بها إلى أن توفي في شوّال سنة ثلاث وتسعين وكان سيّئ السيرة كثير الظلم للرعية جماعا للأموال ولما استفحل بها أراد الاستيلاء على مكة فبعث الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين يمنعه من ذلك فمنعه ولما توفي ملك مكانه ابنه إسماعيل وبلغ المعز وكان أهوج فانتسب في بني أمية وادّعى الخلافة وتلقب بالهادي ولبس الخضرة وبعث إليه عمه العادل بالملامة والتوبيخ فلم يقبل وأساء السيرة في رعيته وأهل دولته فوثبوا وقتلوه وتولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه ونصب أخاه الناصر سنة ثمان وتسعين فأقام بأمره ثم هلك سنقر لأربع سنين من دولته وقام مكانه غازي بن جبريل من أمرائهم وتزوّج أمّ الناصر ثم قتل الناصر مسموما وثأر العرب منه بغازي المذكور وبقي أهل اليمن فوضى واستولى على طغان وبلاد حضر موت محمد بن محمد الحميري واستبدّت أمّ الناصر وملكت زبيد وبعثت في طلب أحد من بني أيوب تملكه على   [1] وفي الكامل: وكان المرجع إلى القسيس الخنصكير من أصحاب ملك الألمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 اليمن وكان للمظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه وقيل لابنه سعد الدين شاهنشاه ابن اسمه سليمان ترهب ولبس المسوح ولقيه بالموسم بعض غلمانها وجاءته فتزوّجته وملكته اليمن والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير العادل إلى الجزيرة وحصاره ماردين كان نور الدين أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه وبين قطب الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكي صاحب نصيبين والخابور والرقة وبين أبيه عماد الدين قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم فسار نور الدين إليه في عساكره وملك منه نصيبين ولحق قطب الدين بحران والرها إيالة العادل بن أيوب وبعث إليه بالصريخ وهو بدمشق وبذل له الأموال في إنجاده فسار العادل إلى حران وارتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل وسار قطب الدين إليها فملكها وسار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها وكان صاحبها حسام الدين بولو أرسلان بن أبي الغازي بن ألبا بن تمرتاش أبي الغازي بن أرتق وهو صبيّ وكافله مولى النظام برتقش مولى أبيه والحكم له ودام حصاره عليها وملك الربض وقطع الميرة عنها ثم رحل عنها في العام القابل كما تقدّم في أخبار دولة زنكي والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. وفاة العزيز صاحب مصر وولاية أخيه الأفضل ثم توفي العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرّم سنة خمس وتسعين وكان فخر الدين إياس جهاركس مولى أبيه مستبدا عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار ماردين يستدعيه للملك وكان جهاركس هذا مقدّم موالي صلاح الدين وكانوا منحرفين عن الأفضل وكان موالي صلاح الدين شيركوه والأكراد شيعة وجمعهم جهاركس لينظر في الولاية وأشار بتولية ابن العزيز فقال له سيف الدين أيازكوش مقدّم موالي شيركوه لا يصلح لذلك لصغره إلا أن يكفله أحد من ولد صلاح الدين لأن رياسة العساكر صنعه واتفقوا على الأفضل ثم مضوا إلى القاضي الفاضل فأشار بذلك أيضا وأرسل أياز كوش يستدعيه من صرخد فسار آخر صفر من السنة ولقيه الخبر في طريقه بطاعة القدس له وخرج أمراء مصر فلقوه ببلبيس وأضافه أخوه المؤيد مسعود وفخر الدين جهاركس ودولة العزيز فقدّم أخاه وارتاب جهاركس واستأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 القدس وتملكه ولحقه جماعة من موالي صلاح الدين منهم قراجا الدكرمس وقراسنقر وجاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم به واتفقوا على عصيان الأفضل وأرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم يعجل لإجابتهم لطمعه في أخذ ماردين وارتاب الأفضل بموالي صلاح الدين وهم شقيرة وأنبك مطيش وألبكي ولحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس وأرسل الأفضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا وأقام هو بالقاهرة وقرّر دولته وقدّم فيها سيف الدين أياز كوش والملك لابن أخيه العزيز عثمان وهو كافل له لصغره وانتظمت أمورهم على ذلك انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار الأفضل دمشق وعوده عنها ولما انتظمت الأمور للأفضل بعث إليه الظاهر غازي صاحب حلب وابن عمه شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل عنها في حصار ماردين ويعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة ووصل إلى دمشق منتصف شعبان وسبقه العادل إليها وترك العساكر مع ابنه الكامل على ماردين ولما نزل الأفضل على دمشق وكان معه الأمير مجد الدين أخو عيسى الهكاري فداخل قوما من الأجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة ودخل منه هو والأفضل سرّا وانتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل لقلتهم وانقطاع مددهم فتراجعوا وأخرجوهم ونزل الأفضل بميدان الحصار وضعف أمره واعصوصب الأكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون وانحازوا عنهم في المعسكر ووصل شيركوه صاحب حمص ثم الظاهر صاحب حلب آخر شعبان وأوّل رمضان لمظاهرة الأفضل وأرسل العادل إلى موالي صلاح الدين بالقدس فساروا إليه وقوي بهم ويئس الأفضل وأصحابه وخرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم حذرين فرجعوا وجاء الخبر إلى العادل بوصول ابنه محمد الكامل إلى حران فاستدعاه ووصل منتصف صفر سنة ست وتسعين فعند ذلك رحلت العساكر عن دمشق وعاد كلّ منهم إلى بلاده انتهى والله أعلم. إفراج الكامل عن ماردين قد كان تقدّم لنا مسير العادل إلى ماردين وسار معه صاحب الموصل وغيره من ملوك الجزيرة وديار بكر وفي نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين وغلبهم فلما عاد العادل إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 دمشق لمدافعة الأفضل وترك ابنه الكامل على حصار ماردين واجتمع ملوك الجزيرة وديار بكر على مدافعته عنها وسار نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر واجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر وارتحلوا سادس شوّال وقاربوا جبل ماردين وكان أهل ماردين قد اشتدّ عليهم الحصار وبعث النظام برتقش صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط اشترطها إلى أجل ضربه وأذن لهم الكامل في إدخال الأقوات في تلك المدّة ثم جاءه الخبر بوصول صاحب الموصل ومن معه فنزل القائم للقائهم وترك عسكرا بالربض وبعث قطب الدين صاحب سنجار إلى الكامل ووعده بالانهزام فلم يغن ولما التقى الفريقان حمل صاحب الموصل عليهم مستميتا فانهزم الكامل وصعد إلى الربض فوجد أهل ماردين قد غلبوا عسكره الّذي هنالك ونهبوا مخلفهم فارتحل الكامل منتصف شوّال مجفلا ولحق بميافارقين وانتهب أهل ماردين مخلفه ونزل صاحبها فلقي صاحب الموصل وعاد إلى قلعته وارتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان والرها وبلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب يطلبه في السكة والخطبة فارتاب لذلك وكان عازما على نصرتهم فقعد عنهم وعاد إلى الموصل وأرسل إلى الأفضل والظاهر يعتذر بمرض طرقه وهم يومئذ على دمشق ووصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق وسار إليه في العساكر فأفرج عنه الأفضل والظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء العادل على مصر ولما رحل الأفضل والظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر وأغراه موالي صلاح الدين بذلك واستحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكا وهو كافله وبلغت الأخبار بذلك إلى الأفضل وهو في بلبيس فسار منها ولقيهم فانهزم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وتسعين ودخل القاهرة ليلا وحضر الصلاة على القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني توفي تلك الليلة وسار العادل لحصار القاهرة وتخاذل أصحاب الأفضل عنه فأرسل إلى عمه في الصلح وتسليم الديار المصرية على أن يعوّضه دمشق أو بلاد الجزيرة وهي حران والرها وسروج فلم يجبه وعوّضه ميافارقين وجبال نور وتحالفوا على ذلك وخرج الأفضل من القاهرة ثامن عشر ربيع واجتمع بالعادل وسار إلى بلده صرخد ودخل العادل القاهرة من يومه ولما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 وصل الأفضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التي عوّضه العادل وكان بها ابنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها وردّد الأفضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أنّ ابنه عصاه فعلم الأفضل أنه أمره واستفحل العادل في مصر وقطع خطبة المنصور بن العزيز وخطب لنفسه واعترض الجند ومحصهم بالمحو والإثبات فاستوحشوا لذلك وبعث العادل فخر الدين جهاركس مقدّم موالي صلاح الدين في عسكر إلى بانياس ليحاصرها ويملكها لنفسه ففصل من مصر للشام في جماعة الموالي الصلاحية وكان بها الأمير بشارة من أمراء الترك ارتاب العادل بطاعته فبعث العساكر إليه مع جهاركس والله تعالى أعلم. مسير الظاهر والأفضل إلى حصار دمشق ولما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الأمراء لذلك ولما كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب والأفضل بصرخد أن يحاصرا دمشق فيسير إليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر ويقومون بدعوتهما ونمي الخبر إلى العادل وكتب به إليه الأمير عز الدين اسامة جاء من الحج ومرّ بصرخد فلقيه الأفضل ودعاه الى أمرهم وأطلعه على ما عنده فكتب به إلى العادل وأرسل العادل إلى ابنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار الأفضل بصرخد وكتب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس وإلى ميمون القصري صاحب نابلس بالمسير معه إلى صرخد ففرّ منها الأفضل إلى أخيه الظاهر بحلب فوجده يتجهز لأنه بعث أميرا من أمرائه إلى العادل فردّه من طريقه فسار إلى منبج فملكها ثم قلعة نجم كذلك وذلك سلخ رجب من سنة سبع وتسعين وسار المعظم بقصد صرخد وانتهى إلى بصرى وبعث عن جهاركس والذين معه على بانياس فغالطوه ولم يجيبوه فعاد إلى دمشق وبعث إليهم الأمير أسامة يستحثهم فأغلظوا له في القول وتناوله البكاء منهم وثاروا به جميعا فتذمم لميمون القصري منهم فأمنه وعاد إلى دمشق ثم ساروا إلى الظاهر حضر به صلاح الدين وأنزله من صرخد واستحثوا الظاهر والأفضل للوصول فتباطأ الظاهر عنهم وسار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص ومعه أخوه الأفضل ومنها إلى بعلبكّ إلى دمشق ووافاه هنالك الموالي الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم وكان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن تكون بيد الأفضل فإذا ملكوا مصر سار إليها وبقيت للظاهر وأقطع الأفضل صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا وأخرج أهله منها إلى حمص عند شيركوه بن محمد بن شيركوه وكان العادل قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 سار من مصر إلى الشام فانتهى إلى نابلس وبعث عسكرا إلى دمشق ووصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها يوما وثانيه منتصف ذي القعدة وأشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الأفضل بأنّ دمشق تكون له فاعتذر بأنّ أهله في غير مستقرّ ولعلهم يأوون إلى دمشق في خلال ما يملك مصر فلجّ الظاهر في ذلك وكان الموالي الصلاحية مشتملين على الأفضل وشيعة له فخيرهم بين المقام والانصراف ولحق فخر الدين جهاركس وقراجا بدمشق فامتنعت عليهم وعادوا إلى تجديد الصلح مع العادل على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وبعض قرى المعرّة والأفضل له سميساط وسروج ورأس عين وحملين فتمّ ذلك بينهم ورحلوا عن دمشق في محرّم سنة ثمان وتسعين وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى حمص فأقام بها عند أهله ووصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء وجاء الأفضل فلقيه بظاهر دمشق وعاد إلى بلاده فتسلمها وكان الظاهر والأفضل لما فعلا من منبج الى دمشق بعثا الى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاد العادل بالجزيرة وكانت بينه وبينهما وبين صاحب ماردين يمين واتفاق على العادل منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم فسار نور الدين عن الموصل في شعبان ومعه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وعسكر ماردين ونزلوا رأس عين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور الدين في الصلح ووصل الخبر بصلح العادل مع الظاهر والأفضل فأجابهم نور الدين إلى الصلح واستحلفوا وبعث أرسلان من عنده إلى العادل فاستحلفوه أيضا وصحت الحال والله تعالى وليّ التوفيق. حصار ماردين ثم الصلح بين العادل والأشرف ثم بعث الملك العادل ابنه الأشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار إليها ومعه عساكر الموصل وسنجار ونزلوا بالحريم تحت ماردين وسار عسكر من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الأشرف فلقيهم جماعة من عسكر الأشرف وهزموهم وأفسد التركمان السابلة في تلك النواحي وامتنع على الأشرف قصده فتوسط الظاهر غازي في الإصلاح بينهم على أن يحمل صاحب ماردين للعادل مائة وخمسين ألف دينار والدينار أحد عشر قيراطا من الأميري ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه وتعسكر طائفة من جنده معه متى دعاهم لذلك فأجاب العادل وتمّ الصلح بينهما ورحل الأشرف عن ماردين والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 أخذ البلاد من يد الأفضل قد كان تقدّم أنّ الظاهر والأفضل لما صالحا العادل سنة سبع وتسعين أخذ الأفضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين وكانت بيده معها قلعة نجم التي ملكها الظاهر بين يدي الحصار قبل الصلح ثم استردّ العادل البلاد من يد الأفضل سنة تسع وتسعين وأبقى له سميساط وقلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم على أن يشفع له عند العادل في ردّ ما أخذ منه فلم يجب فتهدّده ولم تزل الرسل تتردّد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة وبعث الأفضل أمّه إلى العادل في ردّ سروج ورأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الأفضل إلى ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بطاعته وأن يخطب له فبعث إليه بالخلعة وخطب له الأفضل في سميساط سنة ستمائة وسار من جملة نوابه في أعماله وفي سنة تسع وتسعين هذه خاف على مصر محمود بن العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها لأنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين خاف على مصر من شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق ثم نقله في هذه السنة إلى الرها ومعه أخواته وأمه وأهله فأقاموا بها والله أعلم. واقعة الأشرف مع صاحب الموصل كانت الفتنة متصلة بين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار واستمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له بأعماله وسار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة ستمائة وبعث قطب الدين يستمدّ الأشرف موسى بن العادل وهو بحران فسار إلى رأس عين لإمداده ومدافعة نور الدين عنه بعد أن اتفق على ذلك مع مظفر الدين صاحب أربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب كيفا وآمد ففارق نور الدين نصيبين وسار إليها الأشرف وجاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين وصاحب كيفا وصاحب الجزيرة وساروا جميعا إلى بلد البقعاء ونور الدين صاحب الموصل قد انصرف من تل أعفر وقد ملكها إلى كفر زمان معتزما على مطاولتهم إلى أن يفترقوا ثم أغراه بعض مواليه كان بعثه عينا عليهم فقللهم في عينه وحرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا ونزل قريبا منهم ثم ركب لقتالهم واقتتلوا فانهزم نور الدين ولحق بالموصل ونزل الأشرف وأصحابه كفر زمان وعاثوا في البلاد واكتسحوها وتردّدت الرسل بينهم في الصلح على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل أعفر التي أخذها له فتمّ ذلك سنة إحدى وستمائة وعاد إلى بلده والله تعالى أعلم. وصول الإفرنج إلى الشام والصلح معهم ولما ملك الإفرنج القسطنطينية من يد الروم سنة إحدى وستمائة تكالبوا على البلاد ووصل جمع منهم إلى الشام وأرسوا بعكا عازمين على ارتجاع القدس من المسلمين ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها وكان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشام ومصر وسار فنزل بالطور قريبا من عكا لمدافعتهم وهم قبالته بمرج عكا وساروا إلى كفركنا فاستباحوه ثم انقضت سنة إحدى وستمائة وتراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة وغيرها ويعطيهم [1] وغيرها وتمّ ذلك بينهم وسار العادل إلى مصر فقصد الإفرنج حماة وقاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه وأقاموا أياما عليها ثم رجعوا والله تعالى أعلم. غارة ابن ليون على أعمال حلب قد تقدّم لنا ذكر ابن ليون ملك الأرمن وصاحب الدروب فأغار سنة اثنتين وستمائة على أعمال حلب واكتسحها واتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازي صاحب حلب ونزل على خمسة فراسخ من حلب وفي مقدمته ميمون القصري من موالي أبيه منسوبا إلى قصر الخلفاء بمصر ومنه كان أبوه وكان الطريق إلى بلاد الأرمن متعذرا من حلب لتوعر الجبال وصعوبة المضايق وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده لما يلي حلب ومن ثغورها قلعة دربساك فخشي الظاهر عليها منه وبعث اليها مددا وأمر ميمون القصري أن يشيعه بطائفة من عسكره ففعل وبقي في خف الجند ووصل خبره الى ابن ليون فكبس القصري ونال منه ومن المسلمين وانهزموا أمامه فظفر بمخلفهم ورجع فلقي في طريقه المدد الّذي بعث الى دربساك فهزمهم وظفر بما كان معهم وعاد الأرمن الى بلادهم فاعتصموا بحصونهم والله تعالى أعلم.   [1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 321: وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر فسار منها إلى الشام فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد، وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه. (ويذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 614) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 استيلاء نجم الدين بن العادل على خلاط كان العادل قد استولى على ميافارقين وأنزل بها ابنه الأوحد نجم الدين ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط وزحف إليها سنة ثلاث وستمائة وقد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقاتله وهزمه وعاد إلى ميافارقين فهزمهم ثم دخلت سنة أربع وستمائة وملك مدينة سوس وغيرها وأمدّه أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط وسار إليه بليان فهزمه نجم الدين وحاصره بخلاط وبعث بليان إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم يستنجده فجاء في عساكره واجتمع مع بليان وانهزم نجم الدين ونزلا على مدينة تلبوس فحاصرها ثم غدر طغرل شاه ببليان وقتله وسار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه فعاد إلى بلاده وأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط وأعمالها وخافه الملوك المجاورون له وملك الكرك وتابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج إليهم خشية على خلاط واعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن وان من أعظم الحصون وأمنعها فعصوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير وملكوا مدينة أرجيش واستمدّ نجم الدين على خلاط وأعمالها وعاد أخوه الأشرف إلى أعماله بحران والرها ثم سار الأوحد نجم الدين إلى ملازكرد ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم وحصروا أصحابه بالقلعة ونادوا بشعار بني شاهرين وعاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم وحاصر خلاط واختلف أهلها فملكها واستلحم أهلها وحبس كثيرا من أعيانها كانوا فارّين وذلّ أهل خلاط لبني أيوب بعد هذه الوقعة إلى آخر الدولة والله تعالى أعلم. غارات الإفرنج بالشام كان الإفرنج بالشام قد أكثروا الغارات سنة أربع وستمائة بحشد [1] ثان ما ملكوا القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس وحصن الأكراد منهم على حمص وأعمالها وعجز صاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه عن دفاعهم واستنجد عليهم فأنجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده للمدافعة عنه وأغار أهل قبرص في البحر على أسطول مصر فظفروا   [1] وفي الكامل ج 12 ص 273: في هذه السنة (6044) كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها ونازلوا مدينة حمص. وكان جمعهم كثيرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 منه بعدة قطع وأسروا من وجدوا فيها وبعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأنّ أهل قبرص في طاعة الإفرنج الذين بالقسطنطينية وأنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين ثم سار إلى حمص ونازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه [1] وأطلق صاحبه وغنم ما فيه وخربه وتقدّم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها اثني عشر يوما وعاد إلى بحيرة قدس وراسله الإفرنج في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء فأذن لعساكر الجزيرة في العود إلى بلادهم وترك عند صاحب حمص عسكرا أنجده بهم وعاد إلى دمشق فشتى بها والله أعلم. غارات الكرج على خلاط وأعمالها وملكهم أرجيش ولما ملك الأوحد نجم الدين خلاط كما مرّ ردّد الكرج الغارات على أعمالها وعاثوا فيها ثم ساروا سنة خمس وستمائة إلى مدينة أرجيش فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها وخرّبوها وخام نجم الدين عن لقائهم ومدافعتهم إلى أن انتقض عليه أهل خلاط لما فارقها ووقع بينه وبينهم ما مرّ ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط وحاصروها وحاربهم الأوحد وهزمهم وأسر ملكهم ثم فاداه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير وعلى الهدنة مع المسلمين وأن يزوّج بنته من الأوحد فانعقد ذلك والله تعالى أعلم بغيبة. استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من عمل سنجار وحصارها قد تقدّم لنا أنّ قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود صاحب سنجار والخابور ونصيبين وما إليها كانت بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وفتنة متصلة وزوّج نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس وستمائة واتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه وأهل دولته أن يستنجد بالعادل على جزيرة ابن عمر وأعمالها التي لابن عمه سنجر شاه بن غازي بن مودود فتكون الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل وملك العادل سنجار وما إليها وهي ولاية قطب الدين فتكون له فأجاب العادل إلى ذلك ورآه ذريعة إلى ملك الموصل وأطمع نور الدين في إيالة   [1] القلعتين: اسم حصن ولذلك تصبح العبارة: ونازل حصن القلعتين ففتحه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الّذي هو صهره على ابنته وتكون عنده بالموصل وسار العادل بعساكره سنة ست وستمائة وقصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ أنه لا مانع منه وندم على ما فرط في رأيه من وفادته ورجع إلى الاستعداد للحصار وخوّفه الوزراء والحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به وسار العادل من الخابور إلى نصيبين فملكها وقام بمدافعته عن قطب الدين وحماية البلد من الأمير أحمد بن برتقش مولى أبيه وشرع نور الدين في تجهيز العساكر مع ابنه القاهر مددا للعادل وبعث قطب الدين صاحب سنجار ابنه مظفر الدين يستشفع به إلى العادل لمكانه منه وأثره في موالاته فشفع ولم يشفعه العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق على العادل فأجابه وسار بعساكره من الموصل واجتمع مع نور الدين بظاهرها واستنجد بصاحب حلب الظاهر وصاحب بلاد الروم كنجسرو [1] وتداعوا على الحركة إلى بلاد العادل إن امتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار وبعثوا إلى الخليفة الناصر أن يأمر العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير اقباش من خواص مواليه فأجاب إلى ذلك ثم غالطهم وذهب إلى المطاولة ثم صالحهم على سنجار فقط وله ما أخذ وتحالفوا على ذلك وعاد كل إلى بلده ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر وستمائة على الأمير أسامة بأمر أبيه العادل وأخذ منه حصن كوكب وعجلون وكانا من أعماله فخر بهما وحصن أردن بالكوكب وبني مكانه حصنا قرب عكا على جبل الطور وشحنه بالرجال والأقوات والله تعالى أعلم. وفاة الظاهر صاحب حلب وولاية ابنه العزيز لما توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام في جمادى الأخيرة سنة ثلاث عشرة وكان مرهف الحدّ ضابطا جماعة للأموال شديد الانتقام محسنا للقضاة وعهد بالملك لابنه الصغير محمد بن الظاهر وهو ابن ثلاث سنين وعدل عن الكبير لأنّ أمّه بنت عمه العادل ولقبه العزيز غياث الدين وجعل أتابكه وكافله وخادمه طغرلبك ولقبه شهاب الدين وكان خيرا صاحب إحسان ومعروف فأحسن كفالة الولد وعدل في سيرته وضبط الإيالة بجميل نظره والله أعلم. ولاية مسعود بن الكامل على اليمن ولما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع وتسعين وخمسمائة أساء إلى زوجته أمّ الناصر   [1] وفي نسخة اخرى: كنخسرو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 التي ملكته وضارّها وأعرض عنها واستبدّ بملكه وملأ الدنيا ظلما وأقام على ذلك ثلاث عشرة سنة ثم انتقض على العادل وأساء معاملته وكتب إليه بعض الأحيان أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب العادل إلى ابنه الكامل أن يبعث العساكر إلى اليمن مع وال من قبله فبعث ابنه المسعود يوسف واسمه بالتركي أقسنس في العساكر سنة اثنتي عشرة وستمائة فملك اليمن وقبض على سليمان شاه وبعث به معتقلا إلى مصر فلم يزل بها إلى أن استشهد في حروب دمياط مع الإفرنج أعوام تسع وأربعين وطالت أيام مسعود باليمن وحج سنة تسع عشرة وقدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب إليه أبوه الكامل برئت من العادل يا أخس إن لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه فاستعتب إلى أبيه وأعتبه ثم غلب سنة ست وعشرين على مكة من يد الحسن بن قتادة سيد بني إدريس بن مطاعن من بني حسن وولّى عليها وعاد إلى اليمن فهلك بقية السنة وغلب على أمر اليمن بعده علي بن رسول أستاذ داره ونصب للملك ابنه الأشرف موسى وكفله ثم هلك موسى واستبدّ ابن رسول باليمن وأورثه بنيه فكانت لهم دولة اتصلت لهذا العهد كما نذكره في أخبارها أن شاء الله تعالى. وصول الإفرنج من وراء البحر إلى سواحل الشام ومسيرهم إلى دمياط وحصارها واستيلاؤهم عليها كان صاحب رومة أعظم ملوك الإفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي وكانوا كلهم يدينون بطاعته وبلغه اختلاف أموال الإفرنج بساحل الشام وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من إيالته وتقدّم إلى ملوك الإفرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا العساكر فامتثلوا أمره وتوافت الإمداد إلى عكا من سواحل الشام سنة أربع عشرة وسار العادل من مصر إلى الرملة وبرز الإفرنج من عكا ليصدّوه فسار إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد ويدافعهم عنها فسبقوه ونزل هو على بيسان من الأردن وزحف الإفرنج لحربه في شعبان من السنة وكان في خف من العساكر فخام عن لقائهم ورجع إلى دمشق ونزل مرج الصفر واستدعى العساكر ليجمعها وانتهب الفرنج مخلفه في بيسان واكتسحوا ما بينها وبين بانياس ونازلوا بانياس ثلاثا ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الأعمال وامتلأت أيديهم من نهبها وسباياها ثم ساروا إلى صور ونهبوا صيدا والشقيف على فرسخين من بانياس وعادوا إلى عكا بعد عيد الفطر ثم حاصروا حصن الطور على جبل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 قريب من عكا كان العادل اختطها فحاصروها سبعة عشر يوما وقتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها وبعث العادل ابنه المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الإفرنج ثم سار الإفرنج من عكا في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها في صفر والنيل بينهم وبينها وكان على النيل برج حصين تمرّ منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمة تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر فلما نزل الإفرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سورا بينهم وبين الخندق وشرعوا في حصار دمياط واستكثروا من آلات الحصار وبعث العادل إلى ابنه الكامل بمصر أن يخرج في العساكر ويقف قبالتهم ففعل وخرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل قريبا من دمياط بالعادلية وألحّ الإفرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر حتى ملكوه ووجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط فبنى الكامل عوض السلاسل جسرا عظيما يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى قطعوه فأمر الكامل بمراكب مملوءة بالحجارة وخرقوها وغرّقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل فعدل الإفرنج إلى خليج الأزرق وكان النيل يجري فيه قديما فحفروه فوق الجسر وأجروا فيه الماء إلى البحر وأصعدوا مراكبهم إلى [1] قبالة معسكر المسلمين ليتمكنوا من قتالهم لأنّ دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا معهم وهم في مراكبهم فلم يظفروا والميرة والإمداد متصلة إلى دمياط والنيل حاجز بينهم وبين الإفرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق ثم بلغ الخبر بموت العادل فاختلف العسكر وسعى مقدم الأمراء عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري في خلع الكامل وولاية أخيه الأصغر الفائز ونمى الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى أشمون طناح وتفقده المسلمون من الغد فأجفلوا ولحقوا بالكامل وخلفوا سوادهم بما فيه فاستولى عليه الإفرنج وعبروا النيل إلى البرّ المتصل بدمياط وجالوا بينها وبين أرض مصر وفسدت السابلة بالأعراب وانقطعت الميرة عن دمياط واشتدّ الإفرنج في قتالها وهي في قلة من الحامية لإجفال المسلمين عنها بغتة ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الإفرنج فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة وبنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروه ورجعوا إلى عمارة دمياط وتحصينها وأقام الكامل قريبا منهم لحماية البلاد وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط والله تعالى أعلم.   [1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 324: واصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة على أرض الجيزة أيضا مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 وفاة العادل واقتسام الملك بين بنيه قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاءوا من وراء البحر إلى سواحل الشام سنة أربع عشرة وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان وأنه عاد إلى مرج الصفر قريبا من دمشق فأقام به فلما سار الإفرنج إلى دمياط انتقل هو إلى خانقين فأقام بها ثم مرض وتوفي سابع جمادى الأخيرة سنة خمس عشرة وستمائة لثلاث وعشرين سنة من ملكه دمشق وخمس وسبعين من عمره وكان ابنه المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق وقام بملكها واستأثر بمخلفه من المال والسلاح وكان لا يعبر عنه يقال كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار وكان ملكا حليما صبورا مسدّدا صاحب إفادة وخديعة منجمة في أحواله وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل ودمشق والقدس وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة غير الرها ونصيبين وميافارقين للأشرف موسى والرها وميافارقين لشهاب الدين غازي وقلعة جعبر للخضر أرسلان شاه فلما توفي استقل كل منهم بعمله وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب عسكره وسعى المشطوب كما تقدّم في ولاية أخيه الفائز ووصل الخبر بذلك إلى أخيه المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر وأخرج المشطوب إلى الشام فلحق بأخيهما الأشرف وصار في جملته واستقام للكامل ملكه بمصر ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة وخرب أسواره حذرا عليه من الإفرنج وملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه وأقام الكامل قبالتهم والله تعالى ينصر من يشا من عباده. وفاة المنصوب صاحب حماة وولاية ابنه الناصر قد تقدّم لنا أنّ صلاح الدين كان قد أقطع تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه إياها صلاح الدين ثم سار إلى بلاد أرمينية وقصد بكتمر صاحب خلاط وحاصرها ثم انتقل إلى حصار ملازكرد وهلك عليها تلك السنة وتولى ابنه ناصر الدين محمد ويلقب المنصور على أعماله ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة وأقطعها أخاه العادل وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عمّ أبيه صلاح الدين والعادل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 وكان ابنه وليّ عهده المظفر عند العادل بمصر وابنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره لملازكرد فاستدعاه أهل دولته بحماة واشترط المعظم عليه ما لا يحمله وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر وجاءه أخوه وليّ العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم وكاتبهم واستمالهم فلم يجيبوه ورجع إلى مصر والله تعالى أعلم. مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وانهزامه ودخولها في طاعة الأشرف قد كنا قدّمنا وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث عشرة وولاية ابنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر وأنّ شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل وعف عن أموال الرعية وردّ السعاية فيهم بعضهم على بعض وكان بحلب رجلان من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس ولقي الناس منهما شدّة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشرّ وردّ عليهما السعاية فكسدت سوقهما وتناولهما الناس بالألسنة والوعيد فلحقا ببلاد الروم وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها ثم رأى أنّ ذلك لا يتمّ إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه وكان الأفضل بن صلاح الدين بسميساط وقد دخل في طاعة كيكاوس غضبا من أخيه الظاهر وعمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس وطلبه في المسير على أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل والخطبة والسكة لكيكاوس ثم يقصدون بلاد الأشرف بالجزيرة حران والرها وما إليهما على هذا الحكم وتحالفوا على ذلك وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل ثم قلعة تل باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم الباروقي بعد أن كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الأفضل وأهل البلدان بفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيما بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر وسار إليهم سنة خمس عشرة ومعه [1] وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب ونزل بظاهر حلب   [1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 349: وسار إليهم في عساكره التي عنده وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم، وأحضر إليه العرب من طيِّئ وغيرهم ونزل بظاهر حلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وتوّجه كيكاوس والأفضل من تل باشر إلى منبج وسار الأشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده وسار الأشرف فملك رعبان وتل باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار وأحرقهم عليهم فهلكوا وسلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب واعتزم على إتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه الخبر بوقاة أبيه العادل فرجع انتهى والله تعالى أعلم. دخول الموصل في طاعة الأشرف وملكه سنجار قد ذكرنا في دولة بني زنكي أنّ القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة وولي ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته وكان أخوه عماد الدين زنكي في قلعة الصغد والسوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك وأنه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه وملك العماديّة وظاهره مظفر الدين كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن العادل والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته فأرسل إليه بالطاعة وكان على حلب مدافعا لكيكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الأشرف بالقبول ووعده النصر على أعدائه وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع من نكث العهد في اليمين التي كانت بينهم جميعا ويأمره بإعادة عماد الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل والا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد يجهز إلى الأشرف عسكرا إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه ولحق بإربل عند المظفر وجاءت الرسل من الخليفة الناصر والملك الأشرف فأصلحوا بينهما وتحالفا ثم وثب عماد الدين زنكي إلى قلعة كواشى فملكها وبعث لؤلؤ إلى الأشرف وهو على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران واستمال مظفر الدين ملوك الأطراف وحملهم على طاعة كيكاوس والخطبة له وكان عدوّ الأشرف ومنازعا له في منبج كما نذكره وبعث أيضا إلى الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي المشطوب صاحب الفعلة مع الكامل على دمياط وعز الدين محمد بن نور الدين الحميدي وفارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف من العبور إلى الموصل ثم استمال الأشرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 صاحب كيفا وآمد وأعطاه مدينة جانين [1] وجبل الجودي ووعده بدارا إذا ملكها ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع وسار كل ملك إلى عمله وسار ابن المشطوب إلى إربل ومرّ بنصيبين فقاتله عساكرها وهزموه وافترق جمعه ومضى منهزما واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكرا فجاءوا به أسيرا وكان في طاعة الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار ثم سار ثانيا للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكرا بتل أعفر من أعمال سنجار فلما مرّ بهم قاتلوه وصعد إلى تل أعفر منهزما وجاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهرا أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة وحبس ابن المشطوب بالموصل ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر من سنة سبعة عشر ولما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران محاصرا لماردين ثم صالحه على أن يردّ عليه رأس عين وكان الأشرف أقطعه له وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يعطي صاحب كيفا وآمد قلعة المور من بلده ورجع الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه وساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد للأشرف وتسليم سنجار له والاعتياض عنها بالرقة وبعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك وسلم إليه الرقة وسلم سنجار في مستهلّ جمادى الاولى سنة سبعة عشر وفارقها عمر فروخ شاه وإخوته بأهليهم وأموالهم وسار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الأولى من السنة وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وردّ ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العماديّة وطال الحديث في ذلك ورحل الأشرف يريد إربل ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره من بطانته وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح وفسح لهم في تسليم القلاع إلى مدّة ضربوها وسار عماد الدين مع الأشرف حتى يتمّ تسليم الباقي ورحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان وبعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم وانقضى الأجل واستمال عماد الدين زنكي شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه وردّ عليه قلعة العقروسوس وسلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار والله تعالى أعلم.   [1] هي جنين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 ارتجاع دمياط من يد الإفرنج ولما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصينها ورجع الكامل إلى مصر وعسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم وبنى المنصورة بعد المنزلة وأقام كذلك سنين وبلغ الإفرنج وراء البحر فتحها واستيلاء إخوانهم عليها فلهجوا بذلك وتوالت امدادهم في كل وقت إليها والكامل مقيم بمكانه وتواترت الأخبار بظهور التتر ووصولهم إلى أذربيجان وأران وأصبح المسلمون بمصر والشام على تخوّف من سائر جهاتهم واستنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق وأخيه الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة ثم تقدّم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر وأعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق وسار منها إلى مصر ومعه عساكر حلب والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والأمجد صاحب بعلبكّ فوجدوا الكامل على بحر أشمون وقد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم ونزلوا قبالته بعدوة النيل وهم يرمون على معسكره بالمجانيق والناس قد أشفقوا من الإفرنج على الديار المصرية فسار الكامل وبقي أخوه الأشرف بمصر وجاء المعظم بعد الأشرف وقصد دمياط يسابق الإفرنج ونزل الكامل والأشرف وظفرت شواني المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها ثم تردّدت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا إعادة الكرك والشويك وزيادة ثلاثمائة ألف دينار لرمّ أسوار القدس التي خرّبها المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم وافتقد الإفرنج الأقوات لأنهم لم يحملوها من دمياط ظنا بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها فركبها الماء ولم يبق لهم الا مسلك ضيق ونصب الكامل الجسور عند اشمون فعبرت العساكر عليها وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الإفرنج وبين دمياط ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات فخرجت عليها شواني المسلمين وهي في تلك الحال فغنموها بما فيها واشتدّ الحال عليهم في معسكرهم وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا الاستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل والأشرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 على تسليم دمياط من غير عوض وبينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مرّ فازدادوا وهنا وخذلانا وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة وأعطوا عشرين ملكا منهم رهنا عليها وأرسلوا الأقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين وكان يوما مشهودا ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم ودخلها المسلمون وقد حصنها الإفرنج فأصبحت من أمنع حصون الإسلام والله تعالى أعلم. وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط وولاية أخيه الظاهر غازي عليها قد تقدّم لنا أنّ الأوحد نجم الدين بن العادل ملك ميافارقين وبعدها خلاط وأرمينية سنة ثلاث وستمائة ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الأعمال لأخيه الأشرف ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازي سنة عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفي العادل واستقلّ ولده الأشرف بالبلاد الشرقية عقد لأخيه غازي على خلاط وميافارقين مضافا إلى ولايته من أبيه العادل وهو سروج والرها وجعله وليّ عهده لأنه كان عاقرا لا يولد له وأقام على ذلك إلى أن انتقض على الأشرف عند ما حدثت الفتنة بين بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى. فتنة المعظم مع أخويه الكامل والأشرف وما دعت إليه من الأحوال كان بنو العادل الكامل والأشرف والمعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه وكان الأشرف والمعظم يرجعان إلى الكامل وفي طاعته ثم تغلب المعظم عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى سلمية والمعرّة من أعمالها فملكها وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير والإفراج عن البلد فامتثل وأضغن ذلك عليه وأقطع الكامل سلميّة لنزيله المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة وكشف المعظم قناعة في فتنة أخويه الكامل والأشرف وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما وكان جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 وعراق العجم وجاز إلى الهند ثم رجع سنة إحدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم وأذربيجان ونزل توريز وجاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه واستنجده على أخويه فأجابه ودعا المعظم الظاهر أخا الأشرف وعامله على خلاط والمظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم وانتقض الظاهر غازي على أخيه الأشرف في خلاط وأرمينية وأظهر عصيانه في ولايته التي بيده فسار إليه الأشرف سنة إحدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها وولّى عليها حسام الدين أبا علي الموصلي كان أصله من الموصل واستخدم للأشرف وترقى في خدمته الى أن ولاه خلاط وعفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي وأقرّه على ميافارقين وسار المظفر صاحب إربل ولؤلؤ صاحبها في طاعة الأشرف فحاصرها وامتنعت عليه ورجع عنها وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت عليه ورجع إلى دمشق ثم سار الأشرف إلى المعظم طالبا للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل وانطلق إلى بلده فاستمرّ على شأنه ثم زحف جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحاصرها مرّة بعد مرّة وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين وملك حصونها واضطرب الحال بينهم وخشي الكامل مغبة الأمر مع المعظم بمالأته لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج وكات بالامبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس وبلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه والله تعالى أعلم. وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية ابنه الناصر ثم استيلاء الأشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين وولي مكانه ابنه داود ولقب بالناصر وقام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه وجرى على سنن المعظم أوّلا في طاعة الكامل والخطبة له ثم انتقض سنة خمس وعشرين عند ما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشويك فامتنع وانتقض وسار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة وانتزع القدس ونابلس من أيديهم وولّى عليها من قبله واستنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق وخرج منها إلى نابلس ثم تقدّم منها إلى الكامل ليصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى انتزاع دمشق من الناصر له وأقطعه إياها فلم يجب الناصر الى ذلك وعاد الى دمشق فحاصره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 الأشرف ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ لأمر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك وزحف الكامل الى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الأشرف وخاف الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقلّ بالكرك والشويك والبلقاء [1] فسلموا له في ذلك وسار إليها واستولى الأشرف على دمشق ونزل للكامل عن أعماله وهي حران والرها وما إليهما وبمكانهما من حصار دمشق ووصل الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن وقد مرّ خبره والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر ولما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة وبها أخوه الناصر وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر وسار إليها فحاصرها ودسّ لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه ليلا فطرقها وتسوّرها وملكها وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه إياها وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه واستقل المظفر محمود بملك حماة وفوض أمور دولته إلى حسام الدين علي بن أبي عليّ الهدباني فقام بها ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب ولم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنة ثلاثين فهمّ الناصر بأن يملكها للإفرنج وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين انتهى والله أعلم. استيلاء الأشرف على بعلبكّ من يد الأمجد وإقطاعها لأخيه إسماعيل بن العادل كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخ شاه أخي تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبكّ وكانت بصرى لخضر ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الأشرف وعليها أخوه إسماعيل بن العادل فجهزه سنة ست وعشرين إلى بعلبكّ وحاصرها بها   [1] بياض بالأصل: وفي الكامل 12 ص 483: وبذل له تسليم دمشق على أن يبقى عليه الكرك وقلعة الشويك والغور ونابلس وملك الأعمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه إياه إسماعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتلته مواليه والله سبحانه وتعالى أعلم. فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف واستيلاؤه على خلاط قد كنا قدّمنا أنّ جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان وجاور أعمال بني أيوب وكان الأشرف قد ولّى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة اثنتين وعشرين حسام الدين أبا علي الموصلي ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدّمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرّتين ورجع عنها فسار حسام الدين إلى بلده وملك بعض حصونه وداخل زوجته التي كانت زوجة أزبك بن البهلوان وكانت مقيمة بخوي وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من التحكم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط واستدعته هي وأهل خوي ليملكوه البلاد فسار وملك خوي وما فيها من الحصون ومدينة قرند وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه زوجة جلال الدين وهي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك ثم ارتاب الأشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين أبيك فقبض على حسام الدين وكان عدوّا له وقتله غيلة وهرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوّال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها المجانيق وقطع عنها الميرة مدّة ثمانية أشهر ثم ألحّ عليها بالقتال وملكها عنوة آخر جمادى الاولى من سنة سبع وعشرين وامتنع أيبك وحاميتها بالقلعة واستماتوا واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم يسمع بمثله ثم تغلب على القلعة وأسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده والله تعالى أعلم. مسير الكامل في إنجاد الأشرف وهزيمة جلال الدين أمام الأشرف ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه وولّى على مصر ابنه العادل ولقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 المعظم وصاحب حماة المظفر بن المنصور وسائر بني أيوب وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد بن الصالح بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق وكان صلاح الدين أقطعه إياها عند ما ملكها من ابن نعشان فلما نزل إليه اعتقله وملك آمد ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الاعتقال ولحق بالتتر ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنها الأشرف عوضا عن دمشق وهي حران والرها وما إليهما ولما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح نجم الدين أيوب وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم فاغتمّ لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه وبين صاحب أرزن من العداوة والقرابة وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والأشرف بحران يستنجدهما ويستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط وسار جلال الدين للقائهما والتقوا بأعمال أرزنكان وتقدّم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين عمر بن علي الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين وانهزم إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق بأذربيجان ووقف الأشرف على خلاط وهي خاوية وكان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيرا إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن وسلمها له وما يتبعها من القلاع ثم تردّدت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده وتحالفوا وعاد الأشرف إلى سنجار وسار أخوه غازي صاحب ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر وكان حاضرا مع الأشرف في هذه الحروب وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازي وحاصره وملك منه أرزن صلحا وأعطاه عنها مدينة جاني من ديار بكر وكان اسمه حسام الدين وكان من بيت عريق في الملك يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه والله تعالى أعلم. استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته وولاية ابنه الناصر بعده كان سابق الدين عثمان ابن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي واعتقله ابنه الصالح إسماعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك وسار ببنيه إلى دمشق فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه إلى أن استقرّت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 وستمائة وملكها من يده ثم هلك سنة أربع وثلاثين وملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدّته لأبيه صفية خاتون بنت العادل واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني وعز الدين المجلي وإقبال الخاتوني وكلهم في تصريفها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على خلاط كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومدّيده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين شاه كما قدّمناه ونازعه الأشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب ثم استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه وملك خرت برت وكان لبني أرتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيقباد في أتباعهم ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولّى عليها من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم. وفاة الأشرف بن العادل واستيلاء الكامل على ممالكه كان الأشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل ونقض طاعته ومالأه على ذلك أهل حلب وكنجسرو صاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشام من قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل وسار إليه بمصر فتلقاه بالمبرّة والتكرمة ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة خمس وثلاثين وعهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسماعيل صاحب بصرى فسار إليها وملكها وبقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل وسار الكامل إلى دمشق فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحا من الصالح وعوّضه عنها بعلبكّ واستولى على سائر أعمال الأشرف ودخل سائر بني أيوب في طاعته والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 وفاة الكامل وولاية ابنه العادل بمصر واستيلاء ابنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق ثم توفي الكامل بن العادل صاحب دمشق ومصر والجزيرة سنة خمس وثلاثين بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الأشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده المظفر إلى حماة والناصر إلى الكرك وبويع بمصر ابنه العادل أبو بكر فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائبا عنه وسار الناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس وهزمه وتمكن في ملك دمشق وخلع طاعة العادل بن الكامل وراسل الصالح أيوب في أن يملكه دمشق وينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التي ولاه أبوه عليها فسار الصالح لذلك سنة ست وثلاثين وملك دمشق وسار يونس إلى البلاد الشرقية فاستولى عليها ولم تزل بيده إلى أن زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل وغلبه عليها واستقرّت دمشق في يد الصالح ولما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل إلى الإفرنج بعكا وباعوه من الصالح إسماعيل صاحب دمشق فاعتقله وقتله انتهى والله أعلم. أخبار الخوارزمية ثم زحف التتر إلى أذربيجان واستولوا على جلال الدين وقتلوه سنة ثمان وعشرين وإنفض أصحابه وذهبوا في كل ناحية وسار جمهورهم إلى بلاد الروم فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها حتى إذا مات وملك ابنه كنجسرو ارتاب بهم وقبض على أمرائهم وانفض الباقون عنه وعاثوا في الجهات فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار وما إليها أباه الكامل صاحب مصر في استخدامهم ليحسم عن البلاد ضررهم فاجتمعوا عنده وأفاض فيهم الأرزاق ولما توفي الكامل سنة خمس وثلاثين انتقضوا عن الصلح وخرجوا فاكتسحوا النواحي وسار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية فاستمالهم وأقطعهم حران والرها ولقي بهم لؤلؤا فهزمه وغنم معسكره والله تعالى أعلم. مسير الصالح إلى مصر واعتقال الناصر له بالكرك لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة وبلغهم استيلاء أخيه الصالح على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 دمشق فاستدعوه ليملكوه فبعث عن عمه الصالح إسماعيل من بعلبكّ ليسير معه فاعتذر عن الوصول وسار الصالح أيوب وولى على دمشق ابنه المغيث فتح الدين عمر ولما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه الصالح إسماعيل فملكها ومعه شيركوه صاحب حمص وقبض على المغيث فتح الدين بن الصالح أيوب وبلغ الخبر إليه وهو بنابلس فانقضت عنه العساكر ودخل نابلس وجاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه واعتقله وبعث فيه أخوه العادل فامتنع من تسليمه إليه ثم قصد داود القدس فملكها من يد الإفرنج وخرّب القلعة والله تعالى وليّ التوفيق. وفاة شيركوه صاحب مصر وولاية ابنه إبراهيم المنصور ثم توفي المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست وثلاثين وكانت ولايته أوّل المائة السابعة وولي من بعده ابنه إبراهيم ويلقب بالمنصور والله أعلم. خلع العادل واعتقاله واستيلاء أخيه الصالح أيوب على مصر ولما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من الاعتقال فاجتمعت إليه مواليه واتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه العادل فكاتبوا الصالح واستدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود وانتهى إلى غزة وبرز العادل إلى بلبيس وكتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على أخيه أيوب فسار من دمشق وانتهى إلى الغور ثم وثب بالعادل في معسكره مواليه ومقدّمهم أيبك الأسمر وقبضوا عليه وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء ومعه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين واستقر في ملكه وارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك واستوحش من الأمراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم وفيهم أيبك الأسمر وذلك سنة ثمان وثلاثين وحبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين ثم اختط قلعة بين سعي النيل إزاء المقياس واتخذها مسكنا وأنزل بها حامية من مواليه فكانوا يعرفون بالبحرية آخر أيامهم انتهى والله أعلم. فتنة الخوارزمية ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية وعبروا الفرات وقصدوا حلب فبرزت إليهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 عساكرها مع المعظم توران شاه بن صلاح الدين فهزموه وأسروه وقتلوا الصالح بن الأفضل صاحب سميساط وكان في جملته وملكوا منبج عنوة ورجعوا ثم ساروا من حران وعبروا من ناحية الرقة وعاثوا في البلاد وجمع أهل حلب العساكر وأمدّهم الصالح إسماعيل من دمشق بعسكر مع المنصور إبراهيم صاحب حمص وقصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى حران ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا واستولى عسكر حلب على حران والرها وسروج والرقة ورأس عين وما إليها وخلص المعظم توران شاه فبعث به لؤلؤ صاحب الموصل إلى عسكر حلب ثم سار عسكر حلب إلى آمد وحاصروا المعظم توران شاه وغلبوه على آمد وأقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر واستدعى هو لملكها فسار لذلك وولي ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن غلب التتر على بلاد الشام ثم سار الخوارزمية سنة أربعين مع المظفر غازي صاحب ميافارقين من أقتال صاحب حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم والله سبحانه وتعالى أعلم. أخبار حلب قد كان تقدّم لنا ولاية الظاهر غازي على حلب بعد وفاة أبيه ثم توفي سنة أربع وثلاثين ونصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدّته أم العزيز صفية خاتون بنت العادل ولؤلؤ الأرمني وإقبال الخاتوني وعز الدين بن مجلي قائمون بالدولة في تصريفها وما زالت تجهز العساكر لدفاع الخوارزمية وتفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين واستقل الناصر بتدبير ملكه وصرف النظر في أموره لجمال الدين إقبال الخاتوني والله أعلم. فتنة الصالح أيوب مع عمه الصالح إسماعيل على دمشق واستيلاء أيوب آخرا عليها قد كان تقدّم لنا أنّ الصالح إسماعيل بن العادل خالف الصالح أيوب على دمشق عند مسيره إلى مصر فملك دمشق سنة ست وثلاثين وكان بعد ذلك اعتقال الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع وثلاثين وبقيت الفتنة متصلة بينهما وطلب الصالح إسماعيل صاحب دمشق من الإفرنج المظاهرة على أيوب صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف وصفد فأمضى ذلك ونكره مشيخة العلماء بعصره وخرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 الشافعيّ ولحق بمصر فولاه الصالح خطة القضاء بها ثم خرج بعده جمال الدين ابن الحاجب المالكي إلى الكرك ولحق بالإسكندرية فمات بها ثم تداعى ملوك الشام لفتنة الصالح أيوب واتفق عليها إسماعيل الصالح صاحب دمشق والناصر يوسف صاحب حلب وجدّته صفية خاتون وإبراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص وخالفهم المظفر صاحب حماة وجنح إلى ولاية نجم الدين أيوب وأقام حالهم في الفتنة على ذلك ثم جنحوا إلى الصلح على أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب الّذي اعتقله بدمشق فلم يجب إلى ذلك واستجدّت الفتنة وسار الناصر داود صاحب الكرك مع إسماعيل الصالح صاحب دمشق واستظهروا بالإفرنج وأعطاهم إسماعيل القدس على ذلك واستنجد بالخوارزمية أيضا فأجابوه واجتمعوا بغزة وبعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس وكانت له ذمّة باعتقاله معه فتلاقوا مع الخوارزمية وجاءت عساكر مصر مع المنصور إبراهيم بن شيركوه ولاقوا الإفرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر والخوارزمية واتبعوهم إلى دمشق وحاصروا بها الصالح إسماعيل إلى أن جهده الحصار وسأل في الصلح على أن يعوّض عن دمشق ببعلبكّ وبصرى والسواد فأجابه أيوب إلى ذلك وخرج إسماعيل من دمشق إلى بعلبكّ سنة ثمان وأربعين وبعث نجم الدين إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني وكان معتقلا عند إسماعيل بدمشق فشرط نجم الدين إطلاقه في الصلح الأوّل فأطلقه وبعث إليه بالنيابة عنه بدمشق فقام بها وانصرف إبراهيم المنصور إلى حمص وانتزع صاحب حماة منه سلمية فملكها واشتط الخوارزمية على الهدباني في دمشق في الولايات والإقطاعات وامتعضوا لذلك فسار بهم الصالح إسماعيل إلى دمشق موصلا الكرة ومعه الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام وبعث نجم الدين من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في عساكره ومعه إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق سنة أربع وأربعين وقتل مقدمهم حسام الدين بركت خان وذهب بقيتهم مع مقدّمهم الآخر كشلوخان فلحقوا بالتتر واندرجوا في جملتهم وذهب أثرهم من الشام واستجار إسماعيل الصالح وكان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من نجم الدين أيوب وسار حسام الدين الهدباني بعساكر دمشق الى بعلبكّ وتسلمها بالأمان وبعث بأولاد إسماعيل ووزيره ناصر الدين يغمور الى نجم الدين أيوب فاعتقلهم بمصر وسارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب الى الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا وقرقيسيا وعاد عسكره إلى حلب والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 مسير الصالح أيوب إلى دمشق أوّلا وثانيا وحصار حمص وما كان مع ذلك من الأحداث ثم بعث الصالح عن حسام الدين الهدباني من دمشق وولى مكانه عليها جمال الدين بن مطروح ثم سار إلى دمشق سنة خمس وأربعين واستخلف الهدباني على مصر ولما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان وطبرية فحاصرهما مدّة وفتحها من يد الإفرنج ووفد على الصالح بدمشق المنصور صاحب حماة وكان أبوه المظفر توفي سنة ثلاث وأربعين وولّى المنصور ابنه هذا واسمه محمد ووفد أيضا الأشرف موسى صاحب حمص وقد كان أبوه إبراهيم المنصور توفي سنة أربع وأربعين قبلها بدمشق وهو ذاهب إلى مصر وافدا على الصالح أيوب وأقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى ولقب الأشرف وجاءت عساكر حلب سنة ست وأربعين مع لؤلؤ الأرمني وحصروا مصر شهرين وملكوها من يد موسى الأشرف وأعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب مضافة إلى الرحبة وتدمر وكانتا بيده مع حمص وغضب لذلك الصالح فسار من مصر إلى دمشق وجهز العساكر إلى حصار حمص مع حسام الدين الهدباني وفخر الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدّة وجاء رسول الخليفة المستعصم إلى الصالح أيوب شافعا فأفرج العساكر عنها وولّى على دمشق جمال الدين يغمور وعزل ابن مطروح والله تعالى أعلم. استيلاء الإفرنج على دمياط كانت إفرنسة أمّة عظيمة من الإفرنج والظاهر أنهم أصل الإفرنج وأنّ إفرنسة هي إفرنجة انقلبت السيز بها جميعا عند ما عربتها العرب وكان ملكها من أعظم ملوكهم لذلك العصر ويسمونه ريّ الإفرنس [1] ومعنى ريّ لغتهم ملك إفرنس فاعتزم هذا الملك على سواحل الشام وسار لذلك كما سار من قبله من ملوكهم وكان ملكه قد استفحل فركب البحر إلى قبرس في خمسين ألف مقاتل وشتى بها ثم عبر سنة سبع وأربعين إلى دمياط وبها بنو كنانة أنزلهم الصالح بها حامية فلما رأوا ما لا قبل لهم به أجفلوا عنها فملكها ريّ إفرنس وبلغ الخبر إلى الصالح وهو بدمشق وعساكره نازلة بحمص فكرّ راجعا إلى مصر وقدّم فخر الدين بن   [1] كذا بالأصل: وأظنه يقصد بذلك ملك الفرنسيس واسمه بالفرنسية روادي فرانس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 الشيخ أتابك عساكره ووصل بعده فنزل المنصورة وقد أصابه بالطريق وعك واشتدّ عليه والله تعالى أعلم. استيلاء الصالح على الكرك كان بين الصالح أيوب وبين الناصر داود ابن عمه المعظم من العداوة ما تقدّم وقد ذكرنا اعتقال الناصر له بالكرك فلما ملك الصالح دمشق بعث العساكر مع أتابكه فخر الدين يوسف ابن الشيخ لحصار الكرك وكان أخوه العادل اعتقله وأطلقه الصالح وألزمه بيته ثم جهزه لحصار الكرك فسار إليها سنة أربع وأربعين وحاصرها وملك سائر أعمالها وخرّب نواحيها وسار الناصر من الكرك إلى الناصر يوسف صاحب حلب مستجيرا به بعد أن بعث بذخيرته إلى المستعصم وكتب له خطه بوصولها وكان قد استخلف على الكرك عند ما سار إلى حلب ابنه الأصغر عيسى ولقبه المعظم فغضب أخواه الأكبران الأمجد حسن والظاهر شادي فقبضا على أخيهما عيسى ووفدا على الصالح سنة ست وأربعين وهو بالمنصورة قبالة الإفرنج فملك الكرك والشويك منهما وولى عليهما بدرا الصواي وأقطعهما بالديار المصرية والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة الصالح أيوب صاحب مصر والشام وسيد ملوك الترك بمصر وولاية ابنه توران شاه وهزيمة الإفرنج وأسر ملكهم ثم توفي الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل سنة سبع وأربعين بمكانه من المنصورة قبالة الإفرنج وخشي أهل الدولة من الإفرنج فكتموا موته وقامت أمّ ولده شجرة الدرّ بالأمر وجمعت الأمراء وسيروا بالخبر إلى حسام الدين الهدباني بمصر فجمع الأمراء وقوّى جاشهم واستحلفهم وأرسل الأتابك فخر الدين بن الشيخ بالخبر إلى المعظم توران شاه بن الصالح واستدعاه من مكان إمارته بحصن كيفا ثم انتشر خبر الوفاة وبلغ الإفرنج فشرهوا إلى قتال المسلمين ودلفوا إلى المعسكر فانكشف المسلمون وقتلوا الاتابك فخر الدين ثم أتاح الله الكرّة للمسلمين وانهزم الإفرنج ووصل المعظم توران شاه من مكانه بحصن كيفا لثلاثة أشهر أو تزيد فبايعه المسلمون واجتمعوا عليه واشتدّوا في قتال الإفرنج وغلبت أساطيلهم أساطيل العدوّ وسأل الإفرنج في الإفراج عن دمياط على أن يعاضوا بالقدس فلم يجبهم المسلمون إلى ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 وسارت سرايا المسلمين من حولهم وفيما بين معسكرهم وبين دمياط فرحلوا راجعين إليها وأتبعهم المسلمون فأدركهم الدهش وانهزموا وأسر ملكهم ريّ إفرنس وهو المعروف بالفرنسيس وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفا واعتقل الفرنسيس بالدار المعروفة بفخر الدين بن لقمان ووكل بها الخادم صبيح المعظمي ثم رحل المعظم بعساكر المسلمين راجعا إلى مصر والله تعالى أعلم. مقتل المعظم توران شاه وولاية شجرة الدرّ وفداء الفرنسيس بدمياط ولما بويع المعظم توران شاه وكانت له بطانة من المماليك جاء بهم من كيفا فتسلطوا على موالي أبيه وتقسموهم بين النكبة والإهمال وكان للصالح جماعة من الموالي وهم البحرية الذين كان ينزلهم بالدار التي بناها إزاء المقياس وكانوا بطانته وخالصته وكان كبيرهم بيبرس وهو الّذي كان الصالح بعثه بالعساكر لقتال الخوارزمية عند ما زحفوا مع عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق وقد مرّ ذكر ذلك فصارت طاغيته معهم استمالهم الصالح فصاروا معه وزحفوا مع عساكره إلى عساكر دمشق والإفرنج فهزموهم وحاصروا دمشق وملكوها بدعوة الصالح كما مرّ واستوحش بيبرس حتى بعث إليه الصالح بالأمان سنة أربع وأربعين ولحقه بمصر فحبسه على ما كان منه ثم أطلقه وكان من خواص الصالح أيضا قلاون الصالحي كان من موالي علاء الدين قراسنقر مملوك العادل وتوفي سنة خمس وأربعين وورثه الصالح بحكم الولاء ومنهم أقطاي الجامدار وأيبك التركماني وغيرهم فأنفوا من استعلاء بطانة المعظم توران شاه عليهم وتحكمهم فيهم فاعصوصبوا واعتزموا على الفتك بالمعظم ورحل من المنصورة بعد هزيمة الإفرنج راجعا إلى مصر فلما قربت له الحراقة عند البرج ليركب البحر كبسوه بمجلسه وتناوله بيبرس بالسيف فهرب إلى البرج فاضرموه نارا فهرب إلى البحر فرموه بالسهام فألقى نفسه في الماء وهلك بين السيف والماء لشهرين من وصوله وملكه ثم اجتمع هؤلاء الأمراء المتولون قتل توران شاه ونصبوا للملك أم خليل شجرة الدر زوجة الصالح وأم ولده خليل المتوفى في حياته وبه كانت تلقب وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها ووضعت علامتها على المراسم وكان نص علامتها أمّ خليل وقدّم أتابك على العساكر عز الدين الجاشنكير أيبك التركماني فلما استقرت الدولة طلبهم الفرنسيس في الفداء على تسليم دمياط للمسلمين فاستولوا عليها سنة ثمان وأربعين وركب الفرنسيس البحر إلى عكا وعظم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 الفتح وأنشد الشعراء في ذلك وتساجلوا ولجمال الدين بن مطروح نائب دمشق أبيات في الواقعة يتداولها الناس لهذا العصر والله تعالى ولي التوفيق وهي. قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قول فصيح آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب أنّ الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق بهم في ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم ... بسوء تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها ... لعلنا من شركم نستريح إن كان باباكم بذا راضيا ... فرب غش قد أتى من نصيح أوصيكم خيرا به أنه ... لطف من الله إليكم أتيح لو كان ذا رشد على زعمكم ... ما كان يستحسن هذا القبيح فقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد قبيح دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح والطواشي في لغة أهل المشرق هو الخصي ويسمونه الخادم أيضا والله أعلم. استيلاء الناصر صاحب حلب على دمشق وبيعة الترك بمصر لموسى الأشرف بن أطسز بن المسعود صاحب اليمن وتراجعهما ثم صلحهما ولما قتل المعظم توران شاه ونصب الأمراء بعده شجرة الدر زوجة الصالح امتعض لذلك أمراء بني أيوب بالشام وكان بدر الصوابي بالكرك والشويك ولاه الصالح عليهما وحبس عنده فتح الدين عمر بن أخيه العادل فاطلقه من محبسه وبايع له وقام بتدبير دولته جمال الدين بن يغمور بدمشق واجتمع مع الأمراء القصرية بها على استدعاء الناصر صاحب حلب وتمليكه فسار وملك دمشق واعتقل جماعة من موالي الصالح وبلغ الخبر إلى مصر فخلعوا شجرة الدر ونصبوا موسى الأشرف بن مسعود أخي الصالح بن الكامل وهو الّذي ملك أخوه أطسز واسمه يوسف باليمن بعد أبيهما مسعود وبايعوا له وأجلسوه على التخت وجعلوا أيبك أتابكه ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 انتقض الترك بغزة ونادوا بطاعة المغيث صاحب الكرك فنادى الترك بمصر بطاعة المستعصم وجدّدوا البيعة للأشرف وأتابكه ثم سار الناصر يوسف بعسكره من دمشق إلى مصر فجهز الأمراء العساكر إلى الشام مع أقطاي الجامدار كبير البحرية ويلقب فارس الدين فاجفلت عساكر الشام بين يديه ثم قبض الناصر يوسف صاحب دمشق على الناصر داود لشيء بلغه عنه وحبسه بحمص وبعث عن ملوك بني أيوب فجاءه موسى الأشرف صاحب حمص والرحبة وتدمر والصالح إسماعيل بن العادل من بعلبكّ والمعظم توران شاه وأخوه نصر الدين ابنا صلاح الدين والأمجد حسام الدين والظاهر شادي ابنا الناصر وداود صاحب الكرك وتقي الدين عباس بن العادل واجتمعوا بدمشق وبعث في مقدّمته مولاه لؤلؤ الأرمني وخرج أيبك التركماني في العساكر من مصر للقائهم وأفرج عن ولدي الصالح إسماعيل المعتقلين منذ أخذهم الهذباني من بعلبكّ ليتهم الناس أباهم ويستريبوا به والتقى الجمعان في العباسية فانكشفت عساكر مصر وسارت عساكر الشام في أتباعهم وثبت أيبك وهرب إليه جماعة من عساكر الناصر ثم صدق أيبك الحملة على الناصر فتفرقت عساكره وسار منهزما وجيء لأيبك بلؤلؤ الأرمني أسيرا فقتله وأسر إسماعيل الصالح وموسى الأشرف وتوران شاه المعظم وأخوه ولحق المنهزمون من عسكر مصر بالبلد وشعر المتبعون لهم من عساكر الشام بهزيمة الناصر وراءهم فرجعوا ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة ثم قتل يغمور وزير الصالح إسماعيل المعتقل ببعلبكّ مع بنيه وقتل الصالح إسماعيل في محبسه ثم جهز الناصر العساكر من دمشق إلى غزة فتواقعوا مع فارس الدين أقطاي مقدّم عساكر مصر فهزموهم واستولوا عليها [1] وتردّدت الرسل بين الناصر وبين الأمراء بمصر واصطلحوا سنة خمسين وجعلوا التخم بينهم نهر الأردن ثم أطلق أيبك حسام الدين الهذباني فسار إلى دمشق وسار في خدمة الناصر وجاءت إلى الناصر شفاعة المستعصم في الناصر داود صاحب الكرك الّذي حبسه بحمص فأفرج عنه ولحق ببغداد ومعه ابناه الأمجد والظاهر فمنعه الخليفة من دخولها فطلب وديعته فلم يسعف بها وأقام في أحياء عرية ثم رجع إلى دمشق بشفاعة من المستعصم للناصر وسكن عنده والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.   [1] أي على غزة كما في تاريخ أخبار البشر لأبي الفداء ج 3 ص 185: في هذه السنة (حوادث سنة 648) بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام سار فارس الدين اقطاي بثلاثة آلاف فارس إلى غزة فاستولى عليها. ثم عاد إلى الديار المصرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 خلع الأشرف بن أطسز واستبداد أيبك وأمراء الترك بمصر قد تقدّم لنا آنفا بيعة أمراء التركمان بمصر للأشرف موسى بن يوسف أطسز بن الكامل وأنهم خطبوا له وأجلسوه على التخت بعد أن نصبوا للملك أيبك وكان طموحا إلى الاستبداد وكان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية يدافعه عن ذلك ويغض من عنانه منافسة وغيره فأرصد له أيبك ثلاثة من المماليك اغتالوه في بعض سكك القصر وقتلوه سنة اثنتين وخمسين وكانت جماعة البحرية ملتفة عليه فانفضوا ولحقوا بالناصر في دمشق واستبد أيبك بمصر. وخلع الأشرف وقطع الخطبة له فكان آخر أمراء بني أيوب بمصر وخطب أيبك لنفسه ثم تزوّج شجرة الدر أم خليل الملكة قبله فلما وصل البحرية إلى الناصر بدمشق أطمعوه في ملك مصر واستحثوه فتجهز وسار إلى غزة وبرز أيبك بعساكره إلى العباسية فنزل بها وانتقض عليه [1] فتوهموا بالثورة به فارتاب بهم ولحقوا بالناصر ثم تردّدت الرسل بين الناصر وأيبك فاصطلحوا على أن يكون التخم بينهم العريش وبعث الناصر إلى المستعصم مع وزيره كمال الدين بن العديم في طلب الخلعة وكان أيبك قد بعث بالهدية والطاعة إلى المستعصم فمطل المستعصم الناصر بالخلعة حتى بعثها إليه سنة خمس وخمسين ثم قتل المعز أيبك قتلته شجرة الدرّ غيلة في الحمام سنة خمس وخمسين غيرة من خطبته بنت لؤلؤ صاحب الموصل فنصبوا مكانه ابنه عليا ولقبوه المنصور وثاروا به من شجرة الدرّ كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى. مسير المغيث بن العادل صاحب الكرك مع البحرية إلى مصر وانهزامهم كان البحرية منذ لحقوا بالناصر بعد مقتل أقطاي الجامدار مقيمين عنده ثم ارتاب بهم وطردهم آخر سنة خمس وخمسين فلحقوا بغزة وكاتبوا المغيث فتح الدين عمر بن العادل بالكرك وقد كنا ذكرنا أن بدر الصوافي أخرجه من محبسه بالكرك بعده مقتل توران شاه بمصر وولاه الملك وقام بتدبير دولته وبعث إليه الآن بيبرس البند قداري مقدّم البحرية من غزة   [1] بياض بالأصل وفي تاريخ أبي الفداء ج 3 ص 190 وفيها (حوادث سنة 653) عزمت العزيزية المقيمون مع المعز أيبك على القبض عليه وعلم بذلك، واستعد لهم فهربوا من مخيمهم على العباسية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 يدعوه إلى الملك وبلغ الخبر إلى الناصر بدمشق فجهز العساكر إلى غزة فقاتلوهم وانهزموا إلى الكرك فتلقاهم المغيث وقسم فيهم الأموال واستحثوه لملك مصر فسار معهم وبرزت عساكر مصر لقتالهم مع قطز مولى أيبك المعز ومواليه فالتقى الفريقان بالعباسية فانهزم المغيث والبحرية إلى الكرك ورجعت العساكر إلى مصر وفي خلال ذلك أخرج الناصر داود بن المعظم من دمشق حاجا ونادى في الموسم بتوسله إلى المستعصم في وديعته وانصرف مع الحاج إلى العراق فأكرهه المستعصم على براءته من وديعته فكتب وأشهد ولحق بالبرية وبعث إلى الناصر يوسف يستعطفه فأذن له وسكن دمشق ثم رجع مع رسول المستعصم الّذي جاء معه إلى الناصر بالخلعة والتقليد فأقام بقرقيسياء حتى يستأذن له الرسول فلم يأذن له فأقام عند أحياء العرب في التيه فقربوا في تقلبهم من الكرك فقبض عليه المغيث صاحب الكرك وحبسه حتى إذا زحف التتر لبغداد بحث عنه المستعصم ليبعثه مع العساكر لمدافعتهم وقد استولى التتر على بغداد فرجع ومات ببعض قرى دمشق بالطاعون سنة ست وخمسين انتهى والله تعالى أعلم. زحف الناصر صاحب دمشق إلى الكرك وحصارها والقبض على البحرية ولما كان من المغيث والبحرية ما قدّمناه ورجعوا منهزمين إلى الكرك بعث الناصر عساكره من دمشق إلى البحرية فالتقوا بغزة وانهزمت عساكر الناصر وظفرت البحرية بهم واستفحل أمرهم بالكرك فسار الناصر بنفسه إليهم بالعساكر من دمشق سنة سبع وخمسين وسار معه صاحب حماه المنصور بن المظفر محمود فنزلوا على الكرك وحاصروها وأرسل المغيث إلى الناصر في الصلح فشرط عليه أن يحبس البحرية فأجاب ونمي الخبر إلى بيبرس أميرهم البندقداري فهرب في جماعة منهم ولحق بالناصر وقبض المغيث على الباقين وبعث بهم إلى الناصر في القيود ورجع [1] الكرك ثم بعث إلى الأمراء بمصر وزيره كمال الدين بن العديم يدعوهم إلى الاتفاق إلى مدافعة التتر وفي أيام مقدم ابن العديم مصر خلع الأمراء على ابن المعز أيبك وقبض عليه أتابك عسكره وموالي أبيه وجلس على التخت وخطب لنفسه   [1] بياض بالأصل وفي تاريخ أبي الفداء ج 3 ص 198: وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية ومن جملتهم سنقر الأشقر وسكر وبرامق. وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الملك الناصر وبين الملك المغيث صاحب الكرك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 وقبض على الأمراء الذين يرتاب منازعتهم كما نذكره في أخبارهم وأعاد ابن العديم إلى مرسلة صاحب دمشق بالإجابة والوعد بالمظاهرة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء التتر على الشام وانقراض ملك بني أيوب وهلاك من هلك منهم ثم زحف التتر وسلطانهم هلاكو إلى بغداد واستولى على كرسي الخلافة وقتلوا المستعصم وطمسوا معالم الملة وكادت تكون من أشراط الساعة وقد شرحناها في أخبار الخلفاء ونذكرها في أخبار التتر فبادر الناصر صاحب دمشق بمصانعته وبعث ابنه العزيز محمدا إلى السلطان هلاكو بالهدايا والالطاف فلم يغن وردّه بالوعد ثم بعث هلاكو عساكره إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن المظفر شهاب الدين غازي بن العادل الكبير فحاصروها سنتين ثم ملكوها عنوة سنة ثمان وخمسين وقتلوه وبعث العساكر إلى إربل فحاصروها ستة أشهر وفتحوها وسار ملوك بلاد الروم كيكاوس وقليج أرسلان ابنا كنجسرو إلى هلاكو أثر ما ملك بغداد فدخلوا في طاعته ورجعوا إلى بلادهم وسار هلاكو إلى بلاد أذربيجان ووفد عليه هنالك لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين ودخل في طاعته وردّه إلى بلده وهلك أثر ذلك وملك الموصل مكانه ابنه الصالح وسنجار ابنه علاء الدين ثم أوفد الناصر ابنه على هلاكو بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة واعتذر عن لقائه بالتخوّف على سواحل الشام من الإفرنج فتلقى ولده بالقبول وعذره وأرجعه إلى بلده بالمهادنة والمواعدة الجميلة ثم سار هلاكو إلى حران وبعث ابنه في العساكر إلى حلب وبها المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائبا عن الناصر يوسف فخرج لقتالهم في العساكر وأكمن له التتر واستجروهم ثم كرّوا عليهم فاثخنوا فيهم ورحلوا إلى إعزاز فملكوها صلحا وبلغ الخبر إلى الناصر وهو بدمشق معسكر من ثورة سنة ثمان وخمسين وجاء الناصر بن المظفر صاحب حماة فأقام معه ينتظر أمرهم ثم بلغه أن جماعة من مواليه اعتزموا على الثورة به فكرّ راجعا إلى دمشق ولحق أولئك الموالي بغزة ثم أطلع على خبثهم وأن قصدهم تمليك أخيه الظاهر فاستوحش منهم ولحق الظاهر بهم فنصبوه للأمر واعصوصبوا عليه وكان معهم بيبرس البندقداري وشعر بتلاشي أحوالهم فكاتب المظفر صاحب مصر واستأمن إليه فأمنه وسار إلى مصر فتلقى بالكرامة وأنزل بدار الوزارة وأقطعه السلطان قطز قليوب بأعماله ثم هرب هلاكو إلى الفرات فملك [1] وكان بها   [1] بياض بالأصل: وفي أخبار البشر ج 3 ص 200: إن هولاكو عبر الفرات بمجموعة ونازل حلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 إسماعيل أخو الناصر معتقلا فأطلقه وسرحه إلى عمله بالصبينة وبانياس وولاه عليهما وقدم صاحب أرزن إلى توران شاه نائب حلب يدعوه إلى الطاعة فامتنع فسار إليها وملكها عنوة وأمنها واعتصم توران شاه والحامية بالقلعة وبعث أهل حماة بطاعتهم إلى هلاكو وأن يبعث عليهم نائبا من قبله ويسمى برطانتهم الشحنة فأرسل إليهم قائدا يسمى خسروشاه وينسب في العرب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وبلغ الناصر أخذ حلب فأجفل عن دمشق واستخلف عليها وسار إلى غزة واجتمع عليه مواليه وأخوه وسار التتر إلى نابلس فملكوها وقتلوا من كان بها من العسكر وسار الناصر من غزة إلى العريش وقدم رسله إلى قطز تسأله النصر من عدوّهم واجتماع الأيدي على المدافعة ثم تقدّموا إلى [1] واستراب الناصر بأهل مصر فسار هو وأخوه الظاهر ومعهما الصالح بن الأشرف موسى بن شيركوه إلى التيه فدخلوا إليه وفارقهم المنصور صاحب حماة والعساكر إلى مصر فتلقاهم السلطان قطز بالصالحية وآنسهم ورجع بهم إلى مصر واستولى التتر على دمشق وسائر بلاد الشام إلى غزة وولوا على جميعها أمراءهم ثم افتتحت قلعة حلب وكان بها جماعة من البحرية معتقلين منهم سنقر الأشقر فدفعهم هلاكو إلى السلطان جق من أكابر أمرائه وولى على حلب عماد الدين القزويني ووفد عليه بحلب الأشرف موسى بن منصور بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص وكان الناصر قد أخذها منه كما قدّمناه فأعادها عليه هلاكو وردّ جميع ولايته بالشام إلى رأيه وسار إلى قلعة حارم فملكها واستباحها وأمر بتخريب أسوار حلب وقلعتها وكذلك حماة وحمص وحاصروا قلعة دمشق طويلا ثم تسلموها بالأمان ثم ملكوا بعلبكّ وهدموا قلعتها وساروا إلى الصبينة وبها السعيد بن العزيز بن العادل فملكوها منه على الأمان وسار معهم ووفد على هلاكو فخر الدين بن الزكي من أهل دمشق فولاه القضاء بها ثم اعتزم هلاكو على الرجوع إلى العراق فعبروا الفرات وولى على الشام أجمع أميرا اسمه كتبغا من أكابر أمرائه واحتمل عماد الدين القزويني من حلب وولى مكانه آخر وأما الناصر فلما دخل في التيه هاله أمره وحسن له أصحابه قصد هلاكو فوصل إلى كتبغا نائب الشام يستأذنه ثم وصل فقبض عليه وسار به إلى [2] حتى سلمها إليه أهلها وبعث به إلى هلاكو فمرّ   [1] بياض بالأصل: وفي أخبار البشر ج 3 ص 202: ثم سار الملك الناصر والملك المنصور صاحب حماة والعسكر ووصلوا إلى قطينة فجرى بها فتنة بين التركماني والأكراد الشهرزورية. [2] بياض بالأصل ويذكر أبي الفداء ج 3 ص 204: وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو وعرفه بموضع الملك الناصر فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه وأحضره إلى عجلون وكانت بعد عاصية فأمرهم الملك الناصر بتسليمها فسلمت إليهم فهدموها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 بدمشق ثم بحماة وبها الأشرف صاحب حمص وخسروشاه نائبها فخرجها لتلقيه ثم مرّ بحلب ووصل إلى هلاكو فأقبل عليه ووعده برده إلى ملكه ثم ثار المسلمون بدمشق بالنصارى أهل الذمة وخربوا كنيسة مريم من كنائسهم وكانت من أعظم الكنائس في الجانب الّذي فتحه خالد بن الوليد رحمه الله وكانت لهم أخرى في الجانب الّذي فتحه أبو عبيدة بالأمان ولما ولي الوليد طالبهم في هذه الكنيسة ليدخلها في جامع البلد وأعلى لهم في السوم فامتنعوا فهدمها وزادها في الجامع لأنها كانت لصقه فلما ولي عمر بن عبد العزيز استعاضوه فعوضهم بالكنيسة التي ملكها المسلمون بالعنوة مع خالد بن الوليد رحمه الله وقد تقدّم ذكر هذه القصة فلما ثار المسلمون الآن بالنصارى أهل الذمة خربوا كنيسة مريم هذه ولم يبقوا لها أثرا ثم إنّ العساكر الإسلامية اجتمعت بمصر وساروا إلى الشام لقتال التتر صحبة السلطان قطز صاحب [1] ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل فسار إليه كتبغا نائب الشام ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الصبينة ابن العزيز بن العادل والتقوا على عين جالوت بالغور فانهزم التتر وقتل أميرهم النائب كتبغا وأسر السعيد صاحب الصبينة فقتله قطر واستولى على الشام أجمع وأقر المنصور صاحب حماة على بلده ورجع إلى مصر فهلك في طريقه قتله بيبرس البندقداري وجلس على التخت مكانه وتلقب بالظاهر حسبما يذكر ذلك كله في دولة الترك ثم جاءت عساكر التتر إلى الشام وشغل هلاكو عنهم بالفتنة مع قومه وأسف على قتل كتبغا نائبة وهزيمة عساكره فأحضر الناصر ولامه على ما كان منه من تسهيله عليه أمر الشام وتجنى عليه أنه غره بذلك فاعتذر له الناصر فلم يقبل فرماه بسهم فأنفذه ثم أتبعه بأخيه الظاهر وبالصالح بن الأشرف موسى صاحب حمص وشفعت زوجة هلاكو في العزيز بن الناصر وكان مع ذلك يحبه فاستبقاه وانقرض ملك بني أيوب من الشام كما انقرض قبلها من مصر واجتمعت مصر والشام في مملكة الترك ولم يبق لبني أيوب بهما ملك إلّا للمنصور بن المظفر صاحب حماة فإن قطزا أقره عليها والظاهر بيبرس من بعده وبقي في إمارته هو وبنوه مدّة من دولة الترك وطاعتهم حتى أذن الله بانقراضهم وولي عليها غيرهم من أمرائهم كما نذكر في أخبار دولتهم والله وارث الأرض ومن عليها والعاقبة للمتقين.   [1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 3 ص 204: لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر عزم الملك المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 دولة الترك الخبر عن دولة الترك القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بني أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدّم لنا ذكر الترك وأنسابهم أول الكتاب عند ذكر أمم العالم ثم في أخبار الأمم السلجوقية وأنهم من ولد يافث بن نوح باتفاق من أهل الخليفة فعند نسابة العرب أنهم من عامور بن سويل بن يافث وعند نسابة الروم انهم من طيراش بن يافث هكذا وقع في التوراة والظاهر أن ما وقع لنسابة العرب غلط وأن عامور هو مصحف كومر لأنّ كافه تنقلب عند التعريب غينا معجمة فربما صحف عينا مهملة أو بقيت بحالها وأمّا سويل فغلط بالزيادة وأمّا ما وقع للروم من نسبتهم إلى طيراش فهو منقول في الإسرائيليات وهو رأي مرجوح عندهم لمخالفته لما في التوراة وأما شعوبهم وأجناسهم فكثيرة وقد عددنا منهم أوّل الكتاب التغزغز وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طمغاج وهي بلاد ملوكهم في الإسلام تركستان وكاشغر وعددنا منهم أيضا الخزلخية والغز الذين كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم الخلج وبلادهم الصغد قريبا من سمرقند ويسمون بها أيضا وعددنا منهم أيضا الغور والخزر والقفجاق ويقال الخفشاخ ويمك والعلان ويقال اللان وشركس وأركش وقال صاحب كتاب زجار في الكلام على الجغرافيا أجناس من الترك كلهم وراء النهر إلى البحر المظلم وهي العسية والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلخية والخزر والحاسان وتركش وأركش وخفشاخ والخلخ والغزية وبلغار وخجاكت ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر وذكر في موضع آخر أنكر من شعوب الترك وأنهم في بلاد البنادقة من أرض الروم وأما مواطنهم فإنّهم ملكوا الجانب الشمالي من المعمور في النصف الشرقي منه قبالة الهند والعراق في ثلاثة أقاليم هي السادس والسابع والخامس كما ملك العرب الجانب الجنوبي من المعمور أيضا في جزيرة العرب وما إليها من أطراف الشام والعراق وهم رحالة مثلهم وأهل حرب وافتراس ومعاش من التغلب والنهب إلا في الأقل وقد ذكرنا أنهم عند الفتح لم يذعنوا إلا بعد طول حرب وممارسة أيام سائر دولة بني أمية وصدرا من صولة بني العباس وامتلأت أيدي العرب يومئذ من سبيهم فاتخذوهم خولا في المهن والصنائع ونسائهم فرشا للولادة كما فعلوه في سبي الفرس والروم وسائر الأمم الذين قاتلوهم على الدين وكان شأنهم أن لا يستعينوا برقيقهم في شيء مما يعانونه من الغزو والفتوح ومحاربة الأمم ومن أسلم منهم تركوه لسبيله التي هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 عليها من أمر معاشه على طاغية هواه لأنّ عصبية العرب كانت مستفحلة يومئذ وشوكتهم قائمة مرهفة ويدهم ويد سلطانهم في الأمر جميعا ومرماهم إلى العز والمجد واحد وكانوا كأسنان المشط لتزاحم الأنساب وغضاضة الدين حتى إذا أرهف الملك حدّه ونهج إلى الاستبداد طريقه واحتاج السلطان في القيام بأمره إلى الاستظهار على المنازعين فيه من قومه بالعصبية المدافعة دونه والشوكة المعترض شباها في أذياله حتى تجدع أنوفهم عن التطاول إلى رتبته وتغض أعنتهم عن السير في مضماره اتخذ بنو العباس من لدن المهدي والرشيد بطانة اصطنعوهم من موالي الترك والروم والبربر ملئوا منهم المواكب في الأعياد والمشاهد والحروب والصوائف والحراسة على السلطان وزينة في أيام السلم واكثافا لعصابة الملك حتى لقد اتخذ المعتصم مدينة سامرا لنزلهم تحرجا من أضرار الرعية باصطدام مراكبهم وتراكم القتام بجوهم وضيق السكك على المارين بزحامهم وكان اسم الترك غالبا على جميعهم فكانوا تبعا لهم ومندرجين فيهم وكانت حروب المسلمين لذلك العهد في القاصية وخصوصا مع الترك متصلة والفتوح فيهم متعاقبة وأمواج السبي من كل وجه متداركة وربما رام الخلفاء عند استكمال بغيتهم واستجماع عصابتهم اصطفاء علية منهم للمخالصة وقواد العساكر ورؤساء المراكب فكانوا يأخذون في تدريجهم لذلك بمذاهب الترشيح فينتقون من أجود السبي الغلمان كالدنانير والجوار كاللآلئ ويسلمونهم إلى قهارمة القصور وقرمة الدواوين يأخذونهم بحدود الإسلام والشريعة وآداب الملك والسياسة ومراس الثقافة في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح والبصر بأمور الحرب والفروسية ومعاناة الخيول والسلاح والوقوف على معاني السياسة حتى إذا تنازعوا في الترشيح وانسلخوا من جلدة الخشونة إلى رقة الحاشية وملكة التهذيب اصطنعوا منهم للمخالصة ورقوهم في المراتب واختاروا منهم لقيادة العساكر في الحروب ورياسة المواكب أيام الزينة ورتق الفتوق الحادثة وسدّ الثغور القاصية كل على شاكلة غنائه وسابق اصطناعه فلم يزل هذا دأب الخلفاء في اصطناعهم ودعامة سرير الملك بعمدهم وتمهيد الخلافة بمقاماتهم حتى سموا في درج الملك وامتلأت جوانحهم من الغزو وطمحت أبصارهم إلى الاستبداد فتغلبوا على الدولة وحجروا الخلفاء وقعدوا بدست الملك ومدرج النهي والأمر وقادوا الدولة بزمامهم وأضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم وكان مبدأ ذلك واقعة المتوكل وما حصل بعدها من تغلب الموالي واستبدادهم بالدولة والسلطان ونهج السلف منهم في ذلك السبيل للخلف واقتدى الآخر بالأوّل فكانت لهم دول في الإسلام متعدّدة تعقب غالبا دولة أهل العصبية وشوكة النسب كمثل دولة بني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 سامان وراء النهر وبني سبكتكين بعدهم وبني طولون بمصر وبني طغج وما كان بعد الدولة السلجوقية من دولتهم مثل بني خوارزم شاه بما وراء النهر وبني طغرلتكين بدمشق وبني أرتق بماردين وبني زنكي بالموصل والشام وغير ذلك من دولهم التي قصصناها عليك في تصانيف الكتاب حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف ولبست أثواب البلاء والعجز ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق البلاد وأدالوا بالكفر من الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم والقعود عن المناصرة والانسلاخ من جلدة الرأس وشعار الرجولية فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بأحياء رمقه وتلافى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها الغزيرة المتوافرة أمراء حامية وأنصارا متوافية يجلبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مقادة الرق الّذي كمن اللطف في طيه وتعرفوا العز والخير في مغبته وتعرضوا للعناية الربانية بتلافيه يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع ولا خالطتها أقذار اللذات ولا دنستها عوائد الحضارة ولا كسر من سورتها غزارة الترف ثم يخرج بهم التجار إلى مصر أرسالا كالقطا نحو الموارد فيستعرضهم أهل الملك منهم ويتنافسون في أثمانهم بما يخرج عن القيمة لا لقصد الاستعباد إنما هو إكثاف للعصبية وتغليظ للشوكة ونزوع إلى العصبية الحامية يصطفون من كل منهم بما يؤنسونه من شيم قومهم وعشائرهم ثم ينزلونهم في غرف الملك ويأخذونهم بالمخالصة ومعاهده التربية ومدارسة القرآن وممارسة التعليم حتى يشتدوا في ذلك ثم يعرضونهم على الرمي والثقافة وركض الخيل في الميادين والمطاعنة بالرماح والمماصعة بالسيوف حتى تشتدّ منهم السواعد وتستحكم الملكات ويستيقنوا منهم المدافعة عنهم والاستماتة دونهم فإذا بلغوا إلى هذا الحدّ ضاعفوا أرزاقهم ووفروا من أقطاهم وفرضوا عليهم استجادة السلاح وارتباط الخيول والاستكثار من أجناسهم لمثل هذا القصد وربما عمروا بهم خطط الملك ودرجوهم في مراتب الدولة فيسترشح من يسترشح منهم لاقتعاد كرسي السلطان والقيام بأمور المسلمين عناية من الله تعالى سابقة ولطائف في خلقه سارية فلا يزال نشو منهم يردف نشوا وجيل يعقب جيلا والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغناء والدولة ترف أغصانها من نضرة الشباب وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام وأخوه العادل أبو بكر من بعده ثم بنوهم من بعدهم قد تناغوا في ذلك بما فوق الغاية واختص الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوكهم بالمبالغة في ذلك والإمعان فيه فكان عامة عسكره منهم فلما إنفض عشيرة وخذله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 أنصاره وقعد عنه أولياؤه وجنوده لم يدع سببا في استجلابهم إلا أتاه من استجادة المتردّدين إلى ناحيتهم ومراضاة التجار في أثمانهم بأضعاف ثمنهم وكان رقيقهم قد بلغ الغاية من الكثرة لما كان التتر قد دوّخوا الجانب الغربي من ناحية الشمال وأوقعوا بسكانه من الترك وهم شعوب القفجاق والروس والعلان والمولات وما جاورهم من قبائل جركس وكان ملك التتر بالشمال يومئذ دوشي خان بن جنكزخان قد أصابهم بالقتل والسبي فامتلأت أيدي أهل تلك النواحي برقيقهم وصاروا عند التجار من أنفس بضائعهم والله تعالى أعلم. ذكر بيبرس البندقداري في تاريخه حكاية غريبة عن سبب دخول التتر لبلادهم بعد أن عد شعوبهم فقال ومن قبائلهم يعني القفجاق قبيلة طغصبا وستا وبرج أغلا والبولى وقنعرا على وأوغلي ودورت وقلابا أعلى وجرثان وقدكابركلي وكنن هذه إحدى عشرة قبيلة وليس فيها ذكر الشعوب العشرة القديمة الذكر التي عدّدها النسابة كما قدّمناه أوّل الترجمة وهذه والله أعلم بطون متفرعة من القفجاق فقط وهي التي في ناحية الغرب من بلادهم الشمالية فإنّ سياق كلامه إنما هو في الترك المجلوبين من تلك الناحية لا من ناحية خوارزم ولا ما وراء النهر قال بيبرس ولما استولى التتر على بلادهم سنة ست وعشرين والملك يومئذ بكرسي جنكزخان لولده دوشي خان واتفق أنّ شخصا من قبيلة دورت يسمى منقوش بن كتمر خرج متصيدا فلقيه آخر من قبيلة طغصبا اسمه آقا كبك وبين القبيلتين عداوة مستحكمة فقتله وأبطأ خبره عن أهله فبعثوا طليعة لاستكشاف أمره اسمه جلنقر فرجع إليهم وأخبرهم وأنه قتل وسمى لهم قاتله فجمعوا للحرب وتزاحفت القبيلتان فانهزمت قبيلة طغصبا وخرج آقا كبك القاتل وتفرق جمعه فأرسل أخاه أقصر إلى ملكهم دوشي يستعلم ما على ذوي قبيلة دورت القفجاقية وذكره ما فعل كتمر وقومه بأخيه وأغراه بهم وسهل له الشأن فيهم وبعث دوشي خان جاسوسه لاستكشاف حالهم واختيار مراسهم وشكيمتهم فعاد إليه بتسهيل المرام فيهم وقال إن رأيت كلابا مكبين على فريستهم متى طردتهم عنها تمكنت منها فأطمعه ذلك في بلاد القفجاق واستحثه أقصر الّذي جاء صريخا وقال له ما معناه نحن ألف رأس تجر ذنبا واحدا وأنتم رأس واحد تجر ألف ذنب فزاده ذلك أغراء ونهض بجموع التتر فأوقع بالقفجاق وأثخن فيهم قتلا وسبيا وأسرا وفرّقهم في البقاع وامتلأت أيدي التجار وجلبوهم إلى مصر فعوضه الله بالدخول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 في الإيمان والاستيلاء على الملك والسلطان انتهى كلام بيبرس ومساق القصة يدل على أن قبيلة دورت من القفجاق وأنّ قبيلة طغصبا من التتر فيقتضي ذلك أنّ هذه البطون التي عددت ليست من بطن واحد وكذلك يدل مساقها على أنّ أكثر هؤلاء الترك الذين بديار مصر من القفجاق والله تعالى أعلم. الخبر عن استبداد الترك بمصر وانفرادهم بها عن بني أيوب ودولة المعز أيبك أوّل ملوكهم قد تقدّم لنا أنّ الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل قد استكثر من المماليك الترك ومن في معناهم من التركمان والأرمن والروم وجركس وغيرهم إلا أن اسم الترك غالب على جميعهم لكثرتهم ومزيتهم وكانوا طوائف متميزين بسمات من ينسبون إليه من نسب أو سلطان فمنهم العزيزية نسبة إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين ومنهم الصالحية نسبة إلى هذا الصالح أيوب ومنهم البحرية نسبة إلى القلعة التي بناها الصالح بين شعبتي النيل إزاء المقياس بما كانوا حاميتها وكان هؤلاء البحرية شوكة دولته وعصابة سلطانه وخواص داره وكان من كبرائهم عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني ورديفه فارس الدين أقطاي الجامدار وركن الدين بيبرس البندقداري ولما كان ما قدّمناه ووفاة الصالح بالمنصورة في محاصرة الإفرنج بدمياط في سنة سبع وأربعين وكتمانهم موته ورجوعهم في تدبير أمورهم إلى شجرة الدرّ زوجة الصالح وأم ولده خليل وبعثهم إلى ابنه المعظم توران شاه وانتظاره وأن الإفرنج شعروا بموت الصالح فدلفوا إلى معسكر المسلمين على حين غفلة فانكشف أوائل العسكر وقتل فخر الدين الأتابك ثم أفرغ الله الصبر وثبت أقدامهم وأبلى أمراء الترك في ذلك اليوم بلاء حسنا ووقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوّهون بمكانها فكانت لهم الكرّة وهزم الله العدوّ وثم وصل المعظم توران شاه من كيفا فبايعوا له وأعطوه الصفقة وانتظم الحال واستطال المسلمون على الافرنج برا وبحرا فكان ما قدّمناه من هزيمتهم والفتك بهم وأسر ملكهم الفرنسيس ثم رحل المعظم أثر هذا الفتح إلى مصر لشهرين من وصوله ونزل بفارس كور يريد مصر وكانت بطانته قد استطالوا على موالي أبيه وتقسموهم بين النكبة والإهمال فاتفق كبراء البحرية على قتله وهم أيبك وأقطاي وبيبرس فقتلوه كما مرّ ونصبوا للملك شجرة الدر أم خليل وخطب لها على المنابر ونقش اسمها على السكة ووضعت علامتها على المراسم ونصها أم خليل وقام أيبك التركماني بأتابكية العسكر ثم فودي الفرنسيس بالنزول عن دمياط وملكها المسلمون سنة ثمان وأربعين وسرحوه في البحر إلى بلاده بعد أن توثقوا منه باليمين أن لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 يتعرّض لبلاد المسلمين ما بقي واستقلت الدولة بمصر للترك وانقرضت منها دولة بني أيوب بقتل المعظم وولاية المرأة وما اكتنف ذلك فامتعضوا له وكان فتح الدين عمر بن العادل قد حبسه عمه الصالح أيوب بالكرك لنظر بدر الصوابي خادمه الّذي ولاه على الكرك والشويك لما ملكهما كما مرّ فأطلق بدر الدين من محبسه وبايع له وقام بأمره ولقبه المغيث واتصل الخبر بمصر وعلموا أنّ الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيبك لتقدّمه عند الصالح وأخيه العادل قبله فبايعوا له وخلعوا أمّ خليل ولقبوه بالمعز فقام بالأمر وانفرد بملك مصر وولى مولاه سيف الدين قطز نائبا وعمر المراتب والوظائف بأمراء الترك والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. نهوض الناصر صاحب دمشق من بني أيوب إلى مصر وولاية الأشرف موسى مكان أيبك كان الملك الصالح أيوب قبل موته قد استخلف جمال الدين بن يغمور على دمشق مكان ابن مطروح وأمراء الدولة الأيوبية بها متوافرون فلما بلغهم استبداد الترك بمصر وولاية أيبك وبيعه المغيث بالكرك أمعنوا النظر في تلافي أمورهم وكبراء بني أيوب يومئذ بالشام الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين حلب وحمص وما إليها فاستدعوه وبايعوا له بدمشق وأغروه بطلب مصر واتصل الخبر للترك في مصر فاعتزموا على أن ينصبوا بعض بني أيوب فيكفوا به ألسنة النكير عنهم فبايعوا لموسى الّذي كان أبوه يوسف صاحب اليمن وهو يوسف أطسز بن المسعود بن الكامل وهو يومئذ ابن ست سنين ولقبوه الأشرف وتزحزح له أيبك عن كرسي السلطان إلى رتبة الأتابكية واستمرّ الناصر على غلوائه في النهوض إلى مصر واستدعى ملوك الشام من بني أيوب فأقبل إليه موسى الأشرف الّذي كان صاحب حمص وإسماعيل الصالح بن العادل صاحب بعلبكّ والمعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخوه نصر الدين وابنا داود الناصر صاحب الكرك وهما الأمجد حسن والظاهر شادي وارتحل من دمشق سنة ثمان وأربعين وفي مقدّمته أتابكه لؤلؤ الأرمني وبلغ الخبر إلى مصر فاضطرب الأمر ونادوا بشعار الخلافة والدعاء للمستعصم وجدّدوا البيعة على ذلك للأشرف وجهزوا العساكر وخرجوا للقائهم وسار في المقدّمة أقطاي الجامدار وجمهور البحرية وتبعهم أيبك ساقة في العساكر والتقى الجمعان بالعباسية فانكشف عسكر مصر أولا وتبعهم أهل الشام وثبت المعز في القلب ودارت عليه رحى الحرب وهرب إليه جماعة من عسكر الناصر فيهم أمراء العزيزية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 مثل جمال الدين لا يدعون وشمس الدين أتسز اليرلي وشمس الدين أتسز الحسامي غضبوا من رياسة لؤلؤ عليهم فهربوا وبقي لؤلؤ في المعركة صامدا ثم حمل المعز على الناصر وأصحابه فانهزموا وإنفض عسكرهم وجيء بلؤلؤ الأتابكي أسيرا فقتله صبرا وبأمراء بني أيوب فحبسهم ورجع أيبك من الوقعة فوجد عساكر الناصر مجتمعين بالعباسية يظنون الغلب لهم فعدل إلى بلبيس ثم إلى القلعة ورجعت عساكر الشام من أتباع المنهزمين لما شعروا بهزيمة صاحبهم فلحقوا بالناصر بدمشق ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة ثم قتل منهم إسماعيل الصالح ووزيره ابن يغمور الّذي كان معتقلا من قبل ولما وصل الناصر إلى دمشق أزاح علل عساكره وعجل الكرّة إلى مصر ونزل غزة سنة خمسين وبرزت عساكر مصر للقائه فتواقفوا مليا ثم وصل نجم الدين البادر إلى رسول المستعصم فأصلح بين الطائفتين على أن يكون القدس والساحل إلى نابلس للمعز والتخم بين المملكتين نهر الأردنّ وانعقد الأمر على ذلك ورجع كل إلى بلده وأخرج المعز عن أمراء بني أيوب الذين حبسهم يوم الوقعة والله سبحانه وتعالى أعلم. واقعة العرب بالصعيد مع أقطاي لما شغل الصالح بالإفرنج وما بعدهم عظم فساد العرب بالصعيد واجتمعوا على الشريف خضر الدين أبي ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين إسماعيل بن حصن الدين ثعلب الجعفري من ولد جعفر بن أبي طالب الذين أجازوا من الحجاز لما غلبهم بنو عمهم بنواحي المدينة في الحروب التي كانت بينهم وأطاعه أعراب الصعيد كافة ولم يقدر على كفهم عن الراية واتصل ذلك وهلك الصالح واستبدّ الترك بمصر وشغلوا عنهم بما كان من مطالبة بني أيوب لهم فلما فرغ المعز أيبك من أمر الناصر وعقد الصلح معه بعث لحربهم فارس الدين أقطاي وعز الدين أيبك الأفرم أمير البحرية فساروا إليهم ولقوهم بنواحي أخميم فهزموهم وفرّ الشريف ناجيا بنفسه ثم قبض عليه بعد ذلك وقتل ورجعت العساكر الى القاهرة والله تعالى أعلم. مقتل اقطاي الجامدار وفرار البحرية إلى الناصر ورجوع أيبك إلى كرسيه كان اقطاي الجامدار من أمراء البحرية وعظمائهم ويلقب فارس الدين وكان رديفا للمعز أيبك في سلطانه وأتابكه وكان يغض من عنانه عن الطموح إلى الكرسي وكان يخفض من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 جناحه للبحرية يتألفهم بذلك فيميلون له عن أيبك فاعتز في الدولة واستفحل أمره وأخذ من المعز الإسكندرية اقطاعا وتصرف في بيت المال وبعث فخر الدين محمد بن الناصر بهاء الدين بن حياء إلى المظفر صاحب حماة في خطبة ابنته فتزوّجها وأطلق يده في العطاء والإقطاع فعم الناس وكثر تابعه وغص به المعز أيبك وأجمع قتله فاستدعاه بعض الأيام للقصر للشورى سنة اثنتين وخمسين وقد اكمن له ثلاثة من مواليه في ممرّه بقاعة الأعمدة وهم قطز وبهادل وسنجر فوثبوا عليه عند مروره بهم وبادروه بالسيوف وقتلوه لحينه واتصلت الهيعة بالبحرية فركبوا وطافوا بالقلعة فرمى إليهم برأسه فانفضوا واستراب أمراؤهم فاجتمع ركن الدين بيبرس البندقداري وسيف الدين قلاون الصالحي وسيف الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بنسر الشمسي وسيف الدين بلبان الرشيديّ وسيف الدين تنكر وأخوه سيف الدين موافق ولحقوا بالشام فيمن انضم إليهم من البحرية واختفى من تخلف منهم واستصفيت أموالهم وذخائرهم وارتجع ما أخذه اقطاي من بيت المال ورد ثغر الإسكندرية إلى أعمال السلطان وانفرد المعز أيبك بتدبير الدولة وخلع موسى الأشرف وقطع خطبته وخطب لنفسه وتزوّج شجرة الدر زوجة الصالح التي كانوا ملكوها من قبل واستخلص علاء الدين آيدغدي العزيزي وجماعة العزيزية وأقطعه دمياط ولما وصل البحرية وأمراؤهم إلى غزة كاتبوا الناصر يستأذنونه في القدوم وساروا إليه فاحتفل في مبرتهم وأغروه بملك مصر فأجابهم وجهز العساكر وكتب المعز فيهم إلى الناصر وطلبوا منه القدس والبلاد الساحلية فاقطعها لهم ثم سار الناصر إلى الغور وبرز إلى القاهرة في العزيزية ومن إليهم ونزل العباسية وتوافق الفريقان مدّة ثم اصطلحوا ورجع كل إلى بلده سنة أربع وخمسين وبعث أيبك رسوله إلى المستعصم بطاعته وطلب الألوية والتقليد ولما رجع إلى مصر قبض على علاء الدين آيدغدي لاسترابته به وأعاد دمياط إلى أعمال السلطان واتصلت أحواله إلى أن هلك في الدولة والله تعالى أعلم. فرار الافرم إلى الناصر بدمشق كان عز الدين أيبك الأفرم الصالحي واليا على قوص واخميم وأعمالها فقوي أمره وهمّ بالاستبداد وأراد المعز عزله فامتنع عليه فبعث بعض الخوارزمية مددا له ودس إليهم الفتك به فلما وصلوا إليه استخدمهم وخلطهم بنفسه فاغتالوه وقبضوا عليه وتراموا إليه للحين فبطشوا بهم وقتلوهم وخلعوه ثم عزله بعد ذلك عز الدين الصميري في خدمته واستدعاه إلى مصر فأقام عنده ثم بعثه مع أقطاي إلى الصعيد وحضر ومعه الشريف أبو ثعلب والعرب كما مرّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 وعاد أقطاي إلى مكانه من الدولة وأوعز المعز أيبك إلى الأفرم بالمقام لتمهيد بلاد الصعيد وأن يكون الصميري في خدمته وبلغه وهو هناك أنّ المعز عدا على أقطاي وقتله وأنّ أصحابه البحرية فرّوا إلى الشام فاستوحش وأظهر العصيان واستدعى الشريف أبا ثعلب وتظاهر معه على الفساد وجمعوا الأعراب من كل ناحية ثم بعث المعز سنة ثلاث وخمسين شمس الدين اليرلي في العساكر فهزمهم واعتقل الشريف فلم يزل في محبسه إلى أن قتله الظاهر ونجا الأفرم في فل من مواليه إلى الواحات ثم اعتزم على قصد الشام فرجع إلى الصعيد مع جماعة من أعراب جذام مروا به على السويس والطور ورجع عنه مواليه إلى مصر ولما انتهى إلى غزة تولع به الناصر فأذنه بالقدوم عليه بدمشق وركب يوم وصوله فتلقاه بالكسوة وأعطاه خمسة آلاف دينار ولم يزل عنده بدمشق إلى أن هرب البحرية من الكرك إلى مصر كما يذكر فخشي أن يأخذه الناصر وكاتب الأتابك قطز بمصر وسار إليه فقبله أوّلا ثم قبض عليه بعد ذلك واعتقله بالإسكندرية وكان الصميري قد بقي بعد الافرم في ولاية الصعيد واستفحل فيه فسوّلت له نفسه الاستبداد ولم يتمّ له فهرب إلى الناصر سنة أربع وخمسين انتهى والله تعالى أعلم. مقتل المعز أيبك وولاية ابنه علي المنصور كان المعز أيبك عند ما استفحل أمره ومهد سلطانه ودفع الأعداء عن حوزته طمحت نفسه إلى مظاهرة المنصور صاحب حماة ولؤلؤ صاحب الموصل ليصل يده بهما وأرسل إليهما في الخطبة وأثار ذلك غيرة من زوجته شجرة الدرّ وأغرت به جماعة من الخصيان منهم محسن الخزري وخصى العزيزي ويقال سنجر الخادمان فبيتوه في الحمام بقصره وقتلوه سنة خمس وخمسين لثلاث سنين من ولايته وسمع مواليه الناعية من جوف الليل فجاءوا مع سيف الدين قطز وسنجر الغتمي وبهادر فدخلوا القصر وقبضوا على الجوجريّ فقتلوه وفرّ سنجر العزيزي إلى الشام وهموا بقتل شجرة الدرّ وقام الموالي الصالحية دونها فاعتقلوها ونصبوا للملك علي بن المعز أيبك ولقبوه المنصور وكان أتابكه علم الدين سنجر الحلي واشتمل موالي المعز على ابنه المنصور فكبسوا علم الدين سنجر واعتقلوه وولوا مكانه أقطاي المعزي الصالحي مولى العزيز على الدولة في نقضها وإبرامها سنة ست وخمسين وأغرته أمّ المنصور بالصاحب شرف الدين الغازي لأنّ المعز كان يستودعه سراياه عنده فاستصفاه وقتله وفي هذه السنة توفي زهير بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 علي المهلي وكان يكتب عن الصالح ويلازمه في سجنه بالكرك ثم صحبه إلى مصر والله تعالى أعلم. نهوض البحرية بالمغيث صاحب الكرك وانهزامهم قد ذكرنا فرار البحرية إلى الناصر ونهوضهم به إلى مصر وخروج أيبك إلى العباسية وما كان بينهما من الصلح فلما انعقد الصلح ورجع الناصر إلى دمشق ورجعوا عنه إلى قلعة [1] ولم يرضوا الصلح فاستراب بهم الناصر وصرفهم عنه فلحقوا بغزة ونابلس وبعثوا إلى المغيث صاحب الكرك بطاعتهم فأرسل الناصر عساكره للإيقاع بهم فهزموهم فسار إليهم بنفسه فهزموه إلى البلقاء ولحقوا بالكرك وأطمعوا المغيث في مصر واستمدّوه لها فأمدّهم بعسكره وقصدوا مصر وكبراؤهم بيبرس البندقداري وقلاوون الصالحي وبليان الرشيديّ وبرز الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر إلى الصالحية فهزمهم وقتل بلغار الأشرفي وأسر قلاوون الصالحي وبليان الرشيديّ وأطلق قلاوون بعد أيام في كفالة أستاذ الدار فاختفى ثم لحق بأصحابه واستحثوا المغيث إلى مصر فنهض في عساكره سنة ست وخمسين ونزل الصالحية وقدم إليه عز الدين الرومي والكافوري والهواشر ممن كان يكاتبه من أمراء مصر وبرز سيف الدين قطز في عساكر مصر والتقى الجمعان فانهزم المغيث ولحق في الفل بالكرك وفرّت البحرية إلى الغور فوجدوا هنالك أحياء من الأكراد فرّوا من جبال شهرزور أمام التتر فاجتمعوا بهم والتحموا بالصهر معهم وخشي الناصر غائلة اجتماعهم فجهز العساكر من دمشق إليهم والتقوا بالغور فانهزمت عساكره فتجهز ثانيا بنفسه وسار إليهم فخاموا عن لقائه وافترقوا فلحق الأكراد بمصر واعترضهم التركمان في طريقهم بالعريش فأوقعوا بهم وخلصوا إلى مصر ولحق البحرية بالكرك مع عسكر المغيث ووعدهم بالنصر وأرسل إليه من دمشق في إسلامهم إليه وتوعده [2] أنفسهم واضطربوا ففرّ بيبرس وقلاوون إلى الصحراء وأقاموا بها ثم لحقوا بمصر وأكرمهم الأتابك قطز وأقطعهم وأقاموا عنده ولما فرّ بيبرس وقلاوون من المغيث قبض على بقية أمراء البحرية سنقر الأشقر وشكر وبرابق وبعث بهم إلى   [1] بياض بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه القلعة. [2] بياض بالأصل: ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة ومقتضى السياق: ونوعده بقتلهم هم أنفسهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 الناصر فحبسهم بقلعة حلب إلى أن استولى التتر عليها ونقلهم هلاكو إلى بلاده والله سبحانه وتعالى أعلم. خلع المنصور علي بن أيبك واستبداد قطز بالملك ثم كان ما ذكرناه ونذكره من زحف هلاكو إلى بغداد واستيلائه عليها وما بعدها إلى الفرات وفتحه ميافارقين وإربل ومسير لؤلؤ صاحب الموصل إليه ودخوله في طاعته ووفادة ابن الناصر صاحب دمشق إليه رسولا عن أبيه بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة والعذر عن الوصول بنفسه خوفا على سواحل الشام من الإفرنج فارتاب الأمراء بشأنهم واستصغروا سلطانهم المنصور علي بن المعز أيبك عن مدافعة هذا العدوّ لعدم ممارسته للحروب وقلة دربته بالوقاع واتفقوا على البيعة لسيف الدين قطر المعزي وكان معروفا بالصرامة والإقدام فبايعوا له وأجلسوه على الكرسي سنة ست وخمسين ولقبوه المظفر وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته وحبسوه وأخويه بدمياط ثم غربهما ولقبوه المظفر وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته وحبسوه وأخويه بدمياط ثم غربهما الظاهر بعد ذلك إلى القسطنطينية وكان المتولون لذلك الصالحية والعزيزية ومن يرجع إلى قطز من المعزية وكان بهادر وسنجر الغتمي غائبين فلما قدما استراب بهما قطز وخشي من نكيرهما ومزاحمتهما فقبض عليهما وحبسهما وأخذ في تمهيد الدولة فاستوثقت له وكان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية يقال أنه ابن أخت خوارزم شاه واسمه محمود بن مودود أسره التتر عند الحادثة عليهم وبيع واشتراه ابن الزعيم حكاه النوويّ عن جماعة من المؤرخين والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء التتر على الشام وانقراض أمر بني أيوب ثم مسير قطز بالعساكر وارتجاعه الشام من أيدي التتر وهزيمتهم وحصول الشام في ملك الترك ثم عبر هلاكو الفرات سنة ثمان وخمسين وفرّ الناصر وأخوه الظاهر إلى التيه ولحق بمصر المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر وملك هلاكو بلاد الشام واحدة واحدة وهدم أسوارها وولى عليها وأطلق المعتقلين من البحرية بحلب مثل سنقر الأشقر وشكر وبرابق واستخدمهم ثم قفل إلى العراق لاختلاف بين إخوته واستخلف على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 الشام كتبغا من أكبر أمرائه في اثني عشر ألفا من العساكر وتقدّم إليه بمطالعة الأشرف إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد أن ولاه على مدينة دمشق وسائر مدن الشام واحتمل معه الناصر وابنه العزيز بعد أن استشاره في تجهيز العساكر بالشام لمدافعة أهل مصر عنها فهوّن عليه الأمر وقللهم في عينه فجهز كتبغا ومن معه ولما فصل سار كتبغا إلى قلعة دمشق وهي ممتنعة بعد فحاصرها وافتتحها عنوة وقتل نائبها بدر الدين بربدك وخيم بمرج دمشق وجاءه من ملوك الإفرنج بالساحل ووفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فردّه إلى عمله وأوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله وردّه إلى أبيه واجتمعت عساكر مصر واحتشد المظفر العرب والتركمان وبعث إليهم بالعطايا وأزاح العلل وبعث كتبغا إلى المظفر قطز بأن يقيم طاعة هلاكو بمصر فضرب أعناق الرسل ونهض إلى الشام مصمما للقاء العدوّ ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل وزحف كتبغا وعساكر التتر ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل وبعث إليهما قطز يستميلهما فوعده الأشرف بالانهزام يوم اللقاء وأساء العزيز الردّ على رسوله وأوقع به والتقى الفريقان بالغور على عين جالوت وتحيز الأشرف عند ما تناشبوا فانهزم التتر وقتل أميرهم كتبغا في المعركة وجيء بالسعيد صاحب الضبينة أسيرا فوبخه ثم قتله وجيء بالعزيز بن المغيث وأسر يومئذ [1] الّذي ملك مصر بعد ذلك ولقي العادل بيبرس المنهزمين في عسكر من الترك فأثخن فيهم وانتهى إلى حمص فلقي مددا من التتر جاء لكتبغا فاستأصلهم ورجع إليه الأشرف صاحب حمص من عسكر التتر فأقرّه على بلده وبعث المنصور على بلده حماة وأقرّه عليها وردّ إليه المعرّة وانتزع منه سليمة فأقطعها لأمير العرب مهنا بن مانع بن جديلة وسار إلى دمشق فهرب من كان بها من التتر وقتل من وجد بها من بقاياهم ورتب العساكر في البلاد وولى على دمشق علم الدين سنجر الحلي الصالحي وهو الّذي كان أتابك علي بن أيبك ونجم الدين أبا الهيجاء ابن خشترين الكردي وولى على حلب السعيد ويقال المظفر علاء الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل وكان وصل إلى الناصر بمصر هاربا أمام التتر وسار معه فلما دخل الناصر منها لحق هو بمصر وأحسن إليه قطز ثم ولاه الناصر على حلب الآن ليتوصل إلى أخبار التتر من أخيه الصالح بالموصل وولى على نابلس وغزة والسواحل شمس الدين دانشير اليرلي من أمراء العزيز محمد وهو أبو الناصر وكان هرب منه عند نهوضه إلى مصر في جماعة من العزيزية ولحق بأتابك ثم ارتاب بهم وقبض على بعضهم ورجع اليرلي في الباقين   [1] بياض بالأصل: ويظهر من الفصول اللاحقة أنه الظاهر بيبرس لأنه هو الّذي ملك مصر بعد ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 إلى الناصر فاعتقله بقلعة حلب حتى سار إلى التتر فلما دخل إليها سار اليرلي مع العساكر إلى مصر فأكرمه المظفر وولاه الآن على السواحل وغزة وأقام المظفر بدمشق عشرين ليلة وأقبل إلى مصر ولما بلغ إلى هلاكو ما وقع بقومه في الشام واستيلاء الترك عليه اتهم صاحب دمشق بأنه خدعه في إشارته وقتله كما مرّ وانقرض ملك بني أيوب من الشام أجمع وصار لملوك مصر من الترك والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. مقتل المظفر وولاية الظاهر بيبرس كان البحرية من حين مقتل أميرهم أقطاي الجامدار يتحينون لأخذ ثاره وكان قطز هو الّذي تولى قتله فكان مستريبا بهم ولما سار إلى التتر ذهل كل منهم عن شأنه وجاء البحرية من القفر هاربين من المغيث صاحب الكرك فوثقوا لأنفسهم من السلطان قطز أحوج ما كان إلى أمثالهم من المدافعة عن الإسلام وأهله فأمنهم واشتمل عليهم وشهدوا معه واقعة التتر على عين جالوت وأبلغوا فيها والمقدّمون فيهم يومئذ بيبرس البندقداري وأنز الأصبهاني وبليان الرشيديّ وبكتون الجوكنداري وبند وغار التركي فلما انهزم التتر من الشام واستولوا عليه وحسر ذلك المد وأفرج عن الخائفين الروع عاد هؤلاء البحرية إلى ديدنهم من الترصد لثار أقطاي فلما قفل قطز من دمشق سنة ثمان وخمسين أجمعوا أن يبرزوا به في طريقهم فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيد وسارت الرواحل على الطريق فاتبعوه وتقدّم إليه أنز شفيعا في بعض أصحابه فشفعه فأهوى يقبل يده فأمسكها وعلاه بيبرس بالسيف فخرّ صريعا لليدين والفم ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه وتبادروا إلى المخيم وقام دون فارس الدين اقطاي على ابن المعز أيبك وسأل من تولى قتله منكم فقالوا بيبرس فبايع له وأتبعه أهل المعسكر ولقبوه الظاهر وبعثوا أيدمر الحلي بالخبر إلى القلعة بمصر فأخذ له البيعة على من هناك ووصل الظاهر منتصف ذي القعدة من السنة فجلس على كرسيه واستخلف الناس على طبقاتهم وكتب إلى الأقطار بذلك ورتب الوظائف وولى الأمراء وولى تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الوزارة مع القضاء واقتدى بآثار أستاذه الصالح نجم الدين ومبدأ أمر هذا الظاهر بيبرس أنه كان من موالي علاء الدين أيدكين البندقداري مولى الصالح فسخط عليه واعتقله وانتزع ماله ومواليه وكان منهم بيبرس فصيره مع الجامدارية وما زال يترقى في المراتب إلى أن تقدّم في الحروب ورياسة المراكب ثم كان خبره بعد الصالح ما قصصناه انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 انتقاض سنجر الحلي بدمشق ثم آقوش البرلي بحلب ولما بلغ علم الدين سنجر بدمشق مقتل قطز وولاية الظاهر بيبرس انتقض ودعا لنفسه وجلس على التخت بدمشق وتلقب المجاهد وخطب لنفسه وضرب السكة باسمه وتمسك المنصور صاحب حماة بدعوة الظاهر وجاءت عساكر التتر إلى الشام فلما شارفوا البيرة جرد إليهم السعيد بن لؤلؤ من حلب عسكرا فهزمهم التتر وقتلوهم واتهم الأمراء العزيزية والناصرية ابن لؤلؤ في ذلك فاعتقلوه وقدموا عليهم حسام الدين الجوكنداري وأقرّه الظاهر وزحف التتر إلى حلب فملكوها وهرب حسام الدين إلى حماة ثم زحف إليها التتر فلحق صاحبها المنصور وأخوه علي الأفضل إلى حمص وبها الأشرف بن شيركوه واجتمعت إليه العزيزة والناصرية وقصدوا التتر سنة تسع وخمسين فهزموهم بعد هزيمتهم ونازلوا حماة وسار المنصور والأشرف صاحب حمص إلى سنجر الحلي بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه وسار التتر من حماة إلى أفامية فحاصروها يوما وعبروا الفرات إلى بلادهم وبعث بيبرس الظاهر صاحب مصر أستاذه علاء الدين البند قداري في العساكر لقتال سنجر الحلي بدمشق وقاتلهم فهزموه ولجأ إلى القلعة ثم خرج منها ليلا إلى بعلبكّ وأتبعوه فقبضوا عليه وبعثوه إلى الظاهر فاعتقله واستقرّ أيدكين بدمشق ورجع صاحب حمص وحماة إلى بلديهما وبعث الظاهر إلى أيدكين بالقبض على بهاء الدين بقري وشمس الدين أقوش اليرلي [1] وغيرهما من العزيزية فقبض على بقري وفرّ العزيزية والناصرية مع أقوش اليرلي وطالبوا صاحب حمص وصاحب حماة في الانتقاض فلم يجيباهم إلى ذلك فقال لفخر الدين [2] أطلب لي الظاهر المقدّم معك في خدمتك وبينما هو يسير لذلك خالفه اليرلي إلى حلب وثار بها وجمع العرب والتركمان ونصب للحرب فجاءت العساكر من مصر فقاتلوه وغلبوه عليها ولحق بالبيرة فملكها واستقرّ بها حتى إذا جهر الظاهر عساكره سنة ستين إلى حلب مع سنقر الرومي سار معه صاحب حماة وصاحب حمص للإغارة على أنطاكية ولقيهم اليرلي وأعطاهم طاعته وأقرّه الظاهر على البيرة ثم ارتاب به بعد ذلك واعتقله ثم علاء الدين أيدكين البند قداري مولى السلطان بدمشق وولى عليها بيبرس الوزير ورجع والله ينصر من يشاء من عباده انتهى.   [1] واسمه في أخبار البشر ج 3 ص 210: أقوش البرلي. [2] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 3 ص 211: فلما قدم البرلي إلى حلب كان بها فخر الدين الحمصي المذكور، فقال له البرلي: نحن في طاعة الملك الظاهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 البيعة للخليفة بمصر ثم مقتله بالحديثة وغانة على يد التتر والبيعة للآخر الّذي استقرّت الخلافة في عقبه بمصر لما قتل الخليفة عبد الله المستعصم ببغداد بقي رسم الخلافة الإسلامية عطلا بأقطار الأرض والظاهر متشوّف إلى تجديده وعمارة دسته ووصل إلى مصر سنة تسع وخمسين عمّ المستعصم وهو أبو العباس أحمد بن الظاهر كان بقصورهم ببغداد وخلص يوم البيعة وأقام يتردّد في الأحياء إلى أن لحق بمصر فسرّ الظاهر بقدومه وركب للقائه ودعا الناس على طبقاتهم إلى أبواب السلطان بالقلعة وأفرد بالمجلس أدبا معه وحضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز فحكم باتصال نسبه بالشجرة الكريمة بشهادة العرب الواصلين به والخدم الناجعين من قصورهم ثم بايع له الظاهر والناس على طبقاتهم وكتب إلى النواحي بأخذ البيعة له والخطبة على المنابر ونقش اسمه في السكة ولقب المستنصر وأشهد هو حينئذ الملأ بتفويض الأمر للظاهر والخروج له عن العهد وكتب بذلك سجله وأنشأه فخر الدين بن لقمان كاتب الترسيل ثم ركب السلطان والناس كافة إلى خيمة بنيت خارج المدينة فقرئ التقليد على الناس وخلع على أهل المراتب والخواص ونادى السلطان بمظاهرته وإعادته إلى دار خلافته ثم خطب هذا الخليفة يوم الجمعة وخشع في منبره فأبكى الناس وصلى وانصرفوا إلى منازلهم ووصل على أثره الصالح إسماعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل وأخوه إسحاق صاحب الجزيرة وقد كان أبوهما لؤلؤ استخدم لهلاكو كما مرّ وأقره على الموصل وما إليها وتوفي سنة سبع وخمسين وقد ولي ابنه إسماعيل على الموصل وابنه إسماعيل المجاهد على جزيرة ابن عمر وابنه السعيد على سنجار وأقرّهم هلاكو على أعمالهم ولحق السعيد بالناصر صاحب دمشق وسار معه إلى مصر وصار مع قطز وولاه حلب كما مرّ ثم اعتقل ثم ارتاب هلاكو بالأخوين فأجفلا ولحقا بمصر وبالغ الظاهر في إكرامهم وسألوه في إطلاق أخيهم المعتقل فأطلقه وكتب لهم بالولاية على أعمالهم وأعطاهم الألوية وشرع في تجهيز الخليفة إلى كرسيه ببغداد فاستخدم له العساكر وأقام له الفساطيط والخيام ورتب له الوظائف وأزاح علل الجميع يقال أنفق في تلك النوبة نحوا من ألف ألف دينار ثم سار من مصر في شوّال من السنة إلى دمشق ليبعث من هناك الخليفة وابني لؤلؤ إلى ممالكهم ووصل إلى دمشق ونزل بالقلعة وبعث بليان الرشيديّ وشمس الدين سنقر إلى الفرات وصمم الخليفة لقصده وفارقهم وسار الصالح إسماعيل وأخواه إلى الموصل وبلغ الخبر إلى هلاكو فجرد العساكر إلى الخليفة وكبسوه بغانة والحديثة فصابرهم قليلا ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 استشهد وبعث العساكر إلى الموصل فحاصروها تسعة أشهر حتى جهدهم الحصار واستسلموا فملكها التتر وقتلوا الصالح إسماعيل والظاهر خلال ذلك مقيم بدمشق وقد وفد عليه بنو أيوب من نواحي الشام وأعطوه طاعتهم المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص فأكرم وصلهما وولاهما على أعمالها وأذن لهما في اتخاذ الآلة وبسط حكمهما على بلاد الإسماعيلية وإلى المنصور تل باشر الّذي اعتاضه عن حمص لما آخذها منه الناصر صاحب حلب ووفد على الظاهر أيضا بدمشق الزاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص وصاحب بعلبكّ والمنصور والسعيد ابنا الصالح إسماعيل بن العادل والأمجد بن الناصر داود والأشرف بن مسعود والظاهر بن المعظم فأكرم وفادتهم وقابل بالإحسان والقبول طاعتهم وفرض لهم الأرزاق وقرّر الجرايات ثم قفل إلى مصر وأفرج عن العزيز بن المغيث الّذي كان اعتقله قطز وأطلقه يوم الموقعة بالكرك وولى على أحياء العرب بالشام عيسى بن مهنا بن مانع بن جريلة من رجالاتهم ووفر لهم الإقطاع على حفظ السابلة إلى حدود العراق ورجع إلى مصر فقدم عليه رجل من عقب المسترشد من خلفاء بني العباس ببغداد اسمه أحمد فأثبت نسبه ابن بنت الأعز كالأوّل وجمع الظاهر الناس على مراتبهم وبايع له وفوض إليه هو الأمور وخرج إليه عن التدبير وكانت هذه البيعة سنة ستين ونسبه عند العباسيين في أدراج نسبهم الثابت أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد بن الإمام المسترشد وعند نسابة مصر أحمد بن حسن بن أبي بكر بن الأمير أبي علي القتبي بن الأمير حسن بن الإمام الراشد بن الإمام المسترشد هكذا قال صاحب حماة في تاريخه وهو الّذي استقرّت الخلافة في عقبه بمصر لهذا العهد انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. فرار التركمان من الشام إلى بلاد الروم كان التركمان عند دخول التتر إلى بلاد الشام كلهم قد أجفلوا إلى الساحل واجتمعت أحياؤهم بالجوكان قريبا من صفد وكان الظاهر لما نهض إلى الشام اعترضه رسل الإفرنج من يافا وبيروت وصفد يسألونه في الصلح على ما كان لعهد صلاح الدين فأجابهم وكتب به إلى الانبردور [1] ملكهم ببلاد إفرنسة وراء البحر فكانوا في ذمة من الظاهر وعهد ووقعت بين الإفرنج بصفد وبين أحياء التركمان واقعة يقال أغار فيها أهل صفد عليهم فأوقع بهم التركمان وأسروا عدّة من رؤسائهم وفادوهم بالمال ثم خشوا عاقبة ذلك من الظاهر فارتحلوا إلى بلاد الروم وأقفر الشام منهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.   [1] أي الامبراطور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 انتقاض الأشرفية والعزيزية واستيلاء اليرلي على البيرة كان هؤلاء العزيزية والأشرفية من أعظم جموع هؤلاء الموالي وكان مقدم الأشرفية بهاء الدين بقري ومقدم العزيزية شمس الدين أقوش وكان المظفر قطز قد أقطعه نابلس وغزة وسواحل الشام ولما ولي الظاهر انتقض عليه سنجر الحلي بدمشق وجهز أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتاله وكان الأشرفية والعزيزية بحلب وقد انتقضوا على نائبها السعيد بن لؤلؤ كما مرّ فتقدّم البندقداري باستدعائهم معه إلى دمشق ثم أضاف الظاهر بيسان لليرلي زيادة على ما بيده فسار وملك دمشق ثم أوعز الظاهر إلى البندقداري بالقبض على العزيزية والأشرفية فلم يتمكن الأمن بقرى مقدم الأشرفية وفارقه الباقون وانتقضوا واستولى شرف الدين اليرلي على البيرة وأقام بها وشنّ الغارات على التتر شرقي الفرات فنال منهم ثم جهز عساكره إليه مع جمال الدين بامو الحموي فهزمهم وأطلقهم وأقام الظاهر على استمالته بالترغيب والترهيب حتى جنح إلى الطاعة واستأذن في القدوم وسار بكباس الفخري للقائه فلقيه بدمشق سنة إحدى وستين ثم وصل فأوسعه السلطان يدا وعطاء والواصلين معه على مراتبهم واختصه بمراكبته ومشورته وسأله النزول عن البيرة فنزل عنها فقبلها الظاهر وأعاضه عنها والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء الظاهر على الكرك من يد المغيث وعلى حمص بعد وفاة صاحبها لما قفل السلطان من الشام سنة ستين كما قدّمناه جرّد عسكرا إلى الشويك مع بدر الدين أيدمري فملكها وولى عليها بدر الدين بليان الخصي ورجع إلى مصر وكان عند المغيث بالكرك جماعة من الأكراد الذين اجفلوا من شهرزور أمام التتر إلى الشام وكان قد اتخذهم جندا لعسكرته فسرّحهم للإغارة على الشويك ونواحيه فاعتزم السلطان على الحركة إلى الكرك مخافة المغيث وبعث بالطاعة واستأمن الأكراد فقبلهم الظاهر وأمن الأكراد فوصلوا إليه ثم سار سنة إحدى وستين إلى الكرك واستخلف على مصر سنجر الحلي واستخلف على غزة فلقي هنالك أمّ المغيث تستعطفه وتستأمن منه لحضور ابنها فأجابها وسار إلى بيسان فسار المغيث للقائه فلما وصل قبض عليه وبعثه من حينه إلى القاهرة مع آق سنقر الفارقاني وقتل بعد ذلك بمصر وولي على الكرك عز الدين أيدمر وأرسل نور الدين بيسري الشمسي ليؤمن أهل الكرك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 ويرتب الأمور بها وأقام بالطور في انتظاره فأبلغ بيسري القصد من ذلك ورجع إليه فارتحل إلى القدس وأمر بعمارة مسجده ورجع إلى مصر وبلغه وفاة صاحب حمص موسى الأشرف ابن إبراهيم المنصور شيركوه المجاهد بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه وكانت وراثة له من آبائه أقطعه نور الدين العادل لجدّه أسد الدين ولم تزل في أيديهم وأخذها الناصر يوسف صاحب حلب سنة ست وأربعين وعوضه عنها تل باشر وأعادها عليه هلاكو وأقرّه الظاهر توفي سنة إحدى وستين وصارت للظاهر وانقرض منها ملك بني أيوب والله سبحانه وتعالى أعلم. هزيمة التتر على البيرة وفتح قيسارية وارسوف بعدها ثم رجعت عساكر التتر الى البيرة مع ردمانة من أمراء المغل سنة ثلاث وستين فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق فجهز السلطان العساكر مع لوغان من أمراء الترك فساروا في ربيع من السنة وسار السلطان في أثرهم وانتهى الى غزة ولما وصلت العساكر الى البيرة وأشرفوا عليها والعدوّ يحاصرها أجفلت عساكر التتر وساروا منهزمين وخلفوا سوادهم وأثقالهم فنهبتها العساكر وارتحل السلطان من غزة وقصد قيسارية وهي للافرنج فنزل عليها عاشر جمادى من السنة فنصب المجانيق ودعا أهلها للحرب واقتحمها عليهم فهربوا الى القلعة فحاصرها خمسا وملكها عنوة وفرّ الافرنج منها ثم رحل في خف من العساكر الى عملها فشنّ عليها الغارة وسرّح عسكرا الى حيفا فملكها عنوة وخرّبوها وقلعتها في يوم أو بعض يوم ثم ارتحل الى ارسوف فنازلها مستهل جمادى الأخيرة فحاصرها وفتحها عنوة وأسر الافرنج الذين بها وبعث بهم الى الكرك وقسم أسوارها على الأمراء فرموها وعمد الى ما ملك في هذه الغزاة من القرى والضياع والأرضين فقسمها على الأمراء الذين كانوا معه وكانوا اثنين وخمسين وكتب لهم بذلك وقفل الى مصر وبلغه الخبر بوفاة هلاكو ملك التتر في ربيع من السنة وولاية ابنه ابغا مكانه وما وقع بينه وبين بركة صاحب الشمال من الفتنة ولأوّل دخوله لمصر قبض على شمس الدين سنقر الرومي وحبسه وكانت الفتنة قبل غزاته بين عيسى بن مهنا ولحق زامل بعد ذلك بهلاكو ثم استأمن الى الظاهر فآمنه وعاد الى احيائه والله تعالى أعلم. غزو طرابلس وفتح صفد كانت طرابلس للافرنج وبها سمند بن البرنس الأشتر وله معها انطاكية وبلغ السلطان انه قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 تجهز للقتال فلقيه النائب بها علم الدين سنجر الباشقر وانهزم المسلمون واستشهد كثير منهم فتجهز السلطان للغزو وسار من مصر في شعبان سنة أربع وستين وترك ابنه السعيد عليا بالقلعة في كفالة عز الدين ايدمر الحلي وقد كان عهد لابنه السعيد بالملك سنة اثنتين وستين ولما انتهى الى غزة بعث العساكر صحبة سيف الدين قلاون آيدغدي العزيزي فنازل القليعات وحلب وعرقا من حصون طرابلس فاستأمنوا اليه وزحفت العساكر وسار السلطان الى صفد فحاصرها عشرا ثم اقتحمها عليهم في عشرين من رمضان السنة وجمع الافرنج الذين بها فاستلحمهم أجمعين وأنزل بها الحامية وفرض أرزاقهم في ديوان العطاء ورجع الى دمشق والله تعالى أعلم. مسير العساكر لغزو الأرمن هؤلاء الأرمن من ولد أخي إبراهيم عليه السلام من بني قوميل بن ناحور وناحور بن تارح وعبر عنه في التنزيل بآزر وناحور أخو إبراهيم عليه السلام ويقال أنّ الكرج اخوة الأرمن وارمينية منسوبة اليهم وآخر مواطنهم الدروب المجاورة لحلب وقاعدتها سيس ويلقب ملكهم التكفور وكان ملكهم صاحب هذه الدروب لعهد الملك الكامل وصلاح الدين من بعده اسمه قليج بن اليون واستنجد به العادل وأقطع له وكان يعسكر معه وصالحه صلاح الدين على بلاده ثم كان ملكهم لعهد هلاكو والتتر هيثوم بن قسطنطين ولعله من أعقاب قليج أو قرابته ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته فأقرّه على سلطانه ثم أمره بالاغارة على بلاد الشام وأمده صاحب بلاد الروم من التتر وسار سنة اثنتين وستين ومعه بنو كلاب من أعراب حلب وانتهوا الى سيس وجهز الظاهر عساكر حماة وحمص فساروا اليهم وهزموهم ورجعوا الى بلادهم فلما رجع السلطان من غزاة طرابلس سنة أربع وستين سرّح العساكر لغزو سيس وبلاد الأرمن وعليهم سيف الدين قلاون والمنصور صاحب حماة فساروا لذلك وكان هيثوم ملكهم قد ترهب ونصب للملك ابنه كيقومن فجمع كيقومن الأرمن وسار للقائهم ومعه أخوه وعمه وأوقع بهم المسلمون قتلا وأسرا وقتل أخوه وعمه في جماعة من الأرمن واكتسحت عساكر المسلمين بلادهم واقتحموا مدينة سيس وخربوها ورجعوا وقد امتلأت أيديهم بالغنائم والسبي وتلقاهم الظاهر من دمشق عند قارا فلما رآهم ازداد سرورا بما حصل لهم وشكا اليه هنالك الرعية ما لحقهم من عدوان الأحياء الرحالة وانهم ينهبون موجودهم ويبيعون ما يتخطفونه منهم من الافرنج بعكا فأمر باستباحتهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 وأصبحوا نهبا في أيدي العساكر بين القتل والأسر والسبي ثم سار الى مصر وأطلق كيقومن من ملك الأرمن وصالحه على بلده ولم يزل مقيما الى أن بعث أبوه في فدائه وبذل فيه الأموال والقلاع فأبى الظاهر من ذلك وشرط عليه خلاص الأمراء الذين أخذهم هلاكو من سجن حلب وهم سنقر الأشقر وأصحابه فبعث فيهم تكفر الى هلاكو فبعث بهم اليه وبعث الظاهر بابنه منتصف شوّال وتسلم القلاع التي بذلت في فدائه وكانت من أعظم القلاع وأحصنها منها مرزبان ورعبان وقدم سنقر الأشقر على الظاهر بدمشق وأصبح معه في الموكب ولم يكن أحد علم بأمره وأعظم اليه السلطان النعمة ورفع الرتبة ورعى له السابقة والصحبة وتوفي هيثوم سنة ستين بعدها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. مسير الظاهر لغزو حصون الافرنج بالشام وفتح يافا والشقيف ثم انطاكية كان الظاهر عند ما رجع من غزاة طرابلس الى مصر أمر بتجديد الجامع الأزهر واقامة الخطبة به وكان معطلا منها منذ مائة سنة وهو أوّل مسجد أسسه الشيعة بالقاهرة حين اختطوها ثم خرج الى دمشق لخبر بلغه عن التتر ولم يثبت فسار من هنالك الى صفد وكان أمر عند مسيره بعمارتها وبلغه اغارة أهل الشقيف على الثغور فقصدها وشنّ الغارة على عكا واكتسح بسائطها حتى سأل الأفرنج منه الصلح على ما يرضيه فشرط المقاسمة في صيدا وهدم الشقيف واطلاق تجار من المسلمين كانوا أسروهم ودية بعض القتلى الّذي أصابوا دمه وعقد الصلح لعشر سنين ولم يوفوا بما شرط عليهم فنهض لغزوهم ونزل فلسطين في جمادى سنة ست وستين وسرّح العساكر لحصار الشقيف ثم بلغه مهلك صاحب يافا من الافرنج وملك ابنه مكانه وجاءت رسله اليه في طلب الموادعة فحبسهم وصبح البلد فاقتحمها ولجأ أهلها الى القلعة فاستنزلهم بالأمان وهدمها وكان أوّل من اختط مدينة يافا هذه صنكل من ملوك الافرنج عند ما ملكوا سواحل الشام سنة ثلاث وتسعين واربعمائة ثم مدنها وأتم عمارتها ريد افرنس المأسور على دمياط عند ما خلص من محبسه بدار بن لقمان ثم رجع الى حصن الشقيف فحاصره وافتتحه بالأمان وبث العساكر في نواحي طرابلس فاكتسحوها وخربوا عمرانها وكنائسها وبادر صاحب طرطوس بطاعة السلطان وبعث الى العساكر بالميرة وأطلق الأسرى الذين عنده ثلاثمائة أو يزيدون ثم ارتحل السلطان الى حمص وحماة يريد انطاكية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 وقدّم سيف الدين قلاون في العساكر فنازل انطاكية في شعبان فسار [1] المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر وكان صاحب انطاكية سمند بن تيمند وكانت قاعدة ملك الروم قبل الإسلام اختطها انطيخس من ملوك اليونانيين واليه تنسب ثم صارت للروم وملكها المسلمون عند الفتح ثم ملكها الافرنج عند ما ساروا الى ساحل الشام أعوام التسعين والأربعمائة ثم استطردها صلاح الدين من البرنس ارناط الّذي قتله في واقعة حطين كما مرّ ثم ارتجعها الافرنج بعد ذلك على يد البرنس الأشتر وأظنه صنكل ثم صارت لابنه تيمند ثم لابنه سمند وكان عند ما حاصرها الظاهر بطرابلس وكان بها كند اصطبل عم يغمور ملك الأرمن أفلت من الواقعة عليه بالذرابند واستقرّ بأنطاكية عند سمند فخرج في جموعه لقتال الظاهر فانهزم أصحابه وأسر كند اصطبل على أن يحمل أهل انطاكية على الطاعة فلم يوافقوه ثم جهدهم الحصار واقتحمها المسلمون عنوة وأثخنوا فيهم ونجا فلهم الى القلعة فاستنزلوا على الأمان وكتب الظاهر الى ملكهم سمند وهو بطرابلس وأطلق كند اصطبل وأقاربه الى ملكهم هيثوم بسيس ثم جمع الغنائم وقسمها وخرب قلعة انطاكية وأضرمها نارا واستأمن صاحب بغراس فبعث اليه سنقر الفارقيّ استاذ داره فملكها وأرسل صاحب عكا الى الظاهر في الصلح وهو ابن أخت صاحب قبرس فعقد له السلطان الصلح لعشر سنين ثم عاد الى مصر فدخلها ثالث أيام التشريق من السنة والله تعالى أعلم. الصلح مع التتر ثم نهض السلطان من مصر سنة سبع وستين لغزو الافرنج بسواحل الشام وخلف على مصر عز الدين ايدمر الحلي مع ابنه السعيد ولي عهده وانتهى الى ارسوف فبلغه أنّ رسلا جاءوا من عند ابغا بن هلاكو ومرّوا نقفور ملك الروم فبعث بهم الى [2] فبعث أميرا من حلب لإحضارهم وقرأ كتاب ابغا نقفور تكفر في الصلح ويحتال فيما أذاعه من رسالته فأعاد رسله بجوابهم وأذن للامراء في الانطلاق الى مصر ورجع الى دمشق ثم سار منها في خف من العسكر الى القلاع وبلغه وفاة ايدمر الحلي بمصر فخيم بخربة اللصوص وأغذ السير الى مصر متنكرا منتصف شعبان في خف من التركمان وقد طوى خبره عن معسكره وأوهمهم القعود في   [1] بياض بالأصل وفي اخبار البشر ج 4 ص 23: ولما فرغ السلطان من فتح طرابلس وهدمها عاد الى الديار المصرية واعطى صاحب حماة الدستور فعاد الى بلده. [2] بياض بالأصل ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على اسم البلد الّذي أرسلهم اليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 خيمته عليلا ووصل الى القلعة ليلة الثلاثاء رابعة سفره فتنكر له الحراس وطولع مقدّم الطواشية فطلب منهم امارة على صدقهم فأعطوها ثم دخل فعرفوه وباكر الميدان يوم الخميس فسرّ به الناس ثم قضى حاجة نفسه وخرج ليلة الإثنين عائدا الى الشام كما جاء فوصل الى مخيمه ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان وفرح الأمراء بقدومه ثم فرق البعوث في الجهات وأغاروا على صور وملكوا احدى الضياع وساحوا في بسيط كركو فاكتسحوها وامتلأت أيديهم بالغنائم ورجعوا والله تعالى أعلم. استيلاء الظاهر على صهيون كان صلاح الدين بن أيوب قد أقطعها يوم فتحها وهي سنة أربع وثمانين وخمسمائة لناصر الدين منكبرس فلم تزل بيده الى أن هلك وولي فيها بعده ابنه مظفر الدين عثمان وبعده ابنه سيف الدين بن عثمان واستبدّ الترك بمصر وبعث سيف الدين أخاه عماد الدين سنة ستين بالهدايا الى الملك الظاهر بيبرس فقبلها وأحسن اليه ثم مات سيف الدين سنة تسع وستين وكان أوصى أولاده بالنزول للظاهر عن صهيون فوفد ابناه سابق الدين وفخر الدين على السلطان بمصر فأكرمهما وأقطعهما وولى سابق الدين منهما أميرا وولى على صهيون من قبله ولم يزل كذلك الى أن غلب عليها سنقر الأشقر عند ما انتقض بدمشق أيام المنصور والله تعالى أعلم. نهوض الظاهر الى الحج ثم بلغ الظاهر أنّ أبا نمي بن أبي سعد بن قتادة غلب عمه إدريس بن قتادة على مكة واستبدّ بها وخطب للظاهر فكتب له بالامارة على مكة واعتزم على النهوض الى الحج وتجهز لذلك سنة سبع وستين وأزاح علل أصحابه وشيع العساكر مع آقسنقر الفارقاني استاذ داره الى دمشق وسار الى الكرك موريا بالصيد وانتهى الى الشويك ورحل منه لإحدى عشرة ليلة من ذي القعدة ومرّ بالمدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فأحرم من ميقاتها وقدم مكة لخمس من ذي الحجة وغسل الكعبة بيده وحمل لها الماء على كتفه وأباح للمسلمين دخولها وأقام على بابها يأخذ بأيديهم ثم قضى حجه ومناسكه وولى نائبا على مكة شمس الدين مروان وأحسن الى الأمير أبي نمي والى صاحب ينبع وخليص وسائر شرفاء الحجاز وكتب الى صاحب اليمن: اني بمكة وقد وصلتها في سبع عشرة خطوة ثم فصل من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 مكة ثالث عشر ذي الحجة فوصل المدينة على سبعة أيام ووصل الى الكرك منسلخ السنة ثم وصل دمشق غرة ثمان وستين وسار الى زيارة القدس وقدّم العساكر مع الأمير آقسنقر الى مصر وعاد من الزيارة فأدركهم بتل العجول ووصل القلعة ثالث صفر من السنة والله تعالى أعلم. اغارة الافرنج والتتر على حلب ونهوض السلطان اليهم كان صمغان من أمراء التتر مقيما ببلاد الروم وأميرا عليها فوقعت المراسلة بينه وبين الافرنج في الاغارة على بلاد الشام وجاء صمغان في عسكره لموعدهم فأغار على أحياء العرب بنواحي حلب وبلغ الخبر الى الظاهر سنة ثمان وستين وهو يتصيد بنواحي الاسكندرية فنهض من وقته الى غزة ثم الى دمشق ورجع التتر على أعقابهم ثم سار الى عكا فاكتسح نواحيها وأثخن فيها وفعل كذلك بحصن الأكراد ورجع الى دمشق آخر رجب ثم الى مصر ومرّ بعسقلان فخرّبها وطمس آثارها وجاءه الخبر بمصر بأنّ الفرنسيس لويس بن لويس وملك انكلترة وملك اسكوسنا [1] وملك نودل وملك برشلونة وهو ريدراكون وجماعة من ملوك الافرنج جاءوا في الاساطيل الى صقلّيّة وشرعوا في الاستكثار من الشواني وآلة الحرب ولم يعرف وجه مذهبهم فاهتم الظاهر بحفظ الثغور والسواحل واستكثر من الشواني والمراكب ثم جاء الخبر الصحيح بأنهم قاصدون تونس فكان من خبرهم ما نذكره في دولة السلطان بها من بني أبي حفص والله تعالى أعلم. فتح حصن الأكراد وعكا وحصون صور ثم سار السلطان سنة تسع وستين لغزو بلاد الافرنج وسرّح ابنه السعيد في العساكر الى المرقب لنظر الأمير قلاون وببعلبكّ الخزندار وسار هو الى طرابلس فاكتسحوا سائر تلك النواحي لحصن الأكراد عاشر شعبان من السنة فحاصره السلطان عشرا ثم اقتحمت أرباضه وانحجر الافرنج في قلعته واستأمنوا وخرجوا الى بلادهم وملك الظاهر الحصون وكتب الى صاحب الأستبار بالفتح وهو بطرسوس وأجاب بطلب الصلح فعقد له على طرسوس   [1] هي اسكوتلندا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 والمرقب وارتحل السلطان عن حصن الأكراد بعد أن شحنه بالأقوات والحامية ونازل حصن عكا [1] واشتدّ في حصاره واستأمن أهله اليه وملكه ثم ارتحل بعد الفطر الى طرابلس واشتدّ في قتالها وسأل صاحبها البرنس الصلح فعقد له على ذلك لعشر سنين ورجع الى دمشق ثم خرج آخر شوّال الى العليقة وملك قلعته بالأمان على أن يتركوا الأموال والسلاح واستولى عليه وهدمه وسار الى اللجون وبعث اليه صاحب صور في الصلح على أن ينزل له عن خمس من قلاعه فعقد له الصلح لعشر سنين وملكها ثم كتب الى نائبة بمصر أن يجهز عشرة من الشواني الى قبرس فجهزها ووصلت ليلا الى قبرس والله أعلم. استيلاء الظاهر على حصون الإسماعيلية بالشام كان الإسماعيلية في حصون من الشام قد ملكوها وهي مصياف والعليقة والكهف والمنيفة والقدموس وكان كبيرهم لعهد الظاهر نجم الدين الشعراني وكان قد جعل له الظاهر ولايتها ثم تأخر عن لقائه في بعض الأوقات فعزله وولى عليها خادم الدين بن الرضا على أن ينزل له عن حصن مصياف وأرسل معه العساكر فتسلموه منه ثم قدم عليه سنة ثمان وستين وهو على حصن الأكراد وكان نجم الدين الشعراني قد أسنّ وهرم فاستعتب وأعتبه الظاهر وعطف عليه وقسم الولاية بينه وبين ابن الرضا وفرض عليهما مائة وعشرين ألف درهم يحملانها في كل سنة ولما رجع سنة تسع وستين وفتح حصن الأكراد مرّ بحصن العليقة من حصونهم فملكه من يد ابن الرضى منتصف شوّال من السنة وأنزل به حامية ثم سار لقتال التتر على البيرة كما يذكر ورجع الى مصر فوجد الإسماعيلية قد نزلوا على الحصون التي بقيت بأيديهم وسلموها لنواب الظاهر فملكوها وانتظمت قلاع الإسماعيلية في ملكة الظاهر وانقرضت منها دعوتهم والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار التتر البيرة وهزيمتهم عليها ثم بعث ابغا بن هلاكو العساكر الى البيرة سنة احدى وسبعين مع درباري من مقدّمي أمرائه فحاصرها ونصب عليها المجانيق وكان السلطان بدمشق فجمع العساكر من مصر والشام وزحف الى الفرات وقد جهز العساكر على قاصيته فتقدّم الأمير قلاون وخالط التتر عليها في   [1] وفي اخبار البشر حصن عكار (ج 4 ص 6) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 مخيمهم فجالوا معه ثم انهزموا وقتل مقدّمهم وخاض السلطان بعساكره بحر الفرات اليهم فأجفلوا وتركوا خيامهم بما فيها وخرج أهل البيرة فنهبوا سوادهم وأحرقوا آلات الحصار ووقف السلطان بساحتها قليلا وخلع على النائب بها [1] لحق درباري بسلطانه ابغا مفلولا فسخطه ولم يعتبه والله تعالى ولىّ التوفيق. غزوة سيس وتخريبها ثم نهض الظاهر من مصر لغزو سيس في شعبان سنة ثلاث وسبعين وانتهى الى دمشق في رمضان وسار منها وعلى مقدمته الأمير قلاون وبدر الدين ببليك الخازندار فوصلوا الى المصيصة وافتتحوها عنوة وجاء السلطان على أثرهم وسار بجميع العساكر الى سيس بعد أن كنف الحامية بالبيرة خوفا عليها من التتر وبعث حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى أمير العرب بالشام للاغارة على بلاد التتر من ناحيتها وسار إلى سيس فخربها وبث السرايا في نواحيها فانتهوا الى بانياس وأذنة واكتسحوا سائر الجهات ووصل الى دربند الروم وعاد الى المصيصة في التعبية فأحرقها ثم انتهى الى انطاكية فأقام عليها حتى قسم الغنائم ثم رحل الى القصر وكان للافرنج خالصا لتبركهم برومة الّذي يسمونه البابا فافتتحه ولقيه هنالك حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى راجعين من اغارتهم وراء الفرات ثم بلغه مهلك البرنس سمند بن تيمند صاحب طرابلس فبعث الظاهر بليان الدوادار ليقرّر الصلح مع بنيه فقرّره على عشرين ألف دينار وعشرين أسيرا كل سنة وحضر لذلك صاحب قبرس وكان جاء معزيا لبني البرنس ورجع الدوادار الى الظاهر فقفل الى دمشق منتصف ذي الحجة والله تعالى ينصر من شاء من عباده. إيقاع الظاهر بالتتر في بلاد الروم ومقتل البرواناة بمداخلته في ذلك كان علاء الدين البرواناة متغلبا على غياث الدين كنجسرو صاحب بلاد الروم من بني قليج ارسلان وقد غلب التتر على جميع ممالك بلاد الروم وأبقوا على كنجسرو اسم الملك في كفالة البرواناة [2] وأقاموا أميرا من أمرائهم ومعه عسكر التتر حامية بالبلاد ويسمونه بالشحنة وكان أوّل   [1] بياض بالأصل وفي اخبار البشر ج 4 ص 7: ثم عاد الملك الظاهر فوصل الى الديار المصرية في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة. [2] وفي اخبار البشر ج 4 ص 10: واسم البرواناة المذكور سليمان، والبرواناة لقب وهو «الحاجب» بالعجمي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 أمير من التتر ببلاد الروم بيكو وهو الّذي افتتحها وبعده صمغان وبعده توقوو وتدوان شريكين في أمرهما لعهد الملك الظاهر وكان البرواناة يتأفف من التتر لاستطالتهم عليه وسوء ملكهم ولما استفحل أمر الظاهر بمصر والشام أمّل البرواناة الظهور على التتر والكرة لبني قليج ارسلان بممالأة الظاهر فداخله في ذلك وكاتبه وزحف ابغا ملك التتر الى البيرة سنة أربع وسبعين وخرج الظاهر بالعساكر من دمشق وكاتبه البرواناة يستدعيه وأقام الظاهر على حمص وأرسل اليه البرواناة يستحثه للقاء التتر وعزم ابغا على البرواناة في الوصول فاعتذر ثم رحل متثاقلا وكتب اليه الأمراء بعده بأنّ الظاهر قد نهض الى بلاد الروم بوصيته اليه بذلك فبعث ابغا واستمدّه فأمده بعساكر المغل وأمره بالرجوع لمدافعة الظاهر فرجع ووجد جماعة من الأمراء قد كاتبوا الظاهر واستحثوه للقدوم فسقط في أيديهم وحيل بينهم وبين مرامهم ورجع الى مصر في رجب من السنة وأقام بها حولا. ثم لحق توقوو وتدوان أمير التتر ببلاد الروم وسار الى الثغور بالشام وبلغ السلطان خبرهما فسار من مصر في رمضان سنة خمس وسبعين وقصد بلاد الروم وانتهى الى النهر الأزرق فبعث شمس الدين سنقر الأشقر فلقي مقدّمة التتر فهزمهم ورجع الى السلطان وساروا جميعا فلقوا التتر على البلنشين ومعهم علاء الدين البرواناة في عساكره فهزمهم وقتل الأمير توقوو وتدوان وفر البرواناة وسلطانه كنجسرو لما كان منفردا عنهم وأسر كثير من المغل منهم سلار بن طغرل ومنهم قفجاق وجاروصي وأسر علاء الدين بن معين الدين البرواناة وقتل كثير منهم ثم رحل السلطان الى قيسارية فملكها وأقام عليها ينتظر البرواناة لموعد كان بينهما وأبطأ عليه وقفل راجعا ورجع خبر الهزيمة الى ابغا ملك التتر واطلع من بعض عيونه على ما كان بين البرواناة والظاهر من المداخلة فتنكر للبرواناة وجاء لوقته حتى وقف على موضع المعركة وارتاب لكثرة القتلى من المغل وأنّ عسكر الروم لم يصب منهم أحد فرجع على بلادهم بالقتل والتخريب والاكتساح وامتنع كثير من القلاع ثم أمنهم ورجع وسار معه البرواناة وهمّ بقتله أوّلا ثم رجع لتخليته لحفظ البلاد فأعول نساء القتلى من المغل عند بابه فرحم لبكائهن وبعث أميرا من المغل فقتله في بعض الطريق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم. وفاة الظاهر وولاية ابنه السعيد ولما رجع السلطان من واقعته بالتتر على البلستين وقيسارية طرقه المرض في محرّم سنة ست وسبعين وهلك من آخره وكان ببليك الخزندار مستوليا على دولته فكتم موته ودفنه ورجع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 بالعساكر الى مصر فلما وصل القلعة جمع الناس وبايع لبركة بن الملك الظاهر ولقبه السعيد وهلك ببليك اثر ذلك فقام بتدبير الدولة استاذ داره شمس الدين الفارقاني وكان نائب مصر أيام مغيب الظاهر بالشام واستقامت أموره ثم قبض على شمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسري من أمراء الظاهر بسعاية بطانته الذين جمعهم عليه لأوّل ولايته وكانوا من أوغاد الموالي وكان يرجع اليهم لمساعدتهم له على هواه وصارت شبيبته ولما قبض على هذين الأميرين نكر ذلك عليه خاله محمد بن بركة خان فاعتقله معهما فاستوحشت أمّه لذلك فأطلق الجميع فارتاب الأمراء وأجمعوا على معاتبته فاستعتب واستحلفوه ثم أغراه بطانته بشمس الدين الفارقاني مدبر دولته فقبض عليه واعتقله وهلك لايام من اعتقاله وولى مكانه شمس الدين سنقر الالفي ثم سعى أولئك البطانة به فعزله وولى مكانه سيف الدولة كونك الساقي صهر الأمير سيف الدين قلاون على أخت زوجته بنت كرمون كان أبوها من أمراء التتر قد خرج الى الظاهر واستقرّ عنده وزوّج بنته من الأمير قلاون وبنته الأخرى من كوزبك ثم حضر عند السعيد لاشين الربعي من حاشيته وغلب على هراة واستمال أهل الدولة بقضاء حاجاتهم واستمرّ معروفه لهم واستمرّ الحال على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. خلع السعيد وولاية أخيه شلامش ولما استقرّ السعيد بملكه في مصر أجمع المسير إلى الشام للنظر في مصالحه فسار لذلك سنة سبع وسبعين فاستقرّ بدمشق وبعث العساكر الى الجهات وسار قلاون الصالحي وبدر الدين بيسري الى سيس زين له ذلك لاشين الربعي والبطانة الذين معه وأغروه بالقبض عليهم عند مرجعهم ثم حدث بين هؤلاء البطانة وبين النائب سيف الدين كونك وحشة وآسفوه بما يلقون فيه عند السلطان فغضب لذلك وسارت العساكر فأغاروا على سيس واكتسحوا نواحيها ورجعوا فلقيهم النائب كونك وأسرّ اليهم ما أضمر لهم السلطان فخيموا بالمرج وقعدوا عن لقاء السلطان وبعثوا اليه بالعذل في بطانته وأن ينصف نائبة منهم فأعرض عنهم ودس لموالي أبيه أن يعاودوهم اليه فأطلعوهم على كتابه فزادهم ضغنا وصرحوا بالانتقاض فبعث اليهم سنقر الأشقر وسنقر التركيتي استاذ داره بالاستعطاف فردّوهما فبعث أمه بنت بركة خان فلم يقبلوها وارتحلوا الى القاهرة فوصلوها في محرّم سنة ثمان وسبعين وبالقلعة عز الدين ايبك الافرم الصالحي أمير جندار وعلاء الدين اقطوان الساقي وسيف الدين بليان أستاذ داره فضبطوا أبواب القاهرة ومنعوهم من الدخول وتردّدت المراسلة بينهم وخرج ايبك الافرام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 واقطوان ولاشين التركماني للحديث فتقبضوا عليهم ودخلوا الى بيوتهم ثم باكروا القلعة بالحصار ومنعوا عنها الماء وكان السعيد بعد منصرفهم من دمشق سار في بقية العساكر واستنفر الاعراب وبث العطاء وانتهى الى غزة فتفرّقت عنه الاعراب واتبعهم الناس ثم انتهى الى بلبيس ورأى قلة العساكر فردّ عن الشام مع عز الدين ايدمر الظاهري الى دمشق والنائب بها يومئذ اقوش فقبض عليه وبعث به الى الأمراء بمصر ولما رحل السعيد من بلبيس الى القلعة اعتزل عنه سنقر الأشقر وسار الأمراء في العساكر لاعتراضه دون القلعة وألقى الله عليه حجابا من الغيوم المتراكمة فلم يهتدوا الى طريقه وخلص الى القلعة وأطلق علم الدين سنجر الحنفي من محبسه ليستعين به ثم اختلف عليه بطانته وفارقه بعضهم فرجع الى مصانعة الأمراء بأن يترك لهم الشام أجمع فأبوا إلا حبسه فسألهم أن يعطوه الكرك فأجابوه وحلفهم على الأمان وحلف لهم أن لا ينتقض عليهم ولا يداخل أحدا من العساكر ولا يستميله فبعثوه من حينه الى الكرك وكتبوا الى النائب بها علاء الدين ايدكز الفخري أن يمكنه منها ففعل واستمرّ السعيد بالكرك وقام بدولته ايدكز الفخري واجتمع الأمراء بمصر وعرضوا الملك على الأمير قلاون وكان أحق به فلم يقبل وأشار الى شلامش بن الظاهر وهو ابن ثمان سنين فنصبوه للملك في ربيع سنة ثمان وسبعين ولقبوه بدر الدين وولى الأمير قلاون أتابك الجيوش وبعث مكان جمال الدين اقوش نائب دمشق بتسلمها منه وسار اقوش الى حلب نائبا وولى قلاون في الوزارة برهان الحصري السنحاوي وجمع المماليك الصالحية ووفر اقطاعاتهم وعمر بهم مراتب الدولة وأبعد الظاهرية وأودعهم السجون ومنع الفساد ولم يقطع عنهم رزقا الى أن بلغ العقاب فيهم أجله فأطلقهم تباعا واستقام أمره والله تعالى أعلم. خلع شلامش وولاية المنصور قلاون أصل هذا السلطان قلاون من القفجاق ثم من قبيلة منهم يعرفون برج أعلى وقد مرّ ذكرهم وكان مولى لعلاء الدين آقسنقر الكابلي مولى الصالح نجم الدين أيوب فلما مات علاء الدين صار من موالي الصالح وكان من نفرتهم واستقامتهم ما قدّمناه ثم قدم الى مصر في دولة المظفر قطز مع الظاهر بيبرس ولما ملك الظاهر قرّبه واختصه وأصهر اليه ثم بايع لابنه السعيد من بعده ولما استوحش الأمراء من السعيد وخلعوه رغبوا من الأمير قلاون في الولاية عليهم كما قدّمناه ونصب أخاه شلامش بن الظاهر فوافقه الأمراء على ذلك طواعية له واتصلت رغبتهم في ولايته مدّة شهرين حتى أجابهم الى ذلك فبايعوه في جمادى سنة ثمان وسبعين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 فقام بالأمر ورفع كثيرا من المكوس والظلامات وقسم الوظائف بين الأمراء وولى جماعة من مماليكه إمرة الألوف وزادهم في الأقطاعات وأفرج لوقته عن عز الدين ايبك الافرم الصالحي وولاه نائبا بمصر ثم استبقاه فأعفاه وولى مملوكه حسام الدين طرنطاي مكانه ومملوكه علم الدين سنجر الشجاعي رئاسة الدواوين وأقرّ الصاحب برهان الدين السنجاري في الوزارة ثم عزله بفخر الدين إبراهيم بن لقمان وبعث عز الدين ايدمر الظاهري الّذي كان اعتقله جمال الدين اقوش حين رجع بعساكر الشام عن السعيد بن الظاهر من بلبيس فجيء به مقيدا واعتقله والله تعالى ولىّ التوفيق. انتقاض السعيد بن الظاهر بالكرك ووفاته وولاية أخيه خسرو مكانه ولما ملك السلطان قلاون شرع السعيد بالكرك وكاتب الأمراء بمصر والشام في الانتقاض وخاطبه السلطان بالعتاب على نقض العهد فلم يستعتب وبعث عساكره مع حسام الدين لاشين الجامدار الى الشويك فاستولى عليها فبعث السلطان نور الدين ببليك الايدمري في العساكر فارتدّها في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وقارن ذلك وفاة السعيد بالكرك واجتمع الأمراء الذين بها ومقدّمهم نائبة ايدكين الفخري وقال ايدكين أنّ نائبة كان ايدغري الحراني فنصبوا أخاه خسرو ولقبوه المسعود نجم الدين واستولى الموالي على رأيه وأفاضوا المال من غير تقدير ولا حساب حتى أنفقوا ما كان بالكرك من الذخيرة التي ادّخرها الملك الظاهر وبعض أمراء الشام في الخلاف وبعثوا العساكر فاستولوا على الصليب وحاصروا صرخد فامتنعت وكاتبوا سنقر الأشقر المتظاهر على الخلاف فبعث السلطان ايبك الافرم في العساكر لحصار الكرك فحاصرها وضيق عليها ثم سأل المسعود في الصلح على ما كان الناصر داود بن المعظم فأجابه السلطان قلاون وعقد له ذلك ثم انتقض ثانية ونزع عنه نائبة علاء الدين ايدغري الحراني ونزع عنه الى السلطان فصدق ما نقل عنه من ذلك ثم بعث السلطان سنة خمس وثمانين نائبة حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك فحاصروها واستنزل المسعود وأخاه شلامش منها على الأمان وملكها وجاء بهما الى السلطان قلاون فأكرمهما وخلطهما بولده الى أن توفي فغرّبهما الأشرف الى القسطنطينية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 انتقاض سنقر الأشقر بدمشق وهزيمته ثم امتناعه بصهيون كان شمس الدين سنقر الأشقر لما استقرّ في نيابة دمشق أجمع الانتقاض والاستبداد وتسلم القلاع من الظاهرية وولى فيها وطالب المنصور قلاون دخول الشام بأسرها من العريش الى الفرات في ولايته وزعم أنه عاهده على ذلك وولى السلطان على قلعة دمشق مولاه حسام الدين لاشين الصغير سلحدارا في ذي الحجة سنة ثمان وسبعين فنكر ذلك سنقر وانتقض ودعا لنفسه ثم بلغه خبر قلاون وجلوسه على التخت فدعا الأمراء وأشاع أنّ قلاون قتل واستحلفهم على منعته وحبس من امتنع من اليمين وتلقب الكامل وذلك في ذي الحجة من السنة وقبض على لاشين نائب القلعة وجهز سيف الدين الى الممالك الشامية والقلاع للاستحلاف وولى في وزارة الشام مجد الدين إسماعيل بن كسيرات وسكن سنقر بالقلعة ثم بعث السلطان ايبك الأفرم بالعساكر الى الكرك لما توفي السعيد صاحبها وانتهى الى غزة واجتمع اليه ببليك الايدمري منقلبا من الشويك بعد فتحه فحذرهم سنقر الأشقر وخاطب الأفرم يتجنى على السلطان بأنه لم يفرده بولاية الشام وولى في قلعة دمشق وفي حلب وبعث الأفرم بالكتاب الى السلطان قلاون فأجابه وتقدّم الى الأفرم أن يكاتبه بالعزل فيما فعله وارتكبه فلم يرجع عن شأنه وجمع العساكر من عمالات الشام واحتشد العربان وبعثهم مع قراسنقر المعري الى غزة فلقيهم الأفرم وأصحابه وهزموهم وأسروا جماعة من أمرائهم وبعثوا بهم الى السلطان قلاون فأطلقهم وخلع عليهم ولما وصلت العساكر مفلولة الى دمشق عسكر سنقر الأشقر بالمرج وكاتب الأمراء بغزة يستميلهم وبعث السلطان العساكر بمصر مع علم الدين سنجر لاشين المنصوري وبدر الدين بكتاش الفخري السلحدار فساروا الى دمشق فلقيهم الأشقر على الجسر بالكسرة فهزموه في صفر سنة تسع وسبعين وتقدّموا الى دمشق فملكوها وأطلق علم الدين سنجر لاشين المنصوري من الاعتقال وولاه نيابة دمشق وولى على القلعة سيف الدين سنجار المنصوري وكتب الى السلطان بالفتح وسار سنقر الى الرحبة فامتنع عليه نائبها فسار الى عيسى بن مهنا ورجع عنه الى الفل وكاتبوا ابغا ملك التتر واستحثوا ملك الشام يستميلونه فلم يجب وبعث اليه العساكر فأجفلوا الى صهيون وملكها سنقر وملك معها شيزر وبعث السلطان العساكر لحصار شيزر مع عز الدين الأفرم فحاصرها وجاءت الأخبار بزحف ابغا ملك التتر الى الشام في مواعدة سنقر وابن مهنا واستدعى صغار صاحب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 بلاد الروم فيمن معه من المغل وانه بعث بيدو ابن أخيه طرخان صاحب ماردين وصاحب سيس من ناحية أذربيجان وجاء هو على طريق الشام وفي مقدّمته أخوه منكوتمر فلما تواترت الأخبار بذلك أفرج الأفرم عن حصار شيزر ودعا الأشقر الى مدافعة عدو المسلمين فأجابه ورفع عن موالاة ابغا وسار من صهيون للاجتماع بعساكر المسلمين وجمع السلطان العساكر بمصر وسار الى الشام واستخلف على مصر ابنه أبا الفتح عليا بعد أن ولاه عهده وقرأ كتابه بذلك على الناس وخرج لجمع العساكر في جمادى سنة تسع وسبعين وانتهى الى غزة ووصل التتر الى حلب وقد أجفل عنها أهلها وأقفرت منازلها فأضرموا النار في بيوتها ومساجدها وتولى كبر ذلك صاحب سيس والأرمن وبلغهم وصول السلطان الى غزة فأجفلوا راجعين الى بلادهم وعاد السلطان الى مصر بعد انّ جرّد العساكر الى حمص وبلاد السواحل بحمايتها من الأفرنج ورجع سنقر الأشقر الى صهيون وفارقه كثير من عسكره فلحقوا بالشام وأقام معه سنجر الدوادار وعز الدين اردين والأمراء الذين مكنوه من قلاع الشام عند انتقاضه والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير السلطان لحصار المرقب ثم الصلح معهم ومع سنقر الأشقر بصهيون ومع بني الظاهر بالكرك كان الافرنج الذين بحصن المرقب عند ما بلغهم هجوم التتر على الشام شنوا الغارات في بلاد المسلمين من سائر النواحي فلما رجع التتر عن الشام استأذن بليان الطباخي صاحب حصن الأكراد في غزوهم وسار اليهم في حامية الحصون بنواحيه وجمع التركمان وبلغ حصن المرقب ووقف أسفله واستطرد له أهل الحصن حتى تورّط في أوعار الجبل ثم هجموا عليه دفعة فانهزم ونالوا من المسلمين وبلغ الخبر الى السلطان فخرج من مصر لغزوهم آخر سنة تسع وسبعين واستخلف ابنه مكانه وانتهى الى الروحاء فوصله هنالك رسل الافرنج في تقرير الهدنة مع أهل المرقب على أن يطلقوا من أسروه من المسلمين في واقعة بليان فعقد لهم في المحرّم سنة ثمانين وعقد لصاحب بيت الاستبار وابنه ولصاحب طرابلس سمند بن تيمند ولصاحب عكا على بلادهم وعلى قلاع الإسماعيلية وعلى جميع البلاد المستجدّة الفتح وما سيفتحه على أن يسكن عمال المسلمين باللاذقية وأن لا يستنجدوا أسير قلعة ولا غيرها ولا يداخلوا التتر في فتنة ولا يمرّوا عليهم الى بلاد المسلمين إن أطاقوا ذلك وعقد معهم ذلك لإحدى عشرة سنة وبعث السلطان من أمرائه من يستحلف الافرنج على ذلك وبلغه الخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 بأنّ جماعة من أمرائه أجمعوا الفتك به وداخلوا الافرنج في ذلك وكان كبيرهم كوندك فلما وصل الى بيسان قبض عليه وعليهم وقتلهم واستراب من داخلهم في ذلك ولحقوا بسنقر في صهيون ودخل السلطان دمشق وبعث العساكر لحصار شيزر ثم تردّدت الرسل بينه وبين الأشقر في الصلح على أن ينزل عن شيزر [1] ويتعوّض عنها بالشقر وبكاس وعلى أن يقتصر في حامية الحصون التي لقطره على ستمائة من الفرسان فقط ويطرد عنه الأمراء الذين لحقوا به فتمّ الصلح على ذلك وكتب له التقليد بتلك الأعمال ورجع من عنده سنجر الدوادار فأحسن اليه السلطان وولى على نيابة شيزر بليان الطباخي وكان بنو الظاهر بالكرك يسألون السلطان في الصلح بالزيادة على الكرك كما كان السلطان داود فلما تمّ الصلح مع سنقر رجعوا الى القنوع بالكرك وبعث اليهم السلطان بأقاربهم من القاهرة وأتمّ لهم العقد على ذلك وبعث الأمير سلحدار والقاضي تاج الدين بن الأثير لاستحلافهم والله تعالى أعلم. واقعة التتر بحمص ومهلك ابغا سلطانهم بإثرها ثم زحف التتر سنة ثمانين الى الشام من كان ناحية متظاهرين فسار ابغا في عساكر المغل وجموع التتر وانتهى الى الرحبة فحاصرها ومعه صاحب ماردين وقدم أخوه منكوتمر في العساكر الى الشام وجاء صاحب الشمال منكوتمر من بني دوشي خان من كرسيهم بصراي مظاهرا لابغا بن هلاكو على الشام فمرّ بالقسطنطينية ثم نزل بين قيسارية وتفليس ثم سار الى منكوتمر بن هلاكو وتقدّم معه الى الشام وخرج السلطان من دمشق في عساكر المسلمين وسابقهم الى حمص ولقيه هناك سنقر الأشقر فيمن معه من أمراء الظاهرية وزحف التتر ومن معهم من عساكر الروم والافرنج والأرمن والكرج ثمانون ألفا أو يزيدون والتقى الفريقان على حمص وجعل السلطان في ميمنته صاحب حماة محمد بن المظفر ونائب دمشق لاشين السلحدار وعيسى بن مهنا فيمن اليه من العرب وفي الميسرة سنقر الأشقر في الظاهرية مع جموع التركمان ومن اليهم جماعة من أمراءه وفي القلب نائبة حسام الدين طرنطاي والحاجب ركن الدين اياحي وجمهور العساكر المماليك ووقف السلطان تحت الرايات في مواليه وحاشيته ووقفت عساكر التتر كراديس وذلك منتصف رجب سنة ثمانين واقتتلوا ونزل الصبر   [1] بياض بالأصل، وفي أخبار البشر ج 4 ص 14: ووقع بينهم الصلح على ان يسلم شيزر الى السلطان ويتسلم سنقر الأشقر: الشفر وبكاس وكانتا قد ارتجعتا منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 ثم انفضت ميسرة المسلمين واتبعهم التتر وانفضت ميسرة التتر ورجعوا على ملكهم منكوتمر في القلب فانهزم ورجع التتر من اتباع ميسرة المسلمين فمرّوا بالسلطان وهو ثابت في مقامه لم يبرح ورجع أهل الميرة ونزل السلطان في خيامه ورحل من الغد في اتباع العدوّ وأوعز الى الحصون التي في ناحية الفرات باعتراضهم على المقابر فعدلوا عنها وخاضوا الفرات في المجاهل فغرقوا ومرّ بعضهم بردّ سلميّة فهلكوا وانتهى الخبر الى ابغا وهو على الرحبة فأجفل الى بغداد وصرف السلطان العساكر الى أماكنهم وسار سنقر الأشقر الى مكانه بصهيون وتخلف عنه كثير من الظاهرية عند السلطان وعاد السلطان الى دمشق ثم الى مصر آخر شعبان من السنة فبلغه الخبر بمهلك منكوتمر بن هلاكو بهمذان ومنكوتمر صاحب الشمال بصراي فكان ذلك تماما للفتح ثم هلك ابغا بن هلاكو سنة احدى وثمانين وكان سبب مهلكه فيما يقال انه اتهم شمس الدين الجريض وزيره باغتيال أخيه منكوتمر منصرفه من واقعة حمص فقبض عليه وامتحنه واستصفاه فدس له الجويني من سمه ومات وكان ابغا اتهم بأخيه أيضا أميرا من المغل كان شحنة بالجزيرة ففرّ منها وأقام مشركا وبعث السلطان قلاون بعثا الى ناحية الموصل للاغارة عليها وانتهوا الى سنجر فصادفوا هذا الأمير وجاءوا به الى السلطان فحبسه ثم أطلقه وأثبت اسمه في الديوان وكان يحدث بكثير من أخبار التتر وكتب بعضها عنه وبعث السلطان في هذه السنة بعوثا أخرى الى نواحي سيس من بلاد الروم جزاء بما كان من الأرمن في حلب ومساجدها فاكتسحوا تلك النواحي ولقيهم بعض أمراء التتر بمكان هنالك فهزموه ووصلوا الى جبال بلغار ورجعوا غانمين وبعث السلطان شمس الدين قراسنقر المنصوري الى حلب لإصلاح ما خرب التتر من قلعتها وجامعها فأعاد ذلك الى أحسن ما كان عليه ثم أسلم ملوك التتر فبعث أوّلا بكدار بن هلاكو صاحب العراق بإسلامه وأنّه تسمى أحمد وجاءت رسله بذلك الى السلطان وهم شمس الدين أتابك ومسعود بن كيكاوس صاحب بلاد الروم وقطب الدين محمود الشيرازي قاضي شيواس وشمس الدين محمد بن الصاحب من حاشية صاحب ماردين وكان كتابه مؤرخا بجمادى سنة احدى وثمانين وحملوا على الكرامة وأجيب سلطانهم بما يناسبه ثم وصل رسول قودان بن طقان المتولي بكرسي الشمال بعد أخيه منكوتمر سنة اثنتين وثمانين بخبر ولايته ودخوله في دين الإسلام وبطلب تقليد الخليفة واللقب منه والراية للجهاد فيمن يليه من الكفار فأسعف بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 استيلاء السلطان قلاون على الكرك وعلى صهيون ووفاة صاحب حماة ثم توفي المنصور محمد بن المظفر صاحب حماة في شوّال سنة اثنتين وثمانين وولي السلطان ابنه المظفر وبعث بالخلع له ولا قاربه وسار السلطان قلاون الى الشام في ربيع سنة ثلاث وثمانين لمحاصرة المرقب بما فعلوه من ممالأة العدوّ فحاصره حتى استأمنوا اليه وملك الحصن من أيديهم وانتظر وصول سنقر الأشقر من صهيون فلم يصل فرجع الى مصر وجهز النائب حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك بما وقع من شلامش وخسرو من الانتقاض فسار سنة خمس وثمانين وحاصرهم حتى استأمنوا وجاء بهم الى السلطان فركب للقائهم وبالغ في إكرامهم ثم ساءت سيرتهم فاستراب بهم واعتقلهم وغربهم الى القسطنطينية وولى على الكرك عز الدين المنصوري وبعده بيبرس الدويدار مؤلف أخبار الترك ثم جهز السلطان ثانيا النائب طرنطاي بالعساكر لحصار سنقر الأشقر بصهيون لانتقاضه وإغارته على بلاد السلطان فسار لذلك سنة ست وثمانين وحاصره حتى استأمن هو ومن معه وجاء به السلطان وأنزله بالقلعة ولم يزل عنده الى أن هلك السلطان فقبض عليه وتولى ابنه الأشرف من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى. وفاة ميخاييل ملك القسطنطينية قد تقدّم لنا كيف تغلب الافرنج على القسطنطينية من يد الروم سنة ستمائة وكان ميخاييل هذا من بطارقتهم أقام في بعض الحصون بنواحيها فلما أمكنته الفرصة بيتها وقتل من كان بها من الافرنج وفرّ الباقون في مراكبهم واجتمع الروم الى ميخاييل هذا وملكوه عليهم وقتل الملك الّذي قبله وكان بينه وبين صاحب مصر والناصر قلاون من بعده اتصال ومهاداة ونزل بنو الظاهر عليه عند ما غربوا من مصر ثم مات ميخاييل سنة احدى وثمانين وولى ابنه ماندر ويلقب الراونس وميخاييل هذا يعرف بالأشكري وبنوه من بعده بنو الاشكري وهم ملوك القسطنطينية الى هذا العهد والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. أخبار النوبة كان الملك الظاهر وفد عليه أعوام سنة خمس وسبعين ملك النوبة من تشكيل مستنجدا به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 على ابن أخيه داود لما كان تغلب عليه وانتزع الملك من يده فوعده السلطان وأقام ينتظر واستفحل ملك داود وتجاوز حدود مملكته الى قرب أسوان من آخر الصعيد فجهز السلطان العساكر اليه مع آقسنقر الفارقاني وايبك الأفرم أستاذ داره وأطلق معهم مرتشكين ملك النوبة فساروا لذلك واستنفروا العرب وانتهوا الى رأس الجنادل واستولوا على تلك البلاد وأمنوا أهلها وساروا في البلاد فلقيهم داود الملك فهزموه وأثخنوا في عساكره وأسروا أخاه وأخته وأمّه وسار الى مملكة السودان بالأبواب ورآه فقاتله ملكها وهزمه وأسره وبعث به مقيدا الى السلطان فاعتقل بالقلعة الى أن مات واستقرّ مرتشكين في سلطان النوبة على جراية مفروضة وهدايا معلومة في كل سنة وعلى أن تكون الحصون المجاورة لاسوان خالصة للسلطان وعلى أن يمكن ابن أخيه داود وجميع أصحابه من كل مالهم في بلادهم فوفى بذلك ثم مات الظاهر وانقرضت دولته ودولة بنيه وانتقل الملك الى المنصور قلاون فبعث سنة ست وثمانين العساكر الى النوبة مع علم الدين سنجر الخياط وعز الدين الكوراني وسار معهم نائب قوص عز الدين ايدمر السيفي بعد ان استنفر العربان أولاد أبي بكر وأولاد عمر وأولاد شريف وأولاد شيبان وأولاد كنز الدولة وجماعة من الغرب وبني هلال وساروا على العدوة الغربية والشرقية في دنقلة وملكهم بيتمامون هكذا اسماه النووي وأظنه أخا مرتشكين وبرزوا للعساكر فهزمتهم واتبعتهم خمسة عشر يوما وراء دنقلة ورتب ابن أخت بيتمامون في الملك ورجعت العساكر الى مصر فجاء بيتمامون الى دنقلة فاستولى على البلاد ولحق ابن أخته بمصر صريخا بالسلطان فبعث معه عز الدين أيبك الافرم في العساكر ومعه ثلاثة من الأمراء وعز الدين نائب قوص وذلك سنة ثمان وثمانين وبعثوا المراكب في البحر بالازودة والسلاح ومات ملك النوبة باسوان ودفن بها وجاء نائبة صريخا الى السلطان فبعث معه داود ابن أخي مرتشكين الّذي كان أسيرا بالقلعة وتقدّم جريس بين يدي العساكر فهرب بيتمامون وامتنع بجزيرة وسط النيل على خمس عشرة مرحلة وراء دنقلة ووقفت العساكر على ساحل البحر وتعذر وصول المراكب الى الجزيرة من كثرة الحجر وخرج بيتمامون منها فلحق بالأبواب ورجع عنه أصحابه ورجعت العساكر الى دنقلة فملكوا داود ورجعوا الى مصر سنة تسع وثمانين لتسعة أشهر من مسيرهم بعد أن تركوا أميرا منهم مع الملك داود ورجعوا الى مصر ورجع بيتمامون الى دنقلة وقتل داود وبعث الأمير الّذي كان معهم الى السلطان وحمله رغبة في الصلح على أن يؤدّي الضريبة المعلومة فأسعف لذلك واستقرّ في ملكه انتهى والله تعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 فتح طرابلس كان الافرنج الذين بها قد نقضوا الصلح وأغاروا على الجهات فاستنفر السلطان العساكر من مصر والشام وأزاح عللهم وجهز آلات الحصار وسار اليها في محرم سنة ثمان وثمانين فحاصرها ونصب عليها المجانيق وفتحها عنوة لأربعة وثلاثين يوما من حصارها واستباحها وركب بعضهم الشواني للنجاة فردتهم الريح الى السواحل فقتلوا وأسروا وأمر السلطان بتخريبها فخربت وأحرقت وفتح السلطان ما اليها من الحصون والمعاقل وأنزل حاميتها وعاملها بحصن الأكراد ثم اتخذ حصنا آخر لترك النائب والحامية في العمل وسمي باسم المدينة وهو الموجود لهذا العهد وكان من خبر هذه المدينة من لدن الفتح أنّ معاوية أيام ولايته الشام لعهد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعث اليها سفيان بن مخنف الأزدي فحاصرها وبنى عليها حصنا حتى جهد أهلها الحصار وهربوا منها في البحر وكتب سفيان الى معاوية بالفتح وكان يبعث العساكر كل سنة للمرابطة بها ثم جاء الى عبد الملك بن مروان بطريق من الروم وسأله في عمارتها والنزول بها مجمعا على أن يعطيه الخراج فأجابه وأقام قليلا ثم غدر بمن عنده من المسلمين وذهب الى بلاد الروم فتخطفته شواني المسلمين في البحر وقتله عبد الملك ويقال الوليد وملكها المسلمون وبقي الولاة يملكونها من دمشق الى أن جاءت دولة العبيديين فأفردوها بالولاية ووليّها رمّان الخادم ثم سرّ الدولة ثم أبو السعادة علي بن عبد الرحمن بن جبارة ثم نزال ثم مختار الدولة بن نزال وهؤلاء كلهم من أهل دولته ثم تغلب قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار وتوفى سنة أربع وستين واربعمائة وكان من فقهاء الشيعة وهو الّذي صنف الكتاب الملقب بخراب الدولة ابن منقذ بن كمود فقام بولاية أخيه أبي الحسن ابن محمد بن عمار ولقبه جلال الدين وتوفى سنة اثنتين وتسعين صنجيل من ملوكهم واسمه ميمنت ومعناه ميمون وصنجيل اسم مدينة عرف بها وأقام صنجيل يحاصرها طويلا وعجز ابن عمار عن دفاعه ثم قصد سلطان السلجوقية بالعراق محمد بن ملك شاه مستنجدا به واستخلف بالمناقب ابن عمه على طرابلس ومعه سعد الدولة فتيان بن الأغر فقتله أبو المناقب ودعا للأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على خلفاء العبيديين بمصر لذلك العهد ثم هلك صنجيل وهو محاصر لها وولي مكانه السرداني من زعمائهم وبعث الأفضل قائدا الى طرابلس فأقام بها وشغل عن مدافعة العدوّ وبجمع الأموال ونمي عنه الى الأفضل أنه يروم الاستبداد فبعث آخر مكانه ونافر أهل البلد لسوء سيرته فتبين وصول المراكب من مصر بالمدد وقبض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 على أعيانهم وعلى مخلف فخر الملك بن عمار من أهله وولده وبعث بهم الى مصر وجاء فخر الملك بن عمار بعد أن قطع حبل الرجاء في يده من أنجاد السلجوقية لما كانوا فيه من الشغل بالفتنة وربما علله بعضهم بولاية الوزارة له ثم رجع الى دمشق سنة اثنتين وخمسمائة ونزل على طغتكين الاتابك ثم ملكها السرداني سنة ثلاث وخمسمائة بعد حصارها سبع سنين وجاء ابن صنحبيل من بلاد الافرنج فملكها منه وأقامت في مملكته نحوا من ثلاثين سنة ثم ثار عليه بعض الزعماء وقتله بطرس الأعور واستخلف في طرابلس القوش بطرار ثم كانت الواقعة بين صاحب القدس ملك الافرنج وبين زنكي الاتابك صاحب الموصل وانهزم الافرنج وأسر القوش في تلك الوقعة ونجا ملك الافرنج الى تغريب فتحصن بها وحضره زنكي حتى اصطلحا على أن يعطي تغريب ويطلق زنكي الأسرى في الواقعة فانطلق القوش إلى طرابلس فأقام بها مدّة ووثب الإسماعيلية به فقتلوه وولي بعده رهند صبيا وحضر مع الافرنج سنة سبع وخمسين وقعة حارم التي هزمهم فيها العادل وأسر رهند يومئذ وبقي في اعتقاله الى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب فاطلقه سنة سبعين وخمسمائة ولحق بطرابلس ولم تزل في ملكه وملك ولده الى أن فتحها المنصور سنة ثمان وثمانين كما مرّ والله تعالى أعلم. إنشاء المدرسة والمارستان بمصر كان المنصور قلاون قد اعتزم على إنشاء المارستان بالقاهرة ونظر له الأماكن حتى وقف نظره على الدار القطبية من قصور العبيديين وما يجاورها من القصرين واعتمد إنشاءه هنالك وجعل الدار أصل المارستان وبنى بإزائه مدرسة لتدريس العلم وقبة لدفنه وجعل النظر في ذلك لعلم الدين الشجاعي فقام بإنشاء ذلك لأقرب وقت وكملت العمارة سنة اثنتين وثمانين وستمائة ووقف عليها املاكا وضياعا بمصر والشام وجلس بالمارستان في يوم مشهود تناول قدحا من الأشربة الطبية وقال وقفت هذا المارستان على مثلي فمن دوني من أصناف الخلق فكان ذلك من صالح آثاره والله أعلم. وفاة المنصور قلاون وولاية ابنه خليل الأشرف كان المنصور قلاون قد عهد لابنه علاء الدين ولقبه الصالح وتوفي سنة سبع وثمانين فولى العهد مكانه ابنه الآخر خليل ثم انتقض الافرنج بعكا وأغاروا على النواحي ومرّت بهم رفقة من التجار برقيق من الروم والترك جلبوهم للسلطان فنهبوهم وأسروهم فأجمع السلطان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 غزوهم وخرج في العساكر بعد الفطر من سنة تسع وثمانين واستخلف ابنه خليلا على القاهرة ومعه زين الدين سيف وعلم الدين الشجاعي الوزير وعسكر بظاهر البلد فطرقه المرض ورجع الى قصره فمرض وتوفي في ذي القعدة من السنة فبويع ابنه خليل ولقب الأشرف وكان حسام الدين طرنطاي نائب المنصور اليه فأقره وأشرك معه زين الدين سيف في نيابة العتبة وأقرّ علم الدين الشجاعي على الوزارة وبدر الدين بيدو استاذ داره وعز الدين أيبك خزندار وكان حسام الدين لاشين السلجدار نائبا بدمشق وشمس الدين قراسنقر الجوكندار نائبا بحلب فأقرهما وجمع ما كان بالشام من ولاة أبيه ثم قبض على النائب حسام الدين طرنطاي لأيام قلائل وقتله واستولى على مخلفه وكان لا يعبر عنه كان الناض منها ستمائة ألف دينار وحملت كلها لخزانته واستقل بدر الدين بالنيابة وبعث الى محمد بن عثمان بن السلعوس من الحجاز فولاه الوزارة وكان تاجرا من تجار الشام وتقرب له أيام أبيه واستخدم له فاستعمله في بعض اقطاعه بالشام ووفر جبايتها فولاه ديوانه بمصر فأسرف في الظلم وأنهى أمره الى طرنطاي النائب فصادره المنصور وامتحنه ونفاه عن الشام وحج في هذه السنة وولى الأشرف فكان أوّل أعماله البعث عنه وولاه الوزارة فبلغ المبالغ في الظهور وعلوّ الكلمة واستخدم الخواص له وترفع عن الناس واستقل الرتب وقبض الأشرف على شمس الدين سنقر وحبسه وكان قد قبض مع طرنطاي النائب على عز الدين سيف لما بلغه أنه يدبر عليه مع طرنطاي ثم ثبتت عنده براءته فاطلقه والله تعالى أعلم. فتح عكا وتخريبها ثم سار الأشرف أوّل سنة تسعين وستمائة لحصار عكا متمما عزم أبيه فيها فجهز العساكر واستنفر أهل الشام وخرج من القاهرة فاغذ السير الى عكا ووافاه بها أمراء الشام والمظفر بن المنصور صاحب حماة فحاصرها ورماها بالمجانيق فهدم كثير من أبراجها وتلاها المقاتلة لاقتحامها فرشقوهم بالسهام فا [1] من اللبود وزحفوا في كنها وردموا الخندق بالتراب فحمل كل واحد منهم ما قدر عليه حتى طموه وانتهوا الى الأبراج المتهدّمة فألصقوها بالأرض واقتحموا البلد من ناحيتها واستلحموا من كان فيها وأكثروا القتل والنهب ونجا الفل من العدوّ الى ابراجها الكبار التي بقيت ماثلة فحاصرها عشرا آخر ثم اقتحمها عليهم   [1] بياض بالأصل وفي اخبار البشر ج 4 ص 25: وكانوا يرمونها بالنشاب والجوارح وكان القتال من قدامنا من جهة المدينة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 فاستوعبهم السيف وكان الفتح منتصف جمادى سنة سبعين لمائة وثلاث سنين من ارتجاع الكفار لها من يد صلاح الدين سنة سبع وثمانين وخمسمائة وأمر الأشرف بتخريبها فخربت وبلغ الخبر الى الافرنج بصور وصيدا وعتلية وحيفا فأجفلوا عنها وتركوها خاوية ومرّ السلطان بها وأمر بهدمها فهدمت جميعا وانكف راجعا الى دمشق وتقبض في طريقه على لاشين نائب دمشق لأنّ بعض الشياطين أوحى اليه أن السلطان يروم الفتك به فركب للفرار وأتبعه علم الدين سنجر الشجاعي وسار الى بيروت ففتحها ومرّ السلطان بالكرك فاستعفى نائبها ركن الدين بيبرس الدوادار وهو المؤرخ فولى مكانه جمال الدين اتسز الاشرفي ورجع السلطان الى القاهرة فبعث شلامش وخسرو ابني الظاهر من محبسهما بالإسكندرية الى القسطنطينية ومات شلامش هنالك وأفرج عن شمس الدين سنقر الأشقر وحسام الدين لاشين المنصوري اللذين اعتقلهما كما قدّمناه وقبض على علم الدين سنجر نائب دمشق وسيق الى مصر معتقلا وأمر السلطان ببناء الرفوف بالقلعة على أوسع ما يكون وارفعه وبنى القبة بإزائه لجلوس السلطان أيام الزينة والفرح فبنيت مشرفة على سوق الخيل والميدان والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح قلعة الروم ثم سار السلطان سنة احدى وتسعين في عساكره الى الشام بعد أن أفرج عن حسام الدين لاشين وردّه الى إمارته وانتهى الى دمشق ثم سار الى حلب ثم دخل منها الى قلعة الروم فحاصرها في جمادى من السنة وملكها عنوة بعد ثلاثين يوما من الحصار وقاتل المقاتلة الذريعة وخرب القلعة وأخذ فيها بترك الأرمن أسيرا وانكف السلطان راجعا الى حلب فأقام بها شعبان وولى عليها سيف الدين الطباقي نائبا مكان قراسنقر الظاهري لأنه ولاه مقدّم المماليك ورحل الى دمشق فقضى بها عيد الفطر واستراب لاشين النائب فهرب ليلة الفطر وأركب السلطان في طلبه وتقبض عليه بعض العرب في حية وجاء به الى السلطان فبعثه مقيدا الى القاهرة وولى على نيابة دمشق عز الدين أيبك الحميدي عوضا عن علم الدين سنجر الشجاعي ورجع الى مصر فافرج عن علم الدين سنجر الشجاعي وتوفي لسنة بعد إطلاقه ثم قبض على سنقر الأشقر وقتله وسمع نائبة بيدو ببراءة لاشين فأطلقه وتوفي ابن الأثير بعد شهر فولى مكانه ابنه عماد الدين أيوب وكان أيوب قد اعتقله المنصور لأول ولايته فأطلقه الأشرف هذه السنة لثلاث عشرة سنة من اعتقاله واستخلصه للمجالسة والشورى وتوفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر كاتب السرّ وصاحب ديوان الإنشاء وله التقدّم عنده وعند أبيه فولى مكانه فتح الدين أحمد بن الأثير الحلي وترك ابن عبد الظاهر ابنه علاء الدين عليا فالقى عليه النعمة منتظما في جملة الكتاب ثم سار السلطان الى الصعيد يتصيد واستخلف بيدو النائب على دار ملكه وانتهى الى قوص وكان ابن السلعوس قد دس اليه بأنّ بيدو احتجن بالصعيد من الزرع ما لا يحصى فوقف هنالك على مخازنها واستكثرها وارتاب بيدو لذلك ولما رجع الأشرف الى مصر ارتجع منه بعض اقطاعه وبقي بيدو مرتابا من ذلك وأتحف السلطان بالهدايا من الخيام والهجن وغيرهما والله تعالى أعلم. مسير السلطان الى الشام وصلح الأرمن ومكثه في مصيا وهدم الشويك ثم تجهز السلطان سنة اثنتين وتسعين الى الشام وقدم بيدو النائب بالعساكر وعاج على الكرك على الهجن فوقف عليها وأصلح من أمورها ورجع ووصل الى الشام فوافاه رسول صاحب سيس ملك الأرمن راغبا في الصلح على أن يعطى تهسنا ومرعش وتل حمدون فعقد لهم على ذلك وملك هذه القلاع وهي في غم الدرب من ضياع حلب وكانت تهسنا للمسلمين ولما ملك هلاكو حلب باعها النائب من ملك الأرمن سيس ثم سار السلطان الى حمص ووصل اليها في رجب من السنة ومعه المظفر صاحب حماة ونزل سلميّة ولقيه مهنا بن عيسى أمير العرب فقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل وابنه موسى وبعثهم معتقلين مع لاشين الى دمشق ومن هناك الى مصر فحبسوا بها وولى على الغرب مكانهم محمد بن أبي بكر بن علي ابن جديلة وأوعز وهو بحمص الى نائب الكرك بهدم قلعة الشويك فهدمت وانكف راجعا الى مصر وقدم العساكر مع بيدو وجاء في الساقة على الهجن مع خواصه ولما دخل على مصر أفرج عن لاشين المنصوري والله تعالى أعلم. مقتل الأشرف وولاية أخيه محمد الناصر في كفالة كيبغا كان النائب بيدو مستوليا على الأشرف والأشرف مستريب به حتى كأنه مستبدّ وكان مستوحشا من الأشرف واعتزم الأشرف سنة ثلاث وتسعين على الصيد في البحيرة فخرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 اليها وبعث وزيره ابن السلعوس للاسكندرية لتحصيل الأموال والاقمشة فوجد [1] بيدو قد سبقوا اليها واستصفوا ما هنالك فكاتب السلطان بذلك فغضب واستدعى بيدو فوبخه وتوعده ولم يزل هو يلاطفه حتى كسر من سورة غضبه ثم خلص الى أصحابه وداخلهم في التوثب به وتولى كبر ذلك منهم لاشين المنصوري نائب دمشق وقراسنقر المنصوري نائب حلب وكان الأمراء كلهم حاقدين على الأشرف لتقديمه حاشيته عليهم ولما كتب اليه السلعوس بقلة المال صرف مواليه الى القلعة تخفيفا من النفقة وبقي في القليل وركب بعض أيامه يتصيد وهو مقيم على فرجة فاتبعوه وأدركوه في صيده فأوجس في نفسه الشرّ منهم فعاجلوه وعلوه بالسيوف ضربه أوّلا بيدو وثنى عليه لاشين وتركوه مجندلا بمصرعه منتصف محرّم من السنة ورجعوا الى المخيم وقد أبرموا أن يولوا بيدو فولوه ولقبوه القاهر وتقبض على بيسري الشمسى وسيف الدين بكتمر السلحدار واحتملوهما وساروا الى قلعة الملك وكان زين الدين سيف قد ركب للصيد فبلغه الخبر في صيده فسار في اتباعهم ومعه سوس الجاشنكير وحسام الدين أستاذ دار وركن الدين سوس وطقجي في طائفة من الجاشنكيرية وأدركوا القوم على الطرّانة ولما عاينهم بيدو وبيسري وبكتمر المعتقلين في المخيم رجعوا الى كيبغا [2] وأصحابه وفرّ عن بيدو من كان معه من العربان والجند وقاتل قليلا ثم قتل ورجع برأسه على القناة وافترق أصحابه قراسنقر ولاشين بالقاهرة ويقال أن لاشين كان مختفيا في مئذنة جامع ابن طولون ووصل كيبغا وأصحابه الى القلعة وبها علم الدين الشجاعي واستدعوا محمد بن قلاون أخا الأشرف وبايعوه ولقبوه الناصر وقام بالنيابة كيبغا وبالاتابكية حسام الدين وبالوزارة علم الدين سنجر وبالاستاذ دراية ركن الدين سوس الجاشنكير واستبدّوا بالدولة فلم يكن الناصر يملك معهم شيئا من أمره وجدّوا في طلب الأمراء الذين داخلوا بيدو في قتل الأشرف فاستوعبوهم بالقتل والصلب والقطع وكان بهادر رأس نوبة وأقوش الموصلي فقتلا وأحرقت أشلاؤهما وشفع كيبغا في لاشين وقراسنقر المتوليين كبر ذلك فظهرا من الاختفاء وعادا الى محلهما من الدولة ثم تقبض على الوزير محمد بن السلعوس عند وصوله من الاسكندرية وصادره الوزير الشجاعي وامتحنه فمات تحت الامتحان وأفرج عن   [1] بياض بالأصل، وفي أخبار البشر ج 4 ص 30: وركب في نفر قليل من خواصه للصيد، فقصده مماليك والده وهم: بيدرا نائب السلطنة، ولاجين الّذي كان عزله السلطان عن نيابة السلطنة بدمشق واعتقله مرة بعد اخرى، وفرّاسنقر الّذي عزله عن نيابة السلطنة بحلب، وانضم اليهم بادر رأس النوبة وجماعة من الأمراء. [2] ورد هذا الاسم في في الأحيان «كسبفا» ومرة اخرى «كتبفا» وأحيانا «كيبفا» وقد ورد في تاريخ أخبار البشر «كتبغا» بمواضيع مختلفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 عز الدين ايبك الافرم الصالحي وكان الأشرف اعتقله سنة اثنتين وتسعين والله سبحانه وتعالى أعلم. وحشة كيبغا ومقتل الشجاعي ثم انّ الشجاعي لطف محله من الناصر واختصه بالمداخلة وأشار عليه بالقبض على جماعة من الأمراء فاعتقلهم وفيهم سيف الدين كرجي وسيف الدين طونجي وطوى ذلك عن كيبغا وبلغه الخبر وهو في موكب بساحة القلعة وكان الأمراء يركبون في خدمته فاستوحش وارتاب بالشجاعي وبالناصر ثم جاء بعض مماليك الشجاعي الى كيبغا في الموكب وجرد سيفه لقتله فقتله مماليكه وتأخر هو ومن كان معه من الأمراء عن دخول القلعة وتقبضوا على سوس الجاشنكير استاذ دار وبعثوا به الى الاسكندرية ونادوا في العسكر فاجتمعوا وحاصروا القلعة وبعث اليهم السلطان أميرا فشرطوا عليه أن يمكنهم من الشجاعي فامتنع وحاصروه سبعا واشتدّ القتال وفرّ من كان بقي في القلعة من العسكر الى كيبغا وخرج الشجاعي لمدافعتهم فلم يغن شيئا ورجع الى السلطان وقد خامرة الرعب فطلب أن بحبس نفسه فمضى به المماليك الى السجن وقتلوه في طريقهم وبلغ الخبر الى كيبغا ومن كان معه فذهبت عنهم الهواجس واستأمنوا للسلطان فأمنهم واستحلفوه فحلف لهم ودخلوا الى القلعة وأفاض كيبغا العطاء في الناس وأخرج من كان في الطباق من المماليك بمداخلة الشجاعي فأنزلهم الى البلد بمقاصر الكسرو دار الوزارة والجوار وكانوا نحوا من تسعة آلاف فأقاموا بها ولما كان المحرّم فاتح سنة أربع وتسعين استعدوا ليلة وركبوا فيها جميعا وأخرجوا من كان في السجون ونهبوا بيوت الأمراء واعجلهم الصبح عن تمام قصدهم وباكرهم الحاجب بهادر ببعض العساكر فهزمهم وافترقوا وتقبض على كثير منهم فأخذ منهم العقاب مأخذه قتلا وضربا وعزلا وأفرج عن عز الدين ايبك الأفرم وأعيد الى وظيفته أمير جندار ثم هلك قريبا واستحكم أمر السلطان ونائبة كيبغا وهو مستبدّ عليه واستمرّ الحال على ذلك الى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى والله تعالى ولىّ التوفيق. خلع الناصر وولاية كيبغا العادل ولما وقعت الوحشة بين كيبغا والشجاعي وتلتها هذه الفتنة استوحش كيبغا في ظاهر أمره وانقطع عن دار النيابة متمارضا وتردّد السلطان لعيادته ثم حمل بطانته على الاستبداد بالملك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 والجلوس على التخت وكان طموحا لذلك من أوّل أمره فجمع الأمراء ودعاهم الى بيعته فبايعوه وخلع الناصر وركب الى دار السلطان فجلس على التخت وتلقب بالعادل وأخرج السلطان من قصور الملك وكان مع أمّه ببعض الحجر وولى حسام الدين لاشين نائبا والصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز الخليلي الدار وزيرا نقله اليها من النظر في الديوان لعلاء الدين ولى العهد ابن قلاون وعز الدين ايبك الأفرم الصالحي أمير جندار وبهادر الحلبي أمير حاجب وسيف الدين منماص أستاذ دار وقسم امارة الدولة بين مماليكه وكتب الى نواب الشام بأخذ البيعة فأجابوا بالسمع والطاعة وقبض على عز الدين ايبك الخازندار نائب طرابلس وولى مكانه فخر الدين ايبك الموصلي وكان الخازندار ينزل حصن الأكراد ونزل الموصلي بطرابلس وعادت دار امارة ثم وفد سنة خمس وتسعين على العادل كيبغا طائفة من التتر يعرفون بالاربدانية ومقدّمهم طرنطاي كان مداخلا لبدولي كنجاب ابن عمه ملك التتر فلما سار الملك الى غازان خافه طرنطاي وكانت احياؤه بين غازان والموصل وأوعز غازان الى التتر الذين من مارتكن فأخذ الطرق عليهم وبعث قط قرا من أمرائه للقبض على طرنطاي ومن معه من أكابر قبيله فسار لذلك في ثمانين فارسا فقتله طرنطاي وأصحابه وعبروا الفرات الى الشام واتبعهم التتر من ديار بكر فكرّوا عليهم فهزموهم وأمر العادل سنجر الدوادار أن يتلقاهم بالرحب واحتفل نائب دمشق لقدومهم ثم ساروا الى مصر فتلقاهم شمس الدين قراسنقر وكانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلعة فأنفوا لذلك وكان سببا لخلع العادل كما نذكر ووصل على أثرهم بقية قومهم بعد أن مات منهم كثير ثم رسخوا في الدولة وخلطهم الترك بأنفسهم وأسلموا واستخدموا أولادهم وخلطوهم بالصهر والولاء والله سبحانه وتعالى أعلم. خلع العادل كيبغا وولاية لاشين المنصور كان أهل الدولة نقموا على السلطان كيبغا العادل تقديم مماليكه عليهم ومساواة الاربدانية من التتر بهم فتفاوضوا على خلعه وسار الى الشام في شوّال سنة خمس وتسعين فعزل عز الدين ايبك الحموي نائب دمشق واستصفاه وولى مكانه سيف الدين عزلو من مواليه ثم سار الى حمص متصيدا ولقيه المظفر صاحب حماة فأكرمه ورده الى بلده وسار الى مصر والأمراء مجمعون خلعه والفتك بمماليكه وانتهى الى العوجاء من أرض فلسطين وبلغه عن بيسري الشمسي انه كاتب التتر فنكر عليه واغلظ له في الوعيد وارتاب الأمراء من ذلك وتمشت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 رجالاتهم واتفقوا وركب حسام الدين لاشين وبدر الدين بيسري وشمس الدين قراسنقر وسيف الدين قفجاق وبهادر الحلبي الحاجب وبكتاش الفخري وببليك الخازندار واقوش الموصلي وبكتمر السلحدار وسلار وطغجي وكرجي ومعطاي ومن انضاف اليهم بعد أن بايعوا لاشين وقصدوا مخيم بكتوت الأزرق فقتلوه وجاءهم ميحاص فقتلوه أيضا وركب السلطان كيبغا في لفيفه فحملوا عليه فانهزم الى دمشق وبايع القوم لاشين ولقبوه المنصور وشرطوا عليه أن لا ينفر عنهم برأي فقبل وسار الى مصر ودخل القلعة ولما وصل كيبغا الى دمشق لقيه نائبة سيف الدين عزلو وأدخله القلعة واحتاط على حواصل لاشين والأمراء الذين معه وأمّن جماعة من مواليه ووصلت العساكر التي كانت مجرّدة بالرحبة ومقدّمهم جاغان وكانوا قد داخلوا لاشين في شأنه ونزلوا ظاهر دمشق واتفقوا على بيعة لاشين وأعلنوا بدعوته وانحلّ أمر العادل وسأل ولاية صرخد وألقي بيده فحبس بالقلعة لسنتين من ولايته وبعث الأمراء ببيعتهم للاشين ودخل سيف الدين جاغان الى القلعة ثم وصل كتاب لاشين ببعثه الى مصر وبعث الى كيبغا بولاية صرخد كما سأل ووصل قفجق المنصوري نائبا عن دمشق وأفرج لاشين بمصر عن ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من المماليك وولى قراسنقر نائبا وسيف الدين سلار أستاذ دار وسيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار وبهادر الحلبي صاحب [1] وأقر فخر الدين الخليلي على وزارته ثم عزله وولى مكانه شمس الدين سنقر الأشقر وقبض على قراسنقر النائب وسيف الدين سلار استاذ دار آخر سنة ست وتسعين وولى مكانه سيف الدين منكوتمر الحسامي مولاه واستعمل سيف الدين قفجق المنصوري نائبا ثم أمر بتجديد عمارة جامع ابن طولون وندب لذلك علم الدين سنجر الدوادار وأخرج للنفقة فيه من خالص ماله عشرين ألف دينار ووقف عليه املاكا وضياعا ثم بعث سنة تسع وسبعين بالناصر محمد بن قلاون الى الكرك مع سيف الدين سلار أستاذ دار وقال لزين الدين بن مخلوف فقيه بيته هو ابن استاذي وأنا نائبة في الأمر ولو علمت أنه يقوم بالأمر لأقمته وقد خشيت عليه في الوقت فبعثته الى الكرك فوصلها في ربيع وقال النووي انه بعث معه جمال الدين بن أقوش ثم قبض السلطان في هذه السنة على بدر الدين بيسري الشمسي بسعاية منكوتمر نائبة لان لاشين أراد أن يعهد اليه بالأمر فردّه بيسري عن ذلك وقبحه عليه فدس منكوتمر بعض مماليك بيسري وانهوا الى السلطان أنه يريد الثورة فقبض عليه آخر ربيع الثاني من السنة وأودعه السجن فمات في محبسه وقبض في هذه السنة على   [1] بياض في الأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه القاطعة أو البلدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 بهادر الحلبي وعلى عز الدين ايبك الحموي ثم أمر في هذه السنة بردّ الأقطاعات في النواحي وبعث الأمراء والكتاب لذلك وتولّى ذلك عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة وقال مؤرّخ حماة المؤيد كانت مصر منقسمة على أربعة وعشرين قيراطا أربعة منها للسلطان والكلف والرواتب وعشرة للامراء والإطلاقات والزيادات وعشرة للاجناد الجلقة فصيروها عشرة للامراء والإطلاقات والزيادات والأجناد وأربعة عشر للسلطان فضعف الجيش وقال النووي قرّر للخاص في الروك الجيزة واطفج ودمياط ومنفلوط والكوم الأحمر وحولت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين وهذا في العدد انما هو بعد انقضاء ثلاثة وثلاثين سنة واحدة وهي تفاوت ما بين السنين الشمسية والقمرية وهو حجة ديوان الجيش في انقضاء التفاوت الجيشي وهو تحويل بالأقلام فقط وليس فيه نقص شيء ثم أقطعت البلاد بعد الروك واستثنيت المراتب الجسرية والرزق الأحباسية انتهى كلام النووي رحمه الله والله تعالى أعلم. فتح حصون سيس ولما ولي سيف الدين منكوتمر النيابة وكانت مختصا بالسلطان استولى على الدولة وطلب من السلطان أن يعهد له بالملك فنكر ذلك الأمراء وثنوا عنه السلطان فتنكر لهم منكوتمر وأكثر السعاية فيهم حتى قبض على بعضهم وتفرق الآخرون في النواحي وبعث السلطان جماعة منهم سنة سبع وتسعين لغزو سيس وبلاد الأرمن كان منهم بكتاش أمير سلاح وقراسنقر وبكتمر السلحدار وتدلار وتمراز ومعهم الالفي نائب صفد في العساكر ونائب طرابلس ونائب حماة ثم أردفهم بعلم الدين سنجر الدوادار وجاءت رسل صاحب سيس وأغاروا عليها ثلاثة أيام واكتسحوها ثم مرّوا ببغراس ثم بمرج انطاكية وأقاموا بها ثلاثا ومرّوا بجسر الحديد ببلاد الروم ثم قصدوا تل حمدون فوجدوها خاوية وقد انتقل الأرمن الذين بها الى قلعة النجيمة وفتحوا قلعة مرعش وحاصروا قلعة النجيمة أربعين يوما وافتتحوها صلحا وأخذوا أحد عشر حصنا منها المصيصة وحموم وغيرهما واضطرب أهلها من الخوف فأعطوا طاعتهم ورجع العساكر الى حلب وبلغ السلطان لاشين أنّ التتر قاصدون الشام فجهز العساكر الى دمشق مع جمال الدين أقوش الأفرم وأمره أن يخرج العساكر من دمشق الى حلب مع قفجق النائب فسار الى حمص وأقام بها ثم بلغهم الخبر برجوع التتر ووصل أمر السلطان الى سيف الدين الطباخي نائب حلب بالقبض على بكتمر السلحدار والالفي نائب صفد وجماعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 من الأمراء بحلب بسعاية بكتمر وحاول الطباخي ذلك فتعذر عليه وبرز تدلار الى بسار فتوفي بها وأقام الآخرون وشعروا بذلك فلحقوا بقفجق النائب على حمص فآمنهم وكتب الى السلطان يشفع فيهم فأبطأ جوابه وعزله سيف الدين كرجي وعلاء الدين ايدغري من اجارتهم فاستراب وولى السلطان مكانه على دمشق جاغان فكتب الى قفجق بطلبهم فنفروا وافترق عسكره وعبر الفرات الى العراق ومعه أصحابه بعد أن قبضوا على نائب حمص واحتملوه ولحقهم الخبر بقتل السلطان لاشين وقد تورطوا في بلاد العدوّ فلم يمكنهم الرجوع ووفدوا على غازان بنواحي واسط وكان قفجق من جند التتر وأبوه من جند غازان خصوصا ولما وقعت الفتنة بين لاشين وغازان وكان فيروز أتابك غازان مستوحشا من سلطانه فكاتب لاشين في اللحاق به واطلع سلطانه على كتبه فأرسل الى قطلو شاه نائب حران فقبض على فيروز وقتله وقتل غازان أخويه في بغداد والله تعالى أعلم. مقتل لاشين وعود الناصر محمد بن قلاون الى ملكه كان السلطان لاشين قد فوض امر دولته الى مولاه منكوتمر فاستطال وطمع في الاستبداد ونكره الأمراء كما قدّمناه فأغرى السلطان بهم وشردهم كلّ مشرد بالنكبة والبعاد وكان سيف الدين كرجي من الجاشنكير ومقدّما عليهم كما كان قراسنقر مع الأشرف وكان جماعة المماليك معصوصبين عليه وسعى منكوتمر في نيابته على القلاع التي افتتحت من الأرمن ببلاد سيس فاستعفى من ذلك وأسرّها في نفسه وأخذ في السعاية على منكوتمر وظاهره على أمره قفجي من كبار الجاشنكيرية وكان لطقجي صهر من كبار الجاشنكيرية اسمه طنطاي أغلظ له منكوتمر يوما في المخاطبة فامتعض وفزع الى كرجي وطقجي فاتفقوا على اغتيال السلطان وقصدوه ليلا وهو يلعب بالشطرنج وعنده حسام الدين قاضي الحنفية فأخبره كرجي بغلق الأبواب على المماليك فنكره ولم يزل يتصرّف أمامه حتى ستر سيفه بمنديل طرحه عليه فلما قام السلطان لصلاة العتمة نحاها عنه وعلاه بالسيف وافتقد السلطان سيفه فتعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه وهموا بقتل القاضي ثم تركوه وخرج كرجي الى طقجي بمكان انتظاره وقصدوا منكوتمر وهو بدار النيابة فاستجار بطقجي فأجاره وحبسه بالجبّ ثم راجعوا رأيهم واتفقوا على قتله فقتلوه وكان مقتل لاشين في ربيع سنة ثمان وتسعين وكان من موالي علي بن المعز ايبك فلما غرب للقسطنطينية تركه بالقاهرة واشتراه المنصور قلاون من القاضي بحكم البيع على الغائب بألف درهم وكان يعرف بلاشين الصغير لانه كان هناك لاشين آخر أكبر منه وكان نائبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 بحمص ولما قتل اجتمع الأمراء وفيهم ركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار أستاذ دار وحسام الدين لاشين الرومي وقد وصل على البريد من بلاد سيس جمال الدين أقوش الأفرم وقد عاد من دمشق بعد ان أخرج النائب والعساكر الى حمص وعز الدين ايبك الخزندار وبدر الدين السلحدار فضبطوا القلعة وبعثوا الى الناصر محمد بن قلاون بالكرك يستدعونه للملك فاعتزم طقجي على الجلوس على التخت واتفق وصول الأمراء الذين كانوا بحلب منصرفين من غزاة سيس وفيهم سيف الدين كرجي وشمس الدين سرقنشاه ومقدمهم بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح فأشار الأمراء على طقجي بالركوب للقائهم فأنف أولا ثم ركب ولقيهم وسألوه عن السلطان فقال قتل فقتلوه وكان كرجي عند القلعة فركب هاربا وأدرك عند القرافة وقتل ودخل بكتاش والأمراء للقلعة لحول من غزاة سيس ثم اجتمعوا بمصر وكان الأمر دائرا بين سلار وبيبرس وايبك الجامدار وأقوش الأفرم وبكتمر أمير جندار وكرت الحاجب وهم ينتظرون وصول الناصر من الكرك وكتبوا الى الأمراء بدمشق بما فعلوه فوافقوا عليه ثم قبضوا على نائبها جاغان الحسامي وتولى ذلك بهاء الدين قرا ارسلان السيفي فاعتقل ومات لايام قلائل فبعث الأمراء بمصر مكانه سيف الدين قطلوبك المنصوري ثم وصل الناصر محمد بن قلاون الى مصر في جمادى سنة ثمان وتسعين فبايعوا له وولى سلار نائبا وبيبرس أستاذ دار وبكتمر الجوكندار أمير جندار وشمس الدين الأعسر وزيرا وعزل فخر الدين بن الخليلي بعد أن كان أقرّه وبعث على دمشق جمال الدين أقوش الافرم عوضا عن سيف الدين قطلوبك واستدعاه الى مصر فولاه حاجبا وبعث على طرابلس سيف الدين كرت وعلى الحصون سيف الدين كراي وأقرّ بليان الطباخي على حلب وأفرج عن قراسنقر المنصوري وبعثه على الضبينة ثم نقله الى حماة عند ما وصله وفاة صاحبها المظفر آخر السنة وخلع على الأمراء وبث العطايا والأرزاق واستقرّ في ملكه وبيبرس وسلار مستوليان عليه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. الفتنة مع التتر قد كنا قدّمنا ما كان من فرار قفجق نائب دمشق الى غازان وحدوث الوحشة بين المملكتين فشرع غازان في تجهيز العساكر الى الشام وبعث شلامش بن امال بن بكو في خمسة وعشرين ألفا في عساكر المغل ومعه أخوه قطقطو وأمره بالمسير من جهة سيس فسار لذلك ثم حدّثته نفسه بالملك فخاضع وطلب الملك لنفسه وكاتب ابن قزمان أمير التركمان فسار اليه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 عشرة آلاف فارس وسار في ستين ألف فارس وسار الى سيواس فامتنعت عليه وكتب الى صاحب مصر مع مخلص الرومي يستنجده فبعث الى نائب دمشق بانجاده وبلغ الخبر غازان فبعث لقتاله مولاي من أمراء التتر في خمسة وثلاثين ألف فارس ولحقه الى سيواس فانتقض عليه العسكر ورجع التتر الى مولاي ولحق التركمان بالجبال ولحق هو بسيس في فل من العسكر وسار الى دمشق ثم الى مصر وسأل من السلطان لاشين أن يمده بعسكر ينقل به عياله الى الشام فأمر السلطان نائب حلب أن ينجده على ذلك فبعث معه عسكرا عليهم بكتمر الحلبي وساروا الى سيواس فاعترضهم التتر وهزموهم وقتل الحلبي ونجا شلامش الى بعض القلاع فاستنزله غازان وقتله واستقرّ أخوه قطقطو ومخلص وأقطع لهما وانتظما في عسكر مصر والله تعالى أعلم. واقعة التتر على الناصر واستيلاء غازان على الشام ثم ارتجاعه منه قد كنا قدّمنا ما حدث من الوحشة بين التتر وبين الترك بمصر وقدّمنا من أسبابها ما قدّمناه فلما بويع الناصر بلغه أنّ غازان زاحف الى الشام فتجهز وقدّم العساكر مع قطلبك الكبير وسيف الدين غزّار، وسار على أثرهم آخر سنة ثمان وسبعين وانتهى الى غزة فنمي اليه أنّ بعض المماليك مجمعون للتوثب عليه وأنّ الاربدانية الذين وفدوا من التتر على كيبغا داخلوهم في ذلك وبينهما هو يستكشف الخبر إذ بمملوك من أولئك قد شهر سيفه واخترق صفوف العساكر وهم مصطفون بظاهر غزة فقتل لحينه وتتبع أمرهم من هذه البادرة حتى ظهرت حليتها فسبق الاربدانية ومقدّمهم طرنطاي وقتل بعض المماليك وحبس الباقون بالكرك ورحل السلطان الى عسقلان ثم الى دمشق ثم سار ولقي غازان ما بين سلمية وحمص بمجمع المروج ومعه الكرج والأرمن في مقدّمته أمراء الترك الذين هربوا من الشام وهم قفجق المنصوري وبكتمر السلحدار وفارس الدين البكي وسيف الدين غزار فكانت الجولة منتصف ربيع فانهزمت ميمنة التتر وثبت غازان ثم حمل على القلب فانهزم الناصر واستشهد كثير من الأمراء وفقد حسام الدين قاضي الحنفية وعماد الدين إسماعيل ابن الأمير وسار غازان الى حمص فاستولى على الذخائر السلطانية وطار الخبر الى دمشق فاضطرب العامّة وثار الغوغاء وخرج المشيخة الى غازان يقدمهم بدر الدين بن جماعة وتقيّ الدين بن تيمية وجلال الدين القزويني وبقي البلد فوضى وخاطب المشيخة غازان في الأمان فقال قد خالفكم الى بلدكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 كتاب الأمان ووصل جماعة من أمرائه فيهم إسماعيل ابن الأمير والشريف الرضي وقرأ كتاب الأمان ويسمونه بلغاتهم الفرمان وترجل الأمراء بالبساتين خارج البلد وامتنع علم الدين سلحدار بالقلعة فبعث اليه إسماعيل يستنزله بالأمان فامتنع فبعث اليه المشيخة من أهل دمشق فزاد امتناعا ودس اليه الناصر بالتحفظ وأنّ المدد على غزة ووصل قفجق بكتمر فنزلوا الميدان وبعثوا الى سنجر صاحب القلعة في الطاعة فأساء جوابهم وقال لهم أنّ السلطان وصل وهزم عساكر التتر التي اتبعته ودخل قفجق الى دمشق فقرأ عهد غازان له بولاية دمشق والشام جميعا وجعل اليه ولاية القضاء وخطب لغازان في الجامع وانطلقت أيدي العساكر في البلد بأنواع جميع العيث وكذا في الصالحية والقرى التي بها والمزّة وداريا وركب ابن تيمية الى شيخ الشيوخ نظام الدين محمود الشيبانيّ وكان نزل بالعادلية فأركبه معه الى الصالحية وطردوا منها أهل العيث وركب المشيخة الى غازان شاكين فمنعوا من لقائه حذرا من سطوته بالتتر فيقع الخلاف ويقع وبال ذلك على أهل البلد فرجعوا الى الوزير سعد الدين ورشد الدين فأطلقوا لهم الأسرى والسبي وشاع في الناس أنّ غازان أذن للمغل في البلد وما فيه ففزع الناس الى شيخ الشيوخ وفرضوا على أنفسهم أربعمائة ألف درهم مصانعة له على ذلك وأكرهوا على غرمها بالضرب والحبس حتى كلت ونزل التتر بالمدرسة العادلية فأحرقها ارجواش نائب القلعة ونصب المنجنيق على القلعة بسطح جامع بني أمية فأحرقوه فأعيد عمله وكان المغل يحرسونه فانتهكوا حرمة المسجد بكلّ محرّم من غير استثناء وهجم أهل القلعة فقتلوا النجار الّذي كان يصنع المنجنيق وهدم نائب القلعة ارجواش ما كان حولها من المساكن والمدارس والابنية ودار السعادة وطلبوا ما لا يقدرون عليه وأمتهن القضاة والخطباء وعطلت الجماعات والجمعة وفحش القتل والسبي وهدمت دار الحديث وكثير من المدارس ثم قفل الى بلده بعد ان ولى على دمشق والشام قفجق وعلى حماة وحمص بكتمر السلحدار وعلى صفد وطرابلس والساحل فارس الدين البكي وخلف نائبة قطلو شاه في ستين ألف حامية للشام واستصحب وزيره بدر الدين بن فضل الله وشرف الدين ابن الأمير وعلاء الدين بن القلانسي وحاصر قطلو شاه القلعة فامتنعت عليه فاعتزم على الرحيل وجمع له قفجق الأوغاد في جمادى من السنة وبقي قفجق منفردا بأمره فأمن الناس بعض الشيء وأمر مماليكه ورجعت عساكر التتر من اتباع الترك بعد ان وصلوا الى القدس وغزة والرملة واستباحوا ونهبوا وقائدهم يومئذ مولاي من أمراء التتر فخرج اليه ابن تيمية واستوهبه بعض الأسرى فأطلقهم وكان الملك الناصر لما وصل الى القلعة ووصل معه كيبغا العادل وكان حضر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 معه المعركة من محلّ نيابته بصرخد فلما وقعت الهزيمة سار مع السلطان الى مصر وبقي في خدمة النائب سلار وجرّد السلطان العساكر وبث النفقات وسار الى الصالحية وبلغه رحيل غازان من الشام ووصل اليه بليان الطباخي نائب حلب على طريق طرابلس وجمال الدين الافرم نائب دمشق وسيف الدين كراي نائب طرابلس واتفق السلطان في عساكرهم وبلغه أنّ قطلو شاه نائب غازان رحل من الشام على أثر غازان فتقدّم بيبرس وسار في العساكر ووقعت المراسلة بينه وبين قفجق وبكتمر والبكي فأذعنوا للطاعة ووصلوا الى بيبرس وسلار فبعثوا بهم الى السلطان وهو في الصالحية في شعبان من السنة فركب للقائهم وبالغ في تكرمتهم والاتطاع لهم وولى قفجق على الشوبك ورحل عائدا الى مصر ودخل بيبرس وسلار الى مصر وقرّروا وفي ولايتها جمال الدين أقوش الافرم بدمشق وفي نيابة حلب قراسنقر المنصوري الجوكندار لاستعفاء بليان الطباخي عنها وفي طرابلس سيف الدين قطلبك وفي حماة كيبغا العادل وفي قضاء دمشق بدر الدين بن جماعة لوفاة امام الدين بن سعد الدين القزويني وعاد بيبرس وسلار الى مصر منتصف شوّال وعاقب الافرم كلّ من استخدم للتتر من أهل دمشق وأغزى عساكره جبل كسروان والدرزية لما نالوا من العسكر عند الهزيمة وألزم أهل دمشق بالرماية وحمل السلاح وفرضت على أهل دمشق ومصر الأموال عن بعث الخيالة والمساكن لاربعة أشهر وضمان للقرى وكثر الإرجاف سنة سبعمائة بحركة التتر فتوجه السلطان الى الشام بعد أن فرض على الرعية أموالا واستخرجها لتقوية عساكره وأقام بظاهر غزة أياما يؤلف فيها الأمصار ثم بعث ألفي فارس الى دمشق وعاد الى مصر منسلخ ربيع الآخر وجاء غازان بعساكره وأجفلت الرعايا أمامه حتى ضاقت بهم السبل والجهات فنزل ما بين حلب ومرس ونازلها واكتسح البلاد الى انطاكية وجبل السمر وأصابهم هجوم البرد وكثرة الامطار والوحل وانقطعت الميرة عنهم وعدمت الأقوات وصوعت المراعي من كثرة الثلج وارتحلوا الى بلادهم وكان السلطان قد جهز العساكر كما قلنا الى الشام صحبة بكتمر السلحدار نائب صفد وولى مكانه سيف الدين فنحاص المنصوري ثم وقعت المراسلة بين السلطان الناصر وبين غازان وجاءت كتبه وبعث الناصر كتبه ورسله وولى السلطان على حمص فارس الدين البكي والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 وفاة الخليفة الحاكم وولاية ابنه المستكفي والغزاة الى العرب بالصعيد ثم توفي الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وهو الّذي ولاه الظاهر وبايع له سنة ستين فتوفي سنة احدى وسبعمائة لإحدى وأربعين سنة من خلافته وقد عهد لابنه أبي الربيع سليمان فبايع له الناصر ولقبه المستكفي وارتفعت شكوى الرعايا في الصعيد من الاعراب وكثر عيثهم فجهز السلطان العساكر مع شمس الدين قراسنقر فاكتسحهم وراجعوا الطاعة وقرّر عليهم مالا حملوه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم وألف فرس واحدا وألفي جمل اثنين وعشرة آلاف ألف رأس من الغنم وأظهروا الاستكانة ثم أظهروا النفاق فسار اليهم كافل المملكة سلار وبيبرس في العساكر فاستلحموهم وأبادوهم وأصابوا أموالهم ونعمهم ورجعوا واستأذن بيبرس في قضاء فرضه فخرج حاجا وكان أبو نمى أمير مكة قد توفي وقام بأمره في مكة ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث فنقبا السجن وجاءا الى بيبرس مستعديين على أخويهما فقبض عليهما بيبرس وجاء بهما الى القاهرة وفي سنة ستين وسبعمائة بعدها خرجت الشواني مشحونة بالمقاتلة الى جزيرة أرواد في بحر طرطوس وبها جماعة من الافرنج قد حصنوها وسكنوها فملكوها وأسروا أهلها وخربوها وأذهبوا آثارها والله تعالى ولىّ التوفيق. تقرير العهد لأهل الذمة حضر في سنة سبعمائة وزير من المغرب في غرض الرسالة فرأى حال أهل الذمة وترفهم وتصرفهم في أهل الدولة فنكره وقبح ذلك واتصل بالسلطان نكيره فأمر بجمع الفقهاء للنظر في الحدود التي تقف عندها أهل الذمّة بمقتضى عهود المسلمين لهم عند الفتح وأجمع الملاء فيهم على ما نذكر وهو أن يميز بين أهل الذمة بشعار يخصهم فالنصارى بالعمائم السود واليهود بالصفر والنساء منهن بعلامات تناسبهن وأن لا يركبوا فرسا ولا يحملوا سلاحا وإذا ركبوا الحمير يركبونها عرضا ويتنحون وسط الطريق ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوت المسلمين ولا يعلوا بناءهم على بناء المسلمين ولا يظهروا شعائرهم ولا يضربوا بالنواقيس ولا ينصروا مسلما ولا يهودوه ولا يشتروا من الرقيق مسلما ولا من سباه مسلم ولا من جرت عليه سهام المسلمين ومن دخل منهم الحمام يجعل في عنقه جرسا يتميز به ولا ينقشوا فص الخاتم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 بالعربي ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يخدّموا في أعمالهم الشاقة مسلما ولا يرفعوا النيران ومن زنا منهم بمسلمة قتل وقال البترك بحضرة العدول حرمت على أهل ملتي وأصحابي مخالفة ذلك والعدول عنه وقال رئيس اليهود أوقعت الكلمة على أهل ملتي وطائفتي وكتب بذلك إلى الأعمال (ولنذكر) في هذا الموضع نسخة كتاب عمر بالعهد لأهل الذمّة بعد كتاب نصارى الشام ومصر اليه ونصه هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام ومضر لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا على أنفسنا أن لا تحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا علية ولا صومعة راهب ولا نجدّد ما خرب منها ولا ما كان في خطط وأن نوسع أبوابنا للمارّة ولبني السبيل وأن ننزل من مرّ بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا ولا نكتم عيبا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو اليه أحدا ولا نمنع أحد من ذي قرابتنا الدخول في دين الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتسمى بأسمائهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتمنا بالعربية وأن نجز مقدّم رءوسنا ونكرم نزيلنا حيث كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا ولا نفتح كنفنا في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا طواغيتنا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نوقد النيران في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ولا نطلع في منازلهم ولا نعلي منازلنا فلما أتى عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خلفنا في شيء مما شرطنا لكم علينا وضمناه على أنفسنا وأهل ملتنا فلا ذمّة لنا عليكم وقد حلّ بنا ما حلّ بغيرنا من أهل المعاندة والشقاق فكتب عمر رضي الله عنه أمض ما سألوه وألحق فيه حرفا اشترطه عليهم مع ما اشترطوه من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده وعلى أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمّة نصا وقياسا وأمّا كنائسهم فقال أبو هريرة أمر عمر بهدم كل كنيسة استحدثت بعد الهجرة ولم يبق الا ما كان قبل الإسلام وسير عروة بن محمد فهدم الكنائس بصنعاء وصالح القبط على كنائسهم وهدم بعضها ولم يبق من الكنائس الا ما كان قبل الهجرة وفي اباحة رمّها وإصلاحها لهم خلاف معروف بين الفقهاء والله تعالى ولىّ التوفيق . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 إيقاع الناصر بالتتر على شقحب ثم تواترت الأخبار سنة اثنتين وسبعمائة بحركة التتر وأنّ قطلو شاه وصل الى جهة الفرات وأنه قدم كتابه الى نائب حلب بأنّ بلادهم محلة وأنهم يرتادون المراعي بنواحي الفرات فخادع بذلك عن قصده ويوهم الرعية أن يحفلوا من البسائط ثم وصلت الأخبار بإجازتهم الفرات فأجفل الناس أمامهم كل ناحية ونزل التتر مرعش وبعث العساكر من مصر مددا لأهل الشام فوصلوا الى دمشق وبلغهم هنالك أنّ السلطان قازان وصل في جيوش التتر الى مدينة الرحبة ونازلها فقدّم نائبها قرى وعلوفة واعتذر له بأنه في طاعته الى أن يرد الشام فإن ظفر به فالرحبة أهون شيء وأعطاه ولده رهينة على ذلك فأمسك عنه ولم يلبث أن عبر الفرات راجعا إلى بلاده وكتب إلى أهل الشام كتابا مطوّلا ينذرهم فيه أن يستمدّوا عسكر السلطان أو يستجيشوه ويخادعهم بلين القول وملاطفته وتقدّم قطلو شاه وجوبان الى الشام بعساكر التتر يقال في تسعين ألفا أو يزيدون وبلغ الخبر الى السلطان فقدم العساكر من مصر وتقدّم بيبرس كافل المملكة الى الشأم والسلطان وسلار على اثره ومعهم الخليفة أبو الربيع وساروا في التعبية ودخل بيبرس دمشق وكان النائب بحلب قراسنقر المنصوري وقد اجتمع اليه كيبغا العادل نائب حماة وأسد الدين كرجي نائب طرابلس بمن معهم من العساكر فأغار التتر على القرينين وبها أحياء من التركمان كانوا أجفلوا أمامهم من الفرات فاستاقوا أحياءهم بما فيها واتبعهم العساكر من حلب فأوقعوا بهم واستخلصوا أحياء التركمان من أيديهم وزحف قطلو شاه وجوبان بجموعهما الى دمشق يظنان أن السلطان لم يخرج من مصر والعساكر والمسلمون مقيمون بمرج الصفر وهو المسمى بشقحب مع ركن الدين بيبرس ونائب دمشق أقوش الافرم ينتظرون وصول السلطان فارتابوا لزحف التتر وتأخروا عن مراكزهم قليلا وارتاعت الرعايا من تأخرهم فأجفلوا الى نواحي مصر وبينما هم كذلك إذ وصل السلطان في عساكره وجموعه غرّة رمضان من السنة فرتب مصافه وخرج لقصدهم فالتقى الجمعان بمرج الصفر وحمل التتر على ميمنة السلطان فثبت الله أقدامهم وصابروهم الى أن غشيهم الليل واستشهد جماعة في الجولة ثم انهزم التتر ولجئوا الى الجبل يعتصمون به واتبعهم السلطان فأحاط بالجبل الى أن أظلّ الصباح وشعر المسلمون باستماتتهم فأفرجوا لهم من بعض الجوانب وتسلل معظمهم مع قطلو شاه وجوبان وحملت العساكر الشامية على من بقي منهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 فاستلحموهم وأبادوهم واتبعت الخيول آثار المنهزمين وقد اعترضتهم الا وحال بما كان السلطان قدّم إلى أهل الأنهار بين أيديهم فبثقوها ووحلت خيولهم فيها فاستوعبوهم قتلا وأسرا وكتب السلطان الى قازان بما يجدّد عليه الحسرة ويملأ قلبه رعبا وبعث البشائر الى مصر ثم دخل الى دمشق وأقام بها عيد الفطر وخرج لثالثه منها الى مصر فدخلها آخر شوّال في موكب حفل ومشهد عظيم وقر الإسلام بنصره وتيمن بنقيب نوّابه وأنشده الشعراء في ذلك وفي هذه السنة توفي كيبغا العادل نائب حماة وهو الّذي كان ولىّ الملك بمصر كما تقدّم ذكره فدفن بدمشق وتوفي أيضا بليان الجوكندار نائب حمص وتوفي أيضا القاضي تقيّ الدين بن دقيق العيد بمصر لولايته ست سنين بها وولى مكانه بدر الدين بن جماعة وهلك قازان ملك التتر يقال أصابته حمى حادّة للهزيمة التي بلغته فهلك وولىّ أخوه خربندا وفيها أفرج السلطان عن رميثة وحميصة ولدى الشريف أبي نمى وولاهما بدلا من أخويهما عطيفة وأبي الغيث والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 أخبار الأرمن أخبار الأرمن وغزو بلادهم وادعاؤهم الصلح ثم مقتل ملكهم صاحب سيس على يد التتر قد كان تقدّم لنا ذكر هؤلاء الأرمن وأنهم وإخوتهم الكرج من ولد قويل بن ناحور بن آزر وناحور أخوا إبراهيم عليه السّلام وكانوا أخذوا بدين النصرانية قبل الملة وكانت مواطنهم أرمينية وهي منسوبة إليهم وقاعدتها خلاط وهي كرسيّ ملكهم ويسمى ملكهم النكفور ثم ملك المسلمون بلادهم وضربوا الجزية على من بقي منهم واختلف عليهم الولاة ونزلت بهم الفتن وخرجت خلاط فانتقل ملكهم إلى سيس عند الدروب المجاورة لحلب وانزووا إليها وكانوا يؤدّون الضريبة للمسلمين وكان ملكهم لعهد نور الدين العادل قليج بن اليون وهو صاحب ملك الدروب واستخدم للعادل وأقطع له ملك المصيصة وأردن وطرسوس من يد الروم وأبقاه صلاح الدين بعد العادل نور الدين على ما كان عليه من الخدمة وغدر في بعض السنين بالتركمان فعزاهم صلاح الدين وأخنى عليهم حتى أذعنوا ورجع إلى حاله من أداء الجزية والطاعة وحسن الجوار بثغور حلب ثم ملكهم لعهد الظاهر هيثوم بن قسطنطين ابن يأنس ويظهر أنه من أعقاب قليج أو من أهل بيته ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته وأقرّه على سلطانه وأجلب مع التتر في غزواتهم على الشام وغزا سنة اثنتين وستين صاحب بلاد الروم من التتر واستنفر معه بني كلاب من أعراب حلب وعاثوا في نواحي عنتاب ثم ترهب هيثوم بن قسطنطين ونصب ابنه للملك وبعث الظاهر العساكر سنة أربع وستين ومعه قلاون المنصور صاحب حماة إلى بلادهم فلقيهم ليون في جموعه قبل الدربند فانهزم وأسروا خرّب العساكر مدينة سيس وبذل هيثوم الأموال والقلاع في فداء ابنه ليون فشرط عليه الظاهر أن يستوهب سنقر الأشقر وأصحابه من أبغا بن هلاكو وكان هلاكو أخذهم من سجن حلب فاستوهبهم وبعث بهم وأعطى خمسا من القلاع منها رغبان ومرزبان لما توفي هيثوم سنة تسع وستين وملك بعده ابنه ليون وبقي الملك في عقبه وكان بينهم وبين الترك نفرة واستقامة لقرب جوارهم من حلب والترك يردّدون العساكر إلى بلادهم حتى أجابوا بالصلح على الطاعة والجزية وشحنة التتر مقيم عندهم بالعساكر من قبل شحنة بلاد الروم ولما توفي ليون ملك بعده ابنه هيثوم ووثب عليه أخوه سنباط فخلعه وحبسه بعد أن سمل عينه الواحدة وقتل أخاهما الأصغر يروس ونازلت عساكر الترك لعهده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 قلعة حموض من قبل العادل كيبغا فاستضعف الأرمن سنباط وهموا به فلحق بالقسطنطينية وقدموا عليهم أخاه رندين فصالح المسلمين وأعطاهم مرعش وجميع القلاع على جيحان وجعلوهم تخما ورجعت العساكر عنهم ثم أفرج رندين عن أخيه هيثوم الأعور سنة تسع وستين فأقام معه قليلا ثم وثب برندين ففرّ إلى القسطنطينية وأقام هيثوم بسيس في ملك الأرمن وقدم ابن أخيه تروس معسول أتابكا واستقامت دولته فيهم وسار مع قازان في وقعته مع الملك الناصر فعاث الأرمن في البلاد واستردّوا بعض قلاعهم وخربوا تل حمدون فلما هزم الناصر التتر سنة اثنتين وسبعمائة بعث العساكر إلى بلادهم فاسترجعوا القلاع وملكوا حمص واكتسحوا بسائط سيس وما إليها ومنع الضريبة المقرّرة عليهم فأنفذ نائب حلب قراسنقر المنصوري سنة سبع وستمائة العساكر إليهم مع أربعة من الأمراء فعاثوا في بلادهم واعترضهم شحنة التتر بسيس فهزموهم وقتل أميرهم وأسر الباقون وجهز العساكر من مصر مع بكتاش الفخري أمير سلاح من بقية البحرية وانتهوا إلى غزة وخشي هيثوم مغبة هذه الحادثة فبعث إلى نائب حلب بالجزية التي عليهم لسنة خمس وقبلها وتوسل بشفاعته إلى السلطان فشفعه وأمنه وكان شحنة التتر ببلاد الروم لهذا العهد أرفلي وكان قد أسلم لما أسلم ابغا وبنى مدرسة بأذنة وشيد فيها مئذنة ثم حدث بينه وبين هيثوم صاحب سيس وحشة فسعى فيه هيثوم عند خربندا ملك التتر بأنه مداخل لأهل الشام وقد واطأهم على ملك سيس وما إليها واستشهد له بالمدرسة والمئذنة وكتب بذلك إلى أرفلي بعض قرابته فأسرّها في نفسه واغتاله في صنيع دعاه إليه وقبض على وافد من مماليك الترك كان عند هيثوم من قبل نائب حلب يطلب الجزيرة المقررة عليه وهو آيدغدي الشهرزوريّ ولم يزل في سجن التتر الى أن فرّ من محبسه بتوريز سنة عشر وسبعمائة ونصب لملك سيس أوشني بن ليون وسار ارفلي إلى خربندا فسابقه ألتاق أخو هيثوم بنسائه وولده مستعدين عليه فتفجع لهم خربندا وسط أرفلي وقتله وأقر أوشين أخاه في ملكه لسيس فبادر إلى مراسلة الناصر بمصر وتقرير الجزية عليه كما كانت وما زال يبعثها مع الأحيان والله تعالى أعلم. مراسلة ملك المغرب ومهاداته كان ملك المغرب الأقصى من بني مرين المتولين أمره من بعد الموحدين وهو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق قد بعث الى السلطان الناصر سنة أربع وسبعمائة رسوله علاء الدين آيدغدي الشهرزوريّ من الشهرزورية المقربين هنالك أيام الظاهر بيبرس ومعه هدية حافلة من الخيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 والبغال والإبل وكثير من ماعون المغرب وسائر طرفه جملة من الذهب العين في ركب عظيم من المغاربة ذاهبين لقضاء فرضهم فقابلهم السلطان بأبلغ وجوه التكرمة وبعث معهم أميرا لإكرامهم وقراهم في طريقهم حتى قضوا فرضهم وعاد الرسول آيدغدي المذكور من حجه سنة خمس فبعث السلطان معه مكافأة هديتهم بما يليق بها من النفاسة وعين لذلك أميرين من بابه آيدغدي البابلي وآيدغدي الخوارزمي كل منهما لقبه علاء الدين فانتهوا إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان كما هو في ربيع الآخر سنة ست قابلهم بما يجب لهم ولمرسلهم وأوسع لهم في الكرامة والحباء وبعثهم إلى ممالكه بفاس ومراكش ليتطوّفا بها ويعاينا مسرّتها وهلك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان وانطلق الرسولان المذكوران من فاس راجعين من رسالتهما في رجب سنة سبع في ركب عظيم من أهل المغرب اجتمعوا عليهم لقصد الحج ولقوا السلطان أبا ثابت البزولي [1] من بعد يوسف بن يعقوب في طريقهم فبالغ في التكرمة والإحسان إليهم وبعث إلى مرسلهم الملك الناصر بهدية أخرى من الخيل والبغال والإبل ثم مرّوا بتلمسان وبها أبو زيان وأبو حمو ابنا عثمان بن يغمراس فلم يصرفا إليهما وجها من القبول وطلبا منهما خفير يخفرهما إلى تخوم بلادهما لما كانت نواحي تلمسان قد اضطربت بعد مهلك يوسف بن يعقوب وما كان من شأنه فبعث معهما بعض العرب فلم يغن عنهم واعترضهم في طريقهم أشرار حصن من زغبة بنواحي المرية فبالغوا في الدفاع فلم يغن عنهم واستولى الأشرار على الركب بما فيه ونهبوا جميع الحجاج ورسل الملك الناصر معهم وخلصوا برءوسهم إلى الشيخ بكر بن زغلي شيخ بني يزيد بن زغبة بوطن حمزة بنواحي بجاية فأوصلهم إلى السلطان بجباية أبي البقاء خالد من ولد الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص ملوك إفريقية فكساهم وحملهم إلى حضرة تونس وبها السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيى الواثق من بني عمه فبالغ في تكرمتهم وسافر معهم إبراهيم ابن عيسى من بني وسنار أحد أمراء بني مرين كان أميرا على الغزاة بالأندلس وخرج لقضاء فرضه فمرّ بتونس واستنهضه سلطانها على الإفرنج بجزيرة جربة فسار اليها بقومه ومعه عبد الحق بن عمر بن رحو من أعيان بني مرين وكان الشيخ أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني يحاصرها في عسكر تونس فأقام معهم مدّة ثم استوحش أبو يحيى اللحياني من سلطانه بتونس فلحق بطرابلس وساروا جميعا إلى مصر وتقدّم السلطان بإكرامهم حتى قضوا فرضهم وعادوا إلى المغرب واستمدّ أبو يحيى اللحياني السلطان الناصر فأمدّه بالأموال والمماليك وكان سببا لاستيلائه على الملك بتونس كما نذكره في أخباره أن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية الجزولي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 وحشة الناصر من كافلية بيبرس وسلار ولحاقه بالكرك وخلعه والبيعة لبيبرس ثم عرضت وحشة بين السلطان الناصر وبين كافليه بيبرس وسلار سنة سبع فامتنع من العلامة على المراسم وتردّدت بينه وبينهم السعاة بالعتاب وركب بعض الأمراء في ساحة القلعة من جوف الليل ودافعهم الحامية في جوف الليل وافترقوا وامتعض السلطان لذلك وازداد وحشة ثم سعى بكتمر الجوكندار في إصلاح الحال وحمل السلطان على تغريب بعض الخواص من مماليكه إلى القدس وكان بيبرس ينسب إليهم هذه الفتنة ونشأتها من أجلهم ففرّ بهم السلطان وأعتب الأميرين ثم أعيد الموالي من القدس إلى محلهم من خدمتهم واتهم السلطان الجوكندار في سعايته فسخطه وأبعده وبعثه نائبا عن صفد ثم غص بما هو فيه من الحجر والاستبداد وطلب الحج فهجره بيبرس وسلار وسار على الكرك سنة ثمان وودعه الأمراء واستصحب بعضا منهم فلما مرّ بالكرك دخل القلعة وأخرج النائب جمال الدين أقوش الأشرف إلى مصر وبعث عن أهله وولده كانوا مع المحمل الحجازي فعادوا إليه من العقبة وصرف الأمراء الذين توجهوا معه وأظهر الانقطاع بالكرك للعبادة وأذن لهم في إقامة من يصلح لأمرهم فاجتمعوا بدار النيابة وتشاوروا واتفقوا على أن يكون بيبرس سلطانا عليهم وسلار على نيابته وبايعوا بيبرس في شوّال سنة ثمان ولقبوه المظفر وقلده الخليفة أبو الربيع وكتب للناصر بنيابة الكرك وعينت له إقطاع يختص بها وقام سيف الدين سلار بالنيابة على عادة من قبله وأقرّ أهل الوظائف والرتب على مراتبهم وبعث أهل الشام بطاعتهم واستقرّ بيبرس في سلطانه والله تعالى أعلم. انتقاض الأمير بيبرس وعود الناصر إلى ملكه ولما دخلت سنة تسع هرب بعض موالي الناصر فلحقوا بالكرك وقلق الظاهر بيبرس المظفر وبعث في أثرهم فلم يدركوهم واتهم آخرون فقبض عليهم ونشأت الوحشة لذلك واتصلت المكاتبة من الأمراء الذين بالشام إلى السلطان بالكرك وخرج من مكانه يريد النهوض إليهم ثم رجع ووصل كتاب نائب دمشق أقوش الافرم فسكن الحال وبعث الجاشنكير بيبرس إلى السلطان برسالة مع الأمير علاء الدين مغلطاي أيدغلي وقطلوبغا تتضمن الإرجاف فثارت لها حفائظه وعاقب الرسولين وكاتب أمراء الشام يتظلم من بيبرس وأصحابه بمصر ويقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 سلمت لهم في الملك ورضيت بالضنك رجاء الراحة فلم يرجعوا عني وبعثوا إليّ بالوعيد وأنهم فعلوا ما فعلوا بأولاد المعز أيبك وبيبرس الظاهر ومثل ذلك من القول ويستنجدهم ويمتّ إليهم بوسائل التربية والعتق في دفاع هؤلاء عنه والا لحقت ببلاد التتر وبعث بهذه الرسالة مع بعض الجند كان مستخدما بالكرك من عهد أقوش الاشرفي وأقام هنالك وكان مولعا بالصيد فاتصل بالسلطان في مصايده وبث إليه ذات يوم شكواه فقال أنا أكون رسولك الى أمراء الشام فبعث إليهم بهذه الرسالة فامتعضوا وأجابوه بالطاعة كما يجب منهم وسار السلطان الى البلقاء وأرسل جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق إلى مصر فأخبر الجاشنكير بيبرس بالحال واستمدّه بالعساكر للدفاع فبعث إليه بأربعة آلاف من العساكر مع كبار الأمراء وأزاح عللهم وأنفق في سائر العساكر بمصر وكثر الإرجاف وشغبت العامّة وتعين مماليك السلطان للخروج إلى النواحي استرابة بمكانهم ووصل الخبر برجوع السلطان من البلقاء إلى الكرك لرأي رآه واستراب لرجعته سائر أصحابه وحاشيته وخاف أن يهجمهم عساكر مصر بما كان يشاع عندهم من اعتزام بيبرس على ذلك ثم دسّ السلطان إلى مماليكه وشيع إليهم فأجابوه وأعاد الكتاب إلى نواب الشام مثل شمس الدين آقسنقر نائب حلب وسيف الدين نائب حمص فأجابوه بالسمع والطاعة وبعث نائب حلب ولده إليه واستنهضوه للوصول فخرج من الكرك في شعبان سنة تسع ولحق به طائفة من أمراء دمشق وبعث النائب أقوش أميرين لحفظ الطرقات فلحقا بالسلطان وكتب بيبرس الجاشنكير إلى نواب الشام بالوقوف مع جمال الدين أقوش نائب دمشق والاجتماع على السلطان الناصر عن دمشق فأعرضوا ولحقوا بالسلطان وسار أقوش إلى البقاع والشقيف واستأمن إلى السلطان فبعث إليه بالأمان مع أميرين من أكابر أمرائه وسار إلى دمشق فدخلها وهي خالصة يومئذ لسيف الدين بكتمر أمير جامدار جاءه من صفد وهاجر إلى خدمته فتلقاه وجازاه أحسن الجزاء ثم وصل أقوش الأفرم فتلقاه السلطان بالميرة والتكرمة وأقرّه على نيابة دمشق واضطربت أمور الجاشنكير بمصر وخرجت طائفة من مماليك السلطان هاربين إلى الشام فسرّح في أثرهم العساكر فأدركوهم ونال الهاربون منهم قتلا وجراحة ورجعوا وتجمعت وثاب العامّة والغوغاء وأحاطوا بالقلعة وجاهروا بالخلعان وقبض على بعضهم وعوقب فلم يزدهم إلا عتوّا وتحاملا وارتاب الجاشنكير لحاله واجتمع الناس للحلف وحضر الخليفة وجدّد عليه وعليهم الحلف وبعث نسخة البيعة لتقرأ بالجامع يوم الجمعة فصاح الناس بهم وهموا أن يحصبوهم على المنبر فرجع إلى النفقة وبذل المال واعتزم على المسير إلى الشام وقدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 أكابر الأمراء فلحقوا بالسلطان من دمشق منتصف رمضان وقدم بين يديه أميرين من أمراء غزة فوصلاها واجتمعت إليه العرب والتركمان وبلغ الخبر إلى الجاشنكير فجمع إليه شمس الدين سلار وبدر الدين بكتوت الجوكندار وسيف الدين السلحدار وفاوضهم في الأمر فرأوا أنّ الخرق قد اتسع ولم يبق إلا البدار بالرغبة إلى السلطان أن يقطعه الكرك أو حماة أو صهيون ويتسلم السلطان ملكه فأجمعوا على ذلك وبعثوا بيبرس الدوادار وسيف الدين بهادر بعد أن أشهد الجاشنكير بالخلع وخرج من القلعة الى أطفيح بمماليكه فلم يستقرّ بها وتقدّم قاصدا أسوان واحتمل ما شاء من المال والذخيرة وخيول الإصطبل وقام بحفظ القلعة صاحبه سيف الدين سلار وكاتب السلطان يطالعه بذلك وخطب للسلطان على المنابر ودعي باسمه على المآذن وهتف باسمه العامّة في الطرقات وجهز سلار سائر شعار السلطنة ووصلت رسل الجاشنكير إلى السلطان بما طلب فأسعفه بصهيون وردّهم إليه بالأمان والولاية ووافى السلطان عيد الفطر بالبركة ولقيه هنالك سيف الدين سلار وأعطاه الطاعة ودخل السلطان إلى القلعة وجلس باقي العيد بالإيوان جلوسا فخما واستحلف الناس عامّة وسأله سلار في الخروج إلى إقطاعه فأذن له بعد أن خلع عليه فخرج ثالث شوّال وأقام ولده بباب السلطان ثم بعث السلطان الأمراء إلى أخميم فانتزعوا من الجاشنكير ما كان احتمله من المال والذخيرة وأوصلوها إلى الخزائن ووصل معهم جماعة من مماليكه كانوا أمراء واختاروا الرجوع إلى السلطان وولى السلطان سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جاندار نائبا بمصر وقراسنقر المنصوري نائبا بدمشق وبعث نائبها الأفرم نائبا بصرخد وسيف الدين قفجق نائبا بحلب وسيف الدين بهادر نائبا بطرابلس وخرجوا جميعا إلى الشام وقبض السلطان على جماعة من الأمراء ارتاب بهم وولى على وزارته فخر الدين عمر بن الخليلي عوضا عن ضياء الدين أبي بكر ثم انصرف بيبرس الجاشنكير متوجها إلى صهيون وبها بهادر [1] بها الأشجعيّ موكل به إلى حيث قصد ورجع عنه الأمراء الذين كانوا عنده إلى السلطان فاستضاف بعضهم إلى مماليكه واعتقل بعضهم ثم بدا للسلطان في أمره وبعث إلى قراسنقر وبهادر وهما مقيمان بغزة ولم ينفصلا إلى الشام أن يقبضا عليه فقبضا عليه وبعثا به إلى القلعة آخر ذي القعدة فاعتقل ومات هنالك والله تعالى وليّ التوفيق.   [1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 58: ثم أن بيبرس المذكور قصد الى صهيون حسبما كان قد سأله فبرز من أطفيح إلى السويس وسار إلى الصالحية، ثم سار منها حتى وصل إلى موضع بأطراف غزة يسمى العنصر قريب الداروم، وكان قراسنقر متوجها إلى دمشق نائبا بها على ما استقر عليه الحال فوصل إليه المرسوم بالقبض على بيبرس الجاشنكير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 خبر سلار ومآل أمره لما انتقل السلطان إلى ملكه بمصر وكان لسلار من السعي في أمره وتمكين سلطانه ما ذكرناه وكانت له سوء بال عند السلطان يعتني برعيها له وكانت الشويك من أقطاعه فرغب إلى السلطان في المسير إليها والتخلي فيها فأذن له وخلع عليه وزاده في أقطاعه وأقطاع مماليكه وأتبعه مائة من الطواشية بأقطاعهم وسار من مصر إلى الشويك في شوّال سنة ثمان وسبعمائة ثم بعث له داود المقسور بالكرك مضافا إلى الشويك وباللواء وبخلعة مذهبة ومركب ثقيل ومنطقة مجوهرة وأقام هنالك فلما كانت سنة عشر بعدها نمى إلى السلطان عن جماعة من الأمراء أنهم معتزمون على الثورة وفيهم أخو سلار فقبض عليهم جميعا وعلى شيع سلار وحاشيته الذين بمصر وبعث علم الدين الخوالي لاستقدامه من الكرك تأنيسا له وتسكينا فقدم في ربيع من السنة واعتقل إلى أن هلك في معتقله واستصفيت أمواله وذخائره بمصر والكرك وكانت شيئا لا يعبر عنه من الأموال والفصوص واللآلي والدروع والكراع والإبل ويقال أنه كان يغلّ كل يوم من أقطاعه وضياعه ألف دينار وأمّا أوليته فإنه لما خلص من أسر التتر صار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور قلاون ولما مات صار لأبيه قلاون ثم لابنه الأشرف ثم لأخيه محمد بن الناصر وظهر في دولهم كلها وكان بينه وبين لاشين مودّة فاستخدم له وعظم في دولته متقربا في المراكب متحرّيا لمحبة السلطان إلى أن انقرض أمره ويقال أنه لما احتضر في محبسه قيل له قد رضي عنك السلطان فوثب قائما ومشى خطوات ثم مات والله أعلم. انتقاض النواب بالشام ومسيرهم إلى التتر وولاية تنكز على الشام كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب [1] الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه ونقل إليها قراسنقر المنصوري من نيابة دمشق وولى مكانه بدمشق سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة ثم سخطه واعتقله وولى مكانه بدمشق جمال الدين أقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك   [1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 60: واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب في يوم السبت سلخ جمادى الأولى، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة أنعم السلطان بنيابة السلطنة بحلب على استدمر موضع سيف الدين قبجق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 وتوفي بها محمد [1] نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد ثم قبض على بكتمر الجوكندار نائب مصر وحبسه بالكرك وجعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار ثم ارتاب قراسنقر نائب حلب فهرب إلى البرية واجتمع مع مهنا بن عيسى ويقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان فرجع إلى الفرات وبعث مهنا بن عيسى شافعا له عند السلطان فقبله وردّه إلى نيابة حلب ثم بلغ السلطان أنّ خربندار ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر وتقدّم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قراسنقر وخرج من حلب وعبر الفرات ثم راجع نفسه واستأمن السلطان على ان يقيم بالفرات فأقطعه السلطان الشويك يقيم بها فلم يفعل وبقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به وفيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس وأمضوا عزمهم على اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحبها بالكرامة وحمل إليهم تسعين ألف درهم ورتب لهم الأتاوات ثم ساروا إلى خلاط إلى أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه واستحثوه للشام وبلغ الخبر إلى السلطان فأتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قراسنقر وأصحابه فاستدعاهم وبعث على حلب سيف الدين [2] مكان قراسنقر وعلى طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش وبعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا ووصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعا وعلى أقوش الأشرفي نائب دمشق وولى مكانه تنكز الناصري سنة اثنتي عشرة وجعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية وقبض على نائبة بمصر بيبرس الدوادار وحبسه بالكرك وولى مكانه أرغون الدوادار وعسكر بظاهر القلعة وارتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة ونازلها وانصرف عنها راجعا فانكفأ السلطان إلى دمشق وفرق العساكر بالشام ثم سار إلى الكرك واعتزم على قضاء فرضه تلك السنة وخرج حاجا من الكرك ورجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام وبعث إلى مهنا بن عيسى يستميله وعاد الرسول بامتناعه ثم لحق سنة ست عشرة بخرابندا وأقطعه بالعراق وأقام هنالك فلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا والله سبحانه وتعالى أعلم.   [1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على الاسم الكامل لنائب طرابلس في تلك السنة. [2] بياض بالأصل، وفي أخبار البشر ج 4 ص 67: وفيها قرر السلطان سيف الدين سودي الجمدار (الأشرفي ثم الناصري) في نيابة السلطنة بحلب المحروسة موضع قراسنقر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 رجوع حماة إلى بني المظفر شاهنشاه بن أيوب ثم لبني الأفضل منهم وانقراض أمرهم قد كان تقدّم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع وسبعين وخمسمائة فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فأقطعها ابنه ناصر الدين محمدا ولقبه المنصور وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة بعد عمه صلاح الدين والعادل فوليها ابنه قليج أرسلان ويلقب الناصر سنة ست وعشرين وكان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزه بالعساكر من دمشق وملكها من يد أخيه وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث وأربعين وولي ابنه محمد ويلقب المنصور ولم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هاربا إلى مصر أيام التتر فسار معه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو واستمرّ المنصور إلى مصر فأقام بها وملك هلاكو الشام وقتل الناصر وسائر بني أيوب كما مرّ ثم سار قطز إلى الشام عند ما رجع هلاكو عنه عند ما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر وولى على قواعده وأمصاره وردّ المنصور إلى حماة فلم يزل واليا عليها وحضر واقعة على التتر بحمص سنة ثلاثين وكان يتردّد إلى مصر سائر أيامه ويخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن وغيرها ويعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك ثم توفي ثلاث وثمانين وأقرّ قلاون ابنه المظفر على ما كان أبوه وجرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان وتسعين عند ما بويع الناصر محمد بن قلاون بعد لاشين، وانقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قراسنقر من أمراء الترك نقله إليها من الضبينة وأمره باستقرار بني أيوب وسائر الناس على أقطاعاتهم ثم كان استيلاء قازان على الشام ورجوعه سنة تسع وتسعين ومسير بيبرس وسلار وانتزاع الشام من التتر وكان كيبغا العادل الّذي ملك مصر وخلعه لاشين نائبا بصرخد فجلا في هذه الوقائع وتنصح لبيبرس وسلار وحضر معهم بدمشق فولوه على حماة وغزا بالعساكر بلاد الأرمن وحضر هزيمة التتر مع الناصر سنة اثنتين وسبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها وولى السلطان بعده سيف الدين قفجق استدعاه إليها من أقطاعه بالشويك وكان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور وخلف ولدا اسمه إسماعيل ولقبه عماد الدين ونشأ في دولتهم عاكفا على العلم والأدب حتى توفر منهما حظه وله كتاب في التاريخ مشهور ولما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس وسلار راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت واختار منهم عماد الدين إسماعيل هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 وولاه على حماة مكان قومه ست عشرة وسبعمائة وكان عند رجوعه إلى ملكه قد ولّى نيابة حلب سيف الدين قفجق وجعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي وتوفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه وولى إسماعيل على حماة كما قلناه ولقبه المؤيد ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين وولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وقام بعده بالأمر مولاه قوص ونصب ابنه أبا بكر محمدا فكان أوّل شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة وبعث عليها مكانه صقر دمول النائب وسار الأفضل إلى دمشق فمات بها سنة اثنتين وأربعين وانقرضت إيالة بني أيوب من حماة والبقاء للَّه وحده لا ربّ غيره ولا معبود سواه. غزو العرب بالصعيد وفتح ملطية وآمد ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام موريا بالنزهة وقد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب وفسادهم في نواحيه وإضرارهم بالسابلة فسرح العساكر في كل ناحية منه وأخذ الهلاك منهم مأخذه الى ان تغلب عليهم واستباحهم من كل ناحية وشرد بهم من خلفهم ثم سرّح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية وهي للأرمن وملكها عنوة. وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام وستة من أمراء مصر ونازلوها في محرّم سنة خمس عشرة وبها جموع من نصارى الأرمن والعربان وقليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد واقتحموها عنوة واستباحوها وجاءوا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان وأنعم عليه ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها وجاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها واستباحوها وغنموا منها أموالا جمة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. الولايات وفي سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين نمر نائب طرابلس الّذي وليها بعد أقوش الأفرم وأمدّه به وسيق معتقلا إلى مصر وولى مكانه سيف الدين كستاي ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص وولى نيابة حمص سيف الدين أقطاي ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية وصرف نائبا الى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلا وحبسه بالإسكندرية وبعث على صفد سيف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 الدين أقطاي نقله إليها من حمص وبعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني والله تعالى أعلم. العمائر ابتدأ السلطان سنة إحدى عشرة وسبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر وأكمله ووقف عليه الأوقاف المغلة ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية وفي سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن وزيد فيه إلى الحدّ الّذي هو عليه بهذا العهد ثم أمر في سنة ثلاث وعشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس وبنى بإزائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر بعمارة الإيوان الضخم بالقلعة وجعله مجلس ملكه وبيت كرسيه ودعاه دار العدل والله تعالى أعلم. حجات السلطان وحج الملك الناصر محمد بن قلاون في أيام دولته ثلاث حجات أوّلا سنة ثلاث عشرة عند ما انقرض قراسنقر نائب حلب وأقوش الأفرم نائب طرابلس ومهنا بن عيسى أمير العرب وجاء خربندا إلى الشام ورجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام وبلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجا وقضى فرضه سنة ثلاث عشرة ورجع إلى الشام ثم حج الثانية سنة تسع عشرة ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة ومعه المؤيد صاحب حماة والأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى [1] ولما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى الهند على اليمن ورجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة من بني حسن وعن المعتقلين بمحبسه ووصله ووصلهم ثم حج الثالثة سنة اثنتين وثلاثين ومعه الأفضل بن المؤيد صاحب حماة على عادة أبيه في مراكبة السلطان وقفل من حجه سنة ثلاث وثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصحفا بالفضة أنفق فيه خمسة وثلاثين ألف درهم وفي منصرفه من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه وخواصه ويقال أنه سمه وهو من مماليك بيبرس الجاشنكير وانتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة وعظمت منزلته عنده ولطفت خلته حتى كانا لا يفترقان إمّا في بيت السلطان وإمّا في بيته وكان حسن السياسة في الغاية وخلف بعد وفاته من الأموال والجواهر والذخائر ما يفوت الحصر والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.   [1] أظنها دلهي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 أخبار النوبة وإسلامهم قد تقدّم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاون لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم وقرّرها الملوك بعد ذلك وربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عساكر المسلمين من مصر حتى يستقيموا وكان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاون إليها سنة ثمانين وستمائة واسمه سمامون ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي لا أدري أكان معاقبا لسمامون أو توسط بينهما متوسط وتوفي آي سنة ست عشرة وسبعمائة وملك بعده في دنقلة أخوه كربيس ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلى وأسلم فحسن إسلامه وأجرى له رزقا وأقام عنده فلما كانت سنة ست عشرة امتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر وبعث معها عبد الله نشلى المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم فخام كربيس عن لقائهم وفرّ إلى بلد الأبواب ورجعت العساكر إلى مصر واستقر نشلى في ملك النوبة على حاله من الإسلام وبعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه وأقام بباب السلطان ثم أنّ أهل النوبة اجتمعوا على نشلى وقتلوه بمالأة جماعة من العرب سنة تسع وبحثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألفوه بمصر وبلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها وانقطعت الجزية بإسلامهم ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملكوها وملئوها عيثا وفسادا وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وصار لبعض أبناء جهينة من أمّهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم وليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعا لهذا العهد ولم يبق لبلادهم رسم للملك وإنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الأعراب ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحالته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والالتحام والله غالب على أمره والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. بقية أخبار الأرمن إلى فتح إياس ثم فتح سيس وانقراض أمرهم قد كنا قدّمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد آيدغدي شحنة التتر ببلاد الروم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 سنة سبع واستقرار الملك بسيس لأخيه أو سير بن ليون وكان بينه وبين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان ولم يزل أوسير بن ليون ملكا عليهم إلى سنة اثنتين وسبعين فهلك ونصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيرا ابن اثنتي عشرة سنة وكان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع وجهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده وخربوها وهلك أوسير على أثر ذلك ثم أمر الناصر كيبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست وثلاثين واكتسح جهاتها وحصر قلعة النقير وافتتحها وأسر من الأرمن عدّة يقال بلغوا ثلاثمائة وبلغ خبرهم الى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين وأحرقوهم غضبا للأرمن لمشاركتهم في دين النصرانية ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرّفه بدخوله في الإسلام ويستنفر عساكره لجهاد نصارى الأرمن فأسعفه بذلك وجهز إليه عساكر الشام من دمشق وحلب وحماة سنة سبع وثلاثين ونازلوا مدينة إياس ففتحوها وخربوها ونجافلهم إلى الجبال فاتبعتهم عساكر حلب وعادوا إلى بلادهم ثم سار سنة إحدى وستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنة وطرسوس والمصيصة ثم قلعتي كلال والجرائدة وسنباط كلا وتمرور وولى نائبين في أذنة وطرسوس وعاد إلى حلب وولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست وسبعين وحصر سيس وقلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم وجهدهم الحصار فاستأمنوا ونزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور وأمراؤه وعساكره الى عشقيم فبعث بهم الى مصر واستولى المسلمون على سيس وسائر قلاعها وانقرضت منها دولة الأرمن والبقاء للَّه وحده انتهى. الصلح مع ملوك التتر وصهر الناصر مع ملوك الشمال منهم كان للتتر دولتان مستفحلتان إحداهما دولة بني هلاكو آخذ بغداد والمستولي على كرسي الإسلام بالعراق وأصارها هو وبنوه كرسيا لهم ولهم مع ذلك عراق العجم وفارس وخراسان وما وراء النهر ودولة بني دوشي خان بن جنكزخان بالشمال متصلة إلى خوارزم بالمشرق إلى القرم وحدود القسطنطينية بالجنوب وإلى أرض بلغار بالمغرب وكان بين الدولتين فتن وحروب كما تحدث بين الدول المتجاورة وكانت دولة الترك بمصر والشام مجاورة لدولة بني هلاكو وكان يطمعون في ملك الشام ويردّدون الغزو إليه مرّة بعد اخرى ويستميلون أولياءهم وأشياعهم من العرب والتركمان فيستظهرون بهم عليهم كما رأيت ذلك في أخبارهم وكانت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 بين ملوكهم من الجانبين وقائع متعدّدة وحروبهم فيها سجال وربما غلبوا من الفتنة بين دولة بني دوشي وبين بني هلاكو ولبعدهم عن فتنة بني دوشي خان لتوسط الممالك بين مملكتهم ومملكة مصر والشام فتقع لهم الصاغية إليهم وتتجدّد بينهم المراسلة والمهاداة في كل وقت ويستحث ملك الترك ملك صراي من بني دوشي خان لفتنة بني هلاكو والأجلاب عليهم في خراسان وما إليها من حدود مملكتهم ليشغلوهم عن الشام ويأخذوا بحجزتهم عن النهوض إليه وما زال ذلك دأبهم من أوّل دولة الترك وكانت رغبة بني دوشي خان في ذلك أعظم يفتخرون به على بني هلاكو ولما ولي صراي أنبك من بني دوشي خان سنة ثلاث عشرة وكان نائبا ببلاد الروم قطلغمير وفدت عليه الرسل من مصر على العادة فعرض لهم قطلغمير بالصهر مع السلطان الناصر ببعض نساء ذلك البيت على شرطية الرغبة من السلطان في ظاهر الأمر والتمهل منهم في إمضاء ذلك وزعموا أنّ هذه عادة الملوك منهم ففعل السلطان ذلك وردّد الرسل والهدايا أعواما ستة الى أن استحكم ذلك بينهم وبعثوا اليه بمخطوبته طلبناش بنت طغاجي بن هند وابن بكر بن دوشي سنة عشرين مع كبير المغل وكان مقلدا يحمل على الأعناق ومعهم جماعة من أمرائهم وبرهان الدين أمام أزبك ومرّوا بالقسطنطينية فبالغ لشكري في كرامتهم يقال أنه أنفق عليهم ستين ألف دينار وركبوا البحر من هناك إلى الإسكندرية ثم ساروا بها إلى مصر محمولة على عجلة وراء ستور من الذهب والحرير يجرّها كديش يقود، اثنان من مواليها في مظهر عظيم من الوقار والتجلة ولما قاربوا مصر ركب للقائهم النائبان أرغون وبكتمر الساقي في العساكر وكريم الدين وكيل السلطان وأدخلت الخاتون إلى القصر واستدعى ثالث وصولها القضاة والفقهاء وسائر الناس على طبقاتهم إلى الجامع بالقلعة وحضر الرسل الوافدون عندهم بعد أن خلع عليهم وانعقد النكاح بين وكيل السلطان ووكيل أزبك وانفضّ ذلك المجمع وكان يوما مشهودا ووصلت رسل أبي سعيد صاحب بغداد والعراق سنة اثنتين وعشرين وفيهم قاضي توريز يسألون الصلح وانتظام الكلمة واجتماع اليد على إقامة معالم الإسلام من الحج وإصلاح السابلة وجهاد العدوّ فأجاب السلطان إلى ذلك وبعث سيف الدين أيتمش المحمدي لأحكام العقد معهم وامتضاء إيمانهم فتوجهه لذلك بهدية سنية وعاد سنة ثلاث وعشرين ومعه رسل أبي سعيد ومعه جوبان لمثل ذلك فتمّ ذلك وانعقد بينهم وقد كانت قبل ذلك تجدّدت الفتنة بين أبي سعيد وصاحب صراي نفرة من أزبك صاحب صراي من تغلب جوبان على أبي سعيد وفتكه في المغل وكانت بين جوبان وبين سبول صاحب خوارزم وما وراء النهر فتنة ظهر فيها أزبك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 وأمدّه بالعساكر فاستولى أزبك على أكثر بلاد خراسان وطلب من الناصر بعد الالتحام بالصهر المظاهرة على أبي سعيد وجوبان فأجابه إلى ذلك ثم بعث إليه أبو سعيد في الصلح كما قلناه فآثره وعقد له وبلغ الخبر إلى أزبك ورسل الناصر عنده فأغلظ في القول وبعث بالعتاب واعتذر له الناصر بأنهم إنما دعوه لإقامة شعائر الإسلام ولا يسع التخلف عن ذلك فقبل ثم وقعت بينه وبين أبي سعيد مراوضة في الصلح بعد أن استردّ جوبان ما ملكه أزبك من خراسان فتوادع كل هؤلاء الملوك واصطلحوا ووضعوا أوزار الحرب حينا من الدهر إلى أن تقلبت الأحوال وتبدّلت الأمور والله مقلب الليل والنهار. مقتل أولاد بني نمى أمراء مكة من بني حسن قد تقدّم لنا استيلاء قتادة على مكة والحجاز من يد الهواشم واستقرارها لبنيه إلى أن استولى منهم أبو نمي وهو محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة ثم توفي سنة اثنتين وسبعمائة وولي مكانه ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث ولما حج الأميران كافلا المملكة بيبرس وسلار هربا إليهما من مكان اعتقالهما وشكيا ما نالهما من رميثة وخميصة فأشكاهما الأميران واعتقلا رميثة وخميصة وأوصلاهما إلى مصر ووليا عطيفة وأبا الغيث وبعثا بهما إلى السلطان صحبة الأمير أيدمر الكوكبي الّذي جاء بالعساكر معهما ثم رضي السلطان عنهما وولاهما مكان رميثة وخميصة وبعث معهما العساكر ثانيا سنة ثلاث عشرة وفرّ رميثة وخميصة عن البلاد ورجع العسكر وأقام أبو الغيث وعطيفة فرجع إليهما رميثة وخميصة وتلاقوا فانهزم أبو الغيث وعطيفة فسارا إلى المدينة في جوار منصور بن حماد فأمدّهما ببني عقبة وبني مهدي ورجع إلى حرب رميثة وخميصة فاقتتلوا ثانيا ببطن مرو فانهزم أبو الغيث وقتل واستمرّ رميثة وخميصة ولحق بهما أخوهما عطيفة وسار معهما ثم تشاجروا سنة خمس عشر ولحق رميثة بالسلطان مستعديا على أخويه فبعث معه العساكر ففرّ خميصة بعد أن استصفى أهل مكة وهرب إلى السبعة مدن ولحقته العساكر فاستلحق أهل تلك المدن ولقيهم فانهزموا ونجا خميصة بنفسه ثم رجعت العساكر فرجع وبعث رميثة يستنجد السلطان فبعث إليه العساكر ففرّ خميصة ثم رجع واتفق مع أخويه رميثة وعطيفة ثم لحق عطيفة بالسلطان سنة ثمان عشرة وبعث معه العساكر فتقبضوا على رميثة وأوصلوه معتقلا فسجن بالقلعة واستقرّ عطيفة بمكة وبقي خميصة مشردا ثم لحق بملك التتر ملك العراق خربندا واستنجده على ملك الحجاز فانجده بالعساكر وشاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 إخراج الشيخين من قبريهما وعظم ذلك على الناس ولقبه محمد بن عيسى أخو مهنا حسبة وامتعاضا للدين وكان عند خربندا فاتبعه واعترضه وهزمه ويقال أنه أخذ منه المعاول والفؤوس التي أعدوها لذلك وكان سببا لرضا السلطان عنه وجاء خميصة إلى مكة سنة ثماني عشرة وبعث الناصر العساكر اليه فهرب وتركها ثم أطلق رميثة سنة تسع عشرة فهرب إلى الحجاز ومعه وزيره علي بن هنجس فرد من طريقه واعتقل وأفرج عنه السلطان بعد مرجعه من الحج سنة عشرين ثم أن خميصة استأمن السلطان سنة عشرين وكان معه جماعة من المماليك هربوا إليه فخاموا أن يحضروا معه إلى السلطان فاغتالوه وحضروا وكان السلطان قد أطلق رميثة من الاعتقال فأمكنه منهم فثأر من المباشر قتل أخيه وعفا عن الباقين ثم صرف السلطان رميثة إلى مكة وولاه مع أخيه عطيفة واستمرّت حالهما ووفد عطيفة سنة إحدى وعشرين على الأبواب ومعه قتادة صاحب الينبع يطلب الصريخ على ابن عمه عقيل قاتل ولده فأجابه السلطان وجهز العساكر لصريخه وقويل كل منهما بالأكراد وانصرفوا وفي سنة إحدى وثلاثين وقعت الفتنة بمكة وقتل العبيد جماعة من الأمراء والترك فبعث السلطان آيدغمش ومعه العساكر فهرب الشرفاء والعبيد وحضر رميثة وبذل الطاعة وحلف متبرئا مما وقع فقبل منه السلطان وعفا له عنها واستمرّت حاله على ذلك إلى أن هلك سنة [1] وتداولت الإمارة بين ابنيه عجلان وبقية ثم استبدّ عجلان كما نذكره [2] في أخبارهم وورثتها بنوه لهذا العهد كما نذكره مرتبا في أخبارهم إن شاء الله تعالى. حج ملك التكرور كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأوّل والثاني منقسما بين أمم من السودان أولهم مما يلي البحر المحيط أمّة صوصو وكانوا مستولين على غانة ودخلوا في الإسلام أيام الفتح وذكر صاحب كتاب زجار في الجغرافيا أنّ بني صالح من بني عبد الله بن الحسن بن الحسن كانت لهم بها دولة وملك عظيم ولم يقع لنا في تحقيق هذا الخبر أكثر من هذا وصالح من بني حسن مجهول وأهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو ثم يلي أمة صوصو أمة مالي من شرقهم وكرسي ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقا عنهم أمّة كوكو ثم التكرور بعدهم وفيما بينهم وبين النوبة أمّة كانم وغيرها وتحولت الأحوال باستمرار العصور   [1] بياض بالأصل، ولم نعثر على سنة هلاكه في المراجع التي بين أيدينا. [2] قوله كما نذكره هذا قد تقدم في المجلد الرابع مفصلا مع اختلاف يسير في بعض الأسماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 فاستولى أهل مالي على ما وراءهم وبين أيديهم من بلاد صوصو وكوكو وآخر ما استولوا عليه بلاد التكرور واستفحل ملكهم إلى الغاية وأصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب ودخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين وحج جماعة من ملوكهم وأوّل من حج منهم برمندار وسمعت في ضبطه من بعض فضلائهم برمند أنه وسبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده ثم حج منهم منسا ولي بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس وحج بعده منهم مولاهم صاكوره وكان تغلب على ملكهم وهو الّذي افتتح مدينة كوكو ثم حج أيام الناصر وحج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر عند ذكر صنهاجة ودولة لمتونة من شعوبهم ولما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج سلك على طريق الصحراء وخرج عند الأهرام بمصر وأهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال أنّ فيها خمسين ألف دينار وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياها ولقيه السلطان بمجلسه وحدثه ووصله وزوّده وقرب إليه الخيل والهجن وبعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين ورجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله وذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل والركب وانفرد بقومه عن العرب وهي كلها مجاهل لهم فلم يهتدوا إلى عمران ولا وقفوا على مورد وساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس وهم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها والأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا ثم جدّد السلطان له الكرامة ووسع له في الحباء وكان أعدّ لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفدت كلها وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار وكان في صحبته منهم بنو الكويك فاقرضوه خمسين ألف دينار واتباع منهم القصر الّذي أقطعه السلطان وأمضى له ذلك وبعث سراج الدين بن الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك وأتبعه سراج الدين آخرا بابنه فمات هنالك وجاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض وهلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. أنجاد المجاهد ملك اليمن قد تقدّم لنا استبداد علي بن رسول فملك بعد مهلك سيده يوسف أتسز بن الكامل بن العادل بن أيوب ويلقب المسعود وكان علي بن رسول أستاذ داره ومستوليا على دولته فلما هلك سنة ست وعشرين وستمائة نصب ابن رسول ابنه موسى الأشرف لملكه وكفله قريبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 واستولى ابن رسول وأورث ملكه باليمن لبنيه لهذا العهد وانتقل الأمر للمجاهد منهم علي بن داود والمؤيد بن يوسف المظفر بن عمر بن المنصور بن علي بن رسول سنة إحدى وعشرين وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف فظهر عليه المجاهد واعتقله ثم انتقض عليه عمه المنصور سنة ثلاث وعشرين وحبسه وأطلق من محبسه واعتقل عمه المنصور وكان عبد الله الظاهر بن المنصور قائما بأمر أبيه ومنازلة المجاهد سنة أربع وعشرين بالصريخ إلى الناصر سليمان الترك بمصر وكان هو وقومه يعطونهم الطاعة ويبعثون إليهم الإتاوة من الأموال والهدايا وطرف اليمن وما عونه فجهز لهم الناصر صحبة بيبرس الحاجب وطبنال من أعظم أمرائه فساروا إلى اليمن ولقيهم المجاهد بعدن فأصلحوا بين الفريقين على أن تكون [1] ويستقرّ المجاهد في سلطانه باليمن ومالوا على كل من كان سببا في الفتنة فقتلوهم ودوّخوا اليمن وحملوا أهله على طاعة المجاهد ورجعوا إلى محلهم من الأبواب السلطانية والله تعالى ولي التوفيق. ولاية أحمد ابن الملك الناصر على الكرك ولما استفحل ملك السلطان الناصر واستمرّ وكثر ولده طمحت نفسه إلى ترشيح ولده لتقرّ عينه بملكهم فبعث كبيرهم أحمد إلى قلعة الكرك سنة ست وعشرين ورتب الأمراء المقيمين بوظائف السلطان فسار إلى الكرك وأقام بها أربع سنين ممتعا بالملك والدولة وأبوه قرير العين بامارته في حياته ثم استقدمه سنة ثلاثين وأقام فيه سنة الختان واحتفل في الصنيع به وختن معه من أبناء الأمراء والخواص جماعة انتقاهم ووقع اختياره عليهم ثم صرفه إلى مكان إمارته بالكرك فأقام بها إلى أن توفي الملك الناصر وكان ما نذكره والله تعالى أعلم. وفاة مرداش بن جوبان شحنة بلاد الروم ومقتله كان جوبان نائب مملكة التتر مستوليا على سلطانه أبي سعيد بن خربندا لصغره وكانت حاله مع أبيه خربندا قريبا من الاستيلاء فولى على مملكة بلاد الروم دمرداش ثم وقعت الفتنة بينهم وبين ملك الشمال أزبك من بني دوشي خان على خراسان وسار جوبان من بغداد سنة تسع وعشرين لمدافعته كما يأتي في أخبارهم وترك عند السلطان أبي سعيد ببغداد ابنه خواجا   [1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 دمشق فسعى به أعداؤه وأنهوا عنه قبائح من الأفعال لم يحتملها له فسطا به وقتله وبلغ الخبر إلى أبيه جوبان فانتقض وعاجله أبو سعيد بالمسير إلى خراسان فتفرّقت عنه أصحابه وفرّ فأدرك بهراة وقتل وأذن السلطان أبو سعيد لأهله أن ينقلوه إلى التربة التي اختطها بالمدينة النبويّة لدفنه فاحتملوه ولم يتوقفوا على إذن صاحب مصر فمنعهم صاحب المدينة ودفنوه بالبقيع ولما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في إمارته ببلاد الروم خشي على نفسه فهرب إلى مصر وترك مولاه أرتق مقيما لأمر البلد وأنزله بسيواس ولما وصل إلى دمشق وركب النائب لتلقيه وسار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان وأحله محل الكرامة وكان معه سبعة من الأمراء ومن العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان وأجرى عليهم الأرزاق وأقاموا عنده وجاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد وطلبه بذمّة الصلح الّذي عقده مع الملك الناصر وأوضحوا لعلم السلطان من فساد طويته وطوية أبيه جوبان وسعيهم في الأرض بالفساد ما أوجب إعطاءه باليد وشرط السلطان عليهم إمضاء حكم الله تعالى في قراسنقر نائب حلب الّذي كان فرّ سنة اثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا وأغروه بملك الشام ولم يتم ذلك وأقاموا عند خربندا وولي أقوش الأفرم على همذان فمات بها سنة ست عشرة فولي صاحبه قراسنقر مكانه بهمذان فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم الله تعالى وقتلوه جزاء بما كان عليه من الفساد في الأرض والله متولي جزائهم ثم وصل على أثر ذلك ابن السلطان أبي سعيد ومعه جماعة من قومه في تأكيد الصلح والإصهار من السلطان فقوبلوا بالكرامة التي تليق بهم واتصلت المراسلة والمهاداة بين هذين السلطانين إلى أن توفيا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشأم وأخبار قومه هذا الحيّ من العرب يعرفون بآل فضل رحالة ما بين الشام والجزيرة وتربة نجد من أرض الحجاز يتقلبون بينها في الرحلتين وينتسبون في طيِّئ ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج أحلاف لهم ويناهضهم في الغلب والعدد آل مراد يزعمون أنّ فضلا ومرادا أبناء ربيعة ويزعمون أيضا أنّ فضلا ينقسم ولده بين أل مهنا وآل علي وأنّ آل فضل كلهم بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراد وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الآن لا يفارقونها قالوا ثم اتصل آل فضل بالدول السلطانية وولوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 برياستهم على آل مراد وغلبوهم على المشاتي فصار عامّة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل وكانت معهم أحياء من أفاريق العرب مندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان آل فضل إلا أن أكثر من كان مع آل مراد من أولئك الأحياء وأوفرهم عدة بنو حارثة بن سنبس إحدى شعوب طيِّئ هكذا ذكر لي الثقة عندي من رجالتهم وبنو حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى العمران ورياسة آل فضل لهذا العهد لبني مهنا وينسبونه هكذا مهنا بن مانع ابن جديلة بن فضل بن بدر بن ربيعة بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن جصة بن بدر ابن سميع ويقفون عند سميع ويقول رعاؤهم أنّ سميعا هذا هو الّذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي وحاشى للَّه من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي انتساب كبراء العرب من طيِّئ إلى موالي العجم من برمك وأنسابهم ثم أنّ الوجدان يحيل رياسة هؤلاء على هذا الحي إن لم يكونوا من نسبتهم وقد تقدّم مثل ذلك في مقدّمة الكتاب وكان مبدأ رياستهم من أوّل دولة بني أيوب قال العماد الأصبهاني في كتاب البرق السامي نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة انتهى وكانت الرئاسة قبلهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيِّئ وكان كبيرهم مفرج بن دغفل ابن جراح وكان من إقطاعه الرملة وهو الّذي قبض على افتكين مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق وجاء به إلى المعز فأكرمه ورقاه في دولته ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفى سنة أربع وأربعمائة وكان من ولده حسان ومحمود وعلى وجران وولي حسان بعده وعظم صيته وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين نفرة واستجاشة وهو الّذي هدم الرملة وهزم قائدهم هاروق التركي وقتله وسبى نساءه وهو الّذي مدحه التهامي وقد ذكر المسيحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج فضل بن ربيعة بن حازم بن جراح وأخاه بدر بن ربيعة ولعل فضلا هذا هو جدّ آل فضل وقال ابن الأثير وفضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدّس وكان فضل تارة مع الإفرنج وتارة مع خلفاء مصر ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش وطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد وحالفه ووصله حين قدم من دمشق بتسعة آلاف دينار فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها ووقعت بينهما الفتنة اجتمع فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان كانوا أولياء صدقة فساروا في الطلائع بين يدي الحرب وهربوا الى السلطان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 فأكرمهم وخلع عليهم وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة استأذنه في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار ولم يرجع للسلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير ويظهر من كلامه وكلام المسيحي أنّ فضلا هذا وبدرا من آل جراح من غير شك ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أنّ فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه فضل بن علي بن مفرج وهو عند الآخرين فضل بن علي بن جراح فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الّذي هو كبير بني الجراح لطول العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية الغفل وأما نسبة هذا الحي في طيِّئ فبعضهم يقول أن الرئاسة في طيِّئ كانت لأياس بن قبيصة من بني سنبس بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ وإياس هو الّذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر عند ما قتل النعمان بن المنذر وهو الّذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة ولم تزل الرئاسة على طيِّئ في بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام فلعل آل فضل هؤلاء وآل الجراح من أعقابهم وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليه لأنّ الرئاسة في الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مرّ أوّل الكتاب وقال ابن حزم عند ما ذكر أنساب طيِّئ أنهم لما خرجوا من اليمن نزلوا أجا وسلمى وأوطنوهما وما بينهما ونزل بنو أسد ما بينهما وبين العراق وفضل كثير منهم وهم بنو خارجة بن سعد بن عبادة من طيِّئ ويقال هم جديلة نسبة إلى أمّهم بنت تيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب وحاضر طيِّئ وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رمان ابن جندب بن خارجة بن سعد فإنّهم أقاموا بالجبلين فكان يقال لأهل الجبلين الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة السهليون انتهى فلعل هذه أحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيِّئ لأنّ هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبل أجا وسلمى الذين هما موطن الآخرين والله أعلم أيّ ذلك يصح من أنسابهم ولنرجع الآن إلى سرد الخبر عن رياسة آل فضل أهل هذا البيت منذ دولة بني أيوب فنقول كان الأمير منهم لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما قلناه ونقلناه عن العماد الأصبهاني الكاتب ثم كان بعده حسام الدين مانع بن خدينة بن غصينة بن فضل وتوفي سنة ثلاثين وستمائة وولي عليهم بعده ابنه مهنا ولما ارتجع قطز ثالث ملوك الترك بمصر وملك الشام من يد التتر وهزم عسكرهم بعين جالوت أقطع سلميّة لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن المظفر بن شاهنشاه صاحب حماة ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا ثم ولي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 الظاهر على أحياء العرب بالشام عند ما استفحل أمر الترك وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم لبغداد فولى العرب عيسى بن مهنا بن مانع ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل علي لإعناته وأعراضه ولم يزل أميرا على أحياء العرب وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدّة عليهم وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وتسعين وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين فولى المنصور قلاون بعده ابنه مهنا ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام ونزل حمص ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه وعلى ابنه موسى وأخويه محمد وفضل ابني عيسى بن مهنا وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كيبغا عند ما جلس على التخت سنة أربع وتسعين ورجع إلى إمارته ثم كان له في أيام الناصر نفرة واستجاشة وميل إلى ملوك التتر بالعراق ولم يحضر شيئا من وقائع غازان ولما انتقض سنقر وأقوش الأفرم وأصحابهما سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لحقوا به وساروا من عنده إلى خربندا واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة فرعى له حق وفادته وولاه على العرب مكان أخيه مهنا وبقي مهنا مشرّدا ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق وهلك خربندا في تلك السنة فرجع إلى أحيائه وأوفد ابنيه أحمد وموسى وأخاه محمد بن عيسى مستعتبين للناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق وشملهم بالإحسان وأعتب مهنا ورده على إمارته وإقطاعه وذلك سنة سبع عشرة وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل اثنا عشر ألف راحلة ثم رجع مهنا إلى ديدنه في ممالأة التتر والإجلاب على الشام واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه وسخطه قومه أجمع وكتب إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم آل علي عديدة نسبهم وولي منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر وصرف إقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدّة ثم وفد سنة إحدى وثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحا على السلطان فأقبل عليه وردّ عليه إقطاعه وإمارته وذكر لي بعض أكابر الأمراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدّث عنها أنه تجافى في هذه الوفادة عن قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق من النياق المحلوبة واستقاها وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سألهم شيئا من حاجته ثم رجع إلى أحيائه وتوفي سنة أربع وثلاثين فولي ابنه مظفر الدين موسى وتوفي سنة اثنتين وأربعين عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان ثم هلك سليمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 سنة ثلاث وأربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى ثم توفي سنة أربع وأربعين بالقدس ودفن عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وولي مكانه اخوه سيف بن فضل. ثم عزله السلطان بمصر الكامل بن الناصر سنة ست وأربعين، وولي مكانه مهنا بن عيسى ثم جمع سيف بن مهنا ولقيه فياض بن مهنا فانهزم سيف ثم ولي السلطان حسين بن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيقاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم ثم توفي سنة تسع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض وهلك سنة اثنتين وستين فولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسين بن الناصر في دولته الثانية ثم انتقض سنة خمس وستين وأقام سنين بالقفر ضاحيا إلى أن شفع فيه نائب حماة فأعيد إلى إمارته ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وانتهى إلى مخيمهم واستاق نعمهم وتخطي إلى الخيام فاستماتوا دونها وهزموا عساكره وقتل قشتمر وابنه في المعركة وتولى ذلك زامل بيده وذهب إلى القفر منتقضا فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى ثم بعث معيقيل صاحبه سنة إحدى وسبعين يستأمن لخيار فأمنه ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين فرضي عنه السلطان فأعاده إلى إمارته ثم توفي سنة سبع وسبعين فولي أخوه قارة إلى أن توفي سنة إحدى وثمانين فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن مهنا شريكين في إمارتهما ثم عزلا لسنة من ولايتهما وولي بصير بن جبار بن مهنا واسمه محمد وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيِّئ والله تعالى أعلم. وفاة أبي سعيد ملك العراق وانقراض أمر بني هلاكو ثم توفي أبو سعيد ملك العراق من التتر ابن خربندا بن ابغو بن ابغا بن هلاكو بن طولى خان بن جنكزخان سنة ست وثلاثين وسبعمائة لعشرين سنة من ملكه ولم يعقب فانقرض بموته ملك بني هلاكو وصار الأمر بالعراق لسواهم وافترق ملك التتر في سائر ممالكهم كما نذكر في أخبارهم ولما استبدّ ببغداد الشيخ حسن من أسباطهم كثر عليه المنازعون فبعث رسله إلى الناصر قبل وفاته يستنجده على أن يسلم له بغداد ويعطي الرهن في العساكر حتى يقضي بها في أعدائه فأجابه الناصر إلى ذلك ثم توفي قريبا فلم يتم والأمر للَّه وحده . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 وصول هدية ملك المغرب الأقصى مع رسله وكريمته صحبة الحاج كان ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد استفحل لهذه العصور وصار للسلطان أبي الحسن علي بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف بن يعقوب بن عبد الحق جدّ ملوكهم وأسف إلى ملك جيرانهم من الدول فزحف إلى المغرب الأوسط وهو في ملكة بني عبد الواد أعداء قومه من زنانة وملكهم أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى ابن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمر أسن بن زيان جدّ ملوكهم أيضا وكرسيه تلمسان سبعة وعشرين سهرا ونصب عليها المجانيق وأدار بالأسوار سياجا لمنع وصول الميرة والأقوات إليها وتقرى أعمالها بلدا بلدا فملك جميعها ثم افتتحها عنوة آخر رمضان سنة سبع وثلاثين ففض جموعها وقتل سلطانها عند باب قصره كما نذكره في أخبارهم ثم كتب للملك الناصر صاحب مصر يخبره بفتحها وزوال العائق عن وفادة الحاج وأنه ناظر في ذلك بما يسهل سبيلهم ويزيل عللهم وكانت كريمة من كرائم أبيه السلطان أبي سعيد ومن أهل فراشه قد اقتضت منه الوعد بالحج عند ما ملك تلمسان فلما فتحها وأذهب عدوّه منها جهز تلك المرأة للحج بما يناسب قرابتها منه وجهز معها للملك الناصر صاحب مصر هدية فخمة مشتملة على خمسمائة من الجياد المغربيات بعدتها وعدّة فرسانها من السروج واللجم والسيوف وظرف المغرب وما عونه من شتى أصنافه ومن ثياب الحرير والصوف والكتان وصنائع الجلد حتى ليزعموا أنه كان فيها من أواني الخزف وأصناف الدرّ والياقوت وما يشبههما في سبيل التودّد وعرض أحوال المغرب على سلطان المشرق ولعظم قدر هذه الوافدة عند الناصر أوفد معها من عظماء قومه ووزرائه وأهل مجلسه فوفدوا على الناصر سنة ثمان وثلاثين وأحلهم بأشرف محل من التكرمة وبعث من إصطبلاته ثلاثين خطلا من البغال يحملون الهدية من بحر النيل سوى ما تبعها من البخاتي والجمال وجلس لهم في يوم مشهود ودخلوا عليه وعرضوا الهدية فعمّ بها أهل دولته إحسانا في ذلك المجلس واستأثر منها على ما زعموا بالدرّ والياقوت فقط ثم فرّقهم في منازله وأنزلهم دار كرامته وقد هيئت بالفرش والماعون ووفر لهم الجرايات واستكثر لهم من الأزودة وبعث أمراء في خدمتهم إلى الحجاز حتى قضوا فرضهم في تلك السنة وانقلبوا إلى سلطانهم فجهز الناصر معهم هدية إلى ملك المغرب تشتمل على ثياب الحرير المصنوعة بالإسكندرية وعين منها الجمل المتعارف في كل سنة الخزانة السلطان وقيمته لذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 العهد خمسون ألف دينار وعلى خيمة من خيم السلطان المصنوعة بالشام فيها أمثال البيوت والقباب والكفات مرساة أطرافها في الأرض بأوتاد الحديد والخشب كأنها قباب مائلة وعلى خيمة مؤزر باطنها من ثياب الحرير العراقية وظاهرها من ثياب القطن الصرافية مستجادة الصنعة بين الحدل والأوتاد أحسن ما يراه من البيوت وعلى صوان من الحرير مربع الشكل يقام بالحدل الحافظ ظله من الشمس وعلى عشرة من الجياد المقربات الملوكية بسروج ولجم ملوكية مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة باللآلئ والفصوص وبعث مع تلك الجياد خدم يقومون ببنائها المتعارف فيها ووصلت الهدية إلى سلطان المغرب فوقعت منه أحسن المواقع وأعاد الكتب والرسل بالشكر واستحكمت المودّة بين هذين السلطانين واتصلت المهاداة إلى أن مضيا لسبيلهما والله تعالى وليّ التوفيق. وفاة الخليفة أبي الربيع وولاية ابنه قد ذكرنا أيام الظاهر وأنه أقام خليفة بمصر من ولد الراشد وصل يومئذ من بغداد واسمه أحمد بن محمد وذكرنا نسبه هنالك إلى الراشد وأنه بويع له بالخلافة سنة ستين وستمائة ولقبه الحاكم فلم يزل في خلافته إلى أن توفي سنة إحدى وسبعمائة وقد عهد لابنه سليمان فبايع له أهل دولة الناصر الكافلون لها ولقبوه المستكفي فبقي خليفة سائر أيام الناصر ثم تنكر له السلطان سنة ست وثلاثين لشيء نمي له عن بنيه فأسكنه بالقلعة ومنعه من لقاء الناس فبقي حولا كذلك ثم ترك سبيله ونزل إلى بيته ثم كثرت السعاية في بنيه فغربه سنة ثمان وثلاثين إلى قوص هو وبنيه وسائر أقاربه وأقام هنالك إلى أن هلك سنة أربعين قبل مهلك الناصر وقد عهد بالخلافة لابنه أحمد ولقبه الحاكم فلم يمض الناصر عهده في ذلك لأنّ أكثر السعاية المشار إليها كانت فيه فنصب للخلافة بعد المستكفي ابن عمه إبراهيم بن محمد ولقبه الواثق وهلك لأشهر قريبة فاتفق الأمراء بعده على إمضاء عهد المستكفي في ابنه أحمد فبايعوه سنة إحدى وأربعين وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي وولي أخوه أبو بكر ولقب المعتضد ثم هلك سنة ثلاث وستين لعشرة أشهر من خلافته ونصب بعده ابنه محمد ولقب المتوكل ونورد من أخباره في أماكنها ما يحضرنا ذكره والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه. نكبة تنكز ومقتله كان تنكز مولى من موالي لاشين اصطفاه الناصر وقرّبه وشهد معه وقائع التتر وسار معه إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 الكرك وأقام في خدمته مدّة خلعه ولما رجع إلى كرسيه ومهد أمور ملكه ورتب الولاية لمن يرضاه من أمرائه بعث تنكز إلى الشام وجعله نائبا بدمشق ومشارفا لسائر بلاد الروم ففتح ملطية ودوّخ بلاد الأرمن وكان يتردّد بالوفادة على السلطان يشاوره وربما استدعاه للمفاوضة في المهمات واستفحل في دفاع التتر وكيادهم ولما توفي أبو سعيد وانقرض ملك بني هلاكو وافترق أمر بغداد وتورين وكانا معا يحاورانه ويستنجدانه وسخطه بعضهم فراسل السلطان بغشه وادّهانه في طاعته وممالأة أعدائه وشرع السلطان في استكشاف حاله وكان قد عقد له على بنته فبعث دواداره باجار يستقدمه للأعراس بها وكان عدوّا له للمنافسة والغيرة فأشار على تنكز بالمقام وتخلية عن السلطان وغشه في النصيحة وحذر السلطان منه فبعث الملك الناصر إلى طشتمر نائب صفد أن يتوجه إلى دمشق ويقبض عليه فقبض عليه سنة أربعين لثمان وعشرين سنة لولايته بدمشق وبعث الملك الناصر مولاه لشمك إلى دمشق في العساكر فاحتاط على موجودة وكان شيئا لا يعبر عنه من أصناف المتملكات وجاء به مقيدا فاعتقل بالإسكندرية ثم قتل في محبسه والله تعالى أعلم. وفاة الملك الناصر وابنه أنوك قبله وولاية ابنه أبي بكر ثم كجك ثم توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاون أمجد ما كان ملكا وأعظم استبدادا توفي على فراشه في ذي الحجة آخر إحدى وأربعين وسبعمائة بعد أن توفي قبله بقليل ابنه أنوك فاحتسبه وكانت وفاته لثمان وأربعين سنة من ولايته الأولى في كفالة طنبغا ولاثنتين وثلاثين من حين استبداده يأمره بعد بيبرس وصفا الملك له وولي النيابة في هذه ثلاثة من أمرائه بيبرس الدوادار المؤرخ ثم بكتمر الجوكندار ثم أرغون الدوادار ولم يول أحد النيابة بعده وبقيت الوظيفة عطلا آخر أيامه وأمّا دواداريّه فأيدمر ثم سلار ثم الحلي ثم يوسف بن الأسعد ثم بغا ثم طاجار وكتب عنه شرف الدين بن فضل الله ثم علاء الدين بن الأمير ثم محيي الدين بن فضل الله ثم ابنه شهاب الدين ثم ابنه الآخر علاء الدين وولي القضاء في دولته تقي الدين بن دقيق العيد ثم بدر الدين بن جماعة وإنما ذكرت هذه الوظائف وإن كان ذلك ليس من شرط الكتاب لعظم دولة الناصر وطول أمدها واستفحال دولة الترك عندها وقدّمت الكتاب على القضاة وإن كانوا أحق بالتقديم لأنّ الكتاب أمس بالدولة فإنّهم من أعوان الملك ولما اشتدّ المرض بالسلطان وكان قوصون أحظى عظيم من أمرائه فبادر القصر في مماليكه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 متسلحين وكان بشتك يضاهيه فارتاب وسلح أصحابه وبدا بينهما التنافس ودس بشتك الشكوى إلى السلطان فاستدعاهما وأصلح بينهما وأراد أن يعهد بالملك إلى قوصون فامتنع فعهد لابنه أبي بكر ومات فمال من عماله بشتك إلى ولاية أحمد صاحب الكرك وأبى قوصون إلا الوفاء بعهد السلطان ثم رجع إليه بشتك بعد مراوضة فبويع أبو بكر ولقب المنصور وقام بأمر الدولة قوصون وردفه قطلوبغا الفخري فولوا على نيابة السلطان طقردمر وبعثوا على حلب طشتمر وعلى حمص أخضر عوضا عن طغراي وأقرّوا كيبغا الصالحي على دمشق ثم استوحش بشتك من استبداد قوصون وقطلوبغا دونه فطلب نيابة دمشق وكان يعجب بها من يوم دخلها للحوطة على تنكز فاستعفوه فلما جاء للوداع قبض عليه قطلوبغا الفخري وبعث به إلى الإسكندرية فاعتقل بها ثم أقبل السلطان أبو بكر على لذاته ونزع عن الملك وصار يمشي في سكك المدينة في الليل متنكرا مخالطا للسوقة فنكر ذلك الأمراء وخلعه قوصون وقطلوبغا لسبعة وخمسين يوما من بيعته وبعثوا به إلى قوص فحبس بها وولوا أخاه كجك ولقبوه الأشرف وعزلوا طقردمر عن النيابة وقام بها قوصون وبعثوا طقردمر نائبا على حماة وأدالوا به من الأفضل بن المؤيد فكان آخر من وليها من بني المظفر وقبضوا على طاجار الدويدار وبعثوا به إلى الاسكندرية فغرق في البحر وبعثوا بقتل بشتك في محبسه بالإسكندرية والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. مقتل قوصون ودولة أحمد بن الملك الناصر لما بلغ الخبر إلى الأمراء بالشام باستبداد قوصون على الدولة غصوا من مكانه واعتزموا على البيعة لأحمد بن الملك الناصر وكان يومئذ بالكرك مقيما منذ ولاه أبوه إمارتها كما قدّمناه فكاتبه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب واستدعاه إلى الملك وبلغ الخبر إلى مصر فخرج قطلوبغا في العساكر لحصار الكرك وبعثوا إلى طنبغا الصالحي نائب دمشق فسار في العساكر إلى حلب للقبض على طشتمر نائب حمص وأخضر وكان قطلوبغا الفخري قد استوحش من صاحبه قوصون وغص باستبداده عليه فلما فصل بالجند من مصر بعث بيعته إلى أحمد بن الملك الناصر بالكرك وسار إلى الشام فأقام دعوته في دمشق ودعا إليها طقرمرد نائب حماة فأجابه وقدم عليه وانتهى الخبر إلى طنبغا نائب دمشق وهو يحاضر حلب فافرج عنها ودعاه قطلوبغا إلى بيعة أحمد فأبى فانتقض عليه أصحابه وسار إلى مصر واستولى قطلوبغا الفخري على الشام أجمع بدعوة أحمد وبعث إلى الأمراء بمصر فأجابوا إليها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 واجتمع آيدغمش وآق سنقر السلاري وغازي ومن تبعهم من الأمراء على البيعة لأحمد واستراب بهم قوصون كافل المملكة وهمّ بالقبض عليهم وشاور طنبغا اليحياوي من عنده من أصحابه في ذلك فغشوه وخذلوه وركب القوم ليلا وكان آيدغمش عنده بالإصطبل وهو أمير الماصورية وهمّ قوصون بالركوب فخذله وثنى عزمه ثم ركب معهم واتصلت الهيعة ونادى في الغوغاء بنهب بيوت قوصون فنهبوها وخربوها وخربوا الحمامات التي بناها بالقرافة تحت القلعة ونهب شيخها شمس الدين الأصبهاني فسلبوه ثيابه وانطلقت أيدي الغوغاء في البلد ولحقت الناس منهم مضرات في بيوتهم واقتحموا بيت حسام الدين الغوري قاضي الحنفية فنهبوه وسبوا عياله وقادهم إليه بعض من كان يحنق عليه من الخصوم فجرت عليه معرّة من ذلك ثم اقتحم آيدغمش وأصحابه القلعة وتقبضوا على قوصون وبعثوا به إلى الإسكندرية فمات في محبسه وكان قوصون قد أخرج جماعة من الأمراء للقاء طنبغا الصالحي فسار قراسنقر السلاري في أثرهم وتقبض عليهم وعلى الصالحي وبعث بهم جميعا إلى الإسكندرية فيما بعد سنة خمس وأربعين وبعث لأحمد بن الملك الناصر وطير إليه بالخبر وتقبض على جماعة من الأمراء واعتقلهم ثم قدم السلطان أحمد من الكرك في رمضان سنة اثنتين وأربعين ومعه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب وقطلوبغا الفخري فولى طشتمر نائبا بمصر وقطلوبغا الفخري بعثه إلى دمشق نائبا ثم قبض على أخضر لشهر أو نحوه وقبض على آيدغمش وآق سنقر السلاري ثم ولى آيدغمش على حلب وبلغ الخبر إلى قطلوبغا الفخري قبل وصوله إلى دمشق فعدل إلى حلب وأتبعته العساكر فلم يدركوه وتقبض على آيدغمش بحلب وبعث به إلى مصر فاعتقل مع طشتمر وارتاب الأمراء بأنفسهم واستوحش السلطان منهم انتهى والله أعلم. مسير السلطان أحمد إلى الكرك واتفاق الأمراء على خلعه والبيعة لأخيه الصالح ولما استوحش الأمراء من السلطان وارتاب بهم ارتحل إلى الكرك لثلاثة أشهر من بيعته واحتمل معه طشتمر وآيدغمش معتقلين واستصحب الخليفة الحاكم واستوحش نائب صفد بيبرس الأحمدي وسار إلى دمشق وهي يومئذ فوضى فتلقاه العسكر وأنزلوه وبعث السلطان في القبض عليه فأبى من إعطاء يده وقال إنما الطاعة لسلطان مصر وأمّا صاحب الكرك فلا وطالت غيبة السلطان أحمد بالكرك واضطرب الشام فبعث إليه الأمراء بمصر في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 الرجوع إلى دار ملكه فامتنع وقال هذه مملكتي أنزل من بلادها حيث شئت وعمد إلى طشتمر وآيدغمش الفخري فقتلهما فاجتمع الأمراء بمصر وكبيرهم بيبرس العلاني وأرغون الكاملي وخلعوه وبايعوا لأخيه إسماعيل في محرّم سنة ثلاث وأربعين ولقبوه الصالح فولى آق سنقر السلاري ونقل آيدغمش الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق وولى مكانه بحلب طقرمرد ثم عزل آيدغمش من دمشق ونقل إليها طقرمرد وولي بحلب طنبغا المارداني ثم هلك المارداني فولى مكانه طنبغا اليحياوي واستقامت أموره والله تعالى وليّ التوفيق. ثورة رمضان بن الناصر ومقتله وحصار الكرك ومقتل السلطان أحمد ثم أن بعض المماليك داخل رمضان بن الملك الناصر في الثورة بأخيه وواعدوه قبة النصر فركب إليهم وأخلفوه فوقف في مماليكه ساعة يهتفون بدعوته ثم استمرّ هاربا إلى الكرك وأتبعه العسكر مجدّين السير في الطريق وجاءوا به فقتل بمصر وارتاب السلطان بالكثير من الأمراء وتقبض على نائبة آق سنقر السلاري وبعث به إلى الإسكندرية فقتل هنالك وولى مكانه إنجاح الملك ثم سرّح العساكر سنة أربع وأربعين لحصار الكرك مترادفة ونزع بعض العساكر عن السلطان أحمد من الكرك فلحقوا بمصر وكان آخر من سار من الأمراء لحصار الكرك قماري ومساري سنة خمس وأربعين فأخذوا بمخنقه ثم اقتحموا عليه وملكوه وقتلوه فكان لبثه بالملك في مصر ثلاثة أشهر وأياما وانتقل إلى الكرك في محرّم سنة ثلاث وأربعين إلى أن حوصر ومثل به وتوفي في أيامه طنبغا المارداني نائب حلب فولي مكانه طنبغا اليحياوي وسيف الدين طراي الجاشنكير نائب طرابلس فولي مكانه آق سنقر الناصري والله تعالى أعلم. وفاة الصالح بن الناصر وولاية أخيه الكامل ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر حتف أنفه سنة ست وأربعين لثلاث سنسن وثلاثة أشهر من ولايته وبويع بعده أخوه زين الدين شعبان ولقب الكامل وقام بأمره أرغون العلاوي وولي نيابة مصر وعرض إنجاح الملك إلى صفد ثم ردّه من طريقه معتقلا إلى دمشق وبعث إلى القماري الكبير فبعثه إلى حبس الإسكندرية واستدعى طقرمرد نائب دمشق وكجك الأشرف المخلوع بن الناصر الّذي ولاه قوصون وهلك إنجاح الملك الجوكندار في محبسه بدمشق انتهى والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 مقتل الكامل وبيعة أخيه المظفر حاجي كان السلطان الكامل قد أرهف حده في الاستبداد على أهل دولته فرارا مما يتوهم فيهم من الحجر عليه فتراسل الأمراء بمصر والشام وأجمعوا الإدالة منهم وانتقض طنبغا اليحياوي ومن معه بدمشق سنة سبع وأربعين وبرز في العساكر يريد مصر وبعث الكامل منجو اليوسفي يستطلع أخبارهم فحبسه اليحياوي واتصل الخبر بالكامل فجرّد العساكر إلى الشام واعتقل حاجي وأمير حسين بالقلعة واجتمع الأمراء بمصر للثورة وركبوا إلى قبة النصر مع أيدمر الحجازي وآق سنقر الناصري وأرغون شاه فركب إليهم الكامل في مواليه ومعه أرغون العلاوي نائبة فكانت بينهما جولة هلك فيها أرغون العلاوي ورجع الكامل إلى القلعة منهزما ودخل من باب السرّ مختفيا وقصد محبس أخويه ليقتلهما فحال الخدام دونهما وغلقوا الأبواب وجمع الذخيرة ليحملها فعاجلوه عنها ودخلوا القلعة وقصدوا حاجي بن الناصر فأخرجوه من معتقله وجاءوا به فبايعوه ولقبوه المظفر وافتقدوا الكامل وتهدّدوا جواريه بالقتل فدلوا عليه واعتقل مكان حاجي بالدهشة وقتل في اليوم الثاني وأطلق حسين وقام بأمر المظفر حاجي أرغون شاه والحجازي وولوا طقتمر الأحمدي نائبا بحلب والصلاحي نائبا بحمص وحبس جميع موالي الكامل وأخرج صندوق من بيت الكامل قيل أنّ فيه السحر فأحرق بمحضر الأمراء ونزع المظفر حاجي إلى الاستبداد كما نزع أخوه فقبض على الحجازي والناصري وقتلهما لأربعين يوما من ولايته وعلى أرغون شاه وبعثه نائبا إلى صفد وجعل مكان طقتمر الأحمدي في حلب تدمر البدري وولى على نيابة الحاج أرقطاي وأرهف حده في الاستبداد وارتاب الأمراء بمصر والشام وانتقض اليحياوي بدمشق سنة ثمان وأربعين وداخله نواب الشام في الخلاف ووصل الخبر إلى مصر فاجتمع الأمراء وتواعدوا للوثوب ونمي الخبر إلى المظفر فأركب مواليه من جوف الليل وطافوا بالقلعة وتداعى الأمراء إلى الركوب واستدعاهم من الغد إلى القصر وقبض على كلّ من اتهمه منهم بالخلاف وهرب بعضهم فأدرك بساحة البلد واعتقلوا جميعا وقتلوا من تلك الليلة وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا بالطريق وولى من الغد مكانهم خمسة عشر أميرا ووصل الخبر إلى دمشق فلاذ اليحياوي بالمغالطة يخادع بها وقبض على جماعة من الأمراء وكان السلطان المظفر قد بعث الأمير الجبقا من خاصته إلى الشام عند ما بلغه انتقاض طنبغا اليحياوي يستطلع أخباره فحمل الناس على طاعة المظفر وأغراهم باليحياوي حتى قتلوه وبعثوا برأسه إلى مصر وسكنت الفتنة واستوسق الملك للمظفر والله سبحانه وتعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 مقتل المظفر حاجي بن الناصر وبيعة أخيه حسن الناصر ودولته الأولى قد كنا قدّمنا أنّ السلطان بعث جبقا إلى الشام حتى مهده ومما أثر الخلاف منه ورجع إلى السلطان سنة ثمان وأربعين وقد استوسق أمره فوجد الأمراء مستوحشين من السلطان ومنكرين عليه اللعب بالحمام فتنصح له بذلك يريد إقلاعه عنه فسخط ذلك منه وأمر بالحمام فذبحت كلها وقال لجبقا أنا أذبح خياركم كما ذبحت هذه فاستوحش جبقا وغدا على الأمراء والنائب بيقاروس [1] وثاروا بالسلطان وخرجوا إلى قبة النصر وركب المظفر في مواليه والأمراء الذين معه قد داخلوا الآخرين في الثورة ورأيهم واحد في خلعه فبعث إليهم الأمير شيخو يتلطف لهم فأبوا إلّا خلعه فجاءهم بالخبر ثم رجع إليهم وزحف معهم ولحق بهم الأمراء الذين مع المظفر عند ما تورّط في اللقاء وحمل عليه بيقاروس فأسلمه أصحابه وأمسكه باليد فذبحه في تربة أمّه خارج القلعة ودفن هناك ودخلوا القلعة في رمضان من السنة وأقاموا عامّة يومهم يتشاورون فيمن يولونه حتى همّ أكثر الموالي بالثورة والركوب إلى قبة النصر فحينئذ بايعوا حسن بن الملك الناصر ولقبوه الناصر بلقب أبيه فوكل بأخيه حسين ومواليه لنفسه ونقل المال الّذي بالحوش فوضعه بالخزانة وقام بالدولة ستة من الأمراء وهم شيخو وطاز والجبقا وأحمد شادي الشرنخاناه وأرغون الإسماعيلي والمستبدّ عليهم جميعا بيقاروس ويعرف بالقاسمي فقتل الحجازي وآق سنقر القائمين بدولة المظفر بمحبسهما بالقلعة وولي بيقاروس نائبا بمصر فكان أرقطاي وأرغون شاه نائبا بحلب مكان تدمر البدري ثم نقله إلى دمشق منذ مقتل اليحياوي وولى مكانه بحلب إياس الناصر ثم تقبض بيقاروس على رفيقه أحمد شادي الشرنخاناه وغرّبه إلى صفد وأبعد الجبقا من رفقته وبعثه نائبا على طرابلس وبعث أرغون الإسماعيلي منهم نائبا على حلب وفي هذه السنة وقعت الفتنة بينه وبين مهنا بن عيسى ولقيه فهزمه ووفد أحمد أخوه على السلطان فولاه إمارة العرب وهدأت الفتنة بينهم ثم هلك سنة تسع وأربعين بعدها وولى أخوه فياض كما مرّ في أخبارهم والله تعالى أعلم.   [1] بياض في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا للتصويب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 مقتل أرغون شاه نائب دمشق كان خبر هذه الواقعة الغريبة أنّ الجبقا بعثوه نائبا على طرابلس وسار صحبة إياس الحاجب نائبا على حلب سنة خمسين وانتهوا إلى دمشق ونمي إلى الجبقا عن أرغون شاه أنه تعرض لبعض حرمه بصنيع جمع فيه نسوان أهل الدولة بدمشق فكتب إليه ليلا وطرقه في بيته فلما خرج إليه قبض عليه وذبحه في ربيع وصنع مرسوما سلطانيا دافع به الناس والأمراء واستصفى أمواله ولحق بطرابلس وجاء الأمر من مصر باتباعه وإنكار المرسوم الّذي أظهروه فزحفت العساكر من دمشق وقبضوا على الجبقا وإياس الحاجب بطرابلس وجاءوا بهما إلى مصر فقتلا وولي الشمس الناصري نيابة دمشق مع أرغون شاه وصلب أرغون الكافلي وذلك في جمادى سنة خمسين وأصل أرغون شاه من بلاد الصين جلب إلى السلطان أبي سعيد ملك التتر ببغداد فأعطاه للأمير خواجا نائب جوبان وأهداه خواجا للملك الناصر فحظي عنده وقدّمه رأس نوبة وزوّجه بنت عبد الواحد ثم ولاه الكامل استاذ دار ثم عظمت مرتبته أيام المظفر وجعل نائبا في صفد ثم في حلب. ولمّا حبس طنبغا اليحياوي على دمشق بسعاية الجبقا كما مرّ ولّى أرغون شاه بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم. نكبة بيقاروس ثم إنّ السلطان حسن شرع في الاستبداد وقبض على منجك اليوسفي استاذ داره وعلى السلحدار واعتقلهما من غير مشورة بيقاروس وأصحابه وكان لمنجك اختصاص ببيقاروس وأخوه معه فارتاب واستأذن السلطان في الحج هو وطاز فأذن لهما ودس إلى طاز بالقبض على بيقاروس وسار لشأنهما فلما نزلا بالينبع قبض طاز على بيقاروس فخرج ورغب إليه في أن يتركه يحج مقيدا فتركه فلما قضى نسكه ورجعوا حبسه طاز بالكرك بأمر السلطان وأفرج عنه بعد ذلك وولي نيابة حلب وانتقض بها كما نذكر بعد أن شاء الله تعالى وبلغ خبر اعتقاله إلى أحمد شادي الشرنخاناه بصفد فانتقض وجهز السلطان إليه العساكر فقبض عليه وجيء به إلى مصر فاعتقل بالإسكندرية وقام بالدولة مغلطاي من أمرائها والله تعالى أعلم. واقعة الظاهر ملك اليمن بمكة واعتقاله ثم إطلاقه كان ملك اليمن وهو المجاهد علي بن داود المؤيد قد جاء إلى مكة حاجا سنة إحدى وخمسين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 وهي السنة التي حج فيها طاز وشاع في الناس عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر وفد المصريين لوفد اليمنيين ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب الحاج فتحاربوا وانهزم المجاهد وكان بيقاروس مقيدا فأطلقه وأركبه ليستعين به فجلا في تلك الهيعة وأعيد إلى اعتقاله ونهب حاج اليمن وقيد المجاهد إلى مصر فاعتقل بها حتى أطلق في دولة الصالح سنة اثنتين وخمسين وتوجه معه قشتمر المنصوري ليعيده إلى بلاده فلما انتهى إلى الينبع أشيع عنه أنه همّ بالهرب فقبض عليه قشتمر المنصوري وحبسه بالكرك ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه والله أعلم. خلع حسن الناصر وولاية أخيه الصالح لما قبض السلطان حسن على بيقاروس وحبسه وتنكر لأهل دولته ورفع عليهم مغلطاي واختصه واستوحشوا لذلك وتفاوضوا وداخل طاز وهو كبيرهم جماعة من الأمراء في الثورة وأجابه إلى ذلك بيقو الشمسي في آخرين واجتمعوا لخلعة وركبوا في جمادى سنة اثنتين وخمسين فلم يمانعهم أحد وملكوا أمرهم ودخلوا القلعة وقبض طاز على حسن الناصر واعتقله وأخرج أخاه حسينا من اعتقاله فبايعه ولقبه الصالح وقام بحمل الدولة وأخرج بيقو الشمسي إلى دمشق وبيقر إلى حلب أسيرين وانفرد بالأمر ثم نافسه أهل الدولة واجتمعوا على الثورة وتولى كبر ذلك مغلطاي ومنكلي وبيبقا القمري وركبوا فيمن اجتمع إليهم إلى قبة النصر للحرب فركب طاز وسلطانه الصالح في جموعه وحمل عليهم ففض جمعهم وأثخن فيهم وقبض على مغلطاي ومنكلي فحبسهما بالإسكندرية وأفرج عن منجك وعن شيخو وجعله أتابكه على العساكر وأشركه في سلطانه وولى سيف الدين ملاي نيابته واختص سرغتمش ورقاه في الدولة وقبض على الشمسي المحمدي نائب دمشق ونقل إليها لمكانه أرغون الكاملي من حلب وأفرج عن بيقاروس بالكرك وبعثه مكانه إلى حلب ثم تغير منجك واختفى بالقاهرة والله تعالى أعلم. انتقاض بيقاروس واستيلاؤه على الشام ومسير السلطان إليه ومقتله قد تقدّم لنا ذكر بيقاروس وقيامه بدولة حسن الأولى ونكبته في طريقه إلى الحج بالكرك ولما أطلقه طاز وولاه على حلب أدركته المنافسة والغيرة من طاز واستبداده بالدولة فحدّثته نفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 بالخلاف وداخل نواب الشام ووافقه في ذلك بلكمش نائب طرابلس وأحمد شادي الشرنخاناه نائب صفد وخالفه أرغون الكاملي نائب دمشق وتمسك بالطاعة وتعاقد هؤلاء على الخلاف مع شيخو وسرغتمش في رجب سنة ثلاث وخمسين ثم دعا بيقاروس العرب والتركمان إلى الموافقة فأجابه جبار بن مهنا من العرب وقراجا بن العادل من التركمان في جموعهما وبرز من حلب بقصد دمشق فأجفل عنها أرغون النائب إلى غزة واستخلف عليها الجبقا العادلي ووصل بيقاروس فملكها وامتنعت القلعة فحاصرها وكثر العيث من عساكره في القرى وسار السلطان الصالح وأمراء الدولة من مصر في العساكر في شعبان من السنة وأخرج معه الخليفة المعتضد أبا الفتح أبا بكر بن المستكفي وعثر بين يدي خروجه على منجك ببعض البيوت لسنة من اختفائه فبعث به سرغتمش إلى الإسكندرية وبلغ بيقاروس خروج السلطان من مصر فأجفل عن دمشق وثار العوام بالتركمان فأثخنوا فيهم ووصل السلطان إلى دمشق ونزل بالقلعة وجهز العساكر في إتباع بيقاروس فجاءوا بجماعة من الأمراء الذين كانوا معه فقتل السلطان بعضهم ثالث الفطر وحبس الباقين وولى على دمشق الأمير عليا المارداني ونقل منها أرغون الكاملي إلى حلب وسرّح العساكر في طلب بيقاروس مع مغلطاي الدوادار وعاد إلى مصر فدخلها في ذي القعدة من السنة وسار مغلطاي في طلب بيقاروس وأصحابه فأوقع بهم وتقبض على بيقاروس وأحمد وقطلمش وقتلهم وبعث برءوسهم إلى مصر أوائل سنة أربع وخمسين وأوعز السلطان إلى أرغون الكاملي نائب حلب بأن يخرج في العساكر لطلب قراجا بن العادل مقدم التركمان فسار إلى بلده البلسين فوجدها مقفرة وقد أجفل عنها فهدمها أرغون وأتبعه إلى بلاد الروم فلما أحسّ بهم أجفل ولحق بابن أرشا قائد المغل في سيواس ونهب العساكر أحياءه واستاقوا مواشيه ثم قبض عليه ابن ارشا قائد المغل وبعث به إلى مصر فقتل بها وسكنت الفتنة وأطلق المعتقلون بالإسكندرية وتأخر منهم مغلطاي ومنجك أياما ثم أطلقا وغربا إلى الشام والله تعالى أعلم. واقعة العرب بالصعيد وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعيثهم وانتهبوا الزروع والأموال وتولى كبر ذلك الأحدب وكثرت جموعه فخرج السلطان في العساكر سنة أربع وخمسين ومعه طاز وسار شيخو في المقدمة فهزم العرب واستلحم جموعهم وامتلأت أيدي العساكر بغنائمهم وخلص السلطان من الظهر والسلاح ما لا يعبر عنه وأسر جماعة منهم فقتلوا وهرب الأحدب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 حتى استأمن بعد رجوع السلطان فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح ويقبلوا على الفلاحة والله تعالى أعلم. خلع الصالح وولاية حسن الناصر الثانية كان شيخو أتابك العساكر قد ارتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة وتربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس وخمسين إلى البحيرة متصيدا وركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز وقبض عليه وألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته وبايع لحسن الناصر أخيه وأعاده إلى كرسيه وقبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائبا وعزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست وخمسين وسيق إلى الإسكندرية فحبس بها وبلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس وولى مكانه منجك واستبدّ شيخو بالدولة وتصرّف بالأمر والنهي وولى على مكة عجلان بن رميثة وأفرده بإمارتها وكانت له الولاية والعزل والحلّى والعقد سائر أيامه وأعتمده الملوك من النواحي شرقا وغربا بالمخاطبات وكان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه. مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده واستبداد السلطان بأمره لم يزل شيخو مستبدّا بالدولة وكافلا للسلطان حتى وثب عليه يوما بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان وخمسين أعتمده في دخوله من باب الإيوان وضربه بالسيف ثلاثا أصاب بها وجهه ورأسه وذراعيه فخرّ لليدين ودخل السلطان بيته وانفضّ المجلس واتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا واقتحم موالي شيخو القلعة الى الإيوان يتقدمهم خليل بن قوصون وكان ربيبه لأنّ شيخو تزوّج بأمه فاحتمل شيخو الى منزله وأمر الناصر بقتل المملوك الّذي ضربه فقتل ليومه وعاده الناصر من الغد وتوجل من الوثبة أن تكون بأمره وأقام شيخو عليلا الى أن هلك في ذي القعدة من السنة وهو أوّل من سمي الأمير الكبير بمصر واستقلّ سرغتمش رديفه بحمل الدولة وبعث عن طاز فأمسكه بحلب وحبسه بالإسكندرية وولى مكانه الأمير عليا المارداني نقله اليها من دمشق وولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع وخمسين وعلى جماعة من الأمراء معه مثل مغلطاي الدوادار وطشتمر القاسمي الحاجب وطنبغا الماجاري وخليل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 بن قوصون ومحا السلحدار وغيرهم وركب مواليه وقاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار ثم انهزموا وقتلوا واعتقل سرغتمش وجماعته المنكوبون بالإسكندرية وقتل بمحبسه لسبعين يوما من اعتقاله وتخطت النكبة إلى شيعته وأصحابه من الأمراء والقضاة والعمال وكان الّذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي ثم استبدّ السلطان بملكه واستولى على أمره وقدم مملوكه بيبقا القمري وجعله أمير ألف وأقام في الحجابة الجاي اليوسفي ثم بعثه الى دمشق نائبا واستقدم منجك نائب دمشق فلما وصل الى غزة استتر واختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير عليا المارداني نقله من حلب وولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني ثم أدال من علي المارداني في دمشق باستدمر ومن المؤمني في حلب بمندمر الحوراني وأمره السلطان سنة احدى وستين بغزو سيس وفتح أذنة وطرسوس والمصيصة في حصون أخرى وولى عليها ورجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر وولى على حلب أحمد بن القتمري ثم عثر بدمشق سنة احدى وستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس فلما حضر عفا عنه السلطان وأمدّه وخيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام وأقام السلطان بقية دولته مستبدّا على رجال دولته وكان يأنس بالعلماء والقضاة ويجمعهم في بيته متبذلا ويفاوضهم في مسائل العلم ويصلهم ويحسن اليهم ويخالطهم أكثر ممن سواهم الى أن انقرضت دولته والبقاء للَّه وحده. ثورة بيبقا ومقتل السلطان حسن وولاية منصور بن المظفر حاجي في كفالة بيبقا كان بيبقا هذا من موالي السلطان حسن وأعلاهم منزلة عنده وكان يعرف بالخاصكي نسبة الى خواص السلطان وكان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة وولاه الإمارة ثم رفعه الى الأتابكية وكان لجنوحه إلى الاستبداد كثيرا ما يبوح بشكاية مثل ذلك فأحضره بعض الليالي بين حرمه وصرفه في جملة من الخدمة لبعض مواليه وقادها فأسرها بيبقا في نفسه واستوحش وخرج السلطان سنة اثنتين وستين إلى كوم برّى وضرب بها خيامه وأذن للخاصكي في مخيمه قريبا منه ثم نمي عنه خبر الانتقاض فأجمع القبض عليه واستدعاه فامتنع من الوصول وربما أشعره داعيه بالاسترابة فركب اليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه وخواص أمرائه تاسع جمادى من السنة وبرز اليه بيبقا وقد أنذر به واعتدله فصدقه القتال في ساحة مخيمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 وانهزم أصحاب السلطان عنه ومضى الى القلعة وبيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من اخافة طارقة جوف الليل فتسرّب في المدينة واختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية وركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني وقشتمر المنصوري وغير هما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق وهزمهم واجتمع ثانية وثالثة وهزمهم وتنكر الناصر مع ايدمر الدوادار يحاولان النجاة الى الشام واطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به ويقال انه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان وذخائر وذلك لست سنين ونصف من تملكه ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي ولقبه المنصور وقام بكفالته وتدبير دولته وجعل طنبغا الطويل رديفه وولى قشتمر المنصوري نائبا وغشتمر أمير مجلس وموسى الأزكشي أستاذ دار وأفرج عن القاسمي وبعثه نائبا بالكرك وأفرج عن طاز وقد كان عمي فبعثه الى القدس بسؤاله ثم الى دمشق ومات بها في السنة بعدها وأقرّ عجلان في ولاية مكة وولى على عرب الشام جبار بن مهنا وأمسك جماعة من الأمراء فحبسهم والله تعالى أعلم. انتقاض استدمر بدمشق ولما اتصل بالشام ما فعله بيبقا وأنه استبدّ بالدولة وكان استدمر نائبا بدمشق كما قدّمناه امتعض لذلك وأجمع الانتقاض وداخله في ذلك مندمر والبري ومنجك اليوسفي واستولى على قلعة دمشق وسار في العساكر ومعه السلطان المنصور ووصل الى دمشق واعتصم القوم بالقلعة وتردّدت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا فلما نزلوا اليه بعث بهم الى الإسكندرية فحبسوا بها وولى الأمير المارداني نائبا بدمشق وقطلوبغا الأحمدي نائبا بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد وعاد السلطان المنصور وبيبقا إلى مصر والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة الخليفة المعتضد بن المستكفي وولاية ابنه المتوكل قد تقدّم لنا أنّ الخليفة المستكفي لما توفي قبل وفاة الملك الناصر عهد لابنه أحمد ولقبه الحاكم وأنّ الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عمّ المستكفي ولقبه الواثق فلما توفي الناصر آخر سنة احدى وأربعين أغار الأمراء القائمون بالدولة والأمير أحمد الحاكم ابن المستكفي ولي عهده فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث وخمسين لأوّل دولة الصالح سبط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 تنكز وولي بعده أخوه أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي ولقب المعتضد ثم توفي سنة ثلاث وستين لعشرة أعوام من خلافته وعهد إلى ابنه أحمد فولى مكانه ولقب المستكفي والله تعالى أعلم. خلع المنصور وولاية الأشرف ثم بدا لبيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع وستين لسبعة وعشرين شهرا من ولايته ونصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر وكان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة وكان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين ولقبه الأشرف وتولى كفالته وفي سنة خمس وستين عزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب وولى مكانه قطلوبغا الاحمدي وتوفي قطلوبغا فولى مكانه غشقتمر المارداني ثم عزل غشقتمر سنة ست وستين فولى مكانه سيف الدين فرجي وأوعز اليه سنة سبع وستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلا فسار اليه وامتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر واستأمن خليل بعدها وجاء إلى مصر فأمنه السلطان وخلع عليه وولاه ورجع إلى بلده وقومه والله تعالى أعلم. واقعة الإسكندرية كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية وهم من بقايا الروم وانما ينتسبون لهذا العهد إلى الافرنج لظهور الافرنج على سائر أمم النصرانية والا فقد نسبهم هروشيوش إلى كيتم وهم الروم عندهم ونسب أهل رودس إلى دوداتم وجعلهم اخوة كيتم ونسبهما معا إلى رومان وكانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدّونها لصاحب مصر وما زالت مقرّرة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر وكانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها ويعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية وتقدّم لنا آنفا في دولة الترك أنّ الظاهر بيبرس بعث اليها سنة تسع وستين وستمائة اسطولا من الشواني وطرقت مرساها ليلا فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الافرنج على جزيرة رودس حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان وسبعمائة وأخذوا بمخنقها وأقام أهل قبرص معهم بين فتنة وصلح وسلم وحرب آخر أيامهم وجزيرة قبرص هذه على مسافة يوم وليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 ومصر واطلعوا بعض الأيام على غرّة في الإسكندرية وأخبروا حاجبهم وعزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله واستنقر من سائر الافرنج ووافى مرساها سابع عشر من المحرّم سنة سبع وستين في اسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركبا مشحونة بالعدّة والعدد ومعه الفرسان المقاتلة بخيولهم فلما أرسى بها قدّمهم الى السواحل وعبّى صفوفه وزحف وقد غص الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالا لما هو فيه ولا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب وحاميتهم يومئذ قليلة وأسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية ونائبها القائم بمصالحها في الحرب والسلم وهو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه فما هو الا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية ونضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة وأغلقوا أبوابها وصعدوا إلى الأسوار ينظرون ووصل القوم إلى الباب فأحرقوه واقتحموا المدينة واضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض ثم أجفلوا إلى جهة البرّ بما أمكنهم من عيالهم وولدهم وما اقتدروا عليه من أموالهم وسالت بهم الطرق والأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة ودهشة وشعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم وتوسط الأفرنج المدينة ونهبوا ما مرّوا عليه من الدور وأسواق البر ودكاكين الصيارفة ومودعات التجار وملئوا سفنهم من المتاع والبضائع والذخيرة والصامت واحتملوا ما استولوا عليه من السبي والأسرى وأكثر ما فيهم الصبيان والنساء ثم تسايل اليهم الصريخ من العرب وغيرهم فانكفأ الافرنج إلى أساطيلهم وانكمشوا فيها بقية يومهم وأقلعوا من الغد وطار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه وخرج لوقته بسلطانه وعساكره ومعه ابن عوام نائب الإسكندرية منصرفه من الحج وفي مقدمته خليل بن قوصون وقطلوبغا الفخري من أمرائه وعزائمهم مرهفة ونياتهم في الجهاد صادقة حتى بلغهم الخبر في طريقهم باقلاع العدوّ فلم يثنه ذلك واستمرّ إلى الإسكندرية وشاهد ما وقع بها من معرّة الخراب وآثار الفساد فأمر بهدم ذلك وإصلاحه ورجع ادراجه إلى دار الملك وقد امتلأت جوانحه غيظا وحنقا على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائه اسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزما على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية واحتفل في الاستعداد لذلك واستكثر من السلاح وآلات الحصار وكمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم بقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه والله تعالى ولىّ التوفيق . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 ثورة الطويل ونكبته كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن وكانت وظيفته في الدولة أمير سلاح وهو مع ذلك رديف بيبقا في أمره وكان يؤمّل الاستبداد ثم حدثت له المنافسة والغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عند ما استكمل أمره واستفحل سلطانه وداخلوا الطويل في الثورة وكان دوادار السلطان ارغون الأشقري وأستاذ دار المحمدي وبيناهم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع وستين وفشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا واعتزم على إخراج الطويل إلى الشام وأصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق وبعث به اليه وبالخلعة على العادة مع ارغون الأشقري الدوادار وروس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له ومعه ارغون الأرقي وطنبغا العلائي من أصحاب بيبقا فردّهم الطويل وأساء عليهم وواعد بيبقا قبة النصر فهزمهم وقبض على الطويل والأشقري والمحمدي وحبسوا بالإسكندرية ثم شفع للسلطان في الطويل في شهر شعبان من السنة وبعثه إلى القدس ثم أطلق الأشقري والمحمدي وبعث بهما إلى الشام وولى مكان الطويل طيدمر الباسلي ومكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري ثم عزله بيبقا العلائي وولى مكانه روس العادل المحمدي وكان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل وحبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة واستدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق الى مصر يطلبه فقدم نائبا بحلب مكان سيف الدين برجي وأذن له في الاستكثار من العساكر وجعلت رتبته فوق نائب دمشق وولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى والله تعالى أعلم. ثورة المماليك ببيبقا ومقتله واستبداد استدمر كان طنبقا قد طال استبداده على السلطان وثقلت وطأته على الأمراء وأهل الدولة وخصوصا على مماليكه وكان قد استكثر من المماليك وأرهف حدّه لهم في التأديب وتجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الأنوف واصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم وضمائرهم لذلك وطووا على الغش وكان كبير خواصه استدمر واقتفان الاحمدي ووقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فاستوحش له وارتاب وداخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم وخلصوا النجوى مع السلطان فيه واقتضوا منه الاذن وسرّح السلطان بيبقا إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 البحيرة في عام ثمان وسبعين وانعقد هؤلاء المماليك المتفاوضون في الثورة بمنزل الطرّانة وبيتوا له ونمي اليه خبرهم ورأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مكرا في بعض خواصه وخاض النيل إلى القاهرة وتقدّم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية ويمنعوا العبور كل من يرومه من العدوة الغريبة وخالفه استدمر واقتفان إلى السلطان في ليلتهم وبايعوه على مقاطعة بيبقا ونكبته ولما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء والحجاب من مماليكه وغيرهم وكان بها ايبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه وكان يقتمر النظامي وارغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا اليه فخلع الأشرف ونصب أخاه أتوك ولقبه المنصور وأحضر الخليفة فولاه واستعدّ للحرب وضرب مخيمة بالجزيرة الوسطى على البحر ولحق به من كانت له معه طاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل بيبقا العلائي الدوادار ويونس الرمام وكمشيقا الحموي وخليل بن قوصون ويعقوب شاه وقرابقا البدري وابتغا الجوهري ووصل السلطان الأشرف من الطرّانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصدا دار ملكه وانتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك وأقام ثلاثا وبيبقا وأصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينفحونهم بالنبل ويرسلون عليهم الحجارة من المجانيق وصواعق الأنفاط وعوالم النظارة في السفن الى أن تتوسط فيركبونها ويحركونها بالمجاذيف ناحية الى السلطان حتى كملت منها عدّة وأكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا وأجاز فيها السلطان وأصحابه إلى جزيرة الفيل وسار على التعبية وقد ملأت عساكره وتابعه بسيط الأرض وتراكم القتام بالجوّ وغشيت سحابه موكب بيبقا وأصحابه فتقدّموا للدفاع وصدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا وتركوه أوحش من وتد في قلاع فولى منهزما ومرّ بالميدان فصلى ركعتين عند بابه واستمرّ إلى بيته والعوام ترجمه في طريقه وسار السلطان في تعبيته إلى القلعة ودخل قصره وبعث عن بيبقا فجيء به واعتقل بحبس القلعة سائر يومه فلما غشي الليل ارتاب المماليك بحياته وجاءوا إلى السلطان يطلبونه وقد أضمروا الفتك به وأحضره السلطان وبينما هو مقبل على التضرّع للسلطان ضربه بعضهم فأبان رأسه وارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته ولم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بإزائه ثم دفن وفرغ من أمره وقام بأمر الدولة استدمر الناصري ورديفه بيبقا الاحمدي ومعهما بحماس الطازي وقرابقا الصرغتمشي وتغري بدمشق المتولون كبر هذه الفعلة وتقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية وقد مرّ ذكرهم وعزل خليل بن قوصون وألزم بيته وولوا أمراء مكان المحبوسين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 وأهل وظائف من كانت له واستقرّ أمر الدولة على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. واقعة الاجلاب ثم نكبتهم ومهلك استدمر وذهاب دولته ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة وحبسوا قرابقا السرغتمشي صاحبهم وامتعض له تغري بدمشق وداخل بعض الأمراء في الثورة ووافقه ايبك البدري وجماعة معه وركب منتصف رجب سنة ثمان وستين للحرب فركب له استدمر وأصحابه فتقبضوا عليهم وحبسوهم بالإسكندرية وعظم طغيان هؤلاء الاجلاب وكثر عيثهم في البلد وتجاوزهم حدود الشريعة والملك وفاوض السلطان أمراءه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم وحسم دائهم فنبذ السلطان اليهم العهد وجلس على كرسيه بالأساطيل وتقدّم الى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وسائر أمراء السلطان ومن استخدموه من مماليك بيبقا وتحيز اليهم ايبقا الجلب وبحماس الطازي عن صاحبهما استدمر وركب لقتالهم استدمر وأصحابه وسائر الاجلاب وحاصروا القلعة إلى أن خرج عند الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء وفارقهم المستخدمون عندهم من مماليك بيبقا فانقض جمعهم وانهزموا وثبت الجائي اليوسفي وارغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلا ثم انهزموا إلى قبة النصر وقتل دروط ابن أخي الحاج الملك وقبض على ايبقا الجلب جريحا وعلى طغتمر النظامي وعلى بحماس الطازي والجائي اليوسفي وارغون التتر وكثير من أمراء الألوف ومن دونهم واستولى استدمر وأصحابه الاجلاب على السلطان كما كانوا وولى مكان المحبوسين من الأمراء وأهل الوظائف وعاد خليل بن قوصون على أمرته وعزل قشتمر عن طرابلس وحبس بالإسكندرية واستبدل بكثير من أمراء الشام واستمرّ الحال على ذلك بقية السنة والاجلاب على حالهم في الاستهتار بالسلطان والرعية فلما كان محرّم سنة تسع وستين عادوا إلى الاجلاب على الدولة فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم ويعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم كسر بهم الفتنة وذلك يوم الأربعاء سادس صفر فلما كان يوم السبت عاودوا الركوب ونادوا بخلع السلطان فركب السلطان في مماليكه ونحو المائتين والتف عليهم العوامّ وقد حنقوا على الاجلاب بشراشرهم فيهم وركب استدمر في الاجلاب على التعبية وهم ألف وخمسمائة وجاءوا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا ووقفوا وأدلفتهم الحجارة من أيدي العوامّ بالمقاليع وحملت عليهم العساكر فانهزموا وقبض على قرابقا السرغتمشي وجماعة معه فحبسوا بالخزانة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 ثم جيء باستدمر أسيرا وشفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان وأطلقه باقيا على أتابكيته ونزل إلى بيته بقبض الكيس وكان خليل بن قوصون تولى آتابكا في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد فركب خليل إلى بيته وحمله على الانتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمّه فاجتمع منهم جماعة من الاجلاب وركبوا بالرميلة فركب اليهم السلطان والأمراء في العساكر فانهزموا وقتل كثير منهم وبعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوا بها وقتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم وطيف بهم على الجمال في أقطار المدينة ثم تتبع بقية الاجلاب بالقتل والحبس بالثغور القاصية وكان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الّذي ولي الملك بعد ذلك بمصر وبركة الجولاني وطنبغا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع وأقاموا كلهم متلفين بين السجن والنفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره واستبدّ السلطان بأمره بعض الشيء وأفرج عن الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وجماعة من المسجونين من أمرائه وولى الجائي أمير سلاح وولى بيبقا المنصوري وبكتمر المحمدي من أمراء الاجلاب في الاتابكية شريكين ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة واطلاق المسجونين من الاجلاب والاستبداد على السلطان فقبض عليهما وبعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب وأقامه في الاتابكية واستدعى أمير على المارداني من دمشق وولاه النيابة وولى في جميع الوظائف استبدالا وإنشاء بنظره واختياره وكان منهم مولاه ارغون الاشرفي وما زال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته وكان خالصته كما سنذكر وولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل وعلى دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي ثم اعتقله وصادره على مائة ألف دينار ونفاه إلى طرسوس وولى مكانه منجك اليوسفي نقله اليها من طرابلس وأعاد اليها غشقتمر المارداني كما كان قبله ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع وستين بعد أن كان يروم الانتقاض فولى مكانه استبغا الأبو بكري ثم عزله سنة سبعين وولى مكانه قشتمر المنصوري والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وفضله. مقتل قشتمر المنصوري بحلب في واقعة العرب كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض وولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى واستمر جماز على خلافه ووطئ بلاد حلب أيام المصيف واجتمع اليه بنو كلاب وامتدّت أيديهم على السابلة فخرج اليهم نائب حلب قشتمر المنصوري في عساكره فأغار على أحيائه واستاق نعمهم ومواشيهم وشره إلى اصطلامهم فتذامروا دون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 احيائهم وكانت بينه وبينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري وابنه محمد قتيلين ويقال قتلهما يعبر بن جماز ورجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب وذهب جماز إلى القفر ناجيا به وولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل ثم استأمن له جماز بن مهنا وعاود الطاعة فأعاده السلطان إلى إمارته والله تعالى أعلم. استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه ومقتله لما أذهب السلطان الأشرف أثر الاجلاب من دولته وقام بعض الشيء بأمره فاستدعى منكلي بغا من حلب وجعله أتابكا وأمير علي المارداني من دمشق وجعله نائبا وولى الجائي اليوسفي أمير سلاح وولى اصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الاجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحد بعد واحد ثم سخطه وولى مكانه اقطمر الصباحي وعمر سائر الخطط السلطانية بمن وقع عليه اختياره ورقى مولاه ارغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى إلى أن أربى به على الاتابكية كما يأتي وولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أمير الماخورية تردّد بينهما ثم استقرّ آخرا في الماخورية وولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار وولى بيبقا الناصري الحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها وزوّج أمّه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة واستغلظ أمره وأغلظ له الدوادار يوما في القول فنفي وولى مكانه منكوتمر عبد الغني ثم عزل سنة اثنتين وسبعين لسنة من ولايته وولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الّذي كان دوادارا لبيبقا واستقرّت الدولة على هذا النمط والجائي اليوسفي مستبدّ فيها ووصل قود منجك من الشام سنة أربع وسبعين بما لا يعبر عنه اشتمل على الخيل والبخاتي المجللة والجمال والهجن والقماش والحلاوات والحلي والطرف والمواعين حتى كان فيها من الكلاب الصائدة والسباع والإبل ما لم ير مثله في أصنافه ثم وصل قود قشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك والله تعالى أعلم. انتقاض الجائي اليوسفي ومهلكه واستبداد الأشرف بملكه من بعده لم تزل الدولة مستقرّة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا الأتابك منتصف سنة أربع وسبعين واستضاف الجائي اليوسفي الأتابكية إلى ما كان بيده ورتبته أشدّ من ذلك كله وهو القائم المستبدّ بها ثم توفيت أمّ السلطان وهي في عصمته فاستحق منها ميراثا دعاه لؤم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف وتجافى السلطان له عن ذلك الا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور فأظلم الجوّ بينه وبين السلطان وتمكنت فيه السعاية وذكرت هذه انتقاضه الأول وذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فامر بالركوب إلى العامّة وقتلهم فقتل منهم كثير ونمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته وعذلوه عنده فاستشاط السلطان وزجره وأغلظ له فغضب وركب إلى قبة النصر منتقضا وذهب السلطان في مداراة آمره إلى الملاطفة واللين وكان الأتابك منكلي بغا يوم ذاك حيا فأوعز السلطان اليه فرجع وخلع عليه وأعاده إلى أحسن ما كان فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه وخرج هو منتقضا وركب في مماليكه بساحة القلعة وجلس السلطان وتردّدت الرسل بينهما بالملاطفة فأصرّ واستكبر ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله وكان أكثرهم من الاجلاب مماليك بيبقا وقد جمعهم السلطان واستخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولى عهده فقاتلوه في محرّم سنة خمس وتسعين وكان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل ونضحوه بالسهام فتنحى عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم وخرجوا من باب الأساطيل وصدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش ورجع من وراء الجبل إلى قبة النصر فأقام بها ثلاثا والسلطان يراوضه وهو يشتط وشيعه يتسللون عنه ثم بعث اليه السلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب واتبعوه فخاض البحر وكان آخر العهد به ثم أخرج شلوه ودفن وأسف السلطان لمهلكه ونقل أولاده إلى قصره ورتب لهم ولحاشيته الأرزاق في ديوانه وقبض على من اتهمه بمداخلته وأرباب وظائفه فصودروا كلهم وعزلوا وغربوا إلى الشام واستبدّ السلطان بأمره واستدعى ايدمر القرّي الدوادار وكان نائبا بطرابلس فولاه أتابكا مكان الجائي ورفع رتبته وولى أرغون شاه وجعله أمير مجلس وولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح واختص بالسلطان طشتمر الدوادار وناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما وتصاريفها تجري بساستهما إلى أن كان ما نذكره والله تعالى ولىّ التوفيق. استقدام منجك للنيابة كان أمير علي المارداني قد توفي سنة اثنتين وسبعين وبقيت وظيفته خلوا لمكان الجائي اليوسفي وأحكامه ولما هلك سنة خمس وسبعين ولى السلطان اقطمر عبد الغني نائبا ثم بدا له أن يولي في النيابة منجك اليوسفي لما رآه فيه من الأهلية لذلك والقيام به ولتقلبه في الامارة منذ عهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 الناصر حسن وأنه كان من مواليه أخا لبيبقاروس وطاز وسرغتمش فهو بقية المناجب فلما وقع نظره عليه بعث في استقدامه بيبقا الناصري من أمراء دولته وولى مكانه بندمر الخوارزمي وأعاد عشقتمر إلى حلب مكانه ووصل منجك إلى مصر آخر سنة خمس وسبعين ومعه مماليكه وحاشيته وصهر روس المحمدي فاحتفل السلطان في تكرمته وأمر أهل الدولة بالركوب لتلقيه فتلقاه الأمراء والعساكر وأرباب الوظائف من القضاة والفقهاء والدواوين وأذن له في الدخول من باب السرّ راكبا وخاصة السلطان مشاة بين يديه حتى نزل عند مقاعد الطواشية بباب القصر حيث يجلس مقدم المماليك ثم استدعى إلى السلطان فدخل وأقبل عليه السلطان وشافهه بالنيابة المطلقة وفوّض اليه الولاية والعزل في سائر المراتب السلطانية من الوزراء والخواص والقضاة والأوقاف وغيرها وخلع عليه وخرج ثم قرر تقليده بذلك في الإيوان ثاني يوم وصوله فكان يوما مشهودا وولى الأشرف في ذلك اليوم بيبقا الناصري الذين قدم به حاجبا ثم سافر عشقتمر نائب حلب آخر سنة ست وسبعين بعدها بالعساكر إلى بلاد الأرمن ففتح سائر أعمالها واستولى على ملكها النكفور بالأمان فوصل بأهله وولده إلى الأبواب السلطانية ورتب لهم الأرزاق وولى السلطان على سيس وانقرض منها ملك الأرمن وتوفي منجك آخر هذه السنة فولى السلطان اقتمر الصاجي المعروف بالحلى ثم عزله ورفع مجلسه وولى مكانه اقتمر الالقني ثم توفي جبار بن مهنا أمير العرب بالشام فولى السلطان ابنه يعبرا مكانه ثم توفي أمير مكة من بني حسن فولى الأشرف مكانه واستقرّت الأمور على ذلك والله أعلم. الخبر عن مماليك بيبقا وترشيحهم في الدولة كان السلطان الأشرف بعد أن سطا بمماليك بيبقا تلك السطوة وقسمهم بين القتل والنفي وأسكنهم السجون وأذهب أثرهم من الدولة بالجملة أرجع جملة منهم بعد ذلك وعاتبه منكلي ابغا في شأنهم وأنّ في اتلافهم قص جناح الدولة وانهم ناشئة من الجند يحتاج الملك لمثلهم فندم على من قتل منهم وأطلق من بقي من المحبوسين بعد خمس من السنين وسرّحهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء وكان فيمن أطلق الجماعة بحبس الكرك وهم برقوق العثماني وبركة الجوباني وطنبقا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع فأطلقوا إلى الشام ودعا منجك صاحب الشام كبراءهم إلى تعليم المماليك ثقافة الرمح وكانوا بصراء بها فأقاموا عنده مدّة أخبرني بذلك الطنبقا الجوباني أيام اتصالي به قال وأقمنا عند منجك إلى أن استدعاه السلطان الأشرف وكتب اليه الجائي اليوسفي بمثل ذلك فاضطرب في أيهما يجيبه فيها ثم أراد أن يخرج من العهدة فردّ الأمر إلينا فأبينا الا امتثال أمره فتحير ثم اهتدى إلى أن يبعث إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 الجائي اليوسفي ودس إلى قرطاي كافل الأمير علي بن السلطان وكان صديقه بطلبنا من الجائي بخدمة ولىّ العهد وصانع الجهتين بذلك قال وصرنا إلى وليّ العهد فعرضنا على السلطان أبيه واختصنا عنده بتعليم الثقافة لمماليكه إلى أن دعانا السلطان يوم واقعة الجائي وهو جالس بالاصطبل فندبنا لحربه وذكرنا حقوقه وأزاح عللنا بالجياد والاسلحة فجلبنا في قتله إلى أن انهزم وما زال السلطان بعدها يرعى لنا ذلك ويقدّمنا انتهى خبر الجوباني وكان طشتمر الدوادار قد لطف محله عند الأشرف وخلاله وجهه وكان هواه في اجتماع مماليك بيبقا في الدولة يستكثر بهم فيما يؤمّله من الاستبداد على السلطان فكان يشير في كل وقت على الأشرف باستقدامهم من كل ناحية واجتماعهم عصابة للدولة يخادع بذلك عن قصده وكان محمد بن اسقلاص استاذ دار يساميه في الدولة ويزاحمه في مخالصة الأشرف ولطف المحل عنده ينهى السلطان عن ذلك ويحذره مغبة اجتماعهم فغص طشتمر بذلك وكان عند السلطان مماليك دونه من مماليكه الخاصكية شبابا قد اصطفاهم وهذبهم وخالصهم بالمحبة والصهر ورشحهم للمراتب وولى بعضهم وكان الأكابر من أهل الدولة يفضون اليهم بحاجاتهم ويتوسلون بمساعيهم فصرف طشتمر اليهم وجه السعاية وغشي مجالسهم وأغراهم بابن اسقلاص وانه يصدّ السلطان أكثر الأوقات عن أغراضهم منه ويبعد أبواب الانعام والصلات منه وصدّق ذلك عندهم كثرة حاجاتهم في وظيفته وتقرّر الكثير منها عليهم عنده فوغرت صدورهم منه وأغروا به السلطان باطباق إغراء طشتمر ظاهرا حتى تمت عليهم نكبته وجمعت الكلمة وقبض عليه منتصف جمادى سنة سبع وثمانين ونفاه إلى القدس فخلا لطشتمر وجه السلطان وانفرد بالتدبير واجتمع المماليك البيبقاوية من كل ناحية حتى كثروا أهل الدولة وعمروا مراتبها ووظائفها واحتازوها من جوانبها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. حج السلطان الأشرف وانتقاض المماليك عليه بالعقبة وما كان مع ذلك من ثورة قرطاي بالقاهرة وبيعة الأمير علي ولي العهد ومقتل السلطان اثر ذلك لما استقرّ السلطان في دولته على أكمل حالات الاستبداد والظهور وإذعان الناس لطاعته في كلّ ناحية وأكمل الله له الامتاع بملكه ودنياه سمت نفسه إلى قضاء فرضه فأجمع الحج سنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 ثمان وسبعين وتجهز لذلك واستكثر من الرواحل المستجادة والزودة المثقلة من سائر الأصناف واستعدّ للسفر واحتفل في الابهة بما لم يعهد مثله واستخلف ابنه ولي العهد في ملكه وأوصى النائب اكتمر عبد النبي بمباكرة بابه والانتهاء إلى مراسمه وأخرج بني الملك الناصر المحجوبين بالقلعة مع سرد الشيخوني إلى الكرك يقيمون به إلى منصرفه وتجهز الخليفة العباسي محمد المتوكل بن المعتضد والقضاة للحج معه وجهز جماعة من الأمراء أهل دولته وأزاح عللهم وملأ بمعروفه حقائبهم وخرج ثاني عشر شوّال في المراكب والقطارات يروق الناظرين كثرة ومخافة وزينة والخليفة والقضاة والأمراء حفا فيه وبرز النظارة حتى العواتق من خدورهنّ وتجللت بمركبهم البسيطة وماجت الأرض بهم موجا وخيم بالبركة منزل الحاج وأقام بها أياما حتى فرغ الناس من حاجاتهم وارتحل فما زال ينتقل في المنازل إلى العقبة ثم أقام فيها على عادة الحاج وكان في نفوس المماليك وخصوصا البيبقاوية وهم الأكثر شجى يتشوّقون به إلى الاستبداد من الدولة فتنكروا واشتطوا في اقتضاء أرزاقهم والمباشرون يعللونهم وانتهى أمرهم إلى الفساد ثم طلبوا العلوفة المستقبلة إلى دار الازلم فاعتذر المباشرون بأنّ الأقوات حملت إلى أمام فلم يقبلوا وكشفوا القناع في الانتقاض وباتوا ليلتهم على تعبية واستدعى الأشرف طشتمر الدوادار وكان كبيرهم ففاوضه في الأمر ليفك من عزمهم فأجمل العذر عنهم وخرج اليهم فخرجوا ثم ركبوا من الغد واصطفوا واركبوا طشتمر معهم ومنعوه من معاودة السلطان وتولى كبر ذلك منهم مبارك الطازي وسراي تمر المحمدي وبطلقمر العلائي وركب السلطان في خاصته يظنّ أنهم يرعوون أو يحنح اليه بعضهم فأبوا الا الاحفاف على قتاله ونضحوا موكبه بالنبل لما عاينوه فرجع إلى خيامه منهزما ثم ركب البحر في لفيف من خواصه ومعه ارغون شاه الاتابك وبيبقا الناصري ومحمد بن عيسى صاحب الدرك من لفائف الاعراب أهل الضاحية وفي ركابه جماعة الشباب الذين أنشأهم في مخالصته ورشحهم للوظائف في دولته كما مرّ وخام الفل الى القاهرة وقد كان السلطان عند ما سافر عن القاهرة ترك بها جماعة من الأمراء والمماليك مقيمين في وظائفهم كان منهم قرطاي الطازي كافل أمير علي ولى العهد واقتمر الخليلي وقشتمر واستدمر السرغتمشي وايبك البدري وكان شيطان من التمردة قد أوحى إلى قرطاي بأنه يكون صاحب الدولة بمصر فكان يتشوّف لذلك ويترصد له وربما وقع بينه وبين وزير الدولة منازعة في جراية مماليك مكفوله وليّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 العهد وعلوفاتهم أغلظ له فيها الوزير فوجم وأخذ في أسباب الانتقاض وداخل في ذلك بعض أصحابه وواعدهم ثالث ذي القعدة وتقدّم إلى داية وليّ العهد ليلة ذلك اليوم بأن يصلح من شأنه ويفرغ عليه ملابس السلطان ويهيئه لجلوس التخت وركب هو صبيحة ذلك اليوم ووقف بالرميلة عند مصلى العيد وتناول قطعة من ثوب فنصبها لواء وكان صبيان المدينة قد شرعوا في اتخاذ الدبادب والطبيلات للعيد فأمر بتناول بعضها منهم وقرعت بين يديه وتسايل الناس اليه من كل أوب ونزل من كان بطباق القصر وغرفه وبالقاهرة من المماليك واجتمعوا اليه حتى كظ ذلك الفضاء وجاءوا تعادي بهم الخيل فاستغلظ لفيفهم ثم اقتحم القلعة في جمعه من باب الاصطبل إلى بيت مكفوله وليّ العهد أمير علي عند باب الستارة يطلبونه وقبضوا على زمام الذود وكانوا عدّة حتى أحضروا وليّ العهد وجاءوا به على الأكتاف إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وأحضروا ايدمر نائب القلعة فبايع له ثم أنزلوه إلى باب الاصطبل وأجلسوه هناك على الكرسي واستدعى الأمراء القائمين بالقاهرة فبايعوه وحبس بعضهم بالقلعة وبعث اكتمر الحلي إلى الصعيد يستكشف أحواله واختص منهم ايبك فجعله رديفا في دولته وباتوا كذلك وأصبحوا يسائلون الركبان ويستكشفون خبر السلطان وكان السلطان لما انهزم من العقبة سار ليلتين وجاء إلى البركة آخر الثانية وجاءه الخبر بواقعة القاهرة وما فعله قرطاي وتشاوروا فأشار محمد بن عيسى بقصد الشام وأشار آخرون بالوصول إلى القاهرة وسار السلطان اليها واستمرّوا إلى قبة النصر وتهافتوا عن رواحلهم بالطلاح وقد أنهكهم التعب وأضناهم السير فما هو الا أن وقعوا لمناكبهم وجنوبهم وغشيهم النعاس وجاء الناصري إلى السلطان الأشرف من بينهم فتنصح له بأن يتسلل من أصحابه ويتسرب في بعض البيوت بالقاهرة حتى يتبين له وجه مذهبه وانطلق بين يديه فقصد بعض النساء ممن كان ينتاب قصده واختفى فظن النجاة في ذلك وفارقه الناصري يطلب نفقا في الأرض وقد كانوا بعثوا من قبة النصر بعض المماليك عنهم روائد يستوضحون الخبر فأصبحوا بالرميلة أمام القلعة وتعرف الناس أنه من الحاج فرفعوه إلى صاحب الدولة وعرض عليه العذاب حتى أخبره عن السلطان وأنه وأصحابه بقبة النصر مصر عين من غشي النوم فطار اليهم شراد العسكر مع استدمر السرغتمشي والجمهور في ساقتهم حتى وقفوا اليهم في مضاجعهم وافتقدوا السلطان من بينهم وقتلوهم جميعا وجاءوا برءوسهم ووجموا لافتقاد السلطان ونادوا بطلبه وعرضوا العذاب والقتل على محمد بن عيسى صاحب الدرك فتبرّأ وحبس رهينة من ثقاته ثم جاءت امرأة إلى ايبك فدلته عليه في بيت جارتها فاستخرجوه من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 ذلك البيت ودفعوه إلى ايبك فامتحنه حتى دلهم على الذخيرة والأموال ثم قتلوه خنقا وجدّدوا البيعة لابنه الأمير عليّ ولقبوه المنصور واستقلّ بدولته كافله من قبل الأمير قرطاي ورديفه ايبك البدري واستقرّ الأمر على ذلك. مجيء طشتمر من العقبة وانهزامه ثم مسيره إلى الشام وتجديد البيعة للمنصور بأذن الخليفة وتقديمه لما انهزم السلطان من العقبة ومضى إلى القاهرة اجتمع أهل الثورة على قشتمر وألقوا اليه القياد ودعوا الخليفة إلى البيعة له فتفادى من ذلك ومضى الحاج من مكة مع أمير المحمل بهادر الجمالي على العادة ورجع القضاة والفقهاء إلى القدس وتوجه طشتمر والأمراء إلى مصر لتلافي السلطان أو تلفه فلقيهم خبر مهلكه بعجرود وما كان من بيعة ابنه واستقلال قرطاي بالملك فثاب لهم رأي آخر في حرب أهل الدولة وساروا على التعبية وبعثوا في مقدّمتهم قطلقتمر ولقي طلائع مصر فهزمهم وسار في اتباعهم الى ساحة القلعة فلم يشعر الا وقد تورّط في جمهور العسكر فتقبضوا عليه وكان قرطاي قد بعث عن اقتمر الصاحبي الحنبلي من الصعيد ويرجع في العساكر لحرب قشتمر وأصحابه فبرز اليهم والتقوا في ساحة القلعة وانهزم قشتمر إلى الكيمان بناحية مصر ثم استأمن فأمنوه واعتقلوه ثم جمع الناس ليوم مشهود وحضر الخليفة والأمراء والقضاة والعلماء وعقد الخليفة للمنصور بن الأشرف وفوّض اليه وقام قرطاي بالدولة وقسم الوظائف فولى قشتمر اللفاف واستأمر السرغتمشي دوادار وايبك البدري أمير مجلس وقرطاي الطازي رأس نوبة واياس الصرغتمشي دوادار وايبك البدري أمير الماخورية وسردون جركس أستاذ دار واقتمر الحنبلي نائبا وجعل له الأقطاع للاجناد والأمراء والنواب وأفرج عن طشتمر العلائي الدوادار واقطعه الاسكندرية وأحضر بني الملك الناصر من الكرك مع حافظهم سردون الشيخوني وولاه حاجبا وكذلك قلوط الصرغتمشي وأصاب الناس في آخر السنة طاعون إلى أوّل سنة تسع وسبعين فهلك طشتمر اللفاف الأتابك وولي مكانه قرطاي الطازي في وظيفته واستدعى بيبقا الناصري من الشام فاختصه الأمير الكبير قرطاي بالمخالصة والمشاورة. نكبة قرطاي واستقلال ايبك بالدولة ثم مهلكه كان ايبك الغزي هذا قد ردف قرطاي في حمل الدولة من أوّل ثورتهم وقيامهم على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 السلطان فخالصه وخلطه بنفسه في الاصهار اليه وكان ايبك يروم الاستبداد بشأن أصحابه وكان يعرف من قرطاي عكوفه على لذاته وانقسامه مع ندمائه فعمل قرطاي في صفر سنة تسع وسبعين ضيافة في بيته وجمع ندماءه مثل سودون جركس ومبارك الطازي وغيرهم واهدى له ايبك نبيذا أذيب فيه بعض المرقدات فباتوا يتعاطونه حتى غلبهم السكر على أنفسهم ولم يفيقوا فركب ايبك من ليلته وأركب السلطان المنصور معه واختار الأمر لنفسه واجتمع اليه الناس وأفاق قرطاي بعد ثلاث وقد انحلت عنه العقدة واجتمع الناس على ايبك فبعث اليه قرطاي يستأمن فأمنه ثم قبض عليه فسيره إلى صفد واستقل ايبك بالملك والدولة ثم بلغه منتصف صفر من السنة انتقاض طشتمر بالشام وانتقاض الأمراء هنالك في سائر الممالك على الخلاف معه فنادى في الناس بالمسير إلى الشام فتجهزوا وسرح المقدمة آخر صفر مع ابنه أحمد وأخيه قطلوفجا وفيها من مماليكه ومماليك السلطان وجماعة من الأمراء كان منهم الأميران برقوق وبركة المستبدان بعد ذلك ثم خرج ايبك ثاني ربيع في الساقة بالسلطان والأمراء والعساكر وانتهوا إلى بلبيس وثار الأمراء الذين كانوا مع أخيه في المقدّمة ورجع اليه منهزما فأجفل راجعا إلى القلعة بالسلطان والعساكر وخرج عليه ساعة وصوله يوم الإثنين جماعة من الأمراء وهم قطلتمر العلائي الطويل والطنبقا السلطاني والنعناع وواعدوه قبة النصر فسرّح اليهم العساكر مع أخيه قطلوفجا فأوقعوا به وتقبضوا عليه وبلغ الخبر إلى ايبك فسرّح من حضره من الأمراء للقائهم وهم أيدمر الشمسي واقطمر عبد الغني وبهادر الجمالي ومبارك الطازي في آخرين ولما تواروا عنه ركب هو هاربا إلى كيمان مصر واتبعه ايدمر القنائي فلم يقف له على خبر ودخل الأمراء من قبة النصر إلى الاصطبل وامضوا الأمراء إلى قطلتمر العلائي وهم يحاذونه وأشير عليه بخلع المنصور والبيعة لمن يقوم على هذا الأمر من أبناء السلطان فأبى ثم وصل صبيحة الثلاثاء الأمراء الذين ثاروا فجاء أخو ايبك في مقدّمة العسكر وفيهم بيبقا الناظري ودمرداش اليوسفي وبلاط من أمراء الألوف وبرقوق وبركة وغيرهما من الطلخامات فنازعوهم الأمر وغلبوهم عليه وبعثوا بهم إلى الإسكندرية معتقلين وفوّض الأمراء إلى بيبقا الناظري فقام بأمرهم وهو شعاع وآراؤهم مختلفة ثم حضر يوم الأحد التاسع من ربيع ايبك صاحب الدولة وظهر من الاختفاء وجاء إلى بلاط منهم وأحضره عند بيبقا الناظري فبعث به إلى الإسكندرية فحبسه بها وكان بيبقا الناظري يختصّ برقوق وبركة المفاوضة استرابة بالآخرين فاتفق رأيهم على أن يستدعي طشتمر من الشام وينصبوه للامارة فبعثوا اليه بذلك وانتظروه . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 استبداد الأميرين أبي سعيد برقوق وبركة بالدولة من بعد ايبك ووصول طشتمر من الشأم وقيامه بالدولة ثم نكبته لما تغلب هؤلاء الأمراء على الدولة ونصبوا بيبقا الناظري ولم يمضوا له الطاعة بقي أمرهم مضطربا وآراؤهم مختلفة وكان برقوق وبركة أبصر القوم بالسياسة وطرق التدبير وكان الناظري يخالصهما كما مرّ فتفاوضوا في القبض على هؤلاء المتصدّين للمنازعة وكبح شكائمهم وهم دمرداش اليوسفي وترباي الحسيني وافتقلاص السلجوقي واستدمر ابن العثماني في آخرين من نظرائهم وركبوا منتصف صفر وقبضوا عليهم أجمعين وبعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوهم بها واصطفوا بلاطا منهم وولوه الامارة وخلطوه بأنفسهم وأبقوا بيبقا الناظري على أتابكيته كما كان وأنزلوه من القلعة فسكن بيت شيخو قبالته وولى برقوق أمير الماخورية ونزل باب الاصطبل وولى بركة الجوباني أمير مجلس واستقرّت الدولة على ذلك وكان طشتمر نائب الشام قد انتقض واستبدّ بأمره وجمع عساكر الشام وأمراءه واستنفر العرب والتركمان وخيم بظاهر دمشق يريد السير إلى مصر وبرز ايبك من مصر بالسلطان والعساكر يريد الشام لمحاربته فكان ما قدّمناه من نكبته وخروج الأمراء عليه ومصيرهم إلى جماعة البيبقاوية الطائرين بايبك ومقدّمهم بيبقا الناظري ثم تفاوض بيبقا الناظري مع برقوق وبركة في استدعاء طشتمر فوافقاه ونظراه رأيا وفيه طلب الصلح من الذين معه وحسم الداء منه بكونهم في مصر فكتبوا اليه بالوصول إلى مصر للاتابكية وتدبير الدولة وانه شيخ البيبقاوية وكبيرهم فسكنت نفسه لذلك ووضع أوزار الفتنة وسار الى مصر فلما وصلها اختلفوا في أمره وتعظيمه وأركبوا السلطان إلى الزيدانية لتلقيه ودفعوا الأمراء اليه وأشاروا له إلى الاتابكية ووضعوا زمام الدولة في يده فصار اليه التولية والعزل والحلّ والعقد وولى بيبقا الناظري أمير سلاح مكان سباطا وبعثوا بلاطا إلى الكرك لاستقلال طشتمر بمكانه وولى بندمر الخوارزمي نائبا بدمشق على سائر وظائف الدولة وممالك الشام كما اقتضاه نظره ووافق عليه استاذ دار برقوق وبركة وولى ايبك اليوسفي فرتب برقوق رأس نوبه مكان الناصري واستمرّ الحال على ذلك وبرقوق وبركة أثناء هذه الأمور يستكثران من المماليك استغلاظا لشوكتهما واكتنافا لعصبيتهما أن يمتدّ الأمير إلى مراتبهما فيبذلان الجاه لتابعهما ويوفران الاقطاع لمن يستخدم لهما ويخصان بالإمرة من يجنح من أهل الدولة اليهم والى أبوابهما وانصرفت الوجوه عن سواهما وارتاب طشتمر بنفسه في ذلك وأغراه أصحابه بالتوثب بهذين الأميرين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 فلما كان ذو الحجة سنة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية وبعثوا اليه فأحجم وقعد عن الركوب واجتمع برقوق وبركة بالاصطبل فركن اليه وقاتل مماليك طشتمر بالرميلة ساعة من نهار وانهزموا وافترقوا واستأمن طشتمر فأمنوه واستدعوه إلى القلعة فقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه منهم اطلمش الارغوني ومدلان الناصري وأمير حاج بن مغلطاي ودواداره أرغون وبعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وبعث معهم بيبقا الناصري كذلك ثم أفرج عنه لايام وبعثه نائبا على طرابلس ثم أفرج عن طشتمر بعد ذلك إلى دمياط ثم إلى القدس إلى أن مات سنة سبع وثمانين واستقامت الدولة للاميرين بعد اعتقالهما وخلت لهما من المنازعين وولى الأمير برقوق اتابكا وولى الماخورية الجابي الشمسي وولى قريبه انيال أمير سلاح مكان بيبقا الناصري وولى أقتمر العثماني دوادار مكان اطلمش الارغوني وولى الطنبقا الجوباني رأس نوبة ثانيا ودمرداش أمير مجلس وتوفي بيبقا النظامي نائب حلب فولى مكانه عشقتمر المارداني ثم استأذن عشقتمر فأذن له وحبس بالإسكندرية وولى مكانه بحلب تمرتاشي الحسيني الدمرداشي ثم أفرج عنه وأقام بالقدس قليلا ثم استدعاه بركة وأكرم نزله وبعثه نائبا الى حلب. ثورة انيال ونكبته كان انيال هذا أمير سلاح وكان له مقام في الدولة وهو قريب الأمير برقوق وكان شديد الانحراف على الأمير بركة ويحمل قريبه على منافرته ولا يجيبه إلى ذلك فاعتزم على الثورة وتحين لها سفر الأمير بركة إلى البحيرة يتصيد فركب الأمير برقوق في بعض تلك الأيام متصديا بساحة البلد فرأى ان قد خلاله الجوّ فركب وعمد إلى باب الاصطبل فملكه ومعه جماعة من مماليكه ومماليك الأمير برقوق وتقبضوا على أمير الماخورية جركس الخليلي واستدعوا السلطان المنصور ليظهروه للناس فمنعه المقدّمون من باب الستارة وجاء الأمير برقوق من صيده ومعه الاتابك الشمسي فوصلوا الى منزله خارج القلعة وأفرغوا السلاح على سائر مماليكهم وركبوا إلى ساحة الاصطبل ثم قصدوا إلى الباب فأحرقوه وتسلق الأمير قرطاي المنصوري من جهة باب السرّ وفتحه لهم فدخلوا منه ودافعوا انيال وانتقض عليه المماليك الذين كانوا معه من مماليك الأمير برقوق ورموه بالسهام فانهزم ونزل إلى بيته جريحا وأحضر إلى الأمير برقوق فاعتذر له بانه لم يقصد بفعلته الا التغلب على بركة فبعث به إلى الاسكندرية معتقلا وأعاد بيبقا الناصري أمير سلاح كما كان واستدعي لها من نيابة طرابلس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 ووصل الخبر إلى بركة فأسرع الكرّ من البحيرة وانتظم الحال ونظروا في الوظائف التي خلت في هذه الفتنة فعمروها بمن يقوم بها واختصوا بها من حسن غناؤه في هذه الواقعة مثل قردم وقرط وذلك سنة احدى وثمانين واقام انيال معتقلا بالإسكندرية ثم أفرج عنه في صفر سنة اثنتين وثمانين وولى على طرابلس ثم توفي منكلي بقا الاحمدي نائب حلب فولى انيال مكانه ثم تقبض عليه آخر السنة وحبس بالكرك وولى مكانه بيبقا الحمدي نائب دمشق فولى مكانه بندمر الخوارزمي ثم توفي سنة احدى وثمانين جيار بن المهنا أمير العرب بالشام فولى مكانه معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى شريكين ثم عزلا وولى يعبر بن جيار. ثورة بركة ونكبته واستقلال الأمير برقوق بالدولة كان هذا الأمير بركة يعادل الأمير برقوق في حمل الدولة كما ذكرناه وكان أصحابه يفوّضون اليه الاستبداد في الأموال وكان الأمير برقوق كثير التثبت في الأمور والميل إلى المصالح فيعارضهم في الغالب ويضرب على أيديهم في الكثير من الأحوال فغصوا بمكانه وأغروا بركة بالتوثب والاستقلال بالأمر وسعوا عنده باشمس من كبار أصحاب الأمير برقوق وأنه يحمل برقوق على مقاطعة بركة ويفسد ذات بينهما وأنه يطلب الأمر لنفسه وقد اعتزم على الوثوب عليهما فجاء بركة بذلك إلى الأمير برقوق وأراد القبض على اشمس فمنعه الأمير برقوق ودفع عنه وعظم انحراف بركة على أشمس ثم عن الأمير برقوق وسعى في الإصلاح بينهما الأكابر حتى كمال الدين شيخ التكية والخلدي شيخ الصوفية من أهل خراسان وجاءوا بأشمس إلى بركة مستعتبا فأعتبه وخلع عليه ثم عاود انحرافه ثانية فمسح أعطافه وسكن وهو مجمع الثورة والفتك ثم عاود حاله تلك ثالثة واتفق أن صنع في بيت الأمير برقوق لسرور وليمة في بعض أيام الجمعة في شهر ربيع سنة اثنتين وثمانين وحضر عنده أصحاب بركة كلهم وأهل شوكته وقد جاءه النصيح بأنّ بركة قد أجمع الثورة غداة يومه فقبض الأمير برقوق على من كان عنده من أصحاب بركة ليقص جناحه منهم وأركب حاشيته للقبض عليه واصعد بدلان الناصري على مئذنة مدرسة حسن فنضحه بالنبل في اصطبله وركب بركة إلى قبة النصر وخيم بها ونودي في العامّة بنهب بيوته فنهبوها للوقت وخرّبوها وتحيز اليه بيبقا الناصري فخرج معه وجلس الأمير برقوق بباب القلعة من ناحية الاصطبل وسرّح الفرسان للقتال واقتتلوا عامّة يومهم فزحف بركة على تعبيتين إحداهما لبيبقا الناصري وخرج الاق الشعبانيّ للقائه وأشمس للقاء بيبقا الناصري فانهزم أصحاب بركة ورجع إلى قبة النصر وقد اثخنوا بالجراح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 وتسلل أكثرهم إلى بيته وأقام الليل ثم دخل إلى جامع البلدة وبات به ونمي إلى الأمير برقوق خبره فأركب اليه الطنبقا الجوباني وجاء به إلى القلعة وبعث به الأمير برقوق الى الاسكندرية فحبس بها الى ان قتله النائب بها صلاح الدين بن عزام وقتل به في خبر يأتي شرحه ان شاء الله تعالى وتقبض على بيبقا الناصري وسائر شيعته من الأمراء وأودعهم السجون إلى أن استحالت الأحوال وولى وظائفهم من أوقف عليه نظره من أمراء الدولة وأفرج عن انيال الثائر قبله وبعثه نائبا على طرابلس واستقل بحمل الدولة وانتظمت به أحوالها واستراب سندمر نائب دمشق لصحابته مع بركة فتقبض عليه وعلى أصحابه بدمشق وولى نيابة دمشق عشقتمر ونيابة حلب انيال وولى اشمس الاتابكية مكان بركة والاق الشعبانيّ أمير سلاح والطنبقا الجوباني أمير مجلس وابقا العثماني دوادار وجركس الخليلي أمير الماخورية والله تعالى وليّ التوفيق. انتقاض أهل البحيرة وواقعة العساكر كان هؤلاء الظواعن الذين عمروا الدولة من بقايا هوارة ومزاتة وزنانة يعمرونها بمن تحت أيديهم من هذه القبائل وغيرهم ويقومون بخراج السلطان كل سنة في ابانه وكانت الرئاسة عليهم حتى في أداء الخراج لبدر بن سلام وآبائه من قبله وهو من زناتة احدى شعوب لواتة وكان للبادية المنتبذين مثل أبي ذئب شيخ أحياء مهرانة وعسرة ومثل بني التركية أمراء العرب بعقبة الاسكندرية اتصال بهم لاحتياجهم إلى الميرة من البحيرة ثم استخدموا لأمراء الترك في مقاصدهم وأموالهم واعتزوا بجاههم وأسفوا على نظائرهم من هوارة وغيرهم ثم حدثت الزيادة في وظائف الجباية كما هي طبيعة الدول فاستثقلوها وحدّثتهم أنفسهم بالامتناع منها لما عندهم من الاعتزاز فأرهقوا في الطلب وحبس سلام بالقاهرة وأجفل ابنه بدر الى الصعيد بالقبلية واعترضته هناك عساكر السلطان فقاتلهم وقتل الكاشف في حربه وسارت اليه العساكر سنة ثمانين مع الاق الشعبانيّ وأحمد بن بيبقا وانيال قبل ثورته فهربوا وعاثت العساكر في مخلفهم ورجعوا وعاد بدر إلى البحيرة وشغلت الدولة عنهم بما كان من ثورة انيال وبركة بعده واتصل فساد بدر وامتناعه فخرجت اليه العساكر مع الاتابك اشمس والأمير سلام والجوباني أمير مجلس وغيرهم من الأمراء الغربية ونزلت العساكر البحيرة واعتزم بدر على قتالهم فجاءهم النذير بذلك فانتبذوا عن الخيام وتركوها خاوية ووقفوا على مراكزهم حتى توسط القوم المخيم وشغلوا بنهبه فكرّت عليهم العساكر فكادوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 يستلحمونهم ولم يفلت منهم الا الأقل وبعث بدر بالطاعة واعتذر بالخوف وقام بالخراج فرجعت العساكر وولى بكتمر الشريف على البحيرة ثم استبدل منه بقرط بن عمر ثم عاد بدر إلى حاله فخرجت العساكر فهرب أمامها وعاث القرط فيهم وقتل الكثير من رجالهم وحبس آخرين ورجع عن بدر أصحابه مع ابن عمه ومات ابن شادي وطلب الباقي الأمان فأمنوا وحبس رجال منهم وضمن الباقون القيام بالخراج واستأمن بدر فلم يقبل فلحق بناحية الصعيد واتبعته العساكر فهرب واستبيح مخلفه واحياؤه ولحق ببرقة ونزل على أبي ذئب فأجاره واستقام أمر البحيرة وتمكن قرط من جبايتها وقتل رحاب وأولاد شادي وكان قرطاي يستوعب رجالتهم بالقتل وأقام بدر عند أبي ذئب يتردّد ما بين احيائه وبين الواحات حتى لقيه بعض أهل الثأر عنده فثأروا منه سنة تسع وثمانين وذهب مثلا في الآخرين والله تعالى أعلم. مقتل بركة في محبسه وقتل ابن عزام بثأره كان الأمير بركة استعمل أيام إمارته خليل بن عزام استاذ داره ثم اتهمه في ماله وسخطه ونكبه وصادره على مال امتحنه عليه ثم أطلقه فكان يطوي له على النكث ثم صار بركة إلى ما صار اليه من الاعتقال بالإسكندرية وتولي ابن عزام نيابتها فحاول على حاجة نفسه في قتل بركة ووصل إلى القاهرة متبرئا من أمره متخوفا من مغبته ورجع وقد طوى من ذلك على الدغل ثم حمله الحقد الكامن في نفسه على اغتياله في جنح الليل فأدخل عليه جماعة متسلحين فقتلوه وزعم انه أذن له في ذلك وبلغ الخبر إلى كافل الدولة الأمير برقوق وصرّح مماليكه بالشكوى اليه فأنكر ذلك وأغلظ على ابن عزام وبعث دواداره الأمير يونس يكشف عن سببه واحضار ابن عزام فجاء به مقيدا وأوقفه على شنيع مرتكبه في بركة فحلف الأمير ليقادنّ منه به وأحضر إلى القلعة في منتصف رجب من سنة اثنتين وثمانين فضرب بباب القلعة أسواطا ثم حمل على جمل مشتهرا وأنزل إلى سوق الخيل فتلقاه مماليك بركة فتناولوه بالسيوف إلى أن تواقعت اشلأوه بكل ناحية وكان فيه عظة لمن يتعظ أعاذنا الله من درك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء انتهى. وفاة السلطان المنصور عليّ بن الأشرف وولاية الصالح أمير حاج كان هذا السلطان عليّ بن الأشرف قد نصبه الأمير قرطاي في ثورته على أبيه الأشرف وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 ابن اثنتي عشرة سنة فلم يزل منصورا والأمر ينتقل من دولة كما ذكرناه إلى أن هلك لخمس سنين من ولايته في صفر سنة ثلاث وثمانين فحضر الأمير برقوق واستدعى الأمراء واتفقوا على نصب أخيه أمير حاج ولقبوه الصالح وأركبوه إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وقلده الخليفة على العادة وجعل الأمير برقوق كافله في الولاية والنظر للمسلمين لصغره حينئذ عن القيام بهذه العهدة وأفتى العلماء يومئذ بذلك وجعلوه من مضمون البيعة وقرئ كتاب التقليد على الأمراء والقضاة والخاصة والعامة في يوم مشهود وانفضّ الجمع وانعقد أمر السلطان وبيعته وضرب فيها للأمير برقوق بسهم والله تعالى مالك الأمور. وصول أنس الغساني والد الأمير برقوق وانتظامه في الأمراء أصل هذا الأمير برقوق من قبيلة جركس الموطنين ببلاد الشمال في الجبال المحيطة بوطء القفجاق والروس واللان من شرقيها المطلة على بسائطهم ويقال انهم من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الأيهم عند ما أجفل هرقل إلى الشام وسار إلى القسطنطينية وخبر مسيره من أرض الشام وقصته مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه متناقلة معروفة بين المؤرّخين وأمّا هذا الرأي فليس على ظاهره وقبيلة جركس من الترك معروفة بين النسابين ونزولهم بتلك المواطن قبل دخول غسان وتحقيق هذا الرأي أن غسان لما دخلوا مع جبلة إلى هرقل أقاموا عنده ويئسوا من الرجوع لبلادهم وهلك هرقل واضطرب ملك الروم وانتشرت الفتنة هنالك في ممالكهم واحتاجت غسان إلى الحلف للمدافعة في الفتن وحالفوا قبائل جركس ونزلوا في بسيط جبلهم من جانبه الشرقيّ مما يلي القسطنطينية وخالطوهم بالنسب والصهر واندرجوا فيهم حتى تلاشت احياؤهم وصاروا إلى تلك الأماكن وأووا من البسائط إلى الجبال مع جركس فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم تداخلت معهم ممن انتسب إلى غسان من جركس وهو مصدّق في نسبه ويستأنس له بما ذكرناه فهو نسبة قوية في صحته والله تعالى أعلم وجلب هذا الأمير برقوق على عهد الأمير بيبقا عثمان قراجا من التجار المعروفين يومئذ بتلك الجهات فملكه بيبقا وربي في اطباق بيته وأوى من قصده وشدّ في الرماية والثقافة وتعلم آداب الملك وانسلخ من جلدة الخشونة وترشح للرّياسة والامارة والسعادة تشير اليه والعناية الربانية تحوم عليه ثم كان ما ذكرناه من شأن مماليك بيبقا ومهلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 كبيرهم يومئذ استدمر وكيف تقسموا بين الجلاء والسجن وكان الأمير برقوق أعزه الله تعالى ممن أدركه التمحص فلبث في سجن الكرك خمس سنين بين أصحاب له منهم فكانت تهوينا لما لقي من بوائقه وشكرا له بالرجوع إلى الله ليتم ما قدّر الله فيه من حمل أمانته واسترعاء عباده ثم خلص من ذلك المحبس مع أصحابه وخلى سبيله فانطلقوا إلى الشام واستخلصهم الأمير منجك نائب الشام يومئذ وكان بصيرا مجربا فألقى محبته وعنايته على هذا الأمير لما رأى عليه من علامات القبول والسعادة ولم يزل هناك في خالصته إلى أن هجس في نفس السلطان الأشرف استدعاء المرشحين من مماليكه وهذا الأمير يقدمهم وأفاض فيهم الإحسان واستضافهم لولده الأمير علي ولم يكن الا أيام وقد انتقض الجائي القائم بالدولة وركب على السلطان فأحضرهم السلطان الأشرف وأطلق أيديهم في خيوله المقربة وأسلحته المستجادة فاصطفوا منها ما اختاروه وركبوا في مدافعة الجائي وصدقوه القتال حتى دافعوه على الرميلة ثم اتبعوه حتى ألقى نفسه في البحر فكان آخر العهد به واحتلوا بمكان من أثرة السلطان واختصاصه فسوّغ لهم الاقطاعات وأطلق لهم الجرايات ولهذا الأمير بين يديه من بينهم مزيد مكانة ورفيع محل إلى أن خرج السلطان الأشرف إلى الحج وكان ما قدّمناه من انتقاض قرطاي واستبداده ثم استبداد ايبك من بعده وقد عظم محل هذا الأمير من الدولة ونما عزه وسمت رتبته ثم فسد أمر أيبك وتغلب على الأمر جماعة من الأمراء مفترقي الاهواء وخشي العقلاء انتقاض الأمر وسوء المغبة فبادر هذا الأمير وتناول الحبل بيده وجعل طرفه في يد بركة رديفه فأمسك معه برهة من الأيام ثم اضطرب وانتقض وصار إلى ما صار اليه من الهلاك واستقل الأمير برقوق بحمل الدولة والعناية الربانية تكفله والسعادة تواخيه وكان من جميل الصنع الرباني له أن كيّف الله غريبة في اجتماع شمل أبيه به فقدم وفد التجار بابيه من قاصية بلادهم بعد أن أعملوا الحيلة في استخلاصه وتلطفوا في استخراجه وكان اسمه أنس فاحتفل ابنه الأمير برقوق من مبرته وأركب العساكر وسائر الناس على طبقاتهم لتلقيه واعدّ الخيام بسرياقوس لنزوله فحضروا هنالك جميعا في ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وجلس الأمير أنس الوافد صدر المجلس وهم جميعا حفافيه من القضاة والأمراء ونصب السماط فطعم الناس وانتشروا ثم ركبوا إلى البلد وقد زينت الأسواق وأوقدت الشموع وماجت السكك بالنظارة من عالم لا يحصيهم الا خالقهم وكان يوما مشهودا وأنزله بالاصطبل تحت المدينة الناصرية ونظمه السلطان في أقربائه وبني عمه وبني إخوانه واجتمع شملهم به وفرض لهم الأرزاق وقرّرهم في الوظائف ثم مات هذا الأب الوافد وهو الأمير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 أنس رحمه الله في أواسط [1] وثمانين بعد أن أوصى بحجة إسلامه وشرفت مراتب الامارة بمقامه ودفنه السلطان بتربة الدوادار يونس ثم نقله إلى المدفن بجوار المدرسة التي أنشاها بين القصرين سنة ثمان وثمانين والله يؤتي الملك من يشاء خلع الصالح أمير حاج وجلوس الأمير برقوق على التخت واستبداده بالسلطان كان أهل الدولة من البيبقاوية من ولي منهم هذا الأمير برقوق قد طمعوا في الاستبداد وظفروا بلذة الملك والسلطان ورتعوا في ظل الدولة والأمان ثم سمت أحوالهم إلى أن يستقل أميرهم بالدولة ويستبد بها دون الاصاغرين المنتصبين بالمملكة وربما أشار بذلك بعض أهل الفتيا يوم بيعة أمير حاج وقال لا بدّ أن يشرك معه في تفويض الخليفة الأمير القائم بالدولة لتشدّ الناس إلى عقدة محكمة فأمضى الأمير على ذلك وقام الأمير بالدولة فأنس الرعية بحسن سياسته وجميل سيرته واتفق أنّ جماعة من الأمراء المختصين بهذا الصبي المنصوب غصوا بمكان هذا الأمير وتفاوضوا في الغدر به وكان متولي ذلك منهم ابقا العثماني دوادار السلطان ونمي الخبر اليه بذلك فتقبض عليهم وبعث ابقا إلى دمشق على إمارته وغرّب الآخرين إلى قوص فاعتقلوا هنالك حتى أنفذ الله فيهم حكمه وأشفق الأمراء من تدبر مثل هؤلاء عليهم وتفاوضوا في محو الأصاغر من الدست وقيامه بأمرهم مستقلا فجمعهم لذلك في تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وحضر الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء وأرباب الشورى والفتيا وأطبقوا على بيعته وعزل السلطان أمير حاج فبعث اليه أميرين من الأمراء فأدخلوه إلى بيته وتناولوا السيف من يده فأحضروها ثم ركب هذا السلطان من مجلسه بباب الاصطبل وقد لبس شعار السلطنة وخلعة الخلافة فدخل إلى القصور السلطانية وجلس بالقصر الأبلق على التخت وأتاه الناس بيعتهم أرسالا وانعقد أمره يومئذ ولقب الملك الظاهر وقرعت الطبول وانتشرت البشائر وخلع على أمراء الدولة مثل أشمس الأتابك والطنبقا الجوباني أمير مجلس وجركس الخليلي أمير الماخورية وسودون الشيخوني نائبا والطنبقا المعلم أمير سلاح ويونس النوروي دوادار وقردم الحسيني رأس نوبة وعلى كتابه أوحد الدين بن ياسين كاتب سرّه أدال به من بدر الدين بن فضل الله كاتب سرّ السلطان من قبل وعلى جميع أرباب   [1] بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 الوظائف من وزير وكاتب وقاض ومحتسب وعلى مشاهير العلم والفتيا والصوفية وانتظمت الدولة أحسن انتظام وسرّ الناس بدخولهم في ايالة السلطان يقدر للأمور قدرها ويحكم أو أخيها واستأذنه الطنبقا الجوباني أمير مجلس في الحج تلك السنة وأذن له فانطلق لقضاء فرضه وعاد انتهى والله تعالى أعلم. مقتل قرط وخلع الخليفة ونصب ابن عمه الواثق للخلافة كان قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة وكان له أقدام وصرامة رقابهما إلى محل من مرادفة الأمراء في وجوههم ومذاهبهم ودفع إلى ولاية الصعيد ومحاربة أولاد الكنز من العرب الجائلين في نواحي أسوان فكان له في ذلك غناء وأحسن في تشريدهم عن تلك الناحية ثم بعث إلى البحيرة واليا عند انتقاض بدر بن سلام وفراره ومرجع العساكر من تمهيدها فقام بولايتها وتتبع آثار أولئك المنافقين وحسم عللهم وحضر في ثورة انيال فجلا في ذلك اليوم لشهامته واقدامه وكان هو المتولي تسوّر الحائط وإحراق الباب الظهراني الّذي ولجوا عليه وامسكوه فكان يمت بهذه الوسائل اجمع والسلطان يرعى له الا انه كان ظلوما غشوما فكثرت شكايات الرعايا والمتظلمين به فتقبض عليه لأوّل بيعته وأودعه السجن ثم عفا عنه وأطلقه وبقي مباكرا باب السلطان مع الخواص والأولياء وطوى على الغث وتربص بالدولة ونمي عنه أنه فاوض الخليفة المتوكل بن المعتضد في الانتقاض والاجلاب على الدولة بالعرب المخالفين بنواحي برقة من أهل البحيرة وأصحاب بدر بن سلام وأن يفوّض الخليفة الأمر إلى سوى هذا السلطان القائم بالدولة وانه داخل في ذلك بعض ضعفاء العقول من أمراء الترك ممن لا يؤبه له فأحضرهم من غداته وعرض عليهم الحديث فوجموا وتناكروا وأقر بعضهم واعتقل الخليفة بالقلعة وأخرج قرط هذا لوقته فطيف به على الجمل مسمرا ابلاغا في عقابه ثم سيق إلى مصرعه خارج البلد وقدّ بالسيف نصفين وضم الباقون إلى السجون وولى السلطان الخلافة عمر بن إبراهيم الواثق من أقاربه وهو الّذي كان الملك الناصر ولى أباه إبراهيم بعد الخليفة أبي الربيع وعزل عن ابنه أحمد كما مرّ وكان هذا كله في ربيع سنة خمس وثمانين وولى مكانه أخوه زكريا ولقب المعتصم واستقرّت الأحوال إلى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 نكبة الناصري واعتقاله كان هذا الناصري من مماليك بيبقا وأرباب الوظائف في أيامه وكان له مع السلطان الظاهر ذمة وداد وخلة من لدن المربى والعشرة فقد كانوا أترابا بها وكانت لهم دالة عليه لعلوّ سنه وقد ذكرنا كيف استبدّوا بعد ايبك ونصبوا الناصري أتابكا ولم يحسن القيام عليها وجاء طشتمر بعد ذلك فكان معه حتى في النكبة والمحبس ثم أشخص إلى الشام وولى على طرابلس ثم كانت ثورة انيال ونكبته في جمادى سنة احدى وثمانين فاستقدمهم من طرابلس وولى أمير سلاح مكان انيال واستخلصه الأمير بركة وخلطه بنفسه وكانت نكبته فحبس معه ثم أشخص إلى الشام وكان انيال قد أطلق من اعتقاله وولى على حلب سنة اثنتين وثمانين مكان منكلي بقري الاحمدي فأقام بها سنة أو ونحوها ثم نمي عنه خبر الانتقاض فقبض عليه وحبس بالكرك وولى مكانه على حلب بيبقا الناصري في شوّال سنة ثلاث وثمانين وقعد الظاهر على التخت لسنة بعدها واستبدّ بملك مصر وكان الناصري لما عنده من الدالة يتوقف في إنفاذ أوامره لما يراه من المصالح بزعمه والسلطان ينكر ذلك ويحقده عليه وكان له مع الطنبقا الجوباني أمير مجلس أحد أركان الدولة حلف لم يغن عنه وأمر السلطان بالقبض على سولي بن بلقادر حين وفد عليه بحلب فأبي من ذلك صونا لوفائه بزعمه ودس بذلك إلى سولي فهرب ونجا من النكبة ووفد على السلطان سنة خمس وثمانين وجدّد حلفه مع الجوباني ومع أشمس الأتابك ورجع إلى حلب ثم خرج بالعساكر إلى التركمان آخر سنة خمس وثمانين دون إذن السلطان فانهزم وفسدت العساكر ونجا بعد ثالثة جريحا وأحقد عليه السلطان هذه كلها ثم استقدمه سنة سبع وثمانين فلما انتهى إلى سرياقوس تلقاه بها أستاذ دار فتقبض عليه وطير به إلى الإسكندرية فحبس بها مدة عامين وولى مكانه بحلب الحاجب سودون المظفر وكان عيبة نصح للسلطان وعينا على الناصري فيما يأتيه ويذره لانه من وظائف الحاجب للسلطان في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو بطانة السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجا في صدر من يروم الانتقاض من ولاته وكان هذا الحاجب سودون هو الّذي ينمي أخباره إلى السلطان ويطلعه على مكامن مكره فلما حبس الناصري بالإسكندرية ولاه مكانه بحلب وارتاب الجوباني من نكبة الناصري لما كان بينهما من الوصلة والحلف فوجم واضطرب وتبين السلطان منه النكر فنكبه كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى وأقصاه والله أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 إقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك واسمه الطنبقا وكان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الأشرف وقد مرّ ذكره ربي في قصره وجوّ عزه ولقن الخلال والآداب في كنفه وكانت بينه وبين السلطان خلة ومصفاة اكسبتها له تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها وكوكبي أفقها وتربي مرقاها وقد كان متصلا فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم واشتمل بعضهم على بعض واستحكم الاتحاد حتى بالعشرة أيام التمحيص والاغتراب كما مرّ فلقد كان معتقلا معه بالكرك أيام المحنة خمسا من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرّة والنحوسة بالسعادة والسجن بالملك وقسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله وعنايته في خدمة السلطان بدار الغربة والمحنة وألفته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل وتكرم الاذمة والعهود أنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن ثم كان انطلاقهما إلى الشام ومقامهما جميعا واستدعاؤهما إلى دار الملك ورقيمها في درج العز والتغريب كذلك وكان للسلطان أصحاب سراة يمتون اليه بمثل هذه الوسائل وينتظمون في ملكها وكان متميز الرتبة عنهم سابقا في مرقى درجات العز أمامهم مجلبا في الحلبة التي فيها طلقهم إلى أن ظفر بالملك واستولى على الدولة وهو يستتبعهم في مقاماته ويوطئهم عقبه ويذلل لهم الصعاب فيقتحمونها ويجوز لهم الرتب فيستهمون عليها ثم اقتعد منبر الملك والسلطان واستولى على كرسيه وقسم مراتب الدولة ووظائفها بين هؤلاء الأصحاب وآثر الجوباني منهم بالصفاء والمرباع فجعله أمير مجلسه ومعناه صاحب الشورى في الدولة وهو ثاني الأتابك وتلو رتبته فكانت له القدم العالية من أمرائه وخلصائه والحظ الوافر من رضاه وإيثاره وأصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته بأساطينها وأرسى ملكه بقواعدها إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده وحوّمت شباة السعاية على قرطاسه وارتاب السلطان بمكانه وأعجل الحزم على إمهاله فتقبض عليه يوم الاثنين لسبع بقين من سنة سبع وثمانين وأودعه بعض حجر القصر عامّة يومه ثم أقصاه الى الكرك وعواطف الرحمة تنازعه وسجايا الكرم والوفاء تقض من سخطه ثم سمح وهو بالخير أسمح وجنح وهو الى الأدنى من الله أجنح فسرح اليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 هذا السلطان وأناته وحسن نيته وبصيرته وكرم عهده وجميل وفائه وانطلقت الألسن بالدعاء له وامتلأت القلوب بالمحبة وعلم الأولياء والخاصة والشيع والكافة انهم في كفالة أمن ولطف وملكة إحسان وعدل ثم مكث حولا يتعقب أحواله ويتتبع سيره وأخباره طاويا شأنه في ذلك عن سائر الأولياء إلى أن وقف على الصحيح من أمره وعلم خلوص مصادقته وجميل خلوصه فاخفق سعي الداعين وخابت ظنون الكاشحين وأداله العتبى من العتاب والرضا من النكرى واعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة والاستيحاش ويردّه إلى أرفع الامارة وبينما هو يطوي على ذلك ضميره ويناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتا لبدر السعادة وعلما على فوزه بذلك الحظ كما نذكر أن شاء الله تعالى وخبر هذه الواقعة أنّ بندمر الخوارزمي كان نائبا بدمشق وقد مرّ ذكره غير مرّة وأصله من الخوارزمية اتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر وافترقوا عند مهلكه على يد جنكزخان في ممالك الشام واستخدموا لبني أيوب والترك أوّل استبدادهم بمصر وكان هذا الرجل من أعقاب أصلهم وكان له نجابة جذبت بضيعة ونصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى أن ترشح للولاية في الأعمال وتداول امارة دمشق مع منجك اليوسفي وعشقتمر الناصري وكان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي وحاصره واستنزله بأمانة ثم أعيد إلى ولايته ثم تصرّمت تلك الدول وتغلب هذا السلطان على الأمر ورادفه فيه فولوه على دمشق وكانت صاغيته مع بركة فلما حدث انتقاض بركة كتب اليه والى بقري بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة وكتب برقوق إلى نائب القلعة يحذرهم فركب جنتمر أخو طاز وابن جرجي ومحمد بيك وقاتلوه ثلاثا ثم أمسكوه وقيدوه ومعه بقري بن برقش وجبريل مرتبه وسيقوا إلى الاسكندرية فحبسوا فلما قتل بركة أطلق بندمر ومن كان حبس من أصحاب بركة مثل بيبقا الناصري ودمرداش الأحمدي ثم استخلصه السلطان برقوق وردّه إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت والشام له وكان جماعا للأموال شديد الظلامة فيها متحيلا على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسباب العقاب مصانعا للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس ايالته وترحمت القلوب منه وكان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم متهمون في عقيدتهم بين مجسم ورافضي وحلولي جمعت بينهم أنساب الضلال والحرمان وقعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه تلبسوا بإظهار الزهد والنكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الأحكام والجباية عن الشرع إلى السياسة التي تداولها الخلفاء وأرخص فيها العلماء وأرباب الفتيا وحملة الشريعة بما تمس اليه الحاجة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 الوازع السلطاني والمعونة على الدفاع وقديما نصبت الشرطة الصغرى والكبرى ووظيفة المظالم ببغداد دار السلام ومقرّ الخلافة وايوان الدين والعلم وتكلم الناس فيها بما هو معروف وفرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عن حاجة الدولة الاموية فليس ذلك من المنكر الّذي يعتدّ بتغييره فلبس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة وأوهموا أن قد توثقوا من الحل والعقد في الانتقاض فرية انتحلوها وجمعا انهوه نهايته وعدوا على كافل القلعة بدمشق وحاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم وبينه فاعتقلهم وطالع السلطان بأمرهم وتحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به وعاجله بالقبض والتوثق منه ومن حاشيته ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا واستأثر به على الدولة وأحضر هؤلاء الحمقى ومن بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون وكانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب والنكال وبعث السلطان لعشقتمر الناصري وكان مقيما بالقدس أن يخرج نائبا على دمشق فتوجه اليها وأقام رسم الامارة بها أياما ظهر فيها عجزه وبين عن تلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر وطوارق الزمانة والضعف حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه فعندها بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني وقد خلص من الفتن ابريزه وأينع بنفحات الرضا والقبول عوده وأفرح بمطالعة الانس والقرب روعه فجاء من الكرك على البريد وقد أعدت له أنواع الكرامة وهيئ له المنزل والركاب والفرش والثياب والآنية والخوان والخرثيّ والصوان واحتفل السلطان لقدومه وتلقيه بما لم يكن في أمله وقضى الناس العجب من حلم هذا السلطان وكرم عهده وجميل وفائه وتحدّث به الركبان ثم ولاه نيابة دمشق وبعثه لكرسيها مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية وعسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الأوّل من سنة سبع وثمانين وارتحل من الغد وسعادة السلطان تقدّمه ورضاه ينقله إلى أن قارب دمشق والناس يتلقونه أرسالا ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني وقد احتفل الناس لقدومه وغصت السكك بالمتنزهين وتطاول إلى دولته أرباب الحدود وتحدّث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل وتناقلوا خبره واستقل بولاية دمشق وعناية السلطان تلاحظه ومذاهب الطاعة والخلوص تهديه بحسن ذكره وأفاض الناس الثناء في حسن اختياره وجمال مذهبه وأقام السلطان في وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس والله غالب على أمره . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 هدية صاحب افريقية كان السلطان لهذا العهد بإفريقية من الموحدين ومن أعقاب الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي المستبدّ بإفريقية على بني عبد المؤمن ملوك مراكش أعوام خمس وعشرين وستمائة وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم أبي زكريا سلسلة ملوك كلهم ولم تزل ملوك المغرب على القدم ولهذا العهد يعرفون لملوك الترك بمصر حقهم ويوجبون لهم الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين وكانت المهاداة بينهم تتصل بعض الأحيان ثم تنقطع بما يعرض في الدولتين من الأحوال وكان لي اختصاص بذلك السلطان ومكان من مجلسه ولما رحلت إلى هذا القطر سنة أربع وثمانين واتصلت بهذا السلطان بمصر الملك الظاهر سألني عنه لأوّل لقيه فذكرته له بأوصافه الحميدة وما عنده من الحب والثناء ومعرفة حقه على المسلمين أجمع وعلى الملوك خصوصا في تسهيل سبيل الحج وحماية البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود أحسن الله جزاءه ومثوبته ثم بلغني أنّ السلطان بإفريقية صدّ أهلي وولدي عن اللحاق بي اغتباطا بمكاني وطلبا لفيئتي إلى بابه ورجوعي فتطارحت على هذا السلطان في وسيلة شفاعة تسهل منه الاذن فاسعفني بذلك وخاطبت ذلك السلطان كان الله له أغبطه بمودّة هذا السلطان والعمل على مواصلته ومهاداته كما كان بين سلفهم في الدولتين فقبل مني وبادر إلى اتحافه بمقرّبات أفليس عندنا في المغرب تحفة تطرف بها ملوك الشرق الا الجياد العرب وأمّا ما سوى ذلك من أنواع الطرف والتحف بالمغرب فكثير لديهم أمثاله ويقبح أن يطرف عظماء الملوك بالتافه المطروح لديهم واختار لتلك سفينته التي أعدّها لذلك وأنزل بها أهلي وولدي بوسيلة هذا السلطان أيده الله لسهولة سبيل البحر وقرب مسافته فلما قاربوا مرسى الاسكندرية عاقتهم عواصف الرياح عن احتلال السفينة وغرق معظم ما فيها من الحيوان والبضائع وهلك أهلي وولدي فيمن هلك ونفقت تلك الجياد وكانت رائعة الحسن صافية النسب وسلم من ذلك المهلك رسول جاء من ذلك السلطان لمدّ العهد وتقرّر المودّة فتلقى بالقبول والكرامة وأوسع النزل والقرى ثم اعتزم على العودة إلى مرسلة فانتقي السلطان ثيابا من الوشيّ المرقوم من عمل العراق والاسكندرية يفوت القيمة واستكثر منها واتحف بها السلطان ملك افريقية على يد هذا الرسول على عادة عظماء الملوك في اتحافهم وهداياهم وخاطبت ذلك السلطان معه يحسن الثناء على قصده وجميل موقع هديته من السلطان واستحكام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 مودّته له وأجابني بالعذر من الموقع وأنه مستأنف من الإتحاف للسلطان واستحكام مودّته لما يسره الحال فلما قدم الحاج من المغرب سنة ثمان وثمانين وصل فيهم من كبار الغرب بدولته وأبناء الأعاظم المستبدّين على سلفه عبيد بن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم بهدية من المقرّبات رائقة الحلي رائعة الأوصاف منتخبة الأجناس والأنساب غريبة الألوان والأشكال فاعترضها السلطان وقابلها بالقبول وحسن الموقع وحضر الرسول بكتابه فقرئ وأكرم حامله وأنعم عليه بالزاد لسفر الحج وأوصى أمراء المحمل فقضى فرضه على أكمل الأحوال وكانت أهمّ أمنياته ثم انقلب ظافرا بقصده وإعادة السلطان إلى مرسلة بهدية نحو من الاولى من أجناس تلك الثياب ومستجادها مما يجاوز الكثيرة ويفوت واستحكمت عقدة المودّة بين هذين السلطانين وشكرت الله على ما كان فيها من أثر مسعاي ولو قلّ وكان وصل في جملة الحاج من المغرب كبير العرب من هلال وهو يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح الموطنين بضواحي قسنطينة وبجاية والزاب في وفد من بنيه وأقربائه ووصل في جملتهم أيضا عون بن يحيى بن طالب بن مهلهل من الكعوب أحد شعوب سليم الموطنين بضواحي تونس والقيروان والجريد وبنو أبيه فقضوا فرضهم أجمعون وانقلبوا إلى مواطنهم أواسط شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانين واطردت أحوال هذه الدولة على أحسن ما يكون والله متولي أمرها بمنه وكرمه انتهى. حوادث مكة وأمرائها قد تقدّم لنا أنّ ملك مكة سار في هذه الاعصار لبني قتادة من بني مطاعن الهواشم بني حسن وذلك منذ دولة الترك وكان ملكهم بها بدويا وهم يعطون الطاعة لملك مصر ويقيمون مع ذلك الدولة العباسية للخليفة الّذي ينصبه الترك بمصر إلى أن استقرّ أمرها آخر الوقت لأحد بن عجلان من رميثة بن أبي نمى أعوام سنة ستين وسبعمائة بعد أبيه عجلان فأظهر في سلطانه عدلا وتعففا عن أموال الناس وقبض أيدي أهل العيث والظلم وحاشيتهم وعبيدهم وخصوصا عن المجاورين وأعانه على ذلك ما كان له من الشوكة بقوّة أخواله ويعرفون بني عمر من اتباع هؤلاء السادة ومواليهم فاستقام أمره وشاع بالعدل ذكره وحسنت سيرته وامتلأت مكة بالمجاورين والتجار حتى غصت بيوتها بهم وكان عنان ابن عمه مقامس بن رميثة ومحمد ابن عمه مقامس بن رميثة ينفسون عليه ما آتاه الله من الخير ويحدون في أنفسهم إذ ليس يقسم لهم برضاهم في أموال جبايته فتنكروا له وهموا بالانتقاض فتقبض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 عليهم وكان لهم حلف مع أخيه محمد بن عجلان فراوده على تركهم أو حبسهم فحبسوا ولبثوا في محبسهم ذلك حولا أو فوقه ثم نقبوا السجن ليلا وفرّوا فأدركوا من ليلتهم وأعيدوا الى محبسهم وأفلت منهم عنان بن مقامس وخجا إلى مصر سنة ثمان وثمانين صريخا بالسلطان وعن قليل وصل الخبر بوفاة أحمد بن عجلان على فراشه وأنّ أخاه كبيش بن عجلان نصب ابنه محمدا مكانه وقام بأمره وانه عمد إلى هؤلاء المعتقلين فسمهم صونا للامر عنهم لمكان ترشيحهم فنكر السلطان ذلك وسخطه من فعلاتهم وافتياتهم ونسب إلى كبيش وأنه يفسد مكة بالفساد بين هؤلاء الأقارب ولما خرج الحاج سنة ثمان وثمانين أوصى أمير حاج بعزل الصبيّ المنصوب والاستبدال عنه بابن عنان بن مقامس والقبض على كبيش ولما وصل الحاج إلى مكة وخرج الصبيّ لتلقي المحمل الخلافيّ وقد أرصد الرجال حفافيه للبطش بكبيش وأميره المنصوب فقعد كبيش عن الحضور وجاء الصبيّ وترجل عن فرسه لتقبيل الخف من راحلة المحمل على العادة فوثب به أولئك المرصدون طعنا بالخناجر يظنونه كبيشا ثم غابوا فلم يوقف لهم على خبر وتركوه طريحا بالبطحاء ودخل الأمير إلى الحرم فطاف وسعي وخلع على عنان بن مقامس الامارة على عادة من سلف من قومه ونجا كبيش إلى جدّة من سواحل مكة ثم لحق بأحياء العرب المنتبذين ببقاع الحجاز صريخا فقعدوا عن نصرته وفاء بطاعة السلطان وافترق أمره وخذله عشيرة وانقلب الأمير بالحاج إلى مصر فعنفه السلطان على قتله الصبيّ فاعتذر بافتيات أولئك الرجال عليه فعذره وجاء كبيش بعد منصرف الحاج وقد انضم اليه أوباش من العرب فقعد بالمرصد يخيف السابلة والركاب والمسافرين ثم زحف إلى مكة وحاصرها أوّل سنة تسع وثمانين وخرج عنان بن مقامس بعض الأيام وبارزه فقتله واضطرب الأمر بمكة وامتدّت أيدي عنان والأشرار معه إلى أموال المجاورين فتسلطوا عليها ونهبوا زرع الأمراء هنالك وزرع السلطان للصدقة وولى السلطان علي بن عجلان واعتقله حسما لمادّة طوارق الفساد عن مكة واستقرّ الحال على ذلك إلى أن كانت فتنة الناصر كما نذكر أن شاء الله تعالى انتهى. انتقاض منطاش بملطية ولحاقه بسيواس ومسير العساكر في طلبه كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الّذي مرّ ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 الناصر محمد بن قلاون وربيا في كفالة أمّهما وكان اسم تمرتاي محمدا وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف الى أنّ وليّ بحلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان وذلك انه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي واجتمعوا فسار اليهم وأمدّه السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم الى الدربند ثم كرّوا على العساكر فهزموها ونهبوها في المضايق وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية ولما قعد على الكرسي واستبدّ بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهمّ به ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان وكان سودون باق من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبيته وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرتاي فرعا لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وانه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم وانطلق الى قاعدة عمله بملطية ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وربما داخل أمراء التركمان في ذلك ونمي الخبر الى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبدّ على صبيّ من أعقاب بني أرشي ملوكها من عهد هلاكو قد اعصوصب عليه بقية من احياء التتر الذين كانوا حامية هنالك مع الشحنة فيها كما نذكره ولما وصلت رسل منطاش وكتبه الى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلا وفدا من أصحابه في إتمام الحديث معه فخرج منطاش الى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلا فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرّأ من منطاش وأقام دعوة السلطان في البلد وبلغ الخبر الى منطاش فاضطرب ثم استمرّ وسار مع وفد القاضي الى سيواس فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار الى مغالطة السلطان عما أتاه من مداخلة منطاش وقبض عليه وحبسه وسرح السلطان سنة تسع وثلاثين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة والطنبقا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف وأوعز الى الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكره الى انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعا وكان يومئذ ملك التتر بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جفطاي قد زحف الى العراقين وآذربيجان وملك توريز عنوة واستباحها وهو يحاول ملك بغداد فسارت هذه العساكر تورّي بغزوه ودفاعه حتى إذا بلغوا حلب أتى اليهم الخبر بأنّ تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان الى جهة سيواس واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها فبادر القاضي الى اطلاق منطاش لوقته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 وقد كان أيام حبسه يوسوس اليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى جنح الى قوله فبعث لأحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة ابن اريثا ابن أوّل فسار اليهم واستجاشهم على عسكر السلطان وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن اريثا وبلده ووصلت العساكر خلال ذلك الى سيواس فحاصروها أياما وضيقوا عليها وكادت أن تلقي باليد ووصل منطاش أثر ذلك باحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم ونالوا منهم وجلا الناصري في هذه الوقائع وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام وبطء الظفر وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفئوا على تعبيتهم وسار بعض التتر في اتباعهم فكرّوا عليهم واستلحموهم وخلصوا الى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدوّ ويمحوا أثر الفتنة والله تعالى أعلم. نكبة الجوباني واعتقاله بالإسكندرية كان الأمراء الذين حاصروا سيواس قد لحقهم الضجر والسآمة من طول المقام وفزع قردم الطنبقا [1] المعلم منهم الى الناصري مقدم العساكر بالشكوى من السلطان فيما دعاهم اليه من هذا المرتكب وتفاوضوا في ذلك مليا وتداعوا الى الإفراج عن البلد بعد أن بعثوا الى القاضي بها واتخذوا عنده يدا بذلك وأوصوه بمنطاش والإبقاء عليه ليكون لهم وقوفا للفتنة وعلم يونس الدوادار أنهم في الطاعة فلم يسعه خلافهم ففوّض لهم ولما انتهى الى حلب غدا عليه دمرداش من أمرائها فنصح له بأن الجوباني نائب دمشق مداخل للناصر في تمريضه في الطاعة وأنهما مصرّان على الخلاف وقفل يونس الى مصر فقص على السلطان نصيحته واستدعى دمرداش فشافه السلطان بذلك واطلع منه على جلي الخبر في شأنهما وكان للجوباني مماليك أوغاد قد أبطرتهم النعمة واستهواهم الجاه وشرهوا الى التوثب وهو يزجرهم فصاروا الى اغرائه بالحاجب يومئذ طرنطاي فقعد في بيته عن المجلس السلطاني وطير بالخبر الى مصر فاستراب الجوباني وسابقه بالحضور عند السلطان لينضح عنه ما علق به من الأوهام وأذن له في ذلك فنهض من دمشق على البريد في ربيع سنة تسعين ولما انتهى الى سرياقوس أزعج اليه استاذ داره بهادر المنجكي فقبض عليه وطير به السفن الى الاسكندرية وأصبح السلطان من الغد فقبض على قردم والطنبقا المعلم وألحقهما به فحبسوا هنالك جميعا   [1] كذا بالأصل ويرد هذا الاسم تارة طنبقا وطورا الطنبغا وهو لقب تركي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 وانحسم ما كان يتوقع من انتقاضهم وولى السلطان مكان الجوباني بدمشق طرنطاي الحاجب ومكان قردم بمصر ابن عمه مجماس ومكان المعلم دمرداش واستمرّ الحال على ذلك. فتنة الناصري واستيلاؤه على الشام ومصر واعتقال السلطان بالكرك لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب واضطرب وشرع في أسباب الانتقاض ودعا اليه من يشيع الشر وسماسرة الفتن من الأمراء وغيرهم فأطاعوه وافتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري والانحراف عنه لما كان منه في نكبته وإغراء السلطان به ثم ولايته مكانه ومن وظائف الحاجب في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يريد الانتقاض من ولاته فأظلم الجوّ بين هؤلاء الرهط وبين المظفري وتفاقم الأمر وطير بالخبر الى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما ويسكن الثائرة وحين سمعوا بمقدمه ارتباوا وارتبكوا في أمرهم وقدم تلكتمر فتلقاه الناصري وألقى اليه كتاب السلطان بالندب الى الصلح مع الحاجب والإغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان وملاطفته للأمراء حتى وقف عليه ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم وباكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتمّ الصلح بينهم وتذهب الهواجس والنفرة فدعاه الناصر الى بعض خلواته وبينما هو يحادثه وإذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب وفتكوا به وتولى كبر ذلك انبقا الجوهري واتصلت الهيعة فوجم تلكتمر ونهض الى محل نزوله واجتمع الأمراء الى الناصري واعصوصبوا عليه ودعاهم الى الخلعان فأجابوا وذلك في محرم سنة احدى وتسعين واتصل الخبر بطرابلس وبها جماعة من الأمراء يرومون الانتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها وجمع الذين تمالئوا عليها وعمدوا الى الإيوان السلطاني المسمى بدار السعادة وقبضوا على النائب وحبسوه ولحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس وأمرائها وفعل مثل ذلك أهل حلب وحمص وسائر ممالك الشام وسرّح السلطان العساكر لقتالهم فسارا يتمش الاتابك ويونس الدوادار والخليلي جركس أمير الماخورية وأحمد بن بيبقا أمير مجلس وايدكاز صاحب الحجاب فيمن اليهم من العسارك وانتخب من أبطال مماليكهم وشجعانهم خمسمائة مقاتل واستضافهم الى الخليلي وعقد لهم لواءه المسمى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 بالشاليش وأزاح عللهم وعلل سائر العساكر وساروا على التعبية منتصف ربيع السنة وكان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش وكان مقيما بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة والخلاف فجاء وملأه مبرة وإحسانا واستنفر طوائف التركمان والعرب ونهض في جموعه يريد دمشق وطرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالاخبار ويستحث العساكر من مصر على خلع نائبها الأمير الصفوي وبينه وبين الناصر علاقة وصحبة فاسترابوا به وتقبضوا عليه ونهبوا بيته وبعثوا به حبيسا الى الكرك وولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني كان مستخدما عند بندمر هو وأبوه وولي لهذا العهد على نابلس وما يجاورها فنقلوه الى غزة ثم تقدّموا الى دمشق واختاروا من القضاة وفدا أوفدوه على الناصري وأصحابه للإصلاح فلم يجيبوا وأمسكوا الوفد عندهم وساروا للقاء ولما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا وايدكاز الحاجب ومن معهما الى القوم فساروا معهم واتبعهم مماليك الأمراء وصدق القوم الحملة على من بقي فانفضوا ولجأ ايتمش الى قلعة دمشق فدخلها وكان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج اليه وذهب يونس حيران وقد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء وكان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه وأحيط بجركس الخليلي ومماليك السلطان حوله وقد أبلوا في ذلك الموقف واستلحم عامّتهم فخلص بعض العدوّ اليه وطعنه فأكبه ثم احتز رأسه وذهب ذلك الجمع شعاعا وافترقت العساكر في كل وجه وجيء بهم أسرى من كلّ ناحية ودخل الناصري وأصحابه دمشق لوقتهم واستولوا عليها وعاثت عساكرهم من العرب والتركمان في نواحيها وبعث اليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله وبعث اليهم برأسه وأوعزوا الى نائب القلعة بحبس ايتمش عنده وفرّقوا المحبوسين من أهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق وصفد وحلب وغيرها وأظهر ابن باكيش دعوته بغزة وأخذ بطاعتهم ومرّ به انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجيا من الوقعة الى مصر فقبض عليه وحبسه بالكرك واستعدّ السلان للمدافعة وولى دمرداش اتابكا مكان ايتمش وقرماش الجندار دوادار مكان يونس وعمر سائر المراتب عمن فقد منها وأطلق الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد وأعاده الى خلافته وعزل [1] المنصوب مكانه وأقام الناصري وأصحابه بدمشق أياما ثم أجمعوا المسير الى مصر ونهضوا اليها بجموعهم وعميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بليس ثم تقدّموا الى بركة الحاج وخيموا بها لسبع من جمادى الأخيرة من السنة وبرز السلطان في مماليكه ووقف   [1] بياض بالأصل، وسوف يتضح لنا فيما يلي أن الخليفة المعزول هو أمير حاج بن الأشرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 أمام القلعة بقية يومه والناس يتسايلون الى الناصري من العساكر ومن العامّة حتى غصت بهم بسائط البركة واستأمن أكثر الأمراء مع السلطان الى الناصري فأمنهم واطلع السلطان على شأنهم وسارت طائفة من العسكر وناوشوهم القتال وعادوا منهزمين الى السلطان وارتاب السلطان بأمره وعاين انحلال عقدته فدس الى الناصري بالصلح وبعث اليه بالملاطفة وأن يستمرّ على ملكه ويقوم بدولته خدمه وأعوانه وأشار بأن يتوارى بشخصه أن يصينه أحد من غير البيبقاوية بسوء فلما غشيه الليل أذن لمن بقي معه من مماليكه في الانطلاق ودخل الى بيته ثم خرج متنكرا وسرى في غيابات المدينة وباكرهم الناصري وأصحابه القلعة فاستولوا عليها ودعوا أمير حاج ابن الأشرف فأعادوه الى التخت كما كان ونصبوه للملك ولقبوه المنصور وبادروا باستدعاء الجوباني والأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير ووصلوا ثاني يومهم وركب الناصري وأصحابه للقائهم وأنزل الجوباني عنده بالاصطبل وأشركه في أمره وأصبحوا ينادون بطلب السلطان الظاهر بقية يومهم ذلك ومن الغد حتى دلّ عليه بعض مماليك الجوباني وحين رآه قبل الأرض وبالغ في الأدب معه وحلف له على الأمان وجاء به الى القلعة فأنزله بقاعة الغصة واشتوروا في أمره وكان حرص منطاش وزلار على قتله أكثر من سواهما وأبى الناصري والجوباني الا الوفاء بما اعتقد معهم واستقرّ الجوباني أتابك والناصري رأس النوبة الكبرى ودمرداش الاحمدي أمير سلاح وأحمد بن بيبقا أمير مجلس والابقا العثماني دوادار وانبقا الجوهري استاذدار وعمرت الوظائف والمراتب ثم بعثوا زلار نائبا على دمشق وأخرجوه اليها وبعثوا كتبقا البيبقاوي على حلب وكان السلطان قد عزله عن طرابلس واعتقله بدمشق فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه وقبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق وسودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية وبعثوا آخرين الى الشام فحبسوا هنالك وتتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم وأشخصوا بقيتهم الى الشام يستخدمون عند الأمراء وقبضوا على استاذدار محمود قهرمان الدولة وقارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم ثم أودعوه السجن وهم مع ذلك يتشاورون في مستقرّ السلطان بين الكرك وقوص والاسكندرية حتى أجمعوا على الكرك ووروا بالإسكندرية حذرا عليه من منطاش فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصدا وبات عامة ليله وركب الجوباني مع السلطان من القلعة وأركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه الى الكرك وسار معه برهة من الليل مشيعا ثم رجع وشعر منطاش من أمره وطوى على الغش وأخذ ثياب الثورة كما يذكر ونجا السلطان الى الكرك في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 فلّ من غلمانه ومواليه ووكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه وولاه على الكرك وأوصاه بخدمته ومنعه ممن يرومه بسوء فتقدّمه الى الكرك وأنزله القلعة وهيأ له النزول بما يحتاج اليه وأقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد أن شاء الله تعالى وجاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق وانهم ظفروا بهم وحبسوا جميعا ومنه أيبقا الصغير والله تعالى أعلم. ثورة منطاش واستيلاؤه على الأمر ونكبة الجوباني وحبس الناصري والأمراء البيبقاوية بالإسكندرية كان منطاش منذ دخل مع الناصري الى مصر متربصا بالدولة طاويا جوانحه على الغدر لأنهم لم يوفروا حظه من الاقطاع ولم يجعلوا له اسما في الوظائف حين اقتسموها ولا راعى له الناصري حق خدمته ومقارعته الأعداء وكان ينقم عليه مع ذلك إيثاره الجوباني واختصاصه فاستوحش وأجمع الثورة وكان مماليك الجوباني لما حبس أميرهم وانتقض الناصري بحلب لحقوا به وجاءوا في جمله واشتملوا على منطاش فكان له بهم في ذلك السفر أنس وله اليهم صفو فداخل جماعة منهم في الثورة وحملهم على صاحبهم وتطفل على الجوباني في المخالصة بغشيان مجلسه وملابسة ندمائه وحضور مائدته وكان البيبقاوية جميعا ينقمون على الناصري ويرون أنه مقصر في الرواتب والاقطاع وطووا من ذلك على النكث ودعاهم منطاش الى التوثب فكانوا اليه أسرع وزينوه له وقعدوا عنه عند الحاجة ونمي الخبر الى الناصري والجوباني فعزموا على اشخاص منطاش الى الشام فتمارض وتخلف في بيته أياما يطاولهم ليحكم التدبير عليهم ثم عدا عليه الجوباني يوم الاثنين وقد أكمن في بيته رجالا للثورة فقبضوا على الجوباني وقتلوه لحينه وركب منطاش الى الرميلة فنهب مراكب الأمراء بباب الاصطبل ووقف عند مئذنة المدرسة الناصرية وقد شحنها ناشبة ومقاتلة مع أمير من أصحابه ووقف في حمايتهم واجتمع اليه من داخله في الثورة من الاشرفية وغيرهم واجتمع اليه من كان بقي من مماليك الظاهر واتصلت الهيعة فركب الأمراء البيبقاوية من بيوتهم ولما أفضوا الى الرميلة وقفوا ينظرون مآل الحال وبرز الناصري من الاصطبل فيمن حضر وأمر الأمراء بالحملة عليهم فوقفوا فأحجم هو عن الحملة وتخاذل أصحابه وأصحاب منطاش ومال الى الناصري مماليك الجوباني لنكبة صاحبهم فهدّدهم منطاش بقتله فافترقوا وتحاجز الفريقان آخر النهار وباكروا شأنهم من الغد وحمل الناصري فانهزم وأقاموا على ذلك ثلاثا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 وجموع منطاش في تزايد ثم انفض الناس عن الناصري عشية الأربعاء لسبعين يوما من دخول القلعة واقتحمها عليه منطاش ونهب بيوته وخزائنه وذهب الناصري حيران وأصحابه يرجعون عنه وباكر البيبقاوية مجلس منطاش من الغد فقبض عليهم وسيق من تخلف منهم عن الناصري أفذاذا وبعث بهم جميعا الى الاسكندرية وبعث جماعة ممن حبسهم الناصري الى قوص ودمياط ثم جدّد البيعة لأمير حاج المنصور ثم نادى في مماليك السلطان بالعرض وقبض على جماعة منهم وفرّ الباقون وبعث بالمحبوسين منهم الى قوص وصادر جماعة من أهل الأموال وأفرج عن محمود استاذدار وخلع عليه ليوليه في وظيفته ثم بدا له في أمره وعاود مصادرته وامتحانه واستصفى منه أموالا عظيمة يقال ستين قنطارا من الذهب ولما استقلّ بتدبير الدول عمر الوظائف والمراتب وولى فيها بنظره وبعث عن الاشقتمري من الشام وكان أخوه تمرتاي قد آخى بينهما فولاه النيابة الكبرى وعن استدمر بن يعقوب شاه فجعله أمير سلاح وعن انبقا الصفوي فولاه صاحب الحجاب واختص الثلاثة بالمشورة وأقامهم أركانا للدولة وكان إبراهيم بن بطلقتمر أمير جندار قد داخله في الثورة فرعى له ذلك وقدّمه في أمراء الألوف ثم بلغه أنه تفاوض مع الأمراء في الثورة به واستبداد السلطان فقبض عليه ثم أشخصه الى حلب على إمارته هناك وكان قد اختص ارغون السمندار وألقى عليه محبته وعنايته فغشيه الناس وباكروا بابه وعظم في الدولة صيته ثم نمي عنه أنه من المداخلين لإبراهيم أمير جندار فسطا به وامتحنه أن له على هؤلاء المداخلين لإبراهيم فلاذ بالإنكار وأقام في محبسه وأفرج عن سودون النائب فجاء الى مصر فألزمه بيته واستمرّ الحال على ذلك انتهى. ثورة بذلار بدمشق ولما بلغ الخبر الى بذلار بدمشق باستقلال منطاش بالدولة أنف من ذلك وارتاب وداخلته الغيرة جمع الانتقاض وكاتب نواب الممالك بالشام في حلب وغيرها يدعوهم الى الوفاق فأعرضوا عنه وتمسكوا بطاعتهم وكان الأمير الكبير بدمشق جنتمر أخوطاز يداخل الأمراء هناك في التوثب به وتوثق منهم للدولة وبلغ الخبر الى بذلار فركب في مماليكه وشيعته يروم القبض عليه فلم يتمكن من ذلك واجتمعوا وظاهرهم عامّة دمشق عليه فقاتلوه ساعة من نهار ثم أيقن بالغلب والهلكة فألقى بيده وقبضوا عليه وطيروا بالخبر الى منطاش وهو صاحب الدولة فأمر باعتقاله وهلك مريضا في محبسه وولى منطاش جنتمر نيابة دمشق واستقرّت الأحوال على ذلك والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 خروج السلطان من الكرك وظفره بعساكر الشام وحصاره دمشق ولما بلغ الخبر الى السلطان الظاهر بالكرك بأنّ منطاش استقلّ بالدولة وحبس البيبقاوية جميعا وأذال منهم بأصحابه أهمته نفسه وخشي غائلته ولم يكن عند منطاش لأول استقلاله أهمّ من شأنه وشأن السلطان فكتب الى حسن الكشكي نائب الكرم بقتله وقد كان الناصري أوصاه في وصيته حين وكله به أن لا يمكنه ممن يرومه بسوء فتجافى عن ذلك واستدعى البريدي وفاوض أصحابه وقاضي البلد وكاتب السر فأشاروا بالتحرّز من دمه جهد الطاقة فكتب الى منطاش معتذرا بالخطر الّذي في ارتكابه دون اذن السلطان والخليفة فأعاد عليه الكتاب مع كتاب السلطان والخليفة بالاذن فيه واستحثه في الاجهاز عليه فأنزل البريدي وعلله بالوعد وطاوله يرجو المخلص من ذلك وكانوا يطوون الأمر عن السلطان شفقة وإجلالا فشعر بذلك وأخلص اللجأ الى الله والتوسل بإبراهيم الخليل لأنه كان يراقب مدفنه من شباك في بيته وانطلق غلمانه في المدينة حتى ظفروا برجال داخلوهم في حسن الدفاع عن السلطان وأفاضوا فيهم فأجابوا وصدقوا ما عاهدوا عليه واتعدوا لقتال البريدي وكان منزله بإزاء السلطان فتوافوا ببابه ليلة العاشر من رمضان وهجموا عليه فقتلوه ودخلوا برأسه الى السلطان وشفار سيوفهم دامية وكان النائب حسن الكشكي يفطر على سماط السلطان تأنيسا لهم فلما رآهم دهش وهموا بقتله فأجاره السلطان وملك السلطان أمره بالقلعة وبايعه النائب وصدع اليه أهل المدينة من الغد فبايعوه ووفد عليه عرب الضاحية من بني عقبة وغيرهم فأعطوه طاعتهم وفشا الخبر في النواحي فتساقط اليه مماليكه من كلّ جهة وبلغت أخباره الى منطاش فأوعز الى ابن باكيش نائب غزة أن يسير في العساكر الى الكرك وتردّد السلطان بين لقائه أو النهوض الى الشام ثم أجمع المسير الى دمشق فبرز من الكرك منتصف شوّال فعسكر بالقبة وجمع جموعه من العرب وسار في ألف أو يزيدون من العرب والترك وطوى المراحل الى الشام وسرّح جنتمر نائب دمشق العساكر لدفاعه فيهم أمراء الشام وأولاد بندمر فالتقوا بشقحب وكانت بينهم واقعة عظيمة أجلت عن هزيمة أهل دمشق وقتل الكثير منهم وظفر السلطان بهم واتبعهم الى دمشق ونجا الكثير منهم الى مصر ثم أحس السلطان بأن ابن باكيش وعساكره في اتباعه فكرّ اليهم وأسرى ليلته وصبحهم على غفلة في عشر ذي القعدة فانهزموا ونهب السلطان وقومه جميع ما معهم وامتلأت أيديهم واستفحل أمره ورجع الى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 دمشق ونزل بالميدان وثار العوام وأهل القبيبات ونواحيها بالسلطان وقصدوه بالميدان فركب ناجيا وترك أثقاله فنهبها العوام وسلبوا من لقوة من مماليكه ولحق بقبة بلبغا فأقام بها وأغلقوا الأبواب دونه فأقام يحاصرهم الى محرّم سنة اثنتين وتسعين وكان كمشيقا الحموي نائب حلب قد أظهر دعوته في عمله وكاتبه بذلك عند ما نهض من الكرك الى الشام كما نذكره ولما بلغه حصاره لدمشق تجهز للقائه واحتمل معه ما يزيح علل السلطان من كل صنف وأقام له أبهة ووصل اينال اليوسفي وقجماش ابن عمّ السلطان وجماعة من الأمراء كانوا محبوسين بصفد وكان مع نائبها جماعة من مماليك السلطان يستخدمون فغدروا به وأطلقوا من كان من الأمراء في سجن صفد كما نذكر ولحقوا بالسلطان وتقدّمهم اينال وهو محاصر لدمشق فأقاموا معه والله تعالى أعلم. ثورة المعتقلين بقوص ومسير العساكر اليهم واعتقالهم ولما بلغ الخبر الى الأمراء المحبوسين بقوص خلاص السلطان من الاعتقال واستيلاؤه على الكرك واجتماع الناس اليه فثاروا بقوص أوائل شوّال من السنة وقبضوا على الوالي بها وأخذوا من مودع القاضي ما كان فيه من المال وبلغ خبرهم الى مصر فسرّح اليهم العساكر ثم بلغه أنهم ساروا الى أسوان وشايعوا الوالي بها حسن بن قرط فلحن [1] لهم بالوعد وعرض بالوفاق فطمعوا واعتزموا أن يسيروا من وادي القصب من الجهة الشرقية الى السويس ويسيروا من هناك الى الكرك ولما وصل خبر ابن قرط أخر منطاش سندمر بن يعقوب شاه ثامن عشرين [2] من السنة وانكفأ جموعه وسار على العدوة الشرقية في جموعه لاعتراضهم فوصل الى قوص وبادر ابن قرط فخالفه الى منطاش بطاعته فأكرمه وردّه على عمله فوافى ابن يعقوب شاه بقوص وقد استولى على النواحي واستنزل الأمراء المخالفين ثم قبض عليهم وقتل جميع من كان معهم من مماليك السلطان الظاهر ومماليك ولاة الصعيد وجاء بالامراء الى مصر فدخل بهم منتصف ذي الحجة من السنة فأفرج عن أربعة منهم سوماي اللاي وحبس الباقين والله تعالى أعلم.   [1] لحن اي أشار قال الشاعر: ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يفهمه ذوو الألباب ورحم الله المؤرخ غلبت عليه صناعة الترسل فكأن كتابه هذا كتاب تاريخ وأدب فهو نعم الأدب (من خط الشيخ العطار) [2] بياض بالأصل ومكان البياض اسم الشهر ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا الشهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 ثورة كمشيقا بحلب وقيامه بدعوة السلطان قد كنا قدّمنا أن الناصري ولى كمشيقا رأس نوبة نيابة حلب ولما استقل منطاش بالدولة ارتاب ودعاه بذلار لما ثار بدمشق الى الوفاق فامتنع ثم بلغه الخبر بخلاص السلطان من الاعتقال بالكرك فأظهر الانتقاض وقام بدعوة السلطان وخالفه إبراهيم بن أمير جندار واعصوصب عليه أهل باقوسا من أرباض حلب فقاتلهم كمشيقا جميعا وهزمهم وقتل القاضي ابن أبي الرضا وكان معه في ذلك الخلاف واستقل بأمر حلب وذلك في شوّال من السنة ثم بلغه أن السلطان هزم عساكر دمشق وابن باكيش وانه مقيم بقبة بلبغبا محاصرا لدمشق بعد ان نهبوا أثقاله وأخرجوه من الميدان فتجهز من حلب اليه في العساكر والحشود وجهز له جميع ما يحتاج اليه من المال والأقمشة والسلاح والخيل والإبل وخيام الملك بفرشها وما عونها وآلات الحصار وتلقاه السلطان وبالغ في تكرمته وفوض اليه في الاتابكية والمشورة وقام معه محاصرا لدمشق واشتدّ الحصار على أهل دمشق بعد وصوله واستكثار السلطان من المقاتلة وآلات الحصار وخرب كثيرا من جوانبها بحجارة المجانيق وتصدّعت حيطانها وأضرم كثيرا من البيوت على أربابها فاحترقت واستولى الخراب والحريق على القبيبات أجمع وتفاحش فيها واشتدّ أهل القتال والدفاع من فوق الأسوار وتولى كبر ذلك منهم قاضي الشافعية أحمد بن القرشي بما أشار عليهم وفاه أهل العلم والدين بالنكير فيه وكان منطاش لما بلغه حصار دمشق بعث طنبقا الحلي دوادار الأشرف بمدد من المال يمدّ به العساكر هنالك وأقام معهم ثم بعث جنتمر الى أمير آل فضل يعبر بن جبار يستنجد به فجاء لقتالهم وسار كمشيقا نائب حلب فلقيه وفض جموعه وأسر خادمه وجاء به أسيرا فمن عليه السلطان وأطلقه وكساه وحمله وردّه الى صاحبه واستمرّ حصار دمشق الى أن كان ما نذكره ان شاء الله تعالى. ثورة انيال بصفد بدعوة السلطان كان انيال لما انهزم يوم واقعة دمشق فرّ الى مصر ومرّ بغزة فاعتقله ابن باكيش وحبس بالكرك فلما استولى الناصري أشخصه الى صفد فحبس بها مع جماعة من الأمراء وولى على صفد قلطبك النظامي فاستخدم جماعة من مماليك برقوق واتخذ منهم بلبغا السالمي دوادار فلما بلغه خلاص السلطان من الاعتقال ومسيره الى الشام داخل بلبغا مماليك استاذه قطلوبقا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 الخلاف واللحاق بالسلطان وهرب منهم جماعة فركب قطلوبقا في اتباعهم وأبقى بلبغا السالمي دوادار وحاجب صفد فأطلقوا انيال وسائر المحبوسين من السلطان فملك أنيال القلعة ورجع قطلوبقا من اتباع الهاربين فوجدهم قد استولوا وامتنعوا وارتاب من مماليكه فسار عن صفد ونهب بيته ومخلفه ولحق بالشام فلقي الأمراء المنهزمين أمام السلطان بشقحب قاصدين مصر فسار معهم ولحق انيال بالسلطان من صفد بعد أن ضبطها واستخلف عليها وأقام مع السلطان والله تعالى أعلم. مسير منطاش وسلطانه أمير حاجي الى الشام وانهزامهم ودخول منطاش الى دمشق وظفر السلطان الظاهر بأمير حاجي والخليفة والقضاة وعوده لملكه ولما تواترت الأخبار بهزيمة عساكر الشام وحصار السلطان الظاهر دمشق وظهور دعوته في حلب وصفد وسائر بلاد الشام ثم وصلت العساكر المنهزمون وأولاد بندمر ونائب صفد واستحثوه وتواترت كتب جنتمر نائب دمشق وصريخه أجمع منطاش أمره حينئذ على المسير الى الشام فتجهز ونادى في العساكر وأخرج السلطان والخليفة والقضاة والعلماء سابع عشر ذي الحجة سنة احدى وتسعين وخيموا بالريدانية [1] من ناحية القاهرة حتى أزاح العلل واستخلف على القاهرة دواداره صراي تمر وأطلق يده في الحلّ والعقد والتولية والعزل واستخلف على القلعة بكا الاشرفي وعمد الى خزانة من خزائن الذخيرة بالقلعة فسدّ بابها ونقبها من أعلاها حتى صارت كهيئة الجب ونقل اليها من كان في سجنه من أهل دولة السلطان ونقل سودون النائب الى القلعة فأنزله بها وأمر بالقبض على من بقي من مماليك السلطان حيث كانوا فتسرّبوا في غيابات المدينة ولاذوا بالاختفاء وأوعز بسدّ كثير من أبواب الدروب بالقاهرة فسدّت ورحل في الثاني والعشرين من الشهر بالسلطان وعساكره على التعبية وطووا المراحل ونمي اليه أثناء طريقه أنّ بعض مماليك السلطان المستخدمين عند الأمراء مجمعون على التوثب ومداخلون لغيرهم فأجمع السطوة بهم ففرّوا ولحقوا بالسلطان ولما بلغ خبره مسيرهم السلطان وهو محاصر دمشق ارتحل في عساكره الى لقائهم ونزل قريبا من شقحب وأصبحوا   [1] الريدانية بالراء المهملة المسماة الآن بالحصوة خارج القاهرة (من خط الشيخ العطار) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 على التعبية وكمشيقا بعساكر حلب في ميمنة السلطان ومنطاش قد عبى جيشه وجعل السلطان أمير حاجي والخليفة والقضاة والرماة من ورائهم ووقف معهم تمارتمر رأس نوبة وسندمر بن يعقوب شاه أمير سلاح ووقف هو في طائفة من مماليكه وأصحابه في حومة المعترك فلما تراءى الجمعان حمل هو وأصحابه على ميمنة السلطان ففضوها وانهزم كمشيقا الى حلب ومرّوا في اتباعه ثم عطفوا على مخيم السلطان فنهبوه وأسروا قجماش ابن عمه كان هناك جريحا ثم حطم السلطان على الّذي فيه أمير حاجي والخليفة والقضاة فدخلوا في حكمه ووكل بهم واختلط الفريقان وصاروا في عمى من أمرهم والسلطان في لمة من فرسانه يخترق جوانب المعترك ويحطم الفرسان ويشردهم في كل ناحية وشرّاد مماليكه وأمرائه يتساقطون اليه حتى كثف جمعه ثم حمل على بقية العسكر وهم ملتئمون على الصفدي فهزمهم ولحقوا بدمشق وضرب خيامه بشقحب ولما وصل منطاش الى دمشق أوهم النائب جنتمر أنّ الغلب له وأنّ السلطان أمير حاجي على الأثر ونادى في العساكر بالخروج في السلاح لتلقيه وخرج من الغد موريا بذلك فركب اليهم السلطان في العساكر فهزمهم وأثخن فيهم واستلحم كثيرا من عامّة دمشق ورجع السلطان الى خيامه وبعث أمير حاجي بالتبري من الملك والعجز عنه والخروج اليه من عهدته فأحضر الخليفة والقضاة فشهدوا عليه بالخلع وعلى الخليفة بالتفويض الى السلطان والبيعة له والعود الى كرسيه وأقام السلطان بشقحب تسعا واشتدّ كلب البرد وافتقدت الأقوات لقلة الميرة فأجمع العود الى مصر ورحل يقصدها وبلغ الخبر الى منطاش فركب لاتباعه فلما أطلّ عليه أحجم ورجع واستمرّ السلطان لقصده وقدم حاجب غزة للقبض على ابن باكيش فقبض عليه ولما وافى السلطان غزة ولى عليها مكانه وحمله معتقلا وسار وهو مستطلع أحوال مصر حتى كان ما نذكره ان شاء الله تعالى. ثورة بكا والمعتقلين بالقلعة واستيلاؤهم عليها بدعوة السلطان الظاهر وعوده الى كرسيه بمصر وانتظام أمره كان منطاش لما فصل الى الشام بسلطانه وعساكره كما مرّ واستخلف على القاهرة دواداره سراي تمر وأنزله بالاصطبل وعلى القلعة بكا الاشرفي ووكله بالمعتقلين هنالك فأخذوا أنفسهم بالحزم والشدّة وبعد أيام نمي اليهم أنّ جماعة من مماليك السلطان مجتمعون للثورة وقد داخلوا مماليكهم فبيتوهم وقبضوا عليهم بعد جولة دافع فيها المماليك عن أنفسهم ثم تقبضوا على من داخلهم من مماليكهم وكانوا جماعة كثيرة وحدثت لهم بذلك رتبة واشتداد في الحزم فنادوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 بالوعيد لمن وجد عنده أحد من مماليك السلطان ونقلوا ابن أخت السلطان من بيت أمه الى القلعة وحبسوه وأوعزوا بقتل الأمراء المعتقلين بالفيوم فقتلوا وعميت عليهم أنباء منطاش والعساكر وبعثوا من يقتص لهم الطريق ويسائل الركبان واعتزموا على قتل المسجونين بالقلعة ثم تلاوموا في ذلك ورجعوا الى التضييق عليهم ومنع المتردّدين بأقواتهم فضاقت أحوالهم وضجروا وأهمتهم أنفسهم وفي خلال ذلك عثر بعضهم على منفذ الى سرب تحت الأرض يقضي الى حائط الاسطبل ففرحوا بذلك وتنسموا ريح الفرج ولما أظلتهم ليلة الأربعاء غرّة صفر سنة اثنتين وتسعين مرّوا في ذلك السرب فوجدوا فيه آلة النقب فنقبوا الحائط وأفضوا الى أعلى الاسطبل وتقدّم بهم خاصكي من أكابر الخاصكية وهجموا على الحراس فثاروا اليهم فقتلوا بعضهم بالقيود من أرجلهم وهرب الباقون ونادوا شعبان بكا نائب القلعة يوهمون أنه انتقض ثم كسروا باب الاسطبل الأعلى والأسفل وأفضوا الى منزل سراي تمر فأيقظه لغطهم وهلع من شأن بكا فأرمى نفسه من السور ناجيا ومرّ بالحاجب قطلوبقا ولحق بمدرسة حسن وقد كان منطاش أنزل بها ناشبة من التركمان لحماية الاسطبل وأجرى لهم الأرزاق وجعلهم لنظر تنكز رأس نوبة ثم هجم أصحاب بكا على بيت سراي تمر فنهبوا ماله وقماشه وسلاحه وركبوا خيله واستولوا على الاسطبل وقرعوا الطبول ليلتهم وقاتلهم بكا من الغد وسرب الرجال الى الطبلخانات فملكها ثم أزعجوه عنها وزحف سراي تمر وقطلوبغا الحاجب الى الاسطبل لقتالهم وبرزوا اليهم فقاتلوهم واعتصموا بالمدرسة واستولى بكا على أمره وبعث الى باب السر من المدرسة ليحرقه فاستأمن اليه التركمان الذين به فأنزلهم على الأمان وسرّب أصحابه في البلد لنهب بيوت منطاش وأصحابه فعاثوا فيها وتسلل اليه مماليك السلطان المختفون بالقاهرة فبلغوا ألفا أو يزيدون ثم استأمن بكا من الغد فأمنه سودون النائب وجاء به الى الناصري أمير سلاح ودمرداش وكان عنده فحبسهما بكا ثم وقف سودون على مدرسة حسن والأرض تموج بعوالم النظارة فاستنزل منها سراي تمر وقطلوبغا الحاجب فنزلا على أمانه وهمّ العوالم بهما فحال دونهما وجاء بهما الى بكا فحبسهما وركب سودون يوم الجمعة في القاهرة ونادى بالأمان والخطبة للسلطان فخطب له من يومه وأمر بكا بفتح السجون وإخراج من كان فيها في حبس منطاش وحكام تلك الدولة وهرب الوالي حسن بن الكوراني خوفا على نفسه لما كان شيعة لمنطاش على مماليك السلطان ثم عثر عليه بكا وحبسه مع سائر شيعة منطاش وأطلق جميع الأمراء الذين حبسهم بمصر ودمياط والفيوم ثم بعث الشريف عنان بن مقامس أمير بني حسن بمكة وكان محبوسا وخرج معهم فبعثه مع أخيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 أيبقا على الهجن لاستكشاف خبر السلطان ووصل يوم الأحد بعدها كتاب السلطان مع ابن صاحب الدرك سيف بن محمد بن عيسى العائدي باعداد الميرة والعلوفة في منازل السلطان على العادة وقص خبر الواقعة وأنّ السلطان توجه الى مصر وانتهى الى الرملة ثم وصل أيبقا أخو بكا يوم الأربعاء ثامن صفر بمثل ذلك وتتابع الواصلون من عسكر السلطان ثم نزل بالصالحية وخرج السلطان لتلقيه بالعكرشة ثم أصبح يوم الثلاثاء رابع صفر في ساحة القلعة وقلده الخليفة وعاد الى سريره ثم بعث عن الأمراء الذين كان حبسهم منطاش بالإسكندرية وفيهم الناصري والجوباني وابن بيبقا وقرادمرداش وأبغا الجوهري وسودون باق وسودون الطرنطاي وقردمر المعلم في آخرين متعدّدين واستعتبوا للسلطان فأعتبهم وأعادهم الى مراتبهم وولى انيال اليوسفي اتابكا والناصري أمير سلاح والجوباني رأس نوبة وسودون نائبا وبكاداودار وقرقماش استاذ دار وكمشيقا الخاصكي أمير مجلس وتطلميش أمير الماخورية وعلاء الدين كاتب سر الكرك كاتب سرّه بمصر وعمر سائر المراتب والوظائف وتوفي قرقماش فولى محمود استاذ داره الأوّل ورعى له سوابق خدمته ومحنة العدوّ له في محبته وانتظم أمر دولته واستوثق ملكه وصرف نظره الى الشام وتلافيه من مملكة العدوّ وفساده والله تعالى أعلم. ولاية الجوباني على دمشق واستيلاؤه عليها من يد منطاش ثم هزيمته ومقتله وولاية الناصري مكانه لما استقرّ السلطان على كرسيه بالقاهرة وانتظمت أمور دولته صرف نظره الى الشام وشرع في تجهيز العساكر لازعاج العدوّ منه وعين الجوباني لنيابة دمشق ورياسة العساكر والناصري لحلب لأنّ السلطان كان عاهد كمشيقا على اتابكية مصر وعين قرادمرداش لطرابلس مأمونا القلحطاوي لحماة فولى في جميع ممالك الشام ووظائفه وأمرهم بالتجهيز ونودي في العساكر بذلك وخرجوا ثامن جمادى الاولى من سنة اثنتين وتسعين وكان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن أمرائه وسائر عساكره وما زال يفشو حتى شاع وظهر بين الناس فانصرف هواهم الى السلطان وبعث في أثناء ذلك الأمير ايمازتمر نائبا على حلب فاجتمع اليه أهل كانفوسا وحاصر كمشيقا بالقلعة نحوا من خمسة أشهر وشدّ حصارها وأحرق باب القلعة والجسر ونقب سورها من ثلاثة مواضع واتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع ثم بعث العساكر الى بعلبكّ مع محمد بن سند مر في نفر من قرابته وجنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين ثم أوعز الى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 الى حصار صفد فسار اليها وبرز اليه جندها فقاتلوه وهزموه فجهز اليها العساكر مع ابقا الصفدي كبير دولته فسار اليها في سبعمائة من العساكر وقد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح الى الطاعة والاعتصام بالجماعة وكاتب السلطان بمغارمه ووعده فلما وصل الى صفد بعث الى نائبها بطاعته وفارق أصحاب منطاش ومن له هوى فيه وصفوا اليه وبات ليلته بظاهر صفد وارتحل من الغد الى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة وأمراء الشام معسكرون مع الجوباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه وجعله من أمراء الألوف ولما رجع أصحابه من صفد الى دمشق اضطرب منطاش وتبين له نكر الناس وارتاب بأصحابه وقبض على جماعة من الأمراء وعلى جنتمر نائب دمشق وابن جرجي من أمراء الألوف وابن قفجق الحاجب وقتله والقاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان واستوحش الناس ونفروا عنه واستأمنوا الى السلطان مثل محمد بن سندمر وغيره وهرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله وناظر الجيش وقد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أنّ السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش وأجمعوا الفرار مرّة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم وشرع منطاش في الفتك بالمنتمين الى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة وغيرهم وذبح جماعة من الجراكسة وهمّ بقتل اشمس فدفعه الله عنه وارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية الى الشام مع الجوباني يطوون المراحل والأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين اليهم حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه ودخلوا حدود الشام ثم ارتبك منطاش في أمره واستقرّ الخوف والهلع والاسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هاربا من دمشق في خواصه وأصحابه ومعه سبعون حملا من المال والأقمشة واحتمل معه محمد بن اينال وانتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به الى أبيه وكان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيما في أحيائه ومعه أحياء آل مر وأميرهم عنقا، فلحق بهم هنالك منطاش مستجيرا فأجاروه ونزل معهم ولما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه وملك القلعة ومعه مماليك السلطان معصوصبون عليه وأرسل الجوباني بالخبر فاغذ السير الى دمشق وجلس بموضع نيابته وقبض على من بقي من أصحاب منطاش وخدمه مع من كان حبس هو معهم ووصل الطنبقا الحلبي ودمرداش اليوسفي من طرابلس وكان منطاش استقدمهم وهرب قبل وصولهم وبلغ الخبر الى ايمازتمر وهو يحاصر حلب وأهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل ولحق بمنطاش وركب كمشيقا من القلعة اليهم بعد أن أصلح الجسر وأركب معه الحجاب وقاتل أهل كانفوسا ومن معهم من أشياع منطاش الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 ثلاثة أيام ثم هزموهم وقتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة وخرب كانفوسا فأصبحت خرابا وعمر القلعة وحصنها وشحنها بالأقوات وبعث الجوباني العساكر الى طرابلس وملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال وكذلك حماة وحمص ثم بعث الجوباني نائب دمشق وكافل الممالك الشامية الى يعبر بن جبار أمير العرب بإسلام منطاش وإخراجه من أحيائه فامتنع واعتذر فبرز من دمشق بالعساكر ومعه الناصري وسائر الأمراء ونهض الى مصر فلما انتهوا الى حمص أقاموا بها وبعثوا الى يعبر يعتذرون اليه فلج واستكبر وحال دونه وبعث اليه اشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر وجنتمر يرومون الثورة فركب الناصري الى دمشق وكبسهم وأثخن فيهم ورجع الى العسكر وارتحلوا الى سلمية واستمرّ يعبر في غلوائه وتردّدت الرسل بينهما فلم تغن ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة وحملت العساكر على منطاش والعرب فهزموهم الى الخيام واتبع دمرداش منطاش حتى جاوز به الحيّ وارتحلت العرب وحملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم وكان معهم آل على بجموعهم فنهبوهم من ورائهم وانهزموا وأفرد الجوباني مماليكه فأسره العرب وسيق الى يعبر فقتله ولحق الناصري بدمشق وأسر جماعة من الأمراء وقتل منهم أيبقا الجوهري ومأمون المعلم في عدد آخرين ونهب العرب مخيمهم وأثقالهم ودخل الناصري الى دمشق فبات ليلته وباكر من الغد آل علي في أحيائهم فكبسهم واستلحم منهم جماعة فثأر منهم بما فعلوه في الواقعة ثم بعث اليه السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة فقام بأمرها وأحكم التصريف في حمايتها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. اعادة محمود الى أستاذيةالدار واستقلاله في الدولة هذا الرجل من ناشئة الترك وولدانهم ومن أعقاب كراي المنصوري منهم شب في ظل الدولة ومرعى نعمها ونهض بنفسه الى الاضطلاع والكفاية وباشر كثيرا من أعمال الأمراء والوزراء حتى أوفى على ثنية النجابة وعرضته الشهرة على اختيار السلطان فعجم عوده ونقد جوهره ثم الحق به أغراض الخدمة ببابه فأصاب شاكلة الرمية ومضى قدما في مذاهب السلطان مرهف الحدّ قوي الشكيمة فصدق ظنه وشكر اختياره ثم دفعه الى معاينة الحبس وشدّ الدواوين من وظائف الدولة فجلا فيهما وهلك خلال ذلك استاذ الدار بهادر المنجكي سنة تسعين فأقامه السلطان مكانه قهرمانا لداره ودولته وانتضاره على دواوين الجباية من قراب اختياره ونقده جماعة للأموال غواصا على استخراج الحقوق السلطانية قارمنا للكنوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 اكسيرا للنقود مغناطيسا للقنية يسابق أقلام الكتاب ويستوفي تفاصيل الحساب بمدارك الهامة وتصوّر صحيح وحدس ثاقب لا يرجع الى حذاقة الكتاب ولا الى أيسر الأعمال بل يتناول الصعاب فيذللها ويحوم على الأغراض البعيدة فيقربها وربما يحاضر بذكائه في العلوم فينفذ في مسائلها ويفحم جهابذتها موهبة من الله اختصه بها ونعمة أسبغ عليه لبوسها فقام بما دفع اليه السلطان من ذلك وأدرّ خروج الجباية فضاقت افنية الحواصل والخزائن بما تحصل وتسرّب اليها وكفى السلطان مهمة في دولته ومماليكه ورجاله بما يسوّغ لهم من نعمه ويوسع من أرزاقه وعطائه حتى أزاح عللهم بتوالي إنفاقه وقرّت عين السلطان باصطناعه وغص به الدواوين والحاشية ففوّقوا اليه سهام السعاية وسلطوا عليه السنة المتظلمين فخلص من ذلك خلوص الإبريز ولم تعلق به ظنة ولا حامت عليه ريبة ثم طرق الدولة ما طرقها من النكبة والاعتقال وأودعته المحنة غيابات السجون وحفت به أنواع المكاره واصطلمت نعمته واستصفيت أمواله في المصادرة والامتحان حتى زعموا أن الناصري المتغلب يومئذ استأثر منه بخمسة قناطير من دنانير الذهب ومنطاش بعده بخمسة وخمسين ثم خلص ابريزه من ذلك السبك وأهل قمره بعد المحاق واستقل السلطان من نكبته وطلع بأفق مصره وتمهد أريكة ملكه ودفعه لما كان بسبيله فأحسن الكرّة في الكفاية لمهمه وتوسيع عطاياه وأرزاقه وتمكين أحوال دولته وتسرّيت الجباية من غير حساب ولا تقرير الى خزائنه وأحسن النظر في الصرف والخرج بحزمه وكفايته حتى عادت الأمور الى أحسن معهودها بيمن تعبيته وسديد رأيه وصلابة عوده وقوّه صرامته مع بذل معروفه وجاهه لمن تحت يده وبشاشته وكفايته لغاشيته وحسن الكرامة لمنتابه ومقابلة من يأتي اليه بكرم مقاصده فأصبح طرازا للدولة وتاجا للخواص وقذفه المنافسون بخطإ العسايات فزلت في جهات حلم السلطان وجميل اغتباطه وتثبته حتى أعيتهم المذاهب وانسدّت عليهم الطرق ورسخت قدمه في الدولة واحتل من السلطان بكرم العهد والذمة ووثق بغنائه واضطلاعه فرمى اليه مقاليد الأمور وأوطأ عقبه أعيان الخاصة والجمهور وأفرده في الدولة بالنظر في الأمور حسبانا وتقديرا وجمعا وتقريرا وكنزا موفرا وصرفا لا يعرف تبذيرا وبطرا وفي الإنهاء بالعزل والإهانة مشهورا مع ما يمتاز به من الأمر والشأن وسموّ مرتبته على مرّ الأزمان وهو على ذلك لهذا العهد عند سفر السلطان الى الشام لمدافعة سلطان المغل كما مرّ ذكره والله متولي الأمور لا رب غيره . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 مسير منطاش ويعبر الى نواحي حلب وحصارها ثم مفارقة يعبر وحصاره عنتاب ثم رجوعه ولما انهزمت العساكر بسلمية كما قلنا ارتحل يعبر في أحيائه ومعه منطاش وأصحابه الى نواحي حلب وسار يعبر الى بلد سرمين من اقطاعه ليقسمها في قومه على عادتهم وكان كمشيقا نائب حلب قد أقطعها الجند من التركمان في خدمته فلما وافاها يعبر هربوا الى حلب فلقوا في طريقهم احمد بن المهدار في العساكر وقد نهض الى يعبر فرجعوا عنه ولقيهم علي بن يعبر فقاتلوه وهزموه وقتلوا بعض أصحابه صبرا ورجع يعبر الى أحيائه وارتحلوا الى حلب فحاصروها وضيقوا عليها أيام رمضان ثم راجع يعبر نفسه وراسل كمشيقا نائب حلب في الطاعة واعتذر عما وقع منه وطوق الذنب بالجوباني وأصحابه أهل الواقعة وسال الأمان مع حاجبه عبد الرحمن فأرسله كمشيقا الى السلطان وأخبره بما اشترط يعبر فأجابه السلطان الى سؤاله وشعر بذلك منطاش بمكانه من حصار حلب فارتاب وخادع يعبر الى الغارة على التركمان بقربهم فأذن للعرب في المسير معه وسار معه منهم سبعمائة فلما جاوز الدربند أرجلهم عن الخيل وأخذها ولحق بالتركمان ونزل بمرعش بلد أميرهم سولي ورجع العرب مشاة الى يعبر فارتحل الى سبيله راجعا وسار منطاش الى عنتاب من قلاع حلب ونائبها محمد بن شهري فملكها واعتصم نائبها بالقلعة أياما ثم ثبت منطاش وأثخن في أصحابه وقتل جماعة من أمرائه وكانت العساكر قد جاءت من حلب وحماة وصفد لقتاله فهرب الى مرعش وسار منها الى بلاد الروم واضمحل أمره وفارقه جماعة من أصحابه الى العساكر وراجعوا طاعة السلطان آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين وبعث سولي بن دلقادر أمير التركمان في عشر ذي الحجة يستأمن الى السلطان فأمنه وولاه على البلستين كما كان والله سبحانه وتعالى أعلم. قدوم كمشيقا من حلب قد كان تقدّم لنا أنّ كمشيقا الحموي رأس نوبة بيبقا كان نائبا بطرابلس وأنّ السلطان عزله وحبسه بدمشق فلما استولى الناصري على دمشق أطلقه من الاعتقال وجاء في جملته إلى مصر فلما ولي على مماليك الشام وأعمالها ولاه على حلب مكانه منتصف إحدى وسبعين ولما استقل السلطان من النكبة وقصد دمشق كما مرّ أرسل كمشيقا إليه بطاعته ومشايعته على أمره وأظهر دعوته في حلب وما اليها من اعماله ثم سار السلطان الى دمشق وحاصرها وامدّه كمشيقا بجميع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 ما يحتاج إليه ثم جاءه بنفسه في عساكر حلب صريخا وحمل إليه جميع حاجاته وأزاح علله وأقام له رسوم ملكه وشكر السلطان أفعاله في ذلك وعاهده على أتابكية مصر ثم كانت الواقعة على شقحب فانهزم كمشيقا إلى حلب فامتنع بها وحاصره يماز تمر أتابك منطاش أشهرا كما مرّ ثم هرب منطاش من دمشق إلى العرب فأفرج أيمازتمر عن حلب ثم كانت واقعة الجوباني ومقتله وزحف منطاش ويعبر إلى حلب فحاصروها مدّة ثم وقع الخلاف بينهما وهرب منطاش إلى بلاد التركمان ورجع يعبر إلى بلده سلمية واستأمن إلى السلطان ورجع إلى طاعته منتصف شوّال ولما أفرجوا عن حلب نزل كميشقا من القلعة ورمّ خرابها وخرب بانقوسا واستلحم أهلها وأخذ في إصلاح أسوار حلب ورمّ ما ثلم منها وكانت خرابا من عهد هلاكو وجمع له أهل حلب ألف ألف درهم للنفقة فيه وفرغ منه لثلاثة أشهر ولما استوسق أمر السلطان وانتظمت دولته بعث إليه يستدعيه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وولى مكانه في حلب قرادمرداش نقله إليها من طرابلس وولى مكانه أنيال الصغير فسار كمشيقا من حلب ووصل مصر تاسع صفر سنة ثلاث وتسعين فاهتز له السلطان وأركب الأمراء للقائه مع النائب ثم دخل إلى السلطان فحياه وبالغ في تكرمته وتلقاه بالرحب ورفع مجلسه فوق الأتابك انيال وأنزله بيت منجك وقد هيأ فيه من الفرش والماعون والخرثيّ ما فيه للمنزل ثم بعث إليه بالأقمشة وقرّب إليه الجياد بالمراكب الثقيلة وتقدّم للأمراء أن يتحفوه بهداياهم فتناغوا في ذلك وجاءوا من وراء الغاية وحضر في ركابه من أمراء الشام الطنبقا الأشرفي وحسن الكشكي فأكرمهما السلطان واستقرّ كمشيقا بمصر في أعلى مراتب الدولة إلى أن توفي أنيال الأتابك في جمادى أربع وتسعين فولاه السلطان مكانه كما عاهده عليه بشقحب وجعل إليه نظر المارستان على عادة الأتابكية واستمرّ على ذلك لهذا العهد والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه. استقدام أيتمش كان أيتمش النجاشي أتابك الدولة قد نكبه السلطان وسار في العساكر إلى الشام منتصف ربيع إحدى وتسعين لقتال الناصري وأصحابه لما انتقض عليه وكانت الواقعة بينهم بالمرج من نواحي دمشق وانهزمت العساكر ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق ومعه كتب السلطان في دخولها متى اضطر إليه فامتنع بها وملكها الناصري من الغد بطاعة نائبها ابن الحمصي فوكل بايتمش وأقام حبيسا موسعا عليه ثم سار الناصري إلى مصر وملكها وعاد السلطان إلى كرسيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 في صفر سنة اثنتين وتسعين كما فصل ذلك من قبل وأيتمش في أثناء ذلك كله محبوس بالقلعة ثم زحف الجوباني في جمادى الأخيرة وخلص أيتمش من اعتقاله وفتق مماليك السلطان السجن الّذي كانوا فيه بقلعة دمشق وخرجوا واعصوصبوا على أيتمش قبل مجيء الجوباني وبعث إليه بالخبر وبعث الجوباني إلى السلطان بمثل ذلك فتقدّم إليه السلطان بالمقام بالقلعة حتى يفرغ من أمر عدوّه ثم كان بعد ذلك واقعة الجوباني مع منطاش والعرب ومقتله وولاية الناصري على دمشق مكانه ثم افترق العرب وفارقهم منطاش إلى التركمان وانتظمت ممالك الشام في ملكة السلطان واستوسق ملكه واستفحلت دولته فاستدعي الأمير أيتمش من قلعة دمشق وسار لاستدعائه قنوباي من مماليك السلطان ثامن ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين ووصل إلى مصر رابع جمادى الأولى من السنة ووصل في ركابه حاجب الحجاب بدمشق ومعه الأمراء الذين حبسوا بالشام منهم جنتمر نائب دمشق وابنه وابن أخته وأستاذ داره طنبقا ودمرداش اليوسفي نائب طرابلس والطنبقا الحلي والقاضي أحمد بن القريشي وفتح الدين بن الرشيد وكاتب السرّ في ست وثلاثين نفرا من الأمراء وغيرهم ولما وصل أيتمش قابله السلطان بالتكرمة والرحب وعرض الحاجب المساجين الّذي معه ووبخ السلطان بعضهم ثم حبسوا بالقلعة حتى نفذ فيهم قضاء الله وقتلوا مع غيرهم ممن أوجبت السياسة قتلهم والله تعالى مالك الأمور لا رب سواه انتهى. هدية إفريقية كان السلطان قد حصل بينه وبين سلطان إفريقية أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي مودّة والتئام وكانت كثيرا ما تجدّدها الهدايا من الجانبين ونذكرها إن شاء الله تعالى ولما بلغ الخبر إلى تونس بما كان من نكبة السلطان وما كان أمره امتعض له هذا السلطان بتونس وتفجع لشأنه وأقام يستطلع خبره ويستكشف من الجار التي تحضر إلى مصر من أهل تونس أنباءه حتى وقف على الجليّ من أمره وما كيف الله من أسباب السعادة في خلاصه وعوده إلى كرسيه فملأ السرور جوانحه وأوفد عليه بالتهنئة رسوله بهدية من القربات على سبيل الوداد مع خالصة من كبراء الموحدين محمد بن أبي هلال فوصل في العشر الأواخر من رمضان سنة اثنتين وتسعين فتلقاه السلطان بالكرامة وركب محمود استاذ داره ليتلقاه عند نزوله من البحر بساحل بولاق وأنزل ببيت طشتمر بالرميلة قبالة الإصطبل وأجريت عليه النفقة بما لم يجر لأمثاله ورغب من السلطان في الحج فحج وأصحب هدية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 إلى مرسلة من ثياب الوشي والديباج والسلاح بما لم يعهده مثلها وانصرف آخر ربيع سنة ثلاث وتسعين والله تعالى أعلم بغيبه. حصار منطاش دمشق ومسير السلطان من مصر إليه وفراره ومقتل الناصري لم يزل منطاش شريدا عند التركمان منذ فارق العرب ولما كان منتصف سنة ثلاث وتسعين اعتزم على قصد دمشق ويقال أن ذلك كان بإغراء الناصري يخادعه بذلك ليقبض عليه فسار منطاش من مرعش على نواحي حلب وتقدّم خبره إلى حماة فهرب نائبها إلى طرابلس ودخل منطاش حماة ونادى فيها بالأمان ثم سار منها إلى حمص كذلك ثم إلى بعلبكّ وهرب نائبها إلى دمشق فخرج الناصري نائب دمشق في العساكر لمدافعته وسار على طريق الريداني فخالفه منطاش إلى دمشق وقدم إليها أحمد شكار بن أبي بندمر فثار شيعة الخوارزمية والبندمرية وفتحوا له أبواب البلد ومرّ باصطبلات فقاد منها نحوا من ثمانمائة فرس وجاء منطاش من الغد على أثره فنزل بالقصر الأبلق وأنزل الأمراء الذين معه في البيوت حوالي القصر وفي جامع شكن وجامع بيبقا وشرع في مصادرة الناس والفريضة عليهم وأقام يومه في ذلك وإذا بالناصري قد وصل عساكره فاقتتلوا عشية ذلك اليوم مرات ومن الغد كذلك وأقام كل واحد منهما في حومته والقتال متصل بينهما سائر رجب وشعبان ولما بلغ الخبر إلى السلطان ارتاب بالناصري واتهمه بالمداهنة في أمر منطاش وتجهز لقصد الشام وأدى في العساكر بذلك عاشر شعبان وقتل أهل الخلاف من الأمراء المحبوسين وأشخص البطالين من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط وخرج يوم عشرين شعبان فخيم بالريدانية حتى أزاح علل العساكر وقضوا حاجاتهم واستخلف على القاهرة الأتابك كمشيقا الحموي وأنزله الإصطبل وجعل له التصرّف في التولية والعزل وترك بالقاهرة من الأمراء جماعة لنظر الأتابك وتحت أمره وأنزل النائب سودون بالقلعة وترك بها ستمائة من مماليكه الأصاغر وأخرج معه القضاة الأربعة والمفتين وارتحل غرة رمضان من السنة بقصد الشام وجاء الخبر رابع الشهر بأنّ منطاش لما بلغه مسيرة السلطان من مصر هرب من دمشق منتصف شعبان مع عنقا بن [1] أمير آل مراء الصريخ منطاش فكانت بينهما وقعة انهزم فيها الناصري وقتل   [1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم والد عنقا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 جماعة من أمراء الشام نحو خمسة عشر فيهم إبراهيم بن منجك وغيره ثم خرج الناصري من الغد في إتباع منطاش وقد ذكر له أن الفلاحين نزعوا من نواحي دمشق واحتاطوا به فركب إليه منطاش ليقاتله ففارقه أتابكه يماز تمر إلى الناصري في أكثر العساكر وولي هاربا ورجع الناصري إلى دمشق وأكرم ايمازتمر وأجمل له الوعد وجاءه الخبر بأنّ السلطان قد دخل حدود الشام فسار ليلقاه فلقيه بقانون وبالغ السلطان في تكرمته وترجل حين نزوله وعانقه وأركبه بقربة وردّه إلى دمشق ثم سار في أثره إلى أن وصل دمشق وخرج الناصري ثانية ودخل إلى القلعة ثاني عشر رمضان من السنة والأمراء مشاة بين يديه والناصري راكب معه يحمل الخبز على رأسه وبعث يعبر في كتاب نائب حماة بالعذر عما وقع منه وأنه اتهم الناصري في أمر منطاش فقصد حسم الفتنة في ذلك واستأمن السلطان وضمن له إحضار منطاش من حيث كان فأمنه وكتب إليه بإجابة سؤاله ولما قضى عيد الفطر برز من دمشق سابع شوّال إلى حلب في طلب منطاش ولقيه أثناء طريقه رسول سولي بن دلقادر أمير التركمان بهديته واستئمانه وعذره عن تعرضه لسيس وأنه يسلمها لنائب حلب فقبل السلطان منه وأمنه ووعده بالجميل ثم وفد عليه أمراء آل مهنا وآل عيسى في الطاعة ومظاهرة السلطان على منطاش ويعبر وأنهما نازلان بالرحبة من تخوم الشام فأكرم السلطان وفادتهم وتقبل طاعتهم وسار إلى حلب ونزل بالقلعة منها ثاني شوّال ثم وصل الخبر إلى السلطان بأن منطاش فارق يعبرا ومرّ ببلاد ماردين فواقعته عساكر هناك وقبضوا على جماعة من أصحابه وخلص هو من الواقعة إلى سالم الرودكاري من أمراء التركمان فقبض عليه وأرسل إلى السلطان يطالعه بشأنه ويطلب بعض أمراء السلطان قراد مرداش نائب حلب في عساكره إلى سالم الرودكاري لإحضار منطاش وأتبعه بالناصري وأرسل الأتابك إلى ماردين لإحضار من حصل من أصحاب منطاش وانتهى أنيال إلى رأس العين وأتى أصحاب سلطان ماردين وتسلم منهم أصحاب منطاش وكتب سلطانهم بأنه معتمل في مقاصد السلطان ومرتصد لعدوّه وانتهى قراد مرداش إلى سالم الرودكاري وأقام عنده أربعة أيام في طلب منطاش وهو يماطله فأغار قراد مرداش عليه ونهب أحياءه وفتك في قومه وهرب هو ومنطاش إلى سنجار وجاء الناصري على أثر ذلك ونكر على دمرداش ما أتاه وارتفعت الملاجة بينهما حتى همّ الناصري به ورفع الآلة بضربه ولم يحصل أحد منهم بطائل ورجعوا بالعساكر إلى السلطان وكتب إليه سالم الرودكاري بالعذر عن أمر منطاش وأن الناصري كتب إليه وأمره بالمحافظة على منطاش وأن فيه زبونا للترك فجلس السلطان بالقلعة جلوسا ضخما سادس ذي الحجة من السنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 واستدعى الناصري فوبخه ثم قبض عليه وعلى ابن أخيه كشلي ورأس نوبة شيخ حسن وعلى أحمد بن الهمدار الّذي أمكنه من قلعة حلب وأمر بقتله وقشتمر الأشرفي الّذي وصل من ماردين معهم وولى على نيابة دمشق مكانه بطا الدوادار وأعطى إقطاعه لقراد مرداش وأمره بالمسير إلى مصر وولى مكانه بحلب حلبان رأس نوبة وولى أبا يزيد دوادارا مكان بطا ورعى له وسائله في الخدمة وتردّده في السفارة بينه وبين الناصري أيام ملك الناصري وأجلب على مصر وأشار عليه الناصري بالانتقاء كما ذكرناه فاختفى عند أصحاب أبي يزيد هذا بسعايته في ذلك ثم ارتحل من حلب ووصل إلى دمشق منتصف ذي الحجة وقتل بها جماعة من الأمراء أهل الفساد يبلغون خمسة وعشرين وولى على العرب محمد بن مهنا وأعطى إقطاع يعبر لجماعة من التركمان وقفل إلى مصر ولقيه الأتابك كمشيقا والنائب سودون والحاجب سكيس ثم دخل إلى القلعة على التعبية منتصف المحرّم سنة أربع وتسعين في يوم مشهود ووصل الخبر لعاشر دخوله بوفاة بطا نائب دمشق فولي مكانه سودون الطرنطاي ثم قبض في منتصف صفر على قراد مرداش الأحمدي وهلك في محبسه وقبض على طنبقا المعلم وقردم الحسيني وجاء الخبر أواخر صفر من السنة بأنّ جماعة من المماليك مقدمهم إيبقا دوادار بذلار لما هلك بطا واضطرب أصحابه وهرب بعضهم عمد هؤلاء المماليك إلى قلعة دمشق وهجموا عليها وملكوها ونقبوا السجن وأخرجوا المعتقلين به من أصحاب الناصري ومنطاش وهم نحو المائة وركبت العساكر إليها وحاصروها ثلاثا ثم هجموا على الباب فأحرقوه ودخلوا إلى القلعة فقبضوا عليهم أجمعين وقتلوهم وفرّ إيبقا دوادار بذلار في خمسة نفر وانحسمت عللهم ثم وصل الخبر آخر شعبان من السنة بوفاة سودون الطرنطاي فولى السلطان مكانه كمشيقا الأشرفي أمير مجلس وولى مكان كمشيقا أمير شيخ الخاجكي انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. مقتل منطاش كان منطاش فرّ مع سالم الرودكاري إلى سنجار وأقام معه أياما ثم فارقه ولحق بيعبر فأقام في أحيائه وأصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوّجها وأقام معهم ثم سار أوّل رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه ثم طال على يعبر أمر الخلاف وضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة فكتب له الدوادار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 أبو يزيد على لسانه بالإجابة الى ذلك ثم وفد محمد بن [1] سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيما بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر فركبوا إليهم وهزموهم وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف والحفاء فأردفه ابن يعبر ونجابه وقتل منهم جماعة منهم ابن بردعان وابن أنيال وجيء برءوسهما إلى دمشق وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم ثم زحف يعبر ومنطاش في العساكر أوّل جمادى الأخيرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماه وخالفهم نائب حلب إلى أحياء يعبر فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها وأضرم النار فيما بقي وأكمن لهم ينتظر رجوعهم وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعا للسلطان ومنابذا لعمه وذكوان بن يعبر على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد ودس معه إلى بني يعبر بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعا ورغبوهم فيما عند السلطان ووصفوا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والانحراف عن الطاعة وعرضوا على يعبر بأن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان ويفارقهم هو إلى حيث شاء من البلاد فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان فقبضوا عليه وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم يعبر فحلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فامكنوه منه وبعثوا معه الفرسان والرجالة حتى أوصلوه ودخل إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة وبعث السلطان أميرا من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة ثم دفعت إلى أهله فدفنوها آخر رمضان من السنة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.   [1] بياض بالأصل في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم والده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 حوادث مكة قد كان تقدّم لنا أنّ عنان بن مقامس ولاه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان وثمانين وأن كنيش بن عجلان أقام على خلافه وحاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها وساء أثر عنان وعجز عن مغالبة الأشراف من بني عمه وسواهم وامتدّت أيديهم إلى أموال المجاورين وصادروهم عليها ونهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدّة للسلطان والأمراء والتجار ونهبوا تجار اليمن وساءت أحوال مكة بهم وبتابعهم وطلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة ووفد على السلطان بمصر سنة تسع وثمانين صبيّ من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة وبعثه مع أمير الحاج وأوصاه بالإصلاح بين الشرفاء ولما وصل الأمير إلى مكة يومئذ قرقماش خشي الإشراف منه واضطرب عنان وركب للقائه ثم توجس الخيفة وكرّ راجعا وأتبع الأشراف واجتمعوا على منابذة علي بن عجلان وشيعته من القواد والعبيد ووفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه وحبسه ولم يزل محبوسا إلى أن خرج مع بطا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة ثنتين وتسعين وبعثه مع أخيه إيبقا يستكشف خبر السلطان كما مرّ وانتظم أمر السلطان بسعاية بطا في العود إلى إمارته رعيا لما كان بينهما من العشرة في البحر وأسعفه السلطان بذلك وولاه شريكا لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين وأمرهما مضطرب والأشرف مصوصبون على عنان وهو عاجز عن الضرب على أيديهم وعلي بن عجلان مع القواد والعبيد كذلك وأهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم ثم استقدمهم السلطان سنة أربع وتسعين فقدموا أوّل شعبان من السنة فأكرمهما ورفع مجلسهما ورفع مجلس علي على سائرهم ولما انقضى الفطر ولي علي بن عجلان مستقلا واستبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشة والخيول والممالك والحبوب وأذن له في الجراية والعلوفة فوق الكفاية ثم ظهر عليه بعد شهر وقد أعدّ الرواحل ليلحق بمكة هاربا فقبض عليه وحبسه بالقلعة وسار علي بن عجلان إلى مكة وقبض على الأشراف لتستقيم إمارته ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه ولم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره وفسد رأيه وهو مقيم على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره أنه على كل شيء قدير . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 وصول أحياء من التتر وسلطانهم إلى صاحب بغداد واستيلاؤه عليها ومسير السلطان بالعساكر إليه كان هؤلاء التتر من شعوب الترك وقد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر ثم خوارزم وخراسان وجانبيها إلى سجستان وكرمان جنوبا وبلاد القفجاق وبلغار شمالا ثم عراق العجم وبلاد فارس وأذربيجان وعراق العرب والجزيرة وبلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات واستولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدّم في أخبارهم ويأتي إن شاء الله تعالى وكان أوّل من خرج منهم ملكهم جنكزخان أعوام عشر وستمائة واستقلوا بهذه الممالك كلها ثم انقسمت دولته بين بنيهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق وجانب الشمال بأسره ولبني هلاكو بن طولي خان خراسان والعراق وفارس وأذربيجان والجزيرة وبلاد الروم ولبني جفطاي خوارزم وما إليها واستمرّت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة وثمانين سنة انقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد أخرهم ولم يعقب وافترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان وأصبهان وفارس وعراق العرب وأذربيجان وتوريز وبلاد الروم فكانت خراسان للشيخ ولي وأصبهان وفارس وسجستان للمظفر الأزدي وبنيه وخوارزم وأعمالها إلى تركستان لبني جفطاي وبلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي دمرداش بن جوبان وبغداد وأذربيجان والجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن أيبغا بن أيكان وأيكان سبط أرغون بن أبغا بن هلاكو ولبنيه وهو من كبار المغل في نسبه ولم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلا بين أعقابهم إلى أن تلاشى واضمحل واستقرّ ملك بغداد وأذربيجان والجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أويس ابن الشيخ حسن سبط أرغون كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد ولما كان في هذه العصور ظهر بتركستان وبخارى فيما وراء النهر أمير اسمه تمر في جموع من المغل والتتر ينسب هو وقومه إلى جفطاي لا أدري هو جفطاي بن جنكزخان أو جفطاي آخر من شعوب المغل والأوّل أقرب لما قدّمته من ولاية جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه وان اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الّذي مع تمر وقصر المدّة أنّ هذه المدّة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة لأنّ جفطاي كان لعهد أبيه جنكزخان يقارب الأربعين فهذه المدّة أزيد من خمسة من العصور لأنّ العصر أربعون سنة وأقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت العشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف وأن فرضنا أنّ المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفا وإن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الاثنين وثلاثين وإن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفا والسبعة أقل ما يمكن من الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل والستة عشر ألفا عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهي إلى غاية العساكر ولما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها من يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة وثمانين بعد مراجفات وحروب وهرب الشيخ ولي إلى توريز فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع وثمانين وملك توريز وأذربيجان وخربها وقتل الشيخ ولي في حروبه ومر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة وأطلّ بعد توريز على نواحي بغداد فأرجفوا منه وواقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة والموصل وكانت الحروب بينهم سجالا ثم تأخر إلى ناحية أصبهان وجاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر الدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان وهو صاحب كرسي صراي أمدّه بأمواله وعساكره فكرّ راجعا إلى بلده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده واستولى على كرسي صراي فكر تمر راجعا وملكها ثم خطى إلى أصبهان وعراق العجم وفارس وكرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبدّدت جموعهم وراسله صاحب بغداد أحمد بن أويس وصانعه بالهدايا والتحف فلم يغن عنه وما زال يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزم أحمد وافترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى من ليلة ومرّ بجسر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة يوم الحادي والعشرين من شوّال سنة خمس وتسعين وأجازوا دجلة سبحا ودخلوا بغداد واستولوا عليها وبعث العساكر في إتباع أحمد فلحقوا بأعقابه وخاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع وأدركوه بالمشهد فكرّ عليهم في جموعه وقتل الأمير الّذي كان في إتباعه ورجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله ورواحله بما فيها من الأموال والذخيرة فرجعوا بها ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات والأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الأخبار بأنّ تمرعاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوّه فأجاب السلطان صريخه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 ونادى في عساكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين وعثاء الحرابة ورصد السابلة وأتاح عليها بجموعه أربعين يوما فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأسرها ثم انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها واشفوا نعمتها وافترق أهلها وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياما أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب مودود وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمه وسرب النفقات في تابعه وجنده ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستيعاب العرب والتركمان للإقامة هنالك رصدا للعدوّ فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعة بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كميشقا الأتابك وتلكمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدوّ قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا ثم ملكها وعاثت عساكره فيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ست وتسعين مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته والله ولي الأمور وهذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بانتهاء الأيام وما يعلم أحد ما في غد والله مقدّر الأمور وخالقها . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 دولة بني رسول الخبر عن دولة بني رسول مولى بني أيوب الملوك باليمن بعدهم ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد كان تقدّم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن واختلف عليها الولاة منهم إلى أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن [1] ابن المظفر وانتقض أيام العادل سنة اثنتي عشرة وستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن وهو أخو الصالح ويلقب بالتركي أطس ويقال أقسنس وقد تقدّم ذكر هذا اللقب فملكها المسعود من يد سليمان وبعث به معتقلا الى مصر وهلك جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع وأربعين وهلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة وستمائة وولي بعده ابنه الكامل وجدّد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن وحج المسعود سنة تسع عشرة وكان من خبره في تأخير أعلام الخليفة عن أعلامه ما مرّ في أخبار دولتهم ثم جاء سنة عشرين إلى مكة وأميرها حسن بن قتادة من بني مطا عن إحدى بطون بني حسن فجمع لقتاله وهزمه المسعود وملك مكة وولى عليها ورجع إلى اليمن فأقام به ثم طرقه المرض سنة ست وعشرين فارتحل إلى مكة واستخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه وبلغ خبر وفاته إلى أبيه وهو محاصر دمشق ورجع ابن قتادة إلى مكة ونصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود ولقبه الأشرف وأقام مملكا على اليمن إلى أن خلع وخلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف ومات وخلفه ابنه واسمه موسى وهو الّذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه ثم خلع علي بن رسول موسى الأشرف بن المسعود واستبدّ بملك اليمن وأخذه بدعوة الكامل بمصر وبعث أخويه رهنا على الطاعة ثم هلك سنة تسع وعشرين وولي ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول ولما هلك علي بن منصور ولى بعده الكامل ابنه عمر ثم توفي الكامل سنة خمس وثلاثين وشغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن وتلقب المنصور ومنع الإتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم   [1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 116: سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 وحبسهم وكان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي وصار لبني سليمان بن داود كما مرّ في أخبارهم ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي بايع له الزيدية بحصن ملا وكانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطئ وكان تحصن بملا وكان الحديث شائعا بين الزيدية بأنّ الأمر يرجع إلى بني الرسي وكان أحمد فقيها أديبا عالما بمذهب الزيدية مجتهدا في العبادة وبويع سنة خمس وأربعين وستمائة وأهمّ عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه وحاصره بحصن ملامدة ثم أفرج عنه وجهز العساكر لحصاره من الحصون المجاورة له ولم يزل قائما بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان وأربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر ولما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف وكان عادلا محسنا وفرض الإتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك وما زال يصانعهم بها ويعطيهم إياها وكان لأوّل ملكه امتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره وتمكن أحمد الموطئ الثائر بحصن ملامن الزيدية من أعقاب بني الرسي فملك عشرين حصنا من حصون الزيدية وزحف إلى صفد فملكها من يد السليمانيين ونزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه وأمنه ولما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل ولم يزل المظفر واليا على اليمن إلى أن هلك بغته سنة أربع وتسعين لست وأربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف ولما هلك المظفر يوسف كما قلناه وولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر وكان أخوه داود واليا على الشحر فدعا لنفسه ونازعه الأمر فبعث الأشرف عساكره وقاتلوه وهزموه وقبضوا عليه وحبسه واستمرّ الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست وتسعين لعشرين شهرا من ولايته [1] أخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف ولما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرج أخاه مؤيد الدين داود من معتقله وولوه عليهم ولقبوه المؤيد وافتتح أمره بقتل الجارية التي سمت أخاه وما زال يواصل ملوك الترك بهداياه وصلاته وتحفه والضريبة التي قررها سلفه وانتهت هديته سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى مائتي وقر بعير بالثياب والتحف وطرف اليمن ومائتين من الجمال والخيل ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك وفسد ما بينه وبين ملوك الترك بمصر وبعث بهديته سنة ثمان عشرة فردّوها عليه ثم هلك سنة إحدى وعشرين وسبعمائة لخمس وعشرين سنة من   [1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 33: وتوفي والملك المؤيد داود في الاعتقال مقيدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 ملكه وكان فاضلا شافعيّ المذهب وجمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد وكان يتفقد العلماء بصلاته ويبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه ولما توفي المؤيد داود سنة إحدى وعشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة والله وارث الأرض ومن عليها. ثورة جلال الدين بن عمر الأشرف وحبسه ولما ملك المجاهد علي شغل بلذاته وأساء السيرة في أهل المناصب الدينية بالعزل والاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه عمر الأشرف وزحف إليه وكانت بينهما حروب ووقائع كان النصر فيها للمجاهد وغلب على جلال الدين وحبسه والله تعالى أعلم. ثورة جلال الدين ثانيا وحبس المجاهد وبيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف وبعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف وحبسه لم يزل مشتغلا بلهوه عاكفا على لذاته وضجر منه أهل الدولة وداخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه فرحل إلى [1] سنة اثنتين وعشرين فخرج جلال الدين من محبسه وهجم عليه في بعض البساتين وفتك بحرمة وقبض عليه وبايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف واعتقل المجاهد عنده في نفر وأطلق جلال الدين ابن عمه والله تعالى أعلم بغيبه.   [1] بياض بالأصل، وفي تاريخ أخبار البشر ج 4 ص 91 وفيها سنة 722 ليلة الثلاثاء في ذي الحجة توفي بمرض ذات الجنب بتعز الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول، فاتفق أرباب الدولة وأقاموا ولده علي ولقب بالملك المجاهد سيف الإسلام بن داود المذكور، وهو إذ ذاك أول ما قد بلغ. ثم خرج عليه عمه الملك المنصور أيوب ولقبه زين الدين أخو داود في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فملك اليمن واعتقل ابن أخيه سيف الإسلام. وقعد المنصور في مملكة اليمن دون ثلاثة أشهر، ثم هجم من العسكر وأخرجوا سيف الإسلام وأعادوه إلى ملك اليمن واعتقلوا عمه المنصور أيوب، وبقي أمر مملكة اليمن مضطربا غير منتظم الأحوال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 خلع المنصور أيوب ومقتله وعود المجاهد إلى ملكه ومنازعة الظاهر بن المنصور أيوب له ولما جلس المجاهد بقلعة تعز واستقل المنصور بالملك اجتمع شيعة المجاهد وهجموا على المنصور في بيته بتعز وحبسوه وأخرجوا المجاهد وأعادوه إلى ملكه ورجع أهل اليمن لطاعته وكان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعصى عليه وامتنع بها وكتب إليه المجاهد يهدّده بقتل أبيه فلج واتسع الخرق بينهما وعظمت الفتنة وافترق عليهما العرب وكثر عيثهم وكثر الفساد وبعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفا على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك وأساء الردّ على أبيه ولما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه واجتمع أهل الدملوة وكبيرهم الشريف ابن حمزة وبايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب وبعث عسكرا مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها وفتحوها وجهز المجاهد عساكره إليها مع قائده علي بن الدوادار ولما قاربوا زبيد أصابهم سيل وبيتهم أهل زبيد فنالوا منهم وأسروا أمراءهم واتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها وكتب إلى والي عدن بالقبض عليه ووقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن وحاصرها وفتحها وخطب بها للظاهر سنة ثلاث وعشرين وملك عدن بعدها ثم استمال صاحب صنعاء وحوض فقاموا بدعوة الظاهر وبعث المجاهد إلى مذحج والأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه وهو بحصن المعدية وكتب الظاهر إلى أشراف مكة وقاضيها نجم الدين الطبري بأن الأمر قد استقرّ له باليمن والله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه. وصول العساكر من مصر مددا للمجاهد واستيلاؤه على أمره وصلحه مع الظاهر ولما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن وانتزعها من المجاهد وحاصره بقلعة المعدية، بعث المجاهد سنة أربع وعشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بن قلاون سنة خمس وعشرين، فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب وانيال من أمراء دولته، ووصلوا إليه سنة خمس وعشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 إلى تعز فاستأمن إليه أهلها فأمنهم وراسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة، وتحالفوا على ذلك. وطلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الّذي أنشأ الفتنة بين المجاهد والظاهر فامتنع عن إجابتهم فركب بيبرس وهجم عليه في خيمته وقتله بسوق الخيل بتعز، واثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حتى أطاعوا، وتمهد له الملك ورجعت العساكر إلى مصر سنة ست وعشرين والله سبحانه وتعالى أعلم. نزول الظاهر للمجاهد عن الدملوة ومقتله ولما استقام الأمر للمجاهد باليمن واستخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه واحكام الوصلة به حتى اطمأن، وهو يفتل له في الذروة والغارب حتى نزل له عن الدملوة وولى عليها من قبله وصار الظاهر في جملته. ثم قبض عليه وحبسه بقلعة تعز. ثم قتله في محبسه سنة أربع وثلاثين والله تعالى أعلم. حج المجاهد علي بن المؤيد داود وواقعته مع أمراء مصر واعتقاله بالكرك تم إطلاقه ورجوعه إلى ملكه ثم حج المجاهد سنة إحدى وخمسين أيام حسن الناصري الأولى وهي السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميرا وحج بيبقاروس الكافل الآخر مقيدا لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه. فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لأداء فرضه فأجابه وحج مقيدا. وجاء المجاهد ملك اليمن للحج وشاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر وعساكرها لأهل اليمن ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب اليمن فتحاربوا وانهزم وذهب سواده وركب أهل اليمن كافة وأطلق بيبقاروس للقتال فجلا في تلك الوقعة وأعيد إلى اعتقاله. وحمل المجاهد إلى مصر معتقلا فحبس ثم أطلق سنة اثنتين وخمسين في دولة الصالح. وبعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده. فلما انتهى إلى الينبع ظهر عليه قشتمر بأنه يروم الهرب فرده وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه، وأقام على مهاداة صاحب مصر وصانعته إلى أن توفي سنة ست وستين لاثنتين وأربعين سنة من ملكه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 ولاية الأفضل عباس بن المجاهد علي ولما توفي المجاهد سنة ست وستين ولي بعده ابنه عباس واستقام له ملك اليمن إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه والله تعالى أعلم. ولاية المنصور محمد بن الأفضل عباس ولما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان وسبعين ولي بعده ابنه المنصور محمد واستولى على أمره واجتمع جماعة من مماليكه سنة اثنتين وثمانين للثورة به وقتله وأطلع على شأنهم فهربوا إلى الدملوة وأخذهم العرب في طريقهم وجاءوا بهم وعفا عنهم واستمرّ في ملكه إلى أن هلك والله تعالى أعلم. ولاية أخيه الأشرف بن الأفضل عباس ولما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة [1] ولي أخوه الأشرف إسماعيل واستقام أمره وهو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست وتسعين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.   [1] بياض بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك وكيف تغلبوا على الممالك الإسلامية وانتزوا على كرسي الخلافة ببغداد وما كان لهم من الدول المفترقة وكيف أسلموا بعد ذلك ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدّم لنا ذكر التتر وأنهم من شعوب الترك وأنّ الترك كلهم ولد كومر بن يافث على الصحيح، وهو الّذي وقع في التوراة. وتقدم لنا ذكر أجناس الترك وشعوبهم وعددنا منهم الغزّ الذين منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم القلج، وبلاد الصغد قريبا من سمرقند ويسمون بها أيضا. وعددنا منهم الخطا والطغرغر وهم التتر، وكانت مساكن هاتين الأمتين بأرض طمغاج، ويقال أنها بلاد تركستان وكاشغر وما إليها من وراء النهر وهي بلاد ملوكهم في الإسلام، وعددنا منهم الخزلجية والغور والخزر والخفشاخ وهم القفجاق ويمك والعلان ويقال الآن وجركس واركش. وعدّ صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسه والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلجية والخزر والخلج وبلغار ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكز، وذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقة من أرض الروم وجمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء الهز شرقا إلى البحر المحيط بين الجنوب والشمال من الإقليم الأول إلى السابع، والصين في وسط بلادهم. وكانت الصين أولا لبني صيني إخوانهم من بني يافث. ثم صار لهم واستولوا على معظمه إلا قليلا من أطرافه على ساحل البحر، وهم رجاله كما مرّ في ذكرهم أول الكتاب وفي دولة السلجوقية وأكثرهم من المفازة التي بين الصين وبلاد تركستان. وكان لهم قبل الإسلام دولة، ولهم مع الفرس حروب مذكورة وملكهم لذلك العهد في بني فراسيان. وكان بينهم وبين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام، فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم، وغلبوهم على أطراف بلادهم وأسلم ملوكهم على بلادهم وذلك من بعد القرن الأول. وكانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان وكاشغر، ولا أدري من أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك. وقد قيل فيهم أنهم من ولد قراسيان ولا يعرف شعب فراسيان فيهم، وكان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء والقاف سمة لكل من يملك منهم، مثل كسرى للفرس وقيصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 للروم. وأسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم وملكهم فأقاموا بها، وكان بينهم وبين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر بدولة بني العبّاس حرب وسلم اتصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم ودولة بني سامان جميعا. وقام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم وملكهم فيما وراء النهر وخراسان. وقد ظهر لذلك العهد بنو سلجوق وغلبوا ملوك الترك على أمرهم وأصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة، ثم قارعوا بني سبكتكين وغلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة واستولوا على ممالك الإسلام بأسرها، وملكوا ما بين الهند ونهاية المعمور في الشمال وما بين الصين وخليج القسطنطينية في الغرب، وعلى اليمن والحجاز والشام وفتحوا كثيرا من بلاد الروم واستفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب والخلفاء في الملة. ثم تلاشت دولتهم وانقرضت بعد مائتين من السنين شأن الدول وسنة الله في العباد. وكانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان وحدود الصين. ولم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان ابن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه وبين الصين، ويقطعهم على ذلك ويوقع بهم على الفساد والعيث ثم زحف من الصين ملك الترك الأعظم كوخان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولحقت به أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان وما وراء النهر من الخانية، وهو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه. وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر، فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم، وسارت إليه أمم التتر والخطا وتواقعوا في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وانهزم سنجر وأسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك، واستولى على ما وراء النهر. ثم مات كوخان سنة سبع وثلاثين وملكت بعده بنته، ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد، ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر. ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه، ويلقب هو وأبوه بخوارزم شاه. وكان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم وفسادهم، فأجاب صريخهم وعبر النهر سنة ست وستمائة، وملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه وأسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه وحبسه بخوارزم، وملك سائر بلاد الخطا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 إلى أوركندا، وأنزل به نوابه وزوّج أخته من الخان صاحب سمرقند وأنزل معه شحنة كما كانت للخطأ وعاد إلى بلاده. وثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة وقتلهم، وهمّ بقتل زوجته أخت خوارزم شاه وحاصره بسمرقند واقتحمها عليه عنوة وقتله في جماعة من أقاربه، ومحا أثر الخانية وملكهم مما وراء النهر، وأنزل في سائر البلد نوابه. وكانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها وبين تركستان، وكان ملكهم كشلي خان ووقع بينهم وبين الخطا من العداوة والحروب، يقع بين الأمم المتجاورة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم، وزحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم، فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره وتضيق عنه قدرتهم وقدرته. وبعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له وأقام منتبذا عنهما وقد تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه ولم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتدّ عليه بهزيمة الخطا وأنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وبعث خوارزم شاه بحربهم ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء وكشلي خان يعذله في ذلك وهو يغالطه واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وبلاساغون ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاش وفرغانة وأسبيجاب وقاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين وخرب جميعها خوفا أن يملكها التتر بعد ذلك وخرج على كشلي خان طائفة أخرى يعرفون بالمغل وملكه جنكزخان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه وعبر النهر إلى خراسان ونزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء التتر على ممالك خوارزم شاه فيما وراء النهر وخراسان ومهلك خوارزم شاه وتولية محمد بن تكش ولما رحل السلطان إلى خراسان استولى على الممالك ما بينه وبين بغداد من خراسان ومازندران وباميان وغزنة إلى بلاد الهند وغلب الغورية على ما بأيديهم ثم ملك الريّ وأصبهان وسائر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 بلاد الجبل وسار إلى العراق وبعث إلى الخليفة في الخطبة كما كانت لملوك بني سلجوق فامتنع الخليفة من ذلك كما مرّ ذلك كله في أخبار دولتهم ثم عاد من العراق سنة ست عشرة وستمائة واستقرّ بنيسابور فوفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من نقرة المعدنين ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الخطائية المنسوجة من وبر الإبل البيض ويخبر أنه ملك الصين وما بينها من بلاد الترك ويطلب الموادعة والإذن للتجار بالتردّد لمتاجرهم من الجانبين وكان في خطابه إطراء السلطان خوارزم شاه بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك وامتعض له وأجمع عداوته واستدعى محمودا الخوارزمي من رسل جنكزخان واصطنعه ليكون عينا له على صاحبه واستخبره عما قاله في كتابه من أنه ملك الصين واستولى على مدينة طوغاج فصدّق له ذلك وسأله عن مقدار العساكر فقللها وغشه في ذلك ثم نكر عليه الخطاب بالولد ثم صرف الرسل بما طلبوه من الموادعة والإذن للتجار ووصل على أثر ذلك بعض التجار من بلادهم إلى أطرار وبها أنيال خان ابن خال السلطان خوارزم شاه فعثر على أموالهم ورفع إلى السلطان أنهم عيون على البلاد وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم ففعل وأخذ أموالهم وقتلهم خفية وفشا الخبر إلى جنكزخان فبعث بالنكير على السلطان في ذلك وقال له إن كان فعله أنيال خان فابعثه إليّ وتهدّده على ذلك في كتابه فانزعج السلطان لها وقتل الرسل وبلغ الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر إلى بلاده وجبى السلطان من سمرقند خراج سنتين حصن به أسوار سمرقند وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان لحمايتها ثم سار للقاء جنكزخان فكانت بينهما واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين فكبسهم وهو غائب عنهم ورجع خوارزم شاه إلى جيحون وأقام عليه وفرّق عساكره في أعمال ما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ وأنزل آبنايخ من أكبر أمرائه وأصحاب دولته في بخارى وجهلهم لنظره ثم جاء جنكزخان إليه فعبر النهر مجفلا وقصد جنكزخان أطرار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها أنيال خان الّذي قتل التجار فأذاب الفضة في أذنيه وعينيه ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى خربها ثم غدر بهم فقتلهم وسباهم وفعل مثل ذلك في سمرقند سنة تسع عشرة ثم كتب كتابا إلى أمراء خوارزم شاه قرابة أمه كأنها أجوبة عن كتبهم إليه باستدعائه والبراءة من خوارزم شاه وذمّه بعقوق أمّه فبسط آمالهم في كتبه ووعد تركمان خاتون أمّ السلطان وكانت في خوارزم فوعدها بزيارة خراسان وأن تبعث من يستخلفه على ذلك وبعث بالكتب من يعترض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمّه وبقرابتها فاستوحشوا ووقع التقاطع والنفرة ولما استولى جنكزخان على ما وراء النهر ونجا نائب بخارى في الفل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 أجفل السلطان وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وتخاذل الناس وسرّح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا كانوا يسمونهم التتر المغربة لتوغلهم في البلاد غربي خراسان إلى بلاد القفجاق ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يلبث بها وارتحل إلى مازندان والتتر في أثره ثم انتهى إلى همذان فكبسوه هنالك وفرقوا جموعه ونجا إلى جبال طبرستان فأقام بقرية بساحل البحر في فل من قومه ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر إلى جزيرة في بحيرة طبرستان وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا وأقام خوارزم شاه بالجزيرة ومرض بها ومات سنة سبع عشرة وستمائة وعهد لابنه جلال الدين سكري ولما بلغ خبر اجفاله إلى أمّه تركمان خاتون بخوارزم خرجت سارية واعتصمت بقلعة أيلاز من مازندان ورجع التتر عن إتباع خوارزم شاه فافتتحوا قلاع مازندان وملكوها وملكوا قلعة أيلاز صلحا وأسروا أمّ السلطان وبناته وتزوّجهنّ التتر وتزوّج دوشي خان بن جنكزخان واحدة وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهم في ذل وخمول والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير التتر المغربة بعد خوارزم شاه إلى العراق وأذربيجان واستيلاؤهم عليها إلى بلاد قفجاق والروس وبلاد الخزر ولما رجع التتر المغربة من اتباع خوارزم شاه سنة سبع عشرة عادوا إلى همذان وانتسفوا ما مروا عليه، وصانعهم أهل همذان بما طلبوه، ثم ساروا إلى سنجار كذلك، ثم إلى قومس فامتنعوا منهم وحاصروها وملكوها غلابا وقتلوا أكثر من أربعين ألفا ثم ساروا الى آذربيجان وصانعهم صاحب تبريز وانصرفوا الى موقان ومروا ببلاد الكرج فاكتسحوها وجمعوا لهم فهزموهم واثخنوا فيهم وذلك آخر سنة سبع عشرة ثم عادوا إلى مراغة فملكوها عنوة في صفر سنة ثمان عشرة واستباحوها ورحلوا عنها إلى أربل، وبها مظفر الدين كوكبري. واستمد صاحب الموصل فأمده بالعساكر. ثم استدعاهم الخليفة الناصر إلى دقوقا للمدافعة عن العراق مع عساكره وولى عليهم مظفر الدين صاحب أربل فخام عن لقائهم وخاموا عن لقائه. وساروا إلى همذان وبها شحنتهم فامتنعوا من مصانعتهم وقاتلوهم فملكوها عنوة واستباحوها واستلحموا أهلها، ورجعوا إلى أذربيجان فملكوا أردبيل واستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز، وقد فارقها أزبك بن البهلوان إلى نقجوان فصانعوهم بالأمان، وساروا إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 بيلقان وملكوها عنوة وافحشوا في القتل والمثلة واكتسحوا جميع الضاحية. ثم ساروا إلى كنجة قاعدة أرّان فصانعهم أهلها فساروا إلى بلاد الكرج فهزموهم وحاصروهم بقاعدتهم تفليس، وردهم كثرة الأوعار عن التوغل فيها. ثم قصدوا دربند شروان وحاصروا مدينة سماجي ودخلوه عنوة وملكوه واستباحوه، وأعجزهم الدربند عن المسير فراسلوا شروان في الصلح، فبعث إليهم رجالا من أصحابه فقتلوا بعضهم وقتلوا الباقين أذلاء. وأفضوا من الدربند إلى أرض أسحمة، وبها من القفجاق واللاز والغز وطوائف من الترك مسلمون وكفار أمم لا تحصى. ولم يطيقوا مغالبتهم لكثرتهم فرجعوا إلى التضريب بينهم حتى استولوا على بلادهم. ثم اكتسحوها وأوسعوهم قتلا وسبيا وفر أكثرهم إلى بلاد الروس وراءهم واعتصم الباقون بالجبال والغياض. وانتهى التتر إلى مدينتهم الكبرى سرداق على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهي مادتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال وركب أهلها البحر إلى بلاد الروم في إيالة بني قليج أرسلان. ثم سار التتر سنة عشرين وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروس المجاورة لها، وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلادهم، ومعهم جموع من القفجاق أياما. ثم انهزموا واثخن فيهم التتر قتلا وسبيا ونهبا، وركبوا السفن هاربين إلى بلاد الإسلام وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر، ثم عادوا عنها وقصدوا بلغار آخر السنة. واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلا القليل. وارتحلوا عائدين إلى جنكزخان بأرض الطالقان، ورجع القفجاق إلى بلادهم واستقروا فيها. والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. مسير جنكزخان إلى خراسان وتغلبه على أعمالها وعلى خوارزم شاه وكان جنكزخان بعد أن أجفل خوارزم شاه في جيحون ومسير التتر المغربة في طلبه ملك سمرقند فبعث عسكرا إلى ترمذ، وعسكرا إلى خوارزم وعسكرا إلى خراسان. وكان عسكر خوارزم أعظمها لأنها كرسي الملك ومأوى العساكر، وبعث مع العساكر ابنه جفطاي وأركطاي فحاصروها خمسة أشهر، وامتنعت فأمدهم جنكزخان بالعساكر متلاحقة، وملكوها ناحية إلى أن استوعبوا. ثم نقبوا السد الّذي يمنع ماء جيحون عنها فسال إليها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 جيحون ففرقها وتقسم أهلها بين السند والعراق، وهكذا قال ابن الأثير. وقال النسابي كاتب جلال الدين: إن دوشي خان عرض عليهم الأمان وخرجوا إليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرّم سنة سبع عشرة وعاد دوشي خان والعساكر إلى جنكزخان فوجدوه بالطالقان. وأما عسكر ترمذ فساروا إليها وملكوها وتقدموا إلى كلابه من قلاع جيحون فملكوها وخربوها، وعسكر فرغانة كذلك. وأما عسكر خوارزم فعبروا إلى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع عشرة وأنزلوا بها شحنة. ثم ساروا إلى الزوزان وأيد حور ومازندان فملكوها وولوا عليها. ثم ساروا إلى الطالقان وحاصروا قلعة صاركوه وكانت منيعة، وجاءهم جنكزخان بنفسه بعد امتناعها ستة أشهر فحاصروها أربعة أشهر أخرى. ثم أمر بنقل الخشب والتراب ليجتمع به تل يتعالى به البلد. فلما استيقنوا الهلكة فتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرقوا في البلاد والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر فاستباحوها. وبعث جنكزخان عسكرا إلى سبا مع صهره قفجاق نون فقتل في حصارها ثم ملكوها فاستباحوها وخربوها. ويقال قتل فيها أكثر من سبعين ألفا. ثم بعث جنكزخان في العساكر إلى مدينة مرو، وقد كان الناجون من هذه الوقائع انزووا إليها فاجتمعوا بظاهرها أكثر من مائتي ألف لا يشكون في الظفر، فلما زحف إليهم التتر ولوا منهزمين وأثخنوا فيهم. ثم حاصروا البلد خمسة أشهر واستنزلوا أميرها على الأمان. ثم قتلوهم جميعا وحضر جنكزخان قتلهم. يقال قتل فيها سبعمائة ألف. ثم ساروا إلى نيسابور فاقتحموها عنده وقتلوا وعاثوا، ثم إلى طرابلس كذلك. ثم ساروا إلى هراة فملكوها على الأمان وأنزلوا عندهم الشحنة وعادوا إلى جنكزخان بالطالقان، وهو يرسل العساكر والسرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا، وذلك كله سنة سبع عشرة، والله تعالى أعلم. إجفال جلال الدين ومسير التتر في إتباعه وفراره إلى الهند ثم بعث العساكر في طلب جلال الدين وقد كان بعد مهلك أبيه وخروج تركمان خاتون من خوارزم سار إليها وملكها واجتمع إليه الناس ثم نمي إليه أنّ قرابة تركمان خاتون وهم البياروتية مالوا إلى أخيه يولغ شاه وابن أختهم وأنهم يريدون الوثوب بجلال الدين ففرّ ولحق بنيسابور وجاءت عساكر التتر إلى خوارزم فأجفل يولغ شاه وأخواه ليلحقوا به بنيسابور فأدركهم التتر وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحمهم ثم سار إلى غزنة فملكها من يد الثوار الذين استولوا عليها أيام هذه الفتنة وذلك سنة ثمان عشرة ولحق به أمراء أبيه الذين تغلبوا على نواحي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 خراسان في هذه الفتنة وأزعجهم التتر عنها فحضروا مع جلال الدين كبسه التتر بقلعة قندهار ولحق فلهم بجنكزخان وبعث ابنه طولي خان لقتال جلال الدين فهزمه جلال الدين وقتله ولحق الفل من عساكره بجنكزخان فسار في أمم التتر ولقي جلال الدين فانهزم ولم يفلت من التتر إلا الأقلّ ورجع جلال الدين فنزل على نهر السند وقد كان جماعة من أمرائه انعزلوا عنه يوم الواقعة الأولى بسبب الغنائم فبعث إليهم يستألفهم فعاجله جنكزخان وقاتله ثلاثا ثم هزمه واعترضه نهر السند فاقتحمه وخلص إلى السند بعد أن قتل حرمه أجمعين وذلك سنة ثمان عشرة والله تعالى أعلم. أخبار غياث الدين بن خوارزم شاه مع التتر كان خوارزم شاه قد قسم الملك بين ولده فجعل العراق لغورنشاه وكرمان لغياث الدين تمر شاه فلم ينفذ إليها أيام أبيه فلما فرّ خوارزم شاه إلى ناحية الريّ لقيه ابنه غورنشاه صاحب العراق ثم كانت واقعة التترية على حدوى ولحق خوارزم شاه بجزيرة طبرستان ولحق غورنشاه بكرمان ثم رجع واستولى على أصبهان وعلى الري ثم زحف التتر إليه وحاصروه بقلعة أوند وقتلوه وكان أخوه غياث الدين بكرمان وملكه بينه وبين بقا طرابلسي أتابكه وفرّ إلى ناحية أذربيجان واستولى غياث الدين على العراق ومازندان وخوزستان فأقطع بقا طرابلسي همذان ثم سار غياث الدين إلى أذربيجان فصانعه صاحبها أزبك بن البهلوان ولحق به من كان متغلبا من أمراء أبيه بخراسان وكان أبنايخ خان نائب بخارى قد تغلب بعد الواقعة على نسا ونواحيها وجرجان وعلى شيروان وعامّة خراسان وكان تكين بهلوان متغلبا على مرو فعبر جيحون سنة سبع عشرة وكبس شحنة التتر وأتبعوه إلى شيروان ولقوا إبنايخ خان على جرجان فهزموه ونجا فلهم إلى غياث الدين على العراق والريّ وما وراءها في الجنوب من موكان وأذربيجان وبقيت خوارزم طوائف وفي كلّ ناحية منها متغلب وعساكر التتر في كلّ وقت تدوّخ بلاد العراق وغياث الدين منهمك في لذاته والله تعالى أعلم. رجوع جلال الدين من الهند واستيلاؤه على العراق وكرمان وأذربيجان ثم زحف التتر إليه ثم رجع جلال الدين من الهند سنة إحدى وعشرين واستولى على ملك أخيه غياث الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 بالعراق وكرمان وبعث إلى الخليفة يطلب الخطبة فلم يسعف فاستعدّ لمحاربته وقد كانت بلاد الري من بعد تخريب التتر المغربة لها عاد إليها بعض أهلها وعمروها فبعث إليها جنكزخان عسكرا من التتر فخربوها ثانية وخربوا ساوة وقم وقاشان وأجفل أمامهم عسكر خوارزم شاه من همذان فخربوها واتبعوهم فكبسوهم في حدود أذربيجان ولحق بعضهم بتبريز والتتر في اتباعهم فصانعهم صاحبها أزبك بن البهلوان وبعث بهم إلى التتر الذين في أتباعهم بعد أن قتل جماعة منهم وبعث برءوسهم وبالأموال على سبيل المصانعة فرجعوا عن بلاده وسار جلال الدين إلى أذربيجان سنة اثنتين وعشرين فملكها وكانت له فيها أخبار ذكرناها في دولته ثم بلغ السلطان جلال الدين أنّ التتر زحفوا من بلادهم وراء النهر إلى العراق فنهض من تبريز للقائهم في رمضان سنة خمس وعشرين ولقيهم على أصبهان وإنفض عنه أخوه غياث الدين في طائفة من العساكر وانهزمت ميسرة التتر وسار السلطان في اتباعهم وقد أكمنوا له وأحاطوا به واستشهد جماعة ثم صدق عليهم الحملة فأفرجوا له ومضى لوجهه وانهزمت العساكر إلى فارس وكرمان وأذربيجان ورجع المتبعون للتتر من قاشان فوجدوه قد انهزم فافترقوا أشتاتا ولحق السلطان بأصبهان بعد ثمانية أيام فوجد التتر يحاصرون أصبهان فبرز إليهم في عساكرها وهزمهم وأتبعهم إلى الريّ وبعث العساكر في اتباعهم إلى خراسان ورجع إلى أذربيجان وأقام بها وكانت له فيها أخبار مذكورة في دولته والله سبحانه وتعالى أعلم مسير التتر إلى أذربيجان واستيلاؤهم على تبريز واقعتهم على جلال الدين بآمد ومقتله كان التتر لما استقرّوا فيما وراء النهر عمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها وبقيت خراسان خاوية واستبد بالمدن فيها طوائف من الأمراء أشباه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين منذ جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وأذربيجان وأران وما إلى ذلك وبقيت خراسان مجالا لغزاة التتر وعساكرهم وسارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين إلى أصبهان وكانت بينهم وبين جلال الدين الواقعة كما مرّ ثم زحف جلال الدين إلى خلاط وملكها. وزحف إليه صاحبها الأشرف بن العادل من الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم، وأوقعوا به كما مرّ في أخباره سنة سبع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 وعشرين، الواقعة التي أوهنت منه وحلّت عرى ملكه. وكان مقدم الإسماعيلية بقلعة الموت عدوا لجلال الدين بما أثخن في بلاده، وقرّر عليه وظائف الأموال، فبعث إلى التتر يخبرهم أن الهزيمة أوهنته ويحثهم على قصده، فسار إلى أذربيجان أول سنة ثلاث وعشرين. وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فرحل من تبريز إلى موقان وأقام بها في انتظار شحنة خراسان ومازندران، وشغل بالصيد فكبسه التتر ونهبوا معسكره، وخلص إلى نهر رأس من أرّان. ثم رجع إلى أذربيجان وشتّى بماهان. ثم جاءه النذير بمسير التتر إليه فرحل إلى أرّان وتحصن بها، وثار أهل تبريز لما بلغهم خبر الوقعة الأولى بمن عندهم من عساكر الخوارزمية وقتلوهم، ومنعهم رئيسهم الطغرياني من طاعة التتر. ووصل للسلطان جلال الدين ثم هلك قريبا فسلحوا بلادهم للتتر، وكذا فعل أهل كنجة وأهل سلعار. ثم سار السلطان إلى كنجة وارتجعها وقتل المعترضين للثورة فيها، وسار إلى خلاط واستمد الأشرف بن العادل صاحب الشام فعلله بالمواعيد، وسار إلى مصر ويئس من إنجاده فبعث إلى جيرانه من الملوك يستنجدهم مثل صاحب حلب وآمد وماردين. وجرّد عسكرا إلى بلاد الروم في خرت برت وملطية وأذربيجان فاقتحموها لما بين صاحبها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميع الملوك من ذلك وقعدوا عن نصرته. وجاءه الخبر وهو بخلاط أن التتر زحفوا إليه فاضطرب في رحله، وبعث أتابكه أو ترخان في أربعة آلاف فارس طليعة، فرجع وأخبره أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد، وأشار عليه قومه بالمسير إلى أصفهان، وزيّن له صاحب آمد قصد بلاد الروم وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر، ووعده الإمداد بنفسه يروم الانتقام من صاحب بلاد الروم لما ملك من قلاعه فخيم وعدل عن أصفهان ونزل بآمد. وبعث إليه التركمان بالنذير وأنهم رأوا نيران التتر فاتهم خبرهم. وصحبه التتر على آمد منتصف شوال سنة ثمان وعشرين وأحاطوا بخيمته، وحمل عليهم أتابكه أوترخان وكشفهم عن الخيمة. وركب السلطان وأسلم أهله وسواده، ورد أو ترخان العساكر وانتبذ ليتوارى عن عين العدو. وسار أوترخان الى أصفهان واستولى عليها الى أن ملكها التتر من يده سنة تسع وثلاثين. وذهب السلطان منجفلا [1] وقد امتلأت الدربندات والمضايق بالمفسدين من غير صنوفهم بالقتل والنهب، فأشار عليه أوترخان بالرجوع، فرجع إلى قرية من قرى ميافارقين ونزل في بيدرها وفارقه أو ترخان إلى حلب. وهجم التتر على السلطان بالبيدر وقتلوا من كان معه، وهرب فصعد إلى جبل الأكراد وهم   [1] ذهب ... (لغة ابن خلدون) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 مترصدون الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله. وشعر بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي، ودخل البيت في مغيبه بعض سفلتهم وهو يريد الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله، ولم يغن عنه أهل البيت. ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها، وملكوا مدينة أسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام، ومرّوا بميافارقين فامتنعت، ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها، ثم إلى سنجار وجبالها والخابور. ثم ساروا إلى أيدس فأحرقوها، ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا هاكري وأرجيش. وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال أربل ومرّوا في طريقهم بالتركمان الأيوبيّة والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا، وخرج إليهم والي أربل مستمدا أهلها وعساكر الموصل فلم يدركوهم فعادوا وبقيت البلاد قاعا صفصفا. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. التعريف بجنكزخان وقسمة الأعمال بين ولده وانفراده بالكرسي في قراقوم [1] وبلاد الصين هذا السلطان جنكزخان هو سلطان التتر لعهده ثم من المغل أحد شعوبهم، وفي كتاب لشهاب الدين بن فضل الله: أنه من قبيلة أشهر قبائل المغل وأكبرهم، (وزايه التي بين الكاف والخاء ليست صريحة وإنما مشتملة بالصاد فينطق بها بين الصاد والزاي) وكان اسمه تمرجين ثم أصاروه جنكزخان تمام الاسم وهو بمعنى الملك عندهم. وأما نسبته فهي هكذا: جنكز بن بيسوكي بن بهادر بن تومان برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن مودنجة، أحد عشر اسما أعجميا صعبة الضبط وهذا منحاها. وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني إمام المعقولات بالمشرق أخذها عن أصحاب نظير الدين الطوسي قال: أنّ مودنجة اسم امرأة وهي جدتهم من غير أب. قالوا: وكانت متزوجة وولدت ولدين اسم أحدهما بكتوت والآخر بلكتوت، ويقال لولدها بنو الدلوكية. ثم مات زوجها وتأيمت وحملت وهي أيم فنكر عليها أقرباؤها فذكرت أنها رأت بعض الأيام نورا دخل في فرجها ثلاث مرات، وطرأ عليها الحمل   [1] قراقوم: بفتح القاف والراء المهملة وألف وقاف مضمومة وواو ساكنة وميم، معناه الرمل الأسود بالتركية. قال ابن سعيد: وقراقوم كانت قاعدة التتر، وفي جهاتها بلاد المغل، وهم خالصة التتر ومنها خاناتهم (تقويم البلدان لأبي الفداء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 بعده. وقالت لهم: إن في حملها ثلاثة ذكور، فإن صدق ذلك عند الوضع وإلا فافعلوا ما بدا لكم. فوضعت ثلاثة توائم من ذلك الحمل فظهرت براءتها بزعمهم، اسم أحدهم: برقد والآخر قونا والثالث نجعو وهو جد جنكزخان الّذي في عمود نسبه كما مرّ، وكانوا يسمونهم النورانيين نسبة الى النور الّذي ادعته. ولذلك يقولون جنكزخان ابن الشمس. وأما أوليته فقال يحيى بن أحمد بن علي النسابي كاتب جلال الدين خوارزم شاه في تاريخ دولته أنّ مملكة الصين متسعة ودورها مسيرة تسعة أشهر وهي منقسمة من قديم الزمان على تسعة أجزاء كلّ جزء منها مسيرة شهر ويتولى ملك كل جزء منها ملك يسمى بلغتهم خان ويكون نائبا عن الخان الأعظم قال وكان الأعظم الّذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له طرخان توارثها عن آبائه وكان مقيما بطوغاج وهي وسط الصين وكان جنكزخان من أولئك الخانات الستة وكان من سكان البدو ومن أهل النجدة والشرف وكان مشتاه فارعون من بلاد الصين وكان من خاناتهم أيضا ملك آخر اسمه دوشي خان كان متزوّجا بزوجة جنكزخان واتفقت وفاته فحضر جنكزخان يوم وفاة زوجها دوشي خان فولته مكانه وحملت قومها على طاعته وبلغ الخبر إلى الخان الأعظم طرخان فنكر ذلك وزحف إليهم فقاتلوه وهزموه وغلبوه على أثر بلاده ثم صالحهم عليها وأقام متغلبا ثم مات بقية الخانات الستة وانفرد جنكزخان بأمرهم جميعا وأصبح ملكهم وكان بينه وبين خوارزم شاه من الحروب ما قدّمناه وفي كتاب ابن فضل الله محكيا عن الصاحب علاء الدين عطاء وحدّثه به قال كان ملك عظيم من التتر في قبيلة عظيمة من قبائلهم يدعى أزبك خان وكان مطاعا في قومه فاتصل به جنكزخان فقرّبه واستخلصه ونافسه قرابة السلطان وسعوا به عنده حتى استفسدوه عليه وطوى له وتربص به وسخط أزبك خان على مملوكين عنده فاستجارا بجنكزخان فأجارهما وضمن لهما أمانه وأطلعاه على رأي السلطان فيه فاستوحش وحذر وثبة السلطان فأجفل أمامه وأتبعه السلطان في عساكره فلما أدركه كرّ عليه جنكزخان فهزمه وغنم سواده وما معه ثم استمرّت العداوة وانتبذ عن السلطان واستألف العساكر والأتباع وأفاض فيهم الإحسان فاشتدّت شوكته ودخل في طاعته قبيلتان عظيمتان من المغل وهما أورات ومنفورات فعظمت جموعه وأحسن إلى المملوكين اللذين حذراه من أزبك خان ورفع رتبتهما وكتب لهما العهود بما اختاراه وكتب فيها أن يستمرّ ذلك لهما إلى تسعة بطون من أعقابهما ثم جهز العساكر لحرب أزبك خان فهزمه وقتله واستولى على مملكة التتر بأسرها ولما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 توطأ أمره تسمى جنكزخان وكان اسمه تمرجين كما مرّ وكتب لهم كتابا في السياسة سماه السياسة الكبيرة ذكر فيه أحكام السياسة في الملك والحروب والأحكام العامّة شبه أحكام الشرائع وأمر أن يوضع في خزانته وأن تختص بقرابته ولم يكن يؤتى بمثله وإنما كان دينه ودين آبائه وقومه المجوسية حتى ملكوا الأرض واستفحلت دولتهم بالعراق والشمال وما وراء النهر وأسلم من ملوكهم من هداه الله للإسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى فدخلوا في عدد ملوك الإسلام إلى أن انقرضت دولهم وانقضت أيامهم والبقاء للَّه وحده وأما ولده فكثير وهو الّذي يقتضيه حال بداوته وعصبيته إلا أنّ المشهور منهم أربعة أولهم دوشي خان ويقال جرجي وثانيهم جفطاي ويقال كداي وثالثهم أوكداي ويقال أوكتاي ورابعهم طولي بين التاء والطاء والثلاثة الأول لأمّ واحدة وهي أوبولى بنت تيكي من كبار المغل وعدّ شمس الدين الأصبهاني الأربعة فقال جرجي وكداي وطولي وأوكداي وقال نظام الدين يحيى بن الحليم نور الدين عبد الرحمن الصيادي كاتب السلطان أبي سعيد فيما نقله عنه شهاب الدين بن فضل الله أنّ كداي هو جفطاي وجرجي هو طوشي فلما ملك جنكزخان البلاد قسم الممالك فكان لولده طوشي بلاد فيلاق إلى بلغار وهي دست القفجاق وأضاف إليه أران وهمذان وتبريز ومراغة وعيرلان وكتاي حدود آمد وقوباق وما أدري تفسير هذه وجعله ولي عهده وعين لجفطاي من الأيقور إلى سمرقند وبخارى وما وراء النهر ولم يعين لطولي شيئا وعين لأخيه أوتكين نوى بلاد أبخت ولا أدري معنى هذا الاسم ولما استفحل ملكه واستولى على هذه الممالك جلس على التخت وانتقل إلى وطنه القديم بين الخطا وإلا يقور وهو تركستان وكاشغر وفي ذلك الوطن مدينة قراقوم وبها كان كرسيه ومكانه بين أعمال ولده مكان المركز من الدائرة وكان كبير ولده طوشي ويقال دوشي ومات في حياته وخلف من الولد ناخوا وبركة وداوردة وطوفل هكذا قال ابن الحكيم وقال شمس الدين ناظو وبركة فقط ومات طولي أيضا في حياته في حربه مع جلال الدين خوارزم شاه بنواحي غزنة وخلف من الولد منكو قبلاي وأزبيك وهلاكو والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 ملوك التخت بقراقوم من بعد جنكزخان قال ابن فضل الله ولما هلك جنكزخان استقلّ أوكد اي بالتخت وبدست القفجاق وما معه وكان أصغر ولده وانتقل إلى قراقوم بمكانهم الأصلي فاعطى وقراياق التي كانت بيده لابنه كفود ولم يتمكن كداي وهو جفطاي من مملكة ما وراء النهر ونازع ناظو بن دوشي خان في أران وهمذان وتبريز ومراغة وبعث أميرا من أمرائها لحمل أموالها والقبض على عماله بها وقد كان ناظو كتب اليهم بالقبض على ذلك الأمير فقبضوا عليه وحملوه إلى ناظو فطحنه وبلغ ذلك إلى كفود فسار إلى ناظو في ستمائة ألف من العساكر وهلك قبل أن يصل اليه بعشر مراحل فبعث القوم إلى ناظو أن يكون صاحب التخت فأبى وجعله لأخيه منكوفان بن طولي وبعثه اليه وأخويه معه قبلاي وهلاكو وبعث معهم أخاه بركة بن طولي في مائة ألف من العساكر ليجلسه على التخت فلما عاد من بخارى لقي الشيخ شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين كبير الصوفية فأسلم على يده وتأكدت صحبته ومعه وحرضه على التمسك بطاعة الخليفة ومكاتبته المعتصم ومبايعته ومهاداته وتردّدت الرسل بينه وبين المعتصم وتأكدت الموالاة واستقل منكوفان بالتخت وولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها ووفد عليه جماعة من أهل قزوين وبلاد الجبل يشكون ما نزل بهم من ضرر الإسماعيلية وفسادهم فجهز أخاه هلاكو لقتالهم واستئصال قلاعهم فمضى لذلك وحسن لأخيه منكوفان الاستيلاء على أعمال الخليفة فأذن له فيه وبلغ ذلك بركة فنكره على أخيه ناظو الّذي ولى منكوفان لما كان بين بركة والمعتصم من الولاية والوصلة بوصية الشيخ الباخوري فبعث ناظو إلى أخيه هلاكو بالنهي عن ذلك وأن لا يتعدّى مكانه وبلغته رسل ناظو بذلك وهو فيما وراء النهر قبل أن يفصل بالعساكر فأقام سنين امتثالا لأمره حتى مات ناظو وتولى بركة مكانه فاستأذن أخاه منكوفان ثانية وسار لقصد الملاحدة وأعمال الخليفة فأوقع بالملاحدة وفتح قلاعهم واستلحمهم وأوقع بأهل همذان واستباحهم لميلهم إلى بركة وأخيه ناظو ثم سار إلى بركة بدست القفجاق فزحف اليه بركة في جموع لا تحصى والتقيا واستمرّ القتل في أصحاب هلاكو وهمّ بالهزيمة ثم حال نهر الكرّ بين الفريقين وعاد هلاكو في البلاد واستحكمت العداوة بينهما وسار هلاكو إلى بغداد فكانت له الواقعة المشهورة كما مرّ ويأتي في أخبار دولته إنشاء الله تعالى وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصبهاني أنّ هلاكو لم يكن مستقلا بالملك وانما كان نائبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 عن أخيه منكوفان ولا ضربت السكة باسمه ولا ابنه ابغا وانما ضربها منهم ارغو حين استقل فجعل اسمه في السكة مع اسم صاحب التخت قال وكان شحنة صاحب التخت لا يزال ببغداد إلى أن ملك قازان فطرد الشحنة وأفرد اسمه في السكة وقال ما ملكت البلاد الا بسيفي وبيت جنكزخان يرون أنّ بني هلاكو انما كانوا ثوارا وجنكزخان لم يملك طولي شيئا وأنّ أخاه منكوفان الذين ولاه عليها انما بعثه نائبا مع أنّ منكوفان انما ولاه ناظو بن دوشي خان كما مرّ قال ونقل عن ثقات أنه لم يبق هلاكو من يحقق نسبه لكثرة ما وقع فيهم من القتل غيرة على الملك ومن نجا طلب الاختفاء بشخصه فخفي نسبه الا ما قيل في محمل المنسوب إلى بحرحي قال شمس الدين الأصبهاني ونقله عن أمير كبير منهم أنّ أوّل من استقل بالتخت جنكزخان ثم ابنه أوكداي ثم ابنه كفود بن اوكداي ثم منكوفان بن طولي ثم أخوه اربيكان ثم أخوهما قبلاي ثم دمرفاي ويقال تمرفاي ثم تربى كيزي ثم كيزقان ثم سند مرقان بن طرما لابن جنكمر بن قبلاي بن طولي انتهى كلام ابن فضل الله وعن غيره أنّ منكوفان جهز عساكر التتر أيام ملكه على التخت إلى بلاد الروم سنة [1] مع أمير من أمراء المغل اسمه بيكو فملكها من يد بني قليج ارسلان كما هو مذكور في أخبارهم فأقامت في طاعة القان إلى أن انقرض أمر المغل منها ثم بعث منكوفان العساكر لغزو بلاد الخطا مع أخيه قبلاي بعد أن عهد له بالخانية ثم سار على اثره بنفسه واستخلف أخاه الآخر ازبك على كرسي قراقوم وهلك منكوفان في طريقه ذلك على نهر الطاي من بلاد الغور سنة ثمان وخمسين فجلس ازبك على التخت وعاد قبلاي من بلاد الخطا فزحف اليه ازبك فهزمه إلى بعض النواحي واستأثر بالغنائم عن اخوته وقومه فمالوا إلى طاعة قبلاي واستدعوه فجاء وقاتل أخاه ازبك فغلبه وتقبض عليه وحبسه واستقرّ في الغانية وبلغ الخبر إلى هلاكو وهو في الشام عند ما استولى عليه فرجع لما كان يؤمّله من الغانية ولما انتهى إلى جيحون بلغه استقلال أخيه قبلاي في الغانية وتبين له عجزه عنه فسالمه وقنع بما في يده ورجع إلى العراق ثم نازع قبلاي في الغنية لآخر دولته سنة سبع وثمانين بعض بني أوكداي صاحب التخت الأول وهو قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي ونزع اليه بعض أمراء قبلاي وزينوا له ذلك فسار له وبعث قبلاي العساكر للقائه مع ابنه تمقان فهزمه قيدو ورجع منهزما إلى أبيه فسخطه وطرده إلى بلاد الخطا ومات هنالك وسلط قبلاي على قيدو وكان غلب على ما وراء النهر براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي من بني جفطاي ملوك ما وراء النهر بوصية أبيهم جنكزخان   [1] بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 فغلبه براق واستولى على ما رواء النهر ثم هلك قبلاي صاحب التخت سنة ثمان وثمانين وملك ابنه سرتموق هذا ما انتهى إلينا من أخبار ملوك التخت بقراقوم من بني جنكزخان ولم نقف على غيرها والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وكرمه . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 ملوك بني جفطاي بن جنكزخان بتركستان وكاشغر وما وراء النهر هذا الإقليم هو مملكة الترك الاولى قبل الإسلام وأسلم ملوكهم على تركستان وكاشغر فأقاموا بها وملك بنو سامان نواحي بخارى وسمرقند واستبدّوا ومنها كان ظهور السلجوقية والتتر من بعدهم ولما استولى جنكزخان على البلاد أوصى بهذه المملكة لابنه جفطاي ولم يتمّ ذلك في حياته ومات جفطاي دونه فلما ولي منكوفان بن طولي على التخت ولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها وولى منكوفان فلما هلك ولى أخوه هلاكو ابنه مبارك شاه ثم غلب عليهم قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان وانتزع ما وراء النهر من أيديهم وكان جدّه كفوك صاحب التخت وبعده ولي منكوفان فلما ولي قيدو نازع صاحب التخت يومئذ وهو قبلاي وكانت بينهما حروب وأعان قبلاي في خلالها بني جفطاي على استرجاع ملكهم وولي منهم براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي وأمدّه بالعساكر والأموال فغلب قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان وانتزع من صاحب التخت يومئذ واستبدّ بملك آبائه ثم هلك فولي من بعده دوا ثم من بعد دوا بنون له أربعة واحدا بعد واحد وهم كجك ثم اسعا ثم كبك ثم انجكداي ثم ولي بعد الأربعة دواتمر ثم ترماشين ثم توزون بن أوماكان بن منكوفان بن جفطاي وتخلل هؤلاء من توثب على الملك ولم ينتظم له مثل سيساور بن اركتم بن بغاتمر بن براق ولم يزل ملكهم بعد ترماشين مضطربا إلى أن ملك منهم جنقصو بن دواتمر بن حلو بن براق بن سنتف كانوا كلهم على دين المجوسية وخصوصا دين جنكزخان وعبادته الشمس وكان فيما يقال على دين النجشية فكان بنو جفطاي يعضون عليها بالنواجذ ويتبعون سياسته مثل أصحاب التخت فلما صار الملك إلى ترماشين منهم أسلم رحمه الله سنة خمس وعشرين وسبعمائة وجاهد وأكرم التجار المتردّدين وكانت تجار مصر ممنوعين من بلاده فلما بلغهم ذلك قصدوها فحمدوها ولم انقرضت دول بني جنكزخان وتلاشت في جميع النواحي ظهر في أعقاب دولة بني جفطاي هؤلاء بسمرقند وما وراء النهر ملك اسمه تمر ولا أدري كيف كان يتصل نسبه فيهم ويقال انه من غير نسبهم وانما هو متغلب على صبيّ من أعقاب ملوكهم اسمه طغتمش أو محمود درج اسمه بعد مهلك أبيه واستبدّ عليه وأنه من أمرائهم وأخبرني من لقيته من أهل الصين أنّ أباه أيضا كان في مثل مكانه من الامارة والاستبداد وما أدري أهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 طيبة في نسب جفطاي أو من أحلافهم واتباعهم وأخبرني الفقيه برهان الدين الخوارزمي وهو من علماء خوارزم وأعيانها قال كان لعصره وأوّل ظهوره ببخارى رجل يعرف بحسن من أمراء المغل وآخر بخوارزم من ملوك صراي أهل التخت يعرف بالحاج حسن الصوفي تهيأ وزحف إلى بخارى فملكها من يد حسن ثم إلى خوارزم وطالت حروبه مع الحاج حسن الصوفي وحاصرها مرارا وهلك حسن خلال ذلك وولي أخوه يوسف فملكها تمر من يده وخربها في حصار طويل ثم كلف بعمارتها وبناء ما خرب منها وانتظم له الملك بما وراء النهر ونزل قجارى ثم زحف إلى خراسان فملك هراة من يد صاحبها وأظنه من بقايا ملوك الغورية ثم زحف إلى مازندان وطال تمرّسه وحروبه مع صاحبها الشيخ ولي إلى أن ملكها عليه سنة أربع وثمانين ولحق الشيخ ولي بتوريز إلى أن ملكها تمر سنة ثمان وثمانين فهلك في حروبه معها ثم زحف إلى أصبهان فآتوه طاعة ممرّضة وخالفه في قومه كبير من أهل نسبه يعرف بمعمر الدين وأمدّه طغتمش صاحب التخت بصراي فكرّ راجعا وشغل بحر به إلى أن غلبه ومحا أثره وغلب طغتمش على ما بيده من البلاد ثم زحف إلى بغداد سنة خمس وتسعين فأجفل عنها ملكها أحمد بن أويس ابن الشيخ حسن المتغلب عليه بعد بني هلاكو فلحق أحمد ببر الشأم سنة ست وتسعين واستولى تمر على بغداد والجزيرة وديار بكر إلى الفرات واستعدّ ملك مصر للقائه ونزل الفرات فأحجم عنه وتأخر عنه إلى قلاع الأكراد وأطراف بلاد الروم وأناخ على قراباغ ما بين أذربيجان والأبواب ورجع خلال ذلك طغتمش صاحب التخت إلى صراي وملكه فسار اليه تمر أوّل سنة سبع وتسعين وغلبه على ملكه وأخرجه عن سائر ممالكه ثم وصل الخبر آخر السنة بظفره بطغتمش وقتله إياه واستيلائه على جميع أعماله والحال على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها وفي خبر العجم أنّ ظهوره سنة عذب يعنون سنة اثنين وسبعين وسبعمائة بحساب الجمل في حروف هذه اللفظة والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 الخبر عن ملوك بني دوشي خان من التتر ملوك خوارزم ودست القفجاق ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدّم لنا أنّ جنكزخان عين هذه البلاد لابنه دوشي خان وملكه عليها وهي مملكة متسعة في الشمال آخذة من خوارزم إلى ناركند وصفد وصراي إلى مدينة ما جرى واران وسرادق وبلغار وباشقرد وجدلان وفي حدود هذه المملكة مدينة باكو من مدن شروان وعندها باب الحديد ويسمونه دمرقفو وسمر حدود هذه المملكة في الجنوب إلى حدود القسطنطينية وهي قليلة المدن كثيرة العمارة والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 دوشي خان بن جنكزخان وأوّل من وليها من التتر دوشي خان فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك في حياة أبيه كما مرّ سنة. ناظو خان بن دوشي خان ولما هلك دوشي خان ولي مكانه ابنه ناظو خان ويقال صامر خان ومعناه الملك المغير فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك سنة خمسين وستمائة. طرطو بن دوشي خان ولما هلك ناظو ولي أخوه طرطو فأقام ملكا سنتين وهلك سنة اثنتين وخمسين ولما هلك ولي مكانه أخوه بركة هكذا نقل ابن فضل الله عن ابن الحكيم وقال المؤيد صاحب حماة في تاريخه انه لما هلك طرطو هلك من غير عقب وكان لأخيه ناظو خان ولدان وهما تدان وبركة وكان مرشحا للملك فعدل عنه أهل الدولة وملكوا أخاه بركة وسارت أمّ تدان إلى هلاكو عند ما ملك العراق تستحثه لملك قومها فردّوها من الطريق وقتلوها واستمرّ بركة في سلطانه انتهى فنسب المؤيد بركة إلى ناظو خان بن دوشي خان وابن الحكيم على ما نقل ابن فضل الله جعله ابن دوشي خان نفسه وذكر المؤيد قصة إسلامه على يد شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين وانّ الباخوري كان مقيما ببخارى وبعث إلى بركة يدعوه إلى الإسلام فأسلم وبعث اليه كتابه بإطلاق يده في سائر أعماله بما شاء فردّه عليه وأعمل بركة الرحلة إلى لقائه فلم يأذن له في الدخول حتى تطارح عليه أصحابه وسهلوا الاذن لبركة فدخل وجدّد الإسلام وعاهده الشيخ على إظهاره الإسلام وان يحمل عليه سائر قومه فحملهم واتخذ المساجد والمدارس في جميع بلاده وقرب العلماء والفقهاء ووصلهم وسياق القصة على ما ذكره المؤيد يدل على أنّ إسلامه كان أيام ملكه وعلى ما ذكر ابن الحكيم أنّ إسلامه كان أيام أخيه ناظو ولم يذكر ابن الحكيم طرطو وانما ذكر بعد ناظو أخاه بركة ولم نقف على تاريخ لدولتهم حتى يرجع اليه وهذا ما أدّى اليه الاجتهاد وما بعدها مأخوذ من تاريخ المؤيد صاحب حماة من بني المظفر بن شاهنشاه بن أيوب قال ثم بعث بركة أيام سلطانه أخاه ناظو إلى ناحية الغرب للجهاد وقاتل ملك اللمان من الافرنج فانهزم ورجع ومات أسفا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 ثم حدثت الفتنة بين بركة وبين قبلاي صاحب التخت وانتزع بركة الخاقانية من أعمال قبلاي وولى عليها سرخاد ابن أخيه ناظو وكان على دين النصرانية وداخله هلاكو في الانتقاض على عمه بركة إلى أخيه قبلاي صاحب التخت ويقطعه الخاقانية وما يشاء معها وشعر بركة بشأنه وأنّ سرخاد يحاول قتله بالسمّ فقتله وولى الخاقانية أخاه مكانه وأقام هلاكو طالبا بثأر سرخاد ووقعت الحرب بينه وبين بركة على نهر آمد سنة ستين ثم هلك هلاكو سنة ثلاث وستين وولي ابنه ابغا فسار إلى حربه وسرّح بركة للقائه سنتاي بن بانيغان بن جفطاي ونوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان فلما التقى الجمعان أحجم سنتاي ورجع منهزما وانهزم ابغا أمام نوغيثة وأثخن في عساكره وعظمت منزلة نوغيثة عند بركة وسخط بركة سنتاي وساءت منزلته عنده إلى أن هلك بركة سنة خمس وستين والله سبحانه وتعالى أعلم. منكوتمر بن طغان بن ناظو خان ولما هلك بركة ملك الدست بالشمال ملك مكانه منكوتمر بن طغان بن ناظو خان ابن دوشي خان وطالت أيامه وزحف سنة سبعين إلى القسطنطينية لجدة وجدها على الاشكر ملكها فتلقاه بالخضوع والرغبة ورجع عنه ثم زحف سنة ثمانين إلى الشام في مظاهرة ابغا بن هلاكو ونزل بين قيسارية وابلستين من بلاد الروم ثم أجاز الدربند ومرّ بابغا وهو منازل الرحبة وتقدّم مع أخيه منكوتمر بن هلاكو إلى حماة فنازلوها وزحف اليهم المنصور قلاون ملك مصر والشام من دمشق ولقيهم بظاهر حمص وكانت الدائرة على ملوك التتر وهلك خلق من عساكرهم وأسر آخرون وأجفل ابغا من منازلة الرحبة ورجعوا إلى بلادهم منهزمين وهلك على أثر ذلك منكوتمر ملك الشمال ومنكوتمر بن هلاكو سنة احدى وثمانين ولما هلك منكوتمر ملك مكانه ابنه تدان وجلس على كرسي ملكهم بصراي فأقام خمس سنين ثم ترهب وخرج عن الملك سنة ست وثمانين وانقطع إلى صحبة المشايخ الفقراء ولما ترهب تدان بن منكوتمر وخرج عن الملك ملك مكانه اخوه قلابغا وأجمع على غزو بلاد الكرك واستنفر نوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان وكان حاكما على طائفة من بلاد الشمال وله استبداد على ملوك بني دوشي خان فنفر معه في عساكره وكانت عظيمة ودخلوا جميعا بلاد الكرك وأغاروا عليها وعاثوا في نواحيها وفصلوا منها وقد تمكن فصل الشتاء وسلك السلطان مسافة اعتسف فيها البيداء وهلك أكثر عساكره من البرد والجوع وأكلوا دوابهم وسار نوغيثة من أقرب المسالك فنجا إلى بلاده سالما من تلك الشدّة فاتهمه السلطان قلابغا بالادهان في أمره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 604 وكان ينقم عليه استبداده حتى انه قتل امرأة كنجك وكانت متحكمة في أيام أبيه وأخيه وشكت إلى نوغينة [1] فأمر بقتلها خنقا وقتل أميرا كان في خدمتها اسمه بيطرا فتنكر له قلابغا وأجمع الفتك به وأرسل يستدعيه لما طوي له عليه ونمي الخبر بذلك إلى نوغينة فبالغ في إظهار النصيحة والإشفاق على السلطان وخاطب أمّه بأنّ عنده نصائح يودّ لو ألقاها إلى السلطان في خلوة فثنت ابنها عن رأيه فيه وأشارت عليه باستدعائه والاطلاع على ما عنده وجاء نوغينة وقد بعث عن جماعة من اخوة السلطان قلابغا كانوا يميلون اليه ومنهم طغطاي وبولك وصراي وتدان بنو منكوتمر بن طغان فجاءوا معه وقد توقفوا لمّا هجم السلطان قلابغا وركب للقاء نوغينة في لمة من عسكره وجاء نوغينة وقد أكمن له طائفة من العسكر فلما التقيا تحادثا مليا وخرج الكمناء وأحاطوا بالسلطان وقتلوه سنة تسعين وستمائة واقبل طغطاي ابن منكوتمر ولما قتل قلابغا ولوا مكانه طغطاي لوقته ورجع نوغينة إلى بلاده وبعث إلى طغطاي في قتل الأمراء الذين داخلوا قلابغا في قتله فقتلهم طغطاي أجمعين ثم تنكر طغطاي لنوغينة لما كان عليه من الاستبداد وأنف طغطاي منه وأظلم الجوّ بينهما واجتمع أعيان الدولة إلى نوغينة فكان يوغر صدرهم على طغطاي واصهر إلى طاز بن منجك منهم بابنته فسار اليه طغطاي ولقيه نوغينة فهزمه واعترضه نهر مل فغرق كثير من عسكره ورجع نوغينة عن اتباعه واستولى على بلاد الشمال وأقطع سبطه قراجا بن طشتمر سنة ثمان وسبعين مدينة القرم وسار اليها لقبض أموالها فأضافوه وبيتوه وقتلوه من ليلته وبعث نوغينة العساكر إلى القرم فاستباحوها وما يجاورها من القرى والضياع وخرب سائرها وكان نوغينة كثير الإيثار لأصحابه فلما استبدّ بأمره آثر ولده على الأمراء الذين معه وحسوا عليهم وكان رديفه من ملك المغل اياجي بن قرمش وأخوه قراجا فلما آثر ولده عليهما نزعا إلى طغطاي في قومها وسار ولد نوغينة في اتباعهما فرجع بعضهم واستمرّ الباقون وقتل ولد نوغينة من رجع معه من أصحاب اياجي وقراجا وولدهم فامتعض لذلك أمراء المغل الذين معه ولحقوا بطغطاي واستحثوه لحرب نوغينة فجمع وسار اليه سنة تسع وتسعين بكو كان لك فانهزمت عساكر نوغينة وولده وقتل في المعركة وحمل رأسه إلى طغطاي فقتل قاتله وقال السوقة لا تقتل الملوك واستبيح معسكر نوغينة وبيع سباياهم وأسراهم في الأقطار وكان بمصر منهم جماعة استرقوا بها وانتظموا في ديوان جندها ولما هلك نوغينة خلفه في أعماله ابنه جكك وانتقض عليه أخوه فقتله فاستوحش لذلك أصحابه وأجمعوا الفتك به وتولى ذلك نائبة طغرلجاي وصهره على أخته طاز بن منجك ونمي الخبر بذلك اليه وهو في بلاد اللاز والروس غازيا فهرب ولحق   [1] هكذا وقد وردني نسخ اخرى نوغيثة ونوغيثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 605 ببلاده ثم لحق به عسكره فعاد إلى حربهم وغلبهم على البلاد ثم أمدّهما طغطاي على جكا بن نوغينة فانهزم ولحق ببلاد أولاق وحاول الامتناع ببعض القلاع من بلاد أولاق وفيها صهره فقبض عليه صاحب القلعة واستخدم بها الطغطاي فأمره بقتله سنة احدى وسبعمائة ونجا أخوه طراي وابنه قراكسك شريدين وخلا الجو لطغطاي من المنازعين والمخالفين واستقرّت في الدولة قدمه وقسم أعماله بين أخيه صراي بغا وبين ابنيه وأنزل منكلي بغا من ابنيه في عمل نهر طنا مما يلي باب الحديد ثم رجع صراي بن نوغينة من مفره واستذم بصراي بغا أخي طغطاي فأذمّه وأقام عنده فلما أنس به كشف له القناع عما في صدره واستهواه للانتقاض على أخيه طغطاي وكان أخوهما ازبك أكبر منه وكان مقيما عند طغطاي فركب اليه صراي بغا ليفاوضه في الشأن فاستعظمه واطلع عليه أخاهما طغطاي فأمره لوقته بإحضار أخيه صراي بغا وصراي بن نوغينة وقتلهما واستضاف عمل أخيه صراي بغا لابنه ايل بهادر ثم بعث في طلب قراكسك بن نوغينة فأبعد في ناحية الشمال واستذم ببعض الملوك هنالك ثم هلك سنة تسع وسبعمائة أخوه بذلك وابنه ايل بهادر وهلك طغطاي بعدهما سنة اثنتي عشرة والله تعالى أعلم. أزبك بن طغرلجاي بن منكوتمر ولما هلك طغطاي بايع نائبة قطلتمر لازبك ابن أخيه طغرلجاي بإشارة الخاتون تنوفالون زوج أبيه طغرلجاي وعاهده على الإسلام فأسلم واتخذ مسجدا للصلاة وأنكر عليه بعض أمرائه فقتله وتزوّج الخاتون بثالون وكانت المواصلة بين طغطاي وبين ملوك مصر ومات طغطاي ورسله عند الملك الناصر محمد بن قلاون فرجعوا إلى أزبك مكرمين وجدّد أزبك الولاية معه وحببه قطلتمر في بعض كرائمهم يرغبه وعين له بنت بذلك أخي طغطان وتكرّرت الرسالة في ذلك إلى أن تم الأمر وبعثوا بكريمتهم المخطوبة إلى مصر فعقد عليها الناصر وبنى بها كما مرّ في أخباره ثم حدثت الفتنة بين أزبك وبين أبي سعيد ملك التتر بالعراق من بني هلاكو وبعث أزبك عساكره إلى أذربيجان وكان بنو دوشي يدعون أنّ توريز ومراغة لهم وأنّ القان لما بعث هلاكو لغزو بلاد الإسماعيلية وفتح بغداد استكثر من العساكر وسار معه عسكر أهل الشمال هؤلاء وقرّرت لهم العلوفة بتوريز ولما مات هلاكو طلب بركة من ابنه ابغا أن يأذن له في بناء جامع تبريز ودار لنسج الثياب والطرز فأذن له فبناهما وقام بذلك ثم اصطلحوا وأعيدت فادعى بنو دوشي خان أنّ توريز ومراغة من اعمالهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 606 ولم يزالوا مطالبين بهذه الدعوة فلما وقعت هذه الفتنة بين أزبك وأبي سعيد افتتح أمره بغزو موقان فبعث العساكر اليها سنة تسعة عشر فاكتسحوا نواحيها ورجعوا وجمع جوبان على دولته وتحكمه في بني جنكزخان وأنه يأنف أن يكون براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي ملكا على خوارزم فأغزاه أزبك فملك خراسان وأمدّه بالعساكر مع نائبة قطلتمر وسار سيول لذلك وبعث أبو سعيد نائبة جوبان لمدافعتهما فلم يطق وغلب سيول على كثير من خراسان وصالحه جوبان عليها وهلك سيول سنة عشرين ثم عزل أزبك نائبة قطلتمر سنة احدى وعشرين وولي مكانه عيسى كوكز ثم ردّه سنة أربع وعشرين إلى نيابته ولم تزل الحرب متصلة بين أزبك وأبي سعيد إلى أن هلك أبو سعيد سنة ست وثلاثين ثم هلك القان في هذه السنة ولما هلك أزبك بن طغرلجاي ولي مكانه ابنه جاني بك وكان أبو سعيد قد هلك قبله كما قلناه ولم يعقب وولي مكانه على العراق الشيخ حسن من أسباط ابغا بن هلاكو وافترق الملك في عمالاتهم طوائف وردد جاني بك العساكر إلى خراسان إلى أن ملكها سنة ثمان وخمسين ثم زحف إلى أذربيجان وتوريز وكان قد غلب عليها الشيخ الصغير ابن دمرداش بن جوبان وأخوه الأشرف من بعده كما يذكر في أخبارهم أن شاء الله تعالى فزحف جاني بك في العساكر إلى آذربيجان بتلك المطالبة التي كان سلفه يدعون بها فقتل الأشرف واستولى على توريز وآذربيجان وانكفأ راجعا إلى خوزستان بعد أن ولى على توريز ابنه بردبيك واعتل جاني بك في طريقه ومات. بردبيك بن جاني ولما اعتل جاني في ذهابه من توريز إلى خراسان طير أهل الدولة الخبر إلى ابنه بردبيك وقد استخلفه في توريز فولى عليها أميرا من قبله وأغذ السير إلى قومه ووصل إلى صراي وقد هلك أبوه جاني فولوه مكانه واستقل بالدولة وهلك لثلاث سنين من ملكه. ماماي المتغلب على مملكة صراي ولما هلك بردبيك خلف ابنه طغطمش غلاما صغيرا وكانت أخته بنت بردبيك تحت كبير من أمراء المغل اسمه ماماي وكان متحكما في دولته وكانت مدينة القرم من ولايته وكان يومئذ غائبا بها وكان جماعة من أمراء المغل متفرّقين في ولايات الأعمال بنواحي صراي ففرقوا الكلمة واستبدّوا بأعمالهم فتغلب حاجي شركس على ناحية منج طرخان وتغلب أهل خان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 607 على عمله وايبك خان كذلك وكانوا كلهم يسمون أمراء المسيرة فلما هلك بردبيك وانقرضت الدولة واستبدّ هؤلاء في النواحي خرج ماماي إلى القرم ونصب صبيا من ولد أزبك القان اسمه عبد الله وزحف به إلى صراي فهرب منها طغطمش ولحق بمملكة أرض خان في ناحية جبال خوارزم إلى مملكة بني جفطاي بن جنكزخان في سمرقند وما وراء النهر والمتغلب عليها يومئذ السلطان تمر من أمراء المغل وقد نصب صبيا منهم اسمه محمود وطغطمش وتزوّج أمّه واستبدّ عليه فأقام طغطمش هناك ثم تنافس الأمراء المتغلبون على أعمال صراي وزحف حاجي شركس صاحب عمل منج طرخان إلى ماماي فغلبه على صراي فملكها من يده وسار ماماي إلى القرم فاستبدّ بها ولما زحف حاجي شركس من عمله بعث أرض خان عساكره من نواحي خوارزم فحاصروا منج طرخان وبعث حاجي العساكر اليهم مع بعض أمرائه فأعمل الحيلة حتى هزمهم عن منج طرخان وفتك بهم وبالأمير الّذي يقودهم وشغل حاجي شركس بتلك الفتنة فزحف اليه ايبك خان وملك صراي من يده واستبدّ بها أياما ثم هلك وولي بعده بصراي ابنه قاريخان ثم زحف اليه أرض خان من جبال خوارزم فغلبه على صراي وهرب قاريخان بن ايبك خان وعادوا إلى عملهم الأوّل واستقرّ أرض خان بصراي وماماي بالقرم ما بينه وبين صراي في مملكته وكان هذا في حدود أعوام سنة ست وسبعين وطغطمش في خلال ذلك مقيم عند السلطان تمر فيما وراء النهر ثم طمحت نفس طغطمش إلى ملك آبائه بصراي فجهز معه السلطان تمر العساكر وسار بها فلما بلغ جبال خوارزم اعترضه هناك عساكر أرض خان فقاتلوه وانهزم ورجع إلى تمر ثم هلك أرض خان قريبا من منتصف تلك السنة فخرج السلطان تمر بالعساكر مع طغطمش مددا له إلى حدود عمله ورجع واستمرّ طغطمش فاستولى على أعمال أرض خان بجبال خوارزم ثم سار إلى صراي وبها عمال أرض خان فملكها من أيديهم واسترجع ما تغلب عليه ماماي من ضواحيها وملك أعمال حاجي شركس في منج طرخان واستنزع جميع ما كان بأيدي المتغلبين ومحا أثرهم وسار إلى ماماي بالقرم فهرب أمامه ولم يوقف على خبره ثم صح الخبر بمهلكه من بعد ذلك واستوسق الملك بصراي وأعمالها لطغطمش بن بردبيك كما كان لقومه. حروب السلطان تمر مع طغطمش صاحب صراي قد ذكرنا فيما مرّ ظهور هذا السلطان تمر في دولة بني جفطاي وكيف أجاز من بخارى وسمرقند إلى خراسان أعوام أربعة وثمانين وسبعمائة فنزل على هراة وبها ملك من بقايا الغورية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 608 فحاصرها وملكها من يده ثم زحف إلى مازندان وبها الشيخ ولي تغلب عليها بعد بني هلاكو فطالت حروبه معه إلى أن غلبه عليها ولحق الشيخ ولي بتوريز في فل من أهل دولته ثم طوى تمر الممالك طيا وزحف إلى أصبهان فآتاه ابن المظفر بها طاعته ثم إلى توريز سنة سبع وثمانين فملكها وخربها وكان قد زحف قبلها إلى دست القفجاق بصراي فملكها من يد طغطمش وأخرجه عنها فأقام بأطراف الأعمال حتى أجاز تمر إلى أصبهان فرجع إلى كرسيه وكان للسلطان تمر قريع في قومه يعرف بقمر الدين فراسله طغطمش صاحب صراي وأغراه بالانتقاض على تمر وأمدّه بالأموال والعساكر فعاث في تلك البلاد وبلغ خبره إلى تمر منصرفه من فتحه فكر راجعا وعظمت حروبه مع قمر الدين إلى أن غلبه وحسم علته وصرف وجهه إلى شانه الأوّل وقرر الزحف إلى طغطمش وسار طغطمش للقائه ومعه اغلان بلاط من أهل بيته فداخله تمر وجماعة الأمراء معه واستراب بهم طغطمش وقد حان اللقاء وتصافوا للحرب فصدم ناحية من عسكر تمر وصدم من لقي فيها وتبدد عياله وافترق الأمراء الذين داخلوا تمر وساروا إلى الثغور فاستولوا عليها وجاء طغطمش إلى صراي فاسترجعها وهرب اغلان بلاط إلى القرم فملكها وزحف اليه طغطمش في العساكر فحاصرها وخالفه أرض خان إلى صراي فملكها فرجع طغطمش وانتزعها من يده ولم تزل عساكره تختلف إلى القرم وتعاهدها بالحصار إلى أن ملكها وظفر باغلان بلاط فقتله وكان السلطان تمر بعد فراغه من حروبه مع طغطمش سار إلى أصبهان فملكها أيضا واستوعب ملوك بني المظفر وعاملهم بالقتل وانتظم له أعمالهم جميعا في مملكته ثم زحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أويس سنة خمس وتسعين كما مرّ ذكره ولحق أحمد بالسلطان الظاهر صاحب مصر مستصرخا به فخرج معه في العساكر وانتهى إلى الفرات وقد سار تمر عن بغداد إلى ماردين فحاصرها وملكها وامتنعت عليه قلعتها فعاج من هنالك إلى حصون الأكراد ثم إلى بلاد الأرمن ثم إلى بلاد الروم وبعث السلطان الظاهر صاحب مصر العساكر مددا لابن أويس فسار إلى بغداد وبها شرذمة من عسكر تمر فملكها من أيديهم ورجع الملك الظاهر إلى مصر وقد أظلّ الشتاء ورجع تمر إلى نواحي أعماله فأقام في عمل قراباق ما بين آذربيجان وهمذان والأبواب ثم بلغ الخبر إلى تمر فسار من مكانه ذلك إلى محاربة طغطمش وعميت أنباؤه مدّة ثم بلغ الخبر آخر سنة سبع وتسعين إلى السلطان فأن تمر ظفر بطغطمش وقتله واستولى على سائر أعماله والله غالب على أمره انتهى . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 609 ملوك غزنة وباميان من بني دوشي خان كانت أعمال غزنة وباميان هذه قد صارت لدوشي خان وهي من أعمال ما وراء النهر من جانب الجنوب وتتاخم سجستان وبلاد الهند وكانت في مملكة بني خوارزم شاه فملكها التتر لأوّل خروجهم من أيديهم وملكها جنكزخان لابنه دوشي خان وصارت لابنه أردنو ثم لابنه انجبي بن أردنو وهلك على رأس المائة السابعة وخلف من الولد بيان وكبك ومنغطاي وانقسمت الأعمال بينهم وكان كبيرهم بيان في غزنة وقام بالملك بعد انجبي ابنه كبك وانتقض عليه أخوه بيان واستمدّ بطغطاي صاحب صراي فامدّه بأخيه بذلك واستنجد كبك بقندو فأمدّه ولم يغن عنه وانهزم ومات سنة تسع وسبعمائة واستولى بيان على الأعمال وأقام بغزنة وزحف اليه قوشناي ابن أخيه كبك واستمدّ بقندو وغلب عمه على غزنة ولحق بيان بطغطاي واستقرّ قوشناي بغزنة ويقال أنّ الّذي غلب عليها انما هو أخوه طغطاي ولم نقف بعد على شيء من أخبارهم والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 610 ملوك التخت بصراي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 611 دولة بني هولاكو دولة بني هلاكو ملوك التتر بالعراقين وخراسان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدّم لنا أنّ جنكزخان عهد بالتخت وهو كرسي الملك بقراقوم لابنه أوكداي ثم ورثه من بعده كفود بن أوكداي وأنّ الفتنة وقعت بينه وبين صاحب الشمال من بني جنكزخان وهو ناظو بن دوشي خان صاحب التخت بصراي وسار اليه في جموع المغل والتتر وهلك في طريقه وسلم المغل الذين معه التخت لناظو فامتنع من مباشرته بنفسه وبعث اليه أخاه منكوفان وبعث معه بالعساكر أخويه الآخرين قبلاي وهلاكو ومعهما أخوهما بركة ليجلسه على التخت فأجلسه سنة خمسين وذكرنا سبب إسلام بركة عند مرجعه وأنّ منكوفان استقلّ بالتخت وولى بني جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان وبعث أخاه هلاكو لتدويخ عراق العجم وقلاع الإسماعيلية ويسمون الملاحدة والاستيلاء على ممالك الخليفة. هلاكو بن طولي ولما بعث منكوفان أخاه إلى العراق فسار لذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة وفتح الكثير من قلاعهم وضيق بالحصار مخنقهم وولى خلال ذلك في كرسي صراي بالشمال بركة بن ناظو بن دوشي خان فحدثت الفتنة بينه وبين هلاكو ونشأت من الفتنة الحرب وسار بركة ومعه نوغان بن ططر بن مغل بن دوشي خان والتقوا على نهر نول وقد جمد ماؤه لشدّة البرد وانخسف من تحته فانهزم هلاكو وهلك عامّة عسكره وقد ذكرنا أسباب الفتنة بينهما ثم رجع هلاكو إلى بلاد الإسماعيلية وقصد قلعة الموت وبها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية من ابن العلقميّ وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب أربل يستحثه للمسير إلى بغداد ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقميّ رافضيا هو وأهل محلته بالكرخ وتعصب عليهم أهل السنة وتمسكوا بأنّ الخليفة والدوادار يظاهرونهم وأوقعوا بأهل الكرخ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بأربل وكان صديقا له بأن يستحث التتر لملك بغداد وأسقط عامة الجند يموه بانه يصانع التتر بعطائهم وسار هلاكو والتتر الى بغداد واستنفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 612 بنحو مقدّم التتر ببلاد الروم فيمن كان معه من العساكر فامتنع أوّلا ثم أجاب وسار إليه ولما أطل هلاكو على بغداد في عساكره برز للقائه أيبك الدوادار في عساكر المسلمين فهزموا عساكر التتر ثم تراجع التتر فهزموهم واعترضهم دون بغداد بثوق انبثقت في ليلتهم تلك من دجلة فحالت دونها فقتلوا أجمعين وهلك أيبك الدوادار وأسر الأمراء الذين معه ورجعوا إلى البلد فحاصروها مدّة ثم استأمن من ابن العلقميّ للمستعصم ولنفسه آملا بأنّ هلاكو يستبقيه فخرج إليه في موكب من الأعيان وذلك في محرّم سنة ست وخمسين وتقبض على المستعصم فشدخ بالمعاول في عدل تجافيا عن سفك دمه بزعمهم ويقال أنّ الّذي أحصى فيها من القتلى ألف ألف وثلاثمائة ألف واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يحصره العدد والضبط وألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته واستبقى ابن العلقميّ على الوزارة والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل والخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه فبقي على ذلك مدّة ثم اضطرب وقتله هلاكو ثم بعث هلاكو بعد فتح بغداد بالعساكر إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن غازي بن العادل فحاصروها سنين حتى جهد الحصار أهلها ثم اقتحموها عنوة واستلحموا حاميتها ثم بعث إليه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ابنه ركن الدين إسماعيل بالطاعة والهدية فتقبله وبعثه إلى القان الأعظم منكوفان بقراقوم وأبطأ على لؤلؤ خبره فبعث بالولدين الآخرين شمس الدين إسحاق وعلاء الدين بهدية أخرى ورجعوا إليه بخبر ابنه وقرب إيابه فتوجه لؤلؤ بنفسه إلى هلاكو ولقيه بأذربيجان وحضر حصار ميافارقين وجاءه ابنه ركن الدين من عند منكوفان بولاية الموصل وأعمالها ثم هلك سنة سبع وخمسين وولي ابنه ركن الدين إسماعيل ويلقب الصالح وبعث هلاكو عسكرا إلى أربل فحاصرها ستة أشهر وامتنعت فأفرجت عنها العساكر فاغتنم ابن الصلايا الفرصة ونزل عنها لشرف الدين الكردي ولحق بهلاكو فقتله وكان صاحب الشام يومئذ الناصر بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فلما بلغه استيلاء هلاكو على بغداد بعث إليه ابنه بالهدايا والمصانعة والعذر عن الوصول بنفسه لمكان الإفرنج من سواحل الشام فقبل هديته وعذره ورجع ابنه بالمواعيد ولم يتم لهلاكو الاستيلاء على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة وانتهى ملكه إلى الفرات وتاخم الشام وعبر الفرات سنة ثمان وخمسين فملك البيرة ووجد بها السعيد أخا الناصر بن العزيز معتقلا فأطلقه ورده إلى عمله بالضبينة وبانياس ثم سار إلى حلب فحاصرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 613 مدّة ثم ملكها ومن عليه وأطلقه ووجد بها المعتقلين من البحرية مماليك الصالح أيوب الذين حبسهم الناصر وهم سنقر الأشقر وتنكز وغيرهما فأطلقهم وكان معهم أمير من أكابر القفجاق لحق به واستخدم له فجعلهم معه وولى على البلاد التي ملكها من الشام ثم جهز العساكر إلى دمشق وارتحل الناصر إلى مصر ورجع عنه الصالح بن الأشرف صاحب حمص إلى هلاكو فولاه دمشق وجعل نوابه بها لنظره وبلغ الناصر إلى هلاكو ثم استوحش الخليفة من قطز سلطان مصر لما كان بينهما من الفتنة فخرج إلى هلاكو فأقبل عليه واستشاره في إنزال الكتائب بالشام فسهل له الأمر في عساكر مصر ورجع إلى رأيه في ذلك وترك نائبة كيبغا من أمراء التتر في خف من الجنود فبعث كيبغا إلى سلطان مصر وأساء رسله بمجلس السلطان في الخطاب بطلب الطاعة فقتلهم وسار إلى الشام فلقي كيبغا بعين جالوت فانهزمت عساكر التتر وقتل كيبغا أميرهم والسعيد صاحب الضبينة أخو الناصر كان حاضرا مع التتر فقبض عليه وقتل صبرا ثم بعث هلاكو العساكر إلى البيرة والسعيد بن لؤلؤ على حلب ومعه طائفة من العساكر فبعث بعضهم لمدافعة التتر فانهزموا وحنق الأمراء على السعيد بسبب ذلك وحبسوه وولوا عليهم حسام الدين الجوكندار وزحف التتر إلى حلب فأجفل عنها واجتمع مع صاحبها المنصور على حمص وزحفوا إلى التتر فهزموهم وسار التتر إلى أفامية فحاصروها وهابوا ما وراءها وارتحلوا إلى بلادهم وبلغ الخبر إلى هلاكو فقتل الناصر صاحب دمشق لاتهامه إياه فيما أشار به من الاستهانة بأهل مصر وكان هلاكو لما فتح الشام سنة ثمان وخمسين بلغه مهلك أخيه القان الأعظم منكوفان في مسيره إلى غزو بلاد الخطا فطمع في القانية وبادر لذلك فوجد أخاه قبلاي قد استقل فيها بعد حروب بدت بينه وبين أخيه أزبك تقدّم ذكرها في أخبار القان الأعظم فشغل بذلك عن أمر الشام ثم لما يئس من القانية قنع بما حصل عنده من الأقاليم والأعمال ورجع إلى بلاده والأقاليم التي حصلت بيده إقليم خراسان كرسيه نيسابور ومن مدنه طوس وهراة وترمذ وبلخ همذان ونهاوند وكنجة عراق العجم كرسيه أصبهان ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وشهرزور وسجستان وطبرستان وطلان وبلاد الإسماعيلية عراق العرب كرسيه بغداد ومن مدنه الدينور والكوفة والبصرة أذربيجان وكرسيه توريز ومن مدنه حران وسلماس وقفجاق خوزستان كرسيها ششتر ومن مدنها الأهواز وغيرها فارس كرسيها شيراز ومن مدنها كش ونعمان ومحمل رزون والبحرين ديار بكر كرسيها الموصل ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار واسعرد ودبيس وحران والرها وجزيرة ابن عمر بلاد الروم كرسيها قونية ومن مدنها ملطية وأقصرا وأورنكار وسيواس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 614 وأنطاكية والعلايا ثم أجلاه أحمد الحاكم خليفة مصر فزحف إلى بغداد وهذا الحاكم هو عمّ المستعصم لحق بمصر بعد الواقعة ومعه الصالح بن لؤلؤ بعد أن أزاله التتر من الموصل فنصب الظاهر بيبرس أحمد هذا في الخلافة سنة تسع وخمسين وبعثه لاسترجاع بغداد ومعه الصالح بن لؤلؤ على الموصل فلما أجازوا الفرات وقاربوا بغداد كبسهم التتر ما بين هيت وغانة فكبسوا الخليفة وفرّ ابن لؤلؤ وأخواه إلى الموصل فنازلهم التتر سبعة أشهر ثم اقتحموها عليهم عنوة وقتلوا الصالح وخشي الظاهر بيبرس غائلة هلاكو ثم أن بركة صاحب الشمال قد بعث إلى الظاهر سنة ستمائة وسبعين بإسلامه فجعلها الظاهر وسيلة للوصلة معه والانجاد وأغراه بهلاكو لما بينهما من الفتنة فسار بركة لحربه وأخذ بحجزته عن الشام ثم بعث هلاكو عساكر التتر لحصار البيرة ومعه درباي من أكابر أمراء المغل وأردفه بابنه أبغا وبعث الظاهر عساكره لإنجاد أهلها فلما أطلوا على عسكر درباي وعاينهم أجفل وترك المخيم والآلة ولحق بابغا منهزما فاعتقله وسخطه ثم هلك هلاكو سنة ثنتين وستين لعشر سنين من ولايته العراق والله أعلم. أبغا بن هلاكو ولما هلك هلاكو ولي مكانه ابنه أبغا وسار لأوّل ولايته لحرب بركة صاحب الشمال فسرّح إليه بركة العساكر مع قريبه نوغاي بن ططر بن مغل بن دوشي خان ومع سنتف بن منكوفان ابن جفطاي بن جنكزخان وخام سنتف عن اللقاء ورجع منهزما وأقام نوغاي فهزم أبغا وأثخن في عساكره وعظمت منزلته بذلك عند بركة ثم بعث سنة إحدى وسبعين عساكره مع درباي لحصار البيرة وعبر الظاهر إليهم الفرات وهزمهم وقتل أميرين مع درباي ولحق درباي بأبغا منهزما فسخطه وأدال منه بأبطاي وفي سنة اثنتين وسبعين زحف أبغا إلى تكدار بن موجي بن جفطاي بن جنكزخان وكان صاحبه فاستنجد بابن عمه براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي فأمدّه بنفسه وعساكره واستنفر أبغا عساكر الروم وأميرهم طمقان والبر واناة والتقى الجمعان ببلاد الكرج فانهزم تكدار ولجأ إلى جبل هنالك حتى استأمن ابغا فأمنه وعهد أن لا يركب فرسا فارها ولا يمس قوسا ونمي الى أبغا أنّ الظاهر صاحب مصر سار الى بلاد الروم فبعث العساكر إليها مع قائدين من قواد المغل وهما تدوان ونغوا فسارا وملك الظاهر قيسارية من تخوم بلادهم وبلغ الخبر إلى أبغا فجاء بنفسه إلى موضع الهزيمة وعاين مصارع قومه ولم يسمع ذكرا لأحد من عسكر البرواناة أنه صرع فاتهمه وبعث عنه بعد مرجعه فقتله ثم سار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 615 أبغا سنة ثمانين وعبر الفرات ونازل الرحبة وبعث إلى صاحب ماردين فنزل معه هناك وكان منكوتمر ابن أخي بركة ملك صراي فسار بعساكره من المغل وحشود الكرج والأرمن والروم ومرّ بقيسارية وابلسين وأجاز الدربند إلى الرحبة فنازلها وبعث أبغا إليه بالعساكر مع أخيه منكوتمر بن هلاكو وأقام هو على الرحبة وزحف الظاهر من مصر في عساكر المسلمين فلقيهم التتر على حمص وانهزم التتر هزيمة شنعاء هلك فيها عامة عساكرهم وأجفل أبغا من حصار الرحبة وهلك أخوه منكوتمر بن هلاكو مرجعه من تلك الواقعة يقال مسموما وأنه مرّ ببعض أمرائه بجزيرة تسمى مومواغا كان يضطغن له بعض الفعلات فسقاه سما عند مروره به وهرب إلى مصر فلم يدركوه وأنهم قتلوا أبناءه ونساءه ثم هلك أبغا سنة إحدى بعدها ويقال مسموما أيضا على يد وزيره الصاحب شمس الدين الجوني مشير دولته وكبيرها حمله الخوف على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. تكدار بن هلاكو ويسمى أحمد ولما توفي أبغا كما ذكرناه وكان ابنه أرغو غائبا بخراسان فبايع المغل لأخيه تكدار فأسلم وتسمى أحمد وخاطب بذلك الملوك لعصره وأرسل إلى مصر يخبرهم ويطلب المساعدة وجاء بذلك قاضي سيواس قطب الدين الشيرازي وأتابك بلاد الروم وابن الصاحب من وراء ماردين وكان أخوه قنقرطاي مع صمغان الشحنة فبعث تكدار عن أخيه فامتنع من الإجابة وأجاره غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم فتوعده تكدار فخاف منه وسار هو وقنقرطاي إلى تكدار فقتل أخاه وحبس غياث الدين وولى مكانه أخاه عز الدين وأدال من صمغان الشحنة بأولاطو من أمراء المغل ثم جهز العساكر إلى خراسان لقتال أخيه أرغو فسار إليهم أرغو وكبسهم وهزمهم وفتك فيهم فسار تكدار بنفسه فهزم أرغو وأسره وأثخن في عساكره وقتل اثني عشر أميرا من المغل فاستوحش أهل معسكره وكانوا ينقمون عليه إسلامه فثاروا عليه وقتلوا نائبة ثم قتلوه سنة اثنتين وثمانين وبعثوا إلى أرغو بن أبغا بطاعتهم والله تعالى أعلم. أرغو بن أبغا ولما ثار المغل على تكدار وقتلوه وبعثوا بطاعتهم إلى أرغو فجاء وولوه أمرهم فقام بسلطانه وقتل غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم في محبسه اتهمه بمداهنته في قتل عمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 616 قنقرطاي وتقبض لأوّل ولايته على الوزير شمس الدين الجوني وكان متهما بأبيه وعمه فقتله وولى على وزارته سعد اليهودي الموصلي ولقبه سعد الدولة وكان عالما بالحكمة وولى ابنيه قازان وخربندا على خراسان لنظر نيروز أتابكه ولما فرغ من أمور ملكه وكان قد عدل عن دين الإسلام وأحب دين البراهمة من عبادة الأصنام وانتحال السحر والرياضة له ووفد عليه بعض سحرة الهند فركب له دواء لحفظ الصحة واستدامتها فأصابه منه صرع فمات سنة سبعين والله سبحانه وتعالى أعلم. كتخاتو بن أبغا ولما هلك أرغو بن أبغا وابناه قازان وخربندا غائبان بخراسان اجتمع المغل على أخيه كتخاتو فبايعوه وقدّموه للملك ثم ساءت سيرته وأفحش في المناكر وإباحة الحرمات والتعرض للغلمان من أبنائهم وكان في عسكره بيدو بن عمر طرغاي بن هلاكو فاجتمع إليه أمراء المغل وبايعوه سرّا وشعر بهم كتخاتو ففرّ من معسكره إلى جهة كرمان وساروا في أثره فأدركوه بأعمال غانة وقتلوه سنة ثلاث وتسعين لثلاث سنين وأشهر من ولايته والله تعالى أعلم. بيدو بن طرغاي بن هلاكو ولما قتل أمراء المغل كتخاتو بن أبغا بايعوا مكانه لابن عمه بيدو بن طرغاي بن هلاكو وكان قازان بن أرغو بخراسان فسار لحرب بيدو ومعه الأتابك نيروز فلما تقاربا للقاء تردّد الناس بينهما في الصلح على أن يقيم نيروز الأتابك عند بيدو واصطلحا وعاد قازان ثم أرسل نيروز الأتابك إلى قازان يستحثه فسار من خراسان ولما بلغ الخبر إلى بيدو فاوض فيه نيروز الأتابك فقال أنا أكفيكه فصبر حتى أتى إليه فسرّحه ولما وصل إلى قازان أطلعه على شأن أمراء بيدو وأنهم راغبون عنه وحرضه على المسير فامتعض لذلك بيدو وسار للقائهم فلما التقى الجمعان انتقض عليه أمراؤه بمداخلة نيروز فانهزم ولحق بنواحي همذان فأدرك هناك وقتل سنة خمس وتسعين لثمانية أشهر من ملكه والله سبحانه وتعالى أعلم. قازان بن أرغو ولما انهزم بيدو وقتل ملك على المغل مكانه قازان بن أرغو فجعل أخاه خربندا واليا على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 617 خراسان وجعل نيروز الأتابك مدبرا لمملكته وسعى لأوّل أمره في التدبير على طرغاي من أمرائه ومواليه من المغل الّذي داخل بيدو في قتل كتخاتو الّذي تولى كبر ذلك فخافه طرغاي على نفسه وكان نازلا بين بغداد والموصل فبعث إلى كيبغا العادل صاحب مصر والشام يستأذنه في اللحاق به ثم ولى قازان على ديار بكر أميرا من أتباعه اسمه مولان فهزمه وقتل الكثير من أصحابه ونجا إلى الشام وبعث كيبغا من تلقاه وجاء به إلى مصر ودخل مجلس الملك ورفع مجلسه فيها قبل أن يسلم واستقرّ هو وقومه الأوبراتية بمصر وأقطع لهم وكان ذلك داعيا إلى الفتنة بين الدولتين ثم قتل قازان الأتابك نيروز وذلك أنه استوحش من قازان وكاتب لاشين سلطان مصر والشام المتولي بعد كيبغا وأحس نيروز بذلك فلحق بهراة مستجيرا بصاحبها وهو فخر الدين ابن شمس الدين كرت صاحب سجستان فقبض عليه فخر الدين وأسلمه إلى قطلو شاه فقتله وقتل قازان بعد ذلك أخويه ببغداد وهما حاجي ولكري وقفل السفير إليه بالكتاب من مصر ثم كان بعد ذلك مفر شلامش بن أيال بن منجو إلى مصر وكان أميرا في بلاد الروم على الطومار المحجر فيها والطومار عندهم عبارة عن مائة ألف من العساكر عن قازان فارتاب به وأرسل إلى لاشين يستأذنه في اللحاق به وبعث قازان العساكر إليه فقاتلوه وانفض عنه أكثر أصحابه ففرّ إلى مصر وترك أهله وولده وبعث معه صاحب مصر العساكر لتلقي أهله ومرّوا بسيس فاعترضه عساكر التتر هناك فهزموه وقتلوا أمير مصر الّذي معه واعتصم هو ببعض القلاع فاستنزلوه منها وبعثوا به إلى قازان فقتله وأقام أخوه قطقطو بمصر في جملة عسكرها ونشأت بهذه كلها الفتن بين قازان وأهل مصر ونزع إليه أمراء الشام فلحق نائب دمشق، وبكتمر نائب حلب والبكي الظاهري وعزاز الصالحي واسترابوا بسلطانهم الناصر محمد بن قلاون فلحقوا به واستحثوه إلى الشام وسار سنة تسع وسبعين في عساكر المغل والأرمن ومعه نائبة قطلو شاه ومولى وجاء الملك الناصر من مصر في عساكر المسلمين ولما انتهى إلى غزة أطلع على تدبير بعض المماليك عليه من أصحاب كيبغا ومداخلة الأمراء الذين هاجروا من المغل إلى مملكة مصر لهم في ذلك فسبق جميعهم وارتحل إلى حمص للقاء التتر ثم سار فصبحهم بمرج المروج والتقى الجمعان وكانت الدبرة على المسلمين واستشهد منهم عدد ونجا السلطان الى مصر وسار قازان على التعبية فملك حمص واستوعب مخلف السلطان فيها ثم تقدم إلى دمشق فملك المدينة وتقدم إلى قفجاق لجباية أموالها ولحصار القلعة وبها علاء الدين سنجر المنصور فامتنع وهدم ما حولها من العمران وفيها دار السعادة التي بها إيوان الملك وسار قازان إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة وعاثت عساكره في البلاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 618 وانتهت غاراتهم إلى غزة ولما امتنعت عليه القلاع ارتحل عائدا إلى بلده وخلف قطلو شاه في عساكر لحماية البلد وحصار القلعة ويحيى بن جلال الدين لجباية الأموال وترك قفجاق على نيابة دمشق وبكتمر على نيابة حلب وحمص وحماة وكر الملك الناصر راجعا إلى الشأم بعد أن جمع العساكر وبث العطاء وأزاح العلل وعلى مقدّمته سرمز الجاشنكير وسلار كافلا مملكته فتقدموا إلى حدود الشام وأقام هو بالصالحية واستأمن لهما قفجاق وبكتمر النائبان بدمشق وحلب وراجعا طاعة السلطان واستولى سرمز وسلار على الشام ورجع قطلو شاه إلى العراق ثم عاود قازان المسير إلى الشام سنة اثنتين وسبعين وعبر الفرات ونزل على الحربة وكاتب أهل الشام يخادعهم وقدم قطلو شاه فأغار على القدس وبها أحياء التركمان فقاتلوه ونالوا منه وتوقفوا هنالك وسار الناصر من مصر في العساكر ثالث شعبان ولقي قطلو شاه بمرج الصفر فهزمه بعد حرب شديدة وسار في إتباعهم إلى الليل فاعتصموا بجبل في طريقهم وبات المسلمون يحرسونهم ثم تسللوا وأخذ القتل منهم كل مأخذ واعترضهم الوحل من أمامهم من بثوق بثقت لهم من نهر دمشق فلم ينج منهم أحد وقدم الفل على قازان بنواحي كيلان ومرض هنالك ومات في ذي الحجة من السنة ويقال أنه مات أسفا والله تعالى أعلم بالصواب. خربندا بن أرغو ولما هلك قازان ولي بعده أخوه خربندا وابتدأ أمره بالدخول في دين الإسلام وتسمى بمحمد وتلقب غياث الدين وأقر قطلو شاه على نيابته ثم جهزه لقتال الكرد في جبال كيلان وقاتلهم فهزموه وقتلوه وولى مكانه جوبان بن تدوان وأقام في سلطانه حسن الدين معظما للخلفاء وكتب أسماءهم على سكته ثم صحب الروافض فساء اعتقاده وحذف ذكر الشيخين من الخطبة ونقش أسماء الأئمة الاثني عشر على سكته ثم أنشأ مدينة بين قزوين وهمذان وسماها السلطانية ونزلها واتخذ بها بيتا لطيفا بلبن الذهب والفضة وأنشأ بإزائها بستانا جعل فيه أشجار الذهب بثمر اللؤلؤ والفصوص وأجرى اللبن والعسل أنهارا وأسكن به الغلمان والجواري تشبيها له بالجنة وأفحش في التعرض لحرمات قومه ثم سار إلى الشام سنة ثلاث عشرة وعبر الفرات ونزل الرحبة ورجع ثم هلك ويقال مات مسموما على يد بعض أمرائه سنة ست عشرة والله تعالى أعلم . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 619 أبو سعيد بن خربندا ولما هلك خربندا خلف ابنه أبا سعيد طفلا صغيرا ابن ثلاث عشرة سنة فاستصغره جوبان وأرسل إلى أزبك ملك الشمال بصراي يستدعيه لملك العراقين فحذره نائبة قطلقتمر من ذلك وبايع جوبان لأبي سعيد بن خربندا على صغره وبدأ أمره بقتل أبي الطيب رشيد الدولة فضل الله بن يحيى الهمذاني المتهم بقتل أبيه فقتله وكان مقدّما في العلوم وسريا في الغاية وله تاريخ جمع فيه أخبار التتر وأنسابهم وقبائلهم وكتبه مشجرا كما في كتابنا هذا وكان جوبان يومئذ بخراسان يقاتل عليها سيول بن براق بن سنتف بن ماسان بن جفطاي صاحب خوارزم أغراه أزبك صاحب الشمال بخراسان وأمدّه بعساكره وكان جوبان موافقا له فلما هلك خربندا طمع سيول في الاستيلاء على خراسان وكاتب أمراء المغل بدولة أبي سعيد رغبهم فأطمعوه فسار جوبان إلى الأردن ومعناه بلغتهم العسكر والمخيم وانتهى إلى أبي سعيد خبر أمرائه فقتل منهم أربعين ورجع جوبان إلى خراسان سنة ثمان عشرة وقد استولى سيول عليها وعلى طائفة من عراق العجم وبعث إليه أزبك صاحب الشمال نائبة قطلقتمر مددا في العساكر فلقيهم جوبان وكانت بينهم حروب وانتزع جوبان ما ملكه سيول من بلاد خراسان وصالحه على ما بقي ورجع ثم سار أزبك ملك الشمال إلى مراغة فأغار عليها وغنم ورجع وأتبعه جوبان في العساكر فلم يدركه وهلك سيول سنة عشرين وارتجع أبو سعيد ما كان بيده من خراسان وكان أزبك صاحب الشمال ينقم على أبي سعيد استبداد جوبان عليه وتحكمه في بني جنكزخان ويحرض أهل النواحي على جوبان ويتوقع له المهالك وأوصل الملوك في النواحي للمظاهرة على جوبان وسلطانه أبي سعيد حتى لقد صاهر صاحب مصر على مثل ذلك ولم يتم الصلح لأبي سعيد معه كما مرّ في أخبارهم وجهز أزبك العساكر سنة عشرين لحرب جوبان فحاصرهم المدني بنهر كوزل الّذي في حدود ملكهم فرجعوا ثم جهز جيشا آخر مع قطلقتمر نائبة وكان جوبان نائب أبي سعيد قد ولى على بلاد الروم ابنه دمرداش فزحف سنة إحدى وعشرين إلى بلاد سيس وافتتح منها قلاعا ثلاثا وخربها وبعث إلى الملك الناصر يطلب المظاهرة في جهاد الأرمن بسيس فبعث السلطان عساكره سنة اثنتين وعشرين ومعهم من المتطوّعة عدد وحاصروا سيس ثم انعقد الصلح سنة ثلاث وعشرين بعدها بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واستقامت الأحوال وحج أكابر المغل من قرابة أبي سعيد ملك التتر بالعراقين واتصلت المهاداة بينهما وسار نائبة جوبان سنة خمس وعشرين الى خراسان في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 620 العساكر وقد زحف إليه كبك بن سيول فجرت بينهما حروب وانهزم جوبان واستولى كبك على خراسان ثم كبسه جوبان فهزمه وأثخن في عساكره وغلبه على خراسان فعادت إلى ملكة أبي سعيد وبينما جوبان مشتغل بتلك الفتنة والحروب في نواحي خراسان إذ بلغه الخبر بأن السلطان أبا سعيد تقبض على ابنه خواجا دمشق فلما بلغه الخبر بذلك انتقض وزحف إليه أبو سعيد فافترق عنه أصحابه ولحق بهراة فقتل بها سنة ست وعشرين وأذن أبو سعيد لولده أن ينقلوا شلوه إلى تربته التي بناها بالمدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ونقلوه فلم يقدر دفنه بها وتوقف أمير المدينة على اذن السلطان بمصر في ذلك فدفن بالبقيع ولما بلغ خبر جوبان لابنه دمرداش وهو أمير ببلاد الروم انزعج لذلك ولحق بمصر فيمن معه من الأمراء والعساكر وأقبل السلطان الملك الناصر عليه وأحله محل التكرمة وجاءت على أثره رسل أبي سعيد يطلب حكم الله فيه لسعيه في الفساد والفتنة وأجابه السلطان إلى ذلك على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فأمضى ذلك فيهما جزاء بما قدّمت أيديهما ثم تأكدت أسباب المواصلة والالتحام بين هذين السلطانين بالأصهار والمهاداة واتصل ذلك وانقطع زبون العرب وفسادهم بين المملكتين وهلك السلطان أبو سعيد سنة ست وثلاثين ولم يعقب ودفن بالسلطانية واختلف أهل دولته وانقرض الملك من بني هلاكو وافترقت الأعمال التي كانت في ملكهم وأصبحت طوائف في خراسان وفي عراق العجم وفارس وفي أذربيجان كله في عراق العرب وفي بلاد الروم كما نذكر ذلك والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 621 اضطراب دولة بني هلاكو وانقسام الملك طوائف في اعمالهم وانفراد الشيخ حسن ببغداد واستيلاء بنيه معها على توريز وما كان لهم فيها من الملك والدولة وابتدائها ومصايرها لما هلك أبو سعيد بن خربندا ملك التتر بكرسي بغداد سنة ست وثلاثين ولم يعقب نصب أمراء المغل الوزير غياث الدين وخلع أورخان ونصب للملك موسى خان من أسباطهم وقام بدولته الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا بن أملكان وهو ابن عمة السلطان أبي سعيد سبط أرغو بن أبغا أنزله أبو سعيد بقلعة كانج من بلاد الروم ووكل به فلما هلك أبو سعيد وانحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 622 عقاله وذهب أبو نور بن ماس عفى عليها وبلغه شأن أهل الدولة ببغداد فلم يرضه ونهض إليها فقتل علي ماسا القائم بالدولة وعزل موسى خان الملك ونصب مكانه محمد بن عنبرجي وهو الّذي تقدّم في ملوك التخت صحة نسبه إلى هلاكو واستولى الشيخ حسن على بغداد وتوريز ثم سار إليه حسن بن دمرداش من مكان إمارته وإمارة أبيه ببلاد الروم وغلبه على توريز وقتل سلطانه محمد بن عنبرجي ولحق الشيخ حسن ببغداد واستقرّ حسن بن دمرداش في توريز ونصب للملك أخت السلطان أبي سعيد اسمها صالبيك وزوجها لسليمان خان من أسباط هلاكو واستقل بملك توريز وكان يعرف بالشيخ حسن الصغير لأنّ صاحب بغداد كان يشاركه في اسمه وهو أسن وأدخل في نسب الخان فميز بالكبير وميز هذا بالصغير ولما استقل حسن الصغير بالملك والخان عنده عجز عنه الشيخ حسن الكبير وغلبته أمم التركمان بضواحي الموصل إلى سائر بلاد الجزيرة فيقال أنه أرسل إلى الملك الناصر صاحب مصر بأن يملكه بغداد ويلحق به فيقيم عنده وطلب منه أن يبعث عساكره لذلك على أن يرهن فيهم ابنه فلم يتم ذلك لما اعترضه من الأحوال وافترقت مملكة بني هلاكو فكان هو ببغداد والصغير بتوريز وابن المظفر بعراق العجم وفارس والملك حسين بخراسان واستولى على أكثرها ملك الشمال أزبك صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان بن جنكزخان ثم استوحش الشيخ حسن من سلطانه سليمان خان فقتله واستبد ثم هلك الشيخ حسن الصغير بن دمرداش بتوريز سنة أربع وأربعين وملك مكانه أخوه الأشرف ثم هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد سنة سبع وخمسين والله تعالى أعلم. أويس بن الشيخ حسن ولما هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد ولي مكانه ابنه أويس وكان بتوريز الأشرف بن دمرداش فزحف إليه ملك الشمال جاني بك بن أزبك سنة ثمان وخمسين وملكها من يده ورجع إلى خراسان بعد أن استخلف عليها ابنه واعتقل في طريقه فكتب أهل الدولة إلى ابنه بردبيك يستحثونه للملك فأغذ السير إليهم وترك بتوريز عاملها أخبجوخ فسار إليه أويس صاحب بغداد وغلبه عليها وملكها ثم ارتجعها منه أخبجوخ وأقام بها فزحف إليه ابن المظفر صاحب أصبهان وملكها من يده وقتله وانتظم في ملكه عراق العجم وتوريز وتستر وخوزستان ثم سار أويس فانتزعها من يد ابن المظفر واستقرّت في ملكه ورجع إلى بغداد وجلس على التخت واستفحل أمره ثم هلك سنة ست وسبعين حسين بن أويس وقد خلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 623 بنين خمسة وهم الشيخ حسن وحسين والشيخ علي وأبو يزيد وأحمد وكان وزيره زكريا وكبير دولته الأمير عادل كان كافلا لحسن ومن إقطاعه السلطانية فاجتمع أهل الدولة وبايعوا لابنه حسين بتوريز وقتلوا الشيخ حسن وزعموا أنّ أباهم أويسا أوصاهم بقتله وكان الشيخ علي بن أويس ببغداد فدخل في طاعة أخيه حسين وكان قنبر علي بادك من أمرائهم نائبا بتستر وخوزستان فبايع لحسين وبعث إليه بطاعته واستولى على دولته بتوريز زكريا وزير أبيه وكان إسماعيل ابن الوزير زكريا بالشام هاربا أمام أويس فقدم على أبيه زكريا وبعث إلى بغداد ليقوم بخدمة الشيخ على فاستخلصه واستبدّ عليه فغلب شجاع بن المظفر على توريز وارتجعها منه ولما استقل حسين بتوريز كان بنو المظفر طامعين في ولايتها وقد ملكوها من قبل كما مرّ وانتزعها أويس منهم فلما توفي أويس سار شجاع إلى توريز في عساكره فأجفل عنها حسين بن أويس إلى بغداد واستولى عليها شجاع ولحق حسين بأخيه الشيخ علي ووزيره إسماعيل ببغداد مستجيشا بهما فسرّحوا معه العساكر ورجع ادراجه إليها فهرب عنها شجاع إلى خوزستان وحصن ملكه بها واستقرّ فيها. مقتل إسماعيل واستيلاء حسين على بغداد ثم ارتجاعها منه كان إسماعيل مستبدّا على الشيخ علي ببغداد كما قدّمناه فتوثب به جماعة من أهل الدولة منهم مبارك شاه وقنبر وقرا محمد فقتلوه وعمه أمير أحمد منتصف إحدى وثمانين واستدعوا قنبر علي بادك من تستر فولوه مكان إسماعيل واستبدّ على الشيخ علي بغداد ونكر حسين عليهم ما آتوه وسار في عساكره من توريز إلى بغداد ففارقها الشيخ علي وقنبر على بادك إلى تستر واستولى حسين على بغداد واستمدّه فاتهمه بممالأة أخيه الشيخ علي ولم يمدّه ونهض الشيخ علي من تستر إلى واسط وجمع العرب من عبادان والجزيرة فأجفل أحمد من واسط إلى بغداد وسار الشيخ علي في أثره فأجفل حسين إلى توريز واستوسق ملك بغداد للشيخ علي واستقرّ كل ببلده والله تعالى أعلم. انتقاض أحمد واستيلاؤه على توريز ومقتل حسين ولما رجع حسين من بغداد إلى توريز عكف على لذاته وشغل بلهوه واستوحش منه أخوه أحمد فلحق بأردبيل وبها الشيخ صدر الدين واجتمع إليه من العساكر ثلاثة آلاف أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 624 يزيدون فسار إلى توريز وطرقها على حين غفلة فملكها واختفى حسين أياما ثم قبض عليه أحمد وقتله والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. انتقاض عادل ومسيره لقتال أحمد كان الأمير عادل واليا على السلطانية وكانت من أقطاعه فلما بلغه مقتل حسين امتعض له وكان عنده أبو يزيد بن أويس فسارا إلى شجاع بن المظفر اليزدي صاحب فارس يستصرخانه على الأمير أحمد بن أويس فبعث العساكر لصريخهما وبرز الأمير أحمد للقائهم ثم تقاربوا واتفقوا أن يستقرّ أبو يزيد في السلطانية أميرا ويخرج الأمير عادل عن مملكتهم ويقيم عند شجاع بفارس واصطلحوا على ذلك وعاد أبو يزيد إلى السلطانية فأقام بها وأضرّ أمراؤه وخاصته بالرعايا فسدوا بالصريخ إلى أحمد بتوريز فسار في العساكر إليه وقبض عليه وكحله وتوفي بعد ذلك ببغداد. مقتل الشيخ علي واستيلاء أحمد على بغداد لما قتل أحمد أخاه حسينا جمع الشيخ علي العساكر واستنفر قرا محمد أمير التركمان بالجزيرة وسار من بغداد يريد توريز فبرز أحمد للقائه واستطرد له لما كان منه فبالغ في إتباعه إلى أن خفت عساكره فكرّ مستميتا وكانت جولة أصيب فيها الشيخ علي بسهم فمات وأسر قرا محمد فقتل ورجع أحمد إلى توريز واستوسق له ملكها ونهض إليه عادل ابن السلطان أبي سعيد يروم فرصة فيه فهزمه ثم سار أحمد إلى بغداد وقد كان استبدّ بها بعد مهلك الشيخ علي خواجا عبد الملك من صنائعهم بدعوة أحمد ثم قام الأمير عادل في السلطانية بدعوة أبي يزيد وبعث إلى بغداد قائدا اسمه برسق ليقيم بها دعوته فأطاعه عبد الملك وأدخله إلى بغداد ثم قتله برسق ثاني يوم دخوله واضطرب البلد شهرا ثم وصل أحمد من توريز وخرج برسق القائد لمدافعته فانهزم وجيء به إلى أحمد أسيرا فحبسه ثم قتله وقتل عادل بعد ذلك وكفى أحمد شرّه وانتظمت في ملكه توريز وبغداد وتستر والسلطانية وما إليها واستوسق أمره فيها ثم انتقض عليه أهل دولته سنة ست وثمانين وسار بعضهم إلى تمر سلطان بني جفطاي بعد أن خرج من وراء النهر بملكه يومئذ واستولى على خراسان فاستصرخه على أحمد فأجاب صريخه وبعث معه العساكر إلى توريز فأجفل عنها أحمد إلى بغداد واستبدّ بها ذلك الثائر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 625 ورجع تمر إلى مملكته الأولى وطمع طغطمش ملك الشمال من بني دوشي خان في انتزاع توريز من يد ذلك الثائر فسار إليها وملكها وزحف تمر في عساكره سنة سبع وثمانين إلى أصبهان وبعث العساكر إلى توريز فاستباحها وخربها واستولى على تستر والسلطانية وانتظمهما في أعماله وانفرد أحمد ببغداد وأقام بها. استيلاء تمر على بغداد ولحاق أحمد بالشام كان تمر سلطان المغل بعد أن استولى على توريز خرج عليه خارج من قومه في بلاده يعرف بقمر الدين فجاءه الخبر عنه وأنّ طغطمش صاحب كرسي صراي في الشمال أمدّه بأمواله وعساكره فكرّ راجعا من أصبهان إلى بلاده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وسبعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده ثم استولى على كرسيّ صراي وأعمالها ثم خطى إلى أصبهان وعراق العجم والريّ وفارس وكرمان فملك جميعها من بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبادت جموعهم وشد أحمد ببغداد عزائمه وجمع عساكره وأخذ في الاستعداد ثم عدل إلى مصانعته ومهاداته فلم يغن ذلك وما زال تمر يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزمه وافترقت عساكره فنهض إليه يغذ السير في غفلة منه حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى بغلس ليلة وحمل ما أقلته الرواحل من أمواله وذخائره وخرّق سفن دجلة ومرّ بنهر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة في حادي عشر شوّال سنة خمس وتسعين ولم يجد السفن فاقتحم بعساكره النهر ودخل بغداد واستولى عليها وبعث العساكر في إتباع أحمد فساروا إلى الحلة وقد قطع جسرها فخاضوا النهر عندها وأدركوا أحمد بمشهد علي واستولوا على أثقاله ورواحله فكر عليهم في جموعه واستماتوا وقتل الأمير الّذي كان في إتباعه ورجع بقية التتر عنهم ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فسرّح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات والأزواد وليستقدمه فقدم به إلى حلب وأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الأخبار بأن تمرعاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوّه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 626 وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأقفرها وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها وافترق أهلها وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالزيدانية أياما أزاح فيها علل عساكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب سودون وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمه وشرب النفقات في تابعه وجنده ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان صاحب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصدا للعدو فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعة بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كمشيقا الأتابك وتكلتمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدو تمر قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا وملكها وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ستمائة وتسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 627 الخبر عن بني المظفر اليزدي المتغلبين على أصفهان وفارس بعد انقراض دولة بني هلاكو وابتداء أمورهم ومصايرها كان أحمد المظفر من أهل يزد وكان شجاعا واتصل بالدولة أيام أبي سعيد فولوه حفظ السابلة بفارس وكان منها مبدأ أمرهم وذلك أنه لما توفي أبو سعيد سنة ست وثلاثين وسبعمائة ولم يعقب اضطربت الدولة ومرج أمر الناس وافترق الملك طوائف وغلب أزبك صاحب الشمال على طائفة من خراسان فملكها واستبدّ بهراة الملك حسين والان محمود فرشحه من أهل دولة لسلطان أبي سعيد عاملا على أصبهان وفارس فاستبدّ بأمره واتخذ الكرسي بشيراز الى ان هلك وولي بعده ابنه أبو إسحاق أمير شيخ سالكا سبيله في الاستبداد وكانت له آثار جميلة وله صنف الشيخ عضد الدين كتاب المواقف والشيخ عماد الدين الكاشي شرح كتاب المفتاح وسموهما باسمه وتغلب أيضا محمد بن المظفر على كرمان ونواحيها فصارت بيده وطمع في الاستيلاء على فارس وكان أبو إسحاق أمير شيخ قد قتل شريفا من أعيان شيراز فنادى بالنكير عليه ليتوصل إلى غرض انتزاع الملك من يده وسار في جموعه إلى شيراز ومال إليه أهل البلد لنفرتهم عن أمير شيخ لفعلته فيهم فأمكنوه من البلد وملكها واستولى على كرسيها وهرب أبو إسحاق أمير شيخ إلى أصبهان وأتبعه ففرّ منه أيضا وملك أصبهان وبث الطلب في الجهات حتى تقبض عليه وقتله قصاصا بالشريف الّذي قتله بشيراز وكان له من الولد أربعة شاه ولي ومحمود وشجاع وأحمد وتوفي شاه ولي أيام أبيه وترك ابنيه منصورا ويحيى وملك ابنه محمود أصبهان وابنه شجاع شيراز وكرمان واستبدّ عليه محمود وشجاع وخلفاه في ملكه سنة ستين وكحلاه وتولى ذلك شجاع وسار إليه محمود من أصبهان بعد أن استجاش بأويس بن حسن الكبير فأمدّه بالعساكر سنة خمس وستين وملك شيراز ولحق شجاع بكرمان من أعماله وأقام بها واختلف عليه عماله ثم استقاموا على طاعته ثم جمع بعد ثلاث سنين ورجع إلى شيراز ففارقها أخوه محمد إلى أصبهان وأقام بها إلى أن هلك سنة ست وسبعين فاستضافها شجاع إلى أعماله وأقطعها لابنه زين العابدين وزوّجه بابنة أويس التي كانت تحت محمود وولىّ على مردي ابن أخيه شاه ولي ثم هلك شجاع سنة سبع وثمانين واستقل ابنه زين العابدين بأصبهان وخلفه في شيراز وفارس منصور ابن أخيه شاه ولي وكان عادل كبير دولة بني أويس بالسلطانية كما مرّ ولحق به منصور بن شاه ولي هاربا من شيراز أمام عمه زين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 628 العابدين فحبس ثم فرّ من محبسه ولحق بأحمد بن أويس مستصرخا به فصارخه وأنزله بتستر من أعماله ثم سار منها إلى شيراز ففارقها عمه زين العابدين إلى أصبهان وأخوه يحيى بيزد وعمهما أحمد بن محمد بن المظفر بكرمان ثم زحف تمر سلطان التتر من بني جفطاي بن جنكزخان سنة ثمان وثمانين وملك توريز وخربها كما مرّ في أخباره فأطاعه يحيى صاحب يزد وأحمد صاحب كرمان وهرب زين العابدين من أصبهان وملكها عليه تمر فلحق بشيراز ورجع تمر إلى بلاده فيما وراء النهر وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين فزحف إلى بلاد فارس وجمع منصور بن شاه ولي العساكر لحربه فخادعه تمر بولايته وانكفأ راجعا إلى هراة فافترقت عساكر منصور بن شاه ولي وجاءت عيون تمر بخبر افتراقها إليه فأغذ السير وكبس منصور بن شاه ولي بظاهر شيراز وهو في قلّ من العساكر لا يجاوزون الفين فهرب الكثير من أصحابه إلى تمر واستمات هو والباقون وقاتلوا أشدّ قتال وفقد هو في المعركة فلم يوقف له على خبر وملك تمر شيراز واستضافها إلى أصبهان وولى عليها من قبله وقتل أحمد بن محمد صاحب كرمان وابنيه وولى على كرمان من قبله وقتل يحيى بن شاه ولي صاحب يزد وابنيه وولي على يزد من قبله واستلحم بني المظفر واستصفى زين العابدين بن شجاع بن محمود وهرب ابنه فلحق بخاله أحمد بن أويس وهو لهذا العهد مقيم معه بمصر والله وارث الأرض ومن عليها واليه يرجعون . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 629 الخبر عن بني ارتنا ملوك بلاد الروم من المغل بعد بني هلاكو والإلمام بمبادي أمورهم ومصايرها قد سبق لنا أنّ هذه المملكة كانت لبني قليج أرسلان من ملوك السلجوقية وهم الذين أقاموا فيها دعوة الإسلام وانتزعوها من يد ملوك الروم أهل قسطنطينية واستضافوا إليها كثيرا من أعمال الأرض ومن ديار بكر فانفسحت أعمالهم وعظمت ممالكهم وكان كرسيهم بقونية ومن أعمالها أقصرا وأنطاكية والعلايا وطغرل ودمرلو وقراحصار ومن ممالكهم أذربيجان ومن أعمالها آق شهر وكامخ وقلعة كعونية ومن ممالكهم قيسارية ومن أعمالها نكرة [1] وعدا قلية ومنال ومن ممالكهم أيضا سيواس وأعمالها ملكوها من يد الوانشمند كما مرّ في أخبارهم ومن أعمالها نكسار وأقاسية وتوقات وقمنات وكنكرة كورية وسامسول وصغوى وكسحونية وطرخلوا وبرلوا ومما استضافوه من بلاد الأرمن خلاط وأرمينية الكبرى وأني [2] وسلطان وأرجيس وأعمالها ومن ديار بكر خرت برت وملطية وسميساط ومسارة فكانت لهم هذه الأعمال وما يتصل بها من الشمال إلى مدينة برصة ثم إلى مدينة خليج القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها وعظمت دولتهم ثم طرقها الهرم والفشل كما يطرق الدول ولما استولى التتر على ممالك الإسلام وورثوا الدول في سائر النواحي واستقرّ التخت الأعظم لمنكوفان أخي هلاكو وجهز عساكر المغل سنة أربع وخمسين وستمائة إلى هذه البلاد وعليهم بيكو من أكابر أمرائهم وعلى بلاد الروم يومئذ غياث الدين كنخسرو بن علاء الدين كيقباد وهو الثاني عشر من ملوكهم من ولد قطلمش فنزلوا على أرزن الروم بها سنان الدين ياقوت مولى علاء الدين فملكوها بعد حصار شهرين واستباحوها وتقدّموا أمامهم ولقيهم غياث الدين بالصحراء على آق شهر وزنجان وانهزم غياث الدين واحتمل ذخيرته وعياله ولحق بقونية واستولى بيكو على مخلفه ثم سار إلى قيسارية فملكوها وهلك غياث الدين أثر ذلك وملك بعده بعهد ابنه علاء الدين كيقباد وأشرك معه أخويه في أمره وهما عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعاثت عساكر التتر في البلدا فسار علاء الدين كيقباد إلى منكوفان صاحب التخت واختلف أخواه من بعده وغلب عز الدين كيكاوس واعتقل أخاه ركن الدين بقونية وبعث في أثر أخيه علاء الدين من يستفسد له منكوفان فلم يحصل من ذلك على طائل وهلك علاء الدين   [1] هي اليوم أنقره. [2] والمشهور: وأن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 630 في طريقه وكتب منكوفان بتشريك الملك بين عز الدين وركن الدين والبلاد بينهما مقسومة فعز الدين من سيواس إلى تخوم القسطنطينية ولركن الدين من سيواس إلى أرزن الروم متصلا من جهة الشرق ببلاد التتر وأفرج عز الدين عن ركن الدين واستقرّ في طاعة التتر وسار بيكو في بلاد الروم قبل أن يرجع عز الدين فلقيه أرسلان دغمش من أمراء عز الدين فهزمه بيكو إلى قونية فأجفل عنها عز الدين إلى العلايا وحاصرها بيكو فملكها على يد خطيبها وخرج إلى بيكو فأسلمت زوجته على يده ومنع التتر من دخولها إلّا وحدانا وأن لا يتعرّضوا لأحد واستقرّ عز الدين وركن الدين في طاعة التتر ولهما اسم الملك والحكم للشحنة بيكو ولما زحف هلاكو إلى بغداد سنة ست وخمسين واستنفر بيكو وعساكره فامتنع واعتذر بمن في طريقه من طوائف الأكراد الفراسيلية والياروقية فبعث إليه هلاكو العساكر ومرّوا بأذربيجان وقد أجفل أهلها وهم قوم من الأكراد فملكوها وساروا مع بيكو إلى هلاكو وحضروا معه فتح بغداد وما بعدها ولما نزل هلاكو حلب استدعى عز الدين وركن الدين فحضرا معه فتحها وحضر معهما وزير هما معين الدين سليمان البرواناة واستحسنه هلاكو وتقدّم إلى ركن الدين بأن يكون السفير إليه عنه فلم يزل على ذلك ثم هلك بيكو مقدم التتر ببلاد الروم وولي مكانه صمقار من أمراء المغل ثم اختلف الأميران عز الدين وغياث الدين سنة تسع وخمسين واستولى عز الدين على أعمال ركن الدين فسار ومعه البرواناة إلى هلاكو صريخا فأمدّه بالعساكر وسار إلى عز الدين فهزمهم واستمدّه ثانيا فأمدّه هلاكو وانهزم عز الدين فلحق بالقسطنطينية وأقام عند صاحبها لشكري واستولى ركن الدين قليج أرسلان على بلاد الروم وامتنع التركمان الذين بتلك الأعمال بأطراف الأعمال والثغور والسواحل وطلبوا الولاية من هلاكو فولاهم وأعطاهم الله الملك فهم الملوك بها من يومئذ كما يأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى وأقام عز الدين بالقسطنطينية وأراد التوثب بصاحبها لشكري ووشى به أخواله من الروم فاعتقله لشكري في بعض قلاعه ثم هلك ويقال أنّ ملك الشمال منكوتمر صاحب التخت بصراي حدثت بينه وبين صاحب القسطنطينية فتنة فغزاه واكتسح بلاده ومرّ بالقلعة التي بها عز الدين معتقلا فاحتمله معه إلى صراي وهلك عنده ولحق ابنه مسعود بعد ذلك بأبغا بن هلاكو فأكرمه وولاه على بعض القلاع ببلاد الروم ثم أنّ معين الدين سليمان البرواناة ارتاب بركن الدين فقتله غيلة سنة ست وستين ونصب ابنه كنخسرو [1] للملك ولقبه غياث الدين وكان متغلبا عليه مقيما مع ذلك على طاعة التتر وربما كان يستوحش منهم فيكاتب سلطان مصر بالدخول في طاعته واطلع أبغا على كتابه بذلك إلى الظاهر بيبرس فنكره وهلك صمغار الشحنة فبعث   [1] وفي نسخة اخرى: كنخسرو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 631 أبغا مكانه أميرين من أمراء المغل وهما تدوان وتوقر فتقدما سنة خمس وسبعين إلى بلاد الشام ونزلا بابلستين ومعهما غياث الدين كنجسرو وكافله البرواناة في العساكر وسار الظاهر من دمشق فلقيهم بابلستين وقد قعد البرواناة لما كان تواعد مع الظاهر عليه وهزمهم الظاهر جميعا وقتل الأميرين تدوان وتوقر في جماعة من التتر ونجا البرواناة وسلطانه فلم يصب منهم أحد واستراب السلطان بالبرواناة لذلك وملك الظاهر قيسارية كرسي بلاد الروم وعاد إلى مصر وجاء أبغا ووقف على مكانه الملحمة ورأى مصارع قومه فصدّق الريبة بممالأة الظاهر والبرواناة وأصحابه فاكتسح البلاد وخربها ورجع ثم استدعى البرواناة إلى معسكره فقتله وأقام مكانه في كفالة كنجسرو أخاه عز الدين محمدا ولم يزل غياث الدين واليا على بلاد الروم والشحنة من المغل حاكم في البلاد إلى أن ولي تكرار بن هلاكو وكان أخوه قنقرطاي مقيما ببلاد الروم مع صمغار فبعث عنه وامتنع من الوصول فأوعز إلى غياث الدين واعتقله بارزنكان وولي على بلاد الروم على الشحنة أولاكو من أمراء المغل وذلك سنة إحدى وثمانين ويقال أنّ أرغو بن أبغا هو الّذي ولىّ أولا كوشحنة ببلاد الروم بعد صمغار وأنّ تدوان وتوقر إنما بعث بهما أبغا لقتال الظاهر ولم يرسلهما شحنة ثم أقام مسعود بن عز الدين كيكاوس في سلطانه ببلاد الروم والحكم لشحنة التتر وليس له من الملك إلا اسمه إلى أن افترق واضمحلّ أمره وبقي أمراء المغل يتعاقبون في الشحنة ببلاد الروم وكان منهم أوّل المائة الثامنة الأمير علي وهو الّذي قتل ملك الأرمن هيشوش بن ليعون صاحب سيس واستعدى أخوه عليه بخربندا فأعداه وقتله كما مرّ في أخبار الأرمن في دولة الترك وكان منهم سنة عشرين وسبعمائة الأمير ألبغا ولي السلطان أبو سعيد على بلاد الروم دمرداش بن جوبان سنة ثلاث وعشرين واستفحل بها ملكه وجاهد الأرمن بسيس واستمدّ الناصر محمد بن قلاون صاحب مصر عليهم فأمدّه بالعساكر وافتتحوا إياس عنوة ورجعوا ثم نكب السلطان أبو سعيد نائبة جوبان بن بروان وقتله كما مرّ في أخبارهم وبلغ الخبر إلى دمرداش ابنه ببلاد الروم فاضطرب لذلك ولحق بمصر في عساكره وأمرائه فأقبل السلطان عليه وتلقاه بالتكرمة والإيثار وجاءت رسل أبي سعيد في اتباعه تطلب حكم الله تعالى فيه بسعيه في الفساد وإثارة الفتنة على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فقتلوه وقتل دمرداش بمصر وذهبا بما كسبا وكان دمرداش لما هرب من بلاد الروم إلى مصر ترك من أمرائه إرتنا وكان يسمى النوير اسم أبناء الملوك فبعث إلى أبي سعيد بطاعته فولاه على البلاد فملكها ونزل سيواس واتخذها كرسي ملكه ثم استبدّ حسن بن دمرداش بتوريز فبايع له إرتنا ثم انتقض وكاتب الملك الناصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 632 صاحب مصر ودخل في طاعته وبعث إليه بالولاية والخلع فجمع له حسن بن دمرداش وسار إليه بسيواس وسار ارتنا للقائه بصحراء كسنوك وهزمه وأسر جماعة من أمرائه وذلك سنة أربع وأربعين واستفحل ملك ارتنا من يومئذ وعجز جوبان وحسن بن دمرداش عن طلبه إلى أن توفي سنة ثلاث وخمسين وأمّا بنوه من بعده فلا أدري من ملك منهم ولا ترتيب ولايتهم إلا أنه وقع في أخبار الترك أنّ السلطان أوعز سنة ست وستين إلى نائب حلب أن يسير في العساكر لإنجاد محمد بك بن إرتنا فمضوا وظفروا وما زال إرتنا وبنوه مستبدّين ببلاد الروم وأعمالها واقتطع لهم التركمان منها بلاد الأرمن سيس وما إليها فاستولى عليها بنو دلقادر على خلافه وزحف إليه وهي في أيديهم لهذا العهد ولما خالف سعاروس من أمراء الترك سنة اثنتين وخمسين ظاهره قراجا بن دلقادر على خلافه وزحف إليه السلطان من مصر فافترقت جموعه واتبعه العساكر فقتل وبعث السلطان سنة أربع وخمسين عسكرا في طلب قراجا فساروا إلى ابلستين وأجفل عنها نائبها فنهبوا أحياءه ولحق هو بابن أرتنا بسيواس فقبض عليه وبعث به إلى السلطان بمصر فقتله واقتطع التركمان ناحية الشمال من أعمالهم إلى القسطنطينية وأثخنوا في أمم النصرانية وراءهم واستولوا على كثير من تلك الممالك وراء القسطنطينية وأميرهم لهذا العهد في عداد الملوك الأعاظم ودولتهم ناشئة متجدّدة وكان صبيا بسيواس منذ أعوام الثمانين وهو من أعقاب بني إرتنا فاستبدّ عليه قاضي البلد لما كان كافلا له بوصية أبيه ثم قتل القاضي ذلك الصبيّ أعوام اثنتين وتسعين واستبدّ بذلك وكانت هناك أحياء التتر يناهزون ثلاثين ألفا أو نحوها مقيمين بتلك النواحي دمرداش بن جوبان ومن قبله من أمراء المغل فكانوا شيعة لبني إرتنا وعصابة لهم وهم الذين استنجد بهم القاضي حين وجهت إليه عساكر مصر في طلب منطاش الثائر الّذي فر ثم لحق به وسارت عساكر مصر في طلبه سنة تسع وثمانين فاستنجد القاضي بأحياء التتر هؤلاء وجاءوا لإنجاده ورجعت عساكر مصر عنهم كما تقدّم ذلك كله في أخبار الترك والحال على ذلك لهذا العهد والله مصير الأمور بحكمته وهو على كل شيء قدير . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 633 الخبر عن الدولة المستجدّة للتركمان في شمال بلاد الروم إلى خليج القسطنطينية وما وراءه لبني عثمان وإخوته قد تقدّم لنا في أنساب العالم ذكر هؤلاك التركمان وإنهم من ولد يافث بن نوح أي من توغرما بن كومر بن يافث كذا وقع في التوراة وذكر الفيومي من علماء بني إسرائيل ونسابتهم أنّ توغرما هم الخزر وأن الخزر هم التركمان إخوة الترك ومواطنهم فيما وجدناه من بحر طبرستان ويسمى بحر الخزر إلى جو في القسطنطينية وشرقها إلى ديار بكر وبعد انقراض العرب والأرمن ملكوا نواحي الفرات من أوّله إلى مصبه في دجلة وهم شعوب متفرّقون وأحياء مختلفون لا يحصرهم الضبط ولا يحويهم العدّ وكان منهم ببلاد الروم وجموع مستكثرة كان ملوكها يستكثرون بهم في حروبهم مع أعدائهم وكان كبيرهم فيها لعهد المائة الرابعة جق وكانت أحياؤهم متوافرة وأعدادهم متكاثرة ولما ملك سليمان بن قطلمش قونية بعد أبيه وفتح انطاكية سنة سبع وسبعين من يد الروم طالبه مسلم بن قريش بما كان له على الروم فيها من الجزية فأنف من ذلك وحدثت بينهما الفتنة وجمع قريش العرب والتركمان مع أميرهم جق وسار إلى حرب سليمان بأنطاكية فلما التقيا مال التركمان إلى سليمان لعصبية الترك وانهزم مسلم بن قريش وقتل وأقام أولئك التركمان ببلاد الروم أيام بني قطلمش موطنين بالجبال والسواحل ولما ملك التتر ببلاد الروم وأبقوا على بني قطلمش ملكهم وولوا ركن الدولة قليج أرسلان بعد أن غلب أخوه عز الدين كيكاوس وهرب إلى القسطنطينية وكان أمراء هؤلاء التركمان يومئذ محمد بك وأخاه الياس بك وصهره علي بك وقريبه سونج والظاهر أنهم من بني جق فانتقضوا على ركن الدولة وبعثوا إلى هلاكو بطاعتهم وتقرير الأثر عليهم وأن يبعث إليهم باللواء على العادة وأن يبعث شحنة من التتر يختص بهم فأسعفهم بذلك وقلدهم وهم من يومئذ ملوك بها ثم أرسل هلاكو إلى محمد بك الأمير يستدعيه فامتنع من المسير إليه واعتذر فأوعز هلاكو إلى الشحنة الّذي ببلاد الروم إلى السلطان قليج أرسلان بمحاربته فساروا إليه وحاربوه ونزع عنه صهره علي بك ووفد على هلاكو فقدمه مكان محمد صهره ولقي محمد العساكر فانهزم وأبعد في المفرّ. ثم جاء إلى قليج أرسلان مستأمنا فأمنه وسار معه إلى قونية فقتله واستقرّ صهره علي بك أميرا على التركمان وفتحت عساكر التتر نواحي بلاد الروم إلى إسطنبول والظاهر أنّ بني عثمان ملوكهم لهذا العهد من أعقاب علي بك أو أقاربه يشهد بذلك اتصال هذه الإمارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 634 فيهم مدّة هذه المائة سنة ولما اضمحلّ أمر التتر من بلاد الروم واستقرّ بنو ارتنا بسيواس وأعمالها غلب هؤلاء التركمان على ما وراء الدروب إلى خليج القسطنطينية ونزل ملكهم مدينة برصا من تلك الناحية وكان يسمى أورخان بن عثمان جق فاتخذها دارا لملكهم ولم يفارق الخيام إلى القصور وإنما ينزل بخيامه في بسيطها وضواحيها وولي بعده ابنه مر أدبك وتوغل في بلاد النصرانية وراء الخليج وافتتح بلادهم إلى قريب من خليج البنادقة وجبال جنوة وصار أكثرهم ذمّة ورعايا وعاث في بلاد الصقالبة بما لم يعهد لمن قبله وأحاط بالقسطنطينية من جميع نواحيها حتى اعتقل ملكها من أعقاب لشكري وطلب منه الذمّة وأعطاه الجزية ولم يزل على جهاد أمم النصرانية وراءه إلى أن قتله الصقالبة في حروبه معهم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وولي بعده ابنه أبو يزيد وهو ملكهم لهذا العهد وقد استفحل ملكهم واستنجدت بالغز دولتهم وكان قد غلب على قطعة من بلاد الروم ما بين سيواس وبلادهم من انطاكية والعلايا بحيال البحر إلى قونية بنو قرمان من أمراء التركمان وهم الذين كانوا في حدود أرمينية وجدّهم هو الّذي هزم أوشين بن ليعون ملك سيس من الأرمن سنة عشرين وسبعمائة ثم كان بين بني عثمان جق وبين بني قرمان اتصال ومصاهرة وكان ابن قرمان لهذا العهد صهر السلطان مراد بك على أخته فغلبه السلطان مراد بك على ما بيده ودخل ابن قرمون صاحب العلايا في طاعته بل والتركمان كلهم وفتح سائر البلاد ولم يبق له إلّا سيواس بلد بني ارتنا في استبداد القاضي الّذي عليها وما أدرى ما الله صانع بعد ظهور هذا الملك تمر المتغلب على ملك المغل من بني جفطاي بن جنكزخان وملك ابن عثمان لهذا العهد مستفحل بتلك الناحية الشمالية ومتسع في أقطارها ومرهوب عند أمم النصرانية هنالك ودولته مستجدّة عزيزة على تلك الأمم والأحياء والله غالب على أمره وإلى هنا انتهت أخبار الطبقة الثالثة من العرب ودولهم وهم الأمم التابعة للعرب بما تضمنه من الدول الإسلامية شرقا وغربا لهم ولمن تبعهم من العجم فلنرجع الآن إلى ذكر الطبقة الرابعة من العرب وهم المستعجمة أهل الجيل الناشيء بعد انقراض اللسان المضري ودروسه ونذكر أخبارهم ثم نخرج إلى الكتاب الثالث من الثالث في أخبار البربر ودولهم فنفرغ بفراغها من الكتاب إن شاء الله تعالى والله وليّ العون والتوفيق بمنه وكرمه. تم طبع الجزء الخامس ويليه الجزء السادس أوّله الطبعة الرابعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 635 [ المجلد السادس ] [تتمة الكتاب الثاني ... ] [تتمة القول في أجيال العرب ... ] الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة أهل الجيل الناشئ لهذا العهد من بقية أهل الدولة الإسلامية من العرب لما استقلّت مضر وفرسانها وأنصارها من اليمن بالدولة الإسلامية، فيمن تبع دينهم من إخوانهم ربيعة ومن وافقهم من الأحياء اليمنيّة، وغلبوا الملل والأمم على أمورهم، وانتزعوا الأمصار من أيديهم، وانقلبت أحوالهم من خشونة البداوة وسذاجة الخلافة إلى عزّ الملك وترف الحضارة، ففارقوا الحلل وافترقوا على الثغور البعيدة والأقطار البائنة عن ممالك الإسلام، فنزلوا بها حامية ومرابطين عصبا وفرادى. وتناقل الملك من عنصر إلى عنصر ومن بيت الى بيت، واستفحل ملكهم في دولة بني أميّة وبني العبّاس من بعدهم بالعراق، ثم دولة بني أمية الأخرى بالأندلس، وبلغوا من الترف والبذخ ما لم تبلغه دولة من دول العرب والعجم من قبلهم، فانقسموا في الدنيا ونبتت أجيالهم في ماء النعيم، واستأثروا مهاد الدعة واستطابوا خفض العيش، وطال نومهم في ظلّ الغرف والسلم، حتى ألفوا الحضارة ونسوا عهد البادية وانفلتت من أيديهم الملكة التي نالوا بها الملك، وغلبوا الأمم من خشونة الدين وبداوة الأخلاق، ومضاء المضرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 فاستوت الحامية والرعية لولا الثقافة، وتشابه الجند والحضر إلّا في الشارة. وأنف السلطان من المساهمة في المجد والمشاركة في النسب، فجدعوا أنوف المتطاولين إليه من أعياصهم وعشائرهم ووجوه قبائلهم، وغضّوا من عنان طموحهم، واتخذوا البطانة مقرّهم من موالي الأعجام وصنائع الدولة، حتى كثروا بهم قبيلتهم من العرب الذين أقاموا الدولة، ونصروا الملّة ودعموا الخلافة، وأذاقوهم وبال الخلابة من القهر، وساموهم خطّة الخسف والذلّ، فأنسوهم ذكر المجد وحلاوة العزّ، وسلبوهم نصرة العصبيّة حتى صاروا أجراء على الحامية، وخولا لمن استعبدهم من الخاصّة وأوزاعا متفرّقين بين الأمّة، وصيّروا لغيرهم الحلّ والعقد والإبرام، والنقض من الموالي والصنائع، فداخلتهم أريحية العزّ وحدّثوا أنفسهم بالملك، فجحدوا الخلفاء وقعدوا بدست الأمر والنهي. واندرج العرب أهل الحماية في القهر واختلطوا بالهمج، ولم يراجعوا أحوال البداوة لبعدها، ولا تذكّروا عهد الأنساب لدروسها. فدثروا وتلاشوا شأن من قبلهم وبعدهم، سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ من قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا. 48: 23 (وكان المولدون) لتمهيد قواعد الأمر، وبناء أساسه من أوّل الإسلام والدين والخلافة من بعده، والملك، قبائل من العرب موفورة العدد عزيزة الأحياء. فنصروا الإيمان والملّة، ووطّدوا أكناف الخلافة، وفتحوا الأمصار والأقاليم، وغلبوا عليها الأمم والدول. أمّا من مضر: فقريش وكنانة وخزاعة وبنو أسد وهذيل وتميم وغطفان وسليم وهو زان، وبطونها من ثقيف وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة ومن إليهم من الشعوب والبطون والأفخاذ والعشائر والخلفاء والموالي. وأما من ربيعة: فبنو ثعلب بن وائل وبنو بكر بن وائل وكافة شعوبهم من بني شكر وبني حنيفة وبني عجل وبني ذهل وبني شيبان وتيم الله. ثم بنو النمر من قاسط، ثم عبد القيس ومن إليهم. وأمّا من اليمنية ثم من كهلان بن سبإ منهم: فأنصار الله الخزرج والأوس ابنا قيلة من شعوب غسّان وسائر قبال الأزد، ثم همذان وخثعم وبجيلة، ثم مذحج وكافة بطونها من عبس ومراد وزبيد والنّخع والأشعريّين وبني الحرث بن كعب، ثم لحي وبطونها ولخم وبطونها، ثم كندة وملوكها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 وأمّا من حمير بن سبإ فقضاعة وجميع بطونها ومن إلى هذه القبائل والأفخاذ والعشائر والأحلاف. هؤلاء كلّهم أنفقتهم الدولة الإسلامية العربية، فنبا منهم الثغور والقصيّة، وأكلتهم الأقطار المتباعدة، واستلحمتهم الوقائع المذكورة، فلم يبق منهم حيّ يطرف، ولا حلّة تنجع ولا عشير يعرف، ولا قليل يذكر ولا عاقلة تحمل جناية، ولا عصابة بصريخ إلّا سمع من ذكر أسمائهم في أنساب أعقاب متفرّقين في الأمصار التي ألخموها بجملتهم، فتقطّعوا في البلاد ودخلوا بين الناس فامتهنوا واستهينوا وأصبحوا خولا للأمراء، وريبا للواسد وعالة على الحرب. وقام بالإسلام والملّة غيرهم، وصار الملك والأمر في أيدي سواهم، وجلبت بضائع العلوم والصنائع إلى غير سوقهم، فغلب أعاجم المشرق من الديلم وانسلخوا فيه والأكراد والعرب والترك على ملكه ودولته [1] فلم يزل مناقلة فيهم إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب من زناتة والبربر على أمره أيضا، فلم تزل الدول تتناقل فيهم على ما نذكره بعد إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب والبربر على أمره، وانقرض أكثر الشعوب الذين كان لهم الملك من هؤلاء فلم يبق لهم ذكر. وانتبذ بقية هذه الشعوب من هذه الطبقة بالقفار وأقاموا أحياء بادين لم يفارقوا الحلل ولا تركوا البداوة والخشونة، فلم يتورطوا في مهلكة الترف ولا غرقوا في بحر النعيم، ولا فقدوا في غيابات الأمصار والحضارة ولهذا أنشد شاعرهم: فمن ترك الحضارة أعجبته ... بأيّ رجال بادية ترانا [2] وقال المتنبي يمدح سيف الدولة ويعرّض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عيثهم وفسادهم: وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... وأن نبتت في الماء نبت الغلافق [3] فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتا من أداحي النقانق [4] . (وأقامت) هذه الأحياء في صحارى الجنوب من المغرب والمشرق بإفريقية ومصر   [1] وفي نسخة ثانية: فغلب أعاجم المشرق من الديلم والسلجوقية والأكراد والغزّ والترك على ملكه ودولته. [2] ورد هذا البيت في النسخة التونسية: فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية توانى [3] الغلفق كجعفر الطحلب أو نبت في الماء ورقه عراض. قاله المجد. [4] وقال النقنق كزبرج الظلم انتهى. وقد ورد. هذا البيت في النسخة التونسية فهاجوك أهدى في الغلاة من القطا ... وأبدى بيوتا من بيوت النقانق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 والشام والحجاز والعراق وكرمان، كما كان سلفهم من ربيعة ومضر وكهلان في الجاهلية، وعتوا وكثروا وانقرض الملك العربيّ الإسلامي. وطرق الدول الهرم الّذي هو شأنها واعتزّ بعض أهل هذا الجيل غربا وشرقا فاستعملتهم الدول وولّوهم الإمارة على أحيائهم وأقطعوهم في الضاحية والأمصار والتلول وأصبحوا جيلا في العالم ناشئا، كثروا سائر أهله من العجم. ولهم في تلك الإمارة دول، فاستحقّوا أن تذكر أخبارهم، وتلحق بالأحياء من العرب سلفهم. ثم إن اللسان المضري الّذي وقع به الإعجاز ونزل به القرآن فثوى فيهم وتبدّل إعرابه فمالوا إلى العجمة. وإن كانت الأوضاع في أصلها صحيحة، واستحقوا أن يوصفوا بالعجمة من أجل الإعراب، فلذلك قلنا فيهم العرب المستعجمة. (فلنذكر الآن) بقية هؤلاء الشعوب من هذه الطبقة في المغرب والمشرق ونخصّ منهم الأحياء الناجعة والأقدار النابهة، ونلغي المندرجين في غيرهم. ثم نرجع إلى ذكر المنتقلين من هذه الطبقة إلى إفريقية والمغرب فنستوعب أخبارهم لأن العرب لم يكن المغرب لهم في الأيام السابقة بوطن، وإنما انتقل إليه في أواسط المائة الخامسة أفاريق من بني هلال وسليم اختلطوا في الدول هنالك، فكانت أخبارهم من أخبارها، فلذلك استوعبناها. وأمّا آخر مواطن العرب فكانت برقة، وكان فيها بنو قرّة بن هلال بن عامر. وكان لهم في دول العبيديّين أخبار، وحكايتهم في الثورة أيام الحاكم والبيعة لأبي ركوة من بني أميّة في الأندلس معروفة، وقد أشرنا إليها في دولة العبيديّين. ولما أجاز بنو هلال وسليم إلى المغرب خالطوهم في تلك المواطن، ثم ارتحلوا معهم إلى المغرب كما نذكره في دخول العرب إلى إفريقية والمغرب. وبقي في مواطنهم ببرقة لهذا العهد أحياء بني جعفر، وكان شيخهم أوسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب وأخوه حامد ابن حميد [1] . وهم ينسبون في المغرب [2] تارة في العزّة ويزعمون أنهم من بني كعب ابن سليم، وتارة في الهيب كذلك، وتارة في فزارة، والصحيح في نسبهم أنهم من مسراته إحدى بطون هوارة سمعته من كثير من نسابتهم، وبعدهم فيما بين برقة والعقبة الكبيرة أولاد سلام، وما بين العقبة الكبيرة والإسكندرية أولاد مقدّم وهم بطنان:   [1] قوله حميد وفي نسخة اخرى كميد وفي نسخة ثانية كميل بضم الكاف وفتح الميم. [2] وفي نسخة ثانية: ينتسبون في العرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 أولاد التركية وأولاد قائد. ومقدّم وسلام معا ينسبون إلى لبيد، فبعضهم يقول لبيد بن لعتة [1] بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وبعضهم يقول في مقدّم: مقدّم بن عزاز بن كعب بن سليم. (وذكر لي سلام) شيخ أولاد التركية: أن أولاد مقدّم من ربيعة بن نزار، ومع هؤلاء الأحياء حتى محارب ينتمون بآل جعفر. ويقال إنهم من جعفر بن كلاب، وهي رواحة ينتمون بآل زبيد، ويقال من جعفر أيضا. والناجعة من هؤلاء الأحياء كلّهم ينتمون في شأنهم إلى الواحات من بلاد القبلة. (وقال ابن سعيد) ومن غطفان في برقة مهيب ورواحة وفزارة، فجعل هؤلاء من غطفان والله أعلم بصحة ذلك. (وفيما بين الإسكندرية ومصر) قبائل رحّالة ينتقلون في نواحي البحيرة هنالك، ويعمّرون أرضها بالسكنى والفلح، ويخرجون في المشاتي إلى نواحي العقبة وبرقة من مراية وحوارة [2] وزنارة [3] إحدى بطون لواته، وعليهم مغارم الفلح. ويندرج فيهم أخلاط من العرب والبربر لا يحصون كثرة. وبنواحي الصغير قبائل من العرب من بني هلال وبني كلاب من ربيعة. وهؤلاء أحياء كثيرة ويركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويعمّرون الأرض بالفلاحة ويقومون بالخراج للسلطان. وبينهم مع ذلك من الحروب والفتن ما ليس يكون بين أحياء القفر. (وبالصعيد) الأعلى من أسوان وما وراءها إلى أرض النوبة إلى بلاد الحبشة قبائل متعدّدة وأحياء متفرّقة، كلهم من جهينة إحدى بطون قضاعة، ملئوا تلك القفار وغلبوا النوبة على مواطنهم وملكهم، وزاحموا الحبشة في بلادهم وشاركوهم في أطرافها. والذين يلون أسوان هم يعرفون بأولاد الكنز، كان جدّهم كنز الدولة، وله مقامات مع الدول مذكورة، ونزل معهم في تلك المواطن من أسوان إلى قوص بنو جعفر بن أبي طالب حين غلبهم بنو الحسن على نواحي المدينة، وأخرجوهم منها، فهم يعرفون بينهم بالشرفاء الجعافرة، ويحترفون في غالب أحوالهم بالتجارة.   [1] وفي نسخة ثانية: هينة. [2] وفي نسخة ثانية: مزانت وهوارة. ولعلها مزاتة كما في كتاب قبائل المغرب ص 304. [3] لم نجد لها في ذكر في قبائل الغرب وبطون لواته: زائر وكطوط وماصل وفاضل وفأصل ونبطط (قبال المغرب ص 304) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 (وبنواحي مصر) من جهة القبلة إلى عقبة أيلة أحياء جذام جمهورهم من العائد [1] وعليهم درك السابلة بتلك الناحية. ولهم على ذلك الأقطاع والعوائد من السلطان. ويليهم من جهة الشرق بالكرك ونواحيها أحياء بني عقبة من جذام أيضا، ورحالة ناجعة تنتهي رحلتهم الى المدينة النبويّة. وعليهم درك السابلة فيما يليهم. وفيما وراء عقبة أيلة إلى القلزم قبائل من قضاعة ومن القلزم إلى الينبع، مع قبائل من جهينة. ومن الينبع إلى بدر ونواحيه من زبيد إحدى بطون مذحج، ولهم الأمراء بمكّة من بني حسن حلف ومواخاة. وفيما بين مكّة والمهجم مما يلي اليمن قبائل بني شعبة من كنانة، وفيما بين الكرك وغزّة شرقا قبائل جذام من قضاعة في جموع وافرة، ولهم أمراء أعزّة يقطعهم السلطان على العسكر وحفظ السابلة، وينجعون في المشاتي إلى معان وما يليها من أسافل نجد، مما يلي تيماء، وبعدهم في أرض الشام بنو حارثة بن سنبس وآل مراء من ربيعة إخوة آل فضل الملوك على العرب في برية الشام والعراق ونجد. وأخبرني بعض أمراء حارثة بن سنبس عن بطون. فلنذكر الآن خبر أولاد فضل أمراء الشام والعراق من طيِّئ فنبين [2] أعراب الشام جميعا. (خبر آل فضل وبني مهنا منهم ودولتهم بالشام والعراق) هذا الحيّ من العرب يعرفون بآل فضل، وهم رحّالة ما بين الشام والجزيرة وبرية نجد من أرض الحجاز، ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين [3] وينتهون في طيِّئ ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهزيم ومذحج أحلاف لهم باين بعضهم [4] في الغلب والعدد آل مراء. ويزعمون أنّ فضلا ومراء آل ربيعة، ويزعمون أيضا أن فضلا ينقسم ولده بين آل مهنا وآل علي، وأنّ آل فضل كلهم كانوا بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراء وأخرجوهم منها، فنزلوا حمص ونواحيها، وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم   [1] وفي نسخة ثانية من العابد. [2] وفي نسخة ثانية: فيهم يتبين حال أعراب الشام جميعا. [3] اي رحلة الشتاء والصيف. [4] وفي النسخة التونسية ويناهضهم في الغلب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 بها حتى الآن لا يفارقونها. قالوا: ثم اتصل آل فضل باللد [1] من السلطنة وولّوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق، فاستظهروا برياستهم على آل مراء، وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول والقرى، لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل. وكانت معهم أحياء من أفاريق الأعراب يندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان لآل فضل. إلا أنّ أكثر من كان من آل مراء أولئك الأحياء وأوفرهم عددا بنو حارثة من إحدى سنى بطون طيِّئ [2] هكذا ذكر الثقة عنهم من رجالاتهم. وحارثة هؤلاء متغلّبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى القفار. ومواطن طيِّئ بنجد قد اتسعت، وكانوا أول خروجهم من اليمن نزلوا جبلي أجا وسلمى، وغلبوا عليهما بني أسد وجاوروهم. وكان لهم من المواطن سميراء وميد [3] من منازل الحاج. ثم انقرض بنو أسد وورثت طيِّئ بلادهم فيما وراء الكرخ من من منازل الحاج. ثم انقرض بنو أسد وورثت طيِّئ بلادهم فيما وراء الكرخ من أرض غفرو [4] وكذلك ورثوا منازل تميم بأرض نجد فيما بين البصرة والكوفة واليمامة. وكذلك ورثوا غطفان ببطن مما يلي وادي القرى. هكذا قال ابن سعيد. وقال: أشهر الحجازيين منهم الآن بنو لام وبنو نبهان والصولة بالحجاز لبني لام بين المدينة والعراق، ولهم حلف مع بني الحسين أمراء المدينة. قال: وبنو صخر منهم في جهة تيماء بين الشام وخيبر. قال: وغربة من طيِّئ بنو غربة [5] بن أفلت بن معبد بن عمر بن عنبس بن سلامان، ومن بعد بلادهم حيّ الأنمر والأساور [6] ورثوها من عنزة. ومنازلهم لهذا العهد في مصايفهم بالكيبات [7] وفي مشاتيهم مع بني لام من طيِّئ. وهم أهل غارة وصولة بين الشام والعراق. ومن بطونهم الأجود والبطنين وإخوانهم زبيد نازلون بالموصل، فقد جعل ابن سعيد: زبيد هؤلاء من بطون طيِّئ، ولم يجعلهم من مذحج. رياسة آل فضل في هذا العهد في   [1] بياض بالأصل وفي النسخة التونسية: «ثم اتصل آل فضل بالدول السلطانية» . [2] وفي النسخة التونسية: بنو حارثة بن عنبس احدى شعوب طيِّئ. [3] وفي نسخة ثانية قيد، والميد من الشعوب الشرقية الفارسية (قبائل الغرب ص 258) . [4] وفي النسخة التونسية: من ارض نجد. [5] وفي النسخة التونسية: وعزية من طيِّئ بنو عزية. [6] وفي النسخة التونسية: سلامات بن بعل، بلادهم عين التمر والأنبار. [7] وفي النسخة التونسية: بالكبيات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 بني مهنا، وينسبونه هكذا: كنا بن مايع بن مدسة بن عصية [1] بن فضل بن بدر بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن قصية بن بدر بن سميع. ويقفون عند سميع. ويقول زعماؤهم أن سميعا هذا هو الّذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي. وحاشا للَّه من هذه المقالة في الرشيد وأخته، وفي بنات كبراء العرب من طيِّئ إلى موالي العجم من بني برمك وأمثالهم. ثم إنّ الموجود تميل رياسته مثل هؤلاء على هذا الحي إذا لم يكونوا من نسبهم. وقد تقدم مثل ذلك في مقدّمات الكتاب. (وكان مبدأ رياستهم) من أول دولة بني يعقوب. قال العماد الأصبهاني: نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة. وكانت الرئاسة فيهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيِّئ. وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح. وكان من أقطاعه التي معه وهو الّذي قبض على اسكى [2] مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق. وجاء إلى الشام سنة أربع وستين وثلاثمائة وملك دمشق وزحف مع القرامطة لقتال العزيز بن المعز لدين الله صاحب مصر، فهزمهم العزيز وهرب أفتكين فلقيه مفرج بن دغفل، وجاء به إلى العزيز فأكرمه ورقاه في دولته. ولم يزل شأن مفرج هذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة. وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجرار. وولي حسان بعده وعظم صيته، وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين معزة واستقامة، وهو الّذي هزم الرملة وهزم قائدهم باروق التركي وقتله وسبى نساءه، وهو الّذي مدحه التهامي. ويذكر المسمى وغيره أنّ موطئ دولة العبيديين [3] في قرابة حسان بن مفرج هذا فضل بن ربيعة بن حازم وأخوه بدر بن ربيعة وابنا بدر. ولعل فضلا هذا هو جدّ آل فضل. (قال ابن الأثير) إن فضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب السقاء والبيت المقدس. وكان الفضل تارة مع الفرنج وتارة مع خلفاء مصر. ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش فطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد بالحلة وحالفه. ووصله صدقة بتسعة آلاف دينار. فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان   [1] وفي النسخة التونسية: مهنا بن مانع بن حديثه بن غضية. [2] وفي النسخة التونسية: وكان من اقطاعه الرحلة، وهو الّذي قبض على افتكين مولى بني بويه. [3] وفي النسخة التونسية: ويذكر المسبحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها، ووقعت بينهما الفتنة اجتمع له فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة ومسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان، كانوا كلهم أولياء صدقة، فصار في الطلائع بين يدي الحرب، وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم، وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة، واستأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار، فلم يراجع السلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير. ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلا هذا وبدرا من آل جراح بلا شك. ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أنّ فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه: فضل بن ربيعة بن الجراح. فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الّذي هو كبير بني الجراح لبعد العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية القفر [1] . وأما نسبة هذا الحي من آل فضل بن ربيعة بن فلاح من مفرج في طيِّئ، فبعضهم يقول: إن الرئاسة في طيِّئ كانت لأياس بن قبيصة من بني سبإ بن عمرو بن الغوث من طيِّئ، وإياس هو الّذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر لما قتل النعمان بن المنذر، وهو الّذي صالح خالد بن الوليد عن الحيرة على الجزية. ولم تزل الرئاسة على طيِّئ إلى بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام. فلعل بني الجراح وآل فضل هؤلاء من أعقابهم، وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليهم، لأن الرئاسة على الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب. (وقال ابن حزم) عند ما ذكر أنساب طيِّئ وأنهم لما خرجوا من اليمن مع بني أسد نزلوا جبلي أجا وسلمى، وأوطنوهما وما بينهما، ونزل بنو أسد ما بينهم وبين العراق. وفضل كثير منهم وهم: بنو حارثة نسبة إلى أمهم [2] ، وتيم الله، وحبيش، والأسعد إخوتهم رحلوا على الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب، وحاضر طيِّئ وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رومان بن جندب بن خارجة بن سعد، فإنّهم أقاموا بالجبلين فكانوا جبليين [3] ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة السهيليون انتهى.   [1] وفي النسخة التونسية: من البادية الغفل. [2] وفي النسخة التونسية: وهم بنو خارجة بن سعد بن قطرة، ويقال لهم جديلة نسبة إلى أمهم. [3] يبدو من سياق النص ان عبارة سقطت أثناء النسخ، وفي النسخة التونسية: فإنهم أقاموا بالجبلين، فكان يقال لأهل الجبلين: الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة: السهليون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 فلعل هذه الأحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيِّئ، لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبلي أجا وسلمى الّذي هو موضع الآخرين، فاللَّه أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم. وتحت خفارتهم بنواحي الفرات ابن كلاب [1] بن ربيعة بن عامر دخلوا مع قبائل عامر بن صعصعة من نجد إلى الجزيرة. ولما افترق بنو عامر على الممالك الإسلامية اختص هؤلاء بنواحي حلب وملكها منهم بنو صالح بن مرداس من بني عمرو بن كلاب. ثم تلاشى ملكهم ورجعوا عنها الى الأحياء وأقاموا بالفرات تحت خفارة هؤلاء الأمراء من طيِّئ. (وأما ترتيب رياستهم) على العرب بالشام والعراق منذ دولة بني أيوب العادل وإلى هذا العهد، وهو آخر ست وتسعين وسبعمائة، فقد ذكرنا ذلك في دولة الترك ملوك مصر والشام، وذكرناهم واحدا بعد واحد على ترتيبهم. وسنذكرهم هاهنا على ذلك الترتيب فنقول: كان الأمير لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما كان بعده حسام الدين مانع بن حارثة بمصر والشام. وفي سنة ثلاثين وستمائة ولي عليهم بعده ابنه مهنا. ولما ارتجع قطز بن عصية بن فضل أحد ملوك الترك بمصر والشام من أيدي التتر، وهزمهم بعين جالوت، أقطع سلمية لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن مظفّر بن شاهنشاه صاحب حماة، ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا. ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عند ما استفحل ملك الترك. وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم إلى بغداد عيسى بن مهنا بن مانع، وجرّ له الاقطاعات على حفظ السابلة، وحبس ابن عمّه زامل بن عليّ بن ربيعة من آل فضل على سعايته وإغرامه. ولم يزل يغير على أحياء العرب، وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدّة عليهم، وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وسبعين وستمائة وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام. وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين وستمائة فولى المنصور قلاون من بعده ابنه مهنا. ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام ونزل حمص، ووفد عليه مهنا بن عيسى في   [1] وفي النسخة التونسية: من كلاب بن ربيعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 جماعة من قومه، فقبض عليه وعلى ابنه موسى وإخوته محمد وفضل ابني مهنا. وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عند ما جلس على التخت سنة أربع وتسعين وستمائة، ورجع إلى إمارته. وكان له في أيام الناصر نصرة واستقامة وميلة إلى ملوك التتر بالعراق، ولم يحضر شيئا من وقائع غازان. ولما فرّ أسفر وأقوش الأفرم [1] وأصحابهما سنة عشر وسبعمائة لحقوا به، وساروا من عنده إلى خرشد [2] واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة. ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة فرعا له حق وفادته، وولاه على العرب مكان أخيه مهنا، وبقي مهنا مشردا. ثم لحق سنة ست عشرة وسبعمائة بخرشد ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق. وهلك خرشد في تلك السنة فرجع مهنا إلى أحيائه، ووفد ابنه أحمد وموسى وأخوه محمد بن عيسى مستعتبين على الناصر ومتطارحين عليه، فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق، وشملهم بالإحسان وأعتب مهنا وردّه إلى إمارته وأقطاعه، وذلك سنة سبع عشرة وسبعمائة وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل في اثني عشر ألف راحلة. ثم رجع مهنا إلى دينه في ممالأة التتر والاجلاب على الشام. واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه، وسخط عليه قومه أجمع. وتقدم إلى أبواب الشام سنة عشرين وسبعمائة بعد مرجعه من الحج، فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم مالكا على عدالته بينهم [3] وولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر، وصرف أقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدّة. ثم وفد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحا على السلطان، فأقبل عليه وردّ عليه أقطاعه وإمارته. (وذكر لي) بعض أمراء الكبراء [4] بمصر فيمن أدرك وفادته أو حدث بها: أنه تجافى في هذه الوفادة من قبول شيء من السلطان، حتى أنه ساق عنده النياق الحلوبة   [1] وفي نسخة ثانية: ولما انتقض قر استقر وأقوش الأفرم. [2] وفي نسخة ثانية: خربندا ولم نجد لها ذكر، ولعلها خرشيد وهي بليدة على سواحل فارس يدخل إليها في خليج من البحر نحو فرسخ في المراكب (معجم البلدان) . [3] وفي النسخة التونسية: وأدال منهم بال علي عديلة نسبهم. [4] وفي النسخة التونسية: بعض كبار الأمراء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 والعراب، وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئا من حاجاته، ثم رجع إلى أحيائه وتوفي سنة اربع وثلاثين وسبعمائة فولي ابنه مظفر الدين موسى، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة عقب مهلك الناصر، وولي مكانه أخوه سليمان. ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى. ثم توفي سنة أربع وأربعين وسبعمائة بالقريتين ودفن عند قبر خالد بن الوليد. وولي مكانه أخوه سيف بن فضل، ثم عزله السلطان بمصر، الكامل ابن الناصر سنة ست وأربعين وسبعمائة وولي مكانه أحمد بن مهنا بن عيسى. ثم جمع سيف بن فضل ولقيه فياض بن مهنا بن عيسى وانهزم سيف. ثم ولي السلطان حسن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيبغاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم. ثم توفي سنة سبع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض، وهلك سنة تسع وأربعين وسبعمائة وولي مكانه أخوه خيار بن مهنا، وولاه حسن الناصر في دولته الثانية. ثم انتقض سنة خمس وستين وسبعمائة وأقام سنتين بالقصر عاصيا إلى أن تشفع فيه نائب حماة، فأعيد إلى إمارته. ثم انتقض سنة سبعين وسبعمائة فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى، وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم، وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري، فبرز إليهم وانتهى إلى خيمهم، واستاق نعمهم وتخطي إلى الخيام فاستجاشوا بها [1] وهزموا عساكره وقتل قشتمر ابنه في المعركة، تولى هو قتله بيده، وذهب إلى القفر منتقضا فولى الأشرف مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى [2] . ثم بعث ابن معيقل صاحبه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة يستأمن لخيار فآمنه. ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين وسبعمائة فرضي عنه السلطان وأعاده إلى إمارته. ثم توفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة فولي أخوه مالك إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فولى مكانه معيقل بن موسى بن عيسى، وابن مهنا شريكين في إمارتهما. ثم عزلا لسنة وولي بعير بن جابر [3] بن مهنا واسمه محمد، وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيِّئ بالشام. والسلطان   [1] وفي النسخة التونسية: فاستماتوا دونها. [2] وفي النسخة التونسية: فولي بعده معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى بن مهنا. [3] وفي نسخة ثانية: نعير بن خيار بن مهنّا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 الظاهر لعهده يزاحمه بحجر بن محمد بن قارى حتى سخطه [1] . ثم وصل انتقاضه على السلطان وخلافه، وظاهر السلطان على موالاة محمد بن قاري فسخطه، وولّى مكانهما ابن عمهما محمد بن كوكتين ابن عمه موسى بن عساف بن مهنا فقام بأمر العرب وبقي بعير منتبذا بالقفر، وعجز عن الميرة لقلة ما بيده [2] واختلت أحواله، وهو على ذلك لهذا العهد، والله ولي الأمور لا رب سواه. (ولنرجع) إلى ما بقي من شعوب هذه الطبقة فنقول: كان بنو عامر بن صعصعة كلّهم بنجد، وبنو كلاب في خناصرة [3] والرَّبَذَة من جهات المدينة وكعب بن ربيعة فيما بين تهامة والمدينة وأرض الشام. وبنو هلال بن عامر في بسائط الطائف ما بينه وبين جبل غزوان ونمير بن حامد [4] معهم. وجشم محسوبون منهم بنجد، وانتقلوا كلّهم في الإسلام إلى الجزيرة الفراتية فملك نمير حران ونواحيها. وأقام بنو هلال بالشام إلى أن ظعنوا إلى المغرب كما نذكر في أخبارهم. وبقي منهم بقية بجبل بني هلال المشهور بهم الّذي فيه قلعة صرخد. وأكثرهم اليوم يتعاطون الفلح. وبنو كلاب بن ربيعة   [1] وفي نسخة ثانية: والسلطان الظاهر لعهده يزاحمه بمحمد ابن عمه قاري. [2] وفي النسخة التونسية: فقلّ تابعه. [3] وفي النسخة التونسية: الخناصرية، والأصح خناصرة: وهي بليدة من أعمال حلب تحاذي قنسرين نحو البادية (معجم البلدان) . [4] وفي النسخة التونسية: نمير بن عامر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 ملكوا أرض حلب ومدينتها كما ذكرناه. وبنو كعب بن ربيعة دخلت إلى الشام، منهم قبائل عقيل وقشير وجريش وجعدة، فانقرض الثلاثة في دولة الإسلام ولم يبق إلا بنو عقيل. (وذكر) ابن حزم: أنّ عددهم يفي عدد جميع مضر. فملك منهم الموصل بنو مالك [1] بعد بني حمدان وتغلب. واستولوا عليها وعلى نواحيها وعلى حلب معها. ثم انقرض ملكهم ورجعوا للبادية، وورثوا مواطن العرب في كل جهة، فمنهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل، وكان بنو مالك بن عقيل في أرض تيماء من نجد، وهم الآن بجهات البصرة في الآجام التي بينها وبين الكوفة المعروفة بالبطائح، والإمارة منهم في بني معروف، وبالمغرب من بني المنتفق أحياء دخلوا مع هلال بن عامر يعرفون بالخلط، ومواطنهم بالمغرب الأقصى ما بين فاس ومراكش. (وقال الجرجاني) : إن بني المنتفق كلهم يعرفون بالخلط، ويليهم في جنوب البصرة إخوتهم بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر، وعوف أخو المنتفق قد غلبوا على البحرين وغمارة [2] وملكوها من يدي أبي الحسن الأصغر بن ثعلب [3] . وكانت هذه المواطن للأزد وبني تميم وعبد القيس، فورث هؤلاء أرضهم فيها وديارهم. (قال ابن سعيد) : وملكوا أيضا أرض اليمامة من بني كلاب وكان ملوكهم فيها لعهد الخمسين والستمائة بني عصفور. وكان من بني عقيل خفاجة بن عمرو بن عقيل، كان انتقالهم إلى العراق فأقاموا به وملكوا ضواحيه، وكانت لهم مقامات وذكر، وهم أصحاب صولة وكثرة، وهم الآن ما بين دجلة والفرات. ومن عقيل هؤلاء بنو عبادة بن عقيل، ومنهم الأجافل [4] لأن عبادة كان يعرف بالأجفل. وهم لهذا العهد بالعراق مع بني المنتفق. وفي البطائح التي بين البصرة والكوفة وواسط والإمارة فيهم على ما يبلغنا لرجل اسمه ميان بن صالح [5] وهو في عدد ومنعة. وما أدري أهو في بنى معروف أمراء البطائح بني المنتفق، أو من عبادة الأجافل؟ هذه أحوال بني   [1] وفي النسخة التونسية: بنو المقلّد. [2] وفي النسخة التونسية: البحرين وعمان. [3] بن تغلب. وهذا ما أشرنا إليه في جزء سابق من هذا الكتاب ان ابن خلدون يذكر الثعالبة بدل التغالبة. وثعلب بدل تغلب. [4] وفي النسخة التونسية: الاخائل وهو الأصح، لأن عبادة كان يعرف بالأخيل. [5] وفي نسخة ثانية: قبان بن صالح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 عامر بن صعصعة واستيلاؤهم على مواطن العرب من كهلان وربيعة ومضر. (فأما بنو كهلان) فلم يبق لهم أحياء فيما يسمع. (وأما ربيعة) فأجازوا بلاد فارس وكرمان فهم ينتجعون هنالك ما بين كرمان وخراسان. وبقيت بالعراق منهم طائفة ينزلون البطائح وانتسب إلى الكوفة منهم بنو صباح [1] ومعهم لفائف من الأوس والخزرج. فأمير ربيعة اسمه الشيخ ولي، وعلى الأوس والخزرج طاهر بن خضر منهم هذه شعوب الطبقة الثالثة من العرب لهذا العهد في ديار المشرق بما أدّى إليه الإمكان. (ونحن الآن نذكر شعوبهم الذين انتقلوا إلى المغرب) : فإنّ أمّة العرب لم يكن لهم إلمام قطّ بالمغرب، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، لأنّ أمّة البربر الذين كانوا به كانوا يمانعون عليه الأمم. وقد غزاه أفريقش بن ضبيع [2] الّذي سميت به إفريقية، من ملوك التبابعة وملكها. ثم رجع عنها وترك كتامة وصنهاجة من قبائل حمير، فاستحالت طبيعتهم [3] إلى البربر واندرجوا في عدادهم، وذهب ملك العرب منهم. ثم جاءت الملة الإسلامية وظهر العرب على سائر الأمم بظهور الدين، فسارت في المغرب، وافتتحوا سائر أمصاره ومدنه وعانوا من حروب البربر شدّة. وقد تقدّم لنا ما ذكره ابن أبي زيد [4] من أنهم ارتدّوا اثنتي عشرة مرة. ثم رسخ فيهم الإسلام ولم يسكنوا بأجيالهم في الخيام ولا نزلوا أحياء لأنّ الملك الّذي حصل لهم يمنعهم من سكنى الضاحية، ويعدل بهم إلى المدن والأمصار. فلهذا قلنا إنّ العرب لم يوطنوا بلاد المغرب. ثم أنهم دخلوا إليه في منتصف المائة الخامسة، وأوطنوه وافترقوا بأحيائهم في جهاته كما نذكر الآن ونستوعب أسبابه. (الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب من الطبقة الرابعة وأخبارهم هنالك)   [1] وفي النسخة التونسية: بنو مباح. [2] وفي النسخة التونسية: افريقس بن صيغي. وأفريقش بن صيفي (الموسوعة المغربية الملحق الأول) [3] وفي النسخة التونسية: فاستمالت صيغتهم. [4] وفي النسخة التونسية: ابن أبي يزيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 كانت بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية وكانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد [1] . فبنو سليم مما يلي المدينة، وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف وربما كانوا يطوفون في رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، ويقطعون على الرفاق، وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. وما زالت البعوث تجهّز والكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج عن مضرّات هجومهم. ثم تحيّز بنو سليم والكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم، وصاروا جندا بالبحرين وعمان. ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر والشام، وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم وغلبهم عليها وردّهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين، ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم فأنزلهم بالصعيد وفي العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك، وكان لهم إضرار بالبلاد. ولما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان وأربعمائة قلّده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز لدين الله أمر إفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد. وكان لعهد ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين، فلم يكن مجربا للأمور ولا بصيرا بالسياسة، ولا كانت فيه عزة وأنفة. ثم هلك الظاهر سنة سبع وعشرين وأربعمائة وولي المنتصر باللَّه [2] معز الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام. يقال ولي خمسا وسبعين وقيل خمسا وتسعين، والصحيح ثلاث وسبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة، وكانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة، وربما كانت شواهدها تظهر عليه، وكبابه فرسه في أوّل ولايته لبعض مذاهبه فنادى مستغيثا بالشيخين أبي بكر وعمر، وسمعته العامة فثاروا بالرافضة وقتلوهم وأعلنوا بالمعتقد الحق ونادوا بشعار الإيمان وقطعوا من الأذان حيّ على خير العمل. وأغضى عنه الظاهر من ذلك وابنه معدّ المنتصر من بعده. واعتذر بالعامّة فقبل واستمرّ على إقامة الدعوة والمهاداة، وهو في أثناء ذلك يكاتب وزيرهما وحاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن   [1] وفي نسخة ثانية: وكانوا أحياء ناجعة بمجالاتهم من قفر الحجاز بنجد. [2] الظاهر لإعزاز دين الله ابو الحسن عليّ بن أبي عليّ المنصور الحاكم، وعند ما توفي ولي بعده ابنه أبو تميم معدّ، ولقّب المستنصر باللَّه. (ابن الأثير ج 9 ص 447) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 علي الجرجاني [1] ويستميله يعرّض ببني عبيد وشيعتهم. وكان الجرجاني يلقب بالأقطع بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال، وانتهضته السيدة بنت الملك [2] عمة المنتصر. فلما ماتت استبدّ بالدولة سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك سنة ست وثلاثين وأربعمائة وولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن علي الياروزي [3] أصله من قرى فلسطين، وكان أبوه ملاحا بها. فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات، ولم يولوه فأنف من ذلك، فعظم عليه وحنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب والمعز بن باديس صاحب إفريقية، وانحرفوا عنه وحلف المعز لينقضن طاعتهم وليحوّلن الدعوة إلى بني عباس، ويمحون اسم بني عبيد من منابره، ولج في ذلك وقطع أسماءهم من الطراز والرايات، وبايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس، وخاطبه ودعا له على منابره سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وبعث بالبيعة إلى بغداد. ووصله أبو الفضل البغدادي وحظي من الخليفة بالتقليد والخلع، وقرئ كتابه بجامع القيروان ونشرت الرايات السود وهدمت دار الإسماعيلية. وبلغ الخبر إلى المستنصر معز الخليفة بالقاهرة، وإلى الشيعة الرافضة من كتامة وصنائع الدولة فوجموا، وطلع عليهم المقيم المقعد من ذلك، وارتبكوا في أمرهم. وكان أحياء هلال هؤلاء الأحياء من جشم والأثير [4] وزغبة ورياح وربيعة وعدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه. وقد عمّ ضررهم وأحرق البلاد والدولة شررهم، فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي الياروزي باصطناعهم والتقدم لمشايخهم [5] وتوليتهم أعمال إفريقية وتقليدهم أمرها ودفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة. والسبب في الدفاع عن الدولة فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز وصنهاجة، كانوا أولياء للدعوة وعمالا بتلك القاصية. وارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة، وإن كانت الأخرى فلها ما بعدها. وأمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك، فتغلبوا على هدية   [1] وفي النسخة التونسية: الجرجرائي وكذلك عند ابن الأثير ج 9 ص 447) . [2] وفي النسخة التونسية: وانهضته السيدة ست الملك. [3] وفي نسخة ثانية: البازوري وهو الأصح كذا في قبائل المغرب 167) . [4] وفي نسخة ثانية الأثبج وهو الصحيح. [5] وفي النسخة التونسية: واستقدام مشايخهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 وثورانه [1] . وقيل إن الّذي أشار بذلك وفعله وأدخل العرب إلى إفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني، وليس ذلك بصحيح، فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأرضخ لأمرائهم في العطاء ووصل عامتهم بعيرا ودينارا لكل واحد منهم، وأباح لهم إجازة النيل. وقال لهم: قد أعطيتكم المغرب، وملك المعز بن بلكين [2] الصنهاجي العبد الآبق فلا تفتقرون وكتب الياروزي إلى المغرب: أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا [3] ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فطمعت العرب إذ ذاك، وأجازوا النيل إلى برقة، ونزلوا بها وافتتحوا أمصارها واستباحوها، وكتبوا لإخوانهم شرقيّ النيل يرغبونهم. في البلاد، فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين [4] فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه، وتقارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق، ولهلال الغرب، وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وأسمرا وسرت. وأقامت لهب [5] من سليم وأحلافها رواحة وناصرة وغمرة بأرض برقة. وسارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وكان أول من وصل إليهم أمير رياح موسى [6] بن يحيى الصنبري فاستماله المعز واستدعاه واستخلصه لنفسه وأصهر إليه. وفاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه. فاستنفر القرى وأتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد وأظهروا الفساد في الأرض، ونادوا بشعار الخليفة المستنصر. وسرّح إليهم من صنهاجة الأولياء فاوقعوا بها فتمخط [7] ، المعز لكبره وأشاط بغضبه، وتقبض على أخي موسى وعسكر بظاهر القيروان. وبعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد [8] بن بلكين، فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرّحهم إليه،   [1] وفي النسخة التونسية: فتقبلوا رأيه وشكوا هدايته. [2] وفي النسخة التونسية: بن باديس. [3] بمعنى كهولا بالحرب لهم خبرة في القتال. [4] وفي النسخة التونسية: بعد أن أعطوا دينارا عن كل رأس. [5] وفي نسخة ثانية: هيب. [6] وفي نسخة ثانية: مؤنس بن يحيى الصنبري وكذلك في قبائل المغرب ص 421. [7] وفي النسخة التونسية: فتخمّط. [8] وفي النسخة التونسية: حماد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 واستفرزوا عن [1] زناتة فوصل إليه المستنصر بن حزور المغراوي في ألف فارس من قومه. وكان بالبدو من إفريقية مع الناجعة من زناتة، وهو من أعظم ساداتهم. وارتحل المعزّ في أولئك النفر ومن لفّ لفّهم من الأتباع والحشم والأولياء ومن في إيالتهم من بقايا عرب الفتح، وحشد زناتة والبربر وصمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثون ألفا. وكانت رياح وزغبة وعدي حيدران من جهة فاس [2] . ولما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح وتحيّزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة، وخانته زناتة وصنهاجة، وكانت الهزيمة على المعز، وفرّ بنفسه وخاصته إلى القيروان. وانتهبت العرب جميع مخلفه من المال والمتاع والذخيرة والفساطيط والرايات، وقتلوا فيها من البشر ما لا يحصى. يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة. وفي ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته. ويقال إنها لابن شداد وأوّلها: لقد زار وهنا من أميم خيال ... وأيدي المطايا بالزميل عجال وأن ابن باديس لأفضل مالك ... لعمري، ولكن ما لديه رجال ثلاثون ألفا منهم قد هزمتهم ... ثلاثة آلاف وذاك ضلال ثم نازلوه بالقيروان وطال عليه أمر الحصار، وهلكت الضواحي والقرى بإفساد العرب وعيثهم، وانتقام السلطان منهم بانتمائهم في ولاية العرب. ولجأ الناس إلى القيروان وأكثروا النهب واشتدّ الحصار، وفرّ أهل القيروان إلى تونس وسوسه، وعمّ النهب في البلاد والعيث في البلاد [3] ودخلت تلك الأرض [4] سنة خمس وأربعين، وأحاطت زغبة ورياح بالقيروان. ونزل موسى قريبا من ساحة البلد. وفرّ القرابة والأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس وغيرها. ثم ملكوا بلاد قسطينة [5] كلها وغزا عامل بن أبي الغيث منهم زناتة ومغراوة فاستباحهم ورجع. واقتسمت العرب بلاد إفريقية سنة ست وأربعين، وكان لزغبة طرابلس وما يليها،   [1] وفي نسخة ثانية واستنفروا زناتة. [2] وفي النسخة التونسية: وعدي بقبلي حيدران من جهة قابس. [3] وعم النهب والعيث بلاد إفريقية. كذا في النسخة التونسية. [4] وفي النسخة التونسية: ودخلت بلد الاربض وأبة. [5] وفي النسخة التونسية: قسطيلية، وغزا عابد بن أبي الغيث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 ولمرداس بن رياح باجة وما يليها. ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس [1] إلى الغرب وهم: رياح وزغبة والمعقل وجشم وقرّة والأثبج والخلط وسفيان وتصرم الملك من يد المعز، وتغلب عائذ بن أبي الغيث [2] على مدينة تونس وسباها وملك أبو مسعود من شيوخهم مومه [3] صلحا. وعامل المعزّ على خلاص نفسه، وصاهره ببناته ثلاثة من أمراء العرب فارس بن أبي الغيث وأخاه عائذا، والفضل بن أبي علي المرادي [4] وقدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ولسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب وترحم بهم [5] ولحق بهم بالقيروان، واتبعوه فركب البحر والساحل، وأصلح أهل القيروان فأخبرهم ابنه المنصور بخبر أبيه، فساروا بالسودان والمنصور. وجاء العرب فدخلوا البلد واستباحوه واكتسحوا المكاسب وخربوا المباني وعاثوا في محاسنها، وطمسوا من الحسن والرونق معالمها. واستصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها وشملوا بالعيث والنهب سائر حريمها، وتفرّق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية، وانتشر [6] الداء وأعضل الخطب. ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها، وضيقوا عليها بمنع المرافق وإفساد السابلة. ثم حاربوا زناتة من بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي، واتصلت الفتنة بينهم، وأغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر وجيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه وقتلوه بعد حروب طويلة، واضطرب أمر إفريقية، وخرب عمرانها، وفسدت سابلتها. وكانت رياسة الضواحي من زناتة والبربر لبني يفرن ومغراوة وبني ماند وبني تلومان [7] ولم يزل هذا دأب العرب وزناتة حتى غلبوا صنهاجة وزناتة على ضواحي إفريقية والزاب، وغلبوا عليها صنهاجة وقهروا من بها من البربر وأصاروهم عبيدا وخدما بباجة [8] . وكان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم إفريقية رجالات مذكورون. وكان من أشرفهم حسن بن سرحان وأخوه بدر وفضل بن ناهض، وينسبون هؤلاء في   [1] وفي النسخة التونسية: من قابس. [2] وفي النسخة التونسية: عابد بن أبي الغيث، وفي قبائل المغرب ص 394 عائد بن أبي العيث [3] وفي نسخة ثانية: بونه. [4] وفي النسخة التونسية: المرواسي. [5] وفي النسخة التونسية: وتذمم بهم. [6] وفي النسخة التونسية: واستشرى. [7] وفي نسخة ثانية: بني يمانوا وبني يلومان. [8] وفي النسخة التونسية: عبيدا وخولا للجباية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 دريد بن الأثبج وماضي بن مقرب ونيونة بن قرّة [1] وسلامة بن رزق في بني كثير من بطون كرفة بن الأثبج، وشاقة [2] بن الأحيمر وأخوه صليصل ونسبوهم في بني عطية من كرفه، ودياب بن غانم وينسبونه في بني ثور، وموسى بن يحيى وينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم، فاحذر من الغلط في هذا. وهو من بني صفير [3] بطن من بطون مرداس رياح، وزيد بن زيدان وينسبونه في الضحاك، ومليحان بن عباس وينسبونه في حمير، وزيد العجاج بن فاضل ويزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى إفريقية، وفارس بن أبي الغيث وعامر أخوه، والفضل بن أبي علي ونسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس المقهى، كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم. وكان زياد بن عامر رائدهم في دخول إفريقية [4] ويسمونه بذلك أبا مخيبر، وشعوبهم لذلك العهد كما نقلناهم زغبة ورياح والأثبج وقرة وكلهم من هلال بن عامر. وربما ذكر فيهم بنو عدي، ولم نقف على أخبارهم وليس لهم لهذا العهد حيّ معروف، فلعلهم دثروا وتلاشوا وافترقوا في القبائل. وكذلك ذكر فيهم ربيعة، ولم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم. وكان فيهم من غير هلال كثير من فزارة وأشجع من بطون غطفان وجشم بن معاوية بن بكر بن هوازن وسلول بن مرة ابن صعصعة بن معاوية، والمعقل من بطون اليمنية، وعمرة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وبني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة، وعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. وطرود بطن من فهم بن قيس، إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال وفي الأثبج منهم خصوصا، لأن الرئاسة كانت عند دخولهم للأثبج وهلال فأدخلوا فيهم وصاروا مندرجين في جملتهم. وفرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا القيل لعهد البازوري أو الجرجاني. وإنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي، ولهم فيها أخبار مع الصنهاجيين ببرقة والشيعة بمصر خطوب، ونسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله: طلبنا القرب منهم وجزيل منهم ... بلا عيب من عرب سحاح جمودها   [1] وفي نسخة ثانية: وينسبونه في قرّة. [2] وفي نسخة ثانية: وشبان. [3] وفي نسخة ثانية: من بني صنبر. [4] وفي النسخة التونسية: وكان ذياب بن غانم رائدهم في دخول إفريقية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 وبيت غرت أمره منا وبينها ... طرود أنكاد اللي يكودها ماتت ثلاث آلاف مرّة وأربعة ... بحرمة منا تداوي كبودها وقال الآخر منهم أيا رب جير الخلق من نائج البلا ... إلا القليل انجار ما لا يجيرها وخصّ بها قرّة مناف وعينها ... ديما لأرياد البوادي تشيرها [1] فذكر نسبهم في مناف وليس في هلال مناف هكذا منفردا، إنما هو عبد مناف والله تعالى أعلم. وكان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم. ولمّا بعث الحاكم يحيى ابن عليّ الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروق بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروق، أو عزلهم في السير معه، فوصلوا إلى طرابلس وجرّوا الهزيمة على يحيى بن عليّ ورجعوا إلى برقة. وبعث عنهم فامتنعوا، ثم بعث لهم بالأمان، ووصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة. وكان عندهم معلّم للقرآن اسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية. وكان يزعم أن لديه إثارة من علم في اختيار [2] ملك آبائه، وقبل ذلك منه البرابرة من مرامة [3] وزناتة ولواتة وتحدّثوا بشأنه فنصبه بنو قرّة وما بعده بالخلافة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وتغلّبوا على مدينة برقة. وزحف إليهم جيوش الحاكم فهزموهم، وقتل الوليد بن هشام وقائدها من الترك. ثم رجعوا به إلى مصر فانهزموا، ولحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان. ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر وقتل، وهدرت لبني قرّة جنايتهم هذه وعفا عنهم. ولمّا كانت سنة اثنتين وأربعمائة اعترضوا هدية باديس بن المنصور ملك صنهاجة من إفريقية إلى مصر فأخذوها، وزحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها، وفرّ في البحر   [1] وفي النسخة التونسية: طلبنا الغفر منهم وجدناه عندهم ... فلا عيب من عرب سجاح جهودها وبت عن ذا قرّة مناف وشبهها ... طراد كدانا نحن من لا يكودها ماتت ثلاثة آلاف مرّة ومن بقي ... مجرحة منا تداوي كبودها. وقال آخر: أيا رب جير الخلق من نابح البلا ... إلا القليل الخارسا لا تجيرها وخص بها قرّة مناف ونسبها ... ديما لأباء البوادي تشيرها. [2] وفي نسخة ثانية: احتياز. [3] وفي نسخة ثانية: مزاتة وهو الأصح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 واستولوا على برقة. ولم يزل هذا شأنهم ببرقة. فلمّا زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة ورياح والأثبج واتباعهم إلى إفريقية، كانوا ممن زحف معهم. وكان من شيوخهم ماضي بن مقرّب المذكور في أخبار هلال. ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقية طرق في الخبر غريبة: يزعمون أنّ الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها، وولدت منه ولدا اسمه محمد. وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية. وتحيّلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها. وكتموا رحلتها عنه وموّهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه، وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه، فرجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وأنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه. ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس وكثير [1] ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف، وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما أخلوا فيها بالإعراب فقط، ولا مدخل له في البلاغة كما قرّرناه لك في الكتاب الأوّل من كتابنا هذا. إلا أنّ الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب، ويحسبون أنّ الإعراب هو أصل البلاغة وليس كذلك. وفي هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة وفقدت فيه صحّة الرواية فلذلك لا يوثق به، ولو صحّت روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم، وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم. لكنا لا نثق بروايتها. وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها ويتّهمه، وهذا قصارى الأمر فيه. وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفا عن سلف، وجيلا عن جيل، ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمي عندهم   [1] بهامش نسخه ما نصه: قصة أبي زيد التي تحكي في قهاوي مصر أصلها هذه الواقعة، كما أشار لذلك المؤلف. وكثيرا ما كنت أتطلب لها أصلا في التواريخ فلم أجده إلا في هذا المحل، فرحم الله المؤلف فلقد بين أصولا كثيرة يحتاج إليها كل ناظر في فن التاريخ. كتبه حسن العطار أهـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم. وهذا الشريف الّذي يشيرون إليه هو من الهواشم، وهو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفر بن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس، وأبوه الفتوح هو الّذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيديّ وبايع له بنو الجرّاح أمراء طيِّئ بالشام، وبعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم وبايع له كافة العرب. ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيديّ ورجع إلى مكة، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة فولي بعده ابنه شكر هذا، وهلك سنة ثلاث وخمسين وولي ابنه محمد الّذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه. وتقدّم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم. (وقال ابن سعيد) : هو من السلمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الّذي بايع له أبو الزاب [1] الشيبانيّ بعد ابن طباطبا، ويسمّى الناهض. ولحق بالمدينة فاستولى على الحجاز واستقرت إمارة ملكه في بنيه إلى أن غلبهم عليها هؤلاء الهواشم. جدّا قريبا من الحسن والحسين [2] . وأمّا هاشم الأعلى فمشترك بين سائر الشرفاء، فلا يكون مميزا لبعضهم عن بعض. وأخبرني من أثق به من الهلاليّين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر وأنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات، وأنّ ولده بها لهذا العهد والله أعلم. ومن مزاعمهم أنّ الجازية لما صارت إلى إفريقية وفارقت الشريف، خلفه عليها منهم ماض بن مقرّب [3] من رجالات دريد، وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها وثغورها، وقلّدهم أعمالها، فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان وباجة، وعقد لزغبة على طرابلس وقابس، وعقد لحسن بن سرحان على قسنطينة [4] ، فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار، وملك كل ما عقد له سميت الرعايا بالأمصار عسفهم وعيثهم باختلاف الأيدي، إذ الوازع مفقود من أهل هذا   [1] وفي النسخة التونسية: ابو السرايا. [2] الظاهر من السياق سقوط عبارة أثناء النسخ، وفي النسخة التونسية: وما ذكره ابن حزم أصح، لأنهم جميعا يقولون فيه الشريف ابن هاشم يميزونه بذلك عن سائر الشرفاء. ولا يصح ذلك إلا أن يكون هاشم أو أبو هاشم جدا قريبا من الحسن والحسين. [3] وفي نسخة أخرى: مغرب. [4] وفي نسخة أخرى قسطنطينة وهذا تحريف وقسنطينية المقصودة هنا: وهي مدينة وقلعة يقال لها قلعة الهواء وهي قلعة كبيرة جدا حصينة عالية لا يصلها الطير إلا بجهد، وهي من حدود إفريقية مما يلي المغرب (معجم البلدان) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 الجيل العربيّ مذ كانوا فثاروا بهم وأخرجوهم من الأمصار، وصاروا إلى ملك الضواحي والتغلّب عليها، وسيّم الرعايا بالخسف في النهب والعيث وإفساد السابلة هكذا إلى هلمّ. ولمّا غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس والنجدة بالبداوة، فحاربوهم ورجعوا إليهم من إفريقية والمغرب الأوسط، وجهّز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم وبينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب، وتغلبوا على الضواحي في كل وجه. وعجزت زناتة عن مدافعتهم بإفريقية والزاب. وصار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد، ومصاب من بلاد المغرب الأوسط. فلمّا استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها وصالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم، وصاروا إلى التفريق بينهم، وظاهروا الأثبج على رياح وزغبة، وحشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم وجمع زناتة. وكان فيهم المعزّ بن زيري صاحب فاس من مغراوة ونزلوا الأربس جميعا. ولقيهم رياح وزغبة بسببه. ومكر المعز بن زيري المغراويّ بالناصر وصنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعزّ بن باديس صاحب القيروان، فجرّ عليهم الهزيمة واستباحت العرب وزناتة خزائن الناصر ومضاربه. وقتل أخوه القاسم ونجا إلى قسنطينة ورياح في اتباعه. ثم لحق بالقلعة فنازلوها وخرّبوا جنباتها واحبطوا عروشها، وعاجوا على ما هنالك من الأمصار، ثم طبنة والمسيلة فخرّبوها وأزعجوا ساكنيها، وعطفوا على المنازل والقرى والضياع والمدن فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجنّ وأوحش من جوف العير، وغوّروا المياه واحتطبوا الشجر وأظهروا في الأرض الفساد، وهجروا ملوك إفريقية والمغرب من صنهاجة وولاة أعمالها في الأمصار، وملكوا عليهم الضواحي يتحيّفون جوانبهم ويقعدون لهم بالمرصاد، ويأخذون لهم الإتاوة على التصرّف في أوطانهم. ولم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة، واختطّ بالساحل مدينة بجاية، ونقل إليها ذخيرته وأعدها لنزله. ونزلها المنصور ابنه من بعده فرارا من ضيم هذا الجيل وفسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال وتوعّر مسالكها على رواحلهم. واستقروا بها بعد، وتركوا القلعة. وكانوا يختصّون الأثبج من هؤلاء الأحياء بالرياسة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 سائر أيامهم. ثم افترق جمع الأثبج وذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم. ولما غلب الموحّدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى وأربعين وخمسمائة، وزحف شيخ الموحّدين عبد المؤمن إلى إفريقية، وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج وحبّاس بن مشيفر من رجالات جشم، فتلقّاهما بالمبرّة وعقد لهما على قومهما ومضى لوجهه. وفتح بجاية سنة تسع وخمسين وخمسمائة. ثم انتقض العرب الهلاليون على دعوة صنهاجة، وكان أمير رياح فيهم محرز بن زناد ابن بادخ [1] إحدى بطون بني علي بن رياح، فلقيتهم جيوش الموحّدين بسطيف وعليهم عبد الله بن عبد المؤمن فتوافقوا ثلاثا علقوا فيهما رواحلهم، وأثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم، ثم انتقض في الرابعة جمعهم واستلحمهم الموحّدون وغلبوا عليهم، وغنموا أموالهم وأسروا رجالهم وسبوا نساءهم واتبعوا أدبارهم إلى محصن سبتة. ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم واستكانوا لعزّ الموحّدين وغلبهم، فدخلوا في دعوتهم وتمسّكوا بطاعتهم، وأطلق عبد المؤمن أسراهم ولم يزالوا على استقامتهم، ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس، وربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية، فأجازوا مع عبد المؤمن ويوسف ابنه كما هو في أخبار دولتهم. ولم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوّفيون أمراء ميورقة، أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكسبوها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة لأوّل دولة المنصور، وكشفوا القناع في نقض طاعة الموحّدين، ودعوا العرب بها، فعادت هيف إلى أديانها. وكانت قبائل جشم ورياح وجمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها. ولما تحرّكت جيوش الموحّدين إلى إفريقية لكفّ عدوانهم، تحيّزت قبائل زغبة إليهم، وكانوا في جملتهم، ولحق بنو غانية بفاس ومعهم كافة جشم ورياح، ولحق بهم جلّ قومهم من مسوفة وإخوانهم لمتونة من أطراف البقاع، واستمسكوا بالدعوة العبّاسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسّكون بها، فأقاموها فيمن إليهم من القبائل والمسالك ونزلوا بفاس، وطلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك، وأوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان، فعقد لابن غانية وأذن له في حرب الموحّدين. واجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور، وكانوا جاءوا على أثر الهلاليين   [1] وفي النسخة التونسية: محرز بن زناد بن فارغ وكذلك قبائل المغرب ص 397. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 عند إجازتهم إلى إفريقية. وظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني. ونذكر أخباره في أخبار الميروقي [1] فاجتمع لعلي بن غانية من الملثّمين والعرب والعجم عساكر جمّة، وغلب الضواحي وافتتح بلاد الجريد، وملك قفصة وتوزر ونفطة. ونهض اليه المنصور من مراكش يجرّ أمم المغرب من زناتة والمصامدة وزغبة من الهلاليين وجمهور الأثبج، فأوقعوا بمقدّمته بفحص غمرة من جهات قفصة. ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرّة عليهم، وفلّ جمعهم واتبع آثارهم إلى أن شرّدهم إلى صحاري برقة، وانتزع بلاد قسنطينة وقابس وقفصة من أيديهم، وراجعت قبائل جشم ورياح من الهلاليّين طاعته ولاذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى. وأنزل جشم ببلاد تامسنا [2] ، ورياحا ببلاد الهبط، وأزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا. وكانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على إفريقية وضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء إفريقية وصحراء المغرب الأوسط، وبها قصور جدّدها فسميت باسم من ولي خطّتها من شعوبهم. وكان بنو بادين وزناتة وهم بنو عبد الواد وتوجين ومصاب وبقوز ودال وبنو راش [3] شيعة الموحّدين منذ أول دولتهم، فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين وأنظارهم كما يأتي. وكانوا يتولّون من أرياف المغرب الأوسط وتلوله ما ليس يليه أحد من زناتة، ويجوسون خلاله في رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله حتى كأنهم من جملة عساكر الموحّدين وحاميتهم. وأمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة، ونزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليّين وتحيّزوا إلى فئتهم، وصاروا جميعا قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلى جبل راشد، بعد أن كان قسمتهم الأولى بقابس وطرابلس. وكانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس. وقتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة ابن غانية، وانحرافهم عنه إلى الموحّدين وانعقد ما بينهم وبين بني بادين حلف على الجوار والذبّ عن الأوطان وحمايتها من معرة العدوّ في   [1] وفي نسخة ثانية: الميورقي. [2] إقليم مغربي قديم كان يمتد من نهرابي رقراق إلى وادي أم الربيع، وقد اندثر اليوم هذا الاسم وبقي ما يذكر به كباب تامسنا بالرباط. والنسبة اليه مسناوي (قبائل المغرب ص 117) . [3] هكذا بالأصل وفي نسخة اخرى: وبنو زردال وبنو راشد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 احتيال غرّتها وانتهاز الفرصة فيها. فتعاقدوا على ذلك واجتوروا وأقامت زغبة في القفار وبنو بادين بالتلول والضواحي. ثم فرّ مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيّين من بلاد الهبط، ولحق ببلاد طرابلس ونزل على زغبة وذياب من قبائل بني سليم. ووصل إلى قراقش بن رياح وحصر معه طرابلس حين افتتحها، وهلك هنالك، وقام إلى الميروني ولحق ولقيه بالحملة فهزمه [1] وقتل الكثير من قومه. وانهزمت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم: ابنه عبد الله وابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان، وشيخ من شيوخ قرّة، فضرب أعناقهم. وفرّ يحيى بن غانية إلى مسقطه من الصحراء. واستمرّت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال وسليم واتباعها. ونحن الآن نذكر أخبارهم ومصائر أمورهم ونعدّدهم فرقة فرقة، ونخصّ منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحية وناجعته، ونطوي ذكر من انقرض منهم، ونبدأ بذكر الأثبج لتقدّم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه. ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم. ثم نذكر رياحا وزغبة، ثم المعقل لأنهم من أعداء هلال. ثم نأتي بعدهم بذكر سليم لأنهم جاءوا من بعدهم وللَّه الخلاق القديم. (الخبر عن الأثبج وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة) كان هؤلاء الأثبج من الهلاليين أوفر عددا وأكثر بطونا وكان التقدّم لهم في جملتهم. وكان منهم الضحاك وعياض ومقدم والعاصم والطيف ودريد وكرفة وغيرهم حسبما يظهر في نسبهم. وفي دريد بطنان توبة وعنز، ويقولون بزعمهم إن أثبج هو ابن ربيعة ابن نهيك بن هلال. فكرفة هو ابن الأثبج. وكان لهم جمع وقوّة، وكانوا أحياء غزيرة [2] من جملة الهلاليين الداخلين لإفريقية، وكانت مواطنهم حيال جبل أوراس   [1] يستعجب القارئ من التحريف في الأسماء والتشويش في المعنى وفي النسخة التونسية: وهلك هنالك. وقام بأمره في قومه ابنه محمد، ولما استبد ابو محمد عبد الواحد بن أبي حفص بولاية افريقية، زحف الى الميورقي ولقيه بالحمة فهزمه. [2] وفي النسخة التونسية: عزيزة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 من شرقية. ولما استقر أمر الأثبج بإفريقية على غلب صنهاجة على الضواحي ووقعت الفتنة بينهم، وذلك أن حسن بن سرحان وهو من دريد قتل شبانة بن الأحيمر من كرفة غيلة، فطوت كرفة له على الهائم [1] . ثم إن أخته الجازية غاضبت زوجها ماضي بن مقرب بن قرة، ولحقت بأخيها فمنعها منه، فاجتمعت قرة وكرفة على فتنة حسن وقومه، وظاهرتهم عياض، ولم تزل الفتنة إلى أن قتل حسن بن سرحان، قتله أولاد شبانة بن الأحيمر، وثأروا منه بأبيهم. ثم كان الغلب بعده لدريد على كرفة وعياض وقرة، واستمرت الفتنة بين هؤلاء الأمالح [2] وافترق أمرهم. وجاءت دولة الموحدين وهم على ذلك الشتات والفتنة، وكانت لبطونهم ولاية لصنهاجة. فلما ملك الموحدون إفريقية نقلوا منهم إلى المغرب العاصم ومقدما وقرة وتوابع لهم من جشم، وأنزلوا جميعهم بالمغرب كما نذكر. واعتزت رياح بعدهم بإفريقية وملكوا ضواحي قسنطينة، ورجع إليهم شيخهم مسعود بن زمام من المغرب فاعتز الزواودة [3] على الأمراء والدول. وساء أثرهم فيها وغلبوا بقايا الأثابج، فنزلوا قرى الزاب، وقعدوا عن الطعن وأوطنوا بالقرى والآطام. ولما نبذ بنو أبي حفص العهد للزواودة كما يأتي في أخبارهم واستجاش عليهم بنو سليم وأنزلوهم القيروان، اصطنعوا كرفة من بطون الأثابج، فكانوا حربا لرياح وشيعة للسلطان. وأقطعتهم الدولة لذلك جباية الجانب الشرقي من جبل أوراس وكثيرا من بلاد الزاب الشرقية حيث كانت محلاتهم الشتوية، حتى إذا اختل ريح الدولة، وأخلقت جدتها واعتزت رياح عليها وملكوا المجالات على من يظعن فيها نزل كرفة هؤلاء بجبل أوراس حيث إقطاعاتهم وسكنوه حللا متفرّقة واتخذوه وطنا. وربما يظعن بعضهم إلى تخوم الزاب كما نذكر عن بطونهم وهم بطون كثيرة، فأولهم: بنو محمد بن كرفة ويعرفون بالكلبية وأولاد سهيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشبه، وأولاد صبيح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفون بالصبحة وأولاد سرحان بن فاضل أيضا ويعرفون بالسرحانية. وهؤلاء هم المودعات وهم موطنون   [1] وفي النسخة التونسية: على النث. [2] وفي نسخة ثانية: الأثابج. [3] وفي نسخة ثانية الرواودة وفي قبائل المغرب ص 418: الزواودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا [1] . ثم أولاد نافت [2] بن فاضل، وهم أهل الرئاسة في كرفة ولهم أقطاعات السلطان التي ذكرناها، وهم ثلاثة أفخاذ: أولاد مساعد وأولاد ظافر وأولاد قطيقة. والرئاسة أخص بأولاد مساعد في أولاد علي بن جابر بن فتاح بن مساعد بن نابت. وأما بنو محمد والمروانية فهم ظواعن جائلة في القفار تلقاء مواطن أولاد نابت. ويكتالون الحبوب لأقواتهم من زروع أهل الجبل، وأولاد نابت. وربما يستعملهم صاحب الزاب في تصاريف أمره من عسكر وإخفار وغير ذلك من أغراضه. وأما دريد فكانوا أعز الأثبج وأعلاهم كعبا بما كانت الرئاسة على الأثبج كلهم عند دخولهم إلى إفريقية لحسن بن سرحان بن وبرة إحدى بطونهم، وكانت مواطنهم ما بين ولد العناب إلى قسنطينة إلى طارف مصقلة، وما يحاذيها من القفر. وكانت بينهم وبين كرفة الفتنة التي هلك فيها حسن بن سرحان كما ذكرناه، وقبره هنالك. وكانوا بطونا كثيرة منهم أولاد عطية بن دريد وأولاد سرور بن دريد وأولاد جار الله من ولد عبد الله بن دريد. وتوبة من ولد عبد الله أيضا وهو توبة بن جبر ابن عطاف بن عبد الله، وكانت لهم بين هلال رياسة كثيرة ومدحهم شعراؤهم بشعر كثير، فمن ذلك قول بعض شعرائهم: دريد ذات سراة البدو للجود منقع ... كما كل أرض منقع الماء خيارها تحنّ إلى أوطان مرة ناقتي لكن معها ... جملة دريد كان موارها وهم عربوا الأعراب حتى تعرّبت ... بنوف المعالي ما ينفي قصارها وتركوا طريق النار برهة وقد ... كان ما تقوى المطايا حجارها [3] فأما أولاد عطية فكانت رياستهم في أولاد بني مبارك بن حباس، وكانت لهم تلة ابن   [1] الأسماء محرّفة والعبارة ناقصة، وفي النسخة التونسية: وأولاد شبيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشببة. وأولاد صبح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفون بالصبحة، وأولاد سرحان بن فاضل أيضا ويعرفون بالسراحنة هؤلاء هم الحدلجة وهم موطنون بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا. [2] وفي نسخة ثانية نابت. [3] وقد وردت هذه الأبيات في النسخة التونسية: تحن إلى أوطان صبرة ناقتي ... لكن بها جملة دريد حوارها دريد سراة البدو للجود منقع ... كما كل أرض منقع الما خيارها وهم عربوا الأعراب حتى تعرفت ... بطرق المعالي ما ينوفي قصارها وتركوا طريق البارمين ثنية ... وقد كان ما يقوي المطايا حجارها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 حلوف من أرض قسنطينة. ثم دثروا وتلاشوا، وغلبتهم توبة على تلة ابن حلوف زحفوا إليها من مواطنهم بطارق مصقلة فملكوها وما إليها. ثم عجزوا عن رحلة القفر وتركوا الإبل واتخذوا الشاء والبقر وصاروا في عداد القبائل الغارمة، وربما طالبهم السلطان بالعسكرة معه فيعينون له جندا منهم، ورياستهم في أولاد وشاح بن عطوة بن عطية ابن كمون بن فرج بن ثوبة، وفي أولاد مبارك بن عابر بن عطية بن عطوة وهم على ذلك لهذا العهد. ويجاورهم أولاد سرور وأولاد جار الله على سننهم في ذلك. فأما أولاد وشاح فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين سجم بن كثير بن جماعة بن وشاح وبين أحمد بن خليفة بن رشاش بن وشاح. وأما أولاد مبارك بن عابد فرياستهم أيضا منقسمة بين نجاح بن محمد بن منصور بن عبيد بن مبارك، وعبد الله بن أحمد بن عنان بن منصور ورثها عن عمه راجح بن عثمان بن منصور وأما أولاد جار الله فرياستهم في ولد عنان بن سلام منهم. وأما العاصم ومقدم والضحاك وعياض فهم أولاد مشرف بن أثبج، ولطيف وهو ابن سرح بن مشرف، وكان لهم عدد وقوة بين الأثابج. وكان العاصم ومقدم انحرفوا عن طاعة الموحدين إلى ابن غانية، فأشخصهم يعقوب المنصور إلى المغرب، وأنزلهم تامستا مع جشم، ويأتي خبرهم، وبقيت عياض والضحاك بمواطنهم بإفريقية، فعياض نزلوا بجبل القلعة، قلعة بني حماد وملكوا قبائله وغلبوهم على أمرهم، وصاروا يتولون جبايتهم، ولما غلبت عليهم الدولة بمظاهرة رياح صاروا إلى المدافعة عن تلك الرعايا وجبايتهم للسلطان. وسكنوا ذلك الجبل، فطوله من المشرق إلى المغرب ما بين ثنية غنية والقصاب إلى وطن بني يزيد بن زغبة. فأولهم مما يلي غنية للمهاية، ورياستهم في أولاد ديفل، ومعهم بطن منهم يقال لهم الزير، وبعدهم المرتفع والخراج من بطونهم. فأما المرتفع فثلاثة بطون: أولاد تبان ورياستهم في أولاد محمد بن موسى، وأولاد حناش، ورياستهم في بني عبد السلام. وأولاد عبدوس ورياستهم في بني صالح. ويدعى أولاد حناش وأولاد تبار جميعا أولاد حناش. وأما الخراج فرياستهم لأولاد زائدة بني عباس بن خفير ويجاور الخراج من جانب الغرب أولاد صخر، وأولاد رحمة من بطون عياض، وهم مجاورون لبني يزيد بن زغبة في آخر وطن الأثابج من الهلاليين. وأما الضحاك فكانوا بطونا كثيرة، وكانت رياستهم مفترقة بين أميرين منهم، وهما أبو عطية وكلب بن منيع، وغلب كلب أبا عطية على رياسة قبيلتهما الأول دولة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 الموحدين، فارتحل فيما زعموا إلى المغرب، وسكن صخر سجلماسة، وكانت له فيها آثار حتى قتله الموحدون أو غربوه إلى الأندلس، هكذا ينقل أصحاب أخبارهم، وبقي تجمعهم بالزاب حتى غلب مسعود بن زمام والزواودة [1] عليهم وأصاروهم في جملتهم ثم عجزوا عن الطعن، ونزلوا بلاد الزاب واتخذوا بها المدن، فهم على ذلك لهذا العهد. وأما لطيف فهم بطون كثيرة منهم اليتامى وهم أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف بني ذوي مطرف وذوي أبي الخليل وذوي حلال بن معافى. ومنهم اللقامنة أولاد لقمان بن خليفة بن لطيف ومنهم: أولاد جرير بن علوان بن محمد بن لقمان، ونزار بن معن بن محيا وإليه يرجع نسب بني مزنى الولاة بالزاب لهذا العهد. وكانت لهؤلاء كثرة ونجعة. ثم عجزوا عن الطعن وغلبهم على الضواحي الزواودة من بعدهم لما قل جمعهم وافترق ملوكهم، وصار إلى المغرب من صار منهم من جمهور الأثبج فاهتضموا، وعليهم رياح والزواودة فنزلوا بلاد الزاب، واتخذوا بها الآطام والمدن مثل الدوسن وغريبوا وتهدوه ونقموه وبادس. وهم لهذا العهد من جملة الرعايا الغارمة لأمير الزاب. ولهم عجمة [2] منذ رياستهم القديمة لم يفارقوها، وهم على ذلك لهذا العهد. وبينهم في قصورهم بالزاب فتن متصلة بين المتجاورين منهم، وحروب وقتل. وعامل الزاب يدرأ بعضا ببعض، ويستوفي جبايته منهم جميعا والله خير الوارثين. ويلحق بهؤلاء الأثبج العمور، وغلب على الظنّ أنهم من ولد عمرو بن عبد مناف بن هلال اخوة قرة بن عبد مناف وليسوا من ولد عمر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال، لأن رياحا وزغبة والأثبج من أبي ربيعة، ولا نجد بينهم انتماء بالجملة. ونجد بينهم وبين قرة وغيرهم من بطون هلال الانتماء، فدل على أنهم لعمرو بن عبد مناف، أو يكونون من عمر بن روينة [3] بن عبد الله بن هلال، وكلهم معروف. ذكره ابن الكلبي والله أعلم بذلك. وهم بطنان: قرة وعبد الله، وليس لهم رياسة على أحد من هلال ولا ناجعة تظعن لقلتهم وافتراق ملتهم إنما هم ساكنون بالضواحي والجبال، وفيهم الفرسان وأكثرهم رجالة وموطنهم ما بين جبل أوراس شرقا إلى جبل   [1] وفي نسخة ثانية: الدواودة. [2] وفي نسخة ثانية عنجهية. [3] وفي نسخة ثانية رويبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 راشد. وكان كل ذلك من ناحية المصنة [1] والصحراء. وأما التلول فهم مرفوعون عنها بقلتهم وخوفهم من حامية الدول، فتجدهم أقرب إلى موطن القفر والجدب. (فأما بنو قرة) منهم فبطن متسع إلا أنهم مفترقون في القبائل والمدن وحدانا. وبنو عبد الله منهم على رياسة فيهم وهم: عبد الله بن علي وبنوه محمد وماضي بطنان، وولد محمد عنان وعزيز بطنان، وولد عنان شكر وفارس بطنان. من ولد شكر أولاد يحيى ابن سعيد بن بسيط بن شكر بطن أيضا. فأما أولاد فارس وأولاد عزيز وأولاد ماضي فموطنهم بسفح جبل أوراس المطل على بسكرة قاعدة الزاب، متصلين كذلك غربا إلى مواطن غمرة، وهم في جوار رياح وتحت أيديهم. وخول لأولاده وخصوصا من الزواودة المتولين موطنهم بالمجال. لصاحب الزاب عليهم طاعة لقرب جواره وحاجتهم إلى سلطانه، فيصرفهم لذلك في حاجته متى عنت من إخفار العير ومقارفة مدن الزاب مع رجله وغير ذلك. (وأما أولاد شكر) وهم أكبر رياسة فيهم فنزلوا جبل راشد، وكانوا فريقين، فنزلوا واحتربوا وغلب أولاد محيا بن سعيد منهم أولاد زكرير ودفعوهم عن جبل راشد، فصاروا إلى جبل كسال محاذيه من ناحية الغرب وأوطنوه، واتصلت فتنتهم معهم على طول الأيام وافتتحهم رجال زغبة باقتسام المواطن، فصار أولاد يحيى أهل جبل راشد في إيالة سويد بن زغبة وأحلافا لهم، وأولاد ذكرى أهل جبل كسال في إيالة بني عامر وأحلافا لهم. وربما يقتحمون بادية زغبة مع أهل المصر [2] أحلافا لهم في فتنتهم كما نذكر في أخبار زغبة. وكان شيخهم من أولاد يحيى فيما قرب من عهدنا عامر بن أبي يحيى بن محيا. وكان له فيهم ذكر وشهرة. وكان ينتحل العبادة وحجّ ولقي بمصر شيخ الصوفية لعصره يوسف الكوراني، وأخذ عنه لقن طرق هدايته ورجع إلى قومه وعاهدهم على طريقته ونحلته فاتبعه الكثير منهم، وغزا المفسدون من بادية النضر في جواره، وجاهدهم إلى أن اغتالوه بعض الأيام في الصيد فقتلوه، وكان شيخ أولاد زكرير يغمور بن موسى بن بوزير بن زكرير، وكان يسامي عامرا ويناهضه في شرفه إلا أن عامرا كان أسود منه بنحلة العبادة والله مصرف الأمور والخلق أهـ.   [1] وفي نسخة ثانية الحصنة ولم نجد لها ذكر في تصنيف الحموي، وفي قبائل المغرب الحضنة ص 58. [2] وفي نسخة ثانية مع النضر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 (الخبر عن جشم الموطنين بسائط المغرب وبطونهم من هذه الطبقة) هؤلاء الأحياء بالمغرب لهذا العهد فيهم بطون من قرة والعاصم، ومقدم والأثبج وجشم والخلط. وغلب عليهم جميعا اسم جشم فعرفوا به. وهم: جشم بن معاوية ابن بكر بن هوازن. وكان أصل دخولهم إلى المغرب أنّ الموحدين لما غلبوا على إفريقية أذعنت لهم هؤلاء القبائل من العرب طوعا وكراهية. ثم كانت فتنة ابن غانية فأجلبوا فيها وانحرفوا عن الموحدين، وراجعوا الطاعة لعهد المنصور فنقل جمهور هؤلاء القبائل إلى المغرب ممن كثرة وشوكة وظواعن ناجعة. فنقل العاصم ومقدّم من بطون الأثبج، ومعهم بطون ونقل جشم هؤلاء الذين غلب اسمهم على من معهم من الأحياء وأنزلهم تامستا. ونقل رياح وأنزلهم الهبط فنزل جشم بتامستا البسيط الأفيح ما بين سلا ومراكش أوسط بلاد المغرب الأقصى، وأبعدها عن الثنايا المفضية إلى القفار لإحاطة جبل درن بها وشموخه بأنفه حذاءها، ووشوج أعراقه حجرا عليها فلم ينتجعوا بعدها قفرا ولا ابعدوا رحلة، وأقاموا بها أحياء حلولا، وافترقت جيوشهم بالمغرب إلى الخلط وسفيان وبني جابر. وكانت الرئاسة لسفيان من بينهم في أولاد جرمون سائر أيام الموحدين، ولما وهن أمر بني عبد المؤمن وفشلوا وذهبت ريحهم استكثروا بجموعهم، فكانت لهم سورة غلب واعتزاز على الدولة بكثرتهم وقرب عهدهم بالبداوة، وخرّبوا ما بين الأعياص، وظاهروا الخلافة وأكثروا الفساد وسائر آثارهم باقية [1] . ولما اقتحم بنو مرين بلاد المغرب على الموحدين وملكوا فاس وقريتها لم تكن فيه حامية أشدّ منهم بأسا ومن رياح لقرب العهد بالبداوة، فكانت لهم معهم وقائع وحروب استلحمهم فيها بنو مرين إلى أن حق الغلب واستكانوا لعزّ بني مرين وصولتهم، وأعطوهم صفقة الطاعة وأصهر بنو مرين منهم إلى الخلط في بنت بني مهلهل فكان في جملة مرين، وكانت لهم الجولة للملك. واستقرّت رياسة جشم وكثرهم في الخلط منهم، في بنت مهلهل بعد أن كانت على عهد الموحدين في سفيان.   [1] وفي نسخة ثانية: وساءت أثارهم في البغي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 ثم ضربت الأيام ضرباتها وأخلقت جدّتهم وفشلوا وذهبت ريحهم، ونسوا عهد البداوة والناجعة، وصاروا في عداد القبائل الغارمة للجباية والعسكرة مع السلطان. (ولنذكر الآن) فرقهم الأربع وأحياء كل واحدة منها ونحق الكلام في أنسابهم، فليست راجعة إلى جشم على ما يتبين. ولكن الشهرة بهذا النسب متصلة والله أعلم بحقائق الأمور. هذه قبائل معدودة في جشم، وجشم المعهود هو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن أو لعله جشم آخر من غيرها. وكان شيخهم المشهور لعهد المأمون وبنيه جرمون بن عيسى. ونسبه فيما يزعم بعض المؤرخين أيام الموحدين في بني قرة، وكانت بينهم وبين الخلط شيعة للمأمون وبنيه، فصار سفيان لذلك شيعة يحيى بن الناصر منازعة في الخلافة بمراكش. ثم قتل الرشيد مسعود بن حميدان شيخ الخلط كما نذكر بعد، فصاروا إلى يحيى بن الناصر. وصار سفيان إلى الرشيد. ثم ظهر بنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مع الموحدين ونزع جرمون سنة ثمان وثلاثين وستمائة عن الرشيد ولحق بمحمد بن عبد الحق أمير بني مرين حياء مما وقع له معه، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة. وذلك أنه نادمه ذات ليلة حتى سكر وحمل عليه وهو سكران يرقص طربا. ثم أفاق فندم وفرّ إلى محمد بن عبد الحق، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وهلك سنة تسع وثلاثين بعدها. وعلا كعب كانون ابنه من بعده عند السعيد، وخالف عليه عند نهوضه إلى بني مرين سنة ثلاث وأربعين وستمائة ورجع إلى أزمور فملكها. وفت ذلك في عضد السعيد فرجع عن حركته، وقصد كانون بن جرمون ففر أمامه، وحضر حركته إلى تامزردكت، وقتل قبل مهلكه بيوم قتله الخلط في فتنة وقعت بينهم في محلة السعيد، وهي التي جرت عليها تلك الواقعة. وأقام بأمر سفيان من بعده أخوه يعقوب بن جرمون، وقتل محمد ابن أخيه كانون. وقام بأمر سفيان، وحضر مع المرتضى حركة أمان ايملولين سنة تسع وأربعين وستمائة فرحل عن السلطان واختل عسكره فرجع فاتبعه بنو مرين وكانت الهزيمة. ثم رجع المرتضى وعفا له عنها، ثم قتله سنة تسع وخمسين وستمائة مسعود وعلي ابنا أخيه كانون بثأر أبيهما، ولحقا بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، وقدم المرتضى ابنه عبد الرحمن فعجز عن القيام بأمره، فقدم عمه عبيد الله بن جرمون فعجز، فقدم مسعود بن كانون ولحق عبد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 الرحمن ببني مرين. ثم تقبّض المرتضى على يعقوب بن قيطون شيخ بني جابر وقدّم عوضا منه يعقوب بن كانون السفياني. ثم راجع عبد الرحمن بن يعقوب سنة أربع وخمسين وستمائة فتقبض عليه واعتقل. وأقام مسعود بن كانون شيخا على سفيان. وكان لابني عمه معه ظهور وهما: حطوش وعيسى أبناء يعقوب بن جرمون. ونزع مسعود عن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة ست وستين [1] وستمائة ابن عبد الحق ولحق بمسكورة وشب نار الفتنة والحرب، وأقيم حطوش بن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة تسع وستين وستمائة فولي مكانه أخوه عيسى وهلك مسعود بمسكورة [2] سنة ثمانين وستمائة ولحق ابنه منصور بن مسعود بالسكسيوي إلى أن راجع الخدمة أيام يوسف بن يعقوب. ووفد عليه بعسكره من حصار تلمسان سنة ست وسبعمائة فتقبله. واتصلت الرئاسة على سفيان في بني جرمون هؤلاء إلى عهدنا. وأدركت شيخا لعهد السلطان أبي عنان يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى بن يعقوب بن جرمون بن عيسى. وكان سفيان هؤلاء حيا حلولا بأطراف تامستا مما يلي أسفى، وملك بسائطها الفسيحة عليهم الخلط. وبقي من أحيائهم الحرث والكلابية ينتجعون أرض السوس وقفاره، ويطلبون ضواحي بلا دجاجة [3] من المصامدة فبقيت فيهم لذلك شدّة وبأس، ورياستهم في أولاد مطاوع من الحرث. وطال عيثهم في ضواحي مراكش وإفسادهم. فلما استبدّ سلطان مراكش الأمير عبد الرحمن بن أبي فلفوس [4] علي ابن السلطان أبي على سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكر استخلصهم ورفع منزلتهم. واستقدمهم بعض أيامه للعرض بفرسانهم ورجلهم على العادة، وشيخهم منصور بن يعيش من أولاد مطاع، وتقبض عليهم أجمعين، وقتل من قتل منهم وأودع الآخرين سجونه فذهبوا مثلا في الأيام، وحصدت شوكتهم والله قادر على ما يشاء.   [1] وفي نسخة أخرى سبع وستين. [2] وفي نسخة أخرى سكورة ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان. [3] وفي النسخة التونسية خاصة. وفي معجم البلدان حاجة موضع في قول لبيد: فذكرها مناهل آحنات بحاجة، لا تنزح بالدوالي وفي كتاب قبائل المغرب حاجة قبائل ص 134 وارض خاصة بلاد من المصامدة، ص 420. [4] وفي نسخة أخرى: يفلّوسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 (الخلط من جشم) هذا القبيل يعرف بالخلط وهم في عداد جشم هؤلاء، لكن المعروف أنّ الخلط بنو المنتفق من بني عامر بن عقيل بن كعب، كلهم شيعة للقرامطة بالبحرين. ولما ضعف أمر القرامطة استولى بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة. ثم غلبهم عليها بنو أبي الحسين من بطون تغلب بالدعوة العباسية، فارتحل بنو سليم وبنو المنتفق من هؤلاء المسمون بالخلط إلى إفريقية، وبقي سائر بني عقيل بنواحي البحرين إلى أن غلب منهم على التغلبيين بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر بن عقيل إخوة الخلط هؤلاء، لأنهم في المغرب منسوبون إلى جشم تخليطا في النسب ممن يحققه من العوام. ولما أدخلهم المنصور إلى المغرب كما قلنا استقرّوا ببسائط تامستا، فكانوا أولي عدد وقوّة، وكان شيخهم هلال بن حميدان بن مقدم بن محمد بن هبيرة بن عواج لا نعرف من نسبه أكثر من هذا. فلما ولي العادل بن منصور خالفوا عليه، وهزموا عساكره وبعث هلال ببيعته إلى المأمون سنة خمس وعشرين وستمائة واتبعه الموحدون في ذلك وجاء المأمون وظاهروه على أمره، وتحيز أعداؤهم سفيان إلى يحيى بن القاص [1] منازعة. ولم يزل هلال مع المأمون إلى أن هلك في حركة سبتة وبايع بعده لابنه الرشيد وجاء به إلى مراكش وهزم سفيان واستباحهم. ثم هلك هلال وولي أخوه مسعود، وخالف على الرشيد عمر بن أوقاريط شيخ الهساكرة من الموحدين، وكان صديقا لمسعود بن حميدان، فأغراه بالخلاف على اكسز السلطان فخالف، وحاول عليه الرشيد حتى قدم عليه بمراكش وقتله في جماعة من قومه سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وولي أمر الخلط بعده يحيى ابن أخيه هلال، ومرّ بقومه إلى يحيى بن القاص وحصروا مراكش ومعهم ابن أوقاريط. وخرج الرشيد إلى سجلماسة واستولوا على مراكش وعاثوا فيها. ثم جاء الرشيد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وغلبهم عليها ولحق ابن أوقاريط بالأندلس. وأبدى عليّ بن هود بيعة الخلط، وعلموا أنها حيلة من ابن أوقاريط وأنه تخلّص من   [1] وفي نسخة ثانية: يحيى بن الناصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 الورطة، فطردوا عنهم يحيى بن القاص إلى معقل. وراجعوا الرشيد فقبض على علي ووشاح ابني هلال وسجنهم بأزمور سنة خمس وثلاثين وستمائة. ثم أطلقهم ثم غدر بعد ذلك بمشيختهم بعد الاستدعاء والتأنيس وقتلهم جميعا مع عمر بن أوقاريط، كان أهل اشبيلية بعثوا به إليه، ثم حضروا مع السعيد في حركته إلى بني عبد الواد وجرّوا عليه الواقعة حتى قتل فيها بفتنتهم مع سفيان يومئذ، فلم يزل المرتضى يعمل الحيلة فيهم إلى أن تقبض على أشياخهم سنة اثنتين وخمسين وستمائة وقتلهم. ولحق عواج بن هلال ببني مرين، وقدم المرتضى عليهم علي بن أبي علي من بيت الرئاسة فيهم. ثم رجع عواج سنة أربع وخمسين وستمائة وأغزاه علي بن أبي علي فقتل في غزاته. ثم كانت واقعة أم الرجلين على المرتضى سنة ستين وستمائة، فرجع علي بن أبي علي إلى بني مرين. ثم صار الخلط كلهم إلى بني مرين وكانت الرئاسة فيهم بأول السلطان لبني مرين لمهلهل بن يحيى من مقدم. وأصهر إليه يعقوب بن عبد الحق فأنكحه ابنته التي كان منها ابنه السلطان أبو سعيد. ولم يزل مهلهل عليهم إلى أن هل سنة خمس وتسعين وستمائة، ثم ابنه عطية. وكان لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبو الحسن، وبعثه سفيرا إلى سلطان مصر الملك الناصر. ولما هلك قام بأمره أخوه عيسى بن عطية، ثم ابن أخيهما زمام بن إبراهيم بن عطية. وبلغ إلى المبالغ من العز والترف والدالة على السلطان والقرب من مجلسه إلى ان هلك، فولي أمره ابنه أحمد بن إبراهيم، ثم أخوه سليمان بن إبراهيم، ثم أخوهما مبارك على مثل حالهم أيام السلطان أبي عنان. ومن بعده إلى أن كانت الفتنة بالمغرب بعد مهلك السلطان أبي سالم، واستولى على المغرب أخوه عبد العزيز وأقطع ابنه أبا الفضل ناحية مراكش، فكان مبارك هذا معه. ولما تقبض على أبي الفضل تقبض على مبارك وأودع السجن إلى أن غلب السلطان عبد العزيز على عامر بن محمد وقتله، فقتل معه مبارك هذا لما كان يعرف به من صحابته ومداخلته في الفتن كما يذكر في أخبار بني مرين، وولي ابنه محمد على قبيل الخلط، إلا أن الخلط اليوم دثرت كأن لم تكن بما أصابهم من الخصب والترف منذ مائتين من السنين بذلك البسيط الأفيح زيادة للعز والدعة، فأكلتهم السنون وذهب بهم الترف والله غالب على أمره . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 (بنو جابر بن جشم) بنو جابر هؤلاء من عداد جشم بالمغرب، وربما يقال إنهم من سدراتة إحدى فرق زناتة أو لواتة والله أعلم بذلك. وكان لهم أثر في فتنة يحيى بن الناصر بما كانوا معه من أحزابه، ولما هلك يحيى بن الناصر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بعث الرشيد بقتل شيخهم قائد بن عامر وأخيه فائد، وولي بعده يعقوب بن محمد بن قيطون. ثم اعتقله يغلو قائد الموحدين، بعثه المرتضى لذلك. وقدم يعقوب بن جرموق، وولي مشيخة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون. ثم تحيز بنو جابر هؤلاء من أحياء جشم إلى سفح الجبل بتادلا وما إليها يجاورون هناك صناكة الساكنين بقشتة وهضابه من البربر، فيسهلون إلى البسيط تارة ويأوون إلى الجبل في حلف البربر وجوارهم أخرى إذا دهمتهم مخافة من السلطان أو ذي غلبة. والرئاسة فيهم لهذه العصور في ورديقة [1] من بطونهم، أدركت شيخا عليهم لعهد السلطان أبي عنان حسين بن علي الورديقي. ثم هلك وأقيم مقامه الناصر ابنه ولحق بهم الوزير الحسن بن عمر عند نزوعه عن السلطان إلى سالم سنة ستين وسبعمائة، ونهضت إليهم عساكر السلطان فأمكنوا منه. ثم لحق بهم أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم عند فراره عن مراكش سنة ثمان وستين. ونازلة السلطان عبد العزيز وأحيط به فلحق برابرة صناكة من قومه. ثم أمكنوا منه على مال حمل إليهم، ولحق بهم أثناء هذه الفتن الأمير عبد الرحمن يغلوسن [2] على عهد الوزير عمر بن عبد الله المتغلب على المغرب. وطلبه عمر فأخرجوه عنهم وطال بذلك مراس الناصر هذا للفتنة، فنكرته الدولة، وتقبض عليه وأودع السجن، فمكث فيه سنين وتجافت الدول عنه من بعد ذلك، وأطلق عقالهم. ثم رجع من المشرق فتقبض عليه الوزير أبو بكر بن غازي المستبد بالمغرب على ابن السلطان عبد العزيز وأودعه السجن، ونقلوا الرئاسة عن بني علي هؤلاء والله يقلب الليل والنهار. وقد يزعم كثير من الناس أنّ ورديقة من بني جابر   [1] وفي النسخة التونسية: ورديغة وكذلك في قبائل المغرب ص 420. [2] وفي النسخة التونسية: ابو يفلوسن وقد مرّ معنا من قبل ولكن ورد اسمه محرّفا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 ليسوا من جشم، وأنهم بطن من بطون سدراتة إحدى شعوب لواتة من البربر، ويستدلون على ذلك بمواطنهم وجوارهم للبربر، والله أعلم بحقيقة ذلك. (العاصم ومقدم من الأثبج) هؤلاء الأحياء من الأثبج كما ذكرنا في أنسابهم، ونزلوا تامستا معهم، وكانت لهم عزة وعلياء، إلا أن جشم أعز منهم لمكان الكثرة. وكان موطنهم بسيط تامستا، وكانت للسلطان عليهم عسكرة وجباية كان إخوانهم من جشم. وكان شيخ العاصم لعهد الموحدين، ثم عهد المأمون منهم حسن بن زيد، وكان له أثر في فتنة يحيى بن الناصر. ولما هلك سنة ثلاث وثلاثين وستمائة أمر الرشيد بقتل حسن بن زيد مع قائد وفائد ابني عامر شيوخ بني جابر فقتلوا جميعا. ثم صارت الرئاسة لأبي عياد وبنيه، وكان بينهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد، وكان له تغلب في النفرة والاستقامة. فرّ إلى تلمسان ورجع منها أعوام تسعين وستمائة. وفرّ إلى السوس ورجع منه سنة سبع وسبعمائة، ولم يزل دأبه هذا. وكانت له ولاية مع يعقوب بن عبد الحق من قبل ذلك، ومقاماته في الجهاد مذكورة. وبقيت رياسته في بنيه إلى أن انقرض أمرهم وأمر مقدم ودثروا وتلاشوا. والله خير الوارثين. (الخبر عن رياح وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة) كان هذا القبيل من أعز قبائل هلال وأكثرهم جمعا عند دخولهم إفريقية وهم فيما ذكره ابن الكلبي: رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر، وكانت رياستهم حينئذ لموسى بن يحيى الصنبري من بطون مرداس بن رياح. وكان من رجالاتهم لذلك العهد الفضل بن علي مذكور في حروبهم مع صنهاجة، وكانت بطونهم عمر ومرداس، وعلى كلهم بنو رياح وسعيد بن رياح وخضر بن عامر بن رياح وهم الأخضر. ولمرداس بطون كثيرة: داود بن مرداس وصنبر بن حواز بن عقيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 بن مرداس، وإخوتهم مسلم بن عقيل. ومن أولاده عامر بن يزيد بن مرداس بطون أخرى منهم: بنو موسى بن عامر وجابر بن عامر. وقد يقال: إنهم من لطيف كما قدمناه، وسودان ومشهور ومعاوية بنو محمد بن عامر بطون ثلاثة واسم سودان علي بن محمد. وقد يقال أيضا إنّ المشاهرة وهم بنو مشهور بن هلال بن عامر من نمير رياح والله أعلم. والرئاسة على رياح في هذه البطون كلها لمرداس، وكانت عند دخولهم إفريقية في صنبر منهم. ثم صارت للزواودة [1] أبناء داود بن مرداس بن رياح. ويزعم بنو عمر بن رياح أن أباهم كفله ورباه. وكان رئيسهم لعهد الموحدين مسعود بن سلطان بن زمام بن ورديقي بن داود، وكان يلقب البلط لشدته وصلابته. ولما نقل المنصور رياحا إلى المغرب تخلف عساكر أخو مسعود في جماعات منهم لما بلاه السلطان من طاعته وانحياشه، وأنزل مسعودا وقومه لبلاد الهبط ما بين قصور كتامة المعروف بالقصر الكبير إلى أزغار البسيط الفيح هناك إلى ساحل البحر الأخضر، واستقروا هنالك. وفرّ مسعود بن زمام من بينهم في لمة من قومه سني تسعين وخمسمائة، ولحق بإفريقية واجتمع إليه بنو عساكر أخيه ولحقوا بطرابلس، ونزلوا على زغب وذياب يتقلبون بينهم. ثم نزع إلى خدمة قراقش، وحضر معه بقومه فتح طرابلس كما نذكره في أخبار قراقش. ثم رجع إلى ابن غانية الميروقي [2] ولم يزل في خلافة ذلك إلى أن هلك، وقام بأمره من بعده ابنه محمد. وكانت له رياسة وغناء في فتنة الميروقي مع الموحّدين. [3] ولما غلب أبو محمد بن أبي حفص يحيى الميروقي مع الموحدين سنة ثماني عشرة وستمائة على الحمة من بلاد الجريد، وقتل من العرب من قتل، كان فيمن قتله ذلك اليوم عبد الله بن محمد هذا وابن عمه أبو الشيخ بن حركات بن عساكر. ولما هلك الشيخ أبو محمد رجع محمد بن مسعود إلى إفريقية وغلب عليها، واجتمع إليه حلف الأثبج ظواعن من الضحاك ولطيف فكاثروه واعتزوا به على قتالهم من دريد وكرفة، إلى أن عجزت ظواعن الضحاك ولطيف عن الرحلة، وافترقوا في قرى الزاب وصدرة. وبقي محمد بن مسعود يتغلب في رحلته وصارت رياسة البدو في   [1] وفي النسخة التونسية: دؤاد. [2] وفي نسخة ثانية: الدواودة. [3] وفي نسخة ثانية: الميورقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 ضواحي إفريقية ما بين قسطيلة والزاب والقيروان والمسيلة له ولقومه. ولما هلك يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح سنة إحدى وثلاثين وستمائة كما نذكره انقطع ملكهم، واستغلظ سلطان أبي حفص. واستقل منهم الأمير يحيى بن عبد الواحد بخطبة الخلافة عند ما فسد كرسيها بمراكش، وافترق أتباع يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح، فنكره آل أبي حفص هؤلاء الزواودة، ومكانهم من الوطن مما سلف من عنادهم ومشايعتهم لابن غانية عدوّهم فجاجا الأمير ابو زكريا في بني سليم من مواطنهم لذلك العهد بقابس وطرابلس وما إليها. والتقدم فيهم يومئذ لمرداش والكعوب كما نذكره في أخبارهم، واصطنعوهم لمشايعة الدولة. وضربوا بينهم وبين قبائل رياح وأنزلوهم بالقيروان وبلاد قسطيلة، وكانت آية لمحمد بن مسعود ووفد عليه في بعض السنين وفد مرداس يطلبون المكيل وينزلون عليهم فشرهوا إلى نعمتهم وقاتلوهم عليها، وقتلوا رزق ابن سلطان عم محمد بن مسعود، فكانت بينهم وبين رياح أيام وحروب حتى رحلوهم جانب المشرق من إفريقية وأصاروهم إلى جانبها الغربي. وملك الكعوب ومرداس من بني سليم ضواحي الجانب الشرقي كلها، من قابس إلى بونة نفطة وامتاز الزواودة بملك ضواحي قسنطينة وبجاية من التلول ومجالات الزاب وريغ وواركلا وما وراءها من القفار في بلاد القبلة. وهلك محمد بن مسعود فولي رياسته موسى بن محمد، وكان له صيت وغناء في قومه واعتزاز على الدولة. (ولما هلك يحيى) بن عبد الواحد بويع ابنه محمد المستنصر الطائر الذكر المشهود له في الشهرة. وخرج عليه أخوه إبراهيم فلحق بالزواودة هؤلاء فبايعوه بجهات قسنطينة واتفقوا على تقديمه، ونهض إليه المستنصر سنة ست وستين وستمائة ففرّوا أمامه وافترق جمعهم وتحيّز إليه بنو عساكر بن سلطان منهم، ورياستهم يومئذ لولد مهدي بن عساكر. ونبذوا العهد إلى إبراهيم بن يحيى ولحقوا بتلمسان. وأجاز البحر إلى الأندلس، وأقام بها في جوار الشيخ ابن الأحمر. ثم هلك موسى بن محمد وولي رياسته ابنه شبل بن موسى، واستطال على الدولة وكثر عيثهم، فنبذ المستنصر عهدهم، ونهض إليه بعساكره وجموعه من الموحدين والعرب من بني سليم وأولاد عساكر إخوانهم، وعلى مقدمته الشيخ أبو هلال عياد بن محمد الهنتاني وكان يومئذ أميرا ببجاية. وحاول عليهم فاستقدم رؤساؤهم شبل بن موسى بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 محمد بن مسعود وأخاه يحيى، وسباع بن يحيى بن دريد بن مسعود. وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وفضل بن ميمون بن دريد بن مسعود ومعهم دريد بن تاز يرشيخ أولاد نابت من كرفة، فقبض عليهم لحين قدومهم وضرب أعناقهم في سريح، وأخذ ابن راية [1] حيث بايعوا أبا إسحاق أخاه والقاسم بن أبي زيد بن أبي حفص الفازع إليهم لطلب الخروج على الدولة. وافترقت ظواعنهم وفرّوا أمامه، واتبعهم إلى آخر الزاب. وترك شبل بن موسى سباعا ابنه طفلا صغيرا، فكفله عمه مولاهم بن موسى، ولم تزل الرئاسة بهم، وترك سباع ابنه يحيى أيضا طفلا فكفله عمه طلحة بن يحيى، ولحق جلهم بملوك زناتة المغرب، وأولاد محمد لحقوا بيعقوب بن عبد الحق بفاس، وأولاد سباع بن يحيى لحقوا بيغمراسن بن زيان بتلمسان فكسوهم وحملوهم، فارتاشوا وقاتلوا واحتالوا وزحفوا إلى مواطنهم فتغلبوا على أطراف الزاب من واركلان وقصور ريغ وصيروها سهاما بينهم، وانتزعوها للموحدين فكان آخر عهدهم بملكها. ثم تقدموا إلى بلاد الزاب وجمع لهم عاملها أبو سعيد عثمان بن محمد بن عثمان ويعرف بابن عتوا من رؤساء الموحدين. وكان منزله بمقرة فزحف إليهم بمكانهم من الزاب، وأوقعوا به وقتلوه به بقلطاوة، وغلبوا على الزاب وضواحيه لهذا العهد. ثم تقدّموا إلى جبل أوراس فغلبوا على من به من القبائل. ثم تقدّموا إلى التل وجمع لهم من كان به من أولاد عساكر، وغلبهم موسى بن ماضي بن مهدي بن عساكر، فجمع قومه ومن في حلفهم من عياض وغيرهم. وتزاحفوا فغلبهم أولاد مسعود وقتلوا شيخهم موسى بن ماضي، وتولوا الوطن بما فيه. ثم تلافت الدولة أمرهم بالاصطناع والاستمالة وأقطعوهم ما غلبوا عليه من البلاد بجبل أوراس والزاب، ثم الأمصار التي بالبسيط الغربي من جبل أوراس المسمى عندهم بالحصنة وهي نقاوس ومقرة والمسيلة. واختص أقطاع المسيلة بسباع بن شبل بن يحيى حتى صارت لعلي بن سباع بن يحيى من بعد ذلك، فهي في قسم بنيه وسهامهم. واختص أقطاع مقرة بأحمد بن عمر بن محمد، وهو ابن عم شبل بن موسى بن سباع، ونقاوس بأولاد عساكر. ثم هلك سباع بن شبل وقام بأمرهم ابنه عثمان،   [1] وفي نسخة ثانية: وضرب أعناقهم في مصرع أحد ابن راية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 ويعرف بالعاكر، فنازعه الرئاسة بنو عمه علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى. ولم يزالوا كذلك لهذا العهد، ولهم تغلب على ضواحي بجاية وقسنطينة ومن بها من سرديكش [1] وعياض وأمثالهم. ورياسة أولاد محمد الآن ليعقوب بن علي بن أحمد، وهو كبير الزواودة بمكانه وسنه وله شهرة وذكر ومحل من السلطان متوارث. ورياسة أولاد سباع في أولاد علي بن سباع، وأولاد علي أشرف منهم وأعز بالكثرة. والعدد ورياستهم في ولد يوسف بن سليمان بن علي بن سباع ويرادفهم أولاد يحيى بن علي بن سباع. واختص أولاد محمد بنواحي قسنطينة وأقطعتهم الدول كثيرا من أريافها. واختص أولاد سباع بنواحي بجاية وأقطاعهم فيها قليل لمنعة بجاية وضواحيها عن ضيم العرب، ولغلبهم بالجبال المطيفة بها وتوعر مسالكها على رواحل الناجعة. وأما ريغ وواركلا فقسمة بينهم منذ عهد سلفهم كما قلناه. وأما الزاب فالجانب الغربي منه وقاعدته طواقة [2] لأولاد محمد وأولاد سباع بن يحيى، وكانت لأبي بكر بن مسعود، فلما ضعف بنوه ودثروا اشتراها منهم علي بن أحمد شيخ أولاد عمر وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع. واتصلت بينهم بسببها الفتنة وصارت في مجالات أولاد سباع بن يحيى فسار غلب سليمان وبنيه عليها أكثر. والجانب الوسط وقاعدته بسكرة لأولاد محمد، وفي مجالاتهم وليعقوب بن علي على عامله بسبب ذلك سلطان وعزة، وله به تمسك وإليه انحياش في منعته من الدولة واستبداده بوطنه، وحماية ضواحيه من عيث الأعراب وفسادهم غالب الأوقات. وأما الجانب الشرقي من الزاب وقاعدته بادس وتنومة فهو لأولاد نابت رؤساء كرفة بما هو من مجالاتهم، وليس هو من مجالات رياح. إلا أن عمال الزاب تأخذ منه في الأكثر جباية غير مستوفاة بعسكر لها إلا في بعض الأحايين ببادية رياح بإذن من كبيرهم ويعقوب وإشراكه في الأمر. وبطون رياح كلها تبع لهؤلاء الزواودة ومقتسمون عليهم وملتمسون مما في أيديهم، وليس لهم في البلاد ملك يستولون عليه. وأشدّهم قوّة وأكثرهم جمعا بطون سعيد ومسلم والأخضر، يبعدون النجعة في القفار والرمال، ويسخرون الزواودة في فتنة بعضهم مع بعض ويختصون بالحلف فريقا دون آخر.   [1] وفي نسخة ثانية: سدويكش وكذلك في قبائل الغرب ص 321. [2] وفي نسخة ثانية: طولقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 فسعيد أحلاف لأولاد محمد سائر أيامهم إلا قليلا من الأحيان ينابذونهم، ثم يراجعونهم ومسلم والأخضر أحلاف لأولاد سباع كذلك إلا في بعض الأحايين. (فأما سعيد) فرياستهم لأولاد يوسف بن زيد منهم في ولد ميمون بن يعقوب بن عريف بن يعقوب بن يوسف، وأردافهم أولاد عيسى بن رحاب بن يوسف، وهم ينتسبون بزعمهم إلى بني سليم في أولاد القوس من سليم. والصحيح من نسبهم أنهم من رياح بالحلف والموطن ومع أولاد يوسف هؤلاء لفائف من العرب يعرفون بالمخادمة والغيوث والفجور، فأما المخادمة والغيوث من أبناء مخدم فمن ولد مشرف بن أثبج، وأما الفجور فمنهم من البرابر لواتة وزناتة إحدى بطونهم، وفيهم من نفاث فأما نفاث فمن بطون جذام وسيأتي ذكرهم. (وأما زناتة) فهم من بطون لواتة كما ذكرناه في بني جابر وبتادلا كثير منهم وأجاز منهم إلى العدوة لعهد بني الأحمر سلطان الزنادي [1] ، وكانت له في الجهاد آثار. وذكروا أن منهم بأرض مصر والصعيد كثيرا. وأما أحلاف أولاد محمد من الزواودة فبطن من رقاب [2] بن سودات بن عامر بن صعصعة، اندرجوا في أعداد رياح، ولهم معهم ظعن ونجعة، ولهم مكان من حلفهم ومظاهرتهم. وأما أحلاف أولاد سباع من مسلم والأخضر فقد قدّمنا أن مسلما من أولاد عقيل بن مرداس بن رياح أخو جواز بن رياح بعضهم ينتسب الى الزبير بن العوام وهو خلط ويقول بعض من ينكر عليهم إنما هو نسب إلى الزبير بن المهاية الذين هم من بطون عياض كما ذكرناه. ورياسته في أولاد جماعة بن مسلم بن حماد بن مسلم بين أولاد تساكر [3] بن حامد بن كسلان بن غيث بن رحال بن جماعة. وبين أولاد [4] بن موسى بن قطران بن جماعة. وأما الأخضر فيقولون إنهم من ولد خضر بن عامر وليس عامر بن صعصعة فإن أبناء عامر بن صعصعة معروفون كلهم عند النسابين. وإنما هو والله أعلم عامر آخر من أولاد رياح. ولعله عامر بن زيد بن مرداس المذكور في بطونهم، أولهم من الخضر الذين هم ولد مالك بن طريف بن مالك بن حفصة بن قيس عيلان. ذكرهم صاحب   [1] وفي نسخة ثانية: الزناري. [2] وفي نسخة ثانية: رياب. [3] وفي النسخة التونسية: جماعة من سالم بن حمّاد بن سالم بين أولاد شكر. [4] وفي نسخة ثانية: زرارة، هذا أصح راجع قبائل المغرب ص 422 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 الأغاني وقال: إنما سموا الخضر لسوادهم، والعرب تسمي الأسود أخضر. قال: وكان مالك شديد السمرة فأشبهه ولده. ورياستهم في أولاد تامر بن علي بن تمام بن عمار بن خضر بن عامر بن رياح، واختصت مرين بأولاد تامر ولد عامر بن صالح بن عامر بن عطية بن تامر. وفيهم بطن آخر لزيادة بن تمام بن عمار. وفي رياح أيضا بطن من عنزة بن أسد بن ربيعة من نزار، ويظعنون مع باديتهم. (وأما من نزل من رياح) ببلاد الهبط حيث أنزلهم المنصور، فأقاموا هنالك بعد رحلة رئيسهم مسعود بن زمام [1] بتلك المواطن إلى أن انقرضت دولة الموحدين. وكان عثمان بن نصر رئيسهم أيام المأمون وقتله سنة ثلاثين وستمائة. ولما تغلب بنو مرين على ضواحي المغرب الموحدون على رياح هؤلاء البعث مع عساكرهم، فقاموا بحماية ضواحيهم وتحيز لهم بنو عسكر بن محمد بن محمد من بني مرين حين كانوا حربا لإخوانهم بني حمامة بن محمد، سلف الملوك منهم لهذا العهد، فكانت بين الفريقين جولة قتل فيها عبد الحق بن مجيد [2] بن أبي بكر بن جماعة أبو الملك وابنه إدريس، فأوجدوا السبيل لبني مرين على أنفسهم في طلب الترة والدماء، فأثخنوا فيهم واستلحموهم قتلا وسبيا مرة بعد أخرى. وكان آخر من أوقع بهم السلطان أبو ثابت عامر بن يوسف بن يعقوب سنة سبع وسبعمائة تتبعهم بالقتل إلى أن لحقوا برءوس الهضاب وأسنمة الربى المتوسطة في المرج المستبحر باز غار فصاروا إلى عدد قليل، ولحقوا بالقبائل الغارمة. ثم دثروا وتلاشوا شأن كل أمة والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين لا رب غيره ولا معبود سواه، وهو نعم المولى ونعم النصير، عليه توكلنا واليه أنبنا وإليه المصير، نسأله سبحانه وتعالى من فيض فضله العميم، ونتوسل إليه بجاه نبيه الكريم، أن يرزقنا إيمانا دائما، وقلبا خاشعا، وعلما نافعا، ويقينا صادقا، ودينا قيما والعافية من كل بلية، وتمام العافية، ودوام العافية، والشكر على العافية، والغنى عن الناس، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، وأن يرزقنا من فضله وكرمه، إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد بمنه وكرمه، إنه على ما   [1] وفي نسخة ثانية: زنان. [2] وفي نسخة ثانية: محيو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد للَّه رب العالمين [1] . (الخبر عن سعادة العالم بالسنة في رياح ومآل أمره وتصاريف أحواله) كان هذا الرجل من مسلم إحدى شعوب رياح، ثم من رحمان منهم. وكانت أمه تدعى خضيبة وكانت في أعلى مقامات العبادة والورع. ونشأ هو منتحلا للعبادة والزهد، وارتحل إلى المغرب ولقي شيخ الصالحين والفقهاء لذلك العهد بنواحي تازة أبا إسحاق التسولي، وأخذ عنه ولزمه، وتفقه عليه، ورجع إلى وطن رياح بفقه صحيح وورع وافر، ونزل طولقة من بلاد الزاب، وأخذ بنفسه في تغيير المنكر على أقاربه وعشيرته ومن عرفه أو صحبه، فاشتهر بذلك وكثرت غاشيته لذلك من قومه وغيرهم. ولزم صحابته منهم أعلام عاهدوه على التزام طريقته كان من أشهرهم: أبو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ بني محمد بن مسعود من الزواودة، وعطية بن سليمان بن سباع شيخ أولاد سباع بن يحيى منهم، وعيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد إدريس، وأولاد عساكر منهم، وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة بن يحيى بن دريد بن مسعود منهم، وهجرس بن علي من أولاد يزيد بن زغبة، ورجالات من العطاف من زغبة في كثير من أتباعهم والمستضعفين من قومهم. فكثر بذلك تابعه واستظهر بهم على شأنه في إقامة السنة وتغيير المنكر على من جاء به. واشتد على قاطع الطريق من شرار البوادي. ثم تخطي ذلك إلى العمار فطلب عامل الزاب يومئذ منصور بن فضل بن مزني بإعفاء الرعايا من المكوس والظلامات فامتنع من ذلك، واعتزم على الإيقاع به، فحال دونه عشائر أصحابه، وبايعوه على إقامة السنة والموت دونه في ذلك. وآذنهم ابن مزني في الحرب ودعا لذلك أمثالهم ونظراءهم من قومهم. وكان لذلك   [1] لم يرد هذا الدعاء في النسخة التونسية. والظاهر أنه حذف إما من قبل النسّاخ وإما من قبل الناشرين، إما عمدا وإما سهوا. وقد تعمدنا إثبات محتويات هذا الكتاب عملا بالأمانة العلمية في النقل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 العهد علي بن أحمد بن عمر بن محمد قد قام برياسة أولاد محمد، وسليمان بن علي بن سباع قد قام برياسة أولاد يحيى، واقتسموا رياسة الزواودة فظاهروا ابن مزني على مدافعة سعادة وأصحابه المرابطين من إخوانهم، وكان أمر ابن مزني والزاب يومئذ راجعا إلى صاحب بجاية من بني أبي حفص، وهو الأمير خالد ابن الأمير أبي زكريا، والقائم بدولته أبو عبد الرحمن بن عمر، وبعث إليه ابن مزني في المدد فأمده بالعساكر والجيوش، وأوعز إلى أهل طولقة بالقبض على سعادة فخرج منها، وابتنى بأنحائها زاوية، ونزل بها هو وأصحابه. ثم جمع أصحابه المرابطين وكان يسميهم السنية وزحفوا إلى بسكرة وحاصروا ابن مزني سنة ثلاث وسبعمائة وقطعوا نخيلها، وامتنعت عليهم فرحلوا عنها. ثم أعادوا حصارها سنة أربع وسبعمائة، وامتنعت. ثم انحدر أصحاب سعادة من الزواودة إلى مشاتيهم سنة خمس وسبعمائة، وأقام المرابط سعادة بزاويته من زاب طولقة، وجمع من كان إليه من المرابطين المتخلفين عن الناجعة، وغزا مليلي وحاصرها أياما، وبعثوا بالصريخ إلى ابن مزني والعسكر السلطاني مقيم عندهم ببسكرة، فأركبهم ليلا مع أولاد حرب من الزواودة. وأصبحوا سعادة وأصحابه على مليلي فكانت بينهم جولة قتل فيها سعادة واستلحم الكثير من أصحابه وحمل رأسه إلى ابن مزني. وبلغ الخبر إلى أصحابه بمشاتيهم فظهروا إلى الزاب، ورؤساؤهم أبو يحيى بن أحمد ابن عمر شيخ أولاد محرز، وعطية بن سليمان شيخ أولاد سبّاع وعيسى بن يحيى شيخ أولاد عساكر، ومحمد بن حسن شيخ أولاد عطية، ورياستهم جميعا راجعة لأبي يحيى بن أحمد. ونازلوا بسكرة وقطعوا نخيلها وتقبضوا على عمال ابن مزني فأحرقوهم في النار، واتسع الخرق بينهم وبينه. ونادى ابن مزني في أوليائه من الزواودة، واجتمع إليه علي بن أحمد شيخ أولاد محمد، وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع وهما يومئذ أجلاء الزواودة. وخرج ابنه علي بينهم بعساكر السلطان، وتزاحفوا بالصحراء سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فغلبهم المرابطون، وقتل علي بن مزني. وتقبض على عليّ بن أحمد فقادوه أسيرا، ثم أطلقه عيسى بن أحمد رعيا لأخيه أبي يحيى بن أحمد. واستفحل أمر هؤلاء السنية ما شاء الله أن يستفحل. ثم هلك أبو يحيى بن أحمد وعيسى بن يحيى، وخلت أحياء أولاد محرز من هؤلاء السنية، وتفاوض السنية فيمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 يقيمونه بينهم في الفتيا في الأحكام والعبادات، فوقع نظرهم على الفقيه أبي عبد الله محمد بن الأزرق من فقهاء مقرة. وكان أخذ العلم ببجاية على أبي محمد الزواوي من كبار مشيختها، فقصدوه بذلك وأجابهم وارتحل معهم. ونزل على حسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة، واجتمع إليه السنية واستفحل بهم جانب أولاد سباع، واجتمعوا على الزاب وحاربوا علي بن أحمد طويلا. وكان السلطان أبو تاشفين حين كان يجلب على أوطان الموحدين ويخيب عليهم أولياءهم من العرب، يبعث إلى هؤلاء السنية بالجوائز يستدعي بذلك ولايتهم. ويبعث معهم للفقيه أبي الأزرق بجائزة معلومة في كل سنة. ولم يزل ابن الأزرق مقيما لرسمهم إلى أن غلبهم على أمرهم ذلك علي بن أحمد شيخ أولاد محمد. وهلك حسن بن سلامة وانقرض أمر السنية من رياح. ونزل ابن الأزرق بسكرة فاستدعاه يوسف بن مزني لقضائها تفريقا لأمر السنية، فأجابه ونزل عنده، فولاه القضاء ببسكرة إلى أن هلك سنة [1] . ثم قام علي بن أحمد بهذه السنية بعد حين ودعا إليها، وجمع لابن مزني سنة أربعين وسبعمائة، ونزل بسكرة وجاءه مدد أهل ريغ، وأقام محاصرا لها أشهرا. وامتنعت عليه فأقلع عنها وراجع يوسف بن مزني وصاروا إلى الولاية إلى أن هلك علي بن أحمد وبقي من عقب سعادة في زاويته بنون وحفدة يوجب لهم ابن مزني الرعاية، وتعرف لهم أعراب الفلاة من رياح حقا في إجازة من يجيزونه من أهل السابلة. وبقي هؤلاء الزواودة ينزع بعضهم أحيانا إلى إقامة هذه الدعوة، فيأخذون بها أنفسهم غير متصفين من الدين والتعمق في الورع بما يناسبها ويقضي حقها، بل يجعلونها ذريعة لأخذ الزكوات من الرعايا، ويتظاهرون بتغيير المنكر يسرون بذلك حسدا في ارتقاء، فينحل أمرهم بذلك، وتخفق مساعيهم، ويتنازعون على ما تحصل بأيديهم ويعترفون على غير شيء. والله متولي الأمور لا إله إلا هو سبحانه يحيى ويميت.   [1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولم نهتد إلى سنة وفاته في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 (الخبر عن زغبة وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة) هذه القبيلة إخوة رياح، ذكر ابن الكلبي أن زغبة ورياحا أبناء أبي ربيعة بن نهيك ابن هلال بن عامر هكذا نسبهم، وهم لهذا العهد مما يزعمون أنّ عبد الله يجمعهم، بكسر دال عبد، ولم يذكر ابن الكلبي ذلك، وذكر عبد الله في ولد هلال، فلعل انتسابهم إليه بما كلفهم واشتهر دونهم، وكثيرا ما يقع مثل هذا في أنساب العرب أعني انتساب الأبناء لعمهم أو كافلهم والله أعلم. وكانت لهم عزة وكثرة عند دخولهم إفريقية وتغلبوا على نواحي طرابلس وقابس، وقتلوا سعيد بن خزرون من ملوك مغراوة بطرابلس. ولم يزالوا بتلك الحال إلى أن غلب الموحدون على إفريقية، وثار بها ابن غانية، وتحيزت إليه أفاريق هلال بن رياح وجشم، فنزعت زغبة إلى الموحدين، وانحرفوا عن غانية فرعوا له حق نزوعهم، وصاروا يدا واحدة مع بني يادين من زناتة في حماية المغرب الأوسط من ابن غانية واتباعه، واتصلت مجالاتهم ما بين المسيلة وقبلة تلمسان في القفار، وملك بنو يادين وزناتة عليهم التلول. (ولما ملكت زناتة) بلاد المغرب الأوسط ونزلوا بأمصاره، دخل زغبة هؤلاء التلول وتغلبوا فيها، ووضعوا الإتاوة على الكثير من أهلها بما جمعهم وزناتة من البداوة وعصبية الحلف، وخلا قفرهم من ظعونهم وحمايتهم فطرقته عرب المعقل المجاورون لهم من جانب المغرب، وغلبوا على من وجدوا من مخلف زغبة هؤلاء بتلك القفار، وجعلوا عليهم خفارة يأخذونها من إبلهم، ويختارون عليهم البكرات منها. وأنفوا بذلك وتآمروا وتعاقدوا على دفع هذه الهضمة، وتولى كبرها من بطونهم ثوابة بن جوثة من سديد كما نذكره بعد، فدفعوهم عن أوطانهم من ذلك القفر. ثم استفحلت دولة زنانة وكفحوا العرب عن وطن تلولهم لما انتشأ عنهم من العيث والفساد فرجعوا إلى صحرائهم، وملكت الدولة عليهم التلول والحبوب، واستصعب الميرة وهزل الكراع، وتلاشت أحوالهم وضربت عليهم البعوث، وأعطوا الإتاوة والصدقة حتى إذا فشل ريح زناتة وداخل الهرم دولتهم، وانتزى الخوارج من قرابة الملك بالقاصية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 وجدوا السبيل بالفتن إلى طروق التلول، ثم إلى الغلب فيها، ثم غالبوا زناتة عليها فغلبوهم في أكثر الأحايين، وأقطعتهم الدولة الكثير من نواحي المغرب الأوسط وأمصاره في سبيل الاستظهار بهم، فتمشت ظعونهم فيه وملكوه من كل جانب كما نذكره وبطون زغبة هؤلاء يتعدّدون من يزيد وحصين ومالك وعامر وعروة، وقد اقتسموا بلاد المغرب الأوسط كما نذكر في أخبارهم. (بنو يزيد بن زغبة) كان لبني يزيد هؤلاء محل من زغبة بالكثرة والشرف، وكان للدول به عناية، فكانوا لذلك أول من أقطعته الدول من العرب التلول والضواحي. أقطعهم الموحدون في أرض حمزة من أوطان بجاية مما يلي بلاد رياح والأثابج فنزلوا هنالك، ولجوا الثنايا المفضية إلى تلول حمزة والدهوس وأرض بني حسن ونزلوها ريفا وصحراء، وصار للدولة استظهار بهم على جباية تلك الرعايا من صنهاجة وزواوة. فلما عجزت عساكر بجاية من جبايتهم دفعوهم لها فأحسنوا في اقتضائها وزادت الدول بهم تكرمة وعناية بذلك. وأقطعتهم الكثير من تلك الأوطان. ثم غلب زناتة الموحدون على تلك الأوطان فاقتطعوها عن أوطان بجاية وأصاروها عن ممالكهم. فلما فشل ريح زناتة وجاش بحر فتنتهم مع العرب استبد بنو يزيد هؤلاء بملكة تلك الأوطان، وغلبوا عليها من جميع جوانبها، فرغوا لجبايتها واقتضاء مغارمها، وهم على ذلك لهذا العهد. وهم بطون كثيرة فمنهم حميان بن عقبة بن يزيد، وجواب وبنو كرز وبنو موسى والمرابعة والخشنة. وهم جميعا بنو يزيد بن عيسى بن زغبة وإخوانهم عكرمة بن عيسى من ظعونهم، وكانت الرئاسة في بني يزيد لأولاد لاحق، ثم لأولاد معافى. ثم صارت في بيت سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن مهدي بن يزيد بن عيسى بن زغبة، وهم يزعمون أنه مهدي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، نسب تأباه رياستهم على غير عصبتهم، وقد مر ذلك قبل. وربما نسبهم آخرون إلى سلول، وهم بنو مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة وليس بصحيح لما قلناه. وقد يقال: إن سلولا وبني يزيد إخوة. ويقال لهم جميعا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 أولاد فاطمة. وبنو سعد هؤلاء ثلاثة بطون: بنو ماضي بن رزق بن سعد، وبنو منصور بن سعد، وبنو زغلي بن رزق بن سعد. واختصت الرئاسة على الظعون والحلول ببني زغلي. وكانت لريان بن زغلي فيما علمناه. ثم من بعده لأخيه ديفل، ثم لأخيهما أبي بكر، ثم لابنه ساسي بن أبي بكر، ثم لابنه معتوق بن أبي بكر، ثم لموسى ابن عمهم أبي الفضل بن زغلي ثم لأخيه أحمد بن أبي الفضل، ثم لأخيهما علي بن أبي الفضل. ثم لأبي الليل بن أبي موسى بن أبي الفضل، وهو رئيسهم لهذا العهد. وتوفي سنة إحدى وتسعين وخلفه في قومه ابنه. وكان من أحلافهم فيما تقدم بنو عامر بن زغبة يظعنون معهم في مجالاتهم ويظاهرونهم في حروبهم. وكانت بين رياح وزغبة فتنة طويلة لعهد موسى بن محمد بن مسعود، وابنه شبل أيام المستنصر بن أبي حفص. فكان بنو يزيد هؤلاء يتولون كبرها لمكان الجوار. وكان بنو عامر أحلافهم فيها وظهراءهم. وكان لهم على مظاهرتهم وضيعة من الزرع تسمى الغرارة وهي ألف غرارة من الزرع، وكان سببها فيما يزعمون: انّ أبا بكر بن زغلي غلبته رياح على الدهوس من وطن حمزة أزمان فتنته معهم، فاستنصر بني عامر، فجاءه أولاد شافع وعليهم صالح بن بالغ، وبنو يعقوب، وعليهم داود بن عطاف وحميد وعليهم يعقوب بن معروف. واسترجع وطنه وفرض لهم على وطنه ألف غرارة من الزرع، واستمرت لبني عامر. فلما ملك يغمراسن بن زيان تلمسان ونواحيها، ودخلت زناتة إلى التلول والأرياف. كثر عيث المعقل وفسادهم في وطنها فجاء يغمراسن ببني عامر هؤلاء من محلاتهم بصحراء بني يزيد، وأنزلهم في جواره بصحراء تلمسان كيادا للمعقل، ومزاحمة لهم بأقيالهم فنزلوا هنالك. وتبعتهم حميان من بطون بني يزيد بما كانوا بطونا وناجعة، ولم يكونوا حلولا، فصاروا في عداد بني عامر لهذا العهد. وتولت بنو يزيد بلاد الريف وخصبة، فأوطن فيه أكثرهم وقال أهل الناجعة منهم الأفاريق من عكرمة وبعض بطون عيسى يظعنون مع أولاد زغلي في قفرهم. وأقصروا عن الظعن في القفر إلا في القليل ومع أحلافهم من ظعون رياح أو زغبة، وهم على ذلك لهذا العهد. ومن بطون بني يزيد بن عيسى زغبة هؤلاء بنو خشين وبنو موسى وبنو معافى وبنو لاحق. وكانت الرئاسة لهم ولبني معافى قبل بني سعد بن مالك، وبنو جواب وبنو كرز وبنو مربع وهم المرابعة، وهؤلاء كلهم بطن حمزة لهذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 العهد. ومن المرابعة حي ينجعون بضواحي تونس لهذا العهد، وغلب عليهم بسبب زغبة والله الخلاق العليم. أبو الفضل بن موسى بن زغلي بن رزق بن سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 (حصين بن زغبة) وأما أولاد حصين بن زغبة فكانت مواطنهم بجوار بني يزيد إلى المغرب عنهم. كانوا حيا حلوا هنالك، وكان الريف للحاذي من تيطري ونواحي المدينة مواطن للثعالبة من بطون البعوث، ويأخذون منهم الأتاوات والصدقات. حتى إذا ذهب سلطان بني توجين من أرض المدينة [1] وغلبهم عليهم بنو عبد الواد ساموا حصينا هؤلاء خطة الخسف والذل، وألزموهم الوضائع والمغارم، واستلحموهم بالقتل وهضموهم بالتكاليف، وصيّروهم في عداد القبائل الغارمة ومآثر ذلك، كان تغلب بني مرين على جميع زناتة كما نذكره، فكانوا لهم أطوع، ولدولتهم أذل. فلما عاد بنو عبد الواد إلى ملكهم لعهد أبي حمو موسى بن يوسف بن يوسف بعد مهلك السلطان أبي عنان هبت ريح العز للعرب، وفشل ريح زناتة، ولحق دولتهم ما يلحق الدول من الهرم، ونزل حصين هؤلاء بتيطري وهو جبل أشير وملكوه وتحصنوا به. وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو لما ملك من قبله لحق بتونس مقتطعا [2] حبالة بني مرين، وخرج طالبا أبيه، ومنازلا لابن عمه هذا، ونزل في خبر طويل نذكره بقبائل حصين هؤلاء أحوج ما كانوا لمثلها لما راموه من خلع ما كان بأعناقهم من الدول وطرق الاهتضام والعسف فتلقوه بما يجب له. ونزل منهم بأكرم نزل وأحسن مثوى. وبايعوه وراسلوا إخوانهم وكبراءهم من رؤساء زغبة بني سويد وبني عامر فأصفقوا عليه. وترددت عساكر السلطان أبي حمو وبني عبد الواد إليهم فتحصنوا بجبل تيطري وأوقعوا بهم. ونهض إليهم السلطان أبو حمود بعساكره فقتلوه ونالوا منه، ونالت زغبة بذلك ما أرادوه من الاعتزاز على الدولة آخر الأيام، وتملكوا البلاد أقطاعات وسهمانا، ورجع أبو زيان إلى رياح فنزل بهم على سلم عقده مع ابن عمه وبقي لحصين أثر الاعتزاز من جرّائه. واقطعتهم الدولة ما ولوه من نواحي المدينة وبلاد صنهاجة. لحصين ولهؤلاء   [1] وفي نسخة: المرية. ولعلها المدية في أواخر افريقية من اعمال بني حمّاد. وليس المرية من اعمال الأندلس لأنها بعيدة عن بحثنا هنا. راجع قبائل المغرب ص 145. [2] وفي نسخة أخرى: مفلتا من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 بطنان عظيمان جندل وخراش، فمن جندل أولاد سعد خنفر بن مبارك بن فيصل بن سنان بن سباع بن موسى بن كمام بن على بن جندل، ورياستهم في بني خليفة بن سعد لعلى [1] ، وسيدهم أولاد خشعة بن جندل. وكانت رياستهم على جندل قبل أولاد خليفة، ورئيسهم الآن علي بن صالح بن دياب بن مبارك بن يحيى بن مهلهل بن شكر بن عامر بن محمد بن خشعة. ومن خراش أولاد مسعود بن مظفر بن محمد الكامل بن خراش ورياستهم لهذا العهد في ولد رحاب بن عيسى بن أبي بكر بن زمام بن مسعود وأولاد فرج بن مظفر، ورياستهم في بني خليفة بن عثمان بن موسى بن فرج. وأولاد طريف بن معبد بن خراش، ويعرفون بالمعابدة، ورياستهم في أولاد عريف وربما انتسب أولاد مظفر من خراش إلى بني سليم ويزعمون أن مظفر بن محمد الكامل جاء من بني سليم ونزل بهم والله أعلم بحقيقة ذلك. (بنو مالك بن زغبة) وأما بنو مالك بن زغبة فهم بطون ثلاثة: سويد بن عامر بن مالك وهم بطنان، العطاف بن ولد عطاف بن رومي بن حارث. والديالم من ولد ديلم بن حسن بن إبراهيم بن رومي فأما سويد فكانوا أحلافا لبني يادين قبل الدولة. وكان لهم اختصاص ببني عبد الواد، وكانت لهم لهذا العهد أتاوات على بلد سيراة والبطحاء وهوارة. ولما ملك بنو يادين تلول المغرب الأوسط وأمصاره كان قسم بني توجين منه شياخ [2] التلول القبلية ما بين قلعة سعيدة في الغرب إلى المريّة في الشرق. فكان لهم قلعة ابن سلامة ومنداس وأنشريس وورنية [3] وما بينهما، فاتصل جوارهم لبني مالك هؤلاء في القفر والتل. ولما ملك بنو عبد الواد تلمسان ونزلوا بساحتها وضواحيها، كان سويد هؤلاء أخص   [1] وفي نسخة أخرى: ليلي. [2] وفي نسخة ثانية: سياج. [3] وفي النسخة التونسية: ووزينة، وفي النسخة الباريسية وورثته. وفي بعض النسخ الأخرى: ووزلنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 بحلفهم وولايتهم من سائر زغبة. وكانت لسويد هؤلاء بطون مذكورون من فلمة [1] وشبانة ومجاهر وجوثة، كلهم من بني سويد. والحساسة بطن من شبانة إلى حسان بن شبانة وغفير وشافع ومالف. كلهم بنو سليمة [2] بن مجاهر وبو رحمة وبو كامل، وحمدان بنو مقدر بن مجاهر. ويزعم بعض نسابتهم أن مقدرا ليس بجدّ لهم، وإنما وضع ذلك أولا بو كامل. وكانت رياستهم لعهدهم في يغمراسن وما قبله في أولاد عيسى بن عبد القوي بن حمدان، وكانوا ثلاثة: مهدي وعطية وطراد. واختص مهدي بالرياسة عليهم، ثم ابنه يوسف بن مهدي، ثم أخوه عمر بن مهدي واقطع يغمراس يوسف بن مهدي ببلاد البطحاء وسيرات وأقطع عنتر بن طراد بن عيسى مراري [3] البطحاء وكان يقتضون أتاوتهم على الرعايا ولا يناكرهم فيها. وربما خرج في بعض خروجه واستخلف عمر بن مهدي على تلمسان وما إليها من ناحية المشرق. وفي خلال ذلك خلت مجالاتهم بالقفر من ظعونهم وناجعتهم، إلا أحياء من بطونهم قليلي العدد من الجوثة وفليتة ومالف وغفير وشاقع وأمثالهم فغلب عليهم هنالك المعقل، وفرضوا عليهم أتاوة من الإبل يعطونها ويختارونها عليهم من البكرات. وكان المتولي لأخذها منهم من شيوخ المعقل ابن الريش بن نهار بن عثمان بن عبيد الله، وقيل علي بن عثمان أخو نهار. وقيل إن البكرات إنما فرضها للمعقل على قومه عامر بن جميل لأجل مظاهرة له على عدوه، وبقيت للمعقل عادة إلى أن تمشت رجالات من زغبة في نقض ذلك، وغدروا برجال المعقل ومنعوا تلك البكرات. (أخبرني يوسف) بن علي، ثم غانم عن شيوخ قومه من المعقل أنّ سبب البكرات وفرضها على زعمه كما ذكرناه. وأما سبب رفعها فهو أنّ المعقل كانوا يقولون غرامتها ادالة بينهم، فلما دالت لعبيد الله الدولة في غرامتها جمع ثوابه في جوثة قومه وحرّضهم على منعها، فاختلفوا واختبروا مع عبيد الله ودفعوهم إلى جانب الشرق، وحالوا بينهم وبين أحيائهم وبلادهم. وطالت الحرب ومات فيها بنو جوثة وابن مريح [4] من   [1] وفي نسخة أخرى فليتة، وكذلك في قبائل المغرب ص 433. [2] وفي نسخة أخرى: بنو سليمان. [3] وفي نسخة أخرى: طراد بن عبسي قرارة. [4] وفي نسخة أخرى: مرمح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 رجالاتهم، وكتب بنو عبد الله إلى قومهم من قصيدة بني معقل بني معقل إن لم تصرخونا على العدو ... فلا يذلكم تذكر ما طرأ لنا [1] قتلنا ابن جوثه والهمام بن مريح ... على الوجه مكبوب وذا من فعالنا. فاجتمعوا وجاءوا إلى قومهم، وفرت أحياء زغبة، واجتمع بنو عبيد الله وإخوانهم من ذوي منصور وذوي حسان، وارتفع أمر البكرات من زغبة لهذا العهد. ثم حدث بين يغمراسن وبينهم فتنة هلك فيها عمر بن مهدي وابن حلوا وانزلوهم عن التلول [2] والأرياف من بلاد عبد الواد إلى القفر المحاذي لأوطان بني توجين على المهادنة والمصاهرة، فصاروا لهم حلفاء على بني عبد الواد ومن عجز منهم عن الظعن نزل ببسائط البطحاء. وسارت بطونهم كلها من شبابة ومجاهر وغفير وشافع ومالف وبو رحمة وبو كامل. ونزل محيسن بن عمارة وأخوه سويد بضواحي وهران، فوضعت عليهم الأتاوات والمغارم وصاروا من عداد الرعايا أهل الجباية، وولي عثمان بن عمر أمر الظعون من سويد ثم هلك وقام بأمره ابنه ميمون وغلب عليه أخوه سعيد واستبدّ. وكان بين سويد وبين بني عامر بن زغبة فتنة اتصلت على الأيام وثقلت وطأة الدولة الزيانية عليهم. وزحف يوسف بن يعقوب إلى منازلة تلمسان، وطال مقامه عليها، فوفد عليه سعيد بن عثمان بن عمر بن مهدي شيخهم لعهده، فأتى مجلسه وأكرم وفادته. ثم أجمع قتله ففرّ ولحق بقومه، وأجلب على أطراف التلول وملك السرسو قبلة بلاد توجين، ونزعت إليه طائفة من عكرمة بني يزيد وعجزوا عن الظعن، وأنزلهم بجبل كريكرة قبلة السرسو ووضع عليهم الإتاوة. ولم يزل كذلك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب واتصل سلطان آل يغمراسن. ولما ولي أبو تاشفين بن موسى بن عثمان بن يغمراسن استخلص عريف بن يحيى لديه صحابة كانت له معه قبل الملك. ثم آسفه ببعض النزعات الملوكية. وكان هلال مولاه المستولي عليه يغص بما كان عريف منه، فنزع عريف بن يحيى الى بني مرين ملوك المغرب الأقصى، ونزل على السلطان أبي سعيد منهم سنة عشرين وسبعمائة، واعتقل أبو تاشفين عمه سعيد بن عثمان إلى أن هلك في محبسه قبيل فتح تلمسان،   [1] وقد ورد هذا البيت في نسخ أخرى: بني معقل ان لم تصرخونا على العدو ... فلا بدّ لكم تذكر ما طرأ لنا [2] وفي نسخة أخرى: وارتحلوا عن التلول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 ولحق أخوه ميمون بن عثمان وولده بملك المغرب وأنزل عريف بن يحيى من سلطان بني مرين أكرم نزل وأدنى مجلسه وأكرم مثواه. ثم اتخذه ابنه السلطان أبو الحسن من بعده بطانة لشوراه ونجيا لخلواته. ولم يزل يحرضهم على آل زيان بتلمسان. ونفس ميمون بن عثمان وولده عريف رتبته عند السلطان أبي الحسن، فنزعوا إلى أخيه أبي علي بتافيلات [1] فلم يزالوا بها إلى أن هلك ميمون تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه أبي علي وصار أولاد ميمون في جملته. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان يجر أمم المغرب، وأحجر على زيان بتلمسان، ثم اقتحمها عليهم عنوة وابتزهم ملكهم. وقتل السلطان أبا تاشفين عند شدونة، وبعث كلمته في أقطار المغرب الأقصى والأدنى إلى تخوم الموحدين من أندلس. وجمع كلمة زنانة واستتبعهم تحت لواتة. وفرّ بنو عامر من زغبة أولياء بني عبد الواد إلى القفر كما نذكره. ورفع السلطان أبو الحسن قوم عريف بن يحيى بمحلته على كل عربي في إيالته من زغبة والمعقل. وكان عقد سمعون بن سعيد على الناجعة من سويد، وهلك أيام نزول السلطان بتاسالة سنة اثنتين وثلاثين [وسبعمائة] قبل فتح تلمسان. وولي من بعده أخوه عطية وهلك لأشهر من ولايته بعد فتح تلمسان فعقد السلطان لوزمار [2] بن عريف على سويد وسائر بني مالك، وجعل رياسة البدو حيث كان من أعماله، وأخذ الصدقات منهم والأتاوات، فعكفت على هيئة أمم البدو واقتدى بشوراه رؤساؤهم. وفرّ ابن عمه المسعود بن سعيد ولحق ببني عامر، وأجلبوا على السلطان بدعاء جزار شبة ابنه أبي عبد الرحمن، فجمع لهم وزمار وهزمهم كما نذكره. وسفر عريف بين السلطان أبي الحسن وبين الملوك لعهده من الموحدين بإفريقية وبني الأحمر بالأندلس والترك بالقاهرة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك السلطان أبو الحسن. (ولما تغلب) السلطان أبو عنان على تلمسان كما سنذكره، رعى لسويد ذمة الانقطاع إليه، فرفع وزمار بن عريف على سائر رؤساء البدو من زغبة وأقطعه السرسو وقلعة ابن   [1] وفي نسخة أخرى: تافيلالت. كانت منطقة الواحات (حيث توجد سجلماسة المؤسسة عام 140 هـ- 758 م تسمى بالبربرية تافيلالت وقد سمّاها المؤرخون العرب تافلاله أو فلا له وهي التي استقر بها جد العلويين أو الشرفاء العلويين الشريف الماجد حسن بن قاسم (الموسوعة الغربية ومعلمة الصحراء الملحق الأول ص 62.) كتاب المغرب (ص 142) . [2] وفي نسخة ثانية لونزمار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 سلامة وكثيرا من بلاد توجين. وهلك أبو عريف بن يحيى، فاستقدمه من البدو، وأجلسه بمكان أبيه من مجلسه جوار أريكته، ولم يزل على ذلك. وعقد لأخيه عيسى على البدو من قومه، ثم بني عبد الواد بعد ملك السلطان أبي عنان عادت لهم الدولة بأبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي يغمراسن من أعياص ملوكهم. وتولى كبر ذلك صغير بن عامر وقومه لما لهم مع آل زيان من الولاية، وما كان لبني مرين فيهم من النعمات فملكوا تلمسان ونواحيها، وعقدوا على سويد لميمون بن سعيد ابن عثمان. وتاب وزمار بن عريف ورأى الترهب والخروج عن الرئاسة، فبنى حصنا بوادي ملوية من تخوم بني مرين ونزل به، وأقام هنالك لهذا العهد. وملوك بني مرين يرعون له ذمة اختصاصه سلفهم فيؤثرونه بالشورى والمداخلة في الأحوال الخاصة مع الملوك والرؤساء من سائر النواحي، فتوجهت إليه بسبب ذلك وجوه أهل الجهات من الملوك وشيوخ العرب ورؤساء الأقطار. ولحق أخواه أبو بكر ومحمد بقومهم فمكروا بالميمون ودسوا عليه من قتله غيلة من ذويهم وحاشيتهم، واستبدوا برياسة البدو. ثم لما نصب بنو حصين بن زيان ابن عم السلطان أبي حمو للملك كما نذكره ورشحوه للمنازعة سنة سبع وستين وسبعمائة هبت من يومئذ ريح العرب وجاش مرجلهم على زناتة ووطئوا من تلول بلادهم بالمغرب الأوسط فأعجزوا عن حمايته، وولجوا من فروجها ما قصروا عن سده. ودبوا فيها دبيب الظلال في الفيوء، فتملكت زغبة سائر البلاد بالأقطاع من السلطان طوعا وكرها رعيا لخدمته، وترغيبا فيها وعدة وتمكينا لقوته حتى أفرجت لهم زناتة عن كثيرها، ولجئوا إلى سيف البحر. وحصل كل منهم في الفلول على ما يلي موطنه من بلاد القفر. فاستولى بنو يزيد على بلاد حمزة وبني حسن كما كانوا من قبل، ومنعوا المغارم، واستولى بنو حسين على ضواحي المدينة أقطاعا والعطاف على نواحي مليمانة، والديالم على وزينة، وسويد على بلاد بني توجين كلها ما عدا جبل ونشريس لتوعره بقيت فيه لمة من توجين رياستهم لأولاد عمر بن عثمان من الجشم بني تيغرين كما نذكره، وبني عامر على تاسالة وميلانة إلى صيرور [1] إلى كيدزة الجبل المشرف على وهران.   [1] وفي نسخة أخرى هيدور، وفي ثانية ميرور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 وتماسك السلطان بالأمصار وأقطع منها كلميتو لأبي بكر بن عريف، ومازونة لمحمد بن عريف، ونزلوا لهم عن سائر الضواحي فاستولوا عليها كافة. وأوشك بهم أن يستولوا على الأمصار. وكل أول فإلى آخر، ولكل أجل كتاب، وهم على ذلك لهذا العهد. ومن بطون سويد هؤلاء بطن بنواحي البطحاء يعرفون بهبرة، ينسبهم الناس إلى مجاهد ابن سويد، وهم يزعمون أنهم من قوم المقداد بن الأسود، وهم بهذا من قضاعة، ومنهم من يزعم أنهم من تجيب إحدى بطون كندة والله أعلم. ومن ظواعن سويد هؤلاء ناجعة يعرفون بصبيح، ونسبهم إلى صبيح بن علاج بن مالك ولهم عدد وقوة وهم يظعنون بظعن سويد ويقيمون بمقامهم. (وأما الحرث بن مالك) وهم العطاف والديالم فموطن العطاف قبلة مليانة، ورياسة ظعونهم لولد يعقوب بن نصر بن عروة من منصور بن أبي الذئب بن حسن بن عياض بن عطاف بن زيان بن يعقوب، وابن أخيه علي بن أحمد وبنيهم، ومعهم طائفة من براز إحدى بطون الأثبج. وأقطعهم السلطان مغارم جبل دراك وما إليه من وادي شلب. وحال بينهم وبين موطن سويد ونشريس ولهم بلاد وزينة في قبلة الجبل رياستهم في ولد إبراهيم بن زروق بن رعاية من مزروع بن صالح بن ديلم، والسعد بن العباس بن إبراهيم منهم لهذا العهد. وكانت من قبل لعمه أبي يحيى بن إبراهيم وتقبض عليه السلطان أبو عثمان بإشارة عريف بن يحيى وأغرى به وهلك به وهلك في محبسه. (وفيهم بطون كثيرة) منهم بنو زيادة بن إبراهيم بن رومي والدهاقنة أولاد هلال بن حسن وبنو نوال بن حسن أيضا، وكلهم إخوة ديلم بن حسن وابن عكرمة من مزروع بن صالح، ويعرفون بالعكارمة. وهؤلاء العطاف والديالم أقل عددا من سويد وأولياؤهم في فتنتهم مع بني عامر لمكان العصبية من نسب مالك، ولسويد عليهم اعتزاز بالكثرة. والديالم أبعد مجالا منهم في القفر ويحاذيهم في مواطنهم من جانب التلول بطن من بطون الحرث يعرفون بغريب نسبهم الى غريب بن حارث، حي حلول بتلك المواطن يطلبهم السلطان في العسكرة، ويأخذ منهم المغارم وهم أهل شاء وبقر، ورياستهم في أبناء مزروع بن خليفة بن خلوف بن يوسف بن بكرة بن منهاب بن مكتوب بن منيع بن مغيث بن محمد الغريب، وهو جدّهم ابن حارث. وترادفهم في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 رياستهم على غريب أولاد يوسف، وهم جميعا أولاد بني منيع وسائر غريب من الأحلاف شيوخهم أولاد كامل، والله مالك الخلق والأمر . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 (بنو عامر بن زغبة) وأما بنو عامر بن زغبة فمواطنهم في آخر مواطن زغبة من المغرب الأوسط قبلة تلمسان مما يلي المعقل، وكانت مواطنهم من قبل ذلك في آخرها مما يلي المشرق، وكانوا مع بني يزيد حيا جميعا، وكانوا يغلبون غيرهم في مواطن حمزة والدهوس، وبني حسن لميرة أقواتهم في المصيف. ولهم على وطن بني يزيد ضريبة من الزرع متعارفة بين أهله لهذا العهد. يقال: إنها كانت لهم أزمان تغلبهم في ذلك الوطن، وقيل إن أبا بكر بن زغبي في فتنته مع رياح غلبوه على الدهوس من وطنه، فاستصرخ بني عامر فجاءوا لصريخه، وعلى بني يعقوب داود بن عطاف، وعلى بني حميد يعقوب بن معروف، وعلى شافع بن صالح بن بالغ وغلبوا رياحا بعزلان وفرض لهم على وطن بني يزيد ألف غرارة، واستمرت لهم عادة عليهم. ولما نقلهم يغمراسن إلى مواطنهم هذه لمحاذاة تلمسان ليكونوا حجزا بين المعقل وبين وطنها، استقرّوا هنالك يتقلبون في قفارها في المشاتي، ويظهرون إلى التلول في المرابع والمصايف. وكان فيهم ثلاثة بطون: بنو يعقوب بن عامر وبنو حميد بن عامر وبنو شافع بن عامر، وهم بنو شقارة وبنو مطرف، ولكل واحد من البطنين الآخرين أفخاذ وعمائر، ولبني حميد فصائل أخرى فمنهم: بنو حميد، ومن عبيد الحجز وهم بنو حجاز بن عبيد، وكان له من الولد حجوش وهجيش ابني حجاز. وحجوش حامد ومحمد ورباب. ومن محمد الولادة بنو ولاد بن محمد. ومن رباب بنو رباب وهم معروفون لهذا العهد. ومن عبيد أيضا العقلة بنو عقيل بن عبيد والمحارزة بنو محرز بن حمزة بن عبيد. وكانت الرئاسة على حميد لعلاق من هؤلاء المحارزة، وهم الذين قبل حجوش جد بني رباب، وكانت الرئاسة على بني عامر كافة لبني يعقوب على عهد يغمراسن وابنه لداود بن هلال بن عطاف بن رداد بن ركيش بن عياد بن منيع بن يعقوب منهم وكان بنو حميد أيضا برئيسهم وشيخهم إلا أنه رديف لشيخ بني يعقوب منهم. وكانت رياسة حميد لأولاد رباب بن حامد بن حجوش بن حجاز بن عبيد ابن حميد ويسمون الحجز. وعلى عهد يغمراسن لمعرف بن سعيد بن رباب منهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 وهو رديف لداود كما قلناه. ووقعت بين عثمان وبين داود بن عطاف مغاضبة، وسخطه عثمان لما أجاز الأمير أبا زكريا ابن السلطان أبي إسحاق من آل أبي حفص حين فرّ من تلمسان طالب الخروج على الخليفة بتونس، وكان عثمان بن يغمراسن في بيعته، فاعتزم على رجعه فأبى داود من إخفار ذمّته في ذلك. ورحل معه حتى لحق بعطية بن سليمان من شيوخ الزواودة، وتغلب على بجاية وقسنطينة كما يذكر في أخباره. وأقطع داود بن هلال رعيا لفعلته وطنا من بلاد حمزة يسمى كدارة، وأقام داود هنالك في مجالاتهم الأولى إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان، وطال حصاره لها، فوفد عليه داود مؤمّلا صلاح حاله لديه، وحمله صاحب بجاية رسالة إلى يوسف بن يعقوب فاستراب به من أجلها، فلما قفل من وفادته بعث في أثره خيالة من زناتة بيتوه ببني يبقى [1] في سدّ وقتلوه. وقام بأمره في قومه ابنه سعيد، ونفس مخنق الحصار عن تلمسان. وكان قبل بني مرين وسيلة رعاها لهم بنو عثمان بن يغمراسن فرجعوهم إلى مواطنهم ومع قومهم. وقد اغتر أولاد معرف بن سعيد في غيبتهم تلك يساجلونهم في رياسة بني عامر، وغص كل واحد بمكان صاحبه، واختص بنو معرف بإقبال الدولة عليهم لسلامتهم من الحزازة والخلاف. ونزع سعيد بن داود لأجل هذه الغيرة إلى بني مرين. ووفد على السلطان أبي ثابت من ملوكهم يؤمل به الكرة، فلم يصادف لها محلا ورجع إلى قومه. وكانوا مع ذلك حيا جميعا ولم تزل السعاية بينهم تدب حتى عدا إبراهيم بن يعقوب بن معرف على سعيد بن داود فقتله، وتناول قتله ماضي بن ردان من أولاد معرف بن عامر بمجالاته، وتعصب عليه أولاد رباب كافة، فافترق أمر بني عامر وصاروا حيين. بنو يعقوب وبنو حميد، وذلك لعهد أبي حمو موسى بن عثمان من آل زيان، وقام بأمر بني يعقوب بعد سعيد ابنه عثمان. ثم هلك بعد حين إبراهيم بن يعقوب شيخ بني حميد وقام مقامه من قومه ابنه عامر بن إبراهيم، وكان شهما حازما وله ذكر، ونزل المغرب قبل عريف بن يحيى ونزل على السلطان أبي سعيد، وأصهر إليه ابنته فأنكحه عامر إياها وزفها إليه ووصله بمال له خطر، فلم يزل عثمان يحاول أن يثأر منه بأبيه بالفتنة تارة والصلح والاجتماع أخرى حتى غدره في بيته   [1] وفي نسخة أخرى: ليقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 وقتله، وارتكب فيه الشنعاء التي تنكرها العرب، فتقاطع الفريقان لذلك آخر الدهر. وصارت بنو يعقوب أحلافا لسويد في فتنتهم مع بني حميد هؤلاء. ثم تلاحقت ظواعن سويد بعريف بن يحيى في مكانه عند بني مرين واستطال ولد عامر ابن إبراهيم بقومهم على بني يعقوب فلحقوا بالمغرب، ولم يزالوا به إلى أن جاءوا في عساكر السلطان أبي الحسن، وهلك شيخهم عثمان، قتله أولاد عريف بن سعيد بثأر عامر بن إبراهيم. وولي بعده ابن عمه هجرس بن غانم بن هلال، فكان رديفا له في حياته. ثم هلك وقام بأمرهم بعده عمه سليمان بن داود. ولما تغلب السلطان أبو الحسن على تلمسان فرّ بنو عامر بن إبراهيم إلى الصحراء، وكان شيخهم لذلك العهد صغير ابنه، واستأنف السلطان على يد عريف بن يحيى سائر بطون حميد وأولاد رباب فخالف صغيرا إخوانه إلى السلطان. وولى عليهم شيخا من بني عمهم عريف بن سعيد، وهو يعقوب بن العباس بن ميمون بن عريف. ووفد بعد ذلك عمر بن إبراهيم عم صغير، فولاه عليهم، واستخدمهم ولحق بنو عامر بن إبراهيم بالزواودة ونزلوا على يعقوب بن علي، ولم يزالوا هناك حتى شبوا نار الفتنة بالدعي بن هيدور الملبس بشبه [1] أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن. وأعانه على ذلك أهل الحقود على الدولة والأضغان من الديالم، وأولاد ميمون بن غنم ابن سويد نقموا على الدولة مكان عريف وابنه ونزمار منها، فاجتمعوا وبايعوا لهذا الداعي. وأو عز السلطان إلى ونزمار بحربهم فنهض إليهم بالعرب كافة، وأوقع بهم وفضهم ومزق جموعهم. وطال مفرّ مقير [2] بن عامر وإخوته في القفار، وأبعدوا في الهرب، قطعوا لعرق الرمل الّذي هو سياج على مجالات العرب، ونزل قليعة والد [3] وأوطنها. ووفد من بعد ذلك على السلطان أبي الحسن منذ نمي به [4] فقبل وفادته واسترهن أخاه أبا بكر، وصحب السلطان إلى إفريقية وحضر معه واقعة القيروان. ثم رجع إلى قومه وعادوا جميعا إلى لواتة بني يغمراسن، واستخدموا قبائلهم لأبي سعيد عثمان   [1] وفي نسخة أخرى: المهيمن بشعبه. [2] وفي نسخة ثانية: صغير. [3] وفي النسخة الباريسية: والن. وفي النسخة التونسية والر. [4] وفي نسخة أخرى: متذمما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن الدائل بتلمسان بعد واقعة القيروان أعوام خمسين وسبعمائة، فكان له ولقومه فيها مكان. ولحق سويد وبنو يعقوب بالمغرب حتى جاءوا في مقدمة السلطان أبي عنان. ولما هلك بنو عبد الواد وافترق جمعهم فرّ صغير إلى الصحراء على عادته، وأقام بالقفر يترقب الخوارج، ولحق به أكثر قومه من بني معرف بن سعيد فأجلب بهم على كل ناحية وخالف أولاد حسين بالمعقل على السلطان أبي عنان أعوام خمسة وخمسين وسبعمائة وما بعدها ونازلوا سجلماسة فكاثرهم وكان معهم، وأوقعت بهم عساكر بني مرين في بعض سني خلائهم وهم بنكور يمتارون فاكتسحوا عامة أموالهم وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا. ولم يزالوا كذلك شريدا في الصحراء، وسويد وبنو يعقوب بمكانهم من المجالات، وفي خطهم عند السلطان حتى هلك السلطان أبو عنان وجاء أبو حمو موسى بن يوسف أخو السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن لطلب ملك قومه بتلمسان، وكان مستقرّا بتونس منذ غلبهم أبو علي على أمرهم، فرحل مقير إلى وطن الزواودة، ونزل على يعقوب بن علي أزمان خلافه على السلطان أبي عنان، وداخله في استخلاص أبي حمو هذا من إيالة الموحدين للإجلاب على وطن تلمسان وبني مرين الذين به، فأرسلوا معه الآلة. ومضى به مقير وصولة بن يعقوب بن علي وزيان ابن عثمان بن سباع وشبل ابن أخيه ملوك بني عثمان. ومن بادية رياح دعار بن عيسى ابن رحاب بقومه من سعيد، وبلغوا معهم إلى تخوم بلادهم فرجع عنهم رياح إلا دعار بن عيسى وشبل بن ملّوك، ومضوا لوجههم. ولقيتهم جموع سويد، وكان الغلب لبني عامر. وقتل يومئذ شيخ سويد بن عيسى بن عريف وأسر أخوه أبو بكر. ثم من عليه علي بن عمر بن إبراهيم وأطلقه. ولم يتصل الخبر بفاس إلا والناس منصرفون من جنازة السلطان أبي عنان. ثم أجلب أبو حمو بالمغرب على تلمسان فأخذها وغلب عساكر بني مرين عليها، واستوسق ملكه بها. ثم هلك مقير لسنتين أو نحوهما حمل نفسه في جولة فتنة في الحي يروم تسكينها على بعض الفرسان، فاعترضه سنان رمح على غير قصد فأنفذه وهلك لوقته. وولي رياستهم من بعده أخوه خالد بن عامر يرادفه عبد الله ابن أخيه مقير. وخلصت زغبة كلها للسلطان أبي حمو فأساء بني مرين لما كان بينهم من الفتنة واستخدمهم جميعا على مضاربهم وعوائدهم من سويد وبني يعقوب والد يالم والعطاف، حتى إذا كانت فتنة أبي زيان ابن السلطان أبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 سعيد عم أبي حمو كما نذكره في خبرهم جاش مرجل الفتنة من زغبة، واختلفوا على أبي حمو وتقبض على محمد بن عريف أمير سويد لاتهامه إياه بالادهان في أمره، فنزع أخوه أبو بكر وقومه إلى صاحب المغرب عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن سنة سبعين وسبعمائة وجاءوا في قومته واستولى على مواطنهم. ولحق بنو عامر وأبو حمو بالصحراء، وطال ترددهم فيها وسعى عند أبي حمو في خالد من عمومته وأقاربه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، ومعرف هو أخو إبراهيم بن يعقوب، وكان عبد الله هذا بطانة للسلطان وعينا، فاستفسد بذلك قلب خالد وتغير ونبذ إليه عهده، ونزع عنه إلى السلطان عبد العزيز. وجاءت به عساكر بني مرين فأوقع بالسلطان أبي حمو ومن معه من العرب. وهلك عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة فارتحل إلى المغرب هو وعبد الله ابن أخيه مقير، ولحقهم ساسي بن سليم بن داود شيخ بني يعقوب. كان قومه بني يعقوب قتلوا أبناء محمد بن عريف فحدثت بينهم فتنة، ولحق ساسي هذا وقومه بالمغرب، وصحب خالدا يؤمل به الكرة، ويئسوا من صريخ بني مرين لما بينهم من الفتنة، فرجعوا إلى أوطانهم سنة سبع وسبعين وسبعمائة وأضرموا نار الفتنة، وخرجت إليهم عساكر السلطان أبي حمو مع ابنه أبي تاشفين، وزحف معه سويد والديالم والعطاف فأوقعوا بهم على وادي مينا قبلة القلعة. وقتل عبد الله بن مقير وأخوه ملوك في قرابة لهم آخرين، وسار فلهم شريدا إلى الصحراء ولحقوا بالديالم والعطاف، واجتمعوا جميعا إلى سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة، وصاحب وطن تيجه [1] . وكان يتوجس لأبي حمو الخيفة فاتفقوا على الخلاف وبعثوا إلى الأمير أبي زيان بمكانه من وطن رياح فجاءهم وتابعوه، وأمكنه سالم من الجزائر. ثم هلك خالد في بعض تلك الأيام فافترق أمرهم، وولي علي بني عامر المسعود بن مقير، وزحف إليهم أبو حمو في سويد وأوليائه من بني عامر. واستخدم سالم بن إبراهيم، وخرج أبو زيان إلى مكانه من وطن رياح، ولحق المسعود   [1] هي متيجة: بفتح أوله، وكسر ثانية وتشديده ثم ياء مثناة من تحت ثم جيم: بلد في أواخر إفريقية من أعمال بني حماد، قال البكري: الطريق من أشير الى جزائر بني مزغناي ومن أشير الى المدية، وهي بلد جليل قديم، ومنها الى اقزرنة، وهي مدينة على نهر كبير عليه الأرحاء والبساتين ويقال إنها متيجة. (معجم البلدان) قبائل المغرب ص 9. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 ابن عامر وقومه بالقفر. ولحق ساسي بن سليم بيعقوب بن علي وقومه من الزواودة. ثم راجعوا جميعا خدمة السلطان وأوفدوا عليه فأمنهم، وقدموا عليه وأظهروا البر والرحب بالمسعود وساسي، وطوى لهم على السوء. ثم داخل بطانة من بني عامر وسويد في نكبتهم، فأجابوه ومكر بهم، وبعث ابنه أبا تاشفين لقبض الصدقات من قومهم حتى اجتمع له ما أراد من الجموع، فتقبض على المسعود وعشرة من إخوانه بني عامر بن إبراهيم. ونهض أبو تاشفين والعرب جميعا إلى أحياء بني يعقوب وكانوا بسيرات، وقد أرصد لهم سويد بوادي مينا فصبحهم بنو عامر بمكانهم واكتسحوهم. وصار فلهم إلى الصحراء، فاعترضهم أبو تاشفين ببني راشد فلم يبق لهم باقية، ونجا ساسي بن سليم إلى الصحراء في فل قليل من قومه، ونزل على النضر ابن عروة، واستبد برياسة بني عامر سليمان بن إبراهيم بن يعقوب عم مقير ورديفه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، وهو أقرب مكانا من السلطان وخلعه. ثم بعث صاحب المغرب السلطان أبو العباس أحمد بن الولي أبا سالم بالشفاعة في المسعود وإخوانه بوسيلة من ونزمار بن عريف بعد أن كان مداخلا لأبي حمو ولإخوانه في نكبتهم، فأطلقهم أبو حمو بتلك الشفاعة، فعادوا إلى الخلاف، وخرجوا إلى الصحراء، واجتمع إليهم الكثير من أولاد إبراهيم بن يعقوب. واجتمع أيضا فل بني يعقوب من مطارحهم إلى شيخهم ساسي بن سليم ونزلوا جميعا مع عروة. وأوفد إخوانه على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية لهذا العهد منتدبا به وصريخا على عدوه فتلقاه من البر والإحسان ما يناسبه، وأفاض في وفده العطاء وصرفه بالوعد الجميل. وشعر بذلك أبو حمو فبعث من عيونه من اغتاله ووفد بعدها على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية علي بن عمر بن إبراهيم، وهو ابن عم خالد بن محمد وكبير النفر المخالفين من بني عامر على أبي حمو. ووفد معه سليمان بن شعيب بن عامر فوفدوا عليه بتونس يطلبون صريخه، فأجابهم ووعدهم وأحسب الإحسان والمبرة أمامهم، ورجعوا إلى قومهم. ثم راجع علي بن عمر خدمة أبي حمو وقدمه على بني عامر، وأدال به من سليمان بن إبراهيم بن عامر، فخرج سليمان إلى أهل بيته من ولد عامر بن إبراهيم الذين بالصحراء ونزلوا مع بني يعقوب بأحياء أبي بكر بن عريف، وهو على ذلك لهذا العهد. والله مقدر الليل والنهار أهـ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 (عروة بن زغبة) وأما عروة بن زغبة فهم بطنان: النضر بن عروة وخميس بن عروة. وبطون خميس ثلاثة: عبيد الله وفرغ ويقظان. من بطون فرغ بنو قائل أحلاف أولاد يحيى من المعمور القاطنين بجبل راشد. وبنو يقظان وعبيد الله أحلاف لسويد يظعنون لظعنهم ويقيمون لإقامتهم، ورياستهم لأولاد عابد من بطن راشد. وأمّا النضر بن عروة فمنتبذون بالقفر ينتجعون في رماله ويصعدون إلى أطراف التلول في إيالة الديالم والعطاف وحصين وتخوم أوطانهم، وليس لهم ملك ولا أقطاع لعجزهم عن دخول التلول بلغتهم وممانعة بطون زغبة الآخرين عنها إلّا ما تغلّبوا عليه في أذناب الوطن بجبل المستند مما يلي وطن رياح، يسكنه قوم من غمرة وزناتة استمرّ عليهم غلب العرب منذ سنين. فوضع النضر هؤلاء عليهم الإتاوة وأصاروهم خولا ورعية. وربما نزل منهم مع هؤلاء البرابر من عجز عن الظعن في بيوتهم ولهم بطون مذكورة أولاد خليفة والخماننة وشريعة السحاوى [1] وذوي زيّان وأولاد سليمان، ورياستهم جميعا في أولاد خليفة بن النضر بن عروة، وهي لهذا العهد لمحمد بن زيّان بن عسكر ابن خليفة، ورديفه سمعون بن أبي يحيى بن خليفة بن عسكر، وأكثر السحارى موطنون بجبل المستند الّذي ذكرناه، ورياستهم في أولاد [2] وناجعة هؤلاء النضر أحلاف لزغبة دائما، فتارة للحرب وحصين جيرانهم في المواطن، وتارة لبني عامر في فتنتهم مع سويد، وندبتهم مع بني عامر فيما يزعمون بأبي قحافة وسمعت من مشايخهم أنه ليس بأب لهم، وإنما هو اسم واد كان به حلفهم قديما، وربّما يظاهرون سويدا على بني عامر، إلّا أنه في الأقل والندرة. وهم إلى حلف بني عامر أقرب وأسرع لما ذكرناه، وربّما ظاهروا رياحا بعض المرّات في فتنتهم لجوار الوطن، إلا أنه قليل أيضا وفي النادر. ويتناولون في الأكثر مع البادية من رياح مثل مسلم   [1] وفي النسخة التونسية: أولاد خليفة والحماقنة وشريفة والسحارى. [2] بياض بالأصل ولم نستطع إملاء الفراغ من المراجع التي بين أيدينا، ولكن في العبارة السابقة يذكر ابن خلدون ان رئاسة أولاد خليفة والخماننة وشريعة والسحارى في أولاد خليفة بن النضر بن عروة. (راجع قبائل المغرب ص 423) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 وسعيد، وربما وقعت بينهم حروب في القفر يصيب فيها بعض من دماء بعض، هذه بطون زغبة وما تأدّى إلينا من أخبارهم. وللَّه الخلق والأمر وهو رب العالمين . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 (الخبر عن المعقل من بطون هذه الطبقة الرابعة وأنسابهم وتصاريف أحوالهم) هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى مجاورون لبني عامر من زغبة في مواطنهم بقبلة تلمسان، وينتهون إلى البحر المحيط من جانب الغرب، وهم ثلاثة بطون : ذوي عبيد الله وذوي منصور وذوي حسان. فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر ومواطنهم بين تلمسان وتاوريرت في التل وما يواجهها من القبلة. ومواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على ملوية كلها الى سجلماسة [1] وعلى درعة وعلى ما يحاذيها من التل مثل تازي وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمقدر. ومواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط، وينزل شيوخهم بلاد نول [2] قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما إليه، وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة [3] مستوفة ولمتونة. وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال إنهم لم يبلغوا المائتين. واعترضهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيّزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم ونزلوا بآخر مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت، وجاوروا زناتة في القفار والغربية فعفوا وكثروا وأنبتوا في صحارى المغرب الأقصى، فعمروا رماله وتغلبوا في فيافيه. وكانوا هناك أحلافا لزناتة سائر أيامهم. وبقي منهم بإفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب بن سليم وداخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان، واستئلاف العرب. فلما ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا إلى الأمصار والمدن. قام هؤلاء المعقل في القفار وتفردوا في البيداء فنموا نموا لا كفاء له، وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة   [1] سجلماسة: مدينة تاريخية اندثرت الآن أسسها بنو مدرار في القرن الهجريّ الثاني وأصبحت عاصمة للخوارج الى ان فتحها قائد الفاطميين جوهر الصيقلي وتأسست بها الدولة الفاطمية في أواسط القرن الرابع الهجريّ واستمرت عمارة المدينة الى القرن العاشر (كتاب المغرب/ 126) - المعجم التاريخي/ 32 معجم البلدان، راجع القلقشندي «صبح الأعشى ج 2 ص 180) . [2] نوال: مدينة في جنوبي بلاد المغرب. هي حاصرة لمطة فيها قبائل من البربر وهي في غربي تينزرمت. [3] كدالة: ناحية في جبال إفريقية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 بالقفر مثل قصور السوس غربا، ثم توات ثم جودة [1] ثم تامنطيت. ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم تيكورارين شرقا، وكل واحد من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل وأنهار وأكثر سكانها من زناتة، وبينهم فتن وحروب على رياستها، فجاز عرب المعقل هؤلاء الأوطان في مجالاتهم ووضعوا عليها الأتاوات والضرائب، وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكا. وكانوا من تلك السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها حمل الرحيل. وكان لهم الخيار في تعيينها. ولم يكن هؤلاء العرب يستبيحون من أطراف المغرب وحلوله [2] حمى، ولا يعرضون لسابلة سجلماسة ولا غيرها من بلاد السودان بأذية ولا مكروه لما كان بالمغرب من اعتزاز الدين وسد الثغور وكثرة الحامية أيام الموحدين وزناتة بعدهم. وكان لهم بإزاء ذلك اقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى، وفيهم من مسلم سعيد بن رياح والعمور من الأثبج، وعددهم كما قلنا قليل. وإنما كثروا بمن اجتمع إليهم من القبائل من غير نسبهم فإن فيهم من فزارة من أشجع أحياء كبيرة، وفيهم الشظة من كرفة والمهاية من عياض، والشعراء من حصين والصباح من الأخضر ومن بني سليم وغيرهم. (وأما أنسابهم عند الجمهور) فخفية ومجهولة، وسلافة العرب من هلال يعدونهم من بطون هلال وهو غير صحيح، وهم يزعمون أن نسبهم في أهل البيت إلى جعفر بن أبي طالب وليس ذلك أيضا بصحيح، لأن الطالبيين والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة. والصحيح والله أعلم من أمرهم أنهم من عرب اليمن، فإن فيهم بطنين يسمى كل واحد منهما بالمعقل، ذكرهما ابن الكلبي وغيره، فأحدهما من قضاعة بن مالك بن حمير وهو معقل بن كعب بن غليم بن خباب بن هبل بن عبد الله بن كنانة ابن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد بن اللات بن رفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. والآخر من بني الحرث بن كعب ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن   [1] جوده: وادي في اليمن وليس هو المقصود وفي نسخة أخرى بودة ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان ولعلها بورة مدينة على ساحل بحر مصر قرب دمياط. [2] وفي نسخة أخرى: تلولة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 غريب بن زير بن كهلان، وهو معقل واسمه ربيعة بن كعب بن كعب بن الحرث. والأنسب أن يكونوا من هذا البطن الآخر الّذي من مذحج، كان اسمه ربيعة، وقد عده الأخباريون في بطون هلال الداخلين إلى إفريقية، لأن مواطن بني الحرث بن كعب قريب من البحرين حيث كان هؤلاء العرب مع القرامطة قبل دخولهم إلى إفريقية. ويؤيده أن ابن سعيد لما ذكر مذحج وأنهم بجهات الجبال من اليمن، وذكر من بطونهم زبيد ومراد. ثم قال: وبإفريقية منهم فرقة وبرية ترتحل وتنزل، وهؤلاء الذين ذكر إنما هم المعقل الذين هم بإفريقية، وهم فرقة من هؤلاء الذين بالمغرب الأقصى. (ومن إملاء نسابتهم) أن معقل جدهم له من الولد سحير ومحمد، فولد سحير [1] عبيد الله وثعلب، فمن عبيد الله ذوي عبيد الله البطن الكبير منهم. ومن ثعلب الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر، وولد محمد: مختار ومنصور وجلال وسالم وعثمان. فولد مختار بن محمد: حسان وشبانه، فمن حسان ذوي حسان البطن المذكور أهل السوس الأقصى. ومن شبانة الشبانات جيرانهم هنالك. ومنهم بطنان: بنو ثابت وموطنهم تحت جبل السكسيوي من جبال أدرن وشيخهم لهذا العهد أو ما قبله يعيش بن طلحة. والبطن الآخر آل علي، وموطنهم في برية هنكيسة تحت جبل كزولة، وشيخهم لهذا العهد أو ما قرب منه حريز بن علي. ومن جلال سالم وعثمان الرقيطات بادية لذوي حسان ينتجعون معهم. وولد منصور بن محمد حسن وأبو الحسين وعمران وشب [2] يقال لهم جميعا ذوي منصور، وهو أحد بطونهم الثلاثة المذكورة. والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم.   [1] وفي النسخة التونسية صقيل. [2] وفي نسخة اخرى ونسبا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 (ذوى عبيد الله) فأما ذوي عبيد الله فهم المجاورون لبني عامر بن زغبة من سلطان بني عبد الواد من زناتة، فمواطنهم من بين تلمسان إلى وحدة إلى مصب وادي ملوية في البحر ومنبعث وادي صا من القبلة. وتنتهي رحلتهم في القفار إلى قصور توات وتمنطيت، وربما عاجوا إلى ذات الشمال إلى تاسابيت وتوكرارين، وهذه كلها رقاب القفر إلى بلد السودان. وبينهم وبين بني عامر فتن وحروب موصولة. وكان لهم مع بني عبد الواد مثلها قبل السلطان والدولة، فما كانوا أحلافا لبني مرين. وكان المنبات من ذوي منصور أحلافا لبني عبد الواد فكان يغمراسن يوقع بهم أكثر أوقاته وينال منهم إلى أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 صحبوا بسبب الجوار، واعتزت عليهم الدولة فأعطوا الصدقة والطوائل وعسكروا مع. السلطان في حروبه. ولم يزل ذلك إلى أن لحق الدولة الهرم الّذي يلحق مثلها فوطنوا التلول، وتملكوا وجدة. وندرومة وبني يزناسن ومديونة وبني سنوس إقطاعا من السلطان إلى ما كان لهم عليها قبل من الأتاوات والوضائع فصار معظم جبايتها لهم، وضربوا على بلد هنين بالساحل ضريبة الإجازة منها إلى تلمسان، فلا يسير ما بينهما مسافر أيام حلولهم بساحتها إلا بإجازتهم، وعلى ضريبة يؤديها إليهم. وهم بطنان الهراج والخراج، فالخراج من ولد فراج بن مطرف بن عبيد الله، ورياستهم في أولاد عبد الملك وفرج بن علي بن أبي الريش بن نهار بن عثمان بن خراج، لأولاد عيسى بن عبد الملك ويعقوب بن عبد الملك ويغمور بن عبد الملك. وكان يعقوب بن يغمور شيخهم لعهد السلطان أبي الحسن، ولما تغلب على تلمسان استخدم له عبيد الله هؤلاء وكان يحيى بن العز من رجالة بني يزناسن أهل الجبل المطل على وجدة. وكان له قدم في خدمة الدول فاتصل بالسلطان أبي الحسن ورغبه في ملك قصور هذه الصحراء، فبعثه مع هؤلاء العرب في عسكر، ودخل معهم إلى الصحراء وملك تلك القصور واستولى عليها. وأسف عبيد الله بانتزاع أملاكهم وسوء المعاملة لهم، فوثبوا به وقتلوه في خبائه وانتهبوا عسكر السلطان الذين معه ونقضوا الطاعة. وفر يعقوب بن يغمور فلم يزل شريدا بالصحراء سائر أيامه، ورجع بعد ذلك. ثم عادت دولة بني عبد الواد فصدوا في ولايتها، فلم يزل على ذلك، وخلفه ابنه طلحة، وكان أيام خلاف يعقوب وانتقاضه رأس على الخراج من أهل بيته منصور ابن يعقوب بن عبد الملك وابنه رحّو من بعده. وجاء أبو حمو فكان له في خدمته ومخالطته قدم، فقدمه شيخا عليهم. فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين رحو بن منصور ابن يعقوب بن عبد الملك وبين طلحة بن يعقوب المذكور آنفا، وربما نازعه. ولهم بطون كثيرة فمنهم الجعاونة من جعوان بن خراج، والغسل من غاسل بن خراج، والمطارفة من مطرف بن خراج، والمهايا من عثمان بن خراج، وفيهم رياستهم كما قلناه، ومعه الناجعة يسمون بالمهايا ينسبون تارة إلى المهايا بن عياض، وقدمنا ذكرهم. وتارة إلى مهايا بن مطرف، وأما الهراج فمن ولد الهراج بن مهدي بن محمد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 ابن عبيد الله، ومواطنهم في ناحية المغرب عن الخراج فيجاورون بني منصور ولهم تاوربرت وما إليها. وخدمتهم في الغالب لبني مرين وأقطاعاتهم من أيديهم، ومواطنهم تحتهم، ورجوعهم إلى عبد الواد في الأقل، وفي بعض الأحايين ورياستهم في ولد يعقوب بن هبا بن هراج لأولاد مرين بن يعقوب، وأولاد مناد بن رزق الله ابن يعقوب، وأولاد فكرون بن محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب من ولد حريز بن يحيى الصغير بن موسى بن يوسف بن حريز، كان شيخا عليهم أيام السلطان عبد العزيز، وهلك عقبه، ورأس عليهم ابنه. ومن ولد مناد أبو يحيى الكبير بن مناد كان شيخا قبل أبي يحيى الصغير، وبالإضافة إليه وصف بالصغير. ومنهم أبو حميدة محمد بن عيسى بن مناد وهو لهذا العصر رديف لشيخهم من ولد أبي يحيى الصغير، وهو كثير التقلب في القفار والغزو للقاصية ولأهل الرمال والملثمين. والله مالك الملوك لا رب غيره ولا معبود سواه وهو نعم المولى ونعم النصير . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 (الثعالبة) وأما الثعالبة إخوتهم من ولد ثعلب بن عليّ بن بكر بن صغير [1] أخي عبيد الله بن صغير، فموطنهم لهذا العهد بمتيجة من بسيط الجزائر، وكانوا قبلها بقطيري مواطن حصين لهذا العهد، نزلوها منذ عصور قديمة، وأقاموا بها حيا حلولا. ويظهر أن نزولهم لها حين كان ذوي عبيد الله في مواطن بني عامر لهذا العهد، وكان بنو عامر في مواطن بني سويد فكانت مواطنهم لذلك العهد متصلة بالتلول الشرقية فدخلوا من ناحية كزول وتدرّجوا في المواطن إلى ضواحي المدينة، ونزلوا جبل تيطري وهو جبل أشير الّذي كانت فيه المدينة الكبيرة. فلما تغلب بنو توجين على التلول وملكوا وانشريش زحف محمد بن عبد القوى إلى المدينة فملكها، وكانت بينهم وبينه حروب ومسلم إلى أن وفدت عليه مشيختهم، فتقبض عليهم وأغزى من وراءهم من بقية الثعالبة واستلحمهم واكتسح أموالهم. وغلبهم بعدها على تيطري وأزاحهم عنها إلى متيجة، وأنزل قبائل حصين بتيطري وكانوا معه في عداد الرعايا يؤدون إليه المغارم والوظائف، ويأخذهم بالعسكرة معه ودخل الثعالبة هؤلاء في إيالة ملكيش [2] من صنهاجة ببسيط متيجة، وأوطنوا تحت ملكتهم. وكان لهم عليهم سلطان كما نذكره. حتى إذا غلب بنو مرين على المغرب الأوسط وأذهبوا ملك ملكيش منها، استبد الثعالبة هؤلاء بذلك البسيط وملكوه. وكانت رياستهم في ولد سباع بن ثعلب بن علي بن مكر بن صغير. ويزعمون أن سباعا هذا كان إذا وفد على الموحدين يجعلون من فوق عمامته دينارا يزن عددا من الدنانير سابقة في تكرمته وترفيعه. (وسمعت) من بعض مشيختنا أن ذلك لما كان من كرامته للإمام المهدي حين أجاز بهم فإنه مرّ بهم ساعيا فحملوه واستقرت الرئاسة في ولد سباع هذا في بني يعقوب بن سباع أولا، فكانت لهم مددا. ثم في عقب حنيش منهم. ثم غلب السلطان أبو   [1] وفي النسخة التونسية: ثعلب بن علي بن مكن صقيل أخي عبيد الله بن صقيل. [2] وفي النسخة التونسية: مليكش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 الحسن على ممالك بني عبد الواد ونقلهم إلى المغرب، وصارت الولاية لهم لأبي الحملات بن عائد بن ثابت، وهو ابن عم حنيش وهلك في الطاعون الجارف أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس، فولى عليهم أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس، فولى عليهم إبراهيم بن نصر. ولم تزل رياستهم إليه إلى أن هلك بعد استيلاء السلطان أبي عنان عن المغربين كما نذكره في أخباره وقام برياستهم ابنه سالم، وكانوا أهل مغارم ووضيعه لملكيش ومن بعدهم من ولاة الجزائر، حتى إذا هبت ريح العرب أيام خروج أبي زيان وحصين على أبي حمو أعوام ستين وسبعمائة كما ذكرناه. وكان شيخهم لذلك العهد سالم بن إبراهيم بن نصر بن حنيش بن أبي حميد بن ثابت بن محمد بن سباع، فأخب في تلك الفتنة وأوضع، وعاقد أبو حمو وانتقض عليه مرارا، وغلب بنو مرين على تلمسان فتحيز إليهم. وكانت رسله ووفده تقدموا إليهم بالمغرب. ثم هلك السلطان عبد العزيز ورجع أبو حمو إلى ملكه، ونزلت الغوائل فخشيه سالم. واستدعى أبا زيان ونصبه بالجزائر، وزحف إليه أبو حمو سنة تسع وسبعين [وسبعمائة] ففض جمعه وراجع سالم خدمته. وفارق أبا زيان كما نذكره في أخباره. ثم زحف إليه أبو حمو وحاصره بجبال متيجة أياما قلائل، واستنزله على عهده. ثم أخفره وتقبض عليه وقاده إلى تلمسان أسيرا وقتله قعصا بالرماح وذهب أثره وما كان له من الرئاسة التي لم تكن الثعالبة لها بأهل. ثم تتبع إخوانه وعشيرة وقبيله بالقتل والسبي والنهب إلى أن دثروا، والله يخلق ما يشاء . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 (ذوي منصور) وأما أولاد منصور بن محمد فهم معظم هؤلاء المعقل، وجمهورهم ومواطنهم تخوم المغرب الأقصى من قبلته ما بين ملوية ودرعة. وبطونهم أربعة: أولاد حسين وأولاد أبي الحسين وهما شقيقان، والعمارنة أولاد عمران، والمنبات أولاد منبا وهما شقيقان أيضا. ويقال لهذين البطنين جميعا الأحلاف. فأما أولاد أبي الحسن فعجزوا عن الظعن ونزلوا قصورا اتخذوها بالقفر ما بين تافييلات وتيكورارين. وأما أولاد حسين فهم جمهور ذوي منصور، ولهم العزّة عليهم ورياستهم أيام بني مرين في أولاد خالد ابن جرمون بن جرار بن عرفة بن فارس بن علي بن فارس بن حسين بن منصور، كانت أيام السلطان أبي الحسن لعلي بن غانم. وهلك إثر كائنة طريف. وصارت لأخيه يحي، ثم لابنه عبد الواحد بن يحيى، ثم لأخيه زكريا، ثم لابن عمه أحمد ابن رحو بن غانم، ثم لأخيه يعيش، ثم لابن عمه يوسف بن علي بن غانم لهذا العهد. وكانت لبني مرين فيهم وقائع أيام يعقوب بن عبد الحق وابنه يوسف، وسيأتي في أخبار بني مرين غزوة يوسف بن يعقوب من مراكش إليهم، وكيف أوقع بهم بصحراء درعة. ولما أقام بالشرق على تلمسان محاصرا لها أحلف هؤلاء العرب من المعقل على أطراف المغرب ما بين درعة وملوية إلى تاوريرت. وكان العامل يومئذ بدرعة عبد الوهاب بن صاعد من صنائع الدولة وكبار ولاتها، فكانت بينه وبينهم حروب قتل في بعضها. ثم هلك يوسف بن يعقوب ورجع بنو مرين إلى المغرب، فأخذوا منهم بالثأر حتى استقاموا على الطاعة. وكانوا يعطون الصدقة أطوع ما يكون إلى أن فشل ريح الدولة، واعتزّت العرب فصاروا يمنعون الصدقة إلا في الأقل يغلبهم السلطان على إعطائها. ولما استولى السلطان أبو عنان على تلمسان أعوام خمسين وسبعمائة وفرّ صغير بن عامر إلى الصحراء ونزل عليهم واستجار بهم فأجاروه. ونزل السلطان عليهم ذلك فأجمعوا نقض طاعته وأقاموا معه بالصحراء وصغير متولي كبر ذلك الخلاف، حتى إذا هلك أبو عنان وكان من سلطان أبي حمو بتلمسان ما نحن ذاكروه، وزحف بنو مرين إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 تلمسان ففرّ منها أبو حمو وصغير، ونزلوا عليهم فأوقعوا بعسكر بني مرين بنواحي تلمسان، واتسع الخرق بينهم وبين بني مرين فانحازوا إلى أبي حمو وسلطانه، وأقطعهم بضواحيه. ثم رجعوا إلى أوطانهم بعد مهلك السلطان أبي سالم أعوام ثلاث وستين [وسبعمائة] على حين اضطراب المغرب بفتنة أولاد السلطان أبي عليّ ونزولهم بسجلماسة، فكان لهم في ذلك الفتنة آثار إلى أن انقشعت. ثم كان لأحمر بن رحو مع أبي حمو جولة وأجلب عليه بأبي زيان حافد أبي تاشفين فقتل في تلك الفتنة كما نذكره. ثم اعتدوا على الدولة من بعد ذلك وأكثر مغارم درعة لهذا العهد. وأقطع لهم ببلاد تادلا والمعرر [1] من تلك الثنايا التي منها دخولهم إلى المغرب للمربع والمصيف ولميرات الأقوات. وسجلماسة من مواطن إخوانهم الأحلاف كما نذكره، وليست من مواطنهم، فأما درعة فهي من بلاد القبلة موضوعة حفا في الوادي الأعظم المنحدر من جبل درن من فوهة يخرج منها وادي أم ربيع، ويتساهل إلى البسائط والتلول ووادي دريعة ينحدر إلى القبلة مغربا إلى أن يصب في الرمل ببلاد السوس، وعليه قصور درعة، وواد آخر كبير أيضا ينحدر إلى القبلة مشرقا بعض الشيء إلى أن يصب في الرمل دون تيكورارين وفي قبلتها. وعليه من جهة المغرب قصور توات، ثم بعدها تمنطيت، ثم بعدها وركلان. وعندها يصب في الرمل، وفي الشمال عن ركان قصور تسابيت. وفي الشمال عنها إلى الشرق قصور تيكورارين، والكل وراء عرب الرمل. وجبال درن هي الجبال العظيمة الجاثمة سياجا على المغرب الأقصى من آسفي إلى تازي، وفي قبلتها جبل نكيسة لصنهاجة، وآخره جبل ابن حميدي من طرف هسكورة. ثم ينعطف من هنالك جبال أخرى متوازية حتى تنتهي إلى ساحل بادس من البحر الرومي. وصار المغرب لذلك كالجزيرة أحاطت الجبال به من القبلة والشرق والبحر ومن المغرب والجوف. واعتمر هذه الجبال والبسائط التي بينها أمم من البربر لا يحصيهم إلا خالقهم، والمسالك بين هذه الجبال إلى المغرب منحصرة، ثم معدودة، وبإزاء القبائل المعتمرين لها كاظة. ومصب وادي درعة هذا إلى الصحراء والرمال ما بين سجلماسة وبلاد السوس، ويمتدّ إلى أن يصب في البحر ما بين نون ووادان، وحفافيه   [1] وفي نسخة أخرى المعدن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 قصور لا تحصى، شجرتها النخل وقاعدتها بلد تادنست [1] بلد كبير يقصده التجر للسلم في النيلج، وانتظار خروجه بالصناعة. ولأولاد حسين هؤلاء استيلاء على هذا الوطن ومن بإزائه في فسيح جبلة من قبائل البربر صناكة وغيرهم. ولهم عليهم ضرائب وخفرات ووضائع. ولهم في مجابي السلطان أقطاعات ويجاورهم الشبانات من أولاد حسان من ناحية الغرب، فلهم بسبب ذلك على درعة بعض الأتاوات. (وأما الأحلاف) من ذوي منصور وهم العمارنة والمنبات فمواطنهم مجاورة لأولاد حسين من ناحية الشرق. وفي مجالاتهم بالقفر تافيلات، وصحراؤها. وبالتل ملويّة وقصور وطاط وتازي وبطوية وغساسة، لهم على ذلك كله الأتاوات والوضائع، وفيها الأقطاعات السلطانية. وبينهم وبين أولاد حسين فتنة، ويجمعهم العصبية في فتنة من سواهم. ورياسة العمارنة في أولاد مظفر بن ثابت بن مخلف بن عمران، وكان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان طلحة بن مظفر وابنه الزبير. ولهذا العهد محمد بن الزبير وأخوه موسى، ويرادفهم في رياستهم أولاد عمارة بن قلان بن مخلف، فكان منهم محمد العائد. ومنهم لهذا العهد سليمان بن ناجي بن عمارة ينتجع في القفر ويكثر الغزو إلى اعتراض العير وقصور الصحراء. ورياسة المنبات لهذا العهد لمحمد بن عبد بن حسين بن يوسف بن فرج بن منبا، وكانت أيام السلطان أبي عنان لأخيه عليّ من قبله وترادفهم في رياستهم ابن عمهم عبد الله بن الحاج عامر بن أبي البركات بن منبا. والمنبات والعمارنة اليوم إذا اجتمعوا جميعا يكثر أولاد حسين. وكان للمنبات كثرة لأول دولة بني مرين. وكان خلفهم مع بني عبد الواد. وكان مقدمه يغمراسن بن زيان في افتتاح سجلماسة، وتملكها من أيدي الموحدين. ثم تغلب بنو مرين عليها وقتلوا من حاربها من مشيختهم مع بني عبد الواد، ثم أوقعوا بالمنبات من بعد ذلك في مجالاتهم بالقفر واستلحموهم، فنقص عددهم لذلك آخر الأيام، والله مالك الأمور لا رب سواه [2] .   [1] وفي النسخة الباريسية: تيديسي. [2] وفي بعض نسخ هذا الكتاب ورد هذا المقطع فرأينا اضافتها الى نسختنا هذه متوخين من ذلك كله افادة القارئ الكريم. مواطن العثامنة تلي مواطن بني منصور من جانب الغرب، ويليهم أولاد سالم. وفي حيز مواطنهم درعة، ولهم عليها القفر. ويليهم أولاد جلال عند منتهى عمارة درعة مما يلي المغرب والقبلة. ويليهم غربا الى البحر الشبانات وهم أولاد عليّ وأولاد بو ثابت وأولاد حسّان وراءهم من ناحية القبلة والغرب، وينزلون مواطنهم بالغلب الّذي لهم عليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 (ذوي حسان عرب السوس) وأمّا بنو مختار بن محمد فهم كما قدّمناه: ذوي حسان والشبانات والرقيطات. ومنهم أيضا الجياهنة وأولاد أبو رية [1] ، وكانت مواطنهم بنواحي ملوية إلى مصبه في البحر مع إخوانهم ذوي منصور وعبيد الله إلى أن استصرخهم علي بن يدر الزكندري صاحب السوس من بعد الموحدين. ونسبه ابن عمه في عرب الفتح. وكانت بينه وبين كزولة الظواعن ببسائط السوس. وجباله فتنة طويلة استصرخ لها بني مختار هؤلاء فصارخوه وارتحلوا إليه بظعونهم، وحمدوا مواطن السوس لعدم المزاحم من الظواعن فيها فأوطنوها. وصارت مجالاتهم بقفرها وغلبوا كزولة وأصاروهم في جملتهم ومن ظعونهم وغلبوا على القصور التي بتلك المواطن في سوس ونول. ووضعوا عليها الأتاوات مثل تارودانت من سوس، وهي ضفّة وادي سوس حيث يهبط من الجبل، وبين مصبه ومصب وادي ماسة حيث الرباط المشهور مرحلة إلى القبلة. ومن هناك إلى زوايا أولاد بني نعمان مرحلة أخرى في القبلة على سائر البحر، وتواصت على وادي نول حيث يدفع من جبل نكيسة غربا، وبينها وبين إيفري مرحلة، والعرب لا يغلبونها وإنما يغلبون على البسائط في نواحيها. وكانت هذه المواطن لعهد الموحّدين من جملة ممالكهم وأوسع عمالاتهم. فلما انقرض أمر الموحدين حجبت عن ظل الدولة وخرجت عن إيالة السلطان إلا ما كان بها لبني يدر هؤلاء الذين قدّمنا ذكرهم. وكان علي بن يدر مالكا لقصورها، وكان له من الجند نحو ألف فارس، وولي من بعده عبد الرحمن بن الحسن بن يدر، وبعده أخوه علي بن الحسن. وكان لعبد الرحمن معهم حروب وفتن بعد استظهاره بهم، وهزموه مرّات متتابعة أعوام خمس وسبعمائة وما بعده، وغدر هو بمشيختهم وقتلهم بتارودانت سنة ثمان وسبعمائة من بعد ذلك. وكان لبني مرين على هؤلاء المعقل السوس وقائع وأيام، وظهر يعقوب بن عبد الحق ببني مرين في بعضها الشبانات على بني حسان واستلحم منهم عددا، وحاصرهم يوسف بن يعقوب بعدها فأمسكوها وأغرمهم ثمانية عشر   [1] وفي نسخة أخرى: أولاد برية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 ألفا، وأثخن فيهم يوسف بن يعقوب ثانية سنة ست وثمانين وسبعمائة وحاربتهم جيوشه أيضا أياما لحق بهم بنو كمي من بني عبد الواد، وخالفوا على السلطان، فتردّدت إليهم العساكر واتصلت الحروب كما نذكر في أخباره. (ولما استفحل) أمر زناتة بالمغرب وملك أبو علي ابن السلطان أبي سعيد سجلماسة واقتطعها عن ملك أبيه بصلح وقع على ذلك، انضوى إليه هؤلاء الأعراب أهل السوس من الشبانات وبني حسان، ورغبوه في ملك هذه القصور فأغزاها من تخوم وطنه بدرعة ودخل القرى عنوة. وفرّ عليّ بن الحسن وأمّه إلى جبال نكيسة عند صنهاجة ثم رجع. ثم غلب السلطان أبو الحسن واستولى على المغرب كلّه. ورغبه العرب في مثلها من قصور السوس، فبعث معهم عساكره، وقائده حسون بن إبراهيم بن عيسى من بني يرنيان فملكها، وجبى بلاد السوس وأقطع فيه للحرب، وساسهم في الجباية فاستقامت حاله مدّة. ثم انقرض أمر السلطان أبي الحسن فانقرض ذلك، ورجع السوس إلى حاله وهو اليوم ضاح من ظل الدولة، والعرب يقتسمون جبايته، ورعاياه من قبائل المصامدة وصنهاجه قبائل الجباية. والظواعن منهم يقتسمونهم خولا للعسكرة مثل كزولة مع بني حسّان وزكرز ولخس من لمطة مع الشبانات، هذه حالهم لهذا العهد. ورياسة ذوي حسان في أولاد أبي الخليل بن عمر بن عفير بن حسن بن موسى بن حامد بن سعيد ابن حسان بن مختار لمخلوف بن أبي بكر بن سليمان بن الحسن بن زيان بن الخليل ولإخوانه. ولا أدري رياسة الشبانات لمن هي منهم، إلا أنهم حرب لبني حسان آخر الأيام والرقيطات في غالب أحوالهم أحلاف للشبانات، وهم أقرب إلى بلاد المصامدة وجبال درن وذوي حسان أبعد في القفر، والله تعالى يخلق ما يشاء لا إله إلا هو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 (الخبر عن بني سليم بن منصور من هذه الطبقة الرابعة وتعديد بطونهم وذكر أنسابهم وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم ونبدأ أولا بذكر بني كعب وأخبارهم. وأمّا بني سليم [1] هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعا، وكانت منازلهم بنجد. وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وفيهم شعوب كثيرة ورياستهم في الجاهلية لبني الشريد ابن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم، وعمرو بن الشريد عظيم مضر، وأبناؤه: صخر ومعاوية، فصخر أبو الخنساء وزوجها العباس ابن مرداس صحابي حضرت معه القادسية. (ومن بطون سليم) عطية [2] ورعل وذكوان اللذين دعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فتكوا بأصحابه فخمد ذكرهم. وكان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي وفتنة، حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوّج فيهم. وكانوا يغيرون على المدينة وتخرج الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم وهم منتبذون بالقفر، ولما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر وبنيه أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب. ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم. ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه، وطردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر. وأجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى إفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولا، فأجازوا مع الهلاليين وأقاموا ببرقة وجهات طرابلس زمانا ثم صاروا إلى إفريقية كما يذكر في الخبر عنهم. وبإفريقية وما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون. زغب وذياب وهبيب   [1] كان بنو عقيل وبنو تغلب وبنو سليم يسكنون بالبحرين وكان أظهرهم في الكثرة والعز بنو تغلب، ثم اجتمع بنو تغلب وبنو عقيل على سليم حتى أخرجوهم من البحرين ودخلوا الى مصر فأقام بها بعض وسار البعض الآخر الى افريقيا من بلاد المغرب. (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) . [2] وفي نسخة ثانية عصيّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 وعوف [1] فاما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته: زغب بن نصر بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم. وقال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامة: أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف. وزعم أنه أبو ذياب، وزغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بإفريقية. وقال أبو الحسن بن سعيد: هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم، كانوا بين الحرمين وهم الآن بإفريقية مع إخوانهم، ونسب ذياب بن مالك بن بهنة فاللَّه أعلم بالصحيح من ذلك. ونسب ابن سعيد والتجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض ولعله واحد، وسقط لابن سعيد جدّ وأما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من أول أرض برقة مما يلي إفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية، أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى إفريقية. وأوّل ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية وجهاتها، وهم عديد يرهبهم الحاج ويرجعون إلى شماخ لها عدد ولهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الّذي منه المرج. وفي شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد، وهم بطون عديدة. وبين شماخ ولبيد فتن وحروب. وفي شرقيهم إلى العقبة الصغيرة. شمال محارب والرئاسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز وهم المعروفون بالعزة، وجميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خرّبوا مدنه، ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم، وفي خدمتهم بربر ويهود يحترفون بالفلاحة والتجر، ومعهم من رواحة وفزارة أمم، واشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب. ولا أدري نسبه فيمن هو وهم يقولون من العزة وقوم يقولون من بني أحمد، وقوم يجعلونه من فزارة هنالك قليل عددهم والغلب لهيب، فكيف تكون الرئاسة لغيرهم؟ وأما عوف فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة، ولهم   [1] وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: زغب: بطن من بهته من سليم وكانت ديارهم بين الحرمين ثم انتقلوا الى المغرب، فسكنوا بإفريقية، جوار قومهم من بني ذباب. وذباب بطن من بهثة من سليم أرضهم بين طرابلس وقابس من بلاد المغرب واما هيب من بهتة من سليم ومساكنهم من السدرة من برقه الى العقبة الكبيرة. ثم الصغيرة من حدود الاسكندرية. وبنو عوف من بهتة من سليم. قال الحمداني: ومنهم في الصعيد والغيوم والبحيرة أناس كثيرة وفي برقه الى المغرب منهم ما لا يحصى، قال في العبر وديارهم في المغرب فيما بين قابس وبلد العناب من إفريقية وينقسمون الى مرداس وعلاف. واما بالنسبة لزغب فهو زغب بن مالك بن عوف بن امرئ القيس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 حرمان عظيمان بمرداس ولعلاق [1] بطنان بنو يحيى وحصن، وفي أشعار هؤلاء المتأخّرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب وغيره، أن يحيى وعلاقا أخوان ولبني يحيى ثلاثة بطون: حمير ودلاج، ولحمير بطنان: ترجم وكردم، ومن ترجم الكعوب [2] بنو كعب بن أحمد بن ترجم، ولحصن بطنان بنو علي وحكيم. ونحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطنا بطنا. وكانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه. وهنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربيّ وأبوه حين غرقت سفينتهم ونجوا إلى الساحل، فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته. ولما كانت فتنة ابن غانية وقراقش الغزّي بجهات طرابلس وقابس وضواحيها كما نذكر في أخبارهم. كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب أو شاب القبائل فاعصوصبوا عليهم، وكان لهم معهم حروب، وقتل قراقش ثمانين من الكعوب وهربوا إلى برقة، واستصرخوا برياح من بطون سليم، ودبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلّت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش وابن غانية من بعده. وكان رسوخ الدولة الحفصية بإفريقية. ولما هلك قراقش واتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص، ورجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب إفريقية. وكان ابن غانية الزواودة من رياح، وشيخهم مسعود البلط، فر من المغرب ولحق به، فكان معه هو وبنوه، وبنو عرف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد. فلما استبدّ ابنه الأمير أبو زكريا بملك إفريقية رجعوا جميعا إليه والشفوف للزواودة. فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من إفريقية لما كانوا عليه من العيث بها والفساد، فجاء بمرداس وعلاق وهما بنو عوف بن سليم هؤلاء من بطونهم بنواحي السواحل وقابس واصطنعهم.   [1] ذكرنا سابقا ان مرداس وعلاف من بني عوف. وعلاف بطن من سليم في الأصل ومساكنهم إفريقية من بلاد المغرب منهم أولاد أبي الليل أمراء العرب بإفريقية، قال في مسالك الابصار ولهم أعداء يعرفون بأولاد أبي طالب (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) . [2] الكعوب: بطن من عوف بن بهتة من سليم ذكرهم في العبر ولم يرفع نسبهم وقال: مساكنهم ما بين قابس وبلد العناب من إفريقية مع قومهم بني عوف، قال: ورئيسهم عند دخولهم إفريقية رافع بن حماد ومن أعقابه بنو كعب أمراء العرب الآن بإفريقية (المرجع السابق) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 ورياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع، وبعده لابنه يوسف، وبعده هنان [1] بن جابر بن جامع، ورياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخه ابن يعقوب بن كعب. وكانت رياسة علاق عند دخولهم إفريقية لعهد هذا المعز وبنيه لرافع بن حماد، وعنده راية جدّه التي حضر بها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جدّ بني كعب فيما يزعمون. فاستظهر بهم السلطان على شأنه، وأنزلهم بساح القيروان، وأجزل لهم الصلات والعوائد وزاحموا الزواودة من رياح بمنكب بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد إفريقية. وكانت أبّة أقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل ونزلوا به، فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك، فشرهوا إليها وأجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم، وقتلوا رزق بن سلطان. واتصلت الفتنة. فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعا على فتنة الزواودة وتأهبوا لها. وتكررت بينهم وبين رياح الحروب والوقائع حتى أزاحوهم عن إفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسنطينة وبجاية إلى الزاب وما إليه. ثم وضعوا أوزار الحرب وأوطن كل حيث قسمت له قومه. وملك بنو عوف سائر ضواحي إفريقية وتغلبوا عليه، واصطنعهم السلطان وأثبتهم في ديوان العطاء. ولم يقطع شيئا من البلاد. واختص بالولاية منهم أولاد جامع وقومه فكانوا له خالصة، وتم تدبيره في غلب الزواودة ورياح في ضواحي إفريقية وإزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب وبجاية وقسنطينة، وطال بالدولة واختلف حالهم في الاستقامة معها والنفرة، وضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة وسخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة، فذهب مغاضبا عنها. وأقام بناجعته من مرداس ومن إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها، وخاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب إفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله وهي طويلة: قدّوا المهامة بالمهرية القود ... واطووا فلاة بتصويب وتصعيد ومنها قوله:   [1] وفي نسخة أخرى: عنان وهو الصحيح. وهذا ربما تحريف من الناسخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 سلوا دمنة بين الغضا والسواجر ... هل استن فيها واكفات المواطر فأجاب عن هذه عنان بقوله: خليلي عوجا بين سلع وحاجر ... بهوج عنا جيج نواج ضوامر يقيم عروة في النزوع عنهم ويستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية. ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضا له على إفريقية وآل أبي حفص، وهلك في سبيله وقبر بسلّا. ولم يزل حال مرداس بين النفرة والأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا واستفحل ملك ابنه المستنصر من بعده، وعلا الكعوب بذمة قوية من السلطان. وكان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة، فسعى عند السلطان في مرداس، وكان أبو جامع مبلغا سعايته واعصوصبت عليه سائر علاق، فحاربوا المرداسيين هؤلاء وغلبوهم على الأوطان والحظ من السلطان، وأخرجوهم عن إفريقية وصاروا إلى القفر، وهم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل ويمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح. ويختصون بالتغلب على ضواحي قسنطينة أيام مرابع الكعوب وصائفهم بالتلول. فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد، ويخالطونهم على حلف، ولهم على توزر ونفطة وبلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم ومجالاتهم وتصرفهم، ولأنها في الكثير من أعراضهم. وصاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها، فاصطفوا منه كثيرا وأصبح منه عمران قسنطينة لهم مرتابا [1] واستقام أمر بني كعب من علاق في رياسة عوف وسائر بطونهم من مرداس وحصين ورياح ودلاج، ومن بطون رياح حبيب وعلا شأنهم عند الدولة. واعتزوا على سائر بني سليم بن منصور، واستقرّت رياستهم في ولد يعقوب ابن كعب، وهم بنو شيخة وبنو طاهر [2] وبنو علي. وكان التقدم لبني شيخة بن يعقوب، لعبد الله أولا ثم لإبراهيم أخيه، ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي. وكان بنو علي يرادفونهم في الرئاسة، وكان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي. وكان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه، وكانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاها وثروة، وأقطع له السلطان   [1] وفي النسخة التونسية: وأصبح عمران قسطيلية لهم مرتافا. [2] وفي نسخة ثانية: بنو شيحة وبنو طاعن. وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب رباح وليس رباح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 أربعا من القرى أصارها لولده. كان منها بناحية صفاقس وبإفريقية وبناحية الجريد. وكان له من الولد سبعة، أربعة لأم وهم أحمد وماضي وعلي ومحمد، وثلاثة لأم وهم: بريد وبركات وعبد الغني. فنازع أحمد أولاد شيخة في رياستهم على الكعوب، واتصل بالسلطان أبي إسحاق وأحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره، وكان من شأنه ما قدّمنا. وهلك أحمد واستقرت الرئاسة في ولده، وكان له من الولد جماعة، فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة: قاسم ومرا أبو الليل وأبو الفضل، ومن الحكمية قائد وعبيد ومنديل وعبد الكريم، ومن السرية كليب وعساكر وجهد الملك [1] وعبد العزيز، ولما هلك أحمد قام بأمرهم بعده ابنه أبو الفضل. ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد، وغلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم، وتألفوا ولد إخوتهم جميعا. وعرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد. ولما كان شأن الدعي بن أبي عمارة، ويئس الفضل بن يحيى المخلوع وأوقع بالسلطان أبي إسحاق وقتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه. لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون إفريقية. وكان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثر وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به وشيد من رياسته على قومه عند ما أدال الله به من الدعي، فاصطنع أبو الليل هذا بأمرهم. وزاحم أولاد شيخة بمنكب قوي ولحق آخرهم عبد الرحمن بن شيخة بجباية عند ما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق على ملك عمه السلطان أبي حفص، فوفد عليه مستجيشا به ومرغبا له في ملك تونس، يرجو بذلك كثرة رياسته فهلك دون مرامه، وقبر بجباية وانقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه واستبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب، ووقع بينه وبين السلطان أبي حفص وحشة، فقدّم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة، فقدم على الكعوب مكانه محمد ابن عبد الرحمن بن شيخة، وزاحمه به أياما حتى استقام على الطاعة. ولما هلك قام بأمرهم ابنه أحمد، واتصل أمر رياسته ونكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه، وولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل وزاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره. ولما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه   [1] وفي نسخة ثانية عبد الملك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 محمد بن أبي الليل، وكفل مولاهم وحمزة ابن أخيه عمر. وكان عمر مضعفا عاجزا فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم وهم: محمد ومسكيانه ومرغم وطالب وعون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم، فترشحوا للاستبداد على قومهم ومجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرئاسة فيهم. ولم يزالوا على ذلك سائر أيامهم. ولما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب وعظم ضغائنه وعتوه وإفساد الأعراب من أحيائه السابلة، وساء أثره في ذلك، وأسف السلطان بالاعتزاز عليه والاشتراط في ماله. وتوغلت له صدور الغوغاء والعامة، فوفد على تونس عام خمسة وسبعمائة ودخل المسجد يوم الجمعة لابسا خفيه، ونكر الناس عليه وطأه بين الله بخف لم ينزعه. وربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه، فقال: إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع؟ فاستعظم الناس كلمته وثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد وأرضوا الدولة بفعلهم. وكان أمره مذكورا. وقتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان وابن عمه شبل بن منديل بن أحمد. وقام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل وهراج بن عبيد مولاهم وحمزة أبناء عمر، واستبد برياسة البدو من سليم بإفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم وأمثالهم وفحول سواهم. وانتقض أحمد بن أبي الليل وابن أخيه مولاهم بن عمر على السلطان سنة سبع وسبعمائة، واستدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن ذباب، فجاءه وأجلب له على تونس. ونزل كدية الصعتر بظاهرها. وبرز إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن [1] فهزمهم، واستخدم أحمد بن أبي الليل. ثم تقبض عليه واعتقل بتونس إلى أن هلك. ووفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان وسبعمائة فاعتقل معه، ولحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من إفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة، ومعه أبو علي بن كثير ويعقوب بن الفرس وشيوخ بني سليم هؤلاء. ورغبوا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة. وجاءوا في صحبته، وأطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر وسبعمائة كما نذكره في خبره. ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا ابن اللحياني واتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم. ونزع إلى السلطان أبي يحيى   [1] وفي النسخة التونسية: يرزيكن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 الطويل أمر الخلافة. ولي سبعا ببجاية وثلاثين بعد استيلائه على الحضرة وسائر بلاد إفريقية، فاستخلصه السلطان لدولته ونابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحدا بعد واحد كما نذكره، وداهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان ومالأ حمزة على شأنه، وربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان وعلى ابنه منصور وعلي ربيبه زغدان ومغران بن محمد بن أبي الليل. وكان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد، وأحمد بن عبد الواحد أبو عبيد، وأبو هلال بن محمود بن فائد، وناجي بن أبي علي بن كثير ومحمد بن مسكين وأبو زيد بن عمر بن يعقوب، ومن هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وبعث أشلاؤهم إلى حمزة فاشتدّ حنقه، ولحق صريخا بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن، ومعه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك. وأمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة، وزحفوا إلى إفريقية فخرج إليهم السلطان وهزمهم برغيش. ولم يزل حمزة من بعدها مجلبا على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي، وأبو تاشفين صاحب تلمسان يمدّهم بعساكره. وتكررت بينهم الوقائع والأيام سجالا كما نذكره في مواضعه، حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن وقومه من بني مرين على تلمسان والغرب الأوسط سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، واستتبعوا بني عبد الواد وسائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته وانقطع حبلها في يده، ولحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعا به، فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته وعفا له عن جرائمه وأحله محل الأصفاء والخلوص. فشمر عن نصحه واجتهاده وظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ إفريقية، وظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة وتؤثر مهادها. وهلك حمزة سنة أربعين وسبعمائة بيد أبي عون نصر ابن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب، طعنه في بعض الحروب فأشواه، وكان فيها مهلكه. وقام بأمرهم من بعده ابنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة. ولكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة والقرابة، واستبد برياسة بني كعب وسائر بني يحيى، وأقتاله بنو مهلهل ينافسونه ويرتقبون الإدالة منه. وكان مساهمه في أمره معن بن مطاعن من فزارة وزير أبيه. وخرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم واتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس، وجمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم. ثم اختلفوا ورحلوا عن البلد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 وانخذل طالب بن مهلهل وقومه إلى السلطان. ونهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان، ووفدت مشيختهم على ابنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على ابنه. وكان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه وقتله وأفلت الباقون. وراجعوا الطاعة وأعطوا الرهن. (ولما هلك) السلطان أبو يحيى وقام بالأمر ابنه عمر، انحرفوا عنه وظاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد وولي العهد، وزحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها، وقتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه، وقتل معه أخاهم أبا الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك. ووفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة وكافة المشيخة من إفريقية، وجاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة وأخذ الإتاوة، وانتزع الأمصار التي كانت مقتطعة بأيديهم وألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل وزغبة، فثقلت وطأته عليهم وتنكروا له وساء ظنه بهم، وفشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم، ووفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم، فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته، كما نذكره في موضعه، فتقبض عليهم وبلغ خبرهم إلى الحي فناشبوا بقسطيلة والجريد فظفروا بزنابي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش واستيلاؤه على المغرب، وهو أحمد بن عثمان بن إدريس، فنصبوه وبايعوه واجتمعوا عليه. وناشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم وكان طالب هلك، وقام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه واتفقوا جميعا على حرب زناتة. ونهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان. ثم ناجزوه ففضوا جموعه وملئوا حقائبهم بأسلابه وأسلابهم، وخضدوا من شوكة السلطان، وألانوا من حدّ الملك، وخفضوا من أمر زناتة، وغلبهم الأمم وكان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام. وهلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته، واستبد بالرياسة عليه أخوه خالد، ثم من بعده أخوهما منصور، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 واعتز على السلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازا لا كفاء له. وانبسطت أيدي العرب على الضاحية وأقطعتهم الدولة حتى الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك، وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها، وما زالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية، وقاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفا وصحراء وتلولا وجريدا. ويحرضون بين أعياص الدولة ويجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة. ويرميهم السلطان باقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها. ويحرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله إنقاذ الأمّة من هوة الخسف وتخليصهم من مكاره الجوع والخوف، وإدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة، بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة. فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربيّ، ونزل إليه أمير البدو ومنصور بن حمزة هذا، وذلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحاق مقتعد كرسي الحضرة وصاحب عصا الخلافة والجماعة. وقام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى إفريقية ودخل تونس عنوة، واستولى على الحضرة سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بعدها، وأرهف حدّه للعرب في الاعتزاز عليهم وقبض أيديهم عن المفاسد وذويهم، فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة، ونصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدّهم الأكبر، كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكر ذلك كله في اخبار الدولة، وأجلب به على تونس سنة ثلاث وسبعين، فامتنعت عليهم ولم يظفروا بشيء وراجع منصور حاله عند السلطان، وكشف عن وجه المناصحة. وكان عشيرته قد ملوا منه حسدا ومنافسة بسوء ملكته عليهم، فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه، وهلك ليومه سنة خمس وسبعين، وافترق جمعهم. وقام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة، ويرادفه أولاد مولاهم بن عمر، فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان ومناصحته. ثم رجع إلى العصيان وكشف القناع في الخلاف، واتصل حاله على ذلك ثلاثا، وأدال السلطان منه ومن قومه باقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم لمحمد بن طالب، فرجع إليهم رياسة البدو، وجعل لهم المنع والإعطاء فيهم ورفع رتبهم على العرب، وتحيز إليه معهم أولاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 مولاهم بن عمر بن أبي الليل، ونقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلاف، ونهض السلطان سنة ثمانين وسبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة، وحملهم على جادّة الطاعة، فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء ومشارطتهم لهم على ذلك، وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان [1] العرب الأعراب وذياب البدو، فغلبهم عليها جميعا، وأزاحهم عن ضواحيها، وظفر بفرائسة من أولئك الرؤساء، وأصبحوا بين معتقل ومشرد. واستولى على قصورهم وذخائرهم، وأبعد أولاد حمزة وأحلافهم من حكيم المفر، وجاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب، واعتزت عليهم الدولة اعتزازا لا كفاء له، فنامت الرعايا في ظل الأمن وانطلقت منهم أيدي الاعتمار والمعاش وصلحت السابلة بعد الفساد، وانفتحت أبواب الرحمة على العباد. وقد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان والدولة لا ينتهي إليه اعتزاز، ولهم عنجهية وإباية وخلق في التكبر الّذي هو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدا للذل، ولا يسامون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول. أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض، يشهد بذلك أخبار الردة والخلفاء معهم مع أمثالهم، مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز والغلظة، فليس في إعطائها كثير غمط ولا مذلة. وأما أيام بني العباس حين استفحال الملك وحدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد وتهامة وما وراءهما. وأما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم وبين بني العباس. وأما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة وإفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك. ولما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان [2] من الذل وسوم الخسف حتى كانت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن وقومه من زناتة بالقيروان، فنهجوا سبيل الاعتزاز لغيرهم من العرب على الدول بالمغرب، فتحامل المعقل وزغبة على ملوك زناتة، واستطالوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة الغلب عن التطاول إلى مثلها. والله مالك الأمور.   [1] وفي نسخة ثانية ذؤبان العرب. [2] وفي نسخة التونسية: بمنجاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 (الخبر عن قاسم بن مرا من الكعوب القائم بالسنة في سليم ومآل أمره وتصاريف أحواله) كان هذا الرجل من الكعوب من أولاد أحمد بن كعب منهم، وهو قاسم بن مرا بن أحمد. نشأ بينهم ناسكا منتحلا للعبادة. ولقي بالقيروان شيخ الصلحاء بعصره أبا يوسف الدهماني وأخذ عنه ولزمه. ثم خرج إلى قومه مقتفيا طريقة شيخه في التزام الورع والأخذ بالسنة ما استطاع. ورأى ما العرب عليه من إفساد السابلة والخروج عن الجادة، فأخذ نفسه بتغيير المنكر فيهم وإقامة السنة لهم، ودعا إلى ذلك عشيرة من أولاد أحمد، وأن يقاتلوا معه على ذلك. فأشار عليه أولاد أبي الليل منهم وكانوا عيبة له تنصح له أن ينكف عن طلب ذلك من قومه، مخافة أن يلحوا في عداوته فيفسد أمره. ودفعوه إلى مطالبة غيرهم من سليم وسائر الناس بذلك، وأنهم منعة له ممن يرومه خاصة، فجمع إليه أوباشا من البادية تبعوه على شأنه والتزموا طريقته والمرابطة معه، وكأنه يسمون بالجنادة. وبدا بالدعاء إلى إصلاح السابلة بالقيروان وما إليها من بلاد الساحل، وتتبع المحاربين بقتل من يعثر عليه منهم بالطرق، وغزو المشاهر منهم في بيوتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم حتى شردهم كل مشرد. وعلت بذلك كلمته على آل حصن وصلحت السابلة بإفريقية ما بين تونس والقيروان وبلاد الجريد وطار له ذكر نفسه عليه قومه، وأجمع عداوته واغتياله بنو مهلهل قاسم بن أحمد، وتنصحوا ببعض ذلك للسلطان بتونس الأمير أبي حفص وأن دعوة هذا الرجل قادحة في أمر الجماعة والدولة، فأغضى لهم عن ذلك، وتركهم وشأنهم، فخرجوا من عنده مجمعين قتله، ودعوه في بعض أيامهم إلى المشاورة في شئونهم معه على عادة العرب، ووقفوا معه بساحة حيهم، ثم خلصوا معه نجيا، وطعنه من خلفه محمد بن مهلهل الملقب بأبي عذبتين فخر صريعا لليدين والفم. وامتعض له أولاد أبي الليل وطلبوا بدمه فافترقت أحياء بني كعب من يومئذ بعد أن كانت جميعا. وقام بأمره من بعده ابنه رافع على مثل طريقته إلى أن هلك في طلب الأمر على يد بعض رجالات آل حصن سنة ست وسبعمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 ولم يزل بنو أبي الليل على الطلب بثأر قاسم بن مرا إلى أن ظهر فيهم حمزة ومولاهم ابنا عمر بن أبي الليل، وصارت إليهم الرئاسة على أحيائهم. واتفق في بعض الأيام اجتماع أولاد مهلهل بن قاسم في سيدي حمزة، ومولاهم في مشاتيهم بالقفر، فأجمع اغتيالهم وقتلهم عن آخرهم بثأر ابن عمهم قاسم بن مرا، ولم يفلت منهم إلا طالب بن مهلهل لم يحضر معهم. وعظمت الفتنة من يومئذ بين هذين الحيين وانقسمت عليهم أحياء بني سليم وصاروا يتعاقبون في الخلاف والطاعة على الدولة، وهم على ذلك لهذا العهد، والرئاسة في بني مهلهل اليوم لمحمد بن طالب بن مهلهل وأخيه يحيى، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (بنو حصن بن علاق) بنو حصن هؤلاء من بطون علاق [1] وحصن أخو يحيى بن علاق كما مر، فهم بطنان أيضا: بنو عليّ وحكيم. وقد يقال إن حكيما ليس لحصن، وإنما ربي في حجره فانتمى إليه. وأما حكيم فلهم بطون منهم بنو ظريف بن حكيم وهم أولاد عائر [2] ، والشراعبة ونعير وجرين لقدام بن ظريف وزياد بن ظريف. ومنهم بنو وائل بن حكيم ومنهم بنو طرود بن حكيم. وقد يقال إن طرودا ليس لسليم. وأنهم من منبس إحدى بطون هلال بن عامر، ويقال إن منهم زيد العجاج بن فاضل المذكور في رجالات هلال، والصحيح في طرود أنهم من بني فهم بن عمر بن قيس بن عيلان ابن عمدوان وفي تعدادهم، وكانت طرود أحلاف الدلاج، ثم قاطعوهم وحالفوا آل ملاعب. ومن بطون حكيم آل حسين ونوال ومقعد والجمعيات، ولا أدري كيف يتصل نسبهم. ومنهم بنو نمير بن حكيم، ولنمير بطنان: ملاعب وأحمد، فمن أحمد بنو محمد والبطين ومن ملاعب بنو هيكل بن ملاعب. وهم أولاد زمام والفزيات [3] وأولاد مياس وأولاد فائد. ومن أولاد فائد الصرح والمدافعة. وأولاد يعقوب بن   [1] علاف: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب وقد مرّ معنا من قبل في مكان سابق. [2] وفي نسخة ثانية: أولاد جابر. [3] وفي النسخة الباريسية الغرنات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 عبد الله بن كثير بن حرقوص بن فائد، وإليهم رياسة حكيم وسائر بطونهم ومواطن حكيم هؤلاء لهذا العهد ما بين سوسة والأجم. والناجعة منهم أحلاف لبني كعب، تارة لأولاد أبي الليل وتارة لإقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم في بني يعقوب بن عبد السلام بن يعقوب شيخا عليهم، وانتقض أيام اللحياني. ووفد على السلطان أبي يحيى بالثغر الغربي من إفريقية في بجاية وقسنطينة وجاء في حملته، فلما ملك ملك تونس، عقد له على قومه ورفعه على أنظاره. وغص به بنو كعب فحرّض عليه حمزة من الأعشاش محمد بن حامد بن يزيد فقتله في موقف شوارهم، وولي الرئاسة فيهم من بعده ابن عمه محمد بن مسكين بن عامر بن يعقوب ابن القوس وانتهت إليه رياستهم. وكان يرادفه أو ينازعه جماعة من بني عمه، فمنهم سحيم بن سليمان بن يعقوب، وحضر واقعة طريف مع السلطان أبي الحسن، وكان له فيها ذكر، ومنهم أبو الهول وأبو القاسم ابنا يعقوب بن عبد السلام، وكان لأبي الهول مناصحة للسلطان أبي الحسن حين أحلف عليه بنو سليم بالقيروان وأدخله مع أولاد مهلهل في الخروج على القيروان، فخرج معهم جميعا إلى سوسة. ومنهم بنو يزيد بن عمر بن يعقوب وابنه خليفة. ولم يزل محمد بن مسكين على رياسته أيام السلطان أبي يحيى كلها وكان مخالطا له، ومتهالكا في نصيحته والانحياش إليه. ولما هلك خلفه في رياسته ابن أخيه خليفة بن عبد الله بن مسكين وهو أحد الأشياخ الذين تقبض عليهم السلطان أبو الحسن بتونس بدعاء [1] واقعة القيروان. ثم أطلقه وهو محصور بالقيروان فكان له به اختصاص من بعد ذلك. ولما تغلب العرب على النواحي بعد واقعة القيروان تغلب بنو مسكين هؤلاء على سوسة، فأقطعها السلطان خليفة هذا وبقيت في ملكته. وهلك خليفة فقام برياستهم في حكيم ابن عمه عامر ابن محمد بن مسكين. ثم قتله محمد بن بثينة بن حامد من بني كعب قتله يعقوب بن عبد السلام، ثم قتله محمد هذا غدرا بجهاد الجريد سنة خمس وخمسين وسبعمائة. ثم افترق أمرهم واستقرّت رياستهم لهذا العهد بين أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين، وتلقب أبا معنونة وهو ابن أخي خليفة المذكور. وعبد الله بن محمد بن يعقوب وهو ابن أخي أبي الهول المذكور، ولما تغلّب السلطان أبو العبّاس على تونس   [1] وفي نسخة ثانية بين يدي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 وملكها، انتزع سوس من أيديهم، فامتعض أحمد لذلك، وصار إلى ولاية صولة ابن خالد بن حمزة من أولاد أبي الليل وسلكوا سبيل الخلاف والفتنة، وأبعدوا في شأوها. وهم لهذا العهد مشردون عن الضواحي والأرياف منزاحون إلى القفر. وأما عبد الله بن محمد ويلقب الراوي فتحيز إلى السلطان، وأكد حلفه مع أولاد مهلهل على ولايته ومظاهرته، فعظمت رياسته في قومه وهو على ذلك لهذا العهد. ثم راجع أبو معنونة خدمة السلطان وانقسمت رياسة حكيم بينهما، وهم على ذلك لهذا العهد. واما بنو علي إخوة حكيم فلهم بطون أولاد صورة ويجمعهما معا عوف بن محمد ابن علي بن حصن. ثم أولاد نمي والبدرانة، وأولاد أم أحمد والحضرة أو الرجلان، وهو مقعد والجمعيات والحمر والمسابهة آل حسين وحجري، وقد يقال أن حجري ليسوا لسليم وأنهم من بطون كندة صاروا معهم بالحلف، فانتسبوا بنسبهم ورياسة بني علي في أولاد صورة. وشيخهم لهذا العهد أبو الليل بن أحمد بن سالم بن عقبة بن شبل بن صورة بن مرعي بن حسن بن عوف. ويرادفهم المراعية من أهل نسبهم أولاد مرعي بن حسن بن عوف، ومواطنهم ما بين الأجم والمباركة من نواحي قابس، وناجعتهم أحلاف الكعوب. أما لأولاد أبي الليل أولا ولاد مهلهل، وغالب أحوالهم أولاد مهلهل، والله مقدّر الأمور لا ربّ سواه . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 (ذباب بن سليم) قد ذكرنا الخلاف في نسبهم من أنهم من ذباب بن ربيعة بن زعب الأكبر وأن ربيعة أخو زعب الأصغر. وضبط هذه اللفظة لهذا العهد بضم الزاي وقد ضبطها الأجل أبي والرشاطي بكسر الزاي. كذا نقل أبو محمد التجاني في رحلته، ومواطنهم ما بين قابس وطرابلس إلى برقة ولهم بطون فمنهم أولاد أحمد بن ذباب ومواطنهم غربي قابس وطرابلس إلى برقة. عيون رجال مجاورون لحصن، ومن عيون رجال بلاد زغب من بطون ذباب بنو يزيد مشاركون لأولاد أحمد في هذه المواطن، وليس هذا أبا لهم، ولا اسم رجل، وإنما هو اسم حلفهم انتسبوا به إلى مدلول الزيادة. كذا قال التجاني وهم بطون أربعة: الصهب بسكون الهاء بنو صهب بن جابر بن فائد بن رافع ابن ذباب، وإخوتهم الحمادية بنو حمدان بن جابر، والخرجة بسكون الراء بطن من آل سليمان منهم. أخرجهم آل سليمان من مواطنهم بمسلالة فحالفوا هؤلاء ونزلوا معهم. والأصابعة نسبة إلى رجل ذي إصبع زائدة. ولم يذكر التجاني في أي بطن من ذباب ينتسبون. ومنهم النوائل بنو نائل بن عامر بن جابر وإخوتهم أولاد سنان بن عامر، وإخوتهم أولاد وشاح بن عامر، وفيهم رياسة هذا القبيل من ذباب كلهم، وهم بطنان عظيمان: المحاميد [1] بنو محمود بن طوب بن بقية بن وشاح ومواطنهم ما بين قابس ونفوسة وما إلى ذلك من الضواحي والجبال. ورياستهم لهذا العهد في بني رحاب بن محمود لأولاد سباع بن يعقوب بن عطية بن رحاب. والبطن الآخر الجواري [2] بنو حميد بن جارية بن وشاح، ومواطنهم طرابلس وما إليها مثل تاجورا وهزاعة وزنزور وما إليها من ذلك لهذا العهد. ورياستهم لهذا العهد في بني مرغم بن صابر بن عسكر بن علي بن مرغم. ومن أولاد وشاح بطنان آخران صغيران مندرجان مع الجواري والمحاميد وهما الجواربة بنو جراب بن وشاح، والعمور بنو عمر بن وشاح   [1] المحاميد: بطن من ذباب من بهته من سليم منازلهم بين طرابلس وقابس من بلاد المغرب سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب. [2] الجواري: بطن من ذباب من بهته من سليم قال في العبر وهم رؤساء ذباب الآن ومنازلهم فيما بين طرابلس الغرب وقابس (المرجع السابق) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 هكذا زعم التجاني في العمور هؤلاء. وفي هلال بن عامر بطن العمور كما ذكرناه. وهم يزعمون أن عمور ذباب هؤلاء منهم، وأنهم إنما جمعهم مع ذباب الموطن خاصة وليسوا من سليم والله أعلم بحقيقة ذلك. وكان من أولاد وشاح بنو حريز بن تميم بن عمر بن وشاح كان منهم فائد بن حريز من فرسان العرب المشاهير وله شعر متداول بينهم لهذا العهد سمر الحيّ وفكاهة المجالس، ويقال إنه من المحاميد، فائد بن حريز بن حربي بن محمود بن طوب. وكان بنو ذباب هؤلاء شيعة لقراقش الغزي وابن غانية، ولهما فيه أثر. وقتل قراقش مشيخة الجواري في بعض أيامه. ثم صاروا بعد مهلك ابن غانية إلى خدمة الأمير أبي زكريا وأهل بيته من بعده، وهم الذين أقاموا أمر الداعي بن أبي عمارة وعليهم كان تلبسه لأن يصير أميرا بدل المخلوع، وكان فرّ إليهم بعد مهلك مولاه وبنيه، ونزل عليهم حتى إذا مرّ بهم ابن أبي عمارة فعرّفه الخبر، فاتفقوا على التلبيس وزينوا ذلك لهؤلاء العرب فقبلوه. وتولى كبر ذلك مرغم بن صابر وتبعه قومه، وداخلهم في الأمر أبو مروان عبد الملك بن مكي رئيس قابس، فكان من قدر الله ما كان من تمام أمره وتلويث كرسي الخلافة بدمه حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية. وكان السلطان أبو حفص يعتمد عليهم فغلبهم في دعوة عمارة، فخالفوا عليه، وسرّح لحربهم قائده أبا عبد الله الفزاري، واستصرخوا بالأمير أبي زكريا ابن أخيه، وهو يومئذ صاحب بجاية والثغر الغربي من إفريقية. ووفد عليه منهم عبد الملك بن رحاب ابن محمود فنهض لصريخه سنة سبع وثمانين وستمائة، وحاربوا أهل قابس وهزموهم وأثخنوا فيهم. ثم غلبهم الفزاري ومانعهم عن وطن إفريقية. ورجع الأمير أبو زكريا إلى ثغره. وكان مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري قد أسره أهل صقلّيّة من سواحل طرابلس سنة اثنتين وثمانين وستمائة وباعوه لأهل برشلونة، فاشتراه ملكهم وبقي أسيرا عندهم إلى أن زعم إليه عثمان بن إدريس الملقب بأبي دبوس بقية الخلفاء من بني عبد المؤمن، وأراد الإجازة إلى إفريقية لطلب حقه في الدعوة الموحدية، فعقد ملك برشلونة بينه وبين مرغم حلفا وبعثهما، ونزل بساحل طرابلس. وأقام مرغم الدعوة لأبي دبوس وحمل عليها قومه، وحاصر طرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة أياما ثم تركوا عسكرا لحصارها، وارتحلوا لجباية الوطن فاستفرغوه، وكان ذلك غاية أمرهم، وبقي أبو دبوس يتقلب في أوطانهم مدة، واستدعاه الكعوب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 لأول المائة الثامنة وأجلبوا به على تونس أيام السلطان أبي عصيدة من الحفصيين وحاصروها أياما فلم يظفروا. ورجع إلى نواحي طرابلس وقام بها مدة. ثم ارتحل إلى مصر وأقام بها إلى أن هلك كما يأتي ذكره في خبر ابنه مع السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولم يزل هذا شأن الجواري والمحاميد إلى أن تقلص ظل الدولة عن أوطان قابس وطرابلس فاستبد برياسة ضواحيها. واستعبدوا سائر الرعاية المعتمرة في جبالها وبسائطها، واستبد أهل الأمصار برياسة أمصارهم بنو مكي بقابس وبنو ثابت بطرابلس على ما يذكر في أخبارهم. وانقسمت رياسة أولاد وشاح بانقسام المصرين، فتولى الجواري طرابلس وضواحيها، وزنزور وغريان ومغر، وتولى المحاميد بلد قابس وبلاد نفوسة وحرب. وفي ذباب هؤلاء بطون أخرى ناجعة في القفر، ومواطنهم منزاحة إلى جانب الشرق عن مواطن هؤلاء الوشاحين. فمنهم آل سليمان بن هبيب بن رابع بن ذباب، ومواطنهم قبلة مغر، وغريان ورياستهم في ولد نصر بن زائد بن سليمان، وهي لهذا العهد لهائل بن حماد بن نصر، وبينه وبين البطن الآخر إلى سالم بن وهب أخي سليمان. ومواطنهم بلد مسراتة إلى لبدة ومسلاتة. وشعوب آل سالم هؤلاء الأحامد والعمائم والعلاونة وأولاد مرزوق، ورياستهم في أولاد ولد مرزوق، وهو ابن معلّى بن معراق بن قلينة بن قماص بن سالم [1] وكانت في أوّل هذه المائة الثامنة لغلبون بن مرزوق، واستقرّت في بنيه، وهي اليوم لحميد بن سنان بن عثمان بن غلبون. والعلاونة منهم مجاورون للعنة من عرب برقة والمشابنة من هوارة المقيمين. وتجاذب ذباب هؤلاء في مواطنهم من جهة القبلة ناصرة، وهم من بطون ناصرة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهتة بن سليم، فإن كان زعب أبو ذباب لملك بن خفاف كما زعم التجاني فهم إخوة ناصرة، ويبعد أن يسمى قوم باسم إخوانهم، وإن كانوا الناصرة كما زعم ابن الكلبي وهو أقرب، فيكون هؤلاء اختصوا باسم ناصرة دون ذباب وغيرهم من بنيه. وهذا كثير من بطون القبائل والله أعلم. ومواطنهم بلاد فزان وودان. هذه أخبار ذباب هؤلاء. وأما العزة جيرانهم في الشرق الذين قدّمنا ذكرهم فيهم موطنون من أرض برقة خلاء   [1] وفي نسخة ثانية: ابن معلّى بن معراني بن قلينه بن قاص بن سالم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 لاستيلاء الخراب على أمصارها وقرارها من دولة صنهاجة، تمرنت بمرانها [1] بادية العرب وناجعتهم، فتحيّفوها غارة ونهبا إلى أن فسدت فيها مذاهب المعاش، وانتقض العمران، فخربت وصار معاش الأكثر من هؤلاء العرب الموطنين بها لهذا العهد من الفلح يثيرون له الأرض بالعوامل من الجمال والحمير، وبالنساء إذا ضاق كسبهم عن العوامل وارتكبوا ضرورة المعاش. وينجعون إلى بلاد النخل في جهة القبلة منهم من أوجلة وشنترية والواحات وما وراء ذلك من الرمال والقفر إلى بلد السودان المجاورين لهم، وتسمّى بلادهم برنق، وشيخ هؤلاء العرب ببرقة يعرف لهذا العهد بأبي ذئب من بني جعفر. وركاب الحج من المغرب يحمدون مساطتهم في مرّهم وحسن نيتهم في التجافي عن جامع بيت الله، وارفادهم بجلب الأقوات لسربهم وحسن الظن بهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، وأما نسبهم فما أدري فيمن هو من العرب؟ وحدّثني الثقة من ذباب عن خريص ابن شيخهم أبي ذباب أنهم من بقايا الكعوب ببرقة. وتزعم نسابة الهلاليين أنهم لربيعة ابن عامر إخوة هلال بن عامر. وقد مرّ الكلام في ذلك في أول ذكر بني سليم، ويزعم بعض النسابة أنهم والكعوب من العزة، وأن العزة من هيث، وأن رياسة العزة لأولاد أحمد وشيخهم أبو ذئب وان المسانية [2] جيرانهم من هوارة. وذكر لي سلام بن التركية شيخ أولاد مقدم جيرتهم بالعقبة أنهم من بطون مسراتة من بقية هوارة، وهو الّذي رأيت النسابة المحققين عليه بعد أن دخلت مصر ولقيت كثيرا من المترددين إليها من أهل برقة. وهذه آخر الطبقة الرابعة من العرب، وبانقضائه انقضى الكتاب الثاني في العرب وأجيالهم منذ بدء الخليقة، فلنرجع إلى أحوال البربر في الكتاب الثالث والله ولي العون أهـ.   [1] وفي نسخة ثانية: تمرست بعمرانها. [2] وفي نسخة ثانية: المثانية، وفي النسخة التونسية المثاينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 (بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (الكتاب الثالث في أخبار البربر والأمة الثانية من أهل المغرب وذكر أوليتهم وأجيالهم ودولتهم منذ بدء الخليقة لهذا العهد ونقل الخلاف الواقع بين الناس في أنسابهم) هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملئوا السبائط والجبال من تلوله وأريافه وضواحيه وأمصاره، يتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر، ويظعن أهل العز منهم والغلبة لانتجاع المراعي، فيما قرب من الرحلة، لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفار الأملس. ومكاسبهم الشاء والبقر والخيل في الغالب للركوب والنتاج. وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم شأن العرب، ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السائمة. ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والأظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة. ولباسهم وأكثر أثاثهم من الصوف يشتملون الصماء بالأكسية المعلمة، ويفرغون عليها البرانس الكحل ورءوسهم في الغالب حاسرة، وربما يتعاهدونها بالحلق. ولغتهم من الرطانة الأعجمية متميزة بنوعها، وهي التي اختصوا من أجلها بهذا الاسم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 يقال: إن أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة لما غزا المغرب وإفريقية، وقتل الملك جرجيس، وبنى المدن والأمصار، وباسمه زعموا سميت إفريقية لما رأى هذا الجيل من الأعاجم وسمع رطانتهم ووعى اختلافها وتنوّعها تعجب من ذلك، وقال: ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة، ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة. وأما شعوب هذا الجيل وبطونهم فإن علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان وهما برنس وماذغيس. ويلقب ماذغيس بالأبتر فلذلك يقال لشعوبه البتر، ويقال لشعوب برنس البرانس، وهما معا ابنا برنس وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد؟ فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد على ما حدّثه عنه يوسف الوراق. وقال سالم بن سليم المطماطي وصابى [1] بن مسرور الكومي وكهلان بن أبي لوا، وهم نسابة البربر: إن البرانس بتر، وهم من نسل مازيغ بن كنعان. والبتر بنو بر بن قيس بن عيلان، وربما نقل ذلك عن أيوب بن أبي يزيد، إلا أن رواية ابن حزم أصح لأنه أوثق. (وأما) شعوب البرانس فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام وهي ازداجة ومصمودة وأوربة وعجيسة وكتامة وصنهاجة وأوريغة. وزاد سابق بن سليم وأصحابه: لمطة وهسكورة وكزولة. وقال أبو محمد بن حزم: يقال إن صنهاج ولمط إنما هما ابنا امرأة يقال لها بصكي [2] ولا يعرف لهما أب، تزوجها أوريغ فولدت له هوار فلا يعرف لهما أكثر من أنهما أخوان لهوار من أمه. قال: وزعم قوم من أوريغ أنه ابن خبوز [3] بن المثنى بن السكاسك من كندة وذلك باطل. وقال الكلبي: إن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من شعوب اليمانية تركهما أفريقش بن صيفي بإفريقية مع من نزل بها من الحامية. هذه جماع مذاهب أهل التحقيق في شأنهم، فمن ازداجة مسطاطه، ومن مصمودة غمارة بنو غمار بن   [1] وفي نسمة ثانية: هاني بن مسرور، وفي النسخة الباريسية: يصدور وفي النسخة التونسية هاني بن مصدور. [2] وفي نسخة ثانية: تصكي. [3] وفي النسخة الباريسية خبور وكذلك في قبائل المغرب ص 314. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 مصطاف بن مليل بن مصمود، ومن أوريغة هوارة وملك ومغد [1] وقلدن. فمن هوار بن أوريغ مليلة وبنو كهلان، ومن ملك بن أوريغ صطط وورفل واسيل ومسراتة، ويقال لجميعهم لهانة بنو لهان بن ملك، ويقال إن مليلة منهم. ومن مغد بن أوريغ ماواس وزمور وكبا ومصراي، ومن قلدن بن أوريغ ممصاتة [2] وورسطيف وبيانة وفل مليلة. (وأما شعوب البتر [3] ) وهم بنو مادغيس الأبتر فيجمعهم أربعة أجذام أداسة ونفوسة وضرية وبنو لوا الأكبر، وكلهم بنو زحيك بن مادغيس. فأما أداسة   [1] وفي نسخة ثانية: ملد ومغر وفي قبائل المغرب ص 315 (ملد ومقر) . [2] وفي نسخة ثانية: قمصاتة وقد وردت أيضا قمصانه راجع قبائل المغرب ص 317. [3] قوله واما شعوب إلخ من هنا الى الشجرة أسماء بعضها مخالف لما في الشجرة وهو في جميع النسخ التي بين أيدينا أهـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 بنو أداس بن زحيك فبطونهم كلها في هوارة لأن أم أداس تزوجها بعد زحيك أوريغ ابن عمه برنس والد هوارة، فكان أداس أخا لهوارة، ودخل نسب بنيه كلهم في هوارة. وهم سفارة واندارة وهنزولة وضرية [1] وهداغة وأوطيطة وترهتة. هؤلاء كلهم بنو أداس بن زحيك بن باذغيس [2] وهم اليوم في هوارة. وأما لو الأكبر فمنه بطنان عظيمان وهما نفزاوة بنو نفزا وابن الأكبر، ولواتة بنو لو الأصغر ابن لوا الأكبر، فخلفه أبوه حملا فسمّي به. فمن لواته أكوزة وعتروزة وبنو فاصلة ابن لوا الأصغر، ومنهم مزاته بنو زائر بن لوا الأصغر. ومغانة وجدانة بنو كطوف بن لوا الأصغر. ومن لواتة سرداتة بنو نيطط بن لوا الأصغر. ودخل نسب سرداتة في مغراوة. قال أبو محمد بن حزم: كان مغراوة تزوج أم سرداتة، فسار سرداتة أخا بني مغراوة لأمهم واختلط نسبه بهم. ومن نفزاوة أيضا بطون كثيرة وهم ولهاصة وغساسة وزهلة وسوماتة وورسيف ومرنيزة وزاتيمة ووركول ومرسينة [3] ووردغروس ووردن كلهم بنو تطوفت [4] من نفزاوة. وزاد ابن سابق وأصحابه مجر ومكلاتة، وقال: ويقال إن مكلاتة ليس من البربر وأنه من حمير وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه وهو مكلا بن ريمان بن كلاع حاتم بن سعد بن حمير. ولولهاصة من نفزاوة بطون كثيرة من بيزغاش [5] ودحية ابني ولهاص. فمن بيزغاش بطون ورمجوسة [6] وهم: رجال وطو وبورغيش ووانجذ وكرطيط وماأنجول وسينتت بنو رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص ابن تطوفت بن نغزاو. قال ابن سابق وأصحابه: وبنو بيزغاش من لواتة كلهم بجبال أوراس، ومن دحية ورترين وتريرو ورتبونت [7] ومكرا ولقوس [8] بنو دحية بن ولهاص بن تطوفت بن   [1] وفي النسخة التونسية: صنبرة. [2] وفي نسخة أخرى: ماذغيس كما مرّت معنا سابقا وفي النسخة التونسية مادغس وكذلك في قبائل الغرب ص 306. [3] وفي نسخة أخرى: مرنسية، وفي قبائل المغرب مرنيسة ص 306. [4] وفي نسخة أخرى يطوفت وفي قبائل المغرب ص 307: ذكر ورغوس كما ورده في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ووردغوس في كتاب المسالك والممالك، ووسيف بدل ورسيف. [5] وفي النسخة الباريسية: بندغاش وفي النسخة التونسية تبدغاش. [6] وفي نسخة أخرى: رفجومة. [7] وفي نسخة أخرى: رتيونت، وفي النسخة الباريسية ورسوتني. وفي النسخة التونسية: ورلتونت. [8] وفي النسخة الباريسية يفريق وفي النسخة التونسية يغرين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 نفزاو. وأما ضرية وهم بنو ضري بن زحيك بن مادغيس الأبتر فيجمعهم جذمان عظيمان: بنو تمصيت بن ضري وبنو يحيى بن ضري. وقال سابق وأصحابه أن بطون تمصيت كلّها من فاتن بن تمصيت وأنهم اختصوا بنسب ضرية دون بطون يحيى. فمن بطون تمصيت مطماطة وصطفورة، وهم لحومية [1] ولماية ومطغرة ومرينة ومغيلة ومعزوزة [2] وكشاتة ودونة ومديونة، كلهم بنو فاتن بن تمصيت بن ضري. ومن بطون يحيى: زناتة كلهم وسمكان وورصطف. فمن ورصطف: مكناسة وأوكتة وورتناج بنو ورصطف بن يحيى. فمن مكناسة ورثيفة ووربر ومن معليت قنصارة وموالات وحرات ورفلابس ومن ملزلولاين ولرتر ويصلتن وجرير وفرغان [3] . ومن ورتناج مكنسة ومطاسة وكرسطة وسردجة [4] وهناطة وفولال بنو ورتناج بن ورصطف. ومن سمكان زواغة وزواوة بنو سمكان بن يحيى وعن ابن حزم بعد زواوة التي بالواو في كتامة وهو أظهر، ويشهد له الوطن. فالغالب أن زواوة بنو سمكان بن يحيى. وعن ابن حزم: بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة والتي تعد في سمكان هي التي بالزاي وهي قبيلة معروفة. ومن زواغة بنو ماجر وبنو واطيل وسمكين. وسيأتي الكلام فيهم مستوفي عند ذكرهم إن شاء الله تعالى. هذا آخر الكلام في شعوب هذا الجيل مجملا ولا بد من تفصيل فيه عند تفصيل أخبارهم أهـ. (وأما) إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا، وبحثوا فيه طويلا. فقال بعضهم: أنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان [5] ابنه، وقد تقدّم ذكره عند ذكر إبراهيم عليه السلام. وقال آخرون: البربر يمنيون وقالوا أوزاع من اليمن. وقال المسعودي: من غسان وغيرهم، تفرقوا عند ما كان من سيل العرم. وقيل: تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب وقيل من لخم   [1] وفي نسخة أخرى: كومية وهم من ولد فاتن بن تمصيت من ضريس بن زحيك بن مادغيس الأبتر. [2] وفي نسخة ثانية: مكزوزة. [3] وفي نسخة ثانية: ضمن مكناسة ورتيفة وورتدوسن وتفليت ومنصارة وموالات وحرات ورفلابس، ومن مكن بولالين وتدين ويصلتن وجربن وفوغال. [4] وفي نسخة أخرى: ومن ورتناج: مكنسة وبطالة وكرنيطة وسدرجة. [5] وفي التوراة 25/ 2 يقشان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 وجذام كانت منازلهم بفلسطين، وأخرجهم منها بعض ملوك فارس. فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروا النيل، وانتشروا في البلاد. وقال أبو عمر بن عبد البر: ادعت طوائف من البربر أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبإ. قال: ورأيت في كتاب الاسفنداد الحكيم: ان النعمان بن حمير بن سبإ كان ملك زمانه في الفترة، وأنه استدعى أبناءه وقال لهم: أريد أن أبعث منكم للمغرب من يعمره، فراجعوه في ذلك، وزعم عليهم، وأنه بعث منهم لمت أبا لمتونة ومسفو ابا مسوفة ومرطا أبا هسكورة وأصناك أبا صنهاجة ولمط أبا لمطة وإيلان أبا هيلانة، فنزل بعضهم بجبل درن، وبعضهم بالسوس وبعضهم بدرعه. ونزل لمط عند كزول وتزوج ابنته، ونزل جانا وهو أبو زناتة بوادي شلف، ونزل بنو ورتجين ومغراو بأطراف إفريقية من جهة المغرب، ونزل مقرونك [1] بمقربة من طنجة. والحكاية أنكرها أبو عمرو بن عبد البر وأبو محمد بن حزم. وقال آخرون إنهم كلهم من قوم جالوت. وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة في كتاب الأنساب له: لا أعلم قولا يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت. ولم ينسب جالوت ممن هو، وعند ابن قتيبة أنه ونور بن هربيل [2] بن حديلان [3] بن جالود بن رديلان [4] بن حظي بن زياد بن زحيك بن مادغيس الأبتر. ونقل عنه أيضا أنه جالوت بن هريال بن جالود بن دنيال [5] بن قحطان بن فارس. قال: وفارس مشهور وسفك أبو البربر كلهم. قالوا: والبربر قبائل كثيرة وشعوب جمة، وهي هوارة وزناتة وضرية ومغيلة وزيحوحة [6] ونفزة وكتامة ولواتة وغمارة ومصمودة وصدينه ويزدران ودنجين [7] وصنهاجة ومجكسة وواركلان وغيرهم. وذكر آخرون منهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق. فلما قتل جالوت تفرّقوا في البلاد وأغزى أفريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشام وأسكنهم إفريقية وسماهم بربر. وقيل إن   [1] وفي نسخة أخرى: مصمود. [2] وفي النسمة الباريسية ثور بن هربيل، وفي النسخة التونسية ونور ابن هرمل. [3] وفي النسخة الباريسية بلاد وفي النسخة التونسية جدلان. [4] وفي النسخة الباريسية: روينال. [5] وفي النسخة الباريسية: دبال وفي النسخة التونسية ديال وفي نسخة أخرى ذبال. [6] وفي نسخة أخرى: رفجومة وفي قبائل المغرب (ورفجومة) ص 339. [7] وفي نسخة أخرى: ورنجين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي: هم من ولد بربر بن كسلاجيم [1] بن مسراييم بن حام. وقيل من العمالقة من بربر بن تملا بن مارب بن قاران بن عمر بن عملاق بن لاود بن إرم بن سام، وعلى هذا القول فهم عمالقة. وقال مالك بن المرحل [2] : البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا [3] بالشام ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم. وسبب خروجهم عند المسعودي والطبري والسهيليّ: أن أفريقش استجاشهم لفتح إفريقية وسماهم البربر وينشدون من شعره: بربرت كنعان لما سقتها ... من أراضي الضنك للعيش الخصيب وقال ابن الكلبي: اختلف الناس فيمن أخرج البربر من الشام، فقيل داود بالوحي قيل: يا داود أخرج البربر من الشام فإنهم جذام الأرض. وقيل يوشع بن نون وقيل أفريقش وقيل بعض الملوك التبابعة. وعند البكري أن بني إسرائيل أخرجوهم عند قتل جالوت. وللمسعوديّ والكبري أنهم فرّوا بعد موت جالوت إلى المغرب، وأرادوا مصر فأجلتهم القبط، فسكنوا برقة وإفريقية والمغرب على حرب الإفرنج والأفارقة وأجازوهم على صقلّيّة وسردانية وميورقة والأندلس. ثم اصطلحوا على أن المدن للإفرنجة. وسكنوا القفار عصورا في الخيام وانتجاع الأمصار من الإسكندرية إلى البحر، وإلى طنجة والسوس حتى جاء الإسلام. وكان منهم من تهوّد ومن تنصر وآخرون مجوسا يعبدون الشمس والقمر والأصنام، ولهم ملوك ورؤساء. وكان بينهم وبين المسلمين حروب مذكورة. وقال الصولي البكري أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فانجلى بنو حام إلى المغرب ونسلوا به. وقال أيضا إن حام لما اسودّ بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياء واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة. وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب. قال: وانضاف إلى البربر حيان من المغرب يمنيان عند خروجهم من مأرب كتامة وصنهاجة. قال: وهوارة ولمطة ولواتة بنو حمير بن سبإ   [1] وفي نسخة أخرى: كسلوجيم. [2] وفي النسخة الباريسية الموصل. وفي النسخة التونسية الموصل. [3] وفي النسخة التونسية: تألفوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 وقال هانئ بن بكور الضريسي وسابق بن سليمان المطماطي وكهلان بن أبي لؤيّ وأيوب بن أبي يزيد وغيرهم من نسابة البربر أن البربر فرقتان كما قدمناه وهما: البرانس والبتر. فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان. والبرانس بنو بربر سحو بن أبزج بن جمواح بن ويل بن شراط بن ناح بن دويم بن داح بن مازيغ بن كنعان بن حام [1] وهذا هو الّذي يعتمده نسابة البربر. قال الطبري: خرج بربر بن قيس ينشد ضالة بأحياء البربر وهي جارية وتزوجها فولدت. وعند غيره من نسابة البربر أنه خرج فارا من أخيه عمر بن قيس، وفي ذلك تقول تماضر وهي أخته: لتبكي كل باكية أخاها ... كما أبكي على بر بن قيس تحمل عن عشيرته فأضحى ... ودون لقائه أنضاء عيس ومما ينسب إلى تماضر أيضا وشطت ببر داره عن بلادنا ... وطوح بر نفسه حيث يمما وازرت ببر لكنة أعجمية ... وما كان بر في الحجاز بأعجما كأنّا وبرا لم نقف بجيادنا ... بنجد ولم نقسم نهابا ومغنما وأنشد علماء البربر لعبيدة بن قيس العقيلي: ألا أيها الساعي لفرقة بيتنا ... توقف هداك الله سبل الأطايب فأقسم أنا والبرابر إخوة ... نمانا وهم جدّ كريم المناصب أبونا أبوهم قيس عيلان في الورى ... وفي حومة يشفى غليل المحارب [2] فنحن وهم ركن منيع وإخوة ... على رغم أعداء لئام المناقب فإن لبرّ ما بقي الناس ناصرا ... وبر لنا ركن منيع المناكب تعد لمن عادى شواذق حمرا ... وبيضا تقص الهام يوم التضارب [3] وبر بن قيس عصبة مضرية ... وفي الفرع من أحسابها والذوائب وقيس قوام الدين في كل بلدة ... وخير معد عند حفظ المناسب   [1] وفي نسخة أخرى: بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام. هكذا ورد أيضا في كتاب قبائل المغرب/ 295. [2] وفي نسخة أخرى: أبونا أبوهم قيس عيلان في الذرى ... وفي حرمة يسقي غليل المحارب [3] وفي نسخة أخرى: نعدّ لمن عادى شواذه ضمرا ... وبيضا تقطّ الهام يوم التضارب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 وقيس لها المجد الّذي يقتدي به ... وقيس لها سيف حديد المضارب وينشد أيضا أبيات ليزيد بن خالد يمدح البربر: أيها السائل عنا أصلنا ... قيس عيلان بنو العز الأول نحن ما نحن بنو بر القوى ... عرف المجد وفي المجد دخل وابتنى المجد فاورى زنده ... وكفانا كل خطب ذي جلل إن قيسا يعتزي برّ لها ... ولبر يعتزي قيس الأجل ولنا الفخر بقيس أنه ... جدنا الأكبر فكاك الكبل إن قيسا قيس عيلان هم ... معدن الحق على الخير دلل حسبك البربر قومي أنهم ... ملكوا الأرض بأطراف الأسل وببيض نضرب الهام بها ... هام من كان عن الحق نكل أبلغوا البربر عني مدحا ... حيك من جوهر شعر منتحل وعند نسابة البربر، وحكاه البكري وغيره أنه كان لمضر ولدان إلياس وعيلان [1] ، أمهما الرباب بنت جبده [2] بن عمر بن معد بن عدنان، فولد عيلان بن مضر قيسا ودهمان، أما دهمان فولده قليل وهم أهل بيت من قيس يقال لهم بنو أمامة. وكانت لهم بنت تسمى البهاء بنت دهمان، وأما قيس بن عيلان فولد له أربعة بنين وهم سعد وعمر، وأمهما مزنة بنت أسد بن ربيعة بن نزار [3] وبرّ وتماضر وأمهما تمريغ بنت مجدل ومجدل بن عمار بن مصمود وكانت قبائل البربر يومئذ يسكنون الشام ويجاورون العرب في المساكن ويشاركونهم في المياه والمراعي والمسارح ويصهرون إليهم، فتزوج بر بن قيس بنت عمه وهي البهاء بنت دهمان، وحسده إخوته في ذلك. وكانت أمه تمريغ من دهاة النساء فخشيت منهم عليه، وبعثت بذلك إلى أخوالها سرا، ورحلت معهم بولدها وزوجته إلى أرض البربر وهم إذ ذاك ساكنون بفلسطين وأكناف الشام، فولدت البهاء لبر بن قيس ولدين: علوان وما دغيس، فمات علوان صغيرا وبقي مادغيس، فكان يلقب الأبتر، وهو أبو البتر من البربر، ومن ولده جميع زناتة.   [1] وفي النسخة التونسية: غيلان. [2] وفي نسخة أخرى: حيدة. [3] وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: مزنه بنت أسد بن أكلب بن ربيعة ابن نزار بن معد بن عدنان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 قالوا وتزوج مادغيس بن بر وهو الأبتر باحال [1] بنت واطاس بن محمد بن مجدل بن عمار [2] فولدت له زحيك بن مادغيس. وقال أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب التمهيد في الأنساب: اختلف الناس في أنساب البربر اختلافا كثيرا. وأنسب ما قيل فيهم أنهم من ولد قبط بن حام، لما نزل مصر خرج ابنه يريد المغرب، فسكنوا عند آخر عمالة مصر، وذلك ما وراء برقة إلى البحر الأخضر، مع بحر الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين بالسودان. فمنهم لواتة بأرض طرابلس، ونزل قوم بقربها وهم نفزة. ثم امتدت بهم الطرق إلى القيروان وما وراءها إلى تاهرت إلى طنجة وسجلماسة إلى السوس الأقصى وهم طوائف صنهاجة وكتامة وزكالة وركلاوة وفطواكة من هسكورة ومزطاوة، وذكر بعض أهل الآثار أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فوقعت بينهم مناوشات كانت الدبرة فيها لسام وبنيه، وخرج سام إلى المغرب، وقدم مصر وتفرق بنوه، ومضى على وجهه يؤم المغرب حتى بلغ السوس الأقصى، وخرج بنوه في إثره يطلبونه، فكل طائفة من ولده بلغت موضعا وانقطع عنهم خبره، فأقاموا بذلك الموضع وتناسلوا فيه، ووصلت إليهم طائفة فأقاموا معهم وتناسلوا هنالك. وكان عمر حام أربعمائة وثلاثا وأربعين سنة فيما ذكره البكري. وقال آخرون: كان عمره خمسمائة وإحدى وثلاثين سنة. وقال السهيليّ فيمن هو يعرب بن قحطان. قال: وهو الّذي أجلى سام إلى المغرب بعد ان كان الجرمي [3] من ولد قوط بن يافث هذا آخر الخلاف في أنساب البربر. وأعلم أن هذه المذاهب كلها مرجوحة وبعيدة من الصواب، فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد، لأن داود الّذي قتل جالوت وكان البربر معاصرين له ليس بينه وبين إسحاق بن إبراهيم أخي نعشان الّذي زعموا أنه أبو البربر إلا نحو عشرة آباء ذكرناهم أول الكتاب. ويبعد أن تشعب النسل فيهم مثل هذا التشعب، وأما القول بأنهم من ولد جالوت أو العماليق، وأنهم نقلوا من ديار الشام وانتقلوا، فقول ساقط، يكاد يكون من أحاديث خرافة، إذ مثل هذه الأمة المشتملة على أمم وعوالم ملأت جانب الأرض، لا تكون منتقلة من جانب آخر وقطر محصور. والبربر معروفون في   [1] وفي نسخة أخرى: أملل. [2] وفي النسخة التونسية: غمار. [3] الجزى هكذا أوردت في نسخة أخرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 بلادهم وأقاليمهم متحيزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام. فما الّذي يحوجنا إلى التعليق بهذه الترهات في شأن أوليتهم. ويحتاج إلى مثله في كل جيل وأمة من العجم والعرب. وأفريقش الّذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها، وأنه تعجب من كثرتهم وعجمتهم، وقال: ما أكثر بربرتكم. فكيف يكون هو الّذي نقلهم؟ وليس بينه وبين ذي المغار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك إن قالوا أنه الّذي نقلهم؟ وأما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمنكر من القول، وقد أبطله إمام النسابين والعلماء أبو محمد بن حزم. وقال في كتاب الجمهرة ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا اسمه بر أصلا، وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم من ولد جالوت، وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب. فان قيس عيلان من ولد معد. وقد قدمنا أن معدا كان معاصرا لبخت نصّر وأن أرمياء النبي خلص به إلى الشام حذرا عليه من بخت نصّر حين سلط على العرب. وبخت نصّر هو الّذي خرب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان إياه بأربعمائة وخمسين سنة ونحوها، فيكون معد بعد داود بمثل هذا الأمد، فكيف يكون ابنه قيس أبا لجالوت المعاصر لداود؟ هذا في غاية البعد وأظنها غفلة من ابن قتيبة ووهما. والحق الّذي لا ينبغي التعديل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح كما تقدم في أنساب الخليفة، وان اسم أبيهم مازيغ وإخوتهم أركيش وفلسطين [1] إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام، وملكهم جالوت سمة معروفة له. وكانت بين فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل بالشام حروب مذكورة. وكان بنو كنعان وواكريكيش شيعا لفلسطين، فلا يقعن في وهمك غير هذا، فهو الصحيح الّذي لا يعدل عنه. ولا خلاف بين نسابة العرب أن شعوب البربر الّذي قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة وكتامة. فإن بين نسابة العرب خلافا والمشهور أنهم من اليمينية، وأن أفريقش لما غزا إفريقية أنزلهم بها. وأما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم   [1] ما ذكره مخالف لما تقدم له في أنساب الخليفة أهـ وصححه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 أنهم من العرب مثل لواتة، يزعمون أنهم من حمير ومثل هوارة يزعمون أنهم من كندة من السكاسك، ومثل زناتة تزعم نسابتهم أنهم من العمالقة فروا أمام بني إسرائيل. وربما يزعمون فيهم أنهم من بقايا التبابعة ومثل عمارة أيضا وزواوة ومكلاتة يزعم في هؤلاء كلهم نسابتهم أنهم من حمير حسبما نذكره عند تفصيل شعوبهم في كل فرقة منهم، وهذه كلها مزاعم. والحق الّذي شهد به المواطن والعجمة أنهم بمعزل عن العرب إلا ما تزعمه نسابة العرب في صنهاجة وكتامة. وعندي أنهم من إخوانهم والله أعلم. وقد انتهى بنا الكلام إلى أنسابهم وأوليتهم، فلنرجع إلى تفصيل شعوبهم وذكرهم أمة بعد أمة. ونقتصر على ذكره من كانت له منهم دولة ملك أو سالف شهرة أو تشعب نسل في العالم وعدد لهذا العهد وما قبله من صنفي البرانس. والبتر منهم وترتيبهم شعبا شعبا حسبما تأدى إلينا من ذلك واشتمل عليه محفوظنا، والله المستعان. (الفصل الثاني في ذكر مواطن هؤلاء البربر بإفريقية والمغرب) اعلم أن لفظ المغرب في أصل وضعه اسم إضافي يدل على مكان من الأمكنة بإضافته إلى جهة المشرق، ومشرق بالإضافة إلى جهة المغرب لأن العرف قد يخصص هذه الأسماء بجهات معينة وأقطار مخصوصة. وعرف أهل الجغرافيا المعتنين بمعرفة هيئة الأرض وقسمتها بأقاليمها ومعمورها وخرابها وجبالها وبحارها ومساكن أهلها، مثل بطليموس ورجاوز [1] وصاحب صقلّيّة المنسوب له الكتاب المشهور بين الناس لهذا العهد في هيئة الأرض والبلدان، وأمثالهم: أن المغرب قطر واحد مميز بين الأقطار. فحدّه من جهة المغرب بحر المحيط وهو عنصر الماء، وسمي محيطا لإحاطته بما انكشف من الأرض كما قدمنا أول الكتاب. ويسمى أيضا البحر الأخضر لتلونه غالبا بالخضرة، ويسمى بحر الظلمات لما أنه تقل فيه الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض   [1] وفي نسخة أخرى: رجار وهو الصحيح وكان ملك صقلّيّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 فيكون مظلما. ولفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه. منعقدة هنالك متراكمة، وتسميه الأعاجم: بحر أوقيانوس يعنون به والله أعلم ما نعني نحن بالعنصر. ويسمونه أيضا بحر البلاية بتفخيم اللام الثانية. وهو بحر كبير غير منحصر، لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسموت الرياح هنالك ولنهايتها إذ لا غاية من العمران وراءه. والبحار المنحصرة إنما جرت فيها السفن بالرياح المعروفة الهوائية بكثرة تجاربهم، فتبعث الريح من الأماكن وغاية مهبها في سمتها فكل ريح عندهم معروفة الغاية. فإذا علم أن جريته بالريح المنبعثة من مكان كذا، وبما خرج من ريح إلى ريح بحسب مقصوده وجهته. وهذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر، ومنبعث الريح، وإن كان معروفا فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به وتذهب فتهلك. وأيضا فإذا أوغل فيه فربما وقع في المتكاثف من الغيوم والأبخرة كما قلناه فيهلك، فلهذا كان راكبه على غرر وخطر. فحد الغرب من جهة المغرب البحر المحيط كما قلناه، وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا وأزمور وأنفي وأسفي، وهي من مدن الغرب وحواضره. وعليه أيضا مسجد ماسة وبلدتا كاوصت ونول من بلاد السوس وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم. وتنتهي المراكب إلى وراء ساحل نول ولا تجاوزه إلا على خطر كما قلناه. وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي والمتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس ويسمى هذا الخليج الزقاق، وعرضه ثمانية أميال فما فوقها. وكانت عليه قنطرة ركبها ماء البحر. ثم يذهب هذا البحر الرومي في سمت الشرق إلى أن ينتهي إلى سواحل الشام وثغوره وما إليها مثل: أنطاكية والعلايا وطرسوس والمصيصة وطرابلس وصور والإسكندرية. ولذلك سمي البحر الشامي. وهو إذا خرج من الخليج ينفسح في ذهابه عرضا. وأكثر انفساحه إلى جهة الشمال، ولا يزال انفساحه ذلك متصاعدا إلى الشمال إلى أن ينتهي إلى غايته. وطوله فيما يقال خمسة آلاف ميل أو ستة. وفيه جزائر ميورقة ومزقة وياسة وصقلّيّة وأقريطش وسردانية وقبرص. وأما عرضه من جهة الجنوب فإنه يخرج عن سمت واحد. ثم يختلف في ذهابه فتارة يبعد في الجنوب وتارة يرجع إلى الشمال. واعترض ذلك بعروض البلدان التي بساحله، وذلك أن عرض البلد هو ارتفاع قطبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 الشمال على أفقه. وهو أيضا بعد ما بين سمت رءوس أهله ودائرة معدل النهار. والسبب في ذلك أن الأرض كرية الشكل، والسماء من فوقها مثلها. وأفق البلد هو فرق بين ما يرى وبين ما لا يرى من السماء ومن الأرض. والفلك ذو قطبين، إذا ارتفع أحدهما على رءوس معمور انخفض الآخر بقدره عنهم، والعمارة في الأرض كلها هي إلى الجانب الشمالي أكثر، وليس في الجنوب عمران لما تقرر في موضعه. فلهذا ارتفع القطب الشمالي على أهل العمران دون الجنوبي. والمارّ على سطح الكرة كلما أبعد في جهة ظهر له من سطح الكرة، ومن السماء المقابل لها ما لم يكن يظهر، فيزيد بعد القطب على الأفق كما أبعد في الشمال، وينقص كلما رجع إلى الجنوب. فعرض سبتة وطنجة التي هي على زقاق هذا البحر وخليجه (له [1] ) ودقائق. ثم يتصاعد البحر إلى الجنوب فيكون عرض تلمسان (لد) ونصف، فتزيد في الجنوب فيكون عرض وهران (لب) أبعد من فاس بيسير لأن عرض فاس (لج) ودقائق. ولهذا كان العمران في المغرب الأقصى أعرض في الشمال من عمران المغرب الأوسط بقدر ما بين فاس وسبتة. وصار ذلك القطر كالجزيرة بين البحار لانعطاف البحر الرومي إلى الجنوب. ثم يرجع البحر بعد وهران عن سمته ذلك فيكون عرض تونس والجزائر (له) على مثل سمته الأول عند منبعثة من الزقاق. ثم يزيد في الشمال فيكون عرض بجاية وتونس يوم على مثل سمت غرناطة ومريه ومالقة. ثم يرجع إلى الجنوب فيكون عرض طرابلس وقابس (له) على مثل السمت الأول بطنجة وسبتة ثم يزيد في الجنوب فيكون عرض برقة (لج) على مثل سمت فاس وتوزر فيكون عرض الإسكندرية (لا) على مثل مراكش وأغمات. ثم يذهب في الشمال إلى القطافة إلى منتهى سمته بسواحل الشام. وهكذا اختلافه في هذه العدوة الجنوبية، ولسنا على علم من حاله في العدوة الشمالية. وينتهي بسواحل عرض هذا البحر في انفساحه إلى سبعمائة ميل أو نحوها ما بين سواحل إفريقية وجنوة من العدوة الشمالية والبلاد الساحلية من المغرب الأقصى والأوسط وإفريقية من لدن الخليج حيث منبعثه كلها عليه مثل طنجة وسبتة وبادس   [1] له: في حساب الجمل (36) أي ان سبته وطنجة تقع على خط العرض 36 درجة ودقائق، وكذلك تونس وطرابلس الغرب وقابس. وعرض تلمسان 35 درجة ونصف، وعرض فاس 34 درجة ودقائق وكذلك برقة. وأما الاسكندرية فتقع على خط العرض 31 درجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 وغساسة وهنين ووهران والجزائر وبجاية وبونة وتونس وسوسة والمهدية وصفاقس وقابس وطرابلس وسواحل برقة والإسكندرية. هذا وصف هذا البحر الرومي الّذي هو حدّ المغرب من جهة الشمال. وأما حدّه من جهة القبلة والجنوب فالجبال المتهيلة الماثلة حجزا بين بلاد السودان وبلاد البربر. وتعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق، وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدئ من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر، فهنالك ينقطع وعرضه ثلاثة مراحل وأزيد. ويعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض محجرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد دريغ، ووراءه من جهة الجنوب وبعض بلاد الجزيرة ذات نخيل، وأنها معدودة في جملة بلاد المغرب، مثل بلاد بودة وتمنطيت في قبلة المغرب الأقصى وتسابيت وتيكورارين في قبلة المغرب الأوسط وغذامس وفزان وودان في قبلة طرابلس. كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى ونخيل وأنهار، ينتهي عدد كل واحد منها إلى المائة فأكثر. وإلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشام من صنهاجة ومتقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان. وفي العدوة الشمالية منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب. وكانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد هذا حدّ المغرب من جهة الجنوب، ومن دون هذا العرق سياج آخر على المغرب مما يلي التلول منه. وهي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في القرب إلى برنيق من بلاد برقة. وهنالك تنقطع هذه الجبال ويسمى مبدؤها من المغرب جبال درن. وما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول وبين العرق الّذي وصفناه آنفا بسائط وقفارا أكثر نباتها الشجر، وفيما يلي التلول منها، ويقاربها بلاد الجريد ذات نخل وأنهار. ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت والقرى قوبان [1] وغيرهما، بلاد ذات نخل وأنهار ومزارع متعددة عامرة. وفي قبلة فاس سجلماسة وقراها بلد معروف، ودرعة أيضا وهي معروفة وفي قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل وأنهار. وفي قبلة تاهرت   [1] وفي النسخة الباريسية: مويان وفي نسخة أخرى فوبان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 القصور أيضا بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد، وهي ذات نخل ومزارع وأنهار. ثم قصور معينات تناهز المائة وأكثر قبلة الجزائر ذات نخل وأنهار. ثم بلد واركلى قبلة بجاية بلد واحد مستجر العمران كثير النخل. وفي سمته إلى جهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلاثمائة منتظمة على حفافي واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر، قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب. وتشتمل كلها على النخل والأنهار والفدن والقرى والمزارع. ثم بلاد الجريد قبلة تونس وهي: نفطة وتوزر وقفصة وبلاد نفزاوة وتسمى كلها بلاد قسطيلة مستجرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل والأنهار. ثم قابس قبلة سوسة وهي حاضرة البحر من أعظم أمصار إفريقية. وكانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد. وتشتمل على النخل والأنهار والمزارع. ثم فزان وودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل وأنهار، وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض إفريقية لما أغزاها عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص. ثم الواحات قبلة برقة، ذكرها المسعودي في كتابه وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعا ولا مرعى، إلى أن تنتهي إلى العرق الّذي ذكرناه. ومن ورائه مجالات المتلثّمين كما قلناه، مفاوز معطشة إلى بلاد السودان. وما بين بلاد هذه والجبال التي هي سياج التلول بسائط متلوّن مزاجها تارة بمزاج التلول، وتارة بمزاج الصحراء، بهوائها ومياهها ومنابتها. وفيها القيروان وجبل أوراس معترض وسطها، وبلاد الحصنة حيث كانت طبنة ما بين الزاب والتل، وفيها مغرّة والمسيلة، وفيها السرسو قبلة تلمسان حيث تاهرت فيها جبل ديرو [1] وقبلة فاس معترض في تلك البسائط. هذا حدّ المغرب من جهة القبلة والجنوب. وأما من جهة الشرق فيختلف باختلاف الاصطلاحات فعرف أهل الجغرافيا أنه بحر أهل القلزم المنفجر من بحر اليمن، هابط على سمت الشمال بانحراف يسير إلى المغرب حتى ينتهي إلى القلزم والسويس، ويبقى بينهم من هنالك، وبين سمته من البحر الرومي مسيرة يومين. وينقطع عند السويس والقلزم. وبعده عن مصرفي جهة الشرق   [1] وفي نسخة أخرى ديدو ولم نجد لها ذكر في المراجع التي بين أيدينا ولعلها دبرو وهي قرية وسط سهول تافرا في إقليم وجدة (كتاب المغرب/ 88) (قبائل المغرب/ 321) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 ثلاثة أيام. هذا آخر المغرب عندهم ويدخل فيه إقليم مصر وبرقة. وكان المغرب عندهم جزيرة أحاطت بها البحار من ثلاث جهاتها كما تراه. وأما العرف الجاري لهذا العهد بين سكان هذه الأقاليم فلا يدخل فيه إقليم مصر ولا برقة، وإنما يختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب في هذا العرف لهذا العهد. وهذا الّذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم. فأما المغرب الأقصى منه وهو ما بين وادي ملوية من جهة الشرق إلى أسفي حاضرة البحر المحيط وجبال درن من جهة الغرب فهي في الأغلب ديار المصامدة من أهل درن وبرغواطة وغمارة. وآخر غمارة بطوية مما يلي غساسة، ومعهم عوالم من صنهاجة ومضغره [1] وأوربة وغيرهم، يحيط به البحر الكبير من غربية، والرومي من شمالية، والجبال الصاعدة المتكاثفة مثل درن وجانب القبلة وجبال تازا من جهة الشرق، لأن الجبال أكثر: ما هي وأكنف قرب البحار بما اقتضاه التكوين من ممانعة البحار بها. فكانت جبال المغرب لذلك، أكثر ساكنها من المصامدة في الأغلب وقيل من صنهاجة. وبقيت البسائط من الغرب مثل أزغام وتامستا وتادلاود كالة. واعتمرها الظواعن من البربر الطارئين عليه من جشم ورياح مفص المغرب بساكنه من الأمم لا يحصيهم إلا خالقهم، وصار كله جزيرة وبلد واحد أحاطت به الجبال والبحار، وقاعدته لهذا العهد فاس، وهي دار ملكه، ويمر فيه النهر العظيم المعروف بوادي أم ربيع، وهو نهر عظيم يمتنع عبوره أيام الأمطار لاتساعه، ويعظم مدّه إلى البحر فينتهي إلى سبعين ميلا أو ما يقاربها، ومصبه في البحر الكبير عند أزبور. ومنبعه من جبال درن من فوهة كبيرة ينبع منها هذا النهر ويتساهل إلى بسيط المغرب. وينبع منها أيضا نهر آخر، وينحدر إلى القبلة. ويمر ببلاد درعة ذات النخل المخصوصة بنبات النيلج. وصناعة استخراجه، من شجره وهي قصور ذات نخل موضوعة في سفح جبل درن من آخره، وبها يسمى هذا النهر ويجاورها، الى أن يغوص في الرمل قبلة بلاد السوس. وأما نهر ملوية آخر المغرب الأقصى فهو نهر عظيم منبعه من فوهة في جبال قبلة تازى، ويصب في البحر الرومي عند غساسة. وعليه كانت ديار مكناسة المعروفة بهم في   [1] وفي نسخة أخرى مطغرة: بطن من خريس ينتشر بتلمسان وفاس والصحراء بين تافيلات وتوات، وتكتب أيضا مضغرة ومدغرة. ومنها ميسرة المضغري الّذي أثار معركة طنجة عام 122 هـ/ 738 م. (الموسوعة الغربية معلمة الصحراء والملحق الأول/ 197- المعجم التاريخي/ 67) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 القديم، ويسكنها لهذا العهد أمم أخرى من زناتة في قصور منتظمة إلى أعلى النهر يعرفون بوطاط [1] ويجاورهم هنالك، وفي سائر نواحيه أمم من البربر أشهر من فيهم بطالسة إخوة مكناسة. وينبع مع هذا النهر من فوهته نهر كبير ينحدر ذاهبا إلى القبلة مشرقا بعض الشيء، ويقطع العرق على سمته إلى أن ينتهي إلى البردة [2] ، ثم بعدها إلى تمطيت، ويسمى لهذا العهد كير وعليه قصورها. ثم يمر إلى أن يصب في القفار ويروغ في قفارها ويغور في رمالها، وهو موضع مقامه قصور ذات نخل تسمى وركلان [3] وفي شرق بوده مما وراء العرق قصور تسابيت من قصور الصحراء. وفي شرقي تسابيت إلى ما يلي الجنوب قصور تيكورارين تنتهي إلى ثلاثمائة أو أكثر في واد واحد، فينحدر من المغرب إلى المشرق، وفيها أمم من قبائل زناتة. وأما المغرب الأوسط فهو في الأغلب ديار زناتة كان لمغراوة وبني يفرن. وكان معهم مديونة ومغيلة وكومية ومطغرة ومطماطة. ثم صار من بعدهم لبني وماتوا وبني يلومي. ثم صار لبني عبد الواد وتوجين من بني مادين وقاعدته لهذا العهد تلمسان، وهي دار ملكه ويجاوره من جهة المشرق بلاد صنهاجة من الجزائر ومتيجة والمرية وما يليها إلى بجاية، وقبائله كلهم لهذا العهد مغلوبون للعرب من زغبة. ويمر في وادي شلف بني وأطيل النهر الأعظم منبعه من بلد راشد في بلاد الصحراء. ويدخل إلى التل من بلاد حصين لهذا العهد. ثم يمر مغربا ويجتمع فيه سائر أودية المغرب الأوسط مثل مينا وغيره إلى أن يصب في البحر الرومي ما بين كلمتين [4] ومستغانم. وينبع من فوهته نهر آخر يذهب مشرقا من جبل راشد، ويمر بالزاب إلى أن يصب في سبخة ما بين توزر ونفزاوة معروفة هنالك، ويسمى هذا النهر وادي شدي. وأما بلاد بجاية وقسنطينة فهي دار زواوة وكتامة ومحيسة [5] وهوارة، وهي اليوم ديار للعرب إلا ممتنع الجبال، وفيها بقاياهم. وأما إفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فتح [6]   [1] وفي النسخة الباريسية: وطاطا. [2] وفي نسخة أخرى بودة، ولعلها بورة: مدينة على ساحل بحر مصر قرب دمياط، تنسب إليها العمائم البورية والسمك البوري (معجم البلدان) . [3] وفي النسخة التونسية: ركان. [4] وفي نسخة أخرى كلميتوا. [5] وفي نسخة أخرى عجيسة وكذلك في قبائل المغرب/ 302- 336. [6] وفي نسخة أخرى: فيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 كانت ديارا لنفزاوة وبني يفرن ونفوسة ومن لا يحصى من قبائل البربر. وكانت قاعدتها القيروان وهي لهذا العهد مجالات للعرب من سليم وبني يفرن وهوارة، ومغلوبون تحت أيديهم. وقد تبدوا معهم ونسوا رطانة الأعاجم، وتكلموا بلغات العرب، وتحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم. وقاعدتها لهذا العهد تونس وهي دار ملكها، ويمرّ فيها النهر الأعظم المعروف بوادي مجردة يجتمع فيه سائر الأودية بها، ويصب في البحر الرومي على مرحلة من غربي تونس بموضع يعرف ببنزرت. وأما برقة فدرست معالمها وخربت أمصارها، وانقرض أمرها. وعادت مجالات للعرب بعد أن كانت دارا للواتة وهوارة وغيرهم من البربر. وكانت بها الأمصار المستجرة مثل لبدة وزويلة وبرقة وقصر حسان وأمثالها، فعادت يبابا ومفاوز كان لم تكن والله أعلم. (الفصل الثالث في ذكر ما كان لهذا الجيل قديما وحديثا من الفضائل الانسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم الى مراقي العز ومعارج السلطان والملك) قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر ووفور عدده وكثرة قبائلهم وأجيالهم، وما سواه من مغالبة الملوك ومزاحمة الدول عدة آلاف من السنين، من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام وخروجهم عنه إلى إفريقية والمغرب، وما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولا، ثم في مشايعتهم ومظاهرتهم على عدوهم ثانيا من المقامات الحميدة والآثار الجميلة. وما كان لوهيا الكاهنة وقومها بجبل أوراس من الملك والعز والكثرة قبل الإسلام وبعده حتى تغلب عليهم العرب، وما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولا، ثم ردتهم ثانيا، وتحيزهم إلى المغرب الأقصى وفرارهم أمام عقبة بن نافع ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب. (قال ابن أبي زيد [1] ) : إن البربر ارتدوا بإفريقية المغرب اثنتي عشرة مرة، وزحفوا في كلها للمسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير، وقيل بعدها. وتقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء والقفر من البلاد، وما شيدوا من   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن أبي يزيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 الحصون والآطام والأمصار من سجلماسة وقصور توات، وتجورارين وفيجيج ومصاب وواركل وبلاد ريغة والزاب ونفزاوة والحمة وغذامس، ثم ما كان لهم من الأيام والوقائع والدول والممالك. ثم ما كان بينهم وبين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بإفريقية. وما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة ومع لمتونة بتلمسان وتاهرت من الموالاة والانحراف. وما استولى عليه بنو يادين آخرا باسهام الموحدين وأقطاعهم من بلاد المغرب، وما كان لبني مرين في الاجلاب على عير عبد المؤمن من الآثار، وما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام وأنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم، مظاهرون [1] لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس ويونان والروم. ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم، قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولا للدول وعبيدا للجباية. واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك، والا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت، وزناتة أيضا حتى أسر أميرهم وزمار بن مولات، وحمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان. ومن بعد ذلك هوارة وصنهاجة وبعدهم كتامة وما أقاموا من الدولة التي ملكوا بها المغرب والمشرق، وزاحموا بني العباس في ديارهم وغير ذلك منهم كثير. وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة، وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم ومراعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل، ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكارم والثبات في الشدائد وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم. وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلو الهمة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه، فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون إسوة لمتبعيه من الأمم، وحسبك ما اكتسبوه من حميدها، واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز، وأوفت بهم على ثنايا   [1] وفي النسخة التونسية: مضاهون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم. وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى بلكين بن زيري الصنهاجي عامل إفريقية للعبيديين ومحمد بن خزر والخير ابنه، وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي، ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب، وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي. وكان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين دولهم والمعاهدون لملكهم بالمغرب الأقصى والأوسط، كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين ويغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد، ومحمد بن عبد القوي ووزمار كبير بني توجين وثابت بن منديل أمير مغراوة أهل شلف ووزمار بن إبراهيم زعيم بني راشد المتعارضين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم والتمهيد لقومهم على شاكلته بقوة جمعه. فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدما وأطولهم فيها يدا، وأكثرهم لها جمعا، طارت عنهم في ذلك قبل الملك وبعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر وغيرهم، وبلغت في الصحة والشهرة منتهى التواتر. وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين كتاب الله [1] لصبيانهم، والاستفتاء في فروض أعيانهم، واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم، وصاغيتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم للبركة في آثارهم وسؤال الاعداد عن صالحيهم، وإغشائهم البحر أفضل المرابطة والجهاد، وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم وصحة معتقداتهم، ومتين ديانتهم التي كانت ملاكا لعزهم ومقادا إلى سلطانهم وملكهم. وكان المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وبنوهم. ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم وبنوه، فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس واختطاط الزوايا والربط، وسد الثغور وبذل النفس في ذات الله، وإنفاق الأموال في سبيل الخيرات، ثم مخالطة أهل العلم وترفيع مكانهم في مجالستهم ومفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة والانقياد لإشاراتهم في الوقائع والأحكام ومطالعة سير الأنبياء وأخبار الأولياء وقراءتها بين أيديهم من دواوين ملكهم ومجالس أحكامهم   [1] وفي نسخة ثانية: اتخاذ المعلمين الأحكام دين الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 وقصور عزهم. والتعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين وإنصاف الرعايا من العمال والضرب على يد أهل الجور واتخاذ المساجد بصحن دورهم وشدة خلافهم وملكهم، يعمرونها بالصلوات والتسبيحات والقراء المرتبين لتلاوة كتاب الله أحزابا بالعشي والإشراق على الأيام، وتحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد والكتائب المجهزة، وإنفاق الأموال العريضة، شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم. وأما وقوع الخوارق فيهم وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم، فقد كان فيهم من الأولياء المحدثين أهل النفوس القدسية والعلوم الموهوبة ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة والكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيبة. ومن الغرائب التي خرقت العادة وأوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل وكرامته لهم، بما آتاهم من جماع الخير وآثرهم به من مذاهب الكمال، وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان، ينقل ذلك في أخبار توهم عجائب، فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة، أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العباس، ذكره عريب بن حميد في تاريخه. ومنهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار، الخارج على الشيعة سنة اثنتين وثلاثمائة الدائن بدين الخارجية. أخذ العلم بتوزر عن مشيختها، ورأس في الفتيا وقرأ مذاهب الإضافية من الخوارج، وصدق فيه. ثم لقي عمارا الأعمى الصفري النكار. فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من آية السعادة بانتحاله. وهو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لا يغفل. ومنهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن ولهاصة، ثم من سوماتة منهم، مولده عام عشرة وثلاثمائة ووفاته عام ثلاثة وثمانين وثلاثمائة. كان من البتر من ولد مادغيس هلك على عهد عبد الرحمن الناصر. ومنهم أيضا أبو محمد بن أبي زيد علم الملة وهو من نفزة أيضا. ومنهم علماء بالنسب والتاريخ وغير ذلك من فنون العلوم. ومن مشاهير زناتة أيضا موسى بن صالح الغمري، معروف عند كافتهم معرفة وضوح وشهرة، وقد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة. وهو وإن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه، فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم من ولاية وكهانة وعلم وسحر، كل نوع من آثار الخليقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام. ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها، لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته. وربما ضاقت حوامل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة، ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة، وينقلون أن حملها كان أثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع، كانت ترد فيها على الناس، ويردون عليها ويرون أنها علقت من فضل ولوغه، ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خلعة الشجاعة فيه. وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين. ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره. (الفصل الرابع في ذكر أخبارهم على الجملة من قبل الفتح الإسلامي ومن بعده الى ولاية بني الأغلب) هؤلاء البربر جيل وشعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بإفريقية والمغرب. وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها. نقل ابن أبي الرقيق أن موسى ابن نصير لما فتح سقوما [1] كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد بن عبد الملك ويحك إني أظنها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة، ولم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها. وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم، فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم، فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم. ذكر ابن الكلبي أن حمير أبا لقبائل اليمانية، ملك المغرب مائة سنة وأنه الّذي ابتني   [1] وفي النسخة التونسية: سقيوما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 مدائنه مثل إفريقية وصقلّيّة واتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبابعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم، واختطوا بسبب البحر وما يليه من الأرياف مدنا عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم والآثار لهذا العهد مثل: سبيطلة وجلولاء ومزناق وطاقة وزانة وغيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها. وقد كانوا دانوا العهد هم بما تعبدوهم به من دين النصرانية، وأعطوهم المهادنة وأدوا إليهم الجباية طواعية. وكان للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال. وأمراؤها لا يرامون بذل، ولا ينالهم الروم والإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة، وقد صبحهم الإسلام وهم في مملكة قد استولوا على رومة. وكانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومصر يؤدون الجباية له، وكما كان صاحب طرابلس ولبدة وصبرة وصاحب صقلّيّة وصاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع. وعنهم كلهم أخذوا دين النصرانية، فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر إفريقية ولم يكن للروم فيها شيء من ولاية. وإنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج ومن حشودهم. وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح إفريقية فمن باب التغليب، لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج، وما قاتلوا في الشام إلا الروم، فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية. فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا اسم الروم على جميع أمم النصرانية. ونقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج وليس من الروم، وكذا الأمة الذين كانوا بإفريقية غالبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها، إنما كانوا من الفرنجة. وكذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم، لقرب الشام وسلطانه منهم كما كان جراءة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح، وكما كانت نفوسة من برابر إفريقية قندلاوة ومدينونة وبهلولة وغياتة وبنو بازاز [1] من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في   [1] وفي نسخة أخرى: بنو فازان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 نواحيه من بقايا الأديان والملل، فكان البربر بإفريقية والمغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج، وعلى دين النصرانية الّذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه حتى إذا كان الفتح وزحف المسلمون إلى إفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع وعشرين، وغلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤيّ، فجمع لهم جرير [1] ملك الفرنجة يومئذ بإفريقية من كان بأمصارها من الفرنج والروم، ومن بضواحيها من جموع البربر وملوكهم. وكان ملك ما بين طرابلس وطنجة، وكانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة وعشرين ألفا، والمسلمون يومئذ في عشرين ألفا، فكان من هزيمة العرب لهم وفتحهم لسبيطلة وتخريبهم إياها وقتلهم جرجير ملكهم. وما نفلهم الله من أموالهم وبناتهم التي اختصت منهن ابنته بقاتله عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة والملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور. ثم أرزي الفرنجة ومن معهم من الروم بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى حصون إفريقية، وانساح المسلمون في البسائط بالغارات، ووقع بينهم وبين البربر أهل الضواحي زحوف وقتل وسبي، حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم وزمار بن صقلاب [2] جد بني خزر، وهو يومئذ أمير مغراوة وسائر زناتة، ورفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده، ومن عليه وأطلقه، وعقد له على قومه. ويقال إنما وصله وافدا، وحصن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم وشرطوا لابن أبي سرح ثلاثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب، ويخرج بهم من بلادهم ففعل. ورجع المسلمون إلى المشرق وشغلوا بما كان من الفتن الإسلامية. ثم كان الاجتماع والاتفاق على معاوية بن أبي سفيان، وبعث معاوية بن خديج السكونيّ من مصر لافتتاح إفريقية سنة خمس وأربعين. وبعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئا وهزمهم العرب ساحل أجم. وحاصروا جلولاء وفتحوها، وقفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على إفريقية بعده عقبة بن نافع، فاختط القيروان وافترق أمر الفرنجة وصاروا   [1] لعله جرجير كما سيرد بعد قليل. [2] وفي النسخة الباريسية: صولات بن وزمار (كتاب قبائل المغرب/ 369. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 إلى الحصون وبقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية وولى على إفريقية أبا المهاجر مولى [1] وكانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم، وهو رأس البرانس، ومرادفه سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة، وكان على دين النصرانية فأسلما الأول الفتح. ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر واجتمع إليهما البرانس، وزحف إليهم أبو المهاجر حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم وظفر بكسيلة فأسلم واستبقاه. ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظا على صحابته لأبي المهاجر. ثم استفتح حصون الفرنجة مثل ماغانة [2] ولميس، ولقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت فغضهم جمعا بعد جمع، ودخل المغرب الأقصى، وأطاعته غمارة، وأميرهم يومئذ بليان. ثم أجاز إلى وليلى ثم إلى جبال درن، وقتل المصامدة، وكانت بينهم وبينه حروب، وحاصروه بجبال درن. ونهضت إليهم جموع زناتة وكانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة، وأثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام، ودوخ بلادهم. ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام وهم يومئذ على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية، فأثخن فيهم وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر، وقاتل مسوفة من وراء السوس، وساسهم وقفل راجعا. وكسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله لجمعه معه في عسكره سائر غزواته. فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود. وتراسل كسيلة وقومه، فأرسلوا له شهودا وانتهزوا الفرصة فيه وقتلوه ومن معه وملك كسيلة إفريقية خمس سنين ونزل القيروان وأعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري والأثقال، وعظم سلطانه على البربر. وزحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع وستين، وجمع له كسيلة سائر البربر، ولقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم. وأتبعهم العرب إلى محنة [3] ثم إلى ملوية وفي هذه الواقعة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضت شوكتهم واضمحل أمر الفرنجة فلم يعد، وخاف البربر من زهير ومن العرب خوفا شديدا فلجئوا   [1] هكذا بالأصل وفي النسخة التونسية: مولى (فلان) . [2] وفي نسخة أخرى: باغاية. [3] وفي نسخة أخرى: مر محنة. وفي النسخة التونسية مر مجنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 إلى القلاع والحصون. ثم ترهب زهير بعدها وقفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه. واضطرمت إفريقية نارا وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم. وكان من أعظمهم شأنا يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية [1] بن تيفان ملكة جبل أوراس وقومها من جراوة ملوك البتر، وزعمائهم فبعث عبد الملك إلى حسان بن النعمان الغساني عامله على مصر ان يخرج إلى جهاد إفريقية، وبعث إليه بالمدد، فزحف إليها سنة تسع وسبعين ودخل القيروان وغزا قرطاجنة وافتتحها عنوة، وذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلّيّة وإلى الأندلس. ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة وقومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة. وزحفت إليه فاقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسر خالد بن يزيد القيسي. ولم تزل الكاهنة والبربر في اتباع حسان والعرب حتى أخرجوهم من عمل قابس، ولحق حسان بعمل طرابلس. ولقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام وبنى قصوره وتعرف لهذا العهد به. ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها واتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع ابنتها [2] . وأقامت في سلطان إفريقية والبربر خمس سنين. ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالمدد، فرجع إلى إفريقية سنة أربع وسبعين، وخربت الكاهنة جميع المدن والضياع، وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا في قرى متصلة. وشق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم ووجد السبيل إلى تفريق أمرها، وزحف إليها وهي في جموعها من البربر فانهزموا، وقتلت الكاهنة بمكان السر المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس. واستأمن إليه البربر على الإسلام والطاعة وعلى أن يكون منهم اثنا عشر ألفا مجاهدين معه، فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وعقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة [3] وعلى جبل أوراس فقالوا: لزمنا الطاعة له سبقناها إليها وبايعناه عليها [4] . وأشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها وانصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين وصالح من   [1] وفي النسخة التونسية: ثابتة. [2] وفي نسخة أخرى: ابنيها. [3] وفي النسخة التونسية: هوارة وبعض الأحيان جراوة. [4] وفي النسخة التونسية: لطاعة سبقا بها إليه بإيعاز أمهما واشارتها عليهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 التقى بيده إلى البربر على الخراج. وكتب الخراج على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر والبرانس. واختلفت أيدي البربر فيما بينهم على إفريقية والمغرب فخلت أكثر البلاد، وقدم موسى بن نصير إلى القيروان واليا على إفريقية. ورأى ما فيها من الخلاف، وكان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني وأثخن في البربر. ودوخ المغرب وأدّى إليه البربر الطاعة. وولي على طنجة طارق بن زياد، وأنزل معه سبعة وعشرين ألفا من العرب واثني عشر ألفا من البربر، وأمرهم أن يعلموا البربر القرآن والفقه. ثم أسلم بقية البربر على يد إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى ومائة. وذكر أبو محمد بن أبي زيد: إن البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة، ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب وأجاز معه كثير من رجالات البربر أمرائهم برسم الجهاد. فاستقروا هنالك من لدن الفتح، فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه، ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسوا الردة. ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق. وتعددت طوائفهم وتشعبت طرقها، من الإباضية والصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج. وفشت هذه البدعة وعقدها رءوس النفاق من العرب وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا [1] في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب، فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة اثنتين ومائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات. ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس، وأثخن في البربر وسبى وغنم. وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى وداخل البربر منه رعب وبلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه. وثار ميسرة المطغتي [2] بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله وبايع لعبد الأعلى بن جريج   [1] وفي النسخة التونسية: فأجلبوا. [2] وفي نسخة أخرى: ميسرة المطغري وفي كتاب قبائل الغرب ص 382: ميسرة المدغري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 الإفريقي روميّ الأصل ومولى العرب، كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم، فقام بأمرهم مدة وبايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعيا إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية. ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه وقدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي. (قال ابن عبد الحكم) هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم، وزحف إلى العرب وسرح إليهم عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته ومعهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف، وانهزم العرب وقتل خالد بن أبي حبيب ومن معه وسميت وقعة الأسراب وانتقضت البلاد ومرج أمر الناس، وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب وولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث وعشرين وسرحه في اثني عشر ألفا من أهل الشام. وكتب إلى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أن يمدوه، فخرج إلى إفريقية والمغرب حتى بلغ وادي طنجة وهو وادي سبس فزحف إليه خالد ابن حميد الزناتي فيمن معه من البربر، وكانوا خلقا لا يحصى. ولقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم، وقتل كلثوم وأضرمت العساكر فمضى أهل الشام إلى الأندلس مع فلح بن بشر القشيري ومضى أهل مصر وإفريقية إلى القيروان. وبلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع وعشرين وأربعمائة [1] وهوارة يومئذ خوارج على الدولة، منهم عكاشة بن أيوب وعبد الواحد بن يزيد في قومهما، فثارت هوارة ومن تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد. وقتل عبد الواحد الهواري وأخذ عكاشة أسيرا، وأحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة وثمانين ألفا. وكتب بذلك حنظلة إلى هشام وسمعها الليث بن سعد فقال: ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلى من غزوة القرن والأصنام. ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق والتاث أمرها لما كان من بني أمية من الفتنة، وما كان من أمر الشيعة والخوارج مع مروان. وأقضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية وأجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى إفريقية فملكها وغلب   [1] الصحيح سنة اربع وعشرين ومائة وهذا الخطأ راجع في الأغلب الى الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 حنظلة عليها سنة ست وعشرين ومائة فعادت هيف إلى أديانها، واستشرى داء البربر وأعضل أمر الخارجية ورءوسها، فانتقضوا من أطراف البقاع، وتواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم. وتولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة، وتغلب أميرهم ثابت بن وزيدون وقومه على باجة، وثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه. وثار بطرابلس عبد الجبار والحرث من هوارة، وكانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح، وبقي الأمر على ذلك مدة، وثار إسماعيل بن زياد في قتل البربر. وأثخن فيهم وزحف إلى تلمسان سنة خمس وثلاثين ومائة فظفر بها ودوخ المغرب وأذل من كان فيه من البربر. ثم كانت بعد ذلك فتنة وربجومة [1] وسائر قبائل نفزاوة سنة أربعين ومائة، وذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر وقتله أخواه إلياس وعبد الوارث، فولي مكانه ابنه حبيب، وطالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس ولحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل، وتبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصة واجتمعت لهم كلمة نفزاوة ودعوا لأبي جعفر المنصور، وزحفوا إلى القيروان ودخلوها عنوة، وفر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة وقبائلهم. وولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي، ثم انهزم حبيب إلى أوراس، واتبعه عاصم، فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد وجموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان وقتلوه واستولت وربجومة على القيروان وسائر إفريقية، وقتلوا من كان بها من قريش وربطوا دوابهم بالمسجد الجامع، واشتد البلاء على أهل القيروان وأنكرت ذلك من فعل وربجومة ومن إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوارة وزنانة فخرجوا واجتمعوا إلى أبي الخطاب عليها واجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة وهوارة وزحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد وسائر وربجومة ونفزاوة، واستولى على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم وهو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية، كان من موالي العرب ومن رءوس هذه البدعة. ورجع أبو الخطاب إلى طرابلس واضطرم المغرب نارا،   [1] وفي النسخة التونسية: ورفجومة وقد مرت معنا من قبل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 وانتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها، واجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب منه أربعين ومائة، وقدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود، وأسسوا مدينة سجلماسة ونزلوها، وقدم محمد بن الأشعث واليا على إفريقية من أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب ولقيه بسرت، فهزموا ابن الأشعث وقتل البربر ببلاد ريفا [1] وفر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط، واجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية ولواتة ورجالة ونفزاوة فنزل بها، واختط مدينتها سنة أربع وأربعين ومائة وضبط ابن الأشعث إفريقية وخافه البربر. ثم انتقل بنو يفرن من زناتة ومغيلة من البربر بنواحي تلمسان، وقدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن، ويقال إنه من مغيلة وهو الأصح في شأنه، وبويع له بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة. وزحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة، فلما قرب منه هرب أبو قرة، فنزل الأغلب الزاب. ثم اعتزم على تلمسان ثم طنجة، ورجع إليه الجند فرجع. ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمرو بن حفص من ولد قبيصة ابن أبي صفرة أخي المهلب. وكان تغلب هوارة منذ سنة إحدى وخمسين ومائة [2] واجتمعوا بطرابلس، وقدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مرين [3] بن تطوفت من أمراء مغيلة، ويسمى أبا قادم. وزحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها وملكوا طرابلس، وزحفوا إلى القيروان فحاصروها. ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في اثني عشر معسكرا. وكان منهم أبو قرة في أربعين ألفا من الصفرية وعبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية، والمسور بن هانئ في عشرة آلاف كذلك، وجرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة، وعبد الملك ابن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية. واشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم. وكان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعا، وأشدّهم قوة، فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفا وأعطى ابنه في إتمام ذلك أربعة آلاف، وافترقوا وارتحلوا عن طبنة. ثم بعث بعثا إلى ابن رستم فهزمه، ودخل تاهرت مفلولا، وزحف عمر بن حفص إلى أبي حاتم والبربر   [1] وفي نسخة أخرى: وقتل البربر قتلا ذريعا. [2] وفي نسخة أخرى: وكان يلقب هزارمرد سنة احدى وخمسين. [3] وفي نسخة أخرى: مدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 الإباضية الذين معه. ونهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان، وشحنها بالأقوات والرجال. ثم لقي أبا حاتم والبربر وهزموه، ورجع إلى القيروان وحاصروه. وكانوا في ثلاثمائة وخمسين ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، وكانوا كلهم إباضية. وطال الحصار وقتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع وخمسين ومائة. وصالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب وارتحل. وقدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع وخمسين ومائة واليا على إفريقية، فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري، وافترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم، وانهزم البربر ولحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة وبعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر. ثم غلب عليه فقتله ومن كان معه من البربر، وهربوا إلى كل ناحية. وكانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنة إلى انقضاء ثلاثمائة وخمسة وسبعين حربا. وقدم يزيد إفريقية فزال فسادها ورتب القيروان، ولم تزل البلاد هادئة، وانتقض ورفجومة سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم رجلا منهم اسمه أبو زرجونة، فسرح إليهم يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه. واستأذنه ابنه المهلب وكان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له، وأمده بالعلاء بن سعيد ابن مروان المهلبي من عشيرتهم أيضا، فأوقع بهم وقتلهم أبرح قتل. وانتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة ابنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى وستين ومائة، وولوا عليهم صالح بن نصير النفزي ودعوا إلى رأيهم رأي الإباضية، فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمّة في عشرة آلاف فهزمهم وقتل البربر أبرح قتل. ثم تحيز إلى صالح بن نصير، ولم يشهد الاولى من البربر الإباضية واجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان. وركدت ريح الخوارج من البربر من إفريقية، وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال، ورغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى وسبعين ومائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، فوادعه وانحصدت شوكة البربر واستكانوا للغلب وأطاعوا للدين، فضرب الإسلام بجرانه، وألقت الدولة الضريبة على البربر بكلكلها، وتقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر إفريقية والمغرب من قبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 الرشيد هارون سنة خمس وثمانين ومائة فاضطلع بأمر هذه الولاية، وأحسن السيرة وقوّم القتاد ورأب الصدع وجمع الكلمة. ورضيت الكافة واستقل بولايتها غير منازع ولا متشوه، وتوارثها بنوه خالفا عن سالف. وكانت لهم بإفريقية والمغرب الدولة التي ذكرناها من قبل إلى أن انقرض أمر العرب بإفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفارّ إلى المشرق أمام كتامة سنة ست وتسعين ومائتين كما نذكره. وخرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية. قام فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي، فكان ذلك آخر عهد بالملك والدولة بإفريقية. واستقل كتامة بالأمر من يومئذ، ثم من بعدهم من برابرة المغرب. وذهبت ريح العرب ودولتهم من المغرب وإفريقية، فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد. وصار الملك للبربر وقبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى وجيلا بعد آخر، تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس، وتارة إلى الهاشميين من بني العباس وبني الحسن. ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخرا حسبما نذكر ذلك كله مفصلا عند ما يعرض لنا من ذكر دول زناتة والبربر الذين نحن في سياقة أخبارهم. (البرابرة البتر) (الخبر عن البرابرة البتر وشعوبهم ونبدأ منهم أولا بذكر نفوسة وتصاريف أحوالهم) كان مادغيس الأبتر جد البرابرة البتر، وكان ابنه زحيك ومنه تشعبت بطونهم. فكان له من الولد فيما يذكر نسابة البربر أربعة. نفوس وأداس وضرا ولوا، فأما أداس فصار في هوارة لما يقال إن هوارة خلف أباه زحيك على أمه قبل فصاله فانتسب إليه واختلط بولده، واندرجت بطون أداس في هوارة كما ذكرناه. وأما ضرا ولوا فسنأتي بذكر بطونهم واحدا واحدا. وأما نفوس فهم بطن واحد تنسب إليه نفوسة كلها. وكانوا من أوسع قبائل البربر فيهم شعوب كثيرة مثل بني زمور وبني مكسور [1] وماطوسة. وكانت مواطن جمهورهم بجهات طرابلس وما إليها، وهناك الجبل المعروف بهم.   [1] وفي النسخة التونسية: مسكور وكذلك في قبائل المغرب/ 308. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 وهم على ثلاثة مراحل من قبلة طرابلس يسكنه اليوم بقاياهم. وكانت مدينة صبرة قبل الفتح في مواطنهم، وتعزى إليهم، وهي كانت باكورة الفتح لأول الإسلام، وخرب المغرب بعد استيلائهم عليها فلم يبق منهم إلا الأطلال ورسوم خافية. وكان من رجالاتهم إسماعيل بن زياد المتغلب على قابس سنة اثنتين وثلاثين ومائة لأول الدولة العباسية. ومنهم لهذا العهد أوزاع متفرقون في الأقطار بعمالات مصر والمغرب، والله وارث الأرض ومن عليها، وأمالوا فمن ولده نفزاوة ولواتة كما نذكر. (الخبر عن نفزاوة وبطونهم وتصاريف أحوالهم) وهم بنو تطوفت بن نفزاو بن لوا الأكبر بن زحيك، وبطونهم كثيرة مثل غساسة ومرنيسة وزهيلة وسوماتة وزاتيمة وولهاصة ومجره وورسيف، ومن بطونهم مكلاتة. ويقال إن مكلاتة من عرب اليمن وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه، وليس من البربر. ولمكلاتة بطون متعددة مثل بني ورياغل وكزناية وبني يصلتن وبني ديمان ورمحوق وبني يزناسن [1] ويقال إن غساسة منهم، هكذا عند نسابة البربر مثل سابق المطماطي وغيره ومن بطون ولهاصة ورتدين بن داحية بن ولهاصة وورفجومة بن نيرغاس بن ولهاص. ومن بطون ورفجومة زكوله رجالة لذكاك بن ورفجوم إلى بطون أخرى كثيرة. وكان ورفجومة هؤلاء أوسم بطون نفزاوة وأشدهم بأسا وقوة. ولما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر المنصور وقتله أخواه عبد الوارث وإلياس وطالبهما ابنه حبيب بالثأر فلحق عبد الوارث بورفجومة، ونزل على أميرهم عاصم بن جميل بأوراس، وكان كاهنا فأجاره وقام بدعوة أبي جعفر المنصور، واجتمعت إليه نفزاوة، وكان من رجالاتهم عبد الملك بن أبي الجعد ويزيد بن سكوم وكانوا يدينون بدين الإباضية من الخوارج، وزحفوا إلى القيروان سنة أربعين ومائة. وفر عنها حبيب بن عبد الرحمن، ودخلها عبد الملك بن أبي الجعد وقتل حبيبا. واستولت نفزاوة على القيروان وقتلوا من كان بها من قريش وسائر العرب، وربطوا دوابهم بالمسجد، وعظمت حوادثهم.   [1] وفي نسخة ثانية: بني يصلتن وبني ديمار وريحون وبني سراين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 ونكر ذلك عليهم الاباضية من برابرة طرابلس وتولى كبرها زناتة وهوارة فاجتمعوا إلى الخطاب بن السمح ورجالات العرب، واستولوا على طرابلس ثم على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة وقتلوا عبد الملك بن أبي الجعد وأثخنوا في قومه من نفزاوة وورفجومة، ورجعوا إلى طرابلس بعد أن استعمل أبو الخطاب على القيروان عبد الرحمن بن رستم. واضطرم المغرب نارا وعظمت فتنة ورفجومة هؤلاء إلى أن قدم محمد بن الأشعث سنة ست وأربعين ومائة من قبل المنصور فأثخن في البربر وأطفأ نار هذه الفتنة كما قدمناه. ولما اختط عمر بن حفص مدينة طبنة سنة إحدى وخمسين ومائة أنزل ورفجومة هؤلاء بها بما كانوا شيعا له، وعظم غناؤهم فيها عند ما حاصره بها ابن رستم وبنو يفرن. ثم انتقضوا بعد مهلك عمر على يزيد بن حاتم عند قدومه على إفريقية سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم أبا زرجونة منهم، وسرح إليهم يزيد العساكر مع ابنه وقومه فأثخنوا فيهم. ثم انتقضت نفزاوة على أبيه داود، ودعوا إلى دين الاباضية، وولوا عليهم صالح بن نصر منهم فرجعت العساكر إليهم متراسلة وقتلوهم أبرح قتل. وعليها كان ركود ريح الخوارج بإفريقية وأذعار البربر. وافترق بنو ورفجوم بعد ذلك وانقرض أمرهم وصاروا أوزاعا في القبائل. وكان رجالة منهم بطنا متسعا. وكان منهم رجالات مذكورون في أول العبيديين وبني أمية بالأندلس منهم الرجالي أحد الكتاب بقرطبة، وبقي منهم لهذا العهد فرق بمرماجنّة. وهناك قرية ببسيطها تنسب إليهم. وأما سائر ولهاصة من ورفجومة وغيرهم فهم لهذا العهد أوزاع لذلك، أشهرهم قبيلة بساحل تلمسان اندرجوا في كومية وعدوا منهم بالنسب والخلط. وكان منهم في أواسط هذه المائة الثامنة ابن عبد المكلف [1] استقل برياستهم وتملك بدعوى السلطان بعد استيلاء بني عبد الواد على تلمسان ونواحيها، وتغلب على سلطانهم لذلك العهد كما نذكره عثمان بن عبد الرحمن وسجنه بالمطبق بتلمسان ثم قتله. ومن أشهر قبائل ولهاصة أيضا قبيلة أخرى ببسيط بونة يركبون الخيل ويأخذون بمذاهب العرب في زيهم ولغتهم وسائر شعارهم كما هو شأن هوارة. وهم في عداد القبائل الغارمة ورياستهم في بني عريف منهم، وهي لهذا العهد في ولد حازم بن شداد بن حزام بن   [1] وفي نسخة ثانية: عبد الملك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 نصر بن مالك بن عريف. وكانت قبلهم لعسكر بن بطنان منهم، هذه أخبار ولهاصة فيما علمناه. (وأما نهاية بطون نفزاوة) فمنهم زاتيمة، وبقية منهم لهذا العهد بساحل برشك، ومنهم غساسة، وبقية منهم لهذا العهد بساحل بوطة [1] حيث القرية التي هناك حاضرة البحر، ومرسى لأساطيل المغرب، وهي مشهورة باسمهم. وأما زهيلة فبقيتهم لهذا العهد بنواحي بادس مندرجون في غمارة وكان منهم لعهد مشيختنا أبو يعقوب البادسي أكبر الأولياء، وآخرهم بالمغرب. وأما مرنيسة فلا يعلم لهم موطن، ومن أعقابهم أوزاع بين أحياء العرب بإفريقية، وأما سوماتة فمنهم بقية فمن نواحي القيروان، كان منهم منذر بن سعيد القاضي بقرطبة لعهد الناصر والله أعلم. وأما بقايا بطون نفزاوة فلا يعرف لهم لهذا العهد حيّ ولا موطن إلا القرى الظاهرة المقدرة السير المنسوبة إليهم ببلاد قسطيلة، وبها معاهدون من الفرنجة أوطنوهم على الجزية واعتقاد الذمة عند عهد الفتح، وأعقابهم بها لهذا العهد، وقد نزل معهم كثير من بني سليم من الشريد وزغبة، وأوطنوها وتملكوا بها القفار والضياع. وكان أمر هذه القرى راجعا إلى عامل توزر أيام استبداد الخلافة. فلما تقلص ظل الدولة عنهم، وحدثت العصبة في الأمصار استبدت كل قرية بأمرها وصار مقدم توزر يحاول دخولهم في إيالته فمنهم من يعطيه ذلك ومنهم من يأباه حتى أظلتهم دولة مولانا السلطان أبي العباس، وأدرجوا كلهم في طاعته واندرجوا في حبله، والله ولي الأمور لا رب غيره أهـ. (الخبر عن لواتة من البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم) وهو بطن عظيم متسع من بطون البربر البتر ينتسبون إلى لوا الأصغر بن لوا الأكبر بن زحيك، ولوا الأصغر هو نفزا وكما قلناه. ولوا اسم أبيهم، والبربر إذا أرادوا العموم في الجمع زادوا الألف والتاء فصار لوات، فلما عرّبته العرب حملوه على الإفراد وألحقوا به هاء الجمع. وذكر ابن حزم أن نسابة البربر يزعمون أن سدراتة ولواتة ومزاتة من   [1] وفي نسخة أخرى: بطوية- قبائل المغرب/ 307 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 القبط وليس ذلك بصحيح. وابن حزم لم يطلع على كتب علماء البربر في ذلك. وفي لواتة بطون كثيرة وفيهم قبائل كثيرة مثل سدراتة بن نيطط بن لوا، ومثل عزوزة بن ماصلت بن لوا. وعد سابق وأصحابه في بني ماصلت بطونا أخرى غير عزوزة وهم: أكورة وجرمانة ونقاعة [1] مثل بني زائد بن لوا، وأكثر بطونهم مزاتة. ونسابة البربر يعدون في مزاتة بطونا كثيرة مثل: ملايان ومرنه ومحيحه [2] ودكمه وحمره ومدونه. وكان لواتة هؤلاء ظواعن في مواطنهم بنواحي برقة كما ذكر المسعودي، وكان لهم في فتنة أبي يزيد آثار. وكان منهم بجبل أوراس أمة عظيمة ظاهروا أبا يزيد مع بني كملان على أمره. ولم يزالوا بأوراس لهذا العهد مع من به من قبائل هوارة وكتامة، ويدهم العالية عليهم تناهز خيالتهم ألفا وتجاوز رجالاتهم العدة. وتستكفي بهم الدولة في جباية من تحت أيديهم بجبل أوراس من القبائل الغارمة فيحسنون الغناء والكفاية. وكانت البعوث مضروبة عليهم ينفرون بها في معسكر السلطان. فلما تقلص ظلّ الدولة عنهم صار بنو سعادة منهم في أقطاع أولاد محمد من الزواودة [3] فاستعملوهم في مثل ما كانت الدولة تستعملهم فيه، فأصاروهم خولا للجباية وعسكرا للاستنفار وأصبحوا من جملة رعاياهم. وقد كان بقي جانب منهم لم تستوفه الإقطاعات، وهم بنو زنجان وبنو باديس فاستضافهم منصور بن مزني إلى عمله. فلما استبد مزني عن الدولة واستقلوا بالزاب صاروا يبعدونهم بالجبلية بعض السنين ويعسكرون عليهم لذلك بأفاريق الأعراب، وهم لهذا العهد معتصمون بجبلهم لا يجاوزونه إلى البسيط خوفا من عادية الأعراب. ولبني باديس منهم أتاوات على بلد نقاوس المحيطة في فسيح [4] الجبل بما تغلبوا على ضواحيها. فإذا انحدر الأعراب إلى مشاتيهم اقتضوا منها أتاواتهم وخفارتهم. وإذا أقبلوا إلى مصايفهم رجع لواتة إلى معاقلهم الممتنعة على الأعراب. وكان من لواتة هؤلاء أمّة عظيمة بضواحي تاهرت إلى ناحية القبلة، وكانوا ظواعن هنالك على   [1] وفي نسخة أخرى: مغانة. [2] وفي نسخة أخرى: بلايان وقرنة ومجيجة. [3] وفي نسخة أخرى: الدواودة. [4] وفي نسخة أخرى: المختطة في سفح أجبل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 وادي ميناس ما بين جبل يعود من جهة الشرق وإلى وارصلف من جهة الغرب. يقال إن بعض أمراء القيروان نقلهم معه في غزوة وأنزلهم هنالك. وكان كبيرهم أورغ بن علي بن هشام قائدا لعبد الله الشيعي. ولما انتقض حميد بن مصل [1] صاحب تاهرت على المنصور ثالث خلفاء الشيعة ظاهروه على خلافه، وجاوروه في مذاهب ضلاله إلى أن غلبه المنصور. وأجاز حميد إلى الأندلس سنة ست وثلاثين ومائة وزحف المنصور يريد لواتة فهربوا أمامه إلى الرمال وهرب عنهم ونزل إلى وادي ميناس ثم انصرف إلى القيروان. (وذكر) ابن الرقيق أن المنصور وقف هنالك على أثر من آثار الأقدمين بالقصور التي على الجبال الثلاثة مبنية بالحجر المنحوت، يبدو للناظر على البعد كأنها أسنمة قبور، ورأى كتابا في حجر فسره له أبو سليمان السردغوس: خالف أهل هذا البلد على الملك فأخرجني إليهم، ففتح لي عليهم، وبنيت هذا البناء لأذكر به، وهكذا ذكر ابن الرقيق، وكان بنو وجديجى [2] من قبائل زناتة بمواطنهم من منداس جيرانا للواتة هؤلاء، والتخم بينهما وادي ميناس وتاهرت. وحدثت بينهما فتنة بسبب امرأة أنكحها بنو وجديجي في لواتة فعيروا بالفقر، فكتبت بذلك إلى قومها ورئيسهم يومئذ غسان [3] فتذامروا واستمدوا من وراءهم من زناتة فأمدوهم بعلي بن محمد اليفرني. وزحفت مطماطة من الجانب الآخر في مظاهرتهم وعليهم غزانة أميرهم، وزحفوا جميعا إلى لواتة، فكانت بينهم وقائع وحروب هلك في بعضها علاق، وأزاحوا عن الجانب الغربي السرسو، وألجئوهم إلى الجبل الّذي في قبلة تاهرت، المسمى لهذا العهد كركيرة، وكان به قوم من مغراوة فغدروا بهم، وتظاهروا جميعا عليهم إلى أن أخرجوهم عن آخر مواطنهم في جهة الشرق بجبل يعود فنزلوا من وراء الجبل المسمى لهذا العهد دارك. وانتشرت عمائرها بتلوله وما وراءه إلى الجبال المطلة على متيجة، وهم لهذا العهد في عداد القبائل الغارمة. وجبل دارك في أقطاع ولد يعقوب بن موسى مشيخة العطاف من ورغة ولواتة أيضا بطون بالجبل المعروفة بهم قبلة قابس وصفاقس ومنهم بنو مكي رؤساء قابس لهذا العهد. ومنهم أيضا بواحات مصر فيما   [1] وفي نسخة أخرى: حميد بن يصل وفي قبائل المغرب ص 120: حميد بن يصلتين. [2] وفي نسخة أخرى: بنو وجديجن. [3] وفي نسخة أخرى: عنان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 ذكره المسعودي أمة عظيمة بالجيزة التي بينها وبين مصر. وكان لما قرب من هذه القصور شيخهم هنالك بدر بن سالم، وانتقض على الترك وسرحوا إليه العساكر فاستلحموا كثيرا من قومه، وفر إلى ناحية برقة وهو الآن في جوار العرب بها. ومن زناتة هؤلاء أحياء بنواحي تادلا قرب مراكش من الغرب الأقصى، ولهم هنالك كثرة. ويزعم كثير من الناس أنهم بنواحي جابر من عرب جشم، واختلطوا بهم وصاروا في عدادهم، ومنهم أوزاع مفترقون بمصر وقرى الصعيد شاوية وفلاحين، ومنهم أيضا بضواحي بجاية قبيلة يعرفون بلواتة، ينزلون بسيط تاكرارت من أعمالها ويعتمرونها، فدنا لمزارعهم ومسارح لأنعامهم ومشيختهم لهذا العهد في ولد راجح بن صواب منهم، وعليهم للسلطان جباية مفروضة وبعث مضروب. هؤلاء المعروفون من بطون لواتة ولهم شعوب أخرى كثيرة اندرجوا في البطون وتوزعوا بين القبائل، والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن بني فاتن من ضريسة إحدى بطون البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم) وهم بطون مضغرة [1] ولماية وصدينة وكومية ومديونة ومغيلة ومطماطة وملزوزة ومكناسة ودونة، وكلهم من ولد فاتن بن تمصيب بن حريس [2] بن زحيك بن مادغيس الأبتر، ولهم ظهور من البرابر وأخبار، نسردها بطنا بطنا إلى آخرها. مضغرة: وهم من أوفر هذه الشعوب. وكانوا خصاصين آهلين. وكان جمهورهم بالمغرب منذ عهد الإسلام نشبوا في نشر الردة وضروبها [3] . وكان لهم فيها مقامات. ولما استوسق الإسلام في البربر أجازوا إلى فتح الأندلس وأجازت منهم أمم واستقروا هنالك. ولما سرى دين الخارجية أجازوا إلى فتح الأندلس وأجازت منهم أمم واستقرّوا هنالك. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذ مضغرة هؤلاء برأي الصفرية، وكان شيخهم ميسرة، ويعرف بالجفير مقدما فيه.   [1] وفي نسخة أخرى: مطغرة. وقد مرت معنا من قبل وتكتب على الوجهين. [2] وفي نسخة أخرى: تمصيت بن ضريس. [3] وفي نسخة أخرى: ونوبة الفتح وشئون الردّة وحروبها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 ولما ولى عبيد الله بن الحبحاب على إفريقية من قبل هشام بن عبد الملك، وأمره أن يمضي إليها من مصر، فقدمها سنة أربع عشرة ومائة واستعمل عمر بن عبد الله المرادي على طنجة والمغرب الأقصى وابنه إسماعيل على السوس وما وراءه. واتصل أمر ولائهم وساءت سيرتهم في البربر ونقموا عليهم أحوالهم، وما كانوا يطالبونهم به من الوصائف البربريات والأردية [1] العسلية الألوان، وأنواع طرف المغرب، فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك وانتحالة. حتى كانت الصرمة من الغنم تهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها، ولا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد وما قرب منه. فكثر عيثهم بذلك في أموال البربر وجورهم عليهم، وامتعض لذلك ميسرة الحسن [2] زعيم مضغرة الحسن وحمل البرابرة على الفتك بعمر بن عبد الله عامل طنجة فقتلوه سنة خمس وعشرين [3] ومائة وولى ميسرة مكانه عبد الأعلى بن خديم [4] الإفريقي الرومي الأصل، كان من موالي العرب وأهل خارجيتهم، وكان يرى رأي الصفرية، فولاه ميسرة على طنجة، وتقدم إلى السوس فقتله عامله إسماعيل بن عبد الله، واضطرم المغرب نارا وانتقض أمره على خلفاء المشرق فلم يراجع طاعتهم بعد. وزحف بعض الحجاب إليه من القيروان في العساكر على مقدمة خالد بن أبي حبيب الفهري، فلقيهم ميسرة في جموع البرابرة فهزم المقدمة واستلحمهم، وقتل خالد. وتسامع البربر بالأندلس بهذا الخبر فثاروا يعاملهم عقبة بن الحجاج السلولي وعزلوه، وولوا عبد الملك بن قطن الفهري، وبلغ الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك فسرح كلثوم بن عياض المري في اثني عشر الفا من جنود الشام، وولاه على إفريقية وأدال به من عبيد الله بن الحبحاب (القسم الثاني المجلد السادس) وزحف كلثوم إلى البرابرة سنة ثلاث وعشرين ومائة حتى انتهت مقدمته الى اسبو من أعمال طنجة فلقيه البرابرة هنالك مع ميسرة وقد فحصوا عن أوساط رءوسهم ونادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته ثم هزموه وقتلوه.   [1] وفي نسخة أخرى: الأفرية. [2] وفي نسخة أخرى: ميسرة الحفيد وقد ذكر من قبل الحفير. [3] وفي النسخة التونسية: سنة اثنتين وعشرين. [4] وفي نسخة أخرى: عبد الأعلى بن خدع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 وكان كيدهم في لقائهم إياه، وملئوا الشنان بالحجارة وربطوها بأذناب الخيل تنادي بها فتقعقع الحجارة في شنانها، وسرّبت [1] بمصاف العساكر من العرب فنفرت خيولهم واختل مصافهم وانجرب عليهم الهزيمة فافترقوا، وذهب بلج [2] مع الطلائع من أهل الشام إلى سبتة كما ذكرناه في أخبارهم. ورجع إلى القيروان أهل مصر وإفريقية، وظهرت الخوارج في كل جهة، واقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء إلى أن هلك ميسرة، وقام برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حارث منهم، وكان خلفا لمحمد بن خزر ومغراوة. ثم كان من بعد ذلك ظهور إدريس بالمغرب، فقدم بها البرابرة وتولى كبرها أوربة منهم كما ذكرناه. وكان على مضغرة يومئذ شيخهم بهلول بن عبد الواحد، فانحرف مالك عن إدريس إلى طاعة هارون الرشيد بمداخله إبراهيم بن الأغلب عامل القيروان، فصالحه إدريس وأنبأه بالسلم. ثم ركد ريح مضغرة من بعد ذلك وافترق جمعهم، وجرت الدول عليهم أذيالها واندرجوا في عمال البربر الغارمين لهذا العهد بتلول المغرب وصحرائه. فمنهم ما بين فاس وتلمسان أمم يتصلون بكومية ويدخلون حلفهم، واندرجوا من لدن الدعوة الموحدية منهم ورياستهم لولد خليفة. كان شيخهم على عهد الموحدين، وبنى لهم حصنا بمواطنهم على ساحل البحر سمى تاونت. ولما انصرفت دولة بني عبد المؤمن واستولى بنو مرين على المغرب قام هارون بن موسى بن خليفة بدعوة يعقوب بن عبد الحق سلطانهم، وتغلّب على ندرومة، وزحف إليه يغمراسن بن زيان فاسترجع ندرومة من يده، وغلبه على تاونت. ثم زحف يعقوب بن عبد الحق إليهم وأخذها من أيديهم وشحنها بالأقوات، واستعمل هارون ورجع إلى المغرب فحدث هارون نفسه بالاستبداد، فدعا لنفسه معتصما بذلك الحصن خمس سنين. ثم صاهره يغمراسن واستنزله على صلح سنة اثنتين وسبعين وستمائة. ولحق هارون بيعقوب بن عبد الحق. ثم أجاز إلى الجهاد بإذنه واستشهد هنالك. وقام بأمر مضغرة من بعده أخوه تاشفين إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعمائة. واتصلت رياستهم على عقبه لهذا العهد. ومن قبائل مضغرة أمة بجبل قبلة فاس معروف بهم. ومنهم أيضا قبائل كثيرون بنواحي سجلماسة وأكثر أهلها منهم. وربما حدثت بها عصبية من جراهم.   [1] وفي نسخة أخرى: ومرّت. [2] هو بلج بن بشر العبسيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 ومن قبائل مضغرة أيضا بصحراء المغرب كثيرون نزلوا بقصورها واغترسوا شجرة النخل على طريقة العرب، فمنهم بتوات قبلة سجلماسة إلى تمنطيت آخر عملها، قوم كثيرون موطنون مع غيرهم من أصناف البربر. ومنهم في قبلة تلمسان وعلى ستة مراحل منها، وهي قصور متقاربة بعضها من بعض ائتلف منها مصر كبير مستبحر بالعمران البدوي، معدود في آحاد الأمصار بالصحراء، ضاح من ظلّ الملك والدول لبعده في القفر. ورياسته في بني سيد الملك منهم. وفي شرقيها وعلى مراحل منها قرى أخرى متتابعة على سمتها متصاعدة قليلا إلى الجوف، آخرها على مرحلة من قبلة جبل راشد. وهي في مجالات بني عامر من زغبة وأوطانهم من القفر، وقد تملكوها لحظ أبنائهم [1] وقضاء حاجاتهم حتى نسبت إليهم في الشهرة. وفي جهة الشرق على هذه القصور وعلى خمس مراحل منها دامعة متوغلة في القفر تعرف بقليعة. الآن يعتمرها رهط من مضغرة هؤلاء. وينتهي إليها ظواعن عن الملثمين من أهل الصحراء بعض السنين إذا لفحهم الهجير، يستبردون في تلولها لتوغلها في ناحيتهم. ومن مضغرة هؤلاء أوزاع في أعمال المغرب الأوسط وإفريقية وللَّه الخلق جميعا. (لماية) وهم بطون [2] كما ذكرناه أخوه مضغرة، ولهم بطون كثير عدّ منها سابق وأصحابه بنو زكرمار [3] ومزيزة ومليزة بنو مدنيين [4] كلهم من لماية. وكانوا ظواعن بإفريقية والمغرب، وكان جمهورهم بالمغرب الأوسط موطنين بسحومة مما يلي الصحراء. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذوا برأي الاباضية ودانوا به وانتحلوه وانتحله جيرانهم من مواطنهم تلك من لواتة وهوارة. وكانوا بأرض السرسو قبلة منداس وزواغة وكانوا في ناحية الغرب عنهم. وكانت مطماطة ومكناسة وزناتة جميعا في ناحية الجوف والشرق، فكانوا جميعا على دين الخارجية، وعلى رأي الاباضية منهم. وكان عبد الرحمن بن رستم من مسلمة الفتح، وهو من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية، وقدم إلى إفريقية مع طوالع الفتح فكان بها. وأخذ بدين الخارجية   [1] وفي نسخة أخرى: لحطّ أثقالهم. [2] بياض بالأصل وفي النسخة التونسية: بطون فاتن بن تمزيت. وفي نسخة أخرى: تمصيت. [3] وفي نسخة أخرى: بنو زكوفا. [4] وفي النسخة الباريسية: بنو مدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 والاباضية منهم. وكان صنيعة للمتة وحليفا لهم [1] . ولما تحزب الاباضية بناحية طرابلس منكرين على ورفجومة فعلهم في القيروان كما مر، واجتمعوا إلى ابن الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمام الاباضية فملكوا طرابلس، ثم ملكوا القيروان، وقتل واليها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد، وأثخنوا في ورفجومة وسائر مغراوة [2] سنة إحدى وأربعين ومائة ورجع أبو الخطاب والاباضية الذين معه من زناتة وهوارة وغيرهم بعد ان استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم. وبلغ الخبر بفتنة ورفجومة هذه واضطراب الخوارج من البربر بإفريقية والمغرب وتسلقهم على الكرسي للإمارة بالقيروان إلى المنصور أبي جعفر فسرح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكر إلى إفريقية، وقلده حرب الخوارج بها، فقدمها سنة أربع وأربعين ومائة ولقيهم أبو الخطاب في جموعه قريبا من طرابلس فأوقع به ابن الأشعث وبقومه. وقتل أبو الخطاب وطار الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكان إمارته في القيروان، فاحتمل أهله وولده ولحق باباضية المغرب الأوسط من البرابرة الذين ذكرناهم، ونزل على لماية لقديم حلف بينه وبينهم، فاجتمعوا إليه وبايعوا له بالخلافة. وائتمروا في بناء مدينة ينصبون بها كرسي لإمارتهم، فشرعوا في بناء مدينة تاهرت في سفح جبل كزول السياح على تلول منداس، واختطوها على وادي ميناس النابعة منه عيون بالقبلة، وتمر بها وبالبطحاء إلى أن تصب في وادي شلف. فأسسها عبد الرحمن بن رستم واختطها سنة أربع وأربعين ومائة فتمدّنت واتسعت خطتها إلى أن هلك عبد الرحمن، وولي ابنه عبد الوهاب من بعده، وكان رأس الاباضية. وزحف سنة ست وسبعين ومائة مع هوارة إلى طرابلس وبها عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من قبل أبيه فحاصره في جموع الاباضية من البربر إلى أن هلك إبراهيم بن الأغلب واستقدم عبد الله بن الأغلب لإمارته بالقيروان، فصالح عبد الوهاب على أن تكون الصباحية لهم وانصرف الى مقوسة ولحق عبد الله بالقيروان، وولّى عبد الوهاب ابنه ميمونا، وكان رأس الأباضيّة والصفريّة والواصليّة. وانصرف إلى مقوسة والصفريّة والواصليّة. وكان يسلم عليه بالخلافة، وكان أتباعه من الواصلية وحدهم   [1] وفي نسخة أخرى: وكان شيعة لليمنية وحليفا لهم. [2] وفي نسخة أخرى: نفزاوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 ثلاثين ألفا ظواعن ساكنين بالخيام. ولم يزل الملك في بني رستم هؤلاء بتاهرت وحازتهم جيرانهم من مغراوة وبني يفرن على الدخول في طاعة الأدارسة لما ملكوا تلمسان. وأخذت بها زناتة من لدن ثلاث وسبعين ومائة فامتنعوا عليهم سائر أيامهم، إلى أن كان استيلاء أبي عبد الله الشيعي على إفريقية والمغرب سنة ست وسبعين ومائة فغلبهم على مدينة تاهرت وابتزهم ملكهم بها. وبثّ دعوة عبد الله في أقطار المغربين، فانقرض أمرهم بظهور هذه الدولة وعهد عروبة بن يوسف الكتامي فاتح المغرب للشيعة على تاهرت لأبي حميد دوّاس بن صولان الهيصيّ فغدا إلى المغرب سنة ثمان وتسعين ومائة فأمحى في مؤامرتها الاباضية من لماية وازداجة ولواتة ومكناسة ومطماطة، وحملهم على دين الرافضة وشيخ [1] بها دين الخارجية حتى استحكم في عقائدهم. ثم وليها أيام إسماعيل المنصور ابن صلاص بن حبوس [2] . ثم نزع إلى دعوة الأموية وراء البحر، ولحق بالخير بن محمد بن خزر صاحب دعوتهم في زناتة. واستعمل المنصور بعده على تاهرت ميسورا الحصني [3] مولاه وأحمد بن الزجالي من صنائعه، فزحف إليها حميد والخير وانهزم ميسور. واقتحموا تاهرت عنده وتعصّبوا على أحمد الزجالي وميسور إلى أن أطلقوهما بعد حين. ولم تزل تاهرت هذه بعد لأعمال الشيعة وصنهاجة سائر أيامهم، وتغلّب عليها زناتة مرارا ونازلها عسكر بني أمية راجعة في أثر زيري بن عطية أمير المغرب من مغراوة أيام أجاز المظفر بن أبي عامر من العدوة إلى حربه. ولم يزل الشأن هذا إلى أن انقرض أمر تلك الدول، وصار أمر المغرب الى لمتونة. ثم صار إلى دولة الموحدين من بعدهم، وملكوا المغربين. وخرج عليهم بنو غانية بناحية قابس، ولم يزل يجيء منهم جلب على ثغور الموحّدين وشنّ الغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط. وتكرر دخوله إليها عنوة مرّة بعد أخرى إلى أن احتمل سكانها وخلا جوّها وعفا رسمها لما يناهز عشرون من المائة السابعة، والأرض للَّه. (وأما قبائل لماية) فانقرضوا وهلكوا بهلاك مصرهم الّذي اختطوه وحازوه وملكوه سنّة   [1] وفي نسخة أخرى: فسخ. [2] وفي نسخة أخرى: إسماعيل المنصور بصلاصن بن حبوس. [3] وفي نسخة أخرى: الخصيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 الله في عباده. وبقيت فرق منهم أوزاعا في القبائل، ومنهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس، وهم بها لهذا العهد. وقد كان النصرانية من أهل صقلّيّة ملكوها على من بها من المسلمين، وهي قبائل لماية وكتامة مثل: جربة وسدويكش ووضعوا عليهم الجزية وشيّدوا على ساحل البحر بها معقلا كافيا لإمارتهم سمّوه القشتيل. وطال تمرّس العساكر به من حضرة الدولة الحفصية بتونس حتى كان افتتاحها أعوام ثمان وثلاثين من المائة الثامنة في دولة مولانا السلطان أبي بكر، وعلى يد مخلوف بن الكماد من صنائعه. واستقرت بها الدعوة الإسلامية إلى هذا العهد. إلا أن القبائل الذين بها من البربر لم يزالوا يدينون لدين الخارجيّة ويتدارسون مذاهبهم مجلدات تشتمل على تآليف لأئمتهم في قواعد ديانتهم وأصول عقائدهم وفروع مذاهبهم يتناقلونها ويعكفون على دراستها وقراءتها والله خلقكم وما تعملون. (مطماطة) وهم إخوة مضغرة ولماية من ولد فاتن بن تمصيت الذين مرّ ذكرهم، وهم شعوب كثيرة. وعن سابق المطماطي وأصحابه من النسابة أن اسم مطماط مصكاب، ومطماط لقب له وأن شعوبهم من لوا بن مطماط وأنه كان له ولد آخر اسمه ورنشيط، ولم يذكروا له عقبا قالوا: وكان للوا أربعة من الولد: ورماس ومبلاغر ووريكول ويليص [1] . ولم يعقب يليص وأعقب الثلاثة الباقون، ومنهم افترقت شعوب مطماطة كلّها، فأما ورماس فمنه مصمود ويونس ويفرين، وأما وريكول فكان له من الولد كلدام وسيده وقيدر [2] ولم يعقب سيده ولا قيدر وكان لكلدام عصفراص وسليايان فمن سليايان وريغني ووصدى وقسطايان وعمرو ويقال لهؤلاء الخمسة بنو وصطلودة سمّوا بأمهم. وكان لعصفراص زهاص ونهراص [3] فمن عصفراص ورهل وحامد وسكوم [4] ، ويقال لهم بنو تليكشان [5] سمّوا بأمهم وكان من زهاص بلست وبصلاتين فمن بلست ورسقلاسن وسكر ومحمد ومكريل ودكوال [6] . ومن يصلاسن بان يولى وسمساسن ومسامر وملوسن ويحمد ونافع وعبد الله   [1] وفي نسخة أخرى: ورماكسن ويلاغف ووريكول ويليصن. [2] وفي نسخة أخرى: كلثام ومسيده وفيدن. [3] وفي نسخة أخرى: وكان لعصفراصن يرهاض ويصراصن. [4] وفي نسخة أخرى: فمن يصراصن ورتجين ووريكول وجليدا وسكوم. [5] وفي نسخة أخرى: تليفكتان. [6] وفي نسخة أخرى: وكان ليزهاض بليث ويصلاسن فمن بليث ورسفلاسن وسكن ومحمد ومكديل ودكوال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 وعردابين [1] وأما يلاغف بن لوا بن مطماط فكان له من الولد دحيا وتاينة فمن تاينة ماحرسكن وريغ وعجلان ومقام وقرة [2] . وكان لدحيا ورتجى ومحديل. فمن ورتجى مغرين وبور ورسيكم وممجيس. ومن محديل ماكور وأشكول وكفلان ومذكور وفطارة وأبورة [3] . هذه شعوب مطماطة كما ذكر نسّابة البربر سابق وأصحابه، وهم مفرقون في المواطن، فمنهم من نواحي فاس من قبلتها في جبل هنالك معروف بهم ما بين فاس وصفروى، ومنهم بجهات قابس والبلد المختط على العين الحامية من جهة غربها، منسوب إليهم. ولهذا العهد يقال حمة مطماطة، ويأتي ذكرها في الدولة الحفصيّة وممالك إفريقية وبقاياهم أوزاع من القبائل، وكانت مواطن جمهورهم بتلول منداس عند جبل وانشريس وجبل كزول من نواحي تاهرت. وكان لهم بتلك المواطن عزم بدولة صنهاجة واستفحال وصولة. وفي فتنة حمّاد بن بلكّين مع باديس المنصور مقامات وآثار. وكان كبيرهم يومئذ عزانة، وكانت له مع البرابرة المجاورين له من لواتة وغيرهم حروب وأيام. (ولما هلك) عزانة قام بأمره في مطماطة ابنه زيري فمكث فيهم أياما. ثم غلبت صنهاجة على أمره فأجاز البحر إلى العدوة، ونزل على المنصور بن أبي عامر فاصطنعه ونظمه في طبقة الأمراء من البربر الذين كانوا في جملته، واستظهره على أمره فكان من أوجه رجالهم عنده، وأعظمهم قدرا لديه، إلى أن هلك، وأجراه ابنه المظفّر من بعده وأخوه عبد الرحمن الناصر على سنن أبيهما في ترفيع مكانه وإخلاص ولايته، وكان عند ثورة محمد بن هشام بن عبد الجبّار غائبا مع أبي عامر في أعراب النعمان مع من كان معه من أمراء البربر وعرفائهم. فلما رأوا انتقاض أمره وسوء تدبيره لحقوا بمحمد بن هشام المهدي فكانوا معه إلى أن كانت الفتنة البربرية بالأندلس إلى أن هلك هنالك. ولا أدري أي السنين كان مهلكه. وأجاز إلى الأندلس أيضا من فصالهم بهلا بهلا من أبي لواي يصلاص [4] ونزل على الناصر، وهو من أهل العلم   [1] وفي نسخة أخرى: ومن يصلاسن: فان يولين ويتماسن وماركسن ومسافر وفلوسن وربجيد ونافع وعبد الله وغرزاي. [2] وفي نسخة أخرى: وكان له من الولد دهيا وثابتة فمن ثابتة ماجرسن وريغ وعجلان ويغام وقرة. [3] وفي نسخة أخرى: وكان لدهيا ورتجى ومجلين. فمن ورتجى مقرين وثور وسكم وعمجميس. ومن مجلين ماكور وأشكول وكيلان ومذكون وقطارة وأبورة. [4] وفي نسخة أخرى: وأجاز إلى الأندلس أيضا من رجالاتهم كهلان بن أبي لوا بن يصلاصن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 بأنساب البربر. (وكان من مشاهيرهم) أيضا النسّابة سابق بن سليمان بن حرّاث بن مولات بن دوياسر [1] وهو كبير نسّابة البربر ممن علمناه. (وكان منهم) أيضا عبد الله بن إدريس كاتب الخراج لعبيد الله المهدي في آخرين يطول ذكرهم أهـ.   [1] وفي نسخة أخرى: دوفاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 وهذا ما تلقيناه من أخبار مطماطة (وأما موطن منداس) فزعم بعض الأخباريّين من البربر ووقفت على كتابه في ذلك أنه سمّي بمنداس بن مغر بن أوريغ بن لهرر بن المساو وهو هوارة [1] وكأنه والله أعلم يشير إلى أداس بن زحيك الّذي يقال إنه ربيب هوّار كما يأتي في ذكرهم، إلا أنه اختلط عليه الأمر. وكان لمنداس من الولد شراوة وكلتوم وتبكم [2] . قال: ولما استفحل أمر مطماطة وكان شيخهم لهذا العهد إهاص ابن عصفراص فأخرج منداس من الوطن وغلبه على أمره، واعتمر بنوه موطن منداس ولم يزالوا به أهـ. كلامه ولقيه هؤلاء القوم لهذا العهد بجبل أوتبتيش [3] ، لحقوا به لما غلبهم بنو توجين من زناتة على منداس وصاروا في عداد قبائل الغارمة. والله وارث الأرض ومن عليها. (مغيلة) وهم إخوة مطماطة ولماية كما قلناه، وإخوتهم ملزوزة معدودون منهم. وكذلك دونة وكشاتة ولهم افتراق في الوطن. وكان منهم جمهوران: أحدهما بالمغرب الأوسط عند مصب شلف في البحر من صوادر مادونه [4] ، المصر لهذا العهد. ومن ساحلهم أجاز عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ونزل بالمنكب فكان منهم أبو قرة المغيلي الدائن بدين الصّفريّة من الخوارج ملك أربعين سنة. وكانت بينه وبين أمراء العرب بالقيروان لأول دولة بني العبّاس حروب ونازل طبنة. وقد قيل إن أبا قرة هذا من بني مطماطة وهذا عندي صحيح. فلذلك أخّرت ذكر أخباره إلى أخبار بني يفرن من زناتة. (وكان) منهم أيضا أبو حسان ثار بإفريقية لأوّل الإسلام، وأبو حاتم يعقوب بن لبيب بن مرين بن يطوفت من مازور الثائر مع أبي قرة سنة خمسين ومائة. وتغلّب على القيروان فيما ذكر خالد بن خراش وخليفة بن خياط من علمائهم. وذكروا من رؤسائهم أيضا موسى بن خليد ومليح بن علوان وحسّان بن زروال الداخل مع عبد الرحمن. وكان منهم أيضا دلول بن حمّاد أميرا في سلطان يعلى بن محمد اليفرني، وهو الّذي اختطّ بلد ايكري على اثني عشر ميلا من البحر، وهي لهذا العهد خراب لم   [1] وفي نسخة أخرى: منداس بن مغر بن أوريغ بن كبوري بن المثنى وهو هوار. [2] وفي نسخة أخرى: تكّم. [3] وفي نسخة أخرى: جبل وادشنيش. [4] وفي نسخة أخرى: من ضواحي مازونة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 يبق منها إلّا الأطلال ماثلة. ولم يبق من مغيلة بذلك الوطن جمع ولا حيّ. وكان جمهورهم الآخر بالمغرب الأقصى وهم الذين تولوا مع أوربة وصدينة القيام بدعوة إدريس بن عبد الله لمّا لحق بالمغرب وأجازه، وحملوا قبائل البربر على طاعته والدخول في أمره. ولم يزالوا على ذلك إلى أن اضمحلت دولة الأدارسة وبقاياهم لهذا العهد بمواطنهم ما بين فاس وصفرون ومكناسة والله وارث الأرض ومن عليها. (مديونة) وهم من إخوة مغيلة ومطماطة من ولد فاس كما قلناه، وكانت مواطن جمهورهم بنواحي تلمسان ما بين جبل بني راشد لهذا العهد إلى الجبل المعروف بهم قبلة وجدة، يتقلّبون بظواعنهم في ضواحيه وجهاته. وكان بنو يلومي وبنو يفرن من قبلهم يجاورونهم من ناحية المشرق، ومكناسة من ناحية المغرب وكومية وولهاصة من جهة الساحل. (وكان) من رجالاتهم المذكورين جرير بن مسعود كان أميرا عليهم، وكان مع أبي حاتم وأبي قرة في فتنتهم، وأجاز إلى الأندلس في طوالع الفتح كثير منهم، فكان لهم هنالك استفحال. وخرج هلال بن أبزيا منهم يشتدّ به [1] على عبد الرحمن الداخل متبعا شقيا المكناسي في خروجه. ثم راجع الطاعة فقتله وكتب له على قومه، فكان بشرق الأندلس، وشنت مريّة. ثم خلفه بها من قومه نابتة بن عامر. ولما تغلّب بنو توجين وبنو راشد من زناتة على ضواحي المغرب الأوسط وكان مديونة هؤلاء قد قلّ عددهم وفلّ حدّهم فداخلتهم زناتة على الضواحي من مواطنهم وتملكوها، وصارت مديونة إلى الحصون من بلاده بجبل ماساله [2] وجبل وجده المعروف بهم. وضربت عليهم المغارم وتمرست بهم بهم الأيام، فلم يبق منهم هنالك إلا صبابة محترفون بالفلح. ومنهم أيضا أوزاع في القبائل مندرجون فيهم. وبنواحي فاس ما بينها وبين صفرون قبيلة منهم مجاورة لمغيلة، والله يرث الأرض ومن عليها. كومية وهم المعروفون قديما بصطفورة إخوة مطاية ومضغرة، وهم من ولد فاتن كما قدّمنا، ولهم ثلاث بطون منها تفرّعت شعوبهم وقبائلهم وهي ندرومة ومغارة [3]   [1] وفي نسخة أخرى: بشنتمرية وتسمى اليوم فارو وتقع في البرتغال وهي عاصمة المقاطعة التي تسمى اليوم الغرب (مجلة البيّنة/ 35) . [2] وفي نسخة أخرى: تاسالة، وهي بلاد جبلية قريبة من الشاطئ قبائل المغرب/ 52. [3] وفي نسخة أخرى: صفاره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وبنو يلول، فمن ندرومة مفوطة وحرسة ومردة ومصمانة ومراتة ومن بني يلول مسيقة ورتيوة وهنشبة وهيوارة ووالغة. ومن مغارة ملتيلة وبنو حباسة [1] وكان منهم النسّابة المشهور ماني بن مصدور بن مريس بن نقوط هذا هو المعروف في كتبهم. وكانت مواطن كومية بالمغرب الأوسط لسيف البحر من ناحية أرشكول وتلمسان. وكان لهم كثرة موفورة وشوكة مرهوبة. وصاروا من أعظم قبائل الموحّدين لما ظاهروا المصامدة على أمر المهدي وكلمة توحيده. وربّما كانوا رهط عبد المؤمن صاحبه وخليفته، فإنه كان من بني عابد أحد بيوتاتهم، وهم عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلي بن مروان بن نصر بن علي بن عامر بن الأمير بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن وريغ بن صطفور هكذا نسبه مؤرّخو دولة الموحّدين إلى صطفور. ثم يقولون صطفور بن نفور ابن مطماط بن هودج بن قيس عيلان بن مضر. ويذكر بعضهم أنّ في خط أبي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فأما انتسابهم في قيس عيلان فقد ذكرنا أنه غير صحيح. وفي أسماء هذا العمود من نسب عبد المؤمن ما يدلّ على أنه مصنوع، إذ هذه الأسماء ليست من أسماء البربر وإنما هي كما تراه كلها عربية والقوم كانوا من البرابرة معروفون بينهم، وانتساب صطفور إلى مطماط تخليط أيضا فإنّهما أخوان عند نسّابة البربر أجمع، وعبد المؤمن بلا شك منهم، والله أعلم بما سوى ذلك. وكان عبد المؤمن هذا من بيوتاتهم وأشرافهم وموطنهم بتاكرارت، وهو حصن في الجبل المطل على هنين من ناحية الشرق. ولما نجح عبد المؤمن منهم وثب وارتحل في طلب العلم فنزل بتلمسان، وأخذ عن مشيختها مثل ابن صاحب الصلاة وعبد السلام البرنسي [2] وكان فقيها صالحا، وهو ضجيع الشيخ أبي مدين في تربته. ولما هلك عبد السلام هذا، ولم يحذق تلميذه بعد في فنونه وكان شيخ عصره في الفقه والكلام. تعطّش التلميذ بعده إلى القراءة، وبلغهم خبر الفقيه محمد بن تومرت المهدي، ووصل إلى بجاية، وكان يعرف إذ ذاك بالفقيه السوسي ونسبته إلى السوس.   [1] وفي نسخة أخرى: فمن ندرومه نغوطة وحرسة وفردة وهفافة وفراثة، ومن بني يلول: مسيفة ووثيوة وهبيشة وهيوارة ووالغة. ومن صغارة ماتيلة وبنو حيّاسة. [2] وفي نسخة أخرى: التونسي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 ولم يكن لقب المهدي وضع عليه بعده. وكان في ارتحاله من المشرق إلى المغرب قد أخذ نفسه مع تغيير المنكر الّذي شأنه وطريقته نشر العلم وتبين الفتاوى وتدريس الفقه والكلام. وكان له في طريقته الأشعرية إمامة وقدم راسخة. وهو الّذي أدخلها إلى المغرب كما ذكرناه، وتشوق طلبة العلم بتلمسان إلى الأخذ عنه وتفاوضوا في ذلك، وندب بعضهم بعضا إلى الرحلة إليه لاستجلابه، وأن يكون له السبق باتحاف القطر بعلومه، فانتدب لها عبد المؤمن بن عليّ مكانه من صغر السن بنشاطه للسفر لبداوته، فارتحل إلى بجاية للقائه وترغيبه في نزوله تلمسان فلقيه بملالة، وقد استحكمت بينه وبين العزيز النفرة وبنو ورياكل متعصّبون على إجارته منهم، ومنعه من إذايته والوصول إليه. فألقى إليه عبد المؤمن ما عنده من الترغيب، وأدّى إليه رسالة طلبة العلم بتلمسان فوعاها، وشأنه غير شأنهم. وعكف عبد المؤمن على التعليم والأخذ عنه في ظعنه ومقامه. وارتحل إلى المغرب في صحابته، وصدق في العلم وآثره الإمام بمزيد الخصوصية والقرب، بما خصّه الله به من الفهم والوعي للتعليم، حتى كأنه خالصة لإمام وكنز صحابته. وكان يؤمله لخلافته لما ظهر عليه من الشواهد المدوّنة بذلك. ولما اجتازوا في طريقهم إلى المغرب بالثعالبة من موطن العرب الذين ذكرناهم قبل في نواحي المدينة، قرّبوا إليه حمارا فارها يتّخذه له عطية لمركوبه، فكان يؤثر به عبد المؤمن ويقول لأصحابه: أركبوه الحمار يركبكم الخيول المسوّمة. ولما بويع له بهرغة سنة خمس عشرة وخمسمائة، واتفقت على دعوته كلمة المصامدة وحاربوا لمتونة نازلوا مراكش. وكانت بينهم في بعض أيام منازلتها حرب شديدة هلك فيها من الموحّدين الألف، فقيل للإمام إنّ الموحّدين قد هلكوا. فقال لهم: ما فعل عبد المؤمن؟ قالوا هو على جواده الأدهم قد أحسن البلاء. فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد. ولما احتضر الإمام سنة اثنتين وعشرين [وخمسمائة] عهد بخلافته في أمره لعبد المؤمن، واستراب من العصبية بين المصامدة فكتم موت المهدي وأرجأ أمره حتى صرّح الشيخ أبو حفص أمير هنتاتة وكبير المصامدة لمصاهرته. وأمضى عهد الإمام فيه فقام بالأمر واستبد بشياخة الموحّدين وخلافة المسلمين. ونهض سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى فتح المغرب فدانت له غمارة. ثم ارتحل منها إلى الريف ثم إلى بطوية، ثم إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 مطالة [1] ثم إلى بني يزناسين. ثم إلى مديونة ثم إلى كومية وجيرانهم ولهاصة، وكانوا يلونهم في الكثرة فاشتدّ عضده بقومه، ودخلوا في أمره وشايعوه على تمكين سلطانه بين الموحّدين وخلافته. ولما رجع إلى المغرب وافتتح أمصاره واستولى على مراكش استدعى قومه للرحلة إليها والعسكرة عليه بحب جمهورهم إلى المغرب واستوطن مراكش لحمل سرير الخلافة والقيام بأمر الدعوة والذبّ عن ثغورهم والمدافعة، فاعتضد بهم عبد المؤمن وبنوه سائر الدولة، وكانوا بمكانتهم فاتحة الكتاب وتداركه [2] الجماعة. وتقدّموا في الفتوح والعساكر وأكلتهم الأقطار في تجهيز الكتائب تدويخ الممالك، فانقرضوا، وبقي بمواطنهم الأولى بقايا منهم: بنو عابدوهم في عداد القبائل الغارقة قد انقلب زمانهم فأمهلهم [3] فحملوا المغرم، وألفوا نهوضهم بالتكاليف. ونظموا مع جيرانهم ولهاصة في سوم الخسف والذلّ واقتضاء الخراج بالنكال والعذاب، والله مبدّل الأمر ومالك الملك سبحانه. (الخبر عن زواوة و زواغة من بطون ضرسة من البرابر البتر والإلمام ببعض أحوالهم) هؤلاء البطون من بطون البرابرة البتر، من ولد سمكان بن يحيى بن ضري بن زحيك ابن مادغيس الأبتر. وأقرب ما يليهم من البرابر زناتة لأن أباهم أجانا هو أخو سمكان ابن أبيه فلذلك كانوا ذوي قربى لهم. (زواوة) فأمّا زواوة فهم من بطونهم، وقد يقال إن زواوة من قبائل كتامة، ذكر ذلك ابن حزم، ونسّابة البربر إنما يعدونهم من ولد سمكان كما قلناه، والصحيح عندي ما ذكره ابن حزم. ويشهد له الموطن ونحلة الشيع مع كتامة لعبد الله. وعدّ نسّابة البربر ولهم بطون كثيرة: بنو مجسطة وبنو مليكش وبنو كوفي ومشداله وبنو زريقف وبنو كوزيت وكرسفينة ووزلجة وخوجة وزكلاوة وبنو مرانه، ويقال إن بني مليكش من صنهاجة والله أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: بطالسة. [2] وفي نسخة أخرى: فذلكة. [3] وفي نسخة أخرى: قد أثقلت زناتة كاهلهم فحملوا المغرم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 ومن قبائلهم المشهور لهذا العهد بنو بجرو وبنو مابكلات وبنو مترون وبنو ماني وبنو بوعردان وبنو تورغ [1] ، وبنو بو يوسف، وبنو عبسي، وبنو بو شعيب، وبنو صدقة، وبنو غبرين، وبنو كشطولة. ومواطن زواوة بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة أوطنوا عنها جبالا شاهقة متوعّرة تنذعر منها الأبصار ويضلّ في غمرها السالك مثل بني غبرين بجبل زيري، وفيه شعراء من شجر الزان يشهد بها لهذا العهد. ومثل بني فرلوسن وبني سرا [2] ، وجبلهم ما بين بجاية وتدلس وهو أعظم معاقلهم وأمنع حصونهم، فلهم به الاعتزاز على الدول والخيار عليها في إعطاء المغرم، مع أنّ كلهم لهذا العهد قد امتنع لساهمه واعتز على السلطان في أبناء طاعته وقانون مزاجه. وكانت لهم في دولة صنهاجة مقامات مذكورة في السلم والحرب بما كانوا أولياء لكتامة، وظهر أوّلهم على أمرهم من أول الدولة، وقتل بادس بن المنصور في إحدى وقائعه بهم، وشيخهم زيري بن أجانا لاتهامه أباه في أمر حمّاد. ثم واختط بنو حمّاد بعد ذلك بجاية وتمرّسوا بهم، فانقادوا وأذعنوا لهم إلى آخر الدولة، واتصل إذعانهم إلى هذا العهد إلا تمريضا يحملهم عليه الموثقون بمنعة جبالهم. وكانت رياسة بني يراثن منهم في بني عبد الصمد من بيوتاتهم وكاتب عبد ثعلب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط شيخة عليهم من بني عبد الصمد هؤلاء اسمها شمسي، وكان لها عشرة من الولد فاستفحل شأنها بهم وملكت عليهم أمرهم. ولما تقبّض السلطان أبو الحسن على ابنه يعقوب المكنّى بأبي عبد الرحمن عند ما فرّ من معسكره بمتيجة سنة ثمان أو سبع وثلاثين وسرّح في أثره الخيالة فرجّعوه واعتقله. ثم قتله من بعد ذلك حسبما يذكر في أخبارهم. لحق حينئذ بني يراثن هؤلاء خازن من مطبخه فموّه عليهم باسمه وشبّه بتمثاله ودعا إلى الخروج على ابنه بزعمه فشمّرت شمسي هذه عزائمها في إجازته وحملت قومها على طاعته. وسرّب السلطان أبو الحسن أمواله في قومها وهما على السلامة فأبته: ثم نمي إليها الخبر بمكره وتمويهه فنبذت إليه عهده، وخرج عنها إلى بلاد العرب كما نذكر بعض ذلك في أخبارهم.   [1] وفي نسخة أخرى: بنو بجرو وبنو مانكلات وبنو يترون وبنو ماني وبنو بوغروان وبنو يتورغ. [2] وفي نسخة أخرى: فراسن وبني براثن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 وقدمت على السلطان أبي الحسن في وفد من قومها وبعض بنيها فاستبلغ السلطان من تكريمها، وأحسن صلتها وأجاز الوفد ورجعت بهم إلى موطنها، ولم تزل الرئاسة في هذا البيت. (زواغة) وأما زواغة فلم يتأدّ إلينا من أخبارهم وتصاريف أحوالهم ما نعمل فيه الأقلام. ولهم ثلاثة بطون وهي: دمّر بن زواغ وبنو واطيل بن زحيك بن زواغ وبنو ماخر بن تيغون من زواغة. ومن دمّر بنو سمكان وهم أوزاع في القبائل. ومنهم بنواحي طرابلس مفترقون في براريها ولهم هنالك الجبل المعروف بدمّر. وفي جهات قسنطينة أيضا رهط من زواغة، وكذلك بجبال شلف بنو واطيل منهم وبنواحي فاس آخرون. وللَّه الخلق والأمر. الخبر عن مكناسة وسائر بطون بني ورصطف وما كان لمكناسة من الدول بالمغرب وأوّلية ذلك وتصاريفه كان لورصطف بن يحيى، وهو أخو أجانا بن يحيى وسمكان بن يحيى ثلاثة من البطون، وهم: مكناسة وورتناجة وأوكتة. ويقال مكنه وبنو ورتناجة أربعة بطون سدرجة ومكسة وبطالسة وكرنيطه. وزاد سابق وأصحابه في بطونهم هناطة وفولالة، وكذلك عدّوا في بطون مكنه: بني درطين وبني فولالين وبني يزين وبني جرين وبني بوعال [1] . ولمكناسة عندهم أيضا بطون كثيرة منها: صولات وبوحاب وبنو ورفلاس وبنو وردنوس وقيصارة ونبعة وورقطنة [2] . وبطون ورصطف كلهم مندرجون في بطون مكناسة، وكانت مواطنهم على وادي ملويّة من لدن أعلاه سجلماسة إلى مصبّه في البحر، وما بين ذلك من نواحي تازا وتسول. وكانت   [1] وفي نسخة أخرى: بني يصلتن وبني تولالين وبني ترين وبني جرتن وبني فوغال. [2] وفي نسخة أخرى: صولات وبنو حوّات وبنو ورفلاس وبنو وريدوس وقنصارة وورنيقة ووريفلتة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 رياستهم جميعا في بني ابايرون [1] واسمه مجدول بن تاقريس بن فراديس بن ونيف بن مكناس. وأجاز منهم إلى العدوة عضد الفتح أمم. وكانت لهم بالأندلس رياسة وكثرة، وخرج منهم على عبد الرحمن الداخل شعيا بن عبد الواحد سنة إحدى وخمسين واعتصم بشنتمرية ودعا لنفسه منتسبا إلى الحسن بن عليّ. وتسمّى عبد الله ابن محمد وتلقّب بالفاطمي، وكانت بينه وبين عبد الرحمن حروب إلى أن غلبه ومما أثر ضلالته. وكان من رجالتهم لعهد دولة الشيعة مصالة بن حبّوس بن منازل اتصل بعبيد الله الشيعي، وكان من أعظم قوّاده وأوليائه، وولّاه تاهرت وافتتح له المغرب وفاس وسجلماسة. ولما هلك أقام أخاه يصلتين بن حبّوس مقامه في ولاية تاهرت والمغرب. ثم هلك وأقام ابنه حميدا مقامه فانحرف عن الشيعة، ودعا لعبد الرحمن الناصر. واجتمع مع بني خزر أمراء جراوة على ولاية المروانية. ثم أجاز إلى الأندلس وولي الولايات أيام الناصر وابنه الحكم، وولي في بعضها تلمسان بدعوتهم. ثم هلك وأقام ابنه لرصل [2] بن حميد وأخوه يباطن بن يصلتين وعلى ابن عمّه من ماله في ظل الدولة الأموية إلى أن أجاز المظفّر بن أبي عامر إلى المغرب فولي يصل بن حميد سجلماسة كما نذكره. ثم أن رياسة مكناسة بالعدوة انقسمت في بني أبي نزول، وانقسمت مسايل [3] مكناسة بانقسامها. وصارت رياسة مكناسة في مواطن سجلماسة وما إليها من بني واسول بن مصلان بن أبي نزول، ورياسة مكناسة بجهات تازا وتوسول وملوية ومليلة لبني أبي العافية بن أبي نائل بن أبي الضحّاك بن أبي نزول. ولكل واحد من هذين الفريقين في الإسلام دولة وسلطان صاروا به في عداد الملوك كما نذكره. (الخبر عن دولة بني واسول ملوك سجلماسة وأعمالها من مكناسة) كان أهل مواطن سجلماسة من مكناسة يدينون لأوّل الإسلام بدين الصّفريّة من   [1] وفي نسخة أخرى: أبي يزول. [2] وفي نسخة أخرى: نصل وفي النسخة التونسية يصل وفي النسخة الباريسية فضل. [3] وفي نسخة أخرى: قبائل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 الخوارج لقنوه عن أئمتهم ورءوسهم من العرب لما لحقوا من المغرب وأسروا على الامتناع وماجت أقطار المغرب لفتنة ميسرة. فلما اجتمع على هذا المذهب زهاء أربعين من رجالاتهم نقضوا طاعة الخلفاء وولّوا عليهم عيسى بن يزيد الأسود من موالي العرب ورءوس الخوارج. واختطّوا مدينة سجلماسة لأربعين ومائة من الهجرة. ودخل سائر مكناسة من أهل تلك الناحية في دينهم. ثم سخطوا أميرهم عيسى ونقموا عليه كثيرا من أحواله فشدّوه كتافا ووضعوه على قنّة جبل إلى أن هلك سنة خمس وخمسين ومائة واجتمعوا بعده على كبيرهم أبي القاسم سمكو بن واسول بن مصلان [1] بن أبي نزول. كان أبوه سمقو [2] من حملة العلم، ارتحل إلى المدينة فأدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى ابن عباس، ذكره عريب بن حميد في تاريخه، وكان صاحب ماشية وهو الّذي بايع لعيسى بن يزيد وحمل قومه على طاعته فبايعوه من بعده. وقاموا بأمره إلى أن هلك سنة سبع وستين ومائة لمنتهى عشر سنين [3] من ولايته. وكان أباضيا صفريّا. وخطب في عمله للمنصور والمهدي من بني العبّاس. ولمّا هلك ولّوا عليهم ابنه إلياس، وكان يدعى بالوزير. ثم انتقضوا عليه سنة أربع وتسعين ومائة فخلعوه وولّوا مكانه أخاه اليسع بن أبي القاسم وكنيته أبو منصور، فلم يزل أميرا عليهم، وبنى سور سجلماسة لأربع وثلاثين سنة من ولايته. وكان أباضيا صفريّا. وعلى عهده استفحل ملكهم بسجلماسة. وهو الّذي أتمّ بناءها وتشييدها، واختطّ بها المصانع والقصور، وانتقل إليها آخر المائة الثانية، ودوّخ بلاد الصحراء وأخذ الخمس من معادن درعة، وأصهر لعبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بابنه مدرار في ابنته أروى فأنكحه إياها. ولما هلك سنة ثمان ومائتين ولي بعده ابنه مدرار ولقبه المنتصر، وطال أمر ولايته. وكان له ولدان اسم كلّ واحد منهما ميمون، أحدهما لأروى بنت عبد الرحمن بن رستم، وقيل إنّ اسمه أيضا عبد الرحمن. والآخر لبغي [4] وتنازع في الاستبداد على   [1] وفي النسخة الباريسية: مصلات بن أبي يزول. [2] وفي النسخة الباريسية: ابو سمقو وفي نسخة أخرى أبو سمكو. [3] وفي النسخة التونسية: لاثنتي عشرة سنة من ولايته. [4] وفي نسخة ثانية: لتقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 أبيه، ودامت الحرب بينهما ثلاث سنين. وكانت لأبيهما مدرار صاغية إلى ابن أروى فمال معه حتى غلب أخاه فأخذه وأخرجه عن سجلماسة. ولم يلبث أن خلع أباه واستبد بأمره، ثم ساءت سيرته في قومه ومدينته، فخلعوه وصار الى درعة وأعادوا مدرارا الى أمره. ثم حدّث نفسه بإعادة ابنه ميمون ابن الرستميّة إلى إمارته بصاغية إليه فخلعوه ورجعوا ابنه ميمونا بن التقي، وكان يعرف بالأمير. ومات مدرار إثر ذلك سنة ثلاث وخمسين ومائتين لخمس وأربعين من ملكه، وأقام ابنه ميمون في استبداده إلى أن هلك سنة ثلاث وستين ومائتين وولي ابنه محمد، وكان أباضيّا وتوفي سنة سبعين ومائتين فولي اليسع بن المنتصر، وقام بأمره ولحق عبيد الله الشيعي وابنه وأبو القاسم بسلجماسة لعهده. وأوعد المعتضد إليه في شأنهما، وكان على طاعته، فاستراب بهما وحبسهما إلى أن غلب الشيعي بني الأغلب، وملك رقادة، فزحف إليه لاستخراج عبيد الله وابنه من محبسه، وخرج إليه اليسع في قومه مكناسة فهزمه أبو عبد الله الشيعي، واقتحم عليه سجلماسة وقتله سنة ست وتسعين ومائتين واستخرج عبيد الله وابنه من محبسهما وبايع لهما. وولّى عبيد الله المهديّ على سجلماسة إبراهيم بن غالب المراسي [1] من رجالات كتامة، وانصرف إلى إفريقية. ثم انتقض أمراء سجلماسة على واليهم إبراهيم فقتلوه ومن كان معه من كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين وبايعوا الفتح بن ميمون الأمير ابن مدرار ولقبه واسول، وميمون ليس هو ابن المتقي [2] الّذي تقدّم ذكره وكان أباضيا. وهلك قريبا من ولايته لرأس المائة الثالثة، فولي أخوه أحمد واستقام أمره إلى أن زحف مصالة بن حبّوس في جموع كتامة ومكناسة إلى المغرب سنة تسع وثلاثمائة، فدوّخ المغرب وأخذهم بدعوة صاحبه عبيد الله المهدي. وافتتح سجلماسة وتقبّض على صاحبها أحمد بن ميمون بن مدرار وولّى عليها ابن عمّه المعتز بن محمد بن ساور [3] بن مدرار، فلم يلبث أن استبد وبلغها المعتز، وهلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة قبيل ملك المهدي، وولي من بعده ابنه أبو المنتصر محمد بن المعتز فمكث عشرا. ثم هلك وولي من بعده ابنه المنتصر سمكو شهرين، وكانت جدّته تدبّر أمره لصغره.   [1] وفي نسخة ثانية: المزاتي. [2] وفي النسخة التونسية: وميمون أبوه، هو ابن التقي. [3] وفي نسخة أخرى: بسّاور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 ثم ثار عليه ابن عمّه محمد بن الفتح بن ميمون الأمير وتغلّب عليه، وشغب عليه [1] بنو عبيد الله لفتنة ابن أبي العافية وتاهرت، ثم نقلته إلى أبي يزيد بعدهما فدعا محمد ابن الفتح لنفسه مموّها بالدعوة لبني العبّاس. وأخذ بمذاهب أهل السنّة ورفض الخارجيّة، ولقّب الشاكر باللَّه، واتخذ السكة باسمه ولقبه. وكانت تسمّى الدراهم الشاكريّة. كذا ذكره ابن حزم وقال فيه: وكان في غاية العدل حتى إذا فزع له بنو عبيد وحمت الفتنة [2] زحف جوهر الكاتب أيام المعز لدين الله في جموع كتامة وصنهاجة وأوليائهم إلى المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فغلب على سجلماسة وملكها. وفرّ محمد بن الفتح إلى حصن تاسكرات على أميال من سجلماسة وأقام به. ثم دخل سجلماسة متنكرا فعرفه رجل من مضغرة وأنذر به، فتقبّض عليه جوهر، وقاده أسيرا إلى القيروان مع أحمد بن بكر صاحب فاس كما نذكره، وقفل إلى القيروان، فلما انتقض المغرب على الشيعة، وفشت بدعة الأمية [3] وأخذ زناتة بطاعة الحكم المنتصر، ثار بسلجماسة قائم من ولد الشاكر وباهي [4] المنتصر باللَّه. ثم وثب عليه أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فقتله، وقام بالأمر مكانه. وتلقّب المعتز باللَّه. وأقام على ذلك مدّة وأمر مكناسة يومئذ قد تداعى إلى الانحلال، وأمر زناتة قد استفحل بالمغرب عليهم إلى أن زحف حرزون [5] بن فلفول من ملوك مغراوة إلى سجلماسة سنة ست وستين وثلاثمائة وأبرز إليه أبو محمد المعتز فهزمه حرزون وقتله، واستولى على بلده وذخيرته، وبعث برأسه إلى قرطبة مع كتاب الفتح. وكان ذلك لأوّل حجابة المنصور بن أبي عامر، فنسب إليه واحتسب له لحدا بقبة [6] ، وعقد لحرزون على سجلماسة، فأقام دعوة هشام بأنحائها فكانت أوّل دعوة أقيمت لهم بالأمصار في المغرب الأقصى، وانقرض أمر بني مدرار ومكناسة من المغرب أجمع   [1] وفي النسخة التونسية: وشغل عنه بنو عبيد الله بفتنة ابن أبي العافية [2] وفي النسخة التونسية: حتى إذا فزع له بنو عبيد من الفتن. [3] وفي النسخة التونسية: وفشت دعوة الأموية- وهذا أصح- [4] وفي النسخة التونسية: باهي وتلقب بالمنتصر باللَّه. [5] وفي نسخة ثانية: خزرون. [6] وفي نسخة ثانية: واحتسب له جدّا ويمن نقيبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 وأدال منهم بمغراوة وبني يفرن حسبما يأتي ذكرهم في دولتهم، والأمر للَّه وحده وله البقاء سبحانه وتعالى . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 (الخبر عن دولة بني أبي العافية ملوك تسول من مكناسة وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم) كان مكناسة الظواعن من أهل مواطن ملويّة وكرسيف ومليلة وما إليها من التلول بنواحي تازا وتسول والكل يرجعون في رياستهم إلى بني أبي باسل بن أبي الضحّاك ابن أبي نزّول وهم الذين اختطوا بلد كرسيف ورباط تازا، ولم يزالوا على ذلك من أوّل الفتح. وكانت رياستهم في المائة الثالثة لمصالة بن حبّوس وموسى بن أبي العافية ابن أبي باسل، واستفحل أمرهم في أيامه وعظم سلطانهم وتغلّبوا على قبائل البربر بأنحاء تازا إلى الكائي، وكانت بينهم وبين الأدارسة ملوك المغرب لذلك العهد فتن وحروب. وكانوا يقتلونهم على كثير من ضواحيها لما كان نزل بدولتهم من الهرم. ولمّا استولى عبيد الله على المغرب واستفحل أمره كانوا من أعظم أوليائه وشيعه، وكان مصالة بن حبّوس من أكبر قوّاده لانحياشه إليه، وولّاه على مدينة تاهرت والمغرب الأوسط. ولما زحف مصالة إلى المغرب الأقصى سنة خمس وثلاثمائة، واستولى على فاس وعلى سجلماسة وفرغ من شأن المغرب واستنزل يحيى بن إدريس من إمارته بفاس إلى طاعة عبيد الله وأبقاه أميرا على فاس، عقد حينئذ لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة على سائر ضواحي المغرب وأمصاره مضافة إلى عمله من قبل تسول وتازا وكرسيف وقفل مصالة إلى القيروان. وقام موسى بن أبي العافية بأمر المغرب، وناقضه يحيى بن إدريس صاحب فاس لما يظعن له من المظاهرة عليه. فلما عاود مصالة غرق المغرب سنة تسع وثلاثمائة أنزل ابن أبي العافية يحيى بن إدريس، فقبض عليه واستصفاه وطرده عن عمله فلحق ببني عمّه بالبصرة والريف. وولّى مصالة على فاس ريحان الكتامي وقفل إلى القيروان فهلك، وعظم ملك ابن أبي العافية بالمغرب. ثم ثار بفاس سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس، وكان مقداما شجاعا ويلقّب بالحجام لطعنه في المحاجم دخل فاس على حين غفلة من أهلها، وقتل ريحان واليها، واجتمع الناس على بيعته. ثم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 خرج لقتاله ابن أبي العافية فتزاحفوا بفحص أدّاز ماد بين تازا وفاس، ويعرف لهذا العهد بوادي المطاحن، واشتدّت الحرب بينهم، وهلك منهال بن موسى بن أبي العافية في الفتن بمكناسة. ثم كانت العاقبة لهم وانفضّ عسكر الحسن ورجع مفلولا إلى فاس، فغدر به عامله على عدوة القرويّين حامد بن حمدان الهمدانيّ واستمكن من عاقله، واستحثّ ابن أبي العافية للقدوم وأمكنه من البلد، وزحف إلى عدوة الأندلس فملكها وقتل عاملها عبد الله بن ثعلبة [1] بن محارب بن محمود، وولّى مكانه أخاه محمدا وطالب حامدا بصاحبه الحسن فدس إليه حامد بالفرار تجافيا عن دعاء أهل البيت، وتدلّى الحسن من السور فسقط وانكسر ساقه ومات مستخفيا بعدوة الأندلس لثلاث ليال منها. وحذّر حامد من سطوة أبي العافية فلحق بالمهديّة واستولى ابن أبي العافية على فاس والمغرب أجمع، وأجلى الأدارسة عنهم وألجأهم إلى حصنهم بقلعة حجر النسر مما يلي البصرة، وحاصرهم بها مرارا. ثم جمّر عليهم العساكر، وخلّف فيهم قائده أبا الفتح فحاصرهم ونهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة وثلاثمائة بعد أن استخلف على المغرب الأقصى ابنه مدين. وأنزله بعدوة القرويين، واستعمل على عدوة الأندلس طوال بن أبي يزيد، وعزل به محمد بن ثعلبة. وزحف إلى تلمسان فملكها وغلب عليها صاحب الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان من عقب سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر الداخل إلى المغرب بعده، فغلب موسى ابن أبي العافية الحسن على تلمسان وأزعجه عنها إلى مليلة من جزائر ملويّة ورجع إلى فاس. وقد كان الخليفة الناصر لما فشت دعوته بالمغرب خاطبه بالمقاربة والوعد، فسارع إلى إجابته ونقض طاعة الشيعة، وخطب للناصر على منابر عمله، فسرح إليه عبد الله المهدي قائده ابن أخي مصالة، وهو حميد بن يصلت [2] المكناسي قائد تاهرت، فزحف في العساكر إلى حرمه سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ولقيه موسى بن أبي العافية بفحص مسون فتزاحفوا أياما، ثم لقيه حميد فهزمه ولحق ابن أبي العافية بتسول فامتنع بها، وأفرج قائده أبو الفتح عن حصن الأدارسة فاتبعوه وهزموه ونهبوا معسكره.   [1] وفي النسخة التونسية: ثعبة ولعلها ثعلبة وهـ محرّفة في النسختين. [2] وفي نسخة أخرى: يصلتن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 ثم نهض حميد إلى فاس ففرّ عنها أعزل بن موسى إلى ابنه، واستعمل عليها حامد بن حمدان كان في جملته وقفل حميد إلى إفريقية وقد دوّخ المغرب. ثم انتقض أهل المغرب على الشيعة بعد مهلك عبيد الله، وثار أحمد بن بكر بن عبد الرحمن بن سهل الجذامي على حامد بن حمدان فقتله، وبعث برأسه إلى ابن أبي العافية فأرسله إلى الناصر بقرطبة واستولى على المغرب. وزحف ميسور الخصي قائد أبي القاسم الشيعي إلى المغرب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وخام ابن أبي العافية عن لقائه، واعتصم بحصن الكأي، ونهض ميسور إلى فاس فحاصرها واستنزل أحمد بن بكر عاملها. ثم تقبّض عليه وأشخصه إلى المهديّة، وبدر أهل فاس بغدره فامتنعوا وقدّموا على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي، وحاصرهم ميسور مدّة حتى رغبوا إلى السلم، واشترطوا على أنفسهم الطاعة والإتاوة فتقبّل ميسور ورضي، وأقرّ حسن بن قاسم على ولايته بفاس وانحل إلى حرب ابن أبي العافية فكانت بينهما حروب إلى أن غلبه ميسور فتقبّض على ابنه الغوري وغرّبه إلى المهدية. وأجلى موسى بن أبي العافية عن أعمال المغرب إلى نواحي ملوية ووطاط وما وراءها من بلاد الصحراء، وقفل إلى القيروان. ولما مرّ بارشكول خرج إليه صاحبها ملاطفا له بالتحف، وهو إدريس بن إبراهيم من ولد سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر، فتقبّض عليه واصطلم نعمته، وولى مكانه أبا العيش بن عيسى منهم. وأغذّ السير إلى القيروان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ورجع موسى بن أبي العافية من الصحراء إلى أعماله بالمغرب، فملكها وولّى على الأندلس أبا يوسف بن محارب الأزدي، وهو الّذي مدّن عدوة الأندلس، وكانت حصونا. واحتلّ موسى بن أبي العافية قلعة كوماط، وخاطب الناصر فبعث إليه مددا من أسطوله، وزحف إلى تلمسان ففرّ عنها أبو العيش واعتصم بارشكول فنازله وغلبه عليها سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ولحق أبو العيش بنكور، واعتصم بالقلعة التي بناها هنالك لنفسه. ثم زحف ابن أبي العافية إلى مدينة نكور فحاصرها مدّة، ثم تغلّب عليها وقتل صاحب عبد البديع بن صالح، وخرّب مدينتهم. ثم سرّح ابنه مدين في العساكر، فحاصر أبا العبّاس بالقلعة حتى عقد له السلم عليها. واستفحل أمر ابن أبي العافية في المغرب الأقصى واتصل عمله بعمل محمد بن خزر ملك مغراوة وصاحب المغرب الأوسط، وبثّوا دعوة الأموية في أعمالها، وبعث ابنه مدين بأمره في قومه. وعقد له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 الناصر على أعمال ابنه بالمغرب واتصلت يده بيده الخير بن محمد كما كان بين آبائهما. ثم فسد بينهما وتزاحفا للحرب، وبعث الناصر قاضيه مقدر [1] بن سعد لمشارفة أحوالهما وإصلاح ما بينهما فتمّ ذلك كما أراده ولحق به سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة أخوه البوري فارّا من عسكر المنصور مع أحمد بن بكر الجذاميّ عامل فاس بعد أن لحقا بأبي يزيد فسار أحمد بن أبي بكر إلى فاس وأقام بها متنكرا إلى أن وثب بعاملها حسن بن قاسم اللواتي وتخلّى له عن العمل، وصار البوري إلى أخيه مدين واقتسم أعمال ابنه معه ومع ابنه الآخر منقذ، فكانوا ثلاث الأثافي. وأثار الثوري إلى الناصر سنة خمس وأربعين وثلاثمائة فعقد الناصر لابنه منصور على عمله وكانت وفاته وهو محاصر لأخيه مدين بفاس، وأجاز أبناه أبو العيش ومنصور إلى الناصر فأجزل لهما الكرامة على سنن أبيهما. ثم هلك مدين فعقد الناصر لأخيه أبي منقذ على عمله سنة [2] ثم غلب مغراوة على فاس [3] وأعمالها، واستفحل أمرهم بالمغرب وأزاحوا مكناسة عن ضواحيه وأعماله، وساروا إلى مواطنهم وأجاز إسماعيل بن الثوري [4] ومحمد بن عبد الله بن مرين إلى الأندلس فنزلوا بها إلى أن جازوا مع واضح أيام المنصور كما مرّ عند ما نقض زيري ابن عطية طاغيتهم سنة ست وثمانين وثلاثمائة، فملك واضح المغرب ورجّعهم إلى أعمالهم. وتغلب بلكّين بن زيري على المغرب الأوسط وغلب عليه ملوكه بني خزر من مغراوة فاتصلت يد مكناسة. ولم يزالوا في طاعة بني زيري ومظاهرتهم. وهلك إسماعيل بن الثوري في حروب حمّاد مع باديس بشلف سنة خمس وأربعمائة، وتوارث ملكهم في أعقاب موسى إلى أن ظهرت دولة المرابطين، وغلب يوسف بن تاشفين على أعمال المغرب، فزحف إليهم القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية، فاستدعى أهل فاس وصريخ زناتة بعد مهلك معنصرة المغراوي فلقي عساكر المرابطين بوادي صفر [5] فهزمهم وزحف إليه يوسف   [1] وفي نسخة ثانية: منذر. [2] بياض بالأصل في جميع النسخ ولم نهتد إلى السنة في المراجع التي بين أيدينا. [3] وفي النسخة الباريسية قابس. [4] وفي نسخة أخرى: إسماعيل بن البوري. [5] وفي النسخة التونسية: صغير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 ابن تاشفين من مكانه فحاصر قلعة فازاز فهزم القاسم بن محمد وجموع مكناسه وزناتة ودخل فاس عنوة كما ذكرناه في أخباره. ثم زحف إلى أعمال مكناسة فاقتحم الحصن وقتل القاسم. وفي بعض تواريخ المغرب أن مهلك إبراهيم بن موسى كان سنة خمس وأربعمائة. وولي ابنه عبد الله أبو عبد الرحمن، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة وولي ابنه محمد وهلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه القاسم وهلك سول عند اقتحام لمتونة عليه سنة ثلاث وستين وأربعمائة وانفضّ ملك مكناسة من المغرب بانقراض ملك مغراوة، والأمر للَّه وحده. وهي من قبائل مكناسة لهذا العهد بهذه المواطن أفاريق في جبال تازا بعد ما شرست [1] بهم الدول وأناخت بساحتهم الأمم. وهم موصوفون بوفور الجباية وقوّة الشكيمة. ولهم عناء في مظاهرة الدولة وحقوق عند الحشد والعسكرة. وفيهم ميدان من الحمالية [2] ، ومن مكناسة غير هؤلاء أوزاع في القبائل لهذا العهد مفرّقون في نواحي إفريقية والمغرب الأوسط. «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ» 14: 19- 20 وهذا آخر الكلام في بني ورصطيف، فلنرجع إلى من بقي علينا من البربر وهم زناتة والله ولي العون وبه المستعان.   [1] وفي نسخة أخرى: تمرست. [2] وفي نسخة أخرى: وفيهم مؤن من الخيالة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 (أخبار البرانس من البربر ولنبدأ أولا بالخبر عن هوارة من شعوبهم وذكر بطونهم وتصاريف أحوالهم وافتراق شعوبهم في عمالات إفريقية والمغرب) وهوّارة هؤلاء من بطون البرانس باتفاق من نسّابه العرب والبربر ولد هوّار بن أوريغ بن برنس إلّا ما يزعم بعضهم أنهم من عرب اليمن. تارة يقولون من عاملة إحدى بطون قضاعة وتارة يقولون من ولد المسوّر بن السكاسك بن وابل [1] بن حمير. وإذا تحرّوا الصواب، المسوّر بن السكاسك بن أشريس بن كندة وينسبونه هكذا: هوّار بن أوريغ بن جنون بن المثنى بن المسوّر. وعند هؤلاء أن هوّارة وصنهاجة ولمطة وكزولة وهسكورة يعرف جميعهم بني ينهل [2] وأن المسور جدّهم جميعا وأنه وقع إلى البتر [3] ونزل على بني زحيك بن مادغيس الأبتر. وكانوا أربعة إخوة: لوا وضرا [4] وأدّاس ونفوس. وأنهم زوّجوه أختهم بصكي [5] العرجاء بنت زحيك فولدت منه المثنّى أبا هوّارة، وتزوّجها بعد المسوّر بن عافيل [6] بن زعزاع أبو صنهاجة ولمطة وكزولة وهسكورة كما يأتي فيما بعد أنهم إخوة المثنّى لأمه، وبها عرف جميعهم. قالوا: وولد المثنّى بن المسوّر خبّوز وولد خبّوز بن المثنى ريغ الّذي يقال فيه أوريغ بن برنس، ومنه عرفت قبائل هوّارة. قالوا: إنما سميت هوّارة لأن المسوّر لما جال البلاد ووقع في المغرب قال: لقد تهوّرنا هكذا عند بعض نسّابه البربر. وعندي والله أعلم أنّ هذا الخبر مصنوع وأن أثر الصنعة باد عليه. ويعضد ذلك أن المحقّقين ونسّابتهم مثل سابق وأصحابه قالوا: إنّ بطون أدّاس بن زحيك دخلت كلّها في هوّارة من   [1] وفي نسخة أخرى: واثل. [2] وفي النسخة التونسية: تيصكي. [3] وفي النسخة التونسية: البربر. [4] وفي النسخة التونسية: ضريس وهو تيسكي الصحيح. [5] وفي نسخة أخرى: تيسكي. [6] وفي نسخة أخرى: عاصيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 أجل أن هوّار خلف زحيك على أم أدّاس، فربي أدّاس في حجره وزحيك على ما في الخبر الأوّل هو جدّ هوّار، لأن المثنّى جدّه الأعلى هو ابن بصكي وهي بنت زحيك، فهو الخامس من زحيك فكيف يخلفه على امرأته. هذا بعيد. والخبر الثاني أصح عند نسّابتهم من الأوّل. وأما بطون هوّارة فكثير وأكثرهم بنو نبه وأوريغ اشتهروا نسبة لشهرته وكبر سنه من بينهم فانتسبوا جميعا إليه. وكان لأوريغ أربعة من الولد: هوّار وهو أكبرهم، ومغر وقلدن ومندر [1] ، ولكل واحد منهم بطون كثيرة وكلّهم ينسبون إلى هوّار. فمن بطون مغر ماوس وزمّور وكياد وسواي [2] ذكر هذه البطون الأربعة ابن حزم، وزاد سابق المطماطي وأصحابه ورجين ومنداسة وكركوده ومن بطون قلدن: خماصه وورصطيف وبيانة [3] . وبل ذكر هذه الأربعة ابن حزم وسابق. ومن بطون ملد مليلة وسطط وروفل [4] واسيل ومسراتة ذكرها ابن حزم، وقال: جميعهم بنو لهال بن ملك [5] ، وكذا عند سابق. ويقال: إن ورنيفن أيضا من نهانه [6] . ومن بطون هوّارة بنو كهلان. ويقال: إن مليلة من بطونهم. وعند نسّابه البربر من بطونهم غريان وورغة وزكاوة ومسلاتة ومجريس. ويقال إن ونيفن منهم. ومجريس لهذا العهد ينتسبون إلى ونيفن وعند سابق وأصحابه أن بنى كهلان وريجن إحدى بطون مغر، وأن من بطون بني كهلان بني كسى ورتاكط ولشوه [7] وهيوارة. وأما بطون أدّاس بن زحيك بن مادغيس الأمراء الذين دخلوا في هوّارة فكثير. فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهيزونة وأوطيعة وضبرة [8] هؤلاء باتفاق من ابن حزم وسابق وأصحابه.   [1] وفي نسخة أخرى: ملد. [2] وفي نسخة أخرى: سراي. [3] وفي نسخة أخرى: قمصانه وورصطيف وبيانة وكذلك في النسخة التونسية. [4] وفي نسخة أخرى: وورفل. [5] وفي نسخة أخرى: لهان بن ملد. [6] وفي نسخة أخرى: ويقال: إن ونيفن أيضا من لهانة. [7] وفي النسخة الباريسية: مشوه وفي التونسية تيسوة وفي نسخة أخرى شوه. [8] وفي نسخة أخرى: فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهنزونة وأوطيطة وصنبرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 وكانت مواطن الجمهور من هوّارة هؤلاء، ومن دخل في نسبهم من إخوانهم البرانس والصمغر [1] لأوّل الفتح بنواحي طرابلس وما يليها من برقة كما ذكره المسعودي والبكري. وكانوا ظواعن وآهلين، ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجاوزوا لمطة من قبائل الملثّمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه إفريقية، ويعرفون بنسبهم هكّارة، قلبت العجمة واوه كافا أعجمية تخرج بين الكاف العربية والقاف. وكان لهم في الردّة وحروبها آثار ومقامات. ثم كان لهم في الخارجيّة والقيام بها ذكر، وخصوصا بالاباضية منها. وخرج على حنظلة منهم عبد الواحد بن يزيد مع عكاشة الفزاريّ فكانت بينهما وبين حنظلة حروب شديدة. ثم هزمهما وقتلهما وذلك سنة أربع وعشرين ومائة أيام هشام بن عبد الملك. وخرج على يزيد بن حاتم سنة ست وخمسين ومائة يحيى بن فوناس منهم، واجتمع إليه كثير من قومه وغيرهم. وزحف إليه قائد طرابلس عبد الله بن السمط الكندي على شاطئ البحر بسواريه من سواحلهم، فانهزم وقتل عامة هوّارة. وكان منهم مع عبد الرحمن بن حبيب مجاهد ابن مسلم من قوّاده. ثم أجاز منهم إلى الأندلس مع طارق رجالات مذكورون واستقروا هنالك، وكان من خلفهم بنو عامر بن وهب أمير رندة أيام لمتونة، وبنو ذي النون الذين ملكوها من أيديهم، واستضافوا معها طليطلة وبنو رزين أصحاب السهلة. ثم ثارت هوارة من بعد ذلك على إبراهيم بن الأغلب سنة ست وتسعين ومائة، وحاصروا طرابلس وافتتحوها فخرّبوها. وتولى كبر ذلك منهم عياض بن وهب، وسرّح إبراهيم إليهم ابنه أبا العبّاس فهزمهم وقتلهم وبنى طرابلس. وجأجأ هوّارة بعبد الوهاب بن رستم من مكان إمارتهم بتاهرت فجاءهم واجتمعوا إليه ومعهم قبائل نفوسة وحاصروا أبا العبّاس بن الأغلب بطرابلس إلى أن هلك أبوه إبراهيم بالقيروان، وقد عهد إليه فصالحهم على أن يكون الصحراء لهم. وانصرف عبد الوهاب إلى نفوسه. ثم أصبحوا بعد ذلك وغزوا مع الجيوش صقلّيّة، وشهد فتحها منهم زواوة بن نعم الحلفاء. ثم كان لهم مع أبي يزيد النكاري وفي حروبه مقامات مذكورة، اجتمعوا إليه من مواطنهم بجبل أوراس ومرماجنة لما غلب عليه، وأخذ أهلها بدعوته فاغاشوا إلى ولايته وفعلوا الأفاعيل. وكان من أظهرهم في تلك   [1] وفي النسخة التونسية: البتر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 الفتنة بنو كهلان. ولما هلك أبو يزيد كما نذكره سطا إسماعيل المنصور بهم وأثخن فيهم، وانقطع ذكر بني كهلان. ثم جرّت الدول عليهم أذيالها وأناخت بكلاكلها، وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة من كل ناحية، فمنهم لهذا العهد بمصر أوزاع متفرقون أوطنوها أكرة وعبارة وشاوية، وآخرون موطنون ما بين برقة والاسكندرية يعرفون بالمثانية [1] ، ويظعنون مع الحرّة [2] من بطون هيث من سليم بأرض التلول من إفريقية ما بين تبسة إلى مرماجنة إلى باجة، ظواعن صاروا في عداد الناجعة عرب بني سليم في اللغة والزيّ وسكنى الخيام وركوب الخيل، وكسب الإبل وممارسة الحروب، وإيلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم. قد نسوا رطانة البربر واستبدلوا منها بفصاحة العرب، فلا يكاد يفرّق بينهم. فأوّلهم مما يلي تبسة قبيلة وينفن [3] ورياستهم لهذا العهد في ولد يفرن بن حنّاش لأولاد سليم بن عبد الواحد بن عسكر بن محمد بن يفرن، ثم لأولاد زيتون بن محمد بن يفرن، ولأولاد دحمان بن فلان بعده. وكانت الرئاسة قبلهم لسارية من بطون ونيفن ومواطنهم ببسائط مزماحة [4] وتبسة وما إليهما. وبينهم قبيلة أخرى في الجانب الشرقي منهم يعرفون بقيصرون ورياستهم في بيت بني مرمن [5] ما بين ولد زعازع وولد حركات ومواطنهم بفحص آبّه وما إليها من نواحي الأربس. وتليهم إلى جانب الشرق قبيلة أخرى منهم يعرفون بنصورة، ورياستهم في بيت الرمامنة لولد سليمان بن جامع منهم. ويراد بهم في رياسة نصرة [6] قبيلة وربهامة [7] ومواطنهم ما بين تبسة إلى حامة إلى جبل الزنجار إلى أطار على ساحل تونس وبسائطها. ويجاورهم متساحلين إلى ضواحي باجة قبيلة أخرى من هوّارة يعرفون ببني سليم، ومعهم بطن من عرب نصر [8] من هذيل بن مدركة بن   [1] وفي نسخة أخرى: المثالنة. [2] وفي النسخة التونسية: العزة. [3] وفي نسخة أخرى: ونيقش وفي قبائل المغرب: ونيفن ص 316- 317. [4] وفي نسخة أخرى: مرماجة وفي مكان آخر مرماجنة. [5] وفي نسخة أخرى: مؤمن. [6] وفي النسخة التونسية: نصوة. [7] وفي النسخة التونسية: وزمانة. [8] وفي نسخة أخرى: مضر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 إلياس. جاءوا من مواطنهم بالحجاز مع العرب الهلاليّين عند دخولهم إلى المغرب، وأوطنوا بهذه الناحية من إفريقية، واختلطوا بهوّارة وحملوا في عدادهم. ومعهم أيضا بطن آخر من بطون رياح [1] من هلال ينتمون إلى عتبة بن مالك بن رياح صاروا في عدادهم وجروا على مجراهم والظعن والمغرم. ومعهم أيضا بطن من مرداس بني سليم يعرفون ببني حبيب. ويقولون هو حبيب بن مالك. وهم غارمة مثل سائر هوّارة وضواحي إفريقية من هذا العهد معهودة لهؤلاء الظواعن [2] ، ومعظمهم من هوّارة. وهم أهل بقروشاء وركوب للخيل وللسلطان بإفريقية، عليهم وظائف من الجباية، وضعها عليهم دهاقين العمّال بديوان الخراج، قوانين مقرّرة وتضرب عليهم مع ذلك البعث في غزوات السلطان بعسكر مفروض يحضر بمعسكر السلطان متى استنفروا لذلك. ولرؤسائهم آراء ذلك قاطعات ومكان في الدول بين رجالات البدو، ويربطون هوّارة بمواطنهم الأولى من نواحي طرابلس، ظواعن وآهلين، توزّعتهم العرب من دبان [3] فيما توزعوه من الرعايا وغلبوهم على أمرهم منذ ضحا عملهم من ظل الدولة، فتملّكوهم تملّك العبيد للجباية منهم والاستكثار منهم في الانتجاع والحرب مثل: ترهونه وورقلة، الظواعن ومجريس الموطّنين بزرنزور من ونيفن وهي قرية من قرى طرابلس، ومن هوّارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلي بلد سرت وبرقة قبيلة يعرفون بمسراتة لهم كثرة واعتزار، ووضائع العرب عليهم قليلة ويعطونها من عزة. وكثيرا ما ينقلون في سبيل التجارة ببلاد مصر والإسكندرية، وفي بلاد الجريد من إفريقية وبأرض السودان إلى هذا العهد. (وأعلم) أنّ في قبلة قابس وطرابلس جبالا متصلا بعضها ببعض من المغرب إلى المشرق، فأوّلها من جانب الغرب جبل دمّر يسكنه أمم من لواتة ويتّصلون في بسيطة إلى فاس [4] وصفاقس من جانب الغرب، وأمم أخرى من نفوسة من جانب الشرق. وفي طوله سبع مراحل، ويتصل به شرقا جبل نفوسة تسكنه أمة كبيرة [5]   [1] رباح: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب. [2] وفي نسخة أخرى: معمورة بهؤلاء الظواعن. [3] وفي نسخة أخرى: دباب. [4] وفي النسخة التونسية: قابس. [5] وفي النسخة التونسية: أمم كثيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 من نفوسة ومغراوة وسدراتة، وهو قبلة طرابلس على ثلاث مراحل عنها. وفي طوله سبع مراحل، ويتصل به من جانب الشرق جبل مسلاتة، ويعتمره قبائل هوّارة إلى بلد مسراتة وبرقة، وهو آخر جبال طرابلس. وكانت هذه الجبال من مواطن هوّارة ونفوسة ولواتة. وكانت هنالك مدينة صغيرة بلد نفوسة قبل الفتح. وكانت برقة من مواطن هوّارة هؤلاء، ومنهم مكان بني خطّاب ملوك زويلة إحدى أمصار برقة، كانت قاعدة ملكهم حتى عرفت بهم، فكان يقال زويلة بن خطّاب. ولما خربت انتقلوا منها إلى فزّان من بلاد الصحراء وأوطنوها، وكان لهم بها ملك ودولة حتى إذا جاء قراقوش الغزّي الناصريّ مملوك تقي الدين ابن أخي صلاح الدين كما نذكر في مكانه عند ذكر الغوري [[1]] بن مسوفة وأخباره، وافتتح زلّة وأوجلة وافتتح فزّان بعدها، وتقبّض على عاملها محمد بن خطّاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطّاب آخر ملوكهم، وامتحنه وطالبه بالأموال وبسط عليه العذاب إلى أن هلك، وانقرض أمر بني خطّاب هؤلاء الهوّاريّين.   [1] وفي نسخة أخرى: الميورقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 (ومن قبائل) هوّارة هؤلاء بالمغرب أمم كثيرة في مواطن من أعمال تعرف بهم، وظواعن شاوية تنتجع لمسرحها في نواحيها، وقد صاروا عبيدا للمغارم في كل ناحية. وذهب ما كان لهم من الاعتزاز والمنعة أيام الفتوحات بسبب الكثرة، وصاروا إلى الافتراق في الأودية بسبب القلّة والله مالك الأمور. ومن أشهرهم بالمغرب الأوسط أهل الجبل المطل على البطحاء، وهو مشهور باسم هوّارة وفيه من مسراتة وغيرهم من بطونهم، ويعرف رؤساؤهم من بني إسحاق. وكان الجبل من قبلهم فيما زعموا لبني يلومين، فلما انقرضوا صار إليه هوّارة وأوطنوه، وكانت رياستهم في بني عبد العزيز منهم. ثم ظهر من بني عمّهم رجل اسمه إسحاق واستعمله ملوك القلعة، وصارت رياستهم في عقبه بني إسحاق واختطّ كبيرهم محمد بن إسحاق القلعة المنسوبة إليهم. وورث رياسته فيهم أخوه حيّون وصارت في عقبه. واتصلوا بالسلطان أيام ملك بني عبد الواد على المغرب الأوسط، وانتظموا في شرائعهم، واستعمل أبو تاشفين من ملوكهم يعقوب بن يوسف بن حيّون قائدا على بني توجين عند ما غلبهم على أمرهم، وفرض المغارم عليهم، فقام بها أحسن قيام ودوّخ بلادهم، وأذلّ من عزّهم. وبعد أن غلب بنو مرين بني عبد الواد على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن عبد الرحمن بن يعقوب على قبيلة هؤلاء. ثم استعمل بعده عمّه عبد الرحمن، ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن بن يوسف. ثم تلاشى حال هذا القبيل وخفّ ساكن الجبل بما اضطرم بهم [1] دولة بني عبد الواد، وأجحفت بهم في الظلامات. وانقرض بيت بني إسحاق، والأمر على ذلك لهذا العهد، والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن ازداجة ومسطاسه وعجيسة من بطون البرانس ووصف أحوالهم) أما أزداجة ويعرفون أيضا وزداجة فمن بطون البرانس، وكثير من نسّابة البربر يعدّونهم في بطون زناتة. وقد يقال إن أزداجة من زناتة ووزداجة من هوّارة، وأنهما بطنان   [1] وفي نسخة أخرى: اضطهدتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 مفترقان وكان لهم وفور وكثرة. وكانت مواطنهم بالمغرب الأوسط بناحية وهران، وكان لهم اعتزاز وآثار في الفتن والحروب. ومسطاسة مندرجون معهم فيقال إنهم من عداد بطونهم، ويقال إنهم إخوة مسطاس أخي وزداج والله أعلم. وكان من رجالتهم المذكورين شجرة بن عبد الكريم المسطاسي وأبو دليم بن خطّاب. وأجاز أبو دليم إلى الأندلس من ساحل تلمسان، وكان لبنيه بها ذكر وفي فقهاء قرطبة. وكان من بطون ازداجة بنو مشقق [1] وكانوا يجاورون وهران ونزل مرس وهران من رجال الدولة الأموية محمد بن أبي عون ومحمد بن عبدون، فداخلوا بني مسكن وملكوا وهران سبع سنين مقيمين فيها للدعوة الأموية، فلما ظهرت دعوة الشيعة وملك عبيد الله المهدي تاهرت وولّى عليها دواس بن صولات اللهيصي من كتامة، وأخذت البرابرة بدعوتهم أو عز دوّاس بحصار وهران فرجعوا إليها سنة سبع وتسعين وأدخلوا بني مسكن في ذلك فأجابوهم، وفرّ محمد بن أبي عون فلحق بدوّاس بن صولات واستبيحت وهران وأضرمت نارا. ثم جدّد بناءها دوّاس وأعاد محمد بن أبي عون إلى ولايتها، فعادت أحسن ما كانت، وأمراء تلمسان لذلك العهد من الأدارسة بنو أحمد بن محمد بن سليمان، وسليمان أخو إدريس الأكبر كما ذكرناه. وكانوا يقيمون دعوة الأموية لذلك العهد. ثم ولي على تاهرت أيام أبي القاسم بن عبد الله أيا ملك يغمراسن بن أبي سمحة، وانتقض عليه البربر فحاصروه عند زحف ابن أبي العافية إلى المغرب الأوسط بدعوة المروانية، وكان ممن أخذ بها محمد بن أبي عون صاحب وهران وسرّح أبو القاسم ميسورا فولاه إلى المغرب وأتاه محمد بن عون بطاعته فقبلها وأقرّه على عمله، ثم نكث محمد بن عون عند منصرف ميسور من المغرب وراجع طاعته المروانية. ثم كان شأن أبي يزيد وانتقاض سائر البرابرة على العبيديّين، واستفحل أمر زناتة وأخذ بدعوة المروانيّين. وكان الناصر عقد ليعلى بن أبي محمد اليفرني على المغرب، فخاطبه بمراوغة محمد بن أبي عون وقبائل ازداجة في الطاعة للعداوة وبين القبيلتين بالمجاورة، وزحف إلى ازداجة فحصرهم بجبل كيدرة، ثم تغلّب عليهم واستأصلهم وفرّق جماعتهم وذلك لسنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، ثم زحف إلى وهران ونازلها، ثم   [1] وفي نسخة أخرى: مسقن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 افتتحها عنوة وأضرمها نارا واستلحم ازداجة ولحق رياستهم بالأندلس فكانوا بها، وكان منهم خزرون بن محمد من كبار أصحاب المنصور بن أبي عامر وابنه المظفّر وأجاز إلى المغرب وبقي ازداجة بعد ذلك على حال من الهضيمة والمذلّة وانتظموا في عداد المغارم من القبائل. (وأما العجيسة) وهم من بطون البرانس من ولد عجيسة من برنس ومدلول هذا الاسم البطن، فإنّ البربر يسمّون البطن بلغتهم عدّس بالدال المشدّدة، فلما عرّبتها العرب قلبت دالها جيما مخفّفة، وكان لهم بين البربر كثرة وظهور، وكانوا مجاورين في بطونهم لصنهاجة، وبقاياهم لهذا العهد في ضواحي تونس والجبال المطلّة على المسيلة، وكانت منهم يسكنون جبل القلعة. وكان لهم في فتنة أبي يزيد أثر. ولما هزمهم المنصور لجأ إليهم واعتصم بقلعة كتامة من حصونهم حتى اقتحم عليه. ثم بادر حمّاد بن بلكّين من بعد ذلك مكانا لبناء مدينة فاختطها بينهم. ونزلها ووسّع خطتها واستبحر عمرانها. وكانت حاضرة لملك آل حماد فأخلفت هذه المدينة من جدّة عجيسة لمّا تمرّست بهم، وخضدت من شوكتهم وراموا كيد القلعة مرارا، وأجلبوا على ملوكها بالأعياص منهم فاستلحمهم السيف، ثم هلكوا وهلكت القلعة من بعدهم وورثت مواطنهم بذلك الجبل عياض من أفاريق العرب الهلاليّين وسمّي الجبل بهم، وفي القبائل بالمغرب كثير من عجيسة هؤلاء مفترقون فيهم والله أعلم. (الخبر عن أوربة من بطون البرانس وما كان لهم من الردّة والثورة وما صار لهم من الدعاء لإدريس الأكبر) كانت البطون التي فيها الكثرة والغلب من هؤلاء البربر البتر كلهم لعهد الفتح أوربة وهوّارة وصنهاجة من البرانس، ونفوسة وزناتة ومطغرة ونفزاوة من البتر، وكان التقدّم لعهد الفتح لأوربة هؤلاء بما كانوا أكثر عددا وأشدّ بأسا وقوة، وهم من ولد أورب بن برنس، وهم بطون كثيرة، فمنهم بجاية ونفاسة ونعجة وزهكوجة ومزياتة ورغيوتة وديقوسة. وكان أميرهم بين يدي الفتح ستردير بن رومي بن بارزت بن بزريات [1]   [1] وفي نسخة ثانية: الفتح سكرديد بن زوغي بن بارزت بن برزيات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 ولي عليهم مدّة ثلاث وسبعين سنة، وأدرك الفتح الإسلامي ومات سنة إحدى وسبعين، وولي عليهم من بعده كسيلة بن لزم [1] الأوربي فكان أميرا على البرانس كلهم، ولما نزل ابن المهاجر تلمسان سنة خمس وخمسين كان كسيلة بن لزم مرتادا بالمغرب الأقصى في جموعه من أوربة وغيرهم، فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الإسلام فأسلم، واستنقذه وأحسن إليه وصحبه. وقدم عقبة في الولاية الثانية أيام يزيد سنة اثنتين وستين فاضطغن عليه صحابته لأبي المهاجر وتقدّم أبو المهاجر في اصطناعه فلم يقبل وزحف إلى المغرب وعلى مقدّمته زهير ابن قيس البلويّ فدوّخه. ولقيه ملوك البربر ومن انضم إليه من الفرنجة بالزاب وتاهرت فهزمهم واستباحهم، وأذعن له بليان أمير غمارة ولاطفه وهاداه، ودلّه على عورات البرابرة وردأه بوليلة والسوس وما والاهما من مجالات الملثمين فغنم وسبى، وانتهى إلى ساحل البحر وقفل ظافرا. وكان في غزاتة تلك يستهين كسيلة ويستخفّ به وهو في اعتقاله. وأمره يوما بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه، وأراده عقبة على أن يتولّاها بنفسه، وانتهره فقام إليها كسيلة مغضبا وجعل كلما دسّ يده في الشاة مسح بلحيته والعرب يقولون ما هذا يا بربري؟ فيقول: هو أجير [2] فيقول لهم شيخ منهم: إن البربري يتوعّدكم. وبلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه، وقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبّار في قومه بدار عزّه قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه وأشار عليه بأن يوثق منه. وخوّفه فتكه فتهاون عقبة بقوله. فلما قفل عن غزاتة وانتهى إلى طبنة صرف العساكر إلى القيروان أفواجا ثقة بما دوّخ من البلاد، وأذلّ من البربر حتى بقي في القليل [3] ، وسار إلى تهودة أو بادس لينزل بها الحامية. فلما نظر إليه الفرنجة طمعوا فيه وراسلوا كسيلة بن لزم ودلّوه على الفرصة فيه فانتهزها، وراسل بني عمّه ومن تبعهم من البربر، واتبعوا عقبة وأصحابه رضي الله عنه حتى إذا غشوه بتهودة ترحّل القوم وكسروا أجفان سيوفهم، ونزل الصبر واستلحم عقبة وأصحابه رضي الله عنهم ولم يفلت منهم أحد. وكانوا زهاء ثلاثمائة من   [1] وفي النسخة الباريسية: لمرم وفي النسخة التونسية لمزم. [2] وفي نسخة ثانية: فيقول: هذا جيد للشعر. [3] وفي نسخة ثانية: قليل من الناس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 كبار الصحابة والتابعين استشهدوا في مصرع واحد، وفيهم أبو المهاجر كان أصحبه في اعتقاله، فأبلى رضي الله عنه في ذلك اليوم البلاء الحسن، وأجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء عقبة وأصحابه بمكانهم ذلك من أرض الزاب لهذا العهد. وقد جعل على قبر عقبة أسنمة ثم جصّص، واتخذ عليه مسجد عرف باسمه وهو في عداد المزارات ومظان البركة، بل هو أشرف مزور من الأجداث في بقاع الأرض لما توفّر فيه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين لا يبلغ أحد مدّ أحدّهم ولا نصيفه، وأسر من الصحابة يومئذ محمد بن أوس [1] الأنصاري ويزيد بن خلف العبسيّ [2] ونفر معهم ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة. وكان زهير بن قيس البلويّ بالقيروان وبلغه الخبر فخرج هاربا وارتحل بالمسلمين ونزل برقة وأقام بها ينتظر المدد من الخلفاء. واجتمع إلى كسيلة جميع أهل المغرب من البربر والفرنجة، وزحف الى القيروان فخرج العرب منها ولحق بزهير بن قيس ولحق بها أصحاب الذراري والأثقال فأمّنهم ودخل القيروان وأقام أميرا على إفريقية ومن بقي بها من العرب خمس سنين وقارن ذلك مهلك يزيد بن معاوية وفتنة الضّحاك بن قيس مع المروانية بمرج راهط وحروب آل الزبير فاضطرب أمر الخلافة بعض الشيء، واضطرم المغرب نارا وفشت الردّة في زناتة والبرانس. ثم استقل عبد الملك بن مروان من بعد ذلك وأذهب بالمشرق آثار الفتنة. وكان زهير بن قيس مقيما ببرقة منذ مهلك عقبة، فبعث إليه بالمدد وولّاه حرب البرابرة والثأر بدم عقبة. فزحف إليها في آلاف من العرب سنة سبع وستين. وجمع كسيلة البرانس وسائل البربر، ولقيه بجيش [3] من نواحي القيروان واشتدّ القتال بين الفريقين، ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم وأتبعهم العرب إلى مرماجنّة ثم إلى ملوية وذلّ البربر ولجئوا إلى القلاع والحصون وحدّت شوكة أوربة من بينهم واستقرّ جمهورهم بديار المغرب الأقصى فلم يكن بعدها لهم ذكر. واستولوا على مدينة وليلى بالمغرب كانت ما بين موضع فاس ومكناسة بجانب جبل زرهون وأقاموا على ذلك، والجيوش من القيروان تدوّخ المغرب مرّة بعد أخرى إلى أن خرج محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي أيام المنصور وقتل بالمدينة سنة   [1] وفي نسخة أخرى: أويس، وعند ابن الأثير أوس (ج 4 ص 108) . [2] وفي نسخة أخرى: القيسي. [3] وفي النسخة التونسية ممس (وممس اسم بلد) وفي الكامل ج 4 ص 108 ممش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 خمس وأربعين ومائة. ثم خرج بعده ابن عمّه حسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن حسن السبط أيام الهادي وقتل بفخ على ثلاثة أميال من مكة سنة تسع وستين ومائة، واستلحم كثير من أهل بيته وفرّ إدريس بن عبد الله إلى المغرب ونزل على أوربة سنة اثنتين وسبعين ومائة وأميرهم يومئذ بو ليلى إسحاق بن محمد بن عبد الحميد منهم فأجاره وجمع البرابر على دعوته. واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسراتة وغمات [1] ونفرة ومكناسة وغمارة وكافة برابرة المغرب، فبايعوه وائتمروا بأمره، وتمّ له الملك والسلطان بالمغرب. وكانت له الدولة التي ورثها أعقابه إلى حين انقراضها، كما ذكرنا في دولة الفاطميّين والله تعالى أعلم. الخبر عن كتامة من بطون البرانس وما كان لهم من العز والظهور على القبائل وكيف تناولوا الملك من أيدي الاغالبة بدعوة الشيعة هذا القبيل من قبائل البربر بالمغرب وأشدّهم بأسا وقوة، وأطولهم باعا في الملك عند نسّابة البربر من ولد كتام بن برنس، ويقال: كتم ونسّابة العرب يقولون إنهم من حمير ذكر ذلك ابن الكلبيّ والطبريّ. وأوّل ملوكهم أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة، وهو الّذي افتتح إفريقية وبه سمّيت، وقتل ملكها جرجير، وسمّى البربر بهذا الاسم كما ذكرناه. يقال أقام في البربر من حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى اليوم فيهم، وتشعّبوا في المغرب وانبثوا في نواحيه إلّا أنّ جمهورهم كانوا لأول الملّة بعد تهييج الردّة وطفئت تلك الفتن، موطنين بأرياف قسنطينة إلى تخوم بجاية غربا إلى جبل أوراس من ناحية القبلة. وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكثرها لهم، وبين ديارهم ومجالات تقلّبهم مثل أبكجان وسطيف وباغاية، وبفاس وتلزمه [2] ويتكست وميلة وقسنطينة والسيكرة والقلّ وجيجل من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية وبونة. وكانت بطونهم كثيرة يجمعها كلّها غرسن ويسوّدة ابنا كتم بن يوسف [3] فمن يسّودة   [1] وفي نسخة أخرى: سدراتة وغماته. [2] وفي نسخة أخرى: ونقاوس ويلزمة. [3] وفي نسخة أخرى: برنس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 فالسبد ودنهاجة ومتوسة ورسين [1] كلّهم بنو يسّودة بن كتم وإلى دنهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد. ومن غرسن مصالة وقلان وماوطن ومعّاذ بنو غرسن ابن كتم، ولهيفة [2] وجيملة ومسألته وبنو بناوة بن غرسن، وملوسة من إيان ولطاية وإجّانة وغسمان وأوباست بنو تيطاسن [3] بن غرسن وملوسة من إيان غرسن بن غرسن. ومن ملوسة هؤلاء بنو زيدوي [4] أهل الجبل المطل على قسنطينة لهذا العهد. وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبني قنسيلة. وعدّ ابن حزم منهم زواوة بجميع بطونهم وهو الحق على ما تقدّم. وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم، وهم بها إلى اليوم. ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحالة من لدن ظهور الملّة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة. ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة ولا ينالهم تعسّف لاعتزازهم بكثرة جموعهم كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميّين إثر دولة بني العبّاس، فانظره هنالك وتصفّحه تجد تفصيله. ولما صار لهم الملك بالمغرب زحفوا إلى المشرق فملكوا الإسكندرية ومصر والشام واختطّوا القاهرة أعظم الأمصار بمصر، وارتحل المعزّ رابع خلفائهم فنزلها وارتحل معه كتامة على قبائلهم واستفحلت الدولة هنالك وهلكوا في ترفها وبذخها. وبقي في مواطنهم الأولى بجبل أوراس وجوانبه من البسائط بقايا من قبائلهم على أسمائها وألقابها والآخرون بغير لقبهم وكلّهم رعايا معبدون للمغارم إلّا من اعتصم بقنة الجبل مثل بني زيدوي بجبلهم وأهل جبال جيجل وزواوة أيضا في جبالهم. وأما البسائط فأشهر من فيها منهم سدويكش ورياستهم في أولاد سواد [5] ولا أدري إلى من يرجعون في قبائل كتامة المسمّين بهذه الاسم [6] إلّا أنهم باتفاق من أهل   [1] وفي نسخة أخرى: فمن يسودة: فلاسة ودنهاجة ومتوسة ووريسن. [2] وفي نسخة أخرى: لهيصة. [3] وفي نسخة أخرى: أوفاس بنو ينطاسن. [4] وفي نسخة أخرى: بنو زلدوي. [5] وفي نسخة أخرى: سواق. [6] وفي نسخة أخرى: في هذا الكتاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 الأخبار، ونحن الآن ذاكرون ما عرفناه من أخبارهم المتأخّرة بعد دولة كتامة والله تعالى ولي العون. (الخبر عن سدويكش ومن اليهم من بقايا كتامة في مواطنهم) هذا الحي لهذا العهد وما قبله من العصور يعرفون بسدويكش وديارهم في مواطن كتامة ما بين قسنطينة وبجاية في البسائط منها، ولهم بطون كثيرة مثل سيلين وطرسون وطرغيان وموليت وبني فتنة [1] وبني لمائي وكايارة وبني زغلان والنورة وبني مزوان ووارمسكن وسكوال وبني عيار [2] . وفيهم من لماته [3] ومكلاتة وريغة والرئاسة على جميعهم في بطن منهم يعرفون أولاد سواق لهم جمع وقوّة وعدد وعدّة. وكان جميع هذه البطون وعيالهم غارمة فيمتطون الخيل ويسكنون الخيام ويظعنون على الإبل والبقر ولهم مع الدول في ذلك الوطن استقامة. وهذا شأن القبائل الأعراب من العرب لهذا العهد. وهم ينتفون من نسب كتامة ويفرون منه لما وقع منذ أربعمائة سنة من النكير على كتامة بانتحال الرافضة وعداوة الدول بعدهم، فيتفادون بالانتساب إليهم. وربما انتسبوا في سليم من قبائل مضر وليس ذلك بصحيح. وإنما هم من بطون كتامة وقد ذكرهم مؤرخو صنهاجة بهذا النسب ويشهد لذلك الموطن الّذي استوطنوه من إفريقية. ويذكر نسّابتهم ومؤرخوهم أن موطن أولاد سواق منهم كان في قلاع بني بو خصرة من نواحي قسنطينة ومنه انتقلوا وانتشروا في سائر تلك الجهات. وأولاد سواق بطنان وهم: أولاد علاوة بن سواق وأولاد يوسف بن حمّو بن سواق. فأما أولاد علاوة فكانت الرئاسة على قبائل سدويكش لهم فيما سمعناه من مشيختنا، وأن ذلك كان لعهد دولة الموحّدين وكان منهم علي بن علاوة وبعده ابنه طلحة بن عليّ وبعده أخوه يحيى بن علي وبعده أخوهما منديل بن علي عزل تازير بن أخيه طلحة   [1] وفي النسخة الباريسية: بني فشة وفي النسخة التونسية بني قشة. [2] وفي النسخة أخرى: البؤرة وبني مروان وواركسن وسكرال وبني عيّاد. [3] وفي نسخة أخرى: لماية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 لما بويع السلطان أبو يحيى بقسنطينة سنة عشر من هذه المائة وقع من تازير انحراف؟ من طاعته واعتلوا بطاعة ابن الخلوف بجاية، فقدم عوضا منه عمّه منديل. ثم؟ يستبدل منهم أجمعين بأولاد يوسف، فشمّروا في طاعته وأبلوا، وغلب السلطان على بجاية وقتل ابن الخلوف فظهر أولاد يوسف وزحموا أولاد علاوة، وأخرجوهم من لوطن فصاروا إلى عياض من أفاريق هلال، وسكنوا في جوارهم بجبلهم الّذي وطنوه المطل على المسيلة. واتصلت الرئاسة على سدويكش في أولاد يوسف وهم لهذا العهد أربع قبائل: بنو محمد بن يوسف وبنو المهدي وبنو إبراهيم بن يوسف والعزيزيون وهم بنو منديل، وظافر وجري وسيّد الملوك والعبّاس وعيسى، والستة أولاد يوسف وهم أشقاء. وأمّهم تاعزيزت فنسبوا إليها، وأولاد محمد والعزيزيون يوطنون بنواحي بجاية وأولاد المهدي وإبراهيم بنواحي قسنطينة. وما زالت الرئاسة في هذه القبائل الأربع تجتمع تارة في بعضهم وتفترق أخرى إلى هذا العهد، وكانت الأخرى دولة مولانا السلطان أبي يحيى اجتمعت رياستهم لعبد الكريم بن منديل بن عيسى من العزيزيين ثم افترقت واستقل كل بطن من هؤلاء الأربعة برياسة، وأولاد علاوة في خلال هذا كلّه بجبل عياض. ولما تغلب بنو مرين على إفريقية نكر السلطان أبو عنّان أولاد يوسف ورماهم بالميل إلى الموحّدين، وصرف الرئاسة على سدويكش إلى مهنّا من تازير بن طلحة من أولاد علاوة فلم يتم له ذلك، وقتله أولاد يوسف. ورجع أولاد علاوة إلى مكانهم من جبل عياض. وكان رئيسهم لهذه العصور عدوان بن عبد العزيز بن زرّوق بن علي بن علاوة، وهلك ولم تجتمع رياستهم بعده لأحد. وفي بطون سدويكش هؤلاء بطن مرادف أولاد سواق في الرئاسة على بعض أحيائهم وهم بنو سكين، ومواطنهم في جوار لواتة بجبل تابور وما إليه من نواحي بجاية، ورياستهم في بني موسى بن ثابر منهم. أدركنا ابنه صخر بن موسى واختصّه السلطان أبو يحيى بالرياسة على قومه، وكان له مقامات في خدمته. ثم عرف بعده في الوفاء ابنه الأمير أبو حفص فلم يزل معه إلى أن وقع به بنو مرين بناحية قابس، وجيء به مع أسرى الوقيعة فقطعه السلطان أبو الحسن من خلاف، وهلك بعد ذلك وقام برياسته ابنه عبد الله وكان له فيها وفي خدمة السلطان بجاية شأن إلى أن هلك لأعوام ثمانين، وولي ابنه محمد من بعده والله وارث الأرض ومن عليها . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 (الخبر عن بني ثابت أهل الجبل المطل على قسنطينة من بقايا كتامة) ومن بطون كتامة وقبائلهم أهل الجبل المطل على القل ما بينه وبين قسنطينة المعروف برياسة أولاد ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان. ويقال إن أبا بكر هذا الجد هو الّذي فرض المغرم على أهل هذا الجبل لأيام الموحّدين، ولم يكن قبل ذلك عليه مغرم. فلما انقرض ملك صنهاجة وغلب الموحّدون على إفريقية وفد أبو بكر هذا على الخليفة بمراكش ونجع بالطاعة والانقياد، وتقرّب إليه بفرض المغرم على قبيلة بالجبل، وكان لثابت هذا من الولد عليّ وحسن وسلطان وإبراهيم، كلّهم راسوا بالجبل، وأمّا حسن منهم فحجب السلطان أبا يحيى لأول دولته وفي عنيته. ولابن عمر لدولة طرابلس أعوام احدى عشر وسبعمائة كما نذكره. فلما تملّك السلطان بجاية وقتل ابن خلوف ورجع ابن عمر من تونس إلى حجابته، وجد حسن بن ثابت معسكرا بفرحيرة [1] لانقضاء مغارم الوطن، فبعث إليه من قتله. وكان آخرهم رئاسة بالجبل عليّ، أدرك دولة بني مرين بإفريقية. وولي بعده ابن عبد الرحمن ووفد على السلطان أبي عنان بفاس. ولما استجد مولانا السلطان أبو العبّاس دولته بإفريقية استولى عليهم ومحا أثر مشيختهم ورياستهم وصيّرهم من عداد جنده وحاشيته. واستعمل في الجبل عمّاله وهو جبل مطاوع [2] وجبايته مؤداة لصولته وجواره للعسكر بقسنطينة. ومن بقايا كتامة أيضا قبائل أخرى بناحية تدلس في هضابة مكتنفة بها وهم في عداد القبائل الغارمة، وبالمغرب الأقصى منهم قبيلة من بني سنس [3] بجبل قبلة جبل يزناسن، وقبيلة أخرى بناحية الهبط مجاورون لنصر بن عبد الكريم وقبائل أخرى بناحية مرّاكش نزلوا مع صنهاجة هنالك، ونسب كتامة لهذا العهد بين القبائل المثل السائر في الدولة [4] لما نكرتهم الدول من بعدهم أربعمائة سنة بانتحالهم الرافضة   [1] وفي نسخة أخرى: فرجيوة. [2] وفي النسخة الباريسية يطواع وفي النسخة التونسية مطواع. [3] وفي نسخة أخرى: يستيتن. [4] وفي النسخة التونسية: الذلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 ومذاهبها الكفرية، حتى صار كبيرهم من أهل نسبهم يفرون منه، وينتسبون فيمن سواهم من القبائل فرارا من هجنته والعزّة للَّه وحده. (الإلمام بذكر زواوة من بطون كتامة) هذا البطن من أكبر بطون البربر ومواطنهم كما تراه محتفة ببجاية إلى تدلس في جبال شاهقة وأوعار متسنمة، ولهم بطون وشعوب كثيرة، ومواطنهم متصلة بمواطن كتامة هؤلاء، وأكثر الناس جاهلون بنسبهم. وعامة نسّابة البربر على أنّهم من بني سمكان يحيى بن ضريس، وأنهم إخوة زواغة المحقّقون من النسّابة مثل ابن حزم وأنظاره إنّما يعدّونهم في بطون كتامة وهو الأصوب. والمواطن أوضح دليل عليه وإلا فأين مواطن زواغة؟ وهي طرابلس بالمغرب الأقصى من مواطن كتامة. وإنما حمل على الغلط في نسبهم إلى كتامة تصحيف اسم زوازه بالزاي بعد الواو وهم إخوة زواغة بلا شك، فصحّف هذا القارئ الزاي بالواو فعد زواوة إخوان زواغة. ثم استمر التصحيف جمعا في نسب سمكان والله أعلم، وقد مرّ ذكرهم هنالك مع ذكر زواغة وتعديد بطونهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 الخبر عن صنهاجة من بطون البرانس وما كان لهم من الظهور والدول في بلاد المغرب والأندلس هذا القبيل من أوفر قبائل البربر، وهو أكثر أهل الغرب لهذا العهد وما بعده [1] لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط، حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر. وكان لهم في الردّة ذكر وفي الخروج على الأمراء شأن تقدّم منه في صدر ذكر البرابر، ونذكر منه هنا ما تيسّر. وأما ذكر نسبهم فإنّهم من ولد صنهاج وهو صناك [2] بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عرّبته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج، وهو عند نسّابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن برّ، وذكر ابن الكلبيّ والطبري أنهم وكتامة جميعا من حمير كما تقدّم في كتامة، وفيما نقل الطبري في تاريخه أنهم صنهاج بن بر بن صوكان بن منصور [3] بن الفند بن أفريقش بن قيس، وبعض النسّابة يزعم أنه صنهاج بن المثنّى بن المنصور بن مصباح بن يحصب بن مالك بن عامر بن حمير الأصغر بن سبإ، كذا نقل ابن النحويّ من مؤرخي دولتهم وجعله ليحصب. وقد مرّ ذكره في أنساب حمير وليس كما ذكر والله أعلم. وأما المحقّقون من نسّابة البربر فيقولون هو صنهاج بن عاميل [4] بن زعزاع بن قيمتا بن سدور بن مولان بن مصلين بن يبرين [5] بن مكسيلة بن دقيوس [6] بن حلحال بن شرو بن مصرايم بن حام. ويزعمون أن جزول واللمط وهسكور إخوة صنهاج، وأن أمهم الأربعة بصكي [7] وبها يعرفون وهي بنت زحيك بن مادغيس، ويقال لها العرجاء فهذه القبائل الأربعة من القبائل إخوة لأم والله أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: وما قبله. [2] وفي النسخة التونسية: صرهاك. [3] وفي النسخة أخرى: صنهاج بن يصوكان بن ميسور. [4] وفي النسخة التونسية: عاصيل وفي قبائل المغرب عاميل ص 328. [5] وفي النسخة التونسية: مصلتن بن سر، وفي النسخة الباريسية: مصلتن بن تبن. وفي نسخة أخرى يصلين بن شر. وفي قبائل المغرب: يصلين بن يبرين. [6] وفي نسخة أخرى: دهيوس. وكذا في قبائل المغرب. [7] وفي نسخة أخرى: نصكي وقد مرّت معنا من قبل وفي قبائل المغرب تيصكي/ 329. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة [1] وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوقة وكدالة ومندلسة وبنو وارت وبنو يتين [2] . ومن بطون أنجفة بنو مزوات وبنو تثليب وفشتالة وملواقة [3] . هكذا يكاد نقل بعض نسّابة البربر في كتبهم وذكر آخرون من مؤرّخي البربر أن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطنا. وذكر ابن الكلبيّ والطبري أن بلادهم بالصحراء مسيرة ستة أشهر. وكان أعظم قبائل صنهاجة بلكانة وفيهم كان الملك الأول. وكانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط وإفريقية، وهم أهل مدر. ومواطن مسوقة ولمتونة وكدالة وشرطة بالصحراء، وهم أهل وبر. وأما أنجفة فبطونهم مفترقة وهم أكثر بطون صنهاجة. ولصنهاجة ولاية لعلي بن أبي طالب، كما أنّ لمغراوة ولاية لعثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنهما، إلّا أنّا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها. وكان من مشاهيرهم في الدولة الإسلامية ثابت بن وزريون ثار بإفريقية أيام السفّاح عند انقراض الأموية، وعبد الله بن سكرديرلك، وعبّاد بن صادق من قوّاد حمّاد بن بلكّين وسليمان بن مطعمان بن غيلان [4] أيام باديس بن بلكّين. وبني حمدون وورا بني حمّاد [5] ، وهو حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن علم، منهم ميمون بن جبل [6] ابن أخت طارق مولى عثمان بن عفّان صاحب فتح الأندلس في آخرين يطول ذكرهم. وكان الملك في صنهاجة في طبقتين الطبقة الأولى لملكانة ملوك إفريقية والأندلس، والثانية مسوقة ولمتونة من الملثّمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين. ويأتي ذكرهم كلهم إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الطبقة الاولى من صنهاجة وما كان لهم من الملك) كان أهل هذه الطبقة بنو ملكان [7] بن كرت، وكانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمرة إلى   [1] وفي النسخة التونسية: تلكاثة. وكذلك في قبائل المغرب ص 330. [2] وفي نسخة أخرى: مندلة وبنو وارث وبنو يتيسن. [3] وفي نسخة أخرى: ومن بطون انجفة بنو مزورات وبنو سليب وفشتالة وملوانة. [4] وفي نسخة أخرى: سليمان بن بطعتان بن عليّان. [5] وفي نسخة أخرى: وبنو جدون وزاريني حمّاد. [6] وفي نسخة أخرى: جميل. [7] وفي النسخة التونسية: تلكات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 الجزائر ولمدية ومليناتة من مواطن بني يزيد وحصين والعطاف من زغبة، ومواطن الثعالبة لهذا العهد. وكان معهم بطون كثيرة من صنهاجة أعقابهم هنالك من متنان وأنوغة وبنو مزغنه وبنو جعد وملكانة وبطوية وبنو يفرن وبنو خليل، وبعض أعقاب ملكانة بجهات بجاية ونواحيها. وكان التقدّم منهم جميعا لبلكانة وكان أكثرهم لعهده الأغالبة مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر، وهو صناك بن واسفاق بن جريل [1] بن يزيد بن واسلي بن سمليل بن جعفر بن إلياس بن عثمان بن سكاد بن ملكان بن كرت بن صنهاج الأكبر هكذا نسبه ابن النحويّ، من مؤرخي الأندلس، وذكر بعض مؤرخي المغرب أن مناد بن منقوش ملك جانبي [2] إفريقية والمغرب الأوسط مقيما لدعوة ابن العبّاس، وراجعا إلى أمر الأغالبة. وأقام أمره من بعده ابنه زيري بن مناد، وكان من أعظم ملوك البربر. وكانت بينه وبين مغراوة من زناتة المجاورين له من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب وفتن طويلة. ولما استوسق الملك للشيعة بإفريقية تحيّز إليهم للولاية التي لعليّ رضي الله عنه فيهم. وكان من أعظم أوليائهم، واستطال بهم على عدوّه من مغراوة فكانوا ظهرا له عليهم، وانحرفت لذلك مغراوة وسائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم وتحيّزوا عن المروانيّين ملوك العدوة بالأندلس فأقاموا دعوتهم بالمغرب الأوسط والأقصى كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ولما كانت فتنة أبي يزيد والتاث أمر العبيديّين بالقيروان والمهديّة، كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد وأعقابهم [3] وشريف بالحشود إلى مناصرة العبيديين بالقيروان كما ستراه. وأحفظ مدينة واشين [4] للتحصّن بها سفح الجبل المسمى تيطرا لهذا العهد حيث مواطن حصين، وحصّنها بأمر المنصور، وكانت من أعظم مدن المغرب. واتسعت بعد ذلك خطتها واستبحر عمرانها. ورحل إليها العلماء والتجّار من القاصية. وحين نازل إسماعيل المنصور أبا يزيد لقلعة كتامة جاءه زيري في قومه ومن انضم إليه من   [1] وفي نسخة أخرى: جبريل. [2] وفي نسخة أخرى: جانبا من إفريقية. [3] وفي النسخة التونسية: كان لزيري بن مناد من منابذة الخوارج أصحاب أبي يزيد والأخذ بأعقابهم وتسريب الحشود الى مناصريه العبيديين بالقيروان عناء مشهور. [4] وفي نسخة أخرى: أشير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 حشود البربر وعظمت نكايته في العدوّ وكان الفتح. وصحبه المنصور إلى أن انصرف من المغرب ووصله صلات سنيّة. وعقد له على قومه وأذن له في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات بمدينة أشير. وعقد له على تاهرت وأعمالها. ثم اختطّ ابنه بلكّين بأمره وعلى عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر، ومدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف، ومدينة لمدونة [1] . وهم بطن من بطون صنهاجة وهذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط، ولم يزل زيري على ذلك قائما بدعوة العبيديّين منابذا لمغراوة، واتصلت الفتنة فيهم. ولما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معدّ المعز لدين الله أمره أن يستصحب زيري بن مناد فصحبه إلى المغرب وظاهره على أمره. ولما ظهر يعلى بن محمد النفزي [2] اتهمه زناتة بالممالاة عليه. ولما نزل جوهر فاس وبها أحمد بن بكر الجذامي، وطال حصاره إياها، كان لزيري في حصارها أعظم العياء، وكان فتحها على يده. سهر ذات ليلة وصعد سورها فكان الفتح. ولما استمرّت الفتنة بين زيري بن مناد ومغراوة ووصلوا أيديهم بالحاكم المستنصر وأقاموا دعوة المروانية بالمغرب الأوسط، وشمّر محمد بن الخير بن محمد بن خزر لذلك، رماه معدّ لقريعة زيري في قومه واحتشد أهل وطنه وقد جمع له محمد بن الخير وزناتة، فسرّح إليهم ولده بلكّين في مقدّمة، وعارضهم قبل استكمالهم التعبية، فدارت بينهم حرب شديدة بعد العهد بمثلها يومئذ. واختلّ مصاف مغراوة وزناتة. ولما أيقن محمد بن الخير بالمهلكة وعلم أنه أحيط به مال إلى ناحية من العسكر، وتحامل على سيفه فذبح نفسه وانفض جموع زناتة، واستمرّت الهزيمة عليهم سائر يومهم فاستلحموا، ومكثت عظامهم ماثلة بمصارعهم عصورا. وهلك فيما زعموا بضعة عشر أميرا منهم، وبعث زيري برءوسهم إلى المعزّ بالقيروان فعظم سروره وهشّ لها الحكم المستنصر صاحب الدعوة بما أوهنوا من أمره. واستطال زيري وصنهاجة على بوادي المغرب، وغلب يده على جعفر بن علي صاحب المسيلة والزاب وسما به في الرتب عند الخلافة وتاخمه في العمالة. واستدعى   [1] وفي النسخة الباريسية لمدرية، وفي النسخة التونسية: لمدية. [2] وفي نسخة أخرى: ولما قتل يعلى بن محمد اليفرني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 معدّ جعفر بن علي من المسيلة لتولية إفريقية حين اعتزم على الرحيل إلى القاهرة، فاستراب مما كانت السعاية كبرت فيه. وبعث معدّ المعزّ بعض مواليه فخافه جعفر على نفسه، وهرب من المسيلة ولحق بمغراوة فاشتملوا عليه، وألقوا بيده زمام أمرهم، وقام فيهم بدعوة الحكم المستنصري. وكانوا أقدم لها إجابة وفاوضهم زيري الحرب قبل استفحالهم فزحف إليهم واقتتلوا قتالا شديدا. وكانت على زيري الدبرة وكبابه فرسه، وأجلت الهزيمة عن مصرعه ومصارع حاميته من قومه فجزوا رأسه وبعثوا به الى الحكم المستنصر بقرطبة في وفد أوفدوه عليه من أمرائهم يؤدّون الطاعة ويؤكّدون البيعة، ويجمعون لقومهم النصرة. وكان مقدّم وفدهم يحيى بن علي أخو جعفر هذا كما ذكرناه. وهلك زيري هذا سنة ستين وثلاثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. ولما وصل خبره إلى ابنه بلكّين وهو بأشير نهض إلى زناتة ودارت بينهم حرب شديدة. فانهزمت زناتة وثأر بلكّين بأبيه وقومه، واتصل ذلك بالسلطان محمد أثره وعقد له على عمل أبيه بأشير وتيهرت وسائر أعمال المغرب، وضمّ إليه المسيلة والزاب وسائر عمل جعفر فاستعتب واستفحل أمره واتسعت ولايته وأثخن في البربر أهل الخصوص من أحرابه [1] وهوّارة ونفزة وتوغّل في المغرب في طلب زناتة فأثخن فيهم. ثم رجع واستقدمه السلطان لولاية إفريقية فقدم سنة إحدى وستين وثلاثمائة واستبلغ السلطان في تكريمه ونفس ذلك عليه كتامة. ثم نهض السلطان إلى القاهرة واستخلفه كما نذكره. وكان ذلك أوّل دولة آل زيري بإفريقية والله تعالى أعلم. الخبر عن دولة آل زيري بن مناد ولاة العبيديين من هذه الطبقة بإفريقية وتصاريف أحوالهم لما أخذ المعزّ في الرحلة إلى المشرق وصرف اهتمامه إلى ما يتخلف وراء ظهره من الممالك والعمالات، ونظر فيمن يولّيه أمر إفريقية والمغرب ممن له الغناء والاضطلاع، وبه الوثوق من صدق التشييع ورسوخ القدم في دراية الدولة، فعثر اختياره على بلكّين بن   [1] وفي نسخة أخرى: مزاتة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 زيري بن مناد وليّ الدولة منذ عهد أخذه ما بيده من أيدي زناتة وأموالها في سبيل الاباء على [1] الدولة والمظاهرة للدولة. (دولة بلكين بن زيري) فبعث خلف بلكين بن زيري وكان متوغّلا في المغرب في حروب زناتة، وولّاه أمر إفريقية ما عدا أصهلية كانت لبني أبي الحسين الكلبي، وطرابلس لعبد الله بن يخلف الكتامي وسمّاه يوسف بدلا من بلكّين، وكنّاه أبا الفتوح، ولقبه سيف الدولة، ووصله بالخلع والأكسية الفاخرة. وحمله على مقرّباته بالمراكب الثقيلة وأنفذ أمره في الجيش والمال وأطلق يده في الأعمال. وأوصاه بثلاث: أن لا يرفع السيف عن البربر، ولا يرفع الجباية عن أهل البادية، ولا يولّي أحدا من أهل بيته. وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه، وقطع علائق الأموية منه. وارتحل يريد القاهرة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ورجع عنه بلكين من نواحي صفاقس فنزل قصر معدّ بالقيروان، واضطلع بالولاية وأجمع غزو المغرب فغزاه في جموع صنهاجة ومخلّف كتامة وارتحل إلى المغرب، وفرّ أمامه ابن خزر صاحب المغرب الأوسط إلى سجلماسة. وبلغه خلاف أهل تاهرت وإخراج عامله فرحل إليها وخرّبها. ثم بلغه أنّ زناتة اجتمعوا إلى تلمسان فرحل إليهم فهربوا أمامه. ونزل على تلمسان فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه ونقلهم إلى أشير. وبلغه كتاب معدّ ينهاه عن التوغّل في المغرب فرجع. ولمّا كان سنة سبع وستين وثلاثمائة رغب بلكّين من الخليفة نزار بن المعز أن يضيف إليه عمل طرابلس، وسرت وأجدابية فأجابه إلى ذلك وعقد له عليها. ورحل عنها عبد الله بن يخلف الكتامي وولّى بلكّين عليه من قبله. ثم ارتحل بلكّين إلى المغرب، وفرّت أمامه زناتة فملك فاس وسجلماسة وأرض الهبط وطرد منها عمال بني أمية، ثم غزا جموع زناتة بسجلماسة وأوقع بهم وتقبّض على ابن خزر أمير مغراوة فقتله. وجعل ملوكهم أمامه مثل بني يعلى بن محمد النفزيّ [2] وبني عطيّة بن عبد الله   [1] وفي نسخة أخرى: في سبيل الذبّ عن الدولة. [2] وفي نسخة أخرى: اليفرني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 ابن خزر وبني فلفول بن خزر، ويحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة. وبرزوا جميعا بقياطينهم إلى سبتة، وبعثوا الصريخ إلى المنصور بن أبي عامر، فخرج بعساكره إلى الجزيرة الخضراء. وأمرهم بمن كان في حضرته من ملوك زناتة ورؤسائهم النازعين إلى خلفاء الأموية بالأندلس بقرطبة بالمقام في سبيل الطاعة، واغتنام فضل الرباط بثغور المسلمين في إيالة الخلفاء. واجتمعت منهم وراء البحر أمم مع ما انضمّ إليهم من العساكر والحشود، وأجازهم البحر لقصر جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة، وعقد له على حرب بلكّين وأمدّه بمائة حمل من المال، فتعاقد ملوك زناتة واجتمعوا إليه، وضربوا مصاف القتال بظاهر سبتة. وهرع إليهم المدد من الجزيرة من عساكر المنصور، وكادوا يخوضون البحر من فرائض الزقاق إلى مظاهرة أوليائهم من زناتة. ووصل بلكّين إلى تيطاوير وتسنّم هضابها، وقطع شعوبها لنهج المسالك والطرق لعسكره، حتى أطلّ على معسكرهم بظاهر سبتة فأرى ما هاله واستيقن امتناعهم. ويقال إنه لما عاين سبتة من مستشرفه، ورأى اتصال المدد من العدوة إلى معسكرهم بها قال: هذه أفعى فغرت إلينا فاها وكرّ راجعا على عقبه. وكان موقفه ذلك أقصى أثره ورجع إلى البصرة فهدمها وكانت دار ملك ابن الأندلسي، وبها عمارة عظيمة. ثم انفتح له باب في جهاد برغواطة فارتحل إليهم وشغل بجهادهم، وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار كما نذكره. وأرسل بالسبي إلى القيروان وأذهب دعوة بني أمية من نواحي المغرب وزناتة مشرّدون بالصحراء إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بواركش ما بين سجلماسة وتلمسان منصرفا من هذه الغارة الطويلة. (دولة منصور بن بلكين) ولما توفي بلكّين بعث مولاه أبو زغبل بالخبر إلى ابنه المنصور، وكان واليا بأشير وصاحب عهد أبيه، فقام بأمر صنهاجة من بعده ونزل صيره وقلّده العزيز نزار بن معدّ أمر إفريقية والمغرب وكان على سنن أبيه، وعقد لأخيه أبي البهار على تاهرت ولأخيه يطوفت على أشير، وسرّحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع وسبعين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 وثلاثمائة يسترجعه من أيدي زناتة. وقد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة وفاس، فلقيه زيري بن عطية المغراوي الملقّب بالقرطاس أمير فاس فهزمه ورجع إلى أشير. وأقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب وزناتة، واستقلّ به ابن عطية وابن خزرون وبدر بن يعلى كما نذكر بعد. ثم رحل بلكّين إلى رقاده وفتك بعبد الله بن الكاتب عامله وعامل أبيه على القيروان لهنات كانت منه، وسعايات أنجحت فيه فهلك سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وولي مكانه يوسف بن أبي محمد، وكثر التواتر بكتابه فقتلهم وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وأخرج إليهم العمّال وعقد لأخيه حمّاد على أشير. وطالت الفتنة مع زناتة ونزل إليه منهم سعيد بن خزرون. ولم يزل سعيد يطيعه إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وولي ابنه فلفول بن سعيد. وخالف أبو البهار بن زيري سنة تسع وسبعين وثلاثمائة فزحف إليه المنصور وفرّ بين يديه إلى المغرب. وأمدّ [1] المنصور أهل تاهرت ومضى في أتباع أبي البهار حتى نفد عسكره [2] وأشير عليه بالرجوع فرجع. وبعث أبو البهار إلى أبي عامر صاحب الأندلس في المظاهرة والمدد، واسترهن ابنه في ذلك، فكتب زيري بن عطية صاحب دعوة الأموية من زناتة بفاس أن يكون معه يدا واحدة فظاهره زيري واتفق رأيهما مدّة، وحار بهما بدر بن يعلى فهزماه وملكا فاس وما حولها. ثم اختلفت ذات بينهما سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ورجع أبو البهار إلى قومه. ووفد على المنصور سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة بالقيروان فأكرمه ووصله وأنزله أحسن نزل وعقد له على تاهرت، ثم هلك المنصور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. (دولة باديس بن المنصور) ولما هلك المنصور قام بأمره ابنه باديس وعقد لعمّه يطوفت على تاهرت، وسرّح عساكره لحرب زناتة مع عمّيه يطوفت وحمّاد، فولّوا منهزمين أمام زناتة إلى أشير. ونهض بنفسه سنة تسع وثمانين وثلاثمائة لحرب زيري بن عطية راجعا إلى المغرب، فولّى   [1] وفي النسخة التونسية: وأمن. [2] وفي النسخة التونسية: حتى فقد عسكره المرافق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 باديس أخاه يطوفت على تاهرت وأشير، وخالف عليه عمومته ماكسن وزاوي وحلال ومعتز وعزم واستباحوا عسكر يطوفت وأفلت منهم. ووصل أبو البهار متبرّئا من شأنهم. وشغل السلطان باديس بحرب فلفول بن سعيد كما نذكره في أخبار بني خزرون وسرّح عمه حمّادا لحرب بني زيري إخوته. ووصل بنو زيري أيديهم بفلفول ثم رجعوا إلى حمّاد فهزمهم وتقبّض على ماكسن منهم فأطمة الكلاب وقتل أولاد الحسن وباديس [1] كذا ذكر ابن حزم. ونجا فلّهم إلى جبل سنوه [2] فنازلهم حمّاد أياما وعقد هلم السلم على الإجازة إلى الأندلس فلحقوا بابن عامر سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. وهلك زيري بن عطية المغراوي لتسع أيام من مهلك ماكسن، وأقفل باديس عمّه حمّادا على حضرته ليستعين به في حروف فلفول، فاضطرب المغرب لقفوله، وأظهرت زناتة الفساد وأضرّوا بالسابلة وحاصروا المسيلة وأشير، فسرّح إليهم باديس عمّه حمّاده وخرج على أثره سنة خمس وتسعين وثلاثمائة فنزل تيجست ودوّخ حمّاد المغرب، وأثخن في زناتة واختطّ مدينة القلعة. ثم طلب منه باديس أن ينزل على عمل تيجست وقسنطينة اختبارا للطاغية فأبى [3] وأظهر الخلاف. وبعث إليه أخاه إبراهيم فأقام معه، وزحف إليهم باديس، ثم رحل في طلبه إلى شلف، ونزل إليه بعض العساكر. ودخل في طاعته بنو توجين وحازوا [4] في مدده. ووصل أميرهم عطيّة بن دافلين وبدر بن أغمان [5] بن المعتز فوصلها. وكان حمّاد قتل دافلين. ثم نزل باديس نهر واصل والسرسو وكزول وانثنى حماد راجعا إلى القلعة واتبعه باديس. ونازلة بها وهلك بمعسكره عليها سنة ست وأربعمائة فجأة، وهو نائم بين أصحابه بمضربه، فارتحلوا راجعين واحتملوا باديس على أعواده.   [1] وفي النسخة التونسية: وتقبض على ماكسن منهم فأطعمه الكلاب، وقتل أولاده محسن وباديس. [2] وفي النسخة الباريسية: سبوة. [3] وفي النسخة الباريسية: اختبارا لطاعته فأبى [4] وفي نسخة أخرى: وجاروا. [5] وفي النسخة التونسية: بدر بن لقمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 (دولة المعز بن باديس) ولما بلغ الخبر بمهلك باديس بويع ابنه المعزّ ابن ثمان سنين، ووصل العسكر فبايعوه البيعة العامّة. ودخل حمّاد المسيلة وأشير، واستعدّ للحرب وحاصر باعانة [1] ، وبلغ الخبر بذلك فزحف المعز إليه وأفرج عن باعانة، ولقيه فانهزم حمّاد وأسلم معسكره، وتقبّض على أخيه إبراهيم ونجا إلى القلعة، ورغب في الصلح فاستجيب على أن يبعث ولده. وانتهى المعزّ إلى سطيف وقصر الطين وقفل إلى حضرته، ووصل إليه القائد بن حمّاد بعمل المسيلة وطبنة والزاب وأشير وتاهرت، وما يفتح من بلاد المغرب، وعقد للقائد ابن حمّاد على طبنة والمسيلة مقره ومرسى الدجاج وسوق حمزة وزواوة وانقلب بهدية ضخمة. ورفعت الحرب أوزارها من يومئذ، واقتسموا المظلّة والتحموا بالأصهار، وافترق ملك صنهاجة إلى دولتين: دولة إلى المنصور بن بلكّين أصحاب القيروان، ودولة إلى حمّاد بن بلكين أصحاب القلعة. ونهض المعز إلى حمّاد سنة اثنتين وثلاثين فحاصره بالقلعة مدّة سنين، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعا ولم يعاود فتنة بعد. ووصل زاوي بن زيري من الأندلس سنة عشر وأربعمائة كما ذكرناه في خبره، فتلقّاه المعزّ أعظم لقاء وسلّم عليه راجلا وفرشت القصور لنزله، ووصله بأعظم الصلات وأرفعها، واستمرّ ملك المعزّ بإفريقية والقيروان، وكان أضخم ملك عرف للبربر بإفريقية وأترفه وأبذخه. نقل ابن الرقيق من أحوالهم في الولائم والهدايا والجنائز والأعطيات ما يشهد بذلك، مثل ما ذكر أنّ هديّة صندل عامل باعانة مائة حمل من المال، وأنّ بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير الذهب وأنّ باديس أعطى فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملا من المال وثمانين تختا. وانّ أعشار بعض أعمال الساحل بناحية صفاقس كان خمسين [2] ألف قفيز وغير ذلك من أخبارهم. وكانت بينه وبين زناتة حروب ووقائع كان له الغلب في جميعها كما هو مذكور، وكان   [1] وفي نسخة أخرى: باغاية. [2] وفي نسخة أخرى: ثمانين. وكذا في النسخة التونسية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 المعز منحرفا عن مذاهب الرافضة، ومنتحلا للسنّة، فأعلن بمذهبه لأوّل ولايته ولعن الرافضة. ثم صار إلى قتل من وجد منهم، وكبا به فرسه ذات يوم فنادى مستغيثا باسم أبي بكر وعمر، فسمعته العامّة فثاروا لحينهم بالشيعة وقتلوهم أبرح قتل وقتل دعاة الرافضة يومئذ وامتعض لذلك خلفاء الشيعة بالقاهرة. وخاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجاني محذرا، وهو يراجعه بالتعريض لخلفائه والمزج فيهم حتى أظلم الجوّ بينه وبينهم إلى أن انقطع الدعاء لهم سنة أربعين وأربعمائة على عهد المستنصر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكّة، ودعا للقائم بن القادر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكّة، ودعا للقائم بن القادر من خلفاء بغداد. وجاءه خطاب القائم وكتاب عهده صحبة داعيته أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي، فرماه المستنصر خليفة العبيديّين بالمغرب من هلال الذين كانوا مع القرامطة، وهم رياح وزغبه والأثبج، وذلك بمشاركة من وزيره أبي محمد الحسن بن علي البازوري كما ذكرنا في أخبار العرب ودخولهم إلى إفريقية. وتقدّموا إلى البلاد وأفسدوا السابلة والقرى وسرّح إليهم المعز جيوشه فهزموهم، فنهض إليهم ولقيهم بجبل حيدران فهزموه، واعتصم بالقيروان فحاصروه وتمرّسوا به وطال عيثهم في البلاد وإضرارهم بالرعايا إلى أن خربت إفريقية. وخرج ابن المعز من القيروان سنة تسع وأربعين وأربعمائة مع خفيره منهم، وهو مؤنس بن يحيى الصبري أمير رياح، فلحق في خفارته بالمهديّة بعد أن أصهر إليه في ابنته فأنكحه إياها ونزل بالمهديّة وقد كان قدم إليها ابنه تميما فنزل عليه، ودخل العرب القيروان وانتهبوها. وأقام المعز بالمهديّة وانتزى الثّوار في البلاد فغلب حمد بن مليل البرغواطي على مدينة صفاقس وملكها سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وخالفت سوسة وصار أهلها إلى الشورى في أمرهم وصارت تونس آخرا إلى ولاية الناصر بن علناس بن حمّاد صاحب القلعة. وولّى عليهم عبد الحق بن خراسان فاستبدّ بها واستقرّت في ملكه وملك بنيه، وتغلّب موسى بن يحيى على قابس وصار عاملها المعز بن محمد الصنهاجي إلى ولايته، وأخوه إبراهيم من بعده كما يأتي ذكره. والثالث ملك آل باديس وانقسم في الثوار كما نذكر في أخبارهم بعد مهلك المعز سنة أربع وخمسين وأربعمائة والله أعلم . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 (دولة تميم بن المعز) ولما هلك المعز قام بأمره ابنه تميم وغلبه العرب على إفريقية، فلم يكن له إلا ما ضمّه السور، خلا أنه كان يخالف بينهم ويسلّط بعضهم على بعض. وزحف إليه حمّو بن مليل البرغواطي صاحب صفاقس، فخرج تميم للقائه، وانقسمت العرب عليهما فانهزم حمّو وأصحابه، وذلك سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وسار منها إلى سوسة فافتتحها، ثم بعث عساكره إلى تونس فحاصروا ابن خراسان حتى استقام على الطاعة لتميم. ثم بعث عساكره أيضا إلى القيروان، وكان بها قائد بن ميمون الصنهاجي من قبل المعزّ فأقام ثلاثا، ثم غلبته عليها هوّارة، وخرج إلى المهديّة، ثم ردّه تميم إلى ولايته بها فخالف بعد ست من ولايته، وكاتب الناصر بن علناس صاحب القلعة فبعث تميم إليه العساكر فلحق بالناصر وأسلم القيروان. ثم رجع بعد ست إلى حمو بن مليل البرغواطي بصفاقس وابتاع له القيروان من مهنا ابن علي أمير زغبة، فولّاه عليها وحصّنها سنة سبعين وأربعمائة، وكانت بين تميم والناصر صاحب القلعة أثناء ذلك فتن كان سماسرتها العرب يجأجؤن بالناصر من قلعته، ويوطئون عساكره ببلاد إفريقية، وربما ملك بعض أمصارها، ثم يردّونه على عقبه إلى داره إلى أن اصطلحا سنة سبعين وأربعمائة، وأصهر إليه تميم بابنته. ونهض تميم سنة أربع وسبعين وأربعمائة إلى قابس وبها ماضي بن محمد الصنهاجي، وليها بعد أخيه إبراهيم فحاصرها، ثم أفرج عنها، ونازلته العرب سنة ست وسبعين وأربعمائة بالمهدية، ثم أفرجوا عنه، وهزمهم فقصدوا القيروان ودخلوها فأخرجهم عنها. وفي أيامه كان تغلّب نصارى جنده على المهديّة سنة ثمانين واربعمائة نزلوها في ثلاثمائة مركب وثلاثين ألف مقاتل، واستولوا عليها وعلى زويلة، فبذل لهم تميم في النزول عنها مائة ألف دينار بعد أن انتهبوا جميع ما كان بها، فاستخلصها من أيديهم ورجع إليها، ثم استولى على قابس سنة تسع وثمانين وأربعمائة من يد أخيه عمر بن المعزّ بايع له أهلها بعد موت قاضي بن إبراهيم. ثم استولى بعدها على صفاقس سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وخرج منها حمّو بن مليل إلى قابس، فأجاره مكن ابن كامل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 الدهماني إلى أن مات بها. وكانت رياح قد تغلّبت على زغبة وعلى إفريقية من لدن سبع وستين وأربعمائة وأخرجوه منها، وفي هذه المائة الخامسة غلب الأخضر من بطون رياح على مدينة باجة وملكوها، وهلك تميم إثر ذلك سنة إحدى وخمسمائة. (دولة يحيى بن تميم) ولما هلك تميم بن المعزّ ولي ابنه يحيى، وافتتح أمره بافتتاح امكيسة [1] وغلب عليها ابن محفوظ الثائر بها. وثار أهل صفاقس على ابنه أبي الفتوح فلطف الحيلة في تفريق كلمتهم، وراجع طاعة العبيديّين ووصلته المخاطبات والهدايا. وكان قد صرف همه إلى غزو النصارى والأساطيل البحرية فاستكثر منها واستبلغ في اقتنائها. وردّد البعوث إلى دار الحرب فيها حتى اتّقته أمم النصرانية بالجزى من وراء البحر من بلاد إفريقية [2] وجنوة وسردينية. وكان له في ذلك آثار ظاهرة عزيزة. وهلك فجأة في قصره سنة تسع وخمسمائة والله أعلم. (دولة على بن يحيى) ولما هلك يحيى بن تميم ولي عليّ ابنه، استقدم لها من صفاقس، فقدم في خفارة أبي بكر بن أبي جابر مع عسكر ونظرائه من أمراء العرب. وكان أعظم أمراء عساكر صنهاجة محاصرين لقصر الأجم فاجتمعوا إليه وتمت بيعته. ونهض إلى حصار تونس حتى استقام أحمد بن خرايان [3] على الطاعة، وفتح جبل وسلات. وكان ممتنعا على من سلف من قومه، فجرّد إليه عسكرا مع ميمون بن زياد الصخري المعادي من أمراء العرب، فافتتحوه وقتلوا من كان به. ووصل رسول الخليفة من مصر بالمخاطبات والهدايا على العادة، ثم نهض إلى حصار رافع بن مكن بفاس سنة   [1] وفي نسخة أخرى: اقليبية. [2] وفي النسخة التونسية: من بلاد الفرنجة. [3] وفي نسخة أخرى: أحمد بن خراسان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 إحدى عشرة وخمسمائة. ودوّن لها قبائل بادغ [1] من بني علي إحدى بطون رياح كما نذكره في أخبار رافع. ثم حدثت الفتنة بينه بين رجار صاحب صقلّيّة بممالأة رجار لرافع بن كامل عليه، وإمداده إيّاه بأسطوله، يغير على ساحل علي بن يحيى ويرصد أساطيله، فاستخدم علي بن يحيى الأساطيل وأخذ في الأهبة للحرب، وهلك سنة خمس عشرة وخمسمائة والله أعلم. (دولة الحسن بن علي) ولما هلك علي بن يحيى بن تميم ولي بعده ابنه الحسن بن علي غلاما يفعة ابن اثنتي عشرة سنة، وقام بأمره مولاه صندل. ثم مات صندل وقام بأمره مولاه موفّق. وكان أبوه أصدر المكاتبة إلى رجار عند الوحشة يهدّده بالمرابطين ملوك المغرب، ولما كان بينهما وبينهم من المكاتبة. واتفق أن غزا أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين صقلّيّة، وافتتح قرية منها، فسابها وقتل أهلها سنة ست عشر وخمسمائة، فلم يشك رجار أنّ ذلك بإملاء الحسن، فنزلت أساطيله إلى المهديّة وعليهم عبد الرحمن بن عبد العزيز وجرجي بن مخاييل الأنطاكي. وكان جرجي هذا نصرانيا هاجر من المشرق، وقد تعلّم اللسان وبرع في الحساب، وتهذّب في الشام بأنطاكيّة وغيرها، فاصطنعه تميم واستولى عليه، وكان يحيى يشاوره. فلما هلك تميم أعمل جرجي الحيلة في اللحاق برجار فلحق به، وحظي عنده، واستعمله على أسطوله. فلما اعتزم على حصار المهديّة بعثه لذلك، فزحف في ثلاثمائة مركب، وبها عدد كثير من النصرانية، فيهم ألف فارس. وكان الحسن قد استعدّ لحربهم، فافتتح جزيرة قوصرة، وقصدوا إلى المهديّة ونزلوا إلى الساحل، وضربوا الأبنية وملكوا قصر الدهانين وجزيرة الأملس [2] وتكرّر القتال فيهم إلى أن غلبهم المسلمون، وأقلعوا راجعين إلى صقلّيّة بعد أن استمرّ القتل فيهم. ووصل بأكثر ذلك محمد بن ميمون قائد المرابطين بأسطوله، فعاث في نواحي صقلّيّة، واعتزم رجار على   [1] وفي نسخة أخرى: فادغ وهو الأصح. [2] وفي النسخة التونسية: قصر الديماس وجزيرة الاحاس. وفي النسخة الباريسية: قصر الدهاس وجزيرة الحمامات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 إعادة الغزو إلى المهدية. ثم وصل أسطول يحيى بن العزيز صاحب بجاية لحصار المهدية، ووصلت عساكره في البرّ مع قائده مطرف بن علي بن حمدون الفقيه، فصالح الحسن صاحب صقلّيّة ووصل يده به، واستمدّ منه أسطوله. واستمدّ الحسن أسطول رجار فأمدّه، وارتحل مطرف إلى بلده. وأقام الحسن مملكا بالمهدية، وانتقض عليه رجار وعاد إلى الفتنة معه، ولم يزل يردّد إليه الغزو إلى أن استولى على المهديّة قائد أسطوله جرجي بن مناسل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ووصلها بأسطوله في ثلاثمائة مركب. وخادعهم بأنهم إنما جاءوا مددا له. وكان عسكر الحسن قد توجّه صريخا لمحرز بن زياد الفادغي صاحب علي ابن خراسان صاحب تونس، فلم يجد صريخا فجلا عن المهديّة، ورحل واتبعه الناس. ودخل العدوّ إلى المدينة وتملّكوها دون دفاع. ووجد جرجي القصر كما هو لم يرفع منه الحسن إلّا ما خفّ، وترك الذخائر الملوكية. فأمّن الناس وأبقاهم تحت إيالته، وردّ الفارّين منه إلى أماكنهم. وبعث أسطولا إلى صفاقس فملكها، وأجاز إلى سوسه فملكها أيضا. وأجاز إلى طرابلس كذلك. واستولى رجار صاحب صقلّيّة على بلاد الساحل كلّها، ووضع على أهلها الجزي، وولّى عليهم كما نذكره إلى أن استنقذهم من ملكة الكفر عبد المؤمن شيخ الموحّدين وخليفة إمامهم المهدي. ولحق الحسن بن يحيى بعد استيلاء النصارى على المهديّة بالعرب من رياح، وكبيرهم محرز بن زياد الفادعي صاحب القلعة، فلم يجد لديهم مصرخا، وأراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد فأرصد له جرجي فارتحل إلى المغرب، وأجاز إلى بونة وبها الحارث بن منصور وأخوه العزيز. ثم توجه إلى قسنطينة وبها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية، فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر. ونزل على ابن العزيز فأحسن نزله وجاوره إلى أن فتح الموحّدون الجزائر سنة سبع وأربعين وخمسمائة بعد تملّكهم المغرب والأندلس، فخرج إلى عبد المؤمن فلقاه تكرمة وقبولا. ولحق به وصحبه إلى إفريقية في غزاته الأولى، ثم الثانية سنة سبع وخمسين وخمسمائة فنازل المهديّة وحاصرها أشهرا، ثم افتتحها سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وأسكن بها الحسن وأقطعه رحيش فأقام هنالك ثماني سنين. ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهله يريد مراكش. وهلك بتامسنا في طريقه إلى بابارولو [1] سنة ست وثلاثين،   [1] وفي النسخة التونسية: باباززلو وفي النسخة الباريسية: باربارولو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ورب الخلائق أجمعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 (الخبر عن بني خراسان من صنهاجة الثوار بتونس على آل باديس عند اضطراب افريقية بالعرب ومبدإ أمرهم ومصاير أحوالهم) لما تغلّب العرب على القيروان وأسلم المعزّ وتحوّل إلى المهدية، اضطرمت إفريقية نارا. واقتسمت العرب البلاد عمالات، وامتنع كثير من البلاد على ملوك آل باديس مثل أهل سوسة وصفاقس وقابس، وصارت صاغية أهل إفريقية إلى بني حمّاد ملوك القلعة وملكو القيروان، كما تقدّم. وانقطعت تونس عن ملك المعز، ووفد مشيختها على الناصر بن علناس، فولّى عليهم عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان، يقال إنه من أهل تونس، والأظهر أنه من قبائل صنهاجة، فقام بأمرهم وشاركهم في أمره وتودّد إليهم وأحسن السيرة فيهم. وصالح العرب أهل الضاحية على أتاوة معلومة لكفّ عاديتهم. وزحف تميم بن المعزّ من المهدية إليه سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في جموعه، ومعه يبقى بن على أمير زغبة، فحاصر تونس أربعة أشهر، إلى أن صالحه ابن خراسان واستقام على طاعته فأفرج عنه. ولم يزل قائما بأمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فولي ابنه أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق فقتل عمه إسماعيل بن عبد الحق لمكان ترشه، وغرّبه أبو بكر إلى أن برزت فأقام بها خوفا على نفسه. ونزع أحمد إلى التخلّق بسير الملك، والخروج عن سيرة المشيخة، واشتدّت وطأته، وكان من مشاهير رؤساء بني خراسان هؤلاء، فاستبدّ بتونس لأوّل المائة السادسة، وضبطها وبنى أسوارها. وعامل العرب على إصلاح سابلتها فصلحت حاله، وبنى قصور بني خراسان. وكان مجالسا للعلماء محبا فيهم ونازلة علي بن يحيى بن العزيز بن تميم سنة عشر وخمسمائة وضيّق عليه، ودافعه [1] بأسعاف غرضه فأفرج عنه. ثم نازلة عساكر العزيز بن منصور صاحب بجاية فعاد إلى طاعته سنة أربعة عشر وخمسمائة ولم يزل واليا على تونس إلى أن نهض سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة مطرف بن علي بن حمدون قائد يحيى بن العزيز من   [1] وفي النسخة الباريسية: ووافقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 بجاية في العساكر إلى إفريقية، وملك عامّة أمصارها، فتغلّب على تونس وأخرج أحمد بن عبد العزيز صاحبها ونقله إلى بجاية بأهله وولده. وولّى على تونس كرامة بن المنصور عمّ يحيى بن العزيز فبقي واليا عليها إلى أن مات، وولي عليها بعده أخوه أبو الفتوح بن المنصور إلى أن مات، وولي مكانه ابن ابنه محمد وساءت سيرته فعزل، وولي مكانه عمّه معدّ بن المنصور إلى أن استولى النصارى على المهديّة وسواحلها ما بين سوسة وصفاقس وطرابلس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وصارت لصاحب صقلّيّة، وأخرج الحسن بن علي كما هو مذكور، فأخذ أهل تونس في الاستعداد والحذر. واستأسدوا لذلك على واليهم، وانتشر بغاتهم وربما ثاروا بعض الأيام عليه فقتلوا عبيده بمرأى منه، واعتدوا عليه في خاصّته. فبعث عنه أخوه يحيى من بجاية فركب البحر في الأسطول، وترك نائبة العزيز بن دامال [1] من وجوه صنهاجة، فأقام بينهم وهم مستبدّون عليه، وكان بالمعلقة جوارهم محرز بن زياد أمير بني علي من بطون رياح قد تغلب عليها. وكانت الحرب بينه وبين أهل تونس سجالا، والتحم؟ بينهما المصاف وكان محرز يستمدّ عساكر صاحب المهديّة على أهل تونس فتأتيه إلى أن غلب النصارى على المهديّة، وحدثت الفتنة بينهم بالبلد فكان المصاف بين أهل باب السويقة وأهل باب الجزيرة، وكانوا يرجعون في أمورهم إلى القاضي عبد المنعم ابن الإمام أبي الحسن. ولما غلب عبد المؤمن على بجاية وقسنطينة وهم العرب بسطيف ورجع إلى مراكش. انتهت إليه شكوى الرعايا بإفريقية مما نزل بهم من العرب، فبعث ابنه عبد الله من بجاية إلى إفريقية في عساكر الموحّدين، فنازل تونس سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وامتنعت عليه. ودخل معهم محرز بن زياد وقومه من العرب، واجتمع جندهم وبرزوا للموحّدين فأوقعوا بهم، وأفرجوا عن تونس، وهلك أميرها عبد الله بن خراسان خلال ذلك. وولي مكانه علي بن أحمد بن عبد العزيز خمسة أشهر، وزحف عبد المؤمن إلى تونس وهو أميرها، فانقادوا لطاعته كما نذكره في أخبار الموحّدين. ورحل علي بن أحمد بن خراسان إلى مراكش بأهله وولده، وهلك في طريقه سنة أربع وخمسين وخمسمائة وأفرج محرز بن زياد عن المعلقة. واجتمعت إليه   [1] وفي نسخة أخرى: دافال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 قومه وتدامرت العرب عن مدافعة الموحدين واجتمعوا بالقيروان وبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو منصرف من غزاته إلى المغرب فبعث إليهم العساكر وأدركوهم بالقيروان فأوقعوا بهم واستلحموهم قتلا وسبيا وتقبض على محرز بن زياد أميرهم فقتل وصلب شلوه بالقيروان، والله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 (الخبر عن بني الرند ملوك قفصة الثائرين بها عند التياث ملك آل باديس بالقيروان واضطرابه بفتنة العرب ومبدإ دولتهم ومصاير أمورهم) لما تغلب العرب على إفريقية وانحلّ نظام الدولة الصنهاجيّة، وارتحل المعزّ من القيروان إلى المهدية، وكان بقفصة عاملا لصنهاجة عبد الله بن محمد بن الرند وأصله من جرية من بني صدغيان. وكان ابن نحيل [1] هو من بني مرين من مغراوة، وكان مسكنهم بالجوسين من نفزاوة فضبط قفصة وقطع عنها عادية الفساد، وصالح العرب على الإتاوة فصلحت السابلة واستقام الحال. ثم استبدّ بأمره وخلع الامتثال من عنقه سنة خمس وأربعين وخمسمائة واستمرّ على ذلك. وبايعته توزر وقفصة وسوس والحامة ونفزاوة وسائر أعمال قسنطينة فاستفحل أمره وعظم سلطانه، ووفد عليه الشعراء والقصّاد، وكان معظّما لأهل الدين إلى ان هلك سنه خمس وستين وخمسمائة. وولي من بعده ابنه المعتز وكنيته أبو عمر، وانقاد إليه الناس فضبط الأمور وجبى الأموال واصطنع الرجال، وتغلّب على قموده وجبل هوّارة وسائر بلاد قسطيلية وما إليها. وحسنت سيرته إلى أن عمي. وهلك في حياته ابنه تميم فعهد لابنه يحيى بن تميم. وقام بالأمر واستبدّ على حدّه ولم يزالوا بخير حال إلى أن نازلهم عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة. فمنعهم من الأمر، ونقلهم إلى بجاية فمات المعتز بها سنة سبع وخمسين وخمسمائة لمائة وأربع عشرة من عمره وقيل لسبعين، ومات بعده بيسير حافده يحيى بن تميم. وولّى عبد المؤمن على قفصة نعمان بن عبد الحق الهنتاتي. ثم عزله بعد ثلاث بميمون بن أجانا الكنسيفي، ثم عزله بعمران بن موسى الصنهاجي، وأساء إلى الرعية، فبعثوا عن علي بن العزيز بن المعتز من بجاية. وكان بها في مضيعة يحترف بالخياطة فقدم عليهم، وثاروا بعمران بن موسى عامل الموحّدين فقتلوه وقدّموا علي بن العزيز فساس ملكه وحاط رعيته. وأغزاه يوسف بن عبد المؤمن سنة ثلاث وستين وخمسمائة أخاه السيد أبا زكريا فحاصره وضيّق عليه   [1] وفي النسخة الباريسية: مميل، وفي النسخة التونسية: نحيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 وأخذه، وأشخصه إلى مراكش بأهله وماله، واستعمله على الأشغال بمدينة سلا إلى أن هلك وفنيت دولة بني الرند والبقاء للَّه وحده أهـ. يحيى بن تميم علي بن العزيز بن المعتز أبي عمر بن عبد الله بن محمد الرند (الخبر عن بني جامع الهلاليين أمراء قابس لعهد الصنهاجيين وما كان لتميم بها من الملك والدولة وذلك عند فتنة العرب بإفريقية) ولما دخلت العرب إلى إفريقية وغلبوا المعز على الضواحي ونازلوه بالقيروان، وكان الوالي بفاس المعزّ بن محمد بن لموية الصنهاجي، وكان أخوه إبراهيم وماضي بالقيروان قائدين للمعز على جيوشه فعزلهما، ولحقا مغاضبين بمؤنس بن يحيى، وكان أوّل تملّك العرب. ثم أقام إبراهيم منهم واليا بقابس ولحق المعز بن محمد بمؤنس، فكان معه إلى أن هلك إبراهيم وولي مكانه أخوه ماضي، وكان سيّئ السيرة فقتله أهل قابس، وذلك لعهد تميم بن المعز بن باديس، وبعثوا إلى عمر أخي السلطان إلى طاعة العرب، فوليها بكر بن كامل بن جامع أمير المناقشة من دهمان من بني علي إحدى بطون رياح فقام بأمرها، واستبدّ على صنهاجة. ولحق به مثنّى بن تميم بن المعزّ نازعا عن أبيه فأجابه، ونازل معه المهديّة حتى امتنعت عليه، واطلع على قبائح شتى، فأفرج عنها. ولم يزل كذا على حاله في إجابة قابس وإمارة قومه دهمان إلى أن هلك. وقام بأمره بعده رافع واستفحل بها ملكه، وهو الّذي اختطّ بحر العروسيين من مصانع الملك بها، واسمه مكتوب لهذا العهد في جدرانها. ولمّا ولي علي بن يحيى بن تميم فسد ما بينه وبين رافع، وأعان عليه رافع صاحب، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 صقلّيّة فغلب أسطول علي بن يحيى على أسطول النصارى. ثم ذوى [1] قبائل العرب والأساطيل، وزحف إلى قابس سنة إحدى عشر وأربعمائة. قال ابن أبي الصلت: دول الثلاثة الأخماس من قبائل العرب الذين هم: سعيد ومحمد ونحبه، وأضاف إليهم من الخمس الرابع أكابر بني مقدّم موافى من كان منهم بفحص القيروان، وفرّ رافع إلى القيروان وامتنع عليه أهلها. ثم امتنع شيوخ دهمان واقتسموا البلاد، وعيّنوا القيروان لرافع وأمكنوه. وبعث عليّ بن يحيى عساكره والعرب المدوّنة على منازلة رافع بالقيروان، وخرج إلى محاربتهم فهلك بالطريق في بعض حروبه مع أشياع رافع. ثم أنّ ميمون بن زياد الصخري حمل رافع بن مكن على مسالمة السلطان وسعى في إصلاح ذات بينهما، فانصلح وارتفعت بينهما الفتنة. وقام بقابس من ذلك رشيد بن كامل. قال ابن بجيل: وهو الّذي اختطّ قصر العروسيّين وضرب السكّة الرشيدية. وولي بعده ابنه محمد بن رشيد، وغلب عليه مولاه يوسف، ثم خرج محمد في بعض وجوهه وترك ابنه مع يوسف فطرده يوسف واستبد، وانتهى إلى طاعة رجار فثار به أهل قابس ودفعوه عنهم، فخرج إلى أخيه. ولحق أخوه عيسى بن رشيد وأخبره الخبر فحاصرهم رجار بسبب ذلك مدّة من الأيام. وكان آخر من ملكها من بني جامع أخوه مدافع بن رشيد بن كامل. ولمّا استولى عبد المؤمن على المهديّة وصفاقس وطرابلس بعث ابنه عبد الله بعسكر إلى قابس ففرّ مدافع بن رشيد عن قابس وأسلمها للموحّدين، ولحق بعرب طرابلس من عرب عوف فأجاروه سنتين. ثم لحق بعبد المؤمن بقابس [2] فأكرمه ورضي عنه. وانقرض من بني جامع من يؤانس، والبقاء للَّه وحده أهـ.   [1] وفي النسخة التونسية: دوى. ولا معنى هنا لذوي، ولا لدوى ومقتضى السياق دوّخ. [2] وفي النسخة التونسية: بفاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 (الخبر عن ثورة رافع بن مكن بن مطروح بطرابلس والعرامى بصفاقس على النصارى وإخراجهم واستبدادهم بأمر بلدهم [1] في آخر دولة بني باديس) أمّا طرابلس فكان رجار صاحب صقلّيّة لعنه الله قد استولى عليها سنة أربعين وخمسمائة على يد قائده جرجي بن ميخاييل الأنطاكي، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم، وبقيت في مملكة النصارى أياما. ثم إنّ أبا يحيى بن مطروح من أعيان البلد مشى في وجوه الناس وأعيانهم، وداخلهم في الفتك بالنصارى فاجتمعوا لذلك وثاروا بهم وأحرقوهم بالنار. ولما وصل عبد المؤمن إلى المهديّة وافتتحها سنة خمس وخمسين وخمسمائة وفد عليه أبو يحيى بن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم برّا وتكرمة. وقدم ابن مطروح المذكور عليهم وردّهم إلى بلدهم، فلم يزل   [1] الأصح ان يقول: واستبدادها بأمر بلديهما، هكذا في النسخة التونسية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 عليهم إلى أن هرم وعجز بعهد يوسف بن عبد المؤمن، وطلب الحج فسرّحه السيد أبو زيري [1] بن أبي حفص محمد [2] بن عبد المؤمن عامل تونس فارتحل في البحر سنة ست وثمانين وخمسمائة واستقرّ بالإسكندرية. وأمّا صفاقس فكانت ولاتها أيام بني باديس من صنهاجة قبيلهم إلى أن ولّى المعز بن باديس عليها منصور البرغواطي من صنائعه، وكان فارسا مقداما، فحدّث نفسه بالثورة أيام تغلب العرب على إفريقية، وخروج المعز إلى المهديّة ففتك به ابن عمّه حمّو بن مليل البرغواطي وقتله في الحمام غدرا. وامتعض له حلفاؤه من العرب وحاصروا حمّو حتى بذل لهم من المال ما رضوا به. واستبدّ حمّو بن مليل بأمر صفاقس حتى إذا هلك المعزّ حدّثته نفسه بالتغلّب على المهديّة، فزحف إليها في جموعه من العرب، ولقيه تميم فانهزم حمّو وأصحابه سنة خمس وخمسين وخمسمائة ثم بعث ابنه يحيى مع العرب لحصار صفاقس، فحاصرها مدّة وأقلع عنها. وزحف إليه تميم بن المعزّ سنة ثلاث وتسعين فغلبه عليها. ولحق حمّو بمكن بن كامل أمير قابس فأجاره، وصارت صفاقس إلى ملكة تميم ووليها ابنه. ولما تغلّب النصارى على المهديّة وملكها جرجي بن ميخاييل قائد رجار سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فغلبوا بعدها على صفاقس وأبقوا أهلها، واستعملوا عمر بن أبي الحسن القرباني لمكانه فيهم. وحملوا أباه أبا الحسن معهم إلى صقلّيّة رهنا. وكان ذلك مذهب إلى رجار ودينه فيما ملك من سواحل إفريقية، يبقيهم ويستعمل عليهم منهم، ويذهب إلى العدل فيهم فبقي عمر بن أبي الحسن عاملا لهم في أهل بلده وأبوه عندهم. ثم أنّ النصارى الساكنين بصفاقس امتدّت أيديهم إلى المسلمين ولحقوا بالضرر. وبلغ الخبر أبا الحسن وهو بمكانه من صقلّيّة، فكتب إلى ابنه عمر، وأمره بانتهاز الفرصة فيهم والاستسلام إلى الله في حق المسلمين، فثار بهم عمر لوقته سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وقتلهم وقتل النصارى أباه أبا الحسن وانتقضت عليهم بسبب ذلك سائر السواحل. ولما افتتح عبد المؤمن المهديّة من يد رجار، وصل إليه عمر، وأدّى طاعته، فولّاه صفاقس، ولم يزل واليا عليها وابنه عبد الرحمن من بعده إلى أن تغلّب يحيى بن غانية فرغّبه في الحج، فسرّحه ولم بعد.   [1] وفي نسخة أخرى: أبو يزيد. [2] وفي النسخة التونسية: عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 (الخبر عما كان بإفريقية من الثوار على صنهاجة عند اضطرابها بفتنة العرب الى انّ محا أثرهم الموحدون) لما كان أبو رجاء الورد اللخمي عند اضطرام نار الفتنة بالعرب، وتقويض المعز عن القيروان إلى المهديّة، وتغلّبهم عليها قد ضمّ إليه جماعة من الدعّار. وكان ساكنا بقلعة قرسينة [1] من جبل شعيب، فكان يضرب على النواحي بجهة بنزرت ويفرض على أهل القرى الاتاوات بسبب ذلك، فطال عليهم أمره ويئسوا من حسم دائه وكان ببلد بنزرت فريقان أحدهما من لخم وهم من قوم الورد، وبقوا فوضى واختلف أمرهم، فبعثوا إلى الورد في أن يقوم بأمرهم، فوصل إلى بلدهم، فاجتمعوا عليه وأدخلوا حصن بنزرت، وقدّموه على أنفسهم فحاطهم من العرب، ودافع عن نواحيهم. وكان بنو مقدّم من الأثبج ودهمان من بني عليّ إحدى بطون رياح هم المتغلبون على ضاحيتهم فهادنهم على الإتاوة وكفّ بها عاديتهم، واستفحل أمرهم وتسمّى بالأمير، وشيّد المصانع والمباني وكثر عمران بنزرت إلى أن هلك، فقام بأمره ابنه طراد وكان شهما، وكانت العرب تهابه. وهلك فولي من بعده ابنه محمد بن طراد، وقتله أخوه مقرن لشهر من ولايته في مسامرة، وقام بأمر بنزرت وسمى بالأمير، وحمى حوزته من العرب، واصطنع الرجال، وعظم سلطانه وقصده الشعراء وامتدحوه فوصلهم. وهلك فولي من بعده ابنه عبد العزيز عشر سنين، وجرى فيها على سنن أبيه وجدّه، ثم ولى من بعده أخوه موسى على سننهم أربع سنين. ثم من بعده أخوهما عيسى واقتفى أثرهم. ولما نازل عبد الله بن عبد المؤمن تونس وأفرج عنه مرّ به في طريقه فاستفرغ جهده في قراه وتجمع بطاعته. وطلب منه الحفاظ على بلده فأسعفه. وولّى عليهم أبا الحسن الهرغى، فلمّا قدم عبد المؤمن على إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة راعى له ذلك وأقطعه، واندرج في جملة الناس. وكان بقلعة ورغة يدوكس [2] بن أبي علي الصنهاجي من أولياء العزيز المنصور صاحب بجاية، والقلعة قد شادها [3] وحصّنها.   [1] وفي النسخة التونسية: قريشة. [2] وفي النسخة التونسية: وكان بقلعة زرعة بروكس. [3] وفي النسخة التونسية: والقلعة قد ثار بها وحصّنها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 وكان مبدأ أمره أنّ العزيز تغيّر عليه في حروب وقعت بينه وبين العرب نسب فيها إلى نفسه الإقدام، وإلى السلطان العجز، فخافه على نفسه، ولحق ببجاية فأكرمه شيخها محمود بن نزال الربغي [1] وآواه وترافع إلى محمود أهل ورغة من عمله، وكانوا فئتين مختلفتين من زاتيمة إحدى قبائل البربر، وهما أولاد مدين وأولاد لاحق. فبعث عليهم بروكس بن أبي علي لينظر في أحوالهم، وأقام معهم بالقلعة. ثم استجلب بعض الدعّار كانوا بناحيتها، وأنزلهم بالقلعة معهم واصطنعهم صاهر أولاد مدين وظاهرهم على أولاد لاحق، وأخرجهم من القلعة واستبدّ بها. وقصدته الرجال من كل جانب إلى أن اجتمعت له خمسمائة فارس، وأثخن في نواحيه، وحارب بني الورد ببنزرت وابن علال بطبربة، وقتل محمد بن سبّاع أمير بني سعيد من رياح، وغصّت القلعة بالساكن فاتخذ لها ربضا، وجهّز إليه العزيز عسكره من بجاية فبارز قائد العسكر وفتك به واسمه غيلاس. وهلك بعد مدّة وقام بأمره ابنه منيع، ونازلة بنو سبّاع وسعيد طالبين بثأر أخيهما محمد. وتمادى به الحصار وضاقت أحواله فاقتحموا عليه القلعة، واستلحم هو وأهل بيته قتلا وسبيا والله مالك الأمور. وكان أيضا بطبربة مدافع بن علال القيسيّ شيخ من شيوخها. فلما اضطربت إفريقية عند دخول العرب إليها امتنع بطبربة وحصّن قلعتها، واستبدّ بها في جملة من ولده وبني عمّه وجماعته إلى أن ثار عليه ابن بيزون اللخمي في البحرين على وادي مجردة. بإزاء الرياحين. وطالت بينهما الفتنة والحرب. وكان قهرون بن مخنوس [2] بمنزل دحمون قد بنى حصنه وشيّده، وجمع إليه جيشا من أوباش القبائل، وذلك لما أخرجه أهل تونس بعد أن ولّاه العامّة عليهم. ثم صرفوه عن ولايتهم لسوء سيرته، فخرج من البلد ونزل دحمون، وبني حصنا بنفسه مع الحنايا وردّد الغارة على تونس، وعاث في جهاتها فرغبوا من محرز بن زياد أن يظاهرهم عليه ففعل. وبلغ خبره ابن علّال صاحب طبرية فوصل ابن علّال يده بصهر منه، ونقله إلى بعض الحصون ببلده، وهي قلعة غنوش، وتظافروا على الإفساد. وخلفهما بنوهما من بعدهما إلى أن وصل عبد المؤمن إلى إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة فمحا آثار   [1] وفي النسخة التونسية: محمود بن يزال الربعي. [2] وفي نسخة ثانية: غنوش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 الفساد من جانب إفريقية، وكان أيضا حمّاد بن خليفة اللخمي بمنزل رقطون من إقليم زغوان على مثل حال ابن علّال وابن غنوش وابن بيزون وخلفه ولده في مثل ذلك إلى أن انقطع ذلك على يد عبد المؤمن. وكان عماد بن نصر الله الكلاعي بقلعة شقبناريّة قد صار إليه جند من أهل الدعارة وأوباش القبائل، فحملها من العرب، واستغاث به ابن قليه شيخ الأريس من العرب، وشكا إليه سوء ملكتهم، فزحف إليهم وأخرجهم من الأريس، وفرض عليهم مالا يؤدّونه إليه إلى أن مات وولي ابنه من بعده، فجرى على سننه إلى أن دخل في طاعة عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، والله مالك الملك لا ربّ غيره وسبحانه أهـ. (الخبر عن دولة آل حماد بالقلعة من ملوك صنهاجة الداعين لخلافة العبيديين وما كان لهم من الملك والسلطان بإفريقية والمغرب الأوسط الى حين انقراضه بالموحدين) هذه الدولة شعبة من دولة آل زيري وكان المنصور بلكّين قد عقد لأخيه حمّاد على أشير والمسيلة، وكان يتداولها مع أخيه يطوفت وعمه أبي البهار. ثم استقل بها سنة سبع وثمانين وثلاثمائة أيام باديس من أخيه المنصور ودفعه لحرب زناتة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالمغرب الأوسط من مغراوة وبنى يفرن، وشرط له ولاية أشير والمغرب الأوسط وكل بلد يفتحه وأن لا يستقدمه. فعظم عناؤه فيها وأثخن في زناتة وكان مظفرا عليهم. واختطّ مدينة القلعة بحبل كتامة سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وهو جبل عجيسة وبه لهذا العهد قبائل عياض من عرب هلال. ونقل إليها أهل المسيلة وأهل حمزة وخرّبهما. ونقل جراوة من المغرب وأنزلهم بها، وتمّ بناؤها وتمصّرها على رأس المائة الرابعة. وشيّد من بنيانها وأسوارها واستكثر فيها من المساجد والفنادق، فاستبحرت في العمارة واتسعت في التمدّن. ورحل إليها من الثغور والقاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها. ولم يزل حمّاد أيام باديس هذا أميرا على الزاب والمغرب الأوسط ومتوليا حروب زناتة. وكان نزوله ببلد أشير والقلعة متاخما لملوك زناتة أحيائهم البادية بضواحي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 تلمسان وتاهرت. وحاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين وثلاثمائة وهم زاوي وماكسن وإخوانهما فقتل ماكسن وابناه، وألجأ زاوي وإخوته إلى جبل شنون وأجازهم البحر إلى الأندلس. ثم أنّ بطانة باديس ومن إليه من الأعجام والقرابة نفسوا على حماد رتبته وسعوا في مكانه من باديس إلى أن فسد ذات بينهما. وطلب باديس ان يسلم عمل تيجست وقسنطينة لولد المعز لما قلّده الحاكم ولاية عهد ابنه، فأبى حمّاد وخالف دعوة باديس وقتل الرافضة وأظهر السنة، ورضي عن الشيخين ونبذ طاعة العبيديّين جملة، وراجع دعوة آل العباس وذلك سنة خمس وأربعمائة. وزحف إلى باجة فدخلها بالسيف ودسّ إلى أهل تونس الثورة على المشارقة والرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب، وعبى عساكره من القيروان، وخرج إليه فنزع عن حمّاد أكثر أصحابه مثل: بني أبي واليل أصحاب معرّة من زناتة، وبني حسن كبار صنهاجة، وبني يطوفت من زناتة، وبني غمرة أيضا منهم، وفرّ حماد، وملك باديس أشير. ولحق حماد بشلف بني واليل وباديس في اتّباعه حتى نزل مواطين [1] فحصر السرسّو من بلاد زناتة. ونزل إليه عطية بن داقلتن [2] في قومه من بني توجين، لما كان حمّاد قتل أباه. وجاء على أثره ابن عمّه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس واستظهر بهما على حماد. ثم أجاز إليه باديس من وادي شلف وناجزه الحرب، ونزع إليه عامّة أهل معسكره فانهزم وأغذ السير إلى القلعة، وباديس في أثره حتى نزل فحاصر المسيلة، وانحجر حمّاد في القلعة وحاصره. ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه وهو نائم بين أصحابه ست وأربعمائة، فباعت صنهاجة لابنه المعزّ صبيا ابن ثمان سنين. وتلاقوا من أشير [3] ، وبعثوا كرامة بن منصور لسدّها فلم يقدروا، واقتحمها عليه حمّاد. واحتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان وبايعوا المعزّ بالبيعة العامة وزحف إلى حمّاد بناحية قفصة، وأشفق حمّاد فبعث ابنه القائد لإحكام الصلح بينه وبين المعز، فوصل إلى القيروان سنة ثمان وأربعمائة بهدية جليلة. وأمضى له المعز ما سأله من الصلح ورجع إلى أبيه.   [1] وفي النسخة الباريسية: بوادي الطين، وفي النسخة التونسية بوالطين وفي نسخة أخرى: مواطن. [2] وفي النسخة الباريسية: دافلتن، وفي النسخة التونسية: دافلين. [3] وفي نسخة أخرى: وتلافوا أمر أشير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 وهلك حماد سنة تسعة عشر وأربعمائة فقام بأمره ابنه القائد وكان جبّارا فاختار أخاه يوسف على المغرب وويغلان على حمزة في بلد اختطه حمزة بن إدريس. وزحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين وأربعمائة فخرج إليه القائد، وسرّب الأموال في زناتة. وأحس بذلك حمامة فصالحه ودخل في طاعته، ورجع إلى فاس، وزحف إليه المعزّ من القيروان سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وحاصره مدّة طويلة. ثم صالحه القائد وانصرف إلى أشير فحاصرها، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعا. وراجع القائد طاعة العبيديّين لما نقم عليه المعز ولقبوه شرف الدولة. وهلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه محسن وكان جبارا، وخرج عليه عمه بوسف ولحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حمّاد، وبعث محسن في طلبه بلكّين ابن عمّه محمد بن حمّاد، وأصحبه من العرب خليفة بن بكير وعطية الشريف وأمرهما بقتل بلكّين في طريقهما، فأخبرا بلكّين بذلك وتعاهدوا جميعا على قتل محسن، وأنذر بهم، ففرّ إلى القلعة وأدركوه، فقتله بلكّين لتسعة أشهر من ولايته. وولي الأمر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة [1] وكان شهما قرما حازما سفّاكا للدّماء. وقتل وزير محسن الّذي تولى قبله. وفي أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدّم بسكرة لما أحس بنكثه،؟ مخالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره. ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه علناس بن حمّاد فقتلها، وأحفظ ذلك أخاها الناصر وطوى على التبييت. وكان بلكّين كثيرا ما يردّد الغزو إلى المغرب، وبلغه استيلاء؟ يوسف بن تاشفين والمرابطين على المصامدة فنهض نحوهم سنة أربع وخمسين وأربعمائة وفرّ المرابطون إلى الصحراء، وتوغّل بلكّين في ديار المغرب، ونزل بفاس، واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهنا على الطاعة. وانكفأ راجعا إلى القلعة فانتهز منه الناصر ابن عمّه الفرصة في الثأر بأخته، ومالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلّف المشقة بابعاد الغزو والتوغّل في أرض العدو، فقتله بتساله سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وقام بالأمر من بعده، واستوزر أبا بكر بن أبي الفتوح، وعقد على المغرب لأخيه كباب وأنزله مليانة وعلى حمزة لأخيه رومان، وعلى نقاوس لأخيه خزر. وكان المعز   [1] الواقع ان القائد بن حمّاد توفي سنة 446 فخلفه ابنه محسن الّذي قتله بكلين بن محمد بن حماد بعد تسعة أشهر حسب رواية ابن خلدون فيكون وفاته في سنة 447 وليس 437. وربما يعود هذا الخطأ الى الناسخ. وفي النسخة التونسية أيضا 447. كذلك في قبائل المغرب ص 144. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 قد هدم سورها فأصلحه الناصر، وعقد على قسنطينة لأخيه بلباز، وعلى الجزائر وسوس الدجاج [1] لابنه عبد الله وعلى أشير لابنه يوسف، وكتب إليه حمّو بن مليك البرغواطي من صفاقس بالطاعة وبعث إليه بالهدية. ووفد عليه أهل قسنطينة [2] ومقدّمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته، وأجزل صلتهم وردّهم إلى أماكنهم، وعقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة ودخل أهل القيروان أيضا في طاعته وكذلك أهل تونس. وكان أهل بسكرة لما قتل بلكّين مقدّمهم جعفر بن أبي رمّان خلعوا طاعة آل حمّاد واستبدّوا بأمر بلدهم، وعليهم بنو جعفر، فسرّح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره ووزير بلكّين قبله، فنازلها وافتتحها عنوة، واحتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر وصلبهم، ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه، أنه لما بلغه خبر بلكّين أراد تولية أخيه معمّر، وشاورهم في ذلك، فقتله الناصر وولّى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح. ثم خرج الناصر ليتفقّد المغرب فوثب علي بن ركان على تافر بوست [3] دار ملكهم وكان لما قتل بلكين هرب الى إخوانه من عجيسة واهتبلوا الغرّة في تافر بوست لغيبة الناصر، فطرقوها ليلا، وملكها عليّ فرجع الناصر من المسيلة وعاجلهم فسقط في أيديهم، وافتتحها عليهم عنوة وذبح علي بن ركان نفسه بيده. ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن وحروب ووفد عليه رجالات الأثبج صريخا به على رياح، فأجابهم ونهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة وزناتة حتى نزل للأربس، وتواقعوا بسببه فغدرت بهم زناتة وجرّوا عليه وعلى قومه الهزيمة بدسيسة ابن المعز بن زيري بن عطية، وإغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر، واستباحوا خزائنه ومضاربه، وقتل أخوه القاسم وكاتبه، ونجا إلى قسنطينة في اتباعه. ثم لحق بالقلعة في فلّ من عسكره، لم يبلغوا مائتين. وبعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح، فعقد بينهم وبينه صلحا وتمّمه الناصر. ثم وفد عليه رسول تميم، وسعى عنده بالوزير بن أبي الفتوح وأنه مائل إلى تميم فنكسه وقتله. وكان المستنصر بن   [1] وفي نسخة أخرى: مرسى الدجاج. [2] وفي النسخة التونسية: قسطيلة. [3] وفي النسخة التونسية تاقريوست وفي قبائل المغرب تغرسيت ص 330. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 خزرون الزناتي خرج في أيام الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر، ووصل إلى طرابلس فوجد بني عديّ بها قد أخرجهم الأثبج وزغبة من إفريقية كما ذكرناه، فرغّبهم في بلاد المغرب، وسار بهم حتى نزل المسيلة، ودخلوا أشير. وخرج إليه الناصر ففرّ إلى الصحراء ورجع، فرجع إلى مكانه من الإفساد، فراسله الناصر في الصلح فأسعفه، وأقطعه ضواحي الزاب وريغه، وأوعز إلى عروس بن هندي [1] رئيس بسكرة لعهده، وولي دولته أن يمكر به، فوصل المنتصر إلى بسكرة وخرج إليه عروس ابن هندي وأحمد نزله، وأشار على حشمه عند انكباب المنتصر وذويه على الطعام فبادروا مكبين لطعنه، وفرّ أتباعه وأخذوا رأسه، وبعث به إلى الناصر فنصبه ببجاية، وصلب شلوه بالقلعة وجعلوه عظة لغيره. وقتل كثير من رؤساء زناتة، فمن مغراوة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس، وكانت له بلد لمديه والمرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم، وقتل معنصر بن حمّاد منهم أيضا، وكان بناحية شلّف فأجلب على عامل مليانه، وقتل شيوخ بني ورسيفان من مغراوة، فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلا عنهم بشأن العرب. فزحفوا إلى معنصر وقتلوه، وبعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه مع رأس المستنصر [2] . وبعث إليه أهل الزاب أنّ عمر [3] ومغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم، فبعث ابنه المنصور في العساكر ونزل وعلان [4] بلد المنتصر بن خزرون [5] وهدمها. وبعث سراياه وجيوشه إلى بلد واركلا وولّى عليها، وقفل بالغنائم والسبي، وبلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد وقطع السبيل، وأميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله، فبعث ابنه المنصور إليهم بالعسكر، وتقبّض على أمير بني توجين وأخيه زيري وعمّهما الأغلب وحمامة، وأحضرهم فوبّخهم وقدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد، وقتلهم جميعا على الخلاف. وفي سنة ستين وأربعمائة افتتح جبل بجاية، وكان له قبيل من البربر يسمّون بهذا الاسم، إلّا أنّ الكاف فيهم بلغتهم ليست كافا بل هي بين الجيم والكاف، وعلى هذا   [1] وفي النسخة التونسية: سندي. [2] وفي نسخة أخرى: فنصبه على رأس القصر. [3] وفي النسخة الباريسية: عمرت. وفي النسخة التونسية: غمرت. [4] وفي النسخة التونسية: وغلان. [5] هو المستنصر بن خزرون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 القبيل من صنهاجة يأتون لهذا العهد أوزاعا في البربر. فلما افتتح هذا الجبل اختطّ به المدينة وسمّاها الناصرية، وتسمّى عند الناس باسم القبيلة وهي بجاية، وبنى بها قصر اللؤلؤة وكان من أعجب قصور الدنيا ونقل إليها الناس، وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين وأربعمائة وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم وشغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهديّة، ولمّا أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم، وكثر الثوّار عليهم والمنازعون من أهل دولتهم، فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا، وعظم شأن أيامهم، فبنى المباني العجيبة المؤنّقة، وشيّد المدائن العظيمة، وردّد الغزو إلى المغرب وتوغل فيهم. ثم هلك سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وقام بالأمر من بعده ابنه المنصور بن الناصر. ونزل بجاية سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وأوطنها بعساكر وخاصة بعراعر منازل العرب [1] ، وما كانوا يسومونهم بالقلعة من خطة الخسف وسوء العذاب بوطء ساحتها والعيث في نواحيها، وتخطف الناس من حولها السهولة طرقها على رواحلهم، وصعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار، فاتخذ بجاية هذه معقلا وصيّرها دارا لملكه، وجدّد قصورها وشيّد جامعها. وكان المنصور هذا جمّاعة مولعا بالبناء وهو الّذي حضر ملك بني حمّاد وتأنّق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين. فبنى في القلعة قصر الملك والمنار والكوكب وقصر السلام وفي بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون [2] . وكان أخوه يلباز على قسنطينة منذ عهد الناصر أبيهما وهمّ بالاستبداد لأوّل ولاية المنصور، فسرّح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر، وعقد له على قسنطينة وبونة فتقبّض على يلباز وأشخصه إلى القلعة، وأقام واليا على قسنطينة وكأنه، وولّى أخاه ويغلان على بونة. ثم بدا له في الخلاف على المنصور وثار بقسنطينة سنة سبع وثمانين وأربعمائة وبعث أخاه ابن موتة إلى تميم بن المعزّ بالمهديّة، واستدعاه لولاية بونة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم، ونزل بونة مع ويغلان، وكاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى وجمعوا العرب على أمرهم. وسرّح المنصور عساكره فحاصروا بونه سبعة أشهر، ثم اقتحموها غلابا، وتقبضوا على أبي الفتوح   [1] وفي نسخة أخرى: وخاصة بعرا من بلاد العرب. [2] وفي قبائل المغرب/ 145: قصر دار السلام، وبجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 بن تميم وبعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة. ثم نازلت عساكره قسنطينة واضطرب أحوال ابن أبي يكنى فخرج إلى قلعة بجبل أوراس، وتحصّن بها. ونزل بقسنطينة صليصل بن الأحمر من رجالات الأثبج. وداخل صليصل المنصور في أن يمكّنه من قسنطينة على مال يبذله ففعل، واستولى عليها المنصور. وأقام أبو يكنى بحصنه من أوراس، وردّد الغارة على قسنطينة فتوجّهت إليه العساكر وحاصروه بقلعته. ثم اقتحموها عليه وقتلوه. وكان بنو ومانو من زناتة حيّا جميعا وقوما أعزّة. وكانت إليهم رياسة زناتة. وكان رئيسهم لعهده ماخوخ، وكان بينهم وبين آل حمّاد صهر، فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر، وكانت أخرى عند المنصور. ولما تجدّدت الفتنة بينه وبين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة وحشوده، وجمع له ماخوخ ولقيه في زناتة، فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ماخوخ التي كانت تحته. واستحكمت النفرة بين ماخوخ وبينه. وسار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة وحرّضهم على بلاد صنهاجة، فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان، وذلك أنّ يوسف بن تاشفين لمّا ملك المغرب، واستفحل به أمره، سما إلى ملك تلمسان، فغلب عليها أولاد يعلى سنة أربع وسبعين وأربعمائة على ما يأتي ذكره، وأنزلها محمد بن يغمر المسولى [1] وصيّرها لعز الملك [2] فاضطلع بأمرها ونازل بلاد صنهاجة وثغورهم، فزحف إليه المنصور وأخرب ثغوره وحصون ماخوخ، وضيّق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين وصالحه. وقبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة، ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده، فبعث ابنه الأمير عبد الله، وسمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده وزحفوا إلى مراكش، واحتل هو بالمغرب الأوسط فشنّ الغارة في بلاد بني ومانوا، وحاصر الجعبات، وفتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك، وعفا عن أهلها، ورجع إلى أبيه. ثم وقعت الفتنة بينه وبين ماخوخ. وقتل أخوه ولحق ابن ماخوخ بتلمسان، وظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره، واجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين، فأعقبهما محمد بن يغمر صاحب تلمسان.   [1] وفي نسخة أخرى: محمد بن يغمر المستوفي. [2] وفي نسخة أخرى: وصيّرها ثغرا لملكه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 وولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر، فنهض إلى أشير وافتتحها، فقام المنصور في ركائبه ومعه كافة صنهاجة [1] . ومن العرب أحياء الأثبج وزغبة وربيعة، وهم العقل من زناتة أمما كثيرة، ونهض إلى غزو تلمسان سنة ست وسبعين وأربعمائة في نحو عشرين ألفا. ولقي اسطقسه [2] وبعث العسكر في مقدّمته، وجاء على أثرهم. وكان تاشفين قد أفرج عن تلمسان وخرج إلى تسأله، ولقيته عساكر المنصور فهزموه، ولجأ إلى جبل الصخرة. وعاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء، متوسلة بوشائح الصنهاجية، فأكبر قصدها إليه وأكرم موصلها، وأفرج عنهم صبيحة يومه. وانكفأ راجعا إلى حضرته بالقلعة. وأثخن بعدها في زناتة وشرّدهم بنواحي الزاب والمغرب الأوسط. ورجع إلى بجاية وأثخن في نواحيها، ودوّخت عساكره قبائلها، فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت [3] والمنصورية والصهريج والناظور [4] وحجر المعزّ، وقد كان أسلافه يرومون كثيرا عنها، فتمنع عليهم فاستقام أمره واستفحل ملكه. وقدم عليه معز الدولة بن صمادح من المريّة فارا أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس، فنزل على المنصور وأقطعه تدلس وأنزله بها. وهلك سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فولي من بعده ابنه باديس، فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأوّل ولايته، وخرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاما عامل بجاية. وهلك قبل أن يستكمل سنة، وولي من بعده أخوه العزيز. وقد كان عزله عن الجزائر وغرّبه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل، وبايعوه، وصالح زناتة وأصهر إلى ماخوخ فأنكحه ابنته. وطال أمر ملكه، وكانت أيامه هدنة وأمنا. وكان العلماء يتناظرون في مجلسه. ونازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه وأخذوا بطاعته، ونازل تونس وصالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز وأخذ بطاعته، وكبس العرب في أيامه القلعة وهم   [1] وفي النسخة التونسية: فقام المنصور في ركائبه وقعد واستنفر كافة صنهاجة. [2] وفي نسخة اخرى: اسطقسيف. [3] وفي النسخة الباريسية: بازروت وفي النسخة التونسية يازروت. [4] وفي النسخة الباريسية: والهريج والناطور وفي التونسية: والصهريج والباطور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 غارون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها، وعظم عيثهم، وقاتلتهم الحامية فغلبوهم وأخرجوهم من البلد. ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر إلى العزيز فبعث ابنه يحيى وقائده علي بن حمدون من بجاية في عسكر وتعبية، فوصل إلى القلعة وسكن الأحوال. وقد أمّن العرب واستعتبوا فأعتبوا وانكفأ يحيى راجعا إلى بجاية في عسكره على عهد العزيز. وهكذا كان وصول مهدي الموحّدين إلى بجاية قافلا إلى المشرق سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وغيّر بها المنكر، فسعى به عند العزيز وائتمر به، فخرج إلى بني ورياكل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه. ونزل عليهم بملالة وأقام بها يدرّس العلم. وطلبه العزيز فمنعوه وقاتلوا دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب. وهلك العزيز سنة خمس عشرة وأربعمائة [1] فولي من بعده ابنه يحيى، وطالت أيامه مستضعفا مغلبا للنساء مولعا بالصيد على حين انقراض الدولة وذهاب الأيام بقبائل صنهاجة واستحدث السكّة ولم يحدثها أحد من قومه أدبا مع خلفائهم العبيديّين، ونقل ابن حماد انّ سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه، فدائرة الوجه الواحد: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 2: 281 والسطور «لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز باللَّه الأمير المنصور. ودائرة الوجه الآخر: «بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 ضرب هذا الدينار بالناصريّة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة» . وفي سطوره الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العبّاسي. ووصل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي بها، وانتقض عليه بنو زرا بن مروان، فجهّز إليه الفقيه مطرف بن علي بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة وتقبّض على ابن مروان وأوصله إليه فسجنه بالجزائر إلى أن هلك في معتقله، وقيل قتله. وبعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها ونازل في وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه، ورجع إلى بجاية وتغلّب النصارى على المهديّة، وقصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر وأنزله بها مع أخيه القائد، حتى إذا زحف الموحّدون إلى بجاية وفرّ القائد من الجزائر وأسلمها، قدّموا الحسن على أنفسهم ولقي   [1] الصحيح: خمس عشرة وخمسمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 عبد المؤمن فأمّنهم، وأخرج يحيى بن العزيز أخاه سبع للقاء الموحّدين فانهزم وملك الموحدون بجاية. وركب يحيى البحر إلى صقلّيّة يروم الاجازة منها إلى بغداد. ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارس ونكر عليه سوء صنيعه وإخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسنطينة، فنزل على أخيه الحسن فتخلّى له عن الأمر. وفي خلال ذلك دخل الموحّدون القلعة عنوة. ودخل حوشن بن العزيز وابن الدحامس من الأثبج معه وخربت القلعة. ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع وأربعين وخمسمائة ونزل قسنطينة واشترط لنفسه فوفّى له، ونقله إلى مراكش فسكنها. ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته. وأمّا الحارث صاحب بونة ففرّ إلى صقلّيّة واستصرخ صاحبها فصارخه على أمره ورجع إلى بونة وملكها. ثم غلب عليها الموحّدون وقتلوه صبرا. وانقرض ملك بني حمّاد والبقاء للَّه وحده، ولم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم، وهم لهذا العهد في عداد الجند، ولهم أقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده، والله وارث الأرض ومن عليها أهـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 ملوك بني حبوس (الخبر عن ملوك بني حبوس بن ماكسن من بني زيري من صنهاجة من غرناطة من عدوة الأندلس وأولية ذلك ومصايره لما استبدّ باديس بن المنصور بن بلكّين بن زيري بن مناد بن هاد بولاية إفريقية سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ولى عمومته وقرابته ثغور عمله، فأنزل حمّادا بأشير أخاه يطوفت بتاهرت، وزحف زيري بن عطية صاحب فاس من مغراوة بدعوة المؤيد هشام خليفة قرطبة إلى عمل صنهاجة في جموع زناتة، ونزل تاهرت وسرّح باديس عساكره لنظر محمد بن أبي العون فالتقوا على تاهرت، وانهزم صنهاجة، فزحف باديس بنفسه للقائهم، وخالف عليه فلفول بن سعيد بن خزرون صاحب طبنة ثم أجفل زيري بن عطية أمامه ورجع إلى المغرب، فرجع باديس الى القيروان، وترك عمومته أولاد زيري بأشير مع حمّاد وأخيه يطوفت وهم زاوي وحلال وعرم ومعنين وأجمعوا على الخلاف والخروج على باديس سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فأسلموا حمّادا برمته واستولوا على جميع ما معه، واتصل الخبر بأبي البهار بن زيري، وهم مع باديس فخشيه على نفسه، ولحق بهم واجتمعوا في الخلاف، واشتغل باديس عنهم بحرب فلفول بن يأنس مولى الحاكم القادم على طرابلس من قبله، وانفسح مجالهم في الفساد والعيث ووصلوا أيديهم بفلفول وعاقدوه. ثم رجع أبو البهار عنهم إلى باديس فتقبّله وصالح له، ثم رجعوا إلى حمّاد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ولقيهم فهزمهم وقتل ماكسن وابنه. ولحق زاوي بجبل شنوق من ساحل مليانة، وأجاز البحر إلى الأندلس في بنيه وبني أخيه وحاشيته، ونزل على المنصور بن أبي عامر صاحب الدولة وكافل الخلافة الأموية، فأحسن نزلهم وأكرم وفادتهم، واصطنعهم لنفسه واتخذهم بطانة لدولته وأوليائه على ما يرومه من قهر الدولة والتغلّب على الخلافة، ونظّمهم في طبقات زناتة وسائر رجالات البربر الذين أدال بجموعهم من جنود السلطان وعساكر الأموية وقبائل العرب، واستغلظ أمر صنهاجة بالأندلس واستفحلت إمارتهم، وحملوا دولة المنصور بن أبي عامر وولديه المظفّر والناصر من بعده على كاهلهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 ولما انقرض أمرهم واضمحلّت دولتهم ونشأت الفتنة بالأندلس بين البرابرة وأهلها، فكان زاوي كبش تلك الوقائع ومحش [1] حروبها. وتمرّس بقرطبة هو وقومه صنهاجة وكافة زناتة والبربر حتى أثبتوا قدم خليفتهم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر الّذي أتوه ببيعتهم، وأعطوه على الطاعة صفقتهم كما ذكرناه في أخبارهم. ثم اقتحموا به قرطبة عنوة واصطلموا عامّة أهلها وأنزلوا المعرات بذوي الصون منها وبيوتات الستر من خواصّها، فحدث الناس في ذلك بأخبارها وتوصّل زاوي عند استباحة قرطبة إلى رأس أبيه زيري بن مناد المتصور بجدران قصر قرطبة فأزاله وأصاره إلى قومه ليدفن في جدثه. ثم كان شأن بني حمّود من العلوية، وافترق أمر البرابرة واضطرمت الأندلس نارا، وامتلأت جوانبها فتنة، وأسرى الرؤساء من البرابرة ورجالات الدولة على النواحي والأمصار فملكوها، وتحيّزت صنهاجة إلى ناحية ألبيرة فكانت ضواحيها وحصل عليها استيلاؤهم، وزاوي يومئذ عضد البرابرة فنزل غرناطة واتخذها دارا لملكته ومعتصما لقومه. ثم وقع في نفسه سوء أثر البربر بالأندلس أيام الفتنة، وحذر مغبّة الفعلة واستعاضت الدولة، فاعتزم على الرحلة وآوى إلى سلطان قومه بالقيروان سنة عشر وأربعمائة بعد مغيبه عشرين سنة، وأنزل على المعزّ بن باديس حافد أخيه بلكّين أجلّ ما كانت دولتهم بأمر إفريقية، وأترف وأوسع ملكا وأوفر عددا، فلقيه المعز بأحسن أحوال البرّ والتجلّة، وأنزله أرفع المنازل من الدولة وقدّمه على الأعمام والقرابة وأسكنه بقصره، وأبرز الحرم للقائه، فيقال: إنه لقيه من ذوات محارمه ألف امرأة لا تحلّ له واحدة منهنّ، ووارى إبراهيم مع شلوه بجدثه. وكان استخلف على عمله ابنه ونّا فظعن لأهل غرناطة فانتقضوا عليه، وبعثوا عن حبّوس ابن عمّه ماكسن بن زيري مكانه ببعض حصون عمله، فبادر إليهم، ونزل بغرناطة، فانتقضوا عليه وبايعوه، واستحدث بها ملكا، وكان من أعظم ملوك الطوائف بالأندلس إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة وولي من بعده ابنه باديس بن حبّوس ويلقّب بالمظفّر، ولم يزل مقيما لدعوة آل حمّو أمراء مالقة بعد تخلّفهم عن قرطبة سائر أيامه، وزحف إليها العامري صاحب المرية سنة تسع وعشرين وأربعمائة فلقيه باديس بظاهر غرناطة فهزمه وقتله وطالت   [1] حشّ الحرب أي هيّجها (القاموس) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 أيام ومدّ ملوك الطوائف أيديهم جميعا إلى مدده فكان ممن استمدّه محمد بن عبد الله البرز الي لمّا حاصره إسماعيل بن القاضي بن عبّاد بعساكر أبيه فأمدّه باديس بنفسه وقومه وصار إلى صريخه مع ابن بقية قائد إدريس بن حمّود صاحب المالقة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ورجعوا من طريقهم. وطمع إسماعيل بن القاضي بن عبّاد مع صريخه فيهم فاتبعهم ولحق بباديس في قومه، فاقتتلوا، وفرّ عسكر إسماعيل وأسلموه فقتله صنهاجة، وحمل رأسه إلى ابن حمود. وكان القادر بن ذي النون صاحب طليطلة أيضا يستدفع به وبقومه استطالة ابن عبّاد وأعوانه. وباديس هذا هو الّذي مصّر غرناطة واختطّ قصبتها وشاد قصورها وشيّد حصونها، وآثاره في مبانيها ومصانعها باقية لهذا العهد. واستولى على مالقة عند انقراض بني حمود سنة تسع وأربعين وأربعمائة وأضافها إلى عمله، وهلك سنة سبع وستين وأربعمائة وظهر أمر المرابطين بالمغرب واستفحل ملك يوسف بن تاشفين فولي من بعده حافده عبد الله بن بلكين بن باديس، وتغلّب المظفر وعقد لأخيه تميم على مالقة فاستقام أمرها إلى أن أجاز يوسف بن تاشفين إلى العدوة أجازته المعروفة كما نذكره في أخباره. ونزل بغرناطة سنة ثلاث وثمانين فتقبّض على عبد الله بن بلكين واستصفى أمواله وذخيرته وألحق به أخاه تميما من مالقة واستصحبهما إلى العدوة، فأنزل عبد الله وتميما بالسوس الأقصى وأقطع لهما إلى أن هلكوا في إيالته، ويزعم بنو الماكسن من بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحلّ ملك بلكانة من صنهاجة ومن بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحلّ ملك بلكانة من صنهاجة ومن إفريقية والأندلس أجمع والبقاء للَّه وحده أهـ. عبد الله بن بلكين بن باديس بن حيوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 الطبقة الثانية من صنهاجة وهم الملثمون وما كان لهم بالمغرب من الملك والدولة هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثّمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراويّة بالجنوب، أبعدوا في المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أوّلها. فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها، واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذا عن العمران، واستئناسا بالانفراد، وتوحشا بالعز عن الغلبة والقهر. فنزلوا من ريف الحبشة جوارا، وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزا، واتخذوا اللثام خطاما تميزوا بشعاره بين الأمم، وعفوا في تلك البلاد وكثروا. وتعدّدت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوقة فوتريكة فناوكا [1] فزغاوة ثم لمطة إخوة صنهاجة كلّهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة. وللمتونة فيهم بطون كثيرة منهم بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة، وكان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كأكدم وكان دينهم جميعا المجوسيّة شأن برابرة المغرب. ولم يزالوا مستقرّين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس، وكانت الرئاسة فيهم للمتونة. واستوسق لهم ملك ضخم مذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارثه ملوك منهم: تلاكاكين وورتكا اوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدإ دولتهم، وطالت أعمارهم فيها إلى الثمانين ونحوها، ودوّخوا تلك البلاد الصحراويّة وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام، فدان به كثيرهم. واتّقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم وملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور ثيولوثان. (قال) ابن أبي زرع: أوّل من ملك الصحراء من لمتونة ثيولوثان، فدوّخ بلاد الصحراء واقتضى مغارم السودان وكان يركب في مائة ألف نجيب. وتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وملك بعده يلتّان [2] وقام بأمرهم وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست وثلاثمائة، وقتله صنهاجة وافترق   [1] وفي النسخة التونسية: فوتزيلة فتاركا. [2] وفي النسخة الباريسية: بليان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 أمرهم أهـ. كلام ابن أبي زرع. وقال غيره: كان من أشهرهم تيزا [1] وابن وانثبق بن بيزا وقيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة. وفي عهد عبيد الله وابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة، كان يركب في مائة ألف نجيب، وعمله مسيرة شهرين في مثلها، ودان له عشرون ملكا من ملوك السودان يعطونه الجزى، وملك من بعده بنوه. ثم افترق أمرهم من بعد ذلك، وصار ملكهم طوائف ورياستهم شيعا. قال ابن أبي زرع: افترق أمرهم بعد تميم بن بلتان مائة وعشرون سنة إلى أن قام فيهم أبو عبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني، فاجتمعوا عليه وأحبّوه وكان من أهل الدين والصلاح، وحجّ وهلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته. وقام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي. وبعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين أهـ كلامه. وكان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب والأندلس أوّلا، وبإفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه. الخبر عن دولة المرابطين [2] من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك وأولية ذلك ومصايره كان هؤلاء الملثّمون في صحاريهم كما قلناه، وكانوا على دين المجوسيّة إلى أن ظهر فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه، وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم واستوسق لهم الملك. ثم افترقوا وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص. فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق [3] بن منصور بن وصالة بن المنصور بن مزالت ابن أميت بن رتمال بن ثلميت وهو لمتونة. ولما أفضت الرئاسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي، وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء، وتظاهروا على أمرهم. وخرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين وأربعمائة، فلقوا في   [1] وفي نسخة أخرى: تينزوا. [2] علق أحمد أمين في حديثه عن المرابطين والموحدين أنهم «لم يكونوا من سعة الأفق والعراقة في المدنية والحضارة بحيث يستطيعون ان يحكموا الأندلس طويلا. (ظهور الإسلام ج 3 ص 7) . [3] ورتنطق: قبائل الغرب/ 332. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي، واغتنموا ما متعوا به. من هديه وما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاويه. وسأله الأمير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم، فندب تلميذه إلى ذلك حرصا على إيصال الخير إليهم لما رأى من رغبتهم فيه. فاستوعروا مسغبة بلادهم. وكتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك ابن زلوا اللمطي بسلجماسة من الآخذين عنه، وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه، ويروّض نفسه على مسغبة أرضهم في معاشه، فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، ووصل معهم يعلّمهم القرآن ويقيم لهم الدين. ثم هلك يحيى ابن إبراهيم وافترق أمرهم، واطرحوا عبد الله بن ياسين، واستصعبوا عمله وتركوا الأخذ عنه لما تجشّموا فيه من مشاق التكليف، فأعرض عنهم وترهّب وتنسّك معه يحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة، وأخوه أبو بكر، فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحا في المصيف وغمرا في الشتاء، فتعود جزرا منقطعة. فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة، وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير، فتسايلوا إليهم ودخلوا في دينهم وغيضتهم. ولما كمل معهم ألف من الرجالات، قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين: إن ألفا لن تغلب من قلّة، وقد تعيّن علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه، فأخرجوا بنا لذلك، فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة [1] ومهمومة حتى أنابوا الى الحق واستقاموا على الطريقة، وأذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين، وسمّاهم بالمرابطين، وجعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر، فتخطّوا الرمال الصحراوية إلى بلاد درعة وسجلماسة فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا. ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين أمراء سجلماسة من مغراوة، وحرّضهم على تغيير أمرهم، فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وأربعمائة في عدد ضخم ركبانا على المهارى أكثرهم، وعمدوا إلى درعة. لا بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز خمسين ألفا ونحوها. ونهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها   [1] هم من القبائل الملثمين/ قبائل المغرب ص 332. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 وعن بلاده، فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل واستلحم عسكره مع أموالهم، واستلحمهم ودوابهم وإبل الحمى التي كانت ببلد درعة. وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلابا وقتلوا من كان بها من أهل مغراوة، وأصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس، واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم، فهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين وقدم مكانه أخاه أبا بكر وندب المرابطين إلى فتح المغرب فغزا بلاد السوس سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وافتتح ماسة وتارودانت سنة تسع وأربعين وأربعمائة وفرّ أميرها لقوط بن يوسف بن عليّ المغراوي إلى تادلّا [1] واستضاف إلى بني يفرن ملوكها وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب غمات [2] وتزوّج امرأته زينب بنت إسحاق النفزاويّة، وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة، وكانت قبل لقوط عند يوسف بن عليّ بن عبد الرحمن بن واطاس، وكان شيخا على وريكة وهي زوجة هيلانة في دولة امغارن في بلاد المصامدة وهم الشيوخ. وتغلّب بنو يفرن على وريكة، وملكوا غمات فتزوّج لقوط زينب هذه، ثم تزوّجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا. ثم دعا المرابطين الى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا [3] وإنفا وجهات الريف الغربي، فكانت لهم فيهم وقائع وأيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين وأربعمائة وقد أمّ المرابطين بعده سليمان بن حروا [4] ليرجعوا إليه في قضايا دينهم. واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم ثم استأصل شأفتهم ومحا أثر دعوتهم من المغرب وهلك في جهادهم سليمان بن عدوّ سنة إحدى وخمسين وأربعمائة لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين. ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. وبلغه وهو لم يستتم فتح المغرب بعد ما وقع من الخلاف بين لمتونة ومسوفة ببلاد الصحراء، حيث أصل أعياصهم ووشايج أعراقهم ومنيع عددهم، فخشي افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة، وتلافى أمره بالرحلة. وأكد ذلك زحف   [1] وفي قبائل المغرب ص 123: وتتبع أميرها لقوط الغماري الى تادلة ففتحها سنة 449. [2] وفي قبائل المغرب ص 123: أغمات. [3] تامسنا: قبائل المغرب ص 124. [4] وفي نسخة أخرى: سليمان بن عدوّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 بلكّين بن محمد بن حمّاد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة لقتالهم، فارتحل أبو بكر إلى الصحراء، واستعمل على المغرب ابن عمّه يوسف بن تاشفين [1] ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحاق ولحق بقومه. ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة، وفتح بابا من جهاد السودان، فاستولى على نحو تسعين رحلة من بلادهم. وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب، ونزل بلكّين صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة، وانكفأ راجعا. فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوّخ أقطار المغرب. ثم رجع أبو بكر الى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبدّ عليه. وأشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله وأن يعدّ له متاع الصحراء وما عونها، ففطن لذلك الأمير أبو بكر وتجافى عن المنازعة وسلّم له الأمر، ورجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة. واختطّ يوسف مدينة مرّاكش سنة أربع وخمسين وأربعمائة ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه، وكمل تشييدها وأسوارها علي [2] ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مراكش لنزله ولعسكره وللتمرّس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشدّ منهم ولا أكثر جمعا. ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب، وجذب الخيل من أيديهم، وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم فقد كانوا من ذلك على ألم (حدث المؤرّخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه) فنازل أولا قلعة فازاز وبها مهدي بن توالي من بني يحفش. قال صاحب نظم الجواهر: وهم بطن من زناتة، وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده، فنازله يوسف بن تاشفين. ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكرنامي صاحب مكناسة بما كان عدوا لمعنصر المغراوي صاحب فاس،   [1] تحدث صاحب الأنيس المطرب ابن أبي زرع الفاسي عن حدود المملكة المرابطية فلاحظ ان يوسف بن تاشفين خطب له على 1900 منبر وان ملكه امتدّ من أقصى شرق الأندلس الى اشبونة، ومن جزائر بني فراغة الى طنجة الى آخر السوس الأقصى الى جبل الذهب من بلاد السودان الأنيس المطرب ج 2 ص 37. (المعجم التاريخي/ 64) . [2] ذكر لسان الدين الخطيب في كتابه الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشية ص 69: ان علي بن يوسف بن تاشفين هو أول من استعمل الروم بالمغرب. (المعجم التاريخي/ 64) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس، وجمع إليه معنصر ففضّ جموعه، وارتحل يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها، وأقام عليها أياما قلائل، وظفر بعاملها بكّار بن إبراهيم فقتله. ثم نهض إلى مغراوة وافتتحها وقتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحا سنة خمس وخمسين وأربعمائة ثم رجع إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيرا من بلادهم. وأشرف على طنجة وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة، وبقية الأمراء من موالي الحموديّة وأهل دعوتها. ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز، وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل عاملها. واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما، وناجزه الحرب ففضّ جموعه وقتله، وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدّته الحاجب سكوت البرغواطي. واستصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرّح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها، وألحّوا بالقتال عليها فمسّهم الجهد. وبرز معنصر إلى مناجزة عدوّه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك. واجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية، كانوا ملوكا بتازا وتسول، فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي سيمير [1] فكان الظهور لزناتة. واستلحم كثير من المرابطين، واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي بلاد فازاز [2] فارتحل سنة ست وخمسين وأربعمائة ونزل عليها عسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب فافتتح بني مراسن ثم قبولادة [3] ، ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين وأربعمائة. وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة نازل فاس فحاصرها مدّة ثم افتتحها عنوة قول بمفازتها ثلاثة آلاف من مغراوة وبنى يفرن ومكناسة وقبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات منهم، وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان وأمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين والأندلسيين من عدويتها، وصيّرها   [1] وفي نسخة اخرى: صغير. [2] هي جبال فازاز (الأطلس المتوسط) قبائل المغرب/ 124. [3] وفي نسخة أخرى: فنزلاوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 مصرا واحدا، وأدار عليها الأسوار وحمل أهلها على الاستكثار من المساجد، ورتّب بناءها، وارتحل سنة ثلاث وستين وأربعمائة إلى وادي ملوية، فافتتح بلادها وحصون وطاط من نواحيها. ثم نهض سنة خمس وستين وأربعمائة إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة، ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة. ثم نهض سنة سبع وستين وأربعمائة إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحها ودوّخها، ثم اقتسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء قومه وذويه، ثم استدعاه المعتمد بن عبّاد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي وقومه من أولياء الدولة الحمّوديّة بسبتة، فأعاد إليه ابن عبّاد الرسل بالمشايعة إليهم، فجهّز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة، فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه ومعه ابنه ضياء الدولة، فانكشف وقتل الحاجب سكوت ولحق ابنه العزيز ضياء الدولة. وكتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين، ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قائده مزدلى بن تبلكان [1] بن محمد بن وركوت من عشيرة في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان، وبها يومئذ الأمير العبّاس بن بختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر، فدوّخوا المغرب الأوسط وصاروا في بلاد زناتة، وظفروا بيعلى ابن الأمير العبّاسي فقتلوه، وانكفأوا راجعين من غزاتهم. ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بعدها إلى الريف وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرّب مدينة نكور فلم تعمّر بعده ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجده وبلاد بني يزتاسن ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة، وقتل العبّاس بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن تيغمر المستوفي بها في عساكر المرابطين، فصارت ثغرا لملكه. ونزل بعساكره واختطّ بها مدينة تاكرارت بمكان محلته، وهو اسم المحلّة بلسان البربر. ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر، وانكفأ راجعا إلى المغرب فاحتلّ مراكش سنة خمس وسبعين وأربعمائة ولم يزل محمد بن تيغمر واليا بتلمسان إلى أن هلك، وولي بعده أخوه تاشفين   [1] وفي النسخة الباريسية: ملنكان وفي التونسية تيلنكان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 ثم ان الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر، وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليطلة، وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد، وتسلّمها منه صلحا سنة ثمان وسبعين وأربعمائة على أن يملّكه بلنسية، فبعث معه عسكرا من النصرانية فدخل بلنسية وتملّكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليطلة. وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف، وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها. ثم نازل سرقسطة وضيّق على ابن هود بها، وطال مقامه وامتدّ أمله إلى تملّكها، فخاطب المعتمد بن عبّاد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منجزا وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية. وكاتبه أهل الأندلس كافة من العلماء والخاصّة فاهتز للجهاد وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها برّا، وأحاطت بها أساطيل ابن عبّاد بحرا فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست وسبعين وأربعمائة وتقبّض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبرا، وكتب إلى أبيه بالفتح. ثم أجاز ابن عبّاد البحر في جماعته والمرابطين، ولقيه بفاس مستنفرا للجهاد، وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضراء لتكون رباطا لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ولقيه المعتمد بن عبّاد وابن الأفطس صاحب بطليوس. وجمع ابن أدفونس [1] ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله، ولقي المرابطين بالزلّاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكرا بالإشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيرة، ويعرف أبوه بالحاج، وكان محمد من بطانته وأعاظم قوّاد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس، ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئا، فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد يوسف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة. وخلع ابن رشيق صاحب مرسية، وتمادى إلى دانية ففرّ عليّ بن مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغريا بالقادر بن ذي النون، فأنفذ معه   [1] ألفونس: قبائل المغرب/ 124. وأذفونش عند ابن الأثير ج 10/ 152. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 عسكرا وملك بلنسية، وقتل ابن ذي النون وذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية واتصل حصاره إيّاها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ثم استخلصتها عساكر المرابطين، وولّى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي، وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين وأربعمائة وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسّوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم، فوجد عليهم، وعهد برفع المكوس وتحرّى المعدلة، فلما أجاز انقبضوا عنه إلّا ابن عبّاد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم، فتقبّض على ابن رشيق فأمكن ابن عبّاد منه العداوة التي بينهما. وبعث جيشا إلى المريّة ففرّ عنها ابن صمادح ونزل على المنصور بن الناصر ببجاية، وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلاته فساء نظره، وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم، وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل: الغزالي والطرطوشي، فعهد إلى غرناطة واستنزل صاحبها عبيد الله بن بلكّين بن باديس وأخاه تميما من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين، وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عبّاد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما. ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها، وعقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس وأجازه فقدم عليها، وقعد ابن عبّاد عن تلقّيه ومبرّته فأحفظه ذلك، وطالبه بالطاعة للأمير يوسف والنزول عن الأمر، ففسد ذات بينهما، وغلبه على جميع عمله. واستنزل أولاد المأمون من قرطبة ويزيد الرائض من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم. وصمد إلى إشبيليّة فحاصر المعتمد بها وضيّق عليه، واستنجد الطاغية فعمد الى استنقاذه من هذا الحصار، فلم يغن عنه شيئا، وكان دفاع لمتونة مما فتّ في عضده، واقتحم والمرابطون إشبيليّة عليه عنوة سنة أربع وثمانين وأربعمائة وتقبّض على المعتمد وقاده أسيرا إلى مراكش، فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة [1] ثم عمد إلى بطليوس وتقبّض على صاحبها   [1] قبض على المعتمد بن عباد سنة 484 وحبس في مراكش فكيف يكون توفي سنة 470 ولعل هذا الخطأ خطأ الناسخ والصحيح أنه توفي سنة 490 كما هو معروف في كتب التاريخ. وفي النسخة التونسية 490. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 عمر بن الأفطس فقتله وابنيه يوم الأضحى سنة تسع وثمانين بما صحّ عنده من مداخلتهم الطاغية، وأن يملّكوه مدينة بطليوس، ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وأربعمائة وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه، وكان الظهور للمسلمين. ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وانضمّ إليه محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر واقتحموا عامّة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف، ولم يبق منها إلّا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصما بالنصارى. وغزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع. وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين، وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن، واستولى على العدوتين، واتصلت هزائم المرابطين مرارا وتسمى بأمير المسلمين، وخاطب المستنصر العباسي [1] الخليفة لعهده ببغداد، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب على يد المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر، فتلطّفا في القول وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس، فعقد له وتضمّن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم. وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضّانه على العدل والتمسّك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله. ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين وأربعمائة وقد كان ما قدّمناه في أخبار بني حمّاد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن تيغمر وافتتاحه أكثر بلادهم، فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة وبعث إليهما مزدلي من بلنسية، وولي بلنسية عوضا منه أبا محمد بن فاطمة، وكثرت غزواته في بلاد النصرانية. وهلك يوسف على رأس المائة الخامسة، وقام بالأمر من بعده ابنه علي بن يوسف فكان خير ملك. وكانت أيامه صدرا منها وداعة ولدولته على الكفر وأهله ظهور وعزة، وأجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدوّ   [1] وفي النسخة التونسية: المستظهر العباسي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 قتلا وسبيا؟، وولّى على الأندلس الأمير تميم بن [1] وجمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم، ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث ونازل طليطلة وأثخن في بلاد النصارى ورجع، وعلى أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيدا وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه. ثم كانت سنة تسع وخمسمائة شأن برقة [2] وتغلّب أهل جنوة عليها وأخلوها. ثم رجع العمران إليها على يد مرتانا قرطست [3] من قوّاد المرابطين كما مرّ في ذكرها عند ذكر الطوائف. ثم استمرّت حال عليّ بن يوسف في ملكه، وعظم شأنه، وعقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست وعشرين وخمسمائة وأنزله قرطبة واشبيلية، وأجاز معه الزبير بن عمر، وحشد قومه وعقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوقي على شرق الأندلس وأنزله بلنسية، وهو ممدوح بن خفّاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ. وعقد لابن غانية المسوقي على الجزائر الشرقيّة دانية وميورقة، واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحّدين، فقيها منتحلا للعلم والفتيا والتدريس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، متعرّضا بذلك للمكروه في نفسه. ونالته بجاية وتلمسان ومكناسة أذايات من الفسقة ومن الظالمين، وأحضره الأمير عليّ بن يوسف للمناظرة ففلج عليّ خصومه من الفقهاء بمجلسه، ولحق بقومه هرغة من المصامدة، واستدرك عليّ بن يوسف رأيه فتفقّده وطالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرّح إليهم البعث فأوقعوا به، وتقاسم معهم هنتاتة وتين ملّل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم. وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقام بأمرهم عبد المؤمن بن عليّ الكومي كبير أصحابه بعهده إليه، وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مرارا. وفشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية، وظهر أمر الموحّدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب. وهلك عليّ بن يوسف سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وقام بالأمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده، وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ   [1] بياض في جميع النسخ ولم نهتد الى اسم والد تميم هذا في المراجع التي بين أيدينا. [2] وفي النسخة التونسية: ميورقة. [3] وفي نسخة أخرى: بن تامرظست. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 أمر الموحّدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه. وغزا عبد المؤمن غزوته الكبرى إلى جبال المغرب، ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان ونازلة عبد المؤمن والموحّدون بكهف الضحّاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها، ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب، وشرهوا إلى مدافعة الموحّدين فغلبوهم، وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفرّ تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله، واتبعه الموحّدون واقتحموا عليه البلد فهلك يقال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة واستولى الموحّدون على المغرب الأوسط واستلحموا لمتونة. ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفا عاجزا، فخلع وبويع عمّه إسحاق بن عليّ بن يوسف بن تاشفين. وعلى هيئة ذلك وصل الموحّدون إليها وقد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه، فخرج إليهم في خاصّته فقتلهم الموحّدون وأجاز عبد المؤمن والموحّدون إلى الأندلس سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملكوا واستلحموا أمراء لمتونة وكافتهم وفرّوا في كل وجه، ولحق فلّهم بالجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جدّدوا من بعده للملك بناحية إفريقية، والله غالب على أمره. دولة ابن غانية الخبر عن دولة ابن غانية من بقية المرابطين وما كان له من الملك والسلطان بناحية قابس وطرابلس واجلابه على الموحدين ومظاهرة قراقش الغزي له على أمره وأولية ذلك ومصايره كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل الملثّمين حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين إمامهم، وتحوّل عنهم إلى لمتونة وأقصر عن دعوته وتنسّك وترهّب كما قلناه، حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمرو أبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رياسة لمتونة. واتبعهم الكثير من قومهم وجاهدوا معه سائر قبائل الملثّمين، وكان مسوقة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم، فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظّ من الرئاسة والظهور. وكان يحيى المسوفي من رجالاتهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 وشجعانهم، وكان مقدّما عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه. واتفق انه قتل بعض رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهما، فتثاور الحيّان وفرّ هو إلى الصحراء، ففدّى يوسف بن تاشفين القتل وودّاه، واسترجع عليّا من مفرّه لسنين من مغيبه، وأنكحه امرأة من أهل بيته تسمّى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك، فولدت منه محمدا ويحيى ونشأ في ظلّ يوسف بن تاشفين وحجر كفالته. ورعى لهما عليّ بن يوسف ذمام هذه الأمور وعقد ليحيى على غرب الأندلس وأنزله قرطبة. وعقد لمحمد على الجزائر الشرقيّة وميورقة ومنورقة ويابسة سنة عشرين وخمسمائة، وانقرض بعد ذلك أمر المرابطين. وتقدّم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن وبعث معهم أبا إسحاق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموحّدين وعقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم، فملك إشبيليّة واقتضى طاعة يحيى بن عليّ بن غانية، واستنزله عن قرطبة إلى حمال [1] والقليعة، فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمتونة، ويحملهم على طاعة الموحّدين فهلك هنالك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفن بقصر باديس. وأمّا محمد بن عليّ فلم يزل واليا إلى أن هلك، وقام بأمره بعده ابنه عبد الله. ثم هلك وقام بالأمر أخواه إسحاق بن محمد بن عليّ، وقيل إن إسحاق ولي بعد ابنه محمد، وأنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه، فقتلهما معا، واستبدّ بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين وخمسمائة. وخلّف ثمانية من الولد وهم: محمد وعليّ ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة، فقام بالأمر ابنه محمد. ولمّا أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم، ولحين وصوله نكر ذلك إخوته وتقبّضوا عليه واعتقلوه. وقام بالأمر أخوه عليّ بن محمد بن عليّ، وتلوموا في ردّ ابن الزبرتير إلى مرسلة، وحالوا بينه وبين الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري [2] استشهد في الجهاد باركش من العدوة، وقام بالأمر ابنه يعقوب واعتقلوا   [1] هي جيان كما في نسخة أخرى. وكانت تسمى عند الرومان أورنجس وقد كانت مركز علم وأدب أيام العرب وعاصمة لامارة الى أن استرجعها الاسبان سنة 1246 م بينها وبين غرناطة 97 كلم، وكانت قاعدة كورة البشارات التي كانت تشتمل على ما يقرب من ستمائة قرية كما عند الاويسي. (مجلة البيّنة/ 26) . [2] وفي النسخة الباريسية: العشري وفي النسخة التونسية: العسري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 ابن الزبرتير وركبوا البحر في اثنتين وثلاثين قطعة من أساطيلهم وأسطوله، وركب معه إخوته يحيى وعبد الله والغازي، وولي على ميورقة عمّه أبا الزبير، وأقلعوا إلى بجاية فطرقوها على حين غفلة من أهلها، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن، وكان بايميلول من خارجها في بعض مذاهبه، فلم تمانعه أهل البلد واستولوا عليها في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة واعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن، كان قافلا من إفريقية يؤم المغرب واكتسحوا ما كان بدار السادة والموحّدين. وكان والي القلعة قاصدا مراكش وهو يستخبر خبر بجاية، فرجع وظاهر السيد أبا الربيع، وزحف إليهما علي بن غانية فهزمهما واستولى على أموالهما، وأسريا ولحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذ في تحصين تلمسان ورمّ أسوارها، وأقاما عند السيد يرومان الكرّة من صاحب تلمسان. وعاث عليّ بن محمد بن غانية في الأموال وفرّقها في ذؤبان العرب ومن انضاف إليهم، ورحل إلى الجزائر فافتتحها، وولّى عليها يحيى بن أبي طلحة. ثم افتتح مازونة وانتهى إلى مليانة فافتتحها، وولّى عليها بدر بن عائشة. ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثا ودخلها عنوة، وكانت في المغرب خطة مشهورة. ثم قصد قسنطينة فامتنعت عليه واجتمعت إليه وفود العرب فاستنجدهم وجاءوا بأحلافهم. ولما اتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، سرّح العساكر في البرّ لنظر السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وعقد له على المغرب الأوسط، وبعث الأساطيل الى البحر وقائدها أحمد الصقلّي وعقد عليها لأبي محمد بن إبراهيم بن جامع، وزحفت العساكر من كل جهة فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة ومن معه، وأمكنوا منهم السيد أبا يزيد فقتلهم على شلف، وعفا عن يحيى لنجدة عمه طلحة، وكان بدر بن عائشة أسرى من مليانة واتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو، فتقبّضوا عليه بعد قتال مع البرابرة حين أرادوا إجارته، وقادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله. وسبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية وفرّ إلى أخيه عليّ لمكانه من حصار قسنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها. ونزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية، وأطلق السيد أبا موسى من معتقله. ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة بعد أن كان أخذ ومضى شديدا في الصحراء، والموحّدون في اتباعه حتى انتهوا إلى مغرة ونغارس. ثم نقلوا إلى بجاية واستنفر السيد أبا زيد بها وقصد علي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 ابن غانية في قفصة فملكها، ونازل بورق وقسطيلية فامتنعت وارتحل إلى طرابلس وفيها قراقش الغزي المطغري، وكان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته: أنّ صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلا يتحصّن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الّذي كان صلاح الدين عمّه من وزرائه. واستعجلوا النصر [1] فخشوا عاديته. ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففرّ قراقش الأرمني بطائفة من جنوده. وفرّ إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظّم نسبة للملك المعظّم شمس الدولة بن أيوب أخي صلاح الدين. فأمّا قراقش فلحق ششرية [2] وافتتحها وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة وخطب فيها لصلاح الدين ولاستاذه تقي الدين. وكتب لهما بفتح زويلة وغلبه بني خطاب الهواري على ملك فزّان وكانت ملكا لعمّه محمد بن الخطّاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنغل بن خطّاب وهو آخر ملوكهم، وكانت قاعدة ملكه زويلة. وتعرف زويلة ابن خطّاب فتقبّض عليه وغلبه على المال حتى هلك، ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل طرابلس واجتمع عليه عرب دياب بن سليم. ونهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه واستخلص أموال العرب، واتصل به مسعود بن زمام شيخ الزواودة [3] من رياح عند مفرّة من المغرب كما ذكرناه. واجتمعت أيديهم على طرابلس وافتتحها واجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال وسليم، وفرض لهم العطاء واستبدّ بملك طرابلس وما وراءها. وكان قراقش من الأرمن وكان يقال له المعظّمي والناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين. وكان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم، ويكتب علامة الظهيرة بخطه. وثقت باللَّه وحده أسفل الكتاب. وأما إبراهيم بن قراقش صاحبه، فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها، وراسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن، فدخلها وخطب للعبّاسي ولصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحّدين.   [1] وفي النسخة التونسية: واستفحلوا بمصر. [2] وفي نسخة أخرى: سنترية ولعلها شنت مريّة في البرتغال وقد مرّت معنا سابقا. [3] وفي نسخة أخرى: الدواودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 (رجع الخبر الى ابن غانية) ولما وصل علي بن غانية إلى طرابلس ولقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحّدين واستمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب وما جاورهم من مجالاتهم ببرقة وخالطوه في ولايتهم، واجتمع إليه من كان محرفا عن طاعة الموحّدين من قبائل هلال مثل: جشم ورياح والأبثج، وخالفتهم زغبة إلى الموحّدين، فاحتفلوا [1] بطاعتهم سائر أيامهم. ولحق بابن غانية فلّ قومه من لمتونة ومنونة من أطراف البقاع، فانعقد أمره وتجدّد بذلك القطر سلطان قومه. وجدد رسوم الملك واتخذ الآلة وافتتح كثيرا من بلاد الجريد وأقام فيها الدعوة العبّاسية. ثم بعث ولده وكاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيء ببغداد مجدّدا ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة والطاعة، وطلب المدد والإعانة. فعقد له كما كان لقومه وكتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر والشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب، فجاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش واتصل أمرهما في إقامة الدعوة العبّاسية. وظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أبي الحسن، وولّى عليها مولاه وجعل فيها ذخائره. ثم اتصل بها إلى أن وصل قفصة خلعوا طاعة ابن غانية، فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة. ثم رحل إلى توزر وقراقش في مظاهرته فافتتحها أيضا. ولما اتصل بالمنصور ما نزل بإفريقية من أجلاب ابن غانية وقراقش على بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان وثمانين وخمسمائة لحسم هذا الداء واستنقاذ ما غلبوا عليه. ووصل إلى تونس فأراح بها وسرّح في مقدّمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحّدين، فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده، فانهزم الموحّدون وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم، وأسر علي بن الزبرتير في آخرين، وامتلأت أملاك العدو من أسلابهم ومتاعهم. ووصل سرعان الناس إلى تونس، وصمد المنصور إليهم فأوقع   [1] وفي نسخة أخرى: فاعتقلوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته. وأفلت ابن غانية وقراقش بحومة الوفر [1] وبادر أهل قابس وكانت خالصة لقراقش دون ابن غانية، فأتوا طاعتهم وأسلموا من كان عندهم من أصحابه وذويه فاحتلموا الى مراكش، وقصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية. وبادر أهلها بالطاعة. ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، وقتل من كان بها من الحشود. وقتل إبراهيم بن قراتكين، وامتنّ على سائر الأعوان وخلّى سبيلهم، وأمّن أهل البلد في أنفسهم وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة. تم غزا العرب واستباح حللهم وأحياءهم حتى استقاموا على طاعته. وفرّ ذو المراس كثير الخلاف والفتنة منهم إلى المغرب قبل: جشم ورياح والعاصم كما قدّمناه. وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ورجع ابن غانية وقراقش إلى حالهما من الاجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك عليّ في بعض حروبهما مع أهل نفزاوة سنة أربع وثمانين وخمسمائة أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك، وعفى على قبره، وحمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها. وقام بالأمر أخوه يحيى بن إسحاق بن محمد بن غانية وجرى في مظاهرة قراقش وموالاته على سنن أخيه علي. ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحّدين سنة ست وثمانين وخمسمائة فهاجر إليهم بتونس وتقبّله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأقام معه أياما. ثم فرّ ووصل إلى قابس فدخلها مخادعة وقتل جماعة منهم، واستبدّ على أشياخ دباب والكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين، كان منهم: محمود بن طرق أبو المحاميد وحميد بن جارية أبو الجواري. ونهض إلى طرابلس فافتتحها ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها، ثم فسد ما بينه وبين يحيى بن غانية. وسار إليه يحيى فانتهز قراقش ولحق بالجبال وتوغّل فيها، ثم فرّ إلى الصحراء ونزل ودّان ولم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدّة وجمع عليه أهل الثأر من دباب، واقتحمها عليه عنوة وقتله ولحق ابنه بالموحّدين. ولم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر. ثم فرّ إلى ودّان وأجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست وخمسين وخمسمائة. (رجع الخبر) واستولى ابن غانية على الجريد، واستنزل ياقوت فولّى قراقش من   [1] وفي النسخة التونسية: بجريعة الذقن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 طرده، كذا ذكره التجاني في رحلته. ولحق ياقوت بطرابلس، ونازلة ابن غانية بها، وطال أمر حصاره. وبالغ ياقوت في المدافعة، وبعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمدّه أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس، وأشخص ياقوت إلى ميورقة واعتقل بها إلى أن أخذها الموحّدون. وكان من خبر ميورقة أن عليّ بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية ترك أخاه محمدا وعليّ بن الزبرتير في معتقلهما. فلما خلا الجو من أولاد غانية وكثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة، وثاروا بدعوة محمد وحاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحاق فأطلق من معتقله، وصار الأمر له فدخل في دعوة الموحّدين، ووفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور. وخالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحاق، ركب البحر من إفريقية إلى صقلّيّة وأمدّوه بأسطول، ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها، ولم يزل بها واليا. وبعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه، وبعثوا إليه ياقوت فاعتقله عنوة إلى أن غلب عليه الموحّدون سنة تسع وتسعين وخمسمائة فقتل ومضى ياقوت إلى مراكش وبها مات. (رجع الخبر) ولما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولّى عليها تاشفين ابن عمّه الغازي، وقصد قابس فوجد بها عامل الموحّدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، فاستدعاه أهلها لما فرّ عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس، وضيّق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلّي سبيل ابن بافراس [1] فعقد لهم ذلك وأمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأغرمهم ستين ألف دينار، وقصد المهدية سنة سبع وتسعين وخمسمائة فاستولى عليها وقتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الكرابي [2] . (وكان من خبره) أنه نشأ بالمهديّة وصار من جندها المرتدّين، وهو كوفيّ الأصل، وكانت له شجاعة معروفة، فجمع لنفسه خيلا ورجالا وصار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة، وبعد في ذلك صيته وأمدّه الناس بالدعاء. وقدم أبو سعيد بن أبي حفص على إفريقية من قبل المنصور لأوّل ولايته، وولّى على المهدية أخاه يونس، وطالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم، وامتنع   [1] وفي نسخة أخرى: تافراكين. [2] وفي نسخة أخرى: الراكراكي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 فانزل به النكال وعاقبه بالسجن فدبّر ابن عبد الكريم الثورة وداخل فيها بطانته، وتقبّض على يونس سنة خمس وتسعين وخمسمائة واعتقله إلى أن فدّاه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العتيق، واستبدل ابن عبد الكريم بالمهديّة ودعا لنفسه، وبلغت المتوكّل على الله. ثم وصل السيد أبو زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن واليا على إفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست وتسعين وخمسمائة واضطرب معسكره بحلق الوادي وبرز إليه جيوش الموحّدين فهزمهم وطال حصاره لهم. ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك، وارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدّة. ثم ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في اتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في اتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق بالمهديّة، وحاصره ابن غانية بها سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأمدّه السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه وخرج إليه فقبض عليه ابن غانية وهلك في اعتقاله، واستولى على المهديّة واستضافها إلى ما كان بيده من طرابلس وقابس وصفاقس والجريد. ثم نهض إلى الجانب الغربي من إفريقية فنازل باجة، ونصب عليها المجانيق وافتتحها عنوة وخرّبها، وقتل عاملها عمر بن غالب، ولحق شريدها بالأربس وشقبناريّة وتركها خالية على عروشها، وبعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد، فزحف إليها ابن غانية ونازلها، وزحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسنطينة، وانهزم الموحّدون واستولى على معسكرهم. ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها وقطع أيدي أهلها، وتقبّض على حافظها أبي الحسن بن أبي يعلى، وتملك بعدها بلنسية [1] والقيروان وبايعه أهل بونة، ورجع إلى المهديّة وقد استفحل ملكه، فأزمع على حصار تونس وارتحل إليها سنة تسع وتسعين وخمسمائة واستعمل على المهديّة علي بن الغازي ويعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية، ونزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس ونزل أخوه بحلق الوادي. ثم ضايقوه بمعسكرهم وردموا خندقها ونصبوا المجانيق والآلات، واقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة [2] . وقبض على السيد أبي زيد وابنه ومن كان معه من الموحّدين، وأخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار، وولّى   [1] وفي النسخة التونسية: تبسه. [2] الصحيح في ختام المائة الخامسة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور وأبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك، فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت واستعملوا القتل فيما نقل أن إسماعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في بئر فهلك، فرجع الطلب ببقيتها عنهم. وارتحل إلى نفوسة والسيد أبو زيد معتقل في معسكره ففعل بهم مثل ذلك، وأغرمهم بالناصر بمراكش ما دهم أهل إفريقية منه ومن ابن عبد الكريم قبله، فامتعض لذلك ورحل إليها سنة إحدى وستمائة. وبلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه، فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهن على المظاهرة والدفاع. ونازل طرة من حصون مغراوة [1] ، فاستباحها، وانتقل إلى حامة مطماطة. ونزل الناصر تونس، ثم قفصة، ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في مطماطة. ونزل الناصر تونس، ثم قفصة، ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في جبل دمّر، فرجع عنه إلى المهديّة، وعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها. وسرّح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحّدين سنة اثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجورّا من نواحي قابس، وأوقع به وقتل أخاه جبارة بن إسحاق واستنقذ السيد أبا زيد من معتقله، ثم افتتح الناصر المهديّة ودخل إليها عليّ بن الغازي في دعوة فتقبله، ورفع مكانه ووصله بهدية وافق وصولها برسمه إليه على يد واصل [2] مولاه وكان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله، ولم يزل معه إلى أن استشهد مجاهدا. وولىّ الناصر على المهديّة محمد بن يغمور من الموحّدين ورجع إلى تونس. ثم نظر فيمن يولّيه أمر إفريقية لسدّ فرجها والذبّ عنها ومدافعة ابن غانية وجموعه دونها. فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره. ورجع الناصر إلى المغرب وأجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحّدين بتونس، وجمع ذؤبان العرب من الزواودة وغيرهم، وأوفد الزواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطف [3] وتحيّز بنو عوف بن سليم إلى الموحّدين، والتقوا بشبور [4] من نواحي تبسّة [5] فانهزمت جموع ابن غانية، ولجأ إلى جهة طرابلس.   [1] وفي النسخة التونسية: نغزاوة. [2] وفي النسخة التونسية: من سبته إليه على يد ناصح. [3] وفي نسخة أخرى: بن سلطان. [4] وفي نسخة أخرى: بشبرو. [5] تبسّة: بالفتح ثم الكسر، وتشديد السين المهملة: بلد مشهور من أرض افريقية، بينه وبين قفصة ست مراحل في قفر سبيبة، وهو بلد قديم به آثار الملوك، وقد خرّ الآن أكثرها ... (معجم البلدان) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب والملثّمين فانتهى إلى سجلماسة وامتلأت أيدي اتباعه من النهاب، وخرقوا الأرض بالعيث والفساد. وانتهى إلى المغرب الأوسط وداخله المفسدون من زناتة، وأغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية، وقتله وأسروا وافده [1] ، وكرّ راجعا إلى إفريقية، فاعترضه الشيخ أبو محمد صاحب إفريقية في جموع الموحّدين، واستنقذ الغنائم من أيديهم. ولجأ [2] ابن غانية إلى جبال طرابلس، وهاجر أخوه مسير بن إسحاق إلى مرّاكش فقبله الناصر وأكرمه. ثم اجتمع إلى ابن غانية طوائف العرب من رياح وعوف وهيث [3] ومن معهم من قبائل البربر، وعزم على دخول إفريقية. ونهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست وستمائة ولقيهم بجبل نفوسة، ففلّ عسكرهم واستلحم أمرهم، وغنم ما كان معهم من الظهر والكراع والأسلحة. وقتل يومئذ محمد بن الغازي وجوار بن يفرن، وقتل معه ابن عمّه من كتّاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان، وهلك يومئذ من العرب الهلاليّين أمير قرّة سمّاد بن نخيل. حكى ابن نخيل أن مغانم الموحّدين يومئذ من عساكر الملثّمين كانت ثمانية عشر ألفا من الظهر، فكان ذلك مما أوهن من شدّته ووطّى من بأسه. وثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه، وكان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم. وسار أبو محمد في نواحي إفريقية ودفع سلبهم واستثار أشياخهم بأهلهم، وأسكنهم بتونس حسما لفسادهم. وصلحت أحوال إفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة وستمائة وولي أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن، ويقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد، فاستطار بعد مهلكه سور بن عبابة، ولخم فعابه رعيته [4] ، ونهض إليه السيد أبو العلا ونزل قابس وأقام بقصر العروسيّين، وسرّح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحّدين إلى درج وغدامس، وسرّح عسكرا آخر إلى ودان لحصار ابن غانية، فأرجف بهم العرب ونهضوا وهمّ بهم السيد أبو   [1] وفي النسخة التونسية: ولده. [2] وفي النسخة التونسية: ونجا. [3] وفي النسخة التونسية: ونفاث. [4] وفي نسخة أخرى: ثور بن غانية، ونجم نفاقه وعيثه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 العلا. وفرّ ابن غانية إلى الزاب، واتبعه السيد أبو زيد فنازل ببسكرة واقتحمها عليه. ونجا ابن غانية وجمع أوباشا من العرب والبربر، واتبعه السيد أبو زيد في الموحّدين وقبائل هوّارة، وتزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى وعشرين وستمائة فانهزم ابن غانية وجموعه، وقتل كثير من الملثّمين وامتلأت أيدي الموحّدين من الغنائم. وكان طرأ له يومئذ حماس من بعد ما سعى [1] في هذا الزحف أثر مذكور وبلاء حسن. وبلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس، فانكفّ راجعا، وأعيد بنو أبي حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بإفريقية. واستقلّ الأمير أبو زكريا منهم بأمرها، واقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن [2] وتناولها من يد أخيه أبي محمد عبد الله. وهذا الأمير أبو زكريا هو جدّ الخلفاء الحفصيّين وماهد أمرهم بإفريقية، فأحسن دفاع ابن غانية عنها وشرّده في أقطارها. ورفع يده شيئا فشيئا عن النيل من أهلها ورعاياها. ولم يزل شريدا مع العرب بالقفار، فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب والعقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية. واستولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة، وأوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة ومليانه، وقتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن وصلب شلوه بسور الجزائر. وكان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من إمارته سنة إحدى وثلاثين وستمائة وقيل ثلاث وثلاثين، ودفن وعفى أثر مدفنه. يقال بوادي الرجوان قتله الأريس يقال بجهة مليانة من وادي شلف، ويقال بصحراء باديس ومديد [3] من بلاد الزاب. وانقرض أمر الملثّمين من مسوقة ولمتونة ومن جميع بلاد إفريقية والمغرب والأندلس بمهلكه. وذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه وانقطاع أمره. وقد خلّف بنات بعثهن [4] زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر [5] فوضعن في يده. وبلغه وفاة أبيهن وحسن ظنه في كفالته إياهنّ، فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهنّ، وبنى لهنّ بحضرته دارا لصونهنّ معروفة لهذا العهد   [1] هكذا بالأصل وفي نسخة أخرى: وكان لهوارة يومئذ، وأميرهم حناش بن بعرة بن ونيفن في هذا الزحف اثر مذكور وبلاء حسن. [2] وفي النسخة التونسية: من ملكة آل عبد المؤمن. [3] وفي النسخة الباريسية: وتنومة. وفي النسخة التونسية: وبنومة. [4] العبارة تكون أصح لو قال: وقد خلّف بنات زعموا بأنه بعثهن الى الأمير أبي زكريا. [5] وفي النسخة التونسية صابر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 بقصر البنات. وأقمن تحت حراسته وفي سعة من رزقه موصولات لوصاة أبيهنّ بذلك منهنّ وحفظهنّ لوصاته. ولقد يقال أن ابن عم لهنّ خطب إحداهنّ، فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها: هذا ابن عمك وأحقّ بك، فقالت لو كان ابن عمّنا ما كفلنا الأجانب، إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ. أخبرني والدي رحمه الله أنه أدرك واحدة منهنّ أيام حياته في سني العشر والسبعمائة تناهز التسعين من السنين. (قال) : ولقيتها وكانت من أشرف النساء نفسا وأسراهنّ خلقا وأزكاهنّ خلالا والله وارث الأرض ومن عليها. ومضى هؤلاء الملثّمون وقبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السواد ان حجزا بينهم وبين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين وإفريقية، وهم لهذا العهد متّصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق. وهلك من قام بالملك منهم بالعدوتين، وهم قليل من مسوقة ولمتونة كما ذكرناه، أكلتهم الدولة وابتلعتهم الآفاق والأقطار، وأفناهم الرقّ [1] واستلحمهم أمراء الموحدين [2] وبقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأوّل من افتراق الكلمة واختلاف البين، وهم الآن يعطون طاعة لملوك السودان، يجبون إليهم خراجهم وينفرون في معسكرهم. واتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب على بلاد المغربين وإفريقية [3] فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسّان بن المعقل عرب السوس الأقصى، ولمتونة وتريكة في مقابلة ذوي منصور وذوي عبد الله بن المعقل أيضا عرب المغرب الأقصى، ومسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط، ولمطة في مقابلة رياح عرب الزاب وبجاية وقسنطينة، وتاركا في مقابلة سليم عرب إفريقية. وأكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم وحمل أثقالهم وركوبهم، والخيل قليلة لديهم أو معدومة. ويركبون من الإبل الفارهة ويسمّونها النجيب، ويقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب، وسيرها هملجة، وتكاد تلحق بالركض [4] وربما يغزوهم أهل القفر من العرب وخصوصا بنو سعيد من بادية رياح، فهم أكثر العرب غزوا إلى بلادهم   [1] وفي النسخة التونسية: الترف. [2] وفي النسخة التونسية: واستلحمهم آخرا الموحّدون. [3] وفي النسخة التونسية: واتصل سياجهم على بلاد السودان الى المشرق، مناظرا لسياج العرب على بلاد المغربين وإفريقية. [4] مقتضى السياق: وتكاد لا تلحق بالركض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير [1] . فإذا اتصل الصائح بأحيائهم وركبوا في اتباعهم واعترضوهم على المياه قبل فصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون، ويشتدّ الحرب بينهم فلا يخلص العرب من غوائلهم [2] إلّا بعد جهد، وقد يهلك بعضهم، وللَّه الخلق والأمر. وإذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد المجاورين لملوك المغرب. (ملوك السودان) (الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين ووصف أحوالهم والإلمام بما اتصل بنا من دولتهم) هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني وما وراءه إلى آخر الأوّل بل وإلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب والمشرق، ويجاورون بلاد البربر بالمغرب وإفريقية وبلاد اليمن والحجاز في الوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق، وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق الزنج والحبشة والنوبة، وأمّا أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعد ما ننسبهم، فبنو حام بن نوح بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام، والنوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي، وقال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر [3] بن حام، والزنج من ولد زنجي بن كوش، وأمّا سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فيما قاله ابن عبد البر، ويقال: هو قبط بن حام. وعدّ ابن سعيد من قبائلهم وأممهم سبعة عشر أمّة، فمنهم في المشرق الزنج على بحر الهند، لهم مدينة فنقية [4] وهم مجوس، وهم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد. قال: ويليهم بربرا، وهم الذين ذكرهم   [1] وفي النسخة التونسية: وينكفون مغزين. [2] وفي النسخة التونسية: فلا يخلص العرب بغنائمهم. [3] وفي النسخة التونسية: ابن ينصر. [4] وفي النسخة التونسية: منبسة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 امرؤ القيس في شعره. والإسلام لهذا العهد فاش فيهم، ولهم يومئذ مقاشن [1] على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وحولهم الدمادم وهم حفاة عراة. قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج التتر إلى العراق، فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزو ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كفرة [2] ، وكانوا على دين النصرانية، وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح، والّذي أسلم منهم لعهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم، وصلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما نعي إليه، كان اسمه النجاشيّ وهو بلسانهم: أنكاش بالكاف المشمة بالجيم عرّبتها العرب جيما محضة وألحقتها ياء النسب، شأنها في الأسماء الأعجمية إذا تصرّفت فيها، وليس هذا الاسم سمة لكل من تملّك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا، ولو كان كذلك لشهروا اسمه إلى اليوم لأنّ ملكهم لم يتحوّل منهم، وملكهم لهذا العهد اسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه، أو اسم العشيرة الذين فيهم الملك. وفي غربيّه مدينة دامون وكان بها ملك من أعاظمهم وله ملك ضخم، وفي شماليه ملك آخر منهم اسمه حقّ الدين محمد بن علي بن واصمع [3] في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة. وكان جدّه واصمع مطيعا لملك دامون، وأدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه واستولى على بلاده. ثم اتصلت الفتنة وضعف أمر الخطى فاسترجع بنو واصمع بلادهم من الخطى وبنيه، واستولوا على وفاة وخرّبوها. وبلغنا أنّ حق الدين هلك، وملك بعده أخوه سعد الدين وهم مسلمون ويعطون الطاعة للخطى أحيانا وينابذونه أخرى والله مالك الملك. (قال ابن سعيد) : ويليهم البجاوة وهم نصارى ومسلمون، ولهم جزيرة بسواكن في بحر السوس، ويليهم النوبة إخوة الزنج والحبشة ولهم مدينة دنقلة غرب النيل، وأكثرهم مجاورون للديار المصرية، ومنهم رقيق. ويليهم زغاوة وهم مسلمون، ومن شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم وهم خلق عظيم، والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حميمي [4] ولهم التغلّب   [1] وفي نسخة أخرى: مقدشوا. [2] وفي نسخة أخرى: كعبر. [3] وفي نسخة أخرى: ولصمع. [4] وفي النسخة الباريسية: جنمي وفي النسخة التونسية حيمي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 على بلاد الصحراء إلى فزّان. وكانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصيّة مذ أوّلها، ويليهم من غربهم كوكو، وبعدهم نغاله والتكرور ولمى وتميم وجاى [1] وكورى وأفكزار، ويتّصلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب. أهـ كلام ابن سعيد. ولما فتحت إفريقية المغرب دخل التجّار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية، كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب، وكانوا أعظم أمّة ولهم أضخم ملك، وحاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم وأكثرها معتمرا، ذكرها مؤلف كتاب رجار وصاحب المسالك والممالك. وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمّة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صوصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين، ثم بعدها أمّة أخرى تعرف مالي ثم بعدها أمّة أخرى تعرف كوكو ويقال كاغو ثم بعدها أمّه أخرى تعرف بالتكرور. (وأخبرني) الشيخ عثمان فقيه أهل غانية وكبيرهم علما ودينا وشهرة، قدم مصر سنة تسع وتسعين وستمائة حاجا بأهله وولده ولقيته بها فقال: إنهم يسمّون التكرور زغاي ومالي انكاويه أهـ. ثم أنّ أهل غانية ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثّمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه، وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم واقتضوا منهم الاتاوات والجزى، وحملوا كثيرا منهم على الإسلام فدانوا به. ثم اضمحلّ ملك أصحاب غانية وتغلّب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم أنّ أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك، واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو أو ملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانية إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين، يذكرون أن أوّل من أسلم منهم ملك اسمه برمندان [2] هكذا ضبطه الشيخ عثمان. وحج هذا الملك واقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده. وكان ملكهم الأعظم الّذي تغلّب على صوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الأمير الّذي يكون نسل السلطان وجاطة الأسد، واسم الحافد عندهم تكن، ولم يتّصل بنا نسب هذا الملك. وملك   [1] وفي نسخة أخرى: تمنم وجالي. [2] وفي نسخة أخرى: برمندانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 عليهم خمسا وعشرين سنة فيما ذكروه. ولما هلك ولي عليهم من بعده منسا ولي، ومعنى منسا السلطان، ومعنى ولي بلسانهم علي، وكان منسا ولي هذا من أعاظم ملوكهم. وحج أيام الظاهر بيبرس، وولي عليهم من بعده أخوه وأتى. ثم بعده أخوهم خليفة وكان محمقا راويا، فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مجانا، فوثبوا عليه فقتلوه. وولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمّى أبا بكر، وكان ابن بنته فملّكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت وابن الاخت. ولم يقع إلينا نسبه ونسب أبيه. ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلّب على ملكهم اسمه ساكورة. وقال الشيخ عثمان: ضبطه بلسانهم أهل غانية سيكرة، وحجّ أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجورا، وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلّبوا على الأمم المجاورة لهم. وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي. واتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان، وارتحل إلى بلادهم التجّار من بلاد المغرب وإفريقية. وقال الحاج يونس ترجمان التكروري إن الّذي فتح كوكو هو سغمنجة من قوّاد منسا موسى، وولي من بعده ساكورة وهذا هو ابن السلطان ماري جاطة. ثم من بعده ابنه محمد بن قو، ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولى عليهم منسا موسى بن أبي بكر، وكان رجلا صالحا وملكا عظيما، له في العدل أخبار تؤثر عنه. وحج سنة أربع وعشرين وسبعمائة، لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف بالطونجق [1] وصحبه إلى بلاده. وكان له اختصاص وعناية ورثها من بعده ولده إلى الآن، وأوطنوا والاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب، ولقيه في منصرفه صاحبنا المعمّر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن، كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر، وأجلب عليهم بعصائب من العرب فمكر به واركلا واعتقله، ثم خلّى سبيله بعد حين، فحاض إلى السلطان منسا موسى مستجيشا به عليهم، وقد كان بلغه توجّهه للحج، فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصرا على عدوّه ومعونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال   [1] وفي نسخة أخرى: الطوبجن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا وقوّة سلطانه فلقي منه مبرّة وترحبا ووعده بالمظاهرة والقيام بثأره واستصحبه إلى بلدة أخرى وهو الثقة. (قال: كنا نواكبه أنا وأبو إسحاق الطونجق دون وزرائه ووجوه قومه نأخذ بأطراف الأحاديث، نتمتع وكان متحفا) [1] في كل منزل بطرف المآكل والحلاوات قال: والّذي تحمل آلته وحربته [2] من الوصائف خاصة اثنا عشر ألفا لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني. (قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمّة بمصر) : جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملا من التبر، كل حمل ثلاثة قناطير، قال: وإنما يحملون على الوصائف والرجال في أوطانهم فقط، وأمّا السفر البعيد كالحج فعلى المطايا. (قال أبو خديجة) : ورجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتا بمقعد [3] سلطانه محكم البناء مجللا لغرابته بأرضهم، فأطرفه أبو إسحاق الطونجق ببناء قبّة مربّعة الشكل استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين واضفى عليها من الكلس ووالي عليها بالأصباغ المشبّعة [4] فجاءت من أتقن المباني، ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفا من مثاقيل التبر مثوبة عليها، إلى ما كان له من الاثرة والميل إليه والصلات السنية. وكان بين هذا السلطان منسا موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين، واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحت ممالكة ممّا تحدّث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه، بعث بها مع عليّ بن غانم المغفل وأعيان من رجال دولته. وتوارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي واتصلت أيام منسا موسى هذا خمسا وعشرين سنة. ولمّا هلك ولي أمر مالي من بعده ابنه منسا مغا، ومغا عندهم محمد، وهلك لأربع سنين من ولايته، وولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر وهو أخو موسى، واتصلت أيامه أربعا وعشرين سنة. ثم هلك فولي بعده ابنه منسا بن سليمان وهلك لتسعة من ولايته،   [1] وفي نسخة أخرى: حيث يتسع المقام، وكان يتحفنا. [2] وفي النسخة التونسية: وخرثية. [3] وفي نسخة أخرى: في قاعدة. [4] وفي النسخة التونسية: وعالى عليها بالأصباغ المنمقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 فولي عليهم من بعده ماري جاطه بن منسا مغا بن منسا موسى واتصلت أيامه أربعة عشر عاما وكان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم. وأتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة، تحدث الناس بما اجتمع فيه من مفترق الجلي والشبه في جثمانه ونعوته دهرا. (وأخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة. وكان أوطن بأرض كوكو من بلادهم واستعملوه في خطّة القضاء بما لقية منذ سنة ست وسبعين وسبعمائة، فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته وذكر لي عن هذا السلطان جاطه أنه أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم، وكاد أن ينتقض شأن سلطانهم. (قال) : ولقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الّذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم، وهو حجر يزن عشرين قنطارا منقولا من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار، كانوا يرونه من أنفس الذخائر والغرائب لندور مثله في المعدن، فعرضه جاطه هذا الملك المسرف على تجّار مصر المتردّدين إلى بلده وابتاعوه منه بأبخس ثمن إذ استهلك من ذخائر ملوكهم سرفا وتبذيرا في سبيل الفسوق والتخلّف. (قال) : وأصابته علّة النوم، وهو مرض كثيرا ما يطرق أهل ذلك الإقليم وخصوصا الرؤساء منهم يعتاده غشي النوم عامّة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق ولا يستيقظ إلّا في القليل من أوقاته، ويضرّ صاحبه ويتصل سقمه إلى أن يهلك. (قال) : ودامت هذه العلّة بخلطه مدّة عامين اثنين وهلك سنة خمس وسبعين [وسبعمائة] وولّوا من بعده ابنه موسى فأقبل على مذاهب العدل والنظر لهم، ونكب عن طرق أبيه جملة وهو الآن مرجو الهداية ويغلب على دولته وزيره ماري جاطه، ومعنى ماري عندهم الوزير وجاطه تقدّم وهو الآن قد حجر السلطان واستبد بالأمر عليه، ونظر في تجهيز العساكر وتجهيز الكتائب، ودوّخ أقطار الشرق من بلادهم وتجاوز تخوم كوكو وجهّز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثّمين، كتائب نازلتها الأوّل الدولة، وأخذت بمخنقها، ثم أفرجت عنها وحاطهم الآن هدنة. وتكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي وفيها من الملثّمين يعرف بالسلطان، وعليهم طريق الحاج من السودان، وبينه وبين أمير الزاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 وواركلا مهاداة ومراسلة. (قال) : وحاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني [1] بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق، وهو الآن محط لركاب البحر من المغرب وإفريقية ومصر، والبضائع مجلوبة إليها من كل قطر. ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع وثمانين وسبعمائة وولي بعده أخوه منسا مغا ثم قتل لسنة أو نحوها، وولي بعده صندكي زوج أمّ موسى صندكي الوزير. ووثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة. ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم وجاءهم رجل اسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي بن ماري جاطه الأكبر، فتغلّب على الدولة وسلك أمرهم سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ولقبه منسا مغا، والخلق والأمر للَّه وحده. (الخبر عن لمطة وكزولة وهسكورة بني تصكي وهم إخوة هوّارة وصنهاجه) هؤلاء القبائل الثلاث قد تقدّم لنا أنهم إخوة لصنهاجة، وأنّ أمّ الثلاثة تصكي العرجاء بنت زحيك بن مادغيس، فأما صنهاجة فمن ولد عاميل بن زعزاع، وأمّا هوّارة فمن ولد أوريغ وهو ابنها ابن برنس، وأمّا الآخرون فلا تحقيق في نسبهم. (قال ابن حزم) : إنّ صنهاجة ولمطة لا يعرف لهما أب، وهذه الأمم الثلاث موطنون بالسوس وما يليه من بلاد الصحراء وجبال درن ملئوا بسائطه وجباله. (فأمّا لمطة) فأكثرهم مجاورون الملثمين من صنهاجة ولهم شعوب كثيرة، وأكثرهم ظواعن أهل وبر ومنهم بالسوس قبيلتا زكن ولخس، صاروا في عداد ذوي حسّان من معقل، وبقايا لمطة بالصحراء مع الملثّمين ومعظمهم قبيلة بين تلمسان وإفريقية [2] وكان منهم الفقيه وكاك بن زيرك صاحب أبي عمران الفاسي [3] وكان نزل سجلماسة. ومن تلميذه كان عبد الله بن ياسين صاحب الدولة اللمتونية على ما مرّ.   [1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولعلها بلاد بني وارثين وقد ذكرها ابن خلدون من قبل، وسترد معنا في الطبقة الثالثة من صنهاجة. [2] وفي النسخة التونسية ومعظمهم في قبلة تلمسان وإفريقية. [3] هكذا بالأصل وفي كتاب قبائل المغرب ص 332: «واليهم نسبة الفقيه واكاك بن زولو صاحب أبي عمران الفاسي وشيخ عبد الله بن ياسين داعية المرابطين، منهم اليوم فرقة مستقرّة بجبل زالغ المطل على فاس» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 (وأمّا كزولة [1] ) فبطونهم كثيرة، ومعظمهم بالسوس ويجاورون لمطة ويحاربونهم. ومنهم الآن ظواعن بأرض السوس، وكان لهم مع المعقل حروب قبل أن يدخلوا السوس، فلما دخلوه تغلّب عليهم، وهم الآن من خولهم وأخلافهم ورعاياهم. (وأمّا هسكورة) وهم لهذا العهد في عداد المصامدة وينسبون إلى دعوة الموحّدين، وهم أمم كثيرة وبطون واسعة ومواطنهم بجبالهم متّصلة من درن إلى تادلّا من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة وكان دخول بعضهم في دعوة المهدي قبل فتح مراكش، ولم يستكملوا الدخول في الدعوة إلّا من بعده، فلذلك لا يعدّهم كثير من الناس في الموحّدين، وإن عدّوا فليسوا من أهل السابقة منهم لمخالفتهم الإمام أوّل الأمر، وما كان من حروبهم معه ومع أوليائه وشيعته. وكانوا ينادون بخلافهم وعداوتهم ويجهرون بلعنهم، فتقول خطباؤهم في مجامع صلواتهم: لعن الله هنتاتة وتين ملّل وهرنة وهرزجة [2] ، فلما استقاموا من بعد ذلك لم يكن لهم مزية السابقة كما كانت لهنتاته وتين ملّل وهرغة وهزرجة فاستقامتهم على الدعوة كان بعد فتح مراكش. وبطون هسكورة هؤلاء متعدّدون فمنهم مصطاوة وعجرامة وزمراوة وانتيفت وبنو نفال وبنو رسكونت إلى آخرين لم يحضرني أسماؤهم. وكانت الرئاسة عليهم آخر دولة الموحّدين لعمر بن وقاريط المنتسب، وذكره في أخبار المأمون والرشيد من بني عبد المؤمن خلاف الموحّدين بمراكش. ثم كان من بعده مسعود بن كلداسن، وهو القائم يأمر دبوس والمظاهر له على شأنه، وأظنّه جد بني مسعود، الرؤساء عليهم لهذا العهد من فطواكة المعروفين ببني خطّاب لاتصال الرئاسة في هذا البيت، ولما انقرض أمر الموحّدين استعصوا على بني مرين مدّة واختلف حالهم معهم في الاستقامة والنفرة، وكانوا ملجأ النازعين عن الطاعة من عرب جشم، ومأوى للثائرين منهم. ثم استقاموا وأذعنوا لأداء الضرايب والمغارم وجبايتها من قومهم، والخفوف إلى العسكرة مع السلطان متى دعوا إليها شأن غيرهم من سائر المصامدة.   [1] وفي قبائل المغرب/ 331: «جزولة بجيم بدوي. اخوة لصنهاجة لأم، فلذلك أضيفوا اليهم في الترتيب، ويدرجهم بعض النسابين والمؤرخين في مصمودة لغرب مواطن الفريقين، فقد كانت مصمودة تسكن جبال درن وجزولة تسكن قربهم باقليم سوس، وبجهاته كانوا يظعنون حتى زاحمهم به عرب معقل وغلبوهم عليه بعد حروب، فصارت جزولة لهم خولا وأحلافا. وكانت منهم اوزاع بوسط العطر الجزائري أيضا، واليهم ينسب جبل اكرول منه» . [2] وفي النسخة التونسية: لعن الله منتاتة وتين ملّل وشيخهم الضال المضل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 (وأمّا انتيفت فكانت رياستهم في أولاد هنّوا، وكان يوسف بن كنون [1] منهم اتخذ لنفسه حصن تاقيّوت، وامتنع به، ولم يزل ولده علي ومخلوف يشيد أنه من بعده، وهلك يوسف وقام بأمره ابنه مخلوف، وجاهر بالنفاق سنة اثنتين وسبعمائة. ثم راجع الطاعة وهو الّذي تقبّض على يوسف بن أبي عياد المتعدي على مراكش أيام أبي ثابت سنة سبع وسبعمائة كما نذكر في أخباره، لما أحيط به، فتقبّض عليه مخلوف وأمكن منه. وكانت وسيلته من الطاعة وكان من بعده ابنه هلال بن مخلوف، والرئاسة فيهم متصلة لهذا العهد. (وأمّا بنو نفال) فكانت رياستهم لأولاد تروميت، وكان منهم لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن، كبيرهم عليّ بن محمد، وكان له في الخلاف والامتناع ذكر، واستنزله السلطان أبو الحسن من محلّه لأوّل ولايته بعد حصاره بمكانه، وأصاره في جملته تحت عنايته وإمرائه إلى أن هلك بتونس بعد واقعة القيروان في الطاعون الجارف. وولي بنوه من بعده أمر قومهم إلى أن انقرضوا، والرئاسة لهذا العهد في أهل بيتهم ولأهل عمومتهم. (وأمّا فطواكة) وهم أوسع بطونهم وأعظمهم رياسة فيهم وأقربهم اختصاصا بصاحب الملك واستعمالا في خدمته. وكان بنو خطّاب منذ انقراض أمر الموحّدين قد جنحوا إلى بني عبد الحق، وأعطوهم المقادة واختصّوا شيوخهم في بني خطّاب بالولاية عليهم. وكان شيخهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب محمد بن مسعود، وابنه عمر من بعده. وهلك عمر سنة أربع وسبعمائة بمكانه من محلّه، وولي بعده عمّه موسى بن مسعود وسخطه السلطان لتوقع خلافه، فاعتقله. وكان خلاصه من الاعتقال سنة ست وسبعمائة، وقام بأمر هسكورة من بعده محمد بن عمر بن محمد بن مسعود. ولما استفحل ملك بني مرين وذهب أثر الملك من المصامدة وبعد عهدهم صار بنو مرين إلى استعمال رؤسائهم في جباية مغارمهم لكونهم من جلدتهم. ولم يكن فيهم أكبر رياسة من أولاد تونس في هنتاتة. وبني خطّاب هؤلاء في هسكورة فداولوا بينهم ولاية الأعمال المراكشيّة وليها محمد بن عمر هذا من بعد موسى بن علي وأخيه محمد   [1] وفي النسخة الباريسية: منكون، وفي النسخة التونسية مكبول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 شيوخ هنتاتة. فلم يزل واليا منها إلى أن هلك قبيل نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولحق ابنه إبراهيم بتلمسان ذاهبا إلى السلطان أبي الحسن. فلمّا دعا أبو عنّان إلى نفسه رجع عنه إلى محلّه، وتمسّك بما كان عليه من طاعة أبيه، ورعاه أبو عنّان لعمّه عبد الحق، وقلّده الأعمال المراكشية فلم يغن في منازعة إلى أن لحق السلطان أبو الحسن بمراكش، فكان من أعظم دعاته، وأبلى في مظاهرته. فلما هلك السلطان أبو الحسن اعتقله أبو عنّان وأودعه السجن، ثم قتله بين يدي نهوضه إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وقام بأمره من بعده أخوه منصور بن محمد إلى أن ملك الأمير عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مراكش سنة ست وسبعين وسبعمائة فاستقدمه وتقبّض عليه، واعتقله بدار ابن عمّه نحوا من العام ابن مسعود بن خطّاب كان في جملته، وكان هو وأبوه نازعا إلى بني مرين خوفا على أنفسهم من أولاد محمد بن عمر لترشحهم للأمر، فلما استمكن منه بداره معتقلا وثب عليه فقتله واستلحم بنيه معه، وسخطه السلطان لها فاعتقله قليلا ثم أطلقه، واستقلّ برياسة هسكورة لهذا العهد والله قادر على ما يشاء. (الطبقة الثالثة من صنهاجة) وهذه الطبقة ليس فيها ملك، وهم لهذا العهد أوفر قبائل المغرب، فمنهم الموطنون بالجانب الشرقي من جبال درن ما بين تازى وتادلّا ومعدن بني فازان حيث الثنيّة المفضية إلى آكرسلوين [1] من بلاد النخل ومقصد تلك الثنية من بلادهم وبلاد المصامدة في المغرب من جبال درن. ثم اعتمروا قنن تلك الجبال وشواهقها، وتنعطف مواطنهم في تلك الثنية إلى ناحية القبلة إلى أن ينتهي إلى آكرسلوين. ثم ترجع مغرّبا من آكرسلوين إلى درعه إلى ضواحي السوس الأقصى، وأمصاره من تارودانت وأيفري الى فوتان وغيرها. ويعرف هؤلاء كلهم باسم صناكة حرفت إليها من اسم صنهاجة، وأسموا صاده زايا وأبدلوا الجيم بالكاف المتوسطة المخرج عند العرب لهذا العهد بين الكاف والقاف أو بين الكاف والجيم، وهي معرّبة النطق.   [1] آكرسلوين بناحية سجلماسة حيث تبتدأ مواطن الزناكة أو صنهاجة الجنوب قبائل المغرب/ 322. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 ولصنهاجة هؤلاء بين قبائل المغرب أوفر عدد وشدّة بأس ومنعة، وأعزّهم جانبا أهل الجبال المطلّة على تادلّا ورياستهم لهذا العهد في ولد عمران الصناكي ولهم اعتزاز على الدولة ومنعة عن الهضيمة والانقياد للمغرم. وتتصل بهم قبائل خباتة [1] منهم ظواعن يسكنون الخص وينتجعون مواقع القطر في نواحي بلادهم بتيغانيمين من قبيلة مكناسة إلى وادي أمّ ربيع من تامسنا [2] في الجانب الشمالي من جانبي جبل درن ورياستهم في ولد هيدي [3] من مشاهيرهم ولهم اعتياد بالمغرم وروم على الذلّ. وتتصل بهم قبائل دكالة في وسط المغرب من عدوة أمّ ربيع إلى مراكش، ويتصل بهم من جهة المغرب على ساحل البحر قبيلة بناحية آزمور [4] ، وأخرى وافرة العدد مندرجة في عداد المصامدة وطنا ونحلة وجباية وعمالة، ورياستهم لهذا العهد في دولة عزيز بن يبروك [5] ، ورئيسهم لأوّل دولة زناتة، ويأتي ذكره ويعرف عقبه الآن ببني بطال، ومن قبائل صنهاجة بطون أخرى بجبال تازى وما والاها مثل بطوية وبخاصة وبني وارتين إلى جبل لكائي من جبال المغرب معروف ببني الكائي إحدى قبائلهم، يعطون المغرم عن عزّة، وبطوية منهم ثلاثة بطون: بطوية [6] على تازى، وبني ورياغل على ولد المزمة، وأولاد علي بتافرسيت. وكان لأولاد علي ذمّة مع بني عبد الحق ملوك بني مرين، وكانت أمّ يعقوب بن عبد الحق منهم فاستوزرهم. وكان منهم طلحة بن علي وأخوه عمر على ما يأتي ذكره في دولتهم. ويتّصل ببسيط بالمغرب ما بين جبال درن وجبال الريف من ساحل البحر الرومي حيث مساكن حمّاد [7] الآتي ذكرهم قبائل أخرى من صنهاجة موطنون في عضاب وأودية وبسائط يسكنون بيوت الحجارة والطين مثل قشتالة وسطه وبنو ورياكل وبنو   [1] وفي النسخة التونسية جاناته. [2] وردت في طبعة بولاق المصرية تامستا وتامسنا وفي النسخة التونسية تامسنا والصحيح تامستا وقد مرّت معنا من قبل. [3] وفي نسخة أخرى: هبيرة. [4] ازمور: مدينة صغرى على شاطئ المحيط الاطلنطي بين الدار البيضاء والجديدة على ضفة وادي أم الربيع تعتبر مركزا مهما لقبائل الحوزية وشتوكه بدكاله ويرجع تاريخها الى العصور القديمة حيث عرفها الفينيقيون (كتاب المغرب ص 42) وقد سمّاها ياقوت أزمورة بثلاث ضمات. [5] وفي نسخة أخرى: عزيز بن يبورك، [6] وفي نسخة أخرى: بقوية. [7] وفي النسخة التونسية: غمارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 حميد وبنو مز جلدة وبنو عمران وبنو دركول [1] وورتزر وملواتة وبني وامرد. ومواطن هؤلاء كلّهم بورغة، وأمركو يحترفون بالحياكة والحراثة، ويعرفون لذلك صنهاجة البزّ، وهم في عداد القبائل المغارمة ولغتهم في الأكثر عربية لهذا العهد وهم مجاورون بجبال غمارة. ويتصل بجبال غمارة من ناحيتهم جبل سريف موطن بني زروال من صنهاجة وبني مغالة لا يحترفون بمعاش ويسمّون صنهاجة العزّ لما اقتضته منعة جبالهم. ويقولون لصنهاجة آزمور الذين قدمنا ذكرهم صنهاجة الذلّ، لما هم عليه من الذلّ والمغرم. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد يقال في بعض مزاعم البربر أنّ بني وديد من صنهاجة وبنو يزناسن وباطويه هم أخوال واصل بن ياسن أجناسن ومعناه بلغة الغرب الجالس على الأرض [2] . (الخبر عن المصامدة من قبائل البربر وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب ومبدإ ذلك وتصاريفه) وأمّا المصامدة وهم من ولد مصمود بن يونس بربر فهم أكثر قبائل البربر وأوفرهم، من بطونهم: برغواطة وغمارة وأهل جبل درن. ولم تزل مواطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة. وكان المتقدّم فيهم قبيل الإسلام وصدره برغواطة. ثم صار التقدّم بعد ذلك لمصامدة جبال درن إلى هذا العهد. وكان لبرغواطة في عصرهم دولة، ولأهل درن منهم دولة أخرى ودول حسبما نذكر، فلنذكر هذه الشعوب وما كان فيها من الدول بحسب ما بدا إلينا من ذلك.   [1] بني دركون: بجيم بدوي ونون، وينطق أيضا دركول بكاف ولام، منهم فرقة مستقرة بناحية ازمورة القريبة من غليزان من المغرب الأوسط، وبطون مندرجة في بعض القبائل الصنهاجية بشمال المغرب الأقصى/ قبائل المغرب/ 331. [2] وفي النسخة التونسية: اجلس على الأرض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 (الخبر عن برغواطة من بطون المصامدة ودولتهم ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم) وهم الجيل الأوّل منهم، كان لهم في صدر الإسلام التقدّم والكثرة وكانوا شعوبا كثيرة مفترقين، وكانت مواطنهم خصوصا من بين المصامدة في بسائط تامسنا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأنقى وأسقى. وكان كبيرهم لأوّل المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صبيح [1] وكان من قوّاد ميسرة الخفير طريف المضفري [2] القائم بدعوة الصفريّة ومعها معزوز بن طالوت. ثم انقرض أمر ميسرة والصفريّة، وبقي طريف قائما بأمرهم بتامسنا، ويقال أيضا إنه تنبّأ وشرّع لهم الشرائع. ثم هلك وولي مكانه ابنه صالح، وقد كان حضر مع أبيه حروب ميسرة وكان من أهل العلم والخير فيهم. ثم انسلخ من آيات الله، وانتحل دعوى النبوّة، وشرّع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده، وهي معروفة في كتب المؤرّخين. وأدعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سورا منه، يسمي منها سورة الديك وسورة الجمل وسورة الفيل وسورة آدم وسورة نوح وكثير من الأنبياء، وسورة هاروت وماروت وإبليس، وسورة غرائب الدنيا، وفيها العلم العظيم بزعمهم، حرّم فيها وحلّل، وشرّع قصّ، وكانوا يقرءونه في صلواتهم، وكانوا يسمّونه صالح المؤمنين كما حكاه البكري عن زمور بن صالح بن هاشم بن وراد الوافد منهم على الحاكم المستنصر الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم أبي عيسى بن أبي الأنصاري سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وكان يترجم عنه بجميع خبره داود [3] بن عمر المسطاسي. قال: وكان ظهور صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك من سنة سبع وعشرين من المائة الثانية من الهجرة. وقد قيل إنّ ظهوره كان لأوّل الهجرة، وأنه إنما انتحل ذلك عنادا ومحاكاة لما بلغه شأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والأوّل أصح. ثم زعم أنه المهدي الأكبر الّذي يخرج في آخر الزمان، وأنّ عيسى يكون صاحبه ويصلّي خلفه، وأنّ اسمه في   [1] وفي نسخة أخرى: طريف ابو صالح وكذلك في قبائل الغرب/ 322. [2] المضغري أو المطغري ويجوز الوجهين. [3] وفي النسخة الباريسية: ذلواد وفي النسخة التونسية داورد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 العرب صالح وفي السريان مالك وفي الأعجمي عالم وفي العبراني روبيا وفي البربري وربا [1] ومعناه الّذي ليس بعده نبي، وخرج إلى المشرق بعد ان ملك أمرهم سبعا وأربعين سنة، ووعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم، وأوصى بدينه إلى ابنه إلياس، وعهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أميّة، وبإظهار دينه إذا قوي أمرهم. وقام بأمره بعده ابنه إلياس ولم يزل مظهرا للإسلام مسرا لما أوصاه به أبوه من كلمة كفرهم. وكان طاهرا عفيفا زاهدا [2] . وهلك لخمسين سنة من ملكه، وولي أمرهم من بعده ابنه يونس، فأظهر دينهم ودعا إلى كفرهم وقتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامسنا وما والاها، يقال إنه حرق [3] ثلاثمائة وثمانين مدينة، واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه، وقتل منهم بموضع يقال له تاملوكاف، هو حجر عال نابت وسط الطريق [4] فقتل سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين. (قال زمور) : ورحل يونس إلى المشرق وحجّ، ولم يحج أحد من أهل بيته قبله ولا بعده، وهلك لأربع وأربعين سنة من ملكه، وانتقل الأمر عن بنيه، وولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف، فاستولى على ملك برغواطة وأخذ بدين آبائه واشتدّت شوكته وعظم أمره، وكانت له في البربر وقائع مشهورة وأيام مذكورة أشار إليها سعيد بن هشام المصمودي في قوله: قفي قبل التفرّق وأخبرينا ... وقولي واخبري خبرا يقينا وهذي أمّة هلكوا وضلّوا ... وغاروا [5] لاسقوا ماء معينا يقولون: النبيّ أبو غفير ... فأخزى الله أمّ الكاذبينا ألم تسمع ولم تر لؤم بيت [6] ... على آثار خيلهم ربينا [7] وهنّ الباكيات فبين ثكلى ... وعادمة [8] ومسقطة جنينا   [1] وفي النسخة التونسية: وريا. [2] وفي النسخة التونسية: زاهدا في الدنيا. [3] وفي النسخة التونسية: ضرب. [4] وفي النسخة الباريسية: وسط السوق. [5] وفي النسخة التونسية: وخابوا. [6] وفي النسخة الباريسية: يهث بيت وفي التونسية يوم بيت. [7] وفي النسخة التونسية: رنينا. [8] وفي النسخة التونسية: وعاوية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 ستعلم أهل تامسنا إذا ما ... أتوا يوم القيامة مقطعينا هنالك يونس وبنو أبيه ... يقودون البرابر حائرينا إذا زر ياور طافت عليهم ... جبهتهم بأيدي المنكرينا [1] فليس اليوم يومكم ولكن ... ليالي كنتم متيسّرينا واتخذ أبو غفير من الزوجات أربعا وأربعين، وكان له من الولد مثلها وأكثر. وهلك أخريات المائة الثالثة لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده ابنه أبو الأنصار عبد الله فاقتفى سننه وكان كثير الدّعة مهابا عند ملوك عصره يهادونه ويدافعونه بالمواصلة، وكان يلبس الملحفة والسراويل ويلبس المخيط، ولا يعتم أحد في بلاده إلّا الغرباء. وكان حافظا للجار وفيا بالعهد، وتوفي سنة إحدى وأربعين من المائة الرابعة لأربع وأربعين سنة من ملكه، ودفن بأمسلاخت وبها قبره. وولي بعده ابنه أبو منصور عيسى ابن اثنتين وعشرين سنة، فسار سير آبائه وادّعى النبوّة والكهانة، واشتد أمره وعلا سلطانه ودانت له قبائل المغرب. (قال زمور) : وكان فيما أوصاه به أبوه: يا بني! أنت سابع الأمراء من أهل بيتك، وأرجو أن يأتيك صالح بن طريف. قال زمور: وكان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغواطة وعشرة آلاف من سواهم مثل جراوة وزواغة والبرانس ومجاصة [2] ومضغرة ودمّر ومطماطة وبنو وارزكيت. وكان أيضا بنو يفرن وآحدة وركامة [3] وايزمنّ ورصافة ورغصرارة على دينهم، ولم تسجد ملوكهم إلا له منذ كانوا أهـ. كلام زمور وكان لملوك العدوتين في غزو برغواطة هؤلاء وجهادهم أثناء هذا وبعده آثار عظيمة من الأدارسة والأموية والشيعة. ولما أجاز جعفر بن علي من الأندلس إلى المغرب وقلّده المنصور بن أبي عامر عمله سنة ست وستين وثلاثمائة فنزل البصرة، ثم اختلف ذات بينه وبين أخيه يحيى واستمال عليه أخوه الجند وأمراء زناتة، فتجافى له جعفر عن العمل وصرف وجهه إلى جهاد برغواطة معتدّه من صالح عمله، وزحف إليهم في أهل المغرب وكافة الجند الأندلسيّين فلقوه ببسيط [4] بلادهم، وكانت عليه الدبرة،   [1] وفي النسخة التونسية: إذا وريا ورى رمت عليهم جهنم قائد المستكبرينا. [2] وفي نسخة أخرى: مجكصة. [3] وفي نسخة أخرى: إصادة وركانة. [4] وفي نسخة ثانية: وسط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 ونجا بنفسه في فلّ من جنده، ولحق بأخيه بالبصرة. ثم أجاز بعدها إلى المنصو باستدعائه، وترك أخاه يحيى على عمل المغرب. ثم حاربتهم أيضا صنهاجة لمّا غزا بلكّين بن زيري المغرب سنة ثمان وستين وثلاثمائة بعدها وأجفلت زناتة أمامه وانزووا إلى حائط سبتة، وامتنعوا منه بأعوادها فانصرف عنهم إلى جهاد برغواطة، وزحف إليهم فلقيه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار في قومه، وكانت عليهم الهزيمة. وقتل أبو منصور وأثخن فيهم بلكّين بالقتل، وبعث سبيهم إلى القيروان وأقام بالمغرب يردّد الغزو فيهم إلى سنة اثنتين وسبعين [وثلاثمائة] وانصرف من المغرب فهلك في طريقه إلى القيروان. ولم أقف على من ملك أمرهم بعد أبي منصور. ثم حاربتهم أيضا جنود المنصور بن أبي عامر لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح إمرة برغواطة هؤلاء فيمن قبله من الأجناد وأمراء النواحي وأهل الولاية، فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي. ثم حاربهم أيضا بنو يفرن لما استقل أبو يعلى بن محمد اليفرني من بعد ذلك بناحية سلا من بلاد المغرب. واقتطعوهم من عمل زيري بن عطية المغراوي بعد ما كان بينهما من الحروب. وانتساب أولاد يعلى هؤلاء إلى تميم بن زيري بن يعلى في أوّل المائة الخامسة، وكان موطنا بمدينة سلا ومجاورا لبرغواطة، فكان له أثر كبير في جهادهم، وذلك في سني عشرين وأربعمائة، فغلبهم على تامسنا وولّى عليها من قبله بعد أن أثخن فيهم سبيا وقتلا. ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة لمتونة وخرجوا من مواطنهم بالصحراء إلى بلاد المغرب، وافتتحوا الكثير من معاقل السوس الأقصى وجبال المصامدة. ثم بدا لهم جهاد برغواطة بتامسنا وما إليها من الريف الغربي فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه، وكانت له فيهم وقائع استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله ابن ياسين الكبروي [1] سنة خمسين وأربعمائة، واستمرّ أبو بكر وقومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم ومحوا من الأرض آثارهم وكان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف، فهلك في حروبهم وعليه كان انقراض أمرهم وقطع دابرهم على   [1] وفي نسخة ثانية: الكزولي أو الجزولي كما في قبائل المغرب/ 323. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 يد هؤلاء المرابطين [1] ، والحمد للَّه رب العالمين. وقد نقل بعض الناس في نسب برغواطة فبعضهم يعده في قبائل زناتة، وآخرون يقولون في صالح إنه يهوديّ من ولد شمعون بن يعقوب نشأ برباط ورحل إلى المشرق، وقرأ على عبد الله المغربي واشتغل بالسحر، وجمع فنونا وقدم المغرب ونزل تامسنا فوجد بها قبائل جهّالا من البربر فأظهر لهم الزهد وسحرهم بلسانه، وموّه عليهم فقصدوه واتّبعوه، فادّعى النبوّة وقيل له برباطي نسبة إلى الموطن الّذي نشأ به، وهو برباط واد بحصن شريش من بلاد الأندلس، فعرّبت العرب هذا الاسم وقالوا برغواط، ذكر ذلك كلّه صاحب كتاب الجوهر وغيره من النسّابين للبربر وهو من الأغاليط البيّنة. وليس القوم من زناتة ويشهد لذلك موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. وأمّا صالح بن طريف فمعروف منهم وليس من غيرهم، ولا يتم الملك والتغلّب على النواحي والقبائل لمنقطع جذمة دخيل في نسبه. سنة الله في عباده وإنما نسب الرجل برغواطة وهم شعب من شعوب المصامدة شعب معروف كما ذكرناه والله ولي المتقين. (الخبر عن غمارة من بطون المصامدة وما كان فيهم من الدول وتصاريف أحوالهم) هذا القبيل من بطون المصامدة من ولد غمار بن مصمود، وقيل غمار بن مسطاف [2] ابن مليل بن مصمود وقيل غمار بن أصاد بن مصمود. ويقول بعض العامّة أنهم   [1] كانت المنطقة التي شاعت فيها ديانة برغواطة هي منطقة تامسنا بالمغرب الأقصى الممتدة من نهر سلا (أحد روافد نهر أبي رقراق الحالي) الى نهر أم الربيع، أي ما يعادل المنطقة التي تسكن فيها حاليا قبائل الشاوية وزعير، وكانت في الأصل موطنا لزناتة وزواغة حتى نزل بها طريف صاحب ميسرة الحقير الّذي سنّ لأهلها مذهبا لم يلبث ابنه صالح ان صيّره ديانة، فانضمت اليهم قبائل أخرى عرفوا وإياهم باسم المذهب الّذي يدينون به، وقد استمر هذا المذهب قائما الى منتصف القرن الخامس الهجريّ، ولكن أتباعه بقوا منذ تأسيسه معرّضين لهجمات الإمارات والممالك الإسلامية بالمغرب والأندلس وتنكيلها، ومن أشهر الأمراء والقواد الذين فتكوا بهم الأمير تميم اليفرني بعد سنة 420 هـ والفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي داعية الموحدين الّذي استشهد وهو يقاتلهم بكريغلة من أرض زعير سنة 450 هـ. وقد اندثر اسم برغواطة منذ ذلك التاريخ وحلّ محل أتباعه في مواطنهم وشاركهم فيها قبائل عربية طارئة وأخرى بربرية متعرّبة مثل مالك وسفيان وعامر وحصين، والشاوية وزعير. (قبائل المغرب/ 323) . [2] سطاف: قبائل المغرب/ 325. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 عرب غمروا في تلك الجبال فسمّوا غمارة، وهو مذهب عاميّ، وهم شعوب وقبائل أكثر من أن تحصر. والبطون المشهورة منهم بنو حميد ومثيوه وبنو فال وأغصاوه، وبنو وزروال ومجكسة، وهم آخر مواطنهم يعتمرون رحاب [1] الريف بساحل بحر الدر من عن يمين بسائط المغرب، من لدن غساسة فتكرّر [2] فبادس فتبكيساس فتيطّاوين فسبتة فالقصر الى طنجة خمس مراحل أو أزيد، أوطنوا منها جبالا شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجا بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن يتخطّى بسائط قصر كتامة ووادي ورغة من بسائط المغرب، ترتدّ عنها الأبصار وتنزل في حافاتها الطيور لا بل الهوام وينفسح في رءوسها وبين قننها الفجاج، سبل السفر ومراتع السائمة وفدن الزراعة وادواح الرياض. ويتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساكنين ما بين سبتة وطنجة، وإليهم ينسب قصر المجاز الّذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف، ويعضده أيضا اتصال مواطنهم بمواطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي وهو المحيط، إذ كان بنو حسّان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن آزغر وأصيلا إلى أنفى، من هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة ودوكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة. فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلّا قليلا منها وغيرهم في البسائط. ولم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح، ولم يعلم ما قبل ذلك. وللمسلمين فيهم أزمان الفتح وقائع الملاحم وأعظمها لموسى بن نصير وهو الّذي حملهم على الإسلام واسترهن أبناءهم وأنزل منهم عسكرا مع طارق بطنجة. وكان أميرهم لذلك العهد يليان وهو الّذي وفد عليه موسى بن نصير وأعانه في غزو الأندلس، وكان منزله سبتة كما نذكره، وذلك قبل استحواء تاتكور [3] وكانت في غمارة هؤلاء بعد الإسلام دول قاموا بها لغيرهم وكان فيهم متنبئون، ولم تزل الخوارج تقصد جبالهم للمنعة فيها، كما نذكره إن شاء الله تعالى [4] .   [1] وفي نسخة ثانية: جبال الريف بساحل البحر الرومي. [2] وفي نسخة ثانية: فتكوّر. [3] وفي نسخة أخرى نكور. [4] كانت مواطن غمارة تمتد على ساحل البحر المتوسط من حد بلاد الريف الى المحيط الأطلسي، ثم تمتد على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 (الخبر عن سبتة ودولة بني عصام بها) نت سبتة هذه من الأمصار القديمة قبل الإسلام، وكانت يومئذ منزل يليان ملك ارة، ولما زحف إليه موسى بن نصير صانعه بالهدايا وأذعن للجزية، فأقرّه عليها سترهن ابنه وأبناء قومه، وأنزل طارق بن زياد بطنجة للجزية، وضرب عليهم مسكر للنزول معه. ثم كانت إجازة طارق إلى الأندلس فضرب عليهم البعوث، كان الفتح لا كفاء له كما مرّ في موضعه. ولما هلك يليان استولى العرب على مدينة سبتة صلحا من أيدي قومه فعمّروها. ثم كانت فتنة ميسرة الحقير وما دعا إليه من سلالة الخارجيّة، وأخذ بها الكثير من البرابرة من غمارة وغيرهم، فزحف من برابرة سنجة إلى سبتة وأخرجوا العرب منها وسبوها وخرّبوها فبقيت خلاء. نزل بها ماجكس من رجالاتهم ووجوه قبائلهم، وبه سميت مجكسة فبناها ورجع إليها الناس وأسلم. وسمع من أهل زمانه إلى أن مات فقام بأمره ابنه عصام ووليها هرا. ولما هلك قام بأمره ابنه مجير فلم يزل واليا عليها إلى أن هلك، ووليها أخوه يرضي ويقال إنه ابنه، وكانوا يعطون لبني إدريس طاعة مضعفة كما نذكره. ولما سما لناصر أمل في ملك المغرب، وتناول حبله من أيدي بني إدريس المالكين ببلاد لهبط وغمارة حين أجهضتهم كتامة [1] وزناتة عن ملكهم بفاس، وقاموا بدعوة لناصر وبثوها في أعمالهم نزلوا حينئذ للناصر عن سبتة، وأشاروا له إلى تناولها من بني عاصم، فسرّح إليها عساكره وأساطيله مع قائده نجاح بن غفير، فكان فتحها سنة   [ () ] السهول الساحلية حيث كان يسكن بنو حسان منهم قبل دخول العرب الهلاليين حتى تصل الى تامسنا، حيث مواطن قبائل برغواطة. ثم حدثت تغيرات كثيرة في مساكن القبائل المصمودية منذ القرن السادس الهجريّ الّذي غمرت فيه المغرب موجات من العرب الهلاليين والمنضافين اليهم، فزاحموا قبائل البربر ومنهم غمارة بالسهول وألجئوها إلى الجبال، واضطر من بقي منها في غير الجبل الى التعرّب والاندماج فيهم، وقد تضاءلت المنطقة التي تسكنها القبائل المسماة اليوم غمارة وهي واقعة الى الجنوب الشرقي من تطواف على ساحل البحر ولكن قبائل غمارة المعروفة بأسمائها الفرعية ما زالت تعمر منطقة أوسع وأكبر. كما ان قبائل أخرى معروفة بالاسم الأصلي أو الأسماء الفرعية انتقلت من مواطنها الاولى الى مواطن جديدة بالمغرب الأقصى والمغرب الأوسط (قبائل المغرب/ 325- 326) . [1] وفي نسخة ثانية: مكناسة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 تسع عشرة وثلاثمائة، ونزل له الرضي بن عصام عنها وآتاه طاعته وانقرض أمر بني عصام. وصارت سبتة إلى الناصر حتى استولى عليها بعد حين بنو حمّاد واستحدثوا بعدها دولة أخرى كما نذكره. (الخبر عن بني صالح بن منصور ملوك نكور ودولتهم في غمارة وتصاريف أحوالهم) لما استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب وعمالاتها واقتسموه وأمدّهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر، وكان فيهم من كل القبائل من العرب. وكان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأوّل. وكان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه، واقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى وتسعين من الهجرة، قاله صاحب المقياس، وبلد نكور ينتهي من المشرق إلى زواغة وجراوة ابن أبي الحفيظ [1] مسافة خمسة أيام وتجاوره من هنالك مطماطة، وأهل كدالة، ومرنيسة وغساسة أهل جبل مزك [2] وقلوع جاره التي لبني ورتندي، ولميد وزناتة، وينتهي من المغرب إلى مروان من غمارة، وبني حميد إلى مسطاسة وصنهاجة ومن ورائهم أوربة، حزب فرحون وبني ولميد وزناتة وبني يرنيان وبني واسن حزب قاسم صاحب صا والبحر جوفي نكور على خمسة أميال، فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها وكثر نسله واجتمع إليه قبائل غمارة وصنهاجة مفتاح وأسلموا على يده وقاموا بأمره، وملك تكسامان [3] ، وانتشر الإسلام فيهم. ثم ثقلت عليهم الشرائع والتكاليف وارتدّوا وأخرجوا صالحا وولّوا عليهم رجلا من نفزة يعرف بالرندي. ثم تابوا وراجعوا الإسلام وراجعوا صالحا فأقام فيهم إلى أن هلك بتلمسان [4] سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وولي أمره من بعده ابنه المعتصم بن صالح، وكان شهما شريف النفس كثير العبادة. وكان يلي الصلاة والخطبة لهم بنفسه، ثم هلك لأيام   [1] وفي نسخة أخرى: ابن أبي السميع. [2] وفي نسخة أخرى: جبل هرك. [3] وفي نسخة أخرى: تمسامان. [4] وفي نسخة أخرى: بتمسامان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 يسيرة وولي من بعده أخوه إدريس، فاختطّ مدينة نكور في عدوة الوادي ولم يكملها. وهلك سني ثلاث وأربعين ومائة وولي من بعده ابنه سعيد، واستفحل أمره، وكان ينزل مدينة تكسامان، ثم اختط مدينة نكور لأوّل ولايته ونزلها وهي التي تسمى لهذا العهد المزمة بين نهرين أحدهما نكور مخرجه من بلاد كزنارية [1] ومخرجه من مخرج وادي ورغة واحد، والثاني غيس [2] ومخرجه من بلد بني ورياغيل، يجتمع النهران في آكال [3] ، ثم يفترقان إلى البحر ويقال نكور من عدوة الأندلس بزليانة. وغزا المجوس نكور هذه في أساطيلهم سنة أربع وأربعين ومائة فغلبوا عليها واستباحوها ثمانيا. ثم اجتمع إلى سعيد البرانس، وأخرجوهم عنها، وانتقضت غمارة بعدها على سعيد فخلعوه وولّوا عليهم رجلا منهم اسمه مسكن [4] وتزاحفوا فأظهره الله عليهم وفرّق جماعتهم وقتل مقدّمهم واستوسق أمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين ومائة لسبع وثلاثين من أيامه. وقام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبّل مذهب سلفه في الاستقامة والاقتداء وكان له مع البربر حروب ووقائع إلى أن هلك سنة خمسين ومائتين لاثنتين وسبعين سنة من ملكه. وقام من بعده ابنه سعيد بن صالح وكان أصغر ولده فخرج إليه أخوه عبد الله وعمّه الرضي وظفر بهما بعد حروب كثيرة، فغرّب أخاه إلى المشرق ومات بمكة وأبقى على عمّه الرضي لذمة صهر بينهما. وقتل سائر من ظفر به من عمومته وقرابته، وأنهض لهما [5] سعادة الله بن هارون منهم، ولحق ببني يصليتن أهل جبل أبي الحسن ودلّهم على عورته. وبيّتوا معسكره واستولوا عليه، وأخذوا الآلة، وقتل منهم خلقا، ونجا سعادة الله بتلمسان [6] وتقبّض على أخيه ميمون فضرب عنقه. ثم سار سعادة الله إلى طلب الصلح فأسعفه وأنزله معه مدينة نكور، ثم غزا سعيد بقومه وأهل إيالته من غمارة بلاد بطوية ومرنيسة وقلوع جاره ورتندي وأصهر بأخيه إلى أحمد بن إدريس   [1] وفي نسخة أخرى: كزناية وفي النسخة الباريسية: كزيانة. [2] وفي النسخة الباريسية: عيش. وفي نسخة ثانية: عيس. [3] وفي نسخة أخرى: آكدال. [4] وفي نسخة أخرى: مسكن. [5] وفي نسخة أخرى: وامتعض لهم. [6] وفي نسخة أخرى: الى تمسامان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 بن محمد بن سليمان صاحبه. وأنزله مدينة نكور معه. وتوطأ الأمر لسعيد في تلك النواحي إلى أن خاطبه عبد الله المهدي يدعوه إلى أمره وفي أسفل كتابه لهم: وإن تستقيموا أستقم بصلاحكم ... وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا وأعلو بسيفي قاهرا لسيوفكم ... وأدخلها عفوا واملؤها قتلا فكتب إليه شاعره الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد: كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ... ولا علم الرحمن من قولك الفضلا وما أنت إلّا جاهل ومنافق ... تمثّل للجهّال في السنّة المثلى وهمّتنا العليا لدين محمّد ... وقد جعل الرحمن همّتك السفلى فكتب عبد الله إلى مصالة بن حبّوس صاحب تاهرت، وأغزى إليه فغزاه سنة أربع وثلاثمائة لأربع وخمسين من دولته، فغلبهم سعيد وقومه أياما. ثم غلبهم مصالة وقتلهم، وبعث برءوسهم إلى رقادة، فطيف بها وركب بقيتهم البحر إلى مالقة، فتوسّع الناصر في إنزالهم إجارتهم واستبلغ في تكريمهم وأقام مصالة بمدينة نكور ستة أشهر. ثم قفل إلى تاهرت وولّى عليها دلول من كتامة، فانفضّ العسكر من حوله، وبلغ الخبر إلى بني سعيد بن صالح وقومهم بمالقة، وهمّ إدريس والمعتصم وصالح، فركبوا السفن إليها، وسبق صالح إليها منهم، فاجتمع البربر بمرسى تكسامان وبايعوه سنة خمس وثلاثمائة، ولقّبوه القيّم لصغره، وزحفوا إلى دلول فظفروا به وبمن معه وقتلوهم، وكتب صالح بالفتح إلى الناصر، وأقام دعوته بأعماله وبعث إليه الناصر بالهدايا والتحف والآلة، ووصل إليه إخوته وسائر قومه وأتوا طاعة. ولم يزل على هدى أوّليه من الاقتداء إلى أن هلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة وولي بعده ابنه عبد البديع، ولقّب المؤيد، وزحف إليه موسى بن أبي العافية القائم بدعوة العبيديين بالمغرب، فحاصره وتغلّب عليه فقتله، واستباح المدينة وخرّبها سنة سبع عشرة وثلاثمائة. ثم راجع إليها وقام بأمرهم أبو نور [1] إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور وأعاد المدينة التي بناها صالح بن منصور وعمّرها وسكنها ثلاثا. ثم أغزى ميسور مولى أبي القاسم بن عبد الله صندلا مولاه عند ما أناخ على فاس، فبعث عسكرا مع صندل هذا فحاصر جراوة، ثم   [1] وفي نسخة أخرى: أبو أيوب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 عطف على نكور وتحصّن منه إسماعيل بن عبد الملك بفلعة اكدى. وبعث إليه صندل رسله من طريقه فقتلهم فأغذّ السير وقاتله ثمانية أيام. ثم ظفر به فقتله واستباح القلعة وسباها، واستخلف عليها من كتامة رجلا اسمه مرمازو، ووصل صندل إلى فاس فترافع أهل نكور وبايعوا الموسى بن المعتصم بن محمد بن قرّة بن المعتصم بن صالح بن منصور وكان عند أبي الحسن عند يصليتن وكان يعرف بابن رومي. وقال صاحب المقياس: هو موسى بن رومي بن عبد السميع بن رومي بن إدريس بن صالح بن إدريس بن صالح بن منصور، وأخذ مرمازو ومن معه وضرب أعناقهم، وبعث برءوسهم إلى الناصر. ثم ثار عليه من أعياص بيته عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح بن منصور، فخلعه وأخرجه عن نكور سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ولحق موسى بالأندلس ومعه أهله وولده وأخوه هارون بن رومي وكثير من عمومته وأهل بيته، فمنهم من نزل معه المريّة ومنهم من نزل مالقة. ثم انتقض أهل نكور على عبد السميع وقتلوه. واستدعوا من مالقة جريج [1] بن أحمد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور، فبادر إليهم وبايعوه سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فاستقامت له الأمور وكان على مذهب سلفه في الاقتداء والعمل بمذهب مالك إلى أن مات آخر سنة ستين وثلاثمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه، واتصلت الولاية في بنيه إلى أن غلب عليهم أزداجة المتغلّبون على وهران، وزحف أميرهم يعلى بن أبي الفتوح الأزداجي سنة ست وأربعمائة، وقتل سنة عشر فغلبهم على نكور وخرّبها، وانقرض ملكهم بعد ثلاثمائة سنة وأربعة عشر سنة من لدن ولاية صالح، وبقيت في بني يعلى بن أبي الفتوح وأزداجة إلى أعوام ستين وأربعمائة والله مالك الأمور لا إله إلا هو أهـ.   [1] وفي نسخة أخرى: جرثم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 (الخبر عن حاميم المتنبي من غمارة) كان غمارة هؤلاء عريقين في الجاهلية بل الجهالة والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير، وتنبّأ فيهم من مجكسة حاميم بن من الله بن جرير بن عمر بن رحفو [1] بن آزوال [2] بن مجكسة يكنّى أبا محمد وأبوه أبو خلف. تنبّأ سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة بجبل حاميم المشتهر به قريبا من تطوان، واجتمع إليه كثير منهم وأقرّوا بنبوّته وشرع لهم الشرائع والديانات من العبادات والأحكام، وصنع لهم قرآنا كان يتلوه عليهم بلسانه. فمن كلامه: «يا من يخلى البصر، ينظر في الدنيا، خلني من الذنوب يا من أخرج موسى من البحر آمنت بحاميم وبأبيه أبي خلف من الله وآمن رأسي وعقلي وما يكنّه صدري، وما أحاط به دمي ولحمي، وآمنت تبانعنت [3] عمّة حاميم أخت أبي خلف من الله» ، وكانت كاهنة ساحرة إلى غير هذا، وكان يلقّب المفتري، وكانت أخته دبّو ساحرة كاهنة، وكانوا يستغيثون بها في الحروب والقحوط، وقتل في حروب مصمودة بأحواز طنجة سنة خمسة عشر وثلاثمائة، وكان لابنه عيسى من بعده قدر جليل في غمارة، ووفد على الناصر. ورهطهم بنو زحفوا موطنون وادي لاو ووادي راس قرب تطوان، وكذلك تنبّأ منهم بعد ذلك عاصم بن جميل اليزدجومي، وله أخبار مأثورة، وما زالوا يفعلون السحر لهذا العهد. وأخبرني المشيخة من أهل المغرب أن أكثر منتحلي السحر منهم النساء العواتق. قال: ولهم علم استجلاب روحانية ما يشاؤنه من الكواكب، فإذا استولوا عليه وتكنّفوا بتلك الروحانية تصرّفوا منها في الأكوان بما شاءوا والله أعلم. (الخبر عن دولة الادارسة وهي غمارة وتصاريف أحوالهم) كان عمر بن إدريس عند ما قسّم محمد بن إدريس أعمال المغرب بين إخوته برأي   [1] وفي النسخة الباريسية: وصفوال. [2] وفي نسخة أخرى: آزروال. [3] وفي نسخة أخرى: بنابعيت وفي النسخة الباريسية: بتايغيت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 جدّته كثيرة [1] أمّ إدريس اختصّ منها بتكيباس [2] وترغه وبلاد صنهاجة وغمارة، واختص القاسم بطنجة وسبتة والبصرة وما إلى ذلك من بلاد غمارة. ثم غلب عمر عليها عند ما تنكّر له أخوه محمد واستضافها إلى عمله كما ذكرنا في أخبارهم. ثم تراجع بنو محمد بن القاسم من بعد ذلك إلى عملهم الأول فملكوه، واختص منهم محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم قلعة حجر النسر الدانية وسبتة معقلا لهم وثغرا لعملهم. وبقيت الإمارة بفاس وأعمال المغرب في ولد محمد بن إدريس. ثم أدالوا منهم بولد عمر بن إدريس، وكان آخرهم يحيى بن إدريس بن عمر وهو الّذي بايع لعبيد الله الشيعي على يده مصالة بن حبّوس قائده، وعقد له على فاس، ثم نكبه سنة تسع وثلاثمائة. وخرج عليها سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة من بني القاسم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس وتلقّب الحجّام لطعنه في المحاجم، وكان مقداما شجاعا، وثار أهل فاس بريحان وملّكوا الحسن، وزحف إليه موسى ففلّه ومات. واستولى ابن أبي العافية على فاس وأعمال المغرب، وأجلى الأدارسة وأحجرهم بحصنهم حجر النسر، وتحيّزوا إلى جبال غمارة وبلاد الريف، وكان لغمارة في التمسّك بدعوتهم آثار ومقامات، واستجدوا بتلك الناحية ملكا توزّعوه قطعا، كان أعظمها لبني محمد هؤلاء ولبني عمر بتيكيسان [3] ونكور وبلاد الريف. ثم سما الناصر عبد الرحمن إلى ملك العدوة ومدافعة الشيعة فنزل له بنو محمد عن سبتة سنة تسع وثلاثمائة وتناولها من يد الرضي بن عصام رئيس محكمة، وكان يقيم فيها دعوة الأدارسة فأفرجوا له عنها ودانوا بطاعته وأخذها من يده ولما أغزا أبو القاسم ميسورا إلى المغرب لمحاربة ابن أبي العافية حين نقض طاعتهم ودعا للمروانية وجدّ بنو محمد السبيل إلى الانتصار والانتقام منه بمظاهرة ميسور عليه، وما لأهم على ذلك بنو عمر صاحب نكور. ولما استقل ابن أبي العافية من نكسته ورجع من الصحراء سنة خمس وعشرين   [1] وفي نسخة أخرى: كنزة. [2] وفي نسخة أخرى: تيكيساس. [3] وفي نسخة أخرى: بتيكيساز وقد مرت معنا من قبل تيكيساس وهو الاسم الصحيح، وقد وردت في المعجم التاريخي تيجيساس: مدينة صغيرة ومرسى بحري وأنها محاطة بالحدائق الغنّاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 وثلاثمائة منصرف ميسور من المغرب نازل بني محمد وبني عمرو هلك بعد ذلك. وأجاز الناصر وزيره قاسم بن محمد بن طملس سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة لحربهم، وكتب إلى ملوك مغراوة محمد بن خزر وابنه الخير بمظاهرة عساكره مع ابن أبي العيش عليهم، فتسارع أبو العيش بن إدريس بن عمر المعروف بابن وصالة، الى الطاعة، وأوفد رسله إلى الناصر فعقد له الأمان، وأوفد ابنه محمد بن أبي العيش مؤكدا للطاعة، فاحتفل لقدومه وأكّد له العقد، وتقبّل سائر الادارسة من بني محمد مذهبهم. وسألوا مثل سؤالهم، فعقد لجميع بني محمد أيضا، وكان وفد منهم محمد بن عيسى ابن أحمد بن محمد والحسن بن القاسم بن إبراهيم بن محمد، وكان بنو إدريس يرجعون في رياستهم إلى بني محمد هؤلاء منذ استبدّ بها آخرهم الحسن بن محمد الملقّب بالحجّام في ثورته على ابن أبي العافية، فقدّموا على أنفسهم القاسم بن محمد الملقّب بكنّون بعد فرار موسى بن أبي العافية، وملك بلاد المغرب ما عدا فاس مقيما لدعوة الشيعة إلى أن هلك بقلعة حجر النسر سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وقام بأمرهم من بعده أبو العيش أحمد بن القاسم كنّون، وكان فقيها عالما بالأيام والأخبار شجاعا ويعرف بأحمد الفاضل، وكان منه ميل للمروانية فدعا للناصر، وخطب له على منابر عمله ونقض طاعة الشيعة. وبايعه أهل المغرب كافة إلى سجلماسة. ولما بايعه أهل فاس استعمل عليهم محمد بن الحسن ووفد محمد بن أبي العيش بن إدريس بن عمر بن مصالة على الناصر عن أبيه سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة فاتصل به وفاة أبيه وهو بالحضرة فعقد له الناصر على عمله وسرّحه، وهجم عيسى ابن عمه أبي العيش أحمد بن القاسم كنّون على عمله بتيكيسان في غيبة محمد، فملكها واحتوى على مال ابن مصالة ولما أقبل محمد من الحضرة زحف برابرة غمارة إلى عيسى المذكور ابن كنّون ففظّعوا به وأثخنوه جراحة، وقتلوا أصحابه ببلاد غمارة. وأجاز الناصر قوّاده إلى المغرب، وكان أوّل من أجاز إلى بني محمد هؤلاء سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة أحمد بن يعلى من طبقة القوّاد، أجازه إليهم في العساكر ودعاهم إلى هدم تطوان فامتنعوا، ثم انقادوا وتنصّلوا وأجابوا إلى هدمها. ورجع عنهم فانتقضوا فسرّح إليهم حميد بن يصل [1] المكناسي في العساكر سنة تسع   [1] وفي النسخة الباريسية: نصل وفي نسخة ثانية: مصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 وثلاثين وثلاثمائة وزحفوا إليه بوادي لاو فأوقع بهم فأذعنوا من بعدها، وتغلّب الناصر على طنجة من يد أبي العيش أمير بني محمد وبقي يصل على بيعة الناصر. ثم تخطّت عساكر الناصر إلى بسائط المغرب فأذعن له أهله، وأخذ بدعوته فيه أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة كما ذكرناه، فضعف أمر بني محمد واستأذنه أميرهم أبو العيش في الجهاد فأذن له وأمر ببناء القصور له في كل مرحلة من الجزيرة إلى الثغر، فكانت ثلاثين مرحلة، فأجاز أبو العيش واستخلف على عمله أخاه الحسن بن كنّون، وتلقّاه الناصر بالمبرّة وأجرى له ألف دينار في كل يوم، وهلك شهيدا في مواقف الجهاد سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة ولما أغزا معدّ قائده جوهرا الكاتب الى المغرب واستنزل عماله، وتحصّن الحسن بن كنّون منه بقلعة النسر معقلهم. وبعث إليه بطاعته فلم يعرض له جوهر. ولما قفل من المغرب راجع الحسن الطاعة للناصر إلى أن هلك سنة خمسين وثلاثمائة فأشحذ الحكم عزمه في سد ثغور المغرب وإحكام دعوتهم فيه. وشحذ لها عزائم أوليائهم من ملوك زناتة، فكان بينهم وبين زيري وبلكّين ما ذكرناه. ثم أغزى معدّ بلكّين بن زيري المغرب سنة اثنتين وستين وثلاثمائة أولى غزواته، فأثخن في زناتة وأوغل في ديار المغرب. وقام الحسن بن كنّون بدعوة الشيعة ونقض طاعة المروانية، فلما انصرف بلكّين أجاز الحكم عساكره إلى العدوة مع وزيره محمد بن قاسم بن طملس سنة اثنتين وستين وثلاثمائة لقتال الحسن بن كنّون وبني محمد، فكان الظهور والفلاح للحسن على عسكر الحكم. وقتل قائده محمد بن طملس وخلقا كثيرا من عسكره وأوليائه. ودخل فلّهم إلى سبتة واستصرخوا الحكم، فبعث غالبا مولاه البعيد الصيت المعروف بالشهامة، وأمدّه بما يعينه على ذلك من الأموال والجنود، وأمره باستنزال الأدارسة وأجاز بهم إليه، وقال سريا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلّا حيّا منصورا أو ميتا معذورا. واتصل خبره بالحسن بن كنّون فأفرج عن مدينة البصرة واحتمل منها أمواله وحرمه وذخيرته إلى حجر النسر معقلهم القريب من سبتة، ونازلة غالب بقصر مصمودة فاتصلت الحرب بينهم أياما. ثم بثّ غالب المال في رؤساء البربر من غمارة ومن معه من الجنود وفرّوا وأسلموه، وانحجز بقلعة جبل النسر [1] ونازلة غالب وأمدّه الحكم بعرب الدولة ورجال الثغور،   [1] وفي نسخة أخرى: حجر النسر. وهو الأصح. كما في قبائل المغرب/ 116. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 وأجازهم مع وزيره صاحب الثغر الأعلى يحيى بن محمد بن إبراهيم التجيبي فيمن معه من أهل بيته وحشمه سنة ثلاث وستين وثلاثمائة فاجتمع مع غالب على القلعة، واشتدّ الحصار على الحسن، وطلب من غالب الأمان فعقد له وتسلّم الحصن من يده. ثم عطف على من بقي من الأدارسة ببلاد الريف فأزعجهم وسيرهم شردا، واستنزل جميع الأدارسة من معاقلهم وسار إلى فاس فملكها واستعمل عليها محمد بن علي بن قشوش في عدوة القرويين، وعبد الكريم بن ثعلبة الجذامي في عدوة الأندلس. وانصرف غالب إلى قرطبة ومعه الحسن بن كنّون وسائر ملوك الأدارسة، وقد مهّد المغرب وفرّق عماله في جهاته، وقطع دعوة الشيعة، وذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة، وتلقّاهم الحكم وأركب الناس للقائهم. وكان يوم دخولهم إلى قرطبة أحفل أيام الدولة. وعفا عن الحسن بن كنّون ووفّى له بالعهد، وأجزل له ولرجاله العطاء والخلع والجعالات، وأوسع عليه الجراية وأسنى لهم الأرزاق ورتّب من حاشيتهم في الديوان سبعمائة من أنجاد المغاربة. وتجنّى عليه بعد ثلاث سنين بسؤاله من الحسن قطعة عنبر عظيمة تأدّت إليه من بعض سواحل عمله بالمغرب أيام ملكه، فاتخذ منها أريكة يرتفقها ويتوسّدها، فسأله حملها إليه على أن يحكمه في رضاه، فأبى عليه مع سعاية بني عمّه فيه عند الخليفة، وسوء خلق الحسن ولجاجته، فنكبه واستصفى ما لديه من قطعة العنبر وسواها. واستقام المغرب للحكم وتظافر أمراؤه على مدافعة بلكّين، وعقد الوزير المنصوري [1] لجعفر بن علي على المغرب، واسترجع يحيى بن محمد بن هاشم وغرب الحسن بن كنّون الأدارسة جميعا إلى المشرق استثقالا لنفقاتهم، وشرط عليهم أن لا يعودوا، فعبروا البحر من المريّة سنة خمس وستين وثلاثمائة، ونزلوا من جوار العزيز معدّ بالقاهرة خير نزل، وبالغ في الكرامة ووعد بالنصرة والترة. ثم بعث الحسن بن كنّون إلى المغرب وكتب له إلى آل زيري بن مناد بالقيروان بالمظاهرة، فلحق بالمغرب ودعا لنفسه. وبعث المنصور بن أبي عامر العساكر لمدافعته فغلبوه وتقبّضوا عليه، وأشخصوه إلى الأندلس فقتل في طريقه كما ذكرناه في أخبارهم. وانقرض ملك   [1] وفي نسخة أخرى: المصحفي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 الأدارسة من المغرب أجمع إلى أن كان رجوع الأمر لبني حمّود منهم ببلاد غمارة وسبتة وطنجة كما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 (الخبر عن دولة حمّود ومواليهم بسبتة وطنجة وتصاريف أحوالهم وأحوال غمارة من بعدهم) كان الأدارسة لمّا أجلاهم الحكم عن العدوة إلى المشرق، ومحا آثارهم من سائر بلاد المغرب واستقامت غمارة على طاعة المروانية، وأذعنوا لجند الأندلسيّين، ورجع الحسن بن كنّون لطلب أمرهم، فهلك على يد المنصور بن أبي عامر فانقرض أمرهم، وافترقت الأدارسة في القبائل ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب، واستحالت صبغتهم منه إلى البداوة. ولحق بالأندلس في جملة البرابرة من ولد عمر بن إدريس رجلان منهم وهم عليّ والقاسم ابنا حمّود بن ميمون بن أحمد ابن عليّ بن عبيد الله بن عمر بن إدريس، فطار لهما ذكر في الشجاعة والإقدام. ولما كانت الفتنة البربريّة بالأندلس بعد انقراض الدولة العامريّة، ونصب البرابرة سليمان ابن الحكم ولقّبوه المستعين، واختصّ به أبناء حمّود هذان، وأحسنوا العناء في ولايته، حتى إذا استولى على ملكه بقرطبة وعقد للمغاربة الولايات، عقد لعليّ بن حمود هذا على طنجة وأعمال غمارة فنزلها وراجع عهده معهم فيها. ثم انتقض ودعا لنفسه وأجاز إلى الأندلس، وولي الخلافة بقرطبة كما ذكرناه فعقد على عمله بطنجة لابنه يحيى. ثم أجاز يحيى إلى الأندلس بعد مهلك أبيه عليّ منازعا لعمّه القاسم، واستقل أخوه إدريس من بعده بولاية طنجة وسائر أعمال أبيه بالعدوة من مواطن غمارة. ثم أجاز بعد مهلك أخيه يحيى بمالقة فاستدعى رجال دولتهم، وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على عملهم بسبتة وطنجة، وأنفذ نجا الخادم معه ليكون تحت نظره واستبداده. ولمّا هلك إدريس واعتزم ابن بقيّة على الاستبداد بمالقة أجاز نجا الخادم لحسن بن يحيى من طنجة فملك مالقة ورتّب أمره في خلافته ورجع إلى سبتة. وعقد لحسن على عملهم في مواطن غمارة حتى إذا هلك حسن أجاز نجا إلى الأندلس يروم الاستبداد. واستخلف على العمل من وثق به من الموالي الصقلبية، فلم يزل إلى نظرهم واحدا بعد آخر إلى أن استقلّ بسبتة وطنجة من موالي بني حمّود هؤلاء الحاجب سكوت البرغواطي، كان عبدا للشيخ حداد من مواليهم اشتراه من سبي برغواطة في بعض أيام جهادهم. ثم صار إلى عليّ بن حمّود فأخذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 النجابة بطبعه إلى أن استقلّ بأمرهم واقتعد كرسي عملهم بطنجة وسبتة، وأطاعته قبائل غمارة. واتصلت أيام ولايته إلى أن كانت دولة المرابطين، وتغلّب ابن تاشفين على مغراوة بفاس. ونجا فلّهم إلى بلاد الدمنة من آخر بسيط المغرب مما يلي بلاد غمارة، ونازلهم يوسف بن تاشفين سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ودعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم، فهمّ بالانحياش ومظاهرته على عدوّه. ثم ثنّاه عن ذلك ابنه القائل الرأي. فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الدمنة وأوقع بهم وافتتح حصن علودان من حصون غمارة من ورائه، وانقاد المغرب لحكمه، صرف وجهه إلى سكوت فجهّز إليه العساكر وعقد عليها للقائد صالح بن عمران من رجال لمتونة، فتباشرت الرعايا بمقدمهم وانثالوا عليهم. وبلغ الخبر الى الحاجب سكوت فأقسم أن لا يسمع أحدا من رعيته هدير طبولهم، ولحق هو بمدينة طنجة ثغر عمله. وقد كان عليه من قبله ابنه ضياء الدولة المعز، وبرز للقائهم فالتقى الجمعان بظاهر طنجة وانكشفت عساكر سكوت، وطحنت رحى المرابطين، وسالت نفسه على ظباهم، ودخلوا طنجة واستولوا عليها، ولحق ضياء الدولة بسبتة. ولما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس، وبعث ابن عبّاد صريخه إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مستنجزا وعده في جهاد الطاغية والذبّ عن المسلمين، وكاتبه أهل الأندلس كافة بالتحريض إلى الجهاد، وبعث ابنه المعزّ سنة ست وسبعين وأربعمائة في عسكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها برّا وأحاطت بها أساطيل ابن عبّاد بحرا، واقتحموها عنوة. وتقبّض على ضياء الدولة، واقتيد إلى المعزّ فطالبه بالمال لانحائه فأساء إيجابه فقتله لوقته، وعثر على ذخائره وفيها خاتم يحيى بن عليّ بن حمّود. وكتب إلى أبيه بالفتح، وانقرضت دولة بني حمّود وانمحى آثارهم وسلطانهم من بني غمارة [1] ، وأقاموا في طاعة لمتونة سائر أيامهم. ولما نجم [2] المهدي بالمغرب واستفحل أمر الموحّدين بعد مهلكه، تنقّل خليفته عبد المؤمن في بلادهم في غزاته الكبرى ففتح المغرب سنة سبع وثلاثين وما بعدها قبل استيلائه على مراكش كما نذكره في أخبارهم، واتبعوا أثره ونازلوا سبتة في عساكره.   [1] وفي نسخة أخرى: وامّحى أثر سلطانهم من بلاد غمارة. [2] يقال: «نجم في بني فلان شاعر أو فارس» إذا نبع (القاموس) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 وامتنعت عليهم، وتولّى كبر امتناعها قائدهم عيّاض الطائر الذكر رئيسهم لذلك العهد بدينه وأبوّته وعلمه ومنصبه. ثم افتتحت بعد فتح مراكش سنة إحدى وأربعين فكانت لغمارة هؤلاء السابقة التي رعيت لهم سائر أيام الدولة. ولما فشل أمر بني عبد المؤمن وذهبت ريحهم، وكثر الثوار بالقاصية، ثار فيهم ابن محمد الكتامي سنة خمس وعشرين، كان أبوه من قصر كتامة منقبضا عن الناس وكان ينتحل الكيميا وتلقّنه عنه ابنه محمد هذا. وكان يلقّب أبا الطواحن فارتحل إلى سبتة ونزل على بني سعيد وادّعى صناعة الكيميا فاتبعه الغوغاء. ثم ادّعى النبوّة وشرّع شرائع، وأظهر أنواعا من الشعوذة فكثر تابعه. ثم اطلعوا على خبثه ونبذوا إليه عهده. وزحفت عساكر سبتة إليه ففرّ عنها، وقتله بعض البرابرة غيلة. ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب وأمصاره سنة أربعين وستمائة، واستولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان وستين وستمائة فامتنع قبائل غمارة من طاعتهم واستعصوا عليهم، وأقاموا بمنجاة من الطاعة، وعلى ثبج من الخلاف، وامتنعت سبتة من ورائهم على ملوك بني مرين بسبب امتناعهم وصار أمرها إلى الشورى، واستبدّ بها الفقيه أبو القاسم العزفي من مشيختهم، كما سنذكر ذلك كله، إلى أن وقع بين قبائل غمارة ورؤسائهم فتن وحروب، ونزعت إحدى الطائفتين إلى طاعة السلطان بالمغرب من بني مرين فأتوها طواعية. وأدخل الآخرون في الطاعة تلوهم طوعا أو كرها، فملك بنو مرين أمرهم، واستعملوا عليهم، وتخطّوا إلى سبتة من ورائهم فملكوا أمر العزفيّين سنة سبع وعشرين وسبعمائة على ما نذكره بعد عند ذكر دولتهم. وهم الآن على أحسن أحوالهم من الاعتزاز والكثرة يؤتون طاعتهم وجبايتهم عند استقلال الدولة، ويمرضون فيها عند التياثها بفشل واشتغال بمحاربها [1] فتجهّز البعوث إليهم من الحضرة حتى يستقيموا على الطاعة، ولهم بوعورة جبالهم عزّ ومنعة وجوار لمن لحق بهم من أعياص الملك، ومستأمني الخوارج إلى هذا العهد. ولبني يكم من بينهم الحظ الوافر من ذلك لإشراف جبلهم على سائرها وسموه بقلاعه [2] إلى مجاري السحب دونها وتوعّر مسالكه بهبوب الرياح فيها. وهذا الجبل مطل على سبتة من غربيها ورئيسه منهم وصاحب   [1] وفي نسخة ثانية: أو شغل بخارج. [2] وفي نسخة ثانية: سموّ بقاعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 أمره يوسف بن عمر وبنوه، ولهم فيه عزّة وثروة، وقد اتخذوا به المصانع والغروس وفرض لهم السلطان بديوان سبتة العطاء، وأقطعهم ببسيط طنجة الضياع استئلافا لهم وحسما لزبون سائر غمارة بإيناس طاعتهم، وللَّه الخلق والأمر بيده ملكوت السموات والأرض. (الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصى من بطون المصامدة وما كان لهم من الظهور والأحوال ومبادئ أمورهم وتصاريفها) هذه الجبال بقاصية المغرب من أعظم جبال المعمور ربما أعرق في الثرى أصلها وذهبت في السماء فروعها، ومدّت في الجوّ هياكلها، ومثلت سياجا على ريف المغرب سطورها تبتدئ من ساحل البحر المحيط عند أسفى وما إليها، وتذهب في المشرق إلى غير نهاية. ويقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة، وهي في الجانب مما يلي مراكش قد ركب بعضها بعضا متتالية على نسق من الصحراء إلى التل. يسير الراكب فيه متعرّضا من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعه من القبلة ثمان مراحل وأزيد، تفجّرت فيها الأنهار، وجلل الأرض، حمراء الشعراء [1] وتطابقت بينها ظلال الأدواح. وزكت فيها مواد الزرع والضرع، وانفسحت مسارح الحيوان ومراقع الصيد، وطابت منابت الشجر، ودرت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلّا خالقهم، قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيّدوا المباني والقصور واستغنوا بقطرهم عن سائر أقطار العالم، فرحل إليهم التجر من الآفاق، واختلفت إليهم أهل النواحي والأمصار، ولم يزالوا مذ أوّل الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد أوطنوا منها أقاليم تعدّدت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم، وافترقت أسماؤها بافتراق أجيالهم [2] . تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازان حيث تبتدئ مواطن صنهاجة [3] ويحفّون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس وقبائل هؤلاء   [1] وفي نسخة ثانية: خمر الشّعراء. [2] وفي نسخة ثانية: أحيائهم. [3] وفي نسخة ثانية: صناكة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 المصامدة بهذه المواطن كثيرة فمنهم: هرغة وهنتاتة وتين ملّل وكدموية وكنفيسة ووريكة وركراكة وهزميرة ودكالة وحاحة وأمادين [1] وازكيت [2] وبنو ماكر وإيلانة ويقال هيلانة. ويقال أيضا أن إيلان هو ابن بر، أصهر المصامدة فكانوا حلفاء لهم [3] . ومن بطون أمادين مصفاوة وماغوس، ومن مصفاوة دغاغة وبوطنان، ويقال إن غمارة ورهون وأمل من أمادين والله أعلم. ويقال إنّ من بطون حاحة زكن وولخصن الظواعن الآن بأرض السوس أحلافا لذوي حسّان المتغلّبين عليها من عرب المعقل. ومن بطون كنفيسة أيضا قبيلة سكسباوة [4] الموطنون بأمنع المعاقل بهذه الجبال المطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة وعلى ساحل البحر المحيط من المغرب، ولهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم نذكره بعد. وكان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدّين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم. وكان من مشاهيرهم كثير [5] بن وسلاس بن شملال بن أمادة وهو يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك. دخل الأندلس وشهد الفتح مع طارق في آخرين من مشاهيرهم استقرّوا بالأندلس. وكان لأعقابهم بها ذكر في الدولة الأموية. كان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء. ولهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن سائر أيامهم حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين، ومن صنهاجة بإفريقية حسبما هو مشهور ونأتي الآن بذكره إن شاء الله، وباللَّه التوفيق، لا رب سواه، ولا معبود إلّا إياه.   [1] وفي نسخة ثانية: أصّادن. [2] وفي النسخة الباريسية: واركيت. [3] وفي نسخة أخرى: فكانوا خلفاءهم. [4] وفي نسخة أخرى: سكسيوة. [5] وفي نسخة ثانية: كسير وفي النسخة الباريسية: كير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 (الخبر عن مبدإ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها على يد بني عبد المؤمن من السلطان والدولة بالعدوتين وإفريقية وبداية ذلك وتصاريفه) لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيما، وجماعتهم موفورة وبأسهم قويا، وفي أخبار الفتح من حروبهم عقبة بن نافع وموسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور إلى أن أظلتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلا، وشأنهم على أهل السلطان والدولة مهما، حتى لما اختطّوا مدينة مراكش لنزلهم جوار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 مواطنهم من درن ليتميزوا عمن سواهم [1] ويذللوا من صعابهم. وفي عنفوان تلك الدولة على عهد علي بن يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت [2] صاحب دولة الموحّدين المشتهر بالمهديّ، أصله من هرغة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمّى أبوه عبد الله وتومرت، وكان يلقّب في صغره أيضا أمغار، وهو محمد ابن عبد الله بن وجلّيد ابن بامصال [3] بن حمزة بن عيسى فيما ذكر ابن رشيق وحقّقه ابن القطّان. وذكر بعض مؤرخي المغرب أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا ابن سفيون بن الكلديس بن خالد [4] . وزعم كثير من المؤرّخين أن نسبه في أهل البيت، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان ابن سفيان بن صفوان بن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر. الواقع نسب الكثير من بيته في المصامدة وأهل السوس. كذا ذكر ابن نحيل في سليمان هذا، وأنه لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس، ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب قال: فمن ولده كل طالبي بالسوس، وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب، وأن رباحا الّذي في عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار العبّاس بن محمد بن الحسن، وعلى الأمرين فإن نسبة الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة ورسخت عروقه فيهم، والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم، وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم. وكان أهل بيته أهل نسك ورباط. وشبّ محمد هذا قارئا محبا للعلم، وكان يسمى أسافو، ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد لملازمتها. وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة، ومرّ بالأندلس ودخل قرطبة وهي إذ ذاك دار علم. ثم أجاز إلى الإسكندرية وحجّ ودخل العراق ولقي جلّة من العلماء   [1] وفي نسخة أخرى: ليتمرّسوا بهم. [2] يوجد شخص اسمه محمد بن عبد الله بن تومرت وهو صاحب كنز العلوم ودر المنظوم في حقائق علم الشريعة ودقائق علم الطبيعة. (توجد منه نسخة في المكتبة الخديوية) ويرى بروكلمان- في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية- أن اسمه الحقيقي هو محمد بن علي بن تومرت وأنه أندلسي توفي سنة 391 هـ، إلا أنه ينسب كنز العلوم هو وهوارت الى المهدي، وسبب الخلط ان في هذا الكتاب نقد نظرية التجسيم. وقد ذكر ابن الأثير محمد بن تومرت كان معاصرا للمهدي وهو الّذي كان يقترف جرائم القتل الجماعي في عهد المهدي. [3] وفي النسخة التونسية تامصال. وفي نسخة ثانية: يامصال. [4] وفي نسخة أخرى: محمد بن تومرت بن تيطاوين بن سافلا بن مسيغون ابن ايكلديس بن خالد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 يومئذ وفحول النظار، وأفاد علما واسعا وكان يحدّث نفسه بالدولة لقومه على يده لما كان الكهّان والحزّاء يتحيّنون ظهور دولة يومئذ بالمغرب. ولقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي، وفاوضه بذات صدره بذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة وتقويض أركان السلطان الجامع الأمة، المقيم للملّة بعد أن ساء له عمن له من العصابة والقبائل التي يكون بها الاعتزاز والمنعة، ونشأ بها يتم أمر الله في درك البغيّة وظهور الدعوة. وانطوى هذا الإمام راجعا إلى المغرب بحرا متفجّرا من العلم، وشهابا واريا من الدين. وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنّة وأخذ عنهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفيّة والذبّ عنها بالحجج العقليّة الدافعة في صدر أهل البدعة. وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل وإقرار التشابهات كما جاءت. ففطن أهل المغرب في ذلك وحملهم على القوم بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة في التوحيد. وكان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة، وألف في ذلك كتابه في الإمامية الّذي افتتحه بقوله: أعزّ ما يطلب وصار هذا المفتتح لقبا على ذلك الكتاب، وأحل [1] بطرابلس أول بلاد المغرب معنيا بمذهبه ذلك مظهرا النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه، آخذا نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع، حتى لقي بسبب ذلك أذيّات في نفسه احتسبها من صالح عمله [2] . ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس ابن حماد من أمراء صنهاجة. وكان من المترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير. وتعرّض يوما لتغيير بعض المنكرات في الطرق، فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به، فخرج منها خائفا ولحق بملالة على فرسخ منها، وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة. وكان لهم اعتزاز ومنعة، فآووه وأجاروه وطلبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه فأبوا وأسخطوه، وأقام بينهم يدرس العلم أياما. وكان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريبا من ديار ملالة، وهي لهذا العهد   [1] وفي نسخة أخرى: احتلّ. [2] وفي نسخة اخرى: اعماله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 معروفة. وهناك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجا مع عمه فأعجب بعلمه، وانتهى عزمه عن وجهه ذلك، واختصّ به وتشمّر للأخذ عنه. وارتحل المهدي إلى المغرب وهو في جملته. ولحق بوانشرس. وصحبه منها البشير من جملة أصحابه. ثم لحق بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة ووبّخه على منتحله ذلك، وخلافه لأهل قطره. وظنّ أن من العدل نزعه عن ذلك، فصمّ عن قبوله. واستمر على طريقه إلى فاس، ثم إلى مكناسة ونهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء. فأوجعوه ضربا، ولحق بمراكش وأقام بها آخذا في شأنه. ولقي علي بن يوسف بالمسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له القول. ولقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملّثمين في زي نسائهم فوبخها، ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه، ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته. وكانوا ملئوا منه حسدا وحفيظة لما كان ينتحل مذهب الأشعريّة في تأوي المتشابه وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إقراره كما جاء. ويرى أن الجمهور لقّنوه تجسيما، ويذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأشعرية في التكفير فمال الرأي فأغروا الأمير به فأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح والظهور عليهم، وخرج من مجلسه ونذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات، وغيّر المناكير على عادته وأغرى به أهلها علي بن يوسف وطيّروا إليه بخبره فخرج عنها هو وتلميذه الذين كانوا في صحابته، ودعا إسماعيل بن أيكيك من أصحابه وهو من أنجاد قومه [1] ، وخرج به إلى منجاة من جبال المصامدة. لحق أولا بمسفيوه، ثم بهنتاتة. ولقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي، وهو أبو حفص ويعرف بيته ابن هنتاتة ببني فاصكات. وتقول نسّابتهم إن فاصكات هو جد وانودين، ويقال لهنتاتة بلسانهم هنتي فلذلك كان يعرف عمر بهنتي وسيأتي الكلام في تحقيق نسبهم عند ذكر دولتهم. ثم ارتحل المهدي عنهم إلى ايكيلين من بلاد هرغة، فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة. وبنى رابطة للعبادة اجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلّمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري. وشاع أمره في صحبته واستدرك فقيه العلمية بمجلس   [1] وفي نسخة أخرى: ودعا إسماعيل بن ايكيك من أصحابه مائتين من انجاد قومه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 الأمير علي بن يوسف وهو مالك بن وهيب أغراه به. وكان حزّاء ينظر في النجوم وكان الكهّان يتحدثون بأن ملكا كائن بالمغرب لأمة من البربر ويتغيّر فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويّين من السيارة يقتضي ذلك في أحكامهم، وكان الأمير يتوقّعها، فقال: احتفظوا بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران. والدرهم المربع في كلام سفساف بسجع سوقي يتناقلها الناس نصه وهو: أجعل على رجله كبلا لئلا يسمعك طبلا وأظنه صاحب الدرهم المربّع، فطلبه علي بن يوسف ففقده وسرّح الخيالة في طلبه ففاتهم، وداخل عامل السوس، وهو أبو بكر ابن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله، ونذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل أشياعهم [1] ، وقتلوا من داخل في أمره. ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد، وقتال المجسمين دونه سنة خمسة عشر وخمسمائة، فتقدّم إليها رجالاتهم من العشرة وغيرها. وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن يكيبت ويونس [2] بن وانودين وابن يغمور، ومن تين ملّل أبو حفص عمر بن علي الصناكي ومحمد بن سليمان وعمرو بن تافراتكين [3] وعبد الله بن ملويات. وأهب [4] قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم، ثم دخل معهم كيدموية [5] وكنفيسة، ولما كملت بيعته لقّبوه بالمهديّ وكان لقبه قبلها الإمام. وكان يسمى أصحابه الطلبة، وأهل دعوته الموحّدين، ولمّا تمّ له خمسون من أصحابه سمّاهم ايت الخمسين. وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتين ملّل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح. وكان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وتردّدت عساكر لمتونة إليهم مرّة بعد أخرى ففضّوهم، وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تين ملّل فأوطنه، وبنى داره ومسجده بينهم حوالي منبع وادي نفيس. وقاتل من تخلّف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا هزرجة وأوقع بهم مرارا، ودانوا بالطاعة. ثم قاتل هسكورة ومعهم أبو دوقة اللمتوني فغلبهم وقفل فاتبعه   [1] وفي نسخة أخرى: امتناعهم. [2] وفي نسخة أخرى: يوسف. [3] وفي نسخة أخرى: تافركين. [4] وفي نسخة أخرى: اوعب. [5] وفي نسخة أخرى: كدميوه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 بنو واسكيت فأوقع بهم الموحّدون وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا. ثم غزا بلد غجرامة [1] وكان قد افتتحه وترك فيه الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به، وقتلوه فغزاهم واستباحهم. ورجع إلى تين ملّل وأقام بها إلى أن كان شأن البشير وميز الموحد من المنافق. وكانوا يسمّون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم، وجمع كافة أهل دعوته من المصامدة، وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم الى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر [2] بن علي بن يوسف وإبراهيم بن تاعباشت فهزمهم الموحّدون. وقتل إبراهيم واتبعوهم إلى مراكش، فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفا كلهم راجلين إلّا أربعمائة فارس. واحتفل علي بن يوسف الاحتشاد وبرز إليهم لأربعين من نزولهم خرج عليهم من باب إيلان فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وسبيا، وفقد البشير من أصحابه. واستحرّ القتل في هيلانة، وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء. وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها. وكان يسمّى أصحابه بالموحّدين تعريضا بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم. وكان حصورا لا يأتي النساء. وكان يلبس العباءة المرقّعة. وله قدم في التقشّف والعبادة، ولم تحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم والله تعالى أعلم. الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بنيه ووصف أحوالهم ومصاير أمورهم لما هلك المهدي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة [3] كما ذكرناه وقد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المتقدّم ذكره، ونسبه عند ذكر قومه، فقبره بمسجده لصق داره من تين ملّل. وخشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن بن علي لكونه من غير جلدتهم، فأرجئوا الأمر إلى أن تخالط بشاش الدعوة قلوبهم، وكتموا موته، زعموا ثلاث سنين   [1] وفي النسخة الباريسية: غجدامة. [2] وفي النسخة الباريسية: نكو وفي نسخة ثانية مكر. [3] وفد قبائل المغرب ان المهدي توفي سنة 524 هـ- 1130 م/ ص 127. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 يموّهون بمرضه، ويقيمون سنّته في الصلاة والحزب الراتب. يدخل أصحابه إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته، فيجلسون حوالي قبره ويتفاوضون في شئونهم بمحضر أخته زينب ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه، ويتولّاه عبد المؤمن بتلقينهم حتى إذا استحكم أمرهم وتمكّنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم، وتملأ من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن. وتولّى كبر ذلك الشيخ أبو حفص، وأراد هنتاتة وسائر المصامدة غلبه فأظهروا للناس موت المهدي، وعهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك. وروى يحيى بن يغمور أنه كان يقول في دعائه إثر صلواته: «اللَّهمّ بارك في الصاحب الأفضل» فرضي الكافة وانقادوا وأجمعوا على بيعته بمدينة تين ملّل سنة أربع وعشرين وخمسمائة فقام بأمر الموحّدين وأبعد في الغزوات فصبح تادلا، وأقام بها وأصاب منهم. ثم غزا درعة واستولى عليها سنة ست وعشرين وخمسمائة ثم غزا تاسعون [1] وافتتحها وقتل واليها أبا بكر بن مازرو [2] ومن كان معه من قومه غمارة بني وزار [3] وبني مزدرع ثم تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجا، وانتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة، فسرّح علي بن يوسف ابنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث وستين وخمسمائة فجاءهم من ناحية أرض السوس، وأحشد معه قبائل كزولة وجعلهم في مقدّمته، فلقيهم الموحّدون بأوائل جبلهم وهزموهم. ورجع تاشفين ولم يلق حربا، ودخل كزولة من بعدها في دولة الموحّدين، وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب، فغزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين وخمسمائة إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ولم يراجع فيها تين ملّل حتى إذا انقضت بالفتح والاستيلاء على المغربين، خرج إليها من تين ملّل، وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسائط، والناس يفرّون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل والحطب للدفء إلى أن وصل إلى جبل غمارة، واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب، وامتنعت الرعايا من المغرم وألح الطاغية على المسلمين بالعدوة. وهلك خلال ذلك علي بن يوسف أمير لمتونة ملك العدوتين سنة سبع وثلاثين   [1] وفي نسخة أخرى: تاشعبوث وفي النسخة الباريسية تاسيغموت. [2] وفي نسخة أخرى: مزروال. [3] وفي نسخة أخرى: بني ونام، وفي النسخة الباريسية: وارنتي وفي نسخة ثانية: ونار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 وخمسمائة، وولّى أمرهم تاشفين ابنه، وهو في غزاته هذه، وقد أحيط به. وحزن بعد أبيه على فتنة بني لمتونة ومسوقة [1] ، ففزع أمراء مسوقة مثل بدران [2] بن محمد ويحيى بن تاكصتن [3] ويحيى بن إسحاق المعروف بأنكار، وكان والي تلمسان، ولحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة، ودخلوا في دعوته، ونبذ إليهم لمتونة العهد، وإلى سائر مسوقة، واستمر عبد المؤمن على حاله فنازل سبتة وامتنعت عليه، وتولّى كبر دفاعه عنها القاضي عيّاض الشهير الذكر. كان رئيسها يومئذ بدينه وأبوّته ومنصبه. ولذلك سخطته الدولة آخر الأيام حتى مات مغرّبا عن سبتة بتادلا مستعملا في خطة القضاء بالبادية، وتمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثه وبطوية فافتتحها، ثم نزل ملويّة فافتتح حصونها. ثم تخطي إلى بلاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة. وكان بعث إليهم عساكر من الموحّدين إلى نظر يوسف بن وانودين وابن يرمور [4] فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانو عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونة وزناتة فهزمهم الموحّدون وقتل ابن فانو وانقضّ عسكر زناتة، ورجعوا إلى بلادهم. وولّى ابن تاشفين على تلمسان أبا بكر بن مزدلي، ووصل إلى عبد المؤمن بمكانه من الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن بدر أمراء بني مانو، فبعث معهم ابن يغمور وابن وانودين في عسكر من الموحّدين، فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد، وبني باجدي [5] سبيا وأسرا، وأمدتهم عساكر لمتونة ومعهم الزبرتير قائد الروم وتزلوا منداماس [6] ، واجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي وبني عبد الواد، وشيخهم حمامة ابن مطهر، وبني نيكاس وبني ورسفان وبني توجين، فأوقعوا في بني مانو واستنقذوا غنائمهم، وقتل أبو بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه، وتحصّن الموحّدون وابن وانودين بجبال سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخا على لمتونة وزناتة، فارتحل معه إلى تلمسان. ثم أجاز إلى سيرات وقصد محلة ملتونة وزناتة،   [1] وفي نسخة أخرى: مسوفة. [2] وفي نسخة أخرى: برّاز وفي النسخة الباريسية: بران. [3] وفي نسخة أخرى: تاكفت. [4] وفي النسخة الباريسية: مرمور. [5] وفي نسخة أخرى: يلومي. [6] وفي نسخة أخرى: منداس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل بني ورتيك [1] ونزل تاشفين بأصطفصف ووصل مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قوّاده، أمدوا به تاشفين وقومه لعصبية الصنهاجيّة. وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحّدين، وكان يدل باقدام وبأس فزاري بلمتونة وأميرهم لقعودهم عن مناجزة الموحّدين، وقال: إنما جئتكم أؤمنكم [2] من صاحبكم عبد المؤمن هذا، وأرجع إلى قومي، فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة، فحمل على القوم فركبوا وصمّموا للقائه، فكان آخر العهد به وبعسكره. وكان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه، فأغار على بني سندم [3] وزناتة الذين كانوا في بسيطهم ورجع بالغنائم فاعترضه الموحّدون من عسكر عبد المؤمن فقتلوهم، وقتل الزبرتير وصلب ثم بعث بعثا آخر إلى بلاد بني مانو، فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه من الموحّدين وأوقعوا بهم. واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل. وتوالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران، وبعث ابنه إبراهيم وليّ عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة، وبعث كاتبا معه أحمد بن عطيّة، ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فأقام عليها شهرا ينتظر قائد اسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل، فأرسى قريبا من معسكره وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وبني مانو من زناتة، فتقدّموا إلى بلاد بني يلومي وبني عبد الواد وبني ورسيفين وبني توجين وأثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم. ووفد على عبد المؤمن برؤسائهم، وكان منهم سيّد الناس ابن أمير الناس شيخ بني يلومي فتلقّاهم بالقبول، وسار بهم في جموع الموحّدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضّوهم، ولجأ تاشفين إلى رابية هناك فأحد قوابها وأضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل، فخرج تاشفين من الحصن راكبا على فرسه، فتردى من بعض حافات الجبل، وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.   [1] وفي نسخة أخرى: بني ورنيد. [2] وفي نسخة أخرى: لأمكنكم. [3] وفي نسخة ثانية: سنوس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 وبعث برأسه إلى تين ملّل. ونجا فلّ العسكر إلى وهران فانحصروا مع أهلها حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعا على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة. وبلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فلّ لمتونة وفيهم أبو بكر بن ولحف [1] وسير بن الحاج وعليّ بن فيلو في آخرين من أعيانهم، ففرّ معهم من كان بها من لمتونة. وقدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم، فلقيهم يصليتن من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم أجمعين. ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم، وعفا عن أهل تلمسان، ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولّى عليها سليمان ابن محمد بن وانودين، وقيل يوسف بن وانودين. وفيما نقل بعض المؤرّخين أنه لم يزل محاصرا تلمسان والفتوح ترد عليه، وهنالك وصلته بيعة سجلماسة. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب، وترك إبراهيم بن جامع محاصرا لتلمسان، فقصد فاس سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقد تحصّن بها يحيى الصحراوي ولحق بها من فلّ تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن، وبعث عسكرا لحصار مكناسة، ثم رحل في اتباعه وترك عسكرا من الموحّدين على فاس، وعليهم الشيخ أبو حفص وأبو إبراهيم وصحابة المهدي العشرة، فحاصروه سبعة أشهر. ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد وأدخل الموحّدين ليلا، وفرّ الصحراوي إلى طنجة، وأجاز منها إلى ابن غانية بالأندلس، وبلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة، فرجع إليها وولّى عليها إبراهيم بن جامع وولّى على مكناسة يحيى بن يغمور، ورحل إلى مراكش وكان إبراهيم بن جامع، لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن وهو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضّب بن عسكر أمير بني مرين ونالوا منه ومن رفقته، فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين عامل تلمسان أن يجهّز إليهم العساكر، فبعثها صحبة عبد الحق بن منقاد [2] شيخ بني عبد الواد، فأوقعوا ببني مرين وقتل المخضّب أميرهم. ولمّا ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته في طريقه بيعة أهل سبتة، فولّى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة، ومرّ على سلا فافتتحها بعد مواقعة   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن نجي وفي نسخة ثانية: بن ويحى. [2] وفي نسخة أخرى: منغفاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 قليلة، ونزل منها بدار ابن عشرة، ثم تمادى إلى مراكش وسرّح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع. ولقيه في طريقه ووصلوا جميعا إلى مراكش وقد ضمّوا إليها جموع لمطة، فأوقع بهم الموحّدون وأثخنوا فيهم قتلا، واكتسحوا أموالهم وظعائنهم، وأقاموا على مراكش تسعة أشهر [1] وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف، بايعوه صبيا صغيرا عند بلوغ خبر أبيه. ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحّدين، فانهزموا وتتبعهم الموحّدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوّال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل عامّة الملثّمين، ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحّدين وأحضر إسحاق بين جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحّدين وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحّدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم وامحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع البلاد. ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود وتلقّب بالهادي، وظهر في رباط ماسة، فأقبل إليه الشراد [2] من كل جانب، وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الآفاق وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة وركراكة وقبائل تامسنا وهوّارة، وفشت ضلالته في جميع العرب، فسرّح إليه عبد المؤمن عسكرا من الموحّدين لنظر يحيى أنكمار اللمتوني النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي. ولقي هذا الثائر المآسي، ورجع مهزوما إلى عبد المؤمن فسرّح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وأشياخ الموحّدين، واحتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة، وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفا من الرجال وسبعمائة من الفرسان، فهزمهم الموحّدون، وقتل داعيتهم في المعركة مع كثرة أتباعه، وذلك في ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وكتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي حفص بن عطيّة الشهير الذكر، كان أبوه أبو أحمد كاتبا لعلي بن يوسف وابنه تاشفين، وتحصل في قبضة الموحّدين فعفا عنه عبد المؤمن. ولما نزل على فاس اعتزم أبو حفص [3] هذا على الفرار فتقبّض عليه في طريقه، واعتذر فلم يقبل عذره وقتل. وكان ابنه أحمد كاتبا لإسحاق بن علي بمراكش   [1] وفي نسخة أخرى: سبعة أشهر. [2] وفي النسخة التونسية الشرار والمقصود الأشرار أو المشردون. [3] وفي نسخة أخرى: أبو أحمد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفلّ، وخرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجهته هذه وطلبه للكتاب في ذلك، فأجابه واستحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولا. ثم ارتفع عنده مكانه [1] فاستوزره، وبعد في الدولة صيته، وقاد العساكر وجمع الأموال وبذلها، ونال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولته إلى أن دبّت السعاية إلى مهاده الوثير، فكان فيها حتفه، ونكبه الخليفة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وقتله بمحبسه حسبما هو مشهور. ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياما. ثم خرج غازيا إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن، فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم بالقتل والسبي حتى أذعنوا بالطاعة ورجع. ثم خرج إلى هسكورة وأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم. ثم نهض الى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش، ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدّة ثم هزموه، واضطرمت نار الفتنة بالمغرب، وانتقض أهل سبتة، وأخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي وقتلوه ومن كان معه من الموحّدين، وأجاز القاضي عيّاض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوقي الوالي بالأندلس، فلقيه بالخضراء وطلب منه واليا على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الّذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها. وذكر أنه لحق بطنجة فأجاز البحر إلى الأندلس ولحق بابن غانية بقرطبة وصار في جملته. وبعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه. وقام بأمرها ووصل يده بالقبائل الناكثة لطاعة الموحّدين من برغواطة ودكالة على حين هزيمتهم للموحّدين كما ذكرناه. ولحق بهم من مكانه بسبتة وخرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فدوّخ بلادهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرّءوا من يحيى الصحراوي ولمتونة، ورجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه، ووصلته المرعبة [2] من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه وصلحت أحوال المغرب. وراجع أهل سبتة طاعتهم فتقبّل منهم، وكذلك أهل سلا فصفح لهم وأمر بهدم سورهم والله أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: بخلاله. [2] وفي نسخة أخرى: الرغبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 (فتح الأندلس وشئونها) ثم صرف عبد المؤمن من قصره إلى الأندلس، وكان من خبرها أنه اتصل بالملثمين مقتل تاشفين بن عليّ، ومنازلة الموحّدين مدينة فاس. وكان علي بن عيسى بن ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة وانتزى بجزيرة قادس، فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس، ودخل في دعوته وخطب له بجامع فاس [1] أوّل خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين وخمسمائة. وبعث أحمد بن قيسي صاحب مرتلّة ومقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس [2] رسولا إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان وأدّى كتاب صاحبه فأنكر ما تضمّنه من النعت بالمهديّ، ولم يجاوب. وكان سدّراتي [3] بن وزير صاحب بطليوس وباجة وغرب الأندلس قد تغلّب على أحمد ابن قيسي هذا، وغلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قيسي البحر إلى عبد المؤمن من بعد فتح مراكش لمداخلة عليّ بن عيسى بن ميمون ونزل بسبتة، فجهّزه يوسف بن مخلوف، ولحق بعبد المؤمن، ورغّبه في ملك الأندلس، وأغراه بالملثّمين فبعث معه عساكر الموحّدين لنظر براز بن محمد المسوقي الناظر إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين، وعقد له على حروب من بها من لمتونة والثّوار وأمدّه بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد، وبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي، ولمّا أجازوا إلى الأندلس نازلوا بالغمر بن عزرون من الثّوار بشريش، وكانت له مع ولده [4] . ثم قصدوا لبلة وبها من الثّوار يوسف بن أحمد البطروجي [5] فأعطاهم الطاعة، ثم قصدوا مرتلة، وهي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قيسي. ثم قصدوا شلّب فافتتحوها، وأمكنوا منها ابن قيسي. ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس فأطاعهم صاحب سدراتي بن وزير. ثم براز في عسكر الموحّدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة   [1] وفي نسخة أخرى: قادس. [2] وفي نسخة أخرى: حيسن وفي نسخة ثانية قيسي وفي النسخة الباريسية حبيش. [3] وفي نسخة أخرى: سدراي. [4] وفي نسخة أخرى: ذندة. [5] وفي النسخة الباريسية: البطروحي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 إشبيليّة فأطاعه أهل طليطلة [1] وحصن القصر، واجتمع إليه سائر الثّوار وحاصروا إشبيليّة برّا وبحرا إلى أن افتتحوها في شعبان من سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وفرّ الملثمون بها إلى قرمونة وقتل من أدرك منهم. وأتى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربيّ في هيعة تلك الدخلة من غير قصد. وكتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن عليّ. وقدم عليه وفودهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبّل طاعتهم وانصرفوا. بالجوائز والأقطاعات لجميع الوفد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. وهلك القاضي أبو بكر في طريقه ودفن بمقبرة فاس. وكان عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بأشبيليّة ساء أثرهما بالبلد واستطالت أيديهما على أهله، واستباحوا الدماء والأموال. ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحّدين الذين بها، وحوّل الدعوة عنهم. وبعث إلى طليطلة وحصن القصر، ووصل يده بالملثّمين الذين كانوا بالعدوة وارتدّ ابن قيسي في مدينة شلف، وعلي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس ومحمد بن الحجام بمدينة بطليوس وثبت أبو الغمر بن عزرون على طاعة الموحّدين بشريش [2] ورندة [3] وجهاتهما. وتغلّب ابن غانية على الجزيرة الخضراء، وانتقض أهل سبتة كما ذكرناه، وضاقت أحوال الموحّدين بأشبيليّة، فخرج منها عيسى وعبد العزيز أخوا المهدي وابن عمهما يصليتن بمن كان معهم. ولحقوا بجبال بستر [4] وجاءهم أبو الغمر بن عزرون، واتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوها وقتلوا من كان بها من لمتونة، ولحق أخو المهدي بمراكش، وبعث عبد المؤمن على إشبيليّة يوسف بن سليمان في   [1] وفي النسخة الباريسية: طلياطلة. [2] شريش. مدينة كانت تدعى عند القوط سرت ceret.وبناحيتها وقعت المعركة الحاسمة بين طارق بن زياد وآخر ملوك الغوط سنة 711 م، وبعدها تم فتح المسلمين للأندلس، وكانت في أيام العرب مدينة مهمة ومركزا ثقافيا مشهورا، وهي اليوم كذلك من أهم مدن اسبانيا. استرجعها الاسبان نهائيا سنة 1264 م. بينها وبين إشبيليّة 97 كلم الى ناحية الجنوب. وكانت في أيام العرب من اعمال كورة البحيرة. (البيّنة/ 34) . [3] رنده: اسمها اللاتيني روندا ronda وهي من أقدم مدن اسبانيا، وكانت مزدهرة أيام العرب، تقدّم فيها أدباء وعلماء مشهورون، ولها تاريخ مجيد في الاستماتة دفاعا عن استقلالها. ولم يستطع الاسبان الاستيلاء عليها إلا بعد حصار دام عشرين يوما سنة 1485 قبل غرناطة بسبع سنوات. ونزح أهلها إلى المغرب العربيّ، وتوجد الى الآن عائلات الرندي بالمغرب. تبعد 108 كلم عن جبل طارق باتجاه الشمال وعن مالقة 96 كلم الى ناحية الشرق (البيّنة/ 27) . [4] وفي نسخة ثانية: بيستر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 عسكر من الموحّدين وأبقى براز بن محمد على الجباية، فخرج يوسف ودوّخ أعمال البطروجي بلبلة وطليطلة وعمل ابن قيسي بشلب ثم أغار على جبيرة وأطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنت مريّة، وغزا معهم وأرسل محمد بن عليّ بن الحاج صاحب بطليوس [1] بهداياه فتقبّلت ورعيت له، ورجع يوسف إلى إشبيليّة. وفي أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن عليّ بن غانية بقرطبة وألح على جهاته حتى نزل له عن بياسة [2] ورندة، وتغلّب على الاشبونة [3] وطرطوشة [4] ولاردة [5] وافراغة وشنت مريّة وغيرها من حصون الأندلس، وطالب ابن غانية بالزيادة في بيته أو الإفراج له عن قرطبة، فراسل ابن غانية براز بن محمد واجتمعا باستجة [6] وضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلّى عن قرطبة وقرمونة ويدال منها بجيان فرضي بذلك وتمّ العقد ووصل حطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان ونازلة الطاغية بها فغدر بأقماطه واقتلعهم بقلعة ابن سعيد وافرج الطاغية عن جيان ولحق هذا بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين، قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحّدين فكان مهلكه بها في شعبان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وقبره بها معروف لهذا العهد. وانتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها ودفع الموحّدون بأشبيليّة أبا الغمر بن عزرون لحمايتها، ووصل إليه مدد يوسف   [1] بطليوس: اسمها القديم بتاليوم Batallium:وهي مدينة على الحدود البرتغالية تبعد عن مجريط نحو 400 كلم. كانت عاصمة لبني الأفطس أيام ملوك الطوائف، وبالقرب منها كانت موقعة الزلاقة. ينسب إليها علماء وأدباء معروفون. وكانت تعتبر من كورة قصر ابن أبي وانس. (البينة/ 23) . [2] بياسة: اسمها باللاتينية: فيفاتيا Vivatia وكان لها شأن أيام العرب ونبغ فيها أدباء وعلماء. خرّبها الاسبان بعد استرجاعها سنة 1277 ثم أعيد تجديدها (البينة/ 24) . [3] الاشبونة هي عاصمة البرتغال اليوم وكانت تسمى قبل الإسلام أوليسيبو.Ulissipo افتتحها المسلمون سنة 711 وبقي نفوذهم بها إلى سنة 1147، وكانت من كورة البلاطة. (البينة/ 20) . [4] طرطوشة، كانت أيام الرومان تدعى tosajuliaAugusta مدينة على شاطئ البحر المتوسط. كانت مركزا بحريا هاما أيام العرب ومدينة علم وأدب استرجعها الاسبان سنة 1148 م وهي الى جنوب برشلونة. كانت تعتبر من كورة البورتات. (البيّنة/ 28) . [5] لاردة: كانت تسمى ايلاردة.Elerda فتحها العرب في القرن الثامن وهي على نهر شيقر. كانت من أهم الثغور الشرقية. (البيّنة/ 29) . [6] استجة: اسمها في اللاتينية Astigi تقع جنوبي قرطبة لا تزال بها اثار عربية قيّمة وهي على وادي شنيل. (البيّنة/ 20) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 البطروجي من لبلة [1] وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكرا من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن. ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبّلهم وصفح لهم ونهض إلى مدينة سلا سنة خمس وأربعين وخمسمائة واستدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه وبايعوه جميعا، وبايعه الرؤساء من الثوّار على الانخلاع من الأمر مثل سدراتي بن وزير صاحب باجة، وباثورة [2] والبطروجي صاحب لبلة، وابن عزرون صاحب شريش ورندة وابن الحجّام صاحب بطليوس، وعامل بن مهيب صاحب طلبيرة، وتخلّف ابن قيسي وأهل شلب عن هذا الجمع فكان سببا لقتله من بعد. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم واستصحب الثّوار فلم يزالوا بحضرته والله تعالى أعلم. (فتح افريقية وشئونها) ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه إفريقية من اختلاف الأمراء واستطالة العرب عليها بالعيث والفساد، وأنهم حاصروا مدينة القيروان، وأنّ موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة وملكها، فأجمع الرحلة إلى غزو إفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه. وخرج من مراكش في أواخر سنة ست وأربعين وخمسمائة موريا بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة واستوضح أحوال أهل الأندلس، ثم رحل عن سبتة موريا بمراكش، وأغذّ السير إلى باجة فدخل الجزائر على حين غفلة، وخرج إليه الحسن بن عليّ صاحب المهديّة، فصحبه واعترضه جيوش صنهاجة بأمّ العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلها. وركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدّهما لذلك، واحتمل فيهما ذخائره وأمواله والحق بقسنطينة إلى أن نزل بعد ذلك منها على أمان عبد المؤمن. واستقرّ   [1] اسمها القديم Ilipla:وهي من أعمال أونبة تبعد عن إشبيليّة 65 كلم استرجعها الاذفونش العاشر سنة 1257 وهي موطن العائلة الفاسية ومنها نزحوا الى مالقة ثم إلى إشبيليّة، ثم الى فاس، وكانوا يحملون بالأندلس اسم بني الجد (البيّنة/ 29- 30) . [2] وفي نسخة أخرى: يابورة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 بمراكش تحت الجراية والعناية إلى أن هلك رحمه الله. ثم سرّح عبد المؤمن عساكر الموحّدين وعليهم ابنه عبد الله إلى القلعة، وبها جوش بن عبد العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها واستلحم من كان بها منهم، وأضرم النار في مساكنها وقتل جوش. ويقال إنّ القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفا وامتلأت أيدي الموحّدين من الغنائم والسبي، وبلغ الخبر إلى العرب بإفريقية من الأثبج وزغبة ورياح وقسرة فعسكروا بظاهر باجة، وتآمروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز، وارتحلوا إلى سطيف وزحف إليه عبد الله بن عبد المؤمن في الموحّدين الذين معه وكان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب ونزل متيجة، فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله، والتقى الفريقان بسطيف واقتتلوا ثلاثا، ثم انفضت جموع العرب واستلحموا وسبيت نساؤهم واكتسحت أموالهم وأسر أبناؤهم. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع وأربعين وخمسمائة ووفد عليه كبراء العرب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم، ورجعوا إلى قومهم. وعقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن، واستوزر له يوسف بن سليمان، وعقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص واستوزر له أبا محمد بن وانودين. وعلى سبتة لابنه السيد أبي سعيد واستوزر له محمد بن سليمان. وعلى بجاية للسيد أبي محمد عبد الله واستوزر له يخلف بن الحسين، واختص ابنه أبا عبد الله بولاية عهده. وتغير بذلك كله ضمائر عبد العزيز وعيسى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر وأدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين وقتلوه بمكانه من القصبة. ووصل على أثرهما الوزير أبو حفص بن عطية وعبد المؤمن على أثره فأطفآ نار تلك الثورة وقتل أخو المهدي ومن داخلهم فيها والله أعلم. (فتح بقية الأندلس) وبلغه بمراكش سنة تسع وأربعين وخمسمائة أنّ يحيى بن يغمور صاحب إشبيليّة قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها. وتقبّل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور وعزله عن إشبيليّة بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن عليّ التينمللي، وعن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 قرطبة بأبي زيد بن بكيت، وبعث عبد الله بن سليمان فجاء بابن يغمور معتقلا إلى الحضرة، وألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان واستقام أمر الأندلس. وخرج ميمون بن بدر اللمتوني عن غرناطة للموحّدين فملكوها، وأجاز إليها السيد أبا سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك، ولحق الملثّمون بمراكش، ونازل السيد أبو سعيد مدينة المريّة [1] حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان. وحضر لذلك الوزير أبو حفص بن عطيّة بعد أن أمدهم ابن مودهشي [2] الثائر بشرق الأندلس والطاغية معه، وعجزوا جميعا عن المدافعة. ثم وفد أشياخ إشبيليّة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ورغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم، فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها، وافتتح أمره بمنازلة عليّ الوسيني الثائر بطلبيرة [3] ومعه الوزير أبو حفص بن عطيّة حتى استقام على الطاعة. ثم استولى على عمل ابن وزير وابن قيسي، واستنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وكان الّذي أمكن الملثّمين منها ابن قيسي واستتم الفتح. ورجع السيد إلى إشبيليّة وانصرف أبو حفص بن عطيّة إلى مراكش فكانت فيها نكبته ومقتله. واستوزر عبد المؤمن من بعده عبد السلام الكومي، كان يمت إليه بذمّة صهر فلم يزل على وزارته والله أعلم. (بقية فتح إفريقية) لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ما كان من إيقاع الطاغية بابنه السيد أبي يعقوب بظاهر إشبيليّة، ومن استشهد من أشياخ الموحّدين وحفاظهم، ومن الثّوار مثل ابن عزرون [4] وابن الحجّام، نهض يريد الجهاد، واحتل سلا، فبلغه   [1] المرية: مدينة على البحر الأبيض المتوسط كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي، لكن العرب وسّعوها وجعلوها مرسى تجاريا وسمّوها المرية بمعنى المرآة الصغيرة. كانت أيام ملوك الطوائف عاصمة بني تجيب وقد ازدهرت في أيامهم وكانت مركزا ثقافيا مهما، استرجعها الاسبان سنة 1489 م وهي في شرقي مالقة تبعد عنها 222 كلم، وكانت تعتبر أيام العرب من أعمال كورة بجانة (البيّنة/ 32) . [2] وفي نسخة أخرى: ابن مردنيش وهو الأصح. [3] هكذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بمنازلة علي الوهبي الثائر بطبيرة. [4] وفي نسخة أخرى: ابن عزّون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 انتقاض إفريقية، وأهمه شأن النصارى بالمهديّة، فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس، ونهض يغذّ السير حتى نزل المهديّة وبها من نصارى أهل صقلّيّة [1] ، فافتتحها صلحا سنة خمس وخمسين وخمسمائة واستنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس وطرابلس من أيدي العدوّ. وبعث ابنه عبد الله من مكان حصاره للمهديّة إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان، بعض بطون رياح. واستخلص قفصة من يد بني الورد، وورغة من يد بني بروكسن وطبرقة من يد ابن علال وجبل زغوان من يد بني حماد بن خلفة [2] وشقبناريّة من يد بني عبّاد [3] ، بن نصر الله، ومدينة الأربص من يد من ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة. ولما استكمل الفتح وثنى عنانه إلى المغرب سنة ست وخمسين وخمسمائة بلغه أنّ الأعراب بإفريقية انتقضوا عليه، فرجّع إليهم عسكرا من الموحّدين، فنهضوا إلى القيروان وأوقعوا بالعرب، وقتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني عليّ إحدى بطون رياح والله تعالى أعلم. (أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس) كان بلغ عبد المؤمن وهو بإفريقية أنّ محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية ونازل جيان. وأطاعه واليها محمد بن عليّ الكومي، ثم نازل بعدها قرطبة ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها، ثم رجع إلى قرطبة وخرج ابن بكيت لحربه فهزمه وقتله، فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح إفريقية، وأنه واصل إليهم. وعبر إلى جبل الفتح، واجتمع إليه أهل الأندلس ومن بها من الموحّدين، ثم رجع إلى مراكش وبعث عساكره إلى الجهاد، ولقيهم الطاغية فهزموه. وتغلّب السيد أبو يعقوب على   [1] كان يحتل المهدية النورمانديون وقد استخلصها منهم عبد المؤمن سنة 1160 م- 555 هـ (قبائل المغرب ص 127) . [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بن خليفة. [3] وفي نسخة أخرى بني عيّاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 قرمونة من يد ابن همشك صهر ابن مردنيش. وكان السيدان أبو يعقوب صاحب إشبيليّة وأبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش، فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة وعلا ليلا بمداخلة من بعض أهلها. واستولى عليها وانحصر الموحّدون بقصبتها، وخرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا. وقدّم السيد أبا سعيد فأجاز البحر ولقيه عامل إشبيليّة عبد الله بن أبي حفص بن علي، ونهضوا جميعا إلى غرناطة، فنهض إليهم ابن همشك وهزمهم. ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة، وردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحّدين، ونهضوا إلى غرناطة وكان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مددا لابن همشك، فلقيهم الموحّدون بفحص غرناطة وهزموهم. وفرّ ابن مردنيش إلى مكان في المشرق، ولحق ابن همشك بجيان فنازله الموحّدون. وأقبل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعي السيد أبو يعقوب بمراكش سنة ثمان وخمسين وخمسمائة لولاية العهد والادالة به من أخيه محمد، فلحق بمراكش وخرج في ركاب أخيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد. وأدركته المنية بسلا في جمادى الأخيرة من هذه السنة ودفن بتينملل إلى جانب المهدي والله أعلم. (دولة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن) لما هلك عبد المؤمن أخذ البيعة على الناس السيد أبو حفص لأخيه أبي يعقوب باتفاق من الموحّدين كافة، ورضا من الشيخ أبي حفص خاصة. واستقل في رتبة وزارته ورجعوا إلى مراكش وكان السيد أبو حفص هذا وزيرا لأخيه عبد المؤمن، واستوزره عند نكبة عبد السلام الكومي، فرجّعه من إفريقية سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وكان أبو عليّ بن جامع متصرفا بين يديه في رسم الوزارة إلى أن هلك عبد المؤمن فأخذ أبو حفص البيعة لأخيه أبي يعقوب. ثم هلك إثر وفاة عبد المؤمن ابنه السيد أبو الحسن صاحب فاس والسيد أبو محمد صاحب بجاية في طريقه إلى الحضرة. ثم استقدم أبو يعقوب السيد أبا سعيد من غرناطة سنة ستين وخمسمائة فقدم ولقيه السيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 أبو حفص بسبتة. ثم صرّح الخليفة أبو يعقوب معه أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس في عسكر الموحّدين لما بلغه ان إلحاح ابن مردنيش على قرطبة، بعد أن احتشد معه قبائل العرب، زغبة ورياح والأثبج، فأجاز البحر وقصد ابن مردنيش، وقد جمع جموعه وأولياءه من النصارى، ولقيتهم عساكر الموحّدين بفحص مرسية، فانهزم ابن مردنيش وأصحابه وفرّ إلى مرسية من سبتة، ونازلة الموحّدون بها ودوّخوا نواحيه. وانصرف السيد أبو حفص وأخوه أبو سعيد سنة إحدى وستين وخمسمائة إلى مراكش، وخمدت نار الفتنة من ابن مردنيش. وعقد الخليفة على بجاية لأخيه السيد أبي زكريا، وعلى إشبيليّة للشيخ أبي عبد الله بن إبراهيم. ثم أدال عنه بأخيه السيد أبي إبراهيم، وأقر الشيخ أبا عبد الله على وزارته، وعقد على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحاق، وأثر السيد أبا سعيد على غرناطة. ثم نظر الموحدون في وضع العلامة في المكتوبات بخط الخليفة، فاختاروا الحمد للَّه وحده لما وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته، فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم والله تعالى أعلم. (فتنة غمارة) وفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة تحرّك الأمير أبو يعقوب إلى جبال غمارة، لما كان ظهر بها من الفتنة التي تولّى كبرها سبع بن منغفاد ونازعهم في الفتنة صنهاجة جيرانهم فبعث الأمير أبو يعقوب عساكر الموحّدين لنظر الشيخ أبي حفص، ثم تعاظمت فتنة غمارة وصنهاجة فخرج إليهم بنفسه وأوقع بهم، واستأصلهم. وقتل سبع بن منغفاد وانحسم داؤهم، وعقد لأخيه السيد أبي علي الحسن على سبتة وسائر بلادهم. وفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة اجتمع الموحّدون على تجديد البيعة واللقب بأمير المؤمنين، وخاطب العرب بإفريقية يستدعيهم إلى الغزو ويحرّضهم. وكتب إليهم في ذلك قصيدة ورسالة مشهورة بين الناس، وكان من إجابتهم ووفودهم عليه ما هو معروف . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 (أخبار الأندلس) لما استوسق الأمر للخليفة أبي يعقوب بالعدوة وصرف نظره إلى الأندلس والجهاد، واتصل به ما كان من غدر العدو، دمّره الله بمدينة ترجالة [1] . ثم مدينة يابرة [2] ثم حصن شبرمة ثم حصن جلمانيه إزاء بطليوس، ثم مدينة بطليوس، فسرّح الشيخ أبا حفص في عساكر من الموحّدين احتفل في انتقائهم، وخرج سنة أربع وستين وخمسمائة لاستنقاذ بطليوس من هوة الحصار، فلما وصل إلى إشبيليّة بلغه أنّ الموحّدين وبطليوس هزموا ابن الرنك [3] الّذي كان يحاصرهم بإعانة ابن ادفونش، وأنّ ابن الرنك تحصل في قبضتهم أسيرا وفرّجوا ندة [4] الجلّيقي إلى حصنه، فقصد الشيخ أبو حفص مدينة قرطبة، وبعث إليهم إبراهيم بن همشك من جيان بطاعته وتوحيده ومفارقته صاحبه ابن مردنيش لما حدث بينهما من الشحناء والفتنة، فألحّ عليه ابن مردنيش بالحرب، وردّد إليه الغزو، فبعث إلى الشيخ أبي حفص بطاعته. وكان الشيخ أبو حفص في عساكر الموحّدين، فنهض من مراكش سنة خمس وستين وخمسمائة وفي جملته السيد أبو سعيد أخوه، فوصل إلى إشبيليّة وبعث أخاه أبا سعيد إلى بطليوس، فعقد الصلح مع الطاغية وانصرف، ونهضوا جميعا إلى مرسية ومعهم ابن همشك فحاصروا ابن مردنيش. وثار أهل لورقة [5] بدعوة الموحدين، فملكها السيد أبو حفص. ثم افتتح مدينة بسطة [6] وأطاع ابن عمه محمد بن مردنيش   [1] ترجالة: تقع في ناحية ماردة تبعد عنها حوالي 90 كلم شمالا (البينة/ 25) . [2] يابرة: اسمها القديم: ايبورا، فتحها العرب سنة 715 م وصارت في أيامهم احدى المدن المهمة في ناحية الاشبونة، استرجعها النصارى سنة 1166 وهي على بعد 117 كلم من شرق الاشبونة (البينة/ 35) . [3] وفي النسخة الباريسية الزيك وفي نسخة أخرى الرتك. [4] وفي نسخة أخرى: جراندة. [5] لورقة: مدينة ايبيرية قديمة كانت تدعى عند الرومان،Ilucro فتحها العرب سنة 780 هـ وكانت عاصمة ناحية زراعية خصبة، استرجعها الإسبان سنة 1266 م وهي بين مرسية والمرية تبعد عن الاولى 62 كلم وعن الثانية 77 كلم وكانت أيام العرب من اعمال كورة تدمير (البينة/ 30) . [6] بسطة: اسمها أيام الرومان بسطي Basti وكانت من أخريات المدن التي استرجعها الاسبان في ناحية وادي آش سنة 1489. ولا تزال بها الى الآن اثار عربية. تبعد عن وادي آش 48 كلم شرقا (البينة/ 24) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 صاحب المريّة فحص [1] بذلك جناحه. واتصل الحبر بالخليفة بمراكش، وقد توافت عنده جموع العرب من إفريقية صحبة أبي زكريا صاحب بجاية والسيد أبي عمران صاحب تلمسان، وكان يوم قدومهم عليه يوما مشهودا، فاعترضهم وسائر عساكره، ونهض إلى الأندلس. واستخلف على مراكش السيد أبا عمران أخاه فاحتلّ بقرطبة سنة سبع وستين وخمسمائة ثم ارتحل بعدها إلى إشبيليّة، ولقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفا من غزاته. وكان ابن مردنيش لما طال عليه الحصار ارتاب ففتك بهم، وباد أخوه أبو الحجّاج وهلك هو في رجب من هذه السنة. ودخل ابنه هلال في الطاعة، وبادر السيد أبو حفص إلى مرسية فدخلها وخرج هلال في جملته، وبعثه إلى الخليفة بأشبيليّة. ثم ارتحل الخليفة غازيا إلى بلاد العدو فنازل رندة أياما وارتحل عنها إلى مرسية. ثم رجع إلى إشبيليّة سنان ثمان وستين وخمسمائة واستصحب هلال بن مردنيش واصهر له في ابنته، وولّى عمّه يوسف على بلنسية وعقد لأخيه السيد أبي سعيد على غرناطة. ثم بلغه خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب، فخرج للقائهم وأوقع بهم بناحية قلعة رياح، وأثخن فيهم ورجع إلى إشبيليّة وأمر ببناء حصن القلعة ليحصّن جهاتها، وقد كان خرابا منذ فتنة أبي حجّاج فيه مع كريب بن خلدون بمدّة [2] ازمان المنذر بن محمد وأخيه عبد الله من أمراء بني أمية. ثم انتقض ابن أذفونيش وأغار على بلاد المسلمين، فاحتشد الخليفة وسرّح السيد أبا حفص إليه فغزاه بعقر داره، وافتتح قنطرة بالسيف، وهزم جموعه في كلّ جهة. ثم ارتحل الخليفة من إشبيليّة راجعا إلى مراكش سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لخمس سنين من إجازته إلى الأندلس، وعقد على قرطبة لأخيه الحسن، وعلى إشبيليّة لأخيه عليّ، وأصاب مراكش الطاعون فهلك من السادات أبو عمران وأبو سعيد وأبو زكريا، وقدم الشيخ أبو حفص من قرطبة فهلك في طريقه، ودفن بسلّا. واستدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي وأبا الحسن، فعقد لأبي علي على سجلماسة ورجع أبو الحسن إلى قرطبة، وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص:   [1] بمعنى نقص قدره. [2] وفي نسخة أخرى: بمورة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 لأبي زيد منهما على غرناطة، ولأبي محمد عبد الله على مالقة. وفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة سطا بذرية [1] بني جامع وغرّبهم إلى ماردة [2] . وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة عقد لقائم بن محمد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مدينة الأشبونة، فغنم ورجع. وفيه كانت وفاة أخيه السيد الوزير أبي حفص بعد ما أبلى في الجهاد وبالغ في نكاية العدوّ. وقدم ابناه من الأندلس وأخبر الخليفة بانتقاض الطاغية، واعتزم على الجهاد وأخذ في استدعاء العرب من إفريقية والله تعالى أعلم. (الخبر عن انتقاض قفوصة واسترجاعها) كان عليّ بن المعزوّ يعرف بالطويل، من أعقاب بني الرند ملوك قفصة قد ثار سنة خمس وسبعين [3] وخمسمائة كما ذكرناه في أخبارهم. وبلغ الخليفة خبره فنهض إليها من مراكش، وسار إلى بجاية وبقي عنده يعلى بن المنتصر الّذي كان عبد المؤمن استنزله من قفصة أنه يواصل قريبه الثائر بها ويخاطب العرب، فتقبّض عليه، ووجدت المخاطبات عنده شاهدة بتلك السعاية واستصفى ما كان بيده، وارتحل إلى قفصة ونزلها. ووفدت عليه مشيخة العرب من رياح بالطاعة فقتلهم [4] ولم يزل محاصرا لقفصة إلى أن نزل على ابن المعز، وانكفأ راجعا إلى تونس. وأنفذ عساكر العرب إلى المغرب، وعقد على إفريقية والزاب للسيد أبي علي أخيه، وعلى بجاية للسيد أبي موسى وقفل إلى الحضرة والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: بوزرائه. [2] اسمها الروماني EmeritaAugusta وهي من تأسيسهم سنة 25 بعد المسيح وكانت من أعظم مدنهم وأجملها حتى أطلق عليها اسم رومة اسبانيا. فتحها العرب في زحفهم العظيم على الأندلس سنة 713 م واسترجعها الاسبان سنة 1228، يخترقها نهر وادي يانة، تبعد عن بطليوس 61 كلم. وكانت تعتبر أيام العرب من كورة مصر بن أبي دانس (البيّنة/ 30) . [3] وفي النسخة الباريسية: سنة سبع وخمسين. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فتقبلهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 (معاودة الجهاد) لما قفل من فتح قفصة سنة سبع وسبعين وخمسمائة وفد عليه أخوه السيد أبو إسحاق من إشبيليّة، والسيد أبو عبد الرحمن يعقوب من مرسية، وكافة الموحدين ورؤساء الأندلس يهنّونه بالإياب فأكرم موصلهم وانصرفوا إلى بلادهم. واتصل به أن محمد ابن يوسف بن وانودين غزا بالموحدين من إشبيليّة إلى أرض العدوّ فنازل مدينة يابرة وغنم ما حولها، وافتتح بعض حصونها ورجع إلى إشبيليّة، وأن عبد الله بن إسحاق بن جامع قائد الاسطول بأشبيليّة التقى بأسطول أهل أشبونة في البحر فهزموهم وأخذوا عشرين من قطائعهم مع السبي والغنائم. ثم بلغ الخبر بأن أدفونش بن شانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهات مالقة ورندة وغرناطة. ثم نزل أستجة [1] وتغلّب على حصن شنغيلة. وأسكن بها النصارى وانصرف، فاستنفر السيد أبو إسحاق سائر الناس للغزو ونازل الحصن نحوا من أربعين يوما. ثم بلغه خروج أذفونش من طليطلة بمدده فانكفأ راجعا. وخرج محمد بن يوسف بن وانودين من إشبيليّة في جموع الموحدين ونازل طلبيرة [2] وبرز إليه أهلها، فأوقع بهم وانصرف بالغنائم، فاعتزم الخليفة أبو يعقوب على معاودة الجهاد، وولّى على الأندلس أبناءه وقدّمهم للاحتشاد، فعقد لابنه أبي إسحاق على إشبيليّة كما كان، ولابنه السيد أبي يحيى على قرطبة، ولابنه السيد أبي زيد الحصرصاني [3] على غرناطة. ولابنه السيد أبي عبد الله على مرسية. ونهض سنة تسع وسبعين وخمسمائة إلى سلا، ووافاه بها أبو محمد بن أبي إسحاق بن جامع من إفريقية بحشود العرب. وسار إلى فاس وبعث في مقدّمته هنتاتة وتين ملّل   [1] استجة: اسمها اللاتيني Astigi وهي في جنوبي قرطبة بينهما 56 كلم ولا تزال بها آثار عربية قيمة وهي على وادي شنيل، كانت تعتبر أيام العرب من كورة قنبانية (البينة/ 20) . [2] طلبيرة: كانت تسمى عند القدماء Talabriga وهي على نهر تاجه في جنوبي غرب مجريط. كانت أيام العرب محصنة تحيط بها قلاع لا تزال آثارها قائمة الى الآن وهي عبارة عن ثمانية عشر برجا مربعا في غاية الجمال تسمى TorresAlbarranas وهي مشهورة بالفسيفساء الأزرق والأصغر. تبعد 85 كلم عن طليطلة وكانت تعتبر من كورة البشارات. (البينة/ 28) . [3] وفي نسخة أخرى: الحرضاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 وحشود العرب. وأجاز البحر من سبتة في صفر من سنة ثمانين وخمسمائة فاحتلّ جبل الفتح، وسار إلى إشبيليّة فوافته بها حشود الأندلس. وسخط محمد بن وانودين وغربة إلى حصن غافق، ورحل غازيا إلى شنترين فحاصرها أياما. ثم أقلع عنها واستمرّ الناس يوم إقلاعه، وخرج النصارى من الحصن فوجدوا الخليفة في غير أهبة ولا استعداد، فأبلى في الجهاد هو ومن حضره، وانصرفوا بعد جولة شديدة. وهلك في ذلك اليوم الخليفة، يقال من منهم أصابه في حومة القتال، وقيل من مرض طرقه عفا الله عنه. (دولة ابنه يعقوب المنصور) ولما هلك الخليفة أبو يعقوب على حصن شنترين سنة ثمانين وخمسمائة بويع ابنه يعقوب، ورجع بالناس إلى إشبيليّة فاستكمل البيعة. واستوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص، واستنفر الناس للغزو مع أخيه السيد أبي يحيى فأخذ بعض الحصون وأثخن في بلاد الكفّار. ثم أجاز البحر إلى الحضرة ولقيه بقصر مصمودة السيد أبو زكريا ابن السيد أبي حفص قادما من تلمسان مع مشيخة زغبة، ومضى إلى مراكش فغير المناكير [1] وبسط العدل ونشر الأحكام، وكان من أوّل الأحداث في دولة شأن ابن غانية [2] . (الخبر عن شأن ابن غانية) كان علي بن يوسف بن تاشفين لما تغلّب الغدوّ على جزيرة ميورقة وهلك واليها من موالي مجاهد، وهو مبشّر، وبقي أهلها فوضى، وكان مبشّر بعث إليه بالصريخ، والعدوّ محاصر له، فلما أخذها العدوّ وغنم وأحرق وأقلع، وبعث علي بن يوسف واليا عليها وأنور بن أبي بكر من رجالات لمتونة، وبعث معه خمسمائة فارس من   [1] المناكير بمعنى المنكرات وفي نسخة أخرى: فقطع المناكر. [2] كذا وفي نسخة أخرى: وباشر الأحكام، وكان أول الأحداث في دولته شأن ابن غانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 معسكره، فأرهب لهم حدّة، وأرادهم على بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فامتنعوا، وقتل مقدّمهم فثاروا به وحبسوه. ومضوا إلى علي بن يوسف فأعفاهم منه، وولّى عليهم محمد بن علي بن يحيى المسوقي المعروف بابن غانية. وكان أخوه يحيى على غرب الأندلس، وكان نزله بأشبيليّة. واستعمل أخاه على قرطبة فكتب إليه علي بن يوسف يأمره بصرف محمد أخيه إلى ولاية ميورقة فارتحل إليها من قرطبة ومعه أولاده عبد الله وإسحاق وعلي والزبير وإبراهيم وطلحة، وكان عبد الله وإسحاق في تربية عمهما يحيى وكفالته فتبناهما. ولما وصل محمد بن علي بن غانية إلى ميورقة قبض على وأنور وبعثه مصفدا إلى مراكش، وأقام على ذلك عشرا، وهلك يحيى بن غانية وقد ولّى عبد الله ابن أخيه محمد على غرناطة، وأخاه إسحاق بن محمد على قرمونة. ثم هلك علي وضعف أمر لمتونة، وظهر عليهم الموحّدون فبعث محمد عن ابنيه عبد الله وإسحاق فوصلا إليه في الأسطول وانقضى ملك لمتونة. ثم عهد محمد إلى ابنه عبد الله فنافسه أخوه إسحاق، وداخل جماعة من لمتونة في قتله فقتلوه، وقتلوا أباه محمدا. ثم أجمعوا الفتك به فارتاب بهم وداخل لبّ بن ميمون قائد البحر في أمرهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم سنة ست وأربعين وخمسمائة. وبقي أميرا لميورقة. واشتغل أوّل أمره بالبناء والغراسة، وضجر منه الناس لسوء ملكته. وفرّ عنه لبّ ميمون إلى الموحّدين. ثم رجع أخيرا إلى الغزو، وكان يبعث بالأسرى والعلوج للخليفة أبي يعقوب إلى أن هلك قبيل مهلكة سنة ثمانين وخمسمائة وخلّف من الولد: محمدا وعليّا ويحيى وعبد الله وسير والمنصور وجبارة وتاشفين وطلحة وعمر ويوسف والحسن، فولّى ابنه محمد وبعث إلى الخليفة أبي يعقوب بطاعته، فبعث هو علي بن الزبرتير لاختبار ذلك منه، وأحسّ بذلك إخوته فنكروه وتقبّضوا عليه. وقدّموا عليّا منهم. وبلغهم مهلك الخليفة وولاية ابنه المنصور فاعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية، وولّى على ميورقة أخاه طلحة وطرق بجاية في وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية، وولّى على ميورقة أخاه طلحة وطرق بجاية في أسطوله على حين غفلة، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان خارجها في بعض مذاهبه، فاستولوا عليه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وتقبضوا على السيد أبي الربيع والسيد أبي موسى عمران بن عبد المؤمن صاحب إفريقية، وكان بها مجتازا واستعمل أخاه يحيى على بجاية، ومضى إلى الجزائر فافتتحها، وولّى عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم إلى مليانة فولّى عليها بدر بن عائشة. ونهض إلى القلعة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 ثم إلى قسنطينة فنازلها. واتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، فسرّح السيد أبا زيد ابن عمّه السيد أبي حفص، وعقد له على حرب ابن غانية. وعقد لمحمد بن أبي إسحاق بن جامع على الأساطيل، وإلى نظره أبو محمد بن عطوش وأحمد الصقلي. وانتهى السيد أبو زيد إلى تلمسان وأخوه يومئذ السيد أبو الحسن كان واليا وقد أمعن النظر في تحصينها، ثم ارتحل بعساكره من تلمسان ونادى بالعفو في الرعيّة، فثار أهل مليانة على ابن غانية فأخرجوه وسبقت الاساطيل إلى الجزائر فملكوها وقبضوا على يحيى بن طلحة وسيق بدر بن عائشة من أم العلو فقتلوا جميعا بشلف. وتقدّم القائد أحمد الصقلي بأسطوله إلى بجاية فملكها ولحق يحيى بن غانية بأخيه عليّ بمكانه من حصار قسنطينة فأقلع عنها. ونزل السيد أبو زيد الهكلان [1] وخرج السيد أبو موسى من اعتقاله فلقيه هنالك. ثم ارتحل في طلب العدوّ فأفرج عن قسنطينة، وخرج إلى الصحراء واتبعه الموحدون إلى مقرّه بفاس. ثم قفلوا إلى بجاية واستقرّ السيد أبو زيد بها، وقصد علي بن غانية قفصة فملكها، ونازل توزر فامتنعت عليه، ولحق بطرابلس. وخرج غزي الصنهاجي من جموع ابن غانية في بعض أحياء العرب فتغلّب على أشير وسرّح إليهم السيد أبو زيد ابنه أبا حفص عمر، ومعه غانم بن مردنيش فأوقعوا بهم واستولى على حللهم. وقتل غزّي وسيق رأسه إلى بجاية ونصب بها، وألحق به عبد الله أخوه. وغرّب بنو حمدون من بجاية إلى سلا لاتهامهم بالدخول في أمر ابن غانية. واستقدم الخليفة السيد أبا زيد من مكانه ببجاية، وقدم مكانه أخاه السيد أبا عبد الله وانصرف إلى الحضرة. وبلغ الخبر أثناء ذلك باستيلاء علي بن الزبرتير على ميورقة. وكان من خبره أن الأمير يوسف بن عبد المؤمن بعثه إلى ميورقة لدعاء بني غانية إلى أمره. لما كان أخوهم محمد خاطبه بذلك، فلمّا وصل ابن الزبرتير إليهم نكروا شأنه على أخيهم محمد واجتمعوا دونه وتقبّضوا عليه وعلى ابن الزبرتير في أمره، وداخل مواليهم من العلوج في تخلية سبيله من معتقله على أن يخلى سبيلهم بأهليهم وولدهم إلى أرضهم، فتمّ له مراده منهم وصار بالقصبة [2] واستنفذ   [1] وفي النسخة الباريسية: سكلات وفي نسخة أخرى سلات وفي نسخة ثانية تكلات. [2] وفي نسخة أخرى: وثار بقفصة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 محمد بن أبي إسحاق من مكان اعتقاله، ولحقوا جميعا بالحضرة. وبلغ الخبر علي ابن غانية بمكانه من طرابلس فبعث أخاه عبد الله إلى صقلّيّة، وركب منها إلى ميورقة ونزل في بعض قراها. وأعمل الحيلة في تملك البلد فاستولى عليه وأضرم نار الفتنة بإفريقية. ونازل علي بن غانية بلاد الجريد وتغلّب على الكثير منها، وبلغ الخبر باستيلائه على قفصة فخرج المنصور إليه من مراكش سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ووصل فاس فأراح بها، وسار إلى رباط تازى، ثم سار على التعبية إلى تونس، وجمع ابن غانية من إليه من الملثّمين والأعراب، وجاء معه قراقش الغزّي صاحب طرابلس، فسرّح إليهم المنصور عساكره لنظر السيد أبي يوسف ابن السيد أبي حفص، ولقيهم بغمرة فانقضّ جموع الموحّدين وانجلت المعركة عن قتل علي بن الزبرتير وأبي علي بن يغمور، وفقد الوزير عمر بن أبي زيد، ولحق فلّهم بقفصة فأثخنوا فيهم قتلا، ونجا الباقون إلى تونس. وخرج المنصور متلافيا خبر الواقع في هذا الحال، ونزل القيروان، وأغذّ السير إلى الحامّة فتشاور الفريقان وتزاحفوا فكانت الدبرة على ابن غانية وأحزابه، وأفلت من المعركة بذماء نفسه ومعه خليلة قراقش، وأتى القتل على كثيرهم فصبح المنصور قابس فافتتحها ونقل من كان بها من حرم ابن غانية وذويه في البحر إلى تونس. وثنى العنان إلى تونس فافتتحها وقتل من وجد بها، ثم إلى قفصة فنازلها أياما حتى نزلوا على حكمه. وأمّن أهل البلد والأغراب أصحاب قراقش، وقتل سائر الملثمين ومن كان معهم من الحشود، وهدم أسوارها وانكفأ راجعا إلى تونس، فعقد على إفريقية للسيد أبي زيد، وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ومرّ بالمهدية، واستجر [1] على طريق تاهرت، والعبّاس بن عطيّة أمير بني توجين دليله إلى تلمسان، فنكب بها عمّه السيد أبا إسحاق لشيء بلغه عنه وأحفظه. ثم ارتحل إلى مراكش، ورفع إليه أنّ أخاه السيد أبا حفص والي مرسية الملقّب بالرشيد، وعمه السيد أبا الربيع والي تادلّا عند ما بلغهم خبر الوقيعة بغمرة، حدّثوا أنفسهم بالتوثّب على الخلافة، فلمّا قدموا عليه للتهنئة أمر باعتقالهما برباط الفتح خلال ما استجلى أمرهما، ثم قتلهما وعقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص   [1] وفي نسخة أخرى: وأصحر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 على بجاية، وقصد يحيى بن غانية قسنطينة فزحف إليه السيد أبو الحسن من بجاية فهزمه ودخل قسنطينة ودخل ابن غانية إلى بسكرة فقطع نخلها وافتتحها عنوة. ثم حاصر قسنطينة فامتنعت عليه فارتحل إلى بجاية وحاصرها، وكثر عيثه بإفريقية إلى أن كان من خبره ما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم. (اخباره في الجهاد) لمّا بلغه تغلّب العدوّ على قاعدة شلّب، وأنه أوقع بعسكر إشبيليّة، وتردّدت سراياهم على نواحيها، واقتحم [1] كثيرا من حصونها، وخاطبه السيد أبو يوسف بن أبي حفص صاحب اشبيلية بذلك. استنفر الناس للجهاد وخرج سنة ست وثمانين وخمسمائة إلى قصر مصمودة فأراح به. ثم أجاز إلى طريف وأغذ السير منها إلى شلّب، ووافته بها حشود الأندلس فتركهم لحصارها. وزحف إلى حصن طرّش فافتتحه ورجع إلى إشبيليّة. ثم رجع إلى منازلة شلّب سنة سبع وثمانين فافتتحه. وقدم عليه ابن وزير بعد أن كان افتتح في طريقه إليه حصونا أخرى. ثم قفل إلى حضرته بعد استكماله غزانة. وكتب بعهده لابنه الناصر. وقدم عليه سنة ثمان وثمانين وخمسمائة السيد أبو زيد صاحب إفريقية، ومعه مشيخة العرب من هلال وسليم فتلقّاهم مبرّة وتكريما، وانقلب وفدهم إلى بلادهم. ثم بلغه سنة تسعين وخمسمائة استفحال ابن غانية بإفريقية وكثرة العيث والفساد بها، فاعتزم على النهوض إليها، ووصل إلى مكناسة فبلغه من أمر الأندلس ما أهمّه فصرف وجهه إليها، ووصل قرطبة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فأراح بها ثلاثا وإمداد الحشود تتلاحق به من كل ناحية. ثم ارتحل للقاء العدوّ ونزل بالأرك من نواحي بطليوس، وزحف إليه العدوّ من النصارى وأمراؤهم يومئذ ثلاثة: ابن أذفونش وابن الرند والبيّوح [2] . وكان اللقاء يوم كذا سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأبو محمد بن أبي حفص يومئذ على المطوّعة، وأخوه أبو يحيى على العساكر والموحّدين، فكانت   [1] وفي نسخة أخرى: وافتتح. [2] وفي نسخة أخرى: الرنك ولبّبوج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 الهزيمة المشهورة على النصارى واستلحم منهم ثلاثون ألفا بالسيف. واعتصم فلّهم بحصن الأرك، وكانوا خمسة آلاف من زعمائهم، فاستنزلهم المنصور على حكمه وفودي بهم عددهم من المسلمين. واستشهد في هذا اليوم أبو يحيى ابن الشيخ أبي حفص بعد أن أبلى بلاء حسنا، وعرف بنوه بعدها ببني الشهيد. وانكفأ المنصور راجعا إلى إشبيليّة. ثم خرج منها سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة غازيا إلى بلاد الجوف فافتتح حصونا ومدنا وخرّبها. كان منها ترجالة وطلبيرة. وأطلّ على نواحي طليطلة، فخرّب بسائطها واكتسح مسارحها، وقفل إلى إشبيليّة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه وعقله. وربما ألّف بعضها بخطه فحبس. ثم أطلق وأشخص إلى الحضرة وبها كانت وفاته. ثم خرج المنصور من إشبيليّة غازيا إلى بلاد ابن أذفونش حتى احتل بساحة طليطلة، وبلغه أن صاحب برشلونة أمدّ ابن أدفونش بعساكره، وأنهم جميعا بحصن مجريط، فنهض إليهم. ولمّا أطلّ عليهم انفضّت جموع ابن أذفونش من قبل القتال، ثم انكفأ المنصور راجعا إلى إشبيليّة. ثم رغب إليه ملوك النصرانيّة في السلم فبذله لهم. وعقد على إشبيليّة للسيد أبي زيد ابن الخليفة، وعلى مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع ابن السيد أبي حفص، وعلى المغرب للسيد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص. وأجاز إلى حضرته سنة أربع وتسعين وخمسمائة فطرقه المرض الّذي كان منه حتفه، وأوصى وصيّته التي تناقلها الناس. وحضر لوصيّته عيسى ابن الشيخ أبي حفص، وهلك رحمه الله سنة خمس وتسعين وخمسمائة في آخر ربيعها، والله تعالى أعلم. (الخبر عن وصول ابن منقذ بالهدية من قبل صاحب الديار المصرية) كان الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيديّة منذ تسعين سنة وملكوا بيت المقدس، فلمّا استولى صلاح الدين بن أيوب على ديار مصر والشام اعتزم على جهادهم، وصار يفتح حصونها واحدا بعد واحد حتى أتى على جميعها. وافتتح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وهدم الكنيسة التي بنواحيها [1] ، وانفضّت أمم النصرانية من كل جهة واعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر فبعث صريخه إلى المنصور سنة خمس وثمانين وخمسمائة يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكّا وصور وطرابلس. ووفد عليه أبو الحرث عبد الرحمن بن منقذ بقيّة أمراء شيزر من حصون الشام، كانوا أشروا به عند اختلال الدولة العبيدية. فلمّا استقام الأمر على يد صلاح الدين، وانتظم ملك مصر والشام واستنزل بني منقذ هؤلاء ورعى لهم سابقتهم، وبعثه في هذه إلى المنصور بالمغرب بهديّة تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين، ومائة درهم من دهن البلسان، وعشرين رطلا من العود، وستمائة مثقال من المسك والعنبر، وخمسين قوسا عربية بأوتارها، وعشرين من النصول الهندية وسروج عدّة ثقيلة. ووصل إلى المغرب ووجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى الرسالة فاعتذر له عن الأسطول وانصرف. ويقال إنه جهّز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله تعالى أعلم. (دولة الناصر بن المنصور) لما هلك المنصور وأمر ابنه محمد وليّ عهده، وتلقّب الناصر لدين الله، واستوزر أبا زيد بن يوجان وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص. ثم استوزر أبا محمد ابن الشيخ أبي حفص، وعقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص على بجاية، وفوّض إليه في شئونها. وبلغه سنة ست وتسعين وخمسمائة إجحاف العدوّ بإفريقية، وفساد الأعراب في نواحيها، ورجوع السيد أبي الحسن من قسنطينة منهزما أمام ابن غانية، فأنفذ السيد أبا زيد بن أبي حفص إلى تونس في عسكر من الموحّدين لسدّ ثغورها. وأنفذ أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فتغلّب ابن غانية خلال ذلك على حصن المهديّة. وثار بالسوس سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ثائر من كزولة يعرف بأبي   [1] وفي نسخة أخرى: بنوها عليها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 قفصة، فسرّح الناصر إليه عساكر الموحّدين فقصدوا جموعه وقتل. وفي أيامه كان فتح ميورقة على ما نقلوا من خبرها. (فتح افريقية) وكان من خبرها أن محمد بن إسحاق لمّا فصل إخوته عليّ ويحيى إلى إفريقية، وولّى على ميورقة أخاهم طلحة، داخل محمد بعض الحاشية، وخرج من الاعتقال هو وابن الزبرتير، وقام بدعوة المنصور، وبعث بها مع ابن الزبرتير، فبعث المنصور أسطوله مع أبي العلا بن جامع لتملّك ميورقة، فأبى محمد عن ذلك، راسل طاغية برشلونة في المدد بجند من النصارى يستخدمهم فأجابه، وانتقض عليه أهل ميورقة لذلك، وخشوا عادية المنصور فطردوا محمد بن إسحاق وولّوا عليهم أخاه تاشفين. وبلغ ذلك عليّا وهو على قسنطينة، فبعث إخوته عبد الله الغازي فداخلوا بعض أهل البلد وعزلوا تاشفين وولوا عبد الله، وبعث المنصور أسطوله مرارا مع أبي العلا بن جامع. ثم مع يحيى ابن الشيخ إبراهيم الهزرجي فامتنعوا عليهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقوي أمره وذلك سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ثم لما هلك المنصور بعث الناصر أسطوله مع عمّه السيد أبي العلا والشيخ أبي سعيد بن أبي حفص فنازلوه وانخذل عنه أخوه تاشفين بالناس، ودخل البلد عنوة، واستفتحت وقتل. وانصرف السيد إلى مراكش وولّى عليها عبد الله بن طاع الله الكومي، ثم ولّى الناصر عليها عمّه السيد أبا زيد، وجعل ابن طاع الله على قيادة البحر. وبعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، ثم أبو يحيى علي بن أبي عمران التينمللي، ومن يده أخذها النصارى سنة سبع وعشرين وستمائة، والله تعالى أعلم. (خبر إفريقية وتغلب ابن غانية عليها ولاية أبي محمد بن أبي الشيخ أبي حفص) لما هلك المنصور قوي أمر ابن غانية بإفريقية، وولّى الناصر السيد أبا زيد والشيخ أبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 سعيد بن أبي حفص، ويقال ان المنصور ولّاهما، وكثر الهرج بإفريقية وثار بالمهديّة محمد بن عبد الكريم الرجراجي، ودعا لنفسه، ونازع ابن غانية الموحّدين الأمر، وتسمّى صاحب قبة الأديم محمد بن عبد الكريم الركراكي. ونزل تونس وعاث في قراها سنة ست وتسعين وخمسمائة ونازل ابن غانية بفاس فامتنع عليه، وكان محمد ابن مسعود البلطي شيخ رياح من أشياعه فانتقض عليه، وراجع ابن غانية فأتيح له الظهور على محمد بن عبد الكريم وقصده وهو على قفصة فهزمه. واتبعه إلى المهديّة فنازله بها. وبعث إلى صاحب تونس في المدد بأسطوله فأمدّه، فضاقت حال ابن عبد الكريم، فسأل الأمان من ابن غانية فأمّنه، وخرج إليه فتقبض عليه واستولى على المهديّة سنة تسع وتسعين وخمسمائة وقتله. وبعث الناصر أسطوله في البحر مع عمه أبي العلا وعساكر الموحّدين مع السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن. ونازلوا ابن عبد الكريم قبل استيلاء ابن غانية عليها، فادعى ابن عبد الكريم بأنه حافظ للحصن من العدو، ولا يمكنه إلّا لثقة الخليفة. وانصرف السيد أبو الحسن إلى بجاية موضع عمله، وقسّم العسكر بينه وبين أخيه السيد أبي زيد صاحب تونس وصلحت الأحوال. ثم أن ابن غانية لمّا تغلّب على المهديّة وعلى قراقش الغزّيّ صاحب طرابلس، وقد مرّت أخباره في أخبار ابن غانية. ثم تغلّب على بلاد الجريد، ثم نزل تونس تسع وتسعين وخمسمائة وافتتحها عنوة، وتقبّض على السيد أبي زيد، وطالب أهل تونس بالنفقة التي أنفق وبسط عليهم العذاب. وتولى ذلك فيهم كاتبه ابن عصفور حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم. ثم دخل في دعوته أهل بونه وبنزرت وشقبناريّة والاربص والقيروان وسبتة وصفاقس وقابس وطرابلس. وانتظمت له أعمال إفريقية وفرّق العمّال وخطب للعبّاسي كما ذكرناه في أخباره. ثم ولّى على تونس أخاه الغازي ونهض إلى جبال طرابلس فأغرمهم ألف ألف دينار مكرّرة مرّتين ورجع إلى تونس. واتصل بالناصر كثرة الهرج بإفريقية واستيلاء ابن غانية عليها وحصول السيد أبي زيد في قبضته، فشاور الموحّدين في أمره، فأشاروا بمسالة ابن غانية. وأشار أبو محمد بن الشيخ أبي حفص بالنهوض إليها والمدافعة عنها فعمل على رأيه، ونهض من مراكش سنة إحدى وستمائة، وبعث الأسطول في البحر لنظر أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجيّ، فبعث ابن غانية ذخيرته وحرمه إلى المهديّة مع عليّ بن الغازي بن محمد بن علي. وانتقض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 أهل طرابلس على ابن غانية وأخرجوا عاملهم تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي ابن غانية، وقصدهم ابن غانية فافتتحها وخرّبها. ووصل أسطول الناصر إلى تونس فدخلوها وقتلوا من كان بها من أتباع ابن غانية، ونهض الناصر في أتباع ابن غانية فأعجزه ونازل المهديّة، وبعث أبا محمد بن الشيخ أبي حفص للقاء ابن غانية فلقيه بتاجرا فأوقع به وقتل أخاه جبارة. وكاتبه ابن اللمطي وعامله الفتح بن محمد. قال ابن نخيل: وكانت الغنائم من عسكره يومئذ ثمانية عشر ألفا من أحمال المال والمتاع والخرثيّ والآلة. ونجا بأهله وولده فأطلق السيد أبا زيد من الاعتقال بعد أن همّ حرسه بقتله عند الهزيمة. ثم تسلّم الناصر المهديّة من يد علي بن الغازي المعروف بالحاج الكافي على أن يلحق بابن عمّه فقبل شرطه ومضى لوجهه. ثم رجع من طريقه واختار التوحيد فناله من الكرامة والتقريب ما لا فوقه. وهلك في يوم العقاب الآتي ذكره. ثم فرض الناصر على المهديّة، واستعمل عليها محمد بن يغمور الهرغي، وعلى طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع، ورجع إلى تونس فأقام إلى سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أخاه السيد أبا إسحاق في عسكر من الموحّدين لاتباع العدوّ فدوّخوا ما وراء طرابلس. واستأصلوا بني دمّر ومطماطة وجبال نفوسة وتجاوزوها إلى سويقة بني مذكور. وقفل السيد أبو إسحاق بهم إلى أخيه الناصر بتونس وقد كمل الفتح. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وأجمع رأيه على تولية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، وكان شيخ دولته وصاحب رأيه فامتنع إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف، فأكبر مجيئه وأناب لذلك على أن يقيم بإفريقية ثلاث سنين خاصة خلاف ما يستحكم صلاحها، وأن يحكم فيمن يقيم معه من العسكر فتقبّل شرطه. ورجع الناصر إلى مراكش فدخلها في ربيع سنة أربع وستمائة، وقدم عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاتي على الأشغال بالعدوتين وكان على الوزارة أبو سعيد بن جامع، وكان صديقا لابن عبد العزيز. وعند مرجعه من إفريقية توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله ابن عبد المؤمن صاحب بجاية، وقد كان أبو الربيع هذا ولي بجاية من قبل، وهو الّذي جدّد للربيع [1] . وكان بنو حمّاد شيّدوها من قبل، فأصابها الحريق وجدّدها   [1] وفي نسخة أخرى: جدّد الرفيع والبديع من رياضها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 السيد أبو الربيع. وفي سنة خمس وستمائة بعدها عقد للسيد أبي عمران بن يوسف ابن عبد المؤمن على تلمسان، أدال به من السيد أبي الحسن فوصل إلى تلمسان في عساكر الموحّدين وتطوّف أقطارها، وزحف إليه ابن غانية هنالك فانفضّ الموحّدون وقتل السيد أبو عمران. وارتاع أهل تلمسان وأسرع السيد أبو زكريا من فاس إليها فسكن نفوسهم خلال ما عقد الناصر لأبي زيد بن يوجان على تلمسان، وسرّحه في العساكر فنزل بها. وفرّ ابن غانية إلى مكانه من قاصية إفريقية ومعه محمد بن مسعود البلط شيخ الزواودة [1] من رياح وغيره من أعراب رياح وسليم. واعترضهم أبو محمد بن أبي حفص فانكشفوا واستولى الموحّدون على محلاتهم وما بأيديهم، ولحقوا بجهات طرابلس. ورجع عنهم سير بن إسحاق آخذا بدعوة الموحّدين، وفي هذه السنة عقد الناصر على جزيرة ميورقة لأبي يحيى بن أبي الحسين بن أبي عمران، أدال به من السيد أبي عبد الله بن أبي حفص، وعقد على بلنسية وعلى مرسية لأبي عمران بن ياسين الهنتاتي، أدال به من أبي الحسن بن زاكاك [2] . وعقد للسيد أبي زيد على كورة جيان، أدال به من أبي موسى بن أبي حفص، وعقد للسيد أبي إبراهيم بن يوسف على إشبيليّة ولأبي عبد الله بن أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص على غرناطة إلى أن كان ما يذكر إن شاء الله تعالى. (أخباره في الجهاد) لمّا بلغ الناصر تغلّب العدو على كثير من حصون بلنسية أهمه ذلك وأقلقه، وكتب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي حفص يستشيره في الغزو، فأبى عليه فخالفه، وخرج من مراكش سنة تسع وستمائة ووصل إشبيليّة واستقرّ بها واستعدّ للغزو. ثم رجع من إشبيليّة وقصد بلاد ابن أذفونش فافتتح قلعة شلبطرة والبخ [3] في طريقه. ونازل الطاغية قلعة رياح وبها يوسف بن قادس وأخذ بمخنقه فصالحه على النزول، ووصل إلى الناصر فقتله وصار على التعبية إلى الموضع المعروف بالعقاب. وقد استعدّ له   [1] وفي نسخة أخرى: الدواودة. [2] وفي نسخة أخرى: واكاك. [3] وفي نسخة أخرى: واثلج وفي النسخة الباريسية والح وفي نسخة ثانية وانلج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 الطاغية، وجاءه طاغية برشلونة مددا بنفسه، فكانت الدبرة على المسلمين. فانكشفوا في يوم بلاء وتمحيص أواخر صفر سنة تسع وستمائة. وانكفأ راجعا إلى مراكش فهلك في شعبان من السنة بعدها. وكان ابن أذفونش قد ناظر ابن عمه اليهوج [1] صاحب ليون في أن يوالي الناصر ويجرّ الهزيمة على المسلمين ففعل ذلك. ثم رجعوا إلى الأندلس بعد الكائنة للإغارة على بلاد المسلمين، فلقيهم السيد أبو زكريا ابن أبي حفص بن عبد المؤمن قريبا من إشبيليّة فهزمهم، وانتعش المسلمون بها، واتصلت الحال على ذلك والله أعلم. (ثورة ابن الفرس) كان عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس ويعرف بالمهر، وحضر مجلس المنصور في بعض الأيام وتكلّم بما خشي عاقبته في عقده وخرج من المجلس فاختفى مدّة، ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة وانتحل الإمامة وادّعى أنه القحطاني المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يقود الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جورا» ، إلى آخر الحديث. وكان مما ينسب إليه من الشعر: قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي ... تأهّبوا لوقوع الحادث الجلل قد جاء سيّد قحطان وعالمها [2] ... ومنتهى القول والغلّاب للدول والناس طوعا عصاه وهو سائقهم ... بالأمر والنهي بحر العلم والعمل وبادروا [3] أمره فاللَّه ناصره ... والله خاذل أهل الزيغ والميل فبعث الناصر اليه الجيوش فهزموه وقتل وسيق رأسه الى مراكش فنصب بها والله أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: الببوج. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وعاملها. [3] وفي نسخة أخرى: تبادروا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 (دولة المستنصر بن الناصر) لما هلك محمد الناصر بن المنصور بويع ابنه يوسف سنة إحدى عشرة وستمائة وهو ابن ست عشرة سنة ولقّب المستنصر باللَّه، وغلب عليه ابن جامع ومشيخة الموحّدين فقاموا بأمره. وتأخّرت بيعة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص من إفريقية لصغر سنّ المستنصر. ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن جامع صاحب الاشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته، واشتغل المستنصر عن التدبير بما يقتضيه الشباب، وعقد للسادة على عمالات ملكه، فعقد للسيد أبي إبراهيم أخي المنصور، وتلقّب بالظاهر على فاس، وهو أبو المرتضى. وعقد على إشبيليّة لعمّه السيد أبي إسحاق الأحول. واستولى ألفنش على المعاقل التي أخذها الموحّدون، وهزم حامية الأندلس، ووفد رسوله ابن الفخار فحاوله ابن جامع في السلم فعقده ثم صرف ابن جامع عن الوزارة بعد مهلك ابن أبي زيد بسعاية أبي زيد بن يوجان، واستوزر أبا يحيى الهزرجي وولى على الأشغال أبا علي بن أشرفي ثم رضي عن ابن جامع وأعاده، وعزل أبا زيد ابن يوجان من ولاية تلمسان بأبي سعيد بن المنصور، وبعثه إلى مرسية فاعتقل بها. واستمرّت أيام المنصور في هدنة وموادعة إلى أن ظهر بنو مرين بجهات فاس سنة ثلاث عشرة وستمائة، فخرج إليهم واليها السيد أبو إبراهيم في جموع الموحّدين فهزموه وأسروه. ثم عرفوه وأطلقوه، ثم وصل الخبر بمهلك أبي محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية فولّى عليها أبا العلى أخا المنصور، وكان واليا بأشبيليّة فعزل. وولّى على إفريقية سعاية بن مثنّى خاصة السلطان فتوجه إليها كما يذكر في أخبار بني أبي حفص. وخرج بناحية فاس رجل من العبيديّين انتسب للعاضد، وتسمّى بالمهديّ، فبعث السيد أبو إبراهيم أخو المنصور والي فاس إلى شيعته وبذل لهم المال فتقبّضوا عليه، وساقوه إليه فقتل. وفي سنة تسع عشرة وستمائة عقد المستنصر لعمّه أبي محمد المعروف بالعادل على مرسية، وعزله عن غرناطة. وهلك سنة عشرين وستمائة وقد التاثت الأمور فكان ما نذكر، والله تعالى أعلم . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 (الخبر عن دولة المخلوع أخي المنصور) لما هلك المستنصر في الأضحى من سنة عشرين وستمائة اجتمع ابن جامع والموحّدون وبايعوا للسيد أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور، فقام بالأمر وأمر بمطالبة ابن أشرفي بالمال. وكتب أخوه لأبي العلا بتجديد الولاية على إفريقية بعد أن كان المستنصر أو عز بعزله، فأدركته الولاية ميتا فاستبدّ بها ابنه أبو زيد المشمّر كما نذكره في أخبار إفريقية. وأنفذ المخلوع أمره بإطلاق ابن يوجان فأطلق. ثم صدّه ابن جامع عن ذلك وأنفذ أخاه أبا إسحاق في الأسطول ليغرّبه إلى ميورقة كما كان المستنصر أنفذه قبل وفاته. وكان الوالي بمرسية أبو محمد عبد الله بن المنصور وأغراه ابن يوجان بالتوثّب على الأمر، وشهد له أنه سمع من المنصور العهد له بالخلافة من بعد الناصر. وكان الناس على كره ابن جامع. وولاة الأندلس كلّهم بنو منصور فأصغى إليه، وكان متردّدا في بيعة عمّه، فدعا لنفسه وتسمّى بالعادل. وكان إخوته أبو العلى صاحب قرطبة، وأبو الحسن صاحب غرناطة، وأبو موسى صاحب مالقة، فبايعوه سرّا. وكان أبو محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان وعزله المخلوع بعمّه أبي الربيع بن أبي حفص فانتقض وبايع للعادل وزحف مع أبي العلى صاحب قرطبة وهو أخو العادل إلى إشبيليّة، وبها عبد العزيز أخو المنصور والمخلوع فدخل في دعوتهم وامتنع السيد أبو زيد بن عبد الله أخي البياسي عن بيعة العادل، وتمسّك بطاعة المخلوع. وخرج العادل من مرسية إلى إشبيليّة فدخلها مع أبي زيد بن يوجان، وبلغ الخبر إلى مراكش فاختلف الموحّدون على المخلوع. وبادروا بعزل ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة. وقام بأمر هنتاتة أبو زكريا يحيى بن أبي يحيى السيد ابن أبي حفص، وبأمر تين ملّل يوسف بن علي، وبعث على اسطول البحر أبا إسحاق بن جامع، وأنفذه لمنع الجواز من الزقاق. وكان أسرّ إلى ابن جامع حين خرج إلى هسكورة أن يحاول عليه من هنالك فلم يتم أمره، وقتل بمكان خفي في ربيع سنة إحدى وعشرين وستمائة وبعث الموحّدون ببيعتهم إلى العادل، والله أعلم . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 (الخبر عن دولة العادل بن المنصور) لما بلغت بيعة الموحّدين للعادل وكتاب ابن زكريا بن الشهيد بقصّة المخلوع، قارن ذلك تغييره للبيّاسي فانتقض عليه، ودعا لنفسه ببيّاسة، وتلقّب الظافر وشغل بشأنه، وبعث أخاه أبا العلى لحصاره فامتنع عليه، وبعث بعده ابنه أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فامتنع عليه أيضا، واختلّت الأحوال بالأندلس على العادل وكثرت غارة النصارى على إشبيليّة ومرسية وهو مقيم بها. وانهزمت جيوش الموحّدين على طليطلة وأغراه خاصته بابن يوجان فأخذ إلى سبتة. وعظم أمر البيّاسي بالأندلس وظاهر النصارى على شأنه، فأجاز العادل إلى العدوة وولّى أخاه أبا العلى على الأندلس. ولما كان بقصر الحجاز دخل عليه عبّو بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، فقال له كيف حالك فأنشده: حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان اليه منها تائبا فاستحسن ذلك وولّاه إفريقية. وكتب للسيد أبي زيد ابن عمه بالقدوم، ووصل إلى سلا فأقام بها. وبعث عن شيوخ جشم، وكان لابن يوجان عناية واختصاص يهلال بن حمدان بن مقدّم أمير الخلط، فتثاقل ابن جرمون أمير سفيان عن الوصول، وأقبل الخلط وسفيان، وبادر العادل إلى مراكش فدخلها واستوزر أبا زيد بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص، وتغيّر لابن يوجان ففسد باطنه. وتغلّب على الدولة ابن الشهيد ويوسف بن علي شيخا هنتاتة وتين ملّل. ثم خالفت هسكورة والخلط وعاثوا نواحي مراكش، وخرج إليهم ابن يوجان فلم يغن شيئا فخرّبوا بلاد دكالة فأنفذ إليهم العادل عسكرا من الموحّدين لنظر إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ أبي حفص وهو الّذي كان نازع أولاد الشيخ أبي محمد بإفريقية كما نذكره فانهزم وقتل. وخرج ابن الشهيد ويوسف بن علي إلى قبائلها للحشد ومدافعة هسكورة، فاتفقا على خلع العادل والبيعة ليحيى بن الناصر، وقصدوا مراكش فاقتحموا عليه القصر ونهبوه، وقتل العادل خنقا أيام الفطر من سنة أربع وعشرين وستمائة والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 (الخبر عن دولة المأمون بن المنصور ومزاحمة يحيى بن الناصر له) كان المأمون لما بلغه انتقاض الموحّدين والعرب على أخيه، وتلاشى أمره لنفسه بأشبيليّة فبويع وأجابه أكثر الأندلس وبايع السيد أبو زيد صاحب بلنسية وشرق الأندلس. ثم كان ما قدّمناه من انتقاض الموحّدين على العادل وقتله بالقصر وبيعتهم ليحيى ابن أخيه الناصر، فكاتب ابن يوجان سرّا وعمل على إفساد الدولة، فداخلهم هسكورة والعرب في الغارة على مراكش، وهزم عساكر الموحّدين وفطن ابن الشهيد لتدبير ابن يوجان فقتله بداره. وخرج يحيى بن الناصر إلى معتصمه كما ذكرناه فخلع الموحّدون العادل [1] وبعثوا بيعتهم إلى المأمون. وتولّى كبر ذلك الحسن أبو عبد الله العريقي [2] والسيد أبو حفص بن أبي حفص فبلغ خبرهم إلى يحيى بن الناصر وابن الشهيد، فنزلوا إلى مراكش سنة ست وعشرين وستمائة وقتلوهم وبايع للمأمون صاحب فاس وصاحب تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان، وصاحب سبتة أبو موسى بن المنصور، وصاحب بجاية ابن أخته ابن الأطامي [3] وامتنع صاحب إفريقية وكان ذلك سببا لاستبداد الأمير أبي زكريا على ما يذكر. ولم يبق على دعوة يحيى بن الناصر إلا إفريقية وسجلماسة. وزحف البيّاسي إلى قرطبة فملكها، ثم زحف إلى إشبيليّة فنازل بها المأمون والطاغية معه، بعد أن نزل له عن مخاطة [4] وغيرها من حصون المسلمين فهزمهم المأمون بنواحي إشبيليّة ولحق البياسي بقرطبة فثاروا به إلى حصن المدور، فغدر به وزيره ميورك [5] ، وجاء برأسه إلى المأمون بأشبيليّة. ثم ثار محمد بن يوسف بن هود وملك مرسية واستولى على الكثير من شرق الأندلس كما ذكرناه في أخباره. وزحف إليه المأمون وحاصره وامتنع عليه فرجع إلى إشبيليّة، ثم خرج سنة ست وعشرين وستمائة   [1] حسب مقتضى السياق: يحيى بن الناصر وهكذا في النسخة الباريسية. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغريغر. [3] وفي نسخة أخرى: الاطاس. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: قجاطة. [5] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يبورك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 إلى مراكش لما استدعاه أهل المغرب، وبعثوا إليه ببيعاتهم، وبعث إليه هلال بن حميد ان أمير الخلط يستدعيه. واستمدّ الطاغية عسكرا من النصارى وأمره على شروط تقبّلها منه المأمون، وأجاز إلى العدوة. وبادر أهل إشبيليّة بالبيعة لابن هود، واعترضه يحيى بن الناصر فهزمه المأمون واستلحم من كان معه من الموحّدين والعرب، ولحق يحيى بجبل هنتاتة. ثم دخل المأمون الحضرة وأحضر مشيخة الموحّدين وعدّد عليهم فعلاتهم وتقبّض على مائة من أعيانهم فقتلهم، وأصدر كتابه إلى البلدان بمحو اسم المهدي من السكّة والخطبة، والنعي عليه في النداء للصلاة باللغة البربرية، وزيادة النداء لطلوع الفجر وهو: «أصبح وللَّه الحمد» وغير ذلك من السنن التي اختصّ بها المهدي وعبد المؤمن، وجرى على سننها أبناؤه. فأوعز بالنهي عن ذلك كله. وشنّع عليهم في وصفهم الامام المهدي بالمعصوم، وأعاد في ذلك وأبدى. وأذن للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة بمراكش على شرطهم، فضربوا بها نواقيسهم. واستولى ابن هود بعده على الأندلس، وأخرج منها سائر الموحّدين، وقتلهم العامّة في كل محل [1] . وقتل السيد أبو الربيع ابن أخي المنصور وكان المأمون تركه واليا بقرطبة. واستبد الأمير أبو زكريا بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية، وخلع طاعته سنة سبع وعشرين وستمائة للسيد أبي عمران ابن عمه محمد الخرصان [2] على بجاية مع أبي عبد الله اللحياني أخي الأمير أبي زكريا. وزحف إليه يحيى بن الناصر فانهزم، ثم ثانية كذلك، واستلحم من كان معه ونصبت رءوسهم بأسوار الحضرة. ولحق يحيى بن الناصر ببلاد درعة وسجلماسة. ثم انتقض على المأمون أخوه أبو موسى ودعا لنفسه بسبتة وتسمّى بالمؤيد، فخرج المأمون من مراكش وبلغه في طريقه أنّ قبائل بني فازان ومكلاتة حاصروا مكناسة وعاثوا في نواحيها، فسار إليها وحسم عاملها [3] واستمرّ إلى سبتة فحاصرها ثلاثة أشهر، واستمدّ أخوه أبو موسى صاحب الأندلس لابن هود فأمدّه بأساطيله. وخالف يحيى بن الناصر المأمون إلى الحضرة فاقتحمها مع عرب سفيان وشيخهم   [1] وفي نسخة ثانية: في كل مطر. [2] وفي نسخة ثانية: الحرضاني وفي النسخة الباريسية الخرصاني. [3] وفي النسخة الباريسية عللها وهي أصح حسب مقتضى السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 جرمون بن عيسى، ومعهم أبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة، وعاثوا فيها، فأقلع المأمون عن سبتة يريد الحضرة وهلك في طريقه بوادي أمّ الربيع مفتتح سنة ثلاثين وستمائة وحين إقلاعه دخل أخوه السيد أبو موسى في طاعة ابن هود، وأمكنه من سبتة فأداله منها، والله تعالى أعلم. (الخبر عن دولة الرشيد بن المأمون) لمّا هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد ولقّب الرشيد، وكتموا موت أبيه وأغذّوا السير إلى مراكش، ولقيهم يحيى بن الناصر في طريقهم بعد أن استخلف بمراكش أبا سعيد بن وانودين فهزموه، وقتل أكثر من معه. وصبّح الرشيد مراكش فامتنعوا عليه بأشياعهم، ثم خرجوا إليه واستقاموا على بيعته. وكان وصل في صحبته عمه السيد أبو محمد سعد فحلّ من الدولة بمكان، وكان إليه التدبير والحلّ والعقد، وبعد استقرار الرشيد بالحضرة وصل إليه عمر بن وقاريط كبير الهساكرة بمن كان عنده من أولاد المأمون السيّد وإخوته، جاءوا من إشبيليّة عند ثورة أهلها بهم، واستقرّوا بسبتة عند عمهم أبي موسى، ومنها إلى الحضرة عند استيلاء ابن هود على سبتة ومرّوا بهسكورة، وكان ابن وقاريط حذرا من المأمون ومعتقدا أن لا يعود إليه، فتذمّم بصحبة هؤلاء الأولاد، وقدم على الرشيد فتقبّله واعتلق بوصله من السيد أبي محمد سعد وصحبه [1] لمسعود بن حمدان كبير الخلط. ولما هلك السيد أبو محمد لحق ابن وقاريط بقومه ومعتصمه، وكشف وجه الخلاف، وأخذ بدعوة يحيى بن الناصر، واستنفر له قبائل الموحّدين ونهض إليهم الرشيد سنة إحدى وثلاثين وستمائة واستخلف على الحضرة صهره أبا العلى إدريس وصعد إليهم الجبل، فأوقع بيحيى وجموعه بمكانهم من هزرجة واستولى على معسكرهم. ولحق يحيى ببلاد سجلماسة وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته، واستأمن له كثير من الموحّدين الذين كانوا مع يحيى بن الناصر فأمّنهم ولحقوا بحضرته. وكان كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا الكدميوي، وجاء الباقون على أثره بسعيه بعد أن شرطوا عليه   [1] وفي نسخة أخرى: وصحابة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 إعادة ما كان أزال المأمون من رسوم المهدي فأعيدت. وقدم فيهم أبو بكر بن يعزى التينمللي رسولا عن يوسف بن علي بن يوسف شيخ تين ملّل، ومحمد بن يوزيكن الهنتاني رسولا عن أبي علي بن عزوز، ورجعا إلى مرسليهما بالقبول، فقدما على الحضرة وقدم معهم موسى بن الناصر أخو يحيى وكبيره. وجاء على أثرهم أبو محمد ابن أبي زكريا وأنسوا لإعادة رسوم الدعوة المهدية. وكان مسعود بن حمدان الخلطي قد أغراه عمر بن وقاريط بالخلاف لصحبة بينهما، وكان مدلّا ببأسه وكثرة جموعه. يقال: إنّ الخلط كانوا يومئذ يناهزون اثني عشر ألفا سوى الرّجل والأتباع والحشود، فمرض في الطاعة وتثاقل عن الوفادة، ولمّا علم بمقام الموحدين أجمع اعتراضهم وقتلهم تمكينا للفرقة والشتات في الدولة فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه، وصرف عساكره إلى باجة [1] لنظر وزيره السيد أبي محمد، حتى خلا لابن حمدان الحوّ وذهب عنه الريب، واستقدمه فأسرع اللحاق بالحضرة، وقدم معه معاوية عم عمر بن وقاريط، فتقبّض عليه وقتل لحينه. واستدعى مسعود بن حمدان إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبّض عليه وعلى أصحابه وقتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة، وقضى الرشيد حاجة نفسه فيهم. واستقدم وزيره وعساكره من باجة فقدموا، ولما بلغ خبر مقتلهم إلى قومهم قدّموا عليهم يحيى ابن هلال بن حمدان [2] ، وأجلبوا على سائر النواحي، وأخذوا بدعوة يحيى واستقدموه من مكانه بقاصية الصحراء. وداخلهم في ذلك عمرو بن وقاريط، وزحفوا لحصار الحضرة، وخرجت العساكر لقتالهم ومعهم عبد الصمد بن يلولان فدفع [3] ابن وقاريط في جموعه من العساكر فانهزموا، وأحيط بجند النصارى فقتلوا وتفاقم الأمر بالحضرة، وعدمت الأقوات. واعتزم الرشيد على الخروج إلى جبال الموحّدين فخرج إليها. وسار منها إلى سجلماسة فملكها، واشتدّ الحصار على مراكش وافتتحها يحيى بن الناصر وقومه من هسكورة والخلط، وسار أمرهم [4] فيها وتغيّرت أحوال الخلافة. وتغلّب على السلطان السيد   [1] وفي نسخة أخرى: حاجة. [2] وفي نسخة أخرى: جميدان. [3] وفي نسخة أخرى: فرجع. [4] وفي نسخة أخرى: أثرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقّب بأبي حاقة، وفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة خرج الرشيد من سجلماسة بقصد مراكش، وخاطب جرمون بن عيسى وقومه من سفيان، فأجازوا وادي أم الربيع وبرز إليه يحيى في جموعه، والتقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى واستحرّ القتل فيهم، ودخل الرشيد إلى الحضرة ظافرا. وأشار يحيى بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس، والأخذ بدعوته، فنكثوا بيعة يحيى وبعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة عمر بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ فاستقرّ هنالك. وخرج الرشيد من مراكش وفرّ الخلط أمامه، وسار إلى فاس وسرّح وزيره السيد أبا محمد إلى غمارة وفازاز لجباية أموالها، وكان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب المعقل فأجاروه ووعدوه النصرة، واشتطّوا عليه في المطالب، وأسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهة تازى، وسيق رأسه إلى الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش، وأوعز إلى نائبة بها أبي علي ابن عبد العزيز بقتل العرب الذين كانوا في اعتقاله وهم: حسن بن زيد شيخ العاصم، وقائد وفائد ابنا عامر شيخا بني جابر، فقتلهم وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته سنة أربع وثلاثين وستمائة وبلغه استيلاء صاحب درعة أبي محمد بن وانودين على سجلماسة، وذلك أنّ الرشيد لما فصل من سجلماسة استخلف عليها يوسف بن علي التينمللي، فاستعمل ابن خالته من بني مردنيش، وهو يحيى بن أرقم بن محمد بن مردنيش، فثار عليه ثائر من صنهاجة وقتله في خبائه. قام ابنه أرقم يطلب الثأر، ولو بلغ منه ما أراد. ثم حدّثته نفسه بالانتقاض خوفا من عزل الرشيد إيّاه فانتقض. ونهض إليه الرشيد سنة اثنتين وثلاثين وستمائة فلم يزل أبو محمد بن وانودين يعمل الحيلة في استخلاصها حتى تمكّن منها وعفا عن أرقم. وكان ابن وقاريط لمّا فصل إلى ابن هود سنة أربع وثلاثين وستمائة ركب البحر في أسطول ابن هود، وقصد لسلا وبها السيد أبو العلى صهر الرشيد، فكاد ان يغلب عليها. وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة بايع أهل إشبيليّة للرشيد ونقضوا طاعة ابن هود، وتولّى كبر ذلك أبو عمر بن الجدّ، واستخفّ [1] بنو حجاج إلى سبتة ووصل وفدهم إلى الحضرة ومرّوا في طريقهم بسبتة، فاقتدى أهلها بهم في بيعة الرشيد، وخلعوا أميرهم اليانشي [2] الثائر بها على   [1] وفي نسخة ثانية: أشخص. [2] وفي النسخة الباريسية: البانشتي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 ابن هود وقدموا على الحضرة، وولّى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم. ولأيام من مقدمهم وصل عمر بن وقاريط معتقلا من إشبيليّة، أغراهم بالقبض عليه القاضي أبو عبد الله المؤمناني، كان توجّه رسولا إلى ابن هود عن الرشيد، فأمكنهم من ابن وقاريط. وبعث إلى الرشيد في وفد من رسله فاعتقله بأزمور وقتل وصلب برباط هسكورة، بعد أن طيف به على جمل. وانصرف وفد إشبيليّة وسبتة، واستقدم الرشيد رؤساء الخلط فتقبّض عليهم، وبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحياءهم. ثم أمر بقتل مشيختهم وقتل معهم ابن وقاريط، وقطع دابرهم. وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الثائر بالأندلس على ابن هود. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة اشتدّت الفتنة بالمغرب، وانتشر بنو مرين وقتلوهم قتلا ذريعا. وكان الرشيد استقدم أبا محمد بن وانودين من سجلماسة سنة خمس وثلاثين وستمائة وعقد له على فاس وسجلماسة وغمارة ونواحيها من أرض المغرب، فكان هنالك. ولما انتشر بنو مرين بالمغرب زحف إليهم فهزموه، ثم زحف ثانية وثالثة فهزموه، وأقام في محاربتهم سنتين ورجع إلى الحضرة. واشتدّ عدوان بني مرين بالمغرب، وألحّوا على مكناسة حتى أعطوا الإتاوة لبني حمامة منهم، فأسفوا بني عسكر بذلك، واتصل عيثهم في نواحيها. وفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة قتل الرشيد كاتبه ابن المؤمناني [1] لمداخلة له مع بعض السادة، وهو عمر بن عبد العزيز أخي المنصور، وقف على كتابه إليه بخطه. وغلط الرسول بها فدفعها بدار الخليفة. وفي سنة أربعين وستمائة بعدها كانت وفاة الرشيد غريقا، زعموا في بعض حوائز [2] القصر. ويقال إنه أخرج من الماء وحمّ لوقته، وكان فيها مهلكه، والله تعالى أعلم. (الخبر عن دولة السعيد بن المأمون) لمّا هلك الرشيد بويع أخوه أبو الحسن السعيد بتعيين أبي محمد بن وانودين، وتلقّب المقتدر باللَّه [3] واستوزر السيد أبا إسحاق بن السيد أبي إبراهيم ويحيى بن عطوش.   [1] وفي النسخة الباريسية: ابن المأموني. [2] وفي النسخة الباريسية: جزاء وفي نسخة أخرى: حوائر، ولعله يقصد أحواز جمع حوز، وهي بركة الماء. [3] وفي نسخة أخرى: المعتضد باللَّه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 وتقبّض على جملة من مشيخة الموحّدين واستصفى أموالهم واستخلف لنفسه رؤساء العرب من جشم. واستظهر بجموعهم على أمره وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون كبير مجكسة [1] ولأوّل بيعته انتقض عليه أبو علي بن الخلاص البلنسي صاحب سبتة، وكذلك أهل إشبيليّة وبايعوا جميعا للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية. ثم انتقض عليه بسجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي لمقالة كانت منه يوم بيعة الرشيد اسرّها له فبايع للأمير أبي زكريّا. ثم وصلته في هذه السنة هدية يغمراسن بن زيّان صاحب تلمسان، فنهض الأمير أبو زكريّا صاحب إفريقية بسبب ذلك إلى تلمسان، واستولى عليها. ثم عقد عليها ليغمراسن حسبما نذكر في أخباره. وخرج السعيد من مراكش لتمهيد بلاد المغرب سنة اثنتين وأربعين وتغيّر لسعيد بن زكريّا الكدميوي فتقبّض عليه من معسكره بتانسفت وفرّ أخوه أبو زيد ومعه أبو سعيد العود الرطب، ولحقوا بسجلماسة فاستصفى أموالهم بمراكش، وارتحل بقصد سجلماسة وأخذ واليها عبد الله الهزرجي في أسباب الامتناع، فغدر به أبو زيد بن زكريّا الكدميوي، وداخل أهل سجلماسة في الثورة عليه وملك البلد. واستدعى السيد لها فوصل وقتل الهزرجي. وفرّ أبو سعيد العود الرطب إلى تونس. ثم رجع السعيد إلى المغرب وقتل سعيد بن زكريّا ونزل المقرمدة من أحواز فاس. وعقد المهادنة مع بني مرين وقفل إلى مراكش فتقبّض على أبي محمد بن وانودين واعتقله بأزمور. واعتقل معه يحيى بن مزاحم ويحيى بن عطّوش لنظر ابن ماكسن، فأعمل الحيلة في الفرار من معتقله. وخلص ليلا إلى كانون بن جرمون فأركبه وبعث معه من عرب سفيان من أوصله إلى قومه هنتاتة. وراسله السعيد على أثرها وسكنه واعتذر له، وأسعفه بسكنى تافيّوت من حصون عمله [2] بأهله وولده. ثم انتقض على السعيد كانون بن جرمون وسفيان، وخالفهم إليه بنو جابر والخلط، وخرج من مراكش واستوزر السيّد أبا إسحاق ابن السيّد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور. واستخلف أخاه أبا زيد على مراكش، وأخاهما أبا حفص عمر على سلا وفصل من مراكش سنة [3] وجمع له أبو يحيى بن عبد الحق جموع بني   [1] وفي نسخة أخرى: كبير مجلسه. [2] وفي نسخة أخرى: جبله. [3] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 راشد وبني ورا وسفيان، حتى إذا تراءى الفريقان للقاء، خالف كانون بن جرمون الموحّدين إلى أزمور. واستولى عليها ورجع السعيد أدراجه في أتباعه، ففرّ كانون واعترضه السعيد فأوقع به، واستلحم كثيرا من سفيان قومه، واستولى على ماله من مال وماشية، ولحق كانون في فلّ بني مرين ورجع السعيد إلى الحضرة. وفي ثلاث وأربعين وستمائة ثارت العامة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فقتلوه. وحذر مشيختها من سطوته فحوّلوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب إفريقية، وبعثوا إليه ببيعتهم، وكانت من إنشاء أبي مطرف بن عميرة، وذلك بمداخلة أبي يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين ووفاقه لهم على ذلك. وشارطوا أبا يحيى بن عبد الحق بمال دفعوه إليه على الحماية. ثم راجعوا أمرهم [1] وأوفدوا صلحاءهم ببيعتهم فرضي عنهم السعيد ورضوا عنه، وفي هذه السنة بعث أهل إشبيليّة وأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية. وبعث ابن خلاص بهديته مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند إقلاعه من المرسي. وفي سنة ست وأربعين كان استيلاء الطاغية على إشبيليّة لسبع وعشرين من رمضان ولمّا بلغ السيّد بيعة أهل إشبيليّة وسبتة للأمير أبي زكريا إلى ما كان من تغلّبه على تلمسان، وأخذ يغمراسن بدعوته، ثم ما كان من بيعة أهل مكناسة وأهل سجلماسة أعمل نظره في الحركة إلى تلمسان ثم إلى إفريقية. وخرج إلى مراكش في ذي الحجّة من سنة خمس وأربعين وستمائة ووافاه كانون بن جرمون فعاوده الطاعة واستحشد سفيان وجاء في جملة السعيد مع سائر القبائل من جشم. ولمّا احتلّ السعيد بتازي وافاه وفد بني مرين عن أميرهم أبي يحيى بن عبد الحق، فأعطوه الطاعة وبعثوا معه عسكرا من قومهم مددا له. ثم ثار السعيد إلى تلمسان فكان مهلكه بتامزردكت على يد بني عبد الواد في صفر سنة ست وأربعين وستمائة حسبما يشرح في أخبارهم. ويقال إنّ ذلك كان بمداخلة من الخلط فاستولوا على المحلة وقتلوا عدوّهم كانون، وانفضّ العسكر إلى المغرب وقد اجتمعوا الى عبد الله بن السعيد واعترضهم بنو مرين بجهات تازي، فقتلوا عبد الله بن السعيد ولحق الفلّ بمراكش فبايعوا المرتضى كما نذكر إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة أخرى: رأيهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 (الخبر عن دولة المرتضى ابن أخي المنصور) لما لحق فلّ العسكر بعد مهلك السعيد بمراكش، اجتمع الموحّدون على بيعة السيّد أبي حفص عمر بن السيد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور، واستقدموه لها من سلا، فلقيه وافدهم بتامسنا من طريقه ومعه أشياخ العرب فبايعوه وتلقّب المرتضى، وعقد ليعقوب بن كانون على بني جابر ولعمّه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعد أن كان قومه قدّموه عليهم، ودخل الحضرة فاستوزر أبا محمد بن يونس وتقبّض على حاشية السعيد، ثم وصل أخوه السيد أبو إسحاق من الفلّ آخذا على طريق سجلماسة فاستوزره واستبدّ عليه واستولى أبو يحيى بن عبد الحق وبنو مرين إثر مهلك السعيد على رباط تازي من يد السيد أبي علي أخي أبي دبّوس وأخرجوه فلحق بمراكش. ثم استولوا بعدها على مدينة فاس سنة سبع وأربعين وستمائة كما يذكر في أخبارهم بعد. وفي هذه السنة ثار بسبتة أبو القاسم العزفي وأخرج ابن الشهيد الوالي على سبتة من قرابة الأمير أبي زكريّا صاحب إفريقية، وحوّل الدعوة للمرتضى حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية وأخبار بني العزفي [1] وفي سنة تسع وأربعين وستمائة وفد على المرتضى موسى بن زيّان الونكاسي وأخوه علي من قبائل بني مرين وأغروه بقتال بني عبد الحق فخرج إليهم ولما انتهى إلى أمان إيملولي [2] أشاع يعقوب بن جرمون قضية الصلح بينهما فأصبحوا راحلين، وقد استولى الجزع على قلوبهم فانفضّوا ووقعت الهزيمة من غير قتال. ووصل المرتضى إلى الحضرة فعزل أبا محمد بن يونس عن الوزارة لشيء بلغه عنه، وأسكنه بحملته مع حاشيته، وفرّ من حملته عليّ بن بدر إلى السوس سنة إحدى وخمسين وستمائة، وجاهر بالعناد. وسرّح إليه السلطان عسكرا من الجند فرجعوا عنه ولم يظفروا به، وتفاقم أمره سنة اثنتين وخمسين وستمائة. وجمع أعراب الشبانات وبني حسّان وحمل أموال ونازل تارودانت فحاصر من كان بها. وسرّح المرتضى إليه عسكرا من الموحّدين فأفرج عنها. ثم رجع بعد قفولهم إلى حاله، وعثر المرتضى على خطابه لقريبة ابن يونس وكتاب ابن يونس إليه بخطه، فاعتقل هو   [1] وفي نسخة أخرى: الغزى. [2] وفي نسخة أخرى: يملّولن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 وأولاده ثم قتل. وفي هذه السنة استدعى مشيخة الخلط إلى الحضرة وقتلوا لما كان منهم في مهلك السعيد. وفيها خرج أبو الحسن بن يعلو في عسكر من الموحّدين إلى تامسنا ليكشف أحوال العرب، ومعه يعقوب بن جرمون، وعهد إليه المرتضى بالقبض على يعقوب ابن محمد بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليه وعلى وزيره ابن مسلم وطيّر بهما إلى الحضرة معتقلين. وفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس ونواحيها من يد بني مرين المتغلّبين عليها، فوصل إلى بني بهلول، وزحف إليه بنو مرين وأميرهم أبو يحيى فكانت الهزيمة على الموحّدين بذلك الموضع. ورجع المرتضى مفلولا إلى مراكش، ورعى [1] بني مرين من بعد ذلك سائر أيامه. واستبدّ العزفي بسبتة، وابن الأمير بطنجة كما نذكره في أخبارهم. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة بعث المرتضى إلى السوس عسكرا من الموحّدين لنظر أبي محمد بن أصناك فلقيهم عليّ بن بدر وهزمهم واستبدّ بأمره في السوس. وفي هذه السنة استولى أبو يحيى بن عبد الحق على سجلماسة وتقبّض على واليها عبد الحق بن أصكو بمداخلة من خديم له يعرف بمحمد القطراني بنواحي سلا، فصرف عبد الحق ابنه محمد هذا في مهمّة وقرّبه من بين أهل خدمته، وحدّثته نفسه بالثورة فاستمال عرب المعقل أوّلا بالمشاركة في حاجاتهم عند مخدومه، والإحسان إليهم حتى اشتملوا عليه. ثم داخل أبا يحيى بن عبد الحق في تمكينه من البلد فجاء بجملته، وقدم وفده إلى البلد رسلا في بعض الحديث فتقبّض محمد القطراني على عبد الحق بن أصكو وأخرجه إلى أبي يحيى بن عبد الحق فقاده وسرّحه إلى مراكش. وكان القطراني شرط على أبي يحيى أن يكون والي سجلماسة فأمضى له شرطه، وأنزل معه بها من رجالات بني مرين حتى إذا هلك أبو يحيى بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني واستبدّ بأمر سجلماسة، وراجع دعوة المرتضى واعتذر إليه واشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلّا في أحكام الشريعة [2] .   [1] وفي نسخة أخرى: مروادع. [2] وفي نسخة أخرى: الأحكام الشرعية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 وبعث أبا عمر بن حجّاج قاضيا من الحضرة، وبعض السادات للنظر في القضيّة [1] ، وقائدا من النصارى بعسكر للحماية، فأعمل ابن الحجّاج الحيلة في قتل القطراني وتولّاه قائد النصارى. واستبدّ السيّد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى، واستفحل أمر بني مرين أثناء ذلك. ونزل يعقوب بن عبد الحق بسائط تامسنا، فسرّح إليهم المرتضى عساكر الموحّدين لنظر يحيى بن وانودين فأجفلوا إلى وادي أمّ ربيع، فاتبعهم الموحّدون فرجعوا إليهم، وغدر بهم بنو جابر فانهزم الموحّدون بأمر الرجلين [2] . ولحق شيخ الخلط عيسى بن علي ببني مرين وارتحلوا إلى أوطانهم. وكان المرتضى قدّم يعقوب بن جرمون على قبائل سفيان، وكان محمد ابن أخيه كانون يناهضه في رياسة قومه، وغصّ به فقتله، وثأر به أخواه مسعود وعليّ بفدفد فقتلاه. وولّى المرتضى مكانه ابنه عبد الرحمن فاستوزر يوسف بن وازرك ويعقوب ابن علوان. وشغل بلذّاته وتصدّى لقطع السابلة، ثم نكث الطاعة ولحق ببني مرين، فولّى مكانه عمّه عبد الله بن جرمون ويكنّى بأبي زمّام. وعقد له المرتضى، ثم أدال منه بأخيه مسعود لعجزه. ووفد على المرتضى عواج بن هلال من أمراء الخلط نازعا إلى طاعته ومفارقا لبني مرين، فأنزل معه أصحابه بمراكش وجاء على أثره عبد الرحمن بن يعقوب بن جرمون، فتقبّض على عواج ودفعه إلى علي بن أبي علي فقتله، وكان تقبّض معه على عبد الرحمن بن يعقوب ووزيره فقتلوا جميعا، واستبدّ برياسة سفيان مسعود بن كانون، وبرياسة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون. وفي سنة ستين وستمائة عند رجوع يحيى بن وانودين من واقعة أمّ الرجلين، خرج عسكر من الموحّدين إلى السوس لنظر محمد بن علي الزلماط [3] ولقيه علي بن بدر فهزم جموعه وقتله، وعقد المرتضى من بعده على حرب علي بن بدر للوزير أبي زيد بن بكيت، وسرّح معه عسكرا من الجند، وكان فيهم دنلب من زعماء النصرانيّة، فدارت الحرب بين الفريقين، ولم يكن للموحّدين فيها ظهور على كثرتهم وقوّة جلدهم وحسن بلائهم، فسلبهم عن ذلك تكاسل دنلب وخروجه عن طاعة   [1] وفي نسخة أخرى: للسكنى في القصبة. [2] وفي نسخة أخرى: بأم الرجلين. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: أزلماط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 الوزير. وكتب بذلك للمرتضى فاستقدمه، وأمر أبو زيد بن يحيى الكدميوي باعتراضه في طريقه وقتله. وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أقبل يعقوب بن عبد الحق في جموع بني مرين فنازلوا مراكش واتصلت الحرب بينهم وبين الموحّدين بظاهرها أياما هلك فيها عبد الله أنعجوب بن يعقوب، فبعث المرتضى إلى أبيه بالتعزية ولاطفه وضرب له أتاوة يبعث بها إليه في كل عام، فرضي وارتحل عنهم، والله أعلم. (الخبر عن انتقاض أبي دبوس وتغلبه على مراكش ومهلك المرتضى وما كان في دولته من الأحداث) لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فرّ من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملقّب بأبي دبوس ابن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكّنت فيه عند المرتضى، وصحبه ابن عمه السيّد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة، فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجاره. ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخا به على شأنه. واشترط له المقاسمة في العمالة والذخيرة فأمدّه بالمال، يقال خمسة آلاف دينار عشرية. وأوعز إلى ابن أبي عليّ الخلطي بمظاهرته وإعطائه الآلات. ورجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمدّه بقومه. ثم سار إلى هسكورة ونزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة وهزوجة. وبعثوا إليه عزوز بن ببورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور، وكان منحرفا عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق، ووفد عليه جماعة من السادة الموحّدين والجند والنصارى، وارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان، وبإسماعيل بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليهما واعتقلهما، وصار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس. وقتل إسماعيل بن قيطون في معتقله، فانتفض أخوه ثائرا ولحق بهم، وحذّر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم، وزحف أبو العلى إلى مراكش. ولما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا يزيد بن بكيت في عساكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت وقتل عامّة أصحابه. وسار أبو دبوس إلى مراكش، وأغار علوش بن كانون على باب الشريعة والناس في صلاة الجمعة، وركّز رمحه بمصراعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 ودخلت سنة خمس وستين وستمائة والمرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس والأسوار خالية من الحراس والحامية، وقصد أبو دبوس باب اغمات فتسور البلد من هنالك ودخلها على حين غفلة. وقصد القصبة فدخلها من باب الطبول وفرّ المرتضى ومعه الوزير أبو زيد بن يعلو الكومي، وأبو موسى بن عزوز الهنتاتي، فلحقوا بهنتاتة وألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة، ومرّ في طريقه بعلي بن زكدان الونكاسي [1] كان نزع إليه عن قومه، ولم يفد عليه بعد، فنزل به المرتضى ورحل معه عليّ بمن معه إلى كدميوة، وكان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم، فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله، وسار إلى شفشاوة، ووجد بها عددا من الظهر فمنحها علي بن زكدان. وكتب إلى ابن وانودين بمعسكره من حاجة. وإلى ابن عطوش [2] بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة. وخاطب أبو دبوس علي بن زكدان يرغبه في القدوم عليه، فارتاب المرتضى لذلك ولحق بأزمور فتقبّض عليه واليها ابن عطوش. وكذا صهره [3] واعتقله، وطيّر بالخبر إلى أبي دبوس، فأمر وزيره السيد أبا موسى ان يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة، فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئا عندهم، والحلف على ذلك. وسألهم بالرحم، فعطف أبو دبوس عليه وجنح إلى الإبقاء. وبعث وزيره السيد أبا موسى ومسعود بن كانون في إزعاجه إليه. ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادة، فكتب خطه إلى السيد أبي موسى بقتله، فقتله واستقل أبو دبوس بالأمر، وتلقّب الواثق باللَّه والمعتمد على الله. واستوزر السيد أبا موسى وأخاه السيد أبا زيد، وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعيّة، وحدث بينه وبين مسعود بن كلداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها. وقدم عبد العزيز بن عطّوش سفيرا إليه في ذلك. وبلغه أنّ يعقوب بن عبد الحق نزل تامسنا فأوفد عليه حميد [4] بن مخلوف الهسكوري بهديّة فقبلها، وأكد بينهما العهد وانكفأ راجعا إلى وطنه. ورجع حميد إلى الواثق، ووافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن، فرجع أبو دبوس إلى   [1] وفي نسخة أخرى: علي بن زكداز الونكاسي. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: عصّوش. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وكان أصهره. [4] وفي نسخة أخرى: حيمدي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 مراكش بعد أن عقد لأبي موسى بن عزوز على بلاد حاحة. وبلغه في طريقه عن عبد العزيز بن السعيد أنه حدّث نفسه بالملك، وانّ ابن بكيت وابن كلداسن داخلوه في ذلك. وساءل عن ذلك السيد أبا زيد بن السيّد أبي عمران خليفته، وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله، فأنفذ ذلك. ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده، وحسم علل ابن بدر فيه. وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتقرى المنازل ويستنفر القبائل، ومرّ بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلا قلائل من الدور بخارجها. ونزل على حميدي صهر علي بن بدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر وملكه منازله أبو دبوس وحاصره أياما، وهزم فيها جموعه وداخل حميدي علي بن زكداز في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤدّيها إليه، فأعجله الفتح عن ذلك ونجا بدمائه إلى بيته. وطولب بالمال، وبقي معتقلا عند ابن زكداز، وامتنع ابن بدر بحصنه. ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته، فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة. وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنه زاحف إلى [1] فبعث بهديته إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن، وخرج بهم من مراكش ابن أبي مديون السكاسني [2] دليلا. وسلك بهم على القفر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن، فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه فألفوه بجهة مليانة، فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين وعسكر المغرب، ونزل بضواحي مراكش وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبوس في عساكر الموحّدين فاستجره يعقوب إلى وادي اغفو، ثم ناجزه الحرب فاختلّ مصافه وفرّ عسكره. وانهزم يريد مراكش، والقوم في اتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وفرّ بقية المشيخة من الموحّدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الواحد بن أبي دبوس، وسمّوه المعتصم مدة خمسة أيام وخرج في جملتهم، وانقرض أمر بني عبد المؤمن، والبقاء للَّه وحده.   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد البلد في المراجع التي بين أيدينا. [2] وفي النسخة الباريسية: المساكني وفي نسخة أخرى: الونكاسي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 (وأمّا هسكورة) وهم أكثر قبائل المصامدة، وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأمّا سواهم من بطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها، وإبرام عقدتها، فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولهم، وأمّا هسكورة فكان لهم بين الموحّدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم إلّا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا انغمسوا في نعيمهم. وكان جبلهم الّذي أوطنوه من حاله دون القنة منها والذروة. واعتصموا منه بالآفاق الفدد واليفاع الأشمّ والطود الشاهق، قد لمس الأفلاك بيده ونظم النجوم في مفرقه. وتلفّع بالحساب في مروطه، وآوى الرياح العواصف الدجوة وألقى إلى خبر السماء باذنه، وأظل على البحر الأخضر بشماريخه، واستدبر القفر من بلاد السوس بظهره، وأقام سائر جبال درن في حجره. ولما انقرض أمر الموحّدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع، وساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب والمغارم عليهم، فاستكانوا لعزهم وأعطوهم يد الطواعية، واعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزّوا فيه بمنعتهم، فلم يغمسوا في خدمتهم يدا، ولا أعطوهم مقادا، ولا رفعوا بدعوتهم راية، إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام. فإذا زحفت الحشود وتمرّست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة وأتاوة غير ملتزمة، ورئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه ويدفعهم في المضايق لحمايته، وربّما تخطّاهم إلى بعض قبائل الجبل ومن قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هسكورة وكنفيسة، وبالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس. وسفيان وهم بطن الحارث ومن المعقل وهم بطن الثبانات، وكان رئيسهم في ذكرنا بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف، وحرّروا لسان الأعجمين، هو عبد الواحد، وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر. وهلك سنة ثمانين وستمائة وكان منتحلا للعلم واعية له جمّاعة لكتبه ودواوينه، حافظا لفروع الفقه. يقال إن المدوّنة كانت من محفوظاته، محبّا في الفلسفة مطالعا لكتبها، حريصا على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة، مطلعا على الشرائع القديمة والكتب المنزّلة بكتب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 التوراة. ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اتهم في عقيدته ورمي بالرغبة عن دينه، ثم ولي من بعده ابنه عبد الله، وكان مقتفيا سنن أبيه في ذلك وخصوصا في انتحال السحر والاستشراف إلى صنعة الكيمياء. ولما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن أخيه عمر، وسكن فتنة المغرب ودوّخ أقطاره وحلّ معتصمه بالعساكر وأوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمدّه من أعراب السوس من ورائه، بما كان من تغلّبه على بلادهم واقتضائه بطاعتهم وإنزال عماله بالعساكر بينهم، فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة رهن فيها ابنه، واشترط للسلطان الهديّة والضيافة، فتقبّل منه ومنحه جانب الرضى. ولما كانت نكبة السلطان بالقيروان، واضطرب المغرب فتنة وخلا جوّ البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش، وأحكموا عقد الاتفاق بينهم وأجمعوا تخريبها بما كانت دارا للأمرة ولمقام الكتائب المجمّرة، وزعم عبد الله السكسيوي هذا بإنفاذ ذلك فيها، وضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام. ثم انحلّ عزمهم وافترقت جماعتهم وكلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس واجتماع بني مرين على السلطان أبي عنّان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره. ولما فرغ أبو عنّان من شأن أبيه واستولى على المغرب الأوسط وغلب عليه بنو عبد الواد، ولحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقّه، فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به، ولحق بعبد الله السكسيوي فآواه وظاهره على أمره. فجرّد أبو عنّان العزائم إليهم وعقد لوزيره فارس ابن ميمون بن وادرار على حربهم. واستخرج جيوش المغرب وأناخ بساحته سنة أربع وخمسين وستمائة واختطّ بسفح الجبل مدينة لحصاره سمّاها القاهرة. وأخذت بمخنقه وزاحمت بمناكبها أركان معقلة حتى لاذت للسلم، واشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه. وعقد له سلما على عادته وأفرج عنه. وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم ابنه محمد المعروف في لغتهم ايزم ومعناه الأسد، فغلبه على أمره ولحق عبد الله بعامر بن محمد الهنتاتي كبير المصامدة لعهده، وعامل السلطان عليهم، فاستجاش به ووعده عامر النصرة وأمهله عاما ونصفه حتى وفد على السلطان، واستوهب في ذلك. ثم أجمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 على نصره من عدوه فجمع له الناس وخاطب أهل ولايته أن يكون معه يدا. وزحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة وأخذ بمخنق أبيه وأشياعه. ثم داخله بعض بطانته ودلّه على بعض العورات اقتحم منها الجبل وثاروا بابنه ايزم فصاح به عبد الله وقومه. وفرّ محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل وقتل واسترجع عبد الله ملكه، واستقلّت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر ابن عبد الله على سلطان المغرب واستبداد عامر بن محمد بولاية مراكش، وثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان وهو عمّ عبد الله، كان قتله أيام إمارته الأولى وأقام مملكا على سكسيوة إلى سني خمس وسبعين وستمائة، فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله، واستقلّ بأمر سكسيوة ومن إليهم. ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عمّ له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلّا أنّ اسمه عبد الرحمن، لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست وسبعين وستمائة، فأخبرني الثقة بأمره وأنه ظفر بأبي بكر بن عمر وقتله. واستبدّ بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم وهو سنة تسع وسبعين وستمائة ثم بلغني سنة ثمان وثمانين وستمائة أنّ عبد الرحمن هذا ويعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر، واستبدّ بأمر هذا الجبل وهو الآن مالكه، وهو أخو ايزم بن عبد الله والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (وأما بقية قبائل المصامدة) من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة وحاحة ودكالة وغيرهم ممن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم أمم لا تنحصر. ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفي المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة، ومجاورهم من جانب الغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر وجبل درن في بسيط هناك يقضي إلى السوس، يعمّره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خمر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان، يتحصّنون بملتقها وأدواحها ويعتصرون الزيت لادامهم من ثمارها. وهو زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم يبعث منه العمّال إلى دار الملك في هداياهم فيطرفون به. وبآخر مواطنهم مما يلي أرض السوس وفي القبلة عن جبل درن بلدة دنست وبها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم، ورياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة وكان شيخهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين، وبعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين وبعده ابن عمّهم خالد بن عيسى بن حمّاد واستمرّت رياسته عليهم إلى أعوام ست وسبعين وسبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش، فقتله شيخ بن مرين علي بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم وما أدري لمن صارت رياستهم من بعده، وهم دكالة جميعا أهل مغرم واسع وجباية موفورة فيما علمناه، وللَّه الخلق والأمر وهو خير الوارثين. كان الواثق جهّز لحرب أحد أمراء المصامدة، فكان وزيره داخله في ذلك وسائل من ذلك السيد أبا زيد ابن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل الى السوس لتمهيده، وحسم هلال بن بدر فيه وقدّم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتعدّى المنازل ويستنفر القبائل وهو بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلّا قليلا من الدور بخارجها، ونزل على حميدين صهر علي بن بدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر وملكه فنازله أبو دبّوس وحاصره أياما وهزم فيها جموعه. وداخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبّوس على سبعين ألف دينار يؤدّيها إليه، فأعجله الفتح من ذلك ونجا بدمائه إلى بيته، وطولب بالمال وبقي معتقلا عند ابن زكدان، وامتنع على ابن بدر بحصنه، ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنهى إليه فبعث بمرتبة إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن. خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلا وسلك بهم على الثغر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه، وألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين ونزل بضواحي مراكش، وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبّوس بعساكر الموحّدين فاستجرّه يعقوب إلى وادي أعفر. ثم ناجزه الحرب فاختلّ مصافه وفرّ عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في اتباعه، فأدرك وقتل وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة، وفرّ بقية المشيخة من الموحّدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبّوس وسمّوه المعتصم مدّة من خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض أمر بني عبد المؤمن والبقاء للَّه وحده أهـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 (الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم) هذا العهد لما دعا المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن وكان أصل دعوته نفي التجسيم الّذي آل إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة، وصرّح بتكفير من أبى ذلك آخذا بمذهب التكفير بالمثال فسمّى لذلك دعوته بدعوة التوحيد، وأتباعه بالموحّدين نعيا على الملثّمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية، وخصّ بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها، وجعل علامة تمكنها فتح مراكش، فكان إنما اختصّ بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح، وكان أهل تلك السابقة قبل فتح مراكش ثماني قبائل سبعة من المصامدة: هرغة وهم قبيلة الإمام المهدي وهنتاتة و تين ملّل وهم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة والحماية، وكنفيسة وهزرجة وكدميوة ووريكة. وثمانية قبائل الموحّدين: كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته، دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن وسابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة واسمها. وقاموا بالأمر وحملوا سريره وأنفقوا في مذاهبه وممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر وبعدهم. وبقي من بقي منهم بمحالهم ومعاقلهم بقية حتوف. وجرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب والقهر حتى أبقوهم بالاتاوات، وانتظموا في عدد الغارمين من الرعايا، وصاروا يولّون عليهم من زناتة تارة ومن رجالاتهم أخرى، وفي ذلك عبرة وذكرى لأولي الألباب، والملك للَّه يورثه من يشاء. (هرغة) فأما هرغة وهم قبيل الإمام المهدي قد دثروا وتلاشوا وانتفقوا في القاصية من كل وجه لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة، وأصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 وتعصّبهم على أمره. ولم يبق منهم إلّا أخلاط وأوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئا. (تين ملّل) وكذا تين ملّل إخوتهم في التعصّب على دعوة المهدي والاشتمال عليه والقيام بأمره حتى تحيّز إليهم وبنى داره ومسجده بينهم، فكان يعطيهم من الفيء بقدر عظمهم من الابتلاء [1] ، وأبعدوا في ممالك الدولة وعمالاتها فانقرض رجالاتهم، وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم، وقبر الإمام بينهم بهذا العهد على حاله من التجلّة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحزابا بالغدوّ والعشيّ، وتعاهده بالزيارة وقيام الحجّاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن، واستشعار الأبّهة وتقديم الصدقات بين يدي زناتة على الرسم المعروف في احتفال الدولة، وهم مصمّمون مع كافة المصامدة أن الأمر سيعود وأن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي، لا يشكّون في ذلك ولا يستريبون فيه. (هنتاتة) وأما هنتاتة وهم تلو القبيلتين في الأمر، وكل من بعدهم فإنما جاءوا على أثرهم وتبعا لهم، لما كانوا عليه من الكثرة والبأس، ومكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام والاعتزاز على المصامدة. وكانت لهم بإفريقية دولة كما نذكرهم، فاتفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم، وبقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن، وهو الجبل المتاخم لمراكش على توسّط من الاستبداد والخضوع ولهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم وإطلاله على مراكش. ولما تغلّب بنو مرين على المصامدة، وقطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما   [1] وفي نسخة أخرى: فكان حظّهم من الغناء بمقدار حظهم من الاستيلاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن، فاختصّوهم بالإثرة والمخالصة. وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق خالصة له من بين قومه. وهلك سنة سبعين وستمائة [1] على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه، وأنفذه على السلطان لابنه أمير مراكش فقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله، كان منهم: علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه، وندم على ما فرّط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما يذكر من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب. ولما ولي السلطان أبو سعيد وانقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك والسلطان، وانقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم، ودالوا بينهم في ذلك وأخبار السلطان بعد صدر من دولة موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة وجبايتهم، فعقد له وأنزله مراكش فاضطلع بهذه الولاية سنين ورسخت فيها قدمه، وأورثها أهل بيته، وصار لهم بها في الدولة مكان انتظموا له في الولاية، وترشّحوا للوزارة. ولما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد، وأجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته، وعقد لعامر منهم على قومه. ولما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى إفريقية صحبه عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة وكافة الوجوه، حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحّدين من بيوت الخطة وسعة الرزق. وأسام إليه فيها فكفاه همّها، ولما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه وخطاياه السفن لنظر عامر هذا، حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المريّة من ثغور الأندلس، فأنزل بها كرائم السلطان لنظره وبعث عنهنّ ابنه أبو عنّان المستبدّ على أبيه بملك المغرب، فامتنع من إسلامهنّ إليه وفاء بأمانته في خدمتهم. وخلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحريّة إلى الجزيرة سنة خمسين وسبعمائة وزحف إلى بني عبد الواد ففلّوه ونهض إلى المغرب، وسلك إليه القفر حتى نزل سجلماسة فقصده أبو عنّان فخرج منها إلى مراكش وقام بدعوته المصامدة وعرب جشم، فاحتشد، ولقي ابنه بأغمات بجهات أمّ ربيع فكانت الدبرة عليه، ونجا إلى   [1] وفي النسخة الباريسية: تسع وتسعين وفي نسخة اخرى: سبع وسبعين والنسخة الباريسية: أصح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 جبل هنتاتة. وكان عبد العزيز بن محمد شيخا عليهم منذ مغيب عامر، وكان في جملته، وخلص معه فأنزله عبد العزيز بداره، وتآمر هو وقومه على إجارته والموت دونه فاعتصم بمعقلهم. وجاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها واحتشد لحصارهم أشهرا حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد، فحملوه على الأعواد ونزلوا على حكم أبي عنّان فأكرمهم ورعى لهم وسيلة هذا الوفاء، وعقد لعبد العزيز على إمارته، واستقدم عامرا كبيرهم من مكانه بالمرية، فقام بهنّ لأمانته من حظايا السلطان وحرمه فلقاه السلطانة مبرّة وتكريما، وأناله من اعتنائه حظا. وتخلّى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقرّه نائبا. ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع وخمسين وسبعمائة على سائر المصامدة واستعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعا، وكفاه هم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها وشكر له كفايته. وهلك السلطان أبو عنّان واستبدّ على ابنه السعيد ووزيره الحسن بن عمر المودودي [1] . وكان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة، وبينهما في ذلك شحناء، فخشي بادرته وخرج من مراكش، إلى معقلة في جبل هنتاتة، وحمل معه ابن السلطان أبي عنّان الملقّب بالمعتمد. وكان أبوه عقد له يافعا قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل، حتى إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر واستقل بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه، وأوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقبّل السلطان وفادته، وشكر وفاءه، وأقام ببابه مدّة. ثم عقد له على قومه، ثم استنفره معه إلى تلمسان، ولم يزل مقيما ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته. ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن عمر على ما نذكره، وكانت بينه وبين عامر بباب السلطان صداقة وملاطفة، وصل يده بيده، وأكد العهد معه على سد تلك الفرجة، وحوّل عليه في حوط البلاد المراكشيّة وأن لا يؤتى من قبله، وكان زعيما بذلك. وعقد له على الأعمال المراكشيّة وما إليها إلى وادي أم ربيع. وفوّض إليه أمر تلك الناحية، واقتسما المغرب شق الأبلّمة [2] وخلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم، وعبد   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغودودي. [2] وفي النسخة الباريسية: الأبلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 المؤمن بن السلطان أبي علي، فاعتقل عبد المؤمن وأمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد. وساءت الحال بينه وبين عمر ونهض إليه من فاس بجموع بني مرين وكافة العساكر، واعتصم بجبله وقومه واستبد على الأمر من بعده [1] . ووصل عبد المؤمن من معتقله يجأجئ به بنو مرين لما كانوا يؤملون من ولايته واستبداده لما آسفهم من حجر الوزراء لملوكهم. فلما رأوا استبداد عامر عليه أعرضوا عنه، وانعقد السلم بينه وبين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب، ورجع واستقل عامر بناحية مراكش وأعمالها، حتى إذا هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره، حدثت أبا الفضل بن السلطان أبي سالم نفسه بالفتك بعامر بن محمد كما فتك عمه بعمر بن عبد الله. ونذر بذلك فاحتمل كرائمه وصعد إلى داره بالجبل، ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه لأنه كان معتقلا بمراكش. واستحكمت لذلك النقرة بينه وبين عامر بن محمد. وبعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع وستين وسبعمائة. وفرّ أبو الفضل فلحق بتادلّا، وتقبّض عليه عمه السلطان عبد العزيز وقتله كما نذكر في أخباره. وطلب عامرا في الوفادة فخشيه على نفسه، واعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته، واستجمع عزائمه. وعقد على مراكش وأعمالها لعلي بن أجانا من صنائع دولتهم، وأوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر وقومه عن معتصمه، وأوقع به وتقبّض على طائفة من بني مرين وصنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه، فحرّك بها عزائم السلطان، ونهض إليه في قومه من بني مرين وعساكر المغرب وأحاط به ونازلة حولا كريتا [2] . ثم تغلب عليه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وانفضّت جموعه. وتقبّض عليه عند اقتحام الجبل فسيق أسيرا إلى السلطان فقيّده، وقفل به إلى الحضرة. ولما قضى نسك الفطر من سنته أحضره ووبّخه. ثم أمر به فتلّ إلى مصرعه، واثخن جلدا بالسياط وضربا بالمقارع حتى فاض عفا الله عنه. وعقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه عبد العزيز، كان نزع إليه بين يدي مهلك عمّه، وعفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم، أشار   [1] وفي نسخة أخرى: على الأميرين عنده. [2] هكذا في النسخة التونسية وبياض في النسخة المصرية. ومقتضى السياق حولا كاملا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 عليه بذلك أبوه نظرا له فظفر بالسلامة والحظ [1] ، وأصاره السلطان في جملته. ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز، واضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة وصارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقّب بأبي يفلّوسن ابن السلطان أبي علي. ونزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه. ثم أتّهمه باحتمال الأموال منذ عهد أبيه وشره إلى اسطفائه، ونذر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصادمة جيرانهم بأطراف السوس، ونزل عليهم. وكان مهلكه فيهم أعوام ثمانين وسبعمائة، والله وارث الأرض ومن عليها. (كدميوة) وأما كدميوة وكانوا تبعا لهنتاتة وتين ملّل في الأمر، وجبلهم بصدف [2] جبل هنتاتة، وكان رؤساءهم لعهد الموحّدين بنو سعد الله. ولما تغلّب بنو مرين على المصامدة ووضعوا عليهم الضرائب امتنع يحيى بن سعد الله بعض الشيء بحصن تافرجا وتيسخنت من جبلهم [3] وخالفه عبد الكريم بن عيسى وقومه إلى طاعة بني مرين، واختلفت إليهم العساكر إلى أن هلك يحيى بن سعد الله سنة أربع وتسعين وستمائة، وعساكر يوسف بن يعقوب مجمّرة على حصاره، فهدموا حصونه، وأذلّوا من قومه. واستخلص السلطان يوسف بن يعقوب عبد الكريم بن عيسى منذ عهد أبيه فعقد له عليهم. ثم تقبّض على أمراء المصامدة واعتقله فيمن اعتقل منهم، حتى إذا فعل ابن الملياني فعلته في استهلاكهم لعداوة عمه بما لبس [4] الكتاب على لسان السلطان لابنه على أمير مراكش، فقتل عبد الكريم فيمن قتل منهم، وقتل معه بنوه عيسى وعليّ ومنصور، وابن أخيه عبد العزيز بن محمد. وامتعض السلطان لذلك وأفلت ابن الملياني من معسكره لحصار تلمسان فدخلها.   [1] وفي نسخة أخرى: فظفر من السلامة بحظ. [2] وفي نسخة أخرى: لصق. [3] وفي نسخة أخرى: تيسخت. [4] وفي نسخة أخرى: بتلبيس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 ثم قام بأمر كدميوة عبد الحق بن [1] الملياني سعد الله أيام السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنّان، وكانت بينه وبين عامر بن محمد فتنة جرّها منصب العمالة، شأن المجاورين من القبائل، وقديم العداوة بين السلف. فلما استفحل أمر عامر بالولاية على مراكش وسائر المصامدة، نبذ إلى عبد الحق العهد ونحلة الخلاف والمداخلة للسكسيوي شيخ الفتنة المستعصي منذ أوّل الدولة، فصمد إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة في قومه ومشايخ السلطان التي كانت بمراكش لنظره فاقتحم عليه معقلة عنوة وقتله. واستولى على كدميوة ولحق بنو سعد الله بفاس، فأقاموا بها حتى إذا خاض السلطان أبو سالم البحر إلى ملكه بعد أخيه أبي عنّان ونزل بغمارة، نزل [2] إليه يوسف بن سعد الله واعتقد منه ذمّة سابقيته تلك. فلما استولى على البلد الجديد واستقل سلطانه، عقد له على قومه رعيا لوسيلته، فأقام في ولايته مدّة السلطان أبي سالم. وكان عامل مراكش محمد بن أبي العلى من حاشية السلطان وبيوت الولاة بالمغرب معوّلا فيها على مظاهرته. ولما هلك السلطان ابو سالم واستبدّ عمر بن عبد الله على الملوك بعده، بادر لحين ثورته بالعقد لعمر على أعمال مراكش ليستظهر به، وطيّر إليه الكتاب بذلك، ونزل إلى مراكش وقتل بها يوسف بن سعد الله، ونكث ابن أبي العلى، ثم قتله وألحقه بابنه عبد الحق [3] ، وذهبت الرئاسة من كدميوة برهة من الدهر، ثم رجعت إليهم في بني سعد الله، والله تعالى قادر على ما يشاء، وبيده تصاريف الأمور لا ربّ سواه، ولا معبود إلا إيّاه. (وريكة) فهم مجاورون لهنتاتة، وبينهم فتنة قديمة وحروب متصلة ودماء مطلولة، كانت بينهم سجالا، وهلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم بالولاية،   [1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم أبيه من المراجع التي بين أيدينا. ولكن يبدو أن والده يدعى يوسف بن سعد الله وذلك حسبما يأتي في آخر هذا الموضع من هذه النسخة. [2] وفي نسخة أخرى: نزع. [3] وفي نسخة أخرى: وقتل بها يوسف بن سعد الله، ونكب بأبي العلى ثم قتله وألحقه بأبيه عبد الحق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 فخضدوا منهم الشوكة وأصاروهم في الجملة، والله وارث الأرض ومن عليها. والله تعالى أعلم بغيبه وهو على كل شيء قدير . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 (الخبر عن بني يدر [1] أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن وتصاريف أحوالهم) كان أبو محمد بن يونس من جملة وزراء الموحدين من هنتاتة، وكان المرتضى قد استوزره ثم سخطه، وعزله سنة خمسين وستمائة وألزمه داره بتاء مصلحت، وفرّ عنه قومه وحاشيته وقرابته. وكان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداسن ففرّ إلى السوس وجاهر بالخلاف سنة إحدى وخمسين وستمائة ونزل بحصن تانصاحت بسفح الجبل حيث يدفع وادي السوس من درن، وشيّده وحصّنه وتغلّب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة وشيده، وأنزل فيه ابن عمه بوحمدين [2] . ثم تغلّب على بسيط السوس، وجأجأ بني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم بنواحي ملوية إلى بلاد الريف، فارتحلوا إليه وعاث بهم في نواحي السوس، وأطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم. وأجلب على عامل الموحدين بتار ودانت وضيّق عليه المسالك، وتفاقم أمره. واتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته وعثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر المرتضى باعتقاله وقتله سنة اثنتين وخمسين وستمائة وأغزى أبا محمد ابن أصال [3] إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين والجند، وعقد له عليها فنزل تارودانت وتحصّن علي بن يدر في تيونودين [4] . وزحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر وقتل كثيرا منهم، ورجع إلى مراكش مفلولا. وأقام علي بن يدر على حاله من الخلاف، وأغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين وستمائة فهزمهم، وقتل ابن أزلماط فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه ودارت الحرب بينهما مليا، وانقلب من غير ظفر، واستفحل ابن يدر ببلاد السوس واستخدم الأعراب من الشبانات وذوي حسّان. وأطاعته القبائل من كزولة ولمطة وزكن ولخس من شعوب لمطة وصناكة. وجبى الأموال واستخدم الرجال، يقال كان جنده ألف فارس، وكان بينه وبين كزولة فتن   [1] وفي نسخة أخرى: يدر. [2] وفي نسخة أخرى: ابن عمه حمدين. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: ابن أصناك. [4] وفي نسخة أخرى: ثيوينون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 وحروب يستظهر في أكثرها بدّوي حسّان. ولمّا استولى أبو دبّوس على مراكش سنة خمس وستين وستمائة وفرغ من تمهيد ملكه بها، اعتزم على الحركة إلى السوس، ورحل من مراكش، وقدّم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل ومن بالجبل، ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس، ونزل على بني باداسن وقبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونودين. وقصد تيزخت ومرّ بتارودنت وعاين آثار الخراب الّذي بها من عيث ابن يدر، ولما بلغ حصن تيزخت خيّم بساحته وحشد أمما من القبائل لحصاره، وكان بو حمدين [1] ابن عم علي بن يدر فحاصره أياما. ولما اشتدّ عليه الحصار داخل علي بن زكدان من مشيخة بني مرين، كان في جملة أبي دبّوس فداخله في الطاعة، وتقبّل السلطان طاعته على النزول عن حصنه. ثم أعجله الحرب واقتحم عليهم الجلب ولجئوا إلى الحصن وفرّ حمدين إلى بيت علي بن زكدان فأمره السلطان باعتقاله. واستولى السلطان على الحصن، وأنزل به بعض السادة لولايته. وارتحل أبو دبّوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياما، ونصب عليه المجانيق. ولما اشتدّ عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة، فتقبّل وأقلع السلطان عن حصاره، وقفل إلى حضرته. ولما استولى بنو مرين على مراكش سنة ثمان وستين وستمائة استبدّ علي بن يدر وتملّك سوس واستولى على تارودنت ايغري وسائر أمصاره وقواعده ومعاقلة، وأرهف حدّه للأعراب فزحفوا إليه. وكانت عليه الدبرة، وقتل سنة ثمان وستين وستمائة وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدّة. ثم هلك وقام بأمرهم علي بن الحسن بن بدر. ولمّا صار أبو علي بن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة يصلح عقده مع أبيه كما يذكر في أخبارهم، فنزلها وشيّد ملكه بها، واستخدم كافة عرب المعقل فرغّبوه في ملك السوس وأطمعوه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة، وفرّ ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة. واستولى السلطان أبو علي على حصنه نانصاصت وسائر أمصار السوس، واستصفى ذخيرته وأمواله، ورجع إلى سجلماسة. ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه وانقرض ملك بني يدر. ولحق به   [1] وفي نسخة أخرى: وكان به حمدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 عبد الرحمن بن علي بن الحسن، وصار في جملته. وأنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن إبراهيم بن عيسى البريتاني [1] من طبقة وزرائه، وعقد له على تلك العمالة إلى أن هلك، وعقد لأخيه حسّون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان. وهلك حسّون وانقضّ العسكر من هنالك، وتغلّب عليه العرب من بني حسّان والشبانات، ووضعوا على قبائله الأتاوات والضرائب. ولما استبدّ أبو عنّان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست وخمسين وستمائة فملكه واستخدم القبائل والعرب من أهله، ورتّب المشايخ بأمصاره، وقفل إلى مكان وزارته، فانفضّت المشايخ ولحقت به. وبقي عمل السوس ضاحيا من ظلّ الملك لهذا العهد، وهو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية وهوائها المتّصل من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الاسكندريّة. وهذا الوطن قبلة جبال درن وعمائر وقرى ومزارع ومدن [2] وأمصار وجبال وحصون، ويحدّق به وادي السوس ينصبّ من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة وسيكسيوة، ويدفع إلى بسيطه، ثم يمرّ مغرّبا إلى أن ينصب في البحر المحيط والعمائر متصلة حفا في هذا الوادي ذات المدن والمزارع، وأهلها يتّخذون فيها قصب السكر. وعند مصبّ هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت وبين مصبّ هذا الوادي في البحر ومصب وادي آش [3] مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر، وهناك رباط ماسة الشهير المعروف بتردّد الأولياء وعبادتهم. وتزعم العامة أنّ خروج الفاطمي منه. ومنه أيضا إلى زوايا أولاد بو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر، وبعدها على مراحل عصب الساقية الحمراء وهي منتهى مجالات المعقل في مشايتهم وفي رأس وادي السوس جبل زكنون [4] قبلة جبل الكلاوي، وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعه ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمرّ مغرّبا إلى أن يصبّ في البحر. وعلى هذا   [1] وفي نسخة أخرى: اليرنياني وفي النسخة الباريسية: البرنياني. [2] وفي نسخة أخرى: فدن. [3] وفي نسخة أخرى: ماسة. [4] وفي نسخة أخرى: جبل زكندر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 الوادي بلدتا كاوصت محطّ الرفاق والبضائع بالقبلة، وبها سوق في يوم واحد يقصده التجار من الآفاق، وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان. وبلد إيفري بسفح جبال نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان، وأرض السوس مجالات لنزول لمطة [1] ، فلمطه منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر. ولما تغلّب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن، فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن. وصارت قبائل لمطة من أحلافهم، وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسّان. والأمر على ذلك لهذا العهد، وبيد الله تصاريف الأمور، لا رب سواه، ولا معبود إلّا إيّاه. علي عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الرحمن علي بن بدر من بني باداسن (الخبر عن دولة بني حفص ملوك افريقية من الموحدين ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم) قد قدّمنا أنّ قبائل المصامدة بجبل درن وما حوله كثير مثل: هنتاتة وتين ملّل وهرغة وكنفيسة وسكسيوة وكدميوة وهزرجة ووريكة وهزميرة وركراكة وحاحة وبني ماغوس وكلاوة وغيرهم ممن لا يحصى. وكان منهم قبل الإسلام وبعده رؤساء وملوك. وهنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم وأكثرها جمعا وأشدّها قوّة، وهم السابقون للقيام بدعوة المهديّ والممهّدون لأمره وأمر عبد المؤمن من بعده، كما ذكرنا في أخباره. واسم هنتات جدّهم بلسان المصامدة حتى كان كبيرهم لعهد الإمام المهديّ الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، ونقل البيذق أنّ اسمه بلسانهم فارصكات [2] . وهنتاتة لهذا العهد تقول إنه اسم جدّهم، وكان عظيما فيهم متبوع غير مدافع، وهو أوّل من بايع الإمام المهدي من قومه، فجاء يوسف بن وانودين وأبو يحيى بن بكيت   [1] وفي نسخة أخرى: وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة. [2] وفي نسخة أخرى: فاصكات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 وابن يغمور وغيرهم منهم على أثره. واختصّ بصحابة المهديّ فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته. وكان تلو عبد المؤمن فيهم، ولم تكن مزية عبد المؤمن عليه إلّا من حيث صحابة المهدي. وأمّا في المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع، وكان يسمى بين الموحّدين بالشيخ كما كان المهديّ يسمى بالإمام، وعبد المؤمن بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن اليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد ابن نجية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، هكذا نسبه ابن نخيل وغيره من الموحّدين. ويظهر منه أنّ هذا النسب القرشيّ وقع في المصامدة والتحم بهم، واشتملت عليه عصبيّته شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم كما قلناه أوّل الكتاب. ولما هلك الإمام وعهد بأمره الى عبد المؤمن، وكان بعيدا عن عصبية المصامدة إلا ما كان له من أثرة المهديّ واختصاصه فكتم موت المهدي وعهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة. وتوقّف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين، ثم قال له أبو حفص نقدّمك كما كان الإمام يقدّمك فعلم أنّ أمره منعقد. ثم أعلن ببيعته وأمضى عهد الإمام بتقديمه وحمل المصامدة على طاعته، فلم يختلف عليه اثنان. وكان الحل والعقد في المهمات إليه سائر أيام عبد المؤمن وابنه يوسف، واستكفوا به نوائب الدعوة فكفاهم همّها. وكان عبد المؤمن يقدّمه في المواقف فبلى فيها [1] . وبعثه على مقدّمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وزناتة كلّهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحّدين مثل بني ومانو وبني عبد الواد وبني ورسيغان وبني توجين وغيرهم، فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم. ولأوّل دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة، وانصرفت إليه وجود الغوغاء وانتشرت ضلالته في النواحي وتفاقم أمره، فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه ومحا أثر غوايته. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية حركته الأولى لم يقدّم شيئا على استشارة أبي حفص. ولما رجع منها وعهد إلى ابنه محمد خالفه الموحّدون، ونكروا ولاية ابنه، فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس، وحمل الموحّدين على البيعة له.   [1] وفي نسخة أخرى: فيجلي فيهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 وأشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله، وتمّ أمر العهد لابنه محمد. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة وحركة الثانية لفتح المهديّة استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وينقل من وصاة عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلّا عمر بن يحيى ويوسف بن سليمان، فأما عمر فإنه من أوليائكم، وأما يوسف فجهزه بعسكره إلى الأندلس تستريح منه. وكذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة. وأما ابن مردنيش فأتركه ما تركك وتربّص به ريب المنون، وأخل إفريقية من العرب وأجلهم إلى بلاد المغرب، وأدّخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلّف الشيخ أبو حفص عن بيعته، ووجم الموحّدون لتخلّفه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه، وأعجب بفضله وأعطاه صفقة يمينه، وأعلن بالرضا بخلافته فكانت عند يوسف وقومه من أعظم البشائر، وتسمّى بأمير المؤمنين سنة ثلاث وستين وخمسمائة. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن وتحرّكت الفتنة بجبال غمارة وصنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منقفاد سنة اثنتين وستين وخمسمائة عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك. ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم وكمل الفتح كما ذكرناه. ولمّا بلغه سنة أربع وستين وخمسمائة تكالب الطاغية على الأندلس وغدره بمدينة بطليوس، واعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص، ونزل قرطبة وأمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه، فاستنفذ بطليوس من هذا الحصار، وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مشهورة. ولما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا ودفن بها، وكان ابناؤه من بعده يتداولون الإمارة بالأندلس والمغرب وإفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن، فولّى المنصور ابنه أبا سعيد على إفريقية لأوّل ولايته، وكان من خبره مع عبد الكريم المنتزي بالمهديّة ما ذكرناه في أخباره. واستوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد، وكان في مقدّمته يوم المعركة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فجلى عن المسلمين، وكان له في ذلك الموقف من النصرة والثبات ما طار له به ذكر. واستشهد في ذلك الموقف، وعرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر، وهم لهذا العهد بتونس. ولما نهض الناصر إلى إفريقية سنة إحدى وستمائة، لما بلغه من تغلّب ابن غانية على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 تونس فاسترجعها، ثم نازل المهديّة فتعاونت عليه ذئاب الأعراب. وجمعهم ابن غانية ونزل قابس فسرّح الناصر، اليهم أبا محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين، فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة اثنتين وستمائة، وقتل جبارة أخو ابن غانية، وأثخن فيهم قتلا وسبيا، واستبعد منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس، وأسره ابن غانية ورجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية. فكان سببا في فتحها. وكان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بإفريقية حسبما يذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن إمارة أبي محمد بن الشيخ أبي حفص بإفريقية وهي أولية أمرهم بها) لمّا تكالب ابن غانية واتباعه على إفريقية واستولى على أمصارها، وحاصر تونس وملكها، وأسر السيد أبا زيد أميرها، ونهض الناصر من المغرب سنة إحدى وستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم وشرّدهم عن نواحيها. وخيم على المهديّة يحاصرها، وقد أنزل ابن غانية ذخيرته وولده بها وأجلب في جموعه خلال ذلك على قابس، فسرّح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين. وزحف إليهم بتاجرا من جهات قابس فهزمهم واستولى على معسكرهم وما كان بأيديهم، وأثخن فيهم بالقتل والسبي واستنفذ السيد أبا زيد من أسرهم، ورجع إلى الناصر بمعسكره من حصار المهديّة ظافرا ظاهرا. وعاين أهل المدينة يوم هزمه بالغنائم والأسرى فبهتوا وسقط في أيديهم، وسألوا النزول على الأمان. وكمل فتح المهديّة ورجع الناصر إلى تونس فأقام. بها حولا إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحاق ليتتبّع المفسدين، ويمحو مواقع عيثهم، فدوّخ ما وراء طرابلس، وأثخن في بني دمّر ومطماطة ونفوسه، وشارف أرض سرت وبرقة، وانتهى إلى سويقة ابن مذكور. وفرّ ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره. وانكفأ السيد راجعا إلى تونس. واعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب وقد أفاء على إفريقية ظلّ الرضى [1] وضرب عليهم   [1] وفي نسخة أخرى: ظل الأمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 سرادق الحماية. وبدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها، وأن مراكش بعيدة عن الصريخ، وأنه لا بدّ من رجل يسدّ فيها مسدّ الخلافة، ويقيم بها شئون الملك، فوقع اختياره على أبي محمد بن الشيخ أبي حفص، ولم يكن ليعدوه [1] لما كان عليه هو وأبوه في دولتهم من الجلالة، وأنّ أمر بني عبد المؤمن إنما تمّ بوفاق الشيخ أبي حفص ومظاهرته، وأن أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به وبإخوته. وكان يولّيه صلاة الصبح إذا حضره شغل وأمثال ذلك. وسار الخبر بذلك إلى أبي محمد [2] فامتنع، وشافهه الناصر به فاعتذر، فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله. وأجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات إفريقية في ثلاث سنين، وأن يختار عليهم من رجالات الموحّدين وأن لا يتعقب عليه في تولية ولا عزل، فقبل شرطه ونودي في الناس بولايته، ورفعت بين الموحدين رايته. وارتحل الناصر إلى المغرب ورجع عنه الشيخ أبو محمد من بجاية [3] فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوّال سنة ثلاث وستمائة، وأنفذ أوامره، واستكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل ورجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس، فجمع أحزابه واتباعه من العرب من سليم وهلال. وكان فيهم محمد بن مسعود في قومه من الزواودة، وعاودوا عيثهم، وخرج إليهم أبو محمد سنة أربع وستمائة في عساكر الموحدين. وتحيّز إليه بنو عوف من سلم وهم مرداس وعلاق فلقيهم بشير [4] فتواقعوا واحتربوا عامة يومهم، ونزل الصبر. ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار واتبعهم الموحّدون والعرب واكتسحوا أموالهم، وأفلت ابن غانية جريحا إلى أقصى مفرّة ورجع أبو محمد إلى تونس بالظفر والغنيمة. وخاطب الناصر بالفتح واستنجاز وعده في التحوّل عن الولاية فخاطبه بالشكر والعذر بمهمات المغرب عن إدالته، وأنه يستأنف النظر في ذلك. وبعث إليه بالمال والخيل والكسى للإنفاق والعطاء. كان مبلغها مائة ألف ألف [5] دينار اثنتان وألف وثمانمائة كسوة، وثلاثمائة سيف، ومائة فرس، غير ما كان أنفذ إليه من سبتة وبجاية، ووعده   [1] وفي نسخة أخرى: ليبعدوه. [2] وفي النسخة الباريسية: أبي عمرو. [3] وفي نسخة أخرى: باجة. [4] وفي نسخة أخرى: شبرو. [5] وفي نسخة أخرى: مائتا ألف دينار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 بالزيادة. وكان تاريخ الكتب سنة خمس وستمائة فاستمر أبو محمد على شأنه وترادفت الوقائع بينه وبين يحيى الميورقي كما نذكره إن شاء الله تعالى. (وقيعة تاهرت وما كان من أبي محمد في تلافيها واستنفاذ غنائمها) كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة أشير [1] بدا له ليقصدنّ بلاد زناتة بنواحي تلمسان، وقارن ذلك وصول الشيخ أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن واليا عليها من مراكش، وخروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم وجباية مغارمهم. وكتب إليه الشيخ أبو محمد نذيرا بشأنه، وأن لا يعرض له وأنه في اتباعه فأبى من ذلك، وارتحل إلى تاهرت وصبحه بها ابن غانية فانفضّ معسكره. وفرّت زناتة إلى حصن بها، وقتل السيد أبو عمران. واستبيحت تاهرت، فكان آخر العهد بعمرانها، وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي، وانقلبوا إلى إفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد في موضع [2] فأوقع بهم واستنفذ الأسرى من أيديهم، واكتسح سائر مغانمهم، وقتل فيها كثير من الملثّمين ولحق فلّهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. (واقعة نفوسة ومهلك العرب والملثمين بها) كان ابن غانية بعد واقعة أشير واستنفاذ [3] أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهة طرابلس، وتلاحق به فلّ الملثّمين وأولياؤه من العرب. وكان المجلي معه في مواقف الزواودة [4] من رياح، وكبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا واعتزموا على معاودة الحرب، وتعاقدوا على الثبات والصبر، وانطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية،   [1] وفي نسخة أخرى: شبرو. [2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد المكان في المراجع التي بين أيدينا [3] وفي نسخة أخرى: واستفتاح. [4] وفي نسخة أخرى: في مواقفة الدواودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم رياح ورغب والشريد وعوف ودباب ونغات. واحتلفوا في الاحتشاد وأجمعوا دخول إفريقية، فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليه. وخرج من تونس سنة ست وستمائة وأغذّ السير إليهم، وتزاحفوا عند جبل نفوسة، واشتدت الحرب، ولما حمي الوطيس ضرب أبو محمد أبنيته وفسطاطه، وتحيّزا إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم واختلّ مصاف ابن غانية واتبعه الموحّدون إلى أن دخل في غيابات الليل وامتلأت أيديهم بالأسرى والغنائم، وسيقت ظعائن العرب. وقد كانوا قدّموها بين أيديهم للحفيظة أفذاذا في الكرّ والفرّ، فأصبحت مغنما للموحّدين وربات خدورها سبيا. وهلك في المعركة خلق من الملثّمين وزناتة والعرب، وكان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان شيخ الزواودة، وابن عمه حركات بن الشيخ بن عساكر ابن السلطان [1] وشيخ بني قرّة وجرار بن ويفرن كبير مغزاوة ومحمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم. وانصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحدّ عفوفا باليأس من جميع جهاته، وانقلب أبو محمد والموحّدون أعزّة ظاهرين، واستفحل أمر أبي محمد بإفريقية وحسم علل الفساد واستوفى جبايتها وطالت مواقف حروبه، ولم تهزم له راية. وهلك الناصر وولي ابنه يوسف المستنصر واستبدّ عليه المشيخة لمكان صغره، وشغلوا بفتنة بني مرين وظهورهم بالمغرب، فاستكفى بالشيخ أبي محمد في إفريقية وعوّل على غنائه فيها، وضبطه لأحوالها وقيامه بملكها فأبقاه على أعمالها، وسرّب إليه الأموال لنفقاتها وأعطياتها، ولم يزل بها إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة والله أعلم. (الخبر عن مهلك الشيخ أبي محمد بن الشيخ أبي حفص وولاية عبد الرحمن ابنه) كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة وستمائة ولما هلك ارتاع الناس لمهلكه، وافترق أمر الموحّدين في الشورى فريقين بين عبد الرحمن بن الشيخ أبي   [1] وفي نسخة أخرى: حركات بن أبي شيخ بن عساكر بن سلطان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 محمد وإبراهيم ابن عمّه إسماعيل بن الشيخ أبي حفص، فتردّدوا مليا ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن ابنه، وأعطوه صفقة إيمانهم، وأقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة، فسكن الثائرة وشمّر للقيام بالأمر عزائمه. وأفاض العطاء وأجاز الشعراء، واستكتب أبا عبد الله ابن أبي الحسن، وخاطب المستنصر بالشأن. وخرج في عساكره لتمهيد النواحي وحماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزله لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره فارتحل إلى المغرب ومعه إخوانه وكاتبه ابن أبي الحسين ولحق بالحضرة. (الخبر عن ولاية السيد أبي العلا على افريقية وابنه أبي زيد من بعده وأخبارهم فيها واعتراضهم في الدولة الحفصية) لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص، وقارن ذلك عزله السيد أبي العلا من إشبيليّة، ووصوله إلى الحضرة مسخوطا: وهو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور، وعبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك. وعوّل على الوزير ابن المثنّى في جبر حاله، فسعى له عند الخليفة، وعقد له على إفريقية. ووصل الخطاب بولايته ونيابة إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل، واستقدام أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة. وقرئ الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة وستمائة، فقام الشيخ بالنيابة في أمره، واستعمل أحمد المشطب في وزارته، وغلب عليه بطانته، وأساء في الموالاة لقرابته. واختصّ أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة، وظنّ امتداد الدولة له. ووصل السيد أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة، فنزل بالقصبة [1] ونزل ابنه السيّد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد، ورتّب الأمور ونهج السنن. ولشهر من وصوله تقبّض علي محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد، وعلى أخويه   [1] هي قصبة تونس كما في قبائل المغرب ص 160 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 أبي بكر ويحيى، واستصفى أموالهم واحتاز عقارهم وضياعهم. وكان المستنصر عهد إليه بذلك، لما كان أسفه بفلتات من القول والكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد، فاعتقلهم السيّد أبو العلا، ثم قتله وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فرّ من سجنه وتقبّض فقتل. ونقل أبو بكر إلى مطبق المهديّة فأردع به [1] . وخرج السيّد أبو العلا من تونس سنة تسع عشرة وستمائة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها، فنزل قصر العروسيين، وسرّح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج وغدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها وجبايتها. وقدّم بين يده عسكرا آخرا لمنازلة ابن غانية بودّان، وواعدهم هناك منصرفة من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية. ومال بذله في ذلك فانفضّ العسكر، وزحفوا إلى قابس. وأهمل السيد ابو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرّهم. فلحق بأبيه وأخبره بالجليّ في أمرهم، فسخط قائد العسكر وهمّ بقتله. وطرق السيّد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس. وبلغه أن ابن غانية نهض من ودّان إلى الزاب، وأن أهل بسكرة أطاعوه، فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحّدين إليه، ودخل ابن غانية الرمل فأعجزهم. ورجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب والتخريب، ورجع إلى تونس. ثم بلغه أنّ ابن غانية قد رجع إلى جوانب إفريقية، واجتمع إليه أخلاط من العرب والبربر، فسرّح السيد أبا زيد إليه في العساكر ونزل بالقيروان، وخالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد ومعه العرب وهوّارة بظعائنهم ومواشيهم. وتزاحفوا بمجدول فاتح إحدى وعشرين وستمائة، واشتدّ القتال وعضّت الموحدون الحرب، وأبلى هوّارة وشيخهم بعرة بن حنّاش بلاء جميلا. وضرب ابنتيه وتناغوا في الثبات والصبر فانهزم الملثّمون وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية، واستولى الموحّدون على معسكرهم. وكان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيّد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين وستمائة. فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس واقصر عن متابعته. وخاطب المستنصر بمهلك أبيه وواقعة الملثمين، وكان المستنصر قد عزله واستبدل منه بأبي   [1] كذا بالأصل، والأصح: فردع به بمعنى: صرع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة، ولم يصل إليه الخبر بعزله بعد. وهلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين وستمائة، وولي عبد الواحد المخلوع بن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة، وكتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله، ونقض ما أصدر المستنصر من عزله، فأرسل عنانه في الولاية، وبسط يده في الناس بمكروهه، وتنكّرت له الوجوه، وانحرف عنه الناس، بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمّد بن أبي حفص وولده، الى أن عزل واستبدل بهم كما نذكره، وركب البحر بذخائره وأهله فلحق بالحضرة. (الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص وما كان فيها من الأحداث) لما هلك المخلوع وولي العادل، ولّى على إفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد. وولّى على بجاية يحيى بن الأطّاس التينمللي، وعزل عنها ابن يغمور. وكتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم. وكتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمّه موسى بن إبراهيم بن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل، فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، واستقل أبو عمران موسى بأمر إفريقية، واستمرّت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر. وخرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى إفريقية. ولما انتهى إلى بجاية قدّم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريّا ليعترضه طبقات الناس للقائه، فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة. وكان أولاد شدّاد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة، فسرّح أخاه الأمير أبا زكريّا لحسم دائهم ولخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان كذلك. وخرج في رمضان من سنته، وخرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف، ووصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة، وتزحزح أبو عمران عن النيابة. ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع وعشرين وستمائة، فعقد له على بلاد قسطيلية وعقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس وما إليها، وذلك في جمادى من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 هذه السنة. وبعد استقراره بتونس بلغه أنّ ابن غانية دخل بجاية عنوة، ثم تخطّى كذلك إلى تدلس، وأنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس وعقد لأخويه كما ذكرناه. وأغذّ السير إلى فحص أبة فصبح به هوّارة، وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد، فأطلق فيهم أيدي عسكره، واعتقل مشايخهم وأنفذهم إلى المهديّة. ثم مرّ في اتباع ابن غانية، فانتهى إلى بجاية، وسكّن أحوالها، ثم إلى متيجة ومليانة فأدركه الخبر أنّ ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعا إلى تونس، ودخلها في رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة، ولم يزل مستبدا بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا، وغلبه على الأمر كما نذكر. (الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بإفريقية ورافع الراية لهم بالملك واولية ذلك وبدايته) لما قتل العادل بمراكش سنة أربع وعشرين وستمائة، وبويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحّدين. وكان المأمون قد فتح أمره بالخلاف، ودعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام، فامتنع أبو محمد وردّ رسله إليه، فكتب بذلك لأخيه الأمير أبي زكريّا وهو بمكانه من ولاية قابس. وعقد له على إفريقية فأخذ له البيعة على من إليه، وداخله في شأنها ابن مكّي كبير المشيخة بقابس. واتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم. ولما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحّدون نهوضه إلى حرب أخيه، وانتقضوا عليه وعزلوه. وطيّر بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملا في اللحاق برحاب بن محمد [1] وأعراب طرابلس، فبايعوه ووصلوا به إلى معسكرهم. وخلع أبو محمد نفسه، ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس وعشرين [وستمائة] ، وأنزل أخاه   [1] وفي مكان آخر: رحاب بن محمود وهو أمير دباب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 أبا محمد بقصر ابن فاخر، وتقبّض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس. واستكتبه ابو محمّد فغلب على هواه، وكان يغريه بأخيه، فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك. ثم بعث أخاه أبا محمد في البحر إلى المغرب فاستبدّ بملكه، واستوزر ميمون بن موسى الهنتاتي، واستقامت أموره. (الخبر عن استبداد الأمير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن) لما اتّصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحّدين بمراكش، وخصوصا هنتاتة وتين ملّل. وكان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع وإبراهيم، وأنه أشاع النكير على المهديّ في العصمة، وفي وضع العقائد والنداء للصلوات باللسان البربري، وإحداث النداء لصبح وتربيع شكل الدرهم وغير ذلك من سننه. وأنّه غيّر رسوم الدعوة، وبدّل صول الدولة. وأسقط اسم الإمام من الخطبة والسكّة وأعلن بلعنه. ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمّال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم، وأعلن بخلعه سنة ست وعشرين وستمائة. وحوّل الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة. ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى واستقلاله، فأغفله واقتصر على ذكر الإمام المهديّ، وتلقّب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته. ثم جدّد البيعة لنفسه سنة أربع وثلاثين وستمائة، وثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصرا على لفظ الأمير، لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين. وخاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها: الأصل بالأمير المؤمنينا ... فأنت بها أحق العالمينا فزحزحهم عن ذلك وأبي عنه، ولم يزل على ذلك إلى آخر دولته. (الخبر عن فتح بجاية وقسنطينة) لما استقلّ الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس، وخلع بني عبد المؤمن، نهض إلى قسنطينة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 سنة ست وعشرين وستمائة، فنزل بساحتها وحاصرها أياما. ثم داخله ابن علناس في شأنها وأمكنه من غرّتها فدخلها، وتقبّض على واليها السيد [1] ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري. وولّى عليها ابن النعمان. ورحل إلى بجاية فافتتحها، وتقبّض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني وصيّرهما معتقلين في البحر إلى المهديّة. وأجريت عليهما هنالك الأرزاق، وبعث بأهلهما وولدهما مع ابن أوماز [2] إلى الأندلس، فنزلوا بأشبيليّة. وبعث معهما إلى المهديّة في الاعتقال محمد بن جامع وابنه وابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف، وابن أبي الشيخ بن عساكر من شيوخ الدواودة، فاعتقلوا بمطبق المهديّة وكان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته، وولّاه بعدها الولايات الجليلة، وكان يستخلفه بتونس في مغيبه. وفي هذه السنة تقبّض على وزيره ميمون بن موسى واستصفى أمواله، وأشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة. ثم غرّبه إلى الإسكندريّة، واستوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع، إلى أن هلك، فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الآخر محمد إلى أن هلك. (الخبر عن مهلك ابن غانية وحركة السلطان الى بجاية وولاية ابنه الأمير أبي يحيى زكريا عليها) لما استقل الأمير أبو زكريا بإفريقية وخلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله، فكانت له في ذلك مقامات مذكورة، وشرّده عن جهات طرابلس والزاب وواركلا. واختطّ بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه، وأنزل بالأطراف عساكره وعمّاله لمنعها دونه. ولم يزل ابن غانية وأتباعه من العرب من أفاريق سليم وهلال وغيرهم على حالهم من التشريد والجلاء، إلى أن هلك سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وانقطع عقبه فانقطع ذكره، ومحا الله آثار فتنته من الأرض. واستقام أمر الدولة ونبضت منها عروق الاستيلاء واتساع نطاق الملك.   [1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا السيد. [2] كذا، وفي ب: أومازير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 ونهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة اثنتين وثلاثين وستمائة يؤمّ بلاد زناتة بالمغرب الأوسط. وأغذّ السير إلى بجاية فتلوّم بها. ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولّى عليها. ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن. وجاهر بنو توجين بخلافه، فنزل البطحاء وأوقع بهم. وتقبّض على رئيسهم عبد القوي بن العبّاس فاعتقله، وبعث به إلى تونس ودوّخ المغرب الأوسط وقفل راجعا إلى حضرته. وعقد مرجعه من المغرب لابنه الأمير أبي يحيى زكريا على بجاية وأنزله بها. واستوزر له يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاتي وجعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى، وجبايته لعبد الحق بن ياسين، وكلّهم من هنتاتة. وكتب إليه بوصيّته مشتملة على جوامع الخلال في الدين والملك والسياسة، يجب إثباتها لشرف مغزاها وغرابة معناها ويأتي نصّها فيما بعد. (الخبر عن سطوة السلطان بهوارة) كان لهوّارة هؤلاء بإفريقية ظهور وعدد منذ عهد الفتح، وكانت دولة العبيديّين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم. وبقي منهم فلّ بجبل أوراس وما بعده من بلاد إفريقية وبسائطها إلى أبّة ومر ماجنّة وسبّيبة وتبرسق. ولما انقرض ملك صنهاجة بالموحّدين وتغلّب الأعراب من هلال وسليم على سائر النواحي بإفريقية، وكثّروا ساكنها، وتغلّبوا عليهم أخذ هذا الفلّ بمذهب العرب وشعارهم وشارتهم في اللبوس والزي والظعون وسائر العوائد. وهجروا لغتهم العجميّة إلى لغتهم، ثم نسوها كأن لم تكن لهم، شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه. ثم كان لهم انحياش أول الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن وقومه. فلما استبدّ الأمير أبو زكريا، وانقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة، وامتناع عن المغرم، وأضرار بالسابلة، فاعتمل السلطان في أمرهم. وخرج من تونس سنة ست وثلاثين وستمائة موريا بالغزو إلى أهل أوراس، وبعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره. ثم صبحهم في عسكره من الموحّدين والعرب ففتك بهم قتلا وسبيا، واكتسح أموالهم وقتل كبيرهم أبو الطيّب بعرّة بن حنّاش وأفلت من أفلت منهم ناجيا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 بنفسه، عاريا من كسبه، فألانت هذه البطشة من حدّهم وخضّدت من شوكتهم، واستقاموا على الطاعة بعد. (الخبر عن ثورة الهرغي بطرابلس ومنال أمره) كان هذا الرجل من مشيخة الموحّدين وهو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي ويكنّى بأبي عبد الرحمن، وكان الأمير أبو زكريا وقد عقد له على طرابلس وجهاتها، وسرّح معه عسكرا من الموحّدين من أعراب دباب من بني سليم، فقام بأمرها واضطلع بجباية رعاياها. واستخدم العرب والبربر الذين بساحتها وكان بينه وبين الجواهري مصدوقة ود. فلما قتل الجواهري سنة تسع وثلاثين وستمائة كما قدّمناه استوحش لها يعقوب الهرغي واستقدمه السلطان فتلكّأ، وبعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره، وحدّثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية وشعر لها أهل البلد. فانطلقوا وهم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره، فتقبّضوا عليه وعلى أخيه وعلى أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها. وطيّروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى باب السلطان، ونصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس، وأصبحوا عبرة للمعتبرين وأنشد الشعراء في التهنية بهم وقامت للبشائر سوق لكائنتهم. وكان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران. وصل علقا [1] إلى تونس وقصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي، ونمي عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه. وكان بالمهديّة رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء [2] اشتهر بالنجدة في غزو البحر، وقدّم على الأسطول فردّد الغزو حتى هابه الغزّى من أمم الكفر، وأمنت سواحل المسلمين من طروقهم. وطار له فيها ذكر ونمي أنه كان مداخلا للجواهري والهرغي، وأن القاضي بالمهديّة أبا زكريا البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك، فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي   [1] كذا، ولا معنى لها، وفي ب: غلقا بمعنى: غضبان. [2] كذا، وفي ب: ابن أبي الأحمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 حفص بقتل ابن أبي الأحمر، وإشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلا، فأمضى عهده. ولما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرئ من مداخلتهم، فسرّحه وأعاده إلى بلده. وقتل بالحضرة رجل آخر من الجند أتهم بمداخلتهم وسعايته في قيامهم، وكان له تعلّق برحاب بن محمود أمير دباب، فأوعز السلطان إلى بعض الدعّار من زناتة، فقتله غيلة ثم أهدر دمه. وتتبّع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء، ومحا شوائب الفتنة. (الخبر عن بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم) لما استقلّ أبو جميل زيّان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجّاج بن سعد بن مردنيش بملك بلنسية، وغلب عليها السيّد أبا زيد بن السيد أبي حفص، وذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس، وخروج ابن هود على المأمون، ثم فتنته هو مع ابن هود، وثورة ابن الأحمر بأرجونة، واضطراب الأندلس بالفتنة. وأسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب. وزحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها، وكانت للعدو سنة ثلاث وثلاثين وستمائة سبع محلّات لحصار المسلمين: اثنتان منها على بلنسية، وجزيرة شقر وشاطبة. ومحلة بجيان ومحلة بطبيرة ومحلة بمرسية ومحلة بلبلة، وأهل جنوة من وراء ذلك على سبتة. ثم تملّك طاغية قشتالة مدينة قرطبة، وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة، وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية. وأنزل بها عسكره وانصرف، فاعتزم زيّان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره، واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم فانكشف المسلمون، وأصيب كثير منهم. واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدّثين بالأندلس، وكان يوما عظيما، وعنوانا على أخذ بلنسية ظاهرا. ثم تردّدت عليها سرايا العدو. ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين وستمائة فحاصرها واستبلغ في نكايتها. وكان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم، وظهر أمر بني أبي حفص بإفريقية، فأمّل ابن مردنيش وأهل شرق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 الأندلس الأمير أبا زكريا للكرّة، وبعثوا إليه بيعتهم، وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخا، فوفد وأدّى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة، وأنشد في ذلك المحفل قصيدته على روي السين، يستصرخه فيها للمسلمين وهي هذه: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عزّ النصر ملتمسا عاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للنّائبات وأمسى جدّها تعسا في كلّ شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا وكلّ غاربة إجحاف نائبة ... تثني الأمان حذارا والسرور أسا تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلّا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلّها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان منبئسا وصيّرتها العوادي عائثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا ما للمساجد عادت للعدى بيعا ... وللنّداء يرى أثناءها جرسا لهفا عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارسا للمثاني أصبحت درسا وأربعا غنمت أيدي الربيع بها ... ما شئت من خلع موشيّة وكسا كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوّح النصر من أدواحها وعسا وحال ما حولها من منظر عجب ... يستوقف الركب أو يستركب الجلسا سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا ... عيث الدبا في مغانيها التي كبسا [1] وابتزّ بزّتها مما تحيّفها ... تحيّف الأسد الضاري لما افترسا [2]   [1] وفي نسخة أخرى: سرعان ما عاد جيش الكفر محتربا ... بعث الربا في مغانيها الّذي كبسا [2] وفي نسخة أخرى: وابتز بزتها تخيف خائف الأسد الضاريات بها لكل ما افترسا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 فأين عيش جنيناه بها خضرا [1] ... وأين غصن جنيناه بها سلسا محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حينا وما نعسا ورجّ [2] أرجاءها لمّا أحاط بها ... فغادر الشمّ من أعلامها خنسا خلا له الجوّ وامتدّت يداه إلى ... إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ... ولو رأى راية التوحيد ما نبسا صل حبلها أيّها المولى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا وأحي ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهديّ ما طمسا أيام صرت لنصر الحقّ مستبقا ... وبتّ من نور ذاك الهدي مقتبسا وقمت فيها لأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتزّ أو كالعارض انبجسا تمحو الّذي كتب التجسيم من ظلم ... والصبح ماحية أنواره الغلسا هذي رسائلها تدعوك من كتب ... وأنت أفضل مرجوّ لمن يئسا وافتك جارية بالنجح راجية ... منك الأمير الرضى والسيّد الندسا [3] خاضت خضارة يعلوها ويخفضها ... عبابه فتعاني اللين والشرسا وربما سبحت والريح عاتية ... كما طلبت بأقصى شدة الفرسا تؤمّ يحيى بن عبد الواحد بن أبي ... حفص مقبّلة من تربه القدسا ملك تقلّدت الأملاك طاعته ... دينا ودنيا فغشّاها الرضى لبسا [4] من كلّ غاد على يمناه مستلما [5] ... وكل صاد إلى نعماه ملتمسا مؤيّد لو رمى نجما لأثبته ... ولو دعا أفقا لبّى وما احتبسا [6] إمارة تحمل المقدار [7] رايتها ... ودولة عزّها يستصحب القعسا يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ... ويطلع الليل من ظلمائه لعسا   [1] وفي نسخة أخرى: سمرا. [2] وفي نسخة أخرى: وريح. [3] وفي نسخة أخرى: السيد الرئسا. [4] وفي نسخة أخرى: يئسا. [5] وفي نسخة أخرى: ملتثما. [6] وفي نسخة أخرى: مؤيد نورها نجما لأثبته ... ولو دعا آبقا ولّى وما احتسبا [7] وفي نسخة أخرى: الأقدار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 كأنّه البدر والعلياء هالته ... تحفّ من حوله شهب القنا حرسا له الثرى والثريّا خطّتان فلا ... أعزّ من خطّتيه ما سما ورسا يا أيّها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا وقد تواترت الأنباء أنّك من ... يحيى بقتل [1] ملوك الصفر أندلسا طهّر بلادك منهم إنّهم نجس ... ولا طهارة ما لم تغسل النجسا وأوطئ الفيلق الجرّار أرضهم ... حتّى يطأطئ رأس كل من رأسا وانصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعا تهمي زكاء وخسا هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ... داء متى لم تباشر حسمه انتكسا املأ هنيئا لك التمكين ساحتها ... جردا سلاهب أو خطّية دعسا واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه [2] ... لعلّ يوم الأعادي قد أتى وعسا فأجاب الأمير أبو زكريا داعيتهم، وبعث إليهم أسطوله مشحونا بمدد الطعام والأسلحة والمال، مع أبي يحيى بن يحيى بن الشهيد أبي إسحاق بن أبي حفص. وكانت قيمة ذلك مائة ألف دينار. وجاءهم الأسطول بالمدد وهم في هذا الحصار، فنزل بمرسى دانية واستفرغ المدد بها ورجع بالناضّ إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلّمه. واشتدّ الحصار على أهل بلنسية، وعدمت الأقوات وكثر الهلاك من الجوع، فوقعت المراودة على إسلام البلد فتسلّمها جاقمة ملك أرغون في صفر سنة ست وثلاثين وستمائة، وخرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر، فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريّا. ورجع ابن الأبّار إلى تونس، فنزل على السلطان وصار في جملته، وألحّ العدوّ على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر، وأزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته، وأخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكريا. ثم داخل أهل مرسية، وقد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك ابن خطّاب في مفتتح السنة، فافتتحها عليه في رمضان من سنته وقتله، وبعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكريا. وانتظمت البلاد الشرقية في طاعته، وانقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع وثلاثين وستمائة، ولم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود   [1] وفي نسخة أخرى: تقبل. [2] وفي نسخة أخرى: للفتح نرقبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 على مرسية، وخرج عنها إلى لقنت [1] الحصون سنة ثمان وثلاثين وستمائة، إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع وأربعين وستمائة، وأجاز إلى تونس، والبقاء للَّه. (الخبر عن الجوهري وأوليته ومآل أمره) اسم هذا الرجل: محمّد بن محمد الجوهري، وكان مشتهرا بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب. وكان حسن الضبط متراميا إلى الرئاسة. ولمّا ورد على تونس وتعلّق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه، فوجد جباية أهل الخيام بإفريقية من البرابرة الموطّنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة [2] في ديوان، فنبّه على أنها مأكلة للعمّال ونهبة للولاة، فدفع إليها فأنمى [3] جبايتها وقرّر ديوانها، وصارت عملا منفردا يسمّى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر، جذب له السلطان أبو زكريا بضبعه، وعوّل على نصيحته واثره باختصاصه. ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر [4] صاحب الأشغال بالحضرة، فاستعمل مكانه، وكان لا يلي تلك الخطّة إلا كبير من مشيخة الموحّدين، فرشّحه السلطان لها لكفايته وغنائه، فظفر منها بحاجة نفسه، واعتدّها ذريعة إلى أمنيّته، فاتّخذ شارة أرباب السيوف، وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها. وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما، فنصبا له، واغريا به السلطان، وحذّراه غائلة عصيانه. وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه، ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان، فقال له: عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم، فأعرض عنه السلطان واعتدّها عليه. وجعلها مصداقا لما نمي عنه. ولمّا   [1] وفي نسخة أخرى: لمنت. [2] وفي نسخة أخرى: محصيّة. [3] وفي نسخة أخرى: فأنهى. [4] وفي نسخة أخرى: موت أبي الربيع الكنفيسي المعروف بابن القريقر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكريا بن السلطان، أظهر له الجوهري أنّ ذلك بسعايته، وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه، فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكريا فقام لها وقعد، وأنف من استبداد الجوهري عليه. ولم تزل هذه وأمثالها تعدّ عليه حتى حقّ عليه القول فسطا به الأمير أبو زكريا وتقبّض عليه سنة تسع وثمانين وستمائة، ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن لمان [1] والندرومي، فتجلّد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتا بمحبسه. ويقال خنق نفسه وألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العبث به، وإلى الله المصير. (الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية) كان الأمير أبو زكريّا منذ استقل بأمر إفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولا إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة. وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغّبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة. وكان يغمراسن منذ تقلّد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم وحربا على عدوهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البرّ والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تيمما [2] لمسراته، وميلا إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجبلين على المغرب والدولة، فاستكبر السلطان أبو زكريا اتصال الرشيد هذا يغمراسن وألزمهم من جواره بالمحل القريب. وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل [3] بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخا على يغمراسن فسهّلوا له أمره، وسوّلوا له الاستبداد على تلمسان. وجمع كلمة زناتة، واغداد [4] ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك   [1] وفي نسخة أخرى: بعض وفد بني منديل. [2] وفي نسخة أخرى: واعتداد. [3] كذا، وفي ب: ابن برتمار، وفي نسخة: أخرى برعان. [4] وفي النسخة الباريسية: تضمنا وفي نسخة أخر تغمنا وهذا تحريف ظاهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 الموحّدين بمراكش، وانتظامه في أمره، وسلّما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وبابا لولوج المغرب على أهله، فحرّكه إملاؤهم وهزّه إلى النعرة [1] صريخهم، وأهاب بالموحّدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان. واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم، فاهطعوا لداعيه [2] . ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة. وسرّح إمام حركته عبد القوي بن العبّاس وأولاد منديل بن محمد لحشد من وافى بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم، وأحياء زغبة أحلافهم من العرب. وضرب معهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب، تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان، وتلووا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكريا الحيلة. زعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم، فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحّدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة، فرجّعهم بالخيبة. ولما حلّت عساكر الموحّدين بساحة البلد، وبرز يغمراسن وجموعه للّقاء بصحبتهم ناشية السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا في ذويه وخاصته. واعترضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له، ولحقوا بالصحراء وتسللت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال. ولما تجلى غشي تلك الهيعة، وخسر تيّار الصدمة، وخمدت نار الحرب، راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكريا نظره فيمن يقلّده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها. واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرّأ أمراء زناتة ضعفا عن مقاومة يغمراسن علما بأنّه الفحل الّذي لا يقرع أنفه، ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته. وسرّح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله، واطلعوا من   [1] وفي نسخة أخرى: النفرة. [2] وفي نسخة أخرى: فأهبطوا الحامية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 المراقب عليه. ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق، واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وإفريقية. وان يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك. ووفدت أمّه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها، وأحسن وفادتها ومنقلبها، وسوّغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بإفريقية، وأطلق أيدي عماله على جبايته، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله. وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره، ومعترضا عن مرامه، وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيّه، فأجابهم وقلّد كلّا من عبد القوي بن عطية التوجيني، والعبّاس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه، وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين. وأقاموا مراسمها ببابه. وأغذّ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه، وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه، وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته، فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح، وأسنى جوائزهم وتطاولت إليه أعناق الآفاق نذكره. الله أعلم. (الخبر عن دخول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية ووصول بيعة إشبيلية وكثير من أمصارها) كان بأشبيليّة أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد وأبو عمرو بن الجدّ من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر، ورثا التجلّة عن جدّهما وأجراهما الخلفاء على سننهم. وكانا مسمتين وقورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما. وكان السادة من بني عبد المؤمن يعوّلون على شوراهما في مصرهما. وكان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر، وانتزى بها السادة وافترقوا. وثار بشرق الأندلس ابن هود وزيّان بن مردنيش، وبغربها ابن الأحمر. وغلب ابن هود الموحدين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 وأخرجهم عنها. وملك ابن هود إشبيليّة سنة ست وعشرين وستمائة واعتقل من كان بها من الموحدين. ثم انتقضوا عليه سنة تسع وعشرين وستمائة بعدها وأخرجوا أخاه أبا النجاة سالما، وبايعوا الباجي وتسمّى بالمعتضد، واستوزر أبا بكر بن صاحب الرد، ودخلت في بيعته قرمونة، وحاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة وجيان بعد أن ملك قرطبة. وزحف ابن هود إليهم فلقوه وهزموه، ورجعوا ظافرين، فدخل الباجي إلى إشبيليّة وعسكر بخارجها، ثم انتهز فرصته في إشبيليّة وبعث قريبه ابن اشقيلولة مع أهل أرجونة والنصارى إلى فسطاط الباجي فتقبّضوا عليه وعلى وزيره وقتلوهما سنة إحدى وثلاثين وستمائة. ودخل ابن الأحمر إشبيليّة، ولشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها ورجعوا إلى طاعة ابن هود، وولى عليهم أخاه أبا النجاة سالما. ولما هلك محمد بن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة صرف أهل إشبيليّة طاعتهم إلى الرشيد بمراكش، وولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الّذي قدّمنا أنه كان واليا بقسنطينة، وأن الأمير أبا زكريا غلبه عليها واعتقله، وبعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة أمه بأشبيليّة. ولما سار أهل إشبيليّة للرشيد قدّموه على أنفسهم، وتولّى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد، وبعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقرّ السيد أبا عبد الله على ولايتهم. واستمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين وستمائة. وقد ملك الأمير أبو زكريا تلمسان وأشرف على أعمال المغرب، فاقتدوا بمن تقدّم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسية ومرسية، وبايعوا للأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص واقتدى بهم أهل شريش وطريف، وبعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى وأربعين وستمائة. وسألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولّى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس بن الشيخ أبي حفص، فقدم إشبيليّة وقام بأمرها، وسلّم له ابن الجد في نقضها وإبرامها. ثم انتقض عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة وطرده من البلد إلى سبتة واستبد بأمر إشبيليّة، ووصل يده بالطاغية. وعقد له السلم وضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند وأسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف [1] واستقلّ بأمر إشبيليّة.   [1] كذا، وفي ب: شقاف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 ورجّع أبا فارس بن أبي حفص وولّاه بدعوة الأمير أبي زكريا فسخطهم الطاغية لذلك وانتقض عليهم وملك قرمونة ومرشانة. ثم زحف إلى حصرهم وسألوه الصلح فامتنع. وصار أمر البلد شورى بين القائد شفاف وابن شعيب ويحيى بن خلدون ومسعود بن خيار وأبي بكر بن شريح، ويرجعون في أمرهم آخرا إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص. وأقاموا في هذا الحصار سنتين ونازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية، وبعث إليهم الأمير أبو زكريّا المدد، وجهّز له الأسطول لنظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي. وأوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي إشبيليّة، وغلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع. واستولى العدو عليها صلحا سنة ست وأربعين وستمائة بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده وميرته. وقدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن، والأمر للَّه. (الخبر عن بيعة أهل سبتة وطنجة وقصر ابن عبد الكريم وتصاريف أحوالهم ومال أمرهم) كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم، ونزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا وأخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود، وقدّموا عليهم أحمد الينشتي وتسمّى بالموفق. ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عند ما بايعه أهل إشبيليّة سنة خمس وثلاثين وستمائة. وتقبّضوا على الينشتي وابنه وأدخلوا السيد أبا العباس ابن السيّد أبي سعيد، كان واليا بغمرة فولّوه عليهم. ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي عليّ بن خلاص، كان من أهل بلنسية واتصل بخدمة الرشيد فجلّى فيها. ودفعه إلى الأعمال فضبطها، فولّاه سبتة فاستقل بها. وولّى على طنجة يوسف ابن الأمير قائدا على الرحل الأندلسي وضابطا لقصبتها. حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين وستمائة، وقد استفحل أمر الأمير أبي زكريا بإفريقية، واستولى على تلمسان وبايعه الكثير من أمصار الأندلس، فصرف ابن خلاص وجهه إليه. وكان قد اقتنى الأموال واصطنع الرجال، فدخل في دعوته، وبعث الوفد ببيعته. واقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا. وعقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 لابن خلاص على سبتة وما إليها، فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سمّاه الميمون، وأركب ابنه أبا القاسم فيه وافدا على السلطان، ومعه الأديب إبراهيم بن سهل، فعطب عند إقلاعه. ولما رجع الأسطول من إشبيليّة كما قدّمناه على بقية هذا العطب وحزن أبي عليّ بن خلاص على ابنه، رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة، فانتقل بأهله واحتمل ذخيرته. ولمّا مرّ الأسطول بمرسي وهران نزل بساحلها فأراح، وأحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجأة سنة ست وأربعين وستمائة. وعقد السلطان على سبتة لأبي يحيى ابن زكريا ابن عمّه أبي يحيى الشهيد بن الشيخ أبي حفص. وبعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الإشبيلي، كان صديقا لشفاف وعدوّا لابن الجد. ولما قتل شفاف لحق بالحضرة فولّاه الأمير أبو زكريا أشغال سبتة، استمرت الحال إلى أن كان من استبداد العزفي بسبتة ما نذكره. (الخبر عن بيعة المرية) لما هلك محمد بن هود بالمريّة سنة خمس وثلاثين وستمائة كما ذكرناه واستبدّ وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها، وضبطها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكريا حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته. ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلّب عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة كما ذكرناه في أخباره. وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته، وأحلّه أبو علي ابن خلاص محل البرّ والتكرمة، وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيونش، وأجمع الثورة بأبي خلاص، فنذر به وتغيّر له. فلما رجع الأسطول من إشبيليّة ركبه الرميمي ولحق بتونس، فنزل على الأمير أبي زكريا وحل من حضرته محل التكرمة. واستوطن تونس، وتملّك بها الضياع والقرى، وشيّد القصور إلى أن هلك والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن بيعة ابن الأحمر) كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة، وتملّك جيّان وقرطبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 وإشبيليّة وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته. ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين وستمائة عند ما بايعه أهل إشبيليّة وسبته، فلم يزل على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكريا بإفريقية وتأميله للنصرة والكرة، فحول ابن الأحمر إليه الدعوة، وأوفد بها أبا بكر بن عيّاش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكريا بالأموال للنفقات الجهادية. ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وستمائة، فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبدّ بسلطانه. (الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها) كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحّدين واليا بسجلماسة لبني عبد المؤمن. ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين وستمائة، ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتبا فلم يعتبه. ومزّق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه، واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ونواحيها، فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته، فعقد له الأمير أبو زكريا على سجلماسة وأنحائها، وفوّض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها. وخطب له عبد الله بسجلماسة، وفرّ إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك، وأبو سعيد العود الرطب، فلحق بتونس. وأقام أبو زيد معه بسجلماسة. وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وستمائة، وقيل سنة أربعين، ومن معسكره كان مفرّ أولئك المشيخة. وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به، فخرج من سجلماسة وأسلمها، وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي. وطيّر بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته، وغفر له سالفته. وتقبّض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب، وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها، ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 (الخبر عن بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بني مرين) كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقلّبهم في القفار فتن وحروب، ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع. فلمّا التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه، وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد ليعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل. ولما استبدّ الأمير أبو زكريا بأمر إفريقية، ودوّخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان، وأطاعه بنو عبد الواد، حذّر بنو مرين حينئذ غائلتهم. وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكريا عليهم، فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة، وخاطبوه بالتمويل، وأوجبوا له حق الخلافة، ووعدوه أن يكونوا أنصارا لدعوته وأعوانا في أمره، ومقدّمة في عسكره إلى مراكش وزحفه. وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم، والاعتصام ببيعتهم. ولم تزل المخاطبات بينهم وبين الأمير أبي زكريا في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده. ورسلهم تفد عليه بذلك مرّة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد. وقد استولى الأمير أبو زكريا على تلمسان، ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته. وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثّبوا به وقتلوه. وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، فحملهم على بيعة الأمير أبي زكريا فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حدّه واعتزم على النهوض إليهم فخامرهم الرعب، وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريرة، فتقبّل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 (الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيى زكريا ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد الى أخيه محمد) كان الأمير أبو زكريا قد عقد لابنه أبي يحيى زكريا على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حمّاد، وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة كما ذكرناه، فاستقل بذلك، وكان بمكان من الترشيح للخلافة بنفسه وجلاله، وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل. فولّاه الأمير أبو زكريا عهده سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه، وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره. وكتب إليه بالوصيّة التي تداولها الناس من كلامه ونصها: أعلم سدّدك الله وأرشدك، وهداك لما يرضيه وأسعدك، وجعلك محمود السيرة، مأمون السريرة. إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه، وجعله مسئولا عن رعيته في جل أمرهم ودقه، أن يقدّم رضي الله عز وجل في كل أمر يحاوله، وأن يكل أمره وحوله وقوّته للَّه، ويكون عمله وسعيه وذبّه عن المسلمين، وحربه وجهاده للمؤمنين، بعد التوكل عليه، والبراءة من الحول والقوة إليه. ومتى فاجأك أمر مقلق، أو ورد عليك نبأ مرهق، فريّض لبّك، وسكن جأشك، وارع عواقب أمر تأتيه، وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه. ولا تقدم إقدام الجاهل، ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل. وأعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله، وقصر عن مقاومته رجاله، فمفتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم، وذي التجارب من نبهائهم. ثم الإقدام عليه، والتوكّل على الله فيما لديه، والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره، والصغير على قدره. ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك، وتغلّطه في نفسه وتفسد نيّة الكبير وتؤثره عليك، فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين، ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك. واتّخذ كبيرهم أبا وصغيرهم ابنا، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ 17: 24 وَشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله، إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 3: 159. واتخذ نفسك صغيرة، وذاتك حقيرة، وحقّر أمورك، ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين، بأنّك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 أعظم الناس قدرا، وأكثرهم بذلا، وأحسنهم سيرة وأجملهم صبرا، فذاك غرور وبهتان وزور. واعلم أنّ من تواضع للَّه رفعه الله. وعليك بتفقّد أحوال رعيّتك والبحث عن عمّالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم، ولا تنمّ عن مصالحهم، ولا تسامح أحدا فيهم. ومهما دعيت لكشف ملمّة فاكشفها عنهم، ولا تراع فيهم كبيرا ولا صغيرا إذا عدل عن الحق. ولا تراع في فاجر ولا متصرف إلّا ولا ذمّة، ولا تقتصر على شخص واحد في رفع مسائل الرعيّة والمتظلمين. ولا تقف عند مراده في أحوالهم. واتخذ لنفسك ثقات صادقين مصدقين، لهم في جانب الله أوفر نصيب، وفي مسائل خلقه، إليك أسرع مجيب. وليكن سؤالك لهم افذاذ [1] ، فأنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه، حمله الهوى على الميل، ودعته الحميّة إلى تجنّب الحق، وترك قول الصدق. وإذا رفع إليك أحد مظلمة، وأنت على طريق، فأدعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك. وجاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله، مصيخ إلى نازلته ونقله، ففي إصاختك له وحنّوك عليه أكبر تأنيس، وللسياسة والرئاسة في نفوس الخاصّة والعامّة، والجمهور أعظم تأسيس. وأعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن باللَّه واليوم الآخر إلّا في حق أوجبه الكتاب والسنّة، وعضّدته أقاويل الشرعية والحجة، أو في مفسد عاثت في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاحهم وأحوالهم، فليس إلّا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء، ولا تقل عثرة حسود على النعم، عاجز عن السعي، فإن إقالته تحمله على القول، والقول يحمله على الفعل، ووبال عمله عائد عليك. فاحسم داءه قبل انتشاره، وتدارك أمره قبل إظهاره، واجعل الموت نصب عينيك، ولا تغتر بالدنيا وان كانت في يديك. لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح. واعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب، والقناعة مال لا ينفد. وقد قال بعض المفسرين في قوله عزّ من قائل: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ في الْآخِرِينَ» 37: 78 إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلّد فيها من الأعمال المشكورة، والفعلات الصالحة المذكورة.   [1] الفذ: الفرد. جمع افذاذ وفذوذ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذبّ به عن عباده. وأرجو بك متى جعلت وصيّتي هذه نصب عينيك، لم تعدم من ربّك فتحا ييسّره على يديك، وتأييدا ملازما لا يبرح عنك إلّا إليك، بمنّ الله وحوله وطوله. والله يجعلك ممن سمع فوعى، ولبّى داعي الرشد إذ دعا، أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، 22: 6 وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت الوصيّة المباركة، فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك، وعلا في الدولة كعبه، وقوي عند الكافة تأميله، وهو بحالة من النظر في العلم والجنوح للدين، إلى أن هلك سنة ست وأربعين وستمائة، فأسى له السلطان، واحتفل الشعراء في رثائه وتأبينه، فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان، ويبعثون حزنه، وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد، بحضور الملأ، وإيداع الخاصّة كتابهم بذلك في السجل، إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعده. (الخبر عن مهلك السلطان أبي زكريا وما كان عقبه من الاحداث) كان السلطان أبو زكريا قد خرج من تونس إلى جهة قسنطينة للاشراف على أحوالها، ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها، ووافته هنالك الدواودة، وشيخهم موسى بن محمّد. وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام. وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسنطينة. ثم أبلّ من مرضه، ووصل منها إلى بونة، فراجعه المرض. ولما نزل بظاهر بونة اشتدّ به مرضه. وهلك لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة لاثنتين وعشرين سنة من ولايته، ودفن بجامع بونة. ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسنطينة سنة ست وستين وستمائة بين يدي حصار النصارى تونس. وبويع إثر مهلكه ابنه وليّ عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره. وطار خبر مهلكه في الآفاق، فانتقض كثير من أهل القاصية، ونبذوا الدعوة الحفصيّة، وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصيّة. وتمسّك بها يغمراسن بن زيّان صاحب المغرب الأوسط، فلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 يزالوا عليها حينا من الدهر، إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره. ولمّا بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة، وكان بها أبو يحيى بن الشهيد من قبل الأمير أبي زكريا كما نذكره، وأبو عمرو بن أبي خالد، والقائد شفاف، فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف، وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس. وتولّى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي. واتفق الملأ على ولاية العزفي، وحوّلوا الدعوة للمرتضى، وذلك سنة سبع وأربعين وستمائة. وتبعهم أهل طنجة في الدعوة، واستبدّ بها ابن الأمير، وهو يوسف بن محمد بن عبد الله أحمد الهمدانيّ، كان واليا عليها من قبل أبي علي بن خلاص. فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي، خالفهم هو إلى الدعوة الحفصيّة، واستبدّ عليهم. ثم خطب للعبّاسي وأشرك نفسه معه في الدعاء، إلى أن قتله بنو مرين غدرا كما نذكره، وانتقل بنوه الى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم [1] عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة، انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء، فنزلوا بها وأصهر إليهم بنو الأمير [2] ، وارتحلوا معهم إلى تونس. وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثائق، واستعمل في حطة القضاء بالحضرة أيام السلطان، وكان له فيها ذكر. ولمّا بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكريا إلى صقلّيّة أيضا، وكان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الإشراك في البلد والضاحية، فتساكنوا حتى إذ بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجئوا إلى الحصون والأوعار، ونصبوا عليهم ثائرا من بني عبس، وحاصرهم طاغية صقلّيّة بمعقلهم من الجبل. وأحاط بهم حتى استنزلهم. وأجازهم البحر إلى عدوته، وأنزلهم بوجاره من عمائرها. ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها، وألحقهم بإخوانهم. واستولى الطاغية على صقلّيّة وجزائرها. ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره، والله غالب على أمره.   [1] وفي نسخة أخرى: أبو الصنم. [2] وفي نسخة أخرى: بنو الأمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 (الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر وما كان في أيامه من الحوادث) لما هلك الأمير أبو زكريا بظاهر بونة سنة سبع وأربعين وستمائة كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله، وأخذ له البيعة عمّه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر، وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة، فجدّد بيعته يوم وصوله وتلقّب المستنصر باللَّه. ثم جدّد البيعة بعد حين، واختار لوضع علامته: «الحمد للَّه، والشكر للَّه» وقام بأعباء ملكه، وتقبّض على خاصة أبيه الخصي كافور، كان قهرمان داره، فأشخصه إلى المهديّة، وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب. واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي، واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلّم ولد عمّه اللحياني الثائر عليه كما نذكره، والله تعالى أعلم. (الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله ومقتل أبيه) كان للأمير أبي زكريا من الإخوة اثنان: محمد وكان أسنّ منه ويعرف باللحياني لطول لحيته، والآخر أبو إبراهيم، وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه. ولما هلك الأمير أبو زكريا، وقام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر، واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي، وكان عظيما في قومه، فأمل أن يستبدّ عليه لمكان صغره، إذ كان في سنّ العشرين ونحوها. واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين [1] ، والصنائع من بيوت الأندلس. فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا، ورتّب جندا كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة. فداخل ابن أبي مهدي السلطان، وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر، فلم يجد عندهما ما   [1] وفي نسخة ثانية: العلوج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 أمل من ذلك. فرجع إلى ابن محمد اللحياني، فأجابه إلى ذلك. وبايعه ابن أبي مهدي سرا، ووعده المظاهرة. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمّه محمد اللحياني وحذّره من غائلة ابنه، وأبلغه ذلك أيضا القاضي أبو زيد التوزري منتصحا. وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وستمائة، وتقبّض على الوزير أبي زيد بن جامع. وخرج ومشيخة الموحّدين معه، فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره، واستركب السلطان أولياءه. وعقد للقائد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء، ولقي [1] الموحدين بالمصلّى خارج البلد، ففضّ جمعهم، وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عمّ السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة، وحمل رءوسهما إلى السلطان. وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه، وانتهب منازل الموحّدين وخرّبت. ثم سكنت الهيعة وهدأت الثورة، وعطف السلطان على الجند والأولياء وأهل الاصطناع، فأدرّ أرزاقهم ووصل تفقّدهم. وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجره أول الدولة، وتزحزح لابن مهدي عن رتبته، وتضاءل لاستطالته، فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك. ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر، وقبّحوا عنده ما أتاه من الافتيات في قتل عميه من غير جرم. ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة، وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه، فعقد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريدا، إلى أن كان من أمره ما كان. (الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه) فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكيّة، وأولها المصيد بناحية بنزرت. اتخذه للصيد سنة خمسين وستمائة، فأدار سياجا على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد، بحيث لا يراع فيه سرب الوحش، فإذا ركب للصيد تخطّى ذلك السياج إلى قوراء في لمّة من مواليه المتخصين [2] وأصحاب بيزرته [3] ، بما معهم من   [1] وفي نسخة أخرى: ولحق. [2] كذا، والأصح: خصية أو خصيان جمع خصي. وفي نسخة ثانية: المختصين. [3] وفي نسخة ثانية: وأصحاب يبرزون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 الجوارح بزاة وصقورا وكلابا سلوقية وفهودا، فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء، وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطرا من ذلك القنيص سائر يومه، فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها. ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة [1] بحائطين ممتدّين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقا سالكا ما بينهما، وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهنّ إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهنّ، فكان ذلك مصنعا فخما وأثرا على أيام الدولة خالدا. ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك. وأساراك باللسان المصمودي هو القوراء الفسيحة. وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السماك متباعد الأقطار متّسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب، وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحه وغلقه بالعصبة أولي القوة. ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب الى معارج قد نصبت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الإيوان، يناهز عددها الخمسين أو نحوها، ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء. ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود [2] ومشاهد الأعياد، فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي تشهد بأبّهة الملك وجلالة الدولة. واتخذ أيضا بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر، يشتمل على جنّات معروشات وغير معروشات، اغترس فيها من شجره كلّ فاكهة من أصناف التين والزيتون والرمّان والنخيل والأعناب، وسائر الفواكه وأصناف الشجر. ونضّد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السدر والطلح والشجر البريّ، وسمّى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والحوائز [3] وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والرّيحان، وشجر الياسمين، والخيريّ والنيلوفر وأمثاله. وجعل وسط هذه الرياض روضا فسيح الساحة، وصنع فيه للماء حائزا من عداد البحور [4] ، جلب إليه الماء في القناة القديمة، كانت ما بين عيون زغوان   [1] وفي نسخة أخرى: الطالبية، وفي النسخة الباريسية: الطابية. [2] كذا، وفي ب: والقود. وفي نسخة أخرى: والوفود. [3] كذا، وفي ب: والحدائق. وفي نسخة أخرى: والجرار. [4] وفي نسخة أخرى: وصنع فيه للماء حاجزا من أعواد الحور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 وقرطاجنة تسلك بطن الأرض في أماكن، وتركب البناء العاديّ ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى، فعطف هذه القناة من أقرب السموات [1] إلى هذا البستان. وأمطاها حائطا وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى، رصيف البناء متباعد الأقطار مربّع القنا مجلّل بالكلس، إلى أن يغمره الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية، فينبعث في الصهريج إلى أن يعبق حوضه، وتضطرب أمواجه يترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهنّ تباري الفتح، ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبّتان متقابلتان كبرا وصغرا على أعمدة المرمر، مشيّدة جوانبها بالرخام المنجّد، ورفعت سقفها من الخشب المقدّر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمّقة، إلى ما اشتملت عليه هذه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور غرفا من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار، وتأنّق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزّهاته من هذه، فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الآفاق. (الخبر عن فرار أخيه أبي إسحاق وبيعة رياح له وما قارن ذلك من الأحداث) كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر، وكان يعاني من خلقه وملكته عليه شدة، وكان السلطان يخافه على أمره وخرج سنة إحدى وخمسين وستمائة لبعض الوجوه السلطانيّة، ففرّ الأمير أبو إسحاق من معسكره، ولحق بالدواودة من رياح، فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس، واجتمعوا على أمره. وبايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم واعتقد منه الذمّة والرتبة، وقصدوا بسكرة وحاصروها، ونادى بشعار طاعتهم فضل بن علي ابن الحسن بن مزني من مشيختها. وائتمر به الملأ ليقتلوه، ففرّ إليه وصار في جملته. ثم بايع له أهل بسكرة ودخلوا في طاعته. ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها، واجتمعت عليه الأعراب من كل أوب. وأهمّ السلطان شأنه، وتقبّض   [1] وفي نسخة أخرى: الثمرات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 على ولده فحبسهم بالقصبة جميعا. ووكّل بهم من يحوطهم وألطف ابن أبي الحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق ومولاه ظافر، بتحذير ألقاه إلى أخته بالحضرة تنصّحا، فبعثت به إلى أخيها، فتنكّر لظافر وفارقه، وسار إلى المغرب. ثم لحق بالأندلس، وافترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس. ونزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه، وأسنى له الجراية. وشهد هنالك الوقائع، وأبلى في الجهاد. ولم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر ويهاديه، ويوفد عليه مشيخة الموحّدين مصانعة في شأن أخيه واستجلاء لحاله، إلى أن هلك. وكان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر. ولحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية. وأوفد ولده علي الواثق مستعتبا وراغبا في السبيل إلى الحجّ. وقلق المستولي على الدولة بمكانه، وراسل شيخ الموحّدين أبا هلال عياد [1] بن محمد الهنتاتيّ صاحب بجاية في اغتياله عن قصده، فذهب دمه هدرا وبقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق، وبيد الله تصاريف الأمور. (الخبر عن بني النعمان ونكبتهم والخروج أثرها إلى الزاب) كان بنو النعمان هؤلاء من مشيخة هنتاتة ورؤسائهم، وكان لهم في دولة الأمير أبي زكريا ظهور ومكان، وخلصت ولاية قسنطينة لهم يستعملون عليها من قرابتهم. واتصل لهم ذلك أول دولة المستنصر، وكان كبيرهم أبو علي وتلوه ميمون وعبد الواحد، وكان لهم في مداخلة اللحياني أثر. فلما استوسق [2] للسلطان أمره، وتمهّدت دولته نكبهم وتقبّض عليهم سنة إحدى وخمسين وستمائة، فأشخص أبا علي إلى الإسكندريّة، وقتل ميمون وانقرض أمرهم. وظهر أثر ذلك بالزاب خارج تسمّى بأبي حمّارة، فخرج السلطان من تونس وقصده بالزاب، فأوقع به وبجموعه وتقبّض عليه، وسيق إلى السلطان فقتله، وبعث برأسه إلى تونس فنصب   [1] كذا، وفي ب: عباد. [2] استوسق الأمر: انتظم. (قاموس) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 بها. وقفل السلطان إلى مقرّه فنزل بها، وسخط وجوها من سليم: من مرداس ودباب، كان فيهم رحاب بن محمود وابنه، فاعتقلهم واشخصهم إلى المهديّة فأودعهم بمطبقها ورجع إلى تونس ظافرا غانما. (الخبر عن دعوة مكة ودخول أهلها في الدعوة الحفصية) كان صاحب مكّة ومتولّي أمرها من سادة الخلق وشرفائهم ولد فاطمة، ثم من ولد ابنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين، أبو نمى وأخوه إدريس، وكانوا قائمين بالدعوة العباسيّة منذ حوّلها إليهم بمصر والشام والحجاز صلاح الدين يوسف بن أيّوب الكردي، وأمر الموسم وولايته راجعة إليه، وإلى بنيه ومواليه من بعده إلى هذا العهد. وجرت بينهم وبين الشريف صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد، ومحوهم رسم الخلافة بها، وظهور الدعوة الحفصيّة بإفريقية، وتأميل أهل الآفاق فيها وامتداد الأيدي إليها بالطاعة. وكان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلا بمكة، بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس، وكان حافظا للعلوم الشرعية والعقلية، وسالكا مرتاضا بزعمه على طريقة الصوفية. ويتكلم بمذاهب غريبة منها، ويقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوّفة الغلاة، ويزعم بالتصوّف في الأكوان على الجملة، فأرهق في عقيدته، ورمي بالكفر أو الفسق في كلماته، وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له شيخ المتكلمين بأشبيليّة. ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكونيّ، فتنمّر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنّة وسخطوا حالته. وخشي أن تأسره البيّنات فلحق بالمشرق ونزل مكة، وتذمّم بجوار الحرم الأمين، ووصل يده بالشريف صاحبها. فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب إفريقية، داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين وحرّضه عليه، وأملى رسالة بيعتهم، وكتبها بخطه تنويها بذكره عند السلطان والكافة، وتأميلا للكرة ونصها: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 صلى الله على الإسوة المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 عَزِيزاً، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً 48: 1- 4. هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن وخارجة، وهو الّذي خصّت به مكة، وهو أعظم فتح نذر في أيام الدهر والزمان الفرد منه خير من أيام الشهر، وبه تتم النعمة، ويستقيم صراط الهداية، وتحفظ النهاية، وتغفر ذنوب البداية، ويحصل النصر العزيز، ونور السكينة، وتتمكن قواعد مكة والمدينة. وكلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان. ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء، ولا في مكان دون مكان. وهذا الفتح قد كان بالقصد الأول والقدر الأكمل، للمتبوع الّذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني، فإنه هو الإسوة صلّى الله عليه وسلم، وكل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته وعلى يديه. وإن كانت نصبة مولده صلّى الله عليه وسلم ورسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الّذي نحن فيه، وأمامنا فيه هو ختم الأولياء. فمن فتح عليه بفتح مكة تمّت له النعمة، ورفعت له الدرجة، وضفت عليه الرحمة. ومن وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد وسار على صراطه، ورجح ميزان ترجيحه على أقرانه وأرهاطه. ومن حرم هذا فقد حرم من ذلك، والأمر هكذا. وسنة الله كذلك، وصلى الله على رسوله الّذي طلع المجد من مدينته بعد ما أطلعه من بلده، ورضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه، ثم من عمر صاحبه ووليّه والحمد للَّه على نعمه. بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على سيد ولد آدم محمد. «حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً من عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً من رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 44: 1- 6. قد صح أن هذه الليلة فيها تنزل الآيات وترتقب البيّنات، وفيها تخصيص القضايا الممكنة وأحكام الأكوان ويفرق الأمر، ويفسّر الملك الموكل بقبض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان، وفيها تقرر خطة الإمامة والملك، وتقيض الإمامة بالهلك، وهي في القول الأظهر في أفضل الشهور، وفي السابع والعشرين منه كما ورد في الحديث المشهور. ثم هي في أمّ القرى وفي حرمها تقدّر بقدر زائد، ويعم فضلها إلّا للحائد عن الفائد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 وإنما قلت هذا ورسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها، والليلة التي فيها قرأتها، أنها من أفضل المطالب التي قصدت، وأن القرائن التي اجتمعت فيها ولها، زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت، وأيضا تأخّر فيها مجد إمام عن إمام، وبعد مجد إمامه وراء إمام هو وراء الإمام، ورحمت فيها نفس خليفة عبرت وتلقّب وعظمت فيها ذات خليفة تحيي التي سلفت، فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرّر حدها ويتحقّق مجدها، ولا يقدر قدرها فإنّها ليلة قدر، ليلة قدرها. والحمد للَّه حمدا وأصلا: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وصلى الله على واحد الله في عنايته سيّدنا محمد طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ 28: 1- 2 إلى قوله مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته، وفي سنّة الله التي لا تحول ولا تبدّل والمتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدّل ولا تعدّل، أن لكل هداية نبويّة ضلالة فرعونيّة، وكذا الحال في الأولياء، ومع كل مصيبة فرج، ولا ينعكس الأمر في الأتقياء. ولكلّ ظلم ظالم متجبّر قهر قاهر متكبّر، وعند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل. وفي عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب، وفي كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها ولا تطلب، وكواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفلة، وكلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة. وإنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكّر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة. وليعلم كل مؤمن أن كلمة الله متّصلة الاستصحاب والسبب، وعاملة في الأشياء مع الأزمان والحقب، وأن رجال الملّة الحنفية أعلى المنازل والرتب. ولذلك يقول في نوع فرعون الأذل، ونوع موسى الأجل: أشخاصها متعددة، وأكوانها متّحدة، والله غالب على أمره. وقد قيل إن الملّة الحنفيّة المضريّة تنصرها السيرة العمريّة المحمديّة المستنصريّة. ولعلّ الّذي أقام الدين وأطلعه من المشرق وأتلفه منه، يجيره من المغرب ولا ينقله عنه، فينبغي لمن آمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسوله، وبما يجب كما يجب أن لا يتغير قصده ولا يتوقف عند سماع المهلكات حمده، قد قيّدت أقدام قوم بشرك الشرك، وحملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع [1] كيد الكنود هلك كنعان وكل بصر   [1] كذا، وفي ب: وكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 بصيرته، ولبس لهم ثوب الذلّ بالعرض، وجعل مصيبة الدين تفئته مع جحوده لسلطان السنّة والفرض. وأما هامان المرتدّين فليس هم بالمؤمنين، وعلا فرعون الشر في الأرض، والله يمنّ على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده، ويهلك المفسدين بجند من رفده. وينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام، فإنّها تزلزل الطبع وتحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام وتكبر أربع تكبيرات على الأنس ويودع بعد ذلك وعد وسلام، وينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين والإسلام، والحمد للَّه على كل حال. بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على الّذي أعجزت خصاله العدّ والحدّ، مسلم والطبقة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعدّه عدا. وقال صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعد. زاد أبو العبّاس الهمدانيّ، وأشار بيده إلى المغرب. وذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صحّحته روايته، ولا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العمليّة إلّا ما أبرزته درايته. ولا يعتبر من الأعلام الدينيّة إلى ما أدركته هدايته. قال في الترجمة الأولى: إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد، ويستقيم ملك المغرب وتبسط كلمته في الأقطار، ويخطب له على منابر خلفاء بني العبّاس، ويكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند. ذكرت هذا ليعلم المقام أيّده الله أنه هو المشار إليه، وأنه الّذي يعوّل في إصلاح ما فسد بحول الله عليه. ومن تأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان الحديث، تبين له ما أردناه وذلك يظهر من وجوه، منها: أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم، ولا ذكر في الدول الماضية، ولو ذكر لرددنا القول به وأهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان. والثاني: أن آخر الزمان الّذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة، وأكثر العلامات المنذرة بالساعة هو هذا بعينه. الثالث: لا خليفة لأهل الملة في وقتنا هذا غير الّذي قصدناه. وهذه أقطار الملّة منحصرة ومعلومة لنا من كل الجهات، والّذي يشاركه في الاسم ويقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه، إذ هو أضعف من ذرّة في كرّة، ومن نملة في رملة. وأفقر من قصد طالب السراب، ويده مع هذا أيبس من التراب فصحّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 السبر والتقسيم، وبتصفح الموجودات والأزمان والدول والمراتب والنعوت إنه هو لا شريك له فيها، والمصحّح لذلك كله، والّذي يصدق وينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الّذي يعجز عنه الحدّ، ولا يتوقّف فيه العد. وهذا خليفة الملّة كذلك، وهذه دلائله هي أوضح من نار على علم. وهذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف والقلم، وهذه خزائنه تغلب الطالب وتعجز عن الدافع، وهذه سعوده في صعوده، وهذه متاجر تعويله على الله رابحة وهذه أخواله بالكلية صالحة، وهذه سعايته ناجحة. ثم هذه موازين ترجيحه راجحة، والحمد للَّه كما يجب. وما النصر إلا من عند الله وصلى الله على عبده محمد بن عبد الله إنه من بكة وإنه للحق وإنه بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وإنه إلى خضر لا تحصر الحصر ويحدر فيها الندر [1] ويحافظ على سنّة الرؤوف الرحيم. صلّى الله عليه وسلّم أمّا بعد فبهداهم اقتده، الحمد للَّه الّذي أحسن بمقام الإحسان وتمّم النعمة، وبيّن لمن تبيّن علم البيان، وحكم لمن أحكم الحكمة وسبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة وذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة، هو الرؤوف بالبرية وهو الرحيم والحفي بالحنفية، وهو القاهر الماضي المشيئة الّذي يقبض ويبسط ويمضي المشيئة. شهد له بالكمال الممكن الّذي أبرزه وخصّصه وعرّفه بالجلال من يسره لذلك وخلصه. هو الّذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة والفرض، وأعمى من أهلها من توسّل له بنيّة العرض وأعتق العقاب وسر العقاب وأهمل العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور، وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام نجر المجد في بحر خصاله يعد بعض البعض. سنته محمديّة، وسيرته بكريّة وسريرته علويّة، وسلالته عمريّة. فهذه ذرّية وأنواع مجد بعضها من بعض، بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض. عرف بالرياسة العالية، ووصف بالنفاسة السالية، وشهد له بذلك الخاص والعام ونزه من النقائص. النزيه النفس ومن نزهه في سلطانه علمه العام. صلى الله على الإسوة الرؤوف بالمؤمنين، سيّدنا محمد الّذي أنزل عليه التنزيل، وكتب اسمه في صحيح القصص والنصوص، ونبي الله به وبأئمة أمّته الذين شبّههم بالبنيان المرصوص،   [1] كذا، وفي ب: النذر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 وعلى آله وصحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم وطهّرهم، ثم أيّدهم فطهّروا الأرض من الكفرة الفجرة. وأخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين أظهرهم، ويسّر بهم السبيل ثم السبيل يسّرهم. ومنهم الخليفة المستنجد باللَّه المفضّل على الناس، ولكن أكثرهم ورضي الله عنهم وعنه، وضاعف للمحب الثواب الدائم منهم ومنه. وبعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد والتصلية والدعاء للدولة الدالة على قبول الدعوة أصلية، تحيّة بعضها مكية وكلها ملكوتيّة، وروضة ريحها حضرة القدس ونشرها يدرك فيه صحبة النفث، روح القدس. وتكبر عن أن تشتبه بالعنبر والند والورد وأزهار الربى والرياض. لأن المفارق للمادة مفارق لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض. ثم هي مع هذا واجبة القصد عذبة الورد، تذكر الذاكر الذكي بعرفها الذكي لمدركات جنّة الخلد والنعيم. وفي مثل هذه فليتنافس المتنافسون. وتدرك النفس النفيسة لذة النعيم لأنها ظاهرة طيبة، وكريمة صبيّة، واقفة على حضرة الملك والسلطان، ومدار فلك النسك ومستقر الإمامة والجلالة، ومعقل الهداية والدلالة، وأصل الأصالة ودار المتقين، وبيت العدالة وحزب اليقين. وإنسانها الأعظم معلي الموحدين على الملحدين وقائم الدين وقيمه، ومقر الإسلام ومقدّمه، القائم بالدعوة العامّة بعد أبيه إمام المجد والفخر، ثم الأمّة الّذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل، اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوّة، وأن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسير يسره سعده وساعده ساعد القوة وإن سمع بالحمد في جهة حد به [1] بخاصة خصاله بعد مجد الأبوّة وفخر النبوّة، لا يذكر معه ولا عنده صعب الأمور إلّا بالضد، فإنه مظهر العناية الإلهية، ومرآة المجد والجد. هو علم العلم ثم هو محل الحلم، اسمه متوحّد في مدلوله كالاسم العلم، وعهده لا يتوقّف على اللسان ولا على رسوم القلم. كتب في السماء وسمع به في الكرسي وكذلك العرش، وما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى. وإن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش. ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تتنقل من الإنسان إلى الأسد. ولا يقال هذا بحر العلم   [1] كذا، وفي ب: حد له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 فينقل من الطبيعة إلى بحر الخلد، لأن ذلك كله فيه بوجه أكمل وبه وعليه، وفي يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة، بالمطالب العالية وحصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية. وبلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره ونال غاية الإنسان، ويتعجّب منه في القيامة عمره، ويسره أمره طلعت سعوده على مولده، ومطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك وطالعة. إن حرّر القول فيه وفهم شأنه، قيل هو من فوق الأطلس والمكوكب، وإن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع المركّب. أي غاية تطلب بعد طاعته، وأي تجارة تنظر مع بضاعته، له الحمد بيده الملك والأمانة، بل له الكل بفضل الله وفيه المقصد والسلامة، لا بل له الفتح المبين وتتميم النعمة والهداية ونور السكينة، وفيه الإمارة والعلامة. منير مكة بإزاء بيت بكة خطب بخطبته، والّذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السرّ تطير إذا سمعت بذكره، والمهندات البتر تلين لباس ساعده. ويقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد، توحّدت له إذ هو واحدها الأوحد، وسياسة التسديد تحكمت له فهو مدبّرها الأرشد. ومع هذا كتابته أهملت صيت الصادين، وكورت شمس الفتح، ثم الفتح والصادين. وكذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الأعجاز على الصدور، فإنه الّذي يعتبر في ذلك والّذي يصدر عنه هو واقع في الصدور، وأفعل في طباع المهرة وفي نفوس الصدور يتأخر عن شعره شعر الرجلين. وبعده نذكر الطبقة، ثم شعراء نجد، والخبب والجبليّ والولد بعده والهذلي، والمؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك. والهذلي علوم الأدب، الخمسة تممها وسادسها وسابعها زاده من عند نفسه. وخليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه وجنسه، والفارسيّ تلميذه ثم الآخر بعده والأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب. وأقام أئمّة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه، ثم لا يكون كالمصيب. وكل كوفي بل كل بصري يحب الظهور إذا سمع به اختفى، والمنصف منهم هو الّذي بنحوه اكتفى. أقيسة الفقه الثلاثة هذّبها وحصّلها، وأصوله كما يجب علمها وفصلها. والمسائل الطبولية تكلم على مفصلها ومجملها، وسهّل الصعب من مخصّصها ومهملها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 وإن فسّر كتاب الله المعجز عجز أرباب البلاغة بإعجاز بعد إعجازه، وإن تعرّض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره [1] وإيجازه. وإن شرع في شرح قصصه وجدله، وفي تفسير ترغيبه وترهيبه. ومثله يبصر الناظر فيه والمستمع لما لم يسمع وما لم يبصر، فإنه سلك بقدم كماله وتكميله على قنطرة بعد لم تعبر ويضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى، وبعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى وإلى الله في الأخرى. وإن تكلّم على متشابهه ومحكمه علم الاصطلاح. ثم بيان النوع للخبير به وبمحكمه، وكذلك القول على الناسخ والمنسوخ والوعد والوعيد. وإن يشاء طول في مطولاتهم واختصر من مختصراتهم، فبيده الزيادة وضد المزيد، وأما تحرير أمره ونهيه وأسراره ورقائقه، وفواتح سوره وحقائقه. والّذي يقال إنه لا من جنس الّذي يكتسب والّذي هو أعظم من الّذي يرد، وإليه الأحوال تنتسب فهو الشارح لها والخبير بها، وإن تأخّر. وينوّع في ذلك ويزيد غير الأول وإن تكرّر. وأما علوم الحديث وأنواعها السبعة فهو بعلمها، وصناعته بجملتها للعلماء يعلمها. والوراقة والضبط والخط وقفت عليه مهنة غايتها، وحمله الأمر علوم الشريعة كلّها عرفها ووعاها ورعاها حق رعايتها. وكل العلوم العقليّة والنقليّة ورجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان، والمقامات السنيّة المستنزلات العلويّة أدركها بعد التبيان. فمن أراد أن يمدحه ويعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب. ومن ذكره ولم يتلذّذ بذلك فقد جاء بما ينضح حمله الخبب، ونعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل، وحضرة جلاله محفوظة بجدّها وجدّها وقاطعها المنفصل. ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ من يَشاءُ، 5: 54 قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. 6: 124 هذه كلّها. آياته والرابعة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها 16: 18 فإنّها هباته إن حدّث المحدّث بكرمه يقول، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده، ونصر الله إذا جاء لا يردّه، وفتحه من ذا الّذي عن السعيد يصدّه، والمؤرّخ يتذكّر بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب، إذ قال: وقد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام وفيه أربعة وهو واحدها حتى في رفع التشبيه وقطع السبب، العلم والحلم والشجاعة وفضل الحسب، يسرّ   [1] كذا، وفي ب: اختياره، وهو تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 بحكمته ويغتبط بها متى يتبع جملته، الباحث الحكيم ولا يشعر بشعره إذا تصفّح نعوته الشاعر العليم، وينشد طبعه في الحين والوقت والحزّة ويخرج الحروف من مخارج الهمزة. شهدت لقد أوتيت جامع فضله ... وأنت على علمي بذاك شهيد ولو طلبت في الغيب منك سجيّة ... لقد فرّ [1] موجود وعزّ وجود أدام الله له المجد الّذي يسلك به على النجدين، وحفظ عليه مقامه الّذي لا يحتقر فيه إلّا جوهر النقدين، وبسط له في العلم والقدرة، وبارك له في نصيب النصرة، وجهّز به العسرة، وردّ به على الشرك والفتن الكرّة، وعرفه في كل ما يعتزمه صعا جميلا، ولطفا خفيا جليلا. وكفاه الشرّ المحض وخير الشرين، كما كشف له عن الخير المحض وعلم السريّن، وأيّده بروح منه في السّر والسريرة، وحفظه في حركاته وسكناته من الصغيرة والكبيرة. وجعل كلمته غالبة للضد والجند، وبلغ صيته الجزائر والبربر، ثم الى السند والهند. وخلّد ملكه وسلّم فلكه، ورفعه على أوج المجد بحدّه الطويل العريض. وأهبط عدوّه من الشرف الأعلى إلى الحضيض. وفتح الله به باب الفتح في المشرق والمغرب بعد فتح الثغور، وشرح بنصره وفتحه أوساط الصدور، وما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور وجبر به كسر الظفر، ووصل به ما انقطع من الأسباب. وعصم جنده من ضد الدنف الأنف، وردّهم إلى ردم الأبواب وقدّس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدّس، وسلك به مسالك السبل في المقيل والمعرس. وبعد هذا فهذه أدعيتنا، بل هذه أوديتنا، وهذه مسائلنا بل هذه وسائلنا، وهذه تحيّة حيّاها ذو الفطرة السليمة، وهذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العليمة. واستنبت فيها الكتاب واستثبت فيها الجواب، والموجب لإصدارها محبّة أصلها ثابت وفرعها في العلى وحفز عليها حافزان: شوق قديم، ورعاية الآخرة والأولى، بل الأمر الّذي هو في خير الأمور من أوسطها، وإذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها، فإنه يحكي أحكام الشأن والقصّة، ويعلم المقام أيّده الله الّذي حصل له في حرم الله وحرم نبيه من النصيب والحصّة، وفيه ينبغي أن تذهب الألفاظ وتلحظ عيون الأغراض وينفح المقاصد ويحمل على جواهر   [1] كذا. وفي ب: قر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 الكمالات كالأعراض، فمن ذلك ذكر الملّة التي كملت وكبرت، والأخرى التي كانت ثم غمرت وصغرت. والمنبر الّذي صعد خطب خطبته على الخطيب، وعرج إلى سماء السموّ وهو على درجه، والآخر الّذي درج عنه خطيبه وضاق صدره الأمر حرجه، وقرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر، لا بحرف المستعصم بن المستنصر. بسط القول وأطلق ترجمة عبد الله بعد ما قبضه الّذي أمات وأحيا، وقبض على مقامه ودفع للإمام محمد بن يحيى، وكان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الاختبار، ثم في ليلة الآيات والاعتبار. ومن ذلك أيضا بعمة الحمد والدعاء الظاهر القول والمقبول في الحرم الشريف، وانقياد الّذي ظهر على طائفة الحق والسيد والشريف. ومن ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحجّ ومقرّ وفوق الحاج، ووقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج، وذكر كما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك، وعرف هنالك أنه الإمام والمالك لكل مالك، وتعرّفت نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة، وتعارف بها من تعارف معه هناك ونعم التعارف والمعرفة. ثم ذكر عند المشعر الحرام وفي جهات حدود حرم المسجد الحرام، وعظم اسمه بعد ذكر الله وذكر الوالدين، وطلع الذاكر بالتركيب إلى الجدّين الساكنين في الخلد والخالدين. فلمّا وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات، ذكر مع السبع الأولى سبع مرّات. وكذلك عند الركوع في مسجد الخيف، وكل كلمات تمجيده بالكم والكيف، وعند التوجّه من هناك ويوم النفر قرّرت آياته المذكورة في كتاب الجفر. ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد والشكر. فلمّا وصل العلم بانتقال بيت الملك والسلطان من بغداد في شهر رمضان، أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح والقرآن، وكان الخادم في الزمان الأول وفي الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق والمغرب. والآن وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب والعرب. والّذي حمل على هذا كلّه طاعة كاملة وغبطة عاملة، والله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند، فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد والمكابد، ومعاد التحيّة على المقام الأرفع والمقرّ الأنفع، وعلى خدام حضرته العلية، وأرباب دعوته الجليّة وأنواع رحمته تعالى وبركاته. والحمد للَّه كما يجب وصلى الله على نبيّه محمد وعلى آله وسلّم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 كتب تجاه الكعبة المعظمة في الجانب الغربي من الحرم الشريف، والحمد للَّه ربّ العالمين. ولما وصلت هذه البيعة استحضر لها السلطان الملأ والكافة، وقرئت بمجمعهم وقام خطيبهم القاضي أبو البراء في ذلك المحفل فاسحنفر في تعظيمها والإشادة بحسن موقعها، وإظهار رفعة السلطان ودولته بطاعة أهل البيت والحرم ودخولهم في دعوته. ثم جار بالدّعاء للسلطان وانفضّ الجمع فكان من الأيام المشهودة في الدولة. (الخبر عن الوفود من بني مرين والسودان وغيرهم) كان بنو مرين كما قدّمناه قد تمسّكوا بطاعة الأمير أبي زكريا ودخلوا في الدعوة الحفصيّة، وحملوا عليها من تحت أيديهم من الرعايا مثل: أهل مكناسة وتازى والقصر، وخاطبوا السلطان بالتمويل والخضوع. ولمّا هلك السلطان وولي ابنه المستنصر، وقارن ذلك ولاية المرتضى بمراكش. ثم كان بينهم وبين المرتضى من الفتنة والحرب ما ذكرناه ونذكره، فاتصل ذلك بينهم وبعث الأمير أبو يحيى بن عبد الحق بيعة أهل فاس، وأوفد بها مشيخة بني مرين على السلطان وذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة فكان لها موقع من السلطان والدولة. وقابلهم من الكرامة كل على قدره، وانصرفوا محبورين إلى مرسلهم. ولما هلك أبو يحيى بن عبد الحق، واستقل أخوه يعقوب بالأمر أوفد إليه ثانية رسله وهديّته، وطلب الإعانة من السلطان على المرتضى وأمر أهل مراكش على أن يقيموا بها الدعوة له عند فتحها. ولم يزل دأبهم إلى أن كان الفتح. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة وصلت هديّة ملك كانم من ملوك السودان، وهو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس، وكان فيها الزرافة وهو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلي والشيات، فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غصّ بها الفضاء، وطال إعجابهم بشكل هذا الحيوان وتباين نعوته، وأخذها من كل حيوان بشبه. وفي سنة ثمان وخمسين وستمائة وصل دون الرنك أخو ملك قشتالة مغاضبا لأخيه، ووفد على السلطان بتونس فتلقّاه من المبرّة والحباء بما يلقى به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 كرام القوم وعظماء الملوك، ونزل من دولته بأعزّ مكان. وكان تتابع هذه الوافدات مما شاد بذكر الدولة ورفع من قدرها. (الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته) كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية، وكان علّامة في الحديث ولسان العرب، وبليغا في الترسيل والشعر. وكتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية. ثم عن ابنه السيد أبي زيد. ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية، ورجع عنه قبل أن يأخذ به. ثم كتب عن ابن مردنيش. ولمّا دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيّان بوفد بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ، فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على رويّ السين يستصرخه، فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسى فوجدهم في هوّة الحصار، إلى أن تغلّب الطاغية على بلنسية. ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان، ورشّحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته، فكتبها مدّة. ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العبّاس الغسّاني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي، وكان آثر عنده من الخطّ المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالردّ ووضعها استبدادا وأنفة، وعوتب على ذلك فاستشاط غضبا ورمى بالقلم وأنشد متمثّلا. واطلب العزّ في لظى وذر الذل ... ولو كان في جنان الخلود فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عدّ فيه من عوتب من الكتاب، واعتب. وسمّاه أعتاب الكتاب. واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة. ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 وأهل تونس، وكان في ابن الأبار أنفة وبأو [1] وضيق خلق، فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه، فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه. وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم، سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت، وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته، ووصف أباه في عنوان مكتوبة بالمرحوم. ونبّه على ذلك فاستضحك وقال: إن أبا لا تعرف حياته من موته لأب خامل. ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرّها في نفسه، ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية. ثم رضي عنه واستقدمه ورجّعه إلى مكانه من المجلس. وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم، فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها، فاتّهم بتوقّع المكروه للدولة والتربّص بها كما كان أعداؤه يشنّعون عليه، لما كان ينظر في النجوم فتقبّض عليه. وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع، وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أوّلها: طغى بتونس حلف سموه ظلما خليفة فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه، ثم بقتله قعصا بالرماح، وسط محرم من سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه. (الخبر عن مقتل اللياني وأوليته وتصاريف أحواله) أصل هذا الرجل من لليانة قرية من قرى المهديّة، مضمومة اللام مكسورة الثانية، وكان أبوه عاملا بالمهديّة، وبها نشأ ابنه أبو العبّاس. وكان ينتحل القراءة والكتاب حتى حذق في علوم اللسان. وتفقّه على أبي زكريّا البرقي، ثم طالع مذاهب الفلاسفة، ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية. ثم صودر في ولايته على مال أعطاه وتخلّص من نكبته، فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل   [1] بأي، بأوا- عليهم: فخر، تكبر- قاموس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 في عمله بما أظهر من كفايته وتنميته للأموال حتى قصر بهم وأديل منهم. وكان الكثير منهم متعلّقا من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمّة خدمة، فأسفه بذلك وأغرى به بطانة السلطان ومواليه، حتى سعوا به عند السلطان، وأنه يروم الثورة بالمهديّة، حتى خشن له باطن السلطان. فدخل عليه ذات يوم أبو العبّاس الغسّاني فاستجازه السلطان في قوله: «اليوم يوم المطر» فقال الغسّاني: «ويوم رفع الضرر» فتنبّه السلطان واستزاده فأنشد: «والعام تسعة كمثل عام الجوهري» فكانت إغراء باللياني، فأمر أن يتقبّض عليه وعلى عدوه ابن العطّار، وكان عاملا. وأمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذّبهما حتى استصفى أموالهما، والميل في ذلك على اللياني. وكان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله. ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلّيّة، وبوحث بعض من داخله في ذلك فأقرّ عليه، فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله، ورمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به وقطعوا رأسه، ثم تتبع أقاربه وذووه بالنكال إلى ان استنفدوا. (الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة على يد الأمير أبي حفص) كان المغرب الأوسط من تلمسان وأعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلّب أبوه الأمير أبو زكريا عليه، وفتح تلمسان وأطاعه يغمراسن وكان بين زناتة بتلك الجهات فتن وحروب شأن القبائل اليعاسيب، وكانت مليانة من قسمة مغراوة بني ورسيفان، وكانوا أهل بادية. وتقلّص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشيء. وكان أبو العبّاس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه ورواية وسمت ودين، رحل إليه الأعلام وأخذ عنه العلماء، وانتهت إليه رئاسة الشورى ببلده. ونشأ ابنه أبو عليه علي من الخلال متهالكا في الرئاسة متبعا غواية الشبيبة، فلما رأى تقلّص ظل الدولة وفتن مغراوة مع يغمراسن ومزاحمته لهم، حدّثته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص ونبذ دعوتهم، وانبرى بها داعيا لنفسه. وبلغ الخبر إلى السلطان فسرّح إليه أخاه الأمير أبا حفص، ومعه الأمير أبو زيد بن جامع، ودن الرنك أخو الفنش، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 وطبقات الجند. فخرج من تونس سنة تسع وخمسين وستمائة وأغذّ السير إلى مليانة فنازلها مدة، وشد حصارها حتى اقتحموها غلابا. وفر أبو علي الملياني ولحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه وأجازوه الى المغرب الأقصى، إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد. ودخل الأمير أبو حفص مليانة ومهّد نواحيها وعقد عليها الى ابن منديل أمير مغراوة فملكها مقيما فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة. وقفل الأمير أبو حفص إلى تونس، ولقيه بطريقة كتاب السلطان بالعقد له على بجاية وإمارتها، فكره ذلك غبطة بجوار السلطان. وتردّدت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتيّ، وعقد له على بجاية. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكر بعد. وهلك شقيقه أبو بكر بن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى وستين وستمائة، فتفجّع له الخليفة والقرابة والناس وشهد السلطان جنازته، والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد وخروجه في رياح) كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة، وتحت جرايته، وأبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد. ولحق بالمغرب. وجاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا، وأوصى به ابنه إلى أن حدّثته نفسه بالتوثّب والخروج. وخامرة الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء، سببها أن السلطان استحدث سكّة من النحاس مقدرة على قيمته من الفضة، حاكى بها سكّة الفلوس بالمشرق تسهيلا على الناس في المعاملات بإسرافها وتيسيرا لاقتضاء حاجاتهم. ولما كان لحق سكّة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها وصوغها، وسمى سكّته التي استحدثها بالحندوس. ثم أفسدها الناس بالتدليس وضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن، وفشا فيها الفساد. واشتد السلطان في العقوبة عليها فقطّع وقتل، وصارت ريبة لمن تناولها. وأعلن الناس بالنكير في شأنها وتنادوا بالسلطان في قطعها وكثر الخوض في ذلك وتوقّعت الفتنة. وأشيع من طريق الحدثان الّذي تكلف به العامة أن الخارج الّذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 يثير الفتنة هو أبو قاسم بن أبي زيد، فأزال السلطان تلك السكّة وعفا عليه، وأهمّه شأن أبي القاسم ابن عمه، وبلغه الخبر فخامره الرعب الى ما كان يحدّث نفسه من الخروج، ففرّ من الحضرة سنة إحدى وستين وستمائة، ولحق برياح ونزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة، فبايع له وقام بأمره. ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته واضطرب أمر العرب من قبيله. ولما أحسّ أبو القاسم باضطرابهم وخشي أن يسلّموه إذا أزادهم السلطان عليها، تحوّل عنهم ولحق بتلمسان وأجاز البحر منها إلى الأندلس، وصحب الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس. ثم ساءت أفعاله وعظم استهتاره. وفشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب وأقام بتينملل مدة. ثم رجع إلى تلمسان، وبها مات. وقام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره. (الخبر عن خروج السلطان الى المسيلة) لما اتصل بالسلطان شأن أبي قاسم ابن عمه أبي زيد وفصاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم معه، خرج من تونس سنة أربع وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند لتمهيد الوطن، ومحو آثار الفساد منه، وتقويم العرب على الطاعة. وتنقّل في الجهات الى أن وصل بلاد رياح فدوخها ومهد أرجاءها، وفرّ شبل بن موسى وقومه الدواودة الى القفر، واحتل السلطان بالمسيلة آخر وطن رياح. ووافاه هنالك محمد من عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجددا لطاعته، ومتبرّكا بزيارته، فتلقّاه من البرور تلقي أمثاله، وأثقل كاهله بالحباء والجوائز، وجنب له الجياد المقربات بالمراكب المثقلة بالذهب، واللجم المحلات. وضرب له الفساطيط الفسيحة الارجاء من ثياب الكتان وجدل القطن، الى ما يتبع ذلك من المال والظهر والكراع والأسلحة. واقطع له مدينة مقرة وبلد أوماش من عمل الزاب، وانقلب عنه الى وطنه. ورجع السلطان إلى تونس وفي نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره، ولثانية احتلاله في الحضرة كان مهلك مولاه هلال، ويعرف بالقائد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 وكان له في الدولة مكان بمكان تلادا للسلطان، وكان شجاعا جوادا خيّرا محببا سهلا مقبلا على أهل العلم وذوي الحاجات، وله في سبل الخير آثار منقولة صار له بها ذكر، فارتمض السلطان لمهلكه، والله أعلم. (الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة) كان شبل بن موسى وقومه من الزواودة فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاغية، ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك، فبايعوا أوّلا للأمير أبي إسحاق كما ذكرناه، ثم بعده لأبي القاسم ابن عمّه أبي زيد، وخرج إليهم السلطان سنة أربع وستين وستمائة ودوّخ أوطانهم، ولحقوا بالصحراء ودافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبّلها، وطوى لهم على البتّ [1] . ورجع إلى تونس فأوعز إلى أبي هلال عبّاد عامل بجاية من مشيخة الموحّدين باصطناعهم واستئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد، وجمع السلطان أحلافه من كعوب بني سليم ودباب وأفاريق بني هلال، وخرج من تونس سنة ست وستين وستمائة في عساكر الموحّدين وطبقات الجند، ووافاه بن عساكر ابن السلطان إخوة بني مسعود ابن السلطان من الزواودة فعقد لمهدي ابن عساكر عن إمارة قومه وغيرهم من رياح، وفرّ بنو مسعود ابن السلطان مصحرين والسلطان في أثرهم حتى نزل نقاوس وعسكروا بثنايا الزاب، ورسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناسا للمراجعة على يده للدخلة في الساحة [2] ، فأشار عليهم بالوفادة على السلطان وفاء بقصده من ذلك، فتقبّلوا إشارته. ووفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخوه يحيى، وبنو عمّهما أولاد زيد بن مسعود: سباع بن يحيى بن دريد وابنه، وطلحة بن ميمون بن دريد، وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وأخوه، فتقبّض عليهم لحينهم، وعلى دريد ابن تازير من شيوخ كرفة. وانتهبت أسلابهم وضربت أعناقهم ونصبت أشلاؤهم بزوايا من جهات نقاوس حيث كانت   [1] وفي نسخة أخرى: النثا ولا معنى لها هنا، والبت كما في القاموس بث الأمر: قطعه وأمضاه. وبث الوعد: أكد إنجازه. ولعلها: طوى لهم على الثناء. [2] وفي نسخة أخرى: السابقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد، وبعث برءوسهم إلى بسكرة فنصبها بها، وأغذّ السير غازيا إلى أحيائهم وأحلّهم [1] بمكانها من ثنايا الزاب. وصحبهم هنالك فأجفلوا وتركوا الظهر والكراع والأبنية، فامتلأت أيدي وسدويكش منها، ونجوا بالعيال والولد على الأقتاب، والعساكر في أتباعهم إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب وهو الوادي الّذي يخرج أصله من جبل راشد قبلة المغرب الأوسط ويمرّ إلى ناحية الشرق مجتازا بالزاب إلى أن يصبّ في سبخة نفزاوة من بلاد الجريد. فلمّا جاز فلّهم الوادي أصحروا إلى المفازات المعطشة والأرض الحرّة السوداء المستحجرة المسمّاة بالحمادة، فرجعت العساكر عنهم، وانقلب السلطان من غزاتة ظافرا، ظاهرا وأنشده الشعراء في التهنئة، ولحق فلّ الزواودة بملوك زناتة فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيّان، وبنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق، فأجازوهم وأوسعوهم حباء وملئوا أيديهم بالصلات، ومرابطهم بالخيل، وأحياءهم بالإبل ورجعوا إلى مواطنهم فتغلّبوا على واركلة وقصور ريغة واقتطعوها من إيالة السلطان. ثم انحرفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتّو وكان موطنا بمقرة، ولقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه واتبعوه إلى بطاوة [2] فقتلوه عندها، واستطالوا على الزاب وجبل أوراس وبلاد الحصنة إلى أن اقتطعتهم الدول إيّاها من بعد ذلك، فصارت ملكا لهم، والله تعالى أعلم. (الخبر عن طاغية الافرنجة ومنازلته تونس في أهل نصرانيته) هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة وتسمّيها العامة بالإفرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى إفرانسة، ونسبهم إلى يافث بن نوح، وهم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس وخليج القسنطينة، مجاورون الروم من جانب الشرق والجلالقة من جانب الغرب. وكانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع   [1] وفي نسخة أخرى: حللهم. [2] وفي نسخة أخرى: قطاوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 الروم، ومنهم لقّنوا دينها. واستفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم وأجازوا البحر إلى إفريقية مع الروم فملكوها ونزلوا أمصارها العظيمة مثل سبيطلة وجلولا [1] وقرطاجنّة ومرناق وباغاية ولمس وغيرها من الأمصار وغلبوا على من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم وأعطوهم طاعة الانقياد. ثم جاء الإسلام وكان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار إفريقية، والعدوة الشرقية والجزر البحرية مثل أقريطش ومالطة وصقلّيّة وميورقة ورجوعهم إلى عدوتهم. ثم أجازوا خليج طنجة وغلبوا القوط والجلالقة والبشكنس، وملكوا جزيرة الأندلس وخرجوا من ثناياها ودورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوّخها وعاثوا فيها. ولم تزل الصوائف تتردّد إليها صدرا من دولة بني أميّة بالأندلس، وكان ولاة إفريقية من الأغالبة ومن قبلهم أيضا يردّدون عساكر المسلمين وأساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية، ونازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن، فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها. وكان الربع أقرب إلى سواحل الشام وطمع فيها. فلمّا وصل أمر الروم بالقسطنطينة ورومة، واستفحل ملك الفرنجة هؤلاء، وكان ذلك على هيئة سموّ الخلافة بالمشرق. فسموا حينئذ إلى التغلّب على معاقل الشام وثغوره، وزحفوا إليها وملكوا الكثير منها واستولوا على المسجد الأقصى وبنو فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد، ونازلوا مصر والقاهرة مرارا حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر والشام في أواسط المائة السادسة جنّة واقية، وعذابا على أهل الكفر مصبوبا، فأبلى في جهادهم وارتجع ما ملكوه، وطهّر المسجد الأقصى من إفكهم وكفرهم، وهلك على حين غرّة من الغزو والجهاد. ثم عاودوا الكرّة ونازعوا مصر في المائة السابعة على عهد الملك الصالح صاحب مصر والشام، وأيام الأمير أبي زكريا بتونس، فضربوا أبنيتهم بدمياط وافتتحوها وتغلّبوا في قرى مصر. وهلك الملك الصالح خلال ذلك، وولي ابنه المعظّم وأمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل، ففتحوا الغياض وأزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم وهلك منهم عالم، وقيد سلطانهم أسيرا   [1] ورد في المقدمة ان المدن الحافلة التي كانت بالغرب أيام القرطاجنيين هي: سبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة. ومدينة جلولا تبعد عن القيروان أربعة وعشرين ميلا فتحها عبد الملك بن مروان في جيش معاوية بن حريج (المعجم التاريخي/ 23) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية، حتى مرّ عليه بعد حين من الدهر وأطلقه على أن يمكّنوا المسلمين من دمياط فوفّوا له. ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة، واعتزم على الحركة إلى تونس متجنّيا عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجّار أرضهم، وأنهم أقرضوا اللياني فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال وهو نحو ثلاثمائة دينار بغير موجب يستندون إليه، فغضبوا لذلك واشتكوا إلى طاغيتهم فامتعض لهم ورغّبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة والموتان. فأرسل الفرنسيس طاغية الإفرنج واسمه سنلويس بن لويس وتلقّب بلغة الإفرنج روا فرنس ومعناه ملك إفرنس، فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها، وأرسل إلى القائد [1] خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية بمظاهرته، وأطلق يده في أموال الكنائس مددا له. وشاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم، وكان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الإنكتار وملك اسكوسيا وملك نزول [2] وملك برشلونة واسمه ريدراكون وجماعة آخرون من ملوك الإفرنج، هكذا ذكر ابن الأثير وأهم المسلمين بكل ثغر شأنهم وأمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدّة، وأرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار واختزان الحبوب، وانقبض تجّار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين. وأوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار رحاله ومشارطته على ما يكف عزمه. وحملوا ثمانين ألفا من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا، فأخذ المال من أيديهم وأخبرهم أنّ غزوة إلى أرضهم. فلما طلبوا المال اعتلّ عليهم بأنه لم يباشر قبضه ووافق شأنهم معه وصول رسول عن صاحب مصر، فأحضر عند الفرنسيس واستجلس فأبى وأنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق من وزير نصيح [3] آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد نصارى المسيح أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب ان الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح   [1] هو بابا رومة. [2] وفي نسخة أخرى: ملك تورك. [3] وفي نسخة أخرى: من قؤول فصيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 وكل أصحابك أودعتهم ... بسوء تدبيرك بطن الضريح سبعون ألفا لا يرى منهم ... إلّا قتيل أو أسير جريح ألهمك الله إلى مثلها ... لعلّ عيسى منكم يستريح إن كان باباكم بذا راضيا ... فربّ غشّ قد أتى من نصيح [1] فاتخذوه كاهنا إنه ... أنصح من شقّ لكم أو سطيح وقل لهم إن أزمعوا عودة ... لأخذ ثار أو لشغل قبيح دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح يعني بدار ابن لقمان موضع اعتقاله بالإسكندرية والطواشي في عرف أهل مصر هو الخصي. فلما استكمل إنشاده لم يزد ذلك الطاغية إلا عتوّا واستكبارا، واعتذر عن نقض العهد في غزو تونس بما يسمع عنهم من المخالفات، عذرا دافعهم به، وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه. فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين وستمائة فاجتمعوا بسردانية وقيل بصقلية. ثم وأعدهم بمرسى تونس وأقلعوا ونادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو والاستعداد له، والنفير إلى أقرب المدائن، وبعث الشواني لاستطلاع الخبر واستفهم أياما [2] . ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنّة وتفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس والموحّدين في تخليتهم وشأنهم من النزول بالساحل أو صدّهم عنه، فأشار بعضهم بصدّهم حتى تنفد ذخيرتهم من الزاد والماء فيضطرون إلى الإقلاع. وقال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية والعدد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه واستباحوه، واستصعبت مغالبتهم عليه فوافق السلطان على هذا وخلوا وشأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنة بعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة. ولما نزل النصارى بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس، وثلاثين ألفا من الرجّالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله قال: وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين كبار وصغار،   [1] وفي النسخة التونسية: إن يكن البابا بذا راضيا فربّ عسر قد أتى من نصيح. [2] وفي نسخة أخرى: واستبهم أياما. وفي النسخة التونسية عبارة زائدة وهي: «ثم كان عينه فراره» وهذا المثل يضرب لمن يدل ظاهره على باطنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 وكانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس وإخوة جرون [1] صاحب صقلّيّة وصاحب الجزر، والعلجة زوج الطاغية تسمى الرينة، وصاحب البر الكبير، وتسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكا ويعنون أنهم متباينون ظاهروا على غزو تونس وليس كذلك. وإنما كان واحدا وهو طاغية الفرنجة وإخوته وبطارقته، عدّ كل واحد منهم ملكا لفضل قوّته وشدّة بأسه، فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة. وكانت ماثلة الجدران اضطرم المعسكر بداخلها، ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضّدوا شرفاتها وأداروا على السور خندقا بعيد المهوى وتحصّنوا. وندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها. وأقام ملك الفرنجة وقومه متمرسين بتونس ستة أشهر والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلّيّة والعدوة بالرجل والأصلحة والأقوات. وسلك بعض المسلمين طريقا في البحيرة واتبعهم العرب فأصابوا غرّة في العدوّ فظفروا وغنموا وشعروا بمكانهم، فكلّفوا بحراسة البحيرة وبعثوا فيها الشواني بالرماة ومنعوا الطريق إليهم، وبعث السلطان في ممالكه حاشدا فوافته الأمداد من كل ناحية، ووصل أبو هلال صاحب بجاية وجاءت جموع العرب وسدويكش وولهاصة وهوّارة حتى أمدّه ملوك المغرب من زناتة، وسرّح إليه محمد بن عبد القوى عسكر بني توجين لنظر ابنه زيّان وأخرج السلطان أبنيته [2] وعقد لسبعة من الموحّدين على سائر الجند من المرتزقة والمطوّعة وهم: إسماعيل بن أبي كلداسن وعيسى بن داود ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن صالح وأبو هلال عياد صاحب بجاية ومحمد بن عبو، وأمرهم كلّهم راجع ليحيى بن صالح ويحيى بن أبي بكر منهم. واجتمع من المسلمين عدد لا يحصى، وخرج الصلحاء والفقهاء والمرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم والتزم السلطان القعود بإيوائه مع بطانته وأهل اختصاصه وهم: الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود، وابن أبي الحسين، وقاضيه أبو القاسم بن البراء، وأخو العيش. واتصلت الحرب والتقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف، فزحف يومئذ يحيى بن صالح وجرون فمات من الفريقين خلق، وهجموا على المعسكر بعد العشاء وتدامر المسلمون عنده، ثم غلبوا عليه بعد أن قتل من النصارى زهاء   [1] وفي النسخة الباريسية: جرول. [2] لا معنى لهذه الجملة وربما تكون: وخرج السلطان من أبنيته، أو أخرج السلطان من في. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 خمسمائة، فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت. وأمر بالخندق على المعسكر فتعاورته الأيدي، واحتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه، وابتلي المسلمون بتونس، وظنّوا الظنون واتّهم السلطان بالتحوّل عن تونس إلى القيروان. ثم إنّ الله أهلك عدوّهم وأصبح ملك الفرنجة ميتا يقال حتف أنفه، ويقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف فأبته [1] ويقال أصابه مرض الوباء، ويقال وهو بعيد أنّ السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم وكان فيه مهلكه. ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط سمي بذلك لميلاده بها فبايعوه، واعتزموا على الإقلاع. وكان أمرهم راجعا إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم، وترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم. وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأوّل سنة تسع وستين وستمائة فتولّى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاما. وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوى أمير بني توجين، واختصّ جرون صاحب صقلّيّة بسلم عقده على جزيرته. وأقلع النصارى بأساطيلهم وأصابهم عاصف من الريح أشرفوا منه على العطب، وهلك الكثير منهم وأغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية. يقال إنه عشرة أحمال من المال وترك النصارى بقرطاجنّة تسعين منجنيقا. وخاطب السلطان صاحب المغرب وملوك النواحي بالخبر ودفاعه عن المسلمين وما عقده من الصلح، وأمر بتخريب قرطاجنّة وأن يؤتي بنيانها من القواعد، فصيّر أبنيتها طامسة ورجع الفرنجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور والاستفحال ولم يزالوا في تناقص وضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات. واستبدّ صاحب صقلّيّة لنفسه، وكذا صاحب نايل وجنوده وسردانية، وبقي بيت ملكهم الأقدم لهذا العهد على غاية من الفشل والوهن. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.   [1] هكذا بالأصل وفي النسخة التونسية: فأثبته بمعنى أماته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 (الخبر عن مهلك رئيس الدولة أبي عبد الله بن أبي الحسين وأبي سعيد العود الرطب) أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤساء القلعة المجاورة لغرناطة، وكان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحّدين بالعدوتين، وكان جدّه أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان. ونشأ حافده محمد هذا في كفالته. ولما عزل وقفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع وستمائة ورجع حافده محمد إلى تونس والشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية لذلك العهد فاعتلق بخدمة ابنه أبي زيده. ولمّا ولي الأمر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه. ثم جاء السيد أبو علي من مراكش وعلى إفريقية محمد ابن أبي الحسين في جملته إلى أن هلك في حصار هسكورة بمراكش كما قدّمناه ورجع ابن أبي الحسين إلى تونس واتصل بالأمير أبي زكريا لأوّل استبداده فغلب على هواه، وكان مبختا في صحابة الملوك. ولمّا ولي المستنصر أجراه على سنته برهة. ثم تنكر له إثر كائنة اللحياني، وعظمت سعاية أعدائه من الباطنية [1] وأشاعوا مداخلته لأبي القاسم بن عزومة [2] أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد فنكبه السلطان واعتقله بدارة تسعة أشهر. ثم سرّحه وأعاده إلى مكانه وثأر من أعدائه، واستولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين وستمائة وكلّف ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن أشغال الحضرة، وكان قد اقتنى مالا جسيما ونال من الحضرة منالا عظيما. وكان الرئيس أبو عبد الله متفنّنا في العلوم مجيدا في اللغة والشعر ينظم فيجيد وينثر فيحسن [3] ، وله من التآليف: كتاب ترتيب المحكم لابن سيده على نسق الصحاح للجوهري واختصاره، وسمّاه الخلاصة. وكان في رياسته صليب الرأي قوى الشكيمة عالي المهمة، شديد المراقبة والحزم في الخدمة، وله شعر نقل منه التيجاني وغيره، ومن أشهره ما نقل له يخاطب عنّان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف واتبع ابن غانية، وهي على روي الراء، وكان قبلها أخرى على روي   [1] وفي نسخة أخرى: البطانة وهي الأصح. [2] وفي نسخة أخرى: ابن محذومه. [3] وفي نسخة أخرى: يقرض الشعر فيحسن، ويرسل فيجيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 الدال. وكان له ولد اسمه سعيد وترقّى في حياة أبيه في المراتب السلطانية. ثم اغتبط دون غايته وفي ثالث مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاني المعروف بالعود الرطب، ويعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد. وكان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فرّ من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته، ولحق بسجلماسة سنة إحدى وأربعين وقد كان انتزى بها عبد الله الهزرجي، وبايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس، ونزل على الأمير أبي زكريا ونظّمه في طبقات مشيخة الموحّدين وأهل مجلسه. ثم حظي عند ابنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا كفاء لها. واستولى على الرأي والتدبير إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وستمائة فشيع طيّب الذكر ملحقا بالرضوان من الخاصة والعامة، والله مالك الأمور. (الخبر عن انتقاض أهل الجزائر وفتحها) كان أهل الجزائر لما رأوا تقلّص ظلّ الدولة عن زناتة وأهل المغرب الأوسط حدّثوا أنفسهم بالاستبداد والقيام على أمرهم، وخلع ربقة الطاعة من أعناقهم فجاهروا بالخلعان. وسرّح السلطان إليهم العساكر سنة تسع وستين وستمائة وأوعز إلى صاحب القفر صاحبه وهو أبو هلال عياد بن سعيد الهنتاتي فقدم إليها في عساكر الموحدين سنة إحدى وسبعين وستمائة ونازلها مدّة حول، وامتنعت عليه فأقلع عنها ورجع إلى بجاية، وهلك بمعسكر ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة. ثم إن السلطان صرف عزمه إلى منازلتهم سنة أربع وسبعين وستمائة وسرّح إليهم العساكر في البر وأنفذ الأساطيل في البحر وعقد على عسكر تونس لأبي الحسن بن ياسين وأوعز إلى عامل بجاية بإنفاذ عسكر آخر فأنفذه لنظر أبي العبّاس بن أبي الأعلام، ونهضت هذه العساكر برا وبحرا إلى أن نازلتها وأحاطت بها من كل جانب، واشتدّ حصارها. ثم افتتحها عنوة وأثخن فيهم القتل وانتهبت المنازل وافتضح الكرائم في أبكارهنّ. وتقبّض على مشيخة البلد فنقلوا إلى تونس وصفدين، واعتقلوا بالقصبة إلى أن سرّحهم الواثق بعد مهلك السلطان والله تعالى أعلم . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 (الخبر عن مهلك السلطان المستنصر ووصف شيء من أحواله) كان السلطان بعد فتح الجزائر قد خرج من تونس للصيد وتفقد العمالات، فأصابه في سفره مرض ورجع إلى داره، واشتدّت علّته وكثر الإرجاف بموته، وخرج يوم الأضحى سنة خمس وخمسين وستمائة يتهادى بين رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض [1] وجلس للناس على منبر متجلدا. ثم دخل بيته وهلك لليلته تلك رضوان الله عليه، وكان شأن هذا السلطان في ملوك آل حفص عظيما. وشهرته طائرة الذكر بما انفسح من أمر سلطانه، ومدت إليه ثغور القاصية من العدوتين يد الاعتصام به. وما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على ابنه وخصوصا الأندلس من شاعر مفلق وكاتب بليغ وعالم نحرير وملك أورع وشجاع أهيش متفيئين ظلّ ملكة متناغين في اللياذ به لطموس معالم الخلافة شرقا، وغربا على عهده، وخفوت صوت الملك إلّا في إيوانه [2] . فقد كان الطاغية التهم قواعد الملك بشرق الأندلس وغربها، فأخذت قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وبلنسية سنة ست وثلاثين وستمائة بعدها وإشبيليّة سنة ست وأربعين وستمائة، واستولى التتر على بغداد دار خلافة العرب بالمشرق وحاضرة الإسلام سنة ست وخمسين وستمائة، وانتزع بنو مرين ملك بني عبد المؤمن، واشتملوا على حضرة مراكش دار خلافة الموحدين سنة ثمان وستين وستمائة، كل ذلك على عهده وعهد أبيه ودولتهم أشدّ ما كانت قوّة وأعظم رفاهية وجباية وأوفر قبيلا وعصابة، وأكثر عساكر وجندا، فأمّله أهل العلم للكرّة، وأجفلوا إلى الإمساك بحقويه. وكان له في الأبّهة والجلال أخبار، وفي الحروب والفتوح آثار مشهودة، وفي أيامه عظمت حضارة تونس، وكثر ترف ساكنها. وتأنّق الناس في المراكب والملابس والمباني   [1] وفي نسخة أخرى: ورجلاه لا يخطّان الأرض «وهي أصح» . [2] بعد وفاة أبو زكريا سنة 647 هـ 1249 م تولى ابنه المستنصر الحكم الّذي ازدادت في عهده الدولة قوة ومهابة والرعية رفاهية وهناء، لكنه كان شديد البطش غير متوقف في سفك الدماء، ومن ضحاياه الكاتب الكبير أبو عبد الله بن الأبار القضاعي صاحب المؤلفات الأدبية النفيسة. (قبائل المغرب ص 170) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 والماعون والآنية، فاستجادوا وتناغوا في اتخاذها وانتقائها إلى أن بلغت غايتها رجعت من بعده أدراجها، والله مالك الأمور ومصرّفها كيف يشاء. (الخبر عن بيعة الواثق يحيى بن المستنصر وهو المشهور بالمخلوع وذكر أحواله) لما هلك السلطان المستنصر سنة خمس وسبعين وستمائة كما قدّمناه، اجتمع الموحّدون وسائر الناس على طبقاتهم إلى ابنه يحيى، فبايعوه ليله مهلك أبيه، وفي غدها وتلقّب الواثق. وافتتح أمره برفع المظالم وتسريح أهل السجون وافاضة العطاء في الجند وأهل الديوان، وإصلاح المساجد، وإزالة كثير من الوظائف عن الناس. وامتدحه الشعراء فأسنى جوائزهم، وأطلق عيسى بن داود من اعتقاله وردّه إلى حاله. وكان المتولّي لأخذ البيعة عن الناس والقائم بأمره سعيد بن يوسف بن أبي الحسين لمكانه من الدولة ورسوخه في الشهرة، فقام بالأمر ولم يزل على ذلك إلى أن نكبه وأدال منه بالحببّر والله أعلم. (الخبر عن نكبة ابن أبي الحسين واستبداد ابن الحببر على الدولة) هذا الرجل اسمه يحيى بن عبد الملك الغافقي وكنيته أبو الحسن أندلسيّا من أعمال مرسية، وفد مع الجالية من شرق الأندلس أيام استيلاء العدو، وكان يحسن الكتابة ولم يكن له من الخلال سواها، فصرف في الأعمال، ثم ارتقى إلى خدمة أبي الحسين فاستكتبه، ثم رقّاه إلى ولاية الديوان فعظمت حالته، وكانت له أثناء ذلك مداخلة للواثق ابن السلطان، واعتدّها له سابقة. فلما استوثق الأمر للواثق رفع منزلته واختصّه بالشورى، وقلّده كتاب علامته. وكان سعيد بن أبي الحسين مزاحما له؟ منافسا لما كان أسف من تقديمه. فأغرى به السلطان ورغّبه في ماله فتقبّض على أبي سعيد بن أبي الحسين لستة أشهر من الدولة سنة ست وسبعين وستمائة واعتقل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 بالقصبة. واستقل على معلة [1] ابن ياسين وابن صياد الرجّالة وغيرهم. وقدم على الأشغال مدافعا في الموالي المعلوجين. ووكّل أبا زيد بن أبي الأعلام من الموحّدين بمصادرة ابن أبي الحسين على المال وامتحانه. ولم يزل يستخرج منه حتى ادّعى الاملاق واستحلف فخلف. ثم ضرب فادعى مؤتمنا من ماله عند قوم استكشفوا عنه فأدّوه. ثم دلّ بعض مواليه على ذخيرة بداره دفينة فاستخرج منه زهاء ستمائة ألف من الدنانير، فلم يقبل بعدها مقاله، وبسط عليه العذاب إلى أن هلك في ذي الحجة من سنته، ودفن شلوه بحيث لم يعرف مدفنه. واستبدّ أبو الحسن الحببّر على الدولة والسلطان، وبعث أخاه أبا العلاء واليا على بجاية، وأسف المشيخة والبطانة بعتوّه واستبداده وما يتجشمونه من مكابرة بابه إلى أن عاد وبال ذلك على الدولة كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن إجازة السلطان أبي إسحاق من الأندلس ودخول أهل بجاية في طاعته) كان السلطان المستنصر قد عقد على بجاية سنة ستين وستمائة لأبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي، وأدال به من أخيه الأمير أبي حفص، فأقام واليا عليها إلى أن هلك ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة كما قدّمنا وعقد عليها من بعده لابنه محمد، وكان له غناء في ولايته واضطلع بأمره إلى أن هلك المستنصر وولي ابنه الواثق، فبادر إلى انقياد [2] طاعته، وبعث وفد بجاية ببيعتهم. ثم قلّد أبو الحسن القائم بالدولة أخاه إدريس ولاية الأشغال ببجاية، فقام بها وأفنى الأموال وتحكّم في المشيخة. وأنف محمد بن أبي هلال من استبداده عليه فهمّ إدريس بنكبته، فخشي محمد بن أبي هلال بادرته وداخل بعض بطانته في قتله. وفاوض الملأ فيه فعدوا عليه لأوّل ذي القعدة سنة سبع وسبعين وستمائة بمقعده من باب السلطان فقتلوه ورموا برأسه إلى الغوغاء والزعانف فبعثوا به.   [1] وفي نسخة ثانية: وتقبّض على نقله. ومقتضى السياق واستقلّ بنقله ابن ياسين وابن صيّاد. [2] وفي نسخة أخرى: إيتاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 ووافق ذلك حلول السلطان أبي إسحاق بتلمسان، وكان عند بلوغ الخبر إليه بمهلك أخيه المستنصر أجمع أمره على الإجازة لطلب حقّه بعد ما تردّد برهة. ثم اعتزم وعاد إلى تلمسان، ونزل على يغمراسن بن زيّان فقام لمورده، واحتفل في مبرّته، وفعل أهل بجاية وابن أبي هلال فعلتهم وخشوا بوادر السلطان بالحضرة فخاطب السلطان أبا إسحاق وأتوه ببيعتهم، وبعثوا وفدهم يستحثّونه للملك، فأجابهم ودخل إليها آخر ذي القعدة من سنته، فبايعه الموحّدون والملأ من أهل بجاية. وقام بأمره محمد بن هلال. ثم زحف في عساكره إلى قسنطينة فنازلها، وبها عبد العزيز بن عيسى بن داود، فامتنعت عليه فأقلع عنها إلى أن كان من أمره ما نذكره. (الخبر عن خروج الأمير أبي حفص بالعساكر للقاء السلطان أبي إسحاق ثم دخوله في طاعته وخلع الواثق) لما بلغ الخبر إلى الواثق ووزيره المستبدّ عليه ابن الحببّر بدخول السلطان أبي إسحاق بجاية، شيّع العساكر إلى حربه، وعقد عليها لعمّه أبي حفص. واستوزر له أبا زيد بن جامع، فخرج من تونس واضطرب معسكره بجباية. وعقد الواثق على قسنطينة لعبد العزيز بن عيسى بن داود لذمّة صهر كانت له من ابن الحببّر، فتقدّم إلى قسنطينة، ومانع عنها الأمير أبا إسحاق كما ذكرناه. ثم اضطرب رأي ابن الجيد في خروج الأمير أبي حفص، وأراد انفضاض عسكره فكتب الواثق إلى أبي حفص ووزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه، فتفاوضا واتفقا على الدعاء للأمير أبي إسحاق، وبعثوا إليه بذلك. واتصل الخبر بالواثق وهو بتونس منتبذا عن الحامية والبطانة. فاستيقن ذهاب ملكه، وأشهد الملأ، وانخلع عن الأمر لعمّه السلطان أبي إسحاق غرّة ربيع الأوّل من سنة ثمان وسبعين وستمائة وتحوّل عن قصور الملك بالقصبة إلى دار الأقورى وانقرضت دولته وأمره، والبقاء للَّه وحده . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 (الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على الحضرة) لما بلغ السلطان أبا إسحاق كتاب أخيه الأمير أبي حفص وابن جامع من بجاية، يادر مغذّا إليهم. ثم وافاه خبر انخلاع الواثق ابن أخيه بتونس، فارتحلوا جميعا وسائر أهل الحضرة على طبقاتهم إلى لقائه، وآتوا طاعتهم ودخل الحضرة منتصف الحجة آخر سنة ثمان وسبعين وستمائة ومحمد بن هلال شيخ دولته. وعقد على حجابته لأبي القاسم بن الشيخ كاتب أبي الحسين، وعلى خطة الأشغال لابن أبي بكر بن الحسن ابن خلدون [1] . كان وفد مع أبيه الحسن على الأمير أبي زكريا من إشبيليّة لذمّة رعاها لهم، لما كانت أمّ ولده أمّ الخلائف من هدايا ابن المحتسب أبي زكريا محلهم. ورحل الحسن إلى المشرق ومات هنالك، وبقي ابنه أبو بكر بالحضرة فاستعمله الأمير أبو إسحاق لأوّل دخوله في خطة الأشغال، ولم يكن يليها إلا الموحّدون كما قلناه. وعقد لفضل بن علي بن مزني على الزاب، ولم يكن أيضا يليها إلا الموحّدون. لكن رعى لفضل بن مزني ذمّة اغترابه معه إلى الأندلس، فعقد له على الزاب، ولأخيه عبد الواحد على بلاد قسطيلية. ثم تقبّض على أبي الحببّر وأمر باعتقاله ودفعه إلى موسى بن محمد بن ياسين للمصادرة والامتحان. ووجد مكان التمائم عليه طوابع وطلسمات مختلفة الأشكال والصور، وتسحر بها فيما زعموا مخدومه فحاق به وبالها. وكان شأنه في الامتحان والاستحلاف والهلاك بالعذاب شأن سعيد بن أبي الحسين أيام صولته [2] ، إلى أن هلك في شهر جمادى الأولى من سنته، والله لا يظلم مثقال ذرة. ولما اعتقد السلطان أبو إسحاق كرسيّ ملكه، واستوثق عرى خلافته، تقبّض على محمد بن أبي هلال وقتله بجرّ [3] نكبته سنة ست وسبعين وستمائة لما كان يتوقع منه من المكروه في الدولة وما عرف به من المساعي في الفتنة والله أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: وعلى خطة الأشغال لابن أبي الحسن بن خلدون. [2] وفي نسخة أخرى: شأن سعيد بن أبي الحسن منكوبه أيام دولته. [3] وفي نسخة أخرى: لحين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 (الخبر عن مقتل الواثق وولده) لما انخلع الواثق عن الأمر وتحوّل إلى دار الأقوري فأقام بها أياما. وكان له ثلاثة من الولد أصاغر: الفضل والطاهر، والطيب، فكانوا معه. ثم نمي عنه للسلطان أبي إسحاق أنه يروم الثورة وأنه داخل في ذلك بعض رؤساء النصارى من الجند، فأقلق مكان ترشيحه واعتقله بمكان اعتقال بنيه، وهو من القصبة أيام أخيه المستنصر. ثم بعث إليهم ليلتهم فذبحوا جميعا في شهر صفر سنة تسع وسبعين وستمائة واستوثق له الأمر وأطلق من عنان الإمارة لولده إلى أن كان من شأنهم ما يذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس ابن السلطان أبي إسحاق على بجاية بعهد أبيه والسبب في ذلك) كان للسلطان أبي إسحاق من الأبناء خمسة: أبو فارس عبد العزيز وكان أكبرهم، وأبو محمد عبد الواحد، وأبو زكريا يحيى، وخالد، وعمر، وكان السلطان المستنصر قد حبسهم عند فرار أبيهم إلى رياح في أيامه ببعض حجر القصر، وأجرى عليهم رزقا فنشئوا في ظل كفالته وجميم رزقه، إلى أن استولى أبوهم السلطان أبو إسحاق على الملك فطلعوا بآفاقه. وطالت فروعهم في دوحه، واشتملوا على العز واصطنعوا أهل السوابق من الرجال، وأرخى السلطان لهم ظلهم في ذلك. وكان المجلّي فيها كبيرهم أبو فارس لما كان مرشّحا لولاية العهد، وكان ممن اصطنعه وألقى عليه رداء محبته في الناس وعنايته أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري، وأخوه أبو الحسين لسابقة رعاها لهما، وذلك أنّ أباهما أبا بكر بن سيد الناس، كان من بيوت إشبيليّة حافظا للحديث راوية له، ظاهريّا في فقهه على مذهب داود وأصحابه. وكانت لأهل إشبيليّة خصوصا من بين الأندلس وصلة بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه، منذ ولايته غرب الأندلس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 فلمّا تكالب الطاغية على الدولة [1] والتهم ثغورها واكتسح بسائطها، وأشفّ إلى قواعدها وأمصارها، أجاز الأعلام وأهل البيوت إلى أرض المغربين وإفريقية. وكان قصدهم إلى تونس أكثر لاستفحال الدولة الحفصية بها. فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس وقبح مصايرها، وخفّة ساكنها، أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء. فأجاز البحر ونزل بتونس فلقاه السلطان تكرمه، وجعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهواء التي أنشأتها [2] أمّه أمّ الخلائف. ونشأ بنوه أحمد وأبو الحسين في جوّ الدولة وحجر كفالتها للاختصاص الّذي كان لأبيهم بها. وعدلوا عن طلب العلم إلى طلب الدنيا، وتشوّقوا إلى مراتب السلطان، واتصلوا بأبناء السلطان أبي إسحاق بمكانهم من حجر القصر حيث أنزلهم عمهم بعد ذهاب أبيهم، فخالطوهم واستخدموا لهم. ولما استولى السلطان على الأمر ورشّح ابنه أبا فارس للعهد، وأجراه على سنن الوزارة فاصطنع أحمد بن سيّد الناس، ونوّه باسمه وخلع عليه ملبوس كرامته. واختصه بلقب حجابته، وأخوه أبو الحسين يناهضه في ذلك عنوة. ونفس ذلك عليهما البطانة فأغروا السلطان أبا إسحاق بابنه وخوّفوه شأنه. وأن أحمد بن سيّد الناس داخله في التوثّب بالدولة. وتولّى كبر هذه السعاية عبد الوهاب بن قائد الكلاعي من علية الكتاب ووجوههم. كان يكتب للعامّة يومئذ، فسطا السلطان بابن سيّد الناس سنة تسع وستين وستمائة آخر ربيع، استدعى إلى باب القصر فتعاورته السيوف هبرا. ووري شلوه ببعض الحفر. وبلغ الخبر إلى الأمير أبي فارس فركب إلى أبيه في لبوس الحزن، فعزّاه أبوه عن ذلك بأنه ظهر لابن سيّد الناس على المكر والخديعة بالدولة. وأماط سواده بيده، ونجا أبو الحسين من هذه المهلكة. واعتقل في لمة من رجال الأمير أبي فارس بعد أن توارى أياما إلى أن أطلق من محبسه، وكان من أمره ما نذكره بعد. واستبلغ السلطان في تأنيس ابنه، ومسح الضغينة عن صدره، فعقد له على بجاية وأعمالها، وأنفذه إليها أميرا مستقلا. وأنفذ معه في رسم الحجابة جدي محمد ابن صاحب أشغاله أبي بكر بن   [1] وفي نسخة أخرى: العدوة. [2] وفي نسخة أخرى: أسستها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 الحسن بن خلدون، فخرج إليها سنة تسع وستين وستمائة وقام بأمرها، ولم يزل أميرا بها إلى آخر دولته كما نذكر والله أعلم. (الخبر عن ثورة ابن الوزير بقسنطينة ومقتله) اسم هذا الرجل أبو بكر بن موسى بن عيسى، ونسبته في كوميه من بيوت الموحدين. كان مستخدما لابن كلداسن الوالي بقسنطينة بعد ابن النعمان من مشيخة الموحدين أيام المستنصر. ووفد ابن كلداسن على الحضرة، وأقام ابن وزير نائبا عنه بقسنطينة، فكان له غناء وصداقة [1] . وولاه السلطان أبو إسحاق حافظا على قسنطينة. واتصلت ولايته، وهلك المستنصر واضطربت الأحوال. ثم ولّاه الواثق، ثم السلطان أبو إسحاق وكان ابن وزير هذا طموحا جموعا لأموال [2] الناس لا يمل. وعلم أن قسنطينة معقل ذلك القطر وحصنه فحدّثته نفسه بالامتناع بها، والاستبداد على الدولة. وساء أثره في أهلها فرفعوا أمرهم إلى السلطان أبي إسحاق، واستعدوه فلم يعدهم لما رأى من مخايل الحرابة من الطاغية [3] . وكتب هو بالاعتذار والنكير لما جاء به، فتقبّله وأغضى له عن هناته. ولما مرّ به الأمير أبو فارس إلى محل إمارته من بجاية سنة تسع وسبعين وستمائة قعد عن لقائه وأوفد إليه جمعا من الصلحاء بالمعاذير والاستعطاف، فمنحه من ذلك كفاء مرضاته، حتى إذا أبعد الأمير أبو فارس إلى بجاية، اعتزم على الانتزاء. وكاتب ملك أرغون في جيش من النصارى يكون معهم في ثغره يردّد بهم الغزو على أن يكون فيما زعموا داعية له فأجابه ووعده ببعث الأسطول إليه، فجاهر بالخلعان، وانتزى بثغر. قسنطينة داعيا لنفسه آخر سنة ثمانين وستمائة. وزحف إليه الأمير أبو فارس من بجاية في عساكره، واحتشد الأعراب وفرسان   [1] وفي نسخة ثانية: فكان له غنا وصرامة. [2] وفي نسخة ثانية: طموحا جموح الأمل. [3] وفي نسخة ثانية: من مخايل انحرافه عن الطاعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 القبائل إلى أن احتل بميلة. ووفد عليه من أهل قسنطينة جمع من الرعية [1] بعثهم ابن وزير فأعرض عنهم، وقصد قسنطينة في أوّل ربيع سنة إحدى وثمانين وستمائة فثار بها وجمع الأيدي على حصارها. ونصب المجانيق وقرّب قواعد الرماة، وقاتلها يوما أو بعض يوم، وتسوّر عليهم المعقل من بعض جهاته. وكان المتولي لتسوّره صاحبه محمد ابن أبي بكر بن خلدون، وأبلى بن وزير عند الصدمة حتى أحيط به، وقتل هو وأخوه وأشياعهما، ونصبت رءوسهم بسور البلد. وتمشّى الأمير في سكك البلد مسكّنا ومؤنسا، وأمر برمّ ما تثلّم من الأسوار وبإصلاح القناطر. ودخل إلى القصر وبعث بالفتح إلى أبيه بالحضرة. وجاء أسطول النصارى إلى مرسى القل في مواعدة ابن وزير، فأخفق مسعاهم، وارتحل الأمير أبو فارس ثالثة الفتح إلى بجاية، فدخلها آخر ربيع من سنته، والله أعلم. (الخبر عن قيادة ابن السلطان العساكر إلى الجهاد) كان السلطان يؤثر أبناءه بمراتب ملكه، ويوليهم خطط سلطانه شغفا بهم وترشيحا لهم، فعقد في رجب سنة إحدى وثمانين لابنه الأمير زكريا على عسكر من الموحدين والجند، وبعثه إلى قفصة للإشراف على جهاتها. وضمّ جبايتها [2] فخرج إليها وقضى شأنه من حركته، وانصرف إلى تونس في رمضان من سنته. ثم عقد لابنه الآخر أبي محمد عبد الواحد على عسكره، وأنفذه إلى وطن هوّارة لانقضاء مغارمهم وجباية ضرائبهم وفرائضهم، وبعث معه عبد الوهاب بن قائد الكلاعي مباشرا لذلك وواسطة بينه وبين الناس، فانتهى إلى القيروان، وبلغه شأن الدعي وظهوره في دباب بنواحي طرابلس، فطيّر بالخبر إلى السلطان وأقبل على شأنه. ثم انتشر أمر الدعي وانكفأ راجعا إلى تونس، والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: بمكر من الرغبة والتوسل. [2] وفي نسخة ثانية: مجابيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 (الخبر عن صهر السلطان مع عثمان بن يغمراسن) كان السلطان لما أجاز البحر من الأندلس لطلب ملكه، ونزل على يغمراسن بن زيان بتلمسان، فاحتفل لقدومه وأركب الناس للقائه، وأتاه ببيعته على عادته من سلفه لما علم أنه أحق بالأمر، ووعده النصرة من عدوّه والمؤازرة على أمره، وأصهر إليه في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان تشريفا خطبه منه، فأولاه إسعافا به [1] . ولما استولى السلطان على حضرته واستبدّ بأحوال ملكه بعث يغمراسن ابنه إبراهيم المكنّى بأبي عامر في وفد من قومه لإتمام ذلك العقد، فاعتمد السلطان مبرّتهم وأسعف طلبتهم، وأقاموا بالحضرة أياما، وظهر من إقدامهم في فتن الدعي مقامات، وانصرفوا بظعينتهم سنة إحدى وثمانين وستمائة مجبورين محبورين. وابتغى بها عثمان لحين وصولها فكانت من عقائل قصورهم ومفاخر دولتهم، وذكرا لهم ولقومهم إلى آخر الأيام. (الخبر عن ظهور الدعي أبي عمارة وما وقع من الغريب في أمره) كان أحمد بن مرزوق أبو عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة، نشأ ببجاية وسيما محترفا بصناعة الخياطة غرّا غمرا. وكان يحدّث نفسه بالملك لما كان يزعم أن العارفين يخبرونه بذلك. وكان هو يخط فيريه خطه ذلك. ثم اغترب عن بلده ولحق بصحراء سجلماسة واختلط بعرب المعقل وانتمى إلى أهل البيت، وادّعى أنه الفاطمي المنتظر عند الأغمار، وانه يحيل المعادن إلى الذهب بالصناعة، فاشتملوا عليه وحدّثوا بشأنه أياما. أخبرني طلحة بن مظفّر من شيوخ العماريّة إحدى بطون المعقل أنه رآه أيام ظهوره بالمعقل ملتبسا بتلك الدعوى حتى فضحه العجز. ثم لمّا زهدوا فيه لعجز مدّعاه ذهب يتقلّب في الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس، ونزل   [1] وفي نسخة ثانية: فولّاه الإسعاف به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 على دباب وصحب منهم الفتى نصيرا مولى الواثق بن المستنصر، ويلقّب بري [1] ولما رآه تبين فيه شبها من الفضل ابن مولاه فطفق يبكي ويقبّل قدميه، فقال له ابن أبي عمارة: ما شأنك؟ فقصّ عليه الخبر، فقال: صدقتني في هذه الدعوى وأنا أثئرك من قاتلهم. وأقبل نصير على أمراء العرب مناديا بالسرور بابن مولاه، حتى خيّل عليهم. ثم نزل بادس إلى ابن أبي عمارة من محاورات وقعت بين العرب وبين الواثق، قصّها عليهم ابن أبي عمارة نفيا للريب بأمره، فصدّقوا واطمأنّوا، وأتوه ببيعتهم. وقام بأمره صرغم [2] بن صابر بن عسكر أمير دياب وجمع له العرب ونازلوا طرابلس، وبها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتي وشهر بعنق الفضة، فامتنعت عليهم، ورحلوا إلى بحر بين [3] الموطنين بزيزور وجهاتها من هوارة فأوقعوا بهم. ثم سار في تلك النواحي واستوفى جباية لماية وزواوة وزواغة، وأغرم نفوسة وغريان ونفزة من بطون هوارة وضائع ألزمهم إيّاها واستوفاها. ثم زحف إلى قابس فبايع له عبد الملك بن مكي في رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة وأعطاه صفقته طواعية، وفاه بحق آبائه فيما طوّقوه وذريعة إلى الاستقلال الّذي كان يؤمّله، وأعلن بخلافته ونادى بقومه واستخدم له بني كعب بن سليم ورياستهم في بني شيخة [4] لعبد الرحمن بن شيخة، فأجابوا داعيه وأنابوا إلى خدمته، وتوافت إليه بيعة أهل حزبه والحامية [5] وقرى نفزاوة. ثم زحف إلى توزر وبلاد قسطيلية فأطاعوه. ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها، وعظم أمره وعلا صيته. فجهز إليه السلطان أبو إسحاق العساكر من تونس كما نذكره. والله تعالى أعلم. (الخبر عن انفضاض عساكر السلطان وتقويضه عن تونس) لما تفاقم أمر الدعي بنواحي طرابلس، ودخل الكثير من أهل الأنصار في طاعته،   [1] وفي نسخة أخرى: وتلقّب نوبى. [2] وفي نسخة أخرى: مرعم. [3] وفي نسخة أخرى: ورحلوا إلى مجريس الموطنين بزنزور. [4] وفي نسخة أخرى: بني شيحة. [5] وفي نسخة أخرى: بيعة أهل جربه والحامه وقرى نفزاوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 جهّز السلطان عساكره وعقد لابنه الأمير أبي زكريا على حربه، فخرج من تونس ونزل القيروان، واقتضى منها غرائم ووضائع استأثر منها بأموال. ثم ارتحل إلى لقاء الدعي وانتهى إلى تموده، وبلغه هنالك ما كان من استيلاء الدعي على قفصة فأرجف به العسكر وانفضّوا من حوله، ورجع إلى تونس فدخلها آخر يوم من رمضان من سنته، وارتحل الدعي على أثره من قفصة واحتل بالقيروان، فبايع له أهلها واقتدى به أهل المهديّة وصفاقس وسوسة فبايعوا له، وكثر الإرجاف بتونس، فاضطرب السلطان وأخرج معسكره بظاهر البلد في وسط شوّال. وضرب الغزو على الناس واستكثر من العدد، وخرج إلى معسكره بالمهديّة وتلوّم بها لإزاحة العلل. وارتحل الدعي من القيروان زاحفا إليه فتسرّبت إليه طبقات الجنود ومشيخة الموحّدين، رضي الله عنهم بمكانه وطاغية [1] بني المستنصر خليفتهم الطويل أمدّ الولاية عليهم، ورحمة لما نال الواثق وأبناءه من عملهم [2] ثم انفض عن السلطان كبير الدولة موسى بن ياسين في معظم الموحّدين، ولحق الدعي بطريقة، فاحتل أمر السلطان وانتقضت عرى ملكه، وفرّ إلى بجاية كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن لحاق السلطان أبي إسحاق بجاية ودخول الدعي بن أبي عمارة الى تونس وما كان من أمره بها) لما انفض معسكر السلطان أبي إسحاق آخر شوّال من سنة إحدى وثمانين وستمائة ركب في خاصّته وبعض جنوده ذاهبا إلى بجاية، ومرّ بتونس فوقف عندها ثم احتمل أهله وولده وسار في كلب البرد، فكان يعاني من قلّة الأقوات وتعاور المطر والثلج شدّة. وكان يصانع القبائل في طريقه سلما له [3] . ثم مرّ بقسنطينة فمنعه عاملها عبد الله بن توفيان [4] الهرغي من دخولها وقرّب إليه بعض القرى من الأقوات، وارتحل إلى بجاية   [1] وفي نسخة ثانية: رضي بمكانه وصاغية الى بني المستنصر. [2] وفي نسخة ثانية: عمّهم. [3] وفي نسخة ثانية: يبذل ماله. [4] وفي نسخة ثانية: عبد الله بن يوقيان الهرغي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 وكان من أمره ما يذكر. ودخل الدعي بن أبي عمارة إلى الحضرة، وقلد موسى بن ياسين وزارته، وأبا القاسم أحمد بن الشيخ حجابته، وتقبّض على صاحب الأشغال أبي بكر بن الحسن بن خلدون فاستصفاه وصادره على مال امتحنه عليه. ثم قتله خنقا، وصرف خطة الجباية إلى عبد الملك بن مكي رئيس قابس. واستكمل ألقاب الملك، وقسّم الخطط بين رجال الدولة، وصرف همّه إلى غزو بجاية، والله تعالى أعلم. (الخبر عن استبداد الأمير أبي فارس بالأمر عند وصول أبيه إليه) لما وصل السلطان أبو إسحاق إلى بجاية في شهر ذي القعدة من سنته طريدا عن ملكه غافلا عن كرسي [1] سلطانه، انتقض عليه ابنه الأمير أبو فارس ومنعه من الدخول إلى قصره، فنزل بروض الرفيع، وأراده على الخلع فانخلع له. وأشهد الملأ من الموحّدين ومشيخة بجاية بذلك، وأنزله قصر الكوكب ودعا الناس إلى بيعته آخر ذي القعدة، فبايعوه وتلقّب المعتمد على الله. ونادى في أوليائه من رياح وسدويكش. وخرج من بجاية زاحفا إلى الدعيّ، واستخلف عليها أخاه الأمير أبا زكريا. وخرج معه الأمير أبو حفص وأخواه، فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن زحف الأمير أبي افرس للقاء الدعي ثم انهزامه أمامه واستلحامه وإخوته في المعركة وما كان أثر ذلك من مهلك أبيهم السلطان أبي إسحاق وفرار أخيهم الأمير أبي زكريا الى تلمسان) لما بلغ الخبر إلى الدعيّ باستبداد الأمير أبي فارس على أبيه واستعداده للقائه،   [1] وفي نسخة ثانية: حلى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 تقبّض على أهل البيت الحفصي، فاعتقلهم بعد أن همّ بقتلهم. وخرج من تونس في عساكر من الموحّدين وطبقاتهم الجند في صفر اثنتين وثمانين وستمائة فانتهى إلى مر ماجنّة، وتراءى الجمعان ثالث ربيع الأوّل فاقتتلوا عامّة يومهم. ثم اختلّ مصاف الأمير أبي فارس، وتخاذل أنصاره فقتل في المعركة، وانتهب معسكره وقتل إخوته صبرا: عبد الواحد قتله الدعي بيده، وعمر وخالد وأبو محمد بن عبد الواحد وبعث برءوسهم إلى تونس فطيف بها على الرماح ونصبت بأسوار البلد. وتخلّص عمه الأمير أبو حفص من الواقعة إلى أن كان من أمره ما نذكر. وبلغ خبر الواقعة إلى بجاية فاضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض، وخرج السلطان أبو إسحاق وابنه الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، فقدّم أهل بجاية عليهم محمد بن السيد قائما فيهم بطاعة الدعيّ، وخرج في أتباع السلطان فأدركه بجبل بني غبرين من زواوة، فتقبّض عليه، ونجا الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، وبقي السلطان أبو إسحاق ببجاية معتقلا ريثما بلغ الخبر إلى تونس، وأرسل الدعيّ محمد بن عيسى بن داود فقتله آخر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة وانقضى أمره وللَّه عاقبة الأمور، لا ربّ غيره ولا معبود سواه. (الخبر عن ظهور الأمير أبي حفص وبيعته وما كان على أثر ذلك من الأحداث) قد ذكرنا أنّ الأمير أبا حفص حضر واقعة بني أخيه مع الدعيّ بمرماجنّة، فخلص من المعركة راجلا، ونجا إلى قلعة سنان معقل هوّارة القريب من مكان الملحمة، ولاذ به في ذهابه إلى منجاته ثلاثة من صنائعهم: أبو الحسين بن أبي بكر بن سيّد الناس، ومحمد بن القاسم بن إدريس الفازازي، ومحمد بن أبي بكر بن خلدون، وهو جدّ المؤلف الأقرب. وربما كانوا يتناقلونه على ظهورهم إذا أصابه الكلال. ولما نجا إلى قلعة سنان تحدّث به الناس وشاع خبر منجاته إليها. وكان الدعيّ قد أشف العرب وثقلت وطأته عليهم بما كان يسيء الملكة فيهم، فليوم دخوله شكا إليه الناس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 عيثهم فتقبّض على ثلاثة منهم وقتلهم وصلبهم. ثم سرّح شيخ الموحّدين عبد الحق تافراكين لحسن عللهم وأوعز إليه بالإثخان فيهم. فاستلحم من لقي منهم. ثم تقبّض على مشايخ بني علاق وأودع سجونه منهم نحوا من الثمانين [1] ، فساء أثره فيهم وتطلّبوا أعياص البيت، وتسامعوا بخبر الأمير أبي حفص بمكانه من قلعة سنان، فرحلوا إليه وأتوه ببيعتهم في ربيع سنة ثلاث وثمانين وستمائة وجمعوا له شيئا من الآلة والأخبية، وقام بأمره أبو ليل بن أحمد أميرهم. وبلغ الخبر إلى الدعيّ فداخلته الظنّة في أهل دولته. وتقبّض على أبي عمران بن ياسين شيخ دولته، وعلى أبي الحسن بن ياسين وابن وانودين، وعلى الحسين بن عبد الرحمن يعسوب زناتة فامتحنهم واستصفى أموالهم. ثم قتلهم آخرا وتوجّع لهم الناس واضطرب أمر الدعيّ إلى أن كان ما نذكره انتهى. (الخبر عن خروج الدعي ورجوعه واستيلاء السلطان أبي حفص على ملكه وغلبه ومهلكه) لما ظهر السلطان أبو حفص وبايعه العرب تسامع به أهل الحضرة واجتمع إليه الناس وأوقع الدعيّ بأهل الدولة فمقتوه، وخرج من تونس يريد قتاله فأرجف به أهل العسكر ورجع منهزما، ودخلت البلاد في طاعة السلطان أبي حفص ونهض إلى تونس فنزل بسحوم قريبا منها. وعسكر الدعيّ بظاهر البلد تجاهه وطالت بينهما الحرب أياما والناس كل يوم يستوضحون خبء الدعيّ ومكره إلى أن تبرّؤا منه وأسلموه، ورحل من مكان معسكره ولاذ بالاختفاء، ودخل السلطان البلد في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة واستولى على سرير ملكه، وطهّر من الدنس قاصية ودانية [2] ، واختفى الدعيّ بتونس وغاص في لجّة ساكنيها وأحاط به البحث فعثر عليه لليال من مدخل السلطان بدور بعض السوقة يعرف بأبي قاسم القرمادي فهدمت لحينها. وثلّ إلى السلطان فأحضر له الملأ، ووبّخه وساء له فاعترف بإدعائه في نسبهم فأمر بامتحانه وقتله. وذهب في غير سبيل مرحمة، وطيف بشلوه ونصب   [1] وفي نسخة أخرى: نيفا على ثمانين [2] وفي نسخة أخرى: وطهّره من دنس فاضحه ودعيّه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 رأسه. وكان عبد الله بن يغمور المباشر لقتله، وكان خبره من المثلات. واستبدّ السلطان بملكه وتلقّب المستنصر باللَّه، وبادر الناس إلى الدخول في طاعته. وبعث أهل القاصية ببيعتهم من طرابلس وتلمسان وما بينهما. وعقد للشيخ أبي عبد الله الفازازي على عساكره على الحروب والضاحية، وأقطع البلاد والمغارم للعرب رعيا لذمّة قيامهم بأمره، ولم يكن لهم قبلها أقطاع، وكان الخلفاء قبله يتحامون عن ذلك لا يفتحون فيه على أنفسهم بابا، وأقام متمتعا في ماله وفي حضرته [1] إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن استيلاء العدو على جزيرة جربة وميورقة ومنازلته المهديّة واجلابه على السواحل) كان من أعظم الحوادث، تكالب العدوّ في أيام هذا السلطان على الجزر البحريّة، فاستولت أساطيلهم على جزيرة جربة في رجب من سنة ثمان وثمانين وستمائة ورياستها يومئذ من محمد بن مهو بن شيخ الوهبيّة [2] . ويخلف ابن امغار شيخ النكازة [3] وهما فرقتا الخوارج. وزحف إليها المراكيا صاحب صقلّيّة نائبا عن الغدريك بن الريداكون ملك برشلونة في أساطيله البحرية وكانوا فيما قيل سبعين أسطولا من غربان وشواني، وضايقهم مرارا. ثم تغلّبوا عليها فانتهبوا أموالها وحملوا أهلها أسرا وسبيا. فقيل إنهم بلغوا ثمانية آلاف بعد أن رموا بالرضّع في الجبوب [4] ، فكانت هذه الواقعة من أشجى الوقائع للمسلمين. ثم بنوا بساحلها حصنا واعتمروه وشحنوه حامية وسلاحا. وفرض عليهم المغرم مائة ألف دينار كل سنة، وأقام على ذلك المراكيا إلى رأس المائة. وبقيت الجزيرة في ملك النصارى إلى أن عادوا إلى مالقة أواخر [5] الأربعين والسبعمائة كما نذكره.   [1] وفي نسخة أخرى: واقام متحليا ملكه وادعا في حضرته. [2] وفي نسخة أخرى: محمد بن سمّون شيخ الوهبيّة. [3] وفي النسخة الباريسية: ويخلف بن أومغار شيخ النكارة. [4] يقتضي أن يقول: أجباب أو جباب أو جببه وهي جمع جب أي البئر العميقة (قاموس) . [5] وفي نسخة أخرى: إلى أن أعادها الله في أواخر الأربعين والسبعمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 وفي سنة خمس وثمانين وستمائة ظفر العدوّ بجزيرة ميورقة، ركب إليها طاغية برشلونة أساطيله في عشرين ألفا من الرجال المقاتلة ومروا بميورقة كأنهم سفر من التجّار وطلبوا من أبي عمر بن حكم ورئيسها النزول للاستسقاء فأذن لهم. فلمّا تساحلوا آذنوا أهلها بالحرب فتزاحفوا ثلاثا يثخن فيهم المسلمون في كلّها قتلا وجراحة بما يناهز آلافا، والطاغية في بطارقته قاعد عن الزحف، فلمّا كان اليوم الثالث واستولت الهزيمة على قومه زحف الطاغية في العسكر فانهزم المسلمون، ولجئوا إلى قلعتهم فانحصروا بكعابها، وعقدوا لابن حكم ذمة في أهله وحاشيته، فخرجوا إلى سبتة ونزل الباقون على حكم العدوّ، وسار إلى ميورقة [1] واستولى على ما فيها من الذخيرة والعدّة والأمر بيد الله وحده. وفي سنة ست وثمانين وستمائة بعدها غدر النصارى بمرسى الخزور فاقتحموها بعد أن ثلموا أسوارها واكتسحوا ما فيها، واحتملوا أهلها أسرى وأضرموا بيوتها نارا. ثم مرّوا بمرسى تونس وانصرفوا إلى بلادهم. وفيها أو في سنة تسع وثمانين وستمائة بعدها نازل أسطول العدوّ مدينة المهديّة، وكان فيها الفرسان لقتالها فزحفوا إليها ثلاثا ظفر بهم المسلمون في كلّها. ثم جاء مدد أهل الأجم فانهزم العدوّ حتى اقتحموا عليهم الأسطول، وانقلبوا خائبين وتمت النعمة. (الخبر عن استيلاء الأمير أبي بكر زكريا على الثغر المغربي بجاية والجزائر وقسنطينة وأولية ذلك ومصايره) كان للأمير أبي بكر زكريا ابن السلطان من الترشيح للأمل بهداه وشرف همّته وحسن ملكته، ومخالطته أهلا لعلم ما يشهد له بحسن [2] حاله، وهو الّذي اختطّ المدرسة للعلم بإزاء دار الأقوري حيث كان سكناه بتونس، ولما لحق بتلمسان بعد منجاته من مهلك أبيه ببجاية، نزل على صهره عثمان بن يغمراسن بتلمسان، وجاء في أثره أبو الحسن بن أبي بكر بن سيّد الناس صنيعة أبيه وأخيه بعد أن خلص مع السلطان أبي حفص من الواقعة إلى مرماجنّة. فلما بايع له العرب وبدت مخايل الملك، رأى أبو   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: فأجازهم الى جارتهم منورقة. [2] وفي نسخة أخرى: بمغبّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 الحسن إيثار السلطان للفازازي عليهم فنكب عنه، ولحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان واستحثّه لطلب ملكه. واستقرض من تجّار بجاية مالا أنفقه في إقامة أبّهة الملك له، وجمع الرجال واصطنع الأولياء. وفشا الخبر بما يرومه من ذلك، فصدّه عثمان بن يغمراسن عنه بما كان تقلّد من طاعة السلطان أبي حفص على سننهم من الخلفاء بالحضرة قبله، فاعتزم الأمير أبو زكريا على شأنه، وخرج من تلمسان مورّيا بالصيد الّذي كان ينتحله أيام قيامه بينهم، ولحق بداود بن هلال بن عطاف أمير بني يعقوب، وكافة بني عامر من زغبة، أوعز عثمان بن يغمراسن إلى داود بردّه إليه فأبي من إخفار ذمّته، وارتحل معه بقومه إلى آخر بلاد زغبة، ونزلوا على عطية بن سليمان بن سباع من رؤساء الزواودة، فتلقّاه بالطاعة وارتحلوا جميعا إلى ضواحي قسنطينة فدخل العرب سدويكش في طاعته. ونزل البلد سنة ثلاث وثمانين وستمائة وعاملها يومئذ أبو نوفيان [1] من مشيخة الموحّدين، وكان صاحب بجاية بها أبو الحسن بن طفيل. كان له من العامل صهر فداخل الأمير أبا زكريا في شأن البلد، وشرط لنفسه وصهره فأمضى السلطان شرطهم وأمكنوه من البلد. وأقاموا بها دعوته، وارتحل إلى بجاية وكان قد حدث فيها اضطراب بين أهلها أدّى إلى الخلاف والتباين، واستحثوا الأمير أبا زكريا فأغذّ السير إليهم ودخلها سنة أربع وثمانين وستمائة ويقال إنّ ملكه ببجاية كان سابقا على ملكه بقسنطينة وهو الأصح فيما سمعناه من شيوخنا. وبعث إليهم أهل الجزائر بطاعتهم فاستولى على هذه الثغور القريبة [2] ، وتلقّب المنتخب لإحياء دين الله. وأغفل ذكر أمير المؤمنين أدبا مع عمّه الخليفة بالحضرة، حيث مالأ الموحّدين أهل الحلّ والعقد من الجماعة. ونصب للحجابة أبا الحسين بن سيّد الناس فقام بها، ورسخ ملكه وملك بنيه بهذه الناحية الغربية، وانقسمت به الدولة إلى أن خلص الأمر للملوك من عقبه واستولوا على الحضرة كما نذكره إن شاء الله تعالى والله ولي التوفيق.   [1] وفي نسخة أخرى: ابن يوقيان وقد مرّ معنا من قبل. [2] وفي نسخة أخرى: الغربية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 (الخبر عن حركة الأمير أبي زكريا الى ناحية طرابلس ومنازلة عثمان بن يغمراسن بجاية في مغيبه) لما استولى الأمير أبو زكريا على الناحية الغربيّة، واقتطعا من أعمال الحضرة اعتمد في الحركة على تونس، فنهض إليها في عساكره سنة خمس وثمانين وستمائة ووفد عليه عبد الله بن رحاب بن محمود من مشيخة ذباب ومانعه الفازازي عن أحواز تونس فنازل قابس وحاصرها، وكان له في قتالها أثر واستولت الهزيمة على مقاتلتها ذات يوم فأثخن فيهم قتلا وأسرا، وهدم ربضها وأحرق المنازل والنخل، وارتحل إلى مسراته وانتهى الى الأبيض وأطاعه الجواري والمحاميد وآل سالم وعرب برقة، وبلغه بمكانه من مسراته أن عثمان بن يغمراسن أسف الى منازلة بجاية وكان من خبره أنّ الأمير أبا زكريا لما فصل من تلمسان لطلب ملكه على كره منه، وامتنع جاره داود بن عطاف من ردّه، وامتلأ له عداوة وحقدا، وجدّد البيعة لصاحب تونس، وأوفد بها علي ابن محمد الخراساني من صنائعه. وكان له أثناء ذلك ظهور على بني توجين ومغراوة بالمغرب الأوسط وضاق ذرع أهل الحضرة بمكان الأمير أبي زكريا من مطالبتهم وتدويخه لقاصيتهم، فداخلوا عثمان بن يغمراسن في منازلة معقلة بعد [1] بجاية ليردّوه على عقبه عنهم، فزحف إلى بجاية سنة ست وثمانين وستمائة ونازلها أياما وامتنع عليه سائر ضواحيها فلم يظفر بأكثر من الأطلال عليها. وانكفأ الأمير أبو زكريا راجعا إلى بجاية سنة ست وثمانين وستمائة إلى أن كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن فاتحة استبداد أهل الجزيرة) كان في بعض الأيام بين سدّادة وكثّومه [2] من عمل تقيوس فتنة قتل فيها ابن شيخ سداده، وأقسم ليثأرنّ فيه بشيخ كثومة نفسه، وكان عامل توزر محمد بن يحيى بن   [1] وفي نسخة أخرى: ثغر بجاية. [2] وفي نسخة أخرى: كنومة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 أبي بكر التينمللي من مشيخة الموحّدين فتذمّم شيخ كثومة به، وبذل له مالا على نصره من عدوّه، فكاتب الحضرة وأعلن بخلاف أهل سداده واحتشد لهم أهل نفطة وتقيوس، وخرج في حشد أهل توزر وغزاهم في بلدهم ولاذ بإعطاء الرهن، وبذل المال فلم يقبل فأمدّهم أهل نفزاوة وزحفوا إليه، فانهزمت جموعه وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا إلى توزر، وذلك سنة ست وثمانين وستمائة. ثم عاود غزوهم عقب ذلك ففتحوا عليه [1] ثم عقد لهم سلما على الوفاء بمغارمهم واشترطوا أن لا حكم عليهم في سواها، وأنّ رؤساء نفزاوة منهم، فأمضى شرطهم وكان أوّل استبداد أهل الجريه كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن خروج عثمان ابن السلطان أبي دبوس داعيا لنفسه بجهات طرابلس) كان أبو دبّوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش لما قتل سنة ثمان وخمسين وستمائة، وافترق بنوه وتقلّبوا في الأرض، لحق منهم عثمان بشرق الأندلس، ونزل على طاغية برشلونة فأحسن تكريمه، ووجد هنالك أعقاب عمّه السيّد أبي زيد المتنصّر أخي أبي دبوس في مثواهم من إيالة العدوّ. وكان لهم هنالك مكان وجاه لنزوع أبيهم السيّد أبي زيد عن دينه إلى دينهم، فاستبلغوا في مساهمة قريبهم هذا الوافد، وخطبوا له عن الطاعة خطبا [2] . ووافق ذلك حصول مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري من بني دياب في قبضة أسره، وكان قد أسره الغزى [3] من أهل صقلّيّة بنواحي طرابلس سنة اثنتين وثمانين وستمائة وباعوه من أهل برشلونة فاشتراه الطاغية، وقام عنده أسيرا إلى أن نزع إليه عثمان بن أبي دبّوس هذا كما ذكرناه. وشهّر بطلب حق الدعوة الموحّدية [4] وأمّل الظفر في القاصية لبعدها عن الحامية، فعبر البحر إلى طرابلس، وكان من حظوظ كرامته عند الطاغية أن أطلق له مرغم بن صابر، وعقد له حلفا معه على مظاهرته، وجهّز له أساطيل وشحنها بالمدد   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فبلخوا عليه. وبلخ: تكبّر وحمق. [2] وفي نسخة ثانية: وخطبوا له من الطاغية حظا. وفي نسختنا تحريف ظاهر. [3] وفي نسخة ثانية: العدي. [4] وفي نسخة ثانية: وشمر بطلب حقه في الدعوة الموحدية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 من المقاتلة والأقوات على مال شرطوه، فنزلوا على طرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة واحتشد مرغم قومه وحملهم على طاعة ابن أبي دبّوس، ونازلوا البلد معه ومع جنده من النصرانية فحاصروها ثلاثا، وساء أثرهم فيها. ثم رحل النصارى بأسطولهم وسروا بأقرب السواحل إلى البلد وتنقّل ابن أبي دبّوس ومرغم في نواحي طرابلس بعد أن أنزلوا عليها عسكرا للحصار، فاستوفوا جباية المغارم والوضائع مالا دفعوه للنصارى في شرطهم، وانقلبوا في أسطولهم، وأقام ابن أبي دبّوس يتقلّب مع العرب. واستدعاه ابن مكّي من بعد ذلك لأن يشتدّ به في استبداده [1] ، فلم يتم أمره إلى أن هلك بجربة، والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن مهلك أبي الحسين بن سيّد الناس حاجب بجاية وولاية ابن أبي حي [2] مكانه) قد قدّمنا سلف هذا الرجل وأوليته، وأنه لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان، وأبلى في خدمته، فلما استولى الأمير أبو زكريا على الثغر الغربي واقتطعه عن أعمال الحضرة، ونزل بجاية وظاهر بها تونس، عقد لأبي الحسين بن سيّد الناس على حجابته، وفوّض إليه فيما وراء بابه وأجراه في رياسته على سنن أبي الحسين الرئيس قبله في دولة المستنصر الّذي كانوا يتلقّنون طرقه، وينزعون إلى مراميه، بل كانت رياسة هذا في حجابته أبلغ من رياسة ابن أبي الحسين لجلاء جوّ الدولة ببجاية من مشيخة الموحّدين الذين يزاحمونه، كما كان ابن أبي الحسين مزاحما بهم، فاستولى أبو الحسين بن سيّد الناس على الدولة ببجاية، وقام بأمر مخدومه أحسن قيام، وصار إلى الحلّ والعقد وانصرفت إليه الوجوه وتمكّن في يده الزمام، إلى أن هلك سنة تسعين وستمائة أعظم ما كان رياسة وأقرب من صاحبه مكانا وشرفا [3] ، فأقام الأمير أبو زكريا مكانه كاتبه أبا القاسم بن أبي حيّ ولا أدري من أوليته أكثر من أنه من جالية الأندلس، وردّ على الدولة، وتصرّف في أعمالها، واتصل بأبي الحسين بن سيّد   [1] وفي نسخة أخرى: لأنه يشبه به في استبداده. [2] وفي نسخة أخرى: ابن أبي جبى. [3] وفي نسخة أخرى: سرا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 الناس فاستكتبه، ثم رقّاه واستخلصه لنفسه، وأجرّه رسنه، وتناول زمام الدولة من يد سيّد الناس، فقادها في يد مظفّر [1] خدمته حتى اجتمعت عليه الوجوه وأمّله الخاصّة، وأطلع السلطان على اضطلاعه وكفايته في أمور مخدومه. وهلك أبو الحسين ابن سيّد الناس، فرشّحه السلطان بخطته فقام بها سائر أيامه وصدرا من أيام ابنه الأمير أبي البقاء حتى كان من أمره ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى من أمره. (الخبر عن خروج الزاب عن طاعة الأمير أبي حفص الى طاعة الأمير أبي زكريا وانتظام بسكرة في جماعته) كان السلطان أبو إسحاق قد عقد على الزاب لفضل بن علي بن مزني من مشيخة بسكرة كما قدمناه، فقام بأمره. ولما هلك السلطان عدا عليه بعض أفاريق العرب الموطّنين قرى الزاب بمداخلة قوم من أعدائه، وقتلوه سنة ثلاث وثمانين وستمائة كما نذكره، وأمّلوا الاستبداد بالبلد فدفعهم عنها المشيخة من بني زيّان [2] ، واستقلوا بأمر بلدهم وبايعوا للأمير أبي حفص صاحب الحضرة ودانوا بطاعته على السنن. وتوقعوا عادية منصور بن فضل بن مزني. وكان لحق بالحضرة عند مهلك أبيه فخاطبوا فيه السلطان أبا حفص ورموه بالدواهي فأمر باعتقاله، وأودع السجن سبع سنين إلى أن فرّ منه ولحق بكوفة من أحياء هلال بن عامر، وهم العرب المتولون أمر جبل أوراس، ونزل على الشبه بأفاريقهم فأركبوه وكسبوه ولحق ببجاية سنة اثنتين وتسعين وستمائة فنزل بباب السلطان، ورغّبه في ملك الزاب، وصانع الحاجب ابن أبي حي بأنواع التحف، وضمن له تحويل الدعوة بالزاب للسلطان الأمير أبو زكريا وتسريب جبايته إليه، فاستماله بذلك وعقد له على الزاب وأمدّه بالعسكر، ونازل بسكرة فامتنعت عليه ورأى مشيختها بنو رمان بعدهم عن صريخ تونس. وإلحاح عدوّهم منصور بن فضل عليهم فأعلنوا بطاعة الأمير أبي زكريا وبعثوا إليه ببيعتهم ووفدهم ودفع عادية بن مزني عنهم، فأرجعهم بما أمّلوه من القبول، وأن تكون   [1] وفي النسخة الباريسية: مظهر وفي نسخة ثانية مطهر. [2] وفي نسخة أخرى: بني رمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 أحكامهم إلى قائد عسكره. ونظر ابن مزني مصروفا إلى بجاية [1] ولما وصل الوفد إلى بسكرة خرجوا إلى القائد ومنصور بن مزني، فأدخلوه البلد ودانوا بالطاعة، وتصرّفت الأمور على ذلك إلى أن كان من أمر منصور بن مزني ما نذكره في أخباره، ولم يزل الزاب في دعوة الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن استولى على الحضرة بعده بنوة لهذا العهد، كما تراه في الأخبار بعد إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مهلك عبد الله الفازازي شيخ الموحدين والحاجب أبي القاسم بن الشيخ رؤساء الدولة) كان أبو عبد الله الفازازي من مشيخة الموحّدين، وكان خالصة للسلطان أبي حفص، وعقد له على العساكر كما قدّمناه ودفعه إلى الحروب وتمهيد النواحي، فقام في ذلك المقام المحمود، ودوّخ الجهات واستنزل الثّوار ودفعهم، وجبى الخراج وكانت له في ذلك آثار مذكورة، وفي بلاد الجريد ومشيختها تصاريف وأحوال، وهو الّذي امتحن أحمد بن بهلول [2] بسعاية المشيخة من أهل توزر، وكبح عنانه من مراميه إلى الرئاسة عليهم، وهلك آخر حركاته إلى بلاد الجريد على مرحلتين من تونس سنة ثلاث وتسعين وستمائة ولسنة منها كان مهلك الحاجب أبي القاسم بن الشيخ، وكان من خبر أوليته أنه قدم من بلده دانية إلى بجاية سنة ست وعشرين وستمائة واتصل بعاملها محمد بن ياسين فاستكتبه وغلب عليه. واستدعى ابن ياسين إلى الحضرة وابن الشيخ في جملته، والتمس السلطان من يرشحه لكتابته ويخف عليه، فاطنب ابن ياسين في وصف كاتبه أبي القاسم بن الشيخ وحلاه، وابتلاه السلطان فلم يرضه وصرفه، ثم راجع رأيه فيه واستحسنه ورسمه في خدمته، وأمر ابن أبي الحسين بتلقينه الآداب وتصريفه في وجوه الخدمة ومذاهبها. فكان له في ذلك غناء وخفّة على مخدومه إلى أن هلك ابن أبي الحسين. وكان الخراج بدار السلطان موقوفا على نظره من جملة ما إليه، وكان قلمه عاملا فيه، فأفرد ابن الشيخ بذلك بعد مهلكه إلى آخر أيام السلطان المنتصر. ولمّا ولي السلطان   [1] وفي نسخة أخرى: الى الجباية فقط. [2] وفي نسخة أخرى: أحمد بن يملول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 الواثق استبدّ ابن أبي الحسين [1] عليه كما قلناه، فأبقاه على خطته واختصه لنفسه ودرجه في جملته. ثم جاءت دولة السلطان أبي إسحاق فأقامه في رسمه وزاحمه بأبي بكر بن خلدون صاحب أشغاله. وكانت الرئاسة الكبرى على عهده لبنيه أبي فارس، ثم أبي زكريا عبد المؤمن من بعده. ثم كانت قضية الدعي [2] ، فاستولى على ملكهم فاستخلص أبا القاسم بن الشيخ، واستضاف له إلى خطّة التنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات. فلما ارتجع للسلطان أبي حفص ملكه وقتل الدعيّ، خافه ابن الشيخ لما كان من رتبته عند الدعيّ، فلاذ بالصلحاء لإثارة من الخير والعبادة وصلت بينهم وبينه فشفعوا له وتقبّلها السلطان، وأظهر لهم ذات نفسه في الحاجة إلى استعماله، وقلّده حجابته مجموعة الى تنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات. فلما ارتجع السلطان أبو حفص ملكه وقتل الخارج وصرف العلامة إلى غيره من طبقة الدولة، فلم يزل على ذلك إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وستمائة وبقي اسم الحجابة من بعده في هذه الخطط الثلاث وأمر التدبير والحرب ورياستهما راجع إلى مشيخة الموحّدين إلى أن تصرفت الأحوال، وأديل بعضها من بعض كما يأتيك أثناء الأخبار، وقلّد السلطان من بعد ابن الشيخ حجابته لأبي عبد الله المحبي [3] من طبقة الجند فقام بها إلى آخر الدولة، والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص وعهده بالأمر من بعده) لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور والدعة إلى أن استوفى مدّته، وأصابه وجع أوّل ذي الحجّة من سنة أربع وتسعين وستمائة ثم اشتدّ به الوجع وأهمّه أمر المسلمين وما قلّده من عدّتهم فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق ونكره الموحدون لتخلّفه عن المراتب لصغره وأنه لم يحتلم وتحدّثوا في ذلك. وأفضى الخبر إلى السلطان فأسخطه، وعدل عنهم إلى الشورى مع الوليّ أبي محمد المرجاني. وكان   [1] وفي نسخة أخرى: ابن الحببّر. [2] وفي نسخة أخرى: ثم كانت مضلّة الدعيّ. [3] وفي النسخة الباريسية: الشخشي وفي نسخة ثانية التحتي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 رأيه فيه جميلا وظنّه به صالحا. وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرّت إحدى جواريه، وقد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته، فسمّاه الشيخ محمدا، وعقّ عليه وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة، فلقّب بأبي عصيدة إلى آخر الدهر. ثم صار بعد الاختفاء ودواعيه إلى قصورهم ونشأ في ظل الخلفاء من قومه، حيث شب وبقيت له مع الولي أبي محمد ذمّة يثابر كل منهما على الوفاء بها، فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد وقصّ نكير الموحّدين لولده، أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبّل إشارته وعلم ترشيحه، وأنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ ومشيخة الموحّدين، وهلك آخر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة وإلى الله المصير أهـ. (الخبر عن دولة السلطان أبي عصيدة وما كان على أثرها من الأحوال) لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحّدين والأولياء والجند والكافة إلى القصبة، فبايعوا بيعة عامة لوليّ عهده السلطان أبي عبد الله محمد، ويلقّب كما ذكرناه بأبي عصيدة ابن السلطان الواثق في الرابع والعشرين لذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة فانشرحت ببيعته الصدور، ورضيته الكافة، وتلقب المستنصر باللَّه. وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه، وقلّد وزارته محمد ابن يرزيكن من مشيخة الموحّدين، وأبقى محمد الشخشي على خطّة الحجابة وصرف التدبير والعساكر ورياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر، عند تعرّض ابنه للبيعة، واستنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك. وضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله، حتى إذا نكب وهلك استبدّ هو على الدولة، واستقل الشخشي بحجابته. وكان محمد بن إبراهيم بن الدبّاغ رديفا له فيها. وكان من خبر ابن الدبّاغ هذا أنّ إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية إشبيليّة سنة ست وأربعين وستمائة فولد هو بتونس ونشأ بها، وأفاد صناعة الديوان وحسباته من المبرزين كان فيه أبي الحسن وأبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 الحكم ابني مجاهد، وأصهر إليهما في ابنة أبي الحسن فانكحاه ورشحاه للأمانة على ديوان الأعمال. ولما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه وكان طياشا مستعصيا على الخليفة، فكان كاتبه محمد بن الدبّاغ يروّضه لأغراض الخليفة إذا دسّها إليه الحاجب ابن الشيخ، فيقع ذلك من الخليفة أحسن الموقع. ولما ولي السلطان أبو عصيدة وكانت له عنوة سابقة رعاها، وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلا عن أدوات الكتاب فاستكتب السلطان ابن الدبّاغ ثم رقّاه إلى كتابة علامته سنة خمس وتسعين وستمائة وكان يتصرّف فيها فأصبح رديفا للشخشي في حجابته، وجرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة تسع وتسعين وستمائة فقلّده السلطان حجابته فاستقلّ بها على ما قدّمناه من أنّ التدبير والحرب مصروف إلى مشيخة الموحّدين. (الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان وخبر بنيه من بعده) كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص، وأصله من تين ملّل الموطّنين بتبرسق مذ أوّل الدولة، كانت له ولسلفه الرئاسة عليهم، وصارت إليه رياسة الموحّدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان وكان له خالصة وشيعة، وكان حريصا على ولاية ابنه عبد الله للعهد. وكان يدافع نكير الموحدين في ذلك، فأسرّ هاله السلطان أبو عصيدة. ولما استوثق له الأمر، وقتل عبد الله بمحبسه، تقبّض على أبي محمد بن سليمان واعتقله في صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ولم يزل معتقلا إلى أن قتل بمحبسه على رأس المائة، وفرّ عند نكبته ابناه محمد وعبد الله، فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا، وصار في جملته إلى أن دخل تونس مع ابنه السلطان أبي البقاء خالد. وأمّا محمد فأبعد المفرّ ولحق بالمغرب الأقصى، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان، فاستبلغ في تكريمه وأقام عنده مدّة. ثم عاود وطنه ونزل عن طريقه إلى النسك ولبس الصوف. وصحب الصالحين وقضى فريضة الحج، وامتدّ عمره وحسنت فيه ظنون الكافة، واعتقدوا فيه وفي دعائه، وكثرت غاشيته لالتماس البركة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 منه. وأوجب الخلفاء إزاء ذلك تجلّة أخرى، وأوفدوه على ملوك زناتة مرّة بعد مرّة في مذاهب الودّ وقصود الخير. وحضر في بعض الجهاد بجبل الفتح عند ما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن، ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة. والله تعالى أعلم. (الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين ومهاداته) كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره واستوسق ملكه حدّث نفسه بغزو الناحية الغربية وارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكريا، وكان الأمير أبو زكريا قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عاملها عليها من الموحدين من بني الكمازير، انبرى بها بعده محمد بن علّان من مشيختها، واستفحل أمر عثمان بن يغمراسن وبني عبد الواد من ورائه، وتغلّبوا على توجين ومغراوة، وبلكّين [1] ، وكان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسّكا بدعوتهم ومتقبّلا مذهب أبيه في بيعتهم، فقويت عزائم السلطان أبي عصيدة لذلك، ونهض من الحضرة سنة خمس وتسعين وستمائة وتجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسنطينة، وأجفلت أمامه الرعايا والقبائل وانتهى إلى ميلة، وفيها كان منقلبة إلى حضرته في رمضان من سنته. ولما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكريا نظره في تسكين الناحية الغربية ليتفرّغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة، فوصل يده بعثمان بن يغمراسن وأكّد معه قديم الصهر بحادث الود والمواصلة. وفي خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان، وألقى عليها بكلكله، واستجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكريا فأمدّه بعسكر من الموحّدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم وأثخنوا فيهم قتلا. ورجع فلّهم إلى بجاية وسرّح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية وعقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سبّاع وفد عليها نازعا عن صاحب بجاية إليه، ومرغّبا له في ملكها، فأوسع له في الحباء   [1] وفي نسخة أخرى: مليكش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 والكرامة ما شاء، وبعث معه هذا العسكر فانتهوا إلى بجاية، وضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت وبلاد سدويكش، وعاثوا في تلك الجهات ودوّخوها وانقلبوا راجعين إلى السلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان. وكان السلطان أبي عصيدة صاحب الحضرة لما علم بإمداد الأمير أبي زكريا لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوّهم وحرّضه على بجاية ونواحيها، وسفر له [1] في ذلك رئيس الموحّدين أبا عبد الله بن الكجار أولى سفارته. ثم سفر ثانية سنة ثلاث وسبعمائة بهدية ضخمة فأغرب فيها بسرج وسيف ومهماز من الذهب من صنعة الحلي الفاخر من حصى الياقوت والجوهر. ورافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن يرزيكن ورجعا بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتها ثلاثمائة من البغال، واتصلت المخاطبات والسفارات والهدايا والملاطفات. وكان يوسف بن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضا ويكاتب رئيس الموحّدين أبا يحيى اللحياني وتردّد عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مقتل هداج وفتنة الكعوب وبيعتهم لابن أبي دبوس وما كان بعد ذلك من نكبتهم) كان هؤلاء الكعوب قد عظمت ثروتهم واصطناعهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص [2] ، فعمّروا ونموا وبطروا النعمة، وكثر عيثهم وفسادهم وطال إضرارهم بالسابلة وحطمهم للجنات، وانتهابهم للزرع، فاضطغن لهم العامّة وحقدوا عليهم سوء آثارهم. ودخل رئيسهم هداج بن عبيد سنة خمس وسبعمائة إلى البلد فحضرته [3] العيون وهمّت به العامة. وحضر المسجد لصلاة الجمعة فتجنّوا عليه بأنه وطئ المسجد بخفّيه. وقال لم أنكر عليه ذلك: «إني أدخل مجلس السلطان بهما»   [1] وفي نسخة أخرى: وسفر بينهما من ذلك رئيس الموحّدين أبو عبد الله بن اكمارير أولى سفاراته. [2] وفي نسخة أخرى: كان هؤلاء الكعوب قد أثرتهم الدولة واصطنعتهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص. [3] وفي نسخة أخرى: فخزرته: من خزر أي نظر بمؤخر عينه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 فثاروا به عقب الصلاة وقتلوه، وجروا شلوه في سكك المدينة، فزاد عيثهم وأجلابهم على السلطان، واستقدم أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب لذلك العهد عثمان بن أبي دبوس من مكانه بنواحي طرابلس، ونصّبه للأمر، وأجلب به على الحضرة ونازلها. وخرج إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن في العساكر فهزمهم، وسار بالعساكر لتمهيد الجهات وتسكين ثائرة العرب، وفد عليه أحمد بن أبي الليل ومعه سليمان بن جامع من رجالات هوّارة بعد أن راجع الطاعة. وصرف ابن أبي دبّوس إلى مكانه فتقبّض عليهما، وبعث بهما إلى الحضرة فلم يزالا معتقلين إلى أن هلك أحمد بمحبسه سنة ثمان وسبعمائة وقام بأمر الكعوب محمد بن أبي الليل ومعه حمزة ومولاهم ابنا أخيه عمر رديفين له. ثم خرج الوزير بعساكره سنة سبع وسبعمائة، واستوفد مولاهم ابن عمر وتقبّض عليه وبعث به إلى الحضرة فاعتقل مع عمّه أحمد. وجاهر أخوه حمزة بالخلاف وأتبعه عليه قومه فكثر عيثهم، وأضروا بالرعايا وكثرت الشكاية من العامة، ولغطوا بها في الأسواق وتصايحوا. ثم نفروا إلى باب القصبة يريدون الثورة فسدّ الباب دونهم فرموا بالحجارة، وهم في ذلك يعتدون ما نزل بهم من الحاجب ابن الدبّاغ ويطلبون شفاء صدورهم بقتله. ورفع أمرهم الحاجب واستلحمهم جميعا [1] فأبى من ذلك السلطان وأمره بملاطفتهم إلى أن مكنت بيعتهم [2] . ثم تتبع بالعقاب من تولى كبر ذلك منهم، وانحسم الداء. وكان ذلك في رمضان من سنة ثمان وسبعمائة واستمرّ العرب في غلوائهم إلى أن هلك السلطان فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الخبر عن انتقاض أهل الجزائر واستبداد ابن علان بها) قد قدمنا ما كان من انتقاض الجزائر أيام المستنصر ودخول عساكر الموحّدين عليهم عنوة، واعتقال مشيختهم بتونس حتى أطلقوا بتونس بعد مهلكه، ولما استقلّ الأمير   [1] العبارة غير واضحة وسياق المعنى: ورفع الحاجب أمرهم الى السلطان لاستلحامهم ... [2] وفي نسخة أخرى: الى أن سكنت هيعتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 أبو زكريا الأوسط بملك الثغور الغربية من بجاية وقسنطينة. وكان الوالي على الجزائر ابن الحكم زمن الموحّدين [1] فبادر إلى طاعته باتفاق من مشيخة الجزائر، ووفد عليه. وكتب ابن أكمار بولايتها، فلم يزل واليا عليهم إلى أن نشأت [2] بنو مرين وزحفوا إلى بجاية. وكان ابن أكمار قد أسنّ وهرم فأدركته الوفاة خلال ذلك. وكان ابن علّان من مشيخة الجزائر مختصّا به متصرّفا بأوامره ونواهيه ومصدرا لإمارته. حصلت له بذلك الرئاسة على أهل الجزائر سائر أيامه. ويقال كان له معه صهر، فلما وصل ابن اكمار حدّثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بالجزائر، فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره، وضرب أعناقهم وأصبح مناديا بالاستبداد. وشغل الأمير أبو زكريا عنه بما كان من منازلة بني مرين ببجاية إلى أن هلك، وبقيت في انتقاضها على الموحدين آخر الدهر إلى أن تملّكها بنو عبد الواد كما يذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا وبيعة ابنه الأمير أبي البقاء خالد) كان الأمير أبو زكريا قد استولى على الثغور الغربية كما قلنا، واقتطعها من أعمال الحضرة، وقسّم الدعوة الحفصية بدولتين. وكان على غاية من الحزم والتيقّظ والصرامة لم يبلغها سواه. وكان كثير الإشراف على وطنه والمباشرة لأعماله بنفسه وسدّ خلله. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك على رأس المائة السابعة. وكان قد عهد بالأمر لابنه الأمير أبي البقاء خالد سنة ثمان وتسعين وستمائة وعقد له على قسنطينة وأنزله بها. فلمّا هلك الأمير أبو زكريا جمع الحاجب أبو القاسم بن أبي حي مشيخة الموحدين وطبقات الجند، وأخذ بيعتهم للأمير أبي البقاء وطيّر له بالخير واستقدمه فقدم، وبويع البيعة العامّة، وابقى ابن أبي حي على حجابته واستوزر يحيى بن أبي الأعلام، وقدّم على صنهاجة أبا عبد الرحمن بن يعقوب بن حلوب منهم،   [1] وفي نسخة أخرى: ابن اكمازير من مشيخة الموحدين وفي النسخة الباريسية ابن أكمار. [2] وفي نسخة أخرى: إلى أن كان شأن بني مرين وزحفهم إلى بجاية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 ويسمى المزدار [1] . وقلّد رياسة الموحّدين أبا زكريا يحيى بن زكريا من أهل البيت الحفصيّ واستمرّ الأمر على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن سفارة القاضي الغبريني ومقتله) قد قدمنا ما كان من زحف بني مرين إلى بجاية بمداخلة صاحب تونس. ولما ولي السلطان أبو البقاء اعتزم على المواصلة مع صاحب تونس قطعا للزبون عنه، وعيّن للسفارة في ذلك شيخ القرابة ببابه أبا زكريا يحيى بن زكريا الحفصي [2] ليحكم شأن المواصلة بينهما. وبعث معه القاضي أبا العبّاس الغبريني كبير بجاية وصاحب شوراها، فأدوا رسالتهم وانقلبوا إلى بجاية، ووجد بطانة السلطان السبيل في الغبريني فأغروه به، وأشاعوا أنه داخل صاحب الحضرة في التوثّب بالسلطان. وتولى كبر ذلك ظافر الكبير وذكّره بحديثه [3] ، وما كان منه في شأن السلطان أبي إسحاق وأنه الّذي أغرى بني غبرين به، فاستوحش منه السلطان وتقبّض عليه سنة أربع وسبعمائة. ثم أغروه بقتله فقتل بمحبسه في سنته تلك، وتولّى قتله منصور التركي، والله غالب على أمره. (الخبر عن سفارة الحاجب بن أبي حي [4] الى تونس وتنكر السلطان له بعدها وعزله) ولما ولي السلطان أبو البقاء كانت عساكر بني مرين متردّدة إلى أعمال بجاية بمداخلة صاحب تونس كما ذكرناه، فدوّخوا نواحيها. وكان ابن أبي حي مستبدّا على الدولة في حجابته، فضاق ذرعه بشأنهم وأهمته حال الدولة معهم. ورأى أنّ اتصال اليد بصاحب الحضرة مما يكف عن عزمهم، فعزم على مباشرة ذلك بنفسه لوثوقه من   [1] وفي نسخة أخرى: المزوار. [2] وفي نسخة أخرى: أبا زكريا الحفصي. [3] وفي نسخة أخرى: ذكره بجرائره. [4] وفي نسخة أخرى: ابن أبي جبى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 سلطانه. فخرج من بجاية سنة خمس وسبعمائة وقدم على الحضرة رسولا عن سلطانه، فاهتزّت له الدولة ولقي بما يجب له ولمرسله من البرّ، وأنزله شيخ الموحدين ومدبّر الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني بداره استبلاغا في تكريمه. وقضى من أمر تلك الرسالة حاجة صدره، وكانت بطانة الأمير أبي البقاء لما خلا لهم وجه سلطانهم منه تهافتوا على النصح إليه والسعاية بابن أبي حي عنده. وشمّر لذلك يعقوب بن عمر وجلّى فيه وتابعه عليه عبد الله الرخامي من كاتب ابن أبي حي وصديقه بما كان ابن طفيل قريبه يسخط عليه الناس، ويوغر له صدورهم ببأوه وتحقيره بهم، فالحّ له العداوة في كل جانحة وأسخطه على عبد الله الرخامي. وكان صديقه ومداخلة فتولّى من السعاية فيه مع يعقوب بن عمر كبرها، وألقى إلى السلطان أنّ ابن أبي حي داخل صاحب الحضرة في تمكينه من ثغور قسنطينة وبجاية، بما كان على الأمير [1] العامل بقسنطينة صهرا لابن أبي حي، وهو الّذي ولّاه عليها فاستراب السلطان به، وتنكّر له بعد عوده من تونس. وخشي كل منهما بادرة صاحبه. ثم رغب ابن أبي حي في قضاء فرضه وتخلية سبيله إليه، فأسعف وخرج من بجاية ذاهبا إلى الحج، ولحق بالقبائل من ضواحي قسنطينة وبجاية فنزل عليهم وأقام بينهم مدّة. ثم لحق بتونس وأقام بها إلى حين مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد، وحضر دخول الأمير أبي البقاء عليه بتونس، وخلص من تيّار تلك الصدمة فلحق بالمشرق وقضى فرضه. ثم عاد إلى المغرب ومرّ بإفريقية ولحق بتلمسان وأغرى أبا حمو بالحركة على بجاية فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن حجابة أبي عبد الرحمن بن عمر ومصاير أمره) هو يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن عمر السلميّ، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان جدّه محمد فيما حدّثني أهل بيتهم قاضيا بشاطبة، وخرج مع الجالية أيام العدوّ إلى   [1] في نسخة أخرى: بما كان علي بن الأمين العامل بقسنطينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 تونس، ونزل بالربع الجوفي أيام السلطان أبي عصيدة، وانتقل ابناه أبو بكر ومحمد إلى قسنطينة ونزلا على ابن أوقيان العامل عليها من مشيخة الموحدين لعهد الأمير أبي زكريا الأوسط، فأوسعهما عناية وتكريما. وولّى أبا بكر على الديوان واستخلصه لنفسه. وكان يتردّد إلى الحضرة ببجاية في شئونه فاتصل بمرجان الخصيّ من موالي الأمير أبي زكريا وخواص داره، واستخدم على يد الأمير خالد وأمه من كرائم السلطان، فحظي عندهم وتزوّج ابنه يعقوب من بنات [1] القصر، وخوله، ونشأ في جوّ تلك العناية. وأعلقوا بصحبة الحاج فضل قهرمان دار السلطان وخاصته فاستخدم له سائر أيامه إلى أن هلك. وكان الحاج فضل كثيرا ما يتردّد إلى الأندلس لاستجلاب الثياب الحريرية من هنالك وانتقاء أصنافها. وكذلك إلى تونس لاستجادة الثياب منها. وبعثه السلطان آخر أمره إلى الأندلس فاستصحب ابن عمر وهلك الحاج فضل هنالك، فعدل السلطان عن خطاب ابنه محمد إلى خطاب ابن عمر، فأمره بإتمام ذلك العمل والقدوم به، فقدم هو وابن الحاج فضل وساء لهما السلطان عن عملهما، فكان ابن عمر أوعى من صاحبه فحلي بعينه وخفّ عليه، واعتلق بذمة من خدمته أحظته عند السلطان ورقته فاستعمل في الجباية. ثم قلّد أعمال الأشغال وزاحم ابن أبي حي وعبد الله الرخامي، وغصّوا به فأغروا السلطان بنكبته، فنكبه وأشخصه إلى الأندلس فأقام هنالك، واستعطف السلطان أبا البقاء بعد مهلك أبيه، وتشفّع بوسائل خدمته فاستقدمه. وقدم مع علي وحسين ابني الرنداحي، وركب معهما البحر إلى بجاية في مغيب ابن أبي حي عن الحضرة فصادف من السلطان قبولا، وشمّر في السعاية بابن أبي حي مع مرجان إلى أن تم له ما أراد من ذلك. وصرف ابن أبي حي كما ذكرناه، فقلّد السلطان حجابته ليعقوب بن عمر، وقدّم على الأشغال عبد الله الرخامي، وكان ناهضا في أمور الحجابة لمباشرتها مع مخدومه، فأصبح رديفا لابن عمر وغصّ بمكانه فأغرى به السلطان ودلّه على مكامن ثورته وعلى عداوته، فنكب وصودر وامتحن وغرّب إلى ميورقة، حتى افتداه يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين من أسره، واستقدمه ليقلّده أشغاله عند تنكّره لعبد الله   [1] وفي نسخة أخرى: من ربيبات القصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 ابن أبي مدين كما نذكره في أخباره، فهلك يوسف بن يعقوب دون ما أمل من ذلك، وأقام الرخامي بتلمسان وبها كان مهلكه. واستقل يعقوب بن عمر بأعباء خطّته واضطلع بها، وقوّض إليه السلطان في الإبرام والنقض، فحوّل المراتب بنظره وأجرى الأمور على غرضه. وكان أوّل ما أتاه صرعته لمرجان مصطنعه ملأ صدر السلطان عليه، وحذّره مغبّته فتقبّض عليه وألقي في البحر فالتقمه الحوت، فخلا وجه السلطان لابن عمر وتفرّد بالعقد والحلّ إلى أن استولى السلطان أبو البقاء على الحضرة وكان من أمره ما يذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن ثورة ابن الأمير [1] بقسنطينة وبيعة السلطان أبي عصيدة ثم فتح السلطان أبي البقاء خالد لها وقتله) كان يوسف بن الأمير الهمدانيّ بعد أن قتله بطنجة أبناء أبي يحيى من بني مرين كما يأتي في أخبارهم، انتقل بنوه إلى تونس أيام المستنصر ورعى لهم السلطان وسيلة قيامهم بالدعوة الحفصية أيام أبي علي بن خلاص بسبتة وبعدها إلى أن غلبهم عليها العز في كما نذكره في أخباره فلقّاهم مبرّة وتكريما، ونزلوا من الحضرة خير نزل تحت جراية ونعمة وعناية. وكان كبيرهم متحمّقا متعاظما فربما لقي في الدولة لذلك عسفا إلا أن الإبقاء عليهم كان مانعا من اضطهادهم. ونشأ بنوهم في ظل ذلك النعيم. ثم هلك السلطان واضطربت الأمور وضرب الدهر ضرباته، ولحق عليّ منهم بالثغر الغربي، وتأكّدت له مع ابن أبي حي لحمة نسب وذمة صهر ووشجت بينهما عروقها. فلما استقل ابن أبي حي بحجابة الأمير أبي زكريا لم يأل جهدا في مشاركة علي بن الأمير وترقيته المنازل إلى أن ولّاه ثغر قسنطينة مستقلا بها وحاجبا للسلطان أبي بكر بن الأمير أبي زكريا، وأنزله معه فقام بحجابته وأظهر فيها غناءه وحزمه، حتى إذا سخط السلطان ابن أبي حي وصرفه عن حجابته تنكر أبو الحسن بن الأمير وخشي بوادر السلطان فحوّل الدعوة إلى صاحب الحضرة وطيّر إليه بالبيعة، واستدعى المدد والنائب فوصله رئيس الموحدين والدولة أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد   [1] وفي نسخة ثانية: ابن الأمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 اللحياني، وعقد البيعة لسلطانه سنة أربع وسبعمائة. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي البقاء ببجاية فنهض إليه بالعساكر آخر سنة أربع وسبعمائة، ونازلة أياما فامتنع عليه، وهمّ بالإفراج عنه. ثم داخل رجل من بطانة ابن الأمير يعرف بابن موزة أبا الحسن بن عثمان من مشيخة الموحدين، وكان معسكره بباب الوادي فناجزهم الحرب من هنالك حتى انتهى إلى السور، فتسنّمه المقاتلة باغضاء ابن موزة لهم عنه، وركب السلطان في العساكر عند الصدمة ووقف على باب البلد، وقد استكمن أولياؤه منه فخرج إليه بنو المعتمد [1] وبنو باديس ومشيخة البلد، فاقتحم البلد عنوة ومضى أبو محمد الرخامي واستنزله. ثم حمله في رجال السلطان إلى دار ابن الأمير فغشيه بها وقد انفضّ عنه الناس واستخفى [2] بغرفة من غرف داره واستمات، فلاطفه الرخامي واستنزله. ثم حمله على برذون مستدبرا، وأحضره بين يدي السلطان فقتل، ونصب شلوه وأصبح آية للمعتبرين والله أعلم. (الخبر عن حركة السلطان أبي البقاء إلى الجزائر) قد قدمنا ما كان من خبر انتقاض الجزائر على الأمير أبي زكريا واستبداد ابن علان بها. فلما استولى السلطان أبو البقاء على الأمر وتمهّدت له الأحوال وأقلع بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب عن تلمسان، أعمل السلطان نظره في الحركة إليها، فخرج إليهم سنة سبع وسبعمائة أو ست وسبعمائة وانتهى إلى متيجة ودخل في طاعته منصور بن محمد شيخ ملكين [3] وجمع قومه ولجأ إليه راشد بن محمد بن ثابت بن منديل أمير مغراوة هاربا أمام بني عبد الواد، فآواه إلى ظلّه وألقى عليه جناح حمايته. واحتشد جميع من في تلك النواحي من القبائل وزحف إلى الجزائر وأقام عليها أياما فامتنعت عليه، وانكفأ راجعا إلى حضرته ببجاية، وأقام ملكين على طاعته ومطاولته الجزائر بالقتال إلى أن كان من أمرها. وتغلّب بنو عبد الواد عليها كما نذكره في أخبارهم.   [1] وفي نسخة ثانية: بنو المغفل وفي النسخة الباريسية: بنو الغنفذي. [2] وفي نسخة ثانية: استحصن. [3] وفي نسخة أخرى ملكيش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 وجاء معه راشد بن محمد إلى بجاية متذمّما لخدمته إلى ان قتله عبد الرحمن بن خلوف كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى. (الخبر عن السلف وشروطه بين صاحب تونس وصاحب بجاية) لما افتتح السلطان أبو البقاء خالد قسنطينة وقتل ابن الأمير وفرغ من ذلك الشأن أدرك أهل الحضرة الندم على ما استدبروا من مهادنة صاحب الثغر، وقارن ذلك مهلك يوسف بن يعقوب الّذي كانوا يرجونه شاغلا له فجنحوا إلى السلم، وبعثوا وفدهم في ذلك إليه فأسدوا وألحموا. وشرط عليهم السلطان أبو البقاء أن من هلك منهما قبل صاحبه فالأمر من بعده للآخر والبيعة له، فتقرّر [1] الشرط وحضر الملأ والمشيخة من الموحّدين ببجاية، ثم بتونس، فأشهدوا به على أنفسهم، وربط ذلك العهد وأحكمت أو أخيه إلى أن نقضها أهل الحضرة عند مهلك السلطان أبي عصيدة كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن سفر شيخ الدولة بتونس ابن اللحياني لحصار جربة ومضيه منها الى الحج) لما انعقد أمر هذا الصلح واستتم، راجع رئيس الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني نظره لنفسه، وأعمل فكره في الخلاص ممن استوطنه [2] ، وكان يؤمل رجوع الوفد المقربين بالمهديّة من أمراء الديار المصرية إلى يوسف بن يعقوب فيصحبهم لقضاء فرضه، وأبطأ عليه شأنهم فاعتزم على قصده وورّى بحركته إلى جزيرة جربة لاسترجاعها من أيدي النصارى والرجوع عنها من بعد ذلك إلى الجريد لتمهيد أحواله. وتناول الرأي في الظاهر من أمره مع السلطان فأذن له وسرّح معه العساكر فخرج من   [1] وفي نسخة أخرى: فتقبلوا. [2] وفي نسخة أخرى: من انشوطته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 تونس في جمادى سنة ست وسبعمائة غازيا إلى جربة. ولم يزل يغذّ السير حتى انتهى إلى مجازها. ثم عبر منه إلى الجزيرة، وكان النصارى لما تغلبوا عليها سنة ثمان وثمانين وستمائة شيّدوا بها حصنا لاعتصام الحامية سمّوه بالقشتيل، فنزلت العساكر عليه. وأنفذ الشيخ أبو يحيى عمّاله للجباية وأقام في منازلته شهرين. ثم انقطعت الأقوات واستعصى الحصن إلّا بالمطاولة فرجع إلى قابس. ثم ارتحل إلى بلاد الجريد وانتهى إلى توزر ونزلها، وأعمل في خدمته أحمد بن محمد بن بهلول [1] من مشيختها، فاستوفى جباية الجريد وعاد إلى قابس. وأنزله عبد الملك بن عثمان بن مكي بداره، وصرّح بما روى عنه من حجّه. وصرف العساكر إلى الحضرة وولي بعده رياسة الموحدين وتدبير الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن، وتحوّل عن قابس إلى بعض جبالها تجافيا عن هوائها الوخم. وأقام في انتظار الركب الحجازي، وكان مريضا فتحوّل إلى طرابلس فأقام بها عاما ونصفه إلى أن وصل وفد الترك من المغرب الأقصى آخر سنة ثمان وسبعمائة فخرج معهم حاجّا، ثم قضى فرضه وعاد فكان من شأنه واستيلائه على منصب الخلافة ما يأتي ذكره. ووصل مدد النصرانية إلى قشتيل سنة ثمان وسبعمائة بعد منصرف العساكر عنهم، وفيهم فردريك ابن الطاغية صاحب صقلّيّة، فقاتلهم أهل الجزيرة من المكارية [2] لنظر أبي عبد الله ابن الحسين من مشيخة الموحدين ومعه ابن أومغار في قومه من أهل جربة فأظفرهم الله بهم. ولم يزل شأن هذه الجزيرة من المكان مع العدوّ كذلك منذ نشأت دولة صنهاجة، وربما وقعت الفتنة بين المكارية فتصل إحدى الطائفتين يدها بالنصارى إلى أن كان ارتجاعها في هذه النوبة سنة [3] وأربعين لعهد مولانا السلطان أبي يحيى كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مهلك السلطان أبي عصيدة وخبر أبي بكر الشهيد) كان السلطان أبو عصيدة بعد تهيؤ سلطانه [4] ، وتمهيد ملكه، طرقه مرض الاستسقاء   [1] وفي نسخة ثانية: أحمد بن محمد بن يملول. [2] وفي نسخة ثانية: النكارين. [3] بياض بالأصل ولم نهتد إلى تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا [4] وفي نسخة أخرى: بعد تملّي سلطانه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 فأزمن به. ثم مات على فراشه في ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة، ولم يخلف ابنا، وكان بقصرهم سبط من أعقاب الأمير أبي زكريا جدّهم من ولد أبي بكر ابنه الّذي ذكرنا وفاته في خبر شقيقه أبي حفص في فتح مليانة أيام السلطان المستنصر، فلم يزل بنوه في قصورهم وفي ظل ملكهم. ونشأ منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر في إيالة السلطان أبي عصيدة، وربي في جميم نعمته. فلما هلك السلطان أبو عصيدة ولم يعقب، وكان السلطان أبو البقاء خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر عند إياسه من خروج أخيه من محبسه فرغّبه في ملك الحضرة واستحثه عليها. ثم وصل أبو عبد الله بن يرزيكن السلطان أبا عصيدة واستنهض السلطان أبا البقاء لملك تونس، فنهض كما نذكر. واستراب الموحدون بتونس في شأن حركته فخافوه على أنفسهم، فبايعوا لهذا الأمير أبي بكر الّذي عرف بالشهيد بما كان من قبله لسبع عشرة ليلة من بيعته، وأبقى أبا عبد الله بن يرزيكن على وزارته وزحزح محمد بن الدباغ عن رتبة الحجابة. فتوعّده لما كان يحقد عليه من التقصير به أيام سلطانه، فكان عونا عليه إلى أن هلك عند استيلاء السلطان أبي البقاء كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن استيلاء السلطان أبي البقاء على الحضرة وانفراده بالدعوة الحفصية) لما بلغ السلطان أبا البقاء بمكانه من بجاية وأعمالها الخبر بمرض السلطان أبي عصيدة مع ما كان من العقد بينهما بأنّ من مات قبل صاحبه جمع الأمر بعده للآخر، داخلته الظنّة أن ينتقض أهل الحضرة في هذا الشرط واعتزم على النهوض لمشارفة الحضرة، ووصل إليه حمزة بن عمر نازعا عنهم، فرغّبه واستحثّه، وخرج من بجاية في عساكره، وورى بالحركة إلى الجزائر لما كان من انتقاضهم على أبيه، واستبداد ابن علّان بها. ثم ارتحل إلى قصر جابر وعند بلوغه إليه ورد الخبر بمهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا، فاضطغنها على الموحدين. وأغذّ السير وانحاش إليه كافة أولاد أبي الليل واجتمع أمثالهم أولاد مهلهل إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 صاحب تونس، وخرج معهم شيخ الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن والوزير أبو عبد الله ابن يرزيكن في العساكر للّقاء، ووقّوا سلطانهم بأنفسهم. فلما زحف إليهم السلطان أبو البقاء اختلّ مصافهم وانهزموا وانتهب المعسكر، وقتل الوزير ابن يرزيكن، وأجفلت أحياء العرب إلى القفر، ودخل العسكر إلى البلد واضطرب الأمر، وخرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلا، ثم تفرّق عنه العسكر وتسايلوا إلى السلطان أبي البقاء. وفر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجهات فثلّ إلى السلطان فاعتقله في بعض الفازات، وغدا على السلطان أهل الحضرة من المشيخة والموحدين والفقهاء والكافة فعقدوا بيعته. وقتل الأمير فسمّي الشهيد آخر الدهر، وباشر قتله ابن عمه أبو زكريا يحيى بن زكريا شيخ الموحدين. ودخل السلطان من الغد إلى الحضرة واستقل بالخلافة، وتلقّب بالناصر لدين الله المنصور. ثم استضاف إلى لقبه المتوكل. وأبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركا لأبي زكريا يحيى بن أبي الأعلام الّذي كان رئيسا عنده قبلها واستمرّ على خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن عمر، وولّى على الأشغال بالحضرة منصور بن فضل بن مزني، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن بيعة ابن مزني يحيى بن خالد ومصاير أموره) كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق في جملة السلطان أبي البقاء خالد، وتنكّرت له الدولة لبعض النزغات فخشي البادرة وفرّ فلحق بمنصور بن مزني. وكان منصور قد استوحش من ابن عمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب، وعقد له على حجابته، وجمع له العرب وأجمع على قسنطينة أياما، وبها يومئذ ابن طفيل، وكانت قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد اشتملوا عليه واشتمل عليهم، وأغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره، واطلع ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته، وانصرف عنه إلى بلده، فانفضّت جموعه ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته، وانصرف عنه إلى بلده، فانفضّت جموعه وراجع ابن مزني طاعة السلطان أبي البقاء ومخالصة بطانته وحاجبه فتقبّلوه، ولحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشا، ونزل على أميرها أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من قدومه. وولي بعده أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمدّه وزحف إلى محاربة قسنطينة فامتنعت عليه. ثم استدعاه ابن مزني إلى بسكرة فأقام عنده وأسنى له الجراية، ورتّب عليه الحرس. وكان السلطان ابن اللحياني يبعث إليه من تونس بالجائزة مصانعة له في شأنه، حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية ما كان للسلطان وابنه، فلم يزل في إسهامه وإسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى ابن خالد بمكانه عنده سنة إحدى وعشرين وسبعمائة والله تعالى أعلم. (الخبر عن بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة على يد الحاجب ابن عمر وأوّلية ذلك) لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد الرحمن بن يعقوب بن مخلوف [1] مضافا إلى رياسته في قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها، وكان يلقّب المزوار، وجعله حاجبا لأخيه الأمير أبي بكر على قسنطينة فانتقل إليها. وعكف السلطان أبو البقاء في تونس على لذّاته وأرهف حدّه وعظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش ودعار بن حريز [2] من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه وخشوا غدرته [3] وأعمل الحاجب ابن غمر وصاحبه منصور بن فضل عامل الزاب الحيلة في التخلّص من إيالته، واستعصب [4] راشد بن محمد أمير مغراوة، كان نزع إليهم عند استيلاء بني عبد الواد على وطنه فتلقّوه من الكرامة بما يناسبه واستقرّ في جملتهم، وعليه وعلى قومه كانت تدور رحى حروبهم. واستصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميرا على زناتة فدفع بعضهم حشمه إلى الحاجب في مقعد حكمه، وقد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه. وأحفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فرتب لها عزائمه، وقوّض خيامه لحينه مغاضبا،   [1] وفي نسخة أخرى: المخلوف. [2] وفي نسخة أخرى: دعا بن حريز وفي النسخة الباريسية ابن جرير. [3] وفي نسخة أخرى: بادرته. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى واستغضب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 فوجد الحاجب بذلك سبيلا إلى قصده وتمت حيلته صاحبه. وأهمّ السلطان شأن بجاية ونواحيها، وخشي عليها من راشد بما كان صديقا ملاطفا لعبد الرحمن بن مخلوف وفاوضهما فيمن يدفعه إليها، فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني، وأشار منصور بالحاجب، وتدافعاها أياما حتى دفعاها جميعا إليه [1] . وطلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسنطينة فعقد له، وولّى عليا ابن عمه الحجابة بتونس نائبا عنه. وفصل من الحضرة ولحق بقسنطينة، وصرف منصور بن فضل إلى عمله بالزاب فكان من خلافه ما يذكر. وقام ابن عمر بخدمة السلطان أبي بكر فتصرّف في حجابته. ثم داخله في الانتقاض على أخيه، وبدت مخايل ذلك عليهم فارتاب لهم السلطان أبو البقاء وأحسّ علي بن الغمر بارتيابه فلحق بقسنطينة. وجهّز السلطان أبو البقاء عسكرا وعقد عليه لظافر مولاه المعروف بالكبير، وسرّحه إلى قسنطينة فانتهى إلى باجة وأناخ [2] بها الى أن كان من أمره ما يذكر. وبادر ابن غمر إلى المجاهرة بالخلعان ودعا مولانا السلطان أبا بكر إليه فأجابه، وأخذ له البيعة على الناس فتمت سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وتلقّب بالمتوكل وعسكر بظاهر قسنطينة إلى أن بلغه مجاهرة ابن مخلوف بخلافهم، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن استيلاء السلطان على بجاية ومقتل ابن مخلوف وما كان من الادارة في ذلك) كان يعقوب بن مخلوف ويكنى أبا عبد الرحمن كبير صنهاجة من جند السلطان الموطّنين بنواحي بجاية، وكان له مكان في الدولة وغناء في حروبهم ودفاع عدوّهم. ولما نزلت عساكر بني مرين على بجاية مع أبي يحيى بن يعقوب بن عبد الحق سنة ثلاث وسبعمائة، كان له في حروبهم مقامات مذكورة وآثار معروفة. وكان الأمير أبو زكريا وابنه يستخلفونه ببجاية أزمان سفرهم عنها، وكان يلقّب بالمزوار. ولما هلك خلفه في   [1] وفي نسخة أخرى: حتى دفعهما جميعا إليها. [2] وفي نسخة أخرى: أراح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 سبيله تلك ابنه عبد الرحمن واستخلفه السلطان أبو البقاء خالد على بجاية عند ما نهض إلى تونس سنة تسع وسبعمائة وأنزله بها، وكان طموحا لجوجا مدلا ببأسه وقدمه ومكانه من الدولة. فلما دعا السلطان أبو بكر لنفسه وخلع طاعة أخيه، وأخذ له أبو عبد الرحمن بن غمر البيعة على الناس وخاطبوه بأخذ البيعة له على من يليه ببجاية وأعمالها فأبى منها، وتمسّك بدعوة صاحبه، ونفس على ابن عمر ما تحصّل له من ذلك من الحظ فجاهر بخلافهم. وجمع واحتشد وتقبّض على صاحب الأشغال عبد الواحد ابن القاضي أبي العباس الغماري وعلى صاحب الديوان محمد بن يحيى القالون مصطنع الحاجب ابن غمر من أهل المريّة كان أسدى إليه عند اجتيازه به معروفا، ورحل إليه عند ما استولى على الرتبة ببجاية، فكافأه عن معروفه واصطنعه وألقى عليه محبته ورقاه إلى الرتب، وصرّفه في أعمال الجباية وقلّده ديوان بجاية، فتقبّض عبد الرحمن بن مخلوف عليه وعلى صاحبه. وجمع الناس وأعلن بالدعوة للسلطان أبي البقاء خالد وارتحل السلطان أبو بكر من معسكر بظاهر قسنطينة وأغذّ السير إلى بجاية، ونزل مطلّا عليها وأمهل الناس عامة يومهم [1] وشرط ابن مخلوف على السلطان عزل ابن غمر، وتردّدت الرسل بينهم في ذلك. وكان الوزير أبو زكريا بن أبي الأعلام من الساعين في هذا الإصلاح بما كان له من الصهر مع ابن مخلوف. وحين رجع إليه بامتناع السلطان عن شرطه منعه من الرجوع إليهم وحبسه عنده، وزحف أهل المعسكر بالسلطان وخاموا عن لقاء صنهاجة ومن معهم من مغراوة أهل الشوكة والعصبية والعدد والقوّة. وأجفل السلطان من معسكره فانتهب وأخذت آلته، وسلب من كان في المعسكر من أخلاط الناس. ودخل السلطان إلى قسنطينة في فلّ من عسكره، وبعث ابن مخلوف عسكرا في اتباعه فوصلوا إلى ميلة فدخلوها عنوة. ثم وصلوا إلى قسنطينة فقاتلوها أياما، ثم رجعوا إلى بجاية. وأقام السلطان واضطرب أمره، وتوقع زحف ظافر إليه من باجة، واتصل به أنّ أبا يحيى زكريا بن أحمد اللحياني قفل من المشرق، وأنه لما انتهى إلى طرابلس دعا لنفسه لما وجد بإفريقية من الاضطراب، فبويع وتوافت إليه   [1] وفي نسخة أخرى: واقتتل الناس عامة يومهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 العرب من كل جهة، فرأى السلطان من مذاهب الحزم أن يبعث إليه بالحاجب ابن أبي عبد الرحمن بن غمر ليشيد من سلطانه، ويشتغل أهل الحضرة عنه، فورّى بالفرار عن السلطان وتواطأ معه على المكر بابن مخلوف في ذلك. ولحق ابن عمر باللحياني واستحثّه لملك تونس وهوّن عليه الأمر، وغدا السلطان عند فصول ابن غمر على منازله فكبسها وسطا بحاشيته، وولّى حجابته حسن بن إبراهيم ابن أبي بكر بن ثابت رئيس أهل الجبل المطل على قسنطينة والفل من كتامة، يعرف قومه ببني نهلان [1] ، وكان قد اصطنعه من قبل، وارتحل بالعساكر إلى بجاية سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واستخلف على قسنطينة عبد الله بن ثابت أخا الحاجب. وأشيع بالجهات أن السلطان تنكّر لابن غمر وسخطه، وأنه ذهب إلى ابن اللحياني واستجاشه على الحضرة، وبلغ ذلك ابن مخلوف واستيقن اضطراب حال السلطان خالد بتونس فطمع في حجابة السلطان أبي بكر، وتوثّق لنفسه منه بالعهد بمداخلة عثمان بن شبل بن عثمان بن سبّاع بن يحيى من رجالات الزواودة والولي يعقوب الملاذي [2] من نواحي قسنطينة. وأغذّ السير من بجاية ولقي السلطان بغرجيوه من بلاد سدويكش فلقّاه مبرّة ورحبا. ثم استدعاه من جوف الليل إلى رواقه في سرب من مواليه فعاقرهم الخمر إلى أن ثمل، واستغضبوه ببعض النزعات فغضب وأقزع فتناولوه طعنا بالخناجر إلى أن قتلوه، وجرّوا شلوه فطرحوه بين الفساطيط، وتقبّض على سائر قومه وحاشيته، وفرّ كاتبه عبد الله بن هلال فلحق بالمغرب. وارتحل السلطان مغذّا إلى بجاية فدخلها وظفر بها، وتملّك بها حتى ربا ملكه وعلا، وكان دخوله إلى بجاية على حين غفلة من أهلها واستولى السلطان على سائر المملكة التي كانت تحت إيالة أبيه بالجهة المعروفة بالناحية الغربية، وتكمل واستوثق له أمرها، وأقام في انتظار صاحبه ابن غمر إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي النسخة الباريسية: ضيلان وفي نسخة أخرى نليلان وفي نسخة ثانية: تيلان. [2] وفي نسخة ثانية: الملاري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 (الخبر عن مهلك السلطان أبي البقاء خالد واستيلاء السلطان أبي يحيى بن اللحياني على الحضرة) كان السلطان أبو البقاء خالد بعد بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة قد اضطربت أحواله وجهّز إليه العساكر لمنازلة قسنطينة، وعقد عليها لمولاه ظافر المعروف بالكبير فعسكر ببجاية [1] وأراح ينتظر أمر السلطان. وكان أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد ابن اللحياني ابن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص قد بويع بطرابلس لما قفل من المشرق، ورأى اضطراب الأحوال ووفد عليه هنالك الحاجب أبو عبد الرحمن بن عمر بهدية من السلطان أبي بكر، وأنّه يمدّه ويظاهره على شأنه، فأحكم ذلك من عقدته وشدّ من أمره، وتوافت إليه رجالات الكعوب أولاد أبي الليل، ومعهم شيخ دولته أبو عبد الله محمد بن محمد المزدوري فأغذّوا السير إلى الحضرة. وبعث السلطان إلى مولاه ظافر بمكانه من باجة مستجيشا به، فاعترضوه قبل وصوله وأوقعوا به واعتقلوا ظافرا وصبحوا تونس ثامن جمادى سنة إحدى عشرة وسبعمائة ووقفوا بساحتها فكانت هيعة بالبلد قتل فيها شيخ الدولة أبو زكريا الحفصي، وعدا القاضي أبو إسحاق بن عبد الرفيع على السلطان. وكان متبوعا صارما قويّ الشكيمة، فأغراه بمدافعة العدوّ فخام عن لقائه، واعتذر بالمرض وأشهد بالانخلاع عن الأمر وحل البيعة. ودخل أبو عبد الله المزدوري القصر فاستمكن من اعتقاله. ثم جاء السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني على أثره بلا تأخر ثاني رجب فبويع البيعة العامّة بظاهرها ودخل إلى البلد، واستولى عليها، وولّى على حجابته كاتبه أبا زكريا يحيى بن علي بن يعقوب، وعلى الاشغال بالحضرة ابن عمه محمد بن يعقوب وبنو يعقوب هؤلاء أهل بيت بشاطبة من بيوت العلم والقضاء، قدموا إلى الحضرة مع الجالية، وكان منهم أبو القاسم عبد الرحمن بن يعقوب، وفد مع ابن الأمين صاحب طنجة كما قدّمناه. وتصرّف في القضاء بإفريقية، وولّاه السلطان المستنصر قضاء الحضرة. وسافر عنه إلى ملوك مصر، وكان بنو علي هؤلاء عبد الواحد ويحيى ومحمد من أقاربه، فكان لهم ظهور في دولة السلطان أبي حفص وبعدها، وكان   [1] وفي نسخة ثانية: باجة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 عبد الواحد منهم صاحب جباية الجريد، وهلك بتوزر سنة اثنتين وسبعمائة. وكان السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد استكتب أخاه أبا زكريا يحيى أيام رياسته على الموحّدين فحظي عنده واختصّه ولازمه وحج معه. فلما ولي الخلافة أحظاه وولّاه حجابته. ولما استقرّ بتونس استوثق له الأمر أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر إلى مرسلة السلطان ابن بكر بعد أن وثق معه العهد إلى أبي يحيى على المعاهدة [1] ، وضمن له ابن غمر من ذلك ما رضيه وتمسّك بابن عمّه على ابن غمر فأقام عنده مكرما متسع الجراية والإسهام إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الخبر عن قدوم ابن عمر على السلطان ببجاية ونكبة ابن ثابت وظافر الكبير) لما قدم ابن غمر على بجاية استبدّ بحجابته وكفالته كما كان، وليوم وصوله فرّ عبد الله ابن هلال كاتبه ابن مخلوف، ولحق بتلمسان وشمّر ابن غمر عزائمه للاطلاع بأمره، ودفع حسن بن إبراهيم بن ثابت عن الرتبة فلم يتزحزح يوما [2] ، وخرج لجباية الوطن. ثم أغرى به السلطان وحذّره من استبداده بقسنطينة لمكان معقلة المجاور لها وسعايات تنصّح بها حتى صادفت القبول لمكانه والوثوق بنصائحه. وخرج السلطان في العساكر من بجاية إلى قسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة للنظر في أحوالها. فلما انتهى إلى فرجيوه لقيه عبد الله بن ثابت فتقبّض عليه وعلى أخيه حسن بن الحاجب سنة ثلاث عشرة وسبعمائة بعد أن استصفى أموالهما، ويقال إنه بعد خروج حسن بن ثابت إلى عمل قسنطينة بعث في أثره بعض مواليه، وأوعز معهم إلى عمل عبد الكريم بن منديل ورجالات سدويكش فقتلوه بوادي القطن. وأنّ السلطان لم يباشر نكبته، وكان ظافر الكبير بعد انهزامه وحصوله في أسر العرب كما قدّمناه أنعموا عليه وأطلقوه، ولحق بالسلطان أبي بكر فآثره واستخلصه كما كان لأخيه، وولّاه على   [1] وفي نسخة ثانية: أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر الى مرسلة السلطان أبي يحيى بعد أن وثق العهد معه على المهادنة. [2] وفي نسخة ثانية: فلم يتزحزح له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 قسنطينة عند نكبة ابن ثابت. واستكتب أبا القاسم بن عبد العزيز لخلوّه من الولايات فأقام ظافرا واليا بقسنطينة. ثم استقدمه السلطان إلى بجاية وقد غصّ ابن غمر بمكانه، فأغرى به السلطان فتقبّض عليه وأشخصه في السعية [1] إلى الأندلس والله أعلم. (الخبر عن منازلة عساكر بني عبد الواد ببجاية وما كان في أثر ذلك من الاحداث) كان السلطان أبو يحيى بعد انهزام جنده عن بجاية سنة عشر وسبعمائة بعث سعيد بن بشر بن يخلف عن مواليه إلى أبي حموّ موسى بن عثمان بن يغمراسن. وكان قد أتيح له في زناتة المغرب الأوسط ظفر واعتزاز. فملك أمصارهم من أيدي بني مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب على تلمسان ودوّخ جهاته، واستولى على أعمال مغراوة وتوجين، وملك الجزائر، واستنزل منها ابن علّان الثائر بها وملك تدلس من يد ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة والمظافرة، وأن تكون يدهما على ابن مخلوف واحدة، فطمع لذلك موسى بن عثمان في ملك بجاية. ثم بلغه مهلك ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة واستيلاء السلطان على ثغره فاستمرّ على المطالبة. وادّعى أنّ بجاية له في شرطه، وقارن ذلك لحاق صنهاجة إليه عند مهلك صاحبهم فرغّبوه في ملك بجاية وضمنوا له أمرها. ثم قدم عثمان بن سبّاع بن يحيى مغاضبا للسلطان بما كان من إساءته عليه في ابن مخلوف وإخفار ذمّته وعهده فيه، واستقرّ عنده ابن أبي يحيى بعد منصرفه عن الحجابة [2] ، ورجوعه من الحج فرغّبوه في ذلك واستحثّوه لطلب بجاية، فسرّح العساكر إليها لنظر محمد ابن عمه يوسف بن يغمراسن ومسعود ابن عمّه أبي عامر إبراهيم ومولاه مسامح. وبعث معهما أبا القاسم ابن أبي يحيى الحاجب ففصلوا عنه بدار مقامه بشلف، فأغذّوا السير. وهلك ابن أبي يحيى في طريقه بجبل الزاب ونازلوا البلد. ثم جاوزوها إلى الجهات الشرقية   [1] وفي نسخة ثانية: السفين. [2] وفي نسخة ثانية: واستقر عنده ابن أبي جبى منذ منصرفه عن الحجابة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 فأثخنوا فيها ودخلوا جبل ابن ثابت، واستولوا عليه واستباحوه سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ونالت منهم الحامية في المدافعة بالقتل والجراحات أعظم النيل، وقفلوا راجعين فشيّدوا حصنا بأصفون وشحنوه بالأقوات. ولما وصل محمد بن يوسف ومسامح وبّخهما وطوفهما ذنب القصور والعجز وعزلهما. وبعث السلطان عسكرا في البر وأسطولا في البحر بعد رجوعه من قسنطينة سنة أربع عشرة وسبعمائة لهدم حصن بني عبد الواد بأصفون، فخرّب وانتهبت أقواته وعدده، وسرّح أبو حمو عسكرا آخر لحصار بجاية عقد عليه لمسعود ابن عمّه ابن أبي عامر بن إبراهيم بن يغمراسن، فنازلوها سنة خمس عشرة وسبعمائة واتصل بهم خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن بني توجين معه على أبي حموّ، وأنهم أوقعوا به وهزموه، واستولوا على معسكره، فأجفل مسعود بن أبي عامر وعسكره وأفرجوا عن بجاية. ووصل على أثرها خطاب محمد بن يوسف بالطاعة والانحياش فبعث السلطان إليه صنيعته محمد ابن الحاج فضل بالهدية والآلة، ووعده بالمظاهر وتسويغ السهام التي كانت ليغمراسن بإفريقية. وشغل ابن عبد الواد عن بجاية، وخرج السلطان في عساكره للإشراف على وطنه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن استبداد ابن غمر ببجاية) لم يزل ابن غمر مستبدّا على السلطان في حجابته يرى أنّ زمامه بيده وأمره متوقف على إنفاذه. وصار يغريه ببطانته فيقتلهم ويغرّمهم [1] ، وربما كان السلطان يأنف من استبداده عليه. وداخله بعض أهل قسنطينة سنة ثلاث عشرة وتسعمائة في اغتياله ابن غمر فهمّوا بذلك، ولم يتم ففطن لها ابن غمر فأوقع بهم وقسّمهم بين النكال والعذاب فرقا. ثم رجع السلطان إلى بجاية سنة ثلاث عشرة وسبعمائة لما أهمهم من حصاره، واتصلت حاله معه على ذلك النحو من الاستبداد إلى أن بلغ السلطان أشدّه وأرهف حدّه وسطا محمد بن فضل فقتلهم في خلوة معاقرته من غير مؤامرة   [1] وفي نسخة أخرى: يغرّبهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 الحاجب. وباكر ابن غمر مقعدة بباب دار السلطان فوجد شلوه ملقى في الطريق مضرّجا في ثيابه، وأخبر أنّ السلطان سطا به فداخله الريب من استبداد السلطان وإرهاف حدّه، وخشي بوادره، وتوقّع سعاية البطانة وأهل الخلوة. فتحيّل في بعده عنه واستبداده بالثغر دونه فأغراه بطلب إفريقية من يد ابن اللحياني، وجهّزه بما يصلح من الآله والفساطيط والعساكر والخدام، ورتّب له المراتب. وارتحل السلطان إلى قسنطينة سنة خمس عشرة وسبعمائة ثم تقدّم غازيا إلى بلاد هوّارة، وأجفل عنها ظافرا بهم [1] وكان قائدها من مواليهم. فاستوفى جباية هوّارة، وقفل إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة واستبدّ ابن غمر ببجاية ومدافعة العدوّ من زناتة عنها. واستخلف على حجابة السلطان محمد بن قالون، وقرّت عينه بما كان يؤمّل من استبداده إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن سفر السلطان أبي يحيى اللحياني الى قابس وتجافيه عن الخلافة) كان هذا السلطان أبو يحيى اللحياني قد طعن في السنّ، وكان بصيرا بالسياسة مجرّبا للأمور، وكان يرى من نفسه العجز عن حمل الخلافة واستحقاقها مع أبناء الأمير أبي زكريا الأكبر. وعلم مع ذلك استفحال صاحب الثغور الغربية الأمير أبي بكر واستغلاظ أمره بمن انتظم في ملكه [2] ، وارتسم في ديوان جنده من أعياص زناتة وفحول شولهم من توجين ومغراوة وبني عبد الواد وبني مرين. كانوا يفزعون إليه مع الأيام عن ملوكهم خشية على أنفسهم، لما قاسموهم في النسب وساهموهم في يعسوبيّة القبيل وفحوليّة الشول، ومنهم من غلبوا على مواطنهم فملكوها عليهم مثل مغراوة وبني نوجين وملكيش، فاستكشف بذلك جند السلطان وكثرت جموعه وهابه الملوك. ونهض سنة ست عشرة وسبعمائة إلى إفريقية وجال في بلاد هوّارة وأخذ جبايتها كما ذكرنا، فتوقّع السلطان ابن اللحياني زحفه إليه بتونس. وكانت إفريقية مضطربة عليه، وكان تعويله في الحامية والمدافعة على أوليائه من العرب، تولى منهم حمزة بن   [1] وفي النسخة الباريسية ثم. وفي نسخة أخرى. وأجفل عنها ظافرا ممن تعاطى قائدها من مواليهم. [2] وفي النسخة الباريسية: في جملته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 عليّ بن عمر بن أبي الليل فحكمه في أمره وأشركه في سلطانه، وأفرده برياسة العرب وأجرّه الرسن، وسرّب إليه الأموال، وكثر بذلك زبون العرب واختلافهم عليه، فاجتمع على التقويض عن إفريقية ونفض اليد من الخلافة، فجمع الأموال والذخيرة، وباع ما كان بمودعاتهم من الآنية والفرش والخرثيّ والماعون والمتاع، حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكريا الأكبر جمعها واستجاد أصولها ودواوينها، أخرجت للورّاقين فبيعت بدكاكين سوقهم. فجمع من ذلك زعموا قناطير من الذهب تجاوز العشرين قنطارا وجوالقين من حصى الدرّ والياقوت، وخرج من تونس إلى قابس موريا بمشارفة عملها فاتح سنة سبع عشرة وسبعمائة بعد أن رتّب الحامية بالحضرة وباجة والحمامات، واستخلف بالحضرة أبا الحسن بن وانودين وانتهى إلى قابس فأقام بها، وصرف القمال في جهاتها إلى أن كان من بيعة ولده بتونس كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. (الخبر عن نهوض السلطان أبي بكر الى الحضرة ورجوعه إلى قسنطينة) لما رجع [1] السلطان من هوّارة إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة كما قدّمناه استبلغ في جهاد حركة أخرى إلى تونس، فاحتشد وقسّم العطاء وأزاح العلل، واعترض الجنود على طبقاتهم من زناتة والعرب وسدويكش. واستخلف على قسنطينة الحاجب محمد بن القالون وبعث إلى حاجبه الأعظم أبي عبد الرحمن بن عمر [2] بمكانه من إمارة بجاية في مدد المال للنفقات والأعطيات. فبعث إليه منصور بن فضل بن مزني عامل الزاب، وكان ابن عمر لما رأى من كفايته وأنه جمّاعة للمال، استضاف له عمل جبل أوراس والحصنة وسدويكش وعياض وسائر أعمال الضاحية، فكانت أعمال الجباية كلّها لنظره، وأموالها في حساب دخله وخرجه، فبعثه ابن عمر ليقيم إنفاق السلطان. واستخلفه على خطة حجابته، وارتحل السلطان من قسنطينة في جمادى سنة سبع عشرة وسبعمائة يطوي المراحل. ولقيه في طريقه وفود العرب،   [1] وفي نسخة أخرى: خرج. [2] وفي النسخة الباريسية ابن عمرو في النسخة التونسية ابن غمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 وانتهى إلى باجة مستغيثا [1] حاميتها إلى تونس. وكان السلطان أبو يحيى اللحياني قد خرج عنها إلى قابس كما قدّمناه، واستخلف عليها أبا الحسن بن وانودين، وبعث إليه بنهوض السلطان أبي بكر إلى تونس، وأنه محتاج إلى المدافعة، فاعتذر لهم اللحياني بما قبله من الأموال، وأطلق يدهم في الجيش والمال، فأركبوا واستلحقوا ورتّبوا الديوان، وأخرجوا ابنه محمدا ويكنى أبا ضربة فأطلقوه من اعتقاله. ولقيهم الخبر بإشراف السلطان أبي بكر على باجة، فخرجوا جميعا من تونس، وخالفهم إلى السلطان مولاهم ابن عمر بن أبي الليل. كان مضطغنا على الدولة متربّصا بها، لما كان اللحياني يؤثر عليه أخاه حمزة، فلقي السلطان في دوين باجة، فأعطاه صفقته واستحثّه، ووصل إلى تونس، فنزل روض السنافرة [2] من رياض السلطان في شعبان من سنة سبع عشرة وسبعمائة وخرج إليه الملأ وتردّدوا في البيعة بعض الشيء انتظارا لشأن أبي ضربة وأصحابه. وكان من خبرهم أنّ السلطان لما أغذ السير من باجة بادر حمزة بن عمر إلى بطانة اللحياني وأوليائه بتونس، فلقيهم وقد خرجوا عنها، فأشار عليهم ببيعة أبي ضربة ابن السلطان اللحياني ومزاحفة القوم به، فبايعوه وزحفوا إلى لقاء السلطان. ودسّ حمزة إلى أخيه مولاهم أن يزحف بالمعسكر فأجفل السلطان عن مقامته بروض السنافرة لسبعة أيام من احتلاله قبل أن يستكمل البيعة، وارتحل إلى قسنطينة ورجع عنه مولاهم من تخوم وطنه، وسرّح منصور بن مزني إلى عمر ابن عمر بباجة ودخل أبو ضربة بن اللحياني والموحّدون إلى تونس منتصف شعبان من سنته. وبويع بالحضرة البيعة العامّة وتلقّب المستنصر. وأراد أهل تونس على إدارة سور بالأرباض فيكون سياجا عليها، فأجابوه إلى ذلك وشرع فيه، وأوهنه العرب في مطالبهم واشتطّوا عليه في شروطهم إلى أن عاود مولانا السلطان حركته كما نذكر إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة أخرى: فانفضّت. [2] وفي نسخة أخرى: روض السناجرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 (الخبر عن استيلاء السلطان أبي بكر على الحضرة وإيقاعه بأبي ضربة وفرار أبيه من طرابلس الى المشرق) لما قفل السلطان من تونس إلى قسنطينة بعث قائد محمد بن سيّد الناس بين يديه إلى بجاية فارتاب لذلك ابن عمر بوصول أمره [1] ، وتنكّر له وشعر السلطان بذلك. وأغضى له وطالبه في المدد، فاحتفل في الحشد والآلة والأبنية. وبعث إليه سبعة من رجال الدولة بسبعة عساكر وهم: محمد بن سيّد الناس، ومحمد بن الحكم، وظافر السنّان وأخوه من موالي الأمير أبي زكريا الأوسط، ومحمد المديوني ومحمد المجرسي ومحمد البطوي [2] . وبعث له من فحول زناتة وعظمائهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، كان ارتحل إليه من الأندلس كما نذكر في خبره، وأبا رشيد بن محمد بن يوسف من أعياص بني عبد الواد فيمن كان معهم من قومهم وحاشيتهم. توافوا بعساكرهم عند السلطان بقسنطينة، فاعتزم على معاودة الزحف إلى تونس، وكان قد اختبر أحوال إفريقية وأحسن في ارتيادها، فخرج في صفر من سنة ثماني عشرة وسبعمائة واستعمل على حجابته أبا عبد الله بن القالون، ويرادفه أبو الحسن بن عمرو وافاه بالأندلس وفد هوّارة وكبيرهم سليمان بن جامع، وأخبروه بأنّ ضربة بن اللحياني انتقل [3] من باجة بعد أن نازلها معتزما على اللقاء، فارتحل مولانا السلطان مغذّا ولقيه مولاهم بن عمر فراجع الطاعة، وارتحلوا في أتباع أبي ضربة وجموعه حتى شارفوا على القيروان، فخرج إليه عاملها ومشيختها فألقوا إليه باليد وأعطوا الطاعة. وارتحل السلطان راجعا عن اتباع عدوّه إلى الحضرة وقد نزل بها أبو ضربة بن اللحياني من بطانة محمد بن الغلاق ليمانع دونها، فأخرج الرماة إلى ساحتها وقفل العساكر ساعة من النهار. ثم اقتحموها عليه، واستبيح عامّة أرباضها وقتل ابن الغلاق ودخل السلطان إلى الحضرة في ربيع من سنته، فأقام خلالا انعقدت بين العامّة. وقدّم على   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: فارتاب ابن غمر بوصوله. [2] وفي نسخة أخرى: محمد البطوني. [3] وفي نسخة أخرى: أجفل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 الشرطة ميمون بن أبي زيد واستخلفه على البلد. ورحل في اتباع أبي ضربة بن اللحياني وجموعه فأوقع بهم بمصبوح [1] من جهات بلاد هوارة. وقتل من مشيخة الموحّدين أبو عبد الله بن الشهيد من أهل البيت الحفصي، وأبو عبد الله بن ياسين. ومن طبقات الكتّاب أبو الفضل البجائي [2] وتقبّض على شيخ الدولة أبي محمد عبد الله بن يغمور. وقيد إلى السلطان فعفا عنه وقومه [3] ليومه. ثم أعاده إلى خطته بعد ذلك. ورجع السلطان إلى تونس من سنته. وكان السلطان أبو عيسى بن اللحياني لما بلغه الخبر بنهوض السلطان إلى تونس حركته الثانية سنة سبع عشرة وسبعمائة وما كان من بيعة الموحّدين والعرب لابنه أبي ضربة، وارتحل من مقامه بقابس إلى نواحي طرابلس. ثم بلغه رجوع السلطان إلى قسنطينة فأوطن طرابلس فبنى مقعدا لملكه بسور البلد مما يلي البحر سمّاه الطارمة، وبعث العمّال في الجهات لجباية الأموال، وبعث على جبال طرابلس أبا عبد الله بن يعقوب قريب حاجبه ومعه هجرس بن مرغم كبير الجواري من ذئاب [4] فدوّخ البلاد وفتح المعاقل وجبى الأموال وانتهى إلى برقة. واستخدم آل سالم وآل سليمان من عرب ذئاب، ورجع إلى سلطانه بطرابلس ووافاه الجند بانهزام أبي ضربة ابنه، فبعث حاجبه أبا زكريا بن يعقوب ووزيره أبا عبد الله بن ياسين بالأموال لاحتشاد العرب، ففرّقوها في علّاق وذئاب وزحف أبو ضربة إلى القيروان. وبلغ خبره إلى السلطان أبي بكر فخرج من تونس آخر شعبان من سنة ثمان عشرة وسبعمائة فأجفلوا عن القيروان. ثم تذامروا وعقلوا رواحلهم مستميتين بزعمهم حتى أطلّت عليهم العساكر بمكان فجّ النعام، فانفضت جموعهم وشرّدت رواحلهم وارتحلوا منهزمين، والقتل والنهب يأخذ منهم مأخذه. ولجأ أبو ضربة في فلّه إلى المهديّة، وكانوا مقيمين على دعوة أبيه فامتنع منها إلى أن كان من شأنه ما نذكره. وبلغ خبره إلى أبيه بمكانه من طرابلس فاضطرب معسكره وبعث إلى النصارى في أسطول يحمله إلى الإسكندرية فوافوه بستة أساطيل فاحتمل أهله وولده، وركب   [1] وفي النسخة الباريسية: بمصرح وفي نسخة ثانية بمصوح. [2] وفي النسخة الباريسية: التجاني. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية ونوهه. [4] وفي نسخة أخرى: دبّاب وهي الأصح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 البحر ومعه حاجبه أبو زكريا بن يعقوب إلى الإسكندرية، واستخلف على طرابلس أبا عبد الله بن أبي عمران من ذوي قرابته وصهره، فلم يزل بها إلى أن استدعاه الكعوب ونصّبوه للأمر، وأجلبوا به على السلطان مرارا كما نذكره بعد. وركب السلطان أبو يحيى بن اللحياني البحر إلى الاسكندرية فنزل بها على السلطان محمد بن قلاون من ملوك الترك بمصر والشام واستقدمه إلى مصر فعظّم من مقدمه واهتزّ للقائه ونوّه من مجلسه، وأسنى من جرايته وأقطاعه إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ورجع السلطان أبو بكر إلى تونس بعد الواقعة على أبي ضربة وقومه بفجّ النعام، فدخلها في شوّال من سنته. واستقامت إفريقية على طاعته، وانتظمت أمصارها وثغورها في دعوته إلى المهديّة وطرابلس كما ذكرناه إلى أن كان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مهلك الحاجب ابن عمر ببجاية وولاية الحاجب محمد بن القالون عليها ثم الادالة منه بابن سيد الناس) كان الحاجب بن عمر لما استبدّ ببجاية سنة خمس عشرة وسبعمائة، انتقل السلطان إلى قسنطينة ولم يراجعها بعد. ثم لما رجع من تونس ثانية حركته سنة سبع عشرة وسبعمائة صرف إليه منصور بن فضل وبعث في أثره قائده أبا عبد الله محمد ابن حاجب أبيه محمد [1] بن سيد الناس يهيئ له قصوره ببجاية للتحوّل إليها، فردّه ابن عمر وتنكّر له وطالبه السلطان في المدد فبادر به فأقطعه جانب الرضا. وعقد له على بجاية وقسنطينة كما ذكرنا ذلك كله قبل. فاستبدّ ابن عمر بالثغر وما إليه من الأعمال مقتصرا على ذكر السلطان في الخطبة واسمه في السكّة. وأقام على ذلك إلى أن ملك السلطان تونس واستولى على جهاتها، وبعث إليه بان عمّه علي بن محمد بن عمر فعقد له أبو عبد الرحمن الحاجب على قسنطينة فمضى إليها، وهو في خلال ذلك كلّه يدافع عساكر زناتة عن بجاية. وقد كان أبو حمّو صاحب تلمسان بعد ظهوره على محمد بن يوسف واسترجاعه بلاد مغراوة وتوجين من يده كما قدّمناه يسرّب العساكر لحصارها. وابتنى بالوادي على مرحلتين منها قلعة بكر يجهّز [2] بها الكتائب لحصارها. ثم هلك أبو حمّو وولي ابنه أبو   [1] وفي نسخة أخرى: حاجب أبيه أبي الحسن. [2] وفي نسخة أخرى: قلعة تكر ليجمرّ بها الكتائب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 تاشفين من بعده سنة ثمان عشرة وسبعمائة فتنفّس مخنق الحصار عن بجاية ريثما كانت حركة السلطان إلى تونس وفتحها. ثم خرج أبو تاشفين من تلمسان لتمهيد أعماله، وقتل محمد بن يوسف بمعقله من جبل وانشريس كما نذكره في أخبارهم، فارتحل من هنالك غازيا إلى بجاية، فاطلّ عليه في سنة تسع عشر وسبعمائة وبدا له من حصنها وكثرة مقاتلتها وامتناعها ما لم يحتسب فانكفأ راجعا إلى تلمسان، وأصاب ابن عمر المرض فبعث عن عليّ ابن عمّه بمكان عمله بقسنطينة، وعهد إليه بأمره والقيام بولاية بجاية إلى أن يصل أمر السلطان. وهلك لأيام على فراشه في شوّال من سنة تسع عشرة وسبعمائة، وقام علي بن عمر بأمر بجاية، واتصل الخبر بالسلطان فأهمّه شأن الثغر. وطيّر ابن سيّد الناس إليه مع قهرمانة داره لتحصيل تراثه والبحث عن ذخيرته فاستوفى من ذلك فوق الكثرة من الصامت والذخيرة، وقدم معه علي بن غمر، فأولاه السلطان من رضاه ما أحسب أمله، وأقام بالحضرة إلى أن كان منه خلاف مع ابن أبي عمران. ثم راجع الطاعة وقد أحفظ السلطان بولاية عدوّه. فلما عاد إلى تونس أوعز إلى مولاه نجاح هلال بقتله، فاغتالوه خارجا من بستانه فأشووه، وهلك من جراحته، والله أعلم. (الخبر عن إمارة الأمير أبي عبد الله على قسنطينة وأخيه الأمير أبي زكريا على بجاية وتولية ابن القالون على حجابتها) لما هلك ابن عمر أهمّ السلطان شأن بجاية لما كانت عليه من حال الحصار، ومطالبة بني عبد الواد لها فرأى أي أن يكشف الحامية بالثغور الغربية وينزل بها أبناءه للمدافعة والحماية، وعقد على قسنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله وعقد على بجاية لابنه الآخر الأمير أبي زكريا وجعل حجابتها لأبي عبد الله بن القالون مستبدّا عليها لمكان صغرهما. وأكثف له الجند وأمره بالمقام ببجاية للممانعة من العدّ والملح على حصارها وارتحلوا من تونس فاتح سنة عشرين وسبعمائة في احتفال من العسكر والأصحاب والأبّهة. وأبقى خطة الحجابة خلوا ممن يقوم بها. وأبقى على ابن القالون. وبقي للتصرّف في الأمور من رجالات السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الكردي الملقّب بالمزوار. وكان مقدّما على بطانة السلطان المعروف بالدخلة. وعلى الأشغال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 الكاتب أبو القاسم بن عبد العزيز، وسنذكر أوليتهما بعد. وانصرف إلى بجاية رافلا في حلل العزّ والتنويه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الخبر عن استقدام ابن القالون والادالة منه بابن سيّد الناس في بجاية وبظافر الكبير في قسنطينة) لما انصرف أبو عبد الله بن يحيى بن قالون إلى بجاية، وخلا وجه السلطان فيه لبطانته عند ولايته ببجاية، بثوا فيه السعايات ونصبوا الغوائل، وتولى كبر ذلك المزوار بن عبد العزيز بمداخلة أبي القاسم بن عبد العزيز صاحب الأشغال. وعظمت السعاية فيه عند السلطان حتى داخلته فيه الظنّة، وعقد لمحمد بن سيّد الناس على بجاية، وقام بأمر حصارها وحجابة أميرها إلى أن استقدم للحجابة، وكان من أمره ما نذكره. ومرّ ابن قالون بقسنطينة في طريقه إلى الحضرة فحدّثته نفسه بالامتناع بها، وداخل مشيختها في ذلك فأبوا عليه، فأشخصهم إلى الحضرة نكالا بهم. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فأسرّها لابن القالون وعزم على استضافة الحجابة بقسنطينة لابن سيّد الناس، فأستعفى مشيختها من ذلك وأروه أن ابن الأمين قريبه وابن أخيه، وذكّروه ثروة أبيه فأقصر عن ذلك، وصرف اعتزامه إلى مولاه ظافر الكبير وذلك عند قدومه من المغرب، وكان من خبره أنه كان من موالي الأمير أبي زكريا، وكان له في دولة ابنه السلطان أبي البقاء ظهور، وزحف هو بالعساكر عند ما استراب السلطان أبو البقاء بأخيه السلطان أبي بكر فأقام بباجة. وجاء المزدوري والعرب إلى تونس في مقدّمة ابن اللحياني فزحف إليهم ففضّوه وتقبّضوا عليه كما ذكرنا ذلك كله. ثم لحق بعدها بمولانا السلطان أبي يحيى وأعاده إلى مكانه من الدولة، وولّاه قسنطينة عند مهلك ابن ثابت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. ثم غصّ به ابن عمر وأغرى به السلطان فأشخصه في السفين إلى الأندلس، وجاز إلى المغرب. ونزل على السلطان أبي سعيد إلى أن بلغه الخبر بمهلك ابن عمر فكرّ راجعا إلى تونس، ولقاه السلطان مبرة وتكريما. ووافق ذلك وصول الحاجب ابن قالون من بجاية، فعقد السلطان لظافر هذا على حجابة ابنه بقسنطينة الأمير أبي عبد الله فقدمها وقام بأمرها، واستعمل ذويه وحاشيته في وجوه خدمتها وصرف من كان هنالك من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 الخدّام أهل الحضرة إلى بلدهم. وكان بها أبو العبّاس بن ياسين متصرّفا بين يدي الأمير أبي عبد الله، والكاتب أبو زكريا بن الدبّاغ على أشغال الجباية، وكانا قدما من الحضرة في ركاب الأمير أبي عبد الله فصرفهما القائد ظافر لحين وصوله، واستقلّ بأمره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (الخبر عن ظهور ابن أبي عمران وفرار ابن قالون إليه على عينه) كان محمد بن أبي عمران هذا من أعقاب أبي عمران موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص، وهو الّذي ولي إفريقية نائبا عن أبي محمد عبد الله ابن عمه الشيخ أبي محمد عبد الواحد، كتب له بها من مراكش لأوّل ولايته، فأقام واليا عليها ثمانية أشهر إلى ان قدم آخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأقام أبو عمران هذا في جملتهم إلى أن هلك ونشأ بنوه في ظلّ دولتهم إلى أن كان من عقبه أبو بكر والد محمد هذا، فكان له صيت وذكر. وكان السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني قد رعى له ذمّة قرابته، ووصله بصهر عقده لابنه محمد على ابنته. واستخلفه على تونس عند خروجه عنها. ثم استخلفه على طرابلس عند ركوبه السفينة إلى الإسكندرية. وكان أبو ضربة بعد انهزامه وافتراق جموعه اعتصم بالمهديّة، ونازلة بها السلطان أبو بكر فامتنعت عليه وأقلع عنها على سلم عقده لأبي ضربة وأقام حمزة بن عمر في سبيل خلافه على السلطان يتقلّب في نواحي إفريقية حتى عظم زبونه على السلطان ونزع إليه الكثير من الأعراب وكثرت جموعه، فاستقدم محمد بن أبي عمران من مكان ولايته لثغر طرابلس. وزحف إلى تونس معارضا للسلطان قبل اجتماع عساكره وكمال تعبيته، فخرج السلطان أبو بكر عن تونس في رمضان من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ولحق بقسنطينة وصحبه إليها مولاهم ابن عمر وكان الحاجب محمد بن يحيى بن القالون قد غصّته البطانة والحاشية بالمعاية فيه عند السلطان، وتبين له انحرافه عنه. وكان معن ابن مطاع [1] الفزاري وزير حمزة بن عمرو صاحب شواره صديقا لابن القالون   [1] وفي نسخة ثانية: معن بن وطاعن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 ومخالصا، فداخله في الاجلاب بابن أبي عمران. فلما خرج السلطان أمام زحفهم تخلّف ابن القالون بتونس، وركب من الغد في البلد مناديا بدعوة ابن أبي عمران. ودخل محمد بن أبي عمران ثانية خروج السلطان، واستولى على الحضرة وأقام بها بقية سنته، وصدرا من أخرى، ولحق السلطان بقسنطينة فجمع عساكره واحتشد جموعه، وأزاح العلل واستكمل التعبية وزحف منها في صفر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وخرج ابن أبي عمران للقائه مع حمزة بن عمر في جموع العرب ولقيهم السلطان أولى وثانية بالرجلة وأوقع بهم، وقتل شيخ الموحّدين أبا عبد الله بن أبي بكر. وكان على مقدّمتهم محمد بن أبي منصور بن مزني وغيره. أثخنت العساكر فيهم قتلا وأسرا، وكان للسلطان فيها ظهور لا كفاء له. ثم تقبّض على مولاهم ابن عمر فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مقتل مولاهم بن عمر وأصحابه بن الكعوب) لما أتيح للسلطان من الظهور على ابن أبي عمران وأتباعه والظفر بهم ما أتيح، وصنع لهم فيه رغم أنف مولاهم ابن عمر، وظهرت مع أصحابه كلمات أنبأت بفاسد دخلتهم. ثم نمي للسلطان أنّ مولاهم داخل في الفتك به ابنه منصور وربيبه جعدان [1] ومعدان ابني عبد الله بن أحمد بن كعب، وسليمان بن جامع من شيوخ هوارة. وشى بذلك عنهم ابن عمّهم عون ابن عبد الله بن أحمد بعد أن داخلوه فيها، فتنصّح بها للسلطان. فلمّا عدوا على السلطان تقبّض عليهم وبعثهم إلى تونس فاعتقلوا بها، ورجع هو إلى الحضرة فدخلها في جمادى من سنته. وجدّد البيعة على الناس، وزحفت العرب في اتباعه حتى نزلوا بظاهر البلد وشرطوا عليه إطلاق مولاهم وأصحابه، فأنفذ السلطان قتلهم فقتلوا بمحبسهم، وبعث بأشلائهم إلى حمزة فعظم عنده موقع هذا الحزن، وصرخ في قومه وتآمروا أن يثأروا بصاحبهم [2] . وأغذّ السير إلى الحضرة وابن أبي عمران معهم على حين افتراق وازاحة السلطان.   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زعدان. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وتدامروا ان يثيروا بصاحبهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 وظنوا أنهم ينتهزون الفرصة، وخرج السلطان عن تونس لأربعين يوما من دخوله ولحق بقسنطينة ودخل ابن أبي عمران إلى تونس فأقام بها ستة أشهر خلال ما احتشد السلطان جموعه واستكمل تعبيته. ونهض من قسنطينة وزحف إليه ابن أبي عمران وهزمه ابن عمر في جموعه. فأوقع السلطان بهم وأثخن فيهم وشرّدهم في النواحي وعاد إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ومضى حمزة لوجهه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن واقعة رغيس مع ابن اللحياني وزناتة وواقعة الشقة مع ابن أبي عمران) لما انهزم حمزة بن عمرو ابن أبي عمران عن تونس مرة بعد أخرى ورأى حمزة ابن أبي عمران غير مغن عنه فصرفه إلى مكان عمله بطرابلس، وبعث إلى أبي ضربة ابن السلطان اللحياني بمكانه من المهديّة فداخله في الصريخ بزناتة والوفود على سلطان بني عبد الواد فرحل معه أبو ضربة ووفدوا على أبي تاشفين صاحب تلمسان ورغّبوه في الظفر ببجاية، وأن يشغل صاحب تونس عن مددها بترديد البعوث وتجهيز العساكر إليه، فسرّح معهم السلطان آلافا من العسكر وعقد عليها لموسى بن علي الكردي صاحب الثغر بتيمرزدكت، وكثير الحاشية والرجالات. وارتحلوا من تلمسان يغذّون السير، وبلغ السلطان خبر فصولهم بتلمسان فبرز للقائهم من تونس في عساكره حتى انتهى إلى رغيس بين بونة وقسنطينة. ولما أطلّت عساكر زناتة والعرب اختل مصاف السلطان، وانهزمت المجنّبات وثبت في القلب وصدق العزيمة واللقاء، فاختلّ مصافّهم وانهزموا في شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وامتلأت أيدي العساكر من أسلابهم والسبايا من نساء زناتة، ومن عليهنّ السلطان وأطلقهنّ. ورجع أبو ضربة وموسى بن علي الكردي في فلّهم إلى تلمسان، وعاد السلطان إلى حضرته لأيام من هزيمتهم. ولقيه الخبر في طريقه باجتماع العرب بنواحي القيروان، فتخطّى الحضرة إليهم ولقيهم بالشقّة، وأوقع بهم ورجع إلى تونس في شوّال من سنة أربع وعشرين. فاتبعه حمزة ومن معه إلى تونس عند ما افترقت العساكر، ومعه إبراهيم بن الشهيد الحفصي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 وسبق إليه بخبرهم عامر أبو علي [1] ابن كثير وسحيم بن [2] فخرج للقائهم من يومه في خفّ من الجنود بعد أن بعث عن عسكر باجة، وقائدها عبد الله العاقل مولاه فصبحه العرب بنواحي شاذلة فقاتلوه صدرها وحمى الوطيس، ووصل عبد الله العاقل والناس متواقفون، واشتدّت الحرب ثم كانت الهزيمة على العرب، واستبيحت حرماتهم وافترقت جموعهم، ورجع السلطان إلى البلد واستقرّ بالحضرة والله تعالى أعلم. (الخبر عن إجلاب حمزة بإبراهيم بن الشهيد وتغلبه على الحضرة) لما انهزم أبو ضربة بن اللحياني وحمزة بن عمر وعساكر بني عبد الواد لحق أبو ضربة بتلمسان فهلك بها، ولقي حمزة بعده من الحروب مع السلطان ما لقي، ويئس الكعوب من غلابه وتذامر والفتنة والإجلاب عليه، فوفد حمزة بن عمر على ابن تاشفين صريحا ومعه طالب بن مهلهل، قرنه في قومه، ومحمد بن مسكين شيخ بني حكيم من أولاد القوس وكلّهم من سليم ومعهم الحاجب ابن القالون، فاستحثّوا عساكره لصريخهم فكتب لهم السلطان كتيبة عقد عليها لموسى بن علي الكردي وأعاده معهم. ونصب لهم لملك تونس من أعياص أبي حفص إبراهيم بن الشهيد منهم، وأبوه الشهيد هو أبو بكر بن أبي الخطّاب عبد الرحمن الّذي نصّب للأمر عند مهلك السلطان أبي عصيدة، وقتله السلطان أبو البقاء خالد كما ذكرناه. وكان أبوهم هذا قد لحق بالعرب ونصّبوه للأمر وأجلبوا به على تونس أثر واقعة رغيس وبرزت إليهم العساكر فانهزموا كما ذكرناه، ولحق بتلمسان وجاء هذا الوفد على أثره فنصبه السلطان أبو تاشفين لهم واستعمل على حجابته محمد بن يحيى بن القالون، وبعث معهم العساكر لنظر موسى بن علي الكردي وزحفوا إلى إفريقية. وخرج السلطان أبو بكر من تونس لمدافعتهم في ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وسبعمائة وانتهى إلى قسنطينة وعاجلوه قبل استكمال التعبية فنزل بساحتها. وأقام موسى بن عليّ على منازلتها بعساكر بني عبد الواد. وتقدّم إبراهيم بن الشهيد وحمزة بن عمر إلى تونس   [1] وفي نسخة أخرى: عامر بن بو علي بن كثير. [2] بياض بالأصل، ولم نستطع تحديد هذا الاسم في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 فدخلها في رجب سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستمكن منها، وعقد على باجة لمحمد بن داود من مشيخة الموحدين وثار عليه في بعض ليالي رمضان بعض بطانة السلطان كانوا بالبلد في غيابات الاختفاء، وكان منهم يوسف بن عامر بن عثمان، وهو ابن أخي عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، وفيهم القائد بلاط من وجوه الترك المرتزقة بالحضرة، وابن حسّان [1] نقيب الشرفاء فاعتدّوا واجتمعوا من جوف الليل وهتفوا بدعوة السلطان وطافوا بالقصبة فامتنعت عليهم، فعمدوا إلى دار كشلي من الترك المرتزقة، وكان بطانة لابن القالون فقاتلوها وامتنعت عليهم. ثم أعجلهم الصباح عن مرامهم وتتبعوا بالقتل، وفرغ من شأنهم، وكان موسى بن علي ومن معه من العساكر لمّا تخلّف عن ابن الشهيد لحصار قسنطينة أقام عليها أياما، ثم أقلع عنها لخمس عشرة ليلة من منازلته ورجع إلى صاحبه بتلمسان. وخرج السلطان من قسنطينة فاستكمل الحشد والتعبية، ونهض إلى تونس فأجفل منها ابن الشهيد وابن القالون، ودخلها السلطان في شوّال سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستولى على دار ملكه، وأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن حصار بجاية وبناء تيمرزدكت وانهزام عساكر السلطان عنها) كان أبو تاشفين منذ خلاله الجوّ وتمكن في الأمر من القوم [2] يلحّ على بجاية بترديد البعوث ومطاولة الحصار، والسلطان أبو بكر يدفع لحمايتها والممانعة دونها من رجالات دولته وعظماء وزرائه الأول، فالأوّل من أهل الكفاية والاضطلاع بما يدفع إليه من ذلك. وسرّب إليهم المدد من الأموال والأسلحة والجنود وتعهّد إليهم بالصبر والثبات في المواطن ونظراؤه من وراء ذلك. وكان أبو تاشفين كلما أحس من السلطان أبي بكر بنهوضه إلى المدافعة عنها، أو عزم على غزو كتائبه المجمّرة عليها رماه بشاغل يوهن من عزمه ويسكّن [3] عنان بطشه. وكان فتنة ابن عمر من أدهى الشواغل في ذلك بما   [1] وفي نسخة أخرى: ابن جسّار. [2] وفي نسخة أخرى: وتمكنت في الأمر منه القدم [3] وفي نسخة أخرى: يمسك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 كان يجنب العرب عن الطاعة، ويجمع الأعراب للإجلاب على الحضرة، وينصّب الأعياص يطمعهم فيما ليس لهم من نيل الخلافة. كان ذلك ديدنا متصلا أزمان تلك المدّة. ولما سرّح أبو تاشفين العساكر سنة خمس وعشرين وسبعمائة إلى إبراهيم بن الشهيد وحمزة بن عمر وأوليائهم من أهل إفريقية، وعقد عليها لموسى بن علي من رجالاته، فنازل قسنطينة ثم أقلع عنها وعاود حصارها سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وشنّ الغارة في نواحيها، واكتسح الأموال ورجع إلى وادي بجاية فاختطّ مدينة بتيكلات على مرحلة منها، وعلى قارعة الطريق الشارع من الغرب إلى الشرق بما كانت بجاية زائغة عنه إلى البحر، فاختطّوا تلك المدينة وشيّدوها وجمعوا الأيدي عليها، وقسّموها مسافات على جيوشهم فاستتمت لأربعين يوما سمّوها تيمرزدكت باسم حصنهم الأقدم بالجبل قبالة وجدة، حيث امتنع يغمراسن على السعيد ونازلة وهلك عليه كما ذكرناه في أخباره. وشحنوا هذه المدينة بالأقوات والعدد وعمّروها بالمقاتلة من الرجل والفرسان والقبائل، وأخذت بمخنق البلد. وقلق السلطان بمكانها فأوعز إلى قوّاد عساكره وأصحاب عمالاته من مواليه وصنائعه أن يفرّوا بعساكرهم إلى صاحب الثغر محمد بن سيّد الناس ويزحفوا معه إلى هذا البلد المخروب، ويستميتوا دون تخريبه، فنهض ظافر الكبير من قسنطينة وعبد الله العاقل من هوّارة وظافر السنان من بونة، وتوافر ببجاية سنة سبع وعشرين وسبعمائة وبلغ موسى بن علي خبرهم فاستنفر من عساكر بني عبد الواد، وخرجت العساكر جميعا من بجاية تحت لواء ابن سيّد الناس. وزحف إلى العدوّ بمحلّهم من تيكلات فكانت الدبرة عليه وعلى أصحابه، وقتل ظافر الكبير ورجع فلّهم إلى بجاية. وداخلت ابن سيّد الناس فيهم الظنّة كما تداخل موسى بن علي ابن زبون كل واحد منهما بصاحبه على سلطانه [1] . فمنعهم من دخول البلد ليلتئذ وأسحروا قافلين إلى أعمالهم، وعقد السلطان على قسنطينة لأبي القاسم بن عبد العزيز أياما. ثم استقدمه إلى الحضرة ليستعين به محمد بن عبد العزيز المزوار في خطة حجابته بما كان غفلا من الأدوات التي تحتاج إليها الحجابة. وعقد على حجابة الأمير أبي عبد الله بقسنطينة لمولاه ظافر السنان إلى أن كان من تحويل شأنه ما نذكره أهـ.   [1] وفي نسخة أخرى: بما كان يداخل موسى بن عيسى في الزبون كل واحد منهما لصاحبه على سلطانه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 (الخبر عن مهلك الحاجب المزوار وولاية ابن سيد الناس مكانه ومقتل ابن القالون) هذا الرجل محمد بن القالون المعروف بالمزوار، لا أدري من أوّليته أكثر من أنه كرديّ من الأكراد الذين وفد رؤساؤهم على ملوك المغرب أيام أجلاهم التتر عن أوطانهم بشهرزور عند تغلّبهم على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، فمنهم من أقام بتونس، ومنهم من تقدّم إلى المغرب فنزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن جوارهم. وصار قوم منهم إلى بني مرين وآخرون إلى بني عبد الواد حسبما يذكر في أخبارهم. ومن المقيمين بالحضرة كان سلف ابن عبد العزيز هذا إلى أن نشأ هو في دولة الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغور الغربية، وتحت كنف من اصطناعه. واختلط بأبنائه وقدم في جملة ابنه السلطان أبي بكر إلى تونس مقدّما في بطانته ورئيسا على الحاشية المتسمين بالدخلة، وكان يعرف لذلك بالمزوار. وكان شهما وقورا متديّنا وله في الدولة حظ من الظهور، وهو الّذي تولى كبر السعاية في الحاجب بن القالون حتى ارتاب بمكانه. ووفد إلى أبي عمران سنة إحدى وعشرين وسبعمائة كما قدّمناه. وولّاه السلطان الحجابة مكانه فقام بها مستعينا بالكاتب أبي القاسم بن عبد العزيز لخلوّة هو من الأدوات. وإنما كان شجاعا ذا همة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك في شعبان سنة سبع وعشرين وسبعمائة وأراد السلطان على الحجابة محمد بن خلدون جدّنا الأقرب فأبى، ورغب في الإقالة فأجيب جنوحا لما كان بسبيله منذ سنين من الصاغية في السكون والفرار من الرتب. وأشار على السلطان بصاحب الثغر محمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس لتقدمة سلفه مع سلف السلطان، وكثرة تابعه وخاشيته وقوّة شكيمته في الاضطلاع بما يدفع إليه. أخبرني بهذا الخبر أبي رحمه الله وصاحبنا محمد بن منصور بن مزني، قال لي: حضرت لاستدعاء جدّكم إلى معسكر السلطان بباجة يوم مهلك المزوار، وأدخله السلطان إلى رواقه، وغاب مليّا ثم خرج وقد استفاض بين البطانة والحاشية أنه دعي إلى الخطة فاستنكرها، وأقام السلطان يومئذ في خطة الحجابة الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم، واستقدم خالصته محمد ابن حاجب أبيه أبي الحسين ابن سيّد الناس، فقدم في محرّم فاتح ثمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 وعشرين وسبعمائة وولّاه حجابته فاضطلع بها، وجدّد له العقد على بجاية وحجابة ابنه بها، فدفع إليها للنيابة عنه في الحجابة صنيعته محمد بن فرحون، ومعه كاتبه أبو القاسم بن المريد. وجرى الحال على ذلك ببجاية وعساكر زناتة تجوس خلالها ومعاقلهم تأخذ بمخنقها. وقدم ابن القالون دوين مقدّم ابن سيّد الناس بشفاعة من نزيله علي بن أحمد سيد الزواودة، وطمع في عوده إلى الخطّة. وكان من خبره أنه لما تخلف عن السلطان بتونس في خدمة ابن أبي عمران رأى ركوب السفن إلى الأندلس، فأعجلهم السلطان عن ذلك وخرج ابن أبي عمران فأجلب معه على الحضرة مرارا، ولحق بتلمسان. ثم جاء مع ابن الشهيد وفعل الأفاعيل، ثم انحلّ أمر ابن الشهيد، ولحق هو بالزواودة من رياح. ونزل على عليّ ابن أحمد رئيسهم لذلك العهد فأجاره وأنزله بطولقة من بلاد الزاب، وخاطب السلطان في شأنه واقتضى له الأمان حتى أسعف ووفد على الحضرة مع أخيه موسى بن أحمد، وفي نفس ابن القالون طمع في الخطة. وسبقه ابن سيّد الناس إلى السلطان فأشغل بها. وجاء ابن القالون من بعده فأوصله السلطان إلى نفسه، واعتذر إليه ووعده وعقد له على قفصة فسار إليها وصحب موالي السلطان من المعلوجين بشهير وفارح [1] وأوعز ابن سيّد الناس إلى مشيخة قفصة يتقبّضون على حاميته ليتمكن الموالي منه. فلما نزل بساحة البلد دخل كشلي من جند الترك المرتزقة كان في جملته منذ أيام حجابته وكان يستظهر بمكانه. فلما دخل إلى البلد قتل في سككها فكانت لقتله هيعة تسامع الناس بعظمها [2] من خارج البلد، وبرز ابن القالون من فسطاطه وقد كرّ [3] فتقدّم إليه الموالي الذين جاءوا معه وتناولوه طعنا بالخناجر إلى أن هلك. والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن ولاية الفضل على بونة) كان السلطان عقد على بونة منذ أوّل دولته لمولاه مسرور المعلوجي فقام بأمرها فاضطلع   [1] وفي نسخة أخرى: المعلوجي بشير وفارح. [2] وفي نسخة أخرى: لغطها. [3] وفي نسخة أخرى: وقد جث للرعب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 بولايتها، وكان من الغلظة ومراس الحروب بمكان. وكان مع ذلك غشوما جبارا وخرج إلى ولهاصة سنة [1] فاضطرّهم ونهضوا إلى مدافعته عن أموالهم فحاربهم. وبلغ خبر مهلكه إلى السلطان فعقد على بونة لابنه أبي العبّاس الفضل، وبعثه إليها. وولّى على حجابته وقيادة عسكره ظافر السنان من مواليه المعلوجين [2] فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام إلى أن كان من أمرهم ما نذكره. (الخبر عن واقعة الرياس وما كان قبلها من مقتل الأمير أبي فارس أخي السلطان) كان السلطان أبو بكر لما قدم إلى تونس قدم معه إخوته الثلاثة محمد وعبد العزيز وعبد الرحمن، وهلك عبد الرحمن منهم وبقي الآخران. وكانا في ظلّ ظليل من النعمة، وحظ كبير من المساهمة في الجاه. وكان في نفس الأمير أبي فارس تشوّق إلى نيل الرتبة وتربّص بالدولة. وكان عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من فحول بني مرين وأعياص ملكهم قدم على الحضرة نازعا إليها من الأندلس، فنزل على ابن عمر ببجاية قبيل مهلكه سنة ثمان عشر وسبعمائة ثم لحق بالسلطان فلقاه مبرّة ورحبا، ووفّر حظّه وحظ حاشيته من الجرايات والاقطاع، وجعل له أن يستركب ويستلحق، وكان يستظهر به في مواقف حروبه، ويتجمل في المشاهد بحركاته [3] بما كان سيّدا في قومه. وكان قد انعقدت له بيعة على أهل وطنه، وكانت فيه غلظة وأنفة وإباء. وغدا في بعض أيامه على الحاجب بن سيّد الناس فتلقّاه الإذن بالعذر [4] ، فذهب مغاضبا، ومرّ بدار الأمير أبي فارس فحمله على ذات صدره من الخروج والثورة، وخرجا من يومهما في ربيع سنة سبع وعشرين وسبعمائة ومرّا ببعض أحياء العرب فاعترضهما أمير الحيّ فعرض عليهما النزول، فأمّا عبد الحق فأبى وذهب لوجهه إلى أن لحق بتلمسان، وأمّا الأمير أبو فارس فأجاب ونزل، وطيّروا بالخبر إلى السلطان   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى المعلوجي. [3] وفي نسخة أخرى: بمكانه من سريره. [4] وفي نسخة أخرى: الإذن بالغدر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 فسرّح لوقته محمد بن الحكيم من صنائعه وقوّاد دولته في طائفة من العسكر والنصارى، فصبحوه في الحيّ وأحاطوا ببيت نزله فامتنع من الإلقاء باليد، ودافع عن نفسه مستميتا فقتلوه قعصا [1] بالرماح، وجاءوا بشلوه إلى الحضرة فدفن بها. ونزل عبد الحق بن عثمان على أبي تاشفين حين نزل، ورغّبه فيما كان بسبيله من مطالبة الدولة الحفصيّة وتدويخ ممالكها، ووفد على أثر، حمزة بن عمر ورجالات سليم صريحا على عادتهم. فأجاب أبو تاشفين صريخهم ونصب لهم محمد بن أبي عمران وكان من خبره أنه تركه السلطان اللحياني عاملا على طرابلس. فلما انهزم أبو ضربة وانحلّ أمره استقدمه العرب وأجلبوا به على الحضرة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فملكها ستة أشهر. ثم أجفل عنها عند رجوع السلطان إليها، ولحق بطرابلس إلى أن انتقض عليه أهلها سنة أربع وعشرين وسبعمائة وثاروا به وأخرجوه فلحق بالعرب وأجلبوا به على السلطان مرارا ينهزمون عنه في كلها. ثم لحق بتلمسان واستقرّ بها عند أبي تاشفين في خير جوار وكرامة وجراية إلى أن وصل هذا الوفد إليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة فنصبه للأمر بإفريقية. وأمدّهم بالعساكر من زناتة. عقد عليهم ليحيى بن موسى من بطانته وصنائع أبيه. ورجع معهم عبد الحق بن عثمان بمن في جملته من بنيه وعشيرته ومواليه وحاشيته. وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة، فنهضوا جميعا إلى تونس فزحف السلطان للقائهم وتراءى الجمعان بالرياس من نواحي هوّارة آخر سنة تسع وعشرين [2] وسبعمائة، فدارت الحرب واختل مصاف السلطان، وفلّت جموعه. وأحيط به فأفلت بعد عصب الريق، وأصابته في حومة الحرب جراحة وهن لها، وقتل كثير من بطانته وحاشيته، كان من أشهرهم محمد المديوني. وانتهب المعسكر وتقبّض على أحمد وعمر ابني السلطان فاحتملا إلى تونس [3] حتى أطلقهما أبو تاشفين بعد ذلك في مراسلة وقعت بينه وبين السلطان فاتحه فيها أبو تاشفين، وجنح إلى السلم وأطلق الابنين ولم يتمّ شأن الصلح من بعد ذلك. وتقدّم ابن أبي عمران بعد الواقعة إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاثين وسبعمائة واستبدّ عليه يحيى بن موسى قائد بني عبد الواد، وحجب التصرّف   [1] قوصا: أي قتله في مكانه، أجهز عليه. [2] وفي نسخة أخرى: سبع وعشرين. [3] وفي نسخة أخرى: تلمسان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 في شيء من أمره، ثم عاد يحيى بن موسى إلى سلطانه. ونهض السلطان أبو بكر من قسنطينة إلى تونس بعد أن استكمل الحشد والتعبية، فأجفل ابن أبي عمران عنها، ودخل إليها السلطان في رجب من سنته إلى أن كان ما نذكره. (الخبر عن مراسلة ملك المغرب في الاستجاشة على بني عبد الواد وما يتبع ذلك من المصاهرة) كان السلطان أبو بكر لما خلص من واقعة الرياس نجا إلى بونة، وركب منها البحر إلى بجاية، وقد ضاق ذرعه بإلحاح بني عبد الواد على ممالكه وتجهيز الكتائب على ثغره وترديد البعوث إلى وطنه، فأعمل نظره في الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد ليذكره ما بين سلفه وسلفهم من السابقة، وما لهم عند بني عبد الواد من الأوتار والإحف، ليبعث بذلك دواعيهم على مطالبة بني عبد الواد: فيأخذ بحجزتهم عنه. ثم عيّن للوفادة عليه ابنه الأمير أبا زكريا، وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحّدين لسانا لخطابه ونجيا لشوراه. وركبوا البحر من بجاية فنزلوا بمرسى غساسة، واهتز صاحب المغرب لقدومه وأكرم وفادته واستبلغ في القرى والاجارة، وأجاب دعاءهم إلى محاربة عدوّهم وعدوّه على شريطة اجتماع اليد عليها وموافاة السلطان أبي سعيد والسلطان أبي يحيى بعساكرهما تلمسان لموعد ضربوه لذلك. وكان السلطان أبو سعيد بعث سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يحيى الرنداحي [1] قائد الأسطول بسبتة إلى مولانا السلطان أبي بكر في الإصهار على إحدى كرائمه، وشغل عن ذلك بما وقع من شأن ابن أبي عمران. فلما وفد عليه ابن السلطان وأولياؤه أعاد الحديث في ذلك، وعين للنيابة عنه في الخطبة من السلطان إبراهيم بن أبي حاتم العزفي وصرفه مع الوفد، فوافوا السلطان بتونس آخر سنة ثلاثين وسبعمائة وقد طرد عدوّه وشفى نفسه، فجاءوه بأمنيته من حركة صاحب المغرب على تلمسان. وخطب منه إبراهيم للأمير أبي الحسن ابن السلطان أبي سعيد، فعقد على ابنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكريا السفير إليهم وزفّها إليه في أساطيله سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وأنفذ   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الزنداجي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 لزفافها من مشيخة الموحدين أبا القاسم بن عتو ومحمد بن سليمان الناسك، وقد مرّ ذكره، فنزلت على وثير من الغبطة والعزّ، وكان الشأن في مهرها وزفافها ومشاهد أعراسها وولائمها وجهازها كله من المفاخر للدولتين، ولم يزل مذكورا على الأيام. (الخبر عن حركة السلطان الى المغرب وفرار بني عبد الواد وتخريب تيمرزدكت) مات السلطان أبو سعيد على تفيئة ما قدّمناه من الأخبار آخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وولي السلطان أبو الحسن من بعده فبعث إلى أبي تاشفين يخاطبه في الغض عن عنان عيثه ببلاد الموحدين وطغيانه عليها، فلج واستكبر وأساء الردّ، فنهض إليه على سبيل الصريخ لهم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وطوى البلاد طيا إلى تلمسان، وأفرجت عساكرهم عن بجاية إلى سلطانهم. وتقدّم السلطان أبو الحسن عن تلمسان لمشارفة أحوال بجاية والأخذ بحجزة العدوّ لمحاصرتها وبعث عسكرا من قومه مددا لهم عقد عليهم لمحمد البطوي، وأركبهم أساطيله من سواحل وهران فدخلوا إليها وقوبلوا بما يناسبهم من الكرامة والجراية. واستنهض السلطان أبو الحسن أبا بكر لحصار تلمسان معه كما كان الشرط بين أبيه وبين ابنه الأمير أبي زكريا، فشرع السلطان في جهاز حركته وإزاحة علله. وأقام السلطان أبو الحسن في تاسالة في انتظاره شهرا حتى انصرف فصل الشتاء. وبلغه بمعسكره من تاسالة أنّ أخاه السلطان أبا علي صاحب سجلماسة انتقض عليه وخرج إلى درعة، فقتل عامله عليها بعد أن كان داخله وعقد له على المهادنة والتجافي عنه بمكانه من سجلماسة. فلما بلغه هذا الخبر كرّ راجعا إلى المغرب لإصلاح شأنه. وكان السلطان أبو بكر قد خرج من تونس واحتفل في الحشد والتعبية فانتهى إلى بجاية وبعث مقدّماته إلى ثغور بني عبد الواد المحيطة ببجاية فهزموا كتائبها. ثم زحف بجملته إلى تيمرزدكت، وفرّت عنها الكتائب المجهّزة [1] بها، فأناخ عليها حتى خرّبها وانتهب أموالها وأسلحتها، ونسف آثارها وقفل عنها إلى بلد المسيلة أختها في الغيّ، وموطن أولاد سبّاع بن يحيى من الزواودة، كانت   [1] وفي نسخة أخرى: المجمّرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 مشيختهم سليمان ويحيى ابنا علي بن سباع وعثمان بن سبّاع عمهم وابنه سعيد، قد تمسكوا بطاعة أبي تاشفين وحملوا عليها قومهم، ونهجوا لعساكره السبيل إلى وطء بلاد الموحدين والعيث فيها ومجاذبة حبلها. وأقطعهم أبو تاشفين بلاد المسيلة وجبال مشنان ووانوغة وجبل عياض فأصاروها من أعمالها، فلما شرّد السلطان عساكرهم عن بجاية وهدم ثغرهم عليها واسترجع أعمال بجاية إليها سار بجموعه إلى هذا الوطن ليسترجع أعماله ويجدّد به دعوته. وزاد في إغرائه بذلك علي بن أحمد كبير أولاد محمد لقتال أولاد سبّاع هؤلاء ونظرائهم وأهل أوتارهم ودخولهم، فارتحل غازيا إلى المسيلة حتى نزلها، واصطلم نعمها وخرّب أسوارها، وبلغه بمكانه منها شأن عبد الواحد ابن السلطان اللحياني واجلابه على تونس، وكان من خبره أنه قدم من المشرق بعد مهلك أبيه السلطان أبي يحيى زكريا سنة تسع وعشرين وسبعمائة فنزل على دباب وبايع له عبد الملك بن مكي رئيس المشيخة بقابس، وتسامع به الناس وإفريقية شاغرة من الحامية والعساكر لنهوضهم مع السلطان، فاغتنم حمزة بن عمر الفرصة، واستقدمه فبايع له ورحل به إلى الحضرة، فنزل بساحتها، ودخل عبد الواحد بن اللحياني بصحابة ابن مكي إلى البلد فأقاموا بها ريثما بلغ الخبر إلى السلطان، فقفل من الحضرة وبعث في مقدّمته محمد بن البطوي من بطانته في عسكر اختارهم لذلك، فأجفل ابن اللحياني وجموعه عن تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم، ودخل البطوي إليها وجاء السلطان على أثره أيام عيد الفطر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. (الخبر عن نكبة الحاجب ابن سيد الناس وولاية ابن عبد العزيز وابن عبد الحكم من بعده) قد قدّمنا أوّلية هذا الرجل وأنّ أباه الحسن كان حاجبا للأمير أبي زكريا ببجاية. ولما هلك سنة تسعين وستمائة خلف ابنه محمدا هذا في كفالة السلطان ومرعى نعمته، فاشتمل كرسيهم [1] عليه وآواه إلى حجره وأرضهم مع الكثير من بنيه، ونشأ في   [1] وفي نسخة أخرى: قصرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 كنفه. وكان الحجاب للدولة من بعد أبيه مثل ابن أبي حيّ والرخامي صنائع لأبيه فكانوا يعرفون حقه ويؤثرونه على أنفسهم في التجلّة. ولم يدرأ في سنّ الرجولية والسعي في المجد إلا أيام ابن عمر آخرهم، فكان له منه مكان حتى إذا ارتحل السلطان أبو يحيى إلى قسنطينة لطلب تونس، وجهّز له ابن عمر الآلات والعساكر، وأقام له الحجّاب والوزراء والقوّاد، كان فيمن سرّح معه محمد بن سيد الناس قائدا على عسكر من عساكره. وكان سفيرا للسلطان فكانت له عنده أثره واختصاص، وعقد له من بعد مهلك ابن عمر على بجاية لما عزل عنها ابن القالون كما قدّمناه، فاستبدّ بها على السلطان وحماها دون عساكر زناتة، ودفع في صدورهم عنها وكان له في ذلك كلّه مقامات مذكورة. وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي بن زبون مداخلة [1] كل واحد منهما في مكان صاحبه على سلطانه، وفطن لأمرهما. فأما أبو تاشفين فنكب موسى بن علي كما نذكره في أخباره، وأما السلطان أبو بكر فأغضى لابن سيّد الناس عنها. ثم استدعاه وقلّده حجابته سنة سبع وعشرين وسبعمائة كما قدّمناه، واستخلف على مكانه ببجاية صنيعته محمد بن فرحون وأحمد بن مزيد للقيام بما كان يتولاه من مدافعة العدوّ وكفالة الأمير أبي زكريا ابن السلطان. وقدم هو على السلطان وأسكنه بقصور ملكه، وفوّض إليه أمور سلطانه، تفويض الاستقلال، فجرى في طلق الاستبداد عليه وأرخى له السلطان حبل الإمهال واعتدّ عليه فلتات الدالة على ما كانت الظنون ترجم فيه بالمداهنة في شأن العدوّ والزبون على مولاه باستغلاظهم. وأمهله السلطان لمكانه من حماية ثغر بجاية والاشتغال [2] به دونه، حتى إذا تجلّت غمامتهم، وأطلّ أبو الحسن عليهم من مرقبه ونهض السلطان أبو بكر إلى بجاية وخرّب تيمرزدكت، فأغراه البطانة حينئذ بالحاجب محمد بن سيّد الناس، وتنبه له السلطان فأحفظ له استبداده وتقبّض عليه مرجعه من هذه الحركة في ربيع سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واعتقله. ثم امتحنه بأنواع العذاب لاستخراج المال منه فلم ينبس بقطرة، وما زال يستغيث ويتوسّل بسوابقه من الرضاع والمربى، وسوابق أبيه عند سلفه حتى لدغه العذاب فأفحش، ونال من السلطان وأقذع فقتل   [1] وفي نسخة أخرى: وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي مداخلة في زبون. [2] وفي نسخة أخرى: من حماية الثغر ببجاية والاستقلال به دونه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 شدخا بالعصي وجرّ شلوه فأحرق خارج الحضرة وعفا رسمه كأن لم يكن، وإلى الله عاقبة الأمور. ولما تقبّض السلطان على ابن سيّد الناس ومحا أثر استبداده قلّد حجابته الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز، وقد كان قدم من الحج عند مبايعة ابن مكي لعبد الواحد بن اللحياني فلحق بالسلطان في طريقه إلى تيمرزدكت، فلم يزل معه إلى أن دخل حضرته، وتقبض على ابن سيّد الناس فولّاه الحجابة، وكان مضعّفا لا يقوم بالحرب، فعقد السلطان على الحرب والتدبير لصنيعته وكبير بطانته يومئذ محمد بن الحكيم وفوّض له فيما وراء الحضرة، وهو محمد بن علي بن محمد بن حمزة بن إبراهيم بن أحمد اللخمي، ونسبه في بني العز في الرؤساء بسبتة. وجدّه أحمد هو أبو العبّاس المذكور بالعلم والدين والرأي ابن القاسم [1] المستقل برياسة سبتة من بعد الموحدين، وكان من خبر أوّليته فيما حدّثني به محمد بن يحيى بن أبي طالب العزفي آخر رؤساء العزفيين بسبتة، والمنقضي أمرهم بها بانقضاء رياسته، وحدّثني أيضا بها حسين ابن عمه عبد الرحمن بن أبي طالب، وحدّثني بها أيضا الثقة عن إبراهيم ابن عمهما أبي حاتم قالوا جميعا: إنّ أبا القاسم العزفي كان له أخ يسمّى إبراهيم، وكان مسرفا على نفسه وأصاب دما في سبتة، وحلف أخوه أبو القاسم ليقتادنّ منه، ففرّ ولحق بديار المشرق. هذا آخر خبرهم. وأنّ محمدا هذا من بنيه. وبقية الخبر عن أهل هذا البيت من سراتهم أنّ إبراهيم أنجب محمدا، وأنجب محمد حمزة، ثم أنجب حمزة عليا فكلف بالقراءة واستظهر علم الطبّ في إيالة السلطان أبي بكر [2] بالثغور الغربية وأصاب السلطان وجع في بعض أزمانه وأعياه دواؤه فجمع له الأطباء وكان فيهم عليّ هذا فحدس على المرض وأحسن المداواة، فوقع من السلطان أحسن المواقع واستخلصه لنفسه وخلطه بخاصته وأهل خلوته، وصار له من الدولة مكان لا يجاريه أحد فيه. وكان يدعى في الدولة بالحكيم وبه عرف ابنه من بعده، وأصهر إلى أحد بيوت قسنطينة فزوّجوه وخلط أهله بحرم السلطان. وولد له محمد ابنه بقصره، ورضع مع الأمير أبي بكر ابنه، ونشأ في حجر الدولة وكفالتها على أحسن الوجوه من   [1] وفي نسخة أخرى: والد أبي القاسم. [2] وفي نسخة أخرى: أبي زكريا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 تربيتها. ولما بلغ الحدّ وصرف إليه رئيس الدولة يعقوب بن عمر وجه إقباله واختصاصه، فكان له منه مكان أكسبه ترشيحا للرئاسة فيما بعد من بين خواص السلطان وخلصائه. ولما نهض السلطان إلى إفريقية قلّده قيادة بعض العساكر، ثم عقد له بعد مهلك ابن عمر على عمل باجة حين رقى ابن سيّد الناس عنها إلى بجاية، وكان عمل باجة من أعظم الولايات في الدولة فأضطلع به، ثم لما آمر السلطان بطانته في نكبة ابن سيّد الناس دفعه لذلك، فولي القبض عليه كمن له في عصبة من البطانة في بعض الحجر من رياض رأس الطابية. واستدعى ابن سيّد الناس إلى السلطان ومرّ بمكانهم، فلما انتهى إليهم توثّبوا به وشدّوه كتافا وتلّوه إلى محبسه بالبرج المعدّ لعقاب أمثاله بالقصبة. وتولّى ابن الحكيم من امتحانه وعذابه ما ذكرناه إلى أن هلك، وعقد له السلطان مكانه على الحرب والتدبير من خططه، وفوّض إليه فيما وراء الحضرة كما قلناه. وجعل تنفيذ الأموال والكتب على الأوامر لابن عبد العزيز، فكان عدله في حمل الدولة، إلا أنّ ابن عبد الحكيم كان أشفّ فيه لما كان إليه من التدبير في الحرب والرئاسة على الكتابة، لرياسة السيف على القلم فاضطلع برياسته وأحسن الغناء والولاية إلى أن كان من خبره وخبر الدولة ما نذكر. (الخبر عن فتح قفصة وولاية الأمير أبي العباس عليها) كان أهل الجريد منذ تقلّص عنهم ظل الدولة عند انقسام الملك بين الثغور الغربية والحضرة وما إليها، وصار أمرهم إلى الشورى من المشيخة إلا في الأحايين يؤمّلون الاستبداد كما كانوا عليه من قبل الموحدين، فقدم عبد المؤمن إلى إفريقية وبنو الرند على قفصة وقسنطينة [1] ، وابن واطاس على توزر، وابن مطروح على طرابلس فأمّلوا فتكها [2] ، وشغل مولانا السلطان أبو بكر عنهم بعد استقلاله بالأمر وانفراده بالدعوة الحفصية شأن الفتنة مع آل يغمراسن بن زيّان واجلاب عساكرهم مع حمزة   [1] وفي نسخة أخرى: قسطيلية. [2] وفي نسخة أخرى: مثلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 ابن عمر على أوطانه. حتى إذا أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم وأطل عليهم من مراقبة فعادوا إلى أوكارهم بعد أن استبدّوا [1] ، وتنفّس مخنق الثغور الغربية من حصارهم، وزال عن كاهل الدولة إصر معاناتهم وسكن اضطراب الخوارج على الدولة خفتت أصوات المرجفين في ممالكها، وصرف السلطان نظره في أعطاف ملكه ومحو الشقاق من سائر أعماله، وسمت همّته إلى تدويخ القاصية من بلاد الجريد واستنقاذ أهلها من أيدي الذئاب الغاوية والكلاب العاوية زعماء أمصارها وأعراب فلاتها، فنهض إلى قفصة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وقد كان استبدّ بشوراها يحيى ابن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد الشريدي من بيوتاتها، فنازلها أياما والعساكر تلجّ عليها بأنواع القتال، ونصب عليها المجانيق فامتنعوا. ثم جمع الأيدي حتى قطع تحيّلهم وامتناع صرائحهم [2] فنادوا بالأمان فأمّنهم. وخرج إليه ابن عبد الجليل رئيسهم الآخر من سنته، فأشخصه إلى الحضرة وأنزله بها ورجالات من قومه بني العابد. وفرّ سائرهم إلى قابس فنزل في جوار ابن مكي ودخل أهل البلد في حكمه، وتفيئوا بعد أن كانوا ضاحين من الملك كله فأحسن التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم. وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم بالإسهام والإقطاع وتجديد ما بأيديهم من المكتوبات السلطانية. ثم آثرهم بسكنى بلده المخصوص بعديد لعهد الأمير أبي العبّاس، وأنزله بين ظهرانيهم وأوصاه بهم، وعقد له على قسنطينة وما إليها. وجعل معه على حجابته أبا القاسم ابن عتو من مشيخة الموحدين، وقفل إلى حضرته فدخلها في رمضان من سنته، والله أعلم. (الخبر عن ولاية الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد سوسة ثم اضافة المهدية اليهما) لما نكب السلطان حاجبه ابن سيّد الناس، وولّى محمد بن فرحون على حجابة ابنه الأمير أبي زكريا، وقرب [3] ذلك ما نزل بآل يغمراسن من عدوّهم وتفرغ السلطان   [1] وفي نسخة أخرى: بعد أن اسفوا. [2] هكذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حتى قطع نخيلهم وإقلاع شجرائهم. [3] وفي نسخة أخرى: وقارن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 للنظر في ملكه وتمهيد أحواله، وأن يرسي قواعد أعماله بنجباء أبنائه. فعقد على سوسة والبلاد الساحلية لولديه الأميرين عزوز وخالد شريكين في الأمر، وأنزلهما بسوسة، وأنزل معهما محمد بن طاهر من صنائع الدولة ومن بيوت أهل الأندلس القادمين في الجالية، ورياسة سلفهم بمرسية معروفة في أخبار الطوائف. وكان أخوه أبو القاسم صاحب الأشغال بالحضرة فأقاما كذلك. ثم هلك محمد بن طاهر فاستقدم السلطان محمد بن فرحون من بجاية معه باستبداد ابنه وأن يولّي من شاء على حجابته وأنزل ابن فرحون مع هذين الأميرين لصغرهما سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. ثم استدعاه الأمير أبو زكريا فرجع إليه وأقام هذان الأميران بسوسة حتى إذا نكب السلطان قائده محمد بن الحكيم واستنزل قريبه محمد بن الزكزاك [1] من المهدية كان أنزله بها ابن الحكيم لما افتتحها من يد المتغلب عليها من أهل رجيس، ويعرف بابن عبد الغفّار سنة [2] واتخذها حسنا لنفسه، وأنزل بها قريبه هذا وشحنها بالعدد والأقوات فلم يغن عنه. ولما هلك استنزل ابن الزكزاك وبعث السلطان عليهما ابنه الأمير أبا البقاء، وأفرد الأمير أبا فارس بولاية سوسة فأقاما كذلك إلى أن كان من خبر مهلكهما ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن ولاية الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة من الأبناء وولاية بنيه من بعده) كان الأمير أبو عبد الله مخصوصا من أبيه من بين ولده بالأثرة والعناية قد صرف إليه إقباله وأوقع [3] عليه محبته لما كان يتوسم في شواهده من الترشيح، وما تحلّى به من خلال الملك. وكان الناس يعرفون له حق ذلك. وذلك أنّ ابن عمر كان مستبدّا بالثغور الغربية ببجاية وقسنطينة ومدافعا عنها العدو من زناتة المطالبين لها. فلما هلك ابن عمر سنة تسع عشرة وسبعمائة كما قدّمناه صرف السلطان نظره إلى ثغوره، فعقد   [1] وفي نسخة أخرى: محمد بن الركراك. [2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا. [3] وفي نسخة أخرى: وألقى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا وعقد على حجابته لابن القالون وسرّحه معه لمدافعة العدوّ، وعقد على قسنطينة للأمير أبي عبد الله ومعه أحمد بن ياسين. وخرجوا جميعا من تونس سنة عشرين وسبعمائة ونزل كل بعمله. وقدّم ظافر الكبير من الغرب فولّاه السلطان حجابة ابنه بقسنطينة وأنزله بها إلى أن هلك سنة سبع وعشرين وسبعمائة على تيمرزدكت كما ذكرناه، فجاء لحجابته من تونس أبو القاسم بن عبد العزيز الكاتب فأقام أربعين يوما. ثم رجع إلى الحضرة وأضاف السلطان حجابة قسنطينة لابن سيّد الناس إلى حجابة بجاية، وبعث إليها نائبا عنه مولاه هلالا النازع إليه عن موسى بن علي قائد بني عبد الواد فقام بخدمة الأمير أبي عبد الله إلى أن كانت نكبة ابن سيّد الناس عند ما بلغ الأمير أبا عبد الله أثره [1] وجرى في طلق استبداده ففوّض له في عمله السلطان وأطلق من عنانه، وكان يؤامره في شأنه ويناجيه في خلوته. وأنزل معه بقسنطينة نبيلا من المعلوجين يقيم له رسم الحجابة. ثم استدعى ظافر السنان من تونس سنة أربع وثلاثين وسبعمائة لقيادة الأعنّة والحرب، فقدم لذلك وأقام سنة ونصفها. ثم رجع وقام نبيل لحجابته كما كان ودفع يعيش بن [2] من صنائع الدولة لقيادة العساكر وحماية الأوطان فقاسمه لذلك مراسم الخدمة ورتب الدولة واستمرّت حال الأمير أبي عبد الله على ذلك والأيام تزيده ظهورا ومساعيه الملوكية تكسبه جلالا وترشيحا إلى أن أسقط [3] دون غايته واغتاله الأجل عن مداه، فهلك رضوان الله عليه آخر سبع وثلاثين وسبعمائة وقام بأمره من بعده كبير بنيه الأمير أبو زيد عبد الرحمن، فعقد له السلطان أبو بكر على عمل أبيه لنظر نبيل مولاهم لمكان صغره، واستمرّت حالهم على ذلك إلى آخر الدولة، وكان من أمره ما نذكر بعد والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: عند ما بلغ الأمير أبو عبد الله أشده. [2] بياض بالأصل ولم نعثر على هذا الاسم في المراجع التي بين أيدينا. [3] وفي نسخة أخرى: اغتبط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 (الخبر عن شأن العرب ومهلك حمزة ثم إجلاب بنيه على الحضرة وانهزامهم ومقتل معزوز بن همر وما قارن ذلك من الأحداث) لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان وأعمالها، وقطع دابر آل زيّان واجتثّ أصلهم وجمع كلمة زناتة على طاعته، واستتبعهم عصابة تحت لوائه، ودانت القبائل بالانقياد له ورجفت القلوب لرعبه، ووفد عليه حمزة بن عمر يرغّبه في ممالك إفريقية ويستحثّه لها ديدنه مع أبي تاشفين من قبله، فكفّ بالبأس من غلوائه، وزجره عن خلافه على السلطان وشقاقه. ونهج له بالشفاعة سبيلا إلى معاودة طاعته والعمل بمرضاته، فرجع حمزة إلى السلطان عائذا بحلمه متوسّلا بشفاعة صاحبه راغبا بإذعانه، وقلعه مواد [1] الخلاف من العرب باستقامته فتلقّاه السلطان بالقبول وأسعاف الرغبة والجزاء على المناصحة والمخالصة. ولم يزل حمزة بن عمر من لدن رضى مولانا السلطان عنه وإقباله عليه صحيح الطاعة خالص الطوية مناديا بمظاهرة محمد بن الحكيم قائد عسكره [2] ، وشهاب دولته على تدويخ إفريقية وتدويخ أعمالها وحسم أدواء الفساد منها. وأخذ الصدقة من جميع ظواعن البدو الناجعة في أقطارها، وجمع الطوائف المتعاصين بالثغور على إلقاء اليد للطاعة والكفّ عن أموال الجباية فكانت لهذا القائد آثار لذلك مهّدت من الدولة وأرغمت أنوف المتعاصين بالاستبداد [3] في القاصية حتى استقام الأمر وانمحت آثار الشقاق فاستولى على المهديّة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وغلب عليها ابن عبد الغفّار المنتزي عليها من أهل رحيش [4] واستولى على تبسة وتقبّض على صاحبها محمد بن عبدون من مشيختها وأودعه سجن المهديّة إلى أن أطلق   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زعيما باذعانه وقطع مواد. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: قائد حربه. [3] وفي نسخة أخرى: المتعاطين للاستبداد. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى رجيس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 بعد نكبته، ونازل توزر من بعد ذلك حتى استقام ابن بهلول على طاعته للعصبية، واسترهن ولده، ونازل بسكرة غير مرّة يدافعه يوسف بن منصور من بني مزني بذمّة يدّعيها من السلطان أبي بكر وسلفه. ويعطيه الجباية بدفع ما كان من الاعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن فتجافى عنه ابن الحكيم لذلك بعد استيفاء مغارمه، وزحف إلى بلاد ريغة [1] فافتتح قاعدتها تغرت واستولى على أموالها وذخيرتها وسار إلى جبل أوراس فافتتح الكثير من معاقلة. وعصفت ريح الدولة بأهل الخلاف من كل جانب وجاست عساكر السلطان خلال كل أرض. وفي أثناء ذلك هلك حمزة بن عمر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على يد ابن عون بن أبي علي من بني كثير [2] أحد بطون بني كعب بطعنة طعنه غيلة فأشواه [3] وقام بأمره من بعده بنوه، وكبيرهم يومئذ عمر، وداخلتهم الظنّة بأن قتله بإملاء الدولة فاعصوصبوا وتآمروا واستجاشوا بأقتالهم أولاد مهلهل فجيّشوا معهم وزحف إليهم ابن الحكيم في عساكر السلطان من زناتة والجند ففلوه واستلحموا كثيرا من وجوههم. ورجع إلى الحضرة فتحصّن بها واتبعوه فنزل بساحتها ثلاثين وسبعمائة وقاتلوا العساكر سبع ليال. ثم اختلفوا ونزل طالب بن مهلهل إلى طاعة السلطان فأجفلوا وخرج السلطان في جمادى من سنته في عساكره وأحزابه من عرب هوّارة فأوقع بهم برقادة من ضواحي القيروان ورجع إلى حضرته آخر رمضان من سنته. وذهبوا مفلولين إلى القفر ومرّوا في طريقهم بالأمير أبي العبّاس بقفصة فرغّبوه بالخلاف على أبيه، وأن يجلبوا به على الحضرة فأملى لهم في ذلك حتى ظفر بالمعز بن مطاع وزير حمزة وكان رأس النفاق والغواية فتقبّض عليه وقتله، وبعث برأسه إلى الحضرة ونصب بها. ووقع ذلك من مولانا السلطان أحسن المواقع. ووفد بعدها على الحضرة فبايع لها بالعهد في آخر سنته في محفل أشهده الملأ من الخاصة والكافة بإيوان ملكه. وكان يوما مشهودا قرئ فيه سجل العهد على الكافة، وانفصلوا منه داعين للسلطان. وراجع بنو حمزة الطاعة بعدها واستقاموا عليها إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] يقال لشعب اوريغة وريغة أو ريغة اختصارا، ويقال لهم هوّارة تغلبيا، وهم بنو اوريغ بن برنس. [2] وفي نسخة أخرى: أبي عون علي بن كبير. [3] أشواه: أصاب شواه أي أطرافه ولم يصب مقتله، على أنه أراد هنا بمعنى قتله، وجاء بها بمعنى قتله في مواضع أخرى من هذا الكتاب. قال عمر بن الغارض: سهم شهم القوم أشوى وشوى سهم أمحا حكم أحشاي شي. (قاموس) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 (الخبر عن مهلك الحاجب ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين من بعد وما كان على تفيئة ذلك من نكبة ابن الحكيم) هذا الرجل اسمه أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الغسّاني وكنيته أبو القاسم، وأوصل سلفه من الأندلس انتقلوا إلى مراكش واستخدموا بها للموحّدين، واستقرّ أبوه إسماعيل بتونس. ونشأ أبو القاسم بها واستكتبه الحاجب ابن الدبّاغ ولما دخل السلطان أبو البقاء خالد إلى تونس، ونكب ابن الدبّاغ لجأ ابن عبد العزيز إلى الحاجب ابن عمر، وخرج من تونس إلى قسنطينة واستقرّ ظافر الكبير هنالك فاستخدمه إلى أن غرّب إلى الأندلس كما قدّمناه. واستعمله ابن عمر على الأشغال بقسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فقام بها وتعلّق بخدمة ابن القالون بعد استبداد ابن عمر ببجاية. فلما وصل السلطان أبو بكر إلى تونس سنة ثمان عشرة وسبعمائة استقدمه ابن القالون واستعمله على أشغال تونس. ثم كانت سعايته في ابن القالون مع المزوار بن عبد العزيز إلى أن فرّ ابن القالون سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وولي الحجابة المزوار بن عبد العزيز، وكان أبو القاسم بن عبد العزيز هذا رديفه لضعف أدواته. ولما هلك ابن عبد العزيز المزوار بقي أبو القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم إلى أن قدم ابن سيّد الناس، من بجاية، وتقلّد الحجابة كما قدّمناه فغصّ بمكان ابن عبد العزيز هذا وأشخصه عن الحضرة وولّاه أعمال الحامّة [1] ثم استقدم منها عند ما ظهر عبد الواحد اللحياني بجهات قابس فلحق بالسلطان في حركته إلى تيمرزدكت، وأقام في جملة السلطان إلى أن نكب ابن سيّد الناس، وولي الحجابة بالحضرة كما ذكرت ذلك كله من قبل إلى أن هلك فاتح سنة أربع وأربعين وسبعمائة فعقد السلطان على حجابته لشيخ الموحدين أبي محمد بن عبد الله بن تافراكين. وكان بنو تافراكين هؤلاء من بيوت الموحدين في تين ملّل ومن آيت الخميس. وولي عبد المؤمن كبيرهم عمر بن تافراكين على قابس أوّل ما ملكها الموحدون سنة أربعين   [1] الحامة: خاصة الرجل من أهله وولده (القاموس) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 وخمسمائة إلى أن فتحوا مراكش، فكان عبد المؤمن يستخلفه عليها أيام مغيبه عنها على الإمارة والصلاة. ولما ثار بمراكش عبد العزيز وعيسى ابنا أومغار أخو الإمام المهدي سنة إحدى وخمسين كان مغيبه عنها على أوّل ثورتهم أن اعترضوا عمر بن تافراكين عند ندائه بالصلاة فقتلوه، وفضحهم الصبح فاستلحمهم العامّة، ثم كان ابنه عبد الله بن عمر من بعده من رجالات الموحّدين ومشيختهم. ولما عقد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على قرطبة لأخيه السيّد أبي إسحاق أنزله معه عبد الله بن عمر ابن تافراكين للمشورة مع جماعة من الموحدين كان منهم يوسف بن وانودين، وكان عبد الله المقدّم فيهم وجاء ابنه عمر من بعده مشتغلا بمذهبه مرموقا بتجلته [1] . ولمّا ولي السيد أبو سعيد بن عمر بن عبد المؤمن على إفريقية ولّاه قابس وأعمالها إلى أن استنزله عنها يحيى بن غانية سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. ثم كان منهم بعد ذلك عظماء في الدولة وكبراء من المشيخة آخرهم عبد العزيز بن تافراكين، خالف الموحّدين بمراكش لما نقضوا بيعة المأمون، فاغتالوه في طريقه إلى المسجد عند الآذان للصبح، بما كان محافظا على شهود الجماعات. ورعاها له المأمون في أخيه عبد الحق وبنيه أحمد ومحمد وعمر فلما استلحم الموحّدون وعمهم الجزع ارتحل عبد الحق موريا بالحج ونزل على السلطان المستنصر فأنزله بمكانه من الحضرة وسرّحه بعض الأحايين إلى الحامة لحسم الداء فيها. وقد كان توقّع الخلاف من مشيختها فحسن غناؤه فيها، وقتل أهل الخلاف وحسم العلل، وولّاه السلطان أبو إسحاق على بجاية بعد مقتل محمد بن أبي هلال فاضطلع بها. ولما ولي الدعيّ ابن عمارة أنه سرّحه في عسكر من الموحّدين لقهر العرب وكفّ عداوتهم فأثخن فيهم ما شاء. ولم يزل معروفا بالرياسة مرموقا بالتجلة إلى أن هلك. وكان بنو أخيه عبد العزيز وهم: أحمد ومحمد وعمر جاءوا على أثره من المغرب فنزلوا بالحضرة خير منزل، وغذوا بلبان النعمة والجاه فيها. وكان أحمد كبيرهم، وولّاه السلطان أبو حفص على قفصه ثم على المهدية، ثم استعفى من الولاية فعوفي. وكان السلطان أبو عصيدة يستخلفه على الحضرة إذا أخرج منها على ما كان لأوّله إلى أن هلك الأوّل المائة الثامنة سنة ثلاث. ونشأ ابناه أبو محمد عبد الله وأبو العبّاس   [1] وفي نسخة أخرى: متقبلا مذهبه مرموقا تجلّته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 أحمد في حجر الدولة وجوّ عنايتها وأصهر عبد الله منهما إلى أبي يعقوب بن زذوتين شيخ الدولة في ابنته فعقد عليها. وأصهر من بعده أخوه أحمد بن أبي محمد بن يعمور في ابنته فعقد له أيضا عليها، واستخلص أبو ضربة بن اللحياني كبيرها أبا محمد عبد الله وآثره بصحبته، فلم يزل معه إلى أن كانت الواقعة عليه بمصوح، وتقبّض على كثير من الموحدين فكان في جملتهم. ومن عليه السلطان أبو بكر ورقّاه في رتب عنايته إلى أن ولّاه الوزارة بعد الشيخ أبي محمد بن القاسم. ثم قدّمه شيخا على الموحّدين بعد مهلك شيخهم أبي عمر بن عثمان سنة اثنتين وأربعين وبعثه إلى ملك المغرب مع ابنه الأمير أبي زكريا صاحب بجاية صريخا على بني عبد الواد فجلّى في خدمة السلطان وعرض سفارته. وتوجّه للإيثار بعدها إليه. واختصّ بالسفارة إلى ملك المغرب سائر أيامه. وغصّ الحاجب ابن سيّد الناس بمكانه، وهمّ بمكروهه فكبح السلطان عنانة عنه، ويقال إنه أفضى إليه بذات صدره من نكبته. ولما انقسمت خطط الدولة من الحرب والتدبير ومخالصة السلطان وتنفيذ أوامره بين ابن عبد العزيز الحاجب وابن الحكيم القائد. كان له هو القدح المعلى في المشورة والتدبير، وكانوا يرجعون إليه ويعوّلون على رأيه، وكان ثالث أثافيهم ومصقلة آرائهم. ولما هلك ابن عبد العزيز، وكان السلطان قد أضمر نكبة ابن الحكيم، لما كان يتعاطاه من الاستبداد ويحتجنه من أموال السلطان، وأسرّ الحاجب ابن عبد العزيز إلى السلطان زعموا بين يدي مهلكه بالتحذير من ابن الحكيم وسوء دخلته، وأنه فاوضه أيام نزول العرب عليه بساح تونس سنة اثنتين وأربعين كما قدّمناه في الادالة من السلطان ببعض الأعياص من بني أبي دبوس، كانوا معتقلين بالحضرة، ألقاها الغدر على لسانه ضجرا من قعود السلطان عن الخروج بنفسه إلى العرب وسآمة ما هو فيه من الحصار واعتدّها عليه ابن عبد العزيز حتى ألقاها إلى السلطان عند موته، وبريء منها إليه فأودعها إذنا واعية وكان حتف ابن الحكيم فيها. ولمّا هلك وولي شيخ الموحدين أبو محمد بن تافراكين فاوضه في نكبة ابن الحكيم، وكان يتربّض به لما كان بينهما من المنافسة. وكان ابن الحكيم غائبا عن الحضرة في تدويخ القاصية، وقد نزل جبل أوراس فاقتحمه واقتضى مغارمه وتوغّل في أرض الزاب واستوفى جباية من عامله يوسف بن منصور، وتقدّم إلى ريغة ونازل تغرت وافتتحها، وامتلأت أيدي العساكر من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 مكاسبهم وخيلهم [1] . واتصل به خبر مهلك ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين الحجابة فنكر ذلك لما كان يظنّ أنّ السلطان لا يعدل بها عنه. وكان يرشح له كاتبه أبا القاسم وازار [2] ، ويرى أنّ ابن عبد العزيز قبله لم يتميز بها إيثارا عليه، فبدا له ما لم يحتسبه فظنّ الظنون وجمع أصحابه، وأغذّ السير إلى الحضرة وقد آمر السلطان أبا محمد بن تافراكين في نكبته وأعدّ البطانة للقبض عليه. وقدم على الحضرة منتصف ربيع من سنة أربع وأربعين وجلس له السلطان جلوسا فخما فعرض عليه هديّته من المقرّبات والرقيق والأنعام، حتى إذا انفضّ المجلس وشيّع السلطان وزراؤه وانتهى إلى بابه أشار إلى البطانة فلحقوا به ونقلوه إلى محبسه [3] . وبسط عليه العذاب لاستخراج الأموال فأخرجها من مكان احتجانها وحصل منها في مودع السلطان أربعمائة ألف من الذهب العين أو مثالها أو ما يقاربها قيمة من الجوهر والعقار إلى أن استصفى. ولما افتك عظمه ونفد ماله خنق بمحبسه في رجب من سنته وذهب مثلا في الأيام. وغرب ولده مع أمّه إلى المشرق، وطوح بهم الاغتراب إلى أن هلك منهم من هلك، وراجع الحضرة علي وعبيد منهم في آخرين من أصاغرهم بعد أيام وأحوال والله يحكم لا معقب لحكمه. (الخبر عن شان الجريد واستكمال فتحه وولاية أحمد بن مكي على جزيرة جربة) كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى منذ شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد وما نالها لذلك من الاضطراب، واستبدّ مشيخة كل بلد بأمره، ثم انفرد واحد منهم بالرياسة، وكان محمد بن بهلول من مشيخة توزر هم القائم فيها والمستبد بأمرها كما سنذكره. ولما نزعت الدولة إلى الاستبداد وأرهف السلطان حدّه للثّوار وعفى على آثار المشيخة بقفصة وعقد لابنه الأمير أبي العبّاس على قسطيلية. ونزل بقفصة فأقام بها   [1] وفي نسخة أخرى: حليهم. [2] وفي نسخة أخرى: أبا القاسم بن واران. [3] وفي نسخة أخرى: فأحدقوا به وتلّوه الى محبسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 ممهدا لإمارته، ومردّدا بعوثه إلى البلاد اختبارا لما يظهرون من طاعته. وزحف حاجبه أبو القاسم بن عتوّ سنة [1] بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف، وكانوا إخوة أربعة استبدوا برياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب، ولاذوا منه بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم وتبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش، وسألوا النزول على حكم السلطان فجذبوا إلى مصارعهم وصلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين، وأفلت السيف عليّا صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة، فكانت له ذمّة واقية من الهالكة. فانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في مملكته وجدّد له العقد عليها أبوه. وتملّك الكثير من نفزاوة. ولما استبيحت نفطة ونفزاوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق وعش الخلاف والنفاق، وخشي مقدّمها محمد بن بهلول عيث [2] حاله فذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه إلى أن كان مهلكهما في سنة واحدة، واضطرب أمر توزر وتواثب بنوه وإخوته وقتل بعضهم بعضا. وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة والجباية، ومضى إلى توزر فملكها وطالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة وبلاد قسطيلية بالانقياد الّذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد وصارت لذلك شجا معترضا في صدر إمارته فخاطب أباه السلطان أبا بكر وأغراه به فنهض إليه سنة خمس وأربعين والتقى به ففرّ عنه وانتهى إلى قفصة وصار الخبر إلى أبي بكر ابن بهلول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش وانفضّ من حوله الأولياء، وجاهر بطاعة السلطان ولقائه ففرّ عنه كاتبه وكاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد المعمودي المعروف الشهرة، ولحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني وأغذّ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بن بهلول وألقى إليه يده وخلط نفسه بجملته. ثم ندم على ما فرّط من أمره وأحس بالنكير من الدولة، وأنذر بالهلكة فلحق بالزاب ونزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب والقرى بما تحدّث به الناس ولما استولى السلطان على توزر وانتظمها في أعماله عقد عليها لابنه الأمير أبي العبّاس وأنزله بها وأمكنه من رمتها ورجع السلطان إلى الحضرة ظافرا عزيزا، واتصلت [3]   [1] بياض بالأصل ولم تستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا. [2] وفي نسخة أخرى: مغبّة. [3] وفي نسخة أخرى: وتملأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر. واتصلت ممالك الأمير أبي العبّاس في بلاد الجريد وساور أبو بكر بن بهلول [1] توزر مرارا يفلت في كلّها من الهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع وأربعين قبيل مهلك الناس كما نذكر. وأقام أبو العباس بمحل إمارته ولم يزل يمهّد الأحوال ويستنزل الثوّار. وكان أبو مكي قد امتنع عليه بقابس، وكان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الّذي كان حاجبا له وذهب ابن اللحياني إلى المغرب وأقام هو بقابس. ثم استراب بمكان أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيّان فأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصّلا من ذنوبه متذمّما بشفاعته منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له وأعاده السلطان إلى مكان رياسته. واستقام هو على الطاعة ونكب عن سنن العصيان والفتنة. وكان لأحمد بن مكي حظ من المال والأدوات ونفس مشغوفة بالرياسة والشرف [2] ، وكان يقرض الشعر فكان يجيد ويرسل فيحسن، وكان خط كتابته أنيقا ينحو به منحى الخط الشرقيّ شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء، فكانت لذلك كلّه في نفس الأمير أبي العبّاس صاغية إليه. وكان هو مستريبا بالمخالطة لما شاء من آثاره السالفة. ولم يزل الأمير أبو العبّاس يفتل له في الذروة والغارب إلى أن جلبه إلى مجلس السيدة أمّه الواحدة [3] أخت مولانا السلطان قافلة من حجهّا فمسح ما كان بصدره، وأحكم له عقد مخالصته واصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة واعتزاز. وعقد له السلطان على جزيرة جربة، واستضافها إلى عمله وأنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان وثمانين وعقد له السلطان عليها فنزلها أحمد بن مكي. واستقل عبد الملك أخوه برياسة قابس فقاما على ذلك وجرّدا عزائمهما في ولاية أبي العبّاس صاحب أعمال الجريد فلم يزالوا كذلك إلى أن كان من أمر الجميع ما نذكر إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة أخرى: أبو بكر يملول. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بالرياسة والسرو. [3] وفي النسخة الباريسية: أمة الواحد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 (الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين) كان السلطان أبو بكر عند نكبة القائد ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه، وفوّض إليه فيما وراء بابه وعقد على الوزارة لأخيه أبي العبّاس أحمد وكان أبو محمد جليس الباب لمكان الحجابة فرفع إلى الحرب وقود العساكر، وإمارة الضاحية أخاه أبا العبّاس فقام بما دفع إليه من ذلك. وكان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الإذعان وسموا إلى الخلاف والعناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الاجلاب على الحضرة ما ذكرناه وكان سحيم بن [1] من أولاد القوس بن حكيم بينه وبينهم غدر وخلاف وعناد [2] ، وكان السلطان قد ولّى على حجابة ابنه الأمير أبي العبّاس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وكان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف، وينفس عليهم ما آتاهم الله من الرتبة والحظ، فلمّا ولي أبو محمد الحجابة مليء منه حسدا وحقدا [3] ، وداخل فيما زعموا سحيما هذا الغوي في النيل من أبي العبّاس بن تافراكين صاحب العساكر وشارطه على ذلك بما أدّاه إليه وتكاتموا أمرهم. وخرج أبو العبّاس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوّارة فوفد عليه سحيم هذا وقومه وضايقوه في الطلب. ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام وأجلبوا عليه، فانفضّ معسكره وكبابه فرسه فقتل وحمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها وجاهر سحيم بالخلاف، وخرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى مهلك السلطان كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والده في المراجع التي بين أيدينا. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بهمة غوار ومارد خلاف وعناد. [3] وفي نسخة ثانية: حسدا وحفيظة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 (الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا صاحب بجاية من الانباء وما كان بعد ذلك من ثورة أهل بجاية بأخيه الأمير أبي حفص وولاية ابنه الأمير أبي عبد الله) كان السلطان أبو بكر لما هلك الحاجب بن عمر عقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا كبير ولده، وأنفذه إليها مع حاجبه محمد بن القالون كما ذكرناه وجعل أموره تحت نظره. ثم رجع القالون إلى تونس فأنزل معه ابن سيّد الناس كذلك، فلما استبدّ سيّد الناس بحجابة الحضرة جعل على حجابته أبا عبد الله بن فرحون. ثم لما تقبّض على ابن سيّد الناس وعلي ابن فرحون وقد استبدّ الأمير أبو زكريا بأمره، وقام على نفسه فوض إليه السلطان الأمر في بجاية وبعث إليه ظافرا السنان مولى أبيه الأمير أبي زكريا الأوسط قائدا على عسكره. والكاتب أبا إسحاق بن علاق [1] متصرّفا في حجابته فأقاما ببابه مدة ثم صرفهما إلى الحضرة، وقدّم لحجابته أبا العباس أحمد بن أبي زكريا الرندي، كان أبوه من أهل العلم وكان ينتحل مذهب الصوفية الغلاة، ويطالع كتب عبد الحق بن سبعين. ونشأ أحمد هذا ببجاية واتصل بخدمة السلطان وترقّى في الرتب إلى أن استعمله الأمير أبو زكريا كما قلناه. ثم هلك وقد أنف السلطان أبو بكر من الأمراء هؤلاء على حجابة ابنه [2] فأنفذ لها من حضرته كبير الموحدين يومئذ وصاحب السفارة أبا محمد بن تافراكين سني أربعين وسبعمائة فأقام أحوال ملكه، وعظم أبّهة سلطانه، وجهّز العساكر لسفره وأخرجه إلى أعماله فطاف عليها وتفقّدها، وانتهى إلى تخومها من المسيلة ومقرة. ولم يستكمل الحول حتى سخطه المشيخة من أهل بجاية لما نكروا من الأبهة والحجاب حتى استغلظ عليهم باب السلطان، وتولى كبر ذلك القاضي ابن يوسف تعنّتا وملالا، واستعفى هو من ذلك فأعفي وعاد إلى مكانه بالحضرة. ثم استقدم الأمير أبو زكريا حاجبه الأوّل بعهد ابن سيّد الناس، وهو أبو عبد الله محمد ابن فرحون، وقد كان السلطان بعثه في غرض الرسالة إلى ملك المغرب في الأسطول   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: علان، وفي نسخة أخرى: غلان. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: من انتزاء هؤلاء السوقة على حجابة ابنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 الّذي بعثه مددا للمسلمين عند إجازة السلطان أبي الحسن إلى طريف. وكان أخوه زيد بن فرحون قائد ذلك الأسطول بما كان قائده ببحر بجاية، فلما رجع أبو عبد الله ابن فرحون من سفارته تلك أذن له في المقام عند الأمير أبي زكريا واستعمله على حجابته إلى أن هلك فولي من بعده في تلك الخطة ابن القشاش من صنائع دولته. ثم عزله وولّى عليها أبا القاسم بن علناس من طبقة الكتّاب، واتصل بدار هذا الأمير وترقّى في ديوانه إلى أن ولّاه خطة الحجابة. ثم عزله وولى يحيى بن محمد بن المنت الحضرميّ [1] . كان أبوه وعمّه قدما على جالية الأندلس وكانا ينتحلان القراءات. وأخذ أهل بجاية عن عمّه أبي الحسن علم القراءات، وكان خطيبا بجامع السلطان ونشأ علي ابن أخيه واستعمل في الديوان، وكان طموحا للرئاسة واتصل بحظية كانت للمولى أبي زكريا تسمّى أمّ الحكم قد غلبت على هواه، فرسمت على ابن المنت هذا بخطة الحجابة [2] واستعمله فيها فقام بها وأصلح معونات السلطان وأحوال مقاماته في سفره، وجهّز له العساكر وجال في نواحي أعماله. وهلك هذا الأمير في إحدى سفراته وهو على حجابته بتاكرارت من أعمال بجلية من مرض كان أزمن به في ربيع الأوّل سنة سبع وأربعين وسبعمائة وكان ابنه الأمير أبو عبد الله في حجر مولاه فارح بن معلوجي ابن سيّد الناس. وكان اصطنعه فألفاه قابلا للترشيح فأقام مع ابن مولاه ينتظر أمر الخليفة، وبادر حاجبه الأوّل أبو القاسم بن علناس إلى الحضرة وأنهى الخبر إلى الخليفة فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي حفص كان معه بالحضرة، وهو من أصاغر ولده، وأنفذه إليها مع رجاله وأولى اختصاصه. وخرج معه أبو القاسم بن علناس فوصل إلى بجاية ودخلها على حين غفلة. وحمله الأوغاد من البطانة على إرهاف الحدّ وإظهار السطو فخشي الناس البوادر وائتمروا. ثم كانت في بعض الأيام هيعة تمالأ فيها الكافة على التوثّب بالأمير القادم فطافوا بالقصبة في سلاحهم ونادوا بإمارة ابن مولاهم. ثم تسوّروا جدرانها واقتحموا داره وملكوا أمره وأخرجوه برمّته بعد أن انتهبوا جميع موجودة، وتسايلوا إلى دار الأمير أبي عبد الله محمد ابن أميرهم ومولاهم بعد أن كان معتزما على التقويض عنهم واللحاق بالخليفة جدّه. وأذن له في ذلك عمه القادم فبايعوه بداره من البلد. ثم نقلوه من   [1] وفي نسخة ثانية: ثم عزله بعلي بن محمد بن المنت الحضرميّ. [2] وفي نسخة ثانية: فرسخت على ابن المنت هذا خطة الحجابة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 الغد إلى قصره بالقصبة وملّكوه أمرهم. وقام بأمره مولاه فارح ولقبه باسم الحجابة واستمرّ حالهم على ذلك. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة آخر جمادى الأولى من سنته لشهر يوم ولايته إلى أن كان من شأنه بعد مهلك مولانا السلطان ما نذكره. وتدارك السلطان أمر بجاية وبعث إليهم أبا عبد الله بن سليمان من كبار الصالحين ومشيخة الموحدين يسكنهم ويؤنسهم وبعث معه كتاب العقد عليها لحافده الأمير أبي زكريا طالبا مرضاتهم [1] فسكنت نفوسهم وأنسوا بولاية ابن مولاهم، وجاءت الأمور إلى مصايرها كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى والله وليّ التوفيق. (الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر وولاية ابنه الأمير أبي حفص) بينما الناس في غفلة من الدهر وظلّ ظليل من العيش وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز وذمّة وافية من العدل، إذ ريع بالسرف وتكدّر الشرق [2] وتقلّصت ظلال العز والأمن، وتعطّل فناء الملك ونعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، فهبّ الناس من مضاجعهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى. وبادر الأمير أبو حفص عمر من داره إلى القصر فملكه وضبط أبوابه واستدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره، ودعوا المشيخة من الموحّدين والموالي وطبقات الجند، وأخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص. ثم جلس من الغد جلوسا فخما على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته لعوائدها وقوانين ترتيبها، تلقّنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين، وغدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له وأعطوه صفقة إيمانهم. وانفضّ المجلس وقد انعقدت بيعته وأحكمت خلافته. وكان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيما بالحضرة قدمها رائدا [3] منذ أشهر وأقام   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ذهابا مع مرضاتهم. [2] وفي نسخة أخرى: إذ ريع السرب وتكدّر الشرب. [3] وفي نسخة أخرى: زائرا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 متهنئا [1] من الزيارة، فلما سمع النعي فرّ من ليلته، وتقبّض عليه أولاد منديل من الكعوب وردّوه إلى الحضرة فاعتقل بها. وقام أبوه محمد بن تافراكين بخطة الحجابة كما كان وزيادة تفويض واستبداد إلّا أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه ويوغرون صدره عليه يذكرون منافساته ومناقشة سابقة بين الحاجب والأمير أيام أبيه، واتصل ذلك منهم غصا لمكانه، وأنذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما يذكر بعد أهـ، والله تعالى أعلم. (الخبر عن زحف الأمير أبي العباس وليّ العهد من مكان إمارته بالجريد الى الحضرة وما كان من مقتله ومقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد) كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى ابنه الأمير أبي العبّاس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فلمّا بلغه خبر مهلك أبيه وما كان من بيعة أخيه، حقد على أهل الحضرة ما جاءوا به من نقض عهده. ودعا العرب إلى مظاهرة أمره، فأجابوه ونزعوا جميعا إلى طاعته عن طاعة أخيه بما كان مرهفا لحده في الاستبداد والضرب على أيدي أهل الدولة من العرب وسواهم. وزحف إلى الحضرة ولقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فآتاه طاعته وصار في جملته، وجمع السلطان أبو حفص عمر جموعه واستركب واستلحق وأزاح العلل، وخرج غرّه شعبان وارتحل عن تونس، وحاجبه أبو محمد بن تافراكين قد أنذر منه بالهلكة، واعتمل في أسباب النجاة، حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل وركب الليل ناجيا إلى المغرب. وبلغ خبر مفرّة إلى السلطان فأجفل واختلّ مصادفه، وتحيّز إلى باجة فتلوم بها وتخلّف عنه أهل المعسكر فلحقوا بالأمير أبي العباس، وملك الحضرة ثامن رمضان ونزل برياض رأس الطابية وأطلق أخاه أبا البقاء من معتقله. ثم دخل إلى قصره لسبع ليال من ملكه وصبحه الأمير أبو حفص في ثامنها فاقتحم   [1] وفي نسخة أخرى: متمليا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 عليه البلد لضاغنة كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه نساءهم [1] وطروقه منازلهم أيام جنون الشباب وقضاء لذاته في مرباه. وفتك بأخيه الأمير أبي العبّاس. ولسرعان ما نصب رأسه على القناة، وداست شلوه هنالك سنابك العسكر، وأصبح آية للمعتبرين. وثارت العامّة بمن كان بالبلد من وجوه العرب ورجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل. وتلّوا كثيرا منهم إلى السلطان فاعتقلهم، وقتل أبا الهون [2] بن حمزة بن عمر بن بينهم، وتقبّض على أخويه خالد وعزوز، فأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا وكان فيه مهلكهم. واستوسق ملكه بالحضرة واستعمل على حجابتها أبا العبّاس أحمد بن علي بن زين من طبقة الكتّاب، وكان كاتبا للضحشى [3] الحاجب وبعده للقائد ظافر الكبير. واتصل السلطان أبو بكر لأوّل ملكه بالحضرة فأسف عليّ بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه ونكبه. ثم أطلق من محبسه ومضى إلى المغرب ونزل على السلطان ابن سعيد فأجمل نزله، ثم رجع إلى الحضرة ولم يزل مشرّدا أيام السلطان كلّها واستكتب الأمير أبو حفص ولده محمدا وكانت له به وصلة، فلما استوسق له الملك بعد مفرّ أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه، وولّى أباه أبا العبّاس هذا على حجابته، وعقد على حربه وعساكره لظافر مولى أبيه وجدّه المعروف بالسّنان، واستخلص لنجواه وسرّه كاتبه أبا عبد الله محمد بن الفضل ابن نوّار [4] من طبقة الفقهاء والقضاة ومن أهل البيوت النابهة بتونس، كان له بها سلف مذكور، واتصل بدار السلطان وارتسم بها مكتبا لولده. وقرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك يد [5] ومزيد عناية عنده. ولما استبدّ بأمره كان هو مستبدّا بشوراه، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أسمارهم. [2] وفي نسخة ثانية: أبو الهول. [3] وفي نسخة ثانية: للشخشي الحاجب [4] وفي نسخة ثانية: ابن نزار. [5] وفي نسخة ثانية: خصوصية به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 (الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن على افريقية ومهلك الأمير أبي حفص وانتقال الأبناء من بجاية وقسنطينة الى المغرب وما تخلل ذلك من الاحداث) كان السلطان أبو الحسن يحدّث نفسه منذ ملك تلمسان وقبلها بملك إفريقية، ويتربّص بالسلطان أبي بكر ويسرّ له حسدا في ارتقاء [1] ، فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها واستحثّه بالقدوم عليها، وجدّد له الجوار [2] فتنبهت لذلك عزائمه. ثم وصل الخبر بمهلك وليّ العهد وأخويه وخبر الواقعة، فأحفظه لذلك بما كان من رضاه بعهده، وخطه بالوفاق على ذلك بيده في سجله. وذلك أنّ حاجب الأمير أبي العبّاس وهو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية. وحمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن، وسأل منه إمضاء لمولاه وكتب ذلك بخطه في سجله، فخطّه بيمينه وأحكم له عقده. فلما بلغه مهلك وليّ العهد تعلّل بأنّ النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو إفريقية ومن بها، فعسكر بظاهر تلمسان، وفرّق الأعطيات، وأزاح العلل. ثم رحل في صفر من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة يجرّ الدنيا بما حملت. وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية، ورجالات الدنيا بما حملت. وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية، ورجالات الكعوب أخاهم خالدا يستصرخه لثأر أخيهم أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم. ونزع إليهم أيضا أهل القاصية من إفريقية بطاعتهم فجاءوا في وفد واحد مع ابن مكي صاحب قابس وابن يملول صاحب توزر وابن العابد صاحب قفصة ومولاهم ابن أبي عنّان صاحب الحامة وابن الخلف صاحب نفطة، فلقوه بوهران وآتوه بيعتهم رغبة ورهبة. وأدّوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس، ولم يتخلّف عنهم إلا من بعد داره. ثم جاء من بعدهم وعلى أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني ومعه مشيخة الموحدين الزواودة، وكبيرهم يعقوب بن علي فلقيه بنو حسن من أعمال بجاية   [1] وفي نسخة ثانية: ويسرّ له حسوا في ارتغاء. [2] وفي نسخة ثانية: وحرّك له الحوار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 فأوسع الكل حبا وتكرمة، وأسنى الصلات والجوائز وعقد لكل منهم على بلده وعمله. وبعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياوي [1] من طبقة وزرائه، وأغذّ السير إلى بجاية، فلما أطلت عساكره عليها توافر أهلها في الامتناع، ثم أنابوا وخرج أميرها أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا فآتاه طاعته، وصرفه إلى المغرب مع إخوانه، وأنزله ببلد ندرومة. وأقطع له الكفاية من جبايتها وبعث على جباية عمّاله وخلفائه [2] . وسار إلى قسنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد وآتوه طاعتهم، وأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها، وأنزل بقسنطينة خلفاء وعمّاله، وأطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها، وفيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر وبنوه، ومحمد ابن الأمير خالد وإخوانه وبنوه، وأصارهم في جملته حتى صرفهم إلى المغرب من الحضرة من بعد ذلك. ووفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمرو مشايخ قومهم الكعوب فأخبروه باجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل، واستحثّوه باعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر، وسرّح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه، وسرّح عسكرا آخر إلى تونس لنظر يحيى بن سليمان من بني عسكر ومعه أبو العبّاس بن مكي، وسارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس، وضبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء، ثم انفضّوا وكبابا لأمير أبي حفص جواده في بعض نافقاء اليرابيع [3] ، وانجلت الغيابات عنه وعن مولاه ظافر راجلين فتقبّض عليهما، وأوثقهما قائد الكتائب بيده، حتى إذا جنّ الليل وتوقّع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما، وبعث برءوسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة. وخلص الفلّ من الواقعة إلى قابس، فتقبّض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة، كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى بن رجالات سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة، فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان.   [1] وفي نسخة ثانية: اليرنياني. [2] وفي نسخة ثانية: الكفاف من جبايتها وبعث على بجاية عماله وخلفاءه. [3] كذا في النسخة الباريسية ونافقاء اليربوع: جحره. وفي نسخة أخرى تافقاء الجرابيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 فأمّا ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطّعهم من خلاف، واعتقل الباقي، وسيقت العساكر إلى تونس. ثم جاء السلطان على أثرهم ودخل الحضرة في الزي والاحتفال في جمادى الآخرة من سنته، وخفتت الأصوات وسكنت الدهماء وانقبضت أيدي أهل الفساد، وانقرض أمر الموحدين إلّا أذيالا في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره ووفادته عليه بين يدي مهلك أبيه. ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة والمهديّة وتطوّف على المعالم التي بها، ووقف على آثار ملوك الشيعة وصنهاجة في مصانعها ومبانيها، والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء في ساحتها، وقفل إلى تونس فدخلها آخر شعبان والله تعالى أعلم. (الخبر عن ولاية الأمير أبي العباس الفضل على بونة وأوّلية ذلك ومصايره) كان السلطان أبو الحسن قد أصهر إلى السلطان أبي بكر قبيل مهلكه في إحدى كرائمه، وأوفد عليه في ذلك عريف بن يحيى كبير بني سويد من زغبة وصاحب شواره وخالصة سرّه وفد من رجالات دولته من طبقات الفقهاء والكتاب والموالي كان فيهم صاحب الفتيا بمجلسه أبو عبد الله السطي وكاتب دولته أبو الفضل عبد الله بن أبي مدين وأمير الحرم عنبر الخصيّ، فاسعفه السلطان وعقد له على حظيته عزونة شقة ابنه الفضل وزفها إليه بين يدي مهلكه مع أخيها الفضل، ومعه أبو محمد عبد الواحد ابن الجماز [1] من مشيخة الموحّدين، وأدركهم الخبر بمهلك السلطان في طريقهم. فلما قدموا على السلطان أبي الحسن تقبلهم بقبول حسن، ورفع مجلس الفضل، واستتبّ له ملكها فأعرض عن ذكر ذلك، إلّا أنه رعى له ذمّة الصهر وسابقة الوعد فأسعفه [2] بالعقد على بونة مكان عملة منذ أيام أبيه، وأنزله بها عند ما رحل عنها إلى تونس. وانقمع [3] المولى الفضل من ذلك حقدا لما يرجوه من تجافيهم له عن ملك   [1] وفي النسخة الباريسية: أكمازير وفي نسخة ثانية أكماز. [2] وفي نسخة أخرى: فأقنعه. [3] وفي نسخة أخرى: واضطغن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 آبائه، ولحق وفادته وصهره وأقام بمكان عمله منها يؤمّل الكرّ إلى أن كان من أمر ما نذكره والله أعلم. (الخبر عن بيعة العرب لابن أبي دبوس وواقعتهم مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما قارن ذلك كله من الأحداث) كان السلطان أبو الحسن لما استوسق له ملك إفريقية أسف العرب بمنعهم من الأمصار التي ملكوها بالاقطاعات، والضرب على أيديهم في الأتاوات، فوجموا لذلك، واستكانوا لغلبته، وتربّصوا الدوائر. وربّما كان بعض البادية يشنّ الغارات في الأطراف فيعتدّها السلطان على كبارهم. وأغاروا بعض الأيام في ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الّذي كان في مرعاها، وأظلم الجوّ بينهم وبينه، وخشوا عاديته وتوقّعوا بأسه. ووفد عليه أيام الفطر من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد من بني كعب وخليفة بن عبد الله من بني مسكين [1] ، وخليفة بن بو زيد من رجالات حكيم. وساءت طنونهم في السلطان لسوء أفعالهم فداخلوا عبد الواحد بن اللحياني في الخروج على السلطان. وكان من خبر عبد الواحد هذا أنه بعد إجفاله من تونس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة كما ذكرناه لحق بأبي تاشفين فأقام عنده في مبرّة وتكرمة. ولما أخذ السلطان أبو الحسن بمخنق تلمسان واشتدّ حصارها سأل عبد الواحد بن أبي تاشفين تخليته للخروج فودّعه وخرج إلى السلطان أبي الحسن فنزل عليه. ولم يزل في جملته إلى أن احتل بإفريقية. فلما أخشن ما بينه وبين الكعوب والتمسوا الأعياص من بني أبي حفص فيصطفونهم [2] للأمر رجوا أن يظفروا من عبد المؤمن هذا بالبغية فداخلوه وارتاب لذلك، وخشي بادرة السلطان فرفع إليه الخبر، فتقبّض السلطان عليهم وأحضرهم معه فأنكروا وبهتوا. ثم وبّخهم واعتقلهم، وعسكر بساحة الحضرة لغزوهم، وتلوم لبعث الأعطيات   [1] وفي نسخة أخرى: ابن مسكين. [2] وفي نسخة أخرى: ينصبونهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 وأزاح العلل، وبلغ الخبر إلى أحيائهم فقطع اليأس أسباب رجائهم. وانطلقوا يحزّبون الأحزاب ويلمّون [1] للملك الأعياص. وكان أولاد مهلهل أقيالهم وعديلة حملهم قد أيأسهم السلطان من القبول والرضا بما بالغوا في نصيحة المولى أبي حفص ومظاهرته فلحقوا بالقفر، ودخلوا الرمال فركب إليهم قتيبة بن حمزة وأمّه ومعهم ظعائن أبنائهما متذمّمين لأولاد مهلهل بالعصبيّة والقرابة، فأجابوهم واجتمعوا بقسطيلية وتحاثوا التراب والدماء، وتذامروا بما شملهم من رهب السلطان، وتوقع بأسه. وتفقدوا من أعياص الموحّدين من ينصّبونه للأمر، وكان بتوزر أحمد بن عثمان ابن أبي دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش وقد ذكرنا خبره وخروجه بجهات طرابلس وإجلابه مع العرب على تونس أيام السلطان أبي عصيدة. ثم انفضوا وبقي عثمان بجهات قابس وطرابلس إلى أن هلك بجزيرة جربة، واستقرّ بنو ابنه عبد السلام بالحضرة بعد حين فاعتقلوا بها أيام السلطان أبي بكر. ثم غرّبهم إلى الإسكندرية مع أولاد ابن الحكيم عند نكبته كما ذكرنا ذلك كله، فنزلوا بالإسكندرية وأقبلوا على الحرف لمعاشهم. ورجع أحمد هذا من بينهم إلى المغرب واستقرّ بتوزر واحترف بالخياطة. ولما تفقّد العرب الأعياص دلّهم على نكرته بعض أهل عرفانه فانطلقوا إليه وجاءوا به، وجمعوا إليه الآلة، ونصّبوه للأمر وتبايعوا على الاستماتة. ورجع إليهم السلطان في عساكره من تونس أيام الحج من سنة ثمان، ولقيهم بالثنية دون القيروان فغلبهم وأجفلوا أمامه إلى القيروان. ثم تذامروا ورجعوا مستميتين ثاني محرّم سنة تسع فاختلّ مصافه ودخل القيروان وانتهبوا معسكره بما اشتمل عليه وأخذوا بمخنقه إلى أن اختلفوا فأفرجوا عنه وخلص إلى تونس كما نذكر، والله تعالى أعلم. (الخبر عن حصار القصبة بتونس ثم الإفراج عن القيروان وعنها وما تخلل ذلك) كان الشيخ أبو محمد بن تافراكين أيام حجابة السلطان أبي بكر مستبدّا بأمره مفوّضا   [1] وفي نسخة أخرى: يلتمسون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 إليه في سائر شئونه فلما استوزره السلطان أبو الحسن لم يجره على مألوفه لما كان قائما على أمره وليس التفويض للوزراء من شأنه. وكان يظنّ أنّ السلطان أبا الحسن سيكل إليه أمر إفريقية وينصب معه الفضل للملك. وربما زعموا أنه عاهده على ذلك فكان في قلبه من الدولة مرض، وكان العرب يفاوضونه بذات صدورهم من الخلاف والإجلاب، فلما حصلوا على البغية من الظهور على السلطان أبي الحسن وعساكره وأحاطوا به في القيروان تحيّل ابن تافراكين في الخروج على السلطان لما تبين فيه من النكر منه ومن قومه. وبعث العرب في لقائه وأن يحملوه حديث بيعتهم إلى الطاعة فأذن له وخرج إليهم وقلّدوه حجابة سلطانهم، ثم سرّحوه إلى حصار القصبة. وكان عند رحيله من تونس خلف بها الكثير من أبنائه وجوه قومه. فلما كانت واقعة القيروان واتصل الخبر بتونس كانت لبناته هيعة خشي عليها عسكر السلطان على أنفسهم فلجأ من كان معهم من تونس إلى قصبتها، وأحاط بهم الغوغاء فامتنعت عليهم واتخذوا الآلة للحصار، وفرّقوا الأموال في الرجال، وعظم فيها غناء بشير من المعلوجين الموالي فطار له ذكر. وكان الأمير أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن قد جاء من المغرب فوافاه الخبر دوين القيروان، فانفضّ معسكره ورجع إلى تونس فكان معهم بالقصبة. ولمّا فرج عن [1] ابن تافراكين من هوّة الحصار بالقيروان طمعوا في الاستيلاء على قصبة تونس وفض ختامها، فدفعوه إلى ذلك. ثم لحق به سلطانه ابن أبي دبوس وعانى من ذلك ابن تافراكين صعبا لكثرة الرجل الذين كانوا بها، ونصب المجانيق عليها فلم يغن شيئا وهو أثناء ذلك يحاول النجاء بنفسه لاضطراب الأمور واختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوص السلطان من القيروان إلى سوسة. وكان من خبره أنّ العرب بعد إيقاعهم بعساكره أحاطوا بالقيروان واشتدّوا في حصارها، وداخل السلطان وأولاد مهلهل من الكعوب وحكيما من بني سليم في الإفراج عنه، واشترط لهم على ذلك الأموال واختلف رأي العرب لذلك، ودخل عليه قتيبة [2] بن حمزة بمكانه من القيروان زعما بالطاعة فتقبّله وأطلق أخويه خالدا وأحمد، ولم يثق إليهم. ثم جاء إليه محمد بن طالب من أولاد مهلهل وخليفة ابن أبي زيد وأبو الهول بن   [1] وفي نسخة ثانية: ولمّا خرج. [2] وفي نسخة أخرى: فتيتة بن حمزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 يعقوب من أولاد القوس وأسرى معهم بعسكره إلى سوسة فصبحها وركب منها في أساطيله إلى تونس، وسبق الخبر إلى ابن تافراكين بتونس فتسلّل من أصحابه وركب السفينة إلى الإسكندرية في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة وأصبحوا وقد فقدوه فاضطربوا وأجفلوا عن تونس، وخرج أهل القصبة من أولياء السلطان فملكوها وخرّبوا منازل الحاشية فيها. ونزل السلطان بها من أسطوله في ربيع الآخر فاستقلّت قدمه من العثار، ورجا الكرّة لولا ما قطع أسبابها عنه مما كان من انتراء أبنائه بالمغرب على ما نذكره في أخبارهم. وأجلب العرب وابن أبي دبوس معهم على الحضرة ونازلوا بها السلطان فامتنعت عليهم فرجعوا إلى مهادنته فعقد لهم السلم، ودخل حمزة بن عمر إليه وافدا فحبسه إلى أن تقبّض على ابن أبي دبّوس وأمكنه منه فلم يزل في محبسه إلى أن رحل إلى المغرب، ولحق هو بالأندلس كما نذكره في أخباره، وأقام السلطان بتونس، ووفد عليه أحمد بن مكي فعقد لعبد الواحد بن اللحياني على الثغور الشرقيّة طرابلس وقابس وصفاقس وجربة وسرّحه مع ابن مكي فهلك عند وصوله إليها في الطاعون الجارف، وعقد لأبي القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين وهو الّذي كان قطعه بإغراء أبي محمد بن تافراكين، فلما ظهر خلافه أعاد ابن عتو إلى مكانه، وعقد له على بلاد قسطيلية وسرّحه إليها وأقام هو بتونس إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن استيلاء الأمير الفضل على قسنطينة وبجاية ثم استيلاء أمرائهما بتمهيد الملك) كان سنن السلطان أبي الحسن في دولته بالمغرب وفود العمّال عليه آخر كل سنة لإيراد جبايتهم والمحاسبة على أعمالهم، فوفدوا عليه عامهم ذلك من قاصية المغرب ووافاهم خبر الواقعة بقسنطينة وكان معهم ابن مزني عامل الزاب وفد أيضا بجبايته وهديته، وكان معهم ابن عمه تاشفين [1] ابن السلطان أبي الحسن كان أسيرا من يوم واقعة طريف. ووقعت المهادنة بين الطاغية وبين أبيه فأطلقه وأوفد معه جمعا من بطارقته   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أبو عمر تاشفين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 وقدموا معه على أبيه ووفد معه أخوه عبد الله من المغرب وكان أيضا معهم وفد السودان من أهل مالي في غرض السفارة، واجتمعوا كلّهم بقسنطينة فلما اتصل بهم خبر الواقعة على السلطان كثر الاضطراب، وتطلبت السفهاء من الغوغاء إلى ما بأيديهم وخشي الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة. ولما أطلّ الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة. ولما أطلّ على قسنطينة ثارت العامة بمن كان هنالك من الوفد والعمّال وانتهبوا أموالهم واستلحموا منهم، وخلص أبناء السلطان مع وفود السلطان والجلالقة إلى بسكرة مع ابن مزني، وفي خفارة يعقوب بن علي أمير الزواودة فأوسع ابن مزني قرى وتكرمة إلى أن لحقوا بالسلطان أبي الحسن بتونس في رجب من سنة تسع. ودخل المولى الفضل إلى قسنطينة وأعاد ما ذهب من سلطان قومه. وشمل الناس بعدله وإحسانه، وسوّغ الأقطاع والجوائز ورحل إلى بجاية لما آنس من صاغية أهلها إلى الدعوة الحفصيّة. فلما أطلّ عليها ثار أهلها بالعمّال الذين كان السلطان أنزلهم بها واستباحوهم وأفلتوا من أيدي نكبتهم بحريفة الرفل [1] ودخل الفضل إلى بجاية واستولى على كرسي ملكها. ونظّمها مع قسنطينة وبونة في ملكه. وأعاد ألقاب الخلافة ورسومها وشتاتها كما كانت، واعتزم على الرحيل إلى الحضرة. وبينما هو يحدّث نفسه بذلك إذ وصل الخبر بقدوم أمراء بجاية وقسنطينة من المغرب، وكان من خبرها أنّ الأمير أبا عنّان لما بلغه خبر الواقعة بأبيه وانتزاء منصور ابن أخيه إلى ملكه [2] بالبلد الجديد دار ملكهم، وأحسّ بخلاص أبيه من هوّة الحصار بالقيروان وثب على الأمر ودعا لنفسه، ورحل إلى المغرب كما نذكره في أخباره. وسرّح الأمير أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية والأنباء إلى عمله. وأمدّه بالأموال وأخذ عليه المواثيق ليكونن له ردءا دون أبيه، وليحولنّ بينه وبين الخلوص متى مرّ به. وانطلق أبو عبد الله إلى بجاية وقد سبقه إليها عمّه الفضل واستولى عليها فنازله بها وطال حصارها، ولحق بمكانه من منازلتها نبيل المولى ابن المعلوجي مولى الأمير أبي عبد الله وكافل بنيه من بعده. وتقدّم إلى قسنطينة وبها عامل من قبل الفضل، فثار به الناس لحينه، ودخل نبيل وملك البلد وأقام فيها دعوة الأمير أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله. وكان الأمير أبو عنّان استصحبه وإخوانه إلى المغرب، وبعد احتلاله بفاس سرّحهم إلى   [1] وفي نسخة ثانية: بجريعة الذقن. أي بمعنى برمق أنفسهم. [2] وفي نسخة ثانية: ابى مالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 مكان إمارتهم بقسنطينة بعد أن أخذ عليهم الموثق في شأن أبيه بمثل موثق ابن عمّهم فجاءوا على أثر نبيل مولاهم ودخلوا البلد واحتل أبو زيد منها بمكان إمارته وسلطان قدمه كما قبل رحلتهم إلى المغرب. ولم يزل الأمير أبو عبد الله ينازل بجاية إلى أن بيّتها بعض ليالي رمضان من سنته بمداخلة بعض الأشياع من رجالها داخلهم مولاه وكافله فارح في ذلك، فسرّب فيهم الأموال وواعدوه للبيات، وفتحوا له باب البرّ من أبوابها واقتحمه وفاجأهم هدير الطبول فهبّ السلطان من نومه وخرج من قصره فتسنّم الجبل المطلّ عليها وتسرّب في شعابه إلى أن وضح الصباح وظهر عليه فجيء به إلى ابن أخيه فمنّ عليه واستبقاه، وأركبه السفينة إلى بلد بونة في شوّال من سنة تسع وأربعين وسبعمائة ووجد بعض الأعياص من قرابته قد ثاروا بها، وهو محمد بن عبد الواحد من ولد أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا الأكبر كان هو وأخوه عمر بالحضرة، وكان لعمر منها النظر على القرابة. فلما كان هذا الاضطراب لحقوا بالفضل وتركهم ببونة عند سفره إلى بجاية، فحدّثتهم أنفسهم بالانتزاء فلم يتم لهم أمر. وثارت بهم الحاشية والعامّة فقتلوا لوقتهم ووافى الفضل إلى بونة وقد انجلت غيمتهم ومحيت آثارهم فدخل إلى قصره وألقى عصا تسياره، واستقل الأمير أبو عبد الله ابن الأمير أبي زكريا ببجاية محلّ إمارة أبيه الأمير أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله بقسنطينة محلّ إمارة أبيه، والأمير أبو العباس الفضل ببونة محلّ إمارته منذ عهد الأمر والسلطان أبو الحسن بتونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن حركة الفضل الى تونس بعد رحيل السلطان أبي الحسن الى المغرب) كان العرب بعد ما قدمنا من طاعتهم وإسلامهم سلطانهم إلى أبي دبّوس قد انفضّوا عن السلطان أبي الحسن وأجلبوا عليه ثانية، وتولّى كبر ذلك قتيبة بن حمزة، وخالف إلى السلطان أخوه خالد مع أولاد مهلهل وافترق أمرهم. وخرج كبيرهم عمر ابن حمزة حاجّا فاستقدم قتيبة وأصحابه الأمير الفضل من مكان إمارته ببونة لطلب حقّه واسترجاع ملك آبائه فأجابهم ووصل إلى أحيائهم آخر سنة تسع وأربعين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 وسبعمائة، فنازلوا تونس وأجلبوا عليها. ثم أفرجوا عن منازلتها أوّل سنة خمسين وسبعمائة، وأفرجوا عنها آخر المصيف واستدعاهم أبو القاسم بن عتو صاحب الجريد من مكان عمله بتوزر فدخل في طاعة الفضل وحمل أهل الجريد كلّهم عليها واتبعه في ذلك بنو مكي وانتقضت إفريقية عن السلطان أبي الحسن من أطرافها فركب أساطيله إلى المغرب أيام الفطر من سنة خمسين وسبعمائة ومضى المولى الفضل إلى تونس وبها أبو الفضل ابن السلطان أبي الحسن، كان أبوه قد عقد له عليها عند رحيله إلى المغرب تفاديا عن ثورات الغوغاء ومضرّة هيعتهم، وأمّن عليه بما كان عقد له من الصهر مع عمر بن حمزة في ابنته، فلما أطلّت رايات المولى الفضل على تونس أيام الحج نبضت عروق التشيّع للدعوة الحفصيّة، وأحاطت الغوغاء بالقصر ورجموه بالحجارة. وأرسل أبو الفضل إلى بني حمزة متذمّما بصهرهم فدخل عليه أبو الليل وأخرجه ومن معه إلى الحيّ واستركب له من رجالات بني كعب من أبلغه مأمنه وهداه السبيل إلى وطنه، ودخل الفضل إلى الحضرة وقعد بمجلس آبائه من الخلافة وجدّد ما طمسته بنو مرين من معالم الدولة واستمرّ أمره على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مهلك الفضل وبيعة أخيه المولى أبي إسحاق في كفالة أبي محمد بن تافراكين وتحت استبداده) لما دخل أبو العباس الفضل إلى الحضرة واستبدّ بملكها عقد على حجابته لأحمد بن محمد بن عتو نائبا عن عمّه أبي القاسم ريثما يفيء من الجريد وعقد على جيشه وحربه لمحمد بن الشواش من بطانته. وكان وليه المطارد به أبو الليل قتيبة بن حمزة مستبدّا عليه في سائر أحواله مشتطا في طلباته. وأنف له بطانته من ذلك فحملوه على التنكّر له، وأن يديل منه بولاية خالد أخيه وبعث عن أبي القاسم بن عتو وقد قلّده في حجابته وفوّض إليه أمره وجعل مقاد الدولة بيده، فركب إليه البحر من سوسة واستألف له خالد بن حمزة ظهيرا على أخيه بعد أن نبذ إليه عهده وفاوضهم أبو الليل ابن حمزة قبل استحكام أمورهم فغلب على السلطان وحمله على عزله قائده محمد بن الشواش فدفعه إلى بونة على عساكرها. واضطربت نار الفتنة بين أبي الليل بن حمزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 وبين أخيه خالد، وكاد شملهم أن يتصدّع. وبينما هم يجيشون نار الحرب ويجمعون الجموع والأحزاب إذ قدم كبيرهم عمر وأبو محمد عبد الله بن تافراكين من حجهم. وكان ابن تافراكين لما احتل بالإسكندرية بعث السلطان فيه إلى أهل المشرق، وخاطبه ملوك مصر في التحكيم فيه فأجاره عليه الأمير المستبد على الدولة يومئذ بيقاروس. وخرج من مصر لقضاء فرضه، وخرج عمر بن حمزة لقضاء فرضه أيضا فاجتمعا في مشاهد الحاج آخر سنة خمسين وسبعمائة وتعاقدا على الرجوع إلى إفريقية والتظاهر على أمرهما وقفلا فألقيا خالدا وقتيبة على الصفين فأشار عمر بن داية فاجتمعا وتواقفا ومسح الإحن من صدورهما، وتواطئوا جميعا على المكر بالسلطان، وبعث إليه وليه قتيبة بالمراجعة فقبله واتفقوا على أن يقلّد حجابته أبا محمد ابن تافراكين صاحب أبيه وكبير دولته، ويديل به من ابن عتو فأبى. ثم أصبحت ونزلت أحياؤهم ظاهر البلد واستحثّوا السلطان للخروج إليهم ليكملوا عقد ذلك ووقف بساحة البلد إلى أن أحاطوا به، ثم اقتادوه إلى بيوتهم وأذنوا لابن تافراكين في دخول البلد، فدخلها لإحدى عشرة من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وعمد إلى دار المولى أبي إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي بكر فاستخرجه بعد أن بذل من العهد لأمّه والمواثيق ما رضيتها، وجاء به إلى القصر وأقعده على كرسي الخلافة وبايع له الناس خاصّة وعامّة وهو يومئذ غلام مناهز فانعقدت بيعته. ودخل بنو كعب فآتوه طاعتهم وسيق إليه أخوه الفضل ليلتئذ فاعتقل وغط من جوف الليل بمحبسه حتى فاض ولاذ حاجبه أبو القاسم بن عتو بالاختفاء في غيابات البلد وعثر عليه لليال فاعتقل وامتحن وهلك في امتحانه، وخوطب العمّال في الجهات بأخذ البيعة على من قبلهم فبعثوا بها واستقام ابن بهلول صاحب توزر على الطاعة وبعث بالجباية والهدية، واتبعه صاحب نفطة وصاحب قفصة وخالفهم ابن مكّي وذهب إلى الاجلاب على ابن تافراكين لما كان قد كفل السلطان وحجزه عن التصرّف في أمره واستبدّ عليه إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 (الخبر عن حركة صاحب قسنطينة وما كان من حجابة أبي العباس بن مكّي وتصاريف ذلك) لما استولى أبو محمد بن تافراكين على تونس وبايع للمولى أبي إسحاق بالخلافة واستبدّ عليه نقم عليه الأمراء شأن استبداده ونقمه ابن مكيّ للسعي عليه لمنافسة كانت بينهما قديمة من لدن أيام السلطان أبي بكر. واستعان على ذلك بأولاد مهلهل مقاسمي أولاد أبي الليل في رياسة الكعوب ومجاذبيهم حبل الإمارة، فلما رأوا صاغيه ابن تافراكين إلى أولاد أبي الليل أقتالهم أجمعوا له ولهم، وحالفوا بني حكيم من قبائل علان [1] ، وأجلبوا على الضواحي وشنوا الغارات. ثم وفد على الأمير أبي زيد صاحب قسنطينة وأعمالها يستحثهم للنهوص إلى إفريقية واستخلاص ملك آبائه ممن استبدّ عليه واحتازه، دونهم فسرّح معهم عسكرين لنظر ميمون ومنصور الجاهل من مواليه وموالي أبيه، وارتحلوا من قسنطينة. وارتحل معهم يعقوب بن علي كبير الزواودة بمن معه من قومه وسرّح أبو محمد بن تافراكين من الحضرة للقاسم عسكرا مع أبي الليل بن حمزة لنظر مقاتل من موالي السلطان، والتقى الجمعان ببلاد هوّارة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة فكانت الدبرة على أولاد أبي الليل. وقتل يومئذ أبو الليل قتيبة بن حمزة بيد يعقوب بن سحيم من أولاد القوس شيوخ بني حكيم، ورجع فلّهم إلى تونس وامتدّت أيدي أولاد مهلهل وعساكر قسنطينة في البلاد وجبوا الأموال من أوطان هوارة وانتهوا إلى أبدة [2] . ثم قفلوا راحلين إلى قسنطينة، وولي على أولاد أبي الليل مكان قتيبة أخوه خالد بن حمزة، وقام بأمرهم، وكان أبو العباس بن مكّي أثناء ذلك يكاتب المولى أبا زيد صاحب قسنطينة من مكان ولايته بقابس ويعده من نفسه الوفادة والمدد بالمال والأحزاب والقيام بأعطيات العرب، حتى إذا انصرم فصل الشتاء ووفد عليه مع أولاد مهلهل لقاه مبرّة وتكريما. وعقد له على حجابته وجمع عساكره وجهّز آلاته وأزاح علل تابعه، ورحل من قسنطينة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة في صفر، وجهّز أبو محمد بن   [1] وفي نسخة أخرى: علاق وقد مرت معنا من قبل. [2] وفي نسخة أخرى: أبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 تافراكين سلطانه أبا إسحاق لما يحتاج إليه من العساكر والآلة، وجعل على حربه ابنه أبا عبد الله محمد بن نزار من طبقة الفقهاء ومشيخة الكتّاب، كان يعلّم أبناء السلطان الكتاب ويقرئهم القرآن كما قدّمناه، وفصل من تونس في التعبية حتى إذا تراءى الجمعان كرّ محمد وتزاحفوا فاختل مصاف السلطان أبي إسحاق، وافترقت جموعه وولّوا منهزمين. واتبعهم القوم عشية يومهم ولحق السلطان بصاحبه أبي محمد بن تافراكين بتونس وجاءوا على أثره فنازلوا تونس أياما وطالت عليهم الحرب. ثم امتنعت عليهم وارتحلوا إلى القيروان، ثم إلى قفصة، وبلغهم أنّ ملك المغرب الأقصى السلطان أبا عبد الله قد خالفهم إلى قسنطينة بمداخلة أبي محمد بن تافراكين واستجاشته. ونازل جهات قسنطينة وانتهب زروعها وشنّ الغارات عليها وفي بسائطها فبلغهم أنه رجع إلى بجاية منكمشا من زحف بني مرين، واعتزم الأمير أبو زيد على مبادرة ثغره ودار إمارته يعني قسنطينة. ورغب إليه أبو العباس بن مكّي وأولاد مهلهل أن يخلف بينهم من إخوانه من يجتمعون إليه ويزاحفون به، فولّى عليهم أخاه العباس فبايعوه، وأقام فيهم هو وشقيقه أبو يحيى زكريا إلى أن كان من شأنه ما نذكر، وانصرف الأمير أبو زيد عند ذلك من قفصة يغذّ السير إلى قسنطينة واحتل بها في جمادى من سنته والله تعالى أعلم. (الخبر عن وفادة صاحب بجاية على أبي عنان واستيلائه عليه وعلى بلده ومطلبه قسنطينة) كان بين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية وبين الأمير أبي عنّان أيام إمارته بتلمسان، ونزول الأعياص الحفصيّين بندرومة ووجدة أيام أبيه كما ذكرناه اتصال ومخالصة، أحكمها بينهما نسب للشباب والملك وسابقة الصهر، فكان الأمير أبو عبد الله من أجل ذلك صاغية إلى بني مرين أوجد بها السبيل على ملكه. ولما مرّ السلطان أبو الحسن في أسطوله عند ارتحاله من تونس كما قدّمناه أمر أهل سواحله بمنعه الماء والأقوات من سائر جهاتها رعيا للذمة التي اعتقدها مع الأمير أبي عنّان في شأنه وجنوحا إلى تشييع سلطانه. ولما أوقع السلطان أبو عنان ببني عبد الواد سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة واستولى على المغرب الأوسط ونجا فلّهم إلى بجاية أوعز إلى الأمير أبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 عبد الله باعتراضهم في جهاته والتقبّض عليهم فأجابه إلى ذلك، وبعث العيون بالمراصد فعثروا في ضواحي بجاية على محمد ابن سلطانهم أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن، وعلى أخيه أبي ثابت الزعيم بن عبد الرحمن وعلى وزيرهم يحيى بن داود بن سليمان فأوثقوهم اعتقالا، وبعث بهم إلى السلطان أبي عنّان. ثم جاء على أثرهم فتلقّاه بالقبول والتكرمة وأنزله بأحسن نزل. ثم دسّ إليه من أغراه بالنزول له عن بجاية رغبة فيما عند السلطان إزاء ذلك من التجلّة والادالة عنها بمكناسة المغرب، الراحة من زبون الجند والبطانة، وأخفافا مما سواه إن لم يعتمده فأجاب إليه على اليأس والكره، وشهد مجلس السلطان والملا من بني مرين بالرغبة في ذلك، فأسعف وانيفت [1] جائزته، واقتطعت له مكناسة من أعمال المغرب. ثم انتزعها لأيام قلائل ونقله في جملته إلى المغرب، وبعث الأمير أبو عنّان مولاه فارحا المستبدّ عليه ليأتيه بأهله وولده، وعقد أبو عنّان على بجاية لعمر بن علي ابن الوزير من بني واطاس، وهم ينتسبون بزعمهم إلى علي بن يوسف أمير لمتونة فاختصّه أبو عنّان بولايتها لمتانة هذا النسب الصنهاجي بينه وبين أهل وطنها منهم. وانصرفوا جميعا من المريّة. ولما احتلوا بجاية تآمر أولياء الدعوة الحفصية ومن بها من صنهاجة والموالي وهجست [2] رجالاتهم في قتل عمر بن علي الوزير وأشياع بني مرين، وتصدّى لذلك زعيم صنهاجة منصور بن إبراهيم بن الحاج في رجالات من قومه بإملاء فارح كما زعموا. وغدوا عليه في داره من القصبة فأكبّ عليه منصور يناجيه فطعنه وطعن آخر منهم القاضي ابن مركان [3] بما كان شيعة لبني مرين. ثم أجهزوا على عمر بن علي ومضى القاضي إلى داره فمات. واتصلت الهيعة بفارح فركب إليه وهتف الهاتف بدعوة صاحب قسنطينة المولى أبي زيد، وطيّروا إليه بالخبر واستحثّوه للقدوم. وأقاموا على ذلك أياما ثم تآمر الملأ من أهل بجاية في التمسّك بدعوة صاحب المغرب خوفا من بوادره فثاروا بفارح وقتلوه أيام التشريق من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وبعثوا برأسه إلى السلطان بتلمسان. وتولى كبر ذلك هلال صاحبه من موالي ابن سيّد الناس ومحمد بن الحاجب أبي عبد الله بن   [1] وفي نسخة ثانية: واسنيت. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى تمشت. [3] وفي نسخة أخرى: ابن فركان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 سيّد الناس ومشيخة البلد، واستقدموا العامل حواس [1] من بني مرين وهو يحيى بن عمر بن عبد المؤمن من بني ونكاس فبادر اليهم. وسرّح السلطان أبو عنّان إليها حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبي عمر في الكتائب فدخلها فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وذهبت صنهاجة في كل وجه ولحق كبارهم وذوو الفعلة منه بتونس، وتقبّض على هلال مولى ابن سيّد الناس لما داخلته فيه من الظنّة، وعلى القاضي محمد بن عمر لما كان شيعة لفارح، وعلى زعماء [2] الغوغاء من أهل المدينة وأشخصهم معتقلين إلى المغرب. وصرف نظره إلى تمهيد الوطن واستدعى كبراء العرب وأهل النواحي من أعمال بجاية وقسنطينة. ووفد عليه يوسف بن مزني صاحب الزاب ومشيخة الزواودة فاسترهن أبناءهم على الطاعة، وقفل بهم إلى المغرب. واستعمل أبو عنّان على بجاية موسى بن إبراهيم اليرنياني من طبقة الوزراء وبعثه إليها. ولما وفدوا على السلطان جلس جلوسا فخما، ووصلوا إليه ولقاهم تكرمة ومبرّة، وأوسعهم حباء واقطاعا وأنفذ لهم الصكوك والسجلات وأخذ على طاعتهم العهود والمواثيق والرهن وانقلبوا إلى أهلهم وعقد لحاجبه ابن أبي عمر وعلى بجاية وأعمالها وعلى حرب قسنطينة من ورائها، ورجّعه إليها فدخلها في رجب من سنته. وأوعز السلطان إلى موسى بن إبراهيم بالولاية على سدويكش والنزول ببني ياورار في كتيبة جهّزها هنالك لمضايقة قسنطينة وجباية وطنها، وكل ذلك لنظر الحاجب ببجاية، وكان بقسنطينة أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن معتقلا من لدن واقعة بني مرين بها. وكان موسوسا في عقله معروفا بالجنون عند قومه. وكان الأمراء بقسنطينة قد أسنوا جرايته في اعتقاله وأولوه من المبرّة والكفاية كفاء نسبه [3] . فلما زحف كتائب بني مرين إلى بني ياورار آخر عمل بجاية ودانوا قسنطينة ومن بها من الحروب والحصار، نصب المولى أبو زيد هذا الموسوس أبا عمر ليجأجئ به رجالات بني مرين أهل العسكر ببجاية وبني ياورار، وجهّز له الآلة، وتسامعوا بذلك ففزع إليهم الكثير منهم. وخرج نبيل حاجب الأمير أبي زيد إلى أهل صنهاجة من بونة   [1] وفي نسخة أخرى: بتولس. [2] وفي نسخة أخرى: عرفاء. [3] وفي نسخة أخرى: من المبرّة والحفاوة كفاء نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 ومن كان على دعوته من سدويكش والزواودة فجمعهم وزحفوا جميعا الى وطن بجاية، واتصل الخبر بالحاجب ببجاية فبعث في الزواودة من مشاتيهم بالصحراء فأقبلوا إليه حتى نزلوا التلول. ووفد عليه أبو دينار بن علي بن أحمد واستحثّه للحركة على قسنطينة فاعترض عساكره وأزاح عللهم، وخرج من بجاية في ربيع من سنة خمسين وسبعمائة فكرّ أبو عمر ومن معه راجعين إلى قسنطينة. وزحف الحاجب فيمن معه من بني مرين والزواودة وسدويكش، ولقيهم نبيل الحاجب بمن معه فكانت عليه الدبرة. واكتسحت أموال بونة، ورجع ابن أبي عمر بعساكره إلى قسنطينة فأناخ عليها سبعا. ثم ارتحل عنها إلى ميلة، وعقد يعقوب بن علي بين الفريقين صلحا على أن يمكّنوه من أبي عمر الموسوس، فبعثوا به إلى أخيه السلطان أبي عنّان فأنزله ببعض الحجر، ورتّب عليه الحرس. وسار الحاجب في نواحي أعماله وانتهى إلى المسيلة واقتضى مغارمها، ثم انكفأ راجعا إلى بجاية وهلك فاتح سنة ست وخمسين وسبعمائة وعقد السلطان على بجاية وأعمالها بعده لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد من بني بابان [1] وسرّحه إليها فدخلها، وزحف إلى قسنطينة فحاصرها وامتنعت عليه فرجع إلى بجاية. ثم زحف من العام المقبل سنة سبع وخمسين وسبعمائة كذلك ونصب عليها المجانيق فامتنعت عليه وأرجف في عسكره بموت السلطان فانفضّوا وأحرق مجانيقه. ورجع الى بجاية جمرّ الكتائب ببني ياورار لنظر موسى بن إبراهيم اليرنياني عامل سدويكش إلى أن كان من الإيقاع به وبعسكره ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم. (الخبر عن حادثة طرابلس واستيلاء النصارى عليها ثم رجوعها الى ابن مكي) كانت طرابلس هذه ثغرا منذ الدول القديمة وكانت لهم عناية بحمايتها لما كان وضعها في البسيط، وكانت ضواحيها قفرا من القبائل فكان النصارى أهل صقلّيّة كثيرا ما يحدّثون أنفسهم بملكها. وكان ميخاييل الأنطاكي صاحب أسطول رجّار قد تملّكها   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يابان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 من أيدي بني حزروق [1] من مغراوة آخر دولتهم ودولة صنهاجة كما ذكرنا. ثم رجّعها ابن مطروح ودخلت في دعوة الموحّدين ومرّت عليها الأيام إلى أن استبدّ بها ابن ثابت ووليها من بعده ابنه في أعوام خمسين وسبعمائة منقطعا عن الحضرة ومقيما رسم الدعوة. وكان تجّار الجنوبيين يتردّدون إليها فاطلعوا على عوراتها وائتمروا في غزوها واتّعدوا لمرساها فوافوه سنة خمس وخمسين وانتشروا بالبلد في حاجاتهم ثم بيّتوها ذات ليلة فصعدوا أسوارها وملكوها عليهم. وهتف هاتفهم بالحرب وقد لبسوا السلاح فارتاعوا وهبّوا من مضاجعهم، فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همّهم بالحرب وقد لبسوا السلاح فارتاعوا وهبّوا من مضاجعهم، فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همّهم إلا النجاة بأنفسهم. ونجا ثابت بن محمد مقدّمهم إلى حلّة الجوار في أعراب وطنها من دباب إحدى بطون بني سليم، فقتل لدم كان أصابه منهم. ولحق أخويه بالإسكندرية، واستباحها النصارى، واحتملوا في سفنهم ما وجدوا بها من الخرثيّ والمتاع والعقائل والأسرى وأقاموا بها. وداخلهم أبو العباس بن مكي صاحب قابس في فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفا من الذهب العين، فبعث فيها لملك المغرب السلطان أبي عنّان يطرفه بمثوبتها. ثم تعجّلوا عليه فجمع ما عنده واستوهب ما بقي من أهل قابس والحامّه وبلاد الجريد فجمعوها له حسبة ورغبة في الخير. وأمكنه النصارى من طرابلس فملكها واستولى عليها وأزال ما دنّسها من وضر الكفر. وبعث السلطان أبو عنّان بالمال إليه وأن يردّ على الناس ما أعطوه وينفرد بمثوبتها وذكرها فامتنعوا إلا قليلا منهم، ووضع المال عند ابن مكي لذلك، ولم يزل ابن مكي أميرا عليها إلى أن هلك كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى. (الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أمير المؤمنين ومفتتح أمره السعيدة بقسنطينة) كان الأمير أبو زيد قد ولي الأمر من بعد أبيه الأمير أبي عبد الله بولاية جدّه الخليفة أبي بكر، وكان إخوته جميعا في جملته، ومنهم السلطان أبو العبّاس أمير المؤمنين لهذا   [1] وفي نسخة ثانية خيزرون واسمه الصحيح خزرون (قبائل المغرب ص 166) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 العهد، والمنفرد بالدعوة الحفصيّة من لدن مهلك أبيهم يرون أنّ الوراثة لهم، وان الأمر فيهم حتى لقد يحكى عن شيخ وقته الوليّ أبي هادي المشهور الذكر، وكان من أهل المكاشفة، أنه قال ذات يوم وقد جاءوا لزيارته بأجمعهم على طريقهم وسنن أسلافهم في التبرّك بالأولياء فدعا لهم الشيخ ما شاء الله ثم قال: البركة إن شاء الله في هذا العش، وأشار إلى الإخوة مجتمعين، وكان الحذاق [1] والمنجّمون أيضا يخبرون بمثلها، ويحومون بوطنهم على أبي العباس منهم لما يتفرّسون فيه من الشواهد والمخايل. فلما كان من منازلة أخيه أبي زيد بتونس سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ما قدّمناه، ثم ارتحل عنها إلى نفطة وأراد الرجوع إلى قسنطينة للارجاف يسائل [2] السلطان أبا عثمان وأنه زحف إلى آخر عمله من تخوم بجاية، رغب إليه حينئذ أولاد مهلهل أولياؤه من العرب وشيعته حاجبه أبو العباس بن مكي صاحب عمل قابس وجربة أن يستعمل عليهم من إخوته من يقيم معهم لمعاودة تونس بالحصار، فسرّح أخاه مولانا أبا العبّاس فتخلّف معهم لذلك وفي جملته شقيقه أبو يحيى فأقاما بقابس. وكان صاحب طرابلس محمد بن ثابت قد بعث أسطوله لحصار جربة فدخل الأمير أبو العبّاس بمن معه الجزيرة وخاضوا إليها البحر فأجفل عسكر ابن ثابت وأفرجوا عن الحصن. ثم رجع السلطان إلى قابس وزحف العرب أولاد مهلهل إلى تونس وحاصروها أياما فامتنعت عليهم. ورجع إلى أعمال الجريد وأوفد أخاه أبا يحيى زكريا على السلطان صريخا سنة خمس وخمسين وسبعمائة فلقاه مبرّة ورحبا، وأسنى جائزته وأحسن وعده وانكفأ راجعا عنه إلى وطنه، ومرّ بالحاجب أبي عمر عند إفراجه عن قسنطينة، ولحق بأخيه بمكانه من قاصية إفريقية واتصلت أيديهما على طلب حقهما. وفي خلال ذلك فسد ما بين أبي محمد بن تافراكين صاحب الأمر بتونس وبين خالد ابن حمزة كبير أولاد أبي الليل فعدل عنه إلى أقتاله وأولاد مهلهل، واستدعاهم للمظاهرة فأقبلوا عليه. وتحيّز خالد إلى السلطان أبي العبّاس وزحفوا معه إلى تونس فنازلوها سنة ست وخمسين وسبعمائة وامتنعت عليهم وأفرجوا عنها واستقدمه أخوه أبو زيد إثر ذلك لينصره من عساكر بني مرين عند ما تكاثفوا عليه، وضاق به الحصار   [1] وفي نسخة أخرى: الحزى جمع حازي وهو الّذي يزاجر الطير ليتكهّن. [2] وفي نسخة أخرى: بشأن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 واستخلف على قسنطينة أخاه أبا العبّاس فدخلها ونزل بقصور الملك منها، واقام بها مدّة وعساكر بني مرين قد ملأت عليه الضاحية فدعاه الأولياء إلى الاستبداد وأنه أبلغ في المدافعة والحماية لما كانوا يتوقعون من زحف العساكر إليهم من بجاية، فأجاب وبويع شهر [1] من سنة ست وخمسين، وانعقد أمره. وزحف عبد الله بن عليّ صاحب بجاية إلى قسنطينة من سنته، وفي سنة سبع بعدها فحاصرها ونصب المجانيق. ثم أجفل آخر الإرجاف كما ذكرناه. وتنفّس مخنق الحصار عن قسنطينة، وكان الأمير أبو زيد أخوه لما ذهب مع خالد إلى تونس ونازلها امتنعت عليه، ورجع وقد استبدّ أخوه بأمر قسنطينة فعدل إلى بونة وراسل أبا محمد بن تافراكين في سكنى الحضرة والنزول لهم عن بونة فأجابه ونزل عنها الأمير أبو زيد لعمّه السلطان أبي إسحاق. وتحوّل إلى تونس فأوسعوا له المنازل وأسنوا الجرايات والجوائز، وأقام في كفالة عمّه إلى أن كان من أمره ما نذكره والله أعلم. (الخبر عن واقعة موسى بن إبراهيم واستيلاء أبي عنان بعد على قسنطينة وما تخلل ذلك من الأحداث) لما استبدّ السلطان أبو العباس بالأمر وزحفت إليه عساكر بجاية وبني مرين، فأحسن دفاعها عن بلده. وتبين لأهل الضاحية مخايل الظهور فيه فداخله رجالات من سدويكش من أولاد المهدي بن يوسف في غزو موسى بن إبراهيم وكتائبه المجمّرة ببني ياورار، ودعوا إلى ذلك ميمون بن عليّ بن أحمد وكان منحرفا عن أخيه يعقوب ظهير بني مرين ومناصحهم فأجاب. وسرّح السلطان أخاه أبا يحيى زكريا بينهم بمن في جملته من العساكر وصبحوهم في غارة شعواء، فلما شارفوهم ركبوا إليهم فتقدّموا ثم أحجموا واختلّ مصافّهم وأحيط بهم وأثخن قائد العسكر موسى بن إبراهيم بالجراحة واستلحم بنوه زيّان وأبو القاسم ومن إليهم وكانوا أسود هياج وفرسان ملحمة   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذا الشهر في المراجع التي بين أيدينا. وفي نسخة أخرى سنة خمس وخمسين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 في آخرين من أمثالهم وتتبعوا بالقتل والنهب إلى أن استبيحوا ونجا فلهم إلى بجاية ولحقوا بالسلطان أبي عنّان. ولما بلغه الخبر قام في ركائبه وقعد وفتح ديوان العطاء وبعث وزراءه للحشد في الجهات. وأعدّ من الجنود وأزاح العلل وشكا له موسى بن إبراهيم قعود عبد الله بن علي صاحب بجاية عن نصره فسخطه ونكبه وعقد مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود، وتلوّم بعده أشهرا في تجهيز العساكر، وبعث السلطان أبو العبّاس أخاه أبا يحيى إلى تونس صريخا لعمّه السلطان أبي إسحاق فأعجله الأمر عن الإياب إليه، وارتحل أبو عنّان في عساكره. ثم بعث في مقدّمته وزيره فارس بن ميمون بن ودرار، وزحف على أثره في ربيع سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وأغذّ السير إلى قسنطينة وقد نازلها وزيره ابن ودرار قبله. فلما نزل بساحتها وقد طبقوا الأرض الفضاء بجيوشه وعساكره وجم أهل البلد، وأدركهم الدهش فانفضوا وتسلّلوا إليه. وتحيّز السلطان أبو العبّاس إلى القصبة فامتنع بها حتى توثّق لنفسه بالعهد. ثم نزل إليه فلقاه تكرمة ورحبا وأسنى له الفساطيط في جواره. ثم بدا له لأيام قلائل فنقض عهده وأركبه السفن إلى المغرب، وأنزله بسبتة ورتّب عليه الحرس، وبعث خلال ذلك إلى بونة فدخلت في طاعته، وفرّ عنها عمّال الحضرة. ولما استولى عقد على قسنطينة لمنصور بن مخلوف شيخ بني بابان من قبيل [1] بني مرين. ثم بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراكين في الأخذ بطاعته والنزول عن تونس فردّهم، وأخرج سلطانه المولى أبا إسحاق مع أولاد أبي الليل ومن إليهم من العرب بعد أن جهّز له العساكر وما يصلح من الآلة والجند، وأقام هو بتونس وأجمع أبو عنّان النهوض إليه، ووفد عليه أولاد مهلهل يستحثّونه لذلك، فسرّح معهم عسكرا في البرّ لنظر يحيى بن رحو بن تاشفين معطي حشود بني [2] تيربيعين من قبائل بني مرين وصاحب الشورى في مجلسه. وسرّح عسكرا آخر في الأسطول لنظر محمد بن يوسف المعروف بالأبكم من بني الأحمر من الملوك بالأندلس لهذا العهد، فسبق الأسطول وصبحوا تونس وقاتلوها يوما أو بعض يوم، وأتيح لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين ولحق بالمهديّة، واستولت عساكر بني مرين على تونس في رمضان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وحقّ لهم الظهور فخرج   [1] وفي نسخة ثانية: من قبائل بني مرين. [2] وفي نسخة ثانية: يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي كبير تيربيعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 عنها أبو محمد بن تافراكين، ولحق يحيى بن رحو بعسكره فدخل البلد وأمضى فيها أوامر السلطان. ثم دعاه أولاد مهلهل إلى الخروج لمباغتة أولاد أبي الليل وسلطانهم فخرج معهم لذلك، وأقام ابن الأحمر وأهل الأسطول بالبلد في خلال ذلك جاهر يعقوب بن علي بالخلاف لما تبيّن من نكر السلطان أبي عنّان وإرهاف حدّه للعرب، ومطالبتهم بالرهن، وقبض أيديهم عن الأتاوات ومسح أعطافه بالمدراة فلم يقبلها، فلحق يعقوب بالرمل، واتّبعه السلطان فأعجزه فعدا على قصوره ومنازله بالبلد والصحراء فخرّبها وانتسفها. ثم رجع إلى قسنطينة وارتحل منها يريد إفريقية وقد نهض المولى أبو إسحاق بمن معه من العرب للقائه، وانتهوا إلى حصن سبتة. ثم تمشّت رجالات بني مرين وائتمروا في الرجوع عنه حذرا أن يصيبهم بإفريقية ما أصابهم من قبل، فانفضّوا متسلّلين إلى المغرب. ولما خفّ المعسكر من أهله أقصر عن القدوم إلى إفريقية فرجع إلى المغرب بمن بقي معه، واتبع العرب آثاره، وبلغ الخبر إلى أبي محمد بن تافراكين بمكان منجاته من المهديّة فسار إلى تونس. ولما أطلّ عليها ثار أهل البلد بمن كان عندهم من عسكر بني مرين وعمّالهم، فنجوا إلى الأسطول ودخل أبو محمد بن تافراكين إلى الحضرة وأعاد ما طمس من الدولة. ولحق به السلطان أبو إسحاق بعد أن تقدّم الأمير أبو زيد في عسكر الجنود والعرب لاتباع آثار بني مرين ومنازلة قسنطينة، فاتبعهم إلى تخوم عملهم ورجع أبو زيد إلى قسنطينة وقاتلها أياما فامتنعت عليه فانكفأ راجعا إلى الحضرة. ولم يزل مقيما بها إلى أن هلك عفا الله عنه وعنا آمين سنة [1] وكان أخوه يحيى بن زكريا قد لحق بتونس من قبل صريخا كما قلناه، فلما بلغهم أنّ قسنطينة قد أحيط بها تمسّكوا به فلحق به الفلّ من مواليهم وصنائعهم فكانوا معه إلى أن يسّر الله أسباب الخير والسعادة للمسلمين، وأعاد السلطان أبا العبّاس إلى الأمر من بعد مهلك أبي عنّان كما يذكر ومدّ إيالته على الخلق فطلع على الرعايا بالعدل والأمان وشمول العافية والإحسان، وكفّ أيدي العدوان ورفع الناس والدولة في ظلّ ظليل ومرعى جميل كما نذكر إن شاء الله.   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد سنة وفاته في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 (الخبر عن انتقاض الأمير أبي يحيى زكريا بالمهدية ودخوله في دولة أبي عنان ثم نزوله عنها الى الطاعة وتصاريف ذلك) كان الحاجب أبو محمد عند رجوعه إلى الحضرة صرف عنايته إلى تحصين المهديّة يعدّها للدولة وزرا من حادث ما يتوقعه من المغرب وأهله، فشيّد من أسوارها وشحن بالأقوات والأسلحة مخازنها ومستودعاتها، وكان أحمد بن خلف من أوليائه وذويه مستبدا عليه فأقام على ذلك حولا أو بعضه. ثم ضجر الأمير أبو يحيى زكريا من الاستبداد عليه واستنكف من حجره في سلطانه فوثب به [1] أحمد بن خلف فقتله، وبعث عن أبي العبّاس أحمد بن مكي صاحب جربة وقابس ليقيم له رسم الحجابة لما كان مناوئا لأبي محمد بن تافراكين كافله فوصل إليه، وطيّروا بالخبر إلى السلطان أبي عنّان صاحب المغرب وبعثوا إليه ببيعتهم واستحثّوه لصريخهم. واضطراب أمرهم وسرّح أبو محمد بن تافراكين إليها العسكر فأجفلوا أمامه، ولحق المولى أبو يحيى زكريا بقابس، واستولى عليها العسكر واستعمل عليها أبو محمد بن تافراكين محمد بن الحكجاك من قرابة ابن ثابت، اصطنعه عند ما وقعت الحادثة على طرابلس، ولحق به فاستعمله على المهديّة. ولمّا وصل الخبر إلى أبي عنّان بشأن المهديّة جهّز إليها الأسطول وشحنه بالمقاتلة والرجال، وعيّن الموالي والخاصّة فألفوها وقد رجعت إلى إيالة الحضرة، ووصل إليها ابن الحكجاك وأقام بها وحسن غناؤه فيها إلى أن كان من أمره ما نذكر. وأقام الأمير زكريا بقابس، وأجلب به أبو العبّاس بن مكي على تونس. ثم بعثوه بالزواودة ونزل على يعقوب بن علي وأصهر إليه في ابنة أخيه سعيد، فعقد له عليها. ولما استولى أخوه أبو إسحاق على بجاية استعمله على سدويكش بعض الأعوام، ولم يزل بين الزواودة إلى أن هلك سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكره بعد والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى فبيّت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 (الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على بجاية وإعادة الدعوة الحفصية إليها) لما رجع السلطان أبو عنّان من قسنطينة إلى المغرب أراح بسبتة [1] ، وسرّح عساكره من العام المقبل إلى إفريقية لنظر وزيره سليمان بن داود فسار في نواحي قسنطينة ومعه ميمون بن علي بن أحمد اديل من يعقوب على قومه من الزواودة، وعثمان بن يوسف ابن سليمان شيخ أولاد سبّاع منهم. وحضر معهم يوسف بن مزني عامل الزاب، أوعز إليه السلطان بذلك فدوّخ الجهات وانتهى إلى آخر وطن بونة، واقتضى المغارم. ثم انكفأ راجعا إلى المغرب وهلك السلطان أبو عنّان إثر قفوله سنة تسع وخمسين وسبعمائة واضطرب المغرب ثم استقام على طاعة أخيه السلطان أبي سالم كما نذكره. وكان أهل بجاية قد نقموا على عاملهم يحيى بن ميمون من بطانة السلطان أبي عنّان سوء ملكته وشدّة سطوته وعسفه فداخلوا أبا محمد بن تافراكين على البعد في التوثّب به، فجهّز إليهم السلطان أبو إسحاق ما يحتاج إليه من العساكر والآلة، ونهض من تونس ومعه ابنه أبو عبد الله على العساكر. وتلقّاهم يعقوب بن علي وظاهرهم على أمرهم وسار أخوه أبو دينار في جملتهم. ولما أطلق على بجاية ثارت الغوغاء بيحيى بن ميمون العامل، كان عليهم منذ عهد السلطان أبي عنّان، فألقى بيده وتقبّض عليه وعلى من كان من قومه، وأركبوا السفين إلى الحضرة، وأودعهم أبو محمد بن تافراكين سجونه تحت كرامة وجراية إلى أن من عليهم من بعد ذلك وأطلقهم إلى المغرب. ودخل السلطان ابو إسحاق إلى بجاية سنة إحدى وستين وسبعمائة واستبدّ بها بعض الاستبداد وحاجبه وكافله أبو محمد يدبّر أمره من الحضرة. ثم استقدم ابنه ونصب لوزارة السلطان أبي محمد عبد الواحد بن محمد بن أكمازير من مشيخة الموحّدين فكان يقيم له رسم الحجابة. وقام بأمر الرجل بالبلد من الغوغاء علي بن صالح من زعانفة بجاية وأوغادها، التفت عليه الثوار [2] والدعّار وأصبحت له بهم شوكة كان له بها تغلّب على الدولة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.   [1] وفي نسخة أخرى: اراح بسنته. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الشرار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 (الخبر عن فتح جربة ودخولها في دعوة السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة) هذه الجزيرة من جزر هذا البحر الّذي هو قريب [1] من قابس إلى الشرق عنها قليلا طولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلا، وعرضها من ناحية الغرب عشرون ميلا. ومن ناحية الشرق خمسة عشر ميلا، وبين فرضتيها في ناحية الغرب [2] ستون ميلا. وشجرها التين والنخل والزيتون والعنب، واختصّت بالنسيج [3] وعمل الصوف للباسهم فيتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال. وغير المعلمة للّباس. ويجلب منها الى الأقطار فينتقيه الناس للباسهم. وأهلها من البربر من كتامة وفيهم إلى الآن سدويكش وصدغيان من بطونهم، وفيهم أيضا من نغزة وهوّارة وسائر شعوب البربر. وكانوا قديما على رأي الخوارج، وبقي بها إلى الآن فريقان منهم الوهبية وهم بالناحية الغربيّة، ورياستهم لبني سمرمن [4] ، والنكارة وهم بالناحية الشرقية، وجربة فاصلة بينهما. والظهور والرئاسة على الكل لبني النجّار من الأنصار من جند مصر، ولّاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فغزا إفريقية وفتح جربة سنة سبع وأربعين بعدها، وشهد الفتح حسين بن عبد الله الصنعاني ورجع إلى برقة فمات بها. ولم تزل في ملكة المسلمين إلى أن دخل دين الخوارج إلى البربر فأخذوا به. ولما كان شأن أبي زيد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة فأخذوا بدعوته بعد أن دخلها عنوة، وقتل مقدّمها يومئذ ابن كلوس [5] وصلبه. ثم استردّها المنصور بن إسماعيل، وقتل أصحاب أبي زيد [6] . ولما غلبت العرب صنهاجة على الضواحي وصارت لهم أخذ أهل جربة في إنشاء الأساطيل وغزوا الساحل. ثم غزاهم علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس سنة تسع وخمسمائة   [1] وفي نسخة أخرى: الّذي يمر قريبا من قابس. [2] وفي نسخة ثانية: وبينها وبين قرقنّة في ناحية المغرب. [3] وفي نسخة ثانية: بالتفّاح. [4] وفي نسخة ثانية: سمومن. [5] كذا في النسخة الباريسية، وفي نسخة أخرى: ابن كلدين وفي نسخة ثانية: ابن الدين. [6] وفي نسخة ثانية: ابن يزيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 بأساطيله إلى أن انقادوا وضمنوا قطع الفساد وصلح الحال. ثم تغلّب النصارى عليها سنة تسع وعشرين وخمسمائة عند تغلّبهم على سواحل إفريقية. ثم ثار أهلها عليهم وأخرجوهم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ثم غلبوا عليها ثانية وسبوا أهلها واستعملوا على الرعيّة وأهل العلم [1] . ثم عادت للمسلمين ولم تزل متردّدة بين المسلمين والنصارى إلى أن غلب عليها الموحّدون أيام عبد المؤمن بن علي. واستقام أمرها إلى أن استبدّ أمراء بني حفص بإفريقية. ثم افترق أمرهم بعد حين واستبدّ المولى أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق بالناحية الغربيّة، وشغل صاحب الحضرة بشأنه كما قدّمناه، فتغلّب على هذه الجزيرة أهل صقلّيّة سنة ثمان وثمانين وستمائة وبنوا بها حصن القشتيل مربّع الشكل في كلّ ركن منه برج، وبين كل ركنين برج. ويجاوره حفير وسوران. وأهمّ المسلمين شأنها، ولم تزل عساكر الحضرة تتردّد إليها كما تقدّم إلى أن كان فتحها أيام السلطان أبي بكر على يد مخلوف بن الكماد من بطانته سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة واستضافها ابن مكي صاحب قابس إلى عمله فأضافها إليه، وعقد له عليها فصارت من عمله سائر أيام السلطان ومن بعده. واتصلت الفتنة بين أبي محمد بن تافراكين وبين ابن مكي، وبعث الحاجب أبو محمد ابن تافراكين عن أبيه أبي عبد الله، وكان في جملة السلطان ببجاية كما قلناه. ولمّا وصل إليه سرّحه في العساكر لحصار جربة وكان أهلها قد نقموا على ابن مكي سيرته فيهم ودسّوا إلى أبي محمد بن تافراكين بذلك فسرّح إليه ابنه في العساكر سنة ثلاث وستين وسبعمائة وكان أحمد بن مكي غائبا بطرابلس قد نزلها منذ ملكها من أيدي النصارى، وجعلها دارا لإمارته فنهض العسكر من الحضرة لنظر أبي عبد الله ابن الحاجب أبي محمد، ونزلوا في الأسطول فطلعوا بالجزيرة [2] وضايقوا القشتيل بالحصار إلى أن غلبوا عليه وملكوه. وأقاموا به دعوة صاحب الحضرة. واستعمل عليه أبو عبد الله ابن تافراكين كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون، كان من صنائع الدولة منذ العهد الأوّل، وكانت لأبيه قرابة من أبي عبد العزيز الحاجب ترقّى بها إلى ولاية الأشغال بتونس مناهضا لأبي القاسم بن طاهر الّذي كان يتولاها يومئذ، فكان رديفه عليها إلى أن هلك ابن طاهر فاستبدّ هو بها منذ أيام الحاجب أبي محمد   [1] وفي نسخة ثانية: أهل الفلح. [2] وفي نسخة أخرى: ونهض الأسطول في البحر فنزلوا بالجزيرة وضايقوا القشتيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 واتصل ابنه محمد هذا بخدمة ابن الحاجب واختصّ بكاتبه إلى أن استعمله على جربة عند استيلائه عليها هذه السنة، وانكفأ راجعا إلى الحضرة فلم يزل محمد بن أبي العيون واليا عليها. ثم استبدّ بها على السلطان بعد مهلك الحاجب وقرار يده [1] على السلطان إلى أن غلبه عليها السلطان أبو العبّاس سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما نذكره إن شاء الله. (الخبر عن دعوة الأمراء من المغرب واستيلاء السلطان أبي العباس على قسنطينة) لما هلك السلطان أبو عنّان قام بأمره من بعده وزيره الحسن بن عمر، ونصب ابنه محمد السعيد للأمر كما نذكره في أخباره. وكان يضطغن للأمير أبي عبد الله صاحب بجاية فقبض عليه لأول أمره واعتقله حذرا من وثوبه على عمله فيما زعموا. وكان السلطان أبو العبّاس بسبتة منذ أنزله السلطان أبو عنّان بها، ورتّب عليه الحرس كما ذكرنا فلما انتزى على الملك المنصور بن سليمان من أعياص ملكهم، ونازل البلد الجديد دار الملك ودخل في طاعته سائر الممالك والأعمال بعث في السلطان أبي العبّاس واستدعاه من سبتة فنهض إليه. وانتهى في طريقه إلى طنجة ووافق في ذلك إجازة السلطان أبي سالم من الأندلس لطلب ملكه. وكان أوّل ما استولى عليه من أعمال المغرب طنجة وسبتة فاتصل به السلطان أبو العبّاس وظاهره على أمره إلى أن نزع إليه قبيلة بني مرين عن منصور بن سليمان المنتزي على ملكهم فاستوسق أمره واستثبت سلطانه به ودخل فاس وسرّح الأمير أبا عبد الله من اعتقال الحسن بن عمر كما قدّمناه. ورعى للسلطان أبي العبّاس ذمّة سوابقه القديمة والحادثة فرفع مجلسه وأسنى جرايته، ووعده بالمظاهرة على أمره، واستقروا جميعا إلى إيالته إلى أن كان من تغلّب السلطان أبي سالم على تلمسان والمغرب الأوسط ما نذكره في أخبارهم. واتصل به ثورة أهل بجاية بعاملهم يحيى بن ميمون ورجالات قبيلهم، فامتعض لذلك وحين قفل إلى المغرب نفض يده من الأعمال الشرقية ونزل للسلطان أبي   [1] وفي نسخة ثانية: وفرار ابنه من السلطان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 العبّاس عن قسنطينة دار إمارته ومثوى عزّه ومنبت ملكه، فأوعز إلى عاملها منصور ابن مخلوف بالنزول له عنها وسرّحه إليها وسرّح معه الأمير أبا عبد الله ابن عمّه لطلب حقّه في بجاية، والاجلاب على عمّه السلطان عبد الحق جزاء بما نال من بني مرين عند افتتاحها من المعرّة. وارتحلوا من تلمسان في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة وأغذّوا السير إلى مواطنهم. فأمّا السلطان أبو العباس فوقف منصور بن خلوف عامل البلد على خطاب سلطانه بالنزول عن قسنطينة فنزل وأسلمها إليه، وأمكنه منها فدخلها شهر رمضان سنة إحدى وستين وسبعمائة واقتعد سرير ملكه منها وتباشرت بعودته مقاصر قصورها فكانت مبدأ سلطانه ومظهرا لسعادته ومطلعا لدولته على ما نذكر بعد. وأمّا الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية فلحق بأوّل وطنها، واجتمع إليه أولاد سبّاع أهل ضاحيتها وقفرها من الزواودة. ثم زحف إليها فنازلها أياما وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بني ياورار، واستخدم أولاد محمد بن يوسف والعزيز بين أهل ضاحيتها من سدويكش. ثم نزعوا عنه إلى خدمة عمّه ببجاية فخرج إلى القفر مع الزواودة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن وصول الأمير أبي يحيى زكريا من تونس وافتتاحه بونة واستيلائه عليها) كان الأمير أبو يحيى زكريا منذ بعثه أخوه أبو العبّاس إلى عمّهما السلطان أبي إسحاق صريخا لم يزل مقيما بتونس، وبلغه استيلاء السلطان أبي عنّان على قسنطينة وهو بتونس ثم لما كانت عودة مولانا أبي العبّاس من المغرب واستيلاؤه على قسنطينة فخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته، وتوقع زحفه إليها [1] وغلبه إياه على الأمر. ورأى أن يخفض [2] جناحه في أخيه، ويتوثّق به فاعتقله بالقصبة تحت كرامة ورعي، وبعث فيه السلطان أبو الحسن بعد مراوضة في السلم فأطلقه وانعقد بينهما السلم. ولمّا وصل الأمير أبو يحيى ابن أخيه بقسنطينة عقد له عن العساكر   [1] وفي نسخة ثانية: إليه. [2] وفي نسخة ثانية: يحصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 وأصاروها نجما لعمله واستمرّت حالها على ذلك إلى أن كان من أمرها ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن استيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية ثم على تدلس بعدها) لما قدم السلطان أبو عبد الله من المغرب ونازل بجاية فامتنعت عليه خرج إلى أحياء العرب كما قدّمناه ولزم صحابته أولاد يحيى بن علي بن سبّاع بعد توالي الوفاد بها [1] وأقام بين ظهرانيهم وفي حللهم ومتعهدا في طلب بجاية برحلة الشتاء والصيف وتكفّلوا، نفقة عياله ومؤنة حشمه وأنزلوه بتلك المسيلة من أوطانهم، وتجافوا له عن جبايتها [2] وأقام على ذلك سنين خمسا ينازل بجاية في كل سنة منها مرارا، وتحوّل في السنة الخامسة عنهم إلى أولاد علي بن أحمد، ونزل على يعقوب بن عليّ فأسكنه بمقرّه من بلاده إلى أن بدا لعمّه المولى أبي إسحاق رأيه في اللحاق بتونس لما توقع من مهلك حاجبه وكافله أبي محمد بن تافراكين، أسره إليه بعض الجند فحذّره مغبّته ووقع من ذلك في نفوس أهل بجاية انحراف عنه وحرج أمره [3] وراسلوا أميرهم الأقدم أبا عبد الله من مكانه بمقرّه وظاهره على ذلك يعقوب بن علي وأخذ له العهد على رجالات سدويكش أهل الضاحية، وارتحلوا معه إلى بجاية ونازلها أياما. ثم استيقن الغوغاء اعتزام سلطانهم على التقويض عنهم، وسئموا ملكة علي بن صالح الّذي كان عريفا عليهم فثاروا به ونبذوا عهده وانفضوا من حوله إلى الأمير أبي عبد الله بالحرسة من ساحة البلد. ثم قاد إليه عمه أبا إسحاق فمرّ عليه وخلّى سبيله إلى حضرته فلحق بها واستولى أبو عبد الله على بجاية محل إمارته في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وتقبّض على عليّ بن أبي صالح [4] ومن معه من عرفاء الغوغاء أهل الفتنة فاستصفى أموالهم، ثم أمضى حكم الله في قتلهم. ثم نهض إلى تدلس   [1] وفي نسخة ثانية: فغربوا في الوفاء بها. [2] وفي نسخة ثانية: جبايتهم. [3] وفي نسخة أخرى: ومرج أمرهم. [4] وفي نسخة أخرى: علي بن صالح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 لشهرين من مملكة بجاية فغلب عليها عمر بن موسى عامل بني عبد الواد، ومن أعياص قبيلهم، وتملّكها في آخر سنة خمس وستين وسبعمائة. وبعث عني من الأندلس وكنت مقيما بها نزيلا عند السلطان أبي عبد الله بن أبي الحاج بن الأحمر في سبيل اغتراب ومطاوعة تغلّب منذ مهلك السلطان أبي سالم الجاذب بضبعي إلى تقويمه، والترقي في [1] في خطط كتابته من ترسيل وتوقيع ونظر في المظالم وغيرها. فلما استدعاني هذا الأمير أبو عبد الله بادرت إلى امتثاله «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ 6: 112 وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ من الْخَيْرِ» 7: 188 فأجزت البحر شهر جمادى من سنة ست وخمسين وسبعمائة وقلّدني حجابته، ودفع إليّ أمور مملكته. وقمت في ذلك المقام المحمود إلى أن يأذن الله بانقراض أمره، وانقطاع دولته، وللَّه الخلق والأمر، وبيده تصاريف الأمور. (الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده) كان السلطان أبو إسحاق آخر دولته ببجاية قد تحيّن مهلك حاجبه المستبدّ عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صنهاجة أهل التنجيم يحدّثونه بذلك، فأجمع الرحلة إليها، وانفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما قدّمناه. واستولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وتلقّاه أبو محمد بن تافراكين ورآه مرهف الحدّ للاستبداد الّذي لفّه ببجاية فكايله بصاع الوفاق، وصارفه نقد المصانعة، وازدلف بأنواع القربات. وقاد إليه النجائب ومنحه الذخائر والأموال وتجافى له عن النظر في الجباية. ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد له عليها وأعرس السلطان بها. ثم كان مهلكه عقب ذلك فاتح ست وستين وسبعمائة فوجم السلطان لنعيه وشهد جنازته حتى وضع في لحده من المدرسة التي اختطها لقراءة العلم إزاء داره جوفيّ المدينة. وقام على قبره باكيا وحاشيته يتناولون التراب حثيا على جدثه فقرن [2] في الوفاء معه ما تحدّث به الناس واستبدّ من بعده بأمره وأقام سلطانه لنفسه.   [1] وفي نسخة أخرى: تنويهه، والراقي بي في خطط. [2] وفي نسخة أخرى: فغرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 وكان أبو عبد الله الحاجب [1] غائبا عن الحضرة وخرج منها بالعسكر للجباية والتمهيد فلما بلغه خبر مهلك أبيه داخلته الظنّة وأوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة، وارتفع مع حكيم من بني سليم، وعرض نفسه على معاقل إفريقية التي كان يظنّ أنها خالصة لهم. فصدّه محمد بن أبي العيون كاتبه عن عزمه [2] ، فحمد الحكيم صنيعه وطاف بهم على المهدية [3] . وبعث إليه السلطان بما رضيه من الأمان فاستصحب بعد النفور وبادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبرّ والترحيب، وقلّده حجابته وأنزله على مراتب العزّ والتنويه والشرف. ونكر هو مباشرة السلطان للناس من رفعه للحجاب، ولم يزل يريضه لما ألف من الاستبداد منذ عهد أبيه فأظلم الجوّ بينه وبين السلطان ودبّت عقارب السعاية لمهاده الوثير، فتنكّر وخرج من تونس ولحق بقسنطينة، ونزل بها على السلطان أبي العبّاس مرغّبا له في ملك تونس ومستحثّا فأنزله خير نزل، ووعده بالنهوض معه إلى إفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه وبين ابن عمّه صاحبها من الفتنة كما نذكرها بعد. واستبدّ السلطان أبو إسحاق بعد مفرّ ابن تافراكين عنه، ونظر في أعطاف ملكه، وعقد على حجابته لأحمد بن إبراهيم المالقي [4] مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمّال، وعلى العساكر والحرب لمولاه منصور سريحة من المعلوجي، ورفع الحجاب بينه وبين رجال دولته وصنائع ملكه حتى باشر جبايات الخراج وعرفاء الحشم، وأوصلهم إلى نفسه وألغى الوسائط بينهم وبينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم. (الخبر عن استيلاء السلطان أبي العباس على بجاية وملك صاحبها ابن عمه) لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية واستقل بإمارتها تنكّر للرعيّة وساءت سيرته فيهم بإرهاف الحدّ للكافة وإسخاط الخاصّة، فنغلت [5] الصدور ومرضت القلوب   [1] وفي النسخة الباريسية: الحاجب لأبي محمد وفي نسخة أخرى: الحاجب ابن أبي محمد. [2] وفي نسخة أخرى: عن جربة. [3] وفي نسخة أخرى تختلف العبارة تماما: ومحمد بن الجكجاك ضيعتهم وبطانتهم عن المهدية. [4] وفي نسخة أخرى: اليالغي. [5] نفلت الصدور: أي ضغنت (قاموس) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 واستحكمت النفرة، وتوجّهت الضاغية إلى ابن عمه السلطان أبي العبّاس بقسنطينة لما كان استفسد منه وأعلن بلذاته وأقوم على سلطانه. وكانت بينهما فتنة وحروب جرّتها المنافسة في تخوم العمالتين منذ عهد الآباء. وكان السلطان أبو العبّاس أيام نزوله على السلطان أبي سالم محمود السيرة والخلال مستقيم الطريقة في مثوى اغترابه. وربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرّضة لصاحبها للملامة وستثقل نصيحته. وشغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى الفتنة فتنبّه، وشمّر عزائمه لها فكان مغلبا فيها. واعتلق منه يعقوب بن علي بذمّه في المظاهرة على السلطان أبي العبّاس فلم يغن عنه وراجع يعقوب سلطانه. ثم جهّز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسنطينة وفيها مولانا أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر، وتراجع العرب من أولاد سبّاع بن يحيى وجمع هو أولاد محمد وزحف فيهم وفي عسكر من زناتة، والتقى الفريقان بناحية سطيف فاختلّ مصافّ أهل بجاية وانهزموا، واتبعهم السلطان أبو العبّاس إلى تاكرارت وجال في عمله ووطئ نواحي وطنه، وقفل إلى بلده. ودخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية وقد استحكمت النفرة بينه وبين أهل بلده فدسّوا إلى السلطان أبي العباس بقسنطينة بالقدوم عليهم، فوعدهم من العام القابل وزحف سنة سبع وستين وسبعمائة في عساكره وشيعته من الزواودة أولاد محمد، وانضوى إليه أولاد سبّاع بشيعة بجاية بالجوار والسابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم. وعسكر الأمير أبو عبد الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء، وأقام بها يرجو مدافعة ابن عمه بالصلح، فبيّته السلطان بمعسكره من لبزو، وصبحه في غارة شعواء فانفضّ جمعه، وأحيط به، وانتهب المعسكر، وفرّ إلى بجاية، فأدرك في بعض الطريق وتقبّض عليه، وقتل قعصا بالرماح. وأغذ السلطان أبو العبّاس السير إلى بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع وستين وسبعمائة وكنت بالبلد مقيما فخرجت في الملأ وتلقّاني بالمبرّة والتنويه. وأشار إليّ بالاصطناع واستوسق له ملك جدّه الأمير أبي زكريا الأوسط في الثغور الغربية وأقمت في خدمته بعض شهر. ثم توخمت الحنقة في نفسي وأذنته في الانطلاق فأذن لي تكرّما وفضلا وسعة صدر ورحمة، ونزلت على يعقوب بن عليّ، ثم تحوّلت عنه إلى بسكرة ونزلت على ابن موسى إلى أن صفا الجوّ، واستقبلت من أمري ما استدبرت واستأذنته لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه في خبر طويل نقصه من شأني فأذن لي، وقدمت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 عليه فقابلتني وجوه عنايته، وأشرقت عليّ أشعة نجعته [1] كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى. (الخبر عن زحف حمو وبني عبد الواد الى بجاية ونكبتهم عليها وفتح تدلس من أيديهم بعدها) كان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية لما اشتدّت الفتنة بينه وبين عمّه السلطان أبي العبّاس مع ما كان بينه وبين بني عبد الواد من الفتنة عند غلبه إياهم على تدلس، يكابد حمل العداوة من الجانبين، وصغا إلى مهادنة بني عبد الواد فنزل لهم عن تدلس، وأمكن منها قائد العسكر المحاصر لها. وأوفد رسله على سلطانهم أبي حمو بتلمسان، وأصهر إليه أبو حمو في ابنته فعقد له عليها وزفّها إليه بجهاز أمثالها. فلما غلبه السلطان أبو العباس على بجاية وهلك في مجال حربه، أشاع أبو حمو الامتعاض له لمكان الصهر، وجعلها ذريعة إلى الحركة على بجاية. وزحف من تلمسان يجرّ الشوك والمدر في آلاف من قومه طبقات العساكر والجند. وتراجع العرب حتى انتهى إلى وطن حمزة فأجفل أمامه أبو الليل موسى بن زغلي في قومه بني يزيد، وتحصّنوا في جبال زواوة المطلّة على وطن [2] حمزة. وبعث إليه رسله لاقتضاء طاعته فاوثقهم كتافا، وكان فيهم يحيى حافد أبي محمد صالح نزع عن السلطان أبي العباس إلى أبي حمو، وكان عينا على غزاة أبي الليل هذا لما بينهما من الولاء والجوار والوطن، وجاء في وفد الوفادة عن أبي حمو فتقبّض عليهم وعليه فقتله وبعث برأسه إلى بجاية. وامتنع على أبي حمو وعساكره فأجلبوا إلى بجاية، ونزل معسكره بساحتها وقاتلها أياما، وجمع الفعلة على الآلات في الحصار. وكان السلطان أبو العباس بالبلد وعسكره مع مولاه بشير بتكرارت، ومعهم أبو زيّان بن عثمان بن عبد الرحمن، وهو عم أبي حمو من أعياص بيتهم، وكان من خبره أنه كان خرج من المغرب كما نذكره في أخباره. ونزل على السلطان أبي إسحاق بالحضرة ورعى له أبو محمد   [1] كذا في النسخة الباريسية ويقال: فلان نجعتي: أي أملي. وفي نسخة ثانية بختة. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي طبعة بولاق: وطا حمزة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 الحاجب حق بعثه [1] فأوسع في كرامته. ولما غلب الأمير أبو عبد الله على تدلس بعث إليه من تونس ليوليه عليها، وتكون ردءا بينه وبين حمو، ويتفرّغ هو للإجلاب على وطن قسنطينة، فبادر إلى الإجابة وخرج من تونس. ومرّ السلطان أبو العباس بمكانه من قسنطينة فصدر على سبيله واعتقله عنده مكرّما، فلما غلب على بجاية وبلغه الخبر بزحف أبي حمو أطلقه من اعتقاله ذلك واستبلغ في تكرمته وحبائه، ونصبه للملك وجهز له بعض الآلة. وخرج في معسكره مولاه بشير ليجأجئ به بني عبد الواد عن ابن عمه أبي حمو لما سئموا من ملكه وعنفه. وكان زغبة عرب المغرب الأوسط في معسكر أبي حمو، وكان على حذر من [2] مغبة أمره معهم فراسلوا أبا زيّان وائتمروا بينهم في الإرجاف بالمعسكر. ثم تحيّنوا لذلك أن يشبّ الحرب بين أهل البلد وأهل المعسكر فأجفلوا خامس ذي الحجّة، وانفضّ بالمعسكر وانتحوا إلى مضايق الطرقات بساح البلد فكفّلت بزحامهم وتراكموا عليها فهلك الكثير منهم، وخلّفوا من الأثقال والعيال والسلاح والكراع ما لا يحيط به الوصف. وأسلم أبو حمو عياله وأمواله فصارت نهبا واجتلبت حظاياه إلى السلطان فوهبها لابن عمه ونجا أبو حمو بنفسه بعد أن طاح في كظيظ الزحام عن جواده فنزل له وزيره عمران بن موسى عن مركوبة فكان نجاؤه عليه، ونزل بالجزائر في الفلّ، ولحق منها بتلمسان واتبع أبو زيّان أثره، واضطرب المغرب الأوسط كما نذكره في أخباره. وخرج السلطان أبو العبّاس من بجاية على أثر هذه الواقعة فنازل تدلس وافتتحها وغلب عليها من كان بها من عمّال بني عبد الواد وانتظمت الثغور الغربية كلها في ملكه كما كانت في ملك جدّه الأمير أبي زكريا الأوسط حين قسم الدعوة الحفصيّة بها إلى أن كان ما نذكره بعده إن شاء الله تعالى. (الخبر عن زحف العساكر الى تونس) كان أبو عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لما نزع عن السلطان أبي إسحاق   [1] وفي نسخة ثانية: بيته. [2] وفي نسخة ثانية: وكانوا حذرين مغبة أمره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 صاحب الحضرة لحق بحلل أولاد مهلهل من العرب، ووفدوا جميعا على السلطان أبي العبّاس فاتح سنة سبع وستين وسبعمائة يستحثّونه إلى الحضرة ويرغّبونه في ملكها فاعتذر لهم لما كان عليه من الفتنة مع ابن عمه صاحب بجاية. وزحف إليها في حركة الفتح وصاروا في جملته، فلما استكمل فتح بجاية سرّح معهم أخاه المولى أبا يحيى زكريا في العساكر فساروا معه إلى الحضرة، وابن تافراكين في جملته، فنازلوها أياما وامتنعت عليهم وأقلعوا على سلم ومهادنة انعقدت بين صاحب الحضرة وبينهم، وقفل المولى أبو يحيى بعسكره إلى مكان عمله. ولحق ابن تافراكين بالسلطان، فلم يزل في جملته إلى أن كان من فتح تونس ما نذكره والله تعالى أعلم. (الخبر عن مهلك السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة وولاية ابنه خالد من بعده) لمّا نزل السلطان أبو إسحاق بالحضرة على ما ذكرناه، وتخلّف عن المهادنة مع السلطان أبي العبّاس طورا بطور، واستخلص لدولتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب يستظهر به على أمره، ويستدفع برأيه وشوكته فخلص له سائر أيامه. وعقد سنة تسع وستين وسبعمائة لابنه خالد على عسكر لنظر محمد بن رافع من طبقات الجنود من مغراوة مستبدّا على ابنه. وسرّحه مع منصور بن حمزة وقومه وأوعز إليهم بتدويخ ضواحي بونة واكتساح نعمها وجباية ضواحيها فساروا إليها. وسرّح الأمير أبو يحيى زكريا صاحب بونة عسكره مع أهل الضاحية فأغنوا في مدافعتهم وانقلبوا على أعقابهم فكان آخر العهد بظهورهم. ولما رجعوا إلى الحضرة تنكّر السلطان لمحمد بن رافع قائد العسكر فخرج من الحضرة ولحق بقومه بمكانهم من لحفه من أعمال تونس. واستقدمه السلطان بعد أن استعتب له فلما قدم تقبّض عليه وأودعه السجن. وعلى أثر ذلك كان مهلك السلطان فجأة ليلة من سنة سبعين وسبعمائة بعد أن قضى وطرا من محادثة السمر وغلبه النوم آخر ليله فنام، ولما أيقظه الخادم وجده ميتا، فاستحال السرور، وعظم الأسف وغلب على البطانة الدهش ثم راجعوا بصائرهم ورفعوا الدهش عن أنفسهم وتلافوا أمرهم بالبيعة لابنه الأمير أبي البقاء خالد فأخذها له على الناس مولاه منصور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 سريحة من المعلوجين [1] وحاجبه أحمد بن إبراهيم اليالقي [2] ، وحضر لها الموحدون والفقهاء والكافة. وانفضّ المجلس وقد انعقد أمره إلى جنازة أبيه حتى واروه التراب. واستبدّ منصور وابن الباقي على هذا الأمير المنصوب للأمر فلم يكن له تحكّم عليها، وكان أوّل ما افتتحا به أمرهما أن تقبّضا على القاضي محمد بن خلف الله من طبقة الفقهاء، كان نزع إلى السلطان من بلده نفطة مغاضبا لمقدّمها عبد الله بن علي بن خلف فرعى له نزوعه إليه واستعمله بخطّة القضاء بتونس عند مهلك أبي علي عمر ابن عبد الرفيع. ثم ولّاه قود [3] العساكر إلى بلاد الجريد وحربهم فكان له منها عناء واستدفعوه مرات بجبايتهم يبعثون بها إلى السلطان، ومرات بمصانعة العرب على الإرجاف بمعسكره. وكان ابن اليالقي يغضّ بمكانه عند السلطان فلما اشتدّ على ابنه أعظم فيه السعاية وتقبّض عليه، وأودعه السجن مع محمد بن علي بن رافع. ثم بعث عليهما من داخلهما في الفرار من الاعتقال حتى دبّروه معه، وظهر على أمرهما فقتلهما في محبسهما خنقا والله متولي الجزاء منه. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. ثم أظهر ابن اليالقي من سوء سيرته في الناس وجوره عليهم وعسفه بهم وانتزاع أموالهم، وإهانة سبال [4] الأشراف ببابه منهم ما نقموه، وضرعوا إلى الله في إنقاذهم من ملكته فكان ذلك على يد مولانا السلطان أبي العبّاس كما نذكر إن شاء الله تعالى. (فتح تونس وبقية عمالات إفريقية) (الخبر عن فتح تونس واستيلاء السلطان عليها واستبداده بالدعوة الحفصية في سائر عمالات إفريقية وممالكها) لما هلك السلطان أبو إسحاق صاحب الحضرة سنة سبعين وسبعمائة كما قدّمنا وقام بالأمر مولاه منصور سريحة وصاحبه اليالقي ونصبوا ابنه الأمير خالدا للأمر صبيا لم يناهز   [1] وفي النسخة الباريسية: المعلوجي. [2] وفي نسخة أخرى: البالقي. [3] وفي نسخة ثانية: قيادة. [4] سبله: سبّه وشتمه. (قاموس) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 الحلم غرّا فلم يحسنوا تدبير أمره ولا سياسة سلطانه، واستخلصوا لوقتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب المتغلّبين على الضاحية ثم أطمعوه بسوء تدبيرهم في شركته لهم في الأمر. ثم قلبوا له ظهر المجن فسخطهم ولحق بالسلطان أبي العبّاس وهو مطل عليهم بمرقبة من الثغور الغربية مستجمع للتوثّب بهم، فاستحثّه لملكهم وحرّضه على تلافي أمرهم ورمّ ما تثلّم من سياج دولتهم. وكان الأحق بالأمر لشرف نفسه وجلالته واستفحال ملكه وسلطانه، وشياع الحديث على عدله ورفعته [1] وجميل سيرته ولما أن أهل مملكته نظروا لعقب نظره فيهم واستبداد سواه عليهم، فأجاب صريخه وشمّر للنهوض عزمه. وكان أهل قسنطينة قد بعثوا بمثل ذلك، فسرّح إليهم أبا عبد الله بن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لاستخبار [2] طاعتهم وابتلاء دخلتهم، فسار إليهم واقتضى سمعهم [3] وطاعتهم، وسارع إليها يحيى بن يملول مقدّم توزر والخلف بن الخلف مقدّم نفطة فآتوها طواعية. وانقلب عنهم وقد أخذوا بدعوة السلطان وأقاموها في أمصارهم. ثم خرج السلطان من بجاية في العساكر وأغذّ السير إلى المسيلة، وكان بها إبراهيم ابن الأمير أبي زكريا الأخير فأجابه [4] أولاد سليمان بن على من الزواودة من مثوى اغترابه بتلمسان، ونصّبوه لطلب حقه في بجاية من بعد أخيه الأمير أبي عبد الله، وكان ذلك بمداخلة من أبي حمو صاحب تلمسان ومواعيد بالمظاهرة مختلفة. فلما انتهى السلطان إلى المسيلة نبذوا إلى إبراهيم عهده وتبرءوا منه. ورجعوا من حيث جاءوا، وانكفأ السلطان راجعا إلى بجاية. ثم نهض منها إلى الحضرة وتلقته وفود إفريقية جميعا بالطاعة وانتهى إلى البلد فخيّم بساحتها أياما يغاديها القتال ويراوحها. ثم كشف عن مصدوقته وزحف إلى أسوارها وقد ترجّل أخوه والكثير من بطانته وأوليائه فلم يقم لهم حتى تسنموا الأسوار برياض رأس الطابية، فنزل الطابية، فنزل عنها المقاتلة وفرّوا إلى داخل البلد. وخامر الناس الدهش وتبرّأ بعضهم من بعض، وأهل الدولة في مركبهم وقوف بباب الغدر من أبواب القصبة. فلمّا رأوا أنهم أحيط بهم ولّوا الأعقاب   [1] وفي نسخة ثانية: رفقه. [2] وفي نسخة ثانية: لاختبار. [3] وفي نسخة ثانية: بيعاتهم. [4] وفي نسخة ثانية: جأجأ به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 وقصدوا باب الجزيرة فكبّروا قباله [1] . وثار أهل البلد جميعا بهم فحاصروا بساحتهم من البلد [2] بعد عصب الريق، ومضى الجند في اتباعهم فأدرك أحمد بن اليالقي فقتل وسيق رأسه إلى السلطان. وتقبّض على الأمير خالد واعتقل، ونجا العلج منصور سريحة برأس طمرة [3] وخام وذهل عن القتال دون الأحبة. ودخل السلطان القصر واقتعد أريكته، وانطلقت أيدي العيث في ديار أهل الدولة فاكتسحت ما كان الناس يضطغنون عليهم تحاملهم على الرعيّة واغتصاب أموالهم، واضطرمت نار العيث في دورهم ومخلّفهم فلم تكد أن تنطفئ ولحق بعض أهل العافية معرات من ذلك لعموم النهب وشموله حتى أطفأه الله ببركات [4] السلطان وجميل نيّته وسعادة أمره. ولاذ الناس منه بالملك الرحيم والسلطان العادل، وتهافتوا عليه تهافت الفراش على الذبال يلثمون أطرافه، ويجدّون بالدعاء له ويتنافسون في انتقاس مجيده [5] الى أن غشيهم الليل ودخل السلطان قصوره وخلا بما ظفر من ملك آبائه، وبعث بالأمير خالد في الأسطول إلى قسنطينة، فعصفت به الريح وانخرقت السفينة وترادفت الأمواج إلى أن هلك [6] . واستبدّ السلطان بأمره وعقد لأخيه الأمير أبي يحيى زكريا. على حجابته. ورعى لابن تافراكين حق انحياشه إليه ونزوعه فجعله رديفا لأخيه واستمرّ الأمر على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن انتقاض منصور بن حمزة واجلابه بالعمّ أبي يحيى زكريا على الحضرة وما كان عقب ذلك من نكبة ابن تافراكين) كان منصور بن حمزة هذا أمير البلد من بني سليم بما كان سيّد بني كعب. وكان   [1] وفي نسخة ثانية: كسروا أقفاله. [2] وفي نسخة ثانية: فخلصوا سلطانهم من البلد. [3] وفي النسخة الباريسية: برأس طرة. [4] وفي نسخة ثانية: ببركة. [5] وفي نسخة ثانية: التماح محيّاه. [6] وفي نسخة ثانية: وبعث الأمير خالد وأخيه في الأسطول الى قسنطينة فوصفت بهما الريح وانخرقت السفينة وتقاذفت الأمواج إلى أن هلكا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 السلطان أبو يحيى يؤثره بمزيد العناية، ويجعل له على قومه المزية. وكان بنو حمزة هؤلاء منذ غلبوا على السلطان أبي الحسن على إفريقية وأزعجوه منها قد استطالت أيديهم عليها وتقسموها أوزاعا، وأقطعهم أمراء الحضرة السهمان في جبايتها زيادة لما غلبوا عليه من ضواحيها وأمصارها، استئلافا لهم على المصاهرة وإقامة الدعوة والحماية من أهل الثغور الغربية، فملكوا الأكثر منها، وضعف سهمان السلطان بينهم فيها. فلما استولى هذا السلطان أبو العبّاس على الحضرة واستبدّ بالدعوة الحفصية كبح أعنّتهم عن التغلّب والاستبداد وانتزع ما بأيديهم من الأمصار والعمالات التي كانت من قبل خالصة السلطان وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه فأحفظهم ذلك وأهمهم شأنه وتنكّر منصور بن حمزة وقلب ظهر المجنّ ونزع يده من الطاعة وغمسها في الخلاف، وتابعه على خروجه على السلطان أبو معنونة [1] أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين شيخ حكيم. وارتحل بأحيائه إلى الزواودة صريخا مستجيشا بالأمير أبي يحيى بن السلطان أبي بكر المقيم بين ظهرانيهم من لدن قفلته من المهديّة وانتزائه بها على أخيه المولى أبي إسحاق كما ذكرناه، فنصبوه للأمر وبايعوه. وارتحل معهم وأغذّوا السير إلى تونس، ولقيهم منصور بن حمزة في أحياء بيته فبايعوا له وأوفدوا مشيختهم على يحيى ابن يملول شيطي [2] الغواية المراد على الخلاف يستحثّونه للطاعة والمدد بمداخلة كانت بينهم في ذلك سوّل لهم فيها بالمواعيد، وأملى لهم حتى إذا غمسوا أيديهم في النفاق والاختلاف سوّفهم عن مواعيد حمايته [3] بماله فأسرها منصور في نفسه، واعتزم من يومئذ على الرجوع إلى الطاعة. ثم رحلوا للإجلاب على الحضرة، وسرّح السلطان أبو العباس أخاه الأمير أبا يحيى زكريا للقيهم في العساكر، وتزاحفوا فأتيح لمنصور وقومه ظهور على عساكر السلطان وأوليائه لم يستكمله، وأجلوا على البلاد أياما. ونمي إلى السلطان أنّ حاجبه أبا عبد الله ابن تافراكين داخلهم في تبييت البلد فتقبّض عليه وأشخصه في البحر إلى قسنطينة فلم يزل بها معتقلا إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين وسبعمائة. ثم سرّب السلطان أمواله في العرب فانتقض على المنصور قومه وخشي مغبّة حاله، وسوّغه السلطان جائزته فعاود   [1] وفي نسخة ثانية: أبو صعنونة وهنا أصح. [2] وفي نسخة ثانية: شيطان الغواية المارد على الخلاف. [3] وفي نسخة ثانية: سوّفهم عن مواعيده ضنانة بماله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 الطاعة، ورهن ابنه ونبذ إلى السلطان زكريا العم عهده ورجّعه على عقبه إلى الزواودة، والتزم طاعة السلطان والاستقامة على المظاهرة إلى أن هلك سنة ست وتسعين وسبعمائة فقتله محمد ابن أخيه قتيبة في مشاجرة كانت بينهما، طعنه بها فأشواه ورجع جريحا إلى بيته، وهلك دونها أواخر يوما. وقام بأمر بني كعب بعده صولة ابن أخيه خالد وعقد له مولانا السلطان على أمرهم واستمرّت الحال إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن فتح سوسة والمهدية) كانت سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان وتغلّب العرب على العمالات فأقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوّغ للعرب من الأمصار والاقطاعات مما لم يكن لهم فاستولى عليها خليفة هذا ونزلها واستقل بجبايتها وأحكامها. واستبدّ بها على السلطان ولم يزل كذلك إلى أن هلك وقام بأمره في قومه عامر بن عمه محمد بن مسكين أيام استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوّغها له كذلك مفضلا مرهبا من قتله [1] ثم قتله بنو كعب، وأقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبدّ بسوسة على السلطان واقتعدها دار إمارته، وربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من سوسة، ويسنّ الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور سريحة مولى السلطان أبي إسحاق وقائد عسكره، فتقبّض عليه واعتقله بسوسة أياما. ثم من عليه وأطلقه وعاود الطاعة معه، ولم يزل هذا دأبهم. وكانت لهم في الرعايا آثار قبيحة وملكات سيّئة، ولم يزالوا يضرعون إلى الله في إنقاذهم من أيدي جورهم وعسفهم إلى أن تأذّن الله لأهل إفريقية باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر. واستبدّ مولانا السلطان أبو العبّاس بالحضرة وسائر عمالات إفريقية وهبّت ريح العزّ على المغرب في جميع النواحي، فتنكّر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا، وأحسّ بتنكراتهم فخرج عنهم وتجافى للسلطان عن البلد. وثارت عامّتها بعمّاله وأجهضوهم، ونزل   [1] وفي نسخة ثانية: متقبّلا مذهب من قبله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 عمّال السلطان. ثمّ كانت من بعد ذلك حركة المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس ودوّخ جهاتها واستوفى جباية أعمالها. وكان بالمهديّة محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن تافراكين أيام ارتجاعه إيّاها من أيدي أبي العباس بن مكي، والأمير أبي يحيى زكريا المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكر كما مرّ. وأقام ابن الجكجاك أميرا عليها بعد موت الحاجب. فلما وخزته شوكة الاستطالة من الدولة، وطلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه، وركب أسطوله إلى طرابلس ونزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمّة صهر قديم كان بينهما وبادر مولانا السلطان إلى تسليم المهديّة، وبعث عليها عمّاله وانتظمت في ملكيته واطردت أحوال الظهور والنجح، وكان بعد ذلك ما نذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن فتح جربة وانتظامها في ملك السلطان) كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولّاه أبو عبد الله محمد بن تافراكين على هذه الجزيرة، قد تقبّل مذاهب جيرانها من أهل قابس وطرابلس وسائر الجريد في الامتناع على السلطان ومصارفة الاستبداد وانتحاله مذاهب الإمارة وطرقها ولبوس شارتها. وقد ذكرنا سلفه من قبل، وأنّ والده كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين وأنه اعتلق بكتابة ابنه أبي عبد الله مولاه على جربة عند افتتاحه إياها سنة [1] وأنه قصده عند مفرّه عن المولى أبي إسحاق لينزل جربة معوّلا على قديم اصطناعه إيّاه فمنعه. ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمومن في الامتناع على السلطان والاستبداد بأمرهم فأجابوه، وأقام ممتنعا سائر دولة مولانا السلطان [2] وابنه من بعده. ولما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع والوحشة وصار إلى مكاثرة رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم، فأجرى في ذلك شأوا بعيدا مع تخلّفه في مضمار بقديمه وحديثه. وصارف السلطان سوء الامتثال وإتيان الطاعة   [1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا [2] هو المولى أبو إسحاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 ومنع الحباية فأحفظ ذلك، ولما افتتح أمصار الساحل وثغوره سرّح ابنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة ومعه خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين، وصاحب بجاية لعهد المستنصر، وقد تقدّم ذكره. وأمدّه في الأسطول في البحر لحصارها، ونزل الأمير بعسكره على مجازها ووصل الأسطول إلى مرساتها فأطاف بحصن القشتيل، وقد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه وافترق عنه شيوخ الجزيرة من البربر وانحاش معه بطانته من الجند المستخدمين معه بها. ولما رأوا ما لا طاقة لهم به وأنّ عساكر السلطان قد أحاطت بهم برّا وبحرا نزلوا إلى قائد الأسطول وأمكنوه من الحصن، وبادروا الى معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبو عبد الله بن أبي هلال فيمن معه من بطانة الأمير وحاشيته فاقتحموا الحصن، وتقبّضوا على محمد بن أبي العيون ونقلوه من حينه إلى الأسطول، واستولوا على داره وولّوا على الجزيرة وارتحلوا قافلين إلى السلطان. ووصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة ونزل بالديوان فأركب القصبة على جمل وطيف به على أسواق البلد إظهارا لعقوبة الله النازلة به، وأحضره السلطان فوبّخه على مرتكبه في العناد ومداخلته أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه. ثم تجافى عن دمه وأودعه السجن إلى أن هلك سنة تسع وسبعين. (الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء بولاية الثغور الغربية) كان السلطان عند ما استجمع الرحلة إلى إفريقية باستحثاث أهلها لذلك، ووفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مرغبا فيها فأهمّه لذلك شأن الثغور الغربية، وأحال اختياره في بنيه بسبر أحوالهم ويعيش على الأكفاء لهذه الثغور منهم فوقع نظره أوّلا على كبير ولده المخصوص بعناية الله في إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له على بجاية وأعمالها، وأنزله بقصور الملك منها، وأطلق يده في مال الجباية وديوان الجند. واستعمل على قسنطينة وضواحيها مولاه القائد بشير سيف دولته وعنان حربه، وناشئ قصده وتلاد مرباه. وكانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة والبأس، ودالّة بالقديم والحادث. وخلال لقيها أيام التغلّب في أواوين الملك. وكان ملازما ركاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 مولاه في مطارح اغترابه وأيام تمحيصه، وربّما لقي عند الورود على قسنطينة من المحنة والاعتقال الطويل ما أعاضه الله عنه بجميل السرور [1] ، وعود العز والملك إلى مولاه على أحسن الأحوال. فظفر من ذلك بالبغية وحصل من الرتبة على الأمنية. وكان السلطان يثق بنظره في العسكر ويبعثه في مقدّمة الحروب، وكان عند استيلائه على بجاية وصرف العناية إليها ولّاه أمر قسنطينة وأنزله بها، وأنزل معه ابنه الأمير أبا إسحاق وجعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره بالعساكر عند النهوض إلى إفريقية فنهض في جملته وشهد معه الفتح. ثم رجّعه إلى عمله بقسنطينة بمزيد التفويض والاستقلال، فلم يزل قائما بما دفع إليه من ذلك إلى أن هلك. وكان السلطان قد أوفد ابنه أبا إسحاق على ملك بن مقرب [2] والسلطان عبد العزيز عند ما استولى على تلمسان مهنئا بالظفر ملفحا غراس الودّ وأنفذ معه شيخ الموحّدين ساسة أبا إسحاق بن أبي هلال، وقد مرّ من قبل ذكر أخيه فتلقّاهما ملك بن مقرب بوجوه المبرّة والاحتفاء، ورجّعهما بالحديث الجميل عنه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. ونزل الأمير أبو إسحاق بقسنطينة دار إمارته وعقد له السلطان عليها وألقاب الملك ورسومه مصروفة إليه. والقائد بشير مولى أبيه مستبدّ عليه لمكان صغره إلى أن هلك بشير ثمان وسبعين وسبعمائة عند ما استكمل الأمير أبو إسحاق الحال واستجمع الإمارة فجدّد له السلطان عهده عليها وفوّض إليه في إمارتها فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام وأحواله تصدق الظنون وتومي إليه وشهادة المخايل التي دلّت عليه، فاستقل هذان الأميران بعهد بجاية وقسنطينة وأعمالها مفوّضا إليهما الإمارة مأذونا لهما في اتخاذ الآلة وإقامة الرسوم الملوكية والشارة. وكان الأمير أبو يحيى زكريا الأخ الكريم مستقلا أيضا ببونة وعملها منذ استيلائه عليها سنة [3] قد أضافها السلطان وأصارها في سهمانه، فلما ارتحلوا إلى إفريقية عام الفتح وتيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه واغتباط السلطان أخيه لكونه معه، عقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الله محمد وأنزله بقصره منها، فوّض إليه في إمارته لما استجمع من خلال التشريع والذكر الصالح في   [1] وفي نسخة ثانية: التنويه. [2] وفي نسخة ثانية: ملك المغرب السلطان عبد العزيز. [3] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 الدين. واستمرّ الحال على ذلك لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، والله مدبّر الأمور سبحانه. (الخبر عن فتح قفصة وتوزر وانتظام أعمال قسنطينة في طاعة السلطان) كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة السلطان أبي بكر لاعتقال الدولة حينئذ بانقسامها كما مر، فلما استبدّ السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية وفرغ عن الشواغل صرف إليهم نظره وأوطأهم عساكره. ثم نهض فجاء إثر الشورى منها، وعقد لابنه أبي العبّاس عليها كما قلناه. فلما كان بعد مهلكه من اضطراب إفريقية وتغلب الأعراب على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن وتنازع رؤسائهم بعد أن كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك ومساريه [1] ، يقتعدون الأرائك ويتفقدون في المشي بين السكك المراكب [2] ، ويهيئون في إيوانهم سبال الأشراف، ويتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين في تقلّب الأيام، وضحكة الأهل الشمات، حتى لقد حدّثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة، وأقاموا على ذلك أحوالا والدولة في التياثها، فلما استبدّ السلطان أبو العباس بإفريقية وعمالاتها، وأتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه والأسد الخادر في عرينه، وأصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم وتوثّبه بهم، داخلوا حينئذ الاعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة، واقتعاد مطيّة الخلاف والنفاق يفتلون بذلك في عزائمه وأرخى هو لهم حبل الإمهال وفسح لهم مجال الإيناس بالمعاونة والوعد، رجاء الفيئة إلى الطاعة المعروفة والاستقامة على الجادة فأصرّوا وازدادوا عنادا ونفاقا فشمّر لهم عن عزائمه ونبذ إليهم عهدهم على سواء. ونهض من الحضرة سنة سبع وسبعين وسبعمائة في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والموالي وقبائل زناتة من استألف إليه من العرب أولاد مهلهل وحكيم وأصهار أولاد أبي الليل على المدافعة عن أهل الجريد، ووافقوا   [1] وفي نسخة ثانية: وشاراته. [2] وفي نسخة ثانية: ويعقدون في المشي بين السلك والمواكب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 562 السلطان أياما. ثم أجفلوا أمامه وغلبهم السلطان على رعاياهم من تحيزه [1] ، وكانوا من بقايا بني يفرن عمّروا ضواحي إفريقية مع ظواعن هوّارة ونفوسة ومغراوة [2] . وكانت للسلطان عليهم مغارم وجبايات وافرة، فلمّا تغلّب المغرب على بسائط إفريقية وتنافسوا في الاقطاعات كانت ظواعن مر نجيزة هؤلاء في اقطاع أولاد حمزة، فكانت جبايتهم موفورة وما لهم دثرا بما صاروا مددا لهم بالمال والكراع والدروع والأدم، وبالفرسان منهم يستظهرون بهم في حروبهم مع السلطان ومع قومهم، فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة واكتسح أموالهم، وبعث رجالهم أسرى إلى سجون الحضرة وقطع بها عنهم أعظم مادّة كانت تمدّهم، فخمد ذلك من عتوّهم وقصّ من جناحهم إلى آخر الدهر، ووهنوا له. ثم عاد السلطان إلى حضرته وافترق أشياعه، ونزع عنهم أبو صعنونة فتألف على أولاد أبي الليل، وزحفوا إلى الحضرة فاحتلوا بساحتها أياما وشنوا الغارات عليها. ثم انفضّوا عنها وخرج على أثرهم لأوّل فصل الشتاء، وتساحل إلى سوسة والمهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة، ثم رجع إلى القيروان وارتحل منها يريد قفصة وجمع أولاد أبي الليل لمدافعة عنها، وسرّب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه. وزحف السلطان إلى قفصة فنازلها ثلاثا ولجّوا في عصيانهم وقاتلوه بجمع الأيدي على قطع نخيلهم وتسايلت إليه الرعيّة من أماكنهم، وأسلموا أحمد بن القائد مقدّمهم وابنه محمد المستبدّ عليه لكبره وذهوله، فخرج إلى السلطان واشترط ما شاء من الطاعة والخراج ورجع إلى البلد وقد ماج أهلها بعضهم في بعض، وهموا بالخروج فسابقهم ابنه أحمد المستبدّ على أبيه، وكان السلطان سرّح أخاه أبا يحيى في الخاصة والأولياء إلى البلد، فلقيه محمد بنواحي ساحتها فبعث به إلى السلطان، ودخل هو إلى القصبة وتملّك البلد وتقبّض السلطان على محمد بن القائد لوقته، وسيق إليه أبوه أحمد من البلد فجعل معه واستولى على داره وذخائره. واجتمع المدد والكافّة من أهل البلد عند السلطان، وآتوه بيعتهم وعقد عليها لابنه أبي بكر، وارتحل يغذّ السير إلى توزر وقد طار الخبر بفتح قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه، واحتمل أهله وما خفّ من ذخائره ولحق بالزاب. وطيّر أهل توزر بالخبر إلى   [1] وفي نسخة ثانية: فرنجيزة. [2] وفي نسخة ثانية: نغزاوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 563 السلطان فلقيه أثناء طريقه، وتقدّم إلى البلد فملكها واستولى على ذخيرتها ابن يملول ونزل بقصوره فوجد بها من الماعون والمتاع والسلاح وآنية الذهب والفضّة ما لا يعدّ لأعظم ملك من ملوك الأرض، وأحضر بعض الناس ودائع كانت لهم عنده من نفيس الجواهر والحلي والثياب وبرءوا منها إلى السلطان. وعقد السلطان على توزر لابنه المنتصر وأنزله قصور ابن يملول، وجعل إليه إمارتها واستقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه وآتاه طاعته، وعقد له على بلده وولاية حجابة ابنه بتوزر، وأنزله معه وقفل إلى حضرته. وقد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلّبه على أمصار الجريد إلى التلول، فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم وفلّ من عزمهم، وأجفلوا إلى الجهات الغربية يؤمّلون منها ظفرا لما كان ابن يملول قد منهم ونصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه فدافعهم بالمواعدة، وتبينوا منها عجزه وانكفئوا راجعين. ووفد صولة على السلطان بعد أن توثق لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء، ورجع إليهم فلم يرضوا بشرطه ونهض السلطان من الحضرة في العساكر الأولياء من العرب، وأجفلوا أمامهم فأتبعهم وأوقع بهم ثلاث مرّات وافقوه فيها. ثم أجفلوا ولحقوا بالقيروان وقدم وفدهم على السلطان والاشتراط له كما يشاء، فتقبّل ووسعهم عفوه، وصاروا إلى الانقياد والاعتمال في مذاهب السلطان ومرضاته، وهم على ذلك لهذا العهد. (الخبر عن ثورة أهل قفصة ومهلك ابن الخلف) لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان. وعقد له مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله، ونزل بتوزر مع المنتصر. ثم سعى به أنه يداخل ابن يملول ويراسله فبثّ عليه العيون والأرصاد، وعثر على كتابه بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول وإلى يعقوب بن علي أمير الزواودة يحرّضهما على الفتنة، فتقبّض عليه وأودعه السجن. وبعث عمّاله إلى نفطة واستولى على أمواله وذخائره، وخاطب أباه في شأنه فأمهله بعد أن تبين نقضه للطاعة وسعيه في الخلاف. وكان السلطان قبل فتح نفطة قد نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي يزيد، وسار في ركابه إليها. فلما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 564 استولى على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه، وأوصى به ابنه أبا بكر فاستولى على مشورته وحلّه وعقده، وطوى على البيت [1] . ثم حدّثته نفسه بالاستبداد وتحيّن له المواقيت واتفق أن سار الأمير أبو بكر من نفطة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر وخلف بالبلد عبد الله الترمكي [2] من مواليهم، وكان السلطان أنزله معه وولّاه حجابته، فلمّا توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي يزيد عنفة من الأوغاد وطاف في سكك المدينة والمهاتفة معه ينادي بالثورة ونقض الطاعة. وتقدّم إلى القصبة فأغلقها القائد عبد الله دونه وحاربها فامتنعت عليه. وقرع عبد الله الطبل بالقصبة واجتمع إليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة يفضي إلى الغابة فكثروا ومنع [3] ابن أبي يزيد، وتسلل عنه الناس فلاذ بالاختفاء. وخرج القائد من القصبة فتقبّض على كثير من أهل الثورة وأودعهم السجن واستولى على البلد. وسكّن الهيعة وطار الخبر إلى المولى أبي بكر فأغذّ السير منقلبا إلى قفصة، ولحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين من أهل الثورة وأمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي يزيد وأخيه. ولأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب مستترين بزي النساء فتقبّضوا عليهما وتلوّهما إلى الأمير فضرب أعناقهما وصلبهما في جذوع النخل. وكانا من المترفين فأصبحا مثلا في الأيام وقد خسرا دينهما ودنياهما، وذلك هو الخسران المبين، وارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ بابن الخلف وحذر مغبة حاله فقتله بمحبسه وذهب في غير سبيل مرحمة وانتظم السلطان أمصار الجريد كلّها في طاعته واتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة السلطان) هذه البلد لم تزل في هذه الدولة الحفصيّة لبني مكي المشهور ذكره في هذه العصور وما إليها، وسيأتي ذكر أخبارهم ونسبهم وأوليتهم في فصل نفرده لهم فيما بعد، وكان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكريا لأوّل أيام ولاية قابس سنة ثلاث   [1] وفي نسخة ثانية: وطوى على النث وقد ورد في القاموس: نث الخبر أفشاه، ونث الجرح دهنه. [2] وفي نسخة ثانية: التريكي. [3] وفي نسخة ثانية: شيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 وعشرين وستمائة فاختصّوا به، وداخلهم في الانتقاض على أخينا أبي محمد عبد الله عند ما استجمع لذلك، فأجابوه وبايعوه فرعى لهم هذه الوسائل عند ما استبدّ بإفريقية، وأفردهم برياسة الشورى في بلدهم. ثم سموا إلى الاستبداد عند ما فشل ريح الدولة عن القاصية بما حدث من الفتن وانفراد الثغور الغربية بالملك. ولم يزالوا جانحين إلى هذا الاستبداد ورامقين إليه بنظر العين [1] والانتقاض على السلطان، ومداخلة الثّوار والإجلاب بهم على الحضرة. والدولة أثناء ذلك في شغل عنهم وعن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من انقسام الدولة وإلحاح صاحب الثغور الغربية على مطالبة الحضرة. ثم استبدّ مولانا السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصيّة في سائر عمالات إفريقية وشغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الإجلاب على الحضرة مع جيوشه ومنازلتهم ثغر بجاية وتسريبه جيوش بني عبد الواد مرّة بعد أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص والعرب إلى إفريقية. وكان المتولي الرئاسة بقابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد ابن عبد الملك ورديفه فيها أخوه أحمد، وكانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الاجلاب على الحضرة مع جيوشه والثوار القادمين معهم. وربّما خالفوا السلطان إلى الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع لهم مع عبد الواحد بن اللحياني، وقد مرّ ذكر ذلك. فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان وانمحى أثر بني زيّان فزع السلطان أبو بكر لهؤلاء الثّوار الرؤساء بالجريد الدائنين بالانتقاض سائر أيامهم. وزحف إلى قفصة فملكها فذعروا ولحق أحمد بن مكي بالسلطان أبي الحسن متذمما بشفاعته، بعد أن كان الركب الحجازي من المغرب مرّ بقابس وبه بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءهم وسائر الركب قرى وحباء. وقدّموا ذلك وسيلة بين يدي وفادته فقبل السلطان وسيلتهم وكتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعا فيهم لذمّة السلطان والصهر فتقبّل شفاعته وتجاوز عن الانتقام منهم بما اكتسبوه. ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر وماج بحر الفتنة وعادت الدولة إلى حالها من الانقسام وانسدّت [2] على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو مكي وسواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة. وقطع أسباب الطاعة ومنع المغارم   [1] وفي نسخة ثانية: سانحين إليه بثأر الفتن. [2] وفي نسخة ثانية: [؟] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 والجباية ومشايعة صاحب الغربية ركونا على صاحب الحضرة. فلما استبدّ مولانا السلطان أبو العبّاس بالدعوة الحفصية وجمع الكلمة، واستولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه العصور الجريديّة وتحدّثوا بما دهمهم وطلبوا وجه الخلاص منه، والامتناع عليه. وكان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسلة [1] الفتن وانحياشه إلى الثوار، وكان أحمد أخوه ورديفه قد هلك سنة خمس وستين وسبعمائة، وانفرد هو برياسة قابس فراسلوه وراسلهم في الشأن، وأجمعوا جميعا على تجييش العرب على السلطان وتسريب الأموال ومشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك إفريقية، فانتدبوا لذلك من كل ناحية، وبعثوا البريد إلى صاحب تلمسان فأطمعهم من نفسه، وعلّلهم بالمواعيد الكاذبة، والسلطان أبو العبّاس مقبل على شأنه يقتّل لهم في الذروة والغارب حتى غلب أولاد أبي الليل الذين كانوا يغزونهم بالمدافعة عنهم، وافتتح قفصة وتوزر ونفطة. وتبيّن لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم، فحينئذ بادر عبد الملك إلى مراسلة السلطان يعده من نفسه الطاعة والوفاء بالجباية، ويستدعي لاقتضاء ذلك منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك، وبعث أمره إليه [2] ورجع إلى الحضرة في انتظاره فطاوله ابن مكي في العرض وردّه بالوعد. ثم اضطرب أمره وانتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب، وركبوا إليه فحاصروه وضيّقوا عليه، واستدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر صاحب قفصة فأمدّهم بعسكر وقائد فنازلوه واشتدّ الحصار، واتهم ابن مكي بعض أهل البلد بمداخلتهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم، وتنكّرت له الرعيّة وساءت حاله، ودسّ إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت العسكر المحاصرين له، واشترط لهم على ذلك ما رضوه من المال، فجمعوا لهم وبيّتوهم فانفضّوا ونالوا منهم. وبلغ السلطان خبرهم فأحفظه وأجمع الحركة على قابس وعسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، وتلوّم أياما حتى استوفى العطاء واعترض العساكر، وتوافت أحياء أوليائه من أولاد مهلهل وحلفائهم من سائر سليم. ثم ارتحل إلى القيروان، وارتحل منها يريد قابس، وقد استكمل التعبية وبادر إلى لقائه والأخذ   [1] وفي نسخة ثانية: مراسه. [2] وفي نسخة ثانية: وبعث وافده إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 567 بطاعته مشيخة ذباب أعراب من بني سليم. ووفد منهم خالد بن سبّاع بن يعقوب شيخ المحاميد وابن عمّه عليّ بن راشد فيمن إليهم يستحثّونه إلى منازلة قابس، فأغذّ السير إليها وقدّم رسله بين يديه بالإنذار لابن مكي. وانتهوا إليه فرجعهم بالإنابة والانقياد إلى الطاعة. ثم احتمل رواحله وعبّى ذخائره وخرج من البلد، ونزل على أحياء دباب هو وابنه يحيى وحافده عبد الوهاب ابن ابنه مكي مالك [1] لها منذ سنين من قبل. واتصل الخبر بالسلطان فبادر إلى البلد ودخلها في ذي القعدة من سنته، واستولى على منازل ابن مكي وقصوره. ولاذ أهل البلد بطاعته وولّى عليها من حاشيته، وكان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان بالطاعة والانحياش، ووافته رسله دون قابس. فلما استكمل فتحها بعث إليه من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة، وأقام عبد الملك بن مكي بعد خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل. ثم بغته الموت فهلك ولحق ابنه وحافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من قراها في كفالة الجواري من بطون ذباب. ولما استكمل السلطان الفتح وشئونه انكفأ راجعا إلى الحضرة فدخلها فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة ولحق إليه رسوله [2] من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق والمتاع بما فيه الوفاء بمغارمه بزعمه. ووفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو عنهم والقبول عليهم فأجابهم إلى ذلك. ووفد صولة بن خالد شيخهم وقبله أبو صعنونة شيخ حكيم، ورهنوا أبناءهم على الوفاء واستقاموا على الطاعة. واتصل النجح والظهور والأمر على ذلك لهذا العهد وهو فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة، والله مالك الأمور لا رب غيره. (الخبر عن استقامة ابن مزني وانقياده وما اكتنف ذلك من الأحوال) كان هؤلاء الرؤساء المستبدّون بالجريد بالزاب منذ فرغ السلطان لهم من الشواغل،   [1] وفي نسخة أخرى: الهالك. [2] وفي نسخة أخرى: ولحقه رسله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 568 واسترابوا المغبّة حالهم معه ومراوغتهم له بالطاعة يرومون استحداث الشواغل ويؤمّلون لها سلطان تلمسان لعهدهم أبا حمو الأخير، وأنه يأخذ بحجزته عنهم إن وصلوا به أيديهم واستحثوه لذلك لإيلافهم مثلها من سلف قومه. وأبي حمو بن تاشفين من قبله قياسا متورّطا في الغلط بعيدا من الإصابة لما نزل بسلطان بني عبد الواد في هذه العصور من الضعف والزمانة، وما أصاب قومهم من الشتات بأيديهم وأيدي عدوّهم وتقدّمهم في هذا الشأن أحمد بن مزني صاحب بسكرة لقرب جواره واشتهار مثلها من سلفه فاتبعوه وقلّدوه وغطّى هواهم جميعا على بصيرتهم. وقارن ذلك نزول الأمير أبي زيّان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمو على ابن يملول بتوزر عند منابذة سالم بن إبراهيم الثعالبي إياه، وكان طارد به أياما. ثم راجع أبو حمو وصرفه سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فخرج من أعمال تلمسان وأبعد المذهب عنهم ونزل على ابن يملول بتوزر. وطيّر الخبر إلى إمامه في تلك الفتنة أحمد بن مزني واغتبطوا بمكان أبي زيّان، وأنّ تمسكهم به ذريعة إلى اعتمال أبي حمو في مرضاتهم، وإجابته إلى داعيهم وركض بريدهم إلى تلمسان في ذلك ذاهبا وجائيا حتى أعيت الرسل واشتبهت المذاهب ولم يحصلوا على غير المقاربة والوعد لكن على شرط التوثّق من أبي زيّان. وبينما هم في ذلك إذ هجم السلطان على الجريد وشرّد عنه أولاد أبي الليل الذين تكفّل الرؤساء به بالمدافعة. وافتتح قفصة وتوزر ونفطة ولحق يحيى بن يملول ببسكرة، واستصحب الأمير أبا زيّان فنزل علي ابن مزني وهلك لأيام قلائل كما ذكرناه. واستحكمت عندها استرابة يعقوب بن عليّ شيخ رياح بأمره مع السلطان لما سلف منه من مداخلة هؤلاء الرهط وتمسّكهم بحقويه والمبالغة في العذر عنهم. ثم غدرته أنصاره [1] من مشيخة الزواودة وانحاشوا إلى السلطان فأفاض عليهم عطاءه، واختصّهم بولايته فحدث لذلك منه نفرة واضطراب، وارتحل إلى السلطان أبي حمو صاحب تلمسان فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة يستحيثه لهؤلاء الرهط ويهزّه بها إلى البدار بصريخهم. ونزل على أولاد عريف أوليائه من سويد، وأوفد عليه ابنه فتعلّل لهم بمنافرة حدثت   [1] وفي نسخة أخرى: ثم غيرته بأنظاره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 569 في الوقت بينه وبين صاحب المغرب، وأنه لهم بالمرصاد متى رابهم ريب من نهوض السلطان [1] أبي العبّاس ليتمسك بذلك طرق التوثّب من أبي زيّان وربما دسّ، لهم بمشارطة اعتقاله وإلقائه في غيابات السجون. وفي مغيب يعقوب هذا طرق السلطان طائف من المرض أرجف له المفسدون بالجريد ودسّ لشيع ابن يملول بتحيّزه إلى صبيّ من أبناء يحيى مخلف ببسكرة، فذهل ابن المزني عن التثبت لها ذهابا مع صاغية الولد وأوليائه، وجهّزهم لانتهاز الفرصة في توزر مع العرب المشارطين في مثلها بالمال، وأغذّوا السير توزر على حين غفلتهم من الدهر وخفّ من الجند فجلى المنتصر وأولياؤه في الامتناع، وصدق الدفاع وتمحضت بهذه الانالة طاعة أهل توزر ومخالصتهم وانصرف ابن يملول بإخفاق من السعي واليم من الندم وتوقع للمكاره. ووافق ببسكرة قدوم يعقوب بن علي فرجّعه من المغرب فبالغ في تغييبهم بالملامة على ما أحدثوا بعده من هذا الخرق المتسع الغني عن الواقع [2] . وكان السلطان لأوّل بلوغ الخبر بإجلابهم على توزر وممالأة ابن مزني على ابنه وأوليائه، أجمع النهوض إلى بسكرة وعسكر بظاهر الحضرة، وفتح ديوان العطاء وجهّز آلات الحصار. وسرى الخبر بذلك إليهم فخلصوا نجيّا ونقضوا عنه آراءهم فتمحّض لهم اعتقال أبي زيّان الكفيل لهم بصريخ أبي حمو على زعمه فتعللوا عليه ببعض النزعات، وتورّطوا في اخفار ذمته، وطيّروا بالصريخ إلى أبي حمو، وانتظروا فما راعهم إلا وافده بالعذر عن صريخهم والإعاضة بالمال، فتبينوا عجزه ونبذوا عهده، وبادروا عليه السبيل لأبي زيّان العذر له لما كان السلطان نكر عليهم من أمرهم فارتحل عنهم ولحق بقسنطينة. وحملهم يعقوب بن عليّ على اللياذ بالطاعة، وأوفد ابن عمه متطارحا وشافعا فتقبّل السلطان منه وسيلته [3] وأغضى لابن مزني عن هناته وأسعفهم بكبير دولته وخالصة سرّه أبي عبد الله ابن أبي هلال ليتناول منه المخالصة. ويمكن له الألفة ويمسح عنه هواجس الارتياب والمخافة. وكان قد انتهى إليهم من الحياة ففصل عن الحضرة، وارتحل السلطان في ذي القعدة آخر سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة لتفقّد عمّاله وابتلاء الطاعة من أهل أوطانه. ولما   [1] وفي نسخة أخرى: نهوض السلطان أبي العباس إليهم، تمسّك بذلك طرف التوثق من أبي زيان. [2] وفي نسخة أخرى: المعيي على الراقع. [3] وفي نسخة ثانية: فتقبّل السلطان فيئته ووسيلته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 وصل وافد السلطان إلى أبي مزني ألقى زمامه إليه وحكمه في ذات يده وقبله، ومحا أثر المراوغة واستجدّ لبؤس الانحياش والطاعة، وبادر إلى استجادة المقرّبات وانتقاء صنوف التحف. وبعث بذلك في ركاب الوافد فدفع الّذي عليه من الضريبة المعروفة محملا أكباد جياده [1] وظهور مطاياه، ووصلوا إلى معسكر السلطان بساح تبسة فاتح سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة فجلس لهم السلطان جلوسا فخما ولقاهم قبولا وكرامة، فعرضوا الهدية، وأعربوا عن الانحياش والطاعة وحسن موقع ذلك من السلطان وشملهم إحسان السلطان في مقامتهم وجوائزه على الطبقات في انصرافهم، وانقلبوا بما ملأ صدورهم إحسانا ونعمة وظفروا برضا السلطان وغبطته، وحسبهم بها أمنيّة وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب. (الخبر عن انتقاض أولاد أبي الليل ثم مراجعتهم الطاعة) قد ذكرنا ما كان من رجوع أولاد أبي الليل هؤلاء إلى طاعة السلطان إثر منصرفه من فتح قابس، وأنهم وفدوا عليه بالحضرة فتقبّلهم وعفا عن كبائرهم واسترهن على الطاعة أبناءهم، واقتضى بالوفاء على ذلك أيمانهم. وخرج الأخ الكريم أبو يحيى زكريا في العساكر لاقتضاء المغارم من هوارة التي استأثروا بها في مدّة هذه الفتن. وارتحل معه أولاد أبي الليل وأحلافهم من حكيم حتى استوفى جبايته وجال في أقطار عمله. ثم انكفأ راجعا إلى الحضرة، ووفدوا معه على السلطان يتوسّلون به في أفعالهم بالعسكر إلى بلاد الجريد لاقتضاء مغارمهم على العادة واستيفاء اقطاعاتهم، فسرّح السلطان معهم لذلك ابنه أبا فارس وارتحلوا معه بأحيائهم، وكان ابن مزني وابن يملول من قبله ويعقوب بن علي كثيرا ما يراسلونهم ويستدعونهم لمثل ما كانوا فيه من الانحراف ومشايعة صاحب تلمسان. ولما اعتقلوا أبا زيّان ببسكرة كما ذكرناه وتوفي بصريخ أبي حمو ومظاهرته. فنبضت عروق الخلاف في أولاد أبي الليل وفزعوا إلى العلاق بيعقوب بن علي رجاء فيما   [1] وفي نسخة ثانية: اكتاد ثقاته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 571 توهّموه من استغلاظ أمرهم بصاحب تلمسان ويأسا من معاودة التغلّب الّذي كان لهم على ضواحي إفريقية، ففارقوا الأمير أبا فارس بعد أن بلغوه مأمنه من قفصة، وساروا بأحيائهم إلى الزاب فلم يقعوا على الغرض ولا ظفروا بالبغية، ووافوا يعقوب وابن مزني، وقد جاءهم وافد أبي حمو بالقعود عن نصرتهم، والأمير أبو زيان قد انطلق لسبيله عنهم، فسقط في أيديهم وعاودهم الندم على ما استدبروا من أمرهم، وحملهم يعقوب على مراجعة السلطان وأوفد ابنه محمدا في ذلك مع وافد العزيز أبي عبد الله محمد بن أبي جلال فتقبّلهم وأحسن التجاوز عنهم. وبعث أبا يحيى أخاه لاستقدامهم أمانا لهم وتأنيسا. وبذل لهم فوق ما أمّلوه من مذاهب الرضا والقبول واتصل النجح والظهور، والحمد للَّه وحده. (تغلب ابن يملول على توزر وارتجاعها منه) قد كان تقدّم لنا أنّ يحيى بن يملول لما هلك ببسكرة خلّف صبيا اسمه أبو يحيى، وذكرنا كيف أجلب على توزر سنة ثنتين وثمانين وسبعمائة مع لفيف أعراب رياح ومرداس. فلما كان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة بعدها وقعت مغاضبة بين السلطان وبين أولاد مهلهل من الكعوب، وانحدروا إلى مشاتيهم بالصحراء فبعث أميرهم يحيى بن طالب عن هذا الصبيّ أبي يحيى من بسكرة، فنزل بأحيائه بساح توزر، ودفع الصبيّ إلى حصارها، واجتمع عليه شيعته من نواحي البلد وأشراف [1] من أعراب الصحراء، وأجلبوا على البلد وناوشوا أهلها القتال وكان بها المنتصر ابن السلطان فقاتلهم أياما. ثم تداعى شيعهم من جوانب المدينة وغلبوا عساكرهم وأحجروهم بالبلد، ثم دخلوا عليهم، وخرج المنتصر ناجيا بنفسه إلى بيت يحيى بن طالب. واستذمّ به فأجاره وأبلغه إلى مأمنه بقفصة، وبها عاملها عبد الله التريكي. واستولى ابن يملول على توزر، واستنفد ما معه وما استخرجه من ذخائر توزر في أعطيات العرب، وزادهم جباية السنة من البلد بكمالها، ولم يحصل على رضاهم وبلغ الخبر إلى السلطان بتونس، فشمّر عزائمه وعسكر بظاهر البلد، واعترض الجند   [1] وفي نسخة أخرى: أو شاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 572 وأزاح عللهم وارتحل إلى ناحية الأربض وهو يستألف الأعراب ويجمع لقتال أولاد مهلهل أقتالهم وأعداءهم أولاد أبي الليل وأولياءهم وأحلافهم ليستكثر بهم، حتى نزل على فحص تبسة فأراح بهم أياما حتى توافت أمداده من كل ناحية ونهض يريد توزر. ولما احتلّ بقفصة قدم أخاه الأمير أبا يحيى وابنه الأمير المنتصر في العساكر ومعهما صولة بن خالد بقومه أولاد أبي الليل، وسار على أثرهم في التعبية. ولما انتهى أخوه وابنه إلى توزر حاصروها وضيّقوا عليها أياما. ثم وصل السلطان فزحف إليها العساكر من جوانبها وقاتلوها يوما إلى المساء، ثم باكروها بالقتال فخذل ابن ابن يملول أصحابه وأفردوه فذهب ناجيا بنفسه إلى حلل العرب، ودخل السلطان البلد واستولى عليه وأعاد ابنه إلى محل إمارته منه، وانكفأ راجعا إلى قفصة، ثم إلى تونس منتصف أربع وثمانين وسبعمائة. (ولاية الأمير زكريا ابن السلطان على توزر) ثم عاد ابن يملول إلى الاجلاب على توزر من السنة القابلة وخرج السلطان في عساكره فكرّ راجعا إلى الزاب ونزل السلطان قفصة ووافاه هنالك ابنه المنتصر، وتظلّم أهل توزر من أبي القاسم الشهرزوريّ الّذي كان حاجبا للمنتصر فسمع شكواهم، وأبلغ إليه الخاصّة سوء دخلته وقبيح أفعاله فتقبّض عليه بقفصة واحتمله مقيّدا إلى تونس. وغضب لذلك المنتصر وأقسم لا يلي على توزر. وسار مع السلطان إلى تونس وولّى السلطان على توزر الأمير زكريا من ولده الأصاغر لما كان يتوسّم فيه من النجابة فصدقت فراسته فيه وقام بأمرها وأحسن المدافعة عنها، وقام باستئلاف الشارد من أحياء العرب وأمرائهم حتى تمّ أمره وحسنت ولايته. والله متولي الأمور بحكمته لا إله إلا هو. (وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية) كان السلطان لما سار إلى فتح تونس وولّى على بجاية ابنه محمدا كما مر وأقام له حاجبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 573 وأوصاه بالرجوع إلى محمد بن أبي مهدي زعيم البلد وقائد الأسطول المتقدّم على أهل الشطارة والرجولة من رجل البلد ورماتهم. فقام هذا الأمير أبو عبد الله في منصب الملك ببجاية أحسن قيام واصطنع أبي مهديّ أحسن اصطناع فكان يجري في قصوره وأغراضه ويكفيه مهمه في سلطانه، ويراقب مرضاة السلطان في أحواله، والأمير يعرف له ذلك ويوفيه حقّه إلى أن أدركته المنية أوائل خمس وثمانين وسبعمائة فتوفي على فراشه آنس ما كان سربا وآمن روعا مشيعا من رضى أبيه ورعيته بما يفتح له أبواب الرضى من ربه، وبلغ نعيه إلى أبيه بتونس فبادر بإنفاذ العهد لابنه أبي العباس أحمد بولاية بجاية مكان أبيه وجعل كفالة أمره لابن أبي مهدي مستبدّا عليه واستقامت الأمور على ذلك. (حركة السلطان الى الزاب) كنت أنهيت بتأليف الكتاب إلى ارتجاع توزر من أيدي ابن يملول وأنا يومئذ مقيم بتونس، ثم ركبت البحر منتصف أربع وثمانين وسبعمائة إلى بلاد المشرق لقضاء الفرض، ونزلت بالإسكندرية ثم بمصر، ثم صارت أخبار المغرب تبلغنا على ألسنة الواردين، فمن أوّل ما بلغنا وفاة هذا الأمير ابن السلطان ببجاية سنة خمس وثمانين وسبعمائة. ثم بلغنا بعدها حركة السلطان إلى الزاب سنة ست وثمانين وسبعمائة، وذلك أن أحمد بن مزني صاحب بسكرة والزاب لعهده كان مضطرب الطاعة متحيّزا على السلطان وكان يمنع في أكثر السنين المغارم معوّلا على مدافعة العرب الذين هلكوا بضواحي الزاب والتلول دونه، وأكثر وثوقه في ذلك بيعقوب بن عليّ وقومه الزواودة، وقد مرّ طرف من أخباره مثبوتا في أخبار الدولة. وكان ابن يملول قد أوى إلى بلده واتخذ وكرا في جوّه وأجلب على توزر مرارا برأيه ومعونته فاحفظ على ذلك السلطان ونبّه له عزائمه. ثم نهض سنة ست وثمانين وسبعمائة يريد الزاب بعد أن جمع الجموع واحتشد الجنود واستألف العرب من بني سليم فساروا معه وأوعبوا، ومرّ على فحص تبسه. ثم خرج من طرف جبل أوراس إلى بلد تهودا من أعمال الزاب، واعصوصب الزواودة ومن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 574 معهم من قبائل رياح على المدافعة دون بسكرة والزاب غيرة من بني سليم أن يطرقوا أوطانهم أو يردوا مراعيهم إلا بني سبّاع بن شبل من الزواودة، فإنّهم تحيّزوا إلى السلطان. استنفر ابن مزني حماة وطنه ورجالة قومه من الأثبج فغصّت بسكرة بجموعهم وتواقف الفريقان، وأنالهم السلطان القتال أياما وهو يراسل يعقوب بن علي ويستحثّه لما كان يطمعه به من المظاهرة على ابن مزني، ويعقوب يخادعه بانحراف قومه عنه وائتلافهم على ابن مزني ويرغبه في قبول طاعته ووضع أوزار الحرب مع رياح حتى تتمكن له فرصة أخرى، فتقبّل السلطان نصيحته في ذلك وأغضى لابن مزني ولرياح عنها، وقبل طاعته وضريبته المعلومة، وانكفأ راجعا، ومر بجبل أوراس ثم إلى قسنطينة فأراح بها، ثم ارتحل إلى تونس فوصل إليها منتصف سنة ثمانين وسبعمائة أهـ. (حركة السلطان الى قابس) كان السلطان قد فتح مدينة قابس سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وانتظمها في أعماله وشرّد عنها بني مكي فذهبوا إلى نواحي طرابلس وهلك كبيرهم عبد الملك وعبد الرحمن ابن أخيه أحمد، وذهب ابنه يحيى إلى الحجّ، وأقام عبد الوهاب بزنزور ثم رجع إلى جبال قابس يحاول على ملكها. واستتبّ له ذلك بوثوب جماعة من أهل البلد بعاملها يوسف بن الآبار من صنائع السلطان بقبحّ إيالته وسوء سيرته، فداخلوا جماعة من شيعة ابن مكي في ضواحي قابس وقراها وواعدوهم فجاءوا لميعادهم وعبد الوهاب معهم، واقتحموا باب البلد وقتلوا البوّاب. وقصدوا ابن الآبار فقتلوه في مسكنه سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة وملك عبد الوهاب البلد واستقل بها كما كان سلفه. وجاء أخوه يحيى من المشرق فأجلب عليه مرارا يروم ملك البلد منه فلم يتهيّأ له ذلك ونزل على صاحب الحامة وأقام عنده يحاول أمر البلد منها، فبعث عبد الوهاب إلى صاحب الحامة وبذل له المال على أن يمكّنه منه فبعث به إليه فاعتقله بعض العروسيين، وأقام يراوغ السلطان على الطاعة ويبذل ماله في أعراب الضاحية من دباب وغيرهم للمدافعة عنه، ومنع الضريبة التي كانوا يؤدّونها للسلطان أيام طاعتهم، والسلطان مشغول عنهم بهمّه، فلما فرغ من شواغله بإفريقية والزاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 نهض إليه سنة تسع وثمانين وسبعمائة بعد أن اعترض عساكره واستألف من العرب أولياءه وسرب فيهم عطاءه. ونزل على قابس وقد استعدّ لها وجمع الآلات لحصارها فاكتسح نواحيها، وجثم عليها بعساكره يقاتلها ويقطع نخيلها حتى أعاد الكثير من ألفافها براحا وموّج الهواء في ساحتها، فصحّ إذ كانوا يستوخمونه لاختفائه بين الشجر، في مكائف الطلال وما يلحقه في ذلك من التعفّن، فذهب عنها ما كان يعهد فيها من ذلك الوخم رحمة من الله أصابتهم من عذاب هذا السلطان وربما صحّت الأجسام بالعلل ولما اشتدّ بهم الحصار وضاق المخنق، وظنّ ابن مكي أنه قد أحيط به استعتب للسلطان واستأمن فأعتبه وأمّنه ورهن ابنه على الطاعة أداء الضريبة وأفرج عنه السلطان وانكفأ راجعا إلى تونس، واستقام ابن مكي حتى كان من تغلّب عمه يحيى عليه ما نذكره. (رجوع المنتصر الى ولايته بتوزر وولاية أخيه زكريا على نفطة ونفزاوة) كان العرب أيام ولاية المنتصر بتوزر قد حمدوا سيرته واصفقوا [1] على محبته والتشيّع له، فلمّا رجع السلطان عن قابس وقفوا إليه في طريقه إلى أن تولى المنتصر على بلاد الجريد كما كان ورده إلى عمله بتوزر. وتولّى ذلك بنو مهلهل وأركبوا نساءهم الظعن في الهوادج واعترضوا بهنّ السلطان سافرات مولولات دخلاء عليه في إعادة المنتصر إلى توزر لما لهم فيه من المصالح فقبل السلطان وسيلتهن وأعاده الى توزر، ونقل ابنه زكريا إلى نفطة وأضاف إليها عمل نفزاوة فسار إليها واستعمل بعمله وأظهر من الكفاية والاضطلاع ما تحدّث به الناس عنه، وكانت ولايته أوّل سنة تسعين وسبعمائة. (فتنة الأمير إبراهيم صاحب قسنطينة مع الزواودة ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم أثرها) كان للزواودة بقسنطينة عطاء معلوم مرتّب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم من البلاد في   [1] بمعنى أجمعوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 576 التلول والزاب بأقطاع السلطان وضاق نطاق الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية وصارت العرب يزرعون الأراضي في بلادهم بالمسيل ولا يحتسبون بمغارمها فضيق الدخل يمنعهم العطاء من أجل ذلك، فتفسد طاعتهم وتنطلق بالعيث والنهب أيديهم. ولما رجع الأمير إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس، وكان منذ أعوام ينقص من عطائهم لذلك، ويعلّلهم بالمواعيد، فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه وطلبوا منه عطاءهم فتعالى، وجاءه يعقوب بن عليّ مرجعه من الحج وأشار عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه وارتحل لبعض مذاهبه، وتركه ونادى في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من أولاد سبّاع بن شبل وأولاد سبّاع بن يحيى وباديتهم من ذؤبان ورياح، وخرج يعقوب من التل فنزل على نفاوس فأقام بها، وانطلقت أيدي قومه على تلول قسنطينة بالنهب وانتساف الزرع حتى اكتسحوا عامّتها ولحقوا به مالئي اليد مثقلي الظهر. ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين وسبعمائة ونقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه بها وقام مكانه في قومه ابنه محمد. واستمرّ على العصيان وصعد إلى التل في منتصف إحدى وتسعين وسبعمائة واستألف الأمير إبراهيم أعداءه من الزواودة وأحلافهم من البادية جنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن علي بما معه من أولاد عائشة أمّ عمر، وخالفه أخوه صميت إلى محمد بن يعقوب، وتحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه وقتل أبو ستة ثم جمع السلطان لحربهم ودفع عن التلول ومنعهم من المصيف عامهم ذلك. وانحدروا إلى مشاتيهم وعجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول وقضوا مصيفهم عامهم ذلك بالزاب، وانحدروا منه إلى المشاتي فلمّا رجعوا من مشاتيهم وقد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه، وكاد أن يفسد ما بينهم وبين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة. ثم ارتحلوا صاعدين إلى التلول وقد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه. وبينما هو في ذلك ألمّ به طائف من المرض فتوفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وافترقت جموعه وأغذّ محمد بن يعقوب السير إلى نواحي قسنطينة فاحتلّ بها مظهرا للطاعة متبرئا من الخلاف، ونادى في أهل البلاد بالأمان العمارة فصلحت أحوال الرعايا والسابلة. وبعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين فأمّنهم وأعتبهم وأقام بقسنطينة مكان إبراهيم ابنه، وبعث من حضرته محمد ابن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 577 مولاه بشير لكفالته والقيام بدولته فقام بأمرها، وصلحت الأحوال والله بيده تصاريف الأمور. (منازلة نصارى الإفرنج المهدية) كانت أمّة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم تغلّب ودولة بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره ومثل: سردانية وميورقة وصقلّيّة، وملأت أساطيلهم فضاءه وتخطوا إلى سواحل الشام وبيت المقدس فملكوها، وعادت لهم سورة الغلب في هذا البحر بعد أن كانت سورة المسلمين فيه لا تقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله ومراكبه [1] فغلبهم الفرنج وعادت السورة لهم، وزاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياما. ثم فشل ريح الفرنجة واختلّ مركز دولتهم بإفرنسة، وافترقت طوائف في أهل برشلونة وجنوة والبنادقة وغيرهم من أمم الفرنجة النصرانيّة، وأصبحوا دولا متعدّدة فتنبّهت عزائم كثيرة من المسلمين بسواحل إفريقية لغزو بلادهم، وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجتمع النفير [2] والطائفة من غزاة البحر، يضعون الأسطول ويتخيّرون له أبطال الرجال، ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه، ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالبا ويعودون بالغنائم والسبي والأسرى، حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية بأسراهم تضجّ طرق البلاد بضجّة السلاسل والأغلال عند ما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فدائهم بما يتعذّر منه أو يكاد، فشقّ ذلك على أمم الفرنجة وملأ قلوبهم ذلّا وحسرة وعجزوا عن الثأر به، وصرخوا على البعد بالشكوى إلى السلطان بإفريقية فصمّ عن سماعها وتطارحوا سهمهم ونكلهم [3] فيما بينهم وتداعوا النزول المسلمين والأخذ بالثأر منهم. وبلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرّح ابنه الأمير أبا فارس يستنفر أهل النواحي ويكون رصدا للأسطول هنالك، واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن وراءهم   [1] وفي نسخة ثانية: مران راكبيه. [2] وفي نسخة ثانية: فيجمع النفراء. [3] وفي نسخة أخرى: وتطارحوا بثهم وثكلهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 578 ويجاورهم من أمم النصرانية، وأقلعوا من جنوة فحطّوا بمرسى المهديّة منتصف اثنتين وتسعين وسبعمائة وطرقوها على حين غفلة وهو على طرف البرّ داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا عندها، وضربوا عند أوّل الطرق سورا من الخشب بينه وبين البر حتى صار المعقل في حكمهم، وعالوا عليه بالأبراج وشحنوها بالمقاتلة ليتمكّنوا من قتال البلد ومن يأتيهم من مدد المسلمين، وصنعوا برجا من الخشب من جهة البحر يشرف على أسوار المعقل لتعظم نكايتهم، وتحصّن أهل البلد وقاتلوهم صابرين محتسبين. وتوافت إليهم الأمداد من نواحي البلد فحال دونهم الفرنجة. وبلغ الخبر إلى السلطان فأهمّه أمرها وسرّح العساكر تترى إلى مظاهرتهم. ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكريا وسائر بنيه فيمن حضره من العساكر فانطلقوا لجهاد هذا العدوّ، واستنفر المقاتلة من الأعراب وغيرهم فاجتمعت بساحتها أمم، وألحّوا على الفرنجة بالقتال ونضح السهام حتى أحجروهم في سورهم. وبرز الفرنجة للقتال فكان بينهم وبين المسلمين جولة جلّى فيها أبناء السلطان، وكاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورّط لولا حماية الله التي وقته. ثم تداركت عليهم الحجارة والسهام والنفط من أسوار البلد فاحترق البرج المطل عليها من جهة البحر فوجموا لحريقه. ثم ركبوا من الغد أسطولهم وأقلعوا إلى بلادهم، وخرج أهل المهديّة يتباشرون بالنجاة ويتنادون بشكر الأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم، «وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» 33: 25. وأمر الأمير أبو يحيى برمّ ما تثلّم من أسوارها، ولم ما تشعّث منها، وقفل إلى تونس وقد أنجح الله قصدهم وأظهرهم على عدوّه وعدوّهم، والله تعالى ينصر من يشاء وهو القوي العزيز. (انتقاض قفصة وحصارها) كان السلطان أبو العبّاس قد ولّى على قفصة عند ما ملكها ابنه الأمير أبا بكر وأقام في خدمته من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي جدّهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أمره وأقام بها حولا. ثم تجافى عن إمارتها ولحق بأبيه بتونس سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فجعل السلطان أمر قفصة لعبد الله التريكي وولّاه عليها ثقة بغنائه واضطلاعه. ولم يزل بها واليا إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وسبعمائة وولّى السلطان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 579 مكانه محمدا ابنه، وكان له إخوة أصاغر أبناء علات فنافسوه في تلك الرتبة وحسدوه عليها، وأغراهم به محمد الدنيدن من قرابة أحمد بن العابد كان ينظر في قسمة الماء بالبلد، وكان فيها عدلا معقلا، فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه، وأبقاه السلطان بالبلد فأغرى هؤلاء الإخوة بأخيهم ووثبوا به فاعتقلوه وأظهروا العصيان. ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثّب بهم وأخرجهم واستصفاهم واستقل برياسة البلد كما كان قومه، والسلطان في خلال ذلك يرعد ويبرق ويواصل الأعذار والإنذار، وهم قد لجّوا في طغيانهم. ثم جمع جنوده واحتشد واستألف الأعراب ووفّر لهم الأعطيات. ونهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس وتسعين وسبعمائة وقد استعدّوا وتحصّنوا فألحّ عليهم القتال وأذاقهم النكال، وقطع عنهم الميرة فضيّق محنقهم. ثم عدا على نخلهم يقطعها حتى صرع جذوعها وفسح المجال بين لفافها. ولما اشتد بهم الحصار وضاق عليهم المخنق، فخرج شيخهم الدنيدن إلى السلطان يعقد معه صلحا على بلده وقومه فغدر به، وحبسه رجاء أن يملك بذلك البلد. وكان بعض بني العابد واسمه عمرو بن الحسن قد انتبذ عن قفصة أيام نكبتهم وأبعد في المغرب، ثم رجع ونزل بأطراف الزاب. ولما استقل الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياما ثم استراب به وتقبّض عليه وحبسه. فلما غدر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة وعقدوا له الإمرة، وبعثوا إلى العرب يسترحمونهم ويعطفونهم على ذخيرتهم فيهم. وسرّبوا إليهم الأموال فتصدّى إلى الدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل، وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد، وكان أولياؤه من العرب قد أبعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلّا إطلاق صولة برايته في قومه فأجفل واتبعوه. وما زال يكرّ عليهم في بنيه وخواصّه حتى ردّهم على أعقابهم. وأغذّ السير إلى تونس وهم في اتباعه، ولم يظفروا منه بعقال إلّا ما كان من طعن القنا ووقع السيوف حتى وصل إلى حضرته. ثم ندم صولة على ما كان منه وراسل السلطان بطاعته فلم يقبله، وانحدر إلى مشاتيه سنة ست وتسعين وسبعمائة. واستدعى ابن يملول إلى صولة فأغراه بحصار توزر وأنزل معه عليها قومه فجلّى الأمير المنتصر ابن السلطان في دفاعهم والامتناع عليهم حتى يئسوا، واضطربت آراؤهم وأفرجوا عنها مفترقين. وصعد صولة إلى التلال للمصيف به، وعاود الرغبة من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 580 السلطان في قبول طاعته. وكان محمد الدنيدن لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية، فلمّا وصل إلى تونس أرسل أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه أشياعه، ودخل البلد فبدر به عمر بن العابد وكبسه بمكانه الّذي نزل به وقتله، واستبدّ بمشيخة قفصة وخشي أهل قفصة من غائلة السلطان وسوء مغبّة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم، وشرط عليهم نزول عامله عندهم، وهذا آخر ما بلغنا عنهم والله مصرف الأمور بحكمته. (ولاية ابن السلطان على صفاقس واستيلاؤه منها على قابس وجزيرة جربة) هذا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الّذي كان أميرا بقسنطينة، وكان في كفالة أخيه إبراهيم. فلمّا توفي كما مرّ لحق بالسلطان أبيه وأقام عنده. ولما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدّمناه واضطرب قومه من بعده، ونزع قائدهم ورئيسهم ابن خلف إلى السلطان فبعث معه ابنه عمر هذا سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة لحصار طرابلس، وأقام عليها حولا كريتا يحاصرها ويمنع الأقوات عنها، حتى ضجروا وضجر من طول المقامة فدافعوه بالضريبة وانكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة ووافاه جاثما على قفصة عند ما انتقضوا عليه، وقد مرّ في طريقه على جربة وأراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجين فأنف من ذلك، وشكاه إلى أبيه فولّاه على صفاقس، ووعده بولاية جربة فسار هو إلى صفاقس وأجاز البحر إلى جزيرة جربة، وانضمّ إليه جميع من بها من القبائل. وامتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان الفرنج، حتى كاتب السلطان فأمره بتمكين ابنه من الحصن والإفراج له عن الجزيرة أجمع، فأستبدّ بها. ثم إنّ الأمير عمر سما إلى ملك قابس، فداخل أهل الحامة في ذلك فأجابوه وساروا معه بجموعهم سنة ست وتسعين وسبعمائة فبيّتها وملكها، وقبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه، وانقرض أمر بني مكي من قابس واستقلّ بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان بيده، والله وارث الأمور . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 (وفاة السلطان أبي العباس وولاية ابنه أبي فارس عزوز) كان السلطان أبو العبّاس أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغال في المحفّة. ثم اشتدّ به آخر عمره وأشرف في سنة ست وتسعين وسبعمائة على الهلكة. وكان أخوه زكريا رديفه في الملك والمرشّح بعده للأمر، وابنه محمد واليا على بونة موضع إمارته من قبل. وكان للسلطان أولاد كثيرون يتطاولون على أبيهم ويغصون بعمهم زكريا، ويخشون غائلته بعد أبيهم، فلمّا قارب السلطان منيته اشتدّ جزعهم وإشفاقهم من عمهم. وبعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسنطينة فسار إليها بين يدي موته، واعصوصب الباقون على كبيرهم بعده إلى أبي فارس عزّوز فقبضوا على عمهم زكريا وقد دخل يعود أخاه، وأودعوه في بعض الحجر ووكّلوا به، وهلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست وتسعين وجاء أهل البلد إلى بيعته أفواجا من الأعيان والكافة فتمّت بيعته، وأمر بنقل ما في بيوت عمّه من الأموال والذخيرة إلى قصره حتى استوعبها، وضيّق عليه في محبسه، وقام بتدبير ملكه وسياسة سلطانه. وولّى بعض إخوته على منابر عمله بإفريقية فبعث أحدهم على سوسة والثاني على المهديّة، وردف أخاه إسماعيل في ملكه بتونس، وأحلّ الباقين محل الشورى والمفاوضة. وبلغ الخبر إلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره ولحق بالحامة فأقام بها. وكذلك أخوه زكريا بنفطة فلحق بالجبال بنفزاوة. وكان أخوه أبو بكر لما سار إلى قسنطينة لولاية أبيه قبيل وفاته ومرّ ببونة فلقيه صاحبها الأمير محمد ابن عمّه زكريا بما شاء من أنواع الكرامة والمبرّة ووافى قسنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده عليها فأقرأهم إيّاه، وفتحوا له الأبواب فدخل واستولى على أمرها. وكان خالصة السلطان أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي العبّاس بن سالم في صفر من شهور السنة، وحمّله من الهدايا والتحف ما يليق بأمثالهما فسار. فلمّا انتهى إلى ميلة بلغه الخبر بوفاة السلطان مرسلة وأوعز إليه الأمير أبو بكر من قسنطينة [1]   [1] وفي طبعة بولاق المصرية: قسطنطينة وكذا في النسخة التونسية. وفي معجم البلدان: قسنطينية. وفي كتب التاريخ الحديثة: قسنطينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 582 بالرجوع إليه فرجع بهديته، واستقرّ عنده هنالك. (هذا آخر ما بلغنا) من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه السنين وحالهم على ذلك لهذا العهد، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه، وهو على كل شيء قدير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 583 (الخبر عن بني مزني أمراء بسكرة وما إليها من الزاب) هذا البلد بسكرة هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد، وحدّه من لدن قصر الدوسن بالمغرب إلى قصور هولة [1] وبادس في المشرق، يفصل بينه وبين البسيط الّذي يسمّونه الحضنة جبل جاتم من المغرب إلى المشرق، ذو ثنايا تفضي إليه من تلك الحضنة، وهو جبل درن المتّصل من أقصى المغرب إلى قبلة برقة. ويعتمر بعض ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من زناتة، ويتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكرة المعترض في ذلك البسيط من القبلة إلى الجوف [2] . وهو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر عن بعض ساكنيه. وهذا الزاب وطن كبير يشتمل على قرى متعدّدة متجاورة جمعا جمعا، يعرف كلّ واحد منها بالزاب. وأوّلها زاب الدوسن، ثم زاب طولقة ثم زاب مليلة وزاب بسكرة وزاب تهودا وزاب بادس. وبسكرة أمّ هذه القرى كلها، وكانت مشيختها في القديم بعد الأغالبة والشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة من بني رمّان من أهلها بما كثروا بساكنها. وملكوا عامّة ضياعها. كان لجعفر بن أبي رمّان منهم له صيت وشهرة. وربّما نقضوا الطاعة لعهد بلكّين بن محمد بن حمّاد صاحب القلعة في سني خمسين وأربعمائة، وضبطوا البلد وامتنعوا. وتولى كبر ذلك جعفر بن أبي رمانة، ونازلتهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن أبي حديدة [3] من صنائع الدولة فاقتحمها عليهم، واحتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكّين جميعا، وجعلهم عظة لمن بعدهم. وأصار الشوري لبني سندي من أهلها. وكان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في الطاعة وانحياش إلى الدولة على حين تقلّص ظلّها وفشل ريحها، وألوى الهرم بشبابها. وهو الّذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي بعد وصوله من المشرق واجتلابه على السلطان بقومه من مغراوة أغرى بالأثبج [4] وبني عديّ وبني هلال، فمكر به   [1] وفي نسخة ثانية: تنوّمه. [2] وفي طبعة بولاق: الى الشمال. [3] وفي طبعة ثانية: خلف بن أبي حيدرة. [4] وفي طبعة ثانية: وأعراب الأثبج ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 585 السلطان وأقطعه ضواحي الزاب وريغه طعمة. ودسّ إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدّمنا ذكره في أخبار آل حمّاد. وانقرضت رياسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من إفريقية. وجاءت دولة الموحّدين، والذكرة والبيت لبني زيّان [1] . وكان بنو مزني لفقا [2] من لفائق الأعراب، وصلوا إلى إفريقية أحلافا لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدّمنا. ونسبهم بزعمهم في مازن من فزارة والصحيح أنهم في لطيف من الأثبج. ثم من بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف، واسم أبيهم مزنة بن ديفل بن محيّا بن جرى، هكذا تلقيته من بعض الهلاليّين، وشهد لذلك الموطئ، فإن أهل الزاب كلّهم من أفاريق الأثبج عجزوا عن الظعن ونزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح، وإنما ينزعون عن هذا النسب إلى فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم والوضائع، فيستنكفون لذلك وينتسبون إلى غرائب الأنساب. وكان أوّل نزولهم بقرية من قرى بسكرة وكانت تعرف بقرية حيّاس. ثم كثروا وتسايلوا وأخذوا مع أهل بسكرة بحظ وافر من تملّك العقار والمياه. ثم انتقلوا إلى البلد واستمتعوا منها بالمنزل والظلال، وقاسموا أهلها في الحلو والمرّ، وانتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة. ثم استنكف بنو زيان [3] من انتظامهم معهم وحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وحذّروهم من أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة والإحن، وكان أوّلها الكلام والترافع إلى سدّة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص بإفريقية، ولعهد الأمير أبي زكريا وابنه السلطان مستنصر. ثم تناجزوا الحرب وتواقعوا بسكك المدينة وكانت صاغية الدولة مع بني زيان لقدمهم في البلد. ولما خرج الأمير أبو إسحاق على أخيه محمد المستنصر لأوّل بيعته، ولحق بالزواودة من العرب وبايع له موسى بن محمد بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ، واعتمر به بسكرة وبلاد الزاب، وأناخ عليها بكلكله كما قدّمناه. قام يومئذ فضل بن عليّ بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني بدعوته، وأعلن بين أهل البلد بطاعته   [1] وفي طبعة ثانية: والكثرة والبيت لبني رمّان. [2] يقال للرجلين هما لفقان أي لا يفترقان. [3] وفي نسخة ثانية: بنو رمّان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 586 واتبعوه على كره. ثم عاجلتهم عساكر السلطان وأجهضتهم [1] عن الزاب، فاعتلق فضل بن عليّ به، واستمسك بذيله وصحبه في طريقه إلى الأندلس، وبدا غربته منها إلى أن هلك المستنصر أخوه، هيّأ الله له من أمر الخلافة ما هيأ حسبما ذكرناه. ولما تمّ أمره واقتعد بتونس كرسيّ خلافته عقد لفضل بن عليّ على الزاب ولأخيه عبد الواحد على بلاد الجريد رعيا لذمّة خدمتهما، وذكرا لإيلافهما في المنزل الخشن وصحبتهما، فقدم واليا على الزاب، ودخل بسكرة واستكان بنو زيان لصولته وانقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا [2] بكلمة في شأنه، واضطلع بتلك الولاية ما شاء الله. ثم كان شأن الداعي بن أبي عمارة وتلبّسه، ومهلك السلطان أبو إسحاق على يده. ثم ثأر منه السلطان أبو حفص بأخيه واسترجع ما ضاع من ملكهم، وكان يثق بعنايته [3] ، ويعوّل في أمر الزاب على كفايته. وسيم أعداؤه بنو زيّان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف إحدى بطون الأثابج، كانوا نزلوا بقرية باشاش [4] لضيق المدينة حين عجزوا عن الظعن، وخالطوا أهل البلد في أحوالهم وامتزجوا معهم بالنسب والصهر فأغروهم بفضل بن عليّ أن يكون التقدّم لهم في الفتك به، وتناول الأمر من يده، وأن يخرّبوا بيوتهم من قرية باشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم ويطمئنوا إلى ولايتهم حلفا عقدوه على المكر بهم. ولما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض أيام ركوبه سنة ثلاث وثمانين وستمائة وتولّوا من أمر الزاب ما كان يتولّاه، تنكر لهم بنو زيّان لحولين من ذلك الحلف، ونابذوهم العهد فخرجوا عن البلد وفقدوا ما لهم بها من قريب [5] ، وتفرّقوا في بلاد ريغة، واستبدّ بنو زيان بشورى بسكرة والزاب منتقضين عليهم وعلى السلطان، والزواودة قد تغلّبوا عليه وعلى بلاد الحضنة من ورائه نقاوس ومقرة والميلة. وكان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض شئونه. فلمّا هلك أبوه واستبدّ بنو زيان بعده، بثّوا السعايات فيه إلى السلطان بالحضرة فأنجحت، وتقبّض عليه واعتقل أيام السلطان أبي حفص.   [1] أي أبعدتهم عن الزاب. [2] وفي نسخة ثانية: فلم ينشبوا ولا معنى لها هنا. [3] وفي نسخة ثانية: وكان يثق بغنائه. [4] وفي نسخة ثانية: ماشاش. [5] وفي نسخة ثانية: وفقدوا المأوى للتمرّس بها من قريب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 587 ولما تغلّب المولى أبو زكريا يحيى ابن الأمير أبي إسحاق على بجاية وقسنطينة وبونة، واستقلّ بأمرها وانقسمت دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها، تمسّك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة المولى أبي حفص وفرّ منصور بن فضل بن عليّ من محبسه بتونس ولحق ببجاية بعد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيّد الناس، وتولية السلطان أبي زكريا مكانه كاتبه أبو القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى وتسعين وستمائة، فلازم خدمته وخفّ عليه وصانعه بوجوه التخف وتضمّن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه، وشريف أمواله وجبايته إليه واستماله بذلك، فعقد له على الزاب وأمدّه بالعسكر فنازل بسكرة ووفد أهلها بنو زيان على السلطان ببجاية ببيعتهم فرجّعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور، وكتب إليه بقبول بيعتهم، ودخل البلد سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكادهم في بناء القصر لشيعته، وتحصّن العسكر بسورة. ثم نابذهم العهد، وثار بهم فأجلاهم عن البلد، واستمكن فيها ورسخت قدم إمارته فيها، واستدرّ جباية السلطان، واتسع له نطاق العمالة، فاستضاف إلى عمل الزاب جبل أوراس وقرى ريغه وبلد واركلى وقرى الحصنة: مقرة ونقاوس والمسيلة. فعقد له السلطان على جميعها، ودفعه إلى مزاحمة العرب في جبايتها وانتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم في جبايتها حتى كاد يغليهم عليها. ووفّر أموال الدولة وأنهى الخراج وصانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبّة، وجذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب الاصطناع، فأثرى واحتجز الأموال ورسخت عروق رياسته ببسكرة، ورسخت منابت عزّه وهلك المولى أبو زكريا الأوسط على رأس المائة السابعة، وولّوا مكانه ابنه الأمير أبا البقاء خالدا كما قدّمناه، وقام بأمره صاحبه أبو عبد الرحمن بن عمر. وكان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به واعتلاق بيد حاجبه [1] فاستنام إليه وعوّل في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره، وعقد له على بلاد التل من أرض سدويكش وعياض فاستضافها إلى عمله، وجرّد عن ساعد كفايته في جبايتها فلقّح عقيمها وتفجّرت ينابيعها. ثم حدثت بينه وبين الدولة منافرة وأجلب على قسنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق حاجبه من تلمسان [2] ، وبايع له   [1] وفي نسخة ثانية: جاهه. [2] وفي نسخة ثانية: جأجأ به تلمسان وهذا تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 واستألف الزواودة لمشايعته، ونازل به قسنطينة ثم اطلع على مكامن صدره فيه وما طوى عليه من التربّص به فحلّ عقدته، ولحق بعسكره ببسكرة، وراجع الطاعة. ولحق يحيى بن خالد واعتقله إلى أن هلك سنة عشرين وسبعمائة وكانت بينه وبين المرابطين أهل السنّة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن وحروب، وطالبوه بترك المغارم والمكوس تخفيفا عن الرعيّة وعملا بالسنّة التي كانوا ملتزمين لطريقها، ونازلوه من أجل ذلك ببسكرة مرارا. ثم هلك سعادة في بعض حروبه على مليلي كما مرّ في ذكره سنة خمس وسبعمائة. وجمع منصور بن مزني للمرابطين، وبعث عسكره يقوده ابنه عليّ بن منصور مع علي بن أحمد شيخ الزواودة، وعلى المرابط أبو يحيى بن أحمد أخوه ومعه رجالات المرابطين مثل: عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر، وعطيّة بن سليمان بن سبّاع وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني وقتلوا ابنه عليّا وتقبّضوا على عليّ بن أحمد، ثم منّوا عليه وأطلقوه. ورجعوا إلى بسكرة فنازلوها وقطعوا نخيلها. ثم عاودوه ثانية وثالثة. ولم يزل بينه وبين هؤلاء المرابطين فتن سائر أيامه. وكان الحاجب ابن عمر قد استخلصه لنفسه وأحلّه محل الثقة بحلّته واستقامة إلى صنائعه [1] . ولما نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل المكيدة في الانصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمّت كما قدّمناه. ورجع الحاجب إلى قسنطينة وردّه إلى مكان عمله من الزاب. وكان يتردّد إليه ببجاية للزيارة والمطالعة في أعماله إلى أن غدر به العرب في بعض طرقه إليها. وتقبّض عليه من أمراء الزواودة علي بن أحمد بن عمر ابن محمد بن مسعود، وسليمان بن عليّ بن سبّاع بن يحيى بن مسعود على حين اجتذبا حبل الإمارة من يد عثمان بن سبّاع بن شبل بن موسى بن محمد، واقتسما رياسة الزواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في مرجعه من عمله بلاد سدويكش، وأوثقوه اعتقالا، وهمّوا بقتله فافتدى منهم بخمسة قناطير من الذهب وارتاشوا [2] بمسكوبهم، وصرفوا في وجوه رياستهم ألفا منها، وقبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدها إلا في الأحايين. وبعد أخذ الرهن من العرب إلى أن   [1] وفي نسخة أخرى: والاستقامة الى صفاته. [2] ارتاش ربما استعملها ابن خلدون بمعنى راش أي أكل كثيرا (قاموس) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 589 كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى تونس سنة سبع عشرة وسبعمائة أوّل حركاته إليها، وطالب صاحبه يعقوب بن عمر وهو بثغر بجاية بالأموال للنفقات والأعطيات، فبعث إليه بمنصور بن فضل وأشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره، ويكفيه مهمات شئونه واعتدّها منصور على ابن عمر فساء ظنّه، وتنكّر له ابن عمر، وحالت صبغة ودّه وانكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس بعساكره كما قدّمناه. ولمّا احتلّ بقسنطينة بدت له من يعقوب بن عمر صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به، وتردّدت بينهما الرسل وبعث ابن عمر في منصور بن فضل. ونذر منه بالشرّ فأجاب داعيه، وصحب قائد السلطان يومئذ محمد ابن أبي الحسن بن سيّد الناس إليه، حتى إذا كان ببعض الطريق عدل إلى بلده، وهمّ به القائد فأجاره أولياؤه من العرب: عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي ويعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر ومن معهم من ذويهم. ولحق ببسكرة وبلغ الخبر إلى ابن عمر فقرع سنّ الندم عليه، وشايع منصور بن مزني عدوّهم صاحب تلمسان أبا تاشفين ودخل في دعوته وأوفد ابنه يوسف عليه بالطاعة والهدية. وملك السلطان خلال ذلك تونس وسائر بلاد إفريقية وهلك ابن عمر سنة تسع عشرة وسبعمائة ولم يزل منصور بن مزني ممتنعا سائر أيامه على الدولة، والعساكر من بجاية تتردّد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقام بأمره من بعده ابنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل أبيه بالزاب، واستضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية قرى: ريغة وواركلى. وكان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن عمر لمحمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس، وجعل له كفالة ابنه يحيى ودفعه إليه فتجدّدت الوحشة بين عبد الواحد هذا وبين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في المرتبة عند السلطان بما كانوا جميعا صنائع وبطانة للحاجب ابن عمر. وبعث العساكر لحربه ومنازلة حصنه. وناول عبد الواحد هذا لآل زيّان الخائفين [1] الدولة طرفا من حبل طاعته فقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره. وطال تمرّس الجيوش به إلى ان استجنّ منه عبد الواحد بصهر عقده له على ابنته، واشترط المهادنة وتسليم الجباية، وتودع أمره إلى أن اغتاله أخوه يوسف سنة تسع وعشرين وسبعمائة بمداخلة بطانتهم من بنى   [1] وفي نسخة ثانية: مخانقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 590 سماط وبني أبي كواية. ولما أحكم مداخلتهم في شأنه آذنه عشاء للشورى معه في بعض المهمات، وطعنه بخنجره فأشواه وهلك لحينه. واستقلّ يوسف بن منصور بإمارة الزاب ووصله مرسوم السلطان بالتقليد والخلع على العادة، وأجرى الرسم في الدعاء له على منابر عمله. وكان السلطان قد استدعى محمد بن سيّد الناس من الثغر ببجاية [1] ، وفوّض له أمور ملكه، فهاجت نار العداوة والإحن القديمة بما بينه وبين يوسف بن منصور عامل الزاب، وهمّ به لولا ما أخذ بحجزته من الشغل الشاغل للدّولة بتحيّف آل زيّان وهلك الحاجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة في نكبة السلطان إيّاه كما ذكرناه، وعقد لمحمد بن الحكيم على القيادة وجعل بيده زمام العساكر، وفوّض له في سائر القرى والضواحي، فأجرى رياسته وحكمه في دولته وتغلّب على أمره على حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة عدوّه، وحطّ ما كان من أمرهم على كاهل دولته. ونهض السلطان أبو الحسن إلى آل يغمراسن فقلّم أظفار اعتدائهم [2] وفلّ شبا عزائمهم كما شرحنا قبل، فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة، وأثار له من السلطان كأمن الحفيظة وصرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة وتقويمه عن المراوغة في الطاعة، وناهضه بالعساكر مرّات ثلاثا يدافعه في كلّها بتسليم الجباية إليه. ثم كانت بينه وبين علي بن أحمد كبير الزواودة فتن وحروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية دونه فواضعه الحرب، ودعا العرب إلى منازلته مموّها بالدعاء إلى السنّة، وحشد أهل ريغة لذلك ونازلة، وانحرف عنه ابنه يعقوب ودخل إلى بسكرة فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل، وعقد له عليها، فحسن دفاعه عنه، وبعث ابن مزني عن سليمان بن عليّ كبير أولاد سبّاع، وقريع علي بن أحمد في شئونه، فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال ويراوحه إلى أن امتنع ابن مزني. ورحل علي بن أحمد عن بسكرة وصار مع ابن مزني إلى الاتفاق والمهادنة أعوام الأربعين من المائة الثامنة. ثم كانت غزاة القائد بن الحكيم إليه نهض من إفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد، واقتضى طاعتهم ومغارمهم، واسترهن ولد ابن يملول. ثم   [1] وفي نسخة ثانية: لحجابته. [2] وفي نسخة ثانية: أعدائهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 591 ارتحل إلى الزاب في جنوده ومعه العرب من سليم فأجفل بالزاب ونزل بلد أوماش من قراه، وفرّت العرب من الزواودة وسائر رياح أمامه، ودافعه يوسف بن مزني بهديّة دفعها إليه وهو بمكانه من أوماش، وارتحل عنه إلى بلاد ريغة فافتتح تقرّت معقلهم واستباحها ودوّخ سائر أعمالها. ورجع إلى تونس ونكب السلطان قائده محمد ابن الحكيم هذا سنة أربع وأربعين وسبعمائة وولّى ابنه أبا حفص عمر. وخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته وسعاية بطانته فلحق بملك المغرب المرهوب الشبا [1] المطل على الممالك، يعسوب القبائل والعشائر الحسن، وأغراه بملك إفريقية واستجرّه إليها، فنهض في الأمم العريضة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كما ذكرنا ذلك كلّه من قبل. ووفد عليه يوسف بن منصور أمير الزاب بمعسكره من بني حسن فلقّاه برّا وترحيبا واستتبعه في جملته إلى قسنطينة. ثم عقد له على الزاب وما وراءه من قرى ريغة وواركلى، وصرفه إلى عمالته. واستقبل تونس، وأمره برفع الجباية إليه مع العمّال القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعدّ لذلك، حتى إذا سمع بوصولهم من المغرب لحقهم بقسنطينة وفجأهم هنالك جميعا الخبر بنكبة السلطان على القيروان كما ذكرناه، ونذكره فاعتزم على اللحاق ببلده. واعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية الغربية من إفريقية لأذمّة صهر كانت بينهما ومخالصة، وتحيّز إليهم من كان بقسنطينة من أولياء السلطان وحاشيته وعماله، ورسل الطاغية والسودان الوافدين مع ابنه عبد الله من أصاغر بنيه، وآواهم يوسف بن منصور جميعا إليه، وأنزلهم ببلده وكفاهم مهمّاتهم شهورا من الدهر حتى خلص السلطان من القيروان إلى تونس، ولحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يدا اتخذها يوسف بن منصور عند السلطان أبي الحسن وبنيه باقي الأيام. ثم اتبع ذلك بمخالفة رؤساء النواحي من إفريقية جميعا في الانتقاض عليه، وأقام مستمسكا بطاعته يسرّب الأموال إليه بتونس وبالجزائر عند خلوصه إليها من النكبة البحرية كما سنذكره، ويدعو له على منابره بعد تفويضه على الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه، إلى أن هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة واستقام أمر الدولة المرينيّة لابنه السلطان أبي   [1] شبا الشيء: علا وأضاء، وشبا النار: أوقدها وقد تكون شباة وهي حد كل شيء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 592 عنّان الحيّة الذكر، ولما استضاف إلى ملكه ملك تلمسان، ومحا ما جدّده بنو عبد الواد بها من رسوم ملكهم وجمع كلمة زناتة، وأطلّ على البلاد الشرقية سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بادر يوسف بن منصور بطاعته فآتاها طواعية، وأوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته. ثم وفد عليه ثانيا مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر، وبعثه بالعساكر لتدويخ إفريقية وتمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره. ووفد عليه أمراء القبائل والبدو ورؤساء النواحي سنة أربع وخمسين وسبعمائة ووفد في جملتهم يوسف بن منصور أمير الزاب ويعقوب بن علي أمير البدو وسائر رؤساء الزواودة فلقاهم السلطان تكرمة ورعيا لأذمة خلوصهم لأبيه وقومه من بين أهل إفريقية، وأسنى جوائزهم. وعقد ليوسف بن مزني على الزاب وما وراءه من بلاد ريغه وواركلى على عادتهم وانقلب محبوا محبورا وقد ثبت له من ولاية السلطان ومخالصته حظّ، ورفع له ببساطه مجلس، ولما نهض السلطان إلى إفريقية لافتتاح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة كما سنذكره تلقّاه يوسف بن منصور على قسنطينة فخلطه بأوليائه، ونظّمه في طبقات وزرائه. واستوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له ولقومه وانتقض، فأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب وما وراءها من الصحراء، وارتحل السلطان بعساكره في طلبهم إلى أن احتل بلاد الزاب وخرّب بلاد يعقوب بن علي بالزاب والتل بقطع أشجارها وتغوير مياهها وهدم بنائها ونسف آثارها، ودخل يعقوب بأحيائه الرمل وأعجزوا السلطان فانكفأ راجعا، واحتلّ بظاهر يسكرة فتلوّم بها ثلاثا لإراحة العساكر وإزاحة عللهم من وعثاء السفر وشعث الصحراء، ففرّق [1] يوسف بن منصور في قرى عساكره أيام مقامه يشملهم فيها من العلوفة والحنطة واللحمان والأدم بما أرغد عيشهم وكفاهم همّهم. وتحدّثت بها الناس دهرا، ورفع إليه جبايته لعامه قناطير من الذهب بعثه بين المال فقبضه القهارمة من ثقاته، وأجزل السلطان مثوبته وأسنى عطيته، واختصّه بكسوة ثيابه وعياله من كسا حرمه وثياب قصره. وانكفأ راجعا إلى حضرته. ثم أوفد موسى بن منصور ابنه أحمد على السلطان بسدّته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة إفريقية سنة تسع خمسين وسبعمائة وأصحبه هدية من عتاق الخيل وفاره الرقيق. وأقام أياما في نزل   [1] وفي نسخة ثانية: مغرّب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 593 كريم ومحل من المجلس رفيع إلى أن هلك السلطان خاتمة تسع وخمسين وسبعمائة فأرغد القائم بالدولة من بعده جائزته وأسنى صلته وصرفه إلى عمله، واستوصى به أمراء النواحي والثغور في طريقه. ولم ينشب أن شبّت نار الفتنة وانتزى الخوارج بالجهات بعد مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عنائه وعلى يأس من النجاة بعد أن حصل في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان، وهو بها مع بني مرين، وقد مرّ بهم مجتازا إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر من زغبة رعيا لأذمة ابنه يوسف صاحب الزاب، وتأميلا للعرب فيه وفي أعماله. وبعد أن بذل له من ذات يده ومن طرف ما وصله به بنو مرين من ذخائرهم بعث معه صغير وفادا [1] من قومه أبلغوه مأمنه، فكانت إحدى الغرائب في نجاته. واسترجع الموحّدون ثغورهم: بجاية وقسنطينة من يد بني مرين وأزعجوا عنها العساكر المجمّرة بها من قبائلهم كما قدّمناه، فراجع يوسف بن منصور طاعته المعروفة لهم إلى أن هلك سنة سبع وستين وسبعمائة يوم عاشوراء، وقام بأمره ابنه أحمد، وجرى على سننه وهو لهذا العهد أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته متقبّل في مذهبه وطريقه إلّا أن خلق أبيه كان سجية وخلق هذا تقليد لما فيه من التحذلق [2] ، وربك يخلق ما يشاء ويختار. وله أولاد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى، وهو لهذا العهد مرشح لمكانه. ولما حلّت بأهل الجريد الفاقرة [3] ونزل به يحيى بن يملول الشؤم على وطنه توجّس الخيفة من السلطان وتوقّع المطالبة بطاعة غير طاعته المعروفة، فسرّب الأموال في العرب ومدّيده إلى حبل صاحب تلمسان ليستمسك به فوجده قاصرا عنه، وأقام يقدّم في أمره رجلا ويؤخّر أخرى. ثم قذف الله نور الهداية في قلبه، وأراه سنن رشده. وبادر إلى الاستقامة في الطاعة والعدول عن المراوغة، ووصله فأوفد السلطان أبو العبّاس شيخ الموحدين أبا العباس بن أبي هلال، وكشف له قناع المخالصة والانحياش، وبعث معه وفده بهديته واستقامته وتقبّله السلطان وأعاده إلى أحسن الأحوال ورضي عنه والله متولي الأمور سبحانه لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه.   [1] وفي نسخة أخرى: ركابا. [2] وفي نسخة أخرى: ان خلق أبيه كان سخية وخلق هذا تلهوقا. [3] الفاقرة: الداهية الشديدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 594 أبو يحيى بن أحمد بن يوسف بن منصور بن فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن (الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر وبني الخلف بنفطة وبني أبي المنيع بالحامة) زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر لاتساع بلده وتمدّن مصره واحتلاله منها بأمّ القرى من قطره، وهو يحيى بن محمد بن أحمد بن محمد بن يملول. ونسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوّخ، استقرار [1] ولده بهذا الصقع كان منذ أوّل الفتح فعفوا [2] وتأثّلوا ووشجت به عروقهم نسبا وصهرا حتى انتظموا في بيوتات الشورى المتقدّمين للوفادة على الملوك وتلقي العمّال القادمين من دار الخلافة والنظر في مصالح الكافّة أيام آل حمّاد بالقلعة، وآل عبد المؤمن بمراكش وآل أبي حفص بتونس، مثل بني واطاس وبني فرقان وبني ماردة وبني عوض. وكان التقدّم فيهم أيام عبد الله الشيعي لابن فرقان، وهو الّذي أخرج أبا يزيد حين شعر به أنه يريد القيام على أبي القاسم القائم، وأيام آل حمّاد ليحيى بن واطاس، وهو النازع بطاعة أهل قسنطينة إليهم عن آل بلكّين ملوك القيروان حين انقسمت دولة آل زيري، وافترق أمرهم. ثم عادت الرئاسة لبني مروان لأوّل دولة الموحّدين، ومنهم كان الّذي لقي عبد المؤمن وآتاه الطاعة عن نفسه وعن أهل بلده توزر، فتقبّله ووصله. وصار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة والاستبداد. ونشأ أحمد هذا الجد متراميا إلى الرئاسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح، ويزاحم بالمناكب من وجوه البلد   [1] وفي نسخة ثانية: استقر أوّلوه. [2] بمعنى كثروا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 595 وأشراف الوطن. وسعى به إلى شيخ الموحّدين وقائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه وصادره على مال امتحنه عليه. كانت أوّل نكباته التي أورت من زناده وأوقدت من جمرة، وتخلّص إلى الحضرة يؤمّل اعتقال مطيته وثبوت مركزه من دار الخلافة فأوطنها أياما يباكر أبواب الوزراء والخاصّة، ويلثم أطراف الأولياء والحاشية وينزل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم، ويؤثره بعنايتهم حتى استعمل بديوان البحر مقعد العمّال بمرفإ السفن لجباية الأعشار من تجّار دار الحرب. ثم استضاف بما كان من عنائه فيها واضطلاعه سائر أعمال الحضرة فتقلّدها زعيما بإمضاء الجرايات وإدرار الجباية. واستمرّت على ذلك حاله وتضاعفت فائدته فأثرى واحتجن المال، واستخرج الذخيرة قاطعا لألسنة السعاية بالمصانعة والإتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى أبطره الغنى، ودلّت على مكانته الثورة، ورفع أمره إلى الحاجب فخرج التوقيع بالقبض عليه واستصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني فنكب الثانية وصودر على مئين [1] . من آلاف الدنانير وامتحن لها، وباع فيها كسوته حين قرأ الكتاب وخلص من النكبة مسلوب [2] الأمانة ممزّق الأديم فقيد الرياش، أحوج ما كان إلى ما يعوز من الكن والدفء وبلالة العيش. ولحق ببلده ناجيا بالرمق ضارعا للدهر. ودفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمّال ومباكرة أبوابهم والامتحان في ضروراتهم، وأنجده في ذلك بخت جذب بضبعه. وكان في خلال ذلك شغل الحضرة شأن الثغور الغربية وأمرائها فتقلّص ظلّ الدولة عن هؤلاء بعض الشيء وحملت الرعايا بالبلاد الجريدية، وصار أمرها إلى الشورى التي كانت عليها قبل. فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سموّ حباب الماء ثلج صدره، وأنجح سعيه، واستبدّ بمشيخة توزر. وهلك في أعوام ثماني عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحا إلى المرتبة منافسا في الاستقلال، ومزاحما بيوتات المصر بمناكب استوطأها [3] بسائر عمره من الدعّار والأوغاد بمعاقرة الخمر والمجاراة في فنون   [1] وفي نسخة ثانية: مئتين. [2] وفي نسخة ثانية: مثلوب. ثلبه: عابه ولامه، اغتابه، سبه طرده (قاموس) . [3] وفي نسخة ثانية: استوصلها سائر عمره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 596 الشباب لسير [1] أمره، والاستعلاء [2] على نظائره حتى تطارحوا في هوة الهلاك بين قتيل ومغرّب ونحيب العمران، لم يعطفه عليهم عواطف الرحم ولا زجره وازع التقوى والسلطان، حتى خلا له الجو واستوسق الأمر واستقلّ من أمر البلد والحل والعقد بأوفى من استبداد أبيه. وكان مهلكه قريبا من استبداده لخمس سنين متلقيا [3] الكرة من يده أخوه محمد تربه في الرئاسة ومجاريه في مضمارها، فأجرى إلى الغاية واقتعد كرسي الرئاسة وعفى على آثار المشيخة. واستظهر على أمره بمصانعه أمراء البدو وأولاد أبي الليل، والمتات إليهم بصهر كان عقده أبوه أحمد لأبي الليل جدّهم على أخته أو عمته. فكانوا ردءا له من الدولة فنفذ [4] صيته وعظم استيلاؤه وامتدّت أيامه وعني الملوك بخطابه واسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرّة وتهب ريح الدولة. وزحف إليه القائد محمد بن الحكيم سنى أربعين فلاذ منه بالطاعة والمصانعة بالمال، ورهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم وتقبّل طاعته من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه. وأقام على ذلك إلى أن هلك لعام أربع وأربعين من المائة الثامنة. وتصدّى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد فقتله على جدث أبيه صبح مواراته بعد أن كان أظهر الرضا به والتسليم له فثارت به العامّة لحينه، وكان مصرعهما واحدا. وقام بالأمر أخوه يملول بن أحمد أربعة أشهر كانت شرّ مدة وأسوأ ولاية، لما أصاب الناس بسوء ملكته من سفك الدماء واستباحة الحرم واغتصاب الأموال، حتى كان ينسب إلى الجنون مرّة وإلى الكفر أخرى فمرج أمرهم واستولى الضجر على نفوسهم، وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فراسله أهل توزر سرا وأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة والوفاء بالجباية فصمد إليها بمن في لفّه من الأعراب، وحشد نفزاوة والمجاورين لها في القرى الظاهرة المقدّرة السير، وأجلب عليهم ثم بيّتها فاقتحمها وبادر الناس إلى القبض على يملول أخيه وأمكنوه منه فاعتقله بداره وتبرّأ من دمه، وأصبح لثالثة اعتقاله ميتا بمحبسه. وكانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها يحيى بن   [1] وفي نسخة أخرى: ليستبد. [2] وفي نسخة أخرى: والاستيلاء. [3] وفي نسخة أخرى: فتلقف. [4] وفي نسخة أخرى: فبعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 597 محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من بيوتها، ونسبهم بزعمهم في بلى ولهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم. والله أعلم بأوّلية نزولهم بقفصة حتى التحموا بأهلها وانتظموا أمر بيوتاتها. وكانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد وبيت بني أبي زيد، وكانت رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكريا الأعلى، كان يستعمله على جباية أموال الجريد، ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه وصودر على آلاف من المال فأعطاها، وأقامت رياستهم متفرّقة في هذه البيوتات. ولما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى كان بنو العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم، واستبدّ بها كبيرهم يحيى بن علي. فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة وخيّم السلطان أبو الحسن على تلمسان فحاصرها. وأقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه وإصلاح ثغوره، وافتتح أمره بغزو قفصة ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في عساكر من الموحدين وطبقات الجند والأولياء من العرب، فحاصرها شهرا أو نحوه وقطع نخيلها فضاق مخنقهم بالحصار وتلاوموا في الطاعة. واستبقوا بها إلى السلطان وفرّ الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في جوار ابن مكي ونزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبّل طاعتهم وأحسن التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم، وانكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى الجريد، واحتمل مقدّم روضة يحيى بن علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة أربع وأربعين وسبعمائة، واستبد الأمير أبو العبّاس بأمر الجريد واستولى على نفطة كما قدّمناه. وقيل لبني الخلف وهم: مدافع وأبو بكر عبد الله ومحمد وابنه أحمد بن محمد إخوة أربعة، وابن أخيهم بنو الخلف من مدافع، ونسبهم في غسّان من طوالع العرب. انتقل جدهم من بعض قرى نفزاوة إلى نفطة وتأثّل بها، وكان لبنيه بها بيت. واستبدّ هؤلاء الإخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدّمناه. ولما استولى السلطان أبو بكر على الجريد وأنزل أنبه أبا لعبّاس بقفصة، وعقد له على سائر أمصاره وأمضى طاعتهم وامتنعوا فسرّح إليهم وزيره أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين. وجهّزت له العساكر من الحضرة ونازلها وقطع نخلها ولاذ أهلها بالطاعة، وأسلموا بني مدافع المتغلّبين فضرب أعناقهم وصلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين. وأفلت السيف منهم عليّا صغيرهم لذمّة اعتدّها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه إليه قبل الحادثة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 598 فكانت واقيته من الهلكة. واستولى الأمير أبو العباس على نفطة واستضافها إلى عمله. ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكان الفتح كما قدّمناه. ولحق أبو بكر بن يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني عهده، وانتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر، وهلك سنة ست وأربعين. ثم كان مهلك السلطان وابنه أبو العبّاس صاحب الأعمال الجريدية إثر ذلك سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ورجع إلى كل مصر من الجريد مقدّموه فرجع أحمد بن عمر بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي واستولى على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي، ورجع علي بن الخلف إلى نفطة واستبدّ بها. ورجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى اغترابه ببسكرة، ارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلا، فلمّا خلا الجريد من الإمارة ودرج يحيى هذا من عشّه في جوار يوسف بن منصور بن مزني وأطلقه مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم وشاركهم [1] ، واسترهن فيه أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر، ونصّبه شيعته وأولياء أبيه، وقاموا بأمره. ورجع أمر الجريد كلّه إلى رياسة مقدّمه كما كان. ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند رجعته إلى إفريقية ولقوة بوهران فلقاهم مبرّة وتكرمة ورجّع كلا إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى الجائزة، ووفّر الأسهام والأقطاع، وأنفذ الصكوك والكتب، فرجع إلى توزر يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبيا مغتلما، وإلى نفطة عليّ بن الخلف. وإلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد ونزل كل واحد من هذه الأمصار عاملا وحامية. وعقد على الجريد كلّه لمسعود ابن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه، واستوصى بهؤلاء الرؤساء خيرا في جواره حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة وارتحل عامل الجريد مسعود بن إبراهيم ونزل المغرب بمن معه من العمّال والحامية، ونمي خبره إلى الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستلحموه ومن كان معه من الحامية، واستولوا على أفنيتهم وذخيرتهم وكراعهم، واستبدّ رؤساء تلك البلاد بأمصارهم وعادوا إلى ديدنهم من التمريض، وآذنوا بالدعاء لصاحب الحضرة   [1] وفي نسخة ثانية: شارطهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 599 بمنابرهم، واستمرّوا على ذلك. فأمّا يحيى بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة والحجاب واتخاذ الآلة والبيت المقصور للصلاة، واقتعاد الأريكة وخطاب السمر، [1] بل وفسح للمجون والعكوف على اللذّات مجالا يرى أنّ جماع السياسة والملك في إدارة الكأس وافتراش الآس والحجبة عن الناس والتألّه على الندمان والجلّاس. وفتح مع ذلك على رعيته وأهل إيالته باب العسف والجور. ورعى بيت المشاهير منهم غيلة فأتلفت نفوسهم، وامتدّ أمره في ذلك إلى أن استولى السلطان أبو العباس على إفريقية، وكان من أمره ما نذكره. وأمّا جاره الجنب علي بن الخلف فلم يلبث لما استبدّ برياسته أن حجّ سنة أربع وستين وسبعمائة والتزم مذاهب الخير وطرق الرضا والعدالة، وهلك سنة خمس وستين وسبعمائة بعدها وولي مكانه ابنه محمد جاريا على سننه. ثم هلك لسنة من ولايته، وقام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته، وأوقع [2] حزمه وأرهف للناس حدّه فنقموا عليه سيرته، وسئموا عسفه واستمكن مناهضهم في الشرف ومحاذبهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من صاحب الحضرة بذمّة كانت له في خدمته قديما واستعمله لرعيها في خطة القضاء بحضرته، وآثره بالمكان منه والصحبة فسعى بعبد الله هذا عنه الخليفة ودلّه على مكامن هلكته، وبصره بعورات بلده. واقتياد عساكر السلطان إليه في زمامه. ولما احتلّ بظاهر البلد وعبد الله رئيسها أشدّ ما كان قوّة وأكثر جمعا وأمضى عزما استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه، وحرّضهم عليه وداخل القاضي بتبييتها وأنه بالمرصاد في اقتحامها، حتى إذا كانت البيعة دسّ إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله، ومكر بالقاضي والعسكر وامتنع عليهم واعتصم دونهم. واستقل برياسة بلده وأقام على ذلك يناغي ابن يملول في سيره ويطارحه الكثير من مذاهبه، ويجري في الثناء الّذي بلغ إلى غايته وأولى على بنيته [3] . وأمّا أحمد بن عمر بن العابد فلم يزل من لدن استبداده ببلده قفصة سالكا مسالك الخمول منحطا عن رتبة التكبّر منتحلا مذاهب أهل الخير والعدالة في شارته وزيّه ومركبه، جانحا إلى التقلّل. فلما أوفى على شرف من العمر [4] استبدّ عليه ابنه محمد   [1] وفي نسخة ثانية: وخطاب التمويل. [2] وفي نسخة ثانية: ايقظ. [3] وفي نسخة ثانية: وأوفى على ثنيته. [4] أي أصبح شيخا كبيرا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 600 وترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة هؤلاء الرؤساء المترفين، فبينما هؤلاء المتقدّمون في هذه الحالة من الاستبداد على السلطان والتخلف بأخلاق الملوك، والتثاقل عن الرعايا بالعسف والجور، واستحداث المكوس والضرائب إذ طالما خصهم [1] السلطان أبو العباس بالحضرة مستبدا بدعوته، صارفا سهم عزائمه [2] فوجموا وتوجسوا الخيفة منه. وائتمروا في المظاهرة واتصال اليد بعد أن كانوا يستحثّونه إلى الحضرة، ويبعثون إليه بالانحياش على البعد زبونا على صاحب الحضرة ونزوعا على مصدوقية الطاعة. فلما استبدّ السلطان أبو العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم وسرّبوا أموالهم في الأعراب المخالفين على السلطان من الكعوب، يؤمّلون مدافعتهم عنهم فشمّر لها أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم وبين السلطان من النفرة. ونهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي إفريقية على الظواعن التي كانت جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه، واستلحمهم فأوهن ذلك من قوّتهم. ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع، فأناخ السلطان بعساكره وأوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوما أو بعض يوم، وعدا في ثانية على السلطان ونزل على حكمه فتقبّض عليه وعلى ابنه شهر ذي القعدة من سنة ثمانين وسبعمائة وتملّك البلد، واستولى على ديار ابن العابد بما فيها. وكان استيلاء لا يعبّر عنه لطول أيامه في الولاية وكثرة احتجانه للأموال. وعقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر وارتحل يريد توزر، وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوّض عنها بأهله، ونزل على أحياء مرداس وسرّب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب، ولحق ببسكرة مأوى نكباته ومنتهى مقره، فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني وأقام هنالك على بلغة [3] من توقع مطالبة السلطان له ولجاره ابن مزني من خسارة أموالهم في لفوف [4] العرب وسوء المغبّة إلى أن هلك لسنة أو نحوها وائتمر أهل توزر. بعد تقويضه عنهم، بعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيه في أثناء طريقه، وتقدّم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول واستولى على ذخيرته وتبرّأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص   [1] وفي نسخة ثانية: إذ أطل على مفاحصهم. [2] وفي نسخة ثانية: صارفا الى فتحها عزائمه. [3] وفي نسخة ثانية: على قلعة. [4] وفي نسخة ثانية: زبون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 601 الذخيرة فدفعوها إلى السلطان. وعقد لابنه المنتصر على توزر، واستقدم الخلف بن الخلف من نفطة، وكان يخالف أصحابه إلى الطاعة حتى نقضوها زبونا على ابن يملول وسالفه من العداوة ينقلها [1] . فلما أحيط بهم أدركه الدهش وبادر إلى السلطان بطاعته فأتاها، وقدم عليه فتقبّل السلطان ظاهره وأعطى له عن غيرها طمعا في استصلاحه، وعقد له على حجابة ابنه المنتصر وأنزله معه بتوزر وأمره باستخلافه بلده نفطة، وعقد له على ولايتها وانكفأ راجعا إلى حضرته، وقدّم ابن الخلف على أمره ورأى أنه قد تورّط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر، وعثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بن علي شيخ رياح ومدرة [2] حروبهم يحرّضه على صريخ ابن يملول ومعونته، فعلموا نكثه ومداجاته وبادروا إلى القبض عليه، وولّوا على نفطة من قبلهم وخاطبوا السلطان بالشأن وأقام في ارتحاله إلى أن كانت حادثة قفصة، فبادر الأمير المنتصر إلى قتله. وكان من خبر قفصة أنّ ابن أبي زيد من مشيختها كان ينزع إلى السلطان قبل فتحها هو وأخوه لمنافسة بينهما وبين ابني العابد وهما: محمد وأحمد ابنا عبد العزيز بن عبد الله ابن أحمد بن عليّ بن عمر بن أبي زيد. وقد ذكر أوليتهم واستعمال سلفهم أيام الأمير زكريا الأعلى في جبايته الجريد. فلما استولى السلطان على البلاد رعى لهما تشيعهما وبدارهما إلى طاعته مع قومهما فأمر لهما مع ابنه بقفصة وكبيرها [3] رديف لحاجبه عبد الله من الموالي الأتراك ومدبّر لأمور البلد في طاعة السلطان. ثم نزغ الشيطان في صدره وحدّثته نفسه بالاستبداد، وأقام يتحيّن له الفرض وذهب الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده بالتخلف عنه، وجمع أوباشا من الغوغاء والزعانف وتقدّم بهم إلى القصبة وبعث بالصريخ للفتك بعبد الله التركي ونذر بذلك فأغلق أبواب القصبة وبعث الصريخ في أهل القرى، وقاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد. فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش وانفضّ الأشرار من حوله ونجوا إلى الاختفاء في بيوت البلد، وتقبّضوا على الكثير ممن داخلهم في الثورة، ووصل الخبر إلى الأمير   [1] وفي نسخة ثانية: كان يتقبلها. [2] مدرة: دره عليهم: طلع وهجم، ودره لهم وعنهم: دافع (القاموس) . [3] وفي نسخة ثانية: مع قديمهما فانزلهما مع ابنهما بقفصة، وكبيرهما رديف لحاجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 602 أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه، وقد سكن جأشه [1] واستلحم جميع من تقبّض عليه حاجبه ونادى في الناس بالبراءة من ابن أبي زيد فتبرّءوا منه. وعثر الحرس عليه وعلى أخيه خارجين من أبواب البلد في زي النساء فقادوهما إليه فقتلهما بعد أن مثّل بهما. واستبدّ السلطان بالجريد ومحا منه آثار المساءة [2] وعفا عليهما وانتظمه في عمالات السلطان. وأمّا بلد الحامة وهي من عمالة قسطيلية وتعرف بحامة قابس وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من البربر، وهم فيما يقال الذين اختطّوها، ففيها الآن ثلاث قبائل من توجر وبني ورتاجن [3] وهم في العصبية فرقتان: أولاد يوسف ورياستهم في أولاد أبي منيع وأولاد حجاف [4] ورياستهم في أولاد وشاح، ولا أدري كيف نسب الفرقتين. فأمّا أبو منيع فالحديث في رياستهم في قومهم أنّ جدّهم رجاء بن يوسف كان له ثلاثة من الولد وهم بوشباك وأبو محمد [5] وملالة وأنّ رياسته بعده كانت لابنه بوشباك، ثم ابنه أبي منيع من بعده، ثم لابنه حسن بن أبي منيع، ثم لابنه محمد بن حسن، ثم لأخيه موسى بن حسن ثم لأخيهما أبي عنّان [6] إلى أن كان ما نذكر. وأمّا أولاد حجاف فكانت أوّل رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح، وقبله خاله القاضي عمر بن كلى، وكان العمّال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج والمغارم بأسرها. وكان مقدّمهم لأوّل دولة السلطان أبي بكر من أولاد أبي منيع، وهو موسى بن حسن. وكان المديوني قائد السلطان واليا عليهم، وارتاب بهم بعض الأيام وأحبّوا الثورة به، فدسّ بها إلى السلطان في بعض حركاته، وغزاهم بنفسه ففرّوا، وأدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء وتقبّض عليهم فقتلوا. ثم رجع الأمير وولّى موسى بن حسن. ولمّا هلك تولّى بعده أخوه أبو عنّان، وطال أمد ولايته عليهم وكان منسوبا إلى الخير والعفاف. وهلك سنة اثنتين   [1] وفي نسخة ثانية: وقد سكنت الهيعة. [2] وفي نسخة ثانية: آثار المشيخة. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: توجن وبني ورياجن. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: جحاف. [5] وفي نسخة ثانية: بوساك ويحمد وملالت. [6] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: علّان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 603 وأربعين وسبعمائة وولي بعده ابنه الآخر أبو زيان. ثم ولي بعدهما ابن عمّهما مولاهم ابن محمد. ووفد على السلطان أبي الحسن مع وفد أهل الجريد كما مرّ. ثم هلك فولي بعده من بني عمّهم حسّان بن هجرس، وثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد حجاف المذكور فعزله، وأقام في ولايته إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فثار به على الحامة وقتلوا عمر بن كلبى القاضي، وولّوا عليهم حسّان بن هجرس واليهم. وثار به يوسف واعتقله وهو يوسف بن عبد الملك بن حجّاج بن يوسف بن وشاح وهو الآن مقدّمها يعطي طاعة معروفة، ويستدعي العامل في الجباية ويراوغ عن المصدوقية والغلب والاستيلاء، قد أحاط به من كل جهة. وأملي عليّ بعض نسّابتهم أنّ مشيخة أهل الحامة في بني بوشباك. ثم في بني تامل بن بوشباك. وأنّ تأمل رأس عليهم وأنّ وشاحا من ولد تأمل وأن بني وشاح، على فرقتين: بنو حسن وبنو يوسف، وحسّان ابن هجرس ومولاهم وعمر أبو علّان كلّهم من بني حسن، ومحمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف، وهذا مخالف للأوّل، والله أعلم بالصحيح في أمرهم. وأمّا نفزاوة وأعمال قسطيلية فتنسب لهذا العهد إلى توزر وهي القرى العديدة المعروفة السير، يعترض بينها وبين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة في الاعتساف، ولها معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك، وربما يضل خائضها فتبتلعه. ويسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر الذين بقوا لك بعد انقراض جمهورهم، ولحق العرب بسائر بطون البربر، ومعهم معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمّة والجزية وبها الآن أعقابهم. ثم نزل عليهم من أعراب الشريد وزغب من بني سليم كل من عجز عن الظعن، وملكوا بها العقار والمياه وكثرت نفزاوة، وهم لهذا العهد عامّة أهلها وليس في نفزاوة هذه رياسة لصغرها ورجوعها في الغالب إلى أعمال توزر ورياستها. هذا حال المتقدّمين ببلاد الجريد في الدولة الحفصيّة أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها، وفي عداد ولاتها ومواليها، والله متولي الأمور أهـ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 604 (الخبر عن بني مكي رؤساء قابس وأعمالها) كانت قابس هذه من ثغور إفريقية ومنتظمة في عمالتها، وكان ولاتها من القيروان أيام الأغالبة والعبيديّين وصنهاجة من لدن الفتح، ولمّا دخل الهلاليون إفريقية واضطربت أمورها واقتسمت دولة صنهاجة الطوائف، انتزى بقابس وصنهاجة المعز ابن محمد الصنهاجي وأدال منه مونّس بن يحيى الصنبري من مرداس رياح بأخيه إبراهيم إلى أن هلك. وولي أخوه القاضي ابن إبراهيم، ثم نازلة أهل قابس فقتلوه أيام تميم بن المعز بن باديس فبايعوا لعمر بن المعز بن باديس كان مخالفا على أخيه، وذلك سنة تسع وثمانين وأربعمائة. ثم غلبه عليها أخوه تميم وكان معتلقا [1] للعرب. وكانت قابس وضواحيها في قسم زغبة من عرب هلال. ثم غلبتهم رياح عليها ونزل مكن بن كامل بن جامع من بني دهمان وأخوه مادع [2] وهما معا من بني علي إحدى بطون رياح فاستحدث بها ملكا لقومه بني جامع وأورثه بنيه إلى أن استولى الموحّدون على إفريقية وبعث عبد المؤمن عساكره إلى قابس ففرّ عنها مدافع بن رشيد آخرهم وانتظمها كما ذكرناه في أخبارهم وملكها، وانقرض ملك بني جامع وصارت قابس وأعمالها للموحّدين، وكان ولاة إفريقية من السادة يولّون عليها من الموحّدين إلى أن تغلّب بنو غالية [3] وقراقش على طرابلس وقابس وأعمالها، وكان ما ذكرناه في أخبارهم. ثم غلب الموحّدون يحيى بن غانية عليها وأنزلوا بها عمّالهم. ولمّا دعا بنو أبي حفص إلى إفريقية المرّة الثانية بعد مهلك الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وعقد العاقل [4] على إفريقية لابنه أبي محمد عبد الله عقد معه على قابس للأمير أبي زكريا أخيه فنزلها أميرا. ثم كان من شأن استبداده وخلعه لأخيه ولطاعة بني عبد المؤمن ما ذكرناه. وكان مشيخة قابس لذلك العهد في بيت من بيوتاتها، وهم بنو مسلم ولم يحضرني ممن نسبهم. وبنو مكي ونسبهم في لواتة وهو مكي بن فرح [5] بن زيادة الله   [1] وفي نسخة ثانية: مغلبا. [2] وفي نسخة ثانية: أخوه فادغ. [3] وفي نسخة ثانية: بنو غانية. [4] وفي نسخة ثانية: العادل. [5] وفي النسخة الباريسية: مراج وفي نسخة أخرى: فراج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 606 ابن أبي الحسن بن محمد بن زيادة الله بن أبي الحسين [1] اللواتي. وكان بنو مكي هؤلاء خالصة للأمير أبي زكريا. ولما اعتزم على الاستبداد دخل أبو القاسم عثمان بن أبي القاسم بن مكي وتولّى له أخذ البيعة على الناس وكان له ولقومه بذلك مكان من المولى أبي زكريا، رعى لهم ذمّتها ورفع من شأنهم بسببها، ورموا بني سليم نظراءهم في رياسة البلد بضغائنهم [2] إلى ابن غانية فأخمدوا مالهم بماله ومحوا آثارهم واستقلوا بشورى بلدهم. وأقاموا على ذلك أيام المولى أبي زكريا الأوّل وابنه المستنصر. ثم كان ما قدّمناه من مهلك الواثق بن المستنصر وبنيه على يد عمّهم السلطان أبي إسحاق. وكان من أمر الداعي بن أبي عمارة، وكيف شبّه على الناس بالفضل بن المخلوع بحيلة من مولاه نصير. رام أن يثأر بها من قاتلهم فتمّت مكيدته في ذلك لما أراده الله. ولما أظهر نصير أمره وتسايلت العرب إلى بيعته خطب لأوّل أمره رئيس قابس لذلك العهد من بني مكي عبد الملك بن عثمان بن مكي فسارع إلى طاعته وحمل الناس عليها، وكانت له بذلك قدم في الدولة معروف رسوخها. ولما ألقى الداعي بن أبي عمارة جسدا [3] على كرسي الخلافة سنة إحدى وثمانين وستمائة قلّده خطة الجباية بالحضرة مستقلّا فيها بالولاية والعزل والفرض والتقدير والحسبان بعد أن أجزل من بيت المال عطاءه وجرايته وأسنى رزقه وأهدى الجواري من القصر إليه. ولمّا هلك الداعي واستقلّت قدم الخلافة من عثارها كما قدّمناه سنة ثلاث وثمانين وستمائة لحق عبد الحق بن مكي ببلده وامتنع بها على حين ركود ريح الدولة وفشلها، ومرض في طاعته ودافع أهل الدولة بالدعاء للخليفة على منابره. ثم جاهر بالخلعان سنة ثلاث وتسعين وستمائة وبعث بطاعته إلى صاحب الثغور المولى أبي زكريا الأوسط. وهلك ابنه أحمد ولي عهده سنة سبع وتسعين وستمائة. ثم هلك هو من بعده على رأس المائة السابعة، وتخلّف حافده مكيا فنصّبوه يفعة. وكفله ابن عمّه يوسف بن حسن وقام بالأمر مستبدّا عليه إلى أن هلك، وخلفه في كفالة أحمد بن ليدان [4] من بيوت أهل قابس أصهار بني مكي التاث أمرهم بمهلك يوسف فنقلهم   [1] وفي النسخة الباريسية: أبي الحسن. [2] وفي نسخة أخرى: بصاغيتهم إلى ابن غانية، فأخمدوا ذبالهم واستقلوا بشورى بلدهم. [3] وفي النسخة الباريسية: حسدا. [4] وفي نسخة ثانية: أحمد بن ليران. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 607 السلطان ابن اللحياني إلى الحضرة، وأقاموا بها أياما، ثم ردّهم إلى بلدهم أيام مجافاته عن تونس وخروجه إلى ناحية قابس. ثم هلك خلال ذلك مكي، وخلّف صبيين يافعين عبد الملك وأحمد فكفلهما ابن ليدان إلى أن شبّا واكتهلا، ولهما من الامتناع على الدولة والاستبداد بأمر القطر والاقتصار على الدعاء للخليفة مثل ما كان لأبيهما وأكثر لتقلّص ظل الملك عن قطرهم، وشغل السلطان بمدافعة يغمراسن وعساكرهم عن الثغور الغربية، اجلابهم بالأعياص من أهل البيت على الحضرة، ولما هلك السلطان أبو يحيى اللحياني بمصر قفل ابنه عبد الواحد إلى المغرب يحاول أسباب الملك، ونزل بساحتهم على ما كان من صنائع أبيه إليهم فذكروا العهد، وأوجبوا الحق وآتوا بيعتهم. وقام كبيرهم عبد الملك بأمره ودعا الناس إلى طاعته، وخالف السلطان أبا يحيى عند نهوضه إلى الثغر ببجاية سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة كما قدّمناه، فدخل الحضرة ولبث بها أياما لم تبلغ نصف شهر، وبلغ خبرهم إلى السلطان فانكفأ راجعا وفرّوا إلى مكانهم من قابس، والدولة تنظر إليهم الشزر وتتربص بهم الدوائر إلى أن غلب السلطان أبو الحسن على تلمسان ومحا دولة آل يغمراسن، وفرغت الدولة من شأنهم إلى تمهيد أعمالهم وتقويم المنحرفين عن الطاعة من ولاتها. وقفل حمزة بن عمر بشفاعة السلطان أبي الحسن إلى السلطان أبي يحيى في شأنه فتقبّل وسيلته واستخلصه لنفسه من بعدها، واستقام هو على الطاعة التي لم تجد وليجة عنها، وسلك سبيله تلك أقتاله من الدولة الطائحين في هوة الشقاق، فأوفده عبد الملك هذا شقيقه أحمد على السلطان أبي الحسن متنصّلا من ذنوبه لائذا بشفاعته متوسلا بما قدمناه من خدمته حظاياه في طريقهن إلى الحج ذاهبا وجائيا، فخاطب السلطان أبا يحيى في شأنه وأعاده إلى مكانه من اصطناع سلفه واستقام على طاعته. ولما انتظم السلطان أبو يحيى سائر البلاد الجريدية في ملكه وعقد عليها لابنه أبي العباس ولي عهده، وأنزله دار إمارتها مترددا ما بين توزر وقفصة إلى أن قفلت عمته من الحج سنة ست وأربعين وسبعمائة، وخرج للقائها مختفيا بين الظعائن فجمعه مجلسها بأحمد بن مكي كان قد اعتمد تلقّيها والقيام بصحابتها في مراحل سفرها من بلده إلى آخر عمله، فمسح الأمير أبو العباس الإحف عن صدره وأدال له الأمن والرضى من توحّشه، واستخلصه لدولته ونجوى أسراره واصطفاه لنفسه وحمله رديفا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 608 لحاجبه، فحلّ من دولته بمكان غبطة فيه امتيازه من أمراء تلك الطوائف. وعقد له السلطان أبو يحيى على جزيرة جربة بوسيلة أبي العبّاس ابنه، وقد كان افتتحها مخلوف بن الكماد من صنائعهم من يد العدو أهل صقلّيّة كما ذكرناه، فضمّها إليه وصيّرها في أعماله. ولم يزل هذا شأنه معه إلى أن هلك أبو العبّاس ولي العهد بتونس على يد أخيه أبي حفص عمر عند ما دخلها بعد مهلك أبيهما كما ذكرناه، ولحق أحمد بن مكي ببلده. ثم سار في وفد رؤساء الجريد إلى تلقي السلطان أبي الحسن عند نهوضه إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ولقبه معهم بوحران من أعمال تلمسان، وكان قدمه عنده فوق قدمهم. ورجع الوفد على أعقابهم محبورين. وتمسّك بأحمد بن مكي في جملته إلى الحضرة، ووفد عليه أخوه عبد الملك مؤديا طاعة السلطان، فكرّم موصله وأحسن متقبلهما جميعا إلى بلدهما على ما كان بيدهما من عمل قابس وجربة. ثم كانت نكبة السلطان أبي الحسن على القيروان مجددا لعهد طاعته، فأرادهم السلطان على الامتنان لعبد الواحد اللحياني سلطانهم الأقدم، وعقد له على تلك الثغور الشرقية، وأنزله جربة، وأمرهما بالطاعة له ما دام في طاعته. وعقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحّدين على توزر وقسطيلية بعد أن كان قطعه عند ما تقبّض عليه في واقعة السلطان أبي حفص عمر. ثم استقبل رأيه في استخلاصه عند ما انتقض عليه أبو محمد بن تافراكين. ولما رجع من القيروان إلى تونس عقد له على توزر كما ذكرناه، ولعبد الواحد بن اللحياني على قابس وجربة فأسفّ بذلك بني مكي هؤلاء. وهلك ابن اللحياني لحين نزوله بجربة بما أصابه من علّة الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة فانتقض بنو مكي على السلطان أبي الحسن ودعوا إلى الخروج عليه وبايعوا الأفضل ابن السلطان أبي يحيى عند ما أفرج عن حصار تونس سنة خمسين وسبعمائة، وداخلوا أبا القاسم بن عتو وهو إذ ذاك لم يتوزر، فأجابهم وكانت من دواعي رحلة السلطان أبي الحسن من إفريقية وتقويضه عنها كما قدمناه. ولما رجع الحاجب أبو محمد بن تافركين من المشرق، واستقلّ بأمر تونس، ونصّب الإمام أبا إسحاق ابن السلطان أبي يحيى للخلافة بها في كفالته غصوا بمكانه من التغلّب وأنفوا من استبداده، وانحرفوا إلى دعوة الأمير أبي زيد صاحب ثغر قسنطينة. ووفد عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 609 أحمد بن مكي مع محمد بن طالب بن مهلهل كبير البدو بإفريقية فيمن إليه، فاستنهضوه وقلّده الأمير أبو زيد حجابته وجعل أمره إليه. وأبرز الحاجب أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحاق في عساكره مع خالد بن حمزة وقومه فالتقى الجمعان بمرمجنّة وكانت الدبرة على السلطان أبي إسحاق سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وجاءوا على أثرهم فنازلوا تونس أياما وما أفرجوا عنها إلا للصائح يخبرهم باحتلال عساكر بني مرين بالمرية من آخر أعمال تلمسان، وأن السلطان أبا عنّان قد استلحم بني عبد الواد، وجمع كلمة زناتة، واستقام له أمر المغربين. وأطلّ على الثغور الشرقية فافترق جمعهم. ولحق الأمير أبو زيد بقسنطينة، وأحمد بن مكي بقابس، وسأل من الأمير أبي زيد أن يقسّم رسم الإمارة بينهم في قابس وجربة بأخيه السلطان أبي العباس فأذن له في ذلك، فكانت أول ولايته السعيدة ومضى إلى قابس فنزلها، ثم أجاز البحر إلى جربة، ودفع عنها العسكر الّذي كان محاصرا للقشتيل من قبل ابن ثابت صاحب طرابلس، ورجع إلى قابس حتى كان من أمره ما ذكرناه. وأوفد السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى زكريا على أبي عنان ملك المغرب صريخا على شأنه، وأوفد ابن مكي رسله متذمّما ومذكرا بوسائله فتقبّل وأغضى. ثم كانت واقعة العدو دمّره الله بطرابلس سنة أربع وخمسين وسبعمائة كما قدّمناه فبعث إلى السلطان أبي عنّان يسأله فديتها والنظر لها من بين ثغور المسلمين، فحمل إليه خمسة أحمال من الذهب العين من بيت المال، أوفد بها من أعيان مجلسه: الخطيب أبا عبد الله بن المرزوق، وأبا عبد الله محمد حافد المولى أبي علي عمر بن سيد الناس. وعقد لأحمد بن مكي على طرابلس فاستقل بها، وعقد لأخيه عبد الملك على قابس وجربة وأقاموا على دعوته. ومدّ أحمد يده إلى صفاقس فتناولها وتغلب عليها سنة سبع وخمسين وسبعمائة وهلك السلطان أبو عنّان وقد شرق صدر ابن تافراكين الغالب على الحضرة بعدا وتهما فردّد عليهما برا وبحرا إلى أن استخلص جزيرة جربة من أيديهما أعوام أربعة وستين وسبعمائة وعقد عليها لولده محمد فاستخلف بها كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون من صنائع الدولة كما ذكرناه. وهلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة على تفيئة مهلك الحاجب بن تافراكين بالحضرة فكأنهما ضربا موعدا للهلكة وتوافياه. وتخلّف ابنه عبد الرحمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 610 بطرابلس في كفالة مولاه ظافر العلج، وهلك ظافر إثر مهلكه فاستبدّ عبد الرحمن بطرابلس وساءت سيرته فيها إلى أن نازلة أبو بكر بن محمد بن ثابت في أسطوله كما نذكر سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. وأجلب عليه بالبرابرة والعرب من أهل الوطن فانتقض عليه أهل البلد وثاروا به. وبادر أبو بكر بن ثابت لاقتحامها عليه وأسلموه إلى أمير من أمراء دباب فأجاره إلى أن أبلغه مأمنه من محلة قومه، وإيالة عمّه عبد الملك بقابس إلى أن هلك سنة تسع وسبعين وسبعمائة ولم يزل عبد الملك لهذا العهد وهو سنة إحدى وثمانين وسبعمائة واليا على عمله بقابس وابنه يحيى مستبدّ بوزارته، وحافده عبد الوهاب لابنه مكي رديف له، وقد تراجعت أحوالهم عما كانت وخرجت من أيديهم الأعمال التي كانت في عمالتهم لعهد أخيه أحمد مثل طرابلس وجزيرة جربة وصفاقس وما إلى ذلك من العمالات حتى كان التخت [1] إنما كان لأخيه، واليمن إنما اقترن بحياته وسيرتهما جميعا من العدالة وتحرّي مذاهب الخير والسمت، والاتسام بسمات أهل الدين حملة [2] الفقه معروفة حتى كان كل واحد منهم إنما يدعى بالفقيه علما بين أهل عصره حرصا على الانغماس في مذاهب الخير وطرقه. وكان لأحمد حظّ من الأدب، وكان يقرض الأبيات من الشعر فيجيد عفا الله عنه. وله في الترسيل حظّ ووساع بلاغة رسومها، وينحو في كتابه منحى أهل المشرق في أوضاع حروفهم وأشكال رسومها، ولأخيه عبد الملك حظّ من ذلك شارك به جهابذة أهل عصره وأفقه ولما انتظم السلطان أبو العبّاس أمصار إفريقية في ملكه واستبدّ بالدعوة الحفصيّة على قومه داخل أهل الجريد منه الروع، وفزعوا إليه للمعارضة في الامتناع فداخلهم في ذلك وأشاروا إلى صاحب تلمسان بالترغيب في إفريقية فعجز عنهم وألحّوا عليه فخام عن العداوة. وزحف مولانا السلطان خلال ذلك إلى الجريد فملك قفصة وتوزر ونفطة فبادر ابن مكي إلى التلبّس بالاستقامة وبعث إليه بالطاعة. ثم رجع السلطان إلى الحضرة فرجع هو عن المصدوقة واتّهم أهل البلد بالميل إلى السلطان فتقبّض على بعضهم وفرّ آخرون. وانتقض عليه بنو أحمد أهل ضواحيه من دباب فنازلوه وبعثوا إلى الأمير الأكبر بقفصة في العسكر لمنازلته، فبعثه إليهم وأحاطوا به.   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: البحث. [2] وفي نسخة ثانية: حلية الفقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 611 ثم انتهز الفرصة ودخل بعض العرب من بني عليّ في تبييت المعسكر، وبذل لهم في ذلك المال فبيّتوه وانفض وبلغ الخبر إلى السلطان فخرج من حضرته سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ونزل القيروان وتوافت الفئتان [1] وبعث رسله للأعذار بين يديه فردّهم ابن مكي بالطاعة ثم احتمل رواحله ونزل بأحياء العرب. وأغذّ السلطان السير إلى البلد فدخلها واستولى على قصورها، ولاذ أهل البلد بالبيعة فآتوها واستعمل عليهم من بطانته وانكفأ راجعا إلى تونس. وهلك عبد الملك لأيام قلائل بين أحياء العرب. وهلك بعده ابنه عبد الرحمن وابن أخيه أحمد الّذي كان صاحب طرابلس بعد أبيه، ولحق ابنه يحيى وحفيده عبد الوهاب بطرابلس فمنعهم ابن ثابت من النزول ببلده لما كان متمسكا بطاعة السلطان، فنزلوا بزنزور من بلاد دباب التي بضواحيها وأقاموا هنالك. واستقامت النواحي الشرقية على طاعة السلطان وانتظمت في دعوته والله مالك الملك. ثم ذهب يحيى بن عبد الملك إلى المشرق لقضاء فرضه، وأقام عبد الوهاب بين أحياء البرانس [2] بالجبال هنالك، وكان الوالي الّذي تركه السلطان بقابس قد ساء أثره في أهلها، فدسّ شيعتهم إلى عبد الوهاب بذلك وجاء إلى البلد فبيّتها، وثاروا بالوالي فقتلوه سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وملك عبد الوهاب قابس وجاء أخوه [3] يحيى من المشرق بعد قضاء فرضه، فأجلب عليه مرارا يروم ملكها منه، ولم يتهيّأ له، ونزل على صاحب الحمّة فداخله عبد الوهاب في أن يمكّنه منه، ويشرط ما شاء. وتم ذلك بينهما وأوثقه كتافا وبعث به إليه واعتقله بقصر العروسيّين، فمكث في السجن أعواما. ثم فرّ من محبسه ولحق بالحامة على مرحلة من قابس مستنجدا بابن وشّاح صاحبها، فأنجده. وما زال يجلب على نواحي قابس إلى أن ملكها وتقبّض على عبد الوهاب ابن أخيه مكي فقتله أعوام تسعين وسبعمائة. ولم يزل مستبدّا ببلده إلى سنة ست وتسعين وسبعمائة وكان عمر ابن السلطان أبي العبّاس قد بعثه أبوه لحصار طرابلس فحاصرها حولا كما نذكره، حتى استقام أهلها على الطاعة وأعطوا الضريبة فأفرج عنها. ورجع إلى أبيه فولّاه على صفاقس وأعمالها فاستقل بها، ثم دخل أهل   [1] وفي نسخة ثانية: وتوافت إليه احاديات. [2] وفي نسخة ثانية: بين أحياء العرب. [3] وفي النسخة الباريسية: عمّه يحيى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 612 الحامة في ملك قابس فأجابوه وساروا معه فبيّتها ودخلها وقبض على يحيى بن عبد الملك فضرب عنقه، وانقرض أمر بني مكي من قابس، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد، وهو خير الوارثين. (الخبر عن بني ثابت رؤساء مدينة طرابلس واعمالها) قد تقدّم لنا شأن هذا البلد لأول الفتح الإسلامي، وأن عمرو بن العاص هو الّذي تولّى فتحه، وبقي بعد ذلك من جملة أعمال إفريقية، تنسحب عليه ولاية صاحبها، فلم يزل ثغرا لهذه الأعمال من لدن إمارة عقبة ومن بعده وفي دول الأغالبة. وكان المعزّ لدين الله من خلفاء الشيعة لمّا ارتحل إلى القاهرة، وعقد على إفريقية لبلكّين ابن زيري بن مناد أمير صنهاجة، عقد على طرابلس لعبد الله بن يخلف من رجالات كتامة. ثم لمّا ولي نزار الخلافة سنة سبع وستين وثلاثمائة طلب منه بلكّين أن يضيف عمل طرابلس إلى عمله فأجاب وعهد له بها، وولّى عليها بلكّين من رجالات صنهاجة. ثم عقد عليها الحاكم بعد مهلك المنصور بن بلكّين ليأنس الصقليّي سنة تسعين وثلاثمائة بمداخلة عاملها يمصول من صنهاجة، وأعانه على ذلك برجوان الصقليي المتغلّب على الدولة يومئذ لمنافسته ليأنس، فوصل إليها في ألف وخمسمائة فارس فملكها، فسرّح باديس جعفر بن حبيب لحربه في عسكر من صنهاجة، وتزاحفا يومين بساحة زنزور، ثم انفضّ عسكر يأنس في الثالث وقتل، ولحق فلّه بطرابلس فاعتصموا بها. ونازلهم جعفر بن حبيب القائد، وزحف فلفول بن سعيد ابن خزرون الثائر على باديس وابنه بإفريقية إلى قابس فحاصرها. ثم قصد جعفر بن حبيب بمكانه من حصار طرابلس فأفرج عنها جعفر ولحق بنفوسة، وأميرهم يحيى بن محمد فامتنع عليهم، ثم لحق بالقيروان ومضى فلفول بن سعيد إلى طرابلس فخرج إليه فتوح بن علي ومن معه من أصحاب يأنس فملكوه، وقام فيها بدعوة الحاكم من خلفاء الشيعة وأوطنها. وعقد الحاكم عليها ليحيى بن علي بن حمدون أخي جعفر صاحب المسيلة النازع إليه من الأندلس فوصل إليها واستظهر بفلفول على بجاية، ونازل قابس فامتنعت عليه. ثم عجز عن الولاية ورأى استبداد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 613 فلفول عليه بعصبته فرجع إلى مصر، واستبدّ فلفول بطرابلس وتداولها بنوه مع ملوك صنهاجة إلى أن استبدّوا بها آخرا. ودخل العرب الهلاليّون إلى إفريقية فخرّبوا أوطانها وطمسوا معالمها. ولم تزل بأيدي بني خزرون هؤلاء إلى أن غلبهم عليها جرجي بن ميخائيل صاحب أسطول رجّار ملك صقلّيّة من الإفرنج سنة أربعين وخمسمائة، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم كما فعل في سواحل إفريقية فأقاموا في ملكة النصارى أياما. ثم ثار بهم المسلمون بمداخلة أبي يحيى بن مطروح من أعيانهم وفتكوا بهم. ولما افتتح عبد المؤمن المهديّة سنة خمس وخمسين وخمسمائة وفد عليه ابن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم تكرمة وردّهم إلى بلدهم، وولّى عليهم ابن مطروح إلى أن كبر سنّه وعجز. وارتحل إلى المشرق سنة ست وثمانين وخمسمائة بإذن السيد زيد بن عمر بن عبد المؤمن عامل إفريقية من قبل عمّه يوسف واستقر بالإسكندريّة. وتعاقبت عليها ولاة الموحدين، ثم كان من أمر ابن غانية وقراقش ما قدّمناه، وصارت طرابلس لقراقش. ثم استبد بنو أبي حفص بإفريقية على بني عبد المؤمن. وهلك قراقش وابن غانية، وانتظم عمل طرابلس في أعمال الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن انقسمت دولتهم، واقتطعت الثغور الغربية عن الحضرة. وفشل ريح الدولة بعض الشيء وتقلّص ظلّها عن القاصية، فصارت رياسة طرابلس إلى الشورى ولم يزل العامل من الموحّدين يجيء إليها من الحضرة إلّا أنّ رئيسها من أهلها مستبدّ عليها، وحدثت العصبيّة في البلد لحدوث الشورى والمنافسة فيها. ثم نزلها السلطان أبو يحيى بن اللحياني سنة سبع عشرة وسبعمائة حين تجافى عن ملك الحضرة، وأحسّ بزحف السلطان أبي يحيى صاحب بجاية إليها فأبعد عن تونس إلى ثغر طرابلس، وأقام بها وأقام أحمد بن عربي من مشيختها بخدمته. ولما فارق ابن اللحياني تونس ويئس الموحدون من عوده أخرجوا ابنه محمد المكنّى بأبي ضربة من الاعتقال، وبايعوا له. وخرج للقاء السلطان أبي بكر ومدافعته فهزمه السلطان أبو بكر وحمله الأعراب الذين معه على قصد طرابلس لانتزاع الأموال والذخائر الملوكيّة من يد أبيه. ولما أحسّ بذلك أبوه ركب البحر من طرابلس إلى الإسكندرية كما هو مذكور في خبره، واستخلف على طرابلس صهره محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي حفص فقام بأمرها، وولّى حجابته رجلا من أهله يشهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 614 بالبطيسي، فساء أثره في أهل طرابلس، وحجب عنهم وجه الرضى من سلطانه، وحمله على مصادرتهم واستخلاص أموالهم حتى أجمعوا الثورة بالسلطان فركب السفين ناجيا منهم بعد أن تعرّض بعضهم لوداعه فأطلعه على سعايات البطيسي بهم فقتلوه لوقته، وقتلوا قاضيا بطرابلس من أهل تونس كان يمالئ على ذلك. وتولّى كبر ذلك أحمد بن عربي. ثم هلك وقام بأمر طرابلس محمد بن كعبور فقتله سعيد ابن طاهر المزوغي وملك أمر البلد، وكان معه أبو البركات بن أبي الدنيا فمات حتف أنفه. واستقلّ ابن طاهر بأمر طرابلس اثنتي عشرة سنة. ثم هلك وقام بأمرها ثابت ابن عمّار الزكوجي من قبائل هوّارة. وثار به لستة أشهر من ولايته أحمد بن سعيد بن طاهر فقتله واستبدّ به. ثم ثار به جماعة زكوجة وقتلوه في مغتسله عند الآذان بالصبح، وولّوا محمدا ابن شيخهم ثابت بن عمّار أعوام سبعة وعشرين فاستبدّ بأمر طرابلس نحوا من عشرين سنة وظل الدولة متقلّص عنه. وهو يغالط عن الإمارة بالتجارة والاحتراف بها ولبوس شارتها، والسعي راجلا في سكك المدينة يتناول حاجاته وما عونه بيده ويخالط السوقة في معاملاته، يذهب في ذلك مذهب التخلّق والتواضع يسر منه حسوا في ارتغاء، ويطلب العامل من تونس، فيبعثه السلطان على طرابلس يقيم عنده معتملا في تصريفه. وهو يبرأ إليه ظاهرا من الأحكام والنقض والإبرام إلى أن كان تغلّب بني مرين على إفريقية. ووصل السلطان أبو الحسن إلى الحضرة على ما نذكره، فداوله طرف الحبل وهو ممسك بطرفه، ونقل إلى الإسكندرية ماله وذخيرته. ثم اغتاله أثناء ذلك جماعة من مجريش عند داره فقتلوه، وثار منهم للحين بطانته وشيعه. وولي بعده ابنه ثابت، فتزيّا بزي الإمارة في اللبوس والركوب بحلية الذهب، واتخاذ الحجاب والبطانة. وأقام على ذلك إلى أن اجتمع بها أسطول من تجّار النصارى أغفلوا أمرهم لكثرة طروقهم وتردّدهم في سبيل التجارة، وكثرة ما يغشاها من سفنهم، فغدروا ليلا وثاروا فيها وكثروا أهلها فأسلم الحامية إليهم باليد. وفرّ مقدّمهم ثابت إلى حلّة أولاد مرغم أمراء الجواري في انحائها [1] فقتلوه صبرا لدمّ كان أصابه منهم في رياسته، فكانت مدته ست سنين، وقتلوا معه أخاه عمارا. واكتسح النصارى جميع ما كان بالبلد من   [1] كذا، وفي ب: انجابها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 615 الذخيرة والمتاع والخرثيّ والماعون، وشحنوا السفن بها وبالأسرى من العقائل والحامية مصفّدين، وأقاموا بالبلد أياما على قلقة [1] ورهب من الكرّة لو كان لها رجال. ثم تحدّثوا مع من جاورها من المسلمين في فدائها فتصدّى لذلك صاحب قابس أبو العبّاس أحمد بن مكي وبذل لهم فيها خمسين ألفا من الذهب استوهب أكثرها من جماعة المسلمين بالبلاد الجريدية تزلفا إلى الله باستخلاص الثغر من يد الكفر، وذلك سنة [2] وخمسين ولحق ولد ابن ثابت بثغر الإسكندرية فأقاموا به يحترفون بالتجارة إلى أن هلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة، وقام بأمره ولده عبد الرحمن. فسما أبو بكر بن محمد بن ثابت إلى رياسة أبيه، وذكر عهود الصبا في معاهد قومه فاكترى من النصارى سفنا شحنها بصنائعه وموالي أبيه، ونازلها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة في أسطول من أساطيلهم. واجتمع إليه ذؤبان العرب ففرّق فيهم الأموال وأجلب عليها بمن في قراها وأريافها من الرجل، فاقتحمها على عبد الرحمن بن أحمد بن مكي عنوة، وأجاره العرب من أولاد مرغم بن صابر، تولّى ذلك منهم إلى أن أبلغوه مأمنه في إيالة عمّه عبد الملك بمكان إمارتهم بقابس. واستوسق أمر طرابلس لأبي بكر هذا، واستقلّ بولايتها. ودخل في طاعة السلطان أبي العبّاس بتونس، وخطب له على منابرة، وقام يصانعه بما للسلطان من الضريبة، ويتحفه حينا بعد حين بالهدايا والطرف إلى أن هلك سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وولي مكانه علي ابن أخيه عمّار، وقام بكفالته عمّه. وكان قائده قاسم ابن خلف الله متّهما بالتشيع للصبي المخلف عن أبي يحيى، فارتاب ودفعوه لاقتضاء المغارم من مسرتة، فتوحّش الخليفة من علي وانتقض. ثم بعث إليه بأمانه فرجع إلى طرابلس، ثم استوحش وطلب الحج فخلّوا سبيله وركب البحر إلى الإسكندرية. ولقي بها خالصة السلطان محمد بن أبي هلال عام حج فأخذ منه ذمّة، وكرّ راجعا في السفين إلى تونس يستحث السلطان لملك طرابلس. فلما مرّ بهم راسلوه ولاطفوه واستعادوه إلى مكانه فعاد إليهم. ثم جاءته النذر بالهلكة ففرّ، ولحق السلطان بتونس واستحثّه لملك طرابلس. وبلغ الخبر إلى السلطان فبعث معه ابنه   [1] كذا، والأصح: قلق. [2] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 616 الأمير أبا حفص عمر لحصار طرابلس فنزل بساحتها، وافترق عرب دباب عليه وعلى ابن ثابت، وقام ابن خلف الله في خدمته المقام المحمود، ووفّر له جباية الوطن ومغارمه ونقل العرب إلى طاعته ويستألفهم به، وأقام عليها حولا كريتا [1] يمنع عنهم الأقوات ويبرزون إليه فيقاتلهم بعض الأحيان. ثم دفعوه بالضريبة التي عليهم لعدّة أعوام نائطة [2] وكان قد ضجر من طول المقامة فرضي بطاعتهم وانكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة فولّاه على صفاقس وافتتح منها قابس كما قدمناه. وأقام عليّ بن عمّار على إمارته بطرابلس إلى هذا العهد، والله مدبّر الأمور بحكمته. هذا آخر الكلام في الدولة الحفصيّة من الموحّدين وما تبعها من أخبار المقدّمين المستبدّين بأمصار الجريد والزاب والثغور الشرقية، فلنرجع إلى أخبار زناتة ودولهم، وبكمالها يكمل الكتاب إن شاء الله تعالى. تم طبع الجزء السادس ويليه الجزء السابع   [1] حولا كريتا أي كاملا. [2] النائط معلق كل شيء. ويقال مفازة بعيدة النياط: أي الحد. وأظنه يقصد بها هنا: لعدة أعوام غير محدودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 617 [ المجلد السابع ] [ تتمة كتاب الثالث ] (بسم الله الرحمن الرحيم) الخبر عن زناتة من قبائل البربر وما كان بين أجيالهم من العز والظهور وما تعاقب فيهم من الدول القديمة والحديثة هذا الجيل في المغرب جيل قديم العهد معروف العين والأثر، وهم لهذا العهد آخذون من شعائر العرب في سكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل والتغلّب في الأرض وإيلاف الرحلتين، وتخطّف الناس من العمران والإباية عن الانقياد للنصفة. وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة [1] البربر. ومواطنهم في سائر مواطن البربر بإفريقية والمغرب، فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس والسوس الأقصى حتى أنّ عامة تلك القرى الجريدية بالصحراء منهم كما نذكره. ومنهم قوم بالتلول بجبال طرابلس وضواحي إفريقية، وبجبل أوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد، وأذعنوا لحكمهم، والأكثر منهم بالمغرب الأوسط حتى أنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال: وطن زناتة. ومنهم بالمغرب الأقصى أمم أخرى، وهم لهذا العهد أهل دول وملك بالمغربين، وكانت لهم فيه دول أخرى في القديم، ولم يزل الملك يتداول في شعوبهم حسبما نذكره بعد لكل شعب منهم إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة أخرى: رطاناتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 (الخبر عن نسبة زناتة وذكر الخلاف الواقع فيه وتعديد شعوبهم) أمّا نسبهم بين البربر فلا خلاف بين نسّابتهم أنهم من ولد شانا وإليه نسبهم، وأمّا شانا فقال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة، قال بعضهم: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورماك بن ضري بن رحيك بن مادغيس بن بربر [1] . وقال أيضا في كتاب الجمهرة ذكر لي يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي يزيد يعني حين وفد على قرطبة عن أبيه الثائر بإفريقية أيام الناصر قال: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورساك بن ضري بن مقبو بن قروال بن يملا بن مادغيس بن رحيك [2] بن همرحق ابن كراد بن مازيغ بن هراك بن هرك بن برا بن بربر بن كنعان بن حام هذا ما ذكره ابن حزم. ويظهر منه أنّ مادغيس ليس نسبة إلى البربر وقد قدّمنا ما في ذلك من الخلاف، وهو أصح ما ينقل في هذا الآن ابن حزم موثوق ولا يعدل به غيره. (ونقل) عن ابن أبي ريد وهو كبير زناتة ويكون البربر على هذا من نسل برنس فقط، والبتر الذين هم بنو مادغيس الأبتر ليسوا من البربر ومنهم زناتة وغيرهم كما قدّمنا لكنهم إخوة البربر لرجوعهم كلهم إلى كنعان بن حام كما يظهر من هذا النسب. (ونقل) عن أبي محمد بن قتيبة في نسب زناتة هؤلاء أنهم من ولد جالوت في رواية أن   [1] ورد في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 495 ان زناتة هو شانا ابن يحيى بن صولات بن ورتناج بن ضري بن سقفو بن جنذواذ بن يملا بن مادغيس بن هرك بن هرسق بن كراد بن مازيغ بن هراك بن هريك بن بدا بن بديان بن كنعان بن حام بن نوح النبي (صلّى الله عليه وسلم) . [2] كذا في قبائل المغرب وفي نسخة أخرى من ابن خلدون زجيك وفي مراجع أخرى زجيك (الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للشيخ أبي العباس أحمد بن خالد الناصري) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 زناتة هو جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت، وجالوت هو ونور بن جرييل [1] بن جديلان بن جاد بن رديلان بن حصي بن باد بن رحيك بن مادغيس الأبتر بن قيس بن عيلان. (وفي) رواية أخرى عنه أنّ جالوت بن جالود بن بردنال [2] بن قحطان بن فارس، وفارس مشهور. (وفي) رواية أخرى عنه أنه ابن هربال [3] بن بالود بن ديال بن برنس بن سفك، وسفك أبو البربر كلهم، ونسّابة الجيل نفسه من زناتة يزعمون أنهم من حمير، ثم من التبابعة منهم [4] . وبعضهم يقول أنّهم من العمالقة، ويزعمون أنّ جالوت جدّهم من العمالقة، والحقّ فيهم ما ذكره أبو محمد بن حزم أوّلا وما بعد ذلك فليس شيء منه بصحيح. فأمّا الرواية الأولى عن أبي محمد بن قتيبة فمختلطة وفيها أنساب متداخلة. وأمّا نسب مادغيس إلى قيس عيلان فقد تقدّم في أوّل كتاب البربر عند ذكر أنسابهم وأن أبناء قيس معروفون عند النسّابة. وأمّا نسب جالوت إلى قيس فأمر بعيد عن القياس، ويشهد لذلك أنّ معدّ بن عدنان الخامس من آباء قيس إنما كان معاصرا لبخت نصّر كما ذكرناه أوّل الكتاب. وأنّه لما سلّط على العرب أوحى الله إلى أرمياء نبيّ بني إسرائيل أن يخلّص معدّا ويسير به إلى أرضه، وبخت نصّر كان بعد داود بما يناهز أربعمائة وخمسين من السنين، فإنه خرّب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان له بمثل هذه المدّة. فمعدّ متأخّر عن داود بمثلها سواء، فقيس الخامس من أبنائه متأخّر عن داود بأكثر من ذلك، فجالوت على ما ذكر أنه من أبناء قيس متأخّر عن داود بأضعاف ذلك الزمن. وكيف يكون ذلك مع أنّ داود هو الّذي قتل جالوت بنصّ القرآن؟ (وأمّا) إدخاله جالوت في نسب البربر، وأنه من ولد مادغيس أو سفك فخطأ،   [1] وفي نسخة أخرى: هرييل. [2] وفي نسخة أخرى: بن ديّال. [3] وفي نسخة أخرى: ابن هوبال. [4] يقول ابن حزم في الجمهرة: (وادعت طوائف منهم إلى اليمن، الى حمير، وبعضهم إلى برّ بن قيس عيلان وهذا باطل لا شك فيه ... وما علم النسابون لقيس عيلان ابنا اسمه برّ أصلا. ولا كان لحمير طريق الى بلاد البربر، إلّا في تكاذيب مؤرخي اليمن) . ص 495. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 وكذلك من نسبه إلى العمالقة. والحق أنّ جالوت من بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام أحد شعوب حام بن نوح، وهم إخوة القبط والبربر والحبشة والنوبة كما ذكرناه في نسب أبناء حام. وكان بين بني فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل حروب كثيرة، وكان بالشام كثير من البربر إخوانهم، ومن سائر أولاد كنعان يضاهونهم فيها، ودثرت أمّة فلسطين وكنعان وشعوبهما لهذا العهد، ولم يبق إلّا البربر، واختص اسم فلسطين بالوطن الّذي كان لهم فاعتقد سامع اسم البربر مع ذكر جالوت أنه منهم وليس كذلك. (وأمّا) ما رأي نسّابة زناتة أنهم من حمير فقد أنكره الحافظان أبو عمر بن عبد البرّ وأبو محمد بن حزم وقالا ما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في أكاذيب مؤرخي اليمن، وإنما حمل نسّابة زناتة على الانتساب في حمير الترفّع عن النسب البربري لما يرونهم في هذا العهد خولا وعبيدا للجباية وعوامل الخراج، وهذا وهم فقد كان في شعوب البربر من هم مكافئون لزناتة في العصبية أو أشدّ منهم مثل هوّارة ومكناسة، وكان فيهم من غلب العرب على ملكهم مثل كتامة وصنهاجة ومن تلقّف الملك من يد صنهاجة مثل المصامدة، كل هؤلاء كانوا أشدّ قوّة وأكثر جمعا من زناتة. فلمّا فنيت أجيالهم أصبحوا مغلّبين فنالهم ضرّ المغرم، وصار اسم البربر مختصّا لهذا العهد بأهل المغرم، فأنف زناتة منه فرارا من الهضيمة. وأعجبوا بالدخول في النسب العربيّ لصراحته وما فيه من المزيّة بتعدد الأنبياء ولا سيما نسب مضر وأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم بن نوح بن شيث بن آدم، خمسة من الأنبياء ليس للبربر إذا نسبوا إلى حام مثلها مع خروجهم عن نسب إبراهيم الّذي هو الأب الثالث للخليقة إذا الأكثر من أجيال العالم لهذا العهد من نسله. ولم يخرج عنه لهذا العهد إلّا الأقل مع ما في العربية أيضا من عزّ التوحّش، والسلامة من مذمومات الخلق بانفرادهم في البيداء. فأعجب زناتة نسبهم وزيّنه لهم نسّابتهم، والحق بمعزل عنه، وكونهم من البربر بعموم النسب لا ينافي شعارهم من الغلب والعز، فقد كان الكثير من شعوب البربر مثل ذلك وأعظم منه. وأيضا فقد تميّزت الخليقة وتباينوا بغير واحد من الأوصاف، والكلّ بنو آدم ونوح من بعده. وكذلك تميّزت العرب وتباينت شعوبها والكلّ لسام ولإسماعيل بعده. (وأمّا) تعدّد الأنبياء في النسب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يضرّك الاشتراك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 مع الجيل [1] في النسب العام إذا وقعت المباينة لهم في الأحوال التي ترفع عنهم، مع أنّ المذلّة للبربر إنما هي حادثة بالقلّة ودثور أجيالهم بالملك الّذي حصل لهم، ونفقوا في سبله وترفه كما تقدّم لك في الكتاب الأوّل من تأليفنا. وإلّا فقد كان لهم من الكثرة والعزّ والملك والدولة ما هو معروف. (وأمّا) أنّ جيل زناتة من العمالقة الذين كانوا بالشام فقول مرجوح وبعيد عن الصواب لأن العمالقة الذين كانوا بالشام صنفان. عمالقة من ولد عيصو بن إسحاق، ولم تكن لهم كثرة ولا ملك، ولا نقل أنّ أحدا منهم انتقل إلى المغرب بل كانوا لقلّتهم ودثور أجيالهم أخفى من الخفاء. والعمالقة الأخرى كانوا من أهل الملك والدولة بالشام قبل بني إسرائيل وكانت أريحاء دار ملكهم. وغلب عليهم بنو إسرائيل وابتزّوهم ملكهم بالشام والحجاز وأصبحوا حصائد سيوفهم، فكيف يكون هذا الجيل من أولئك العمالقة الذين دثرت أجيالهم؟ وهذا لو نقل لوقع به الاسترابة فكيف وهو لم ينقل؟ هذا بعيد في العبادة والله أعلم بخلقه. (وأمّا) شعوب زناتة وبطونهم فكثير [2] ولنذكر المشاهير منها (فنقول) : اتفق نسّاب زناتة على أنّ بطونهم كلها ترجع إلى ثلاثة من ولد جانا وهم: ورسيك وفرني والديرت [3] . هكذا في كتب أنساب زناتة. (وذكر) أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة له من ولد ورسيك عند نيّابتهم مسّارت ورغاي وواشروجن، ومن واشروجن واريغن بن واشروجن. وقال أبو محمد بن حزم في ولد ورسيك أنهم مسارت وناجرت وواسين [4] . (وأمّا) فرني بن جانا فمن ولده عند نسّابة زناتة يزمرتن ومرنجيصة ووركلة ونمالة   [1] وفي نسخة أخرى: مع أهل الجيل. [2] قوله: وأمّا شعوب إلخ. بهامش ما نصّه من هنا إلى الشجرة الآتية أسماء بربرية لا يمكن ضبطها بل ولا النطق بها كما هي في لسانهم ولا يتعلق بها غرض مهم. أهـ. (كتبه حسن العطار) ونزيد بأن هذه الأسماء تختلف من مرجع الى آخر من المراجع التي تناولت تاريخ البربر وهذا التحريف في الأسماء ليس له أي أهمية في سرد الحوادث التاريخية ولكن رأينا أن نشير الى هذه الأسماء لاطلاع القارئ الكريم الى هذا الاختلاف. [3] وفي نسخة ثانية: ورشيل وفريني والديدت. وفي جمهرة أنساب العرب ورسيج والدّيديت وفريني (ص 496) . [4] وفي نسخة ثانية تاجرة وراسين وفي الجمهرة: بني تاجرة وبني واسين وفي النسخة الباريسية باجرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 وسبرترة، ولم يذكر أبو محمد بن حزم سبرترة وذكر الأربعة الباقية. (وأمّا) الديرت ابن جانا فمن ولده عند نسّابة زنانة جداو [1] بن الديرت، ولم يذكره ابن حزم. وإنما قال عند ذكر الديرت ومن شعوبه: بنو ورسيك بن الديرت وهم بطنان دمّر بن ورسيك وزاكيا بن ورسيك قال: ودمّر لقب واسمه الغانا. قال: فمن ولد زاكيا بنو مغراو وبنو يفرن وبنو واسين. قال: وأمّهم واسين مملوكة لأمّ مغراو وهم ثلاثتهم بنو يصلتن بن مسرا بن زاكيا. ويزيد نسّابة زنانة في هؤلاء يرنيات بن يصلتن أخا لمغراو ويفرن وواسين ولم يذكره ابن حزم. قال: ومن ولد دمّر بنو ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وذكر لبني دمّر أفخاذا سبعة وهم عرازول ولفورة وزناتين [2] ، وهؤلاء الثلاثة مختصّون بنسب دمّر، وبرزال ويصدرين وصغمان ويطوّفت، هكذا ذكر أبو محمد بن حزم وزعم أنه من إملاء أبي بكر بن يكنى البرزالي الإباضي. وقال فيه: كان ناسكا عالما بأنسابهم، وذكر أنّ بني واسين وبني برزال كانوا أباضية وأنّ بني يفرن ومغراوة كانوا سنية. وعند نسّابة البربر مثل سابق بن سليمان المطماطي وهانئ بن يصدور [3] والكومي وكهلان بن أبي لوا، وهو مسطّر في كتبهم أنّ بني ورسيك بن الديرت بن جانا ثلاثة بطون وهم بنو زاكيا وبنو دمّر وآنشة بنو آنش، وكلّهم بنو وارديرن بن ورسيك، فمن زاكيا بن وارديرن أربعة بطون: مغراوة وبنو يفرن وبنو يرنيان وبنو واسين، كلّهم بنو يصلتن ابن مسرا بن زاكيا ومن آنش بن وارديرن أربعة بطون: بنو برنال وبنو صقمات وبنو يصدورين وبنو يطوفت كلّهم بنو آنش بن وارديرن ومن دمّر ابن وارديرن ثلاثة بطون: بنو تقورت وبنو عزرول وبنو ورتاتين كلّهم بنو وتيد [4] بن دمّر، هذا الّذي ذكره نسّابة البربر وهو خلاف ما ذكره ابن حزم. ويذكر نسابة زناتة آخرين من شعوبهم ولا ينسبونهم مثل يجفش وهم أهل جبل قازاز قريب مكناسة وسنجاسن وورسيغان وتحليلة وتيسات وواغمرت وتيفراض ووجديجن وبنو بلومو وبنو وماني [5] وبنو توجين على أنّ بني توجين ينتسبون في بني واسين نسبا ظاهرا صحيحا بلا شك   [1] وفي نسخة أخرى: جراد. [2] وفي نسخة أخرى: غرزول ولقورة وورتاتين. [3] وفي نسخة أخرى: صدور. [4] وفي نسخة أخرى: وريند بن دمّر. [5] وفي نسخة أخرى: تيغرض ووجديجن وبني يلومي وبني ومانوا وبني توجين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 على ما يذكر في أخبارهم. وبعضهم يقول في وجديجن وواغمرت بنو ورتنيص [1] أنهم من البرانس من بطون البربر على ما قدمناه. وذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتح مصر خالد بن حميد الزناتي، وقال فيه هو من شورة إحدى بطون زناتة، ولم نره لغيره. هذا ملخص الكلام في شعوب زناتة وأنسابهم بما لا يوجد في كتاب. والله الهادي إلى مسالك التحقيق لا رب غيره.   [1] وفي النسخة الباريسية: ورتيند وفي نسخة أخرى: ورتنيص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 (فصل في تسمية زناتة ومبنى هذه الكلمة) (أعلم) أن كثيرا من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة واشتقاقها على ما ليس معروفا للعرب ولا لأهل الجيل أنفسهم فيقال: هو اسم وضعته العرب على هذا الجيل، ويقال بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه. ويقال: هو زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئا لم تذكره النسّابة. وقد يقال إنه مشتق ولا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه المادية، وربّما يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا، ويعضده بحكاية خسيسة يدفعها الحق، وهذه الأقوال كلّها ذهاب [1] إلى أنّ العرب وضعت لكل شيء اسما، وأنّ استعمالها إنّما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالا واشتقاقا. وهذا إنّما هو في الأكثر وإلّا فالعرب قد استعملت كثيرا من غير لغتها في مسمّاه إمّا لكونه علما فلا يغير مثل إبراهيم ويوسف وإسحاق من اللغة العبرانية، وإمّا استعانة وتخفيفا لتداوله بين الألسنة كاللجام والديباج والزنجبيل والنيروز والياسمين والآجرّ، فتصير باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم. ويسمّونها المعرّبة وقد يغيّرونها بعض التغيير في الحركات أو في الحروف، وهو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع جديد. وقد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبدّلونه بما يقرب منه في المخرج فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة وإنّما نطقت العرب منها بالثمانية والعشرين حروف أبجد. وبين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد فمنها ما نطقت به الأمم، ومنها ما لم تنطق به، ومنها ما نطق به بعض العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان. وإذا تقرّر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا التي هي اسم أبي الجيل كله، وهو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم. وهم إذا أرادوا الجنس في التعميم الحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات. وإذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نونا فصار جاناتن، ونطقهم بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب بل ينطقون بها بين الجيم والشين وأميل إلى السين، ويقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زايا   [1] الصحيح أن يقول تذهب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين، فصارت زانات لفظا مفردا دالا على الجنس. ثم الحقوا به هاء النسبة وحذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفا لكثرة دورانه على الألسنة والله أعلم. (فصل في أولية هذا الجيل وطبقاته) أمّا أولية هذا الجيل بإفريقية والمغرب فهي مساوية لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلّا الله تعالى. ولهم شعوب أكثر من أن تحصى مثل مغراوة وبني يفرن وجراوة وبني يرنيان ووجديجن وغمرة وبني ويجفش وواسين وبني تيغرست وبني مرين وتوجين وبني عبد الواد وبني راشد وبني برزال وبني ورنيد وبني زنداك وغيرهم. وفي كل واحد من هذه الشعوب بطون متعدّدة. وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل أوراس والزاب إلى قبلة تلمسان ثم إلى وادي ملويّة. وكانت الكثرة والرئاسة فيهم قبل الإسلام لجراوة ثم لمغراوة وبني يفرن. (ولما) ملك الإفرنجة بلاد البربر في ضواحيهم صاروا يؤدّون لهم طاعة معروفة، وخراجا معروفا مؤقتا، ويعسكرون معهم في حروبهم ويمتنعون عليهم فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام، وزحف المسلمون إلى إفريقية وملك الإفرنجة بها يومئذ جرجير، فظاهره زناتة والبربر على شأنه مع المسلمين وانفضّوا جميعا. وقتل جرجير وأصبحت أموالهم مغانم ونساؤهم سبايا، وافتتحت سبيطلة. ثم عاود المسلمون غزو إفريقية وافتتحوا جلولاء وغيرها من الأمصار، ورجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهم إلى مواطنهم وراء البحر. وظنّ البربر بأنفسهم مقاومة العرب فاجتمعوا وتمسّكوا بحصون الجبال واجتمعت زناتة إلى الكاهنة وقومها جراوة بجبل أوراس حسبما نذكره، فأثخن العرب فيهم واتبعوهم في الضواحي والجبال والقفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعا وكرها، وانقادوا إلى إيالة مصر وتولّوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه حتى إذا انحلت بالمغرب عرى الملك العربيّ وأخرجهم من إفريقية البربر من كتامة وغيرهم، قدح هذا الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم، وتداول فيهم الملك جيلا بعد جيل في طبقتين حسبما نقصّه عليك إن شاء الله تعالى . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 (الخبر عن الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح) كانت هذه الأمّة من البربر بإفريقية والمغرب في قوّة وكثرة وعديد وجموع، وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلّها لهم، وعليهم مظاهرة الإفرنجة مهما احتاجوا إليهم ولما أطلّ المسلمون في عساكرهم على إفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون وانفضّت جموعهم وافترقت رياستهم ولم يكن بعدها بإفريقية موضع للقاء المسلمين يجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمّة من البربر في ناحيتها وموطنها مع من تحيّز إليهم من قبل الإفرنجة. (ولما) اشتغل المسلمون في حرب عليّ ومعاوية أغفلوا أمر إفريقية ثم ولّاها معاوية بعد عام الجامعة عقبة بن نافع الفهريّ فأثخن في المغرب في ولايته الثانية، وبلغ إلى السوس وقتل بالزاب في مرجعه. واجتمعت البربر على كسيلة كبير أوربة، وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلويّ أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من إفريقية. (وبعث) عبد الملك حسّان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر، وقتلوا كسيلة واسترجعوا القيروان وقرطاجنّة وإفريقية والإفرنجة والروم إلى صقلّيّة والأندلس، وافترقت رياسة البربر في شعوبهم. وكانت زناتة أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعا وبطونا، وكان موطن جراوة منهم بجبل أوراس، وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا [1] . وكانت رياستهم للكاهنة دهيا بنت [2] بن نيعان بن بارو [3] بن مصكسرى بن أفرد بن وصيلا بن جراو. وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها، فاستبدّت عليهم وعلى قومهم بهم، وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم. قال هاني بن بكور الضريسي: ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة [4] وعاشت مائة   [1] كراد بن الديديت بن شانا (جمهرة أنساب العرب (ص 498) . [2] بياض بالأصل وفي النسخة الباريسية: دهيا بنت ثابتة وكذلك في نسخة أخرى دهيا بنت ثابتة. [3] وفي نسخة أخرى: بن نيقان بن باورا. [4] وفي نسخة أخرى: خمسا وستين سنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 وسبعا وعشرين سنة. وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبل أوراس باغرائها برابرة تهودا عليه، وكان المسلمون يعرفون ذلك منها. فلما انقضى جمع البربر وقتل كسيلة رجعوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس، وقد ضوى إليها بنو يفرن ومن كان بإفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر، فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها، وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من إفريقية، وانتهى حسّان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك، فزحف إليهم سنة أربع وسبعين وفضّ جموعهم، وأوقع بهم وقتل الكاهنة، واقتحم جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف. وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسّان وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما، وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس. ثم افترق فلّهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم. وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر، وكان منهم قوم بسواحل مليلة، وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك. واليهم نزع ابن أبي العيش لمّا غلبه موسى ابن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أوّل المائة الرابعة حسبما نذكره. فنزل عليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن خرّبت من بعد ذلك. والفلّ منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في بطونه [1] ومن إليهم من قبائل غمارة والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن مبتدإ دول زناتة في الإسلام ومصير الملك اليهم بالمغرب وافريقية) لما فرغ شأن الردّة من إفريقية والمغرب وأذعن البربر لحكم الإسلام وملكت العرب، واستقلّ بالخلافة ورياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسيّ الملك بدمشق، واستولوا على سائر الأمم والأقطار، وأثخنوا في القاصية من لدن الهند والصين في المشرق، وفرغانة في الشمال، والحبشة في الجنوب، والبربر في المغرب، وبلاد الجلالقة والإفرنجة في الأندلس. وضرب الإسلام بجرانه، وألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم. ثم جدع بنو أمية أنوف بني هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف، والمدّعين   [1] وفي نسخة أخرى: يطوفت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 استحقاق الأمر بالوصية. وتكرّر خروجهم عليهم، فأثخنوا فيهم بالقتل والأسر، حتى توغّرت الصدور واستحكمت الأوتار وتعدّدت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من عليّ إلى من بعده من بني هاشم. فقوم ساقوها إلى آل العبّاس، وقوم إلى آل الحسن، وآخرون إلى آل الحسين، فدعت شيعة آل العبّاس بخراسان وقام بها اليمنية فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة ونزلوا بغداد واستباحوا الأمويين قتلا وسبيا. وخلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، فجدّد بها دعوة الأمويين واقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين فلم تخفق لهم به راية. (ثم نفس) آل أبي طالب على آل العبّاس ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك، فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعوّ بالنفس الزكية في بني أبي طالب على أبي جعفر المنصور، وكان من أمرهم ما هو مذكور واستلحمتهم جيوش بني العبّاس في وقائع عديدة. وفرّ إدريس بن عبد الله أخو المهدي من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوربة ومقيلة وصدينة، وقاموا بدعوته ودعوة بنيه من بعده، ونالوا به الملك وغلبوا على المغرب الأقصى والأوسط، وبثّوا دعوة إدريس وبنيه من أهله بعده في أهله من زناتة مثل بني يفرن ومغراوة وقطعوه من ممالك بني العبّاس. واستمرّت دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديّين. ولم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة ويبثّون دعاتهم بالقاصية إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بإفريقية إلى المهديّ ولد إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، فقام برابرة كتامة ومن إليهم من صنهاجة وملكوا إفريقية من يد الأغالبة، ورجع العرب إلى مركز ملكهم بالمشرق، ولم يبق لهم في نواحي المغرب دولة، ووضع العرب ما كان على كاهلهم من أمر المغرب ووطأة مضر بعد أن رسخت الملّة فيهم، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، واستيقنوا بوعد الصادق أنّ الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده. فلم تنسلخ الملة بانسلاخ الدولة ولا تقوّضت مباني الدين بتقويض معالم الملك، وعدا من الله لن يخلفه في تمام أمره وإظهار دينه على الدين كلّه. فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك والقيام بدعوة الأعياص من بني عبد مناف يسدّون منها حسدا في ارتقاء [1] إلى أن ظفروا من ذلك بحظّ مثل كتامة بإفريقية،   [1] وفي نسخة ثانية: يسترون منها حسوا في ارتغاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 ومكناسة بالمغرب، ونافسهم في ذلك زناتة، وكانوا من أكثرهم جمعا وأشدّهم قوّة فشمّروا له حتى ضربوا معهم بسهم، فكان لبني يفرن بالمغرب وإفريقية على يد صاحب الحمار، ثم على يد يعلى بن محمد وبنيه ملك ضخم. ثم كان لمغراوة على يد بني خزر دولة أخرى تنازعوها مع بني يفرن وصنهاجة. ثم انقرضت تلك الأجيال وتجرّد الملك بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم، فكان لبني مرين بالمغرب الأقصى ملك، ولبني عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسمهم فيه بنو توجين والفلّ من مغراوة حسبما نذكر ونستوفي شرحه، ونجلب [1] أيامهم وبطونهم على الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر، والله المعين سبحانه لا رب سواه، ولا معبود إلّا إياه. (الطبقة الأولى من زناتة ونبدأ منها بالخبر عن بني يفرن وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول بإفريقية والمغرب) وبنو يفرن هؤلاء من شعوب زناتة وأوسع بطونهم، وهم عند نسّابة زناتة بنو يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت [2] بن جانا وإخوته مغراوة وبنو يرنيان وبنو واسين، والكلّ بنو يصلتين. ويفرن في لغة البربر هو القار [3] وبعض نسّابتهم يقولون: إنّ يفرن هو ابن ورتنيذ [4] بن جانا وإخوته مغراوة وغمرت ووجديجن. وبعضهم يقول يفرن بن مرّة بن ورسيك بن جانا، وبعضهم يقول هو ابن جانا لصلبه والصحيح ما نقلناه عن أبي محمد بن حزم. (وأمّا) شعوبهم فكثير ومن أشهرهم بنو واركوا ومر نجيصة. وكان بنو يفرن هؤلاء لعهد الفتح أكبر قبائل زناتة وأشدّها شوكة، وكان منهم بإفريقية وجبل أوراس والمغرب الأوسط بطون وشعوب، فلمّا كان الفتح غشي إفريقية ومن بها من البربر جنود الله المسلمون من العرب فتطامنوا لبأسهم حتى ضرب الدين بجرانه، وحسن   [1] جلب جلبا: اجتمع (قاموس) . [2] وفي جمهرة أنساب العرب: الديديت (ص 496) . [3] وفي نسخة أخرى: الفار وفي النسخة الباريسية الغار. [4] وفي النسخة الباريسية: ونيتص، وفي نسخة أخرى: ونيتز، وفي جمهرة أنساب العرب ص 498: ورنيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 إسلامهم. ولمّا فشا دين الخارجية في العرب وغلبهم الخلفاء بالمشرق واستلحموهم نزعوا إلى القاصية، وصاروا يبثّون بها دينهم في البربر فتلقّته رؤساؤهم على اختلاف مذاهبه باختلاف رءوس الخارجية في أحكامهم من أباضية وصفريّة وغيرهما كما ذكرناه في بابه، ففشا في البربر وضرب فيه يفرن هؤلاء بسهم وانتحلوه وقاتلوا عليه. وكان أوّل من جمع لذلك منهم أبو قرّة من أهل المغرب الأوسط. ثم من بعده أبو يزيد صاحب الحمار وقومه بنو واركوا ومرنجيصة. ثم كان لهم بالمغرب الأقصى من بعد الانسلاخ من الخارجيّة دولتان على يد يعلى بن محمد صالح وبنيه حسبما نذكر ذلك مفسّرا إن شاء الله تعالى . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 (الخبر عن أبي قرّة وما كان لقومه من الملك بتلمسان ومبدإ ذلك ومصائره) كان من بني يفرن بالمغرب الأوسط بطون كثيرة بنواحي تلمسان إلى جبل بني راشد المعروف بهم لهذا العهد، وهم الذين اختطّوا تلمسان كما نذكره في أخبارها. وكان رئيسهم لعهد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس أبو قرّة ولا نعرف من نسبه أكثر من أنّه منهم. ولما انتقض البرابرة بالمغرب الأقصى وقام ميسرة وقومه بدعوة الخارجيّة وقتله البرابرة قدّموا على أنفسهم مكانه خالد بن حميد من زناتة، فكان من حروبه مع كلثوم بن عيّاض وقتله إياه ما هو معروف. ورأس على زناتة من بعده أبو قرّة هذا. ولما استأثلت [1] دولة بني أمية كثرت الخارجيّة في البربر، وملك ورفجومة القيروان، وهوّارة وزناتة طرابلس ومكناسة سجلماسة، وابن رستم تاهرت. وقدم ابن الأشعث إفريقية من قبل أبي جعفر المنصور. وخافه البربر فحسم العلل وسكّن الحروب. ثم انتقض بنو يفرن بنواحي تلمسان ودعوا إلى الخارجيّة، وبايعوا أبا قرّة كبيرهم بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة، وسرّح إليهم ابن الأشعث الأغلب بن سوادة التميمي فانتهى إلى الزاب وفرّ أبو قرّة إلى المغرب الأقصى، ثم راجع موطنه بعد رجوع الأغلب. (ولما انتقض) البرابرة على عمر بن حفص بن أبي صفرة الملقّب هزارمرد عام خمسين ومائة وحاصروه بطبنة كان فيمن حاصره أبو قرّة اليفرني في أربعين ألفا صفرية من قومه وغيرهم حتى اشتدّ عليه الحصار، وداخل أبا قرّة في الإفراج عنه على يد ابنه على أن يعطيه أربعين ألفا، ولابنه أربعة آلاف، فارتحل بقومه وانفضّ البرابرة عن طبنة. ثم حاصروه بعد ذلك بالقيروان واجتمعوا عليه وأبو قرّة معهم بثلاثمائة وخمسين ألفا، الخيالة منها خمسة وثمانون ألفا. وهلك عمر بن حفص في ذلك الحصار. وقدم يزيد بن حاتم واليا على إفريقية ففضّ جموعهم وفرّق كلمتهم، ولحق أبو قرّة   [1] وفي نسخة أخرى. لما التاثت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 وبنو يفرن أصحابه بمواطنهم من تلمسان بعد أن قتل صاحبه أبو حاتم الكندي رأس الخوارج، واستلحم بني يفرن وتوغّل يزيد بن حاتم في المغرب ونواحيه وأثخن في أهله إلى أن استكانوا واستقاموا. ولم يكن لبني يفرن من بعدها انتقاض حتى كان شأن أبي يزيد بإفريقية في بني واركوا ومر نجيصة منهم حسبما نذكره إن شاء الله تعالى الكريم. وبعض المؤرّخين ينسب أبا قرّة هذا إلى مغيلة، ولم أظفر بصحيح في ذلك، والطرائق متساوية في الجانبين، فإنّ نواحي تلمسان وإن كانت موطنا لبني يفرن فهي أيضا موطن لمغيلة، والقبيلتان متجاورتان. لكن بنو يفرن كانوا أشدّ قوّة وأكثر جمعا، ومغيلة أيضا كانوا أشهر بالخارجيّة من بني يفرن لأنهم كانوا صفريّة. وكثير من الناس يقولون: إنّ بني يفرن كانوا على مذهب أهل السنّة كما ذكره ابن حزم وغيره والله أعلم. (الخبر عن أبي يزيد الخارجي صاحب الحمار من بني يفرن ومبدإ أمره مع الشيعة ومصائره) هذا الرجل من بني واركوا إخوة مرنجيصة، وكلهم من بطون بني يفرن، وكنيته أبو يزيد، واسمه مخلّد بن كيداد لا يعلم من نسبه فيهم غير هذا. وقال أبو محمد بن حزم: ذكر لي أبو يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي يزيد أنّ اسمه مخلّد بن كيداد [1] بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلّد بن عثمان بن ورنمت بن حونيفر [2] بن سميران بن يفرن بن جانا وهو زناتة. قال: وقد أخبرني بعض البربر بأسماء زائدة بين يفرن وجانا، انتهى. كلام ابن حزم. ونسبه ابن الرقيق أيضا في بني واسين بن ورسيك بن جانا، وقد تقدّم نسبهم أوّل الفصل. وكان كيداد أبوه يختلف إلى بلاد السودان في التجارة، فولد له أبو يزيد بكركوا من بلادهم، وأمّه أم ولد اسمها سيكة [3] ورجع به إلى قيطون زناتة ببلاد قصطيلة. ونزل توزر مترددا بينها وبين تقيّوس، وتعلّم القرآن وتأدّب، وخالط النكارية فمال إلى مذاهبهم وأخذها عنهم، ورأس فيها   [1] وفي النسخة الباريسية: كنداك. [2] وفي النسخة الباريسية: ورينت بن جوسفر وفي نسخة أخرى: جونفر. [3] وفي نسخة ثانية: سبيكة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 ورحل إلى مشيختهم بتيهرت، وأخذ عن أبي عبيدة منهم أيام اعتقال عبيد الله المهدي بسجلماسة. ومات أبوه كيداد وتركه على حال الخصاصة والفقر، فكان أهل القيطون يصلونه بفضل أموالهم، وكان يعلّم صبيانهم القرآن ومذاهب النكارية. واشتهر عنه تكفير أهل الملّة وسبّ عليّ فخاف وانتقل إلى تقيّوس. وكان يختلف بينها وبين توزر، وأخذ نفسه بالتغيير على الولاة، ونمي عنه اعتقاد الخروج عن السلطان فنذر الولاة بقصطيلة دمه، فخرج إلى الحجّ سنة عشر وثلاثمائة وأرهقه الطلب فرجع من نواحي طرابلس إلى تقيّوس. ولمّا هلك عبد الله أوعز القائم إلى أهل قصطيلة في القبض عليه، فلحق بالمشرق وقضى الفرض وانصرف إلى موطنه، ودخل توزر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة مستترا. وسعى به ابن فرقان عند والي البلد فتقبّض عليه واعتقله، وأقبل سرعان [1] زناتة إلى البلد ومعهم أبو عمّار الأعمى رأس النكارية واسمه كما سبق عبد الحميد، وكان ممن أخذ عنه أبو يزيد فتعرّضوا للوالي في إطلاقه، فتعلّل عليهم بطلبه في الخراج، فاجتمعوا إلى فضل ويزيد ابني أبي يزيد، وعمدوا إلى السجن فقتلوا الحرس وأخرجوه، فلحق ببلد بني واركلا، وأقام بها سنة يختلف إلى جبل أوراس وإلى بني برزال في مواطنهم بالجبال قبلة المسيلة، وإلى بني زنداك من مغراوة إلى أن أجابوه، فوصل إلى أوراس ومعه أبو عمّار الأعمى في اثني عشر من الراحلة، ونزلوا على النكارية بالنوالات [2] . واجتمع إليه القرابة وسائر الخوارج، وأخذ له البيعة عليهم أبو عمّار صاحبه على قتال الشيعة وعلى استباحة الغنائم والسبي، وعلى أنهم إن ظفروا بالمهديّة والقيروان صار الأمر شورى، وذلك سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. وترصّدوا غيبة صاحب باغاية في بعض وجوهه فضربوا على بسيطها، واستباح بعض القصور بها سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وغمس بذلك أيدي البربر في الفتنة. ثم زحف بهم إلى باغاية واستولت عليه وعلى أصحابه الهزيمة فلحقوا بالجبل. وزحف إليهم صاحب باغية فانهزم ورجع إلى بلده، فحاصره أبو يزيد وأوعز أبو القاسم القائم إلى كتامة في إمداد كنون صاحب باغاية، فتلاحقت به العساكر فبيّتهم أبو يزيد وأصحابه   [1] سرعان زناتة: أي اوائلهم السابقون (قاموس) . [2] اسم موضع كان يتردد إليه هؤلاء النكادية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 ففلّوهم، وامتنعت عليه باغاية وكاتب أبو يزيد البربر الذين حول قصطيلة من بني واسين وغيرهم، فحاصروا توزر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ورحل إلى تبسة فدخلها صلحا، ثم إلى بجاية كذلك، ثم إلى مرماجنّة. كذلك، وأهدوا له حمارا أشهب فلزم ركوبه حتى اشتهر به. وبلغ خبره عساكر كتامة بالاربص [1] فانفضوا وملك الأربص وقتل إمام الصلاة بها. وبعث عسكرا إلى تبسة فملكوها وقتلوا عاملها. وبلغ الخبر القائم وهو بالمهديّة فهاله. وسرّح العساكر لضبط المدن والثغور، وسرّح مولاه بشرى الصقلّي إلى باجة، وعقد لميسور على الجيوش فعسكر بناحية المهدية، وسرّح خليل بن إسحاق إلى القيروان فعسكر بها. وزحف أبو يزيد إلى بشرى بباجة، واشتدّت الحرب بينهم، وركب أبو يزيد حماره وأمسك عصاه فاستمالت النكارية، وخالفوا بشرى إلى معسكره فانهزم إلى تونس، واقتحم أبو يزيد باجة واستباحها، ودخل بشرى إلى تونس وارتدت البرابر من كل ناحية فأسلم تونس ولحق بسوسة. واستأمن أهل تونس إلى أبي يزيد فأمّنهم وولّى عليهم، وانتهى إلى وادي مجدرة [2] فعسكر بها. ووافته الحشود هنالك. ورعب الناس منه فأجفلوا إلى القيروان، وكثرت الأراجيف وسرّب أبو يزيد جيوشه في نواحي إفريقية، فشنّوا الغارات وأكثروا السبي والقتل والأسر. ثم زحف إلى رقادة فانفضّ كتامة الذين كانوا بها ولحقوا بالمهديّة. ونزل أبو يزيد رقادة في مائة ألف. ثم زحف إلى القيروان فانحصر بها خليل بن إسحاق ثم أخذه بعد مراوضة في الصلح، وهمّ بقتله فأشار عليه أبو عمّار باستبقائه فلم يطعه وقتله. ودخلوا القيروان فاستباحوها ولقيه مشيخة الفقهاء فأمّنهم بعد التقريع والعتب، وعلى أن يقتلوا أولياء الشيعة، وبعث رسله في وفد من أهل القيروان إلى الناصر الأموي صاحب قرطبة ملتزما لطاعته والقيام لدعوته وطالبا لمدده، فرجعوا إليه بالقبول والوعد. ولم يزل يردّد ذلك سائر أيام الفتنة حتى أوفد ابنه أيوب في آخرها سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فكان له اتصال بالناصر سائر أيامه. وزحف ميسور من المهديّة بالعساكر وفرّ عنه بنو كملان من هوّارة ولحقوا بأبي يزيد وحرّضوه على لقاء ميسور، فزحف إليه واستوى اللقاء. واستمات أبو يزيد والنكارية فانهزم ميسور وقتله أبو كملان وبعث برأسه إلى القيروان،   [1] وفي نسخة ثانية: الأربس وكذلك في معجم البلدان. [2] وفي نسخة ثانية: مجردة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 ثم إلى المغرب واستبيح معسكره. وسرّح أبو يزيد عساكره إلى مدينة سوسة فاقتحموها عنوة وأكثروا من القتل والمثلة. وعظم القتل بضواحي إفريقية، وخلت القرى والمنازل ومن أفلته السيف أهلكه الجوع. واستخفّ أبو يزيد بالناس بعد قتل ميسور فلبس الحرير وركب الفاره. ونكر عليه أصحابه ذلك، وكاتبه به رؤساؤهم من البلاد، والقائم خلال ذلك بالمهديّة يخندق على نفسه ويستنفر كتامة وصنهاجة للحصار معه. وزحف أبو يزيد حتى نزل المهديّة وناوش عساكرها الحرب، فلم يزل الظهور عليهم، وملك زويلة. ولما وقف بالمصلّى قال القائم لأصحابه من هاهنا يرجع، واتصل حصاره للمهديّة، واجتمع إليه البربر من قابس وطرابلس ونفوسة. وزحف إليهم ثلاث مرّات فانهزم في الثالثة ولم يقلع، وكذلك في الرابعة، واشتدّ الحصار على المهديّة ونزل الجوع بهم. واجتمعت كتامة بقسنطينة وعسكروا بها لإمداد القائم، فسرّح إليهم أبو يزيد يكموس [1] المزاتي من ورفجومة، فانفضّ معسكر كتامة من قسنطينة. ويئس القائم من مددهم وتفرّقت عساكر أبي يزيد في الغارات والنهب فخفّ المعسكر، ولم يبق به إلّا هوّارة ورأس بني كملان [2] وكثرت مراسلات القائم للبربر. واستراب بهم أبو يزيد وهرب بعضهم إلى المهديّة، ورحل آخرون إلى مواطنهم، فأشار عليه أصحابه بالإفراج عن المهديّة فأسلموا معسكرهم، ولحقوا بالقيروان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ودبّر أهل القيروان في القبض عليه فلم يتهيّأ لهم، وعذله أبو عمّار فيما أتاه من الاستكثار من الدنيا فتاب وأقلع، وعاود لبس الصوف والتقشّف. وشاع خبر إجفاله عن المهديّة فقتل النكارية في كل بلد، وبعث عساكره فعاثوا في النواحي وأوقعوا بأهل الأمصار وخرّبوا كثيرا منها. وبعث ابنه أيوب إلى باجة فعسكر بها ينتظر وصول المدد من البربر وسائر النواحي فلم يفجأه إلّا وصول عليّ بن حمدون الأندلسي صاحب المسيلة في حشد كتامة وزواودة، وقد مرّ بقسنطينة والأربص وشقنبارية، واستصحب منها العساكر فبيّته أيوب وانفضّ معسكره، وتردّى به فرسه في بعض الأوعار فهلك.   [1] وفي نسخة ثانية: زكوا. [2] وفي نسخة ثانية: هوارة وراس وبنو كملان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 ثم زحف أيوب في عسكره إلى تونس وقائدها حسن بن علي من دعاة الشيعة فانهزم، ثم أتيحت له الكرّة ولحق حسن بن عليّ بلد كتامة فعسكر بهم على قسنطينة. وسرّح أبو يزيد جموع البربر لحربه. ثم اجتمعت لأبي يزيد حشود البربر من كل ناحية وثابت إليه قوّته. وارتحل إلى سوسة فحاصرها ونصب عليها المجانيق. وهلك القائم سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة في شوّال وصارت الخلافة لابنه إسماعيل المنصور فبعث بالمدد إلى سوسة بعد أن اعتزم على الخروج إليها بنفسه فمنعه أصحابه. ووصل المدد إلى سوسة فقاتلوا أبا يزيد فانهزم ولحق بالقيروان، فامتنعت عليه فاستخلص صاحبه أبا عمّار من أيديهم وارتحل عنهم. وخرج المنصور من المهديّة إلى سوسة، ثم إلى القيروان فملكها وعفا عن أهلها وأمّنهم وأحسن في مخلّف أبي يزيد وعياله. وتوافي المدد إلى أبي يزيد ثالثة فاعتزم على حصار القيروان، وزحف إلى عسكر المنصور بساحتها فبيّتهم، واشتدّ الحرب واستمات الأولياء وافترقوا آخر نهارهم. وعاودوا الزحف مرّات ووصل المدد إلى المنصور من الجهات حتى إذا كان منتصف المحرّم كان الفتح، وانهزم أبو يزيد وعظم القتل في البربر ورحل المنصور في اتباعه فمرّ [1] ثم تبسة حتى انتهى إلى باغاية. ووافاه بها كتاب محمد بن خزر بالطاعة والولاية والاستعداد للمظاهر، فكتب إليه بترصّد أبي يزيد والقبض عليه، ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال. ثم رحل إلى طبنة فوافاه بها جعفر بن عليّ عامل المسيلة بالهدايا والأموال. وبلغه أنّ أبا يزيد نزل بسكرة وأنه كاتب محمد بن خزر يسأله النصرة، فلم يجد عنده ما يرضيه، فارتحل المنصور إلى بسكرة فتلقّاه أهلها. وفرّ أبو يزيد إلى بني برزال بجبل سالات، ثم إلى جبل كتامة وهو جبل عياض لهذا العهد. وارتحل المنصور في أثره إلى ومرة [2] وبيّته أبو يزيد هنالك فانهزم ولم يظفر وانحاز إلى جبل سالات. ثم لحق بالرمال ورجع عنه بنو كملان، وأمّنهم المنصور على يد محمد بن خزر. وسار المنصور في التعبية حتى نزل جبل سالات، وارتحل وراءه إلى الرمال. ثم رجع ودخل بلاد صنهاجة، وبلغه رجوع أبي يزيد إلى جبل كتامة فرجع إليه، ونزل عليه المنصور في كتامة وعجيسة وزواوة وحشد بني زنداك ومزاته ومكناسة ومكلاته.   [1] بياض بالأصل وفي نسخة ثانية: فمرّ بسبيبة ثم بتبسة. [2] وفي نسخة أخرى: مغرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وتقدّم المنصور إليه فقاتلوا أبا يزيد وجموع النكارية فهزموهم واعتصموا بجبل كتامة، ورحل المنصور إلى المسيلة وانحصر أبو يزيد في قلعة الجبل، وعسكر المنصور إزاءها واشتدّ الحصار، وزحف إليها مرّات، ثم اقتحمها عليهم فاعتصم أبو يزيد بقصر في ذروة القلعة فأحيط به واقتحم، وقتل أبو عمّار الأعمى ويكموس المزاتي ونجا أبو يزيد مثخنا بالجراحة محمولا بين ثلاثة من أصحابه فسقط في مهواة من الأوعار فوهن وسيق من الغداة إلى المنصور فأمر بمداواته. ثم أحضره ووبّخه وأقام الحجّة عليه وتجافى عن دمه، وبعثه إلى المهديّة وفرض له بها الجراية فجزاه خيرا. وحمل في القفص فمات من جراحته سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. وأمر به فسلخ وحشي جلده بالتبن وطيف به في القيروان. وهرب الفلّ من أصحابه إلى ابنه فضل، وكان مع معبد بن خزر فأغاروا على ساقة المنصور، وكمن لهم زيري بن مناد أمير صنهاجة فأوقع بهم. ولم يزل المنصور في اتباعه إلى أن نزل المسيلة وانقطع أثر معبد، ووافاه بمعسكره هنالك انتقاض حميد بن يصل عامل تيهرت [1] من أوليائهم، وأنه ركب البحر من تنس إلى العدوة فارتحل إلى تيهرت وولّى عليها وعلى تنس. ثم قصد لواتة فهربوا إلى الرمال، ورجع إلى إفريقية سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. ثم بلغه أنّ فضل بن أبي يزيد أغار على جهات قصطيلة، فرحل من سنته في طلبه وانتهى إلى قفصة ثم ارتحل إلى [2] من أعمال الزاب، وفتح حصن ماداس مما يليه. وهرب فضل في الرمال فأعجزه ورجع إلى القيروان سنة ست وثلاثين. ومضى فضل إلى جبل أوراس، ثم سار منه إلى باغاية فحاصرها. وغدر به ماطيط [3] بن يعلى من أصحابه، وجاء برأسه إلى المنصور. وانقرض أمر أبي يزيد وبنيه وافترقت جموعهم. واغتال عبد الله ابن بكار من رؤساء مغراوة بعد ذلك أيوب بن أبي يزيد وجاء برأسه إلى المنصور متقرّبا إليه. وتتبّع المنصور قبائل بني يفرن بعدها إلى أن انقطع أثر الدعوة. والبقاء للَّه تعالى وحده.   [1] تاهرت: معجم البلدان. [2] بياض بالأصل وفي النسخة الباريسية: مديلية وفي نسخة أخرى ميطلة. [3] وفي نسخة ثانية: باطيط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 (الخبر عن الدولة الأولى لبني يفرن بالمغرب الأوسط والأقصى ومبادئ أمورهم ومصايرها) كان لبني يفرن من زناتة بطون كثيرة وكانوا متفرقين بالمواطن، فكان منهم بإفريقية بنو واركوا ومرنجيصة وغيرهم كما قدّمناه، وكان منهم بنواحي تلمسان ما بينها وبين تاهرت أمم كثير عددهم وهم الذين اختطّوا مدينة تلمسان كما نذكره بعد. ومنهم أبو قرّة المنتزي بتلك الناحية لأوّل الدولة العبّاسيّة، وهو الّذي حاصر عمر بن حفص بطبنة كما تقدّم. ولما انقرض أمر أبي يزيد وأثخن المنصور فيمن كان بإفريقية من بني يفرن أقام هؤلاء الذين كانوا بنواحي تلمسان على وفودهم. وكان رئيسهم لعهد أبي يزيد محمد بن صالح. ولما تولى المنصور محمد بن خزر وقومه مغراوة، وكان بينه وبين بني يفرن هؤلاء فتنة هلك فيها محمد بن صالح على يد عبد الله بن بكّار من بني يفرن، كان متحيزا إلى مغراوة. وولي. أمره في بني يفرن من بعده ابنه يعلى فعظم صيته، واختط مدينة أفكان [1] . ولما خطب عبد الرحمن الناصر طاعة الأموية من زناتة أهل العدوة واستألف ملوكهم، سارع يعلى لإجابته، واجتمع عليها مع الخير بن محمد بن خزر وقومه مغراوة، وأجلب على وهران فملكها سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة من يد محمد بن عون، وكان ولّاه عليها صولات اللميطي [2] أحد رجالات كتامه سنة ثمان وتسعين ومائتين فدخلها يعلى عنوة على بنيه وخرّبها. وكان يعلى قد زحف مع الخير بن محمد إلى تاهرت وبرز إليه ميسور الخصيّ في شيعته من لماية فهزموهم وملكوا تاهرت، وتقبّض على ميسور وعبد الله بن بكّار فبعث به الخير إلى يعلى بن محمد ليثأر به، فلم يرضه كفؤا لدمه ودفعه إلى من ثأر به من بني يفرن. واستفحل سلطان يعلى في ناحية المغرب وخطب على منابرها لعبد الرحمن الناصر ما بين تاهرت إلى طنجة. واستدعى من الناصر تولية رجال بيته على أمصار المغرب فعقد على فاس لمحمد بن   [1] ايفكان: تقع بين معسكر وسيدي بلعباس من عمالة وهران على بعد 25 كلم من الأولى، تعرف اليوم بعين فكان، وكانت تدعى في العهد الزناتي أفكان (قبائل المغرب ص 120) . [2] وفي نسخة أخرى: دواس بن صولات اللبيصي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 الخير بن محمد بن عشيرة ونسك محمد لسنة من ولايته، واستأذن في الجهاد والرباط بالأندلس فأجاز لذلك واستخلف على عمله ابن عمه أحمد بن أبي بكر بن أحمد ابن عثمان بن سعيد، وهو الّذي اختطّ مئذنة القرويين سنة أربع وأربعين وثلاثمائة كما ذكرناه ولم يزل سلطان يعلى بن محمد بالمغرب عظيما إلى أنّ أغزى بعد المعز لدين الله كاتبه جوهر الصقلّي من القيروان إلى المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فلما فصل جوهر بالجنود بادر أمير زناتة بالمغرب يعلى بن محمد اليفرني إلى لقائه والإذعان لطاعته والانحياش إليه، ونبذ عهد الأموية، وأعمل إلى لقيه الرحلة من بلده إيفكان وأعطاه يد الانقياد وعهد البيعة عن قومه بني يفرن وزناتة، فتقبّلها جوهر وأضمر الفتك به، وتخيّر لذلك يوم فصوله من بلده، وأسرّ إلى بعض مستخلصيه من الاتباع فأوقعوا نفرة في أعقاب العسكر طار إليها الزعماء من كتامة وصنهاجة. وزناتة، وتقبّض على يعلى فهلك في وطيس تلك الهيعة فغضّ بالرماح على أيدي رجالات كتامة وصنهاجة، وذهب دمه هدرا في القبائل. وخرب جوهر مدينة إيفكان وفرّت زناتة أمامه وكشف القناع في مطالبتهم. (وقد ذكر) بعض المؤرخين أنّ يعلى إنّما لقي جوهرا عند منصرفه من الغزاة بمدينة تاهرت، وهنالك كان فتكه به بناحية شلف، فتفرّقت بعدها جماعة بني يفرن وذهب ملكهم فلم يجتمعوا إلّا بعد حين على ابنه بدوي بالمغرب كما نذكره. ولحق الكثير منهم بالأندلس كما يأتي خبرهم في موضعه وانقرضت دولة بني يفرن هؤلاء إلى أن عادت بعد مدّة على يد يعلى بفاس. ثم استقرّت آخرا بسلا وتعاقب فيهم هنالك إلى آخرها كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن الدولة الثانية لبني يفرن بسلا من المغرب الأقصى وأولية ذلك وتصاريفه) لما أوقع جوهر الكاتب قائد المعز بيعلى بن محمد أمير بني يفرن وملك المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة كما ذكرناه وتفرّقت جموع بني يفرن لحق ابنه بدوي بن يعلى بالمغرب. الأقصى وأحسّ بجوهر من ورائه فأبعد المفرّ وأصحر إلى أن رجع جوهر من المغرب. ويقال إنّ جوهرا تقبّض عليه واحتمله أسيرا فاعتقل إلى أن فرّ من معتقله بعد حين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 واجتمع عليه قومه من بني يفرن وكان جوهر عند منصرفه من المغرب ولّى على الأدارسة المتحيزين إلى الريف وبلاد غمارة الحسن بن كنون شيخ بني محمد منهم فنزل [1] وأجاز الحكم المستنصر لأوّل ولايته سنة خمس وثلاثمائة [2] وزيره محمد بن قاسم بن طملس في العساكر لتدويخ المغرب واقتلاع جرثومة الأدارسة، فأجاز في العساكر وغلبهم على بلادهم وأزعجهم جميعا عن المغرب إلى الأندلس سنة خمس وستين وثلاثمائة كما ذكرناه. ومهّد دعوة الأموية بالمغرب، وأقفل الحكم مولاه غالبا وردّه إلى الثغر لسدّه، وعقد على المغرب ليحيى بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى، وكان أجازه مددا لغالب في رجال العرب وجنّد الثغور حتى إذا انغمس الحكم في علّة الفالج وركدت ريح المروانية بالمغرب واحتاجت الدولة إلى رجالها لسدّ الثغور ودفاع العدو، استدعى يحيى بن محمد بن هاشم من العدوة، واداله الحاجب المصحفي بجعفر بن علي بن حمدون أمير الزاب والمسيلة النازع إليهم من دعوة الشيعة، وجمعوا بين الانتفاع به في العدوة والراحة مما يتوقّع منه على الدولة ومن البرابرة في التياث الخلافة لما كانوا أصاروا إليه من النكبة، وطوّقوه من المحنة. ولما كان اجتمع بقرطبة من جموع البرابرة فعقدوا له ولأخيه يحيى على المغرب وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال دثر وكسي فاخرة للخلع على ملوك العدوة، فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وثلاثمائة وضبطه. واجتمع إليه ملوك زناتة مثل بدوي [3] بن يعلى أمير بني يفرن وابن عمّه نوبخت بن عبد الله بن بكّار، ومحمد بن الخير بن خزر وابن عمّه بكساس بن سيّد الناس، وزيري بن خزر وزيري ومقاتل ابنا عطية بن تبادها [4] وخزرون بن محمد وفلفول بن سعيد أمير مغراوة، وإسماعيل بن البوري أمير مكناسة، ومحمد ابن عمه عبد الله بن مدين وخزرون بن محمد الازداجي، وكان بدوي بن يعلى من أشدّهم قوّة وأحسنهم طاعة. ولما هلك الحكم وولي مكانه هشام المؤيد، وانفرد محمد بن أبي عامر بحجابته اقتصر من العدوة لأوّل قيامه على مدينة سبتة، فضبطها بجند السلطان   [1] بياض بالأصل وفي إحدى النسخ: فنزل البصرة. [2] حسب مجرى الأحداث: يجب أن تكون خمسين وثلاثمائة. [3] وفي نسخة أخرى: يدر. [4] وفي نسخة أخرى: تبادلت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 ورجال الدولة، وقلّدها الصنائع من أرباب السيوف والأقلام، وعوّل في ضبط ما وراء ذلك على ملوك زناتة وتعهّدهم بالجوائز والخلع، وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب في الإثبات في ديوان السلطان منهم، فجدّدوا في ولاية الدولة وبث الدعوة. وفسد ما بين أمير العدوة جعفر بن علي وأخيه يحيى واقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال. ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبه برغواطة في غزاتة إياهم، واستدعاه محمد بن أبي عامر لأول أمره لما رآه من استقامته إليه، وشدّ أزره وتلوّى عليه كراهية لما يلقى بالأندلس من الحكم. ثم أصلحه وتخلّى لأخيه عن عمل المغرب وأجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحلّ منه بالمكان الأثير، وتناغت زناتة في التزلّف إلى الدولة بقرب الطاعات، فزحف خزرون بن فلفول سنة ست وستين وثلاثمائة إلى مدينة سجلماسة فاقتحمها ومحى دولة آل مدرار منها، وعقد له المنصور عليها كما ذكرنا ذلك قبل. وزحف عقب هذا الفتح بلكّين بن زيري قائد إفريقية للشيعة إلى المغرب سنة تسع وستين وثلاثمائة زحفه المشهور وخرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه، واحتمل من بيت المال مائة حمل ومن العساكر ما لا يحصى عدّه. وأجاز جعفر بن علي بن حمدون إلى سبتة، وانضمّت إليه ملوك زناتة ورجع بلكّين عنهم إلى غزو برغواطة إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة كما ذكرناه. ورجع جعفر إلى مكانه من ابن أبي عامر، لم يسمح بمقامه عنه، ووصل حسن بن كنون خلال ذلك من القاهرة بكتاب العزيز نزار بن معدّ إلى بلكّين صاحب إفريقية في إعانته إلى ملك المغرب وإمداده بالمال والعساكر، فأمضاه بلكّين لسبيله، وأعطاه مالا ووعده بإضعافه ونهض إلى المغرب فوجد طاعة المروانية قد استحكمت فيه. وهلك بلكّين أثر ذلك وشغل ابنه المنصور عن شأنه فدعا لحسن بن كنون إلى نفسه، وأنفذ أبو محمد بن أبي عامر ابن عمه محمد بن عبد الله ويلقّب عسكلاجة لحربه سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وجاء أثره إلى الجزيرة كيما يشارف القصة، وأحيط بالحسن بن كنون فسأل الأمان وعقد له مقارعه عمر وعسكلاجة، وأشخصه إلى الحضرة فلم يمض ابن أبي عامر أمامه، ورأى أن لا ذمّة له لكثرة نكثة فبعث من ثقاته من أتاه برأسه، وانقرض أمر الأدارسة وانمحى أثرهم فأغضب عمر وعسكلاجة لذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 واستراح إلى الجند بأقوال نميت عنه إلى المنصور فاستدعاه من العدوة وألحقه بمقتوله ابن كنون. وعقد على العدوة للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي، واكثف عدده، وأطلق في المال يده، ونفذ إلى عمله سنة ست وسبعين وثلاثمائة فضبط المغرب أحسن ضبط وهابته البرابرة، ونزل فاس من العدوة، فعزّ سلطانه وكثر جمعه، وانضمّ إليه ملوك النواحي حتى حذر ابن أبي عامر مغبّة استقلاله، واستدعاه ليبلو صحة طاعته، فأسرع اللحاق به، فضاعف تكرمته وأعاده إلى عمله، وكان بدوي بن يعلى هذا من بين ملوك زناتة كثير الاضطراب على الأموية والمراوغة لهم بالطاعة. وكان لمنصور بن أبي عامر يضرب بينه وبين قرينه زيري بن عطية ويقرن كلا منهما بمناغاة صاحبه في الاستقامة، وكان إلى زيري أميل وبطاعته أوثق، لخلوصه وصدق طويته وانحياشه فكان يرجو أن يتمكّن من قياد بدوي بن يعلى بمناغاته، فاستدعى بزيري بن عطية إلى الحضرة سنة سبع [1] وسبعين وثلاثمائة فبادر إلى القدوم عليه وتلقّاه وأكبر موصله وأحسن مقامه ومنقلبه وأعظم جائزته، وسام بدوي مثلها فامتنع، وقال لرسوله: قل لابن أبي عامر متى عهد حمر الوحش تنقاد للبيطارة. وأرسل عنانه في العيث والفساد ونهض إليه صاحب المغرب الوزير حسن بن عبد الودود في عساكره وجموعه من جند الأندلس وملوك العدوة مظاهرا عليه لعدوّة زيري بن عطية، وجمع لهم بدوي ولقيهم سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة فكان الظهور له. وانهزم عسكر السلطان وجموع مغراوة، واستلحموا وجرح الوزير حسن بن عبد الودود جراحات كان فيها لليال مهلكه. وطار الخبر إلى ابن أبي عامر فاغتمّ لذلك وكتب إلى زيري بضبط فاس ومكاتبة أصحاب حسن، وعقد له على المغرب كما نستوفي ذكره عند ذكر دولتهم. وغالبة بدوي عليها مرّة بعد أخرى ونزع أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي عن قومه، ولحق بسواحل تلمسان ناقضا لطاعة الشيعة، وخارجا على أخيه المنصور بن بلكّين صاحب القيروان. وخاطب ابن أبي عامر من وراء البحر وأوفد عليه ابن أخيه ووجوه قومه فسرّب إليه الأموال والصلاة بفاس مع   [1] وفي نسخة أخرى: سنة تسع وسبعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 زيري حسبما نذكره، وجمع أيديهما على مدافعة بدوي، فساء أمره فيهما جميعا إلى أن راجع أبو البهار ولاية منصور ابن أخيه كما نذكره بعد. وحاربه زيري فكان له الظهور عليه ولحق أبو البهار بسبتة، ثم عاد إلى قومه. واستفحل زيري من بعد ذلك، وكانت بينه وبين بدوي وقعة اكتسح زيري من ماله ومعسكره مالا كفؤله، وسبى حرمه. واستلحم من قومه زهاء ثلاثة آلاف فارس. وخرج إلى الصحراء شريدا سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. وهلك هناك فولي أمره في قومه حبّوس ابن أخيه زيري بن يعلى، ووثب به ابن عمه أبو يداس بن دوناس فقتله طمعا في الرئاسة من بعده، واختلف عليه قومه فأخفق أمله وعبر البحر إلى الأندلس في جمع عظيم من قومه. وولي أمر بني يفرن من بعده حمامة بن زيري بن يعلى أخو حبّوس المذكور، فاستقام عليه أمر بني يفرن وقد مرّ ذكره في خبر بدوي غير مرّة، وأنه كانت الحرب بينه وبين زيري بن عطية سجالا، وكانا يتعاقبان ملك فاس بتناول الغلب. وأنه لما وفد زيري على المنصور خالفه بدوي إلى فاس فملكها، وقتل بها خلقا من مغراوة، وأنه لمّا رجع زيري اعتصم بدوي بفاس فنازله زيري وهلك من مغراوة وبني يفرن في ذلك الحصار خلق. ثم اقتحمها زيري عليهم عنوة فقتله وبعث برأسه إلى سدّة الخلافة بقرطبة سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة والله أعلم. (ولمّا) اجتمع بنو يفرن على حمامة تحيّز بهم إلى ناحية شالة من المغرب فملكها وما إليها من تادّلّا، واقتطعها من زيري، ولم يزل عميد بني يفرن في تلك العمالة، والحرب بينه وبين زيري ومغراوة متّصلة، وكانت بينه وبين المنصور صاحب القيروان مهاداة، فأهدى إليه وهو محاصر لعمّه حماد بالقلعة سنة ست وأربعمائة، وأوفد بهديته أخاه زاوي بن زيري فلقيه بالطبول والبنود. ولما هلك حمامة قام بأمر بني يفرن من بعده أخوه الأمير أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى فاستبدّ بملكهم، وكان مستقيما في دينه مولعا بالجهاد، فانصرف إلى جهاد برغواطة وسالم مغراوة وأعرض عن فتنتهم. (ولمّا) كانت سنة أربع وعشرين وأربعمائة تجدّدت العداوة بين هذين الحيّين بني يفرن ومغراوة، وثارت الإحن القديمة، وزحف أبو الكمال صاحب شالة وتادلا وما إلى ذلك في جموع يفرن. وبرز إليه حمامة بن المعز في قبائل مغراوة، ودارت بينهم حروب شديدة وانكشفت مغراوة وفرّ حمامة إلى وجدة، واستولى الأمير أبو الكمال تميم وقومه على فاس وغلبوا مغراوة على عمل المغرب. واكتسح تميم اليهود بمدينة فاس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 واصطلم نعمهم واستباح حرمهم. ثم احتشد حمامة من وجدة سائر قبائل مغراوة وزناتة وبعث الحاشدين في قياطينهم لجميع بلاد المغرب الأوسط، ووصل إلى تنس صريخا لزعمائهم. وكاتب من بعد عنه من رجالاتهم، وزحف إلى فاس سنة تسع وعشرين وأربعمائة فأفرج عنها أبو الكمال تميم ولحق ببلده ومقر ملكه من شالة، وأقام بمكان عمله وموطن إمارته منها إلى أن هلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه حمّاد إلى أن هلك سنة تسع وأربعين وأربعمائة. وولي بعده ابنه يوسف إلى أن توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، فولي بعده عمّه محمد ابن الأمير أبي تميم إلى أن هلك في حروب لمتونة حين غلبوهم على المغرب أجمع حسبما نذكره، والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين. (وأمّا) أبو يداس بن دوناس قاتل حبوس بن زيري بن يعلى بن محمد فإنه لما اختلف عليه بنو يفرن وأخفق أمله في اجتماعهم له، أجاز البحر إلى الأندلس سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فرفعه إخوانه أبو قرّة وأبو زيد وعطاف، فحلّ كلّهم من المنصور محل التكرمة والإيثار ونظمه في جملة الرؤساء والأمراء وأسنى له الجراية والأقطاع، وأثبت رجاله في الديوان، ومن أجاز من قومه فبعد صيته وعلا في الدولة كعبه. (ولما) افترقت الجماعة وانتثر سلك الخلافة كان له في حروب البربر مع جند الأندلس آثار بعيدة وأخبار غريبة، ولما ملك المستعين قرطبة سنة أربعمائة واجتمع إليه من كان بالأندلس من البرابرة لحق المهدي بالثغور واستجاش طاغية الجلالقة، فزحف معه إلى غرناطة وخرج المستعين في جموعه من البرابرة إلى الساحل واتبعهم المهدي في جموعه فتواقعوا بوادي أيرة [1] فكانت بين الفريقين جولة عظم بلاء البرابرة، وطار لأبي يداس فيما ذكر، وانهزم المهدي والطاغية وجموعهم بعد أن تضايقت المعركة وأصابت أبا يداس بن دوناس جراحة كان فيها مهلكه، ودفن هناك. وكان لابنه خلوف وحافده تميم بن خلوف من رجالات زناتة بالأندلس شجاعة ورياسة، وكان يحيى بن عبد الرحمن ابن أخيه عطاف من رجالاتهم، وكان له اختصاص ببني حمّود، ثم بالقاسم منهم، ولّاه على قرطبة أيام خلافته والبقاء للَّه وحده.   [1] وفي النسخة الباريسية: أبرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 (الخبر عن أبي نور بن أبي قرّة وما كان له من الملك بالأندلس أيام الطوائف) هذا الرجل اسمه أبو نور بن أبي قرّة بن أبي يفرن من رجالات البربر الذين استظهر بهم قومهم أيام الفتنة، تغلّب على رندة أزمان تلك الفتنة، وأخرج منها عامر بن فتوح من موالي الأموية سنة خمس وأربعمائة فملكها واستحدث بها لنفسه سلطانا. ولما استفحل أمر ابن عبّاد بأشبيليّة وأسف إلى تملّك ما جاوره من الأعمال والثغور، نشأت الفتنة بينه وبين أبي نور هذا. واختلف حاله معه في الولاية والانحراف، وسجل له سنة ثلاث وأربعين واربعمائة برنده وأعمالها فيمن سجل له من البربر. واستدعاه بعدها سنة خمسين واربعمائة لبعض ولائمه وكاده بكتاب أوقفه عليه على لسان جارية بقصره تشكو إليه ما نال منها ابنه من المحرّم، فانطلق إلى بلده وقتل ابنه. وشعر بالمكيدة فمات أسفا وولي ابنه الآخر أبو نصر إلى سنة سبع وخمسين وأربعمائة فغدر به بعض جنده، وخرج هاربا فسقط من السور ومات. وتسلّم المعتمد رنده من بعد ذلك ويقال إنّ ذلك كان عند كائنة الحمام سنة خمس وأربعين وأربعمائة وانّ أبا نور هلك فيها. ولما بلغ الخبر ابنه أبا نصر وقع ما وقع والله أعلم. (الخبر عن مرنجيصة من بطون بني يفرن وشرح أحوالهم) كان هذا البطن من بني يفرن بضواحي إفريقية وكانت لهم كثرة وقوّة. ولما خرج أبو يزيد على الشيعة وكان من أخوالهم بنو واركوا ظاهروه على أمره بما كان له معهم من العصبية. ثم انقرض أمره وأخذتهم دولة الشيعة وأولياؤهم صنهاجة وولاتهم على إفريقية بالسطوة والقهر، وإنزال العقوبات بالأنفس والأموال إلى أن تلاشوا وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة. وبقيت منهم أحياء نزلوا ما بين القيروان وتونس أهل شاء وبقر وخيام يظعنون في نواحيها، وينتحلون الفلح في معاشهم، وملك الموحدون إفريقية وهم بهذا الحال، وضربت عليهم المغارم والضرائب والعسكرة مع السلطان في غزواته بعدّة مفروضة يحضرون بها متى استقروا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 (ولما تغلّب) الكعوب من بني سليم على ضواحي إفريقية وأخرجوا منها الزواودة من الرياح أعداء الدولة لذلك العهد، واستظهر بهم السلطان عليهم، اتخذوا إفريقية وطنا من قابس إلى باجة. ثم اشتدّت ولايتهم للدولة وعظم الاستظهار بهم وأقطعهم ملك الدولة ما شاؤه من الأعمال والخراج فكان في أقطاعهم خراج مرنجيصة هؤلاء. ولمّا كانت وقعة بنو مزين على القيروان وكان بعدها في الفترة ما كان من طغيان الفتنة التي اعتزّ فيها العرب على السلطان والدولة، كان لهؤلاء الكعوب المتغلّبين مدد قوي من أحياء مرنجيصة هؤلاء من الخيل للحملان، والخيالة للاستظهار بأعدادهم في الحروب فصاروا لهم لحمة وخولا، وتملّكوهم تملّك العبيد، حتى إذا اذهب الله بحمى الفتنة وأقام مائل الخلافة والدولة وصار تراث هذا الملك الحفصي إلى الأحق به مولانا السلطان أبي العبّاس أحمد، فانقشع الجو وأضاء الأفق ودفع المتغلّبين من العرب عن أعماله، وقبض أيديهم عن رعاياه وأصار مرنجيصة هؤلاء من صفاياه بعد إنزال العقوبة بهم على لياذهم بالعرب وظعنهم معهم، فراجعوا الحق وأخلصوا في الانحياش ورجعوا إلى ما ألفوه من الغرامة وقوانين الخراج، وهم على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن مغراوة من أهل الطبقة الأولى من زناتة وما كان لهم من الدول بالمغرب ومبدإ ذلك وتصاريفه) هؤلاء القبائل من مغراوة كانوا أوسع بطون زناتة وأهل الباس والغلب منهم، ونسبهم إلى مغراو بن يصلتين بن مسر بن زاكيا بن ورسيك بن ألديرت بن جانا إخوة بني يفرن وبني يرنيان، وقد تقدّم الخلاف في نسبهم عند ذكر بني يفرن، وأمّا شعوبهم وبطونهم فكثير مثل بني يلبث [1] وبني زنداك وبني رواو [2] ورتزمير وبني أبي سعيد وبني ورميغان والأغواط وبني ريغة وغيرهم ممن لم يحضرني أسماؤهم. وكانت محلّاتهم بأرض المغرب الأوسط من شلف إلى تلمسان إلى جبل مدبولة [3] وما إليها   [1] وفي نسخة أخرى: بني يليث. [2] وفي نسخة أخرى: بني وراق. [3] وفي نسخة أخرى: جبل مديونة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 ولهم مع إخوانهم بني يفرن اجتماع وافتراق ومناغاة في أحوال البدو. وكان لمغراوة هؤلاء في بدوهم ملك كبير أدركهم عليه الإسلام فأقرّه لهم وحسن إسلامهم. وهاجر أميرهم صولات بن وزمار إلى المدينة، ووفد على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه، فلقاه برّا وقبولا لهجرته، وعقد له على قومه ووطنه. وانصرف إلى بلاده محبوّا محبورا مغتبطا بالدين مظاهرا لقبائل مضر، فلم يزل هذا دأبه. وقيل إنه تقبّض عليه أسيرا لأوّل الفتح في بعض حروب العرب مع البربر قبل أن يدينوا بالدين فأشخصوه إلى عثمان لمكانه من قومه فمنّ عليه وأسلم فحسن إسلامه، وعقد له على عمله فاختصّ صولات هذا وسائر الأحياء من مغراوة بولاء عثمان وأهل بيته من بني أمية، وكانوا خاصة لهم دون قريش، وظاهروا دعوة المروانية بالأندلس رعيا لهذا الولاء على ما تراه بعد في أخبارهم. ولما هلك صولات قام بأمره في مغراوة وسائر زناتة من بعده ابنه حفص وكان من أعظم ملوكهم، ثم لما هلك قام بأمره ابنه خزر وعند ما تقلّص ظلّ الخلافة عن المغرب الأقصى بعض الشيء، وأظلت فتنة ميسرة الحقير ومظفره [1] فاعتزّ خزر وقومه على أمر المضرية بالقيروان، واستفحل ملكهم وعظم شأن سلطانهم على البدو من زناتة بالمغرب الأوسط. ثم انتقض أمر بني أمية بالمشرق فكانت الفتنة بالمغرب فازدادوا اعتزازا وعتوّا، وهلك خلال ذلك خزر وقام بملكه ابنه محمد وخلص إلى المغرب إدريس الأكبر بن عبد الله بن حسن بن الحسن سنة سبعين ومائة في خلافة الهادي. وقام برابرة المغرب من أوربة ومدينة ومغيلة بأمره، واستوثق له الملك واقتطع المغرب عن طاعة بني العبّاس سائر الأيام. ثم نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين ومائة فتلقّاه محمد بن خزر هذا وألقى إليه المقادة، وبايع له عن قومه وأمكنه من تلمسان بعد أن غلب عليها بني يفرن أهلها. وانتظم لإدريس بن إدريس الأمر وغلب على جميع أعمال أبيه، وملك تلمسان وقام بنو خزر هؤلاء بدعوته كما كانوا لأبيه. وكان قد نزل تلمسان لعهد إدريس الأكبر أخوه سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن القادم إليه من المشرق، وسجّل له بولاية تلمسان من سجل ابنه إدريس لمحمد ابن عمّه سليمان من بعده،   [1] وفي نسخة أخرى: مطخرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 فكانت ولاية تلمسان وأمصارها في عقبه، واقتسموا ولاية ثغورها الساحلية فكانت تلمسان لولد إدريس بن محمد بن سليمان، وأرشكول لولد عيسى بن محمد، وتنس لولد إبراهيم بن محمد، وسائر الضواحي من أعمال تلمسان لبني يفرن ومغراوة. ولم يزل الملك بضواحي المغرب الأوسط لمحمد بن خزر كما قلناه إلى أن كانت دولة الشيعة واستوثق لهم ملك إفريقية. وسرّح عبيد الله المهدي إلى المغرب عروبة بن يوسف الكتاميّ في عساكر كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين، فدوّخ المغرب الأدنى ورجع. ثم سرّح بعده مصالة بن حبّوس إلى المغرب في عساكر كتامة، فاستولى على أعمال الأدارسة واقتضى طاعتهم لعبيد الله. وعقد على فاس ليحيى بن إدريس بن عمر آخر ملوك الأدارسة. وخلع نفسه ودان بطاعتهم، وعقد له مصالة على فاس، وعقد لموسى بن أبي العالية أمير مكناسة وصاحب تازة [1] ، واستولى على ضواحي المغرب، وقفل إلى القيروان. وانتقض عمر بن خزر من أعقاب محمد بن خزر الداعية لإدريس الأكبر، وحمل زناتة وأهل المغرب الأوسط على البرابرة من الشيعة وسرّح عبيد الله المهدي مصالة قائد المغرب في عساكر كتامة سنة تسع وثلاثمائة، ولقيه محمد ابن خزر في جموع مغراوة وسائر زناتة ففلّ عساكر مصالة وخلص إليه فقتله، وسرّح عبيد الله ابنه أبا القاسم في العساكر إلى المغرب سنة عشر وثلاثمائة، وعقد له على حرب محمد بن خزر وقومه، فأجفلوا إلى الصحراء، واتبع آثارهم إلى ملوية فلحقوا بسجلماسة وعطف أبو القاسم على المغرب فدوّخ أقطاره وجال في نواحيه وجدّد لابن أبي العافية على عمله ورجع ولم يلق كيدا. (ثم إنّ الناصر) صاحب قرطبة سما له أمل في ملك العدوة، فخاطب ملوك الأدارسة وزناتة، وبعث إليهم خالصته محمد بن عبيد الله بن أبي عيسى سنة ستة عشر وثلاثمائة فبادر محمد بن خزر إلى إجابته وطرد أولياء الشيعة من الزاب. وملك شلب وتنس من أيديهم، وملك وهران وولّى عليها ابنه المنير [2] ، وبثّ دعوة الأموية في أعمال المغرب الأوسط ما عدا تاهرت. وبدأ في القيام بدعوة الأموية إدريس بن إبراهيم   [1] تازة: مدينة متوسطة من أقدم المدن المغربية، تقع وسط قبيلة غياثة في منتصف الطريق بين مكناس ووجدة في موقع جبلي ممتاز بين الأطلس المتوسط وجبال الريف في ممر استراتيجي عظيم بين الغرب الشرقي وسهول فاس (كتاب المغرب ص 74) . [2] وفي نسخة ثانية: الخير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 بن عيسى بن محمد بن سليمان صاحب أرشكول. ثم فتح الناصر سبتة سنة سبع عشرة وثلاثمائة من يد الأدارسة وأجار موسى بن أبي العالية على طاعته، واتصلت يده بمحمد بن خزر وتظاهروا على الشيعة وخالف فلفول بن خزر أخاه محمد إلى طاعة الشيعة، وعقد له عبد الله على مغراوة. وزحف إلى المغرب حميد بن يصل [1] سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في عساكر كتامة الى عبد الله على تاهرت فانتهى الى فاس وأجفلت أمامه ظواعن زناتة ومكناسة ودوّخ المغرب. وزحف من بعده ميسور الخصيّ سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فحاصر فاس وامتنعت عليه ورجع. ثم انتقض حميد بن يصل سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وتحيّز إلى محمد بن خزر. ثم أجاز إلى الناصر وولّاه على المغرب الأوسط. ثم شغل الشيعة بفتنة أبي يزيد وعظمت آثار محمد بن خزر وقومه من مغراوة، وزحفوا إلى تاهرت مع حميد بن يصل قائد الأموية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وزحف معه الخير بن محمد وأخوه حمزة وعمّه عبد الله بن خزر، ومعهم يعلى بن محمد في قومه بني يفرن، وأخذوا تاهرت عنوة وقتلوا عبد الله بن بكّار، وأسروا قائدها ميسور الخصيّ بعد أن قتل حمزة بن محمد بن خزر في حروبها. وكان محمد بن خزر وقومه زحفوا قبل ذلك إلى بسكرة ففتحوا وقتلوا زيدان الخصيّ. ولما خرج إسماعيل من حصار أبي يزيد وزحف إلى المغرب في اتباعه خشية محمد بن خزر على نفسه لما سلف منه في نقض دعوتهم وقتل أتباعهم، فبعث إليه بطاعة معروفة وأوعز إليه إسماعيل بطلب أبي يزيد ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال. وكان أخوه معبد بن خزر في موالاة أبي يزيد إلى أن هلك. وتقبّض إسماعيل بعد ذلك على على معبد سنة أربعين وثلاثمائة وقتله، ونصب رأسه بالقيروان. ولم يزل محمد بن خزر وابنه الخير متغلّبا على المغرب الأوسط، ومقاسما فيها ليعلى بن محمد. ووفد فتوح بن الخير سنة أربعين وثلاثمائة على الناصر مع مشيخة تاهرت ووهران فأجازهم وصرفهم إلى أعمالهم. ثم حدثت الفتنة بين مغراوة وصنهاجة وشغل محمد بن الخير وابنه خزر بحروبهم، وتغلّب يعلى بن محمد على وهران وخرّبها وعقد الناصر لمحمد بن يصل على تلمسان   [1] هو حميد بن يصليتن الكتامي وقد زحف في عشرين ألف فارس (قبائل المغرب 120) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 وأعمالها، وليعلى بن محمد على المغرب وأعماله، فراجع محمد بن خزر طاعة الشيعة من أجل قريعة يعلى بن محمد. ووفد على المعز بعد مهلك أبيه إسماعيل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة فأولاه تكرمة وتمّ على طاعتهم إلى أن حضر مع جوهر في غزاته إلى المغرب بأعوام سبع أو ثمان وأربعين وثلاثمائة ثم وفد على المعز بعد ذلك سنة خمسين وثلاثمائة، وهلك بالقيروان، وقد نيف على المائة من السنين. وهلك الناصر المرواني عامئذ على حين انتشرت دعوة الشيعة بالمغرب وانقبض أولياء الأموية إلى أعمال سبتة وطنجة فقام بعده ابنه الحكم المستنصر، واستأنف مخاطبة ملوك العدوة فأجابه محمد بن الخير ابن محمد بن خزر بما كان من أبيه الخير وجدّه محمد في ولاية الناصر، والولاية التي لبني أمية على آل خزر بوصية عثمان بن عفّان لصولات بن وزمار جدّهم كما ذكرناه. فاثخن في الشيعة ودوّخ بلادهم. ورماه معدّ بقرينة [1] زيري بن مناد أمير صنهاجة فعقد له على حرب زناتة وسوّغه ما غلب عليه من أعمالهم، وجمعوا للحرب سنة ستين ومائتين فلقي بلكّين بن زيري جموعهم بدسيسة من بعض أولياء محمد بن الخير قبل أن يستكمل تعبيتهم، فأبلى منهم ثباتا وصبرا واشتدّت الحرب بينهم وانهزمت زناتة، حتى إذا رأى محمد بن الخير أن قد أحيط به انتبذ إلى ناحية من العسكر وذبح نفسه. واستمرّت الهزيمة على قومه ووجد منهم في المعركة سبعة عشر أميرا سوى الأتباع. وتحيز كلّ إلى فريقه. وولى بعد محمد في مغراوة ابنه الخير وأغرى بلكّين بن زيري الخليفة معدّ وجندل بن جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب بموالاة محمد [2] بن الخير فاستراب جعفر وبعث عنه معدّ لولاية إفريقية حتى اعتزم على الرحيل إلى القاهرة، فاشتدّت استرابته ولحق بالخير بن محمد وقومه. وزحفوا إلى صنهاجة فأتيحت لهم الكرّة وأصيب زيري بن مناد كبير العصابة، وبعثوا برأسه إلى قرطبة في وفد من وجوه بني خزر مع يحيى بن عليّ أخي جعفر. ثم استراب بعدها جعفر من زناتة ولحق بأخيه يحيى، ونزلوا على الحكم وعقد معه لبلكّين بن زيري على حرب زناتة وأمدّه بالأموال والعساكر، وسوّغه ما تغلّب عليه من أعمالهم، فنهض إلى المغرب سنة إحدى وستين ومائتين وأوغر بالبرابرة منهم وتقرى أعمال طبنة وباغاية والمسيلة وبسكرة   [1] وفي نسخة ثانية: قريعة. [2] وفي نسخة ثانية: حمد بن الخير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 وأجفلت زناتة أمامه. وتقدّم إلى تاهرت فمحا من المغرب الأوسط آثار زناتة، ولحق بالمغرب الأقصى. واتبع بلكّين آثار الخير بن محمد وقومه إلى سجلماسة، فأوقع بهم وتقبّض عليهم، فقتله صبرا وفضّ جموعهم، ودوّخ المغرب وانكف راجعا، ومرّ بالمغرب الأوسط فالتحم بوادي زناتة ومن إليهم من المصاصين [1] ورفع الأمان على كل من ركب فرسا أو أنتج خيلا من سائر البربر. ونذر دماءهم فأقفر المغرب الأوسط من زناتة وصار إلى ما وراء ملوية من بلاد المغرب الأقصى إلى أن كان من رجوع بني يعلى بن محمد إلى تلمسان وملكهم إياها، ثم هلك بنو خزر بسجلماسة وطرابلس، وملك بني زيري ابن عطية بفاس ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: الخصّاصين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 (الخبر عن آل زيري بن عطية ملوك فاس وأعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة وما كان لهم بالمغرب الأقصى من الملك والدولة ومبادئ ذلك وتصاريفه) كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته، ووارث ملكهم البدوي، وهو الّذي مهّد الدولة بفاس والمغرب الأقصى وأورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي في شرحه. واسمه زيري بن عطية بن عبد الرحمن بن خزر وجدّه عبد الله أخو محمد داعية الناصر الّذي هلك بالقيروان كما ذكرناه. وكانوا أربعة إخوة محمد ومعبد الّذي قتله إسماعيل وفلفول الّذي خالف محمدا إلى ولاية الشيعة وعبد الله هذا وكان يعرف بأمه واسمها تبادلت. وقد قيل إنّ عبد الله هذا هو ابن محمد بن خزر، وأخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند فتح تاهرت. ولما هلك الخير بن محمد كما قلناه بيد بلكّين سنة إحدى وستين وثلاثمائة وارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى، وصار المغرب الأوسط كلّه لصنهاجة، واجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر وأمراؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور ومقاتل وزيري ابنا مقاتل بن عطية بن عبد الله وخزرون بن فلفول. ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكّين بن زيري على إفريقية، وزحف إلى المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع وستين وثلاثمائة وأجفلت أمامه ملوك زناتة من بني خزر وبني محمد بن صالح، وانحازوا جميعا إلى سبتة. وأجاز محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا، فخرج المنصور في عساكره إلى الجزيرة ممدّا لهم بنفسه. وعقد لجعفر بن علي على حرب بلكّين، وأجازه البحر وأمدّه بمائة حمل من المال، فاجتمعت إليه ملوك زناتة وضربوا مصافهم بساحة سبتة. وأطلّ عليهم بلكين من جبل تطاون [1] فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم، وأشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن هلك منصرفا من المغرب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة كما ذكرناه. وعاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة، وساهمه المنصور في حمل الرئاسة وبقي   [1] تطوان: قبائل المغرب/ 140. وفي نسخة أخرى تيطاوين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 المغرب غفلا من الولاية، واقتصر المنصور على ضبط سبتة ووكّل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة وسائر أولياء الشيعة. وقام يبلو طاعنتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة، بعثه العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب، وأمدّه بلكين بعسكر من صنهاجة وهلك على تفيئة ذلك بلكّين، ودعا الحسن إلى أمره بالمغرب، وانضمّ إليه بدوي [1] بن يعلى بن محمد اليفرني وأخوه زيري وابن عمه أبو يداس فيمن إليهم من بني يفرن، فسرّح المنصور لحربه ابن عمّه أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقّب عسكلاجه، وبعثه بالعساكر والأموال فأجاز البحر وانحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير، ومقاتل وزيري ابنا عطية، وخزرون بن فلفول في جميع مغراوة، وظاهروه على شأنه. وزحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى ألجئوه إلى الطاعة، وسأل الأمان على نفسه فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من ذلك، وأمكن به من قياده، وأشخصه إلى الحضرة فكان من قتله وإخفار ذمّة أبي الحكم بن أبي عامر وقتله بعده ما تقدّم حسبما ذكرنا ذلك من قبل. وكان مقاتل وزيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشدّ الناس انحياشا للمنصور قياما بطاعة المروانية. وكان بدوي بن يعلى وقومه بنو يفرن منحرفين عن طاعتهم. ولما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر من المغرب عقد المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد ابن عبد الودود السلمي وأطلق يده في انتقاء الرجال والأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست وسبعين وثلاثمائة وأوصاه بملوك مغراوة من زناتة، واستبلغ بمقاتل وزيري من بنيهم لحسن انحياشهم وطاعتهم، وأغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد المراوغة، فنفذ لعمله ونزل بفاس، وضبط أعمال المغرب، واجتمعت إليه ملوك زناتة. وهلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة واستقلّ برياسة الظواعن البدو من مغراوة إخوة زيري بن عطية، وحسنت مخاللته لابن عبد الودود صاحب المغرب وانحياشه بقومه إليه. واستدعاه المنصور من محله بفاس سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة إشادة بتكريمه وأغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته في الحظ وإيثار الطاعة فبادر   [1] يدو بن يعلى اليغرني:/ قبائل المغرب/ 121. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 إلى إجابته بعد ان استخلف على المغرب. ابنه المعزّ، وأنزله بتلمسان ثغر المغرب وولّى على عدوة القرويين من فاس علي بن محمود بن أبي عليّ قشوش، وعلى عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة. وقدّم بين يديه هدية إلى المنصور، ووفد عليه فاستقبله بالجيوش والعدّة واحتفل للقائه، وأوسع نزله وجرايته ونوّه باسمه في الوزارة وأقطعه رزقها. وأثبت رجاله في الديوان ووصله بقيمة هديّته وأسنى فيها. وأعظم جائزته وجائزة وفده وعجّل تسريحه إلى عمله فقفل إلى إمارته من المغرب. ونمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط [1] المعروف وإنكار الصنيع، والاستنكاف من لقب الوزارة الّذي نوّه به، حتى أنه قال لبعض حشمه، وقد دعاه بالوزير: وزير من يا لكع [2] فما والله إلا أمير ابن أمير، وا عجبا من ابن أبي عامر ومخرقته [3] ، والله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله، وإن له منّا ليوما، والله لقد تأجّرني فيما أهديت إليه حطا للقيم، ثم غالطني بما بذله تنبيتا للكرم، إلّا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطّني بها عن رتبتي. ونمي ذلك إلى ابن أبي عامر فصرّ عليها أذنه وزاد في اصطناعه، وبعث بدوي بن يعلى اليفرني قريعة في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته وقال: متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد للبياطرة. وأخذ في إفساد السابلة والاجلاب على الأحياء والعيث في العمالة، فأوعز المنصور إلى عامله بالمغرب الوزير حسن بن عبد الودود بنبذ العهد إليه، ومظاهرة عدوّه زيري بن عطية عليه، فجمعوا له سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ولقوة فكانت الدائرة عليهم، وتخرّم العسكر وأثبت [4] الوزير ابن عبد الودود جراحة كان فيها حتفه. وبلغ الخبر إلى المنصور فشقّ عليه وأهمه شأن المغرب، وعقد عليه لوقته لزيري بن عطية، وكتب إليه بعهده وأمر بضبط المغرب ومكانفة [5] جند السلطان وأصحاب حسن بن عبد الودود، فاطلع بأعبائه وأحسن الغناء في عمله.   [1] غمط: احتقره وازدرى به. [2] بمعنى أحمق. [3] لعله ينوي خرقه: أي حمقه وسوء تصرّفه. [4] وفي نسخة أخرى: أثبتت. ويقال طعنه فاثبت فيه الرمح أي أنفذه، وضربوه حتى أثبتوه: أي أثخنوه (القاموس) . [5] بمعنى المحافظة على جند السلطان وفي نسخة أخرى: مكاتبة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 واستفحل شأن بدوي بن يعلى وبني يفرن، واستغلظوا على زيري بن عطية وأصلوه نار الفتنة، وكانت حروبهم سجالا، وسئمت الرعايا بفاس كثرة تعاقبهم عليها وانتزاؤهم على عملها. وبعث الله لزيري بن عطية ومغراوة مددا من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان انتقض على ابن أخيه منصور بن بلكّين صاحب القيروان وإفريقية، ونزع عن دعوة الشيعة إلى المروانية. واقتفى أثره في ذلك خلّوف بن أبي بكر صاحب تاهرت وأخوه عطية لصهر كان بينهما وبين زيري، فاقتسموا [1] أعمال المغرب الأوسط ما بين الزاب وأنشريس [2] ووهران، وخطبوا في سائر منابرها باسم هشام المؤيّد، وخاطب أبو البهار من وراء البحر محمد بن أبي عامر، وأوفد عليه أبا بكر بن أخيه حبّوس بن زيري في طائفة من أهل بيته ووجوه قومه، فاستقبلوا بالجيش ولقاه رحبا وتسهيلا، وأعظم موصله وأسنى جوائز وفده وصلاتهم، وأنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسمائة قطعة من صنوف الثياب الخز والعبيد، وما قيمته عشرة آلاف درهم من الآنية والحلي، وبخمسة وعشرين ألفا من الدنانير، ودعاه إلى مظاهرة زيري بن عطيّة على بدوي بن يعلى، وقسّم بينهما أعمال المغرب شق الأبلمة حتى لقد اقتسما مدينة فاس عدوة بعد عدوة، فلم يرع ذلك بدوي ولا وزعه عن شأنه من الفتنة والاجلاب على البدو والحاضرة، وشق عصا الجماعة. وانتقض خلّوف بن أبي بكر على المنصور لوقته، وراجع ولاية المنصور بن بلكّين. ومرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة التي بينهما، وقعد عمّا قام له زيري بن عطية من حرب خلّوف بن أبي بكر، وأوقع به زيري في رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة واستلحمه وكثيرا من أوليائه، واستولى على عسكره، وانحاش إليه عامّة أصحابه. وفرّ عطية شريدا إلى الصحراء، ثم نهض على أثرها لبدوي بن يعلى وقومه فكانت بينهم لقاءات انكشف فيها أصحاب بدوي واستلحم منهم زهاء ثلاثة آلاف، واكتسح معسكره وسبيت حرمه التي كانت منهنّ أمّه وأخته، وتحيّز سائر أصحابه إلى فئة زيري وخرج شريدا إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن عمّه أبو يدّاس بن دوناس كما ذكرناه، وورد خبر الفتحين متعاقبين على المنصور فعظم موقعهما لديه. وقد قيل إنّ مقتل بدوي إنّما كان عند إياب زيري من الوفادة، وذلك أنه لما استقدمه المنصور   [1] وفي نسخة أخرى: فاقتطعوا. [2] جبال ونشريس: قبائل المغرب/ 121. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 ووفد عليه كما ذكرناه، خالفه بدوي إلى فاس فملكها وقتل من مغراوة خلقا واستمكن بها أمره. فلمّا رجع زيري من وفادته امتنع بها بدوي فنازله زيري وطال الحصار وهلك من الفريقين خلق. ثم اقتحمها عليه عنوة وبعث برأسه إلى سدّة الخلافة بقرطبة. إلا أن راوي هذا الخبر يجعل وفادة زيري على المنصور وقتله لبدوي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة [1] فاللَّه أعلم أيّ ذلك كان. (ثم إنّ زيري) فسد ما بينه وبين أبي البهار الصنهاجي وتزاحفا فأوقع به زيري وانهزم أبو البهار إلى سبتة موريا بالعبور إلى المنصور فبادر بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقّيه فحاد عن لقائه. وصاعد إلى قلعة جراوة، وقد قدم الرسل إلى ابن أخيه المنصور صاحب القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما. ثم تحيّز إليه وعاد إلى مكانه من عمله، وخلع ما تمسّك به من طاعة الأموية وراجع طاعة الشيعة فجمع المنصور لزيري بن عطيّة أعمال المغرب. واستكفى به في سدّ الثغر وعوّل عليه من بين ملوك المغرب في الذبّ عن الدعوة، وعهد إليه بمناجزة أبي البهار وزحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة وحشود البربر وفرّ أمامه، ولحق بالقيروان. واستولى زيري على تلمسان وسائر أعمال أبي البهار. وملك ما بين السوس الأقصى والزاب فاتسع ملكه وانبسط سلطانه واشتدّت شوكته، وكتب بالفتح إلى المنصور بمائتين من الخيل وخمسين جملا من المهاري السبق، وألف درقة من جلود اللمط وأحمال من قسي الزان وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره، وألف حمل من التمر وأحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة، فجدّد له عهده على المغرب سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطينهم. واستفحل أمر زيري بالمغرب ودفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا، واختط مدينة وجدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وأنزلها عساكره وحشمه، واستعمل عليها ذويه، ونقل إليها ذخيرته، وأعدّها معتصما، وكانت ثغرا للعمالتين المغرب الأقصى والأوسط. (ثم فسد) ما بينه وبين المنصور بما نمي عنه من التألف لهشام باستبداد المنصور عليه   [1] كذا في قبائل المغرب سنة 383 هـ./ ص 121. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 فسامه المنصور الهضيمة. وأبى منها، وبعث كاتبه ابن القطاع في العساكر، فاستعصى عليه وأمكنه صاحب قلعة حجر النسر منها، فأشخصه إلى الحضرة. وأحسن إليه المنصور وسمّاه الناصح، وكشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي عامر والإغراء به والتشيّع لهشام المؤيّد والامتعاض له من هضيمته وحجره، فسخطه عند ابن أبي عامر وقطع عنه رزق الوزارة، ومحى اسمه من ديوانه ونادى بالبراءة منه. وعقد لواضح مولاه على المغرب وعلى حرب زيري بن عطية، وانتقى له الحماة من سائر الطبقات، وأزاح عللهم وأمكنه من الأموال للنفقات وأحمال السلاح والكسى، وأصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة، منهم: محمد بن الخير ابن محمد بن الخير وزيري بن خزر وابن عمهما بكساس بن سيّد الناس. ومن بني يفرن أبو بخت [1] بن عبد الله بن بكار. ومن مكناسة إسماعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله بن مدين، ومن أزداجة خزرون بن محمد وأمدّه بوجوه الجند. وفصل من الحضرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وسار في التعبية وأجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ردات [2] وزحف زيري بن عطيّة في قومه، فعسكر إزاءه وتواقفا ثلاثة أشهر، واتهم واضح رجالات بني مرزال بالادهان فأشخصهم إلى الحضرة وأغرى بهم المنصور فوبّخهم وتنصّلوا فصفح عنهم، وبعثهم في غير ذلك الوجه. ثم تناول واضح حصن أصيلا ونكّور فضبطهما واتصلت الوقائع بينه وبين زيري، وبيّت واضح معسكر زيري بنواحي أصيلا وهم غارّون [3] فأوقع بهم وخرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف أحوال واضح وإمداده، فسار في التعبية واحتلّ بالجزيرة عند فرضة المجاز، ثم بعث عن ابنه المظفّر من مكان استخلافه بالزاهرة، وأجاز إلى العدوة واستكمل معه أكابر أهل الخدمة وجلّة القواد. وقفل المنصور الى قرطبة واستراع [4] خبر عبد الملك بالمغرب ورجع إليه عامّة أصحاب زيري من ملوك البربر وتناولهم من إحسانه وبرّه ما لم يعهدوا مثله. وزحف عبد الملك الى طنجة واجتمع مع واضح، وتلوم هناك مزيحا لعلل العسكر، فلما   [1] وفي نسخة أخرى: ابو نوبخت. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: وادي ركاب. [3] بمعنى (مغيرون) . [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: استذاع بمعنى ذاع وهذه من التعابير التي يستعملها ابن خلدون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 استتم تدبيره زحف في جمع لا كفاء له. فلقيه زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوّال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فدارت بينهم حروب شديدة. وهمّ [1] فيها أصحاب عبد الملك وثبت هو. وبينهما هم في حومة الحرب إذ طعن زيري بعض الموثورين من أتباعه اهتبل الغرّة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره أشواه بها، ومرّ يشتدّ نحو المظفّر، وبشرّه فاستكذبه لثبوت رايته ثم سقط إليه الصحيح فشدّ عليهم فاستوت الهزيمة وأثخن فيه بالقتل، واستولى على ما كان في عسكرهم مما يذهب فيه الوصف. ولحق زيري بفاس جريحا في قلّة، فامتنع عليه أهلها ودافعوه بحرمة، فاحتملهنّ وفرّ أمام العساكر إلى الصحراء، وأسلم جميع أعماله. وطيّر عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده وأعلن بالشكر للَّه والدعاء وبثّ الصدقات وأعتق الموالي، وكتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب فأصلح نواحيه وسدّ ثغوره، وبعث العمّال في جهاته: فأنفذ محمد بن الحسن بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا [2] واستعمل حميد بن يصل المكناسي [3] على سجلماسة فخرج كل لوجهه، واقتضوا الطاعة وحملوا إليه الخراج، وأقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وعقد على المغرب لواضح فضبطه واستقام على تدبيره. ثم عزله في رمضان من سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى، ثم ولّى عليه من بعده إسماعيل بن البوري، ثم من بعده أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبيّ إلى أن هلك المنصور. وأعاد المظفّر بن المعز بن زيري من منتبذه بالمغرب الأوسط لولاية أبيه بالمغرب فنزل فاس، وكان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته وهزيمة عبد الملك إيّاه، واجتمع إليه بالصحراء فلّ مغراوة، وبلغه اضطراب صنهاجة واختلافهم على باديس بن المنصور بعد مهلك أبيه، وأنه خرج عليه بعد عمومته مع ماكسن بن زيري، فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة ينتهز فيها الفرصة. واقتحم المغرب الأوسط ونازل تاهرت وحاصر بها يطوّفت بن بلكّين. وخرج باديس من القيروان صريخا له. فلمّا مرّ بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون وخالفه إلى إفريقية فشغل بحربة. وكان   [1] همّ بالشيء: عزم عليه وقصد فعله ولم يعمله. [2] تادلا: مركز فلاحي عسكري يبلغ ارتفاعه عن سطح البحر 500 م على الضفة اليمنى لوادي أم الربيع يقع وسط ناحية اشتهرت بتربية الأغنام وبجودة الأصناف (كتاب الغرب/ 72) . [3] هو حميد بن يصلتين الكتامي (قبائل الغرب 120) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 أبو سعيد بن خزرون لحق بإفريقية وولّاه المنصور على طبنة كما نذكره، فلما انتقض سار إليه باديس ودفع حمّاد بن بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي ميناس قرب تاهرت، فكانت الدبرة على صنهاجة، واحتوى زيري على معسكرهم واستلحم ألوفا منهم. وفتح مدينة تاهرت وتلمسان وشلف وتنس والمسيلة، وأقام الدعوة فيها كلّها للمؤيد هشام ولحاجبه المنصور من بعده. ثم اتّبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم، فأناخ عليها واستأمن إليه زاوي بن زيري ومن معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه ما سأل، وكتب إلى المنصور بذلك يسترضيه ويشترط على نفسه الرهن والاستقامة إن أعيد إلى الولاية، ويستأذنه في قدوم زاوي وأخيه خلّال، فأذن لهما وقدما سنة تسعين وثلاثمائة، وسأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك، وأنفذ رسله يذكر تقديمه فسوّفه المنصور لما سبق من نكثه. واعتلّ زيري بن عطيّة وهو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها. وهلك في منصرفه سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة واجتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعزّ بن زيري فبايعوه، وضبط أمرهم وأقصر عن محاربة صنهاجة ثم استجدى للمنصور واعتلق بالدعوة العامريّة وصلحت حاله عندهم، وهلك المنصور خلال ذلك ورغب المعز من ابنه عبد الملك المظفّر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله إليه وعلى أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك وكتب له عهده وأنفذ به وزيره أبا علي بن خديم [1] (ونسخته) : بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله علي سيدنا محمد وآله من الحاجب المظفّر سيف الدولة دولة الامام الخليفة هشام المؤيد باللَّه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة مدنيّي فاس وكافة أهل المغرب سلّمهم الله أمّا بعد أصلح الله شأنكم وسلّم أنفسكم وأديانكم، فالحمد للَّه علّام الغيوب وغفّار الذنوب ومقلّب القلوب ذي البطش الشديد المبدئ المعيد الفعّال لما يريد، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، بل له الملك والأمر، وبيده الخير والشرّ، إيّاه نعبد وإيّاه نستعين، وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون. وصلى الله على سيّدنا محمد سيّد المرسلين وعلى آله الطيبين، وجميع الأنبياء والمرسلين والسلام عليكم أجمعين.   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: علي بن جدلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 وإن المعزّ بن زيري بن عطيّة أكرمه الله تابع رسله لدينا وكتبه متنصّلا من هنات دفعته إليها ضرورات، ومستغفرا من سيئات حطتها من توبته حسنات، والتوبة محاء الذنب، والاستغفار منقذ من العيب [1] . وإذا أذن الله بشيء يسرّه، وعسى أن تكرهوا شيئا ولكم فيه خير. وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة، ولزوم الجادة، واعتقاد الاستقامة وحسن المعونة وخفة المؤنة، فولّيناه ما قبلكم، وعهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم، وأن يرفع أعمال الجور عنكم. وأن يعمّر سبلكم، وأن يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلّا في حدود الله تبارك وتعالى. وأشهدنا الله عليه بذلك وكفى باللَّه شهيدا. وقد وجّهنا الوزير أبا علي بن خديم أكرمه الله وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ بشأنه ويؤكد العهد فيه عليه بذلك، وأمرناه بإشراككم فيه ونحن بأمركم معتنون وأحوالكم مطالعون، وأن يقضي على الأعلى للأدنى، ولا يرتضي فيكم بشيء من الأدنى فثقوا بذلك وأسكنوا إليه وليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدودا ظهره بنا، معقودا سلطانه بسلطاننا، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فذلك طبنا به إذ ولّيناه، وأملنا فيه إذ قلّدناه، والله المستعان، وعليه التكلان، لا إله إلّا هو، وتبلغوا منا سلاما طيبا جزيلا ورحمة الله وبركاته كتب في ذي القعدة من سنة ست وتسعين وثلاثمائة. (ولما وصل) إلى المعز بن زيري عهد المظفّر بولايته على المغرب ما عدا كورة سجلماسة، فإنّ واضحا مولى المنصور عهد في ولايته على المغرب بها لواندين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكره، فلم تدخل في ولاية المعز هذه. فلمّا وصله عهد المظفّر ضمّ نشره [2] وثاب إليه نشاطه، وبثّ عمّاله في جميع كور المغرب وجبى خراجها، ولم تزل ولايته متسقة، وطاعة رعاياه منتظمة. (ولما) افترق أمر الجماعة بالأندلس واختلّ رسم الخلافة وصار الأمر فيها طوائف استحدث المعزّ في التغلّب على سجلماسة وانتزاعها من أيدي بني واندين بن خزرون فأجمع لذلك، ونهض إليه سنة سبع وأربعمائة وبرزوا إليه في جموعهم فهزموه، ورجع إلى فاس في فلّ من قومه وأقام على الاضطراب من أمره إلى أن هلك سنة سبع عشرة وأربعمائة وولي من بعده ابن عمه حمامة بن المعز بن عطية، وليس كما يزعم   [1] وفي نسخة ثانية: العتب. [2] النشر: القوم المتفرقون لا يجمعهم رئيس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 بعض المؤرخين انه ابنه وإنما هو اتفاق في الأسماء أوجب هذا الغلط، فاستولى حمامة هذا على عملهم واستفحل ملكه، وقصده الأمراء والعلماء وأتته الوفود ومدحه الشعراء ثم نازعه الأمر أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني سنة أربع وعشرين وأربعمائة من بني يدوي بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا، وزحف إلى فاس في قبائل بني يفرن ومن انضاف إليهم من زناتة. وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم حروب شديدة أجلت عن هزيمة حمامة. ومات من مغراوة أمم واستولى تميم على فاس وأمال المغرب، ولما دخل فاس استباح يهود وسبى حرمهم واصطلم نعمتهم، ولحق حمامة بوجدة فامتدّ من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونة وملوية. وزحف إلى فاس فدخلها سنة تسع وعشرين وأربعمائة وتحيّز تميم إلى موضع إمارته من سلا وأقام حمامة في سلطان المغرب. وزحف إليه سنة ثلاثين وأربعمائة القائد ابن حمّاد صاحب القلعة في جموع صنهاجة، وخرج إليه مجمعا حربه، وبثّ القائد عطاءه في زناتة واستعبدهم [1] على صاحبهم حمامة، فأقصر عن لقائه ولاذ منه بالسلم والطاعة، رجع القائد عنه ورجع هو إلى فاس. وهلك سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة فولّي بعده ابنه دوناس ويكنّى أبا العطاف، واستولى على فاس وسائر عمل أبيه، وخرج عليه لأوّل أمره حمّاد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب ووقائع، وكثرت جموع حمّاد فغلب دوناس على الضواحي وأحجره بمدينة فاس وخندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد، وقطع حمّاد جرية الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصرا لها سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فاستقامت دولة دوناس، وانفسحت أيامه، وكثر العمران ببلده، واحتفل في تشييد المصانع وأدار السور على أرباضها، وبنى بها الحمامات والفنادق فاستبحر عمرانها ورحل التجّار إليها بالبضائع، وهلك دوناس سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فولي بعده ابنه الفتوح ونزل بعدوة الأندلس ونازعه الأمر أخوه الأصغر عجيسة وامتنع بعدوة القرويين، وافترق أمره بافتراقهما وكانت الحرب بينهما سجالا، ومجالها بين المدينتين حيث يفضي باب النقبة بعدوة القرويين لهذا العهد، وشيّد الفتوح باب عدوة الأندلس وهو مسمّى به إلى الآن، واختطّ عجيسة   [1] وفي نسخة ثانية: واستفسرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 باب الجيسة وهو أيضا مسمّى به وإنما حذفت عينه لكثرة الاستعمال [1] وأقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة أخيه سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وبيّته فظفر به وقتله، ودهم المغرب أثر ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة، وخشي الفتوح مغبّة أحوالهم فأفرج عن فاس. وزحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حمّاد إلى المغرب سنة أربع وخمسين وأربعمائة على عادتهم في غزوة، ودخل فاس واحتمل من أكابرهم وأشرافهم رهنا على الطاعة، وقفل إلى قلعته. وولّى على المغرب بعد الفتوح معنصر بن حماد بن معنصر [2] ، وشغل بحروب لمتونة. وكانت له عليهم الوقعة المشهورة سنة خمس وخمسين وأربعمائة ولحق بضرية [3] وملك يوسف بن تاشفين والمرابطون، فاس وخلّف عليها عامله وارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى فاس وملكها وقتل العامل ومن معه من لمتونة، ومثّل بهم بالحرق والصلب. ثم زحف إلى مهدي ابن يوسف الكترنائي [4] صاحب مدينة مكناسة، وقد كان دخل في دعوة المرابطين فهزمه وقتله وبعث برأسه إلى سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة. وقد بلغ الخبر إلى يوسف بن تاشفين فسرّح عساكر المرابطين لحصار فاس فأخذوا بمخنقها، وقطعوا المرافق عنها حتى اشتدّ بأهلها الحصار ومسّهم الجهد. وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبرة عليه، وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين وأربعمائة وبايع أهل فاس من بعده لابنه تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء. وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى إذا كان سنة اثنتين وستين وأربعمائة وفرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما، ثم اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زنانة. وهلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مواراتهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات. وخلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان، وأمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين العدوتين وصيّرهما مصرا، وأدار عليهما سورا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من فاس والبقاء للَّه سبحانه وتعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: لكثرة الدوران في استعمالهم. [2] وفي نسخة ثانية: بن منصور. [3] وفي نسخة ثانية: ولحق بصدينة. [4] وفي نسخة ثانية: الكزنائي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 (الخبر عن بني خزرون ملوك سجلماسة من الطبقة الاولى من مغراوة وأولية ملكهم ومصائره) كان خزرون بن فلفول من أمراء مغراوة وأعيان بني خزر، ولما غلبهم بلكّين بن زيري على المغرب الأوسط تحيّزوا إلى المغرب الأقصى وراء ملويّة. وكان بنو خزر يدينون بالدعوة المروانية كما ذكرناه. وكان المنصور بن أبي عامر القائم بدولة المؤيد قد اقتصر لأوّل حجابته من أحوال العدوة على ضبط سبتة برجال الدولة ووجوه القوّاد وطبقات العسكر، ودفع ما وراءها إلى أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة. وعوّل في ضبط كورة وسداد ثغوره عليهم وتعهّدهم بالعطاء وأفاض فيهم الإحسان فازدلفوا إليه بوجوه التقرّبات وأسباب الوصائل. وكان خزرون بن فلفول هذا زحف يومئذ إلى سجلماسة وبها المعتز من أعقاب آل مدرار، فانتزى بها أخوه المنتصر بعد قفول جوهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 إلى المغرب وظفر بأميرهم الشاكر للَّه محمد بن الفتح، فوثب المنتصر من أعقابهم بعده على سجلماسة وتملّكها. ثم وثب به أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فقتله وقام بأمر سجلماسة، وأعاد بها ملك بني مدرار وتلقّب المعتز باللَّه فزحف إليه خزرون ابن فلفول سنة سبع وستين وثلاثمائة في جموع مغراوة وبرز إليه المعتز فهزمه خزرون واستولى على مدينة سجلماسة ومحا دولة آل مدرار والخوارج منها آخر الدهر، وأقام الدعوة بها للمؤيد هشام، فكانت أول دولة أقيمت للمروانيين بذلك الصقع، ووجد للمعتز مالا وسلاحا فاحتقنها وكتب بالفتح إلى هشام وأنفذ رأس المعتز فنصب بباب سدّته ونسب الأثر في ذلك الفتح لصحابة محمد بن أبي عامر ويمن طائره، وعقد لخزرون على سجلماسة وأعمالها، وجاءه عهد الخليفة بذلك فضبطها وقام بأمرها إلى أن هلك، فولي أمر سجلماسة من بعده ابنه وانودين. ثم كان زحف زيري بن مناد إلى المغرب الأقصى سنة تسع وستين وثلاثمائة وفرّت زناتة أمامه إلى سبتة. وملك أعمال المغرب وولّى عليها من قبله وحاصر سبتة. ثم أفرج عنها وشغل بجهاد برغواطة، وبلغه أن وانودين بن خزرون أغار على نواحي سجلماسة، وأنه دخلها عنوة وأخذ عامله وما كان معه من الأموال والذخيرة، فدخل إليها سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وفصل عنها فهلك في طريقه، ورجع وانودين بن خزون إلى سجلماسة. وفي أثناء ذلك كان استيلاء زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر على المغرب وملك فاس بعهد هشام. ثم انتقض على المنصور آخرا وأجاز ابنه عبد الملك في العساكر إلى العدوة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فغلب عليها بني خزر ونزل فاس، وبثّ العمّال في سائر نواحي المغرب لسدّ الثغور وجباية الخراج، وعقد فيما عقد على سجلماسة لحميد بن يصل المكناسي [1] النازع إليهم من أولياء الشيعة فعقد له على سجلماسة حين فرّ عنها بنو خزرون فملكها وأقام فيها الدعوة. ولما قفل عبد الملك إلى العدوة وأعاد واضحا إلى عمله بفاس، استأمن إليه كثير من بني خزر كان منهم وانودين بن خزرون صاحب سجلماسة وابن عمّه فلفول بن سعيد فأمّنهم، ثم رجع وانودين إلى علمه بسجلماسة بعد أن تضامن أمرها وانودين وفلفول بن سعيد على مال مفروض، وعدة من الخيل والدرق [2] يحملان إليه ذلك كلّ سنة. وأعطيا في ذلك   [1] حميد بن يصليتن الكتامي وقد مرّ معنا من قبل. [2] الدرق: ج درقة وهي الترس من الجلد ليس فيه خشب ولا عقب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 أبناءهما رهنا فعقد لهما واضح بذلك، واستقل وانودين بعد ذلك بملك سجلماسة منذ أول سنة تسعين وأربعمائة مقيما فيها للدعوة المروانية. ورجع المعز بن زيري إلى ولاية المغرب بعهد المظفّر بن أبي عامر سنة ست وتسعين وأربعمائة واستثنى عليه فيها أمر سجلماسة لمكان وانودين بها. ولما انتثر سلك الخلافة بقرطبة، وكان أمر الجماعة والطوائف واستبدّ أمراء الأمصار والثغور وولاة الأعمال بما في أيديهم، استبدّ وانودين هذا بأعمال سجلماسة وتغلّب على عمل درعة واستضافه إليه. ونهض المعز بن زيري صاحب فاس سنة سبع وأربعمائة مع جموع من مغراوة يحاول انتزاع هذه الأعمال من يد وانودين، فبرز إليه في جموعه وهزمه، وكان ذلك سببا في اضطراب أمر المعز إلى أن هلك، واستفحل ملك وانودين واستولى على صبرون [1] من أعمال فاس وعلى جميع قصور ملوية، وولّى عليها من أهل بيته. ثم هلك وولي أمره من بعده ابنه مسعود بن وانودين، ولم أقف على تاريخ ولايته ومهلك أبيه. (ولمّا) ظهر عبد الله بن ياسين واجتمع إليه المرابطون من لمتونة ومسوفة وسائر المتلثّمين، وافتتحوا أمرهم بغزو درعة سنة خمس وأربعين وأربعمائة فأغاروا على إبل كانت هناك في حمى لمسعود بن وانودين وقتل كما ذكرناه في أخبار لمتونة. ثم عاودوا الغزو إلى سجلماسة فدخلوها من العام المقبل مدخلوها، وقتلوا من كان بها من فلّ مغراوة. ثم تتبّعوا من بعد ذلك أعمال المغرب وبلاد سوس وجبال المصامدة، وافتتحوا صفروي سنة خمس وخمسين وأربعمائة وقتلوا من كان بها من أولاد وانودين وبقية مغراوة. ثم افتتحوا حصون ملوية سنة ثلاث وستين وأربعمائة وانقرض أمر بني وانودين كأن لم يكن، والبقاء للَّه وحده وكل شيء هالك إلّا وجهه، سبحانه وتعالى لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه، وهو على كل شيء قدير.   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: صفروي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 (الخبر عن ملوك طرابلس من بني خزرون بن فلفول من الطبقة الأولى وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم) كان مغراوة وبنو خزر ملوكهم قد تحيّزوا إلى المغرب الأقصى أمام بلكّين، ثم اتّبعهم سنة تسع وستين وثلاثمائة في زحفه المشهور، وأحجرهم بساحل [1] سبتة حتى بعثوا صريخهم إلى المنصور. وجاءهم إلى الجزيرة مشارفا لأحوالهم وأمدّهم بجعفر بن يحيى ومن كان معه من ملوك البربر وزناتة، فامتنعوا على بلكّين، ورجع عنهم فتقرى أعمال المغرب، وهلك في منصرفه سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ورجع أحياء مغراوة وبنو يفرن إلى مكانهم منه. وبعث المنصور الوزير حسن بن عبد الودود عاملا   [1] وفي نسخة أخرى: بساحة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 على المغرب، وقدم سنة ست وسبعين وثلاثمائة واختص مقاتلا وزيري ابني عطية بن عبد الله بن خزر بمزيد التكرمة، ولحق نظراؤهما من أهل بيتهما الغيرة من ذلك، فنزع سعيد بن خزرون بن فلفول بن خزر إلى صنهاجة سنة سبع وسبعين وثلاثمائه منحرفا عن طاعة الأموية. ووافى المنصور بن بلكّين بأشير منصرفه من إحدى غزواته، فتلقّاه بالقبول والمساهمة، وبالغ في تكرمته [1] وعقد له على عمل طبنة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وخرج للقائه، واحتفل في تكرمته ونزله. وأدركه الموت بالقيروان فهلك لسنته. ووفد ابنه فلفول من مكان عمله، فعقد له على عمل أبيه وخلع عليه، وزفّ إليه ابنته، وسوّغه ثلاثين حملا من المال، وثلاثين تختا من الثياب، وقرّب إليه مراكب بسروج مثقلة وأعطاه عشرة من البنود مذهّبة، وانصرف إلى عمله. وهلك المنصور بن بلكّين سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وولي ابنه باديس فعقد لفلفول على عمله بطبنة، ولما انتقض زيري بن عطيّة على المنصور بن أبي عامر، وسرّح إليه ابنه المظفّر كما قلناه، فغلبه على أعمال المغرب. ولحق زيري بالقفر، ثم عاج على المغرب الأوسط، ونازل ثغور صنهاجة، وحاصر تيهرت، وبها يطّوفت بن بلكّين. وزحف إليه حمّاد بن بلكّين من أشير في العساكر من تلكّانة، ومعه محمد بن أبي العرب قائد باديس، بعثه في عساكر صنهاجة من القيروان مددا ليطّوفت. وأوغر إلى فلفول وهو بأشير أن يكون معهم. ولقيهم زيري بن عطيّة ففضّ جموعهم، واستولى على معسكرهم، واضطربت إفريقية فتنة وتنكّرت صنهاجة لمن كان بجهاتها من قبائل زناتة. وخرج باديس بن المنصور من رقادة في العساكر إلى المغرب. ولمّا مرّ بطبنة استقدم فلفول بن سعيد بن خزرون ليستظهر به على حربه، فاستراب واعتذر عن الوصول. وسأل تجديد العهد إلى مقدّم السلطان فأسعف. ثم اشتدّت استرابته ومن كان معه من مغراوة فارتحلوا عن طبنة وتركوها. ولما أبعد باديس رجع فلفول إلى طبنة فعاث في نواحيها، ثم فعل في تيجس [2] كذلك، ثم حاصر باغاية. وانتهى باديس   [1] بياض بالأصل وفي نسخة ثانية: واستبلغ في ترك الإحن. [2] مدينة قديمة عتيقة كانت تسكنها قبيلة ورغروسة من القبائل البربرية ولعلّها تيجيساس التي وصفها مولييراس بأنها مدينة صغيرة جميلة ومرسى بحري وأنها محاطة بالحدائق الغناء (قبائل المغرب/ ص 307) (المغرب المجهول ج 2/ 256) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 إلى أشير وفرّ زيري بن عطيّة إلى صحراء المغرب ورجع على باديس بعد أن ولّى على تاهرت وأشير عمّه يطوفت بن بلكّين وانتهى إلى المسيلة فبلغه خروج عمومته ماكسن وزاوي وغرم ومغنين فخاف أبو البهار إحن زيري ولحق بهم من معسكره، وبعث باديس في أثرهم عمّه حمّاد بن بلكّين، ورحل هو إلى فلفول بن سعيد بعد أن كان سرّح عساكره إليه، وهو محاصر باغاية، فهزمهم وقتل قائدهم أبا رعبل [1] . ثم بلغه وصول باديس فأفرج عنها، واتبعه باديس إلى مرماجنّة، فتزاحفوا وقد اجتمع لفلفول من قبائل زناتة والبربر أمم، فلم يثبتوا للّقاء وانكشفوا عنه. وانهزم إلى جبل الحناش، ونزل القيطون بما فيه. وكتب باديس بالفتح إلى القيروان، وقد كان الإرجاف أخذ منهم المأخذ، وفرّ كثير منهم إلى المهديّة وشرعوا في عمل الدروب بما كانوا يتوقّعون من فلفول بن سعيد حين قتل أبا رعبل، وهزم جيوش صنهاجة، وكانت الواقعة آخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وانصرف باديس إلى القيروان، ثم بلغه ان أولاد زيري اجتمعوا مع فلفول بن سعيد وعاقدوه، ونزلوا جميعا فحصروا تبسة فخرج باديس من القيروان إليهم، فافترقوا ولحق العمومة بزيري بن عطية ما خلا ماكسن وابنه حسنا [2] ، فإنّهما أقاما مع فلفول. ورجع باديس في أثره سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وانتهى إلى بسكرة ففرّ فلفول إلى الرمال. وكان زيري بن عطية محاصرا لأشير أثناء هذه الفتنة، فأفرج عنها، ورجع عنها أبو البهار إلى باديس، وقفل معه إلى القيروان وتقدّم فلفول بن سعيد إلى نواحي قابس وطرابلس فاجتمع إليه من هنالك من زناتة، وملك طرابلس على ما نذكره. (وذلك) أنّ طرابلس كانت من أعمال مصر وكان العامل عليها بعد رحيل معدّ إلى القاهرة عبد الله بن يخلف الكتامي. ولما هلك معدّ رغب بلكّين من نزال العزيز إضافتها إلى عمله، فأسعفه بها، وولّى عليها تمصولة بن بكّار من خواصّ مواليه. نقله إليها من ولاية بونة، فلم يزل عليها إلى أن أرسل إلى الحاكم [3] بمصر يرغّب الكون في حضرته، وأن يتسلّم منه عمل طرابلس. وكان برجوان الصقلّي يستبد على   [1] وفي نسخة ثانية: أبا زعيل. [2] وفي نسخة ثانية: محسن. [3] وفي نسخة ثانية: فأقام عليها عشرين سنة إلى أيام باديس، فتنكّرت له الأحوال عما عهد، وبعث الى الحاكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 الدولة، وكان يغصّ بمكان يأنس الصقلي منها، فأبعده عن الحضرة لولاية برقة. ثم لمّا تتابعت رغبة تمصولة صاحب طرابلس، أشار برجوان ببعث يأنس إليها، فعقد له الحاكم عليها، وأمره بالنهوض إلى عملها فوصلها سنة تسعين وثلاثمائة ولحق تمصولة بمصر وبلغ الخبر إلى باديس، فسرّح القائد جعفر بن حبيب في العساكر ليصدّه عنها. وزحف إليه يأنس فكانت عليه الهزيمة وقتل. ولحق فتّوح بن علي من قوّاده بطرابلس، فامتنع بها ونازلة جعفر بن حبيب وأقام عليها مدّة. وبينما هو محاصر له إذ وصله كتاب يوسف بن عامر عامل قابس يذكر أن فلفول بن سعيد نزل على قابس، وأنه قاصد إلى طرابلس، فرحل جعفر عن البلد إلى ناحية الجبل، وجاء فلفول بن سعيد فنزل بمكانه، وضاقت الحال بجعفر وأصحابه فارتحلوا مصممين على المناجزة وقاصدين قابس، فتخلى فلفول عن طريقهم وانصرفوا الى قابس. وقدم فلفول مدينة طرابلس فتلقّاه أهلها، ونزل له فتوح بن علي عن إمارتها فملكها، وأوطنها من يومئذ وذلك سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وبعث بطاعته الى الحاكم فسرّح الحاكم يحيى بن علي بن حمدون، وعقد له على أعمال طرابلس وقابس، فوصل إلى طرابلس، وارتحل معه فلفول وفتوح بن علي بن غفيانان في عساكر زناتة إلى حصار قابس، فحاصروها مدّة ورجعوا إلى طرابلس. ثم رجع يحيى بن علي إلى مصر واستبدّ فلفول بعمل طرابلس، وطالت الفتنة بينه وبين باديس، ويئس من صريخ مصر فبعث بطاعته إلى المهدي محمد بن عبد الجبّار بقرطبة، وأوفد إليه رسله في الصريخ والمدد، وهلك فلفول قبل رجوعهم إليه سنة أربعمائة، واجتمعت زناتة إلى أخيه ورّوا بن سعيد. وزحف باديس إلى طرابلس وأجفل ورّوا ومن معه من زناتة عنها، ولحق بباديس من كان بها من الجند، فلقوه في طريقه، وتمادى إلى طرابلس فدخلها ونزل قصر فلفول، وبعث إليه وورّوا بن سعيد يسأل الأمان له ولقومه، فبعث إليه محمد بن حسن من صنائعه، فاستقدم وفدهم بأمانه فوصلهم، وولّى وورّوا على نفزاوة والنعيم ابن كنون على قسطيلية وشرط عليهم أن يرحلوا بقومهم عن أعمال طرابلس، فرجعوا إلى أصحابهم. وارتحل باديس إلى القيروان، وولّى على طرابلس محمد بن الحسن. ونزل ورّوا بنفزاوة والنعيم بقسطيلية. (ثم انتقض) ورّوا سنة إحدى وأربعمائة، ولحق بجبال ايدمر فتعاقدوا على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 الخلاف، واستضاف النعيم بن كنون نفزاوة إلى عمله. ورجع خزرون بن سعيد عن أخيه ورّوا إلى السلطان باديس، وقدم عليه بالقيروان سنة اثنتين وأربعمائة فتقبّله ووصله، وولّاه عمل أخيه نفزاوة، وولّى بني مجلية من قومه على قفصه، وصارت مدن الماء كلّها لزناتة، وزحف ورّوا بن سعيد فيمن معه من زناتة إلى طرابلس، وبرز إليه عاملها محمد بن حسن فتواقعوا ودارت بينهم حروب شديدة انهزم فيها ورّوا، وهلك الكثير من قومه. ثم راجع حصارها وضيّق على أهلها فبعث باديس إلى خزرون وأخيه وإلى النعيم بن كنون وأمراء الجريد من زناتة بأن يخرجوا لحرب صاحبهم، فخرجوا إليه وتواقعوا بعبرة [1] ما بين قابس وطرابلس، ثم اتفقوا ولحق أصحاب خزرون بأخيه ورّوا. ورجع خزرون إلى عمله واتّهمه السلطان بالمداهنة في شأن أخيه ورّوا. فاستقدمه من نفزاوة فاستراب وأظهر الخلاف وسرّح السلطان إليه فتوح بن أحمد في العساكر فأجفل عن عمله، واتبعه النعيم وسائر زناتة، ولحقوا جميعا بورّوا بن سعيد سنة أربع وأربعمائة وتظاهروا على الخلاف ونصبوا الحرب على مدينة طرابلس. واشتدّ فساد زناتة فقتل السلطان من كان عنده من رهن زناتة، واتفق وصول مقاتل ابن سعيد نازعا عن أخيه ورّوا في طائفة من أبنائه وأخواله [2] فقتلوا معهم جميعا، وشغل السلطان بحرب عمّه حمّاد. ولما غلبه بشلب سنته وانصرف إلى القيروان بعث إليه وورّوا بطاعته، ثم كان مهلك ورّوا سنة خمس وأربعمائة وانقسم قومه على ابنه خليفة وأخيه خزرون بن سعيد، واختلفت كلمتهم ودسّ حسن بن محمد عامل طرابلس في التصريف [3] بينهم. ثم صار أكثر زناتة إلى خليفة، وناجز عمّه خزرون الحرب فغلبه على القيطون وضبط زناتة، وقام فيهم بأمر أبيه وبعث بطاعته إلى السلطان باديس بمكانه من حصار القلعة فتقبّلها. ثم هلك باديس وولي ابنه المعزّ سنة ست وأربعمائة وانتقض خليفة بن ورّوا عليه، وكان أخوه حماد بن ورّوا يضرب على أعمال طرابلس وقابس، ويواصل عليه الغارة والنهب إلى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة فانتقض عبد الله بن حسن صاحب طرابلس على السلطان وأمكنه من طرابلس. وكان   [1] وفي نسخة ثانية: بصبرة. [2] وفي نسخة ثانية: إخوانه. [3] وفي نسخة ثانية: التضريب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 سبب ذلك أنّ المعز بن باديس لأوّل ولايته استقدم محمد بن حسن من عمله، واستخلف عليه أخاه عبد الله بن حسن وقدم على المعز وفوّض اليه أمر [1] مملكته، وأقام على ذلك سبعا، وتمكّنت حاله عند السلطان، وكثرت السعاية فيه فنكبه وقتله، وبلغ الخبر إلى أخيه فانتقض كما قلناه، وأمكن خليفة بن وورّوا وقومه من مدينة طرابلس، فقتلوا الصنهاجيين واستولوا عليها. ونزل خليفة بقصر عبد الله وأخرجه عنه، واستصفى أمواله وحرمه. واتصل ملك خليفة بن وروّا وقومه بني خزرون بطرابلس. وخاطب الخليفة بالقاهرة الظاهر بن الحكم سنة سبع عشرة وأربعمائة بالطاعة وضمان السابلة وتشييع الرّفاق، ويحفظ عهده على طرابلس فأجابه إلى ذلك، وانتظم في عمله. وأوفد في هذه السنة أخاه حمّادا على المعزّ بهديته فتقبلها وكافأه عليها. (هذا آخر ما حدّث به) ابن الرقيق من أخبارهم، ونقل ابن حمّاد وغيره أنّ المعزّ زحف أعوام ثلاثين وأربعمائة إلى زناتة بجهات طرابلس، فبرزوا إليه وهزموه. وقتلوا عبد الله بن حمّاد وسبوا أخته أم العلو بنت باديس، ومنّوا عليها بعد حين وأطلقوها إلى أخيها. ثم زحف إليهم ثانية فهزموه. ثم أتيحت له الكرّة عليهم فغلبهم وأذعنوا لسلطانه، واتّقوه بالمهادنة، فاستقام أمرهم على ذلك. وكان خزرون بن سعيد لما غلبه خليفة بن وروّا على إمارة زناتة لحق بمصر، فأقام فيها بدار الخلافة ونشأ بنوه بها، وكان منهم المنتصر بن خزرون وأخوه سعيد. ولما وقعت الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر وغلبهم الترك وأجلوهم عنها، لحق المنتصر وسعيد بطرابلس وأقاما في نواحيها. ثم ولي سعيد أمر طرابلس ولم يزل واليا عليها إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة، (وقال أبو محمد) التيجاني في رحلته عند ذكر طرابلس: ولما قتلت زغبة سعيد بن خزرون سنة تسع وعشرين وأربعمائة قدم خليفة بن خزرون من القيطون بقومه إلى ولايتها، فأمكنه منها رئيس الشورى وبها يومئذ من الفقهاء أبو الحسن بن المنتصر المشتهر بعلم الفرائض، وبايع له، وقام بها خزرون إلى سنة ثلاثين وأربعمائة بعدها فقام المنتصر بن خزرون في ربيع الأوّل منها، ومعه عساكر زناتة، ففرّ خزرون بن خليفة من طرابلس مختفيا، وملكها المنتصر بن خزرون، وأوقع بابن المنتصر ونفاه،   [1] وفي نسخة ثانية: تدبير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 واتصلت بها إمارته انتهى ما نقله التيجاني. (وهذا الخبر) مشكل من جهة أنّ زغبة من العرب الهلاليين وإنّما جاءوا إلى إفريقية من مصر بعد الأربعين من تلك المائة، فلا يكون وجودهم بطرابلس سنة تسع وعشرين وأربعمائة إلّا إن كان تقدّم بعض أحيائهم إلى إفريقية من قبل ذلك. فقد كان بنو مرّة ببرقة، بعثهم الحاكم مع يحيى بن علي بن حمدون. إلا أنّ ذلك لم ينقله أحد. ولم تزل طرابلس بأيدي بني خزرون الزناتيين ولما وصل العرب الهلاليون وغلبوا المعز بن باديس على أعمال إفريقية واقتسموها كانت قابس وطرابلس في قسمة زغبة، والبلد لبني خزرون. ثم استولى بنو سليم على الضاحية وغلبوا عليها زغبة ورحّلوهم عن تلك المواطن. ولم تزل البلد لبني خزرون. وزحف المنتصر بن خزرون مع بني عدي من قبائل هلال مجلبا على بني حمّاد حتى نزل المسيلة ونزل أشير. ثم خرج إليهم الناصر، ففرّ أمامه إلى الصحراء، ورجع إلى القلعة، فرجعوا إلى الاحلاف على أعماله، فراسله الناصر على الصلح وأقطعه ضواحي الزاب وريغة، وأوعز إلى عروس بن سندي رئيس بسكرة لعهده أن يمكر به، فلما وصل المنتصر إلى بسكرة أنزله عروس ثم قتله غيلة أعوام ستين وأربعمائة، وولي طرابلس آخر من بني خزرون لم يحضرني اسمه واختلّ ملك صنهاجة واتصل فيهم ملك تلك الأعمال إلى سنة أربعين وخمسمائة. ثم نزل بطرابلس ونواحيها في هذا العام مجاعة، وأصابهم منه شدّة هلك فيها الناس، وفرّوا عنها وظهر اختلال أحوالها وفناء حاميتها، فوجّه إليها رجار طاغية صقلّيّة أسطولا لحاصارها بعد استيلائه على المهديّة وصفاقس واستقرار ولايته فيهما، ووقع بين أهل طرابلس الخلاف فغلب عليهم جرجي بن ميخايل قائد الأسطول وملكها، وأخرج منها بني خزرون وولّى على البلد شيخهم أبا يحيى بن مطروح التميمي، فانقرض أمر بني خزرون منها. وبقي منهم من بقي بالضاحية إلى أن افتتح الموحدون إفريقية آخر الدولة الصنهاجية. والملك للَّه وحده يؤتيه من يشاء من عباده سبحانه لا إله غيره . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 الخبر عن بني يعلى ملوك تلمسان من آل خزر من أهل الطبقة الاولى والإلمام ببعض دولهم ومصائرها قد ذكرنا في أخبار محمد بن خزر وبنيه أنّ محمد بن الخير الّذي قتل نفسه في معركة بلكين كان من ولده الخير ويعلى. وأنهما اللذان ثأرا منه بأبيهما زيري فقتلوه واتبعهم بلكّين من بعد ذلك وأجلاهم إلى المغرب الأقصى حتى قتل منهم محمد صبرا أعوام ستين وثلاثمائة بنواحي سجلماسة قبل وصول معدّ إلى القاهرة، وولاية بلكّين على إفريقية وقام بأمر زناتة بعد الخير ابنه محمد، وعمه يعلى بن محمد. وتكرّرت إجازة محمد بن الخير هذا وعمه يعلى إلى المنصور بن أبي عامر كما ذكرنا ذلك من قبل. وغلبهم ابنا عطية بن عبد الله بن خزر وهما مقاتل وزيري على رياسة مغراوة. وهلك مقاتل واختصّ المنصور زيري بن عطيّة باثرته، وولّاه على المغرب كما ذكرناه، وقارن ذلك مهلك بلكّين وانتقاض أبي البهار بن زيري صاحب المغرب الأوسط على باديس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 فكان من شأنه مع زيري ويدوي [1] بن يعلى ما قدّمناه. ثم استقلّ زيري وغلبهم جميعا على المغرب، ثم انتقض على المنصور فأجاز إليه ابنه المظفّر وأخرج زناتة من المغرب الأوسط، فتوغّل زيري في المغرب الأوسط ونازل أمصاره وانتهى إلى المسيلة وأشير. وكان سعيد بن خزرون قد نزع إلى زناتة وملك طبنة. واجتمع زناتة بإفريقية عليه وعلى ابنه فلفول من بعده. وانتقض فلفول على باديس عند زحف زيري إلى المسيلة وأشير، وشغل باديس ثم ابنه المنصور على المغرب الأوسط بحروب فلفول وقومه، ودفعوا إليه حمّاد بن بلكّين فكانت بينه وبين زناتة حروب سجال، وهلك زيري بن عطيّة واستقل المعزّ وابنه بملك المغرب سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وغلب صنهاجة على تلمسان وما إليها، واختط مدينة وجدة كما ذكرنا ذلك كله من قبل. ونزل يعلى بن محمد مدينة تلمسان فكانت خالصة له، وبقي ملكها وسائر ضواحيها في عقبه. ثم هلك حمّاد بعد استبداده ببلاد صنهاجة على آل بلكّين وشغل بنوه بحرب بني باديس، فاستوسق ملك بني يعلى خلال ذلك بتلمسان، واختلفت أيامهم مع آل حمّاد سلما وحربا. ولما دخل العرب الهلاليون إفريقية وغلبوا المعزّ وقومه عليها واقتسموا سائر أعمالها، ثم تخطوا إلى أعمال بني حمّاد فأحجروهم بالقلعة، وغلبوهم على الضواحي فرجعوا إلى استئلافهم واستخلصوا الأثبج منهم وزغبة، فاستظهروا بهم على زناتة المغرب الأوسط وأنزلوهم بالزاب، وأقطعوهم الكثير من أعماله، فكانت بينهم وبين بني يعلى أمراء تلمسان حروب ووقائع. وكان زغب أقرب إليهم بالمواطن. وكان أمير تلمسان لعهدهم بختي من ولد يعلى. وكان وزيره وقائد حروبه أبو سعيد ابن خليفة بن [2] اليفرني، فكان كثيرا ما يخرج بالعساكر من تلمسان لقتال عرب الأثبج وزغبة، ويحتشد من إليها من زناتة من أهل المغرب الأوسط مثل، مغراوة وبني يفرن وبني يلومو وبني عبد الواد وتوجين وبني مرين، وهلك في بعض تلك الملاحم هذا الوزير أبو سعيد أعوام خمسين وأربعمائة. (ثم ملك) المرابطون أعمال المغرب الأقصى بعد مهلك يحيى [3] وولاية ابنه العبّاس ابن يحيى بتلمسان. وسرّح يوسف بن تاشفين قائده مزدلي بن [4] في عساكر   [1] هو يدّو بن يعلى كما في قبائل المغرب وفي أماكن من بعض نسخ ابن خلدون وقد مرّ معنا من قبل. [2] بياض بالأصل وفي نسخة أخرى أبو سعدى مكان أبو سعيد. [3] وفي نسخة ثانية: بختي. [4] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والد هذا القائد في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 لمتونة لحرب من بقي بتلمسان من مغراوة، ومن لحق بهم من فلّ بني زيري وقومهم، فدوّخ المغرب الأوسط وظفر بمعلى بن العبّاس بن بختي، وبرز لمدافعتهم، فهزمه وقتله وانكف راجعا إلى المغرب. ثم نهض يوسف بن تاشفين بنفسه في جموع المرابطين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة فافتتح تلمسان واستلحم بني يعلى ومن كان بها من مغراوة وقتل العبّاس بن بختي أميرها من بني يعلى. ثم افتتح وهران وتنس وملك جبل وانشريس وشلف إلى الجزائر وانكفّ راجعا وقد محى أثر مغراوة من المغرب الأوسط وأنزل محمد بن تينعمر المسوفي في عسكر من المرابطين بتلمسان، واختطّ مدينة تاكرارت بمكان معسكره وهو اسم المحلّة بلسان البربر، وهي التي صارت اليوم مع تلمسان القديمة التي تسمى أكادير بلدا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من جميع المغرب كان لم يكن والبقاء للَّه وحده سبحانه. معلي بن العباس بن بختيّ بن [1] بن يعلي بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر (الخبر عن أمراء اغمات من مغراوة) لم أقف على أسماء هؤلاء إلا أنهم أمراء بأغمات آخر دولة بني زيري بفاس، وبني يعلى اليفرني بسلا وتادلا في جوار المصامدة وبرّ غواطة. وكان لقوط بن يوسف بن علي آخرهم في سني الخمسين وأربعمائة، وكانت امرأته زينب بنت إسحاق النفزاوية من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرئاسة. ولما غلب المرابطون على أغمات سنة تسع وأربعين وأربعمائة فرّ لقوط هذا إلى تادلا سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وقتل الأمير محمد واستلحم بني يفرن، فكان فيمن استلحم وخلفه أبو بكر بن عمر أمير المرابطين على زينب بنت إسحاق حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة واستعمل ابن عمّه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها رياسة أمره وسلطانه، وما أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء في إظهار الاستبداد حتى تجافى عن منازعته، وخلص ليوسف بن تاشفين   [1] بياض في جميع النسخ ولم نجد والد نجتي هذا في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 ملكه كما ذكرناه في أخبارهم. ولم نقف من لقوط بن يوسف وقومه على غير هذا الّذي كتبناه، والله وليّ العون سبحانه. الخبر عن بني سنجاس وريغة والاغواط وبني ورّا من قبائل مغراوة من أهل الطبقة الاولى وتصاريف أحوالهم هذه البطون الأربعة من بطون مغراوة وقد زعم بعض الناس أنهم من بطون زناتة غير مغراوة. أخبرني بذلك الثقة عن إبراهيم بن عبد الله التمر وغني [1] قال وهو نسّابه زناتة لعهده: ولم تزل هذه البطون الأربعة من أوسع بطون مغراوة. (فأمّا) بنو سنجاس فلهم مواطن في كل عمل من إفريقية والمغربين، فمنهم قبلة المغرب الأوسط بحبل راشد وجبل كريكرة [2] وبعمل الزاب وبعمل شلف، ومن بطونهم بنو عيار [3] ببلاد شلف أيضا، وبنو عيار بأعمال قسنطينة. وكان بنو سنجاس هؤلاء من أوسع القبائل وأكثرهم عددا، وكان لهم في فتنة زناتة وصنهاجة آثار بإفريقية والمغرب، وأكثرها في إفساد السبيل والعيث في المدن، ونازلوا قفصة سنة أربع عشرة وخمسمائة بعد أن عاثوا بجهات القصر، وقتلوا من وجدوا هنالك من عسكر تلكاتة [4] . وخرجت إليهم حامية قفصة فأثخنوا فيهم، ثم كثر فسادهم، وسرّح السلطان قائده محمد بن أبي العرب في العساكر إلى بلاد الجريد فشرّدهم عنها وأصلح السابلة. ثم عادوا إلى مثلها سنة خمس عشرة وخمسمائة فأوقع بهم قائد بلاد الجريد وأثخن فيهم بالقتل، وحمل رءوسهم إلى القيروان فعظم الفتح فيهم، ولم تزل الدولة تتبعهم بالقتل والإثخان إلى أن كسروا [5] من شوكتهم. وجاء العرب الهلاليون وغلبوا على الضواحي كل من كان بها من صنهاجة وزناتة، وتحيّز فلهم إلى الحصون والمعاقل، وضربت عليهم المغارم إلّا ما كان ببلاد المغرب   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: التيمز وغتي. [2] وفي النسخة الباريسية: كركرة. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: غيار وفي نسخة ثانية عنّان. [4] وفي نسخة ثانية: ملكاتة. [5] وفي نسخة ثانية: خضدوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 القفر مثل جبل راشد، فإنّهم لبعدهم عن منازل الملك لا يعطون مغرما، إلا أنه غلب عليهم هنالك العمور من بطون الهلاليّين، ونزلوا معهم. وملكوا عليهم أمرهم وصاروا لهم فيئه ومن بني سنجاس من نزل الزاب، وهم لهذا العهد أهل مغارم لمن غلب على ثغورهم من مشايخهم، وأمّا من نزل منهم ببلاد شلف ونواحي قسنطينة فهم لهذا العهد أهل مغارم للدول، وكان دينهم جميعا الخارجية على سنن زناتة في الطبقة الأولى، ومن بقي منهم اليوم بالزاب فعلى ذلك. ومن بني سنجاس هؤلاء بأرض المشيل [1] من جبل بني راشد وطنوا جبلا في جوار غمرة وصاروا عند تغلب الهلاليين في ملكهم يقبضون الإتاوة منهم. ونزل منهم لهذا العهد الصحاري من بطون عروة من زغبة، وغلبوهم على أمرهم وأصاروهم خولا. (وأما بنو ريغة) فكانوا أحياء متعدّدة ولما افترق أمر زناتة تحيّز منهم إلى جبل عيّاض وما إليه من البسيط إلى نقاوس وأقاموا في قياطينهم، فمن كان بجبل عيّاض منهم أهل مغارم لأمراء عياض يقبضونها للدولة الغالبة ببجاية، وأمّا من كان ببسيط نقاوس فهم في أقطاع العرب لهذا العهد. ونزل أيضا الكثير منهم ما بين قصور الزاب وواركلا، فاختطوا قصورا [2] كثيرة في عدوة واد ينحدر من المغرب الى المشرق يشتمل على المصر الكبير والقرية المتوسطة، والأطم قد زفّ عليها الشجر ونضدت حفافيها النخيل، وانساحت خلالها المياه، وزهت ينابعها الصحراء، وكثر في قصورها العمران من ريغه هؤلاء، وبهم تعرف لهذا العهد، وهم أكثرها. ومن بني سنجاس وبني يفرن وغيرهم من قبائل زناتة. وتفرّقت جماعتهم للتنازع في الرئاسة فاستقلت كل طائفة منهم بقصور منها أو بواحد. ولقد كانت فيما يقال أكثر من هذا العدد أضعافا وانّ ابن غانية المسوفي حين كان يجلب على بلاد إفريقية والمغرب في فتنته مع الموحدين خرّب عمرانها، واجتثّ شجرها، وغوّر مياهها، ويشهد لذلك آثار العمران بها في أطلال الديار ورسوم البناء وأعجاز النخل المنقعر، وكان هذا العمل يرجع في أوّل الدولة الحفصيّة لعامل الزاب، وكان من الموحّدين، ونزل بسكرة ما بينها وبين مغرة، وكان من أعماله قصور واركلا أيضا. ولما فتك المنتصر بمشيخة الزواودة كما قلناه في أخباره، وقتلوا بعد ذلك عامل الزاب ابن عتوا من مشيخة   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: المشنتل. [2] وفي نسخة ثانية: قرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 الموحدين، وغلبوا على ضواحي الزاب وواركلا. وأقطعتهم إيّاها الدول بعد ذلك فصارت في أقطاعهم. ثم عقد صاحب بجاية بعد ذلك على العمل كلّه لمنصور بن مزني واستقرّ في عقبه. فربما يسيمون بعض الأحيان أهل تلك القصور المغرم للسلطان بما كان من الأمر القديم، ويعسكر عليهم في ذلك كتائب من رجّالة الزاب وخيّالة العرب، ويبرز عليها بأمر الزواودة. ثم يقاسمهم فيما يمتريه منهم. وأكبر هذه الأمصار يسمّى تقّرت، مصر مستبحر العمران بدويّ الأحوال، كثير المياه والنخل، ورياسته في بني يوسف بن عبد الله كانت لعبيد الله بن يوسف، ثم لابنه داود، ثم لأخيه يوسف بن عبيد الله. وتغلّب على واركلا من يد أبي بكر بن موسى أزمان حداثته، وأضافها إلى عمله. ثم هلك وصار أمر تقّرت لأخيه مسعود بن عبيد الله، ثم لابنه حسن بن مسعود، ثم لابنه أحمد بن حسن شيخها لهذا العهد. وبنو يوسف بن عبد الله هؤلاء من ريغة، ويقال إنّهم من سنجاس، وفي أهل تلك الأمصار من مذاهب الخوارج وفرقهم كثير، وأكثرهم على دين العزابية [1] ومنهم النكاريّة، وأقاموا على انتحال هذه الخارجية لبعدهم عن منال الأحكام. ثم بعد مدينة تقّرت بلد تماسين وهي دونها في العمران والخطة ورياسته لبني إبراهيم بن [2] من ريغة وسائر أمصارهم كذلك، كل مصر منها مستبد بأمره وحرب لجاره. (وأما لقواط) وهم فخذ من مغراوة أيضا فهم في نواحي الصحراء ما بين الزاب وجبل راشد، ولهم هنالك قصر مشهور بهم، فيه فريق من أعقابهم على سغب من العيش لتوغّله في القفر، وهم مشهورون بالنجدة والامتناع من العرب، وبينهم وبين الدوسن أقصى عمل الزاب مرحلتان، وتختلف قصودهم إليهم لتحصيل المرافق منهم. والله يخلق ما يشاء ويختار. وأمّا بنو ورا) فهم فخذ من مغراوة أيضا، ويقال من زناتة وهم متشعّبون ومفترقون بنواحي المغرب: منهم بناحية مراكش والسوس ومنهم ببلاد شلف ومنهم بناحية قسنطينة ولم يزالوا على حالهم منذ انقراض زناتة الأوّلين، وهم لهذا العهد أهل مغارم وعسكرة مع الدول، وأكثر الذين كانوا بمراكش قد انتقل رؤساؤهم إلى ناحية شلف نقلهم يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين في أوّل هذه المائة الثامنة، لما   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغرابة وفي نسخة ثانية: القرابة. [2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم والده في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 ارتاب بأمرهم في تلك الناحية، وخشي من إفسادهم وعيثهم، فنقلهم في عسكر الى موطن شلف لحمايته، فنزلوا به. ولما ارتحل بنو مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب أقاموا ببلاد شلف فأعقابهم بها لهذا العهد، وأحوالهم جميعا في كل قطر متقاربة في المغرم والعسكرة مع السلطان وللَّه الخلق والأمر جميعا. سبحانه لا إله إلا هو الملك العظيم. (الخبر عن بني يرنيان اخوة مغراوة وتصاريف أحوالهم) قد ذكرنا بني يرنيان هؤلاء، وأنهم إخوة مغراوة وبني يفرن، والكل ولد يصلتين. ونسبهم جميعا إلى جانا مذكور هنالك، وهم مبثوثون كثيرا بين زناتة في المواطن. وأمّا الجمهور منهم فموطنهم بملويّة من المغرب الأقصى ما بين سجلماسة وكرسيف، كانوا هناك مجاورين لمكناسة في مواطنهم، واختطوا حفافي وادي ملويّة قصورا كثيرة متقاربة الخطّة، ونزلوها وتعدّدت بطونهم وأفخاذهم في تلك الجهات. ومنهم بنو وطاط متوطّنون لهذا العهد بالجبال المطلّة على وادي ملوية من جهة القبلة، ما بينه وبين تازى وفاس، وبهم تعرف تلك القصور لهذا العهد، وكان لبني يرنيان هؤلاء صولة واعتزاز، وأجاز الحكم بن المستنصر منهم، والمنصور بن أبي عامر من بعده فيمن أجازوه من زناتة في المائة الرابعة، وكانوا من أفحل جند الأندلس وأشدّهم شوكة. وبقي أهل المواطن منهم في مواطنهم مع مكناسة أيام ملكهم، ويجمعهم معهم عصبية يحيى. ثم كانوا مع مغراوة أيضا أيام ملكهم المغرب الأقصى ولما ملك لمتونة والموحّدون من بعدهم لحق الظواعن منهم بالقفر، فاختلطوا بأحياء بني مرين الموالين لتلول المغرب من زناتة، أقاموا معهم في أحيائهم، وبقي من عجز عن الظعن منهم بمواطنهم: مثل بني وطاط وغيرهم، ففرضت عليهم المغارم والجبايات. ولما دخل بنو مرين للمغرب ساهموهم في اقتسام أعماله، وأقطعوهم البلد الطيب من ضواحي سلا والمعمورة، زيادة إلى وطنهم الأوّل بملوية، وأنزلوهم بنواحي سلا بعد أن كان منهم انحراف عنهم في سبيل المدافعة عن أوطانهم الأولى. ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 اصطلحوا [1] ورعى لهم بنو عبد الحق سابقتهم معهم فاصطفوهم للوزارة والتقدّم في الحرب، ودفعوهم الى المهمات وخلطوهم بأنفسهم. وكان من أكابر رجالاتهم لعهد السلطان أبي يعقوب وأخيه أبي سعيد الوزير إبراهيم بن عيسى، استخلصوه للوزارة مرّة بعد أخرى، واستعمله السلطان أبو سعيد على وزارة ابنه أبي علي، ثم لوزارته. واستعمل ابنه السلطان أبو الحسن أبناء إبراهيم هذا في أكابر الخدام فعقد لمسعود بن إبراهيم على أعمال السوس عند ما فتحها أعوام الثلاثين والسبعمائة، ثم عزله بأخيه حسون، وعقد لحسون على بلاد الجريد من إفريقية عند فتحه إيّاها سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وكان فيها مهلكه. ونظم أخاهما موسى في طبقة الوزارة، ثم أفرده بها أيام نكبته وإلحاقه بجبل هنتاتة، واستعمله السلطان أبو عنان بعد في العظيمات، وعقد له على أعمال سدويكش بنواحي قسنطينة. ورشّح ابنه محمد السبيع لوزارته إلى أن هلك، وتقلّبت بهم الأيام بعده. وقلّد عبد الحميد [2] المعروف بحلي ابن السلطان أبي علي وزارته محمد بن السبيع بعد هذا أيام حصاره لدار ملكهم سنة اثنتين وستين وسبعمائة كما نذكره في أخبارهم، فلم يقدّر لهم الظفر. ثم رجع السبيع بعدها إلى محله من دار السلطان وطبقة الوزارة، وما زال يتصرّف في الخدم الجليلة والأعمال الواسعة ما بين سجلماسة ومراكش وأعمال تازى وتادلا وغمارة، وهو على ذلك لهذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها سبحانه لا إله غيره. (الخبر عن وجديجن وأوغمرت من قبائل زناتة ومبادئ أحوالهم وتصاريفهم) قد تقدّم أنّ هذين البطنين من بطون زناتة من ولد ورتنيص بن جانا، وكان لهم عدد وقوة، ومواطنهم مفترقة في بلاد زناتة. فأمّا وجديجن فكان جمهورهم بالمغرب الأوسط، ومواطنهم منه منداس ما بين بني يفرن من جانب المغرب، ولواتة من جانب القبلة في السرسو، ومطماطة في جانب الشرق في وانشريس، وكان أميرهم   [1] وفي نسخة ثانية: ثم اصطلحوا. [2] وفي نسخة ثانية: عبد الحليم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 لعهد يحيى بن محمد اليفرني رجلا منهم اسمه عنّان، وكان بينهم وبين لواتة الموطنين بالسرسو فتنة متصلة، يذكر أنها بسبب امرأة من وجديجن نكحت في لواتة وتلا، جامعها نساء قيطونهم فعيّرنها بالفقر، فكتبت بذلك إلى عنّان تذمّره [1] ، فغضب واستجاش بأهل عصبته من زناتة وجيرانه، فزحف معه يعلى في بني يفرن وكلمام بن حياتي [2] في مغيلة وغرابة في مطماطة، ودارت الحرب بينهم وبين لواتة مليا. ثم غلبوا لواتة على بلاد السرسو وانتهوا بهم إلى كدية العابد من آخرها وهلك عنّان شيخ وجديجن في بعض تلك الوقائع بملاكوا من جهات السرسو. ثم لجأت زناتة إلى جبل كريكرة قبلة السرسو، وكان يسكنه أحياء من مغراوة يعرف شيخهم لذلك العهد علاهم ربيب لشيخهم عمر بن تامصا الهالك قبله، ومعنى تامصا بلسان البربر الغول. ولما لجأت لواتة إليه غدر بهم وأغرى قومه، فوضعوا أيديهم فيهم قتلا وسلبا فلاذوا بالفرار ولحقوا بجبل معود [3] وجبل دراك فاستقرّوا هناك آخر الدهر. وورثت وجديجن مواطنهم بمنداس إلى أن غلبهم عليها بنو يلومين [4] ، وبنو ومانوكل من جهته، ثم غلب الآخرين عليها بنو عبد الواد، وبنو توجين إلى هذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها. (وأمّا أوغمرت [5] ) ويسمى لهذا العهد غمرت، وهم إخوة وجديجن من ولد ورتنيص بن جانا كما قلناه. فكانوا من أوفر القبائل عددا، ومواطنهم متفرّقة، وجمهورهم بالجبال إلى قبلة بلاد صنهاجة من المشنتل إلى اللوسن وكان لهم مع أبي يزيد صاحب الحمار في الشيعة آثار، وأوقع بهم إسماعيل القائم عند ظهوره على أبي يزيد وأثخن فيهم، وكذلك بلكّين وصنهاجة من بعده. ولما افترق أمر صنهاجة لحمّاد وبنيه كانوا شيعا لهم على بني بلكّين. ونزع عن حمّاد أيام فتنته ابن أبي جلى من مشيختهم، وكان مختصا بهم، إلى باديس، فوصله وحمل أصحابه، وعقد له على طبنة وأعمالها. حتى إذا جاء العرب الهلاليون وغلبوهم على الضواحي اعتصموا بتلك الجبال قبلة المسيلة وبلاد صنهاجة، وقعدوا بها عن الظعن، وتركوا القيطون إلى   [1] ذمّره: هدده، وذمره على الأمر: حضّه مع لوم ليجدّ فيه. [2] وفي نسخة ثانية: كلمام بن حيّان. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة بولاق: العود، وفي نسخة أخرى: يعود. [4] وفي نسخة أخرى: يلومي. [5] وفي نسخة أخرى: واغمرت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 سكنى المدن. ولما تغلّب الزواودة على ضواحي الزاب وما إليها، أقطعتهم الدولة مغارم هذه الجبال التي لغمرت. وهم لهذا العهد في سهمان أولاد يحيى بن علي بن سبّاع من بطونهم وكان في القديم من غمرت هؤلاء كاهن زناتة موسى بن صالح مشهور عندهم حتى الآن، ويتناقلون بينهم كلماته برطانتهم على طريق الرجز، فيها أخبار بالحدثان فيما يكون لهذا الجيل الزناتي من الملك والدولة، والتغلّب على الأحياء والقبائل والبلدان. شهد كثير من الواقعات على وفقها بصحتها، حتى لقد نقلوا من بعض كلماته ما معناه باللسان العربيّ أنّ تلمسان مآلها الخراب، وتصير دورها فدنا حتى يثير أرضها حرّاث أسود بثور أسود أعور. وذكر الثقات أنهم عاينوا ذلك بعد انتشار كلماته هذه أيام لحقها الخراب في دولة بني مرين الثانية سنة ستين وسبعمائة، وأفرط الخلاف بين هذا الجيل الزناتيّ في التشيع له والحمل عليه، فمنهم من يزعم أنه نبي أو وليّ، وآخرون يقولون كاهن شيطان، ولم تقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره. والله سبحانه وتعالى أعلم لا ربّ غيره. (الخبر عن بني واركلا من بطون زناتة والمصر المنسوب إليهم بصحراء افريقية وتصاريف أحوالهم) بنو واركلا هؤلاء إحدى بطون زناتة كما تقدّم، من ولد فرني [1] بن جانا، وقد مرّ ذكرهم. وأنّ إخوتهم الديرت ومرنجيصة وسبرترة ونمالة [2] والمعروفون لهذا العهد، منهم بنو واركلا وكانت فئتهم قليلة، وكانت مواطنهم قبلة الزاب، واختطوا المصر المعروف بهم لهذا العهد على ثمان مراحل من بسكرة في القبلة عنها ميامنة إلى المغرب، بنوها قصورا متقابلة متقاربة الخطة. ثم استبحر عمرانها فأتلفت وصارت مصرا واحدا. وكان معهم هناك جماعة من بني زنداك من مغراوة، وإليهم كان هرب أبي زيد النكارى [3] عند فراره من الاعتقال سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان مقامه بينهم سنة يختلف إلى بني برزال قبلة المسيلة بسالات، وإلى   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فريني. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يزمرتن ومنجصة وغالته. [3] وفي نسخة ثانية: ابن أبي يزيد النكاري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 قبائل البربر بجبل أوراس، يدعوهم جميعا إلى مذهب النكارية، إلى أن ارتحل إلى أوراس، واستبحر عمران هذا المصر واعتصم به بنو واركلا هؤلاء، والكثير من ظواعن زناتة عند غلب الهلاليين إيّاهم على الضواحي، واختصاص الأثبج بضواحي القلعة والزاب وما إليها. ولما استبد الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بملك إفريقية وجال في نواحيها في اتباع بن غانية، مرّ بهذا المصر فأعجبه وكلف بالزيادة في تمصيره، فاختطّ مسجده العتيق ومئذنته المرتفعة، وكتب عليها اسمه وتاريخ وضعه نقشا في الحجر. وهذا البلد لهذا العهد باب لولوج السفر [1] من الزاب إلى المفازة الصحراوية المفضية إلى بلاد السودان يسكنها التجّار الداخلون لها بالبضائع وسكانه لهذا العهد من بني واركلا وأعقاب إخوانهم من بني يفرن ومغراوة، ويعرف رئيسه باسم السلطان، شهرة غير نكيرة بينهم، ورياسته لهذه الأعصار مخصوصة ببني أبي عبدل [2] ، ويزعمون أنهم من بني واكين إحدى بيوت بني واركلا، وهو لهذا العهد أبو بكر بن موسى بن سليمان من بني أبي عبدل، ورياستهم متصلة في عمود هذا النسب وعلى عشرين مرحلة من هذا في القبلة منحرفا إلى المغرب بيسير بلد تكرت [3] قاعدة وطن الملثّمين وركاب الحجاج من السودان اختطّه الملثمون من صنهاجة وهم سكانه لهذا العهد، وصاحبه أمير من بيوتاتهم يعرفونه باسم السلطان، وبينه وبين أمير الزاب مراسلة ومهاداة. (ولقد) قدمت على بسكرة سنة أربع وخمسين أيام السلطان أبي عنان في بعض الأغراض السلطانية ولقيت رسول صاحب تكرت عند يوسف بن مزني أمير بسكرة، وأخبرني عن استبحار هذا المصر في العمارة ومرور السابلة، وقال لي: اجتاز بنا هذا العام سفر من تجّار المشرق إلى بلد مالي كانت ركابهم اثني عشر ألف راحلة. وذكر لي غيره أنّ ذلك هو الشأن في كل سنة. وهذا البلد في طاعة سلطان مالي من السودان كما في سائر تلك البلاد الصحراوية المعروفة بالملثمين [4] لهذا العهد، والله غالب على أمره سبحانه.   [1] بمعنى المسافرين. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أبي غبول. [3] وفي نسخة ثانية: تكدت. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: باطلستين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 (الخبر عن دمر من بطون زناتة ومن ولي منهم بالأندلس وأولية ذلك ومصائره) بنو دمّر هؤلاء من زناتة وقد تقدّم أنهم من ولد ورسيك بن الديرت بن جانا، وشعوبهم كثيرة، وكانت مواطنهم بإفريقية في نواحي طرابلس وجبالها وكان منهم آخرون ظواعن من عرب إفريقية. ومن بطون بني دمّر هؤلاء بنو ورغمة، وهم لهذا العهد مع قومهم بجبال طرابلس. ومن بطونهم أيضا بطن متسع كثير الشعوب وهم: بنو ورنيدين بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وأن من شعوبهم بني ورتاتين وبني عزرول وبني تغورت، وربما يقال إنّ هؤلاء الشعوب لا ينتسبون إلى بني ورنيدين كما تقدّم، وبقايا بني ورنيدين لهذا العهد بالجبل المطل على تلمسان، بعد أن كانوا في البسيط قبلته، فزاحمهم بنو راشد حين أجلوهم من بلادهم بالصحراء إلى التل، وغلبوهم على تلك البسائط فانزاحوا إلى الجبل المعروف بهم لهذا العهد، وهو المطل على تلمسان وكان قد أجاز إلى الأندلس من بني دمّر هؤلاء أعيان ورجالات حرب فيمن أجاز إليها من زناتة وسائر البربر، أيام أخذهم بدعوة المنتصر [1] فضمّهم السلطان إلى عسكره، واستظهر بهم المنصور بن أبي عامر من بعد ذلك على شأنه، وقوى بهم المستعين أديم دولته، ولما اعصوصب البربر على المستعين وبني حمود من بعده وغالبوا جنود الأندلس من العرب، وكانت الفتنة الطويلة بينهم التي نثرت سلك الخلافة وفرّقت شمل الجماعة، واقتسموا خطط الملك وولايات الأعمال، وكان من رجالاتهم نوح الدمري، وكان من عظماء أصحاب المنصور، وولّاه المستعين أعمال مورور [2] وأركش فاستبدّ بها سنة أربع في غمار الفتنة، وأقام بها سلطانا لنفسه إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين، فولى ابنه أبا مناد محمد بن نوح وتلقّب بالحاجب عز الدولة لقبين في قرن شأن ملوك الطوائف. وكانت بينه وبين ابن عبّاد شأن غرب الأندلس. خطوب ومرّ المعتضد في بعض أسفاره بحصن أركش، وتطوّف به مختفيا فقبض عليه بعض أصحاب ابن نوح، وساقه إليه، فخلّى سبيله وأولاه كرامة احتسبها عنده يدا،   [1] وفي نسخة ثانية: بدعوة الحكم المستنصر. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: مودور وفي نسخة ثانية: مدور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 وذلك سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، فانطلق إلى دار ملكه ورجع بعدها إلى ولاية الملوك الذين حوله من البربر. وأسجل لابن نوح هذا على عملي أركش ومورور فيمن أسجل له منهم، فصاروا إلى مخالصته إلى أن استدعاهم سنة خمس وأربعين وثلاثمائة بعدها إلى صنع ودعا إليه الجفلى من أهل أعماله، واختصّه بدخول حمام أعدّه لهم استبلاغا في تكريمهم. وتخلّف ابن نوح عنده من بينهم، فلما حصلوا داخل الحمام أطبقه عليهم، وسدّ المنافس للهوى دونهم إلى أن هلكوا. ونجا منهم ابن نوح لسالفة يده، وطيّر في الحين من تسلّم معاقلهم وحصونهم، فانتظمهم في أعماله. وكان منها رندة [1] وشريش وسائر أعمالها، وهلك من بعد ذلك الحاجب أبو مناد بن نوح سنة [2] ، وولي ابنه أبو عبد الله، ولم يزل المعتضد يضايقه إلى أن انخلع سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فانتظمها في أعماله وسار إليه محمد بن أبي مناد إلى أن هلك سنة ثمان وستين وانقرض ملك بني نوح والبقاء للَّه وحده سبحانه. أبو عبد الله بن الحاجب أبي مناد بن نوح الدمّري. (الخبر عن بني برزال إحدى بطون دمر وما كان لهم من الحال بقرمونة وأعمالها من الأندلس أيام الطوائف وأولية ذلك ومصائره) قد تقدّم لنا أنّ بني برزال هؤلاء من ولد ورنيدين [3] بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، كما ذكره ابن حزم، وأنّ إخوتهم بنو يصدرين وبنو صمغان [4] وبنو يطوفت. وكان بنو برزال هؤلاء بإفريقية، وكانت مواطنهم منها جبل سالات وما إليها من أعمال المسيلة. وكان لهم ظهور ووفور عدد، وكانوا نكارية من فرق الخوارج. ولما فرّ أبو زيد أمام إسماعيل المنصور، وبلغه أنّ محمد بن خزر يترصّد له، أجمع الاعتصام بسالات وصعد إليه، وأرهقته عساكر المنصور فانتقل عنه إلى كتامة. وكان من أمره   [1] وفي نسخة أخرى: وفدة. [2] بياض في الأصل ولم نستطع تحديد سنة مهلكه في المراجع التي بين أيدينا. [3] وفي نسخة ثانية: ورنيد. [4] وفي نسخة ثانية: بنو صغمار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 ما قدّمناه. ثم استقام بنو برزال على طاعة الشيعة وموالاة جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب، حتى صاروا له شيعا. (ولما انتقض) جعفر بن معد سنة ستين وثلاثمائة كان بنو برزال هؤلاء في جملته من أهل خصوصيته، فأجازوا معه البحر إلى الأندلس أيام الحكم المستنصر، فاستخدمهم ونظمهم في طبقات جنده إلى من كان به من قبائل زناتة وسائر البربر أيام أخذهم بالدعوة الأموية، ومحاربتهم عليها للادارسة، فاستقروا جميعا بالأندلس. وكان لبني برزال من بينهم ظهور وغنى مشهور. (ولما أراد) المنصور بن أبي عامر الاستبداد على خليفته هشام، وتوقع النكير من رجالات الدولة وموالي الحكم، استكثر بني برزال وغيرهم من البربر وأفاض فيهم الإحسان، فاعتز أمره واشتدّ أزره حتى أسقط رجال الدولة ومحى رسومها، وأثبت أركان سلطانه. ثم قتل صاحبهم جعفر بن يحيى كما ذكرناه خشية عصبيته بهم. واستمالهم من بعده فأصبحوا له عصبة. وكان يستعملهم في الولايات النبيهة والأعمال الرفيعة. وكان من أعيان بني برزال هؤلاء إسحاق بن [1] فولّاه قرمونة وأعمالها، فلم يزل عليها أيام بني عامر وجدّد له العقد عليها المستعين في فتنة البرابرة ووليها من بعده ابنه عبد الله. (ولما انقرض) ملك بني حمّود من قرطبة ودفع أهلها القاسم المأمون عنهم سنة أربع عشرة وأربعمائة أراد اللحاق بأشبيليّة، وبها نائبة محمد بن أبي زيري من وجوه البربر، بقرمونة عبد الله بن إسحاق البرزالي فداخلهما القاضي ابن عبّاد في خلع طاعة القاسم، وصدّه عن العملين فأجابا إلى ذلك. ثم دسّ للقاسم بالتحذير من عبد الله ابن إسحاق فعدل القاسم عنهما جميعا إلى شريش، واستبدّ كل منهم بعمله. ثم هلك عبد الله من بعد ذلك، وولي ابنه محمد سنة [2] وكانت بينه وبين المعتمد بن عبّاد حرب، وظاهر عليه يحيى بن علي بن حمود في منازلة إشبيليّة سنة ثمان عشرة وأربعمائة ثم اتفق مع ابن عبّاد بعدها وظاهره على عبد الله الأفطس. وكانت بينهما حرب كانت الدائرة فيها على ابن الأفطس. وحصل ابنه المظفّر قائد العسكر في قبضة محمد بن عبد الله بن إسحاق إلى أن من عليه ذلك وأطلقه. ثم كانت الفتنة بين محمد   [1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد إسحاق هذا في المراجع التي بين أيدينا. [2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة سنة ولايته في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 ابن إسحاق وبين المعتضد وأغار إسماعيل بن المعتضد على قرمونة في بعض الأيام بعد أن كمن الكمائن من الخيّالة والرجل، وركب إليه محمد في قومه فاستطرد له إسماعيل إلى أن بلغوا الكمائن فثاروا بهم وقتلوا محمدا البرزالي وذلك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وولي ابنه العزيز بن محمد وتلقّب بالمستظهر مناغيا لملوك الطوائف لعهده. ولم يزل المعتضد يستولى على غرب الأندلس شيئا فشيئا إلى أن ضايقه في عمل قرمونة، واقتطع منه أسجه والمورو [1] ثم انخلع له العزيز عن قرمونة سنة تسع وخمسين وأربعمائة ونظّمها المعتضد في ممالكه، وانقرض ملك بني برزال من الأندلس ثم انقرض من بعد ذلك حيهم من جبل سالات، وأصبحوا في الغابرين. والبقاء للَّه وحده سبحانه. العزيز محمد بن عبد الله بن إسحاق البرزالي (الخبر عن بني وماتوا وبني يلومي من الطبقة الأولى من زناتة وما كان لهم من الملك والدولة بأعمال المغرب الأوسط ومبدإ ذلك وتصاريفه) هاتان القبيلتان من قبائل زناتة ومن توابع الطبقة الأولى، ولم نقف على نسبهما إلى جانا، إلّا أنّ نسّابتهم متفقون على أنّ يلومي وورتاجن الّذي هو أبو مرين أخوان، وأنّ مديون أخوهما للأم، ذكر ذلك غير واحد من نسّابتهم. وبنو مرين لهذا العهد يعرفون لهم هذا النسب، ويوجبون لهم العصبيّة له. وكانت هاتان القبيلتان من أوفر بطون زناتة وأشدّهم شوكة، ومواطنهم جميعا بالمغرب الأوسط. وبنو وماتوا منهم إلى جهة المشرق عن وادي ميناس ومرات وما إليها من أسافل شلف وبنو يلومي بالعدوة الغربية منه بالجعبات والبطحاء وسيد [2] وسيرات وجبل هوّارة وبني راشد. (وكان لمغراوة) وبني يفرن التقدّم عليهم في الكثرة والقوّة. ولما غلب بلكّين بن زيري   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أسيجة والمدور. [2] وفي نسخة ثانية: سيك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 مغراوة وبني يفرن على المغرب الأوسط، وأزاحهم إلى المغرب الأقصى بقيت هاتان القبيلتان بمواطنهما، واستعملهم صنهاجه في حروبهم، حتى إذا تقلّص ملك صنهاجة عن المغرب الأوسط واعتزوا عليهم. واختصّ الناصر بن علناس صاحب القلعة ومختط بجاية بني وماتوا هؤلاء بالولاية، فكانوا شيعا لقومه دون يلومي. وكانت رياسة بني وماتوا في بيت منهم يعرفون ببني ماخوخ. وأصهر المنصور بن الناصر إلى ماخوخ منهم في أخته، فزوّجها إليه فكان لهم بذلك مزيد ولاية في الدولة. ولمّا ملك المرابطون تلمسان أعوام سبعين وأربعمائة وأنزل يوسف بن تاشفين بها عامله محمد بن تينعمر المسوفي، ودوّخ أعمال المنصور وملك أمصارها إلى أن نازل الجزائر. وهلك فولي أخوه تاشفين على عمله، فغزا أشير وافتتحها وخرّبها وكان لهذين الحيين في مظاهرته وإمداده أحقد عليهم المنصور بعدها وأغرى بني وماتوا في عساكر صنهاجة، وجمع له ماخوخ فهزمه وأتبعه منهزما إلى بجاية، وقتل لمدخله إلى قصره قتلته زوجه أخت ماخوخ تشفّيا وضغنا. ثم نهض إلى تلمسان في العساكر واحتشد العرب من الأثبج ورياح وزغبة ومن لحق به من زناتة وكانت الغزاة المشهورة سنة ست وثمانين وأربعمائة أبقى فيها ابن تينعمر المسوفي بعد استمكانه من البلد كما ذكرناه في أخبار صنهاجة. ثم هلك المنصور وولي ابنه العزيز، وراجع ماخوخ ولايته وأصهر إليه العزيز أيضا في ابنته فزوّجها إيّاه. واعتز البدو في نواحي المغرب الأوسط، واشتعلت نار الفتنة بين هذين الحيين من بني وماتوا وبني يلومي فكانت بينهم حروب ومشاهد. وهلك ماخوخ وقام بأمره في قومه بنوه تاشفين وعلي وأبو بكر، وكان أحياء زناتة الثانية من بني عبد الواد وتوجين وبني راشد وبني ورسفان من مغراوة مددا للفريقين، وربّما مادّ بنو مرين إخوانهم بني يلومي لقرب مواطنهم منهم، إلا أنّ زناتة الثانية لذلك العهد مغلوبون لهذين الحيّين، وأمرهم تبع لهم إلى أن ظهر أمر الموحدين. وزحف عبد المؤمن إلى المغرب الأوسط في اتباع تاشفين بن علي، وتقدّم أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن زيد من بني وماتوا إلى طاعته، ولحقوه بمكانه من أرض الريف، فسرّح معهم عسكر الموحّدين لنظر يوسف بن واندين وابن يغمور، فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، ولحق صريخهم بتاشفين بن علي بن يغمور، فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، ولحق صريخهم بتاشفين بن علي ابن يوسف، فأمدّهم بالعساكر ونزلوا منداس. واجتمع لبني يلومي بنو ورسفان من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 مغراوة وبني توجين من بني بادين وبنو عبد الواد منهم أيضا، وشيخهم حمامة بن مظهر، وبنو يكناسن من بني مرين وأوقعوا ببني وماتوا وقتلوا أبا بكر في ستمائة منهم واستنفذوا غنائمهم. وتحصّن الموحدون وفلّ بني ومانوا بجبل سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ صريخا بعبد المؤمن، وجاء في جملته حتى نزل تاشفين بن علي بتلمسان. ولما ارتحل في أثره إلى وهران كما قدّمناه سرّح الشيخ أبو حفص في عساكر الموحّدين إلى بلاد زناتة فنزلوا منداس وسط بلادهم، وأثخنوا فيهم حتى أذعنوا لطاعته ودخلوا في الدعوة. ووفد على عبد المؤمن بمكانه من حصار وهران مقدمهم سيّد الناس بن أمير الناس شيخ بني يلومي وحمامة بن مظهر شيخ بني عبد الواد. وعطية الخير شيخ بني توجين وغيرهم، فتلقاهم بالقبول. ثم انتقضت زناتة بعدها وامتنع بنو يلومي بحصنهم الجعبات ومعهم شيخهم سيّد الناس ومدرج [1] ابنا سيّد الناس. فحاصرتهم عساكر الموحدين وغلبوهم عليها وأشخصوهم إلى المغرب. ونزل سيّد الناس بمراكش، وبها كان مهلكه أيام عبد المؤمن. وهلك بعد ذلك بنو ماخوخ. (ولما) أخذ أمير هذين الحيين في الانتقاض جاذب بنو يلومي في تلك الأعمال بنو توجين، وشاجروهم في أحواله ثم واقعوهم الحرب في جوانبه وتولّى ذلك فيهم عطية الخير شيخ بني توجين، وصلى بنارها معه منهم بنو منكوش [2] من قومه حتى غلبوهم على مواطنهم وأذلّوهم وأصاروهم جيرانا لهم في قياطينهم. واستعلى بنو عبد الواد وتوجين على هذين الحيّين وغيرهم بولايتهم للموحدين ومخالطتهم إيّاهم، فذهب شأنهم وافترق قيطونهم أوزاعا في زناتة الوارثين أوطانهم من عبد الواد وتوجين والبقاء للَّه سبحانه. (ومن بطون بني وماتوا هؤلاء بنو يامدس [3] ) وقد يزعم زاعمون أنهم من مغراوة ومواطنهم متصلة قبلة المغرب الأقصى والأوسط وراء العرق المحيط بعمرانها المذكور قبل. واختطوا في المواطن القصور والأطم، واتخذوا بها الجنات من النخيل والأعناب وسائر الفواكه، فمنها على ثلاثة مراحل قبلة سجلماسة، ويسمى وطن توات، وفيه قصور متعدّدة تناهز المائتين، آخذة من المشرق إلى المغرب وآخرها   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة بولاق: بدرج وفي نسخة أخرى: مضرج. [2] وفي نسخة ثانية: بنو منكرس. [3] وفي نسخة ثانية: ومن بطون بني وماتوا هؤلاء قبائل بني يالدسّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 من جانب المشرق يسمّى تمنطيت، وهو بلد مستجر في العمران، وهو محط ركاب التجار المتردّدين من المغرب إلى بلد مالي من السودان لهذا العهد، ومن بلد مالي إليه، وبينه وبين ثغر بلاد مالي المسمّى غار، المفازة المجهلة لا يهتدي فيها للسبل، ولا يمر الوارد إلّا بالدليل الخبير [1] من الملثمين الظواعن بذلك القفز، يستأجره التجّار على الدربة بهم فيها بأوفر الشروط، وكانت بلد بودي [2] وهي أعلى تلك القصور بناحية المغرب من بادية السوس هي الركاب إلى والاتن الثغر الآخر من أعمال مالي. ثم أهملت لما صارت الأعراب بادية السوس يغيرون على سابلتها ويعترضون رفاقها، فتركوا تلك ونهجوا الطريق إلى بلد السودان من أعلى تمنطيت. ومن هذه القصور قبلة تلمسان، وعلى عشر مراحل منها قصور تيكارين [3] وهي كثيرة تقارب المائة في بسيط واد منحدر من المغرب إلى المشرق، واستبحرت في العمران وغصت بالساكن. وأكثر سكان هذه القصور الغريبة في الصحراء بنو يامدس هؤلاء ومعهم من سائر قبائل البربر مثل ورتطغير ومصاب وبني عبد الواد وبني مرين، وهم أهل عدد وعدة وبعد عن هضمة الأحكام وذلّ المغارم، وفيهم الرجّالة والخيّالة وأكثر معاشهم من بلح النخل [4] ، وفيهم التجّار إلى بلاد السودان وضواحيهم كلّها مشتاة للعرب، ومختصة بعبيد الله من المعقل، عيّنتها لهم قسمة الرحلة. وربما شاركهم بنو عامر بن زغبة في تيكرارين فتصل إليها ناجعتهم بعض السنين. وأمّا عبيد الله فلا بدّ لهم في كل سنة من رحلة الشتاء إلى قصور توات وبلد تمنطيت، ومع ناجعتهم تخرج قفول التجّار من الأمصار والتلول حتى يحطوا بتمنطيت. ثم يبذرقون منها إلى بلاد السودان. وفي هذه البلاد الصحراوية غريبة في استنباط المياه الجارية لا توجد في تلول المغرب، وذلك أنّ البئر تحفر عميقة بعيدة المهوى وتطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة، فتنحت بالمعاول والفؤوس إلى أن يرقّ جرمها، ثم تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها على الماء،   [1] وفي نسخة ثانية: المخرّيث. [2] وفي النسخة الباريسية: هودي. [3] وفي نسخة ثانية: تيكورارين. [4] وفي نسخة ثانية: من فلح النخل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 فينبعث صاعدا فيعمّ البئر ثم يجري على وجه الأرض واديا، ويزعمون أنّ الماء ربّما أعجل بسرعته عن كل شيء. وهذه الغريبة موجودة في قصور توات وتيكرارين وواركلا وريغ. والعالم أبو العجائب والله الخلّاق والعليم. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من زناتة فلترجع إلى أخبار الطبقة الثانية. وهم الذين اتصلت دولتهم إلى هذا العهد. (أخبار الطبقة الثانية من زناتة وذكر أنسابهم وشعوبهم وأوليتهم ومصائر ذلك) قد تقدّم لنا في أضعاف الكلام قبل انقراض الملك من الطبقة من زناتة ما كان على يد صنهاجة والمرابطين من بعدهم، وأنّ عصبية أجيالهم افترقت بانقراض ملكهم ودولهم، وبقي منهم بطون لم يمارسوا الملك، ولا أخلقهم ترفه، فأقاموا في قياطينهم بأطراف المغربين ينتجعون جانبي القفر والتلّ، ويعطون الدول حق الطاعة. وغلبوا على بقايا الأجيال الأولى من زناتة بعد أن كانوا مغلوبين لهم فأصبحت لهم السورة والعزة وصارت الحاجة من الدول إلى مظاهرتهم ومسالمتهم، حتى انقرضت دولة الموحدين فتطاولوا إلى الملك وضربوا فنيه مع أهلهم بسهم. وكانت لهم دول نذكرها إن شاء الله تعالى. وكان أكثر هذه الطبقة من بني واسين بن يصلتن إخوة مغراوة وبني يفرن، ويقال إنهم من بني وانتن بن ورسيك بن جانا إخوة مسارة وتاجرت، وقد تقدّم ذكره هذه الأنساب. وكان من بني واسين هؤلاء ببلد قسطيلية. وذكر ابن الرقيق أنّ أبا يزيد النكاري لما ظهر بجبل أوراس كتب إليهم بمكانهم حول توزر يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وربما كان منهم ببلد الحامة لهذا العهد، ويعرفون ببني ورتاجن إحدى بطونهم. وأمّا جمهورهم فلم يزالوا بالمغرب الأقصى بين ملوية إلى جبل راشد. (وذكر موسى) بن أبي العافية في كتابه إلى الناصر الأموي يعرّفه بحربة مع ميسور مولى أبي القاسم الشيعيّ، ومن صار إليه من قبائل زناتة، فذكر فيمن ذكر ملوية، وسار من قبائل بني واسين وبني يفرن وبني يرناتن وبني ورنمت [1] ومطماطة، فذكر   [1] وفي نسخة أخرى: بني ورتاسن وبني وريمت، وبني يزناسن في قبائل المغرب/ 137. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 منهم بني واسين لأنّ تلك المواطن من مواطنهم قبل الملك. (وفي هذه الطبقة منهم بطون) : فمنهم بنو مرين، وهم أكثرهم عددا وأقواهم سلطانا وملكا وأعظمهم دولة. (ومنهم) : بنو عبد الواد تلوهم في الكثرة والقوّة، وبنو توجين من بعدهم كذلك هؤلاء أهل الملك من هذه الطبقة. وفيها غير أهل الملك بنو راشد إخوة بني يادين كما نذكره، وفيها أهل الملك أيضا من غير نسبهم بقية من مغراوة بمواطنهم الأولى من وادي شلف نبضت فيهم عروق الملك بعد انقراض جيلهم الأوّل، فتجاذبوا حبله مع أهل هذا الجيل وكانت لهم في مواطنهم دولة كما نذكره. (ومن أهل هذه الطبقة) كثير من بطونهم ليس لهم ملك نذكرهم الآن عند تفصيل شعوبهم. وذلك أنّ أحياءهم جميعا تشعّبت من زرجيك بن واسين فكان منهم بنو يادين بن محمد، وبنو مرين بن ورتاجن، فأمّا بنو ورتاجن فهم من ولد ورتاجن بن ماخوخ بن جريح [1] بن فاتن بن بدر بن يخفت بن عبد الله ورتنيد بن المعز بن إبراهيم بن زحيك. (وأمّا بنو مرين) بن ورتاجن فتعدّدت أفخاذهم وبطونهم كما نذكر بعد، حتى كثروا سائر شعوب بني ورتاجن، وصار بنو ورتاجن معدودين في جملة أفخاذهم وشعوبهم. (وأما بنو يادين) بن محمد فمن ولد زرجيك ولا أذكر الآن كيف يتصل نسبهم به. وتشعّبوا إلى شعوب كثيرة، فكان منهم: بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو مصاب وبنو زردال [2] يجمعهم كلّهم نسب يادين بن محمد. وفي محمد هذا يجتمع يادين وبنو راشد، ثم يجتمع محمد مع ورتاجن في زرجيك [3] بن واسين، وكانوا كلّهم معروفين بين زناتة الأولى ببني واسين قبل أن تعظم هذه البطون والأفخاذ، وتتشعب مع الأيام. وبأرض إفريقية وصحراء برقة وبلاد الزاب منهم طوائف من بقايا زناتة الأولى قبل انسياحهم إلى المغرب، فمنهم بقصور غدامس على عشرة مراحل قبلة سرت، وكانت مختطّة منذ عهد الإسلام، وهي خطة مشتملة على قصور وآطام عديدة، وبعضها لبني ورتاجن وبعضها لبني واطاس من أحياء بني مرين، يزعمون أنّ أوليتهم اختطّوها، وهي لهذا العهد قد استبحرت في العمارة،   [1] وفي نسخة أخرى: بن وجديج. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زردان وفي نسخة ثانية: ازردال. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زحيك وفي نسخة ثانية: زجيك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 واتسعت في التمدّن بما صارت محطّا لركاب الحاج من السودان، وقفل التجّار إلى مصر والاسكندرية عند اراحتهم من قطع المفازة ذات الرمال المعترضة أمام طريقهم دون الأرياف والتلول، وبابا لولوج تلك المفازة والحاج والتجر في مرجعهم ومنهم ببلد الحامة [1] غربيّ قابس أمّة عظيمة من بني ورتاجن. وفرّت منهم حاميتها، واشتدّت شوكتها ورحل إليها التجر بالبضائع لنفاق أسواقها، وتبحّر عمرانها، وامتنعت لهذا العهد على من يرومها ممن يجاورها، فهم لا يؤدّون خراجا ولا يسامون بمغرم، حتى كأنهم لا يعرفونه عزة جناب، وفضل بأس ومنعة. ويزعمون أنّ سلفهم من بني ورتاجن اختطّوها، ورياستهم في بيت منهم يعرفون ببني وشاح، ولربّما طال على رؤسائهم عهد الخلافة ووطأة الدولة فيتطاولون إلى التي تنكر على السوقة من اتخاذ الآلة، ويبرزون في زيّ السلطان أيام الزينة تهاونا بشعار الملك، ونسيانا لمألوف الانقياد شأن جيرانهم رؤساء توزر ونفطة. وسابق الغاية في هذه الضحكة هو يملول مقدّم توزر. (ومن بني واسين) هؤلاء بقصور مصاب على خمس مراحل من جبل قيطري في القبلة لما دون الرمال على ثلاث مراحل من قصور بني ريغة في المغرب، وهذا الاسم للقوم الذين اختطّوها ونزلوها من شعوب بني يادين [2] حسبما ذكرناهم الآن. وضعوها في أرض حرّة على أحكام [3] وضراب ممتنعة في قننها. وبينها وبين الأرض المحجرة المعروفة بالجمادة في سمت العرق متوسطة فيه قبالة تلك البلاد على فراسخ في ناحية القبلة، وسكانها لهذا العهد شعوب بني يادين من بني عبد الواد وبني توجين ومصاب وبني زردال فيمن انضاف إليهم من شعوب زناتة، وإن كانت شهرتها مختصة بمصاب، وحالها في المباني والاغتراس وتفرّق الجماعات بتفرّق الرئاسة شبيهة بحال بني ريغة والزاب. ومنهم بجبل أوراس بإفريقية طائفة من بني عبد الواد موطّنوه منذ العهد القديم لأوّل الفتح، معروفون بين ساكنيه. (وقد ذكر) بعض الأخباريين أنّ بني عبد الواد حضروا مع عقبة بن نافع في فتح المغرب عند ايغاله في ديار المغرب، وانتهائه إلى البحر المحيط بالسوس في ولايته   [1] وفي نسخة ثانية: ومنهم ببلاد الحمة. [2] وفي نسخة ثانية: بني يادين. [3] وفي نسخة ثانية: آكام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 الثانية. وهي الغزاة التي هلك فيها في منصرفه منها، وأنهم أبلوا البلاء الحسن فدعا لهم وأذن في رجوعهم قبل استتمام الغزاة. ولما تحيّزت زناتة أمام كتامة وصنهاجة اجتمع شعوب بني واسين هؤلاء كلّهم ما بين ملوية كما ذكرناه. وتشعّبت أحياؤهم وبطونهم، وانبسطوا في صحراء المغرب الأقصى والأوسط إلى بلاد الزاب وما إليها من صحارى إفريقية إذ لم يكن للعرب في تلك المجالات كلّها مذهب ولا مسلك إلى المائة الخامسة كما سبق ذكره. ولم يزالوا بتلك البلاد مشتملين لبوس العزّ مشمّرين للانفة، وكانت مكاسبهم [1] الأنعام والماشية، وابتغاؤهم الرزق من تحيّف السابلة، وفي ظل الرماح المشرّعة، وكانت لهم في محاربة الأحياء والقبائل ومنافسة الأمم والدول ومغالبة الملوك أيام ووقائع، نلمّ بها ولم تعظم العناية باستيعابها، فنأتي به. والسبب في ذلك أنّ اللسان العربيّ كان غالبا لغلبة دولة العرب وظهور الملّة العربية، فالكتاب والخط بلغة الدولة ولسان الملك، واللسان العجمي مستتر بجناحه مندرج في غماده، ولم يكن لهذا الجيل من زناتة في الأحقاب القديمة ملك يحمل أهل الكتاب على العناية بتقييد أيامهم وتدوين أخبارهم، ولم تكن مخالطة بينهم وبين أهل الأرياف والحضر، حتى يشهدوا آثارهم لإبعادهم في القفار كما رأيت في مواطنهم، وتوحّشهم عن الانقياد، فبقوا غفلا إلى أن درس منها الكثير، ولم يصل إلينا بعد ملكهم إلّا الشارد القليل يتبعه المؤرّخ المضطلع في مسالكه، ويتقرّاه في شعابه ويثيره من مكامنه، وأقاموا بتلك القفار إلى أن تسنّموا منها هضبات الملك على ما تصفه.   [1] وفي نسخة ثانية: وكان جل مكاسبهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 (الخبر عن أحوال هذه الطبقة قبل الملك وكيف كانت تصاريف أحوالهم الى أن غلبوا على الملك والدول) وذلك أنّ أهل هذه الطبقة من بني واسين وشعوبهم التي سمّيناها كانوا تبعا لزناتة الأولى. ولما انزاحت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتامة وصنهاجة، خرج بنو واسين هؤلاء إلى القفر ما بين ملوية وصا، فكانوا يرجعون إلى ملك المغرب لذلك العهد. مكناسة أوّلا ثم مغراوة من بعدهم. ثم حسر تيّار بني صنهاجة عن المغرب وتقلّص ملكهم، بعض الشيء وصاروا إلى الاستجاشة على القاصية بقبائل زناتة، فأومضت بروقهم، ورفت في ممالك زناتة منابتهم كما قدّمناه. واقتسم أعمالها بنو ومانو وبنو يلومي ناحيتين، وكانت ملوك صنهاجة أهل القلعة إذا عسكروا للغرب يستنفرونهم لغزوه، ويجمعون حشدهم للتوغّل فيه، وكان بنو واسين هؤلاء ومن تشعّب معهم من القبائل الشهيرة الذكر مثل بني مرين وبني عبد الواد وبني توجين ومصاب قد ملكوا القفر ما بين ملوية وأرض الزاب، وامتنعت عليهم المغربان ممن ملكها من زناتة الذين ذكرناهم. (وكان) أهل الرئاسة بتلك الأرياف والضواحي من زناتة مثل بني ومانوا وبني يلومي بالمغرب الأوسط، وبني يفرن ومغراوة بتلمسان يستجيشون بني واسين هؤلاء وشعوبهم، ويستظهرون بجموعهم على من زاحمهم أو نازعهم من ملوك صنهاجة وزناتة وغيرهم، يحاجون [1] بهم عن مواطنهم لذلك، ويقرضونهم القرض الحسن من المال والسلاح والحبوب المعوزة لديهم بالقفار، فيتأثلون منهم ويرتاشون. وعظمت حاجة بني حمّاد إليهم في ذلك عند ما عصفت بهم ريح العرب الضوالع من بني هلال بن عامر، وصرعوا دولة المعزّ وصنهاجة بالقيروان والمهديّة والإيواء عن مدّهم [2] ، وزحفوا إلى المغرب الأوسط فدافعوا بني حمّاد عن حوزته وأوعزوا إلى زناتة بمدافعتهم أيضا، فاجتمع لذلك بنو يعلى ملوك تلمسان من مغراوة وجمعوا من كان إليهم من بني واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين وبني راشد. وعقدوا   [1] وفي نسخة ثانية: يجأجئون بهم من مواطنهم لذلك. [2] وفي نسخة ثانية: والأنواء من حدهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 على حرب الهلاليين لوزيرهم أبي سعدى خليفة بن [1] اليفرني، فكان له مقامات في حروبهم ودفاعهم عن ضواحي الزاب وما إليه من بلاد إفريقية والمغرب الأوسط إلى أن هلك في بعض أيامه معهم، وغلب الهلاليون قبائل زناتة على جميع الضواحي وأزاحوهم عن الزاب وما إليه من بلاد إفريقية، وانشمر بنو واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين عن الزاب إلى مواطنهم بصحراء المغرب الأوسط من مصاب وجبل راشد إلى ملوية فيكيك. ثم إلى سجلماسة ولاذوا ببني ومانوا وبني يلومي ملوك الضواحي بالمغرب الأوسط، وتفيّؤا ظلّهم واقتسموا ذلك القفر بالمواطن، فكان لبني مرين الناحية الغربية منها قبلة المغرب الأقصى بتيكورارين ودبّروا إلى ملوية وسجلماسة، وبعدوا عن بني يلومي إلا في الأحايين وعند الصريخ، وكان لبني يادين منها الناحية الشرقية قبلة المغرب الأوسط ما بين فيكيك ومديونة إلى جبل راشد ومصاب. وكان بينهم وبين بني مرين فتن متصلة باتصال أيامهم في تلك المواضع [2] بسيل القبائل الجيران في مواطنهم، وكان الغلب في حروبهم أكثر ما يكون لبني يادين لما كانت شعوبهم أكثر وعددهم أوفر، فإنّهم كانوا أربعة: شعوب بني عبد الواد وبني توجين وبني زردال وبني مصاب، كان معهم شعب آخر وهم إخوانهم بنو راشد، لأنّا قدّمنا أنّ راشدا أخو يادين. وكان موطن بني راشد الجبل المشهور بهم بالصحراء، ولم يزالوا على هذه الحال إلى أن ظهر أمر الموحدين، فكان لبني عبد الواد وتوجين ومغراوة من المظاهرة لبني يلومي على الموحدين ما هو مذكور في أخبارهم. ثم غلب الموحدون على المغرب الأوسط وقبائله من زناتة فأطاعوا وانقادوا، وتحيّز بنو عبد الواد وبنو توجين إلى الموحدين وازدلفوا إليهم بامحاض النصيحة ومشايعة الدعوة، وكان التقدم لبني عبد الواد دون الشعوب الآخر، وأمحضوا النصيحة للموحدين فاصطنعوهم دون بني مرين كما نذكر في أخبارهم وترك [3] الموحدون ضواحي المغرب الأوسط كما كانت لبني يلومي وبني ومانوا فملكوها. وتفرّد بنو مرين بعد دخول بني يادين إلى المغرب الأوسط بتلك الصحراء، لما اختار الله لهم   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والده في المراجع التي بين أيدينا. [2] وفي نسخة أخرى: المواطن. [3] وفي نسخة أخرى: واقطعهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 من وفور قسمهم في الملك، واستيلائهم على سلطان المغرب الّذي غلبوا به الدول، واشتملوا الأقطار ونظّموا المشارق إلى المغارب، واقتعدوا كراسي الدول المسامتة لهم بأجمعها ما بين السوس الأقصى إلى إفريقية. والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده. فأخذ بنو مرين وبنو عبد الواد من شعوب بني واسين بحظ من الملك أعادوا فيه لزناتة دولة وسلطانا في الأرض، واقتادوا الأمم برسن الغلب، وناغاهم في ذلك الملك البدوي إخوانهم بنو توجين، وكان في هذه الطبقة الثانية بقية أخرى مما ترك آل خزر من قبائل مغراوة الأولى، كانوا موطنين بقرار عزّهم ومنشأ جيلهم بوادي شلف، فجاذبوا هؤلاء القبائل حبل الملك وناغوهم في أطوار الرئاسة، واستطالوا بمن وصل جناحهم من هذه العشائر فتطاولوا إلى مقاسمتهم في الماء [1] ومساهمتهم في الأمر، وما زال بنو عبد الواد في الغضّ من عنانهم وجدع أنوف عصبيتهم حتى أوهنوا من بأسهم، وخصّت الدولة العبد الوادية ثم المرينية بسمة الملك المخلّفة من جناح تطاولهم، وتمحض ذلك كله عن استبداد بني مرين واستتباعهم لجميع هؤلاء العصائب كما نذكر لك الآن دولهم واحدة بعد أخرى، ومصائر هؤلاء القبائل الأربعة التي هي رءوس هذه الطبقة الثانية من زناتة. والملك للَّه يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين. ولنبدأ منها بذكر مغراوة) بقية الطبقة الأولى وما كان لرؤسائهم أولاد منديل من الملك في هذه الطبقة الثانية، كما ستراه إن شاء الله تعالى. (الخبر عن أولاد منديل من الطبقة الثانية وما أعادوا لقومهم مغراوة من الملك بموطنهم الأول من شلب وما إليه من نواحي المغرب الأوسط) لما ذهب الملك من مغراوة بانقراض ملوكهم آل خزر، واضمحلت دولتهم بتلمسان وسجلماسة وفاس وطرابلس، وبقيت قبائل مغراوة متفرقة في مواطنها الأولى بنواحي المغربين وإفريقية بالصحراء والتلول، والكثير منهم بعنصرهم ومركزهم الأول بوطن   [1] وفي نسخة أخرى: الملك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 شلف وما إليه، فكان به بنو ورسيفان وبنو يرنا وبنو ينلت [1] . ويقال إنهم من وترمار وبنو سعيد وبنو زحاك [2] وبنو سنجاس، وربما يقال إنهم من زناتة وليسوا من مغراوة، وكان بنو خزرون الملوك بطرابلس لما انقرض أمرهم، وافترقوا في البلاد، ولحق منهم عبد الصمد بن محمد بن خزرون بجبل أوراس فرارا من أهل بيته هنالك الذين استولوا على الأمر وجدّه خزرون بن خليفة السادس من ملوكهم بطرابلس، فأقام بينهم أعواما. ثم ارتحل عنهم فنزل على بقايا قومه مغراوة بشلف من بني ورسيفان وبني ورتزمين وبني بوسعيد وغيرهم، فتلقّوهم بالمبرّة والكرامة، وأوجبوا له حق البيت الّذي ينسب إليه فيهم، وأصهر إليهم فأنكحوه وكثر ولده وعرفوا بينهم ببني محمد، ثم بالخزريّة نسبة إلى سلفه الأول. وكان من ولده الملقّب أبو ناس بن عبد الصمد بن ورجيع بن عبد الصمد. وكان منتحلا للعبادة والخيرية، وأصهر إليه بعض ولد ماخوخ ملوك بني وماتوا بابنته، فأنكحه إيّاها، فعظم أمره عندهم بقومه ونسبه وصهره. وجاءت دولة الموحدين على أثر ذلك فرمقوه بعين التجلّة لما كان عليه من طرق الخير، فأقطعوه بوادي شلف وأقام على ذلك. وكان له من الولد ورجيع وهو كبيرهم، وغربي ولغريات [3] وماكور، ومن بنت ماخوخ عبد الرحمن، وكان أجلّهم شأنا عنده وعند قومه عبد الرحمن هذا، لما يوجبون له بولادة ماخوخ لأمّه، ويتفرّسون فيه أنّ له ولعقبه ملكا. وزعموا أنه لما ولد خرجت به أمه إلى الصحراء فألقته إلى شجرة وذهبت في بعض حاجاتها، فأطاف به يعسوب من النحل متواقعين عليه، وبصرت به على البعد فجاءت تعدو لما أدركها من الشفقة، فقال لها بعض العارفين: خففي عنك فو الله ليكوننّ لهذا شأن. ونشأ عبد الرحمن هذا في جوّ هذه التجلّة مدلّا بنسبه وبأسه، وكثرت عشيرته من بني أبيه، واعصوصب عليه قبائل مغراوة، فكان له بذلك شوكة. وفي دولة الموحدين تقدمة، لما كان يوجب لهم على نفسه من الانحياش والمخالطة والتقدّم في مذاهب الطاعة. وكان السادة منهم يمرّون به غزواتهم إلى إفريقية ذاهبين وجائين [4] ، فينزلون منه خير نزل، وينقلبون بحمده والشكر لمذهبه،   [1] وفي النسخة الباريسية: بنو ووترمار وبنو يلتت وفي نسخة ثانية: بنو ووتزمان وبنو ايليت. [2] وفي نسخة ثانية: زجاك. [3] وفي نسخة ثانية: عزيز ويغريان. [4] وفي نسخة ثانية: راجعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 فيزيد خلفاؤهم اغتباطا به. وأدرك بعض السادة وهو بأرض قومه الخبر بمهلك الخليفة بمراكش، فخلف الذخيرة والظهر، وأسلمها لعبد الرحمن هذا، ونجا بدمائه بعد أن صحبه إلى تخوم وطنه، فكانت له بها ثروة أكسبته قوّة وكثرة فاستركب من قومه، واستكثر من عصابته وعشيرته. وهلك خلال ذلك وقد فشل ريح بني عبد المؤمن وضعف أمر الخليفة بمراكش. (وكان له من الولد) منديل وتميم، وكان أكبرهما منديل، فقام بأمر قومه على حين عصفت رياح الفتنة، وسما لمنديل أمل في التغلّب على ما يليه، فاستأسد في عرينه وحامي عن أشباله. ثم فسح خطوته إلى ما جاوره من البلاد فملك جبل وانشريس والمريّة وما إلى ذلك واختط قصبة مرات. وكان بسيط متيجة لهذا العهد في العمران آهلا بالقرى والأمصار. (ونقل الأخباريون) أنّ أهل متيجة لذلك العهد يجمعون في ثلاثين مصرا فجاس خلالها وأوطأ الغارات ساحتها وخرّب عمرانها حتى تركها خاوية على عروشها. وهو في ذلك يوهم التمسّك بطاعة الموحدين، وأنه سلم لمن سالمهم حرب لمن عاداهم. وكان ابن غانية منذ غلبه الموحدون عن إفريقية قد أزاحوه إلى قابس وما إليها، فنزل الشيخ أبو محمد بن أبي حفص بتونس ودفعه إلى إفريقية إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة فطمع يحيى بن غانية في استرجاع أمره وسبق إلى الثغور والأمصار يعبث فيها ويخرّبها، ثم تجاوز إفريقية إلى بلاد زناتة وشنّ عليها الغارات واكتسح البسائط، وتكرّرت الوقائع بينه وبينهم، فجمع له منديل بن عبد الرحمن ولقيه بمتيجة، وكانت الدبرة عليه وانفضت عنه مغراوة، فقتله ابن غانية صبرا سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين وستمائة وتغلّب على الجزائر أثر نكبته، فصلب شلوه بها وصيره مثلا للآخرين. وقام بأمره في قومه بنوه، وكان منجبا فكان لهم العدد والشرف، وكانوا يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم العبّاس، فتقلّد [1] مذاهب أبيه واقتصر على بلاد متيجة. ثم غلبهم بنو توجين على جبل وانشريس وضواحي المريّة وما إلى ذلك. وانقبضوا إلى مركزهم الأوّل شلف، وأقاموا فيها ملكا بدويا لم يفارقوا فيه الظعن والخيام والضواحي والبسائط. واستولى على مدينة مليانة وتنس وبرشك وشرشال   [1] وفي نسخة ثانية: فتقبّل مذاهب أبيه وأقصر على بلاد متيجة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 مقيمين فيها للدعوة الحفصيّة واختطوا قرية مازونة. (ولما استوسق) الملك بتلمسان ليغمراسن بن زيان، واستفحل سلطانه بها وعقد له عليها ولأخيه من قبله عبد المؤمن، سما على التغلّب على أعمال المغرب الأوسط، وزاحم بني توجين وبني منديل هؤلاء بمكناسة فلفتوا وجوههم جميعا إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص مديل الدولة بإفريقية من بني عبد المؤمن، وبعثوا إليه الصريخ على يغمراسن، فاحتشد لهم جميع الموحدين والعرب، وغزا تلمسان وافتتحها كما ذكرناه. ولما قفل إلى الحضرة عقد في مرجعه لأمراء زناتة كل على قومه ووطنه، فعقد للعبّاس ابن منديل على مغراوة، ولعبد القوي على توجين ولا ولاد حورة [1] على ملكيش، وسوّغ لهم اتخاذ الآلة فاتخذوها بمشهد منه. وعقد العبّاس السلم مع يغمراسن، ووفد عليه بتلمسان فلقاه مبرّة وتكريما، وذهب عنه بعدها مغاضبا. يقال إنه تحدّث بمجلسه يوما فزعم أنه رأى فارسا واحدا يقاتل مائتين من الفرسان، فنكر ذلك من سمعه من بني عبد الواد وعرّضوا بتكذيبه، فخرج العبّاس لها مغاضبا حتى أتى بقومه، وأتى يغمراسن مصداق قوله، فإنه كان يعني بذلك الفارس نفسه. وهلك العبّاس لخمس وعشرين سنة بعد أبيه سنة سبع وأربعين وستمائة وقام بالأمر بعده أخوه محمد بن منديل وصلحت الحال بينه وبين يغمراسن وصاروا إلى الاتفاق والمهادنة، ونفر معه بقومه مغراوة إلى غزو المغرب سنة كلومان [2] وهي سنة سبع وأربعين وستمائة، هزمهم فيها يعقوب بن عبد الحق فرجعوا إلى أوطانهم وعاودوا شأنهم في العداوة. وانتقض عليهم أهل مليانة وخلعوا الطاعة الحفصيّة. (وكان من خبر) هذا الانتقاض أنّ أبا العباس أحمد الملياني كان كبير وقته علما ودينا ورواية، وكان عالي السند في الحديث فرحل إليه الأعلام، وأخذ عنه الأئمة وأوفت به الشهرة على ثنايا السيادة، فانتهت إليه رياسة بلده على عهد يعقوب المنصور وبنيه. ونشأ ابنه أبو عليّ في جوّ هذه العناية وكان جموحا للرئاسة طامحا للاستبداد، وهو مع ذلك خلو من المغارم. فلمّا هلك أبوه جرى في شأو رياسته طلقا، ثم رأى ما بين مغراوة وبني عبد الواد من الفتنة، فحدّثته نفسه بالاستبداد ببلده، فجمع لها   [1] وفي النسخة الباريسية: حتورة وفي نسخة ثانية: حبورة. [2] وفي نسخة اخرى: كلدمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 جراميزه، وقطع الدعاء للخليفة المستنصر سنة تسع وخمسين وستمائة، وبلغ الخبر الى تونس فسرّح الخليفة أخاه في عسكر من الموحدين في جملته «دون الديك بن هرنزة [1] » من آل أدفونش ملوك الجلالقة، كان نازعا إليه عن أبيه في طائفة من قومه، فنازلوا مليانة أياما. وداخل السلطان طائفة من مشيخة البلد المنحرفين عن ابن الملياني، فسرّب إليهم جنودا بالليل واقتحموها من بعض المداخل، وفرّ أبو عليّ الملياني تحت الليل. وخرج من بعض قنوات البلد، فلحق بأحياء العرب، ونزل على يعقوب بن موسى بن العطاف من بطون زغبة، فأجاره إلى أن لحق بعدها بيعقوب بن عبد الحق، فكان من أمره ما ذكرناه في أخبارهم. وانصرف عسكر الموحدين والأمير أبو حفص إلى الحضرة، وعقد لمحمد بن منديل على مليانة، فأقام بها الدعوة الحفصية على سنن قومه. ثم هلك محمد بن منديل سنة اثنتين وستين وستمائة لخمس عشرة من ولايته، قتله أخواه ثابت وعابد بمنزل ظواعنهم بالخيس [2] من بسيط بلادهم، وقتل معه عطية ابن أخيه منيف وتولّى عابد وشاركه ثابت في الأمر، واجتمع إليه قومه وتقطع ما بين أولاد منديل وخشّنت صدورهم. واستغلظ يغمراسن بن زيان عليهم، وداخله عمر بن منديل في أن يمكّنه من مليانة، ويشدّ عضده على رياسة قومه، فشارطه على ذلك وأمكنه من أزمّة البلد سنة ثمان وستين وستمائة ونادى بعزل ثابت ومؤازرة عمر على الأمر فتمّ لهما ما أحكماه من أمرهما في مغراوة. واستمكن بها يغمراسن من قيادة قومه. ثم تناغى أولاد منديل في الازدلاف إلى يغمراسن بمثلها نكاية لعمر، فاتفق ثابت وعابد أولاد منديل أن يحكماه من تونس [3] فأمكناه منها سنة اثنتين وسبعين وستمائة على اثني عشر ألفا من الذهب. واستمرّت ولاية عمر إلى أن هلك سنة ست وسبعين وستمائة، فاستقل ثابت بن منديل برياسة مغراوة، وأجاز عابد أخوه إلى الأندلس للرباط والجهاد مع صاحبيه زيّان بن محمد بن عبد القوي وعبد الملك بن يغمراسن فحوّل زناتة واسترجع ثابت بلاد تونس ومليانة من يد يغمراسن، ونبذ إليه العهد، ثم استغلظ يغمراسن عليهم واستردّ تونس سنة إحدى وثمانين وستمائة بين يدي مهلكه.   [1] وفي نسخة اخرى: دون الريك بن هراندة. [2] وفي نسخة اخرى: بالخميس. [3] وفي نسخة ثانية: في تنس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 (ولما) هلك يغمراسن وقام بالأمر بعده ابنه عثمان انتقضت عليه تونس، ثم ردّد الغزو إلى بلاد توجين ومغراوة حتى غلبهم آخرا على ما بأيديهم، وملك المرية بمداخلة بني لمدية أهلها سنة سبع وثمانين وستمائة وغلب ثابت بن منديل على مازونة، فاستولى عليها ثم نزل له عن تونس أيضا فملكها. ولم يزل عثمان مراغما لهم إلى أن زحف إليهم سنة ثلاث وتسعين وستمائة فاستولى على أمصارهم وضواحيهم، وأخرجهم عنها وألجأهم إلى الجبال. ودخل ثابت بن منديل إلى برشك ممانعا دونها، فزحف إليهم عثمان وحاصره بها حتى إذا استيقن أنه محاط به [1] ، ركب البحر إلى المغرب، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين صريخا سنة أربع وتسعين وستمائة فأكرمه ووعده بالنصرة من عدوّه، وأقام بفاس وكانت بينه وبين ابن الأشهب من رجالات بني عسكر صحبة ومداخلة، فجاءه بعض الأيام الى منزله، ودخل عليه من غير استئذان وكان ابن الأشهب ثملا، فسطا به وقتله وثأر السلطان به منه، وانفجع لموته. وكان ثابت بن منديل قد أقام ابنه محمد الأمير في قومه، وولّاه عليهم لعهده واستبدّ بملك مغراوة دونه. (ولما انصرف) أبوه ثابت إلى قومه أقام هو في إمارته على مغراوة. وهلك قريبا من مهلك أبيه، فقام بأمرهم من بعده شقيقه عليّ، ونازعه الأمر أخواه رحمون ومنيف، فقتله منيف ونكر ذلك قومهما وأبوا من إمارتهما عليهم، فلحقا بعثمان بن يغمراسن فأجازهما إلى الأندلس. (وكان) أخوهما معمّر بن ثابت قائدا على الغزاة بالعزة [2] فنزل لمنيف عنها، فكانت أوّل ولاية وليها بالأندلس. ولحق بهم أخوهم عبد المؤمن فكانوا جميعا هنالك ومن أعقاب عبد المؤمن يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن، ومن أعقاب منيف [3] بن عمر بن منيف وجماعة منهم لهذا العهد بالأندلس. (ولما هلك) ثابت بن منديل سنة أربع وتسعين وستمائة كما قلناه، كفل السلطان ولده وأهله، وكان فيهم حافده راشد بن محمد، فأصهر إليه في أخته فأنكحه إياها. ونهض إلى تلمسان سنة ثمان وتسعين وستمائة فأناخ عليها، واختطّ مدينته لحصارها   [1] وفي نسخة ثانية: انه محيط به. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بالبغيرة، وفي نسخة ثانية بالنغيرة. [3] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم ابن عمر هذا في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 وسرّح عساكره في نواحيها، وعقد على مغراوة وشلف لعمر بن يعزن [1] بن منديل، وبعث معه جيشا ففتح مليانة وتونس ومازونة سنة تسع وتسعين وستمائة ووجد راشد في نفسه إذ لم يوله على قومه، وكان يرى أنه الأحق لنسبه وظهره، فنزع عن السلطان ولحق بجبال متيجة ودسّ إلى أوليائه من مغراوة حتى وجد فيهم الدخلة، فأجدّ [2] السير ولحق بهم، فافترق أمر مغراوة، وداخل أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وبيّت عمر بن ويعزن بأزمور [3] من ضواحي بلادهم فقتله، واجتمع عليه قومه وسرّح السلطان إليه الكتائب من بني عسكر لنظر الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق، ومن بني ورتاجن لنظر عليّ بن محمد الخير، ومن بني توجين لنظر أبي بكر بن إبراهيم بن عبد القوي. ومن الجند لنظر علي بن حسّان الصبحي من صنائعه، وعقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل، وزحفوا إلى مازونة وقد ضبطها راشد، وخلّف عليها عليّا وحمّوا ابني عمه يحيى بن ثابت. ولحق هو ببني بو سعيد مطلا عليهم وأناخت العساكر على مازونة، ووالوا عليها الحصار سنين حتى أجهدوهم. وبعث عليّ بن يحيى أخاه حمّو إلى السلطان من غير عهد فتقبّض عليه. ثم اضطره الجهد إلى مركب الغرور فخرج إليهم ملقيا بيده سنة ثلاث وسبعمائة وأشخصوه إلى السلطان فعفا عنه واستبقاه، واحتسبها تأنيسا واستمالة لراشد ثم سرّح العساكر الى قاصية الشرق لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب، فنازل راشد بن محمد في معقل بني بوسعيد، وطال حصاره إياه، وأمكنته الغرّة بعض الأيام في العساكر، وقد تعلقوا بأوعار البلد زاحفين إليه فهزمهم. وهلك في تلك الواقعة خلق من بني مرين وعساكر السلطان، وذلك سنة أربع وسبعمائة. وبلغ الخبر الى السلطان فأحفظه ذلك عليهم، وأمر بابن عمّه علي بن يحيى وأخيه حمّو ومن معهم من قومهم، فقتلوا رشقا بالسهام واستلحمهم.   [1] كذا في النسخة الباريسية ويعزن وفي نسخة ثانية: ويغرن. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: فأغذّ. [3] سمّاها ياقوت في معجم البلدان أزمورة بثلاث ضمات وكذلك ابن حوقل. وأزمور مدينة صغيرة على شاطئ المحيط الأطلنطي بين الدار البيضاء والجديدة على ضفة وادي أم الربيع، تعتبر مركزا مهما لقبائل. الحوزية وشتوكه بدكاله. ويرجع تاريخها الى العصور القديمة حيث عرفها الفينيقيون. (تقع المدينة على بعد 2 كلم من الشاطئ و 17 كلم من الجديدة و 80 كلم من البيضاء) . (المعجم التاريخي 3- كتاب المغرب/ 42. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 ثم سرّح أخاه أبا يحيى بن يعقوب ثانية سنة أربع وسبعمائة فاستولى على بلاد مغراوة، ولحق راشد بجبال صنهاجة من متيجة، ومعه عمّه منيف بن ثابت ومن اجتمع إليهم من قومهم، فنازلهم أبو يحيى بن يعقوب. وراسل راشد يوسف بن يعقوب فانعقدت بينهما السلم، ورجعت العساكر عنهم. وأجاز منيف بن ثابت معه بنيه وعشيرته إلى الأندلس، فاستقرّوا هنالك آخر الأيام. (ولمّا هلك) يوسف بن يعقوب بمناخه على تلمسان آخر سنة ست وسبعمائة انعقدت السلم بين حافده أبي ثابت وبين أبي زيّان بن عثمان سلطان بني عبد الواد على أن يخلي له بنو مرين عن جميع ما ملكوه من أمصارهم وأعمالهم وثغورهم، وبعثوا في حاميتهم وعمّالهم وأسلموها لعمّال أبي زيّان. وكان راشد قد طمع في استرجاع بلاده، وزحف إلى مليانة فأحاط بها. فلما نزل عنها بنو مرين لأبي زيّان وصارت مليانة وتونس له، أخفق سعي راشد وأفرج عن البلد. ثم كان مهلك أبي زيّان قريبا، وولّى أخوه أبو حمّو موسى بن عثمان واستولى على المغرب الأوسط فهلك تافريكت [1] سنة سبع وسبعمائة وملك بعدها مليانة والمريّة، ثم ملك تونس وعقد عليها لمولاه مسامح، وقارن ذلك حركة صاحب بجاية السلطان أبي البقاء خالد ابن مولانا الأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي إسحاق إلى متيجة لاسترجاع الجزائر من يد ابن علان الثائر بها عليهم، فلقيه هنالك راشد بن محمد وصار في جملته وظاهره على شأنه. ولقاه السلطان تكرمة وبرّا، وعقد له ولقومه حلفا مع صنهاجة أولياء الدولة والمتغلّبين على ضاحية بجاية وجبال زواوة، فاتصلت يد راشد بيد زعيمهم يعقوب بن خلوف أحد زعماء الدولة. ولما نهض السلطان للاستيثار بملك الحضرة بتونس، استعمل يعقوب بن خلوف على بجاية وعسكر معه راشد بقومه، وأبلى في الحروب بين يديه وأغنى في مظاهرة أوليائه حتى إذا ملك حضرتهم واستولى على تراث سلفهم، أسف حاجب الدولة راشد هذا وقومه بإمضاء الحكم في بعض حشمه، وتعرّض للحرابة في السابلة، فتقبّض عليه ورفع إلى سدّة السلطان فأمضى فيه حكم الله. وذهب راشد مغاضبا ولحق بوليّه ابن خلوف ومضطربه من زواوة. وكان يعقوب بن خلوف قد هلك وولّى السلطان مكانه   [1] وفي نسخة أخرى: تافركينت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 ابنه عبد الرحمن، فلم يرع حق أبيه في إكرام صديقه راشد. وتشاجر معه في بعض الأيام مشاجرة نكر عبد الرحمن فيها ملاحاة راشد له، وأنف منها، وأدلّ فيها راشد بمكانه من الدولة وببأس قومه، فلدغه بالقول وتناوله عبد الرحمن وحشمه وخزا بالرماح إلى أن أقعصوه [1] وانذعر جمع مغراوة ولحقوا بالثغور القاصية، وأقفر منهم شلف وما إليه كأن لم يكونوا به فأجاز منهم بنو منيف وبنو يعزن إلى الأندلس للمرابطة بثغور المسلمين، فكانت منهم عصابة موطّنة هناك أعقابهم لهذا العهد. وأقام في جوار الموحّدين فلّ آخر من أوساط قومهم كانوا شوكة في عساكر الدولة إلى أن انقرضوا ولحق علي بن راشد بعمّته في قصر بني يعقوب بن عبد الحق فكفلته، وصار أولاد منديل عصبا إلى وطن بني مرين فتولّوهم وأحسنوا جوارهم، وأصهروا إليهم سائر الدولة، إلى أن تغلّب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط ومحا دولة آل زيّان، وجمع كلمة زناتة، وانتظم مع بلادهم بلاد إفريقية وعمل الموحدين وكانت نكبته على القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة كما شرحناه قبل. فانتقضت العمالات والأطراف وانتزى أعياص الملك بمواطنهم الأولى، فتوثّب عليّ بن راشد بن محمد ابن ثابت بن منديل على بلاد شلف وتملّكها وتغلّب على أمصارها مليانة وتنس وبرشك وشرشال، وأعاد ما كان لسلفه بها من الملك على طريقتهم البدوية، وأرهفوا حدّهم لمن طالبهم من القبائل. وخلص السلطان أبو الحسن من ورطته إلى إفريقية، ثم من ورطة البحر من مرسى الجزائر إلى بجاية يحاول استرجاع ملكه المفرّق، فبعث إلى عليّ بن راشد وذكّره ذمّتهم فتذكر وحنّ، واشترط لنفسه التجافي له عن ملك قومه بشلف على أن يظاهره على بني عبد الواد فأبى السلطان أبو الحسن من اشتراط ذلك له، فتحيّز عنه إلى فينة بني عبد الواد الناجمين بتلمسان كما ذكرناه قبل، وظاهرهم عليه وبرز إليهم السلطان أبو الحسن من الجزائر والتقى الجمعان بشربونة [2] سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختلف مصافّ السلطان أبي الحسن وانهزم جمعه، وهلك ابنه الناصر، طاح دمه في مغراوة وهؤلاء. وخرج إلى الصحراء ولحق منها بالمغرب الأقصى كما نذكره بعد. وتطاول الناجمون بتلمسان من آل يغمراسن الى انتظام بلاد مغراوة في ملكهم كما كان   [1] قال الجوهري: يقال ضربه فاقعصه أي قتله مكانه. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: شربوبة وفي نسخة ثانية: شدبونة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 لسلفهم، فنهض إليهم بعساكر بني عبد الواد رديف سلطانهم وأخوه أبو ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، فأوطأ قومه بلاد مغراوة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وفلّ جموعهم وغلبهم على الضاحية والأمصار. وأحجر عليّ بن راشد بتنس في شرذمة من قومه، وأناخ بعساكره عليه وطال الحصار ووقع الغلب ولما رأى علي بن رشد أن قد أحيط به دخل الى زاوية من زوايا قصره انتبذ فيها عن الناس وذبح نفسه بحدّ حسامه، وصار مثلا وحديثا للآخرين. واقتحم البلد لحينه، واستلحم من عثر عليه من مغراوة، ونجا الآخرون إلى أطراف الأرض، ولحقوا بأهل الدول فاستركبوا واستلحقوا وصاروا جندا للدول وحشما وأتباعا، وانقرض أمرهم من بلاد شلف. ثم كانت لبني مرين الكرّة الثانية إلى تلمسان، وغلبوا آل زيّان ومحوا آثارهم. ثم فاء ظلّهم بملك السلطان أبي عنّان، وحسر تيارهم، وجدّد الناجمون من آل يغمراسن دولة ثانية بمكان عملهم على يد أبي حمّو الأخير ابن موسى بن يوسف كما نذكره في أخبارهم. ثم كانت لبني مرين الكرّة الثالثة إلى بلاد تلمسان، ونهض السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن إليها فدخلها فاتح سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وسرّح عساكره في اتباع أبي حمو الناجم بها من آل يغمراسن حين فرّ أمامه في قومه وأشياعه من العرب كما يأتي ذلك كله. ولما انتهت العساكر إلى البطحاء تلوموا هنالك أياما لإزاحة عللهم. وكان في جملتهم صبيّ من ولد عليّ بن راشد الذبيح اسمه حمزة، ربّي يتيما في حجر دولتهم لذمام الصهر الّذي لقومه فيهم، فكفلته نعمهم وكنفه جوّهم، حتى شبّ واستوى وسخط رزقه في ديوانهم وحاله بين ولدانهم، واعترض بعض الأيام قائد الجيوش الوزير أبا بكر بن غازي شاكيا، فجبهه وأساء ردّه، فركب الليل ولحق بمعقل بني بو سعيد من بلاد شلف فأجاروه ومنعوه، ونادى بدعوة قومه فأجابوه، وسرّح إليه السلطان وزيره عبد العزيز عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة كبير يتريعن [1] في جيش كثيف من بني مرين والجند فنزل بساحة ذلك الجبل حولا كريتا [2] فحاصرهم ينال منهم وينالون منه، وامتنعوا عليه واتهم السلطان وزيره بالمداهنة، وسعى به منافسوه، فتقبّض عليه، وسرّ وزيره الآخر أبا بكر بن غازي، فنهض يجرّ العساكر الضخمة والجيوش الكثيفة إلى أن نزل   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تيربيغين. [2] قال الجوهري: سنة كريت أي سنة تامة.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 بهم وصبحهم القتال، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأنزلهم من معقلهم. وفرّ حمزة بن عليّ في فلّ من قومه، فنزل ببلاد حصين المنتقضين كانوا على الدولة مع أبي زيّان بن أبي سعيد الناجم من آل يغمراسن حسبما نذكره. وأتى بنو أبي سعيد طاعتهم، وأخلصوا الضمائر في مغبتها فحسن موقعهم وبدأ حمزة في الرجوع إليهم فأغذّ السير في لمّة من قومه، حتى إذا ألمّ بهم نكروه لمكان ما اعتقلوا به من حبل الطاعة، فتساهل إلى البسائط وقصد تيمروغت [1] يظنّ بها غرّة ينتهزها، فبرز إليه حاميتها ففلّوا حدّة وردّوه على عقبه، وتسابقوا في اتباعه إلى أن تقبّضوا عليه، وقادوه إلى الوزير ابن غازي بن الكاس. فأوعز إليه السلطان بقتله مع جملة أصحابه، فضربت أعناقهم، وبعث بها إلى سدّة السلطان وصلب أشلاؤهم على خشب مسندة نصبها لهم ظاهر مليانة، ومحّى أثر مغراوة، وانقرض أمرهم وأصبحوا خولا للأمراء، وجندا في الدول، وأوزاعا في الأقطار كما كانوا قبل هذه الدولة الأخيرة لهم. والبقاء للَّه وحده، وكل شيء هالك إلّا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون لا ربّ غيره ولا معبود سواه وهو على كل شيء قدير.   [1] كذا في النسخة الباريسية، وفي نسخة أخرى: تيمزوغت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 الخبر عن بني عبد الواد من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم بتلمسان وبلاد المغرب الأوسط من الملك والسلطان وكيف كان مبدأ أمرهم ومصائر أحوالهم قد تقدّم لنا في أوّل هذه الطبقة الثانية من زناتة ذكر بني عبد الواد هؤلاء وأنهم من ولد يادين بن محمد إخوة توجين ومصاب وزردال وبني راشد، وأن نسبهم يرتفع إلى رزجيك بن واسين بن ورسيك بن جانا، وذكرنا كيف كانت حالهم قبل الملك في مواطنهم تلك. وكان إخوانهم بمصاب وجبل راشد وفيكيك وملوية، ووصفنا من حال فتنتهم مع بني مرين إخوانهم المجتمعين معهم بالنسب في رزجيك بن واسين. ولم يزل بنو عبد الواد هؤلاء بمواطنهم تلك وبنو راشد بنو زردال ومصاب منجدين إليهم بالنسب والحلف، وبنو توجين منابذين لهم أكثر أزمانهم. ولم يزالوا جميعا متغلّبين على ضاحية المغرب الأوسط عامة الأزمان، وكانوا تبعا فيه لبني ومانوا وبني يلومي حين كان لهم التغلّب فيهم. وربما يقال: كان شيخهم لذلك العهد يعرف بيوسف بن تكفا، حتى إذا نزل عبد المؤمن والموحّدون نواحي تلمسان، وسارت عساكرهم إلى بلاد زناتة تحت راية الشيخ أبي حفص، فأوقعوا بهم كما ذكرناه، وحسنت بعد ذلك طاعة بني عبد الواد وانحياشهم إلى الموحّدين. وكانت بطونهم وشعوبهم كثيرة أظهرها فيما يذكرون ستة: بنو ياتكين وبنو ولّلوا وبنو ورصطف ومصوصة وبنو تومرت وبنو القاسم. ويقولون بلسانهم أيت القاسم وأيت حرف الإضافة النسبية عندهم. ويزعم بنو القاسم هؤلاء أنهم من أولاد القاسم بن إدريس. وربّما قالوا في هذا القاسم إنه ابن محمد بن إدريس، أو ابن محمد بن عبد الله، أو ابن محمد بن القاسم وكلّهم من أعقاب إدريس، زعما لا مستند له إلّا اتفاق بني القاسم هؤلاء عليه، مع أن البادية بعداه عن معرفة هذه الأنساب. والله أعلم بصحة ذلك. (وقد قال يغمراسن) بن زيّان أبو ملوكهم لهذا العهد لما رفع نسبه إلى إدريس كما يذكرون فقال برطانتهم ما معناه: إن كان هذا صحيحا فينفعنا عند الله. وأمّا الدنيا فإنما نلناها بسيوفنا. ولم تزل رياسة بني عبد الواد في بني القاسم لشدّة شوكتهم واعتزاز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 عصبيتهم، وكانوا بطونا كثيرة فمنهم: بنو يكمثين [1] بن القاسم. وكان منهم ويعزن ابن مسعود بن يكمثين وأخواه يكمثين وعمر، وكان أيضا منهم أغدوي [2] بن يكمثين الأكبر، ويقال الأصغر. ومنهم أيضا عبد الحق بن منغفاد من ولد ويعزن، وكانت الرئاسة عليهم لعهد عبد المؤمن لعبد الحق بن منغفاد وأغدوي بن يكمثين وعبد الحق ابن منغفاد هو الّذي استنقذ الغنائم من يدي بني مرين، وقتل المخضب المسوّف حين بعثه عبد المؤمن مع الموحّدين لذلك، والمؤرّخون يقولون: عبد الحق بن معاد بميم وعين مهملة مفتوحتين وألف بعدها دال، وهو غلط، وليس هذا اللفظ بهذا الضبط من لغة زناتة، وإنما هو تصحيف منغفاد بميم ونون مفتوحتين وغين بعدهما معجمة ساكنة وفاء مفتوحة، والله أعلم. (ومن بطون) بني القاسم أيضا: بنو مطهر بن يمل بن يزكين [3] بن القاسم وكان حمامة ابن مطهر من شيوخهم لعهد عبد المؤمن، وأبلى في حروب زناتة مع الموحدين، ثم حسنت طاعته وانحياشه. (ومن بطون) بني القاسم أيضا: بنو عليّ، وإليهم انتهت رياستهم وهم أشدّ عصبيّة وأكثر جمعا، وهم أربعة أفخاذ: بنو طاع الله، وبنو دلول وبنو كمين [4] وبنو معطي بن جوهر، والأربعة بنو عليّ. ونصاب الرئاسة في بني طاع الله لبني محمد بن زكراز [5] بن تيدوكسن بن طاع الله، هذا ملخص الكلام في نسبهم. (ولما) ملك الموحدون بلاد المغرب الأوسط وأبلوا من طاعتهم وانحياشهم ما كان سببا لاستخلاصهم، فأقطعوهم عامّة بلاد بني ومانوا، وأقاموا بتلك المواطن، وحدثت الفتنة بين بني طاع الله وبني كمين إلى أن قتل كندوز بن [6] من بني كمين زيّان بن ثابت كبير بني محمد بن زكراز [7] وشيخهم وقام بأمرهم بعده جابر ابن عمه يوسف بن محمد، فثار كندوز بزيّان ابن عمه وقتله في بعض أيامهم وحروبهم.   [1] وفي نسخة ثانية: مكنيمن. [2] وفي نسخة ثانية: أعدوي. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يزكن وفي نسخة ثانية بني مزكن. [4] وفي نسخة ثانية: بنو كمي. [5] وفي نسخة ثانية: ابن زكرّان. [6] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد كندوز هذا في المراجع التي بين أيدينا. [7] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكدان وفي نسخة ثانية: زكدار وفي أخرى أيضا: زكداز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 ويقال قتله غيلة، وبعث برأسه ورءوس أصحابه إلى يغمراسن بن زيّان بن ثابت، فنصبت عليها القدور أثافي شفاية لنفوسهم من شأن أبيه زيّان. وافترق بنو كمين، وفرّ بهم كبيرهم عبد الله بن كندوز، فلحقوا بتونس. ونزل على الأمير أبي زكريا كما نذكره بعد. واستبدّ جابر بن يوسف بن محمد برياسة بني عبد الواد. وأقام هذا الحيّ من بني عبد الواد بضواحي المغرب الأوسط، حتى إذا فشل ريح بني عبد المؤمن، وانتزى يحيى بن غانية على جهات قابس وطرابلس، وردّد الغزو والغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها وعاث فيها. وكبس الأمصار فأقتحمها بالغارة وإفساد السابلة وانتساف الزرع، وحطّم النعم إلى أن خربت، وعفا رسمها لسني الثلاثين من المائة السابعة. وكانت تلمسان نزلا للحامية ومناخا للسيد من القرابة الّذي يضمّ نشرها، ويذبّ عن أنحائها وكان المأمون قد استعمل على تلمسان أخاه السيد أبا سعيد، وكان مغفّلا ضعيف التدبير. وغلب عليه الحسن بن حبون من مشيخة قومه كومية، وكان عاملا على الوطن. وكانت في نفسه ضغائن من بني عبد الواد جرّها ما كان حدث لهم من التغلّب على الضاحية وأهلها، فأغرى السيد أبا سعيد بجماعة مشيخة منهم وفدوا عليه فتقبّض عليهم واعتقلهم. وكان في حامية تلمسان لمّة من بقايا لمتونة تجافت الدولة عنهم، وأثبتهم عبد المؤمن في الديوان وجعلهم مع الحامية. وكان زعيمهم لذلك العهد إبراهيم بن إسماعيل بن علّان، فشفع عندهم في المشيخة المعتقلين من بني عبد الواد فردّوه، فغضب وحمى أنفه وأجمع الانتقاض والقيام بدعوة ابن غانية، فجدّد ملك المرابطين من قومه بقاصية المشرق، فاغتال الحسن بن حبون لحينه، وتقبّض على السيد أبي سعيد وأطلق المشيخة من بني عبد الواد، ونقض طاعة المأمون وذلك سنة أربع وعشرين وسبعمائة فطيّر الخبر إلى ابن غانية فأجدّ إليه السير. ثم بدا له في أمر بني عبد الواد، ورأى أنّ ملاك أمره في خضد شكوتهم [1] وقصّ جناحهم، فحدث نفسه بالفتك بمشيختهم، ومكر بهم في دعوة وأعدهم لها، وفطن لتدبيره ذلك جابر بن يوسف شيخ بني عبد الواد، فواعده اللقاء والمؤازرة، وطوى له على النث [2] ، وخرج إبراهيم بن علّان إلى لقائه ففتك به جابر. وبادر إلى البلد فنادى بدعوة المأمون   [1] خضد الشجر: قطع شوكه: (قاموس) . [2] النث: نثّا الخبر: أفشاه (قاموس) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 وطاعته، وكشف لأهلها القناع عن مكر ابن علّان بهم، وما أوقعهم فيه من ورطة ابن غانية، فحمدوا رأيه وشكروا جابرا على صنيعه، وجدّدوا البيعة للمأمون. واجتمع إلى جابر في أمره هنا كافة بني عبد الواد وأحلافهم من بني راشد، وبعث إلى المأمون بطاعته واعتماله في القيام بدعوته فخاطبه بالشكر، وكتب له بالعهد على تلمسان وسائر بلاد زناتة على رسم السادات الذين كانوا يلون ذلك من القرابة، فاضطلع بأمر المغرب الأوسط. (وكانت) هذه الولاية ركوبا إلى صهوة الملك الّذي اقتعدوه من بعد. ثم انتقض عليه أهل اربونة [1] بعد ذلك فنازلهم وهلك في حصارها بسهم غرب سنة تسع وعشرين وسبعمائة. وقام بالأمر بعده ابنه الحسن وجدّد له المأمون عهده بالولاية، ثم ضعف عن الأمر وتخلى عنه لستة أشهر من ولايته. ودفع إليه عمّه عثمان بن يوسف، وكان سيّئ الملكة كثير العسف والجور فثارت به الرعايا بتلمسان وأخرجوه سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وارتضوا لمكانه ابن عمه زكراز [2] بن زيّان بن ثابت الملقّب بأبي عزة فاستدعوه لها، وولّوه على أنفسهم وبلدهم، وسلّموا له أمرهم وكان مضطلعا بأمر زناتة ومستبدا برياستهم ومستوليا على سائر الضواحي، فنفس بنو مطهر عليه وعلى قومه بني عليّ إخوانهم ما آتاهم الله من الملك، وأكرمهم الله به من السلطان وحسدوا زكراز وسلفه فيما صار لهم من الملك، فشاقوه ودعوا إلى الخروج عليه، واتبعهم بنو راشد أحلافهم منذ عهد الصحراء، وجمع لهم أبو عزة سائر قبائل بني عبد الواد، فكانت بينه وبينهم حرب سجال هلك في بعض أيامها سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وقام بالأمر بعده أخوه يغمراسن بن زيّان، فوقع التسليم والرضى به وسائر القبائل، ودان له بالطاعة جميع الأمصار. وكتب له الخليفة الرشيد بالعهد على عمله وكان له ذلك سلّما الى الملك الّذي أورثه بنيه سائر الأيام. والملك للَّه يؤتيه من يشاء.   [1] وفي نسخة ثانية: ندرومه وهو الصحيح كما في قبائل المغرب/ 426. [2] وفي نسخة ثانية: زكران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 الخبر عن تلمسان وما تأدّى إلينا من أحوالها من الفتح إلى أنّ تأثل بها سلطان بني عبد الواد ودولتهم هذه المدينة قاعدة المغرب الأوسط، وأم بلاد زناتة اختطّها بنو يفرن بما كانت في مواطنهم، ولم نقف على أخبارها فيما قبل ذلك. وما يزعم بعض العامّة من ساكنها أنها أزليّة البناء، وأنّ الجدار الّذي ذكر في القرآن في قصّة الخضر وموسى عليهما السلام هو بناحية أكادير منها، فأمر بعيد عن التحصيل لأنّ موسى عليه السلام لم يفارق المشرق إلى المغرب، وبنو إسرائيل لم يبلغ ملكهم لإفريقية، فضلا عمّا وراءها. وإنما هي من مقالات التشيّع المجبول عليه أهل العالم في تفضيل ما ينسب إليهم أو ينسبون إليه من بلد أو أرض أو أعلم أو صناعة. ولم أقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأنّ أبا المهاجر الّذي وليّ إفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية، توغّل في ديار المغرب ووصل إلى تلمسان، وبه سمّيت عيون أبي المهاجر قريبا منها. وذكرها الطبري عند ذكر أبي قرّة وإجلائه مع أبي حاتم والخوارج على عمر بن حفص. ثم قال: فأفرجوا عنه وانصرف أبو قرّة إلى مواطنه بنواحي تلمسان. وذكرها ابن الرقيق أيضا في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل استبداده بإفريقية، وأنه توغّل في غزوة إلى المغرب ونزلها، واسمها في لغة زناتة مركّب من كلمتين: تلم سان [1] ومعناهما تجمع اثنين يعنون البرّ والبحر. (ولما خلص) إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن إلى المغرب الأقصى واستولى عليه، نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين ومائة فتلقّاه محمد بن خزر بن صولات أمير زناتة وتلمسان، فدخل في طاعته وحمل عليها مغراوة وبني يفرن وأمكنه من تلمسان فملكها، واختطّ مسجدها [2] وصعد منبره وأقام بها أشهرا وانكفأ راجعا إلى المغرب. وجاء على أثره من المشرق أخوه سليمان بن عبد الله فنزلها وولّاه أمرها. ثم هلك إدريس وضعف أمرهم. ولما بويع لابنه إدريس من بعده واجتمع إليه برابرة   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخ اخرى: تلم سين وتلم سن وتتم سين وهذا كله تحريف. [2] ابرز ابن مرزوق اتفاق الرحالين. واجماع المتجولين على انهم لم يرو ثانيا لجامع تلمسان (المعجم التاريخي/ 20) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 المغرب نهض إلى تلمسان سنة تسع وتسعين ومائة، فجدّد مسجدها وأصلح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين دوّخ فيها بلاد زناتة. واستوسقت له طاعتهم. وعقد عليها لبني محمد ابن عمه سليمان. (ولما هلك إدريس) الأصغر واقتسم بنوه أعمال المغربين بإشارة أمّه كنزة، كانت تلمسان في سهمان عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان وأعمالها لبني أبيه محمد بن سليمان. فلما انقرضت دولة الأدارسة من المغرب، وولي أمره موسى بن أبي العافية بدعوة الشيعة، نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة ومائتين وغلب عليها أميرها لذلك العهد الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان، ففرّ عنها إلى مليلة، وبنى حصنا لامتناعه بناحية نكور، فحاصره مدّة، ثم عقد له سلما على حصنه. ولما تغلّب الشيعة على المغرب الأوسط أخرجوا أعقاب محمد بن سليمان من سائر أعمال تلمسان، فأخذوا بدعوة بني أميّة من وراء البحر وأجازوا إليهم. وتغلّب يعلى بن محمد اليفرني على بلاد زناتة والمغرب الأوسط، فعقد له الناصر الأموي عليها وعلى تلمسان أعوام أربعين وثلاثمائة. ولما هلك يعلى وأقام بأمر زناتة بعده محمد بن الخير بن محمد بن خزر داعية الحكم المستنصر فملك تلمسان أعوام ستين وثلاثمائة. وهلك في حروب صنهاجة وغلبوهم على بلادهم، وانجلوا إلى المغرب الأقصى ودخلت تلمسان في عمالة صنهاجة إلى أن انقسمت دولتهم، وافترق أمرهم. واستقلّ بإمارة زناتة وولاية المغرب زيري بن عطيّة، وطرده المنصور عن المغرب أعوام [1] ، فصار إلى بلاد صنهاجة وأجلب عليها، ونازل معاقلهم وأمصارهم مثل تلمسان وهراة [2] وتنس وأشير والمسيلة. ثم عقد المظفّر بعد حين لابنه المعزّ بن زيري على أعمال المغرب سنة ست وتسعين وثلاثمائة فاستعمل على تلمسان ابنه يعلى بن زيري واستقرّت ولايتها في عقبه إلى أن انقرض أمرهم على يد لمتونة. وعقد يوسف بن تاشفين عليها لمحمد بن تينعمر المسوفي وأخيه تاشفين من بعده، واستحكمت الفتنة بينه وبين المنصور بن الناصر صاحب القلعة من ملوك بني حمّاد، ونهض إلى تلمسان وأخذ بمخنقها، وكاد أن يغلب عليها كما ذكرنا ذلك كله في مواضعه.   [1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا. [2] وفي نسخة ثانية: وهدان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 (ولما غلب) عبد المؤمن لمتونة وقتل تاشفين بن علي بوهران خرّبها وخرّب تلمسان بعد أن قتل الموحّدون عامّة أهلها، وذلك أعوام أربعين من المائة السادسة. ثم راجع رأيه فيها وندب الناس إلى عمرانها، وجمع الأيدي على رمّ ما تثلّم من أسوارها، وعقد عليها لسليمان بن واندين من مشايخ هنتاتة وآخر [1] بين الموحّدين بين هذا الحيّ من بني عبد الواد بما أبلى من طاعتهم وانحياشهم. ثم عقد عليها لابنه السيّد أبي حفص، ولم يزل آل عبد المؤمن بعد ذلك يستعملون عليها من قرابتهم وأهل بيتهم ويرجعون إليه أمر المغرب كلّه وزناتة أجمع اهتماما بأمرها واستعظاما لعملها. وكان هؤلاء الأحياء من زناتة بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو راشد غلبوا على ضواحي تلمسان والمغرب الأوسط وملكوها. وتقلّبوا في بسائطها، واحتازوا باقطاع الدولة الكثير من أرضها والطيب من بلادها والوافر للجباية من قبائلها، فإذا خرجوا إلى مشاتيهم بالصحراء خلّفوا أتباعهم وحاشيتهم بالتلول لاعتمار أرضهم وازدراع فدنهم وجباية الخراج من رعاياهم. وكان بنو عبد الواد من ذلك فيها بين البطحاء وملوية، ساحله وريفه وصحراءه. وصرف ولاة الموحّدين بتلمسان من السادة نظرهم واهتمامهم بشأنها إلى تحصينها وتشييد أسوارها، وحشد الناس إلى عمرانها والتناغي في تمصيرها واتخاذ الصروح والقصور بها، والاحتفال في مقاصر الملك واتساع خطّة الدور. وكان من أعظمهم اهتماما بذلك وأوسعهم فيه نظرا السيّد أبو عمران موسى ابن أمير المؤمنين يوسف العشري ووليها سنة ست وخمسين وستمائة على عهد أبيه يوسف ابن عبد المؤمن. واتصلت أيام ولايته فيها، فشيّد بناءها وأوسع خطتها وأدار سياج الأسوار عليها، ووليها من بعد السيد ابو الحسن ابن السيّد أبي حفص بن عبد المؤمن، وتقبّل فيها مذهبه. (ولما كان) من أمر بني غانية وخروجهم من ميورقة سنة إحدى وثمانين ما قدّمناه وكبسوا بجاية فملكوها، وتخطّوا الى الجزائر ومليانة فغلبوا عليها، تلافى السيد أبو الحسن أمره بأنعام النظر في تشييد أسوارها والاستبلاغ في تحصينها وسدّ فروجها، واعماق الحفائر نطاقا عليها، حتى صيّرها من أعز معاقل المغرب وأحصن أمصاره، وتقبّل ولاتها هذا المذهب من بعده في المعتصم بها. (واتفق من الغرائب) . أنّ أخاه   [1] وفي نسخة ثانية: وآخى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 السيد أبا زيد هو الّذي دفع لحرب بني غانية فكان لها في رقع الخرق والمدافعة عن الدولة آثار. وكان ابن غانية قد اجتمع إليه ذؤبان العرب من الهلاليين بإفريقية، وخالفتهم زغبة إحدى بطونهم إلى الموحّدين، وتحيزوا إلى زناتة المغرب الأوسط، وكان مفزعهم جميعا ومرجع نقضهم وإبرامهم إلى العامل بتلمسان من السادة في مثواهم وحامي حقيقتهم. وكان ابن غانية كثيرا ما يجلب على ضواحي تلمسان وبلاد زناتة ويطرقها معه من ناعق الفتنة إلى أن خرّب كثيرا من أمصارها مثل تاهرت وغيرها، فأصبحت تلمسان قاعدة المغرب الأوسط، وأمّ هؤلاء الأحياء من زناتة والمغرب الكافية لهم المهيّئة في حجرها مهاد نومهم لما خرّبت المدينتان اللتان كانتا من قبل قواعد في الدول السالفة والعصور الماضية، وهما أرشكول بسيف البحر وتاهرت فيما بين الريف والصحراء من قبلة البطحاء وكان خراب هاتين المدينتين فيما خرّب من أمصار المغرب الأوسط فتنة ابن غانية وباجلاب هؤلاء الأحياء من زناتة وطلوعهم على أهلها بسوم الخسف والعيث والنهب، وتخطّف الناس من السابلة وتخريب العمران ومغالبتهم حاميتها من عساكر الموحدين، مثل: قصر عجيسة وزرفة والخضراء وشلف ومتيجة وحمزة ومرسى الدجاج والجعبات، ولم يزل عمران تلمسان يتزايد وخطّتها تتسع الصروح بها بالآجرّ والفهر [1] تعلى وتشاد إلى أن نزلها آل زيان واتخذوها دارا لملكهم، وكرسيّا لسلطانهم، فاختطوا بها القصور المؤنقة والمنازل الحافلة واغترسوا الرياض والبساتين وأجروا خلالها المياه، فأصبحت أعظم أمصار المغرب. ورحل إليها الناس من القاصية ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع، فنشأ بها العلماء واشتهر فيها الأعلام. وضاهت أمصار الدول الإسلامية والقواعد الخلافية. والله وارث الأرض ومن عليها (الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك والدولة بتلمسان وما اليها وكيف مهّد الأمر لقومه وأصاره تراثا لبنيه) كان يغمراسن بن زيّان بن ثابت بن محمد من أشدّ هذا الحيّ بأسا، وأعظمهم في   [1] الفهر: حجر رقيق تسحق به الادوية، وفي نسخة ثانية القرميد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 النفوس مهابة وإجلالا وأعرفهم بمصالح قبيله، وأقواهم كاهلا على حمل الملك واضطلاعا بالتدبير والرئاسة، شهدت له بذلك آثاره قبل الملك وبعده. وكان مرموقا بعين التجلّة مؤمّلا للأمر عند المشيخة وتعظمه من أمره عند الخاصّة، ويفزع إليه في نوائبها العامّة. فلمّا ولي هذا الأمر بعد أخيه أبي عزّة زكراز بن زيّان سنة ثلاث وثلاثين قام به أحسن قيام، واضطلع بأعبائه وظهر على بني مطهر وبني راشد الخارجين على أخيه، وأصارهم في جملته وتحت سلطانه. وأحسن السيرة في الرعيّة، واستمال عشيرته وقومه وأحلافهم من زغبة بحسن السياسة والاصطناع وكرم الجوار، واتخذ الآلة ورتّب الجنود والمسالح، واستلحق العساكر من الروم والغزّ رامحة وناشنبة. وفرض العطاء واتخذ الوزراء والكتّاب، وبعث في الأعمال ولبس شارة الملك والسلطان، واقتعد الكرسي ومحا آثار الدولة المؤمنية، وعطّل من الأمر والنهي دستها، ولم يترك من رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلّا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش، وتقلّد [1] العهد من يده تأنيسا للكافة ومرضاة للأكفّاء من قومه. ووفد عليه لأوّل دولته ابن وضّاح إثر الموحدين، أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس، فآثره وقرّب مجلسه وأكرم نزله، وأحلّه من الخلّة والشورى بمكان اصطفاه له. ووفد في جملته أبو بكر بن خطّاب المبايع لأخيه بمرسية، وكان مرسلا بليغا، وكاتبا مجيدا، وشاعرا محسنا، فاستكتبه وصدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحّدين بمراكش وتونس في عهود بيعاتهم ما تنوقل وحفظ. ولم يزل يغمراسن محاميا عن غيله محاربا لعدوّه. وكانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن ومديلهم آل أبي حفص مواطن في التمرّس به ومنازلة بلده، نحن ذاكروها كذلك. وبينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب وبعد ملكه وقائع متعدّدة. وله على زناتة الشرف من توجين ومغراوة في فلّ جموعهم وانتساف بلادهم وتخريب أوطانهم أيام مذكورة وآثار معروفة، نشير إلى جميعها إن شاء الله تعالى. (الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته) لما استقلّ يغمراسن بن زيّان بأمر تلمسان والمغرب الأوسط، وظفر بالسلطان وعلا   [1] وفي نسخة ثانية: وتناول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 كعبه على سائر أحياء زناتة، نفسوا عليه ما آتاه الله من العزّ، وكرّمه به من الملك، فنابذوه العهد وشاقوه الطاعة، وركبوا له ظهر الخلاف والعداوة، فشمّر لحربهم ونازلهم في ديارهم وأحجرهم في أمصارهم ومعتصماتهم من شواهق الجبال ومتمنع الأمصار. وكانت له عليهم أيام مشهورة ووقائع معروفة. وكان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن عبّاس شيخ بني توجين أقتالهم من بني يادين، والعباس بن منديل بن عبد الرحمن وإخوته أمراء مغراوة. وكان المولى الأمير أبو زكريا بن أبي حفص منذ استقلّ بأمر إفريقية واقتطعها من الإيالة المؤمنية سنة خمس وعشرين وستمائة كما ذكرناه متطاولا إلى احتياز المغرب والاستيلاء على كرسيّ الدعوة بمراكش، وكان يرى أنّ بمظاهرة زناتة له على شأنه يتمّ له ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل أمراء زناتة فيرغّبهم ويراسلهم بذلك على الأحيان من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة. وكان يغمراسن منذ تقلّد طاعة بني عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليّهم وحربا على عدوّهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البرّ والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا عام سبع وثلاثين وستمائة تقمنا لمسرّاته، وميلا إليه عن جانب أقتال بني مرين المجلبين على المغرب والدولة. وأحفظ الأمير أبا زكريا بن عبد الواحد صاحب إفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد، وهو من جواره بالمحل القريب، واستكره ذلك. وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القويّ بن عبّاس، وولد منديل بن محمد صريخين على يغمراسن وسهّلوا له أمره وسوّلوا له الاستيلاء على تلمسان، وجمع كلمة زناتة واعتدّا ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحّدين وانتظامه في أمره، وسلّما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وبابا للولوج على أهله، فحركه املاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم، وأهبّ بالموحّدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان، واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه، ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة، وسرّح أمام حركته عبد القويّ بن العبّاس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة، وأتباعهم وذؤبان قبائلهم، وأحياء زغبة أحلافهم من العرب، وضرب لهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم في المغرب، وافته هنالك أحياء زغبة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 من بني عامر وسويد، وارتحلوا معه حتى نازل تلمسان، فجمع عساكر الموحّدين وحشد زناتة وظعن المغرب، بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة والأعذار والبراءة والدعاء والطاعة فرجّعهم بالخيبة. (ولما حلّت) عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران، وعجزوا عن حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا على ذويه وخاصته، واعترضه عساكر الموحّدين فصمد نحوهم وجندل بعض أبطالهم، فأفرجوا له، ولحق بالصحراء. وانسلّت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان، واكتساح الأموال. ولما تجلّى عشاء تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة، وخمدت نار الحرب، راجع الموحدون بصائرهم، وأمعن الأمير نظره فيمن يقلّده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة المؤمن والمدافعة عنها. واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرّأ أمراء زناتة منه ضعفا عن مقاومة يغمراسن، وعلما بأنه الفحل الّذي لا يجدع أنفه، ولا يطرق غيله، ولا يصدّ عن فريسته، وسرّح يغمراسن الغارات في نواحي العسكر فاختطفوا الناس من حوله، وأطلوا من المراقب عليه. وخاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكريا راغبا في القيام بدعوته بتلمسان، فراجعه بالاسعاف واتصال اليد على صاحب مراكش، وسوّغه على ذلك جباية اقتطعها له، وأطلق أيدي العمّال ليغمراسن على جبايتها. ووفدت أمّه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم وصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله وفي أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة، فأجابهم وقلّد عبد القويّ بن عطية التوجيني، والعبّاس بن منديل المغراوي، وعليّ بن منصور الملكيشي [1] على قومهم ووطنهم، وعهد إليهم بذلك، وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوها بحضرته وبمشهد من ملك الموحّدين، وأقاموا مراسمها ببابه، وأغذّ السير لتونس قرير العين بامتداد ملكه،   [1] وفي نسخة ثانية: المليكشي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 وبلوغ وطره، والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده وحكمه، وإدالة عبد المؤمن فيه بدعوته. ودخل يغمراسن بن زيّان ووفّى للأمير أبي زكريا بعهده، وأقام بها الدعوة له على سائر منابره، وصرف إلى مشاقيه من زناتة وجوه عزائمه، فأذاق عبد القويّ وأولاد عبّاس وأولاد منديل نكال الحرب، وسامهم سوء العذاب والفتنة، وجاس خلال ديارهم وتوغّل في بلادهم وغلبهم على الكثير من ممالكهم، وشرّد عن الأمصار والقواعد ولاتهم وأشياعهم ودعاتهم، ورفع عن الرعيّة ما نالهم من عدوانهم وسوء ملكتهم وثقيل عسفهم وجورهم. ولم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصيّة ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن نهوض السعيد صاحب مراكش ومنازلته يغمراسن بجبل تامزردكت ومهلكه هنالك) لما انقضت دولة بني عبد المؤمن. وانتزى الثوّار والدعاة بقاصية أعمالهم. وقطعوها عن ممالكهم، فاقتطع ابن هود ما وراء البحر من جزيرة الأندلس واستبدّ بها، وورّى بالدعاء للمستنصر بن الظاهر خليفة بغداد من العبّاسيين لعهده، ودعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بإفريقية لنفسه، وسما إلى جمع كلمة زناتة والتغلّب على كرسي الدعوة بمراكش، فنازل تلمسان وغلب سنة أربعين وستمائة وقارن ذلك ولاية السعيد علي بن المأمون إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكان شهما حازما يقظا بعيد الهمّة، فنظر في أعطاف دولته، وفاوض الملأ في تثقيف أطرافها وتقويم مائلها، وأثار حفائظهم ما وقع من بني مرين في ضواحي المغرب. ثم في أمصاره واستيلائهم على مكناسة، وإقامتهم الدعوة الحفصيّة فيها كما نذكره. فجهّز الملوك والعساكر وأزاح عللهم، واستنفر عرب المغرب وما يليه [1] ، واحتشد كافة المصامدة. ونهض من مراكش آخر سنة خمس وأربعين وستمائة يريد القاصية، ويشرّد بني مرين عن الأمصار الدانية. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت،   [1] وفي نسخة ثانية: وقبائله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 وأغدّ السير إلى تازى، فوصلته هناك طاعة بني مرين كما نذكره. ونفر معه عسكر منهم، ونهض إلى تلمسان وما وراءها ونجا يغمراسن بن زيّان وبنو عبد الواد بأهليهم وأولادهم إلى قلعة تامزردكت قبلة وجدة، فاعتصموا بها. ووفد على السعيد الفقيه عبدون وزير يغمراسن مؤدّيا للطاعة ثابتا في مذاهب الخدمة، ومتوليا من حاجات الخليفة بتلمسان ما يدعوه إليه ويصرفه في سبيله، ومعتذرا عن وصول يغمراسن، فلجّ الخليفة في شأنه ولم يعذره. وأبي إلّا مباشرة طاعته بنفسه، وساعده في ذلك كانون بن جرمون السفياني صاحب الشورى بمجلسه ومن حضر من الملأ [1] ورجعوا عبدونا لاستقدامه، فتثاقل خشية على نفسه. واعتمد السعيد الجبل في عساكره وأناخ بها في ساحة [2] وأخذ بمخنقهم ثلاثا، ولرابعها ركب مهجرا على حين غفلة من الناس في قائلة ليتطوّف على المعتصم، ويتقرّى مكامنه، فبصر به فارس من القوم يعرف بيوسف بن عبد المؤمن الشيطان، كان أسفل الجبل للاحتراس وقريبا منه يغمراسن بن زيّان وابن عمّه يعقوب بن جابر فانقضوا عليه من بعض الشعاب، وطعنه يوسف فأكبّه عن فرسه، وقتل يعقوب بن جابر وزيره يحيى بن عطوش. ثم استلحموا لوقتهم مواليه ناصحا من العلوج وعنبرا من الخصيان، وقائد جند النصارى أخو القمط، ووليدا يافعا من ولد السعيد. (ويقال) إنما كان ذلك يوم عبّى العساكر وصعد الجبل للقتال، وتقدّم أمام الناس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعّرة في طريقه، فتواثب به هؤلاء الفرسان وكان ما ذكرناه، وذلك في صفر سنة ست وأربعين وستمائة. ووقعت النفرة في العساكر لطائر الخبر فأجفلوا، وبادر يغمراسن إلى السعيد وهو صريع بالأرض فنزل إليه وحيّاه وفدّاه وأقسم له على البراءة من هلكته، والخليفة وأجم بمصرعه يجود بنفسه إلى أن فاض وانتهب المعسكر بجملته، وأخذ بنو عبد الواد ما كان به من الأخبية والغازات. واختصّ يغمراسن بفسطاط السلطان فكان له خالصة دون قومه، واستولى على الذخيرة التي كانت فيه، منها مصحف عثمان بن عفّان رضي الله عنه يزعمون أنه أخذ المصاحف التي انتسخت لعهد خلافته، وأنه كان في خزائن قرطبة عند ولد عبد   [1] وفي نسخة ثانية: الجلة. [2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم هذه الساحة في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 الرحمن الداخل، ثم صار في ذخائر لمتونة فيما صار إليهم من ذخائر ملوك الطوائف بالأندلس، ثم إلى خزائن الموحّدين من خزائن لمتونة، وهو لهذا العهد في خزائن بني مرين فيما استولوا عليه من ذخيرة آل زيّان حين غلبهم إياهم على تلمسان، واقتحامها عنوة على ملكها منهم عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن فريسة السلطان أبي الحسن، مقتحمها غلابا سنة سبع وثلاثين وسبعمائة كما نذكره. ومنها العقد المنتظم من خرزات الياقوت الفاخرة والدرر، المشتمل على مئين متعدّدة من حصبائه يسمى بالثعبان، وصار في خزائن بني مرين بعد ذلك الغلاب فيما اشتملوا عليه من ذخيرتهم إلى أن تلف في البحر عند غزو الأسطول بالسلطان أبي الحسن بمرسى بجاية مرجعه من تونس حسبما نذكره بعد إلى ذخائر من أمثاله وطرف من أشباهه مما يستخلصه الملوك لخزائنهم ويعنون به من ذخائرهم. ولما سكنت النفرة وركد عاصف تلك الهيعة نظر يغمراسن في شأن مواراة الخليفة، فجهّز ورفع على الأعواد إلى مدفنه بالعبّاد بمقبرة الشيخ أبي مدين عفا الله عنه. ثم نظر في شأن حرمه وأخته تاعزونت الشهيرة الذكر، بعد أن جاءها واعتذر إليها مما وقع، وأصحبهنّ جملة من مشيخة بني عبد الواد إلى مأمنهنّ وألحقوهنّ بدرعة من تخوم طاعتهم، فكان له بذلك حديث جميل في الإبقاء على الحرم ورعى حقوق الملك ورجع إلى تلمسان. وقد خضدت شوكة بني عبد المؤمن وأمّنهم على سلطانه والله أعلم. (الخبر عما كان بينه وبين بني مرين من الاحداث سائر أيامه) قد ذكرنا ما كان بين هذين الحيين من المناغاة والمنافسة منذ الآماد المتطاولة بما كانت مجالات الفريقين بالصحراء متجاورة، وكان التخم بين الفريقين واديا إلى فيكيك. وكان بنو عبد المؤمن عند فشل الدولة وتغلّب بني مرين على ضاحية المغرب يستجيشون بني عبد الواد مع عساكر الموحّدين على بني مرين فيجوسون خلال المغرب ما بين تازى إلى فاس إلى القصر في سبيل المظاهرة للموحدين والطاعة لهم. وسنذكر أخبار بني مرين كثيرا من ذلك. فلما هلك السعيد وأسف بنو مرين إلى ملك المغرب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 سما ليغمراسن أمل في مزاحمتهم. وكان أهل فاس بعد تغلّب أبو يحيى بن عبد الحق عليهم قد نقموا على قومه سوء السيرة، وتمشّت رجالاتهم في اللياذ بطاعة الخليفة المرتضى ففعلوا فعلتهم في الفتك بعامل أبي يحيى بن عبد الحق، والرجوع إلى طاعة الخليفة. وأغدّ أبو يحيى المسير إلى منازلتهم، فحاصرهم شهورا وفي أثناء هذا الحصار اتصلت المخاطبة بين الخليفة المرتضى ويغمراسن بن زيان في الأخذ بحجزة أبي يحيى بن عبد الحق بفاس، فأجاب يغمراسن داعيه، واستنفر لها إخوانه من زناتة فنفر معه عبد القوي بن عطية بقومه من توجين وكافة القبائل من زناتة والمغرب، ونهضوا جميعا إلى المغرب. وبلغ خبرهم إلى أبي يحيى بن عبد الحق بمكانه من حصار فاس، فجهّز كتائبه عليها ونهض للقائهم في بقية العساكر، والتقى الجمعان بايسلي من ناحية وجدة، وكانت هناك الواقعة المشهورة بذلك المكان انكشف فيها جموع يغمراسن، وهلك منهم يغمراسن وغيره، ورجعوا في فلّهم إلى تلمسان، واتصلت بعد ذلك بينهم الحروب والفتنات سائر أيامه، وربما تخللتها المهادنات قليلا. وكان بينه وبين يعقوب بن عبد الحق ذمّة مواصلة أوجب له رعيها، وكثيرا ما كان يثني عليه أخوه أبو يحيى من أجلها. ونهض أبو يحيى بن عبد الحق سنة خمس وخمسين وستمائة إلى قتاله وبرز إليه يغمراسن، وتزاحف جموعهم بأبي سليط، فانهزم يغمراسن واعتزم أبو يحيى على اتباعه، فردّه أخوه يعقوب بن عبد الحق. (ولما) قفل إلى المغرب صمد يغمراسن إلى سجلماسة، لمداخلة كانت بينه وبين المنبات من عرب المعقل، أهل مجالاتها وذئاب فلاتها، حدّثته نفسه باهتبال الغرّة في سجلماسة من أجلها، وكانت قد صارت إلى إيالة أبي يحيى بن عبد الحق منذ ثلاث كما ذكرناه في أخبارهم. ونذر بذلك أبو يحيى، فسابق إليها يغمراسن بمن حضره من قومه فثقفها وسدّ فرجها. ووصل يغمراسن عقيب ذلك بعساكره، وأناح بها وامتنعت عليه فأفرج عنها قافلا إلى تلمسان. وهلك أبو يحيى بن عبد الحق إثر ذلك منقلبه إلى فاس، فاستنفر يغمراسن أولياءه من زناتة وأحياء زغبة، ونهض إلى المغرب سنة سبع وخمسين وستمائة وانتهى إلى كلدامان. ولقيه يعقوب بن عبد الحق في قومه فأوقع به. وولّى يغمراسن منهزما، ومرّ في طريقه بتافرسيت فانتسفها وعاث في نواحيها. ثم تداعوا للسلم ووضع أوزار الحرب، وبعث يعقوب بن عبد الحق ابنه أبا مالك بذلك، فتولّى عقده وإبرامه. ثم كان التقاؤهما سنة تسع وخمسين وستمائة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 بواجر [1] قبالة بني يزناسن، واستحكم عقد الوفاق بينهما بذلك، واتصلت المهادنة إلى أن كان بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن كائنة النصارى وإيقاع يغمراسن بهم) كان يغمراسن بن زيان بعد مهلك السعيد وانفضاض عساكر الموحدين قد استخدم طائفة من جند النصارى الذين كانوا في جملته مستكثرا بهم معتدّا بمكانهم مباهيا بهم في المواقف والمشاهد. وناولهم طرفا من حبل عنايته، فاعتزوا به واستفحل أمرهم بتلمسان حتى إذا كان سنة اثنتين وخمسين وستمائة بعد مرجعه من بلاد توجين في إحدى حركاته إليها، كانت قصة غدرهم الشنعاء التي أحسن الله في دفاعها عن المسلمين. وذلك أنه ركب في بعض أيامه لاعتراض الجنود بباب القرمادين [2] من أبواب تلمسان. وبينما هو واقف في موكبه عند قائلة الضحا عدا عليه قائدهم، وبادر النصارى إلى محمد بن زيّان أخي يغمراسن فقتلوه، وأشار له بالنجوى فبرز من الصف لاسراره وأمكنه من أذنه، فتنكّبه النصراني [3] وقد خالطه روعة أحس منها يغمراسن بمكره فانحاص منه، وركض النصراني أمامه يطلب النجاة، وتبين الغدر، وثارت بهم الدهماء من الحامية والرعايا، فأحيط بهم من كل جانب وتناولتهم أيدي الهلاك بكل مهلك قعصا بالرماح وهبرا بالسيوف وشدخا بالعصي والحجارة حتى استلحموا، وكان يوما مشهودا. ولم يستخدم من بعدها جند النصارى بتلمسان حذرا من غائلتهم. ويقال إنّ محمد بن زيّان هو الّذي داخل القائد في الفتك بأخيه يغمراسن، وأنه إنما قتله عند ما لم يتم لهم الأمر تبرءا من مداخلته، فلم يمهله غاشي الهيعة للتثبّت في شأنها والله أعلم.   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: براجر. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: المفرمادين وفي نسخة ثانية الغزمادين وأخرى: الترمادين. [3] الضمير هنا يعود الى قائدهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 (الخبر عن تغلب يغمراسن على سجلماسة ثم مصيرها بعد الى إيالة بني مرين) كان عرب المعقل منذ دخول العرب الهلاليين إلى صحراء المغرب الأقصى أحلافا وشيعا لزناتة، وأكثر انحياشهم إلى بني مرين إلّا ذوي عبيد الله منهم لما كانت مجالاتهم لصق مجالات بني عبد الواد ومشاركة لها. ولما استفحل شأن بني عبد الواد بين يدي ملكهم زاحموهم عنها بالمناكب، ونبذوا إليهم العهد واستخلصوا دونهم المنبات من ذوي منصور أقتالهم، فكانوا حلفاء وشيعة ليغمراسن ولقومه. وكانت سجلماسة في مجالاتهم ومنقلب رحلتهم، وكانت قد صارت إلى ملك بني مرين، ثم استبدّ بها القطراني، ثم ثاروا به ورجعوا إلى طاعة المرتضى. وتولّى كبر ذلك علي بن عمر كما ذكرناه في أخبار بني مرين. ثم تغلّب المنبات على سجلماسة وقتلوا عاملها علي بن عمر سنة اثنتين وستين وستمائة وآثروا يغمراسن بملكها، ودخل أهل البلد في القيام بدعوته وحملوهم عليها. فجأجئوا بيغمراسن فنهض إليها في قومه، وأمكنوه من قيادها فضبطها، وعقد عليها لولده يحيى. وأنزل معه ابن أخته حنينة، واسمه عبد الملك ابن محمد بن علي بن قاسم بن درم [1] من ولد محمد، وأنزل معهما يغمراسن بن حمامة فيمن معهم من عشائرهم وحشمهم فأقام ابنه يحيى أميرا عليها إلى أن غلب يعقوب ابن عبد الحق الموحدين على دار خلافتهم. وإطاعته طنجة وعامّة بلاد المغرب، فوجّه عزمه إلى انتزاع سجلماسة من طاعة يغمراسن وزحف إليها في العساكر والحشود من زناتة والعرب والبربر، ونصب عليها آلات الحصار إلى أن سقط جانب من سورها فاقتحموها منه عنوة في صفر سنة ثلاث وسبعين وستمائة واستباحوها وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة ومن معهم من بني عبد الواد أمراء المنبات، وصارت إلى طاعة بني مرين آخر الأيام: والملك بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده.   [1] وفي نسخة ثانية: درع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 (الخبر عن حروب يغمراسن مع يعقوب بن عبد الحق) قد ذكرنا ما كان من شأن بني عبد المؤمن عند فشل دولتهم، واستطالة بني مرين عليهم في الاستظهار ببني عبد الواد واتصال اليد بهم في الأخذ بحجزة عدوهم من بني مرين عليهم. ولما هلك المرتضى وولى أبو دبوس سنة خمس وستين وستمائة وحمي وطيس فتنته مع يعقوب بن عبد الحق، فراسل يغمراسن في مدافعته، وأكّد العهد وأسنى الهدية، وأجلب إليه يغمراسن وشنّ الغارات على ثغور المغرب وأضرمها نارا. وكان يعقوب بن عبد الحق محاصرا لمراكش فأفرج عنها ورجع إلى المغرب. واحتشد جموعه، ونهض إلى لقائه وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ، وقد استكمل كل تعبيته، وكانت الوقيعة على يغمراسن استبيحت فيها حرمه واستلحم قومه، وهلك ابنه أبو حفص عمر أعزّ ولده عليه في أتراب له من عشيرته مثل: ابن أخته عبد الملك بن حنينة، وابن يحيى بن مكي، وعمر بن إبراهيم بن هشام، ورجع عنه يعقوب بن عبد الحق إلى مراكش حتى انقضى شأنه في التغلّب عليها، ومحى أثر بني عبد المؤمن منها، ونزع لمحاربة بني عبد الواد وحشد كافة أهل المغرب من المصامدة والجموع والقبائل، ونهض إلى بني عبد الواد سنة سبعين وستمائة فبرز إليه يغمراسن في قومه وأوليائه من مغراوة والعرب، وتزاحفوا بايسلى من نواحي وجدة، فكانت الدبرة على يغمراسن انكشفت جموعه، وقتل ابنه فارس، ونجا بأهله بعد أن أضرم معسكره نارا تفاديا من معرّة اكتساحه، ونجا إلى تلمسان فانحجر بها، وهدم يعقوب بن عبد الحق وجدة، ثم نازلة بتلمسان، واجتمع إليه هنالك بنو توجين مع أميرهم محمد ابن عبد القوي، وصل يده بيد السلطان على يغمراسن وقومه، وحاصروا تلمسان أياما فامتنعت عليهم، وأفرجوا عنها. وولّى كل إلى عمله ومكان ملكه حسبما نذكره في أخبارهم. وانعقدت بينهما المهادنة من بعد ذلك وفرغ يعقوب بن عبد الحق للجهاد، ويغمراسن لمغالبة توجين ومغراوة على بلادهم إلى أن كان من شأنهم ما نذكره والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 (الخبر عن شأن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وما كان بينهم من الأحداث) كانت مغراوة في مواطنهم الأولى من نواحي شلف قد سالمتهم الدول عند تلاشي ملكهم، وساموهم الجباية فرضوا بها مثل: بني ورسفين وبني يلنث وبني ورتزمير، وكان فيهم سلطان لبني منديل بن عبد الرحمن من أعقاب آل خزر ملوكهم الأولى منذ عهد الفتح وما بعده على ما ذكرناه في خبرهم. فلما انتثر عقد الخلافة بمراكش وتشظّت عصاها وكثر الثّوار والخوارج بالجهات، استقل منديل بن عبد الرحمن وبنوه بتلك الناحية وملكوا مليانة وتنس وشرشال وما إليها، وتطاولوا إلى متيجة فتغلّبوا عليها. ثم مدّوا أيديهم إلى جبل وانشريش وما إليه، فتناولوا الكثير من بلاده ثم أزاحهم عنها بنو عطيّة الحيو وقومه من بني توجين المجاورون لهم في مواطنهم بأعالي شلف شرقي أرض السوس [1] وكان ذلك لأوّل دخول أحياء زناتة الناجعة بأرض القبلة إلى التلول، فتغلّب بنو عبد الواد على نواحي تلمسان إلى وادي صا. وتغلّب بنو توجين على ما بين الصحراء والتل من بلد المريّة إلى جبل وانشريس، إلى مرات الجعبات، وصار التخم لملك بني عبد الواد سبك والبطحاء، فمن قبليها مواطن بني توجين ومن شرقيها مواطن مغراوة. وكانت الفتنة بين بني عبد الواد وبين هذين الحيّين من أوّل دخولهم إلى التلول. (وكان المولى) الأمير أبو زكريا بن أبي حفص يستظهر بهذين الحيّين على بني عبد الواد ويراغمهم بهم، حتى كان من فتح تلمسان ما قدّمناه، وألبس جميعهم شارة الملك على ما ذكرناه ونذكره في أخبارهم، فزاحموا يغمراسن بعدها بالمناكب وصرف هو إليهم وجه النقمة والحروب. ولم يزل الشأن ذلك حتى انقرض ملك هذين الحيّين لعهد ابنه عثمان بن يغمراسن وعلى يده، ثم على يد بني مرين من بعدهم كما يأتي ذكره. (ولما رجع) يغمراسن بن زيّان من لقاء بني مرين بايسلي من نواحي وجدة التي كانت سنة سبع وأربعين وستمائة، وكان معه فيها عبد القوي بن عطية بقومه من بني   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: السرسو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 توجين، وهلك مرجعه منها، أنفذ [1] يغمراسن العهد لابنه محمد الأمير بعده، وزحف إلى بلاده فجاس خلالها، ونازل حصونها فامتنعت عليه. وأحسن محمد بن عبد القوي في دفاعه، ثم زحف ثانية سنة خمسين وستمائة إليهم فنازل حصن تافركينت من حصونهم. وكان به علي بن أبي زيّان حافد محمد بن عبد القوي فامتنع به في طائفة من قومه. ورحل يغمراسن كظيما، ولم يزل يغمراسن بعدها يثير الغارات على بلادهم، ويجمع الكتائب على حصونهم. وكان بتافركينت صنيعة من صنائع بني عبد القوي ونسبه في صنهاجة أهل ضاحية بجاية، اختصّ بهذا الحصن ورسخت قدمه فيه، واعتزّ بكثرة ماله وولده فأحسن الدفاع عنه، وكان له مع يغمراسن في الامتناع عليه أخبار مذكورة حتى سطا به بنو محمد بن عبد القوي حين شرهوا إلى نعمته، وأنفوا من استبداده فأتلفوا نفسه وتخطفوا نعمته، فكان حتف ذلك الحصن في حتفه كما يأتي ذكره. (وعند) ما شبّت نار الفتنة بين يغمراسن ومحمد بن عبد القوي وصل محمد يده بيعقوب بن عبد الحق. فلمّا نازل يعقوب تلمسان سنة سبعين وستمائة بعد أن هدم وجدة، وهزم يغمراسن بايسلي، جاءه محمد بن عبد القوي بقومه من بني توجين، وأقام معه على حصارها ورحلوا بعد الامتناع عليهم، فرجع محمد إلى مكانه. ثم عاود يعقوب بن عبد الحق منازلة تلمسان سنة ثمانين وستمائة بعد إيقاعه بيغمراسن في خرزوزة، فلقيه محمد بن عبد القوي بالقصبات واتصلت أيديهم على تخريب بلاد يغمراسن مليا، ونازلوا تلمسان أياما ثم افترقوا ورجع كل إلى بلده. (ولما) خلص يغمراسن بن زيّان من حصاره زحف إلى بلادهم وأوطأ عسكره أرضهم، فغلب على الضاحية وخرّب عمرانها إلى أن تملكها بعده ابنه عثمان كما نذكره. (وأمّا) خبره مع مغراوة فكان عماد رأيه فيهم التغريب [2] بين بني منديل بن عبد الرحمن للمنافسة التي كانت بينهم في رياسة قومهم. ولما رجع من واقعة تلاغ سنة ست وستين وستمائة وهي الواقعة التي هلك فيها ولده عمر زحف بعدها إلى بلاد مغراوة، فتوغّل فيها وتجاوزها إلى من وراءهم من مليكش والثعالبة، وأمكنه عمر   [1] وفي نسخة ثانية: فنبد. [2] وفي نسخة ثانية: التضريب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 من مليانة سنة ثمان وستين وستمائة على شرط المؤازرة، والمظاهرة على إخوته، فملكها يغمراسن يومئذ وصار الكثير من مغراوة إلى ولايته، وزحفوا معه إلى المغرب سنة سبعين وستمائة ثم زحف بعدها إلى بلادهم سنة اثنتين وسبعين وستمائة فتجافى له ثابت ابن منديل عن تنس بعد أن أثخن في بلادهم ورجع عنها، فاسترجعها ثابت، ثم نزل له عنها ثانيا سنة إحدى وثمانين وستمائة بين يدي مهلكه عند ما تمّ له الغلب عليهم والإثخان في بلادهم إلى أن كان الاستيلاء عليها لابنه عثمان على ما نذكره إن شاء الله. (الخبر عن انتزاء الزعيم بن مكن ببلد مستغانم) كان بنو مكن هؤلاء من علية القرابة من بني زيان يشاركونهم في نسب محمد بن زكراز ابن تيدوكس [1] بن طاع الله، وكان لمحمد هذا أربعة من الولد كبيرهم يوسف ومن ولده جابر بن يوسف أوّل ملوكهم وثابت بن محمد ومن ولده زيان بن ثابت أبو الملوك من بني عبد الواد، ودرع بن محمد ومن ولده عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم ابن درع المشتهر بأمه حنينة أخت يغمراسن بن زيّان ومكن بن محمد. وكان له من الولد يحيى وعمرس، وكان من ولد يحيى الزعيم وعلي، وكان يغمراسن بن زيّان كثيرا ما يستعمل قرابته في الممالك ويولّيهم على العمالات، وكان قد استوحش من يحيى بن مكن وابنه الزعيم وغرّبهما إلى الأندلس، فأجازا من هنالك إلى يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين وستمائة ولقياه بطنجة في إحدى حركات جهاده. وزحف يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان عامئذ وهما في جملته فأدركتهما النغرة على قومهما وآثرا مفارقة السلطان إليهم، فأذن لهم في الانطلاق ولحقا بيغمراسن بن زيّان حتى إذا كانت الواقعة عليه بخرزوزة سنة ثمانين كما قدّمناه، وزحف بعدها إلى بلاد مغراوة وتجافى له ثابت بن منديل عن مليانة وانكفّ راجعا إلى تلمسان، استعمل على ثغر مستغانم الزعيم بن يحيى بن مكن. فلمّا وصل إلى تلمسان انتقض عليه. ودعا إلى الخلاف ومالأ عدوه من مغراوة على المظاهرة عليه، فصمد إليه يغمراسن وحجزه بها حتى لاذمنه بالسلم على شرط الإجازة إلى العدوة، فعقد له وأجازه. ثم أثره أباه   [1] وفي نسخة أخرى: زكدان بن تيدوكسن وفي شجرة النسب تيدوكس وكذلك في النسخة الباريسية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 يحيى واستقرّ بالأندلس إلى أن هلك يحيى سنة اثنتين وتسعين وستمائة ووفد الزعيم بعد ذلك على يوسف بن يعقوب وسخطه لبعض النزعات، فاعتقله وفرّ من محبسه. ولم يزل الاغتراب مطوّحا به إلى أن هلك والبقاء للَّه وحده. ونشأ ابنه الناصر بالأندلس فكانت مثواه وموقف جهاده إلى أن هلك. (وأمّا) أخوه عليّ بن يحيى فأقام بتلمسان وكان من ولده داود بن علي كبير مشيخة بني عبد الواد صاحب شوراهم وكان منهم أيضا إبراهيم بن عليّ عقد له أبو حمو الأوسط على ابنته، فكان منها ولد ذكر، وكان لداود ابن اسمه يحيى بن داود استعمله أبو سعيد بن عبد الرحمن في دولتهم الثانية على وزارته فكان من شأنه ما نذكره في أخبارهم والأمر للَّه. (الخبر عن شأن يغمراسن في معاقدته مع ابن الأحمر والطاغية على فتنة يعقوب بن عبد الحق والأخذ بحجزته) كان يعقوب بن عبد الحق لما أجاز إلى الجهاد وأوقع بالعدوّ وخرّب حصونهم، ونازل إشبيليّة وقرطبة، وزلزل قواعد كفرهم. ثم أجاز ثانية، وتوغّل في دار الحرب وأثخن فيها، وتخلى له ابن اشقيلولة عن مالقة فملكها. وكان سلطان الأندلس يومئذ الأمير محمد المدعو بالفقيه ثاني ملوك بني الأحمر ملكهم، هو الّذي استدعى يعقوب بن عبد الحق للجهاد بما عهد له أبو الشيخ بذلك. فلما استفحل أمر يعقوب بالأندلس وتعاقب الثوار إلى اللياذ به خشيه ابن الأحمر على نفسه، وتوقّع منه مثل فعل يوسف بن تاشفين بابن عبّاد، فاعتمل في أسباب الخلاص مما توهّم وداخل الطاغية في اتصال اليد والمظاهرة عليه، وكانت عالقة لعمر يحيى بن علي [1] ، استعمله عليها يعقوب بن عبد الحق حين ملكها من يد أشقيلولة، فاستماله ابن الأحمر وخاطبه مقارنة وعدا وأداله بشلوبانية من مالقة طعمة خالصة له فتخلى عن مالقة إليها. وأرسل الطاغية أساطيله في البحر لمنع الزقاق من إجازة السلطان وعساكره، وراسلوا يغمراسن من وراء البحر في الأخذ بحجزة يعقوب وشنّ الغارات على ثغوره ليكون   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بن محلى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 ذلك شاغلا له عنهم. فبادر يغمراسن بإجابتهم وتردّدت الرسل إليه من الطاغية ومنه إلى الطاغية كما نذكره. وبثّ السرايا والبعوث في نواحي المغرب، فشغل يعقوب عن شأن الجهاد حتى لقد سأله المهادنة وأن يفرغ لجهاد العدوّ فأبى عليه. وكان ذلك مما دعا يعقوب إلى الصمود إليه ومواقعته بخرزوزة كما ذكرناه. ولم يزل شأنهم ذلك مع يعقوب بن عبد الحق وأيديهم متصلة عليه من كل جهة، وهو ينتهز الفرص في كل واحد منهم متى أمكنه حتى هلك وهلكوا. والله وارث الأرض ومن عليها سبحانه. (الخبر عن شأن يغمراسن مع الخلفاء من بني أبي حفص الّذي كان يقيم بتلمسان دعوتهم ويأخذ قومه بطاعتهم) كان زناتة يدينون بطاعة خلفاء الموحّدين من بني عبد المؤمن أيام كونهم بالقفار، وبعد دخولهم إلى التلول. فلما فشل أمر بني عبد المؤمن ودعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بإفريقية لنفسه، ونصب كرسيّ الخلاف للموحدين بتونس انصرفت إليه الوجوه من سائر الآفاق بالعدوتين، وأملوه الكرّة، وأوفد زناتة عليه رسلهم من كل حيّ بالطاعة، ولاذ مغراوة وبنو توجين بظل دعوته ودخلوا في طاعته، واستنهضوه لتلمسان، فنهض إليها وافتتحها سنة أربعين وستمائة ورجع إليها يغمراسن واستعمله عليها وعلى سائر ممالكها، فلم يزل مقيما لدعوته واتبع أثره بنو مرين في إقامة الدعوة له فيما غلبوا عليه من بلاد المغرب، وبعثوا إليه ببيعة مكناسة وتازى والقصر كما نذكره في أخبارهم إلى ما دانوا به ولابنه المستنصر من بعده من خطاب التمويل والإشارة بالطاعة والانقياد حتى غلبوا على مراكش، وخطبوا باسم المستنصر على منابرها حينا من الدهر. ثم تبين لهم بعد تناول تلك القاصية عليه، فعطّلوا منابرهم من أسماء أولئك وأقطعوهم جانب الوداد والموالاة. ثم سموا إلى اللقب والتفنن في الشارة الملوكية كما تقتضيه طبيعة الدول، وأما يغمراسن وبنوه فلم يزالوا آخذين بدعوتهم واحدا بعد واحد متجافين عن اللقب أدبا معهم، مجدّدين البيعة لكل من يتجدّد قيامه بالخلافة، منهم يوفدون بها كبار أبنائهم وأولى الرأي من قومهم ولم يزل الشأن ذلك. ولما هلك الأمير أبو زكريا وقام ابنه محمد المستنصر بالأمر من بعده، وخرج عليه أخوه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 الأمير أبو إسحاق في أحياء الزواودة من رياح، ثم غلبهم المستنصر جميعا. ولحق الأمير أبو إسحاق بتلمسان في أهله فأكرم يغمراسن نزلهم وأجاز إلى الأندلس للمرابطة بها، والجهاد حتى إذا هلك المستنصر سنة سبع وسبعين وستمائة واتصل به خبر مهلكه ورأى انه أحق بالأمر فأجاز البحر من حينه ونزل بمرسى هني [1] سنة سبع وسبعين وستمائة ولقّاه يغمراسن مبرّة وتوقيرا، واحتفل لقدومه وأركب الناس لتلقّيه، وأتاه ببيعته على عادته مع سلفه، ووعده النصرة على عدوه والمؤازرة على أمره. وأصهر إليه يغمراسن في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان ولي عهده. وأسعفه وأجمل في ذلك وعده. وانتقض محمد بن أبي هلال عامل بجاية على الواثق، وخلع طاعته ودعا للأمير أبي إسحاق واستحثّه للقدوم، فأغذّ إليه السير من تلمسان وكان من شأنه ما قدّمناه في أخباره فلما كانت سنة إحدى وثمانين وستمائة وزحف يغمراسن إلى بلاد مغراوة، وغلبهم على الضواحي والأمصار، بعث من هنالك ابنه إبراهيم وتسميه زناتة برهوم، ويكنّى أبا عامر أوفده في رجال من قومه على الخليفة أبي إسحاق لإحكام الصهر بينهما، فنزلوا منه على خير نزل من إسناء الجراية، ومضاعفة الكرامة والمبرّة، وظهر من آثاره في حروب ابن أبي عمارة ما مدّ الأعناق إليه وقصّر الشيم الزناتية على بيته. ثم انقلب آخرا بظعينته محبوّا محبورا، وابتنى بها عثمان لحين وصولها وأصبحت عقيلة قصره، فكان ذلك مفخرا لدولته وذكرا له ولقومه. ولحق الأمير أبو زكريا ابن الأمير أبي إسحاق بتلمسان بعد خلوصه من مهلك قومه في واقعة الدعيّ ابن أبي عمارة عليهم بمرماجنّة جنّة سنة اثنتين وثمانين وستمائة فنزل من عثمان بن يغمراسن صهره خير نزل برّا واحتفاء وتكريما وملاطفة. وسرّبت إليه أخته من القصر أنواع التحف والانس، ولحق به أولياؤهم من صنائع دولتهم وكبيرهم أبو الحسن محمد بن الفقيه المحدّث أبي بكر بن سيّد الناس اليعمريّ، فتفيئوا من كرامة الدولة بهم ظلا وارفا واستنهضوه إلى تراث ملكه. وفاوض أبا مثواه عثمان بن يغمراسن في ذلك، فنكره لما كان قد أخذه بدعوة الحضرة. أوفد عليه رجال دولته بالبيعة على العادة في ذلك، فحدّث الأمير أبو زكريا نفسه بالفرار عنه. ولحق بداود ابن هلال بن عطاف أمير البدو من بني عامر إحدى بطون زغبة، فأجاره وأبلغه مأمنه   [1] وفي نسخة ثانية: هنين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 بحي الزواودة أمراء البدو بعمل الموحدين. ونزل منهم على عطية بن سليمان بن سبّاع كما قدّمناه، واستولى على بجاية سنة أربع وثمانين وستمائة بعد خطوب ذكرناها، واقتطعها عن ملك عمه صاحب الدولة بتونس أبي حفص، ووفّى لداود بن عطاف وأقطعه بوطن بجاية عملا كبيرا أفرده لجبايته، كان فيه ايقداران بالخميس من وادي بجاية. واشتغل الأمير أبو زكريا بمملكة بونة وقسنطينة وبجاية والجزائر والزاب وما وراءها وكان هذا الصهر وصلة له مع عثمان بن يغمراسن وبنيه. (ولما نازل) يوسف بن يعقوب تلمسان سنة ثمان وتسعين وستمائة، وبعث الأمير أبو زكريا المدد من جيوشه إلى عثمان بن يغمراسن، وبلغ الخبر بذلك إلى يوسف بن يعقوب، فبعث أخاه أبا يحيى في العساكر لاعتراضهم، والتقوا بجبل الزاب، فكانت الدبرة على عسكر الموحّدين واستلحموا هناك. وتسمّى المعركة لهذا العهد بمرسى الرءوس. واستحكمت من أجل ذلك صاغية الخليفة بتونس إلى بني مرين، وأوفد عليهم مشيخة من الموحدين يدعوهم إلى حصار بجاية، وبعث معهم الهدية الفاخرة وبلغ خبرهم إلى عثمان بن يغمراسن من وراء جدرانه فتنكّر لها وأسقط ذكر الخليفة من منابره، ومحاه من عمله، فنسي لهذا العهد. والله مالك الأمر سبحانه. (الخبر عن مهلك يغمراسن بن زيان وولاية ابنه عثمان وما كان في دولته من الاحداث) كان السلطان يغمراسن قد خرج من تلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة واستعمل عليها ابنه عثمان، وتوغّل في بلاد مغراوة وملك ضواحيهم. ونزل له ثابت بن منديل عن مدينة تنس، فتناولها من يده. ثم بلغه الخبر بإقبال ابنه أبي عامر برهوم من تونس بابنة السلطان أبي إسحاق عرس ابنه عثمان، فتلوّم هنالك إلى أن لحقه بظاهر مليانة، فارتحل إلى تلمسان وأصابه الوجع في طريقه. وعند ما أحل سريره اشتدّ به وجعه فهلك هنالك آخر ذي القعدة من سنته، والبقاء للَّه وحده. فحمله ابنه أبو عامر على أعواد وواراه في خدر موريا لمرضه إلى أن تجاوز بلاد مغراوة إلى سيك. ثم أغذّ السير إلى تلمسان، فلقيه أخوه عثمان بن يغمراسن ولي عهد أبيه في قومه، فبايعه الناس وأعطوه صفقة أيمانهم. ثم دخل تلمسان فبايعه العامّة والخاصة، وخاطب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 لحينه الخليفة بتونس أبا إسحاق وبعث إليه ببيعته، فراجعه بالقبول وعقد له على عمله على الرسم. ثم خاطب يعقوب بن عبد الحق يخطب منه السلم، لما كان أبوه يغمراسن أوصاه به. (حدّثنا) شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآيلي قال: سمعت من السلطان أبي حمّو موسى بن عثمان، وكان قهرمانا بداره، قال: أوصى دادا يغمراسن لدادا عثمان (ودادا حرف كناية عن غاية التعظيم بلغتهم) فقال له: يا بني إنّ بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على الأعمال الغربية وعلى حضرة الخلافة بمراكش، لا طاقة لنا بلقائهم إذا جمعوا الوفور مددهم، ولا يمكنني أنا القعود عن لقائهم لمعرّة النكوص عن القرن التي أنت بعيد عنها. فإيّاك واعتماد لقائهم، وعليك باللياذ بالجدران متى دلفوا إليك، وحاول ما استطعت الاستيلاء على ما جاورك من عمالات الموحّدين وممالكهم يستفحل به ملكك، وتكافئ حشد العدو بحشدك. ولعلك تصيّر بعض الثغور الشرقية معقلا لذخيرتك. فعلقت وصية الشيخ بقلبه، وعقدا عليها ضمائره، وجنح إلى السلم مع بني مرين ليفرغ عزمه لذلك. وأوفد أخاه محمد بن يغمراسن على يعقوب بن عبد الحق بمكانه من العدوة الأندلسية في إجازته الرابعة إليها فخاض إليه البحر ووصله بأركش، فلقاه برّا وكرامة، وعقد له على السلم ما أحب وانكفّ راجعا إلى أخيه، فطابت نفسه وفرغ لافتتاح البلاد الشرقية، كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن شأن عثمان بن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وغلبه على معاقلهم والكثير من أعمالهم) لما عقد عثمان بن يغمراسن السلم مع يعقوب بن عبد الحق صرف وجهه إلى الأعمال الشرقية من بلاد توجين ومغراوة وما وراءها من أعمال الموحّدين، فتغلّب أولا على ضواحي بني توجين ومغراوة وما وراءها، ودوّخ قاصيتها، وسار إلى بلاد مغراوة كذلك، ثم إلى متيجة فانتسب نعمها وخطم زرعها. ثم تجاوزها إلى بجاية فحاصرها كما نذكره بعد. وامتنعت عليه فانكفّ راجعا ومرّ في طريقه بمازونة، فحاصرها وأطاعته، وذلك سنة ست وثمانين وستمائة ونزل له ثابت بن منديل أمير مغراوة عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 تنس فاستولى عليها وانتظم سائر بلاد مغراوة في إيالته. ثم عطف في سنته على بلاد توجين فاكتسح حبوبها واحتكرها بمازونة استعدادا لما يتوقع من حصار مغراوة إياها. ثم دلف إلى تافركنيت فحاصرها وأخذ بمخنقها. وداخل قائدها غالبا الخصيّ من موالي بني محمد بن عبد القوي، كان مولى سيّد الناس منهم، فنزل له غالب عنها واستولى عليها، وانكفأ إلى تلمسان. ثم نهض إلى بني توجين سنة سبع وثمانين وستمائة فغلبهم على وانشريس مثوى ملكهم ومنبت عزّهم، وفرّ أمامه أميرهم مولى بني زرارة من ولد محمد بن عبد القوي. وأخذ الحلف منهم فلحق بضواحي المرية في الأعشار وأولاد عزيز من قومه. واتبع عثمان بن يغمراسن آثارهم وشرّدهم من تلك القاصية، وهلك مولى زرارة في مغرّة. وكان عثمان قبل ذلك قد دوّخ بلاد بني يدللتين من بني توجين، ونازل رؤساءهم أولاد سلامة بالقلعة المنسوبة إليهم مرّات فامتنعوا عليه، ثم أعطوه أيديهم على الطاعة ومفارقة قومهم بني توجين إلى سلطان بني يغمراسن، فنبذوا العهد إلى بني محمد بن عبد القوي أمرائهم منذ العهد الأوّل. ووصلوا أيديهم بعثمان وألزموا رعاياهم وعمالهم المغارم له إلى أن ملك وانشريس من بعدها كما نذكر ذلك في أخبارهم. وصارت بلاد توجين كلها من عمله، واستعمل الحشم بجبل وانشريس. ثم نهض بعدها إلى المرية وبها أولاد عزيز من توجين فنازلها، وقام بدعوته فيها قبائل من صنهاجة يعرفون بلمدية وإليهم ينسب، فأمكنوه منها سنة ثمان وثمانين وستمائة وبقيت في إيالته سبعة أشهر ثم انتقضت عليه ورجعت إلى ولاية أولاد عزيز [1] وصالحوه عليها، وأعطوه من الطاعة ما كانوا يعطونه محمد بن عبد القوي وبنيه. فاستقام أمره في بني توجين ودانت له سائر أعمالهم. ثم خرج سنة تسع وثمانين وستمائة إلى بلاد مغراوة لما كانوا عليه لبني مرين في إحدى حركاتهم على تلمسان، فدوّخها وأنزل ابنه أبا حمّو بشلف [2] مركز عملهم، فأقام به وقفل هو إلى الحضرة. وتحيّز فلّ مغراوة إلى نواحي متيجة، وعليهم ثابت بن منديل أميرهم، فلم يزالوا به. ونهض عثمان إليهم سنة ثلاث وتسعين وستمائة بعدها فانحجزوا بمدينة برشك، وحاصرهم بها أربعين يوما ثم افتتحها. وخاض ثابت البحر إلى المغرب فنزل على يوسف بن يعقوب كما ذكرناه ونذكره. واستولى عثمان على سائر عمل مغراوة كما   [1] وفي نسخة ثانية: وزحف الى ايالة أولاد عزيز. [2] وفي النسخة الباريسية: شلب وفي قبائل الغرب: شلف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 استولى على عمل بني توجين، فانتظم بلاد المغرب الأوسط كلّها وبلاد زناتة الأولى. ثم اشغل بفتنة بني مرين كما نذكر بعد إن شاء الله تعالى. (الخبر عن منازلة بجاية وما دعا إليها) قد ذكرنا أنّ المولى أبا زكريا الأوسط ابن المولى أبي إسحاق بن أبي حفص لحق بتلمسان عند فراره من بجاية أمام شيعة الدعي ابن أبي عمارة، ونزل على عثمان بن يغمراسن خير نزل. ثم هلك الدعي ابن أبي عمارة واستقل عمه الأمير أبو حفص بالخلافة، وبعث إليه عثمان بن يغمراسن بطاعته على العادة، وأوفد عليه وجوه قومه، ودسّ الكثير من أهل بجاية إلى الأمير أبي زكريا يستحثونه للقدوم، ويعدونه إسلام البلد إليه. وفاوض عثمان بن يغمراسن في ذلك فأبي عليه وفاء بحق البيعة لعمه الخليفة بالحضرة فطوى عنه الخبر وتردّد في النقض أياما. ثم لحق بأحياء زغبة في مجالاتهم بالقفر، ونزل على داود بن هلال بن عطاف وطلب عثمان بن يغمراسن إسلامه فأبى عليه وارتحل معه إلى أعمال بجاية، ونزلوا على أحياء الزواودة كما قدّمناه ثم استولى المولى أبو زكريا بعد ذلك على بجاية في خبر طويل ذكرناه في أخباره. واستحكمت القطيعة بينه وبين عثمان، وكانت سببا لاستحكام الموالاة بين عثمان وبين الخليفة بتونس. فلما زحف إليه عثمان سنة ست وثمانين وستمائة وتوغّل في قاصية المشرق، أعمل الرحلة إلى عمل بجاية، ودوّخ سائر أقطارها. ثم نازلها بعد ذلك يروم كيدها بالاعتمال في مرضاة خليفته بتونس، ويسر بذلك حسوا في ارتقاء، فأناخ عليها بعساكره سبعا، ثم أفرج عنها منقلبا إلى المغرب الأوسط، فكان من فتح تافركنيت ومازونة ما قدّمناه. (الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وشأن تلمسان في الحصار الطويل) لما هلك يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين على السلم المنعقد بينه وبين بني عبد الواد لشغله بالجهاد، وقام بالأمر من بعده في قومه ابنه يوسف كبير ولده على حين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 اتبعهم أنفسهم شأن الجهاد. واسفهم يغمراسن وابنه بممالأة الطاغية وابن الأحمر فعقد يوسف بن يعقوب السلم مع الطاغية لحينه، ونزل لابن الأحمر عن ثغور الأندلس التي كانت لهم، وفرغ لحرب بني عبد الواد، واستتب له ذلك لأربع من مهلك أبيه، دلف إلى تلمسان سنة تسع وثمانين وستمائة ولاذ منه عثمان بالأسوار فنازلها صباحا، وقطع شجرها ونصب عليها المجانيق والآلات ثم أحس بامتناعها فأفرج عنها وانكفأ راجعا. وتقبّل عثمان بن يغمراسن مذهب أبيه في مداخلة ابن الأحمر والطاغية، وأوفد رسله عليها فلم يغن ذلك عنه شيئا. وكان مغراوة قد لحقوا بيوسف بن يعقوب بتلمسان فنالوا منه أعظم النيل. فلما أفرجوا عن تلمسان نهض عثمان إلى بلادهم فدوّخها وغلبهم عليها، وأنزل ابنه أبا حمّو بها كما قدّمناه. فلما كانت سنة خمس وتسعين وستمائة نهض يوسف بن يعقوب إلى حركته الثانية فنازل ندرومة، ثم ارتحل عنها إلى ناحية وهران وأطاعه جبل كيدره وتاسكدلت رباط عبد الحميد ابن الفقيه أبي زيد اليرناسي [1] ثم كرّ راجعا إلى المغرب. وخرج عثمان بن يغمراسن فأثخن في تلك الجبال لطاعتهم عدوّه واعتراضهم جنده، واستباح رباط تاسكدلت. ثم أغزاه يعقوب بن يوسف ثالثة سنة ست وتسعين وستمائة ثم رجع إلى المغرب. ثم أغزاه رابعة سنة سبع وتسعين وستمائة فتأثّل [2] تلمسان وأحاط بها معسكره وشرعوا في البناء. ثم أفرج عنها لثلاثة أشهر، ومرّ في طريقه بوجدة، فأمر بتجديد بنائها وجمع الفعلة عليها. واستعمل أخاه أبا يحيى بن يعقوب على ذلك، وأقام لشأنه، ولحق يوسف بالمغرب. وكان بنو توجين قد نازلوا تلمسان مع يوسف بن يعقوب، وتولّى كبر ذلك منهم أولاد سلامة أمراء بني يدللتين، وأصحاب القلعة المنسوبة إليهم. فلما أفرج عنها خرج إليهم عثمان بن يغمراسن فدوّخ بلادهم وحاصرهم بالقلعة ونال منهم أضعاف ما نالوا منه، وطال مغيبه في بلادهم، فخالفه أبو يحيى بن يعقوب إلى ندرومة فاقتحمها عنوة بعسكره بمداخلة من قائدها زكريا بن يخلف بن المطغري صاحب توقت [3] . فاستولى بنو مرين على ندرومة وتوقت، وجاء يوسف بن يعقوب على أثرها فوافاهم ودلفوا جميعا إلى تلمسان. وبلغ الخبر إلى عثمان بمكانه من   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: اليزناسني. [2] وفي نسخة ثانية: فنازل. [3] وفي نسخة ثانية: ثاونت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 حصار القلعة فطوى المراحل إلى تلمسان، فسبق إليها يوسف بن يعقوب بعض يوم. ثم أشرفت طلائع بني مرين عشيّ ذلك اليوم، فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان وتسعين وستمائة وأحاط العسكر بها من جميع جهاتها. وضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجا من الأسوار محيطا بها، وفتح فيه أبوابا مداخل لحربها، واختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سمّاها المنصورة. وأقام على ذلك سنين يغاديها القتال ويراوحها. وسرّح عسكره لافتتاح المغرب الأوسط وثغوره، فملك بلاد مغراوة وبلاد توجين كما ذكرناه في أخباره وجثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته إلى أن هلك عثمان وهلك هو من بعده كما نذكره. وإلى الله المصير سبحانه وتعالى لا رب غيره. (الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده الى غايته) لما أناخ يوسف بن يعقوب بعساكره على تلمسان، انحجز بها عثمان وقومه واستسلموا، والحصار آخذ بمخنقهم. وهلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سنة ثلاث وسبعمائة، وقام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد. (أخبرني) شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الايلي، وكان في صباه قهرمان دارهم قال: هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس، وكان قد أعدّ لشربه لبنا، فلما أخذ منه الديماس وعطش، دعا بالقدح فشرب اللبن ونام فلم يكن بأوشك أن فاضت نفسه. وكنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم تفاديا من معرّة غلب عدوهم إياهم. قال: وجاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس، وخبرها الخبر فجاءت ووقعت عليه واسترجعت وخيّمت على الأبواب بسدادها. ثم بعثت إلى أبيه محمد أبي زيان وموسى أبي حمو فعزتهما عن أبيهما. وأحضرا مشيخة بني عبد الواد وعرضوا لهم بمرض السلطان فقال أحدهم مستفهما عن الشأن ومترجما عن القوم: السلطان معنا آنفا، ولم يمتدّ الزمن لوقوع المرض، فإن يكن هلك فخبّرونا، فقال له أبو حمو: وإذا هلك فما أنت صانع؟ فقال: إنما نخشى من مخالفتك، وإلا فسلطاننا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 أخوك الأكبر أبو زيان. فقام أبو حمّو من مكانه وأكبّ على يد أخيه يقبّلها، وأعطاه صفقة يمينه واقتدى به المشيخة، فانعقدت بيعته لوقته واشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم واجتمعوا إليه، وبرزوا إلى قتال عدوّهم على العادة فكأنّ عثمان لم يمت. (وبلغ الخبر) إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم فتفجّع له، وعجب من صرامة قومه من بعده. واستمرّ حصاره إيّاهم إلى ثمانية سنين وثلاثة أشهر من يوم نزوله، نالهم فيها من الجهد ما لم ينله أمّة من الأمم، واضطروا إلى أكل الجيف والقطوط والفيران حتى أنهم زعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الناس، وخرّبوا السقف للوقود، وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق بما تجاوز حدود العوائد. وعجز وجدهم عنه فكان ثمن مكيال القمح الّذي يسمونه البرشالة ويتبايعون به، مقداره اثنا عشر رطلا ونصف مثقالين ونصفا من الذهب العين. وثمن الشخص الواحد من البقر ستين مثقالا، ومن الضأن سبعة مثاقيل ونصفا، وأثمان اللحم من الجيف الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال، ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم، تكون عشر المثقال والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما، والهرّ الداجن بمثقال ونصف، والكلب بمثله والفار بعشرة دراهم. والحية بمثله، والدجاجة بثلاثين درهما، والبيض واحدة بستة دراهم، والعصافير كذلك. والأوقية من الزيت باثني عشر درهما، ومن السمن بمثلها ومن الشحم بعشرين، ومن الفول بمثلها، ومن الملح بعشرة، ومن الحطب كذلك. والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال. ومن الخس بعشرين درهما ومن اللفت بخمسة عشر درهما، والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما، والخيار بثلاثة أثمان الدينار، والبطيخ بثلاثين درهما، والحبة من التين والإجاص بدرهمين. واستهلك الناس أموالهم وموجودهم، وضاقت أحوالهم. واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها، واتسعت خطة مدينة المنصور المشيّدة عليها. ورحل إليها التجّار بالبضائع من الآفاق، واستبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة، وخطب الملوك سلمه ووده، ووفدت عليه رسل الموحّدين وهداياهم من تونس وبجاية، وكذلك رسل صاحب مصر والشام وهديتهم، واعتز اعتزازا لا كفاء له كما يأتي في أخباره وهلك الجند حامية بني يغمراسن وقبيلتهم وأشرفوا على الهلاك فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج بهم للاستماتة، فكيّف الله لهم الصنيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 الغريب. ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصيّ من العبيد، فأسخطته بعض النزعات الملوكية فاعتمده في كسر بيته ومخدع نومه، وطعنه بخنجر قطع أمعاءه، وأدرك فسيق إلى وزرائه فمزّقوه أشلاء. ولم يبق شيء من بقايا عهدهم كما ذكرناه والأمر للَّه وحده. وأذهب الله العناء عن آل زيان وقومهم وساكني مدينتهم كأنما نشروا من الأجداث. وكتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغرابا لحادثتها. (وحدثني) شيخنا محمد بن إبراهيم الآيلي قال: جلس السلطان أبو زيّان صبيحة يوم الفرج وهو يوم الأربعاء في خلوة زوايا قصره، واستدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء والمطامير المختومة؟ فقال له: إنما بقي عولة اليوم وغد فاستوصاه بكتمانها. وبينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمّو فأخبروه فوجم لها، وجلسوا سكوتا لا ينطقون. وإذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصائف بنت السلطان أبي إسحاق وحظية أبيهم خرجت من القصر إليهم، فوقفت وحيتهم تحيتها وقالت: تقول لكم حظايا قصركم وبنات زيّان حرمكم ما لنا وللبقاء، وقد أحيط بكم وأسف عدوّكم لاتهامكم، ولم يبق إلّا فواق بكيئة لمصارعكم. فأريحونا من معرّة السبي، وأريحوا فينا أنفسكم وقربوا إلى مهالكنا فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم. فالتفت أبو حمو إلى أخيه وكان من الشفقة بمكان وقال: قد صدقتك الخبر فما تنظر بهنّ؟ فقال: يا موسى أرجئني ثلاثا لعلّ الله يجعل بعد عسر يسرا، ولا تشاورني بعدها فيهن، بل سرّح اليهود والنصارى إلى قتلهنّ وتعال إليّ نخرج مع قومنا إلى عدوّنا فنستميت، ويقضي الله ما يشاء. فغضب أبو حمو وأنكر الأرجاء في ذلك، وقال: إنما نحن والله نتربّص المعرّة بهنّ وبأنفسنا، وقام عنه مغضبا وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء. قال ابن حجاف: وأنا بمكاني بين يديه لا أملك متأخرا ولا متقدّما إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلّا حرسيّ الباب يشير إليّ أن اذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين لسيدة القصر، فلم أطق رجع جوابه إلا بإشارة وانتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعا، فأذنته واستدعاه. فلما وقف بين يديه قال له: إنّ يوسف بن يعقوب هلك الساعة، وأنا رسول حافده أبي ثابت إليكم، فاستبشر السلطان واستدعى أخاه وقومه حتى أبلغ الرسول رسالته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 بمسمع منهم، وكانت إحدى المغربات في الأيام [1] . (وكان من خبر هذه الرسالة) أن يعقوب بن يوسف لما هلك تطاول للأمر الأعياص من إخوته وولده وحفدته، وتحيّز أبو ثابت حافده إلى بني ورتاجن لخؤولة كانت له فيهم، فاستجاش بهم واعصوصبوا عليه وبعث إلى أولاد عثمان بن يغمراسن أن يعطوه الآلة ويكونوا مفزعا له ومأمنا إن أخفق مسعاه على أنه إن تمّ أمره قوّض عنهم معسكر بني مرين فعاقدوه عليها. ووفّى لهم لما تمّ أمره ونزل لهم عن جميع الأعمال التي كان يوسف بن يعقوب استولى عليها من بلادهم، وجاء بجميع الكتائب التي أنزلها في ثغورهم وقفلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط كلّها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن شأن السلطان أبي زيان من بعد الحصار إلى حين مهلكه) كان من أوّل ما افتتح به السلطان أبو زيان أمره بعد الخروج من هون الحصار وتناوله الأعمال من يد بني مرين، أن نهض من تلمسان ومعه أخوه أبو حمو آخر ذي الحجة من سنة ست وسبعمائة، فقصد بلاد مغراوة وشرّد من كان هنالك منهم في طاعة بني مرين، واحتاز الثغور من يد عمّالهم. ودوّخ قاصيتها. ثم عقد عليها المسامح مولاه، ورجع عنها، فنهض إلى السرسو، وكان العرب قد تملكوه أيام الحصار، وغلبوا زناتة عليه من سويد والد يالم ومن إليهم من بني يعقوب بن عامر فأجفلوا أمامه. واتبعوا آثارهم إلى أن أوقع بهم وانكفأ راجعا ومرّ ببلاد بني توجين، فاقتضى طاعة من كان بقي بالجبل من بني عبد القوى والحشم فأطاعوه، ورياستهم يومئذ لمحمد بن عطيّة الأصمّ من بني عبد القوي. وقفل إلى تلمسان لتسعة أشهر من خروجه، وقد ثقف أطراف ملكه، ومسح أعطاف دولته. فنظر في إصلاح قصوره ورياضه، ورمّ ما تثلّم من بلده، وأصابه المرض خلال ذلك فاشتدّ وجعه سبعا، ثم هلك أخريات شوّال من سنة سبع وسبعمائة والبقاء للَّه وحده.   [1] وفي نسخة ثانية: إحدى المقربات في الأنام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 (الخبر عن محو الدعوة الحفصية من منابر تلمسان) كانت الدعوة الحفصية بإفريقية قد انقسمت بين أعياصهم في تونس وبجاية وأعمالها، وكان التخم بينهما بلد عجيسة ووشتاتة. وكان الخليفة بتونس الأمير أبو حفص ابن الأمير أبي زكريا الأوّل منهم، وله الشفوف على صاحب بجاية والثغور الغربية بالحضرة. فكانت بيعة بني زيان له والدعاء على منابرهم باسمه، وكانت لهم مع المولى الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب بجاية وصلة لمكان الصهر بينهم وبينه، وكانت الوحشة قد اعترضت ذلك عند ما نزل عثمان بجاية كما قدّمناه. ثم تراجعوا إلى وصلتهم واستمرّوا عليها إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان، والبيعة يومئذ للخليفة بتونس السلطان أبي عصيدة بن الواثق، والدعوة على منابر تلمسان باسمه، وهو حاقد عليهم ولايتهم للأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغر، فلما نزل يوسف بن يعقوب بأعلى تلمسان وبعث عساكره في قاصية الشرق استجاش عثمان بن يغمراسن بصاحب بجاية، فسرّح عسكرا من الموحدين لمدافعتهم عن تلك القاصية، والتقوا معهم بجبل الزاب فانكشف الموحّدون بعد معترك صعب واستلحمهم بنو مرين، ويسمى المعترك لهذا العهد بمرسى الرءوس لكثرة ما تساقط في ذلك المجال من الرءوس. واستحكمت المنافرة بين يوسف بن يعقوب وصاحب بجاية فأوفد الخليفة بتونس على يوسف بن يعقوب مشيخة من الموحّدين تجديدا لوصلة سلفهم مع سلفه وإغراء بصاحب بجاية وعمله، فجاء موقع ذلك من عثمان بن يغمراسن وأحفظه ممالأة [1] خليفته لعدوّه، فعطّل منابره من ذكره، وأخرج قومه وإيالته عن دعوته، وكان ذلك آخر المائة السابعة. والله تعالى أعلم. (الخبر عن دولة أبي حمو الأوسط وما كان فيها من الاحداث) لما هلك الأمير أبو زيان قام بالأمر بعده أخوه أبو حمّو في أخريات سنة سبع كما   [1] وفي نسخة ثانية: موالاة الخليفة لعدوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 قدّمناه، وكان صارما يقظا حازما داهية، قويّ الشكيمة صعب العريكة، شرس الأخلاق مفرط الدهاء [1] والحدة. وهو أوّل ملوك زناتة، رتّب مراسم الملك وهذّب قواعده، وأرهف في ذلك لأهل ملكه حدّه، وقلب لهم مجنّ بأسه حتى ذلّوا لعزّ ملكه وتأدّبوا بآداب السلطان. (سمعت) عريف بن يحيى أمير سويد من زغبة وشيخ المجالس الملوكية يقول ويعنيه: موسى بن عثمان هو معلّم السياسة الملوكية لزناتة، وإنما كانوا رؤساء بادية حتى قام فيهم موسى بن عثمان، فحدّ حدودها، وهذّب مراسمها ونقل عنه ذلك أمثاله وأنظاره، فتقبّلوا مذهبه واقتدوا بتعليمه انتهى كلامه. (ولما استقلّ) بالأمر افتتح شأنه بعقد السلم مع سلطان بني مرين لأوّل دولته فأوفد كبراء دولته على السلطان أبي ثابت، وعقد له السلم كما رضي. ثم صرف وجهه إلى بني توجين ومغراوة، فردّد إليهم العساكر حتى دوّخ بلادهم وذلّل صعابهم، وشرّد محمد بن عطية الأصمّ عن نواحي وانشريس، وراشد بن محمد عن نواحي شلف، وكان قد لحق بها بعد مهلك يوسف بن يعقوب فأزاحه عنها، واستولى على العملين، واستعمل عليهما، وقفل إلى تلمسان، ثم خرج سنة عشر وسبعمائة في عساكره إلى بلاد بني توجين، ونزل تافركينت وسط بلادهم فشرّد الفلّ من أعقاب محمد بن عبد القوي عن وانشريس، واحتاز رياستهم في بني توجين دونهم. وأدام منهم بالحشم وبني تيغزين [2] . وعقد لكبيرهم يحيى بن عطية على رياسة قومه في جبل وانشريس، وعقد ليوسف بن حسن من أولاد عزيز على المدية وأعمالها، وعقد لسعد من بني سلامة على قومه من بني يد لتين إحدى بطون بني توجين وأهل الناحية الغربية من عملهم. وأخذ من سائر بطون بني توجين الرهن على الطاعة والجباية، واستعمال عليهم جميعا من صنائعه قائده يوسف بن حيون الهواري، وأذن له في اتخاذ الآلة. وعقد لمولاه مسامح على بلاد مغراوة وأذن له أيضا في اتخاذ الآلة. وعقد لمحمد بن عمه يوسف على مليانة، وأنزله بها وقفل إلى تلمسان. والله أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: مفرط الذكاء. [2] وفي نسخة ثانية: بني تيغرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 (الخبر عن استنزال زيرم بن حماد من ثغر برشك وما كان قبله [1] ) كان هذا الغمر من مشيخة هذا القصر لوفور عشيرته من مكلاته داخله وخارجة، واسمه زيري بالياء، فتصرّفت فيه العامّة وصار زيرم بالميم. ولما غلب يغمراسن على بلاد مغراوة دخل أهل هذا القصر في طاعته. حتى إذا هلك حدّثت هذا الغمر نفسه بالانتزاء والاستبداد بملك برشك ما بين مغراوة وبني عبد الواد، ومدافعة بعضهم ببعض. فاعتزم على ذلك وأمضاه وضبط برشك لنفسه سنة ثلاث وثمانين وستمائة ونهض إليه عثمان بن يغمراسن سنة أربع وثمانين وستمائة بعدها، ونازلة فامتنع. ثم زحف سنة ثلاث وتسعين إلى مغراوة، فلجأ ثابت بن منديل إلى برشك وحاصره عثمان بها أربعين يوما. ثم ركب البحر إلى المغرب كما قلناه. وأخذ زيري بعدها بطاعة عثمان بن يغمراسن دافعه بها، وانتقض عليه، مرجعه إلى تلمسان، وشغل بنو زيان بعدها بما دهمهم من شأن الحصار، فاستبدّ زيري هذا ببرشك واستفحل شأنه بها. واتقى بني مرين عند غلبهم على بلاد [2] مغراوة وتردّد عساكرهم فيها بإخلاص الطاعة والانقياد، فلما انقشع إيالة بني مرين بمهلك يوسف بن يعقوب، وخرج بنو يغمراسن من الحصار رجع إلى ديدنه من التمريض في الطاعة، ومناولة طرفها على البعد حتى إذا غلب أبو حمّو على بلاد مغراوة وتجاوزت طاعته هذا المصر إلى ما وراءه، خشيه زيري على نفسه، وخطب منه الأمان على أن ينزل له عن المصر، فبعث إليه رئيس الفتيا بدولته أبا زيد عبد الرحمن بن محمد الإمام، كان أبوه من أهل برشك، وكان زيري قد قتله لأوّل ثورته غيلة. وفرّ ابنه عبد الرحمن هذا وأخوه عيسى، ولحقا بتونس فقرءا بها، ورجعا إلى الجزائر فأوطناها. ثم انتقلا إلى مليانة واستعملهما بنو مرين في خطة القضاء بمليانة. ثم وفدا بعد مهلك يوسف بن يعقوب على أبي زيان وأبي حمو مع عمّال بني مرين وقوّادهم بمليانة، وكان فيهم منديل بن محمد الكناني صاحب أشغالهم المذكور في أخبارهم. وكانا يقرءان ولده محمدا فأشادا   [1] وفي نسخة ثانية: وما كان من قتله. [2] وفي نسخة ثانية: أعمال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 عند أبي زيان وأبي حو بمكانهما من العلم، ووقع ذلك من أبي حمو أبلغ المواقع حتى إذا استقلّ بالأمر ابتنى المدرسة بناحية المطهر من تلمسان لطلبة العلم. وابتنى لهما دارين على جانبيها وجعل لهما التدريس فيها في إيوانين معدّين لذلك. واختصّهما بالفتيا والشورى، فكانت لهما في دولته قدم علية فلما خطب زيري هذا الأمان من أبي حمّو وأن يبعث إليه من يأمن معه في الوصول إلى بابه، بعث إليه أبا زيد عبد الرحمن الأكبر منهما، فنهض لذلك بعد أن استأذنه في أن يثأر منه بأبيه إن قدر عليه، فأذن له. فلمّا احتلّ ببرشك أقام بها أياما يغاديه فيها زيري ويراوحه بمكان نزله، وهو يعمل الحيلة في اغتياله حتى إذا أمكنته فقتله في بعض تلك الأيام سنة ثمان وسبعمائة، وصار أمر برشك إلى السلطان أبي حمو وانمحى منه أثر المشيخة والاستبداد والأمور بيد الله سبحانه. (الخبر عن طاعة الجزائر واستنزال ابن علان منها وذكر أوليته) كانت مدينة الجزائر هذه من أعمال صنهاجة، ومختطها بلكّين بن زيري ونزلها بنوه من بعده. ثم صارت للموحّدين وانتظمها بنو عبد المؤمن في أمصار المغربين وإفريقية، ولما استبدّ بنو أبي حفص بأمر الموحدين وبلغت دولتهم بلاد زناتة. وكانت تلمسان ثغرا لهم، واستعملوا عليها يغمراسن وبنيه من بعده، وعلى ضواحي مغراوة بني منديل بن عبد الرحمن، وعلى وانشريس وما إليها من عمل توجين محمد بن عبد القوى وبنيه. وبقي ما وراء هذه الأعمال إلى الحضرة لولاية الموحّدين أهل دولته، فكان العامل على الجزائر من الموحدين أهل الحضرة. وفي سنة أربع وستين وستمائة انتقضوا على المستنصر ومكثوا في ذلك الانتقاض سبعا. ثم أوعز إلى أبي هلال صاحب بجاية بالنهوض إليها في سنة إحدى وسبعين وستمائة فحاصرها أشهرا وأفرج عنها. ثم عاودها بالحصار سنة أربع وسبعين وستمائة أبو الحسن ابن ياسين بعساكر الموحّدين فاقتحمها عليهم عنوة واستباحها. وتقبّض على مشيختها فلم يزالوا معتقلين إلى أن هلك المستنصر. ولما انقسم أمر بني أبي حفص واستقل الأمير أو زكريا الأوسط بالثغور الغربية وأبوه، بعثوا إليه بالبيعة، وولّى عليهم ابن أكمازير، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 وكانت ولايتها [1] من قبل، فلم يزل هو واليا عليها إلى أن أسنّ وهرم. كان ابن علّان من مشيخة الجزائر مختصا به، ومنتصبا في أوامره ونواهيه، ومصدّرا لإمارته وحصل له بذلك الرئاسة على أهل الجزائر سائر أيامه. فلمّا هلك ابن أكمازير حدّثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بمدينته، فبعث عن أهل الشوكة من نظائره ليله هلاك أميره. وضرب أعناقهم وأصبح مناديا بالاستبداد، واتخذ الآلة واستركب واستلحق من الغرباء والثعالبة عرب متيجة، واستكثر من الرجال والرماة. ونازلته عساكر بجاية مرارا فامتنع عليهم. وغلب مليكش على جباية الكثير من بلاد متيجة، ونازلة أبو يحيى بن يعقوب بعساكر بني مرين عند استيلائهم على البلاد الشرقية، وتوغلهم في القاصية، فأخذ بمخنقها وضيّق عليها، ومرّ بابن علّان القاضي أبو العبّاس الغماري رسول الأمير خالد إلى يوسف بن يعقوب، فأودعه الطاعة للسلطان والضراعة إليه في الإبقاء، فأبلغ ذلك عنه وشفع له، فأوعز إلى أبيه يحيى بمسالمته [2] . ثم نازلة الأمير خالد بعد ذلك فامتنع عليه وأقام على ذلك أربع عشرة سنة وعيون الخطوب تحدّده [3] ، والأيام تستجمع لحربه. فلمّا غلب السلطان أبو حمو على بلاد توجين واستعمل يوسف بن حبون الهواري على وانشريس، ومولاه مسامحا على بلاد مغراوة، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض سنة اثنتي عشرة وسبعمائة الى بلاد شلف فنزل بها، وقدم مولاه مسامحا في العساكر فدوّخ متيجة من سائر نواحيها، وترس بالجزائر، وضيّق حصارها حتى مسهم الجهد وسأل ابن علّان النزول على أن يشترط لنفسه، فتقبّل السلطان اشتراطه، وملك السلطان أبو حمو الجزائر وانتظمها في أعماله. وارتحل ابن علّان في جملة مسامح، ولحقوا بالسلطان بمكانه من شلف فانكفأ إلى تلمسان وابن علّان في ركابه، فأسكنه هنالك ووفّي له بشرطه إلى أن هلك والبقاء للَّه سبحانه. (الخبر عن حركة صاحب المغرب الى تلمسان وأولية ذلك) لما خرج عبد الحق بن عثمان من أعياص الملك على السلطان أبي الربيع بفاس،   [1] بياض بالأصل وفي نسخة اخرى: لبطة، وفي ثانية: ليطة. [2] وفي نسخة ثانية: بمصالحته. [3] وفي نسخة ثانية: تحرزه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 وبايع له الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق صاحب بني مرين بمداخلة الوزير رحّو بن يعقوب كما قدّمناه في أخبارهم. وملكوا تازى، زحف إليهم السلطان أبو الربيع فبعثوا وفدهم إلى السلطان أبي حمو صريخا. ثم أعجلهم أبو الربيع وأجهضهم على تازى، فلحقوا بالسلطان أبي حمو ودعوه إلى المظاهرة على المغرب ليكونوا رداء له دون قومهم. وهلك السلطان أبو الربيع خلال ذلك واستقلّ بملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، فطالب السلطان أبا حمو بإسلام أولئك النازعين إليه، فأبى من إسلامهم وإخفار زمّته فيهم وأجازهم البحر إلى العدوة، فأغضى له السلطان أبو سعيد عنها، وعقد له السلم. ثم استراب يعيش بن يعقوب بن عبد الحق بمكانه عند أخيه السلطان أبي سعيد لما سعى فيه عنده، فنزع عنه إلى تلمسان وأجاره السلطان أبو حمو على أخيه فأحفظه ذلك، ونهض إلى تلمسان سنة أربع عشرة وسبعمائة وعقد لابنه الأمير أبي عليّ وبعثه في مقدّمته، وسار هو في الساقة. ودخل أعمال تلمسان على هذه التعبية فاكتسح بسائطها، ونازل وجدة فقاتلها وضيّق عليها. ثم تخطّاها إلى تلمسان فنزل بساحتها وانحجر موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على ضواحيها ورعاياها، وسار السلطان أبو سعيد في عساكره يتقرّى شعارها وبلادها بالحطم والانتساف والعيث. فلمّا أحيط به وثقلت وطأة السلطان عليه وحذر المغبة منه ألطف الحيلة في خطاب الوزراء الذين كان يسرّب أمواله فيهم ويخادعهم من نصائح سلطانهم حتى اقتضى مراجعتهم في جاره يعيش بن يعقوب وإدالته من أخته. ثم بعث خطوطهم بذلك إلى السلطان أبي سعيد فامتلاء قلبه منها خشية ورهبة، واستراب بالخاصّة والأولياء ونهض إلى المغرب على تعبيته. ثم كان خروج ابنه عمر عليه بعد مرجعه، وشغلوا عن تلمسان وأهلها برهة من الدهر حتى جاء أمر الله في ذلك عند وقته، والله تعالى أعلم. (الخبر عن مبدإ حصار بجاية وشرح الداعية اليه) لما رجع السلطان أبو سعيد إلى المغرب وشغل عن تلمسان، فزع أبو حمو لأهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 القاصية من عمله. وكان راشد بن محمد بن ثابت بن منديل قد جاء من بلاد زواوة أثناء هذه الغمرة، فاحتل بوطن شلف واجتمع إليه أوشاب قومه، وحين تجلت الغمرة عن السلطان أبي حمو نهض إليه بعد أن استعمل ابنه أبا تاشفين على تلمسان، وجمع له الجموع ففرّ أمامه ناجيا إلى مثوى اغترابه ببجاية. وأقام بنو سعيد بمعاقلهم من جبال شلف على دعوته، فاحتل السلطان أبو حمو بوادي تمل [1] فخيم به. وجمع أهل أعماله لحصار بني أبي سعيد شيعة راشد بن محمد، واتخذ هنالك قصره المعروف باسمه. وسرّح العساكر لتدويخ القاصية ولحق به هنالك الحاجب ابن أبي [2] حين مرجعه من الحج سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فأغراه بملك بجاية ورغبه فيه. وكان قد ثاب له طمع منذ رسالة السلطان مولانا أبي يحيى إليه. وذلك أنه لما انتقض على أخيه خالد ودعا لنفسه بقسنطينة، ونهض إلى بجاية فانهزم عنها كما قدمنا في أخباره. وأوفد على السلطان أبي حمو بعض رجال دولته مغريا له بابن خلوف وبجاية ثم بعث إليه ابن خلوف أيضا يسأله المظاهرة والمدد فأطمعه ذلك في ملك بجاية. (ولما هلك) ابن خلوف كما قدّمناه، لحق به كاتبه عبد الله بن هلال، فأغراه واستحثّه، وشغله عن ذلك شأن الجزائر. فلما استولى على الجزائر، بعث مولاه مسامحا في عسكر مع ابن أبي حي، فبلغوا إلى جبل الزاب وهلك ابن أبي حي ورجع مسامح. ثم شغله عن شأنها زحف، وفرغ من أمر عدوّه، ونزل بلد شلف كما ذكرناه آنفا ولحق به عثمان بن سباع بن يحيى بن سبّاع بن سهل أمير الزواودة، يستحثّه لملك الثغور الغربية من عمل الموحّدين، فاهتز لذلك وجمع له الجموع، وعقد لمسعود ابن عمه أبي عامر برهوم على عسكر وأمره بحصار بجاية، وعقد لمحمد ابن عمّه يوسف قائد مليانة على عسكر، ولمولاه مسامح على عسكر آخر، وسرّحهم إلى بجاية وما وراءها لتدويخ البلاد. وعقد لموسى بن عليّ الكردي على عسكر ضخم، وسرّحه مع العرب من الزواودة وزغبة على طريق الصحراء. فانطلقوا إلى وجههم ذلك، وفعلوا الأفاعيل كلّ فيما يليه وتوغّلوا في البلاد الشرقية، حتى انتهوا إلى بلاد بونة. ثم انقلبوا من هنالك ومرّوا في طريقهم بقسنطينة، ونازلوها أياما.   [1] وفي نسخة ثانية: نهل. [2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة الاسم الكامل لهذا الحاجب في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 وصعدوا جبل ابن ثابت المطلّ عليها فاستباحوه. ثم مرّوا ببني باورار فاستباحوها وأضرموها، واكتسحوا سائر ما مرّوا عليه. وحدثت بينهم المناكرة حسدا ومنافسة، فافترقوا ولحقوا بالسلطان ولحق مسعود بن برهوم محاصرا لبجاية وبنى حصنا بأصفون لمقامه. وكان يسرّح الجيوش لقتالها فتجوّل في ساحتها، ثم تراجع إلى الحصن. ولم يزل كذلك حتى بلغه خبر خروج محمد بن يوسف فأجفل عنها على ما نذكره الآن فلم يرجعوا لحصارها إلا بعد مدّة والله تعالى أعلم. (الخبر عن خروج محمد بن يوسف ببلاد بني توجين وحروب السلطان معه) لما رجع محمد بن يوسف من قاصية الشرق كما قدّمناه، وسابقه إلى السلطان موسى بن علي الكرديّ، وجوانحه تلتهب غيظا وحقدا عليه. وسعى به عند السلطان فعزله عن مليانة، فوجم لها وسأله زيارة ابنه الأمير أبي تاشفين بتلمسان، وهو ابن أخته فأذن له. وأوعز إلى ابنه بالقبض عليه، فأبى من ذلك، وأراد هو الرجوع إلى معسكر السلطان فخلى سبيله. ولما وصل إليه تنكّر له وحجبه، فاستراب وملاء قلبه الرعب، وفرّ من المعسكر ولحق بالمرية [1] ، ونزل على يوسف بن حسن بن عزيز عاملها للسلطان من بني توجين. فيقال انه أوثقه اعتقالا حتى غلبه قومه على بغيته من الخروج معه، لما كان السلطان أبو حمو يوسقهم به من نزاعته، فأخذ له البيعة على قومه ومن إليهم من العرب. وزحفوا إلى السلطان بمعسكره من نهل، فلقيهم في عساكره، فكانت الدبرة على السلطان، ولحق بتلمسان وغلب محمد بن يوسف على بني توجين ومغراوة ونزل مليانة. وخرج السلطان من تلمسان لأيام من دخولها، وقد جمع الجموع وأزاح العلل وأوعز إلى مسعود بن برهوم بمكانه من حصار بجاية بالوصول إليه بالعساكر، ليأخذ بحجزتهم من ورائهم، وخرج محمد بن يوسف على مليانة لاعتراضه، واستعمل على مليانة يوسف بن حسن بن عزيز، فلقيه ببلاد مليكش وانهزم محمد بن يوسف. ولجأ إلى جبل مرصالة [2] وحاصره بها مسعود بن   [1] وفي نسخة ثانية: بالمدية. [2] وفي نسخة ثانية: موصاية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 برهوم أياما، ثم أفرج عنه. ولحق بالسلطان فنازلوا جميعا مليانة. وافتتحها السلطان عنوة وجيء بيوسف بن حسن أسيرا من مكمنه ببعض المسارب فعفا عنه وأطلقه، ثم زحف إلى المرية فملكها وأخذ الرهن من أهل تلك النواحي، وقفل إلى تلمسان. واستطال محمد بن يوسف على النواحي ففشت دعوته في تلك القاصية. وخاطب مولانا السلطان أبا يحيى بالطاعة فبعث إليه بالهدية والآلة، وسوّغه سهام يغمراسن ابن زيّان بإفريقية، ووعده بالمظاهرة وغلب سائر بلاد بني توجين. وبايع له بنو تيغرين أهل جبل وانشريس، فاستولى عليه. ثم نهض السلطان إلى الشرق سنة سبع عشرة وسبعمائة وملك المرية واستعمل عليها يوسف بن حسن لمدافعة محمد بن يوسف، واستبلغ في أخذ الرهن منه ومن أهل العمالات وقبائل زناتة والعرب، حتى من قومه بني عبد الواد. ورجع إلى تلمسان وأنزله بالقصبة وهي الغور الفسيح الخطّة تماثل بعض الأمصار العظيمة، اتخذها للرهن. وكان يبالغ في ذلك حتى يأخذ الرهن المتعدّدة من البطن الواحد والفخذ الواحد والرهط. وتجاوز ذلك إلى أهل الأمصار والثغور والمشيخة والسوقة فملأ تلك القصبة من أبنائهم وإخوانهم، وشحنها بالأمم بعد الأمم، وأذن لهم في ابتناء المنازل واتخاذ النساء. واختط لهم المساجد فجمعوا بها لصلاة الجمعة، ونفقت بها الأسواق والصنائع وكان حال هذه البنية من أغرب ما حكي في العصور عن سجن. ولم يزل محمد بن يوسف بمكان خروجه من بلاد توجين إلى أن هلك السلطان، والبقاء للَّه. (الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو وولاية ابنه أبي تاشفين من بعده) كان السلطان أبو حمو قد اصطفى ابن عمه برهوم وتبناه من بين عشيرته وأولي قرباه لمكان صرامته ودهائه، واختصاص أبيه برهوم المكنّى أبا عامر بعثمان بن يغمراسن شقيقه من بين إخوته [1] ، فكان يؤثره على بنيه ويفاوضه في شئونه، ويصله إلى خلواته. وكان دفع إلى ابنه عبد الرحمن أبا تاشفين أترابا له من العلوجين [2] يقومون   [1] وفي نسخة ثانية: من بين سائر الاخوة. [2] وفي نسخة ثانية: المعلوجي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 بخدمته في مرباه ومنتشئه، كان منهم: هلال المعروف بالقطاني [1] ، ومسامح المسمّى بالصغير، وفرج بن عبد الله وظافر ومهديّ وعليّ بن تاكررت وفرج الملقب شقّورة، وكان ألصقهم وأعلقهم بنفسه تلاد له منهم يسمى هلالا، وكان أبو حمو أبوه كثيرا ما يقرّعه ويوبّخه إرهاقا في اكتساب الخلال، وربما يقذع في تقريعه لما كان عفا الله عنه فحاشا فيحفظه لذلك. وكان مع ذلك شديد السطوة متجاوزا بالعقاب وحدوده في الزجر والأدب، فكان أولئك العلوجين تحت رهب منه، وكانوا يغرون لذلك مولاهم أبا تاشفين بأبيه، ويبعثون غيرته لما يذكرون له من اصطفاء ابن أبي عامر دونه. وقارن ذلك أن مسعود بن أبي عامر أبلى في لقاء محمد ابن يوسف الخارج على أبي حمو البلاء الحسن عند ما رجع من حصار بجاية، فاستحمد له السلطان ذلك، وعيّر ابنه عبد الرحمن بمكان ابن عمّه هذا من النجابة والصرامة يستجد له بذلك خلالا ويغريه بالكمال. وكان عمّه أبو عامر إبراهيم بن يغمراسن ثري بما نال من جوائز الملوك في وفاداته، وما أقطع له أبوه وأخوه سائر أيامهما. ولما هلك سنة ست وتسعين وستمائة أوصى أخاه عثمان بولده فضمهم إليه، ووضع تراثهم بموضع ماله، حتى يأنس منهم الرشد في أحوالهم، حتى إذا كانت غزاة ابنه أبي سرحان هذه، وعلا فيها ذكره وبعد صيته، رأى السلطان أبو حمو أن يدفع إليه تراث أبيه لاستجماع خلاله، فاحتمل إليه من المودع. ونمي الخبر إلى ولده أبي تاشفين وباطنته السوء من العلوجين، فحسبوه مال الدولة قد حمل إليه لبعد عهدهم بما وقع في تراث أبي عامر أبيه، واتهموا السلطان بإيثاره بولاية العهد دون ابنه، فأغروا أبا تاشفين بالتوثّب على الأمر وحملوه على الفتك بمشتويه مسعود بن أبي عامر، واعتقال السلطان أبي حمو ليتمّ له الاستبداد. وتحيّنوا لذلك قائلة الهاجرة عند منصرف السلطان من مجلسه، وقد اجتمع إليه ببعض حجر القصر خاصته من البطانة وفيهم مسعود بن أبي عامر والوزراء من بني الملاح. وكان بنو الملاح هؤلاء قد استخصهم السلطان بحجابته سائر أيامه، وكان مسمّى الحجابة عنده قهرمة الدار والنظر في الدخل والخرج، وهم أهل بيت من قرطبة كانوا يحترفون فيها بسكّة الدنانير   [1] وفي نسخة ثانية: القطلاني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 والدراهم، وربما دفعوا إلى النظر في ذلك ثقة بأماناتهم، نزل أوّلهم بتلمسان مع جالية قرطبة فاحترفوا بحرفتهم الأولى وزادوا إليها الفلاحة وتحلوا بخدمة عثمان بن يغمراسن وابنه، وكان لهم في دولة أبي حمو مزيد حظوة وعناية، فولّى على حجابته منهم لأوّل دولته محمد بن ميمون بن الملاح. ثم ابنه محمد الأشقر من بعده. ثم ابنه إبراهيم بن محمد من بعدهما، واشترك معه من قرابته علي بن عبد الله بن الملّاح، فكانا يتولّيان مهمه بداره ويحضران خلوته مع خاصته، فحضروا يومئذ مع السلطان بعد انقضاض مجلسه كما قلناه، ومعه من القرابة مسعود القتيل وحماموش بن عبد الملك بن حنينة. ومن الموالي معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر من ولد نصر بن عليّ أمير بني يزيد [1] بن توجين، وكان السلطان قد استوزره. (فلما علم) أبو تاشفين باجتماعهم هجم ببطانته عليهم وغلبوا الحاجب على بابه حتى ولجوه متسايلين بعد أن استمسكوا من اغلاقه، حتى إذا توسّطوا الدار اعتوروا السلطان بأسيافهم فقتلوه. وحام أبو تاشفين عنها، فلم يفرجوا عليه ولاذ أبو سرحان منهم ببعض زوايا الدار، واستمكن من غلقها دونهم، فكسروا الباب وقتلوه، واستلحموا من كان هنالك من البطانة، فلم يفلت إلا الأقل. وهلك الوزراء بنو الملّاح واستبيحت منازلهم. وطاف الهاتف بسكك المدينة بأنّ أبا سرحان غدر بالسلطان، وأنّ ابنه أبا تاشفين ثأر منه، فلم يخف على الناس الشأن. وكان موسى ابن عليّ الكرديّ قائد العساكر قد سمع الصيحة فركب إلى القصر، فوجده مغلقا دونه، فظنّ الظنون فخشي استيلاء مسعود على الأمر فبعث إلى العبّاس بن يغمراسن كبير القرابة، فأحضره عند باب القصر حتى إذا مرّ بهم الهاتف واستيقن مهلك أبي سرحان، ردّ العباس على عقبه إلى منزله. ودخل إلى السلطان أبي تاشفين، وقد أدركه الدهش من المواقعة فثبته ونشطه فحفه، وأجلسه بمجلس أبيه وتولى له عقد البيعة على قومه خاصة وعلى الناس عامّة، وذلك آخر جمادى الأولى من تلك السنة. وجهّز السلطان إلى مدفنه بمقبرة سلفه من القصر القديم، وأصبح مثلا في الآخرين والبقاء للَّه. وأشخص السلطان لأوّل ولايته سائر القرابة الذين كانوا بتلمسان من ولد يغمراسن،   [1] وفي نسخة اخرى: يزناتن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 وأجازهم إلى العدوة حذرا من مغبّة ترشيحهم، وما يتوقع من الفتن على الدولة من قبلهم وقلّد حجابته مولاه هلالا فاضطلع بأعبائها، واستبدّ بالعقد والحلّ والإبرام والنقض صدرا من دولته، إلى أن نكبه حسبما نذكره. وعقد ليحيى بن موسى السنوسي من صنائع دولتهم على شلف وسائر أعمال مغراوة، وعقد لمحمد بن سلامة بن عليّ على عمله من بلاد بني يدللتن من توجين، وعزل أخاه سعدا، فلحق بالمغرب. وعقد لموسى بن عليّ الكردي على قاصية المشرق، وجعل إليه حصار بجاية، وأغرى دولته بتشييد القصور واتخاذ الرياض والبساتين، فاستكمل ما شرع فيه أبوه من ذلك أربى عليه، فاحتفلت القصور والمصانع في الحسن ما شاءت، واتسعت أخباره على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن نهوض السلطان أبي تاشفين لمحمد بن يوسف بجبل وانشريس واستيلاؤه عليه كان محمد بن يوسف بعد مرجع السلطان أبي حمو كما ذكرناه قد تغلّب على جبل وانشريس ونواحيه واجتمع إليه الفلّ من مغراوة فاستفحل أمره، واشتدّت في تلك النواحي شوكته. وأهمّ أبا تاشفين أمره فاعتزم على النهوض إليه، وجمع لذلك وأزاح العلل. وخرج من تلمسان سنة تسع عشرة وسبعمائة واحتشد سائر القبائل من زناتة والعرب، وأناخ على وانشريس وقد اجتمع به بنو توجين ومغراوة مع محمد بن يوسف. وكان يتغرين من بني توجين بطانة ابن عبد القويّ يرجعون في رياستهم إلى عمر بن عثمان بن عطيّة حسبما نذكره. وكان قد استخلص سواه من بني توجين دونه فأسفه بذلك، وداخل السلطان أبا تاشفين وواعده أن يتحرّك [1] عنه، فاقتحم السلطان عليهم الجبل وانحجزوا جميعا إلى حصن توكال، فخالفهم عمر بن عثمان في قومه إلى السلطان بعد أن حاصرهم ثمانيا، فتخرّم الجمع واختلّ الأمر وانفضّ الناس فاقتحم الحصن، وتقبّض على محمد بن يوسف وجيء به إلى السلطان أسيرا وهو في مركبه فعدّد عليه، ثم وخزه برمحه، وتناوله الموالي برماحهم فأقعصوه، وحمل رأسه   [1] وفي نسخة ثانية: ان ينحرف عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 على القناة إلى تلمسان، فنصب بشرفات البلد، وعقد لعمر بن عثمان على جبل وانشريس وأعمال بني عبد القوي، ولسعيد العربيّ من مواليه على عمل المرية. وزحف إلى الشرق فأغار على أحياء رياح وهم بوادي الجنان حيث الثنية المفضية من بلاد حمزة إلى القبلة، وصبح أحياءهم فاكتسح أموالهم ومضى في وجهه إلى بجاية، فعرس بساحتها ثلاثا وبها يومئذ الحاجب يعقوب بن عمر فامتنعت عليه، فظهر له وجه المعذرة لأوليائهم في استحصانها لهم. وقفل إلى تلمسان إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن حصار بجاية والفتنة الطويلة مع الموحدين التي كان فيها حتفه وذهاب سلطانه وانقراض الأمر عن قومه برهة من الدهر لما رجع السلطان أبو تاشفين من حصار بجاية سنة تسع عشرة وسبعمائة اعتمل في ترديد البعوث إلى قاصية الشرق، والإلحاح بالغزو إلى بلاد الموحّدين، فأغزاها جيوشه سنة عشرين وسبعمائة فدوّخوا ضواحي بجاية وقفلوا. ثم غزاهم ثانية سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وعليهم موسى بن عليّ الكردي فانتهى إلى قسنطينة وحاصرها فامتنعت عليه فأفرج عنها، وابتنى حصن بكر لأوّل مضيق الوادي، وادي بجاية، وأنزل به العساكر لنظر يحيى بن موسى قائد شلف وقفل إلى تلمسان. ثم نهض موسى بن عليّ ثالثة سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فدوّخ نواحي بجاية ونازلها أياما وامتنعت عليه فأفرج عنها. ووفد سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة على السلطان حمزة بن عمر بن أبي الليل كبير البدو بإفريقية صريخا على صاحب إفريقية مولانا السلطان أبي يحيى، فبعث معهم العساكر من زناتة وعامّتهم من بني توجين وبني راشد، وأمّر عليهم القواد وجعلهم لنظر قائده موسى بن علي الكردي، ففصلوا إلى إفريقية، وخرج السلطان للقائهم، فانهزموا بنواحي مرماجنّة، وتخطّفتهم الأيدي فاستلحموا، وقتل مسامح مولاه، ورجع موسى بن عليّ، فاتهمه السلطان بالادهان وكان من نكبته ما نذكره في أخباره وسرّح العساكر سنة أربع وعشرين وسبعمائة فدوّخت نواحي بجاية، ولقيهم ابن سيّد الناس فهزموهم، ونجا إلى البلد. ووفد على السلطان سنة خمس وعشرين وسبعمائة مشيخة سليم حمزة بن عمر بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 أبي الليل وطالب بن مهلهل، الغملان المتزاحمان في رياسة الكعوب. ومحمد بن مسكين من بني القوس كبراء حكيم، فاستحثوه للحركة واستصرخوه على إفريقية، وبعث معهم العساكر لنظر قائده موسى بن علي ونصب لهم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد من أعياص الحفصيّين. وخرج مولانا السلطان أبو يحيى من تونس للقائهم وخشيهم على قسنطينة فسابقهم إليها، فأقام موسى بن عليّ بعساكره على قسنطينة، وتقدّم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد في أحياء سليم إلى تونس فملكها كما ذكرناه في أخبارهم. وامتنعت قسنطينة على موسى بن علي فأقلع [1] عنها لخمس عشرة ليلة من حصارها وعاد إلى تلمسان. ثم أغزاه السلطان سنة ست وعشرين وسبعمائة في الجيوش وعهد إليه بتدويخ الضاحية ومحاصرة الثغور، فنازل قسنطينة وأفسد نواحيها. ثم رجع إلى بجاية فحاصرها، ثم عزم على الإقلاع ورأى أن حصن بكر غير صالح لتجهيز الكتائب إليها لبعده، وارتاد للبناء عليها ما هو أقرب منه، فاختط بمكان سوق الخميس بوادي بجاية مدينة لتجهيز الكتائب لها على بجاية، وجمع الأيدي على بنائها من الفعلة والعساكر، فتمت لأربعين يوما وسمّوها تامزيزدكت باسم الحصن القديم الّذي كان لبني عبد الواد قبل الملك بالجبل قبلة وجدة، وأنزل بها عساكر تناهز ثلاثة آلاف، وأوعز السلطان إلى جميع عمّاله ببلاد المغرب الأوسط بنقل الحبوب إليها حيث كانت، والأدم وسائر المرافق حتى الملح، وأخذ الرهن من سائر القبائل على الطاعة واستوفوا جبايتهم. فثقلت وطأتهم على بجاية واشتدّ حصارها وغلت أسعارها. (وبعث) مولانا السلطان أبو يحيى جيوشه وقوّاده سنة سبع وعشرين وسبعمائة فسلكوا إلى بجاية على جبل بني عبد الجبّار، وخرج بهم قائدها أبو عبد الله بن سيّد الناس إلى ذلك الحصن. وقد كان موسى بن عليّ عند بلوغ خبرهم إليه استنفر الجنود من ورائه، وبعث إلى القوّاد قبله بالبراز فالتقى الجمعان بضاحية تامزيزدكت، فانكشف ابن سيّد الناس ومات ظافر الكبير مقدّم الموالي من العلوجين بباب السلطان واستبيح معسكرهم. ولمّا سخط السلطان قائده موسى بن عليّ ونكبه كما نذكره في أخباره أغزى يحيى بن موسى السنوسيّ في العساكر إلى إفريقية ومعه القوّاد، فعاثوا في   [1] وفي نسخة ثانية: فأفرج عنها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 نواحي قسنطينة وانتهوا إلى بلد بونة ورجعوا. وفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة بعدها وفد حمزة بن عمر على السلطان أبي تاشفين صريخا، ووفد معه أو بعده عبد الحق ابن عثمان، فحلّ الشول من بني مرين. وكان قد نزل على مولانا السلطان أبي يحيى منذ سنين، فسخط بعض أحواله ولحق بتلمسان، فبعث السلطان معهم جميع قوّاده بجيوشه لنظر يحيى بن موسى. ونصب عليهم محمد بن أبي بكر بن عمران من أعياص الحفصيّين، ولقيهم مولانا السلطان أبو يحيى بالدياس [1] من نواحي بلاد هوّارة، وانخزل عنه أحياء العرب من أولاد مهلهل الذين كانوا معه، وانكشفت جموعه واستولى على ظعائنه بما فيها من الحرم، وعلى ولديه أحمد وعمر، فبعثوا بهم إلى تلمسان، ولحق مولانا المنصور أبو يحيى بقسنطينة وقد أصابه بعض الجراحة في حومة الحرب، وسار يحيى بن موسى وابن أبي عمران إلى تونس، واستولوا عليها ورجع يحيى بن موسى عنهم بجموع زناتة لأربعين يوما من دخولها، فقفل إلى تلمسان وبلغ الخبر إلى مولانا السلطان أبي يحيى بقفول زناتة عنهم، فنهض إلى تونس وأجهض عنها ابن أبي عمران بعد أن كان أوفد من بجاية ابنه أبا زكريا يحيى ومعه محمد بن تافراكين من مشيخة الموحدين صريخا على أبي تاشفين، فكان ذلك داعية إلى انتقاض ملكه كما نذكره بعد. وداخل السلطان أبا تاشفين بعض أهل بجاية، ودلّوه على عورتها، واستقدموه فنهض إليها وحذر بذلك الحاجب ابن سيّد الناس فسابقه إليها، ودخل يوم نزوله عليها، وقتل من اتهمه بالمداخلة فانحسم الداء. وأقلع السلطان أبو تاشفين عنها، وولّى عيسى بن مزروع من مشيخة بني عبد الواد على الجيش الّذي بتامزيزدكت، وأوعز إليه ببناء حصن أقرب إلى بجاية من تامزيزدكت فبناه بالياقونه من أعلى واد قبالة بجاية. فأخذ بمخنقها واشتدّ الحصار إلى أن أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم، فأجفلوا جميعا إلى تلمسان، ونفس مخنق الحصار عن بجاية. ونهض مولانا السلطان أبو يحيى بجيوشه من تونس إلى تامزيزدكت سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فخرّبها في ساعة من نهار كأن لم تغن بالأمس، حسبما ذكرنا ذلك في أخباره. والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: الرياس. ابن خلدون م 10 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 (الخبر عن معاودة الفتنة بين بني مرين وحصارهم تلمسان ومقتل السلطان أبي تاشفين ومصائر ذلك) كان السلطان أبو تاشفين قد عقد السلم لأوّل دولته مع السلطان أبي سعيد ملك المغرب، فلما انتقض عليه ابنه أبو عليّ سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بعد المهادنة الطويلة من لدن استبداده بسجلماسة، بعث ابنه القعقاع إلى أبي تاشفين في الأخذ بحجزة أبيه عنه، ونهض هو إلى مراكش فدخلها. وزحف إليه السلطان أبو سعيد فبعث أبو تاشفين قائده موسى بن عليّ في العساكر إلى نواحي تازى، فاستباح عمل كارث، واكتسح زروعه وقفل. واعتدّها عليه السلطان أبو سعيد، وبعث أبو تاشفين وزيره داود بن علي بن مكن رسولا إلى السلطان أبي عليّ بسجلماسة، فرجع عنه مغاضبا وجنح أبو تاشفين بعدها إلى التمسّك بسلم السلطان أبي سعيد، فعقد لهم ذلك وأقاموا عليها مدّة. فلما نفر ابن مولانا السلطان أبي يحيى على السلطان أبي سعيد ملك المغرب، وانعقد الصهر بينهم كما ذكرناه في أخبارهم، وهلك السلطان أبو سعيد، نهض السلطان أبو الحسن إلى تلمسان بعد أن قدّم رسله إلى السلطان أبي تاشفين في أن يقلع بجيوشه عن حصار بجاية، ويتجافى للموحدين عن عمل تنس [1] فأبى وأساء الردّ، وأسمع الرسل بمجلسه هجر القول. وأفزع لهم الموالي في الشتم لمرسلهم بمسمع من أبي تاشفين، فأحفظ ذلك السلطان أبو الحسن ونهض في جيوشه سنة اثنتين وثلاثين إلى تلمسان فتخطّاها إلى تاسالت وضرب بها معسكره، وأطال المقام وبعث المدد إلى بجاية مع الحسن البطوي من صنائعه، وركبوا في أساطيله من سواحل وهران ووافاهم مولانا السلطان أبو يحيى ببجاية وقد جمع لحرب بني عبد الواد وهدم تامزيزدكت وجاء لموعد السلطان أبي الحسن معه أن يجتمعا بعساكرهما لحصار تلمسان، فنهض من بجاية إلى تامزيزدكت وقد أجفل منها عساكر بني عبد الواد وتركوها قفرا [2] . ولحقت بها عساكر الموحدين، فعاثوا فيها تخريبا ونهبا. وألصقت جدرانها بالأرض وتنفّس مخنق بجاية من الحصار، وانكمش بنو عبد الواد   [1] وفي نسخة ثانية: تدلس. [2] وفي نسخة ثانية: قواء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 إلى ما وراء تخومهم. وفي خلال ذلك انتقض أبو عليّ ابن السلطان أبي سعيد على أخيه، وصمد من مقرّه بسجلماسة إلى درعة، وفتك بالعامل وأقام فيها دعوته كما نذكر ذلك بعد. وطار الخبر إلى السلطان أبي الحسن بمحلّته بتاسالت، فنهض [1] راجعا إلى المغرب لحسم دائه، وراجع السلطان أبو تاشفين عزّه وانبسطت عساكره في ضواحي عمله، وكتب الكتائب وبعث بها مددا للسلطان أبي عليّ. ثم استنفر قبائل زناتة وزحف إلى تخوم المغرب سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ليأخذ بحجزة السلطان أبي الحسن عن أخيه، وانتهى إلى الثغر من تاوريرت ولقيه هناك تاشفين ابن السلطان أبي الحسن في كتيبة جهّزها أبوه معه هنالك لسدّ الثغور، ومعه منديل بن حمامة شيخ بني تيريفين من بني مرين في قومه. فلما برزوا إليه انكشف ورجع إلى تلمسان. ولمّا تغلّب السلطان أبو الحسن على أخيه وقتله سنة أربع وثلاثين وسبعمائة جمع لغزو تلمسان وحصارها ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وقد استنفذ وسعه في الاحتفال لذلك واضطربت بها عساكره وضرب عليها سياج الأسوار وسرادقات الحفائر أطيفت [2] عليهم، حتى لا يكاد الطيف يخلص منهم ولا إليهم. وسرّح كتائبه إلى القاصية من كل جهة، فتغلّب على الضواحي وافتتح الأمصار جميعا، وخرّب وجدة كما يأتي ذكر ذلك كله. وألحّ عليها بالقتال يغاديها ويراوحها، ونصب المجانيق وانحجز بها مع السلطان أبي تاشفين زعماء زناتة من بني توجين وبني عبد الواد وكان عليهم في بعض أيامها اليوم المشهور الّذي استلحمت فيه أبطالهم وهلك أمراؤهم. وذلك أنّ السلطان أبا الحسن كان يباكرهم في الأسحار فيطوف من وراء أسواره التي ضربها عليهم شوطا يرتّب المقاتلة ويثقف الأطراف ويسدّ الفروج ويصلح الخلل، وأبو تاشفين يبعث العيون في ارتصاد فرصه فيه، وأطاف في بعض الأيام منتبذا عن الجملة فكمنوا له حتى إذا سلك ما بين الجبل والبلد انقضوا عليه يحسبونها فرصة قد وجدوها، وضايقوه حتى كاد السرعان من الناس أن يصلوا إليه، وأحس أهل المعسكر بذلك فركبوا زرافات ووحدانا، وركب ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك جناحا عسكره، وعقابا جحافله وتهاوت إليهم صقور بني مرين من كل جوّ، فانكشفت عساكر البلد ورجعوا   [1] وفي نسخة ثانية: فنكص. [2] وفي نسخة ثانية: أطبقت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 القهقرى، ثم ولّوا الأدبار منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد، واعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه وتهافتوا على ردمه، فكان الهالك يومئذ بالردم أكثر من الهالك بالقتل. وهلك من بني توجين يومئذ كبير الحشم وعامل جبل وانشريس، ومحمد بن سلامة بن علي أمير بني يدللتن وصاحب قلعة تاوغزوت [1] وما إليها من عملهم، وهما ما هما في زناتة إلى أشباه لهما وأمثال استلحموا في هذه الوقعة فحط [2] هذا اليوم جناح الدولة وحطّم منها، واستمرّت منازلة السلطان أبي الحسن إياها إلى آخر رمضان من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فاقتحمها يوم السابع والعشرين منه غلابا. ولجأ السلطان أبو تاشفين إلى باب قصره في لمة من أصحابه، ومعه ولداه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن عليّ وعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من أعياص بني مرين، وهو الّذي لحق بهم من تونس كما ذكرناه، وسيأتي ذكره وخبره. ومعه يومئذ ابنا أخيه أبو زيّان وأبو ثابت فمانعوا دون القصر مستميتين إلى أن استلحموا ورفعت رءوسهم على عصيّ الرماح، فطيف بها، وغصت سكك البلد من خارجها وداخلها بالعساكر، وكظّت أبوابها بالزحام، حتى لقد كبّ الناس على أذقانهم وتواقعوا فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم ما بين البابين حتى ضاق المذهب ما بين السقف ومسلك الباب وانطلقت الأيدي على المنازل نهبا واكتساحا، وخلص السلطان إلى المسجد الجامع، واستدعى رؤساء الفتيا والشورى أبا زيد عبد الرحمن وأبا موسى عيسى ابني الإمام، قدمهما من أعماله لمكان معتقده في أهل العلم، فحضروه ورفعوا إليه أمر الناس وما نالهم من معرة العسكر ووعظوه فأناب ونادى مناديه برفع الأيدي عن ذلك، فسكن الاضطراب وأقصر العيث. وانتظم السلطان أبو الحسن أمصار المغرب الأوسط وعمله إلى سائر أعماله. وتاخم الموحدين بثغوره وطمس رسم الملك لآل زيّان ومعالمه، واستتبع زناتة عصبا تحت لوائه من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وأقطعهم ببلاد المغرب سهاما أدالهم بها من تراثهم من أعمال تلمسان، فانقرض ملك آل يغمراسن برهة من الدهر إلى أن أعاده منهم أعياص سموا إليه بعد حين عند نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان كما نذكره، فأومض بارقه، وهبّت ريحه، والله يؤتي ملكه من يشاء.   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تاوعزدوت. [2] وفي نسخة ثانية: في هذه الوقائع. فقصّ هذا اليوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 (الخبر عن رجال دولته وهم موسى بن علي ويحيى بن موسى ومولاه هلال وأوليتهم ومصاير أمورهم واختصاصهم بالذكر لما صار من شهرتهم وارتفاع صيتهم) فأمّا موسى بن علي الحاجب الهالك مع السلطان، فأصله من قبيلة الكرد من أعاجم المشرق، وقد أشرنا الى الخلاف في نسبهم بين الأمم. وذكر المسعودي منهم أصنافا سمّاهم في كتابه من الشاهجان والبرسان والكيكان إلى آخرين منهم، وأنّ مواطنهم ببلاد أذربيجان والشام والموصل، وأنّ منهم نصارى على رأي اليعقوبية وخوارج على رأي البراءة من عثمان وعلي انتهى كلامه. (وكان) منهم طوائف بجبل شهرزور من عراق العجم وعامّتهم يتقلّبون في الرحلة. وينتجعون لسائمتهم مواقع الغيث، ويتّخذون الخيام لسكناهم من اللبود، وجل مكاسبهم الشاء والبقر من الأنعام، وكانت لهم عزة وامتناع بالكثرة ورياسات ببغداد أيام تغلّب الأعاجم على الدولة واستبدادهم بالرياسة. ولما طمس ملك بني العباس وغلب التتر على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، وقتل ملكهم هلاون آخر خلفاء العباسيّين، وهو المستعصم. ثم ساروا في ممالك العراق وأعماله، فاستولوا عليها وعبر الكثير من الكرد نهر الفرات فرارا أمام التتر لما كانوا يدينون بدين المجوسيّة وصاروا في إيالة الترك، فاستنكف أشرافهم وبيوتاتهم من المقام تحت سلطانهم. وجاز منهم إلى المغرب عشيرتان تعرفان ببني لوين وبني بابير [1] فيمن إليهم من الأتباع ودخلوا المغرب لآخر دولة الموحّدين ونزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن تلقيهم وأكرم مثواهم، وأسنى لهم الجراية والأقطاع وأحلّهم بالمحل الرفيع من الدولة. (ولما انتقض) أمر الموحدين بحدثان وصولهم صاروا إلى ملكة بني مرين، ولحق بعضهم بيغمراسن بن زيّان، ونزع المستنصر إلى إفريقية يومئذ بيت من بني بابير لا أعرفهم، كان منهم محمد بن عبد العزيز المعروف بالمزوار، صاحب مولانا السلطان أبي يحيى وآخرون غيره منهم ركان [2] من أشهر من بقي في إيالة بني مرين منهم. ثم   [1] وفي نسخة ثانية: بني تابير. [2] وفي نسخة ثانية: وكان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 من بني بابير علي بن حسن بن صاف وأخوه سلمان، ومن بني لوين الخضر بن محمد، ثم بنو حمّور، ثم بنو بوصة. وكانت رياسة بني بابير لسلمان وعليّ، ورياسة لوين لخضر بن محمد. وكادت تكوّن الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الاولى، فإذا اتعدوا للحرب توافت إليهم أشياعهم من تلمسان، وكان نضالهم بالسهام وكانت القسيّ سلاحهم. وكان من أشهر الوقائع بينهم وقيعه بفاس سنة أربع وسبعين وستمائة، جمع لها خضر رئيس بني لوين وسلمان وعليّ رئيسا بني بابير، واقتتلوا خارج باب الفتوح. وتركهم يعقوب بن عبد الحق لشأنهم من الفتنة حياء منهم، فلم يعرض لهم. وكان مهلك سلمان منهم بعد ذلك مرابطا بثغر طريف عام تسعين وستمائة، وكان لعليّ بن حسن ابنه موسى اصطفاه السلطان يوسف بن يعقوب، وكشف له الحجاب عن داره، وربى بين حرمه فتمكّنت له دالة سخط بسببها بعض الأحوال مما لم يرضه، فذهب مغاضبا ودخل إلى تلمسان أيام كان يوسف بن يعقوب محاصرا لها، فتلقّاه عثمان بن يغمراسن من التكرمة والترحيب بما يناسب محلّه من قومه ومنزلته من اصطناع السلطان. وأشار يوسف بن يعقوب على أبيه باستمالته فلقيه في حومة القتال وحادثة واعتذر له بكرامة القوم إياه، فحضّه على الوفاء لهم، ورجع إلى السلطان فخبّره الخبر فلم ينكر عليه. وأقام هو بتلمسان وهلك أبوه عليّ بالمغرب سنة سبع وسبعمائة. ولما هلك عثمان بن يغمراسن بن زيّان زاده بنوه اصطناعا ومداخلة، وخلطوه بأنفسهم وعقدوا له على العساكر لمحاربة أعدائهم. وولّوه الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة من الوزارة والحجابة. ولما هلك السلطان أبو حمو وقام بأمره ابنه أبو تاشفين، وكان هو الّذي تولّى له أخذ البيعة على الناس، وغصّ بمكانه مولاه هلال فلما استبدّ عليه وكان كثيرا ما ينافس موسى بن علي ويناقشه، فخشيه على نفسه، وأجمع على إجازة البحر للمرابطة بالأندلس، فبادره هلال وتقبّض عليه وغرّبه إلى العدوة ونزل بغرناطة، وانتظم في الغزاة المجاهدين وأمسك عن جراية السلطان فلم يمدّ إليها يدا أيام مقامه، وكانت من أنزه ما جاء به وتحدّث به الناس فأغربوا، واتقدت لها جوانح هلال حسدا وعداوة، فأغرى سلطانه فخاطب ابن الأحمر في استقدامه، فأسلمه إليه. واستعمله السلطان في حروبه على قاصيته حتى كان من نهوضه بالعساكر إلى إفريقية للقاء مولانا السلطان أبي يحيى سنة سبع وعشرين وسبعمائة. وكانت الدبرة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 عليه واستلحمت زناتة، ورجع في الفلّ فأغرى هلال السلطان وألقى في نفسه التهمة به. ونمي ذلك إليه فلحق بالعرب الزواودة، وعقد مكانه على محاصرة بجاية ليحيى ابن موسى صاحب شلف، ونزل هو على سليمان ويحيى بن علي بن سبّاع بن يحيى من أمراء الزواودة في أحيائهم [1] فلقوه مبرة وتعظيما، وأقام بين أحيائهم مدّة، ثم استقدمه السلطان ورجع إلى محلّه من مجلسه. ثم تقبّض عليه لأشهر، وأشخصه إلى الجزائر فاعتقله بها وضيّق عليه محبسه ذهابا مع أغراض منافسة هلال، حتى إذا أسخط هلالا استدعاه من محبسه أضيق ما كان، فانطلق إليه. فلما تقبّض على هلال قلّد موسى بن عليّ حجابته، فلم يزل مقيما لرسمها إلى يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان، فهلك مع أبي تاشفين وبنيه في ساحة قصرهم كما قلناه. وانقضى أمره والبقاء للَّه. وانتظم بنوه بعد مهلكه في جملة السلطان أبي الحسن وكان كبيرهم سعيد قد خلص من بين القتلى في تلك الملحمة بباب القصر بعد هدوّ من الليل مثخنا بالجراح، وكانت حياته بعدها تعدّ من الغرائب، ودخل في عفو السلطان إلى أن عادت دولة بني عبد الواد، فكان له في سوقها نفاق حسبما نذكره والله غالب على أمره. (وأمّا يحيى بن موسى) فأصله من بني سنوس إحدى بطون كومية، ولهم ولاء في بني كمين [2] بالاصطناع والتربية. ولمّا فصل بنو كمين إلى المغرب قعدوا عنهم واتصلوا ببني يغمراسن واصطنعوهم، ونشأ يحيى بن موسى في خدمة عثمان وبنيه واصطناعهم. (ولما كان) الحصار ولّاه أبو حمو مهمة من التطواف بالليل على الحرس بمقاعدهم من الأسوار، وقسم القوت على المقاتلة بالمقدار، وضبط الأبواب والتقدّم في حومة الميدان [3] ، وكان له أعوان على ذلك من خدّامه قد لزموا الكون معه في البكر والآصال. والليل والنهار، وكان يحيى هذا منهم فعرفوا له خدمته وذهبوا إلى اصطناعه وكان من أوّل ترشيحه ترديد أبي يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم: فيما يدور بينهم من المضاربة، فكان يجلّي في ذلك ويوفي من عرض مرسلة [4] ، ولما خرجوا من الحصار أربوا به على رتب الاصطناع والتنويه.   [1] وفي نسخة ثانية: المذكورين في أخبارهم. [2] وفي نسخة ثانية: بني كمي. [3] وفي نسخة ثانية: في حومة القتال. [4] وفي نسخة ثانية: ويؤتي غرض مرسلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 (ولما ملك أبو تاشفين) استعمله بشلف مستبدّا بها وأذن له في اتخاذ الآلة. ثم لما عزل موسى بن علي عن حرب الموحدين وقاصية الشرق عزله به، وكانت المرية وتنس من عمله. فلما نازل السلطان أبو الحسن تلمسان راسله بالطاعة والكون معه، فتقبّله وجاء به [1] من مكان عمله، فقدم عليه بمخيّمه على تلمسان، فاختصه بإقباله ورفع مجلسه من بساط، ولم يزل عنده بتلك الحال إلى أن هلك بعد افتتاح تلمسان والله مصرّف الأقدار. (وأمّا هلال) فأصله من سبي النصارى القطلونيّين أهداه السلطان ابن الأحمر الى عثمان بن يغمراسن، وصار إلى السلطان أبي حمو فأعطاه إلى ولده أبي تاشفين فيما أعطاه من الموالي المعلوجين، ونشأ عنده وتربّى، وكان مختصّا عنده بالراحلة والدالة، وتولى كبر تلك الفعلة التي فعلوا بالسلطان أبي حمو. ولمّا ولي بعده ابنه أبو تاشفين ولّاه على حجابته، وكان مهيبا فظّا غليظا، فقعد مقعد الفصل ببابه وأرف للناس سطوه [2] ، وزحزح المرشّحين عن رتب المماثلة إلى التعلّق بأهدابه، فاستولى على الأمر واستبدّ على السلطان. ثم حذر مغبة الملك وسوء العواقب، فاستأذن السلطان في الحج وركب إليه من هنين بعض السفن اشتراها بماله وشحنها بالعديد والعدّة والأقوات والمقاتلة، وأقام كاتبه الحاج محمد بن حواتة [3] بباب السلطان على رسم النيابة عنه، وأقلع سنة أربع وعشرين وسبعمائة فنزل بالإسكندرية وصحب الحاج من مصرفي جملة الأمير عليهم، ولقي في طريقه سلطان السودان من آل منسي موسى، واستحكمت بينهما المودّة. ثم رجع بعد قضاء فرضه إلى تلمسان. فلم يجد مكانه من السلطان ولم يزل من بعد ذلك يتنكر له وهو يسايسه بالمداراة والاستجداء إلى أن سخطه، فتقبّض عليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة وأودعه سجنه، فلم يزل معتقلا إلى أن هلك من وجع أصابه قبيل فتح تلمسان، ومهلك السلطان بأيام، فكانت آية عجبا في تقارب مهلكهما واقتران سعادتهما ونحوسهما. وقد كان السلطان أبو الحسن يتبع الموالي الذين شهدوا مقتل السلطان أبي حمو، وأفلت هلال هذا من عقابه بموته. والله بالغ حكمه.   [1] وفي نسخة ثانية: وجأجأ. [2] وفي نسخة ثانية: وأرهب الناس سطوته. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حونته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 الخبر عن انتزاء عثمان بن جرار على ملك تلمسان بعد نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان وعود الملك بذلك لبني زيان كان بنو جرار هؤلاء من فضائل نيدوكسن [1] بن طاع الله وهم بنو جرار بن يعلى بن نيدوكسن، وكان بنو محمد بن زكراز يفضون إليهم من أوّل الأمر، حتى صار الملك إليهم واستبدوا به، فجرّوا على جميع الفصائل من عشائرهم ذيل الاحتقار. ونشأ عثمان بن يحيى بن محمد بن جرّار هذا من بينهم مرموقا بعين التجلّة والرئاسة، وسعى عند السلطان أبي تاشفين بأن في نفسه تطاولا للرئاسة فاعتقله مدّة. وفرّ من محبسه فلحق بملك المغرب السلطان سعيد فآثر محله وأكرم منزله، واستقرّ بمثواه فنسك وزهد. واستأذن السلطان عند تغلّبه على تلمسان في الحج بالناس فأذن له. وكان قائد الركب من المغرب إلى مكة سائر أيامه حتى استولى السلطان أبو الحسن على أعمال الموحّدين، وحشد أهل المغرب من زناتة والمغرب لدخول إفريقية اندرج عثمان هذا في جملته، واستأذنه قبيل القيروان في الرجوع إلى المغرب فأذن له ولحق بتلمسان فنزل على أميرها من ولد الأمير أبي عنّان، كان قد عقد له على عملها، ورشّحه لولاية العهد بولايتها، فازدلف إليه بما بثّه من الخبر عن أحوال أبيه، وتلطّف فيما أودع سمعه من تورّط أبيه في مهالك إفريقية، وإياسه من خلاصه، ووعده بمصير الأمر إليه على ألسنة الخبراء والكهّان. وكان يظنّ فيه أنّ لديه من ذلك علما، وعلى تفيئة ذلك كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. وظهر مصداق ظنّه وإصابة قياسه فأغراه بالتوثّب على ملك أبيه بتلمسان، والبدار إلى فاس لغلب منصور ابن أخيه أبي مالك عليها، كان استعمله جدّه أبو الحسن هنالك وأراه آية سلطانه وشواهد ملكه، وتحيّل عليه في إشاعة مهلك السلطان أبي الحسن وإلقائه على الألسنة حتى أوهم صدقه. وتصدّى الأمير أبو عنان للأمر، وتسايل إليه الفلّ من عساكر بني مرين، فاستلحق وبث العطاء وأعلن بابا لدعاء نفسه في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة وعسكر خارج تلمسان للنهوض إلى المغرب كما نذكره في أخبارهم ولما فصل دعا عثمان لنفسه وانتزى على كرسيه واتخذ الآلة وأعاد من ملك بني عبد الواد رسما لم   [1] كذا في النسخة الباريسية نيدوكسن وفي نسخة أخرى: تيدوكسن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 يكن لآل جرار، واستبدّ أشهرا قلائل إلى أن خلص إليه من آل زيان من ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن من طمس معالمه، وخسف به وبداره، وأعاد أمر بني عبد الواد في نصابه حسبما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الخبر عن دولة أبي سعيد وأبي ثابت من آل يغمراسن وما فيها من الأحداث) كان الأمير أبو يحيى جدّهما من أكبر ولد يغمراسن بن زيّان، وكان ولي عهده بعد مهلك أخيه عمر الأكبر. ولما تغلّب يغمراسن على سجلماسة سنة إحدى وستين وستمائة استعمله عليها، فأقام بها حولا وولد له هناك ابنه عبد الرحمن. ثم رجع إلى تلمسان فهلك بها ونشأ عبد الرحمن بسجلماسة، ولحق بتلمسان بعد أمه [1] ، فأقام مع بني أبيه إلى أن غصّ السلطان بمكانه وغرّبه إلى الأندلس، فمكث بها حينا، وهلك في مرابطته بثغر قرمونة في بعض أيام الجهاد. وكان له بنون أربعة يوسف وعثمان والزعيم وإبراهيم، فرجعوا إلى تلمسان وأوطنوها أعواما حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على ملكهم، وأضاف إلى دولته دولتهم نقلهم من تلمسان إلى المغرب في جملة أعياصهم. ثم سألوا إذنه في المرابطة بثغور الأندلس التي في عمله، فأذن لهم وفرض لهم العطاء وأنزلهم بالجزيرة فكانت لهم بالجهاد مواقف مذكورة ومواطن معروفة. ولما استنفر السلطان أبو الحسن زناتة لغزو إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كانوا في جملته مع قومهم بني عبد الواد وفي رايتهم، ومكانهم معلوم بينهم. فلما اضطرب أمر السلطان أبي الحسن وتألّب عليه الكعوب من بني سليم أعراب إفريقية، وواضعوه الحرب بالقيروان، كان بنو عبد الواد أوّل النازعين عنه إليهم. فكانت النكبة وانحجز بالقيروان وانطلقت أيدي الأعراب على الضواحي وانتقض المغرب من سائر أعماله، أذنوا لبني عبد الواد في اللحاق بقطرهم ومكان عملهم، فمروا بتونس وأقاموا بها أياما، وخلص الملاء منهم نجيا في شأن أمرهم ومن يقدّمون عليهم فأصفقوا بعد الشورى على عثمان بن عبد الرحمن واجتمعوا إليه لعهده بهم يومئذ، وقد خرجوا به   [1] وفي نسخة ثانية: بعد أبيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 إلى الصحراء وأجلسوه بباب مصلى العيد من تونس على درقة. ثم ازدحموا عليه بحيث توارى شخصه عن الناس، يسلّمون عليه بالإمارة ويعطونه الصفقة على الطاعة والبيعة حتى استهلوا [1] جميعا. ثم انطلقوا به إلى رحالهم. واجتمع مغراوة أيضا إلى أميرهم عليّ بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل الّذي ذكرناه من قبل، وتعاهدوا على الصحابة إلى أعمالهم والمهادنة آخر الأيام واستئثار كل بسلطانه وتراث سلفه، وارتحلوا على تفيئة ذلك الى المغرب. وشنّت البوادي عليهم الغارات في كل وجه، فلم يظفروا منهم بقلامة ظفر: مثل ونيفن ونونة وأهل جبل بني ثابت. ولما مرّوا ببجاية وكان بها فلّ من مغراوة وتوجين، نزلوا بها منذ غلبوا على أعمالهم، وصاروا في جند السلطان فارتحلوا معهم. واعترضهم بجبل الزاب برابرة زواوة، فأوقعوا بهم وظهر من نجدتهم وبلائهم في الحروب ما هو معروف لأوليهم. ثم لحقوا بشلف فتلقّتهم قبائل مغراوة، وبايعوا لسلطانهم عليّ بن راشد فاستوسق ملكه. وانصرف بنو عبد الواد والأميران أبو سعيد وأبو ثابت بعد أن أحكموا العقد [2] وأبرموا الوثاق مع عليّ بن راشد وقومه. وكان في طريقهم بالبطحاء أحياء سويد ومن معهم من أحلافهم قد نزلوا هناك مع شيخهم وترمار بن عريف، منهزمهم من تاسالت أمام جيوش السلطان أبي عنّان فأجفلوا من هنالك، ونزل بنو عبد الواد مكانهم، وكان في جملتهم جماعة من بني جرار بن نيدوكسن كبيرهم عمران بن موسى، ففرّ ابن عثمان بن يحيى بن جرار إلى تلمسان فعقد له على حرب أبي سعيد وأصحابه، فنزل الجند الذين خرجوا معه إلى السلطان أبي سعيد. وانقلب هو الى تلمسان والقوم في أثره، فأدرك بطريقة وقتل. ومرّ السلطان إلى البلد فثارت العامة بعثمان بن جرار فاستأمن لنفسه من السلطان فأمّنه ودخل إلى قصر الملك آخر جمادى الأخيرة من سنة تسع وأربعين وستمائة فاقتعد أريكته وأصدر أوامره واستوزر واستكتب، وعقد لأخيه أبي ثابت الزعيم على ما وراء بابه من متون [3] ملكهما، وعلى القبيل والحروب، واقتصر هو على ألقاب الملك وأسمائه ولزم الدعة. وتقبّض لأوّل دخوله على عثمان بن يحيى بن جرار فأودعه المطبق إلى أن مات في رمضان من سنته، ويقال قتيلا. وكان   [1] وفي نسخة ثانية: حتى استكملوا جميعا. [2] وفي نسخة ثانية: العهد. [3] وفي نسخة ثانية: شئون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 من أوّل غزوات السلطان أبي ثابت غزاته إلى كومية، وذلك أن كبيرهم إبراهيم بن عبد الملك كان شيخا عليهم منذ حين من الدهر، وكان ينتسب في بني عابد، وهم قوم عبد المؤمن بن عليّ من بطون كومية. فلما وقع الهرج بتلمسان حسب أنه لا ينجلي غمامه [1] وحدّثته نفسه بالانتزاء فدعا لنفسه، وأضرم بلاد كومية وما إليها من السواحل نارا وفتنة. فجمع له السلطان أبو ثابت ونهض إلى كومية فاستباحهم قتلا وسبيا واقتحم هنين، ثم ندرومة بعدها. وتقبّض على إبراهيم بن عبد الملك الخارج فجاء به معتقلا إلى تلمسان وأودعه السجن، فلم يزل به إلى أن قتل بعد أشهر. وكانت أمصار المغرب الأوسط وثغوره لم تزل على طاعة السلطان أبي الحسن والقيام بدعوته، وبها حاميته وعمّاله وأقربها إلى تلمسان مدينة وهران، كان بها القائد عبد بن سعيد بن جانا من صنائع بني مرين، وقد ضبطها وثقفها وملأها أقواتا ورجلا وسلاحا، وملأ مرساها أساطيل، فكان أوّل ما قدّموه من أعمالهم النهوض إليه فنهض السلطان أبو ثابت بعد أن جمع قبائل زناتة والعرب ونزل على وهران وحاصرها أياما. وكان في قلوب بني راشد أحلافهم مرض فداخلوا قائد البلد في الانقضاض على السلطان أبي ثابت ووعدوه الوفاء بذلك عند المناجزة، فبرز وناجزهم الحرب فانهزم بنو راشد وجرّوا الهزيمة على من معهم وقتل محمد بن يوسف بن عنّان بن فارس أخي يغمراسن بن زيّان من أكابر القرابة، وانتهب المعسكر ونجا السلطان أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن لقاء أبي ثابت مع الناصر ابن السلطان أبي الحسن وفتح وهران بعدها) كان السلطان أبو الحسن بعد وقعة القيروان قد لحق بتونس، فأقام بها والعرب محاصرون له ينصبون الأعياص من الموحّدين لطلب تونس واحدا بعد آخر كما ذكرناه في أخبارهم. وبينما هو مؤمّل الكرّة ووصول المدد من المغرب الأقصى إذ بلغه الخبر بانتثار السكك أجمع، وبانتقاض ابنه وحافده، ثم استيلاء بني عنّان على المغرب   [1] وفي نسخة ثانية: لا تتجلّى غيابته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 كلّه، ورجوع بني عبد الواد ومغراوة وتوجين إلى ملكهم بالمغرب الأوسط ووفد عليه يعقوب بن علي أمير الزواودة، فاتفق مع عريف بن يحيى، أمير سويد وكبير مجلس السلطان، على أن يغرياه ببعث ابنه الناصر إلى المغرب الأوسط. للدعوة التي كانت قائمة بأمصاره في الجزائر ووهران وجبل وانشريس، وكان به نصر بن عمر بن عثمان ابن عطيّة قائما بدعوته، وأن يكون عريف بن يحيى في جملة الناصر لمكانه من السلطان ومكان قومه من الولاية. وكان ذلك من عريف تفاديا من المقام بتونس فأجاب إليه السلطان وبعثهم جميعا، ولحق الناصر ببلاد حصين فأعطوه الطاعة وارتحلوا معه، ولقيه العطاف والديالم وسويد فاجتمعوا إليه وتألّبوا معه، وارتحلوا يريدون منداس. وبينما الأمير أبو ثابت يريد معاودة الغزو إلى وهران إذ فجأه الخبر بذلك، فطيّر به إلى السلطان أبي عنّان وجاءه العسكر من بني مرين مددا صحبة أبي زيان ابن أخيه أبي سعيد، كان مستقرّا [1] بالمغرب منذ نهوضهم إلى القيروان وبعث عنه أبوه فجاء مع المدد من العساكر والمال، ونهض أبو ثابت من تلمسان أوّل المحرّم سنة خمسين وسبعمائة وبعث إلى مغراوة بالخبر فقعدوا عن مناصرته، ولحق ببلاد العطاف فلقيه الناصر هنالك في جموعه بوادي ورك آخر شهر ربيع الأوّل، فانكشفت جموع العرب وانهزموا، ولحق الناصر بالزاب فنزل على أبي مزني ببسكرة إلى أن أصحبه من رجالات سليم من أوصله إلى أبيه بتونس. ولحق عريف بن يحيى بالمغرب الأقصى، واحتل عند السلطان أبي عنّان بمكانه من مجلسهم، فحصل على البغية ورجع العرب كلّهم إلى طاعة أبي ثابت وخدمته، واستراب بصغير بن عامر بن إبراهيم فتقبّض عليه وأشخصه معتقلا مع البريد إلى تلمسان، فاعتقل بها إلى أن أطلق بعد حين. وقفل أبو ثابت إلى تلمسان فتلوم بها أياما، ثم نهض إلى وهران في جمادى من سنته، فحاصرها أياما، ثم افتتحها عنوة وعفا عن عليّ بن جانا [2] القائم بعد مهلك أخيه عبو وعلى من معه، وأطلق سبيلهم واستولى على ضواحي وهران وما إليها، ورجع إلى تلمسان وقد استحكمت العداوة بينه وبين مغراوة، وكان قد استجرّها ما قدّمناه من قعودهم عن نصره، فنهض إليهم في شوّال   [1] وفي نسخة ثانية: مستنفرا. [2] وفي نسخة ثانية: علي بن أجانا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 من سنته والتقوا في عدوة وادي زهير [1] فاقتتلوا مليا. ثم انكشفت مغراوة ولحقوا بمعاقلهم واستولى أبو ثابت على معسكرهم وملك مازونة، وبعث ببيعتها إلى أخيه السلطان أبي سعيد. وكان على أثر ذلك وصول السلطان أبي الحسن من تونس، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبر عن وصول السلطان أبي الحسن من تونس ونزوله بالجزائر وما دار بينه وبين أبي ثابت من الحروب ولحوقه بعد الهزيمة بالمغرب كان السلطان أبو الحسن بعد واقعة القيروان طال مقامه بتونس وحصار العرب إياه، واستدعاه أهل المغرب الأقصى وانتقض عليه أهل الجريد وبايعوا للفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، فأجمع الرحلة إلى المغرب وركب السفن من تونس أيام الفطر من سنة خمسين وسبعمائة فعصفت به الريح وأدركه الغرق، فغرق أسطوله على ساحل بجاية ونجا بدمائه إلى بعض الجزائر هنالك، حتى لحقه أسطول من أساطيله، فنجا فيه إلى الجزائر وبها حمو بن يحيى بن العسري قائده وصنيعة أبيه، فنزل عليه. وبادر إليه أهل ضاحيتها من مليكش والثعالبة، فاستخدمهم وبثّ فيهم العطاء. واتصل خبره بونزمار بن عريف وهو في أحياء سويد، فوفد عليه في مشيخة من قومه، ووفد معه نصر بن عمر بن عثمان صاحب جبل وانشريس من بني تيغرين، وعديّ بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي الثائر بنواحي المرية من ولد عبد القوى، فأعطوه الطاعة واستحثوه للخروج معهم، فردّهم للحشد، فجمعوا من إليهم من قبائل العرب وزناتة. وبينما الأمير أبو ثابت ببلاد مغراوة محاصرا لهم في معاقلهم إذ بلغه الخبر بذلك في ربيع سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فعقد السلم معهم ورجع إلى قتال هؤلاء، فأخذ على منداس وخرج إلى السرسو قبلة وانشريس. وأجفل أمامه ونزمار وجموع العرب الذين معه، ولحق به هنالك مدد السلطان أبي عنان قائدهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي، فاتبع آثار العرب وشرّدهم. ولحقت أحياء حصين بمعاقلهم من جبل تيطرى، ثم عطف على المرية ففتحها وعقد   [1] وفي نسخة ثانية: وادي رهيو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 عليها لعمر بن موسى الجلولي من صنائعهم. ثم نهض إلى حصين فاقتحم عليهم الجبل فلاذوا بالطاعة وأعطوا أبناءهم رهنا عليها، فتجاوزهم إلى وطاء حمزة فدوّخها، واستخدم قبائلها من العرب والبربر، والسلطان أثناء ذلك مقيم بالجزائر. ثم قفل أبو ثابت إلى تلمسان وقد كان استراب بيحيى بن رحو وعسكره من بني مرين. وأنهم داخلوا السلطان أبا الحسن وبعث فيه إلى السلطان أبي عنّان، فأداله بعيسى بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب فبعثه قائدا على الحصة المرينية، فتقبّض على يحيى بن رحو ولحقوا مع أبي ثابت بتلمسان. ثم أجاز إلى المغرب وأوعز السلطان أبو الحسن إلى ابنه الناصر مع أوليائه من زناتة والعرب فاستولى على المرية وقتل عثمان بن موسى الجلولي. ثم تقدّم إلى مليانة فملكها، وإلى تيمزوغت كذلك. وجاء على أثره السلطان أبو الحسن أبوه، وقد اجتمعت إليه الجموع من زغبة ومن زناتة ومن عرب إفريقية سليم ورباح مثل: محمد بن طالب بن مهلهل، ورجال من عشيرته، وعمر بن عليّ بن أحمد الزواودي، وأخيه أبي دينار، ورجالات من قومهما. وزحف على هذه التعبية وابنه الناصر أمامه، فأجفل عليه بن راشد وقومه مغراوة عن بلادهم إلى البطحاء، وطيّر الخبر إلى أبي ثابت فوافاه في قومه وحشوده، وزحفوا جميعا إلى السلطان أبي الحسن وقومه، فالتقى الجمعان بتيمغزين من شلف. وصابروا مليا، ثم انكشف السلطان أبو الحسن وقومه، وطعن ولده الناصر بعض فرسان مغراوة وهلك آخر يومه. وقتل محمد بن عليّ بن العربيّ قائد أساطيله وابن البواق والقبائلي كاتباه. واستبيح معسكره وما فيه من متاع وحرم، وخلص بناته إلى وانشريس، وبعث بهن أبو ثابت إلى السلطان أبي عنّان بعد استيلائه على الجبل. وخلص السلطان أبو الحسن إلى أحياء سويد، بالصحراء فنجا به ونزمار بن عريف إلى سجلماسة كما يأتي ذكره في أخباره، ودوّخ أبو ثابت بلاد بني توجين وقفل إلى تلمسان والله تعالى أعلم. الخبر عن حروبهم مع مغراوة واستيلاء أبي ثابت على بلادهم ثم على الجزائر ومقتل عليّ بن راشد بتنس على أثر ذلك كان بين هذين الحيّين من عبد الواد ومعراوة فتن قديمة سائر أيامهم، قد ذكرنا الكثير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 منها في أخبارهم. وكان بنو عبد الواد قد غلبوهم على أوطانهم حتى قتل راشد بن محمد في جلائه أمامهم بين زواوة. ولما اجتمعوا بعد نكبة القيروان على أميرهم علي بن راشد وجاءوه من إفريقية إلى أوطانهم مع بني عبد الواد، ولم يطيعوهم حينئذ أن يغلبوهم رجعوا حينئذ إلى توثيق العهد وتأكيد العقد [1] فأبرموه وقاموا على الموادعة والتظاهر على عدوهم، وعروق الفتنة تنبسط من كل منهم [2] . ولما جاء الناصر من إفريقية وزحف إليه أبو ثابت، قعد عنه علي بن راشد وقومه، فاعتدّها عليهم وأسرّها في نفسه. ثم اجتمع بعد ذلك للقاء السلطان أبي الحسن حتى انهزم ومضى إلى المغرب. فلما رأى أبو ثابت أنه قد كفى عدوّه الأكبر وفرغ إلى عدوّه الأصغر نظر في الانتقاض عليهم. فبينما هو يروم أسباب ذلك إذ بلغه الخبر أنّ بعض رجالات بني كمين [3] من مغراوة جاء إلى تلمسان فاغتالوه فحمى له أنفه وأجمع لحربهم. وخرج من تلمسان فاتحة اثنتين وخمسين وسبعمائة وبعث في أحياء زغبة من بني عامر وسويد، فجاءوه بفارسهم وراجلهم وظعائنهم، وزحف إلى مغراوة فخافوا من لقائه، وتحصّنوا بالجبل المطل على تنس، فحاصرهم فيه أياما اتصلت فيها الحروب وتعدّدت الوقائع. ثم ارتحل عنهم فجال في نواحي البلد، ودوّخ أقطارها، وأطاعته مليانة والمرية وبرشك وشرشال. ثم تقدّم بجموعه إلى الجزائر فأحاط بها وفيها فلّ بني مرين وعبد الله بن السلطان أبي الحسن، تركه هناك صغيرا في كفالة علي بن سعيد ابن جانا، فغلبهم على البلد وأشخصهم في البحر إلى المغرب، وأطاعته الثعالبة ومليكش وقبائل حصين. وعقد على الجزائر لسعيد بن موسى بن علي الكردي، ورجع إلى مغراوة فحاصرهم بمعقلهم الأوّل بعد أن انصرفت العرب إلى مشاتيها، فاشتدّ الحصار على مغراوة وأصاب مواشيهم العطش، فانحطت دفعة واحدة من الجبل تطلب المورد فأصابهم الدهش. ونجا ساعتئذ عليّ بن راشد إلى تنس، فأحاط به أبو ثابت أياما. ثم اقتحمها عليه غلابا منتصف شعبان من سنته، فاستعجل المنية وتحامل على نفسه فذبح نفسه، وافترقت مغراوة من بعده وصارت أوزاعا في القبائل   [1] وفي نسخة بولاق المصرية: توثيق العقد وتأكيد العهد. [2] وفي نسخة أخرى: تنبض في كل منهم. [3] وفي نسخة أخرى: بني كمي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 وقفل أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان من حركة السلطان أبي عنّان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن استيلاء السلطان أبي عنان على تلمسان وانقراض أمر بني عبد الواد ثانية لما لحق السلطان أبو الحسن بالمغرب، وكان من شأنه مع ابنه أبي عنّان إلى أن هلك بجبل هنتاتة على ما نذكره في أخبارهم. فاستوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنّان وفرغ لعدوّه وسما لاسترجاع الممالك التي ابتزّها أبوه وانتزعها ممن توثّب عليه، وكان قد بعث إليه عليّ بن راشد من مكان امتناعه من جبل تنس يسأل منه الشفاعة، ونذر بذلك أبو سعيد وأخوه، فخرج أبو ثابت وحشد القبائل من زناتة والعرب منتصف ذي القعدة، ونزل بوادي شلف. واجتمع الناس إليه وواصلته هناك بيعة تدلس في ربيع من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. غلب عليها الموحدون جانا الخراساني [1] من صنائعه، وبلغه من مكانه ذلك زحف السلطان أبي عنّان فرجع إلى تلمسان، ثم خرج إلى المغرب. وجاء على أثره أخوه السلطان أبو سعيد في العساكر من زناتة ومعه بنو عامر من زغبة والفل من سويد، إذ كان جمهورهم قد لحقوا بالمغرب لمكان عريف بن يحيى وابنه من ولاية بني مرين، فزحفوا على هذه التعبية وزحف السلطان أبو عنّان في أمم المغرب من زناتة والعرب المعقل والمصامدة وسائر طبقات الجنود والحشد، وانتهوا جميعا إلى انكاد من بسيط وجدة، فكان اللقاء هنالك آخر ربيع الثاني من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة واجتمع بنو عبد الواد على صدمة العساكر وقت القائلة، وبعد ضرب الأبنية وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر في حاجاتهم، فأعجلوهم عن ترتيب المصاف. وركب السلطان أبو الحسن لتلافي الأمر، فاجتمع إليه أوشاب من الناس وانفض [2] سائر المعسكر ثم زحف إليهم فيمن حضره وصدقوهم القتال، فاختلّ مصافهم ومنحوا أكتافهم وخاضوا بحر الظلماء. واتبع بنو مرين آثارهم وتقبّض على أبي سعيد ليلتئذ مقيدا أسيرا إلى السلطان أبي   [1] وفي نسخة أخرى: غلب عليها الموحدين جابر الخراساني. [2] وفي نسخة بولاق المصرية: وانتقض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 عنّان، فأحضره بمشهد الملأ ووبخه. ثم نقل إلى محبسه وقتل لتاسعة من ليالي اعتقاله. وارتحل السلطان أبو عنّان إلى تلمسان، ونجا الزعيم أبو ثابت بمن معه من فلّ بني عبد الواد ومن خلص إليه منهم ذاهبا إلى بجاية ليجد في إيالة الموحدين وليجة من عدوه، فبيّته زواوة في طريقه وألدّ عن أصحابه وأرجل عن فرسه [1] وذهب راجلا عاريا ومعه رفقاء من قومه منهم أبو زيّان محمد ابن أخيه السلطان أبي سعيد، وأبو حمو وموسى ابن أخيهم يوسف ابن أخيه، ووزيرهم يحيى بن داود بن فكن [2] وكان السلطان أبو عنان أوعز إلى صاحب بجاية يومئذ المولى أبي عبيد الله حافد مولانا السلطان أبي بكر بأن يأخذ عليهم الطرق، ويذكي في طلبهم العيون، فعثر عليهم بساحة البلد وتقبّض على الأمير أبي ثابت الزعيم وابن أخيه محمد بن أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود وأدخلوا إلى بجاية. ثم خرج صاحبها الأمير أبو عبد الله إلى لقاء السلطان أبي عنّان، واقتادهم في قبضة أسره فلقيه بمعسكره من ظاهر المرية [3] ، فأكرم وفادته وشكر صنيعه، وانكفأ راجعا إلى تلمسان فدخلها في يوم مشهود. وحمل يومئذ أبو ثابت ووزيره يحيى على جملين يتهاديان بهما بين سماطي ذلك المحمل، فكان شأنهما عجبا. ثم سيقا ثاني يومهما الى مصرعهما بصحراء البلد، فقتلا قعصا بالرماح وانقرض ملك آل زيّان، وذهب ما أعاده لهم بنو عبد الرحمن هؤلاء من الدولة بتلمسان إلى أن كانت لهم الكرّة الثالثة على يد أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن المتولّي لهذا العهد على ما سنذكره ونستوفي من أخباره إن شاء الله تعالى. الخبر عن دولة السلطان أبى حمو الأخير مديل الدولة بتلمسان في الكرّة الثالثة لقومه وشرح ما كان فيها من الأحداث لهذا العهد كان يوسف بن عبد الرحمن هذا في إيالة أخيه السلطان أبي سعيد بتلمسان هو   [1] وفي نسخة بولاق المصرية: فبيتته زواوة في طريقه، وأبعد عن صحبه وأرجل عن فرسه. [2] وفي نسخة ثانية: مكن. [3] وفي نسخة ثانية: المدية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 أخوه [1] أبو حمو موسى، وكان متكاسلا عن طلب الظهور، متجافيا عن التهالك في طلب العزّ جانحا إلى السكون ومذاهب أهل الخير، حتى إذا عصفت بدولتهم رياح بني مرين، وتغلّب السلطان أبو عنان عليهم وابتزّهم ما كان بيدهم من الملك، وخلص ابنه أبو حمو موسى مع عمه أبي ثابت إلى الشرق، وقذفت النوى بيوسف مع أشراف قومه إلى المغرب فاستقرّ به. ولما تقبّض على أبي ثابت بوطن بجاية أغفل أمر أبي حمو من بينهم ونبت عنه العيون، فنجا إلى تونس ونزل بها على الحاجب أبي محمد بن تافراكين، فأكرم نزله وأحلّه بمكان أعياص الملك من مجلس سلطانه، ووفر جرايته، ونظم معه آخرين من فل قومه، وأوعز السلطان أبو عنان إليه بإزعاجهم عن قرارهم في دولته، فحمى لها أنفه وأبى عن الهضيمة لسلطانه، فأغرى ذلك أبا عنّان بمطالبته، وكانت حركته إلى بلاد إفريقية ومنابذة العرب من رياح وسليم لعهده ونقضهم لطاعته كما نستوفي أخباره. ولما كانت سنة تسع وخمسين وسبعمائة قبل مهلكه اجتمع أمر الزواودة من رياح إلى الحاجب أبي محمد بن تافراكين، ورغّبوه في لحاق أبي حمو موسى بن يوسف بالعرب من زغبة، وأنهم ركابه لذلك ليجلب على نواحي تلمسان، ويجعل السلطان أبي عنّا شغلا عنهم. وسألوه أن يجهّز عليه بعض آلة السلطان. ووافق ذلك رغبة صغير بن عامر أمير زغبة في هذا الشأن، وكان يومئذ في أحياء يعقوب بن عليّ وجواره، فأصلح الموحدون شأنه بما قدروا عليه ودفعوه إلى مصاحبة صغير وقومه من بني عامر، وارتحل معهم من الزواودة عثمان بن سبّاع ومن أحلافهم بنو سعيد دعّار بن عيسى بن رحاب وقومه ونهضوا بجموعهم يريدون تلمسان وأخذوا على القفر ولقيهم أثناء طريقهم الخبر عن مهلك السلطان أبي عنّان فقويت عزائمهم على ارتجاع ملكهم، ورجع عنهم صولة بن يعقوب. وأغذّ السير إلى تلمسان وبها الكتائب المجمهرة من بني مرين، واتصل خبر أبي حمو بالوزير الحسن بن عمر القائم بالدولة من بعد مهلك السلطان أبي عنّان، والمتغلّب على ولده السعيد من بعده، فجهّز المدد إلى تلمسان من الحامية والأموال، ونهض أولياء الدولة من أولاد عريف بن يحيى أمراء البدو من المغرب في قومهم من سويد ومن إليهم من العرب لموافقة   [1] وفي نسخة ثانية: هو وولده أبو حمو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 السلطان أبي حمو وأشياعه، فانفضّ جمعهم وغلبوا على تلك المواطن واحتل السلطان أبو حمو وجموعه بساحة تلمسان، وأناخوا ركابهم عليها، ونازلوها ثلاثا، ثم اقتحموها في صبيحة الرابع، وخرج ابن السلطان أبي عنان الّذي كان أميرا عليها في لمّة من قومه، فنزل على صغير بن عامر أمير القوم، فأحسن تجلّته وأصحبه من عشيرته إلى حضرة أخيه [1] ، ودخل السلطان أبو حمو تلمسان لثمان خلون من الربيع الأوّل سنة ستين وسبعمائة واحتلّ منها بقصر ملكه، واقتعد أريكته، وبويع بيعة الخلافة، ورجع إلى النظر في تمهيد قواعد ملكه وإخراج بني مرين من أمصار مملكته. والله أعلم. (الخبر عن إجفال أبي حمو عن تلمسان أمام عساكر المغرب ثم عوده إليها) كان القائم بأمر المغرب بعد السلطان أبي عنّان وزيره الحسن بن عمر كافل ابنه السعيد الّذي أخذ له البيعة على الناس، فاستبدّ عليه وملك أمره، وجرى على سياسة السلطان الهالك واقتفى أثره في الممالك الدانية والقاصية في الحماية والنظر لهم وعليهم. ولما اتصل به خبر تلمسان وتغلّب أبي حمو عليها قام في ركائبه وشاور الملأ في النهوض. إليه، فأشاروا عليه بالقعود وتسريح الجنود والعساكر، فسرّح لها ابن عمّه مسعود بن رحّو بن علي بن عيسى بن ماساي بن فودود [2] وحكمه في اختيار الرجال واستجادة السلاح وبذل الأموال واتخاذ الآلة، فزحف إلى تلمسان واتصل الخبر بالسلطان أبي حمّو وأشياعه من بني عامر، فأفرج عنها ولحق بالصحراء. ودخل الوزير مسعود بن رحّو تلمسان وخالفه السلطان أبي حمو إلى المغرب، فنزل بسيط أنكاد. وسرّح إليهم الوزير مسعود بن رحّو ابن عمه عامر بن عبد بن ماساي في عسكر من كتائبه ووجوه قومه، فأوقع بهم العرب وأبو حمّو ومن معهم واستباحوهم. وطار الخبر إلى تلمسان واختلفت أهواء من كان بها من بني مرين، وبدا ما كان في قلوبهم من المرض لتغلّب الحسن بن عمر على سلطانهم، ودولتهم فتحيّزوا زرافات   [1] وفي نسخة ثانية: أبيه. [2] وفي نسخة ثانية: فردود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 لمبايعة بعض الأعياص من آل عبد الحق. وفطن الوزير مسعود بن رحّو لما دبّروه، وكان في قلبه مرض من ذلك فاغتنمها وبايع لمنصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق كبير الأعياص المنفرد بالتجلّة. وارتحل به وبقومه من بني مرين إلى المغرب، وتجافى عن تلمسان وشأنها واعترضه عرب المعقل في طريقهم إلى المغرب، فأوقع بهم بنو مرين وصمّموا لصليهم، ورجع السلطان أبو حمّو إلى تلمسان، واستقرّ بحضرته ودار ملكه، ولحق به عبد الله بن مسلم فاستوزره وأسام إليه فاشتدّ به أزره وغلب على دولته كما نذكره إلى أن هلك، والبقاء للَّه وحده. الخبر عن مقدم عبد الله بن مسلم من مكان عمله بدرعة ونزوله من ايالة بني مرين إلى أبي حمو وتقليده إياه الوزارة وذكر أوليته ومصاير أموره كان عبد الله بن مسلم من وجوه بني زردال من بني بادين إخوة بني عبد الواد وتوجين ومصاب، إلا أن بني زردال اندرجوا في بني عبد الواد لقلّتهم واختلطوا بنسبهم، ونشأ عبد الله بن مسلم في كفالة موسى بن علي لعهد السلطان أبي تاشفين مشهورا بالبسالة والإقدام، طار له بها ذكر وحسن بلاؤه في حصار تلمسان. ولما تغلّب السلطان أبو الحسن علي بني عبد الواد وابتزهم ملكهم استخدمهم، وكان ينتقي أولي الشجاعة والإقدام منهم، فيرمي بهم ثغور المغرب، ولما اعترض بنو عبد الواد ومرّ به عبد الله هذا ذكر له شأنه ونعت ببأسه، فبعثه إلى درعة واستوصى عامله به، فكان له عنه غناء في مواقفه مع خوارج العرب وبلاء حسن، جذب ذلك بضبعه، ورقى عند السلطان منزلته، وعرّفه على قومه. ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان ومرج أمر المغرب، وتوثّب أبو عنّان على الأمر، وبويع بتلمسان واستجمع حافده منصور بن أبي مالك عبد الواحد لمدافعته، وحشد حامية الثغور للقائه، وانفضّت جموعه بتازى وخلص إلى البلد الجديد ونازلة، وكان عبد الله بن مسلم في جملته. ولما نازلة السلطان أبو عنّان واتصلت الحرب بينهم أياما، كان له فيها ذكر. ولما رأى أنه أحيط بهم، سابق الناس إلى السلطان أبي عنّان فرأى سابقيته وقلّده عمل درعة، فاضطلع بها مدّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 خلافته وتأكدت له أيام ولايته مع عرب المعقل وصلة وعهد ضرب بهما في مواخاتهم بسهم. وكان السلطان أبو عنّان عند خروج أخيه أبي الفضل عليه لحقه بجبل ابن حميدي من معاقل درعة، أوعز إليه بأن يعمل الحيلة في القبض عليه، فداخل ابن حميدي ووعده وبذل له فأجاب وأسلمه. وقاده عبد الله بن مسلم أسيرا إلى أخيه السلطان أبي عنّان فقتله. ولما استولى السلطان أبو سالم رفيق أبي الفضل في منوي اغترابهما بالأندلس على بلاد المغرب من بعد مهلك السلطان أبي عنّان، وما كان أثره من الخطوب، وذلك آخر سنة ستين وسبعمائة خشيه ابن مسلم على نفسه، ففارق ولايته ومكان عمله وداخل أولاد حسين أمراء المعقل في النجاة به إلى تلمسان فأجابوه، ولحق بالسلطان أبي حمو في ثروة من المال وعصبة من العشيرة وأولياء من العرب، فسرّ بمقدمه وقلّده لحينه وزارته وشدّ به أواخي سلطانه، وفوّض إليه تدبير ملكه، فاستقام أمره وجمع القلوب على طاعته وجاء بالمعقل من مواطنهم الغريبة، فأقبلوا عليه وعكفوا على خدمته. وأقطعهم مواطن تلمسان وآخى بينهم وبين زغبة، فعلا كعبه واستفحل أمره، واستقامت رياسته إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم. الخبر عن استيلاء السلطان أبي سالم على تلمسان ورجوعه الى المغرب بعد أن ولى عليها أبو زيّان حافد السلطان أبي تاشفين وما آل أمره لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب ومحا أثر الخوارج على الدولة، سما إلى امتداد ظلّه إلى أقصى تخوم زناتة كما كان لأبيه وأخيه، وحرّكه إلى ذلك ما كان من فرار عبد الله بن مسلم إلى تلمسان بحيالة [1] عمله، فأجمع أمره على النهوض إلى تلمسان وعسكر بظاهر فاس منتصف إحدى وستين وسبعمائة وبعث في الحشود فتوافت ببابه واكتملت. ثم ارتحل إليها، وبلغ الخبر الى السلطان أبي حمو ووزيره عبد الله ابن مسلم فنادوا في العرب من زغبة والمعقل كافة فأجابوهم إلّا شرذمة قليلة من   [1] وفي نسخة ثانية: بجباية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 الأحلاف، وخرجوا بهم إلى الصحراء ونازل حللهم بعسكره. ولما دخل السلطان أبو سالم وبنو مرين تلمسان خالفوهم إلى المغرب فنازلوا وطاط وبلاد ملويّة وكرسف، وحطّموا زروعها وانتسفوا أقواتها وخرّبوا عمرانها. وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من صنيعهم، فأهمّه أمر المغرب وأجلاب المفسدين عليه. وكان في جملته من آل يغمراسن محمد بن عثمان ابن السلطان أبي تاشفين ويكنى بأبي زيّان، ويعرف بالفنز [1] ومعناه العظيم الرأس فدفعه للأمر وأعطاه الآلة وكتب له كتيبة من توجين ومغراوة كانوا في جملته، ودفع إليه أعطياتهم وأنزله بقصر أبيه بتلمسان وانكفأ راجعا إلى حضرته، فأجفلت العرب والسلطان أبو حمو أمامه وخالفوه إلى تلمسان فأجفل عنها أبو زيان وتحيّز إلى بني مرين بأمصار الشرق من البطحاء ومليانة ووهران وأوليائهم من بني توجين وسويد من قبائل زغبة ودخل السلطان أبو حمو ووزيره عبد الله بن مسلم إلى تلمسان، وكان مقير [2] بن عامر هلك في مذهبهم ذلك. ثم خرجوا فيمن إليهم من كافة عرب المعقل وزغبة في أتباع أبي زيّان ونازلوه بجبل وانشريس فيمن معه إلى أن غلبوا عليه وانفضّ جمعه، ولحق بمكانه من إيالة بني مرين بفاس. ورجع السلطان أبو حمو إلى معاقل وطنه يستنقذها من ملكة بني مرين، فافتتح كثيرها وغلب على مليانة والبطحاء. ثم نهض إلى وهران ونازلها أياما واقتحمها غلابا، واستلحم بها من بني مرين عددا. ثم غلب على المرية والجزائر، وأزعج عنها بني مرين فلحقوا بأوطانهم. وبعث رسله إلى السلطان أبي سالم فعقد معه المهادنة [3] ووضعوا أوزار الحرب. ثم كان مهلك السلطان أبي سالم سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وقام بالأمر من بعده عمر بن عبد الله بن علي من أبناء وزرائهم مبايعا لولد السلطان أبي الحسن واحدا بعد آخر كما نذكره عند ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى. الخبر عن قدوم أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد من المغرب لطلب ملكه وما كان من أحواله كان أبو زيّان هذا، وهو محمد ابن السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد   [1] وفي نسخة أخرى: القبى وفي نسخة ثانية الفتى. [2] وفي نسخة أخرى: صغير. [3] وفي نسخة أخرى: السلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، لما تقبّض عليه مع عمه أبي ثابت ووزيرهم يحيى بن داود بجاية من أعمال الموحّدين، وسيقوا إلى السلطان أبي عنّان، فقتل أبا ثابت ووزيره واستبقى محمدا هذا وأودعه السجن سائر أيامه، حتى إذا هلك واستوسق أمر المغرب لأخيه أبي سالم من بعد خطوب وأهوال يأتي ذكرها، امتنّ عليه السلطان أبو سالم وأطلقه من الاعتقال ونظمه بمجلس ملكه في مراتب الأعياص وأعدّه لمزاحمة ابن عمه. وجرت بينه وبين السلطان أبي حمو سنة اثنتين وستين وسبعمائة بين يدي مهلكه نكراء بعد مرجعه من تلمسان، ومرجع أبي زيّان حافد السلطان أبي تاشفين من بعده، تحقق السعي فيما نصبه له، فسما له أمل في أبي زيّان هذا أن يستأثر بملك أبيه، ورأى أن يحسن الصنيع فيه فيكون فيئة له، فأعطاه الآلة ونصبه للملك، وبعثه إلى وطن تلمسان، وأتى إلى تازى ولحقه هنالك الخبر بمهلك السلطان أبي سالم. ثم كانت فتن وأحداث نذكرها في محلّها وأجلب عبد الحليم ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق على فاس، واجتمع إليه بنو مرين ونازلوا البلد الجديد. ثم انفضّ جمعهم ولحق عبد الحليم بتازى كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ورجا من السلطان أبي حمّو المظاهرة على أمره فراسله في ذلك واشترط عليه كبح ابن عمه أبي زيّان فاعتقله مرضاة له، ثم ارتحل إلى سجلماسة كما نذكره بعد ونازلة في طريقه أولاد حسين من المعقل بحللهم وأحيائهم فاستغفل أبو زيان ذات يوم الموكّلين به، ووثب على فرس قائم حذاءه وركضه من معسكر عبد الحليم إلى حلّة أولاد حسين مستجيرا بهم، فأجاروه. ولحق ببني عامر على حين غفلة، وجفوة كانت بين السلطان أبي حمو وبين خالد بن عامر أميرهم ذهب لها مغاضبا، فأجلب به على تلمسان. وسرّح إليهم السلطان أبو حمو عسكرا فشرّدهم عن تلمسان. ثم بذل المال لخالد بن عامر على أن يقصيه إلى بلاد رياح، ففعل وأوصله إلى الزواودة فأقام فيهم. ثم دعاه أبو الليل بن موسى شيخ بني يزيد وصاحب وطن حمزة وبني حسن وما إليه، ونصبه للأمر مشاقة [1] وعنادا للسلطان أبي حمو. ونهض إليه الوزير عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد وحشود العرب وزناتة فأيقن أبو الليل بالغلب   [1] وفي نسخة ثانية: مشافهة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وبذل له الوزير المال وشرط له التجافي عن وطنه على أن يرجع عن طاعة أبي زيّان ففعل، وانصرف إلى بجاية ونزل بها على المولى أبي إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى أكرم نزل، ثم وقعت المراسلة بينه وبين السلطان أبي حمو وتمت المهادنة وانعقد السلم على إقصاء أبي زيان عن بجاية المتاخمة لوطنه، فارتحل إلى حضرة تونس. وتلقّاه الحاجب أبو محمد بن تافراكين، قيوم دولة الحفصيّين لذلك العهد من المبرّة والترحيب وإسناء الجراية له، وترفيع المنزلة بما لم يعهد لمثله من الأعياص. ثم لم تزل حاله على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره ان شاء الله تعالى. الخبر عن قدوم أبي زيّان حافد السلطان أبي تاشفين ثانية من المغرب الى تلمسان لطلب ملكها وما كان من أحواله كان العرب من سويد إحدى بطون زغبة فيئة لبني مرين وشيعة من عهد عريف بن يحيى مع السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنّان، فكانوا عند بني عبد الواد في عداد عدوّهم من بني مرين مع طاغية [1] الدولة لبني عامر أقتالهم، فكانوا منابذين لبني عبد الواد آخر الأيام، وكان كبيرهم ونزمار بن عريف أوطن كرسف في جوار بني مرين، مذ مهلك السلطان أبي عنّان، وكان مرموقا بعين التجلّة يرجعون إلى رأيه ويستمعون إلى قوله. وأهمه شأن إخوانه في موطنهم ومع أقتالهم بني عامر، فاعتزم على نقض الدولة من قواعدها، وحمل صاحب المغرب عمر بن عبد الله على أن يسرّح محمد بن عثمان حافد أبي تاشفين لمعاودة الطلب لملكه، ووافق ذلك نفرة استحكمت بين السلطان أبي حمو وأحمد بن رحّو بن غانم كبير أولاد حسن من المعقل بعد أن كانوا فيئة له ولوزيره عبد الله بن مسلم، فاغتنمها عمر بن عبد الله وخرج أبو زيّان محمد بن عثمان سنة خمس وستين وسبعمائة فنزل في حلل المعقل بملوية. ثم نهضوا به إلى وطن تلمسان وارتاب السلطان أبو حمو بخالد بن عمر أمير بني عامر فتقبّض عليه وأودعه المطبق [2] ، ثم سرّح وزيره عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد   [1] وفي نسخة ثانية: صاغية. [2] سجن تحت الأرض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 والعرب، فأحسن دفاعهم وانفضّت جموعهم ورحلهم إلى ناحية الشرق، وهو في اتباعهم إلى أن نزلوا المسيلة من وطن رياح، وصاروا في جوار الزواودة. ثم نزل بالوزير عبد الله بن مسلم داء الطاعون الّذي عاود أهل العمران عامئذ من بعد ما أهلكهم سنة تسع وأربعين وسبعمائة قبلها، فانكفأ به ولده وعشيرته راجعين، وهلك في طريقه وأرسلوا شلوه إلى تلمسان فدفن بها. وخرج السلطان أبو حمو إلى مدافعة عدوّه وقد فتّ مهلك عبد الله في عضده. ولما انتهى إلى البطحاء وعسكر بها، ناجزته جموع السلطان أبي زيان الحرب وأطلت راياته على المعسكر فداخلهم الرعب وانفضوا، وأعجلهم الأمر عن أبنيتهم وأزوادهم، فتركوها وانفضّوا وتسلّل أبو حمو يبغي النجاة إلى تلمسان واضطرب أبو زيّان فسطاطه بمكان معسكره، وسابقه أحمد بن رحّو أمير المعقل إلى منجاته فلحقه بسيك وكرّ إليه السلطان أبو حمّو فيمن معه من خاصّته، وصدقوه الدفاع فكبا به فرسه وقطع رأسه. ولحق السلطان أبو حمو بحضرته وارتحل أبو زيان والعرب في اتباعه إلى أن نازلوه بتلمسان أياما. وحدثت المنافسة بين أهل المعقل وزغبة، واسف زغبة استبداد المعقل عليهم وانفراد أولاد حسين برأي السلطان دونهم، فاغتنمها أبو حمّو وأطلق أميرهم عامر بن خالد من محبسه، وأخذ عليه الموثق من الله ليخذلنّ الناس عنه ما استطاع، وليرجعنّ بقومه عن طاعة أبي زيّان وليفرقنّ جموعه، فوفّى له بذلك العهد ونفس عليه المخنق وتفرّقت أحزابهم ورجع أبو زيّان إلى مكانه من إيالة بني مرين واستقام أمر السلطان أبي حمّو وصلحت دولته بعد الالتياث، إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن حركة السلطان أبي حمو على ثغور المغرب) كان ونزمار بن عريف متولي كبر هذه الفتن على أبي حمو، وبعث الأعياص عليه واحدا بعد واحد، لما كان بينهم من العداوة المتصلة كما قدّمناه. وكان منزله كرسيف من ثغور المغرب. وكان جاره محمد بن زكراز [1] كبير بني علي من بني ونكاسن   [1] وفي نسخة ثانية: زكدان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 الموطنين بجبل دبدو، وكانت أيديهما عليه واحدة فلما سكن غرّب الثوار عنه وأزاحهم عن وطنه إلى المغرب، وانعقد سلمه معهم، رأى أن يعتور هذين الأميرين في ثغورهما، فاعتمل الحركة إلى المغرب فاتح سنة ست وستين وسبعمائة وانتهى إلى دبدو وكرسيف، وأجفل ونزمار وامتنع بمعاقل الجبال، فانتهب أبو حمّو الزروع وشمل بالتخريب والعيث سائر النواحي. وقصد محمد بن زكراز أيضا في معقل دبدو فامتنع بحصنه الّذي اتخذه هناك، وعاج عليه أبو حمّو بركابه، وجاس خلال وطنه، وشمل بالتخريب والعيث نواحي بلده، وانكفأ راجعا إلى حضرته، وقد عظمت في تخوم بني مرين وثغورهم نكايته، وثقلت عليهم وطأته، وانعقدت بينهما بعد بدء المهادنة والسلم. فانصرفت عزائمه إلى بلاد إفريقية، فكانت حركته إلى بجاية من العام المقبل ونكبته عليها كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن حركة السلطان أبي حمّو إلى بجاية ونكبته عليها) كان صاحب بجاية المولى الأمير أبو عبد الله لما استولى عليها وعادت إليه العودة الثانية سنة خمس وستين وسبعمائة كما ذكرناه في أخباره، زحف إلى تدلس، فغلب عليها بني عبد الواد، وأنزل بها عامله وحاميته. ثم أظلم الجوّ بينه وبين صاحب قسنطينة السلطان أبي العباس ابن عمّه الأمير أبي عبد الله لما جرّته بينهما المتاخمة في العمالات، فنشأت بينهما فتن وحروب شغل بها عن حماية تدلس، وألحت عليها عسكر بني عبد الواد بالحصار. وأحيط بها فأوفد رسله على السلطان أبي حمّو صاحب تلمسان في المهادنة على النزول له عن تدلس، فتسلّمها أبو حمو وأنزل بها حاميته. وعقد معه السلم وأصهر إليه في ابنته فأجابه، وزفّها إليه فتلقّاها قبلة زواوة بآخر عملهم من حدود بجاية. وفرغ صاحب بجاية لشأنه، وكان أثناء الفتنة معه قد بعث إلى تونس عن أبي زيان ابن عمّه السلطان أبي سعيد لينزله بتدلس، ويشغل به السلطان أبا حمو عن فتنته. وكان من خبر أبي زيان هذا أنه أقام بتونس بعد مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه إلى أن دسّ إليه مرضى القلوب من مشيخة بني عبد الواد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 بتلمسان بالإجلاب على السلطان أبي حمو. ووعدوه عن أنفسهم الجنوح معه، فصغى إليها واعتدّها وارتحل يريد تخوم تلمسان وعمل بجاية. ومرّ بقسنطينة فتجافى عن الدخول إليها، وتنكّر لصاحبها، وبلغ خبره السلطان أبا العبّاس صاحبها يومئذ فأجمع أمره على صدّه عن وجهه، وحبسه بقسنطينة واتصلت الفتنة بينه وبين ابن عمه صاحب بجاية، وكان شديد الوطأة على أهل بلده مرهف الحدّ لهم بالعقاب الشديد، حتى لقد ضرب أعناق خمسين منهم قبل أن يبلغ سنتين في ملكه، فاستحكمت النفرة وساءت الملكة، وعضل الداء وفزع أهل البلد إلى مداخلة السلطان أبي العبّاس باستنفاذهم من ملكة العسف والهلاك، بما كان أتيح له من الظهور على أميرهم، فنهض إليها آخر سنة سبع وستين وسبعمائة وبرز الأمير أبو عبد الله للقائه وعسكر بنامروا [1] الجبل المطل على تاكردت [2] وصبحه السلطان أبو العبّاس بمعسكره هنالك، فاستولى عليه وركّض هو فرسه ناجيا بنفسه. ومرّت الخيل [3] تعادي في أثره حتى أدركوه، فأحاطوا به وقتلوا قعصا بالرماح عفا الله عنه. وأجاز السلطان أبو العبّاس إلى البلد فدخلها منتصف يوم العشرين من شعبان، ولاذ الناس به من دهش الواقعة وتمسّكوا بدعوته، وآتوه طاعتهم، فانجلت القيامة واستقام الأمر، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فأظهر الامتعاض لمهلكه والقيام بثأره وسيّر من ذلك حشوده في ارتقاء ونهض يجرّ الأمم إلى بجاية من العرب وزناتة والحشد حتى أناخ بها وملأت مخيماته [4] الجهات بساحتها، وجنح السلطان الى مبارزته، فتمهّد به أهل البلد ولاذوا بمقامه فأسعفهم وطير البريد الى قسنطينة، فأطلق أبا زيّان من الاعتقال وسوّغه الملابس والمراكب والآلة، وزحف به مولاه بشير في عسكر إلى أن نزل حذاء معسكر أبي حمو واضطربوا محلهم بسفح جبل بني عبد الجبّار وشنوا الغارات على معسكر أبي حمو صباحا ومساء لما كان نمي إليهم من مرض قلوب جنده والعرب الذين معه. وبدا للسلطان أبي حمو ما لم يحتسب من امتناعها، وكان تقدّم إليه بعض سماسرة الفتن بوعد على لسان المشيخة من أهل البلد أطمعه فيها، ووثق بأنّ ذلك يغنيه عن الاستعداد، فاستبق إليها وأغفل الحزم فيما دونها، فلما امتنعت عليه   [1] وفي نسخة ثانية: بليزو. [2] وفي نسخة ثانية: تاكررت. [3] وفي نسخة ثانية: الجنود. [4] وفي نسخة ثانية: وملأ بخيامه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 انطبق الجوّ على معسكره وفسدت السابلة على العير للميرة، واستجم الزبون في احياء معسكره بظهور العدوّ المساهم في الملك. وتفادت رجالات العرب من سوء المغبّة وسطوة السلطان، فتمشوا بينهم في الانفضاض وتحينوا لذلك وقت المناوشة، وكان السلطان لما كذبه وعد المشيخة أجمع قتالهم، واضطرب الفساطيط مضايقة للأسوار، متسنمة وعرا من الجبل لم يرضه أهل الرأي. وخرج رجل الجبل على حين غفلة فجاولوا من كان بتلك الأخبية من المقاتلة فانهزموا أمامهم وتركوها بأيديهم فمزقوها بالسيوف. وعاين العرب على البعد انتهاب الفساطيط فأجفلوا وانفضّ المعسكر بأجمعه. وحمل السلطان أبو حمو أثقاله للرحلة فأجهضوه عنها فتركها، وانتهب مخلفه أجمع. وتصايح الناس بهم من كل حدب، وضاقت المسالك من ورائهم وأمامهم، وكظّت بزحامهم، وتواقعوا لجنوبهم، فهلك الكثير منهم وكانت من غرائب الواقعات، تحدث الناس بها زمانا وسيقت حظاياه إلى بجاية، واستأثر الأمير أبو زيان منهنّ بحظيته الشهيرة ابنة يحيى الزابي، ينسب إلى عبد المؤمن بن علي. وكان أصهر فيها إلى أبيها أيام تقلبه في سبيل الاغتراب ببلاد الموحدين كما سبق، وكانت أعلق بقلبه من سواها، فخرجت في مغانم الأمير أبي زيّان. وتحرّج عن مواقعتها حتى أوجده أهل الفتيا السبيل إلى ذلك لحنث زعموا وقع من السلطان أبي حمو في نسائه. وخلص السلطان أبو حمو من هوّة ذلك العصب بعد غصّة الريق، ونجا إلى الجزائر لا يكاد يردّ النفس من شناعة ذلك الهول. ثم خرج منها ولحق بتلمسان، واقتعد سرير ملكه واشتدّت شوكة أبي زيّان ابن عمّه، وتغلب على القاصية واجتمعت إليه العرب، وكثر تابعه. وزاحم السلطان أبا حمو بتلك الناحية الشرقية سنين تباعا نذكر الآن أخبارها، إن شاء الله تعالى. (الخبر عن خروج أبي زيان بالقاصية الشرقية من بلاد حصين وتغلبه على المرية والجزائر ومليانة وما كان من الحروب معه) لما انهزم السلطان أبو حمّو بساحة بجاية عشيّ يومه من أوائل ذي الحجة، خاتم سنة سبع وستين وسبعمائة قرع الأمير أبو زيّان طبوله واتبع أثره، وانتهى إلى بلاد حصين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 من زغبة. وكانوا سائمين من الهضيمة والعسف إذا كانت الدول تجريهم مجرى الرعايا المعبّدة في المغرم، وتعدل بهم عن سبيل إخوانهم من زغبة أمامهم ووراءهم لبغية الغزو فبايعوه على الموت الأحمر ووقفوا بمعتصم [1] من جبل تيطري إلى أن دهمتهم عساكر السلطان. ثم أجلبوا على المرية [2] وكان بها عسكر ضخم للسلطان أبي حمو لنظر وزرائه: عمران بن موسى بن يوسف، وموسى بن برغوث، ووادفل ابن عبو بن حمّاد، ونازلوهم أياما ثم غلبوهم على البلد. وملكها الأمير أبو زيان ومن على الوزراء ومشيخة بني عبد الواد وترك سبيلهم إلى سلطانهم، وسلك سبيلهم الثعالبة في التجافي عن ذلّ المغرم، فأعطوه يد الطاعة والانقياد للأمير أبي زيّان، وكانت في نفوس أهل الجزائر نفرة من جور العمّال عليهم، فاستمالهم بها سالم بن إبراهيم بن نصر أمير الثعالبة إلى طاعة الأمير أبي زيان. ثم دعا أبو زيّان أهل مليانة إلى مثلها فأجابوه. واعتمل السلطان أبو حمو نظره في الحركة الحاسمة لدائهم [3] ، فبعث في العرب وبذل المال، وأقطع البلاد على أشطاط منهم في الطلب. وتحرّك إلى بلاد توجين ونزل قلعة بني سلامة سنة ثمان وستين وسبعمائة يحاول طاعة أبي بكر بن عريف أمير سويد. فلم يلبث عنه خالد بن عامر ولحق بأبي بكر بن عريف، واجتمعا على الخلاف عليه ونقض طاعته. وشنّوا الغارة على معسكره، فاضطرب وأجفلوا وانتهبت محلّاته وأثقاله، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض إلى مليانة فافتتحها، وبعث إلى رياح على حين صاغية [4] إليه من يعقوب بن علي بن أحمد وعثمان بن يوسف بن سليمان بن علي أميري الزواودة لما كان وقع بينهما وبين السلطان مولانا أبي العباس من النفرة، فاستنظره للحركة على الأمير أبي زيان وبعدها إلى بجاية. وضمنوا له طاعة البدو من رياح، وبعثوا إليه رهنهم على ذلك فردّها وثوقا بهم، ونهض من تلمسان وقد اجتمع إليه الكثير من عرب زغبة. ولم يزل أولاد عريف بن يحيى وخالد بن عامر في أحيائهما منحرفين عنه بالصحراء. وصمّم إليهم فاجفلوا أمامه، وقصد المخالفين من حصين والأمير أبا زيّان إلى معتصمهم بجبل تيطري.   [1] وفي نسخة ثانية: ووثقوا بمعتصمهم. [2] المرية: مدينة كبيرة من بلاد الأندلس وليست هي المقصودة في بحثنا هذا والمقصود المدية وهي بلدة من بلاد توجين في المغرب الأوسط. [3] وفي نسخة بولاق المصرية: لرأيهم. [4] وفي نسخة ثانية: على حين طاعتهم إليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وأغذّ إليه السير يعقوب بن علي وعثمان بن يوسف بمن معهم من جموع رياح حتى نزلوا بالقلعة حذاءهم. وبدر أولاد عريف وخالد بن عامر إلى الزواودة ليشرّدوهم عن البلاد قبل أن تتصل يد السلطان بيدهم، فصبحوهم يوم الخميس أخريات ذي القعدة من سنة تسع وستين وسبعمائة ودارت بينهم حرب شديدة، وأجفلت الزواودة أوّلا، ثم كان الظهور لهم آخرا. وقتل في المعركة من زغبة عدد، ويئسوا من صدّهم عما جاءوا إليه، فانعطفوا إلى حصين والأمير أبي زيّان، وصعدوا إليهم بناجعتهم، وصاروا لهم مددا على السلطان أبي حمّو، وشنّوا الغارة على معسكره، فصمدوا نحوه وصدقوه القتال، فاختلّ مصافه، وانهزمت عساكره، ونجا بنفسه إلى تلمسان على طريق الصحراء. وأجفل الزواودة إلى وطنهم، وتحيّز كافة العرب من زغبة إلى الأمير أبي زيان، واتبع آثار المنهزمين، ونزل بسيرات. وخرج السلطان أبو حمو في قومه ومن بقي معه من بني عامر. وتقدّم خالد إلى مصادمته ففلّه السلطان وأجفل القوم من ورائه. ثم تلطّف في مراسلته وبذل المال له وأوسع له في الاشتراط فنزع إليه والتبس بخدمته، ورجع الأمير أبو زيّان إلى أوليائه من حصين متمسّكا بولاية أولاد عريف. ثم نزع محمد بن عريف إلى طاعة السلطان، وضمن له العدول بأخيه عن مذاهب الخلاف عليه، وطال سعيه في ذلك فاتهمه السلطان وحمله خالد بن عامر عدوّه على نكبته، فتقبّض عليه وأودعه السجن. واستحكمت نفرة أخيه أبي بكر، ونهض السلطان بقومه وكافة بني عامر إليه سنة سبعين وسبعمائة واستغلظ أمر أبي بكر فجمع الحرث بن أبي مالك ومن وراءهم من حصين، واعتصموا بالجبال من دراك وتيطري، ونزل السلطان بجموعه لعود بلاد الديالمة من الحرث، فانتسفها والتمعها وحطّم زروعها ونهب مداثرها. وامتنع عليه أبو بكر ومن معه من الحرث وحصين والأمير أبي زيان بينهم، فارتحل عنهم وعطف على بلاد أولاد عريف وقومهم من سويد فملأها عيثا، وخرّب قلعة ابن سلّامة لما كانت أحسن أوطانهم. ورجع عليهم إلى تلمسان وهو يرى ان كان قد شفا نفسه في أولاد عريف، وغلبهم على أوطانهم، ورجع عليهم منزلة عدوّهم، فكان من لحاق أبي بكر بالمغرب وحركة بني مرين ما نذكره . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 (الخبر عن حركة السلطان عبد العزيز على تلمسان واستيلائه عليها ونكبة أبي حمو وبني عامر بالدوس من بلاد الزاب وخروج أبي زيان من تيطري الى أحياء رياح) لما تقبّض أبو حمو على محمد بن عريف وفرق شمل قومه سويد، وعاث في بلادهم أجمع، رأى أخيه الأكبر الصريخ بملك المغرب. فارتحل إليه بناجعته من بني مالك أجمع من أحياء سويد والديالم والعطاف حتى احتل بسائط ملوية من تخوم المغرب. وسار إلى أخيه الأكبر ونزمار بمقرّه من قصر مرادة الّذي اختطّه بإرجاع وادي ملوية في ظل دولة بني مرين وتحت جوارهم لما كان ملاك أمرهم بيده، ومصادرهم عن آرائه خطّة ورثها عن أبيه عريف بن يحيى مع السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن وابنه أبي عنان. فتقبّل ملوك المغرب مذاهب سلفهم فيه، وتيمنوا برأيه واستأمنوا إلى نصيحته. فلمّا قدم عليه أخوه أبو بكر مستحفيا بملك المغرب، وأخبر باعتقال أخيه الآخر محمد، قدح عزائمه، وأوفد أخاه أبا بكر ومشيخة قومهم من بني مالك على السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن منصرفه من افتتاح جبل هنتاتة، وظفر بعامر بن محمد بن عليّ النازع إلى الشقاق في معتصمه، فلقوه في طريقه ولقاهم مبرة وتكرمة واستصرخوه لاستنقاذ أخيهم فأجاب صريخهم، ورغبوه في ملك تلمسان وما وراءها، فوافق صاغيته لذلك بما كان في نفسه من الموجدة على السلطان أبي حمو لقبوله كل من ينزع إليه من عربان المعقل أشياع الدولة وبدوها، وما كان بعث إليه في ذلك، وصرف عن استماعه، فاعتزم على الحركة إلى تلمسان، وألقى زمامه بيد ونزمار وعسكر بساحة فاس. وبعث الحاشدين في الثغور والنواحي من المغرب، فتواقف الحاشدون ببابه، وارتحل بعد قضاء النسك من الأضحى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة واتصل الخبر بالسلطان أبي حمو وكان معسكرا بالبطحاء، فانكفأ راجعا إلى تلمسان، وبعث في أوليائه عبيد الله والأحلاف من عرب المعقل، فصموا عن إجابته ونزعوا إلى ملك المغرب، فأجمع رأيه إلى التحيّز إلى بني عامر وأجفل غرّة المحرم سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة واحتلّ السلطان عبد العزيز تلمسان في يوم عاشوراء بعدها. وأشار ونزمار بن عريف بتسريح العساكر في اتباعه، فسرّح السلطان وزيره أبا بكر بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 غازي بن السكّاء [1] حتى انتهى إلى البطحاء. ثم لحق به هنالك ونزمار وقد حشد العرب كافة، وأغذّ السير في اتباع السلطان أبي حمو وبني عامر، وكانوا قد أبعدوا المذهب، ونزلوا على الزواودة وسرّح إليهم السلطان يومئذ عبد العزيز يحملهم على طاعته، والعدول بهم عن صحابة بني عامر وسلطانهم. وسرّح فرج بن عيسى بن عريف إلى حصين لاقتضاء طاعتهم واستدعاء أبي زيان إلى حضرته، ونبذهم عهده، وانتهيا جميعا إلى أبي زيّان مقدمة أوليائه [2] ، ولحق بأولاد يحيى بن عليّ ابن سبّاع من الزواودة، وانتهيت أنا إليهم فخفظت عليهم الشأن في جواره لما كانت مرضاة السلطان، وحذّرتهم شأن أبي حمو وبني عامر، وأوفدت مشيختهم على ونزمار والوزير أبي بكر بن غازي فدلّوهما على طريقه، فأغذّوا السير وبيّتوهم بمنزلهم على الدوس آخر عمل الزاب من جانب المغرب ففضوا جموعهم، وانتهبوا جميع معسكر السلطان أبي حمو بأموالهم وأمتعته وظهره. ولحق فلّهم بمصاب ورجعت العساكر من هنالك، فسلكت على قصور بني عامر بالصحراء قبلة جبل راشد التي منها ربا ولون ساعون [3] إليها فأنتهبوها وخرّبوها وعاثوا فيها وانكفؤا راجعين إلى تلمسان. وفرّق السلطان عمّاله في بلاد المغرب الأوسط من وهران ومليانة والجزائر والمرية وجبل وانشريس. واستوسق به ملكه ونزع عنه عدوّه، ولم يبق به يومئذ إلّا ضرمة من نار الفتنة ببلاد مغراوة بوعد من ولد عليّ بن راشد، سخط خالد في الديوان ولحق بجبل بني سعيد. واعتصم به فجهّز السلطان الكتائب لحصاره، وسرّح وزيره عمر بن مسعود لذلك كما ذكرناه في أخبار مغراوة. واحتقر شأنه. وأوفدت أنا عليه يومئذ مشيخة الزواودة، فأوسعهم حباء وكرامة، وصدروا مملوءة حقائبهم خالصة قلوبهم منطلقة بالشكر ألسنتهم. واستمرّ الحال إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: بن الكاس. [2] وفي نسخة ثانية: ففارقه أولياؤه. [3] وفي نسخة أخرى: التي منها ربا ولون سمعون، وفي نسخة ثانية: التي منها ريا بن سمعون. ابن خلدون م 12 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 (الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان الى تيطري واجلاب أبي حمو على تلمسان ثم انهزامهما وتشريدهما على سائر النواحي) كان بنو عامر من زغبة شيعة خالصة لبني عبد الواد من أوّل أمرهم، وخلص سويد لبني مرين كما قدّمناه، فكان من شأن عريف وبنيه عند السلطان أبي الحسن وبنيه ما هو معروف. فلما استبيحت أحياؤهم بالدوس مع أبي حمو، ذهبوا في القفر إشفاقا ويأسا من قبول بني مرين عليهم لما كان ونزمار بن عريف وإخوانه من الدولة، فحدبوا على سلطانهم أبي حمو يتقلّبون معه في القفار. ثم نزع إليهم رحّو بن منصور فيمن أطاعه من قومه عبيد الله من المعقل، وأجلبوا على وجدة فاضطرم النفاق على الدولة نارا، وخشي حصين مغبة أمرهم من السلطان بما تسموا به من الشقاق والعناد، فمدّوا أيديهم إلى سلطانهم أبي زيّان، وأوفد مشيختهم لاستدعائه من حلّة أولاد يحيى بن علي فاحتلّ بينهم وأجلبوا به على المرية فملكوا نواحيها، وامتنع عليهم مصرها، واستمرّ الحال على ذلك واضطرب المغرب الأوسط على السلطان، وانتقضت به طاعته وسرّح الجيوش والعساكر إلى قتال مغراوة وحصين، فأجمع أبو حمو وبنو عامر على قصده بتلمسان حتى إذا احتلوا قريبا منها دسّ السلطان عبد العزيز بعض شيعته إلى خالد بن عامر وزغبة في المال والحظ منه، وكان أبو حمّو قد آسفه بمخالطة بعض عشيرة وتعقّب رأيه برأي من لم يسم إلى خطته. ولم يرتض كفاءته فجنح إلى ملك المغرب، ونزع يده من عهد أبي حمّو، وسرّح السلطان عبد العزيز عسكره إلى خالد فأوقع بأبي حمّو ومن كان من العرب عبيد الله وبني عامر، وانتهب معسكره وأمواله، واحتقبت حرمه وحظاياه إلى قصر السلطان، وتقبّض على مولاه عطيّة، فمنّ عليه السلطان وأصاره في حاشيته ووزرائه، وأصفقت زغبة على خدمة ملك المغرب وافق هذا الفتح عند السلطان فتح بلاد مغراوة، وتغلّب وزيره أبو بكر بن غازي على جبل بني سعيد، وتقبّض على حمزة بن علي بن راشد في لمّة من أصحابه، فضرب أعناقهم وبعث بها إلى سدّة السلطان، وصلب أشلاءهم بساحة مليانة معظم الفتح واكتمل الظهور. وأوعز السلطان إلى وزيره أبي بكر بن غازي بالنهوض إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 حصين، فنهض إليهم وخاطبني وأنا مقيم ببسكرة في دعايته بأن احتشد أولياءه من الزواودة ورياح، والتقى الوزير والعساكر على حصن تيطري، فنازلناه أشهرا. ثم انفضّ جمعهم وفرّوا من حصنهم، وتمزّقوا كل ممزق، وذهب أبو زيّان على وجهه، فلحق ببلد واركلا قبلة الزاب لبعدها عن منال الجيوش والعساكر، فأجاروه وأكرموا نزله. وضرب الوزير على قبائل حصين والثعالبة المغارم الثقيلة، فأعطوها عن يد وجهضهم باقتضائها، ودوّخ قاصية الثغور ورجع إلى تلمسان عالي الكعب عزيز السلطان ظاهر اليد. وقعد له السلطان بمجلسه يوم وصوله قعودا فخما، وصل فيه إليه، وأوصل من صحبه من وفود العرب والقبائل فقسّم فيهم برّه وعنايته وقبوله على شاكلته. واقتضى من أمراء العرب زغبة أبناءهم الأعزة رهنا على الطاعة، وسرّحهم لغزو أبي حمّو بمنتبذه من تيكورارين فانطلقوا لذلك، وهلك السلطان عبد العزيز لليال قلائل من مقدم وزيره، وعساكره أواخر شهر ربيع الآخر من سنة أربع وسبعين وسبعمائة لمرض مزمن كان يتفادى بالكتمان والصبر من ظهوره. وانكفأ بنو مرين راجعين إلى ممالكهم بالمغرب بعد أن بايعوا لولده دراجا حماسيا، ولقّبوه بالسعيد وجعلوا أمره إلى الوزير أبي بكر بن غازي، فملك أمرهم عليهم واستمرّت حاله كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن عود السلطان أبي حمو الأخير الى تلمسان الكرّة الثالثة لبني عبد الواد في الملك) لما هلك السلطان عبد العزيز ورجع بنو مرين إلى المغرب، نصبوا من أعياص بني يغمراسن لمدافعة أبي حمو من بعدهم عن تلمسان، إبراهيم بن السلطان أبي تاشفين، كان ناشئا بدولتهم مذ هلك [1] أبوه. وتسلّل من جملتهم عطيّة بن موسى مولى السلطان أبي حمو وخالفهم إلى البلد غداة رحيلهم، فقام بدعوة مولاه ودافع إبراهيم بن تاشفين عن مرامه، وبلغ الخبر أولياء السلطان أبي حمو من عرب المعقل أولاد يغمور بن عبيد الله، فطيّروا إليه النحيب على حين غلب عليه اليأس. وأجمع الرحلة إلى بلاد السودان لما بلغه من اجتماع العرب للحركة عليه كما قلناه، فأغذّ السير   [1] وفي نسخة ثانية: منذ مهلك أبيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 من مطرح اغترابه. وسابقه ابنه ولي عهده في قومه عبد الرحمن أبو تاشفين مع ظهيرهم عبد الله بن صغير فدخلوا البلد، وتلاهم السلطان لرابعة دخولهم، وعاود سلطانه واقتعد أريكته، وكانت إحدى الغرائب وتقبّض ساعتئذ على وزرائه، اتهمهم بمداخلة خالد بن عامر فيما نقض من عهده وظاهر عليه عدوه، فأودعهم السجن وذبحهم ليومهم حنقا عليهم. واستحكم لها نفرة خالد وعشيرته، وحصلت ولاية أولاد عريف بن يحيى لمنافرة بني عامر إيّاه، وإقبال السلطان عبد العزيز عليه، ووثق بمكان ونزمار كبيرهم في تسكين عادية ملوك المغرب عليه [1] . ورجع إلى تمهيد وطنه، وكان بنو مرين عند انفضاضهم إلى مغربهم قد نصبوا من اقتال مغراوة، ثم بني منديل علي بن هارون بن ثابت بن منديل وبعثوه إلى شلف مزاحمة للسلطان أبي حمو، ونقضا لأطراف ملكه. وأجلب أبو زيان ابن عمّه على بلاد حصين، فكان من خبره معهما ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن رجوع أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد إلى بلاد حصين ثم خروجه عنها) كان الأمير أبو زيان ابن السلطان أبي سعيد، لمّا هلك السلطان عبد العزيز وبلغه الخبر بمنجاته من واركلا، نهض منها إلى التلول، واسفّ إلى الناحية التي كان منتزيا بها مساهما لأبي حمو فيها، فاقتطعت لدعوته كما كانت، ورجع أهلها إلى ما عرفوا من طاعته، فنهض السلطان أبو حمو لتمهيد نواحيه وتثقيف أطراف ملكه، ودفع الخوارج عن ممالكه، وظاهره على ذلك أمير البدو من زغبة أبو بكر ومحمد ابنا عريف بن يحيى، دسّ إليهما بذلك كبيرهما ونزمار، وأخذهما بمناصحة السلطان ومخالصته، فركبا من ذلك أوضح طريق وأسهل مركب. ونبذ السلطان العهد إلى خالد وعشيرة، فضاقت عليهم الأرض ولحقوا بالمغرب لسابقة نزوعهم إلى السلطان عبد العزيز. وابتدأ السلطان بما يليه، فأزعج بمظاهرتهما عليّ بن هارون عن أرض شلف سنة خمس وسبعين وسبعمائة بعد حروب هلك في بعضها أخوه رحمون بن   [1] وفي نسخة ثانية: تسكين عادية ملوك العرب عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 هارون. وخلص إلى بجاية، فركب منها السفن إلى المغرب، ثم تخطّى السلطان أبو حمو إلى ما وراء شلف. وسفر محمد بن عريف بينه وبين ابن عمه بعد أن نزع إليه الكثير من أوليائه حصين والثعالبة بما بذل لهم من الأموال، وبما سئموا من طول الفتنة، فشارطه على الخروج من وطنه إلى جيرانهم من رياح على أتاوة وتحمل اليه، فقبل ووضع أوزار الحرب، وفارق مكان ثورته، وكان لمحمد بن عريف فيها أثر محمود، واستألف سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة المتغلّب على بسيط متيجة وبلد الجزائر، بعد أن كان خبّ في الفتنة، وأوضع فاقتضى له من السلطان عهده من الأمان والولاية على قومه وعمله. وقلّد السلطان أبناءه ثغور أعماله. فأنزل ابنه بالجزائر لنظر سالم بن إبراهيم من تحت استبداده، وابنه أبا زيّان بالمدية، وانقلب السلطان إلى حضرته بتلمسان بعد أن دوّخ قاصيته، وثقف أطراف عمله، وأصلح قلوب أوليائه واستألف شيعة عدوه، فكان فتحا لا كفاء له من بعد ما خلع من ربقة الملك، ونزع من شرع [1] السلطان وانتبذ من قومه وممالكه إلى قاصية الأرض، ونزل في جوار من لا ينفذ أمره ولا يقوم بطاعته. والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء. (الخبر عن اجلاب عبد الله بن صغير وانتقاض أبي بكر بن عريف وبيعتهما للأمير أبي زيان ورجوع أبي بكر الى الطاعة) كانت خالد بن عامر وابن أخيه عبد الله بن صغير وسائر إخوانهم من ولد عامر بن إبراهيم قد لحقوا بالمغرب صرخى ببني مرين لما وقع بينهم وبين أبي حمو من الفعلة التي فعل خالد معه. ويئس عبد الله بن صغير من صريخهم بما عقد ونزمار بن عريف من السلم بين صاحب المغرب وصاحب تلمسان، فخاض القفر بمن معه من قومه ولحق بوطن زغبة، وأجلب على جبل راشد وبه العمّور أحلاف سويد من بني هلال. فاعترضتهم سويد ودارت بينهم حرب شديدة، كان الظهور فيها لسويد عليهم. وفي خلال ذلك فسد ما بين السلطان وبين أبي بكر بن عريف بسبب صاحب جبل   [1] وفي نسخة ثانية: من لبوس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 وانشريس يوسف بن عمر [1] بن عثمان، أراده السلطان على النزول عن عمله، فغضب له أبو بكر لقديم الصداقة بين سلفهما، ووصل يده بعبد الله بن صغير بعد الواقعة. ودعاه إلى بيعة أبي زيان فأجابه وأوفدوا رجالاتهم عليه بمكانه من مجالات رياح، فوصلوه معهم ونصّبوه للأمر، وتحيّز محمد بن عريف إلى السلطان في جموع سويد. ونهض السلطان من تلمسان سنة سبع وسبعين وسبعمائة فيمن معه من قبائل بني عبد الواد وعرب المعقل وزغبة، ودس إلى أولياء أبي زيّان يرغّبهم في المواعد. وحكم أبا بكر في الاشتراط عليه ففاء إلى الطاعة والمخالصة. ورجع أبو زيّان إلى مكانه من حلل الزواودة، وأغذّ السلطان السير إلى حضرته فتملّى أريكته، وحدث بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن وصول خالد بن عامر من المغرب والحرب التي دارت بينه وبين سويد وأبي تاشفين هلك فيها عبد الله بن صغير وإخوانه) لما بلغ خالد بن عامر بمكانه من المغرب خبر عبد الله ابن أخيه صغير، قفل من المغرب يئسا من مظاهرة بني مرين فخفق السعي في صريخه بهم لما كانوا عليه من افتراق الأمر كما ذكرناه قبل. ووصل معه ساسي بن سليم في قومه بني يعقوب، وتظاهر الحيّان على العيث في بلاد أبي حمّو. واجتمع إليهم أبناء الفتنة من كل أوب، فأجلبوا على الأطراف وشنّوا الغارة في البلاد، وجمع أولاد عريف لحربهم قومهم من سويد وأحلافهم من العطاف، وبعثوا بالصريخ إلى السلطان فسيّر لحرب عدوّه وعدوّهم ابنه أبا تاشفين وليّ عهده في قومه، وبرز لذلك في العساكر والجنود. ولما انتهى إلى بلاد هوّارة، واضطرب عسكره بها، أعجله صريخ أوليائه عن مناخ الركاب، فاستعجل الرحلة ولحق بأوليائه أولاد عريف ومن معهم من أشياع الدولة من زغبة. وأغذّوا السير إلى واد هناك شرقي القلعة، فتلاقى [2] الجمعان وتواقفوا للقاء سائر   [1] وفي نسخة ثانية: يوسف بن عاجز. [2] وفي نسخة ثانية: فتراءى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 يومهم. واستضاءوا بإضرام النيران مخافة البيات، وأصبحوا على التعبية. وتمشت الرجالات في مواضعة الحرب، فأعجبهم مناشبة القوم، وتزاحفت الصفوف، وأعلم الكماة، وكشفت الحرب عن ساقها، وحمي الوطيس، وهبت الريح المبشرة، فخفقت لها رايات الأمير وهدرت طبوله، ودارت رحى الحرب وصمدت إليها كتائب العرب، فبرئ [1] فيها الأبطال منهم وانكشفوا، وأجلت المعركة عن عبد الله ابن صغير صريعا، فأمر أبو تاشفين فاحتزّ رأسه وطيّر به البريد إلى أبيه. ثم عثرت المواكب بأخيه ملّوك بن صغير مع العبّاس ابن عمه موسى بن عامر، ومحمد بن زيّان من وجوه عشيرتهم متواقعين بجنودهم متضاجعين في مراقدهم كأنما أقعدوا للردي، فوطأتهم سنابك الخيل وغشيهم قتام المراكب. وأطلقت العساكر أعنّتها في اتباع القوم فاستاقوا نعمهم وأموالهم. وكثرت يومئذ الأنفال، وغشيهم الليل فتستّروا بجناحه. ولحقهم فلّهم بجبل راشد، وأطرب أبو تاشفين أباه بمشتهى ظهوره وأملاه السرور بما صنع الله على يده، وما كان له ولقومه من الأثر في مظاهرة أوليائه. وطار له بها ذكر على الأيام، ورجع إلى أبيه بالحضرة مملوء الحقائب بالأنفال والجوانح بالسرور والأيام بالذكر عنه وعن قومه، ومضى خالد لوجهه في فلّ من قومه. ولحق بجبل راشد إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله، والله تعالى أعلم. (الخبر عن انتقاض سالم بن إبراهيم ومظاهرته خالد بن عامر على الخلاف وبيعتهما للأمير أبي زيان ثم مهلك خالد ومراجعة سالم الطاعة وخروج أبي زيان الى بلاد الجريد) كان سالم بن إبراهيم هذا كبير الثعالبة المتغلّبين على حصن متيجة منذ انقراض مليكش، وكانت الرئاسة فيهم لأهل بيته حسبما ذكرناه في أخبارهم عند ذكر المعقل. ولما كانت فتنة أبي زيّان بعد نكبة أبي حمّو على بجاية، وهبّت ريح العرب واستغلظ أمرهم، وكان سالم هذا أوّل من غمس يده في تلك الفتنة، ومكر بعليّ بن غالب من بيوتات الجزائر، كان مغربا عنها منذ تغلّب بني مرين على المغرب الأوسط   [1] وفي نسخة ثانية: فتردى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 أيام بني عثمان [1] ولحق بها عند ما أظلم الجوّ بالفتنة، واستحكمت نفرة أهل الجزائر عن أبي حمو، فأظهر بها الاستبداد واجتمع بها إليه الأوشاب والطغام. ونكره سالم أمير الضاحية أطمعه في الاستيلاء على الجزائر، فداخل في شأنه الملأ من أهل المدينة، وحذّرهم منه أنه يروم الدعوة للسلطان أبي حمّو، فاستشاطوا نفرة وثاروا به، حتى إذا رأى سالم أنه قد أحيط به خلّصه من أيديهم وأخرجه إلى حيّه. وأبلغه [2] هنالك. وحوّل دعوة الجزائر إلى الأمير أبي زيّان تحت استبداده، حتى إذا كان من أمر بني مرين وحلول السلطان عبد العزيز بتلمسان كما قدّمناه، أقام دعوتهم في الجزائر إلى حين مهلكه ورجوع أبي حمّو إلى تلمسان. وأقبل جيش أبي زيّان إلى تيطري، فأقام سالم هذا دعوته في أحيائه وفي بلد الجزائر، خشية على نفسه من السلطان أبي حمو، لما كان يعتمد عليه في الادالة من أمره بالجزائر بأمر ابن عمّه. ولما كان من خروج أبي زيّان إلى أحياء رياح على يد محمد بن عريف ما قدّمناه. واقتضى سالم عهده من السلطان، وولي سالم على الجزائر، أقام سالم على أمره من الاستبداد بتلك الأعمال واستضافة جبايتها لنفسه، وأوعز السلطان إلى سائر عمّاله باستيفاء جبايتها، فاستراب وبقي في أمره على المداهنة. وحدثت إثر ذلك فتنة خالد بن عامر، فتربّص دوائرها رجاء أن يكون الغلب له، فيشغل السلطان عنه. ثم بدا له ما لم يحتسب، وكان الغلب للسلطان ولأوليائه. وكان قد حدثت بينه وبين بني عريف عداوة خشي أن يحمل السلطان على النهوض إليه، فبادر إلى الانتقاض على أبي حمو، واستقدم الأمير أبو زيان فقدم عليه وجأجأ بخالد بن عامر من المخالفين معه من العرب، فوصلوا إليه أوّل سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وعقد بينهم حلفا مؤكّدا، وأقام الدعوة للأمير أبي زيّان بالجزائر. ثم زحفوا إلى حصار مليانة وبها حامية السلطان فامتنعت عليهم، ورجعوا إلى الجزائر فهلك خالد بن عامر على فراشه ودفن بها، وولي أمر قومه من بعده المسعود ابن أخيه صغير، ونهض إليهم السلطان أبو حمّو من تلمسان في قومه وأوليائه من العرب، فامتنعوا بجبال حصين وناوشتهم جيوش السلطان القتال بأسافل الجبل فغلبوهم عليها، وانفضّت الناجعة عنهم من الديالم والعطاف وبني عامر، فلحقوا بالقفر.   [1] وفي نسخة ثانية: أيام أبي عنّان. [2] وفي نسخة ثانية: واتلفه هنالك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 ورأى سالم أصحابه أن قد أحيط بهم فلاذ بالطاعة، وحمل عليها أصحابه. وعقد لهم السلطان من ذلك ما أرادوه على أن يفارقوا الأمير أبا زيان ففعلوا. وارتحل عنهم فلحق ببلاد المغرب ريغ، ثم أجازها إلى نفطة من بلاد الجريد، ثم إلى توزر، فنزل على مقدّمها يحيى بن يملول، فأكرم نزله وأوسع قراره إلى أن كان من أمره ما نذكر. ورجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان وفي نفسه من سالم حرارة لكثرة اضطرابه ومراجعته الفتن، حتى توسّط فصل الشتاء، وأبعدت العرب في مشاتيها، فنهض من تلمسان في جيوش زناتة، وأغذّ السير فصبح بحصن متيجة بالغارة الشعواء. وأجفلت الثعالبة فلحقوا برءوس الجبال وامتنع سالم بجبل بني خليل. وبعثوا ابنه وأولياءه إلى الجزائر فامتنعوا بها وحاصروه أياما. ثم غلبوه على مكامنه. فانتقل إلى بني ميسرة من جبال صنهاجة. وخلّف أهله ومتاعه، وصار الكثير من الثعالبة إلى الطاعة، وابتهلوا بأمان السلطان وعهده إلى فحص متيجة، وبعث هو أخاه ثانيا إلى السلطان بانتقاضه العهد [1] ، ونزل من رأس ذلك الشاهق إلى ابنه أبي تاشفين فأوصله إلى السلطان إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، فأخفر عهده وذمّة ابنه، وتقبّض عليه صبيحة ليلته. وبعث قائده إلى الجزائر فاستولى عليها وأقام دعوته بها، وأوفد عليه مشيختها فتقبّض عليهم، وعقد على الجزائر لوزيره موسى بن مرعوت [2] ، ورجع إلى تلمسان فقضى بها عيد النحر، ثم أخرج سالم بن إبراهيم من محبسه إلى خارج البلد، وقتل قعصا بالرماح، ونصب شلوه وأصبح مثلا للآخرين، وللَّه البقاء. وعهد السلطان لابنه المنتصر على مليانة وأعمالها، ولابنه أبي زيان على وهران. وراسله ابن يملول صاحب توزر، وصهره ابن قرى صاحب بسكرة وأولياؤهما من الكعوب والزواودة لما أهمهم أمر السلطان أبي العبّاس، وخافوه على أمصارهم فراسلوا أبا حمّو يضمنون له مسالمة أبي زيّان على أن يوفي لهم بما اشترط له من المال، وعلى أن يشبّ نار الفتنة من قبله على بلاد الموحّدين ليشغل السلطان أبا العباس عنهم على حين عجزه [3] وضعف الدولة عنه. فأوهمهم من نفسه القدرة وأطمعهم في ذلك.   [1] وفي نسخة ثانية العبارة مختلفة تماما: وبعث هو أخاه ثابتا الى السلطان، فاقتضى له العهد. [2] وفي نسخة ثانية: موسى بن برغوث وقد مرّ معنا من قبل في غير هذا المكان. [3] الضمير هنا يعود الى أبي حمّو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 وما زال يراجعهم ويراجعونه بالمقاربة والوعد إلى أن أحيط بابن يملول، واستولى السلطان على بلده فلحق ببسكرة وهلك بها لسنة من خروجه آخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وبقي ابن مزني من بعده متعلّلا بتلك الأماني الكاذبة إلى أن ظهر أمره وتبيّن عجزه، فراجع طاعة السلطان أبي العباس واستقام على الموادعة، ولحق الأمير أبو زيّان بحضرة السلطان بتونس فنزل بها أكرم نزل مؤمّلا منه المظاهرة على عدوّه. والحال بالمغرب الأوسط لهذا العهد على ما شرحناه مرارا من تغلّب العرب على الضواحي والكثير من الأمصار. وتقلّص ظلّ الدولة عن القاصية وارتدادها على عقبها إلى مراكزها بسيف البحر، وتضاؤل قدرتها على قدرتهم، وإعطاء اليد في مغالبتهم ببذل رغائب الأموال. وإقطاع البلاد والنزول عن الكثير من الأمصار، والقنوع بالتغريب بينهم وإغراء بعضهم ببعض والله وليّ الأمور. (قسمة السلطان للأعمال بين ولده وما حدث بينهم من التنافس) كان لهذا السلطان أبي حمّو جماعة من الولد كبيرهم أبو تاشفين عبد الرحمن. ثم بعده أربعة لأم واحدة، كان تزوّجها بميلة من أعمال قسنطينة أيام جولته في بلاد الموحدين، كبيرهم المنتصر. ثم أبو زيان محمد، عمر ويلقب عميرا، ثم بعد ولد كثيرون أبناء علات. وكان أبو تاشفين ولي عهده، وقد رفعه على الباقين وأشركه في رأيه [1] ، وأوجب له الحق على وزراء دولته، فكان لذلك رديفه في ملكه ومظهر سلطانه. وكان مع ذلك يتعاهد أولئك الإخوة الأشقاء بحنوه، ويقسّم لهم من ترشيحه والنجاء في خلوته، فتنغّص أبو تاشفين منهم، فلما استفحل أمر السلطان وانمحت من دولته آثار الخوارج [2] ، أعمل نظره في قسمة الأعمال بين ولده وترشيحهم للإمارة والبعد بهم عن أخيهم أبي تاشفين، أن يصيبهم بمكروه عند إيناس الغيرة منهم، فولّى المنتصر كبيرهم على مليانة وأعمالها، وأنفذه إليها ومعه أخوه عمر الأصغر في كفالته، وولّى أخاهما الأوسط أبا زيّان على المرية وما إليها من بلاد   [1] وفي نسخة ثانية: أشركه في أمره. [2] وفي نسخة ثانية: اثار الخلاف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 حصين. وولّى ابنه يوسف ابن الزابية على تدلس وما إليها من آخر أعماله. واستقرّ أمرهم على ذلك. ثم كان من انتقاض سالم الثعلبي بالجزائر ما قدّمناه، فنمي إلى السلطان أنّ ابنه أبا زيّان داخله في الخلاف، فلمّا فرغ من أمر سالم كما مرّ وطرد أبا زيان ابن عمه عن أعماله إلى الجريد، أعمل نظره في نقل ابنه أبي زيان من المرية إلى ولاية وهران وأعمالها بعدا له عن العرب المجلبين في الفتن، وأنزل معه بعض وزرائه عينا عليه، وأقام واليا عليها والله أعلم. (وثبة أبي تاشفين بيحيى بن خلدون كاتب أبيه) كان أوّل شيء حدث من منافسة أبي تاشفين لإخوته، أن السلطان لمّا ولّى ابنه أبا زيّان على وهران وأعمالها طلبه أبو تاشفين في ولايتها لنفسه فأسعفه ظاهرا، وعهد إلى كاتبه يحيى بن خلدون بمماطلته في كتابها حتى يرى المخلص من ذلك، فأقام الكاتب يطاوله. وكان في الدولة لئيم من سفلة الشرط يدعى بموسى بن يخلف، صحبهم أيام الاغتراب بتيكورارين أيام ملك تلمسان عليهم السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن كما مرّ. وخلاله وجه السلطان أبي حمو وابنه، فتقرّب إليه بخدمته ورعاها له. فلما رجع السلطان إلى تلمسان بعد مهلك عبد العزيز قدّمه وآثره واستخلصه، فكان من أخلص بطانته. وكان أبو تاشفين أيضا استخلصه وجعله عينا على أبيه. وكان هو أيضا يغص بابن خلدون كاتب السلطان، ويغار من تقدّمه عنده ويغري به أبا تاشفين جهده، فدسّ إليه أثناء هذه المطاولة أنّ الكاتب ابن خلدون إنما مطله بالكتاب خدمة لأبي زيّان أخيه وإيثارا له عليه، فاستشاط له أبو تاشفين، وترصّد له منصرفه من القصر إلى بيته بعد التراويح في احدى ليالي رمضان سنة ثمانين وسبعمائة في رهط من الأوغاد، كان يطوف بهم في سكك المدينة، ويطرق معهم بيوت أهل السرّ والحشمة في سبيل الفساد، فعرضوا له وطعنوه بالخناجر حتى سقط عن دابته ميتا. وغدا الخبر على السلطان صبيحة تلك الليلة فقام في ركائبه وبثّ الطلب عن أولئك الرهط في جوانب المدينة. ثم بلغه أنّ ابنه أبا تاشفين صاحب الفعلة، فأغضى وطوى عليها جوانحه، وأقطع أبا تاشفين مدينة وهران كما وعده. وبعث ابنه أبا زيّان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 على بلاد حصين والمرية كما كان. ثم طلب أبو تاشفين من أبيه أن تكون الجزائر خالصة له فأقطعه إيّاها، وأنزل بها من إخوته يوسف ابن الزابية بما كان شيعة له من بينهم وفيئة في صحبته ومخالصته، فأقام واليا عليها، والله أعلم. (حركة أبي حمو على ثغور المغرب الأوسط ودخول ابنه أبي تاشفين الى جهات مكناسة) كان أبو العبّاس بن السلطان أبي سالم ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد نهض في عساكره سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة [1] الى مراكش، وبها الأمير عبد الرحمن بن يفلوس ابن السلطان أبي عليّ مقاسمة في نسبه وملكه. وكان قد سوّغ له مراكش وأعمالها عند ما أجلب معه على البلد الجريد سنة خمس وسبعين وسبعمائة كما في أخبارهم. واستقرّ الأمير عبد الرحمن بمراكش. ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أحمد، ونهض إليه من فاس فحاصره أوّلا وثانيا يفرج فيهما عنه. ثم نهض إليه سنة أربع وثمانين وسبعمائة فحاصره وأخذ بمخنقه وأطال حصاره. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير المعقل من العرب منتقضا على السلطان وقد بعث السلطان العساكر إلى أحيائه، فهزموه وخرّبوا بيوته وبساتينه بسجلماسة ورجعوا. وأقام هو بصحرائه منتقضا. فلما جهد الحصار الأمير عبد الرحمن بمراكش، بعث أبا العشائر ابن عمّه منصور بن السلطان أبي علي إلى يوسف بن علي بن غانم، ليجلب به على فاس وبلاد المغرب، فيأخذ بحجزة السلطان عنه وينفس من مخنقه، فسار يوسف بن على مع أبي العشائر إلى السلطان أبي حمّو بتلمسان يستنجده على هذا الغرض لقدرته عليه دون العرب، بما له من العساكر والأبهة، فأنجده على ذلك. وقدم ابنه أبا تاشفين معهم، وخرج هو في أثرهم، فساروا إلى المغرب. ونزل يوسف بن علي بقومه قريبا من مكناسة، ومعه الأميران أبو العشائر وأبو تاشفين. وجاء أبو حمّو من خلفهم فحصر تازى سبعا، وخرّب قصر تازروت المعدّ هنالك لنزل السلطان. وكان السلطان قد استخلف على فاس في مغيبه علي بن مهدي العسكري من عمّال   [1] وفي نسخة ثانية: إحدى وثمانين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 دولته ووجوه قبيله، وكان هنالك عرب المنبأة [1] من المعقل قد أخذوا الميرة، فأهاب بهم ونزمار بن عريف ولي الدولة من عرب سويد، وهو نازل بقصر مرادة من جوار [2] تازى، فاستألفهم لمدافعة أبي حمو وابنه. وخرج بهم علي بن مهدي. ثم وصل الخبر باستيلاء السلطان على مراكش منتصف خمس وثمانين وسبعمائة فأجفل أبو تاشفين وأبو العشائر ومن معهما من العرب، واتبعهم علي بن مهدي بمن معه من المنباة. وأجفل أبو حمّو على تازى ومرّ بمرادة على قصر ونزمار فهدمه وعاث فيه، وانكفأ راجعا إلى تلمسان. وفارق ابنه أبو تاشفين أصحابه أبا العشائر والعرب ولحق بأبيه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (نهوض السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب إلى تلمسان واستيلاؤه عليها واعتصام أبي حمو بجبل تاحجموت [3] ) لما استولى السلطان أبو العبّاس على مراكش كما قلناه، رجع إلى دار ملكه بفاس وقد آسفه السلطان أبو حمو باجلابه على وطنه هو وابنه أبو تاشفين مع العرب أيام مغيبه بمراكش، فأجمع الرحلة إلى تلمسان، وخرج في عساكره. وراجع يوسف بن علي الطاعة ورحل معه في جموعه. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فتردد بين الحصار بتلمسان أو مفارقتها. وكان بينه وبين ابن الأحمر صاحب الأندلس مواصلة، ولابن الأحمر دالة على السلطان أبي العباس كما مرّ. فكان يحفظ له الشأن في قصد تلمسان ويلبثه عنها فيعطيه المقادة في ذلك، فيعلّل هو السلطان أبا حمو بأنّ السلطان أبا العبّاس لا يصل إليه. ثم أجمع السلطان أبو العبّاس أمره، ونهض على حين غفلة مغذّا إلى تلمسان. وتقدّم الخبر إلى أبي حمو فأجمع مفارقة تلمسان بعد أن أظهر لأوليائه وأهل دولته أنه على الحصار. ثم خرج حين غشية الليل الى معسكره بالصفيف، وافتقده أهل بلده من صبيحتهم، فتبادر أكثرهم إليه متعلّقين بأذياله خوفا من معرّة العدوّ، ثم ارتحل يطوي المراحل إلى البطحاء، ودخل السلطان أبو   [1] وفي نسخة ثانية: المنبات. [2] وفي نسخة ثانية: من أحواز. [3] وفي نسخة ثانية: بحصن تاجحمومت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 العبّاس تلمسان واستولى عليها، وجهّز العساكر لاتباع أبي حمو وقومه، فأجفل من البطحاء ولحق بتاحجموت فاعتصم بمعقلها ولحق به ابنه المنتصر من مليانة بما كان معه من الذخيرة، فاستمدّ بها وأقام هناك عازما على الامتناع والله تعالى أعلم. (رجوع السلطان أبي العباس الى المغرب واختلال دولته ورجوع السلطان أبي حمو الى ملكه بتلمسان) كان السلطان أبو العباس لما استولى على مملكة تلمسان، طيّر كتبه ورسله بفتحها إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس، ويعتذر إليه من مخالفة رأيه في الحركة إليها. وقد كان ابن الأحمر آسفه ذلك إلى ما انتظم إليه من النزعات الملوكية التي يؤسف بها بعضهم بعضا، وهو يطوي جوانحه عليها، واطلع على فساد طاقة السلطان أبي العبّاس في أهل دولته وفقد [1] ضمائرهم له، فأزعج لوقته موسى ابن السلطان أبي عنان من أعياص ملكهم، كان عنده بالأندلس، وجهّزه بما يحتاج إليه وبعث في خدمته مسعود بن رحّو بن ماسالي [2] وزيرهم المشهور، وأركبه السفن إلى سبتة، فنزلوا بساحتها أوّل ربيع سنة ست وثمانين وسبعمائة واستولوا عليها. ثم تقدّموا إلى فاس فنازلوا دار الملك أياما وبها محمد بن حسن كاتب محمد بن عنان القائم بدولة السلطان أبي العباس والمستبدّ عليه، واشتدّوا في حصارها وتوافت إليهم الأمداد والحشود فداخله الخور وألقي بيده، وداخل السلطان موسى إلى دار الملك تاسع عشر ربيع الأوّل من السنة، وجلس على أريكته، وآتاه الناس طاعتهم. وطار الخبر إلى السلطان أبي العباس بتلمسان وقد تجهّز لاتباع أبي حمو، ونزل على مرحلة من تلمسان بعد أن أغراه ونزمار بن عريف أمير سويد بتخريب قصور الملك بتلمسان، وكانت لا يعبّر عن حسنها، اختطّها السلطان أبو حمو الأوّل وابنه أبو تاشفين، واستدعى لها الصنّاع والفعلة من الأندلس لحضارتها وبداوة دولتهم يومئذ بتلمسان، فبعث إليهما السلطان أبو الوليد صاحب الأندلس بالمهرة والحذّاق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم القصور والمنازل والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله،   [1] وفي نسخة ثانية: ونغل. [2] وفي نسخة ثانية: ماساي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 فأشار ونزمار على السلطان أبي العبّاس بتخريب هذه القصور وأسوار تلمسان انتقاما بزعمه من أبي حمو، وأخذا بالثأر منه فيما أعتمده من تخريب قصر الملك بتازى، وتخريب قصره هو بمرادة، فأتى عليها الخراب أسرع من لمح البصر. وبينما هو في ذلك وهو يروم السفر لاتباع أبي حمو، إذ جاءه الخبر بأنّ السلطان موسى ابن عمه السلطان أبي عنّان قد استولى على دار ملكهم بفاس، واقتعد أريكتهم، فكرّ راجعا إلى المغرب لا يلوي على شيء، وترك تلمسان لشأنها، وكان من أمره ما يأتي ذكره في أخبارهم، وطار الخبر إلى السلطان أبي حمو بمكانه من تاحجموت، فاغذّ السير إلى تلمسان ودخلها، وعاد إلى ملكه بها، وتفجّع لتلك القصور بما ذهب من رونق حسنها، وراجع دولته بني عبد الواد وسلطانهم بتلمسان والله سبحانه وتعالى أعلم. (تجدّد المنافسة بين أولاد السلطان أبي حمو ومجاهرة أبي تاشفين بذلك لهم ولأبيه) كان التنافس بين هؤلاء الأولاد خفيّا على الناس بما كان السلطان أبوهم يؤامل بينهم ويداري بعضهم عن بعض. فلما خرجوا أمام بني مرين وعادوا إلى تلمسان صار تنافسهم إلى العداوة. واتّهم أبو تاشفين أباه بممالأة إخوته عليه، فشمّر لعقوقه وعداوته! وشعر السلطان بذلك فأعمل الحركة إلى ناحية البطحاء موريا بإصلاح العرب، ومعتزما على لقاء ابنه المنتصر بمليانة جناحه، ويتخطّى إلى الجزائر فيجعلها دار ملكه بعد أن استخلف بتلمسان ابنه أبا تاشفين وحالفه على المناصحة. واطلع موسى بن يخلف على خبيئة السلطان بذلك، فدسّ بها إلى أبي تاشفين على عادته، فطار به الأسف كل مطار وأغذّ السير من تلمسان فيمن معه من العسكر، وصبح أباه بأسافل البطحاء قبل أن يتصل بالمنتصر، وكشف القناع عن التكبّر والتسخط على ما بلغه، فحلف له السلطان على ذلك وأرضاه بالرجوع معه إلى تلمسان فرجعا جميعا. (خلع السلطان أبي حمو واستبداد ابنه أبي تاشفين بالملك واعتقاله إياه) ولما رجع السلطان من البطحاء وبطل ما كان يؤمّله من الاتصال بالمنتصر، دسّ إليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 مع خالصة من أهل دولته يعرف بعلي بن عبد الرحمن بن الكليب بأحمال من المال يودعها إلى أن يجد السبيل لحاجة نفسه. وكتب له بولاية الجزائر ليقيم بها حتى يخلص إليه. واطلع موسى على ذلك فأطلع أبا تاشفين على الخبر، فبعث في أثره من حاشيته من اغتال ابن الكليب وجاء إليه بالمال والكتب، فاطلع منها على حقيقة أمرهم وأنهم متربّصون به، فاستشاط وجاهر أباه وغدا عليه بالقصر، فأوقفه على الكتاب وبالغ في عذله. وتحيّز موسى بن يخلف إلى أبي تاشفين، وهجر باب السلطان وأغرى به ابنه فغدا على أبيه بالقصر بعد أيام وخلعه، وأسكنه بعض حجر القصر، ووكّل به، واستخلص ما كان معه من الأموال والذخيرة. ثم بعث به إلى قصبة وهران فاعتقله بها، واعتقل من حضر بتلمسان من إخوته، وذلك آخر ثمان وثمانين وسبعمائة وبلغ الخبر إلى المنتصر بمليانة وأبي زيان وعمير، فلحقوا بقبائل حصين واستذمّوا بهم، فأذمّوهم وأنزلوهم عندهم بجبل تيطري. وجمع أبو تاشفين العساكر واستألف العرب من سويد وبني عامر، وخرج في طلب المنتصر وإخوته، ومرّ بمليانة فملكها. ثم تقدّم إلى جبل تيطري وأقام في حصارهم به، وهم ممتنعون عليه. والله تعالى أعلم. (خروج السلطان أبي حمو من الاعتقال ثم القبض عليه وتغريبه الى المشرق) لما طال مقام أبي تاشفين على تيطري لحصار إخوته، ارتاب بأمر أبيه وطول مغيبه عنه. وشاور أصحابه في شأنه، فأشاروا بقتله واتفقوا على ذلك، فبعث أبو تاشفين ابنه أبا زيّان في لمة من حاشيته فيهم ابن الوزير عمران بن موسى، وعبد الله ابن الخراساني، فقتلوا من كان معتقلا بتلمسان من أبناء السلطان، وتقدّموا إلى وهران وسمع أبو حمّو بقدومهم، فأوجس الخيفة منهم واطلع من جدران القصبة ينادي بالصريخ في أهل البلد، فتبادروا إليه من كل جهة، وتدلى لهم بحبل وصله من عمامته التي كان متعمما بها، فشالوه حتى استقرّ بالأرض واجتمعوا إليه. وكان الرهط الذين جاءوا والقتلة بباب القصر، وقد أغلقه دونهم. فلما سمعوا الهيعة واستيقنوا الأمر، طلبوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 النجاة بدمائهم. واجتمع أهل البلد على السلطان، وتولى كبر ذلك خطيبهم، وجدّدوا له البيعة وارتحل من حينه إلى تلمسان، فدخلها أوائل تسع وثمانين وسبعمائة وهي يومئذ عورة بما كان بنو مرين هدموا من أسوارها وأزالوا حصنها. وبعث فيمن كان مخلفا بأحياء بني عامر من أكابرهم ووجوههم، فقدموا عليه. وطار الخبر إلى أبي تاشفين بمكانه من حصار تيطري، فانكفأ راجعا إلى تلمسان فيمن معه من العساكر والعرب، وبادره قبل أن يستكمل أمره فأحيط به. ونجا إلى مئذنة الجامع فاعتصم بها، ودخل أبو تاشفين القصر، وبعث في طلبه. وأخبر بمكانه فجاء إليه بنفسه واستنزله من المئذنة، وأدركته الرقّة، فجهش بالبكاء وقبّل يده، وغدا به إلى القصر واعتقله ببعض الحجر هنالك، ورغب إليه أبوه في تسريحه إلى المشرق لقضاء فرضه، فشارط بعض تجّار النصارى المتردّدين إلى تلمسان من القيطلان على حمله إلى الإسكندرية، وأركبه السفن معهم بأهله من فرضة وهران ذاهبا لطيبة موكّلا به، وأقبل أبو تاشفين على القيام بدولته، والله تعالى أعلم. (نزول السلطان أبي حمو ببجاية من السفين واستيلاؤه على تلمسان ولحاق أبي تاشفين بالمغرب) لما ركب السلطان أبو حمّو السفين ذاهبا إلى الإسكندرية، وفارق أعمال تلمسان وحاذى بجاية، داخل صاحب السفينة في أن ينزله ببجاية، فأسعفه بذلك. فخرج من الطارمة التي كان بها معتقلا، وصار الموكّلون به في طاعته. وبعث إلى محمد بن أبي مهدي قائم الأسطول ببجاية المستبدّ على أميرها من ولد السلطان أبي العبّاس بن أبي حفص. وكان محمد خالصة المستنصر بن أبي حمو من ناحية دولتهم. قد خلص إلى بجاية من تيطري بعد ما تنفس لحصار عنهم فبعثه ابن أبي مهدي إلى السلطان أبي حمّو بالإجابة إلى ما سأل. وأنزله ببجاية آخر تسع وثمانين وسبعمائة وأسكنه بستان الملك المسمّى بالرفيع، وطيّر بالخبر إلى السلطان بتونس، فشكر له ما آتاه من ذلك، وأمره بالاستبلاغ في تكريمه، وأن يخرج عساكر بجاية في خدمته إلى حدود عمله متى احتاج إليها. ثم خرج السلطان أبو حمو من بجاية ونزل متيجة واستنفر طوائف العرب من كل ناحية فاجتمعوا إليه ونهض يريد تلمسان واعصوصب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 قومه بنو عبد الواد على أبي تاشفين بما بذل فيهم من العطاء وقسم من الأموال، فنابذوا السلطان أبا حمّو واستصعب عليه أمرهم. وخرج إلى الصحراء وخلف ابنه أبا زيّان في جبال شلف مقيما لدعوته. وبلغ إلى تاسة [1] من ناحية المغرب. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فبعث عسكرا إلى شلف مع ابنه أبي زيّان ووزيره محمد بن عبد الله ابن مسلم، فتواقفوا مع أبي زيّان ابن السلطان أبي حمو فهزمهم. وقتل أبو زيان بن أبي تاشفين ووزيره ابن مسلم، وجماعة من بني عبد الواد. وكان أبو تاشفين لما بلغه وصول أبيه إلى تاسة، سار إليه من تلمسان في جموعه، فأجفل أبو حمو إلى وادي صا [2] واستجاش بالأحلاف من عرب المعقل هنالك، فجاءوا لنصره، ورعوا زمامه فنزلها، وأقام أبو تاشفين قبالته وبلغه هنالك هزيمة ابنه ومقتله، فولّى منهزما إلى تلمسان وأبو حمّو في اتباعه. ثم سرّح أبو تاشفين مولاه سعادة في طائفة من العسكر لمحاولة العرب في التخلّي عن أبي حمو، فانتهز فيه الفرصة وهزمه وقبض عليه، وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين بتلمسان، وكان يؤمّل النجاح عند سعادة فيما توجه فيه، فأخفق سعيه، وانفض عنه بنو عبد الواد والعرب الذين معه، وخرج هاربا من تلمسان مع أوليائه من سويد إلى مشاتيهم بالصحراء. ودخل السلطان أبو حمّو تلمسان في رجب سنة تسعين وسبعمائة وقدم عليه أبناؤه فأقاموا معه بتلمسان، فطرق المنتصر ابنه المرض فهلك بها لأيام من دخوله تلمسان، واستقرّ الأمر على ذلك، والله أعلم. (نهوض أبي تاشفين بعساكر بني مرين ومقتل السلطان أبي حمو) لما خرج أبو تاشفين من تلمسان أمام أبيه، واتصل بأحياء سويد، أجمعوا رأيهم على الاستنجاد بصاحب المغرب، فوفد أبو تاشفين ومعه محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العبّاس صاحب فاس، وسلطان بني مرين صريخين على شأنهما، فقبل وفادتهما ووعدهما بالنصر من عدوّهما. وأقام أبو تاشفين عنده ينتظر إنجاز وعده،   [1] وفي نسخة أخرى: تامة. [2] ويدعى وادي (زا) وهو الى يمين وادي ملوية. ونطقه عند أهل المغرب بين الصاد والزاي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وكان بين أبي حمو وابن الأحمر صاحب الأندلس وشيجة ودّ وعقيدة وصلة، ولابن الأحمر دالة وتحكّم في دولة أبي العبّاس صاحب المغرب بما سلف من مظاهرته على أمره منذ أول دولته، فبعث أبو حمو في الدفاع عنه من إجازة أبي تاشفين من المغرب إليه، فلم يجبه صاحب المغرب وفاء بذمّته وعلّله بالقعود عن نصره. وألحّ عليه ابن الأحمر في ذلك، فتعلّل بالمعاذير. وكان أبو تاشفين قد عقد لأوّل قدومه مع وزير الدولة محمد بن يوسف بن علّال حلفا اعتقد الوفاء به، فكان هواه في إنجاده ونصره من عدوّه، فلم يزل يفتّل لسلطانه في الذروة والغارب، ويلوي عن ابن الأحمر المواعيد حتى أجابه السلطان إلى غرضه. وسرّح ابنه الأمير أبا فارس والوزير محمد بن يوسف بن علال في العساكر لمصارخة أبي تاشفين. وفصلوا عن فاس أواخر إحدى وتسعين وسبعمائة وانتهوا إلى تازى. وبلغ خبرهم إلى السلطان أبي حمّو فخرج من تلمسان وجمع أشياعه من بني عامر والخراج [1] بن عبيد الله وقطع جبل بني ورنيد المطل على تلمسان، وأقام بالغيران من جهاته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فقدم إلى تلمسان فجدد المكر والخديعة وشيطان الفتنة والشر موسى بن يخلف، فاستولى عليها وأقام دعوة أبي تاشفين فيها، فطيّر الخبر إلى أبي حمو ابنه عمير، فصبحه بها لليلة من مسيرة، فأسلمه أهل البلد. وتقبّض عليه، وجاء به أسيرا إلى أبيه بمكانه من الغيران، فوبّخه أبو حمّو على فعاله. ثم أذاقه أليم عقابه ونكاله، وأمر به فقتل أشنع قتلة. وجاءت العيون إلى أبي فارس ابن صاحب المغرب ووزيره ابن علال بمكان أبي حمّو واغرابه بالغيران، فنهض الوزير ابن علال في عساكر بني مرين لغزوه، وسار أمامهم سليمان بن ناجي من الأحلاف إحدى بطون المعقل، يدل بهم طريق القفر حتى صبحوه ومن معه من أحياء الخراج في مكان مقامتهم بالغيران. وناوشوهم القتال فلم يطيقوهم لكثرتهم، وولّوا منهزمين، وكبا بالسلطان أبي حمو فرسه فسقط وأدركه بعض فرسانهم وعرفه فقتله قعصا بالرماح، وجاءوا برأسه إلى الوزير ابن علّال وأبي تاشفين، وجيء بابنه عمير أسيرا. وهمّ أبو تاشفين أخوه بقتله فمنعوه أياما، ثم أمكنوه منه فقتله، ودخل أبو تاشفين تلمسان أواخر إحدى وتسعين وسبعمائة وخيّم الوزير وعساكر بني مرين   [1] وفي نسخة أخرى: الجراح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 بظاهر البلد حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب وأقام هو بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب ويخطب له على منابره، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (مسير أبي زيان بن أبي حمو لحصار تلمسان ثم اجفاله عنها ولحاقه بصاحب المغرب) كان السلطان أبو حمو قد ولّى على الجزائر ابنه أبا زيّان لما عاد إلى ملكه بتلمسان، وأخرج منها أبا تاشفين. فلما قتل أبو حمّو بالغيران كما قلناه، وخرج أبو زيّان من الجزائر ناجيا إلى أحياء حصين يؤمّل الكرّة بهم والأخذ بثأر أبيه وأخيه، فاشتملوا عليه وأجابوا صريخه. ثم وفد عليه أمراء بني عامر من زغبة يدعونه لملكه، فسار إليهم وقام بدعوته وطاعته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصروها أياما، وسرّب أبو تاشفين المال في العرب، فافترقوا على أبي زيّان، وخرج إليه أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة. ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل، وعاود حصار تلمسان في شوّال، وبعث أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب، فجاءه بمدد من العسكر. ولما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان، وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب فوفد عليه صريخا، فتلقّاه وبرّ مقدمه، ووعده النصر من عدوّه، وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين والله تعالى أعلم. (وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان) لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان ومقيما فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العباس ابن السلطان أبي سالم، ومؤدّيا للضريبة التي فرضها عليه منذ أوّل ملكه، وأخوه الأمير أبو زيّان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعده في النصر عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 حتى تغيّر السلطان أبو العبّاس على أبي تاشفين في بعض النزغات الملوكية، فأجاب داعي أبي زيّان وجهّزه بالعساكر لملك تلمسان، فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة وانتهى إلى تازي وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به. ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم بدولته أحمد بن العزّ من صنائعهم، وكان يمت إليه بخؤولة، فولّى بعده مكانه صبيا من أبنائه وقام بكفالته، وكان يوسف بن أبي حمّو وهو ابن الزابية واليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين، فلما بلغه الخبر أغذّ السير مع العرب، ودخل تلمسان فقتل أحمد بن العز والصبيّ المكفول ابن أخيه تاشفين. فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب، خرج إلى تازى وبعث من هناك ابنه أبا فارس في العساكر، ورد أبا زيان بن أبي حمو إلى فاس ووكّل به. وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام فيها دعوة أبيه، وتقدّم وزير أبيه صالح بن حمو إلى مليانة فملكها، وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف ابن الزابية بحصن تاحجموت. وأقام الوزير صالح يحاصره، وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط، والله غالب على أمره. (وفاة أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط) كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى، وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الّذي تقدّم لفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حجّ سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق، وتقدّمت إلى السلطان فئة وأخبرته بمحلّه من قومه، فأكرم تلقّيه وحمله بعد قضاء حجّة هدية إلى صاحب المغرب، يطوقه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك. فلمّا قدم بها يوسف على السلطان أبي العباس عظم موقعها، وجلس في مجلس جعله لعرضها والمباهاة بها، وشرع في المكافأة عنها بتخيّر الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه، واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول. وأنه يرسله من تازى أيام مقامته هناك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 سنة ست وتسعين وسبعمائة واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى، وولّوه مكانه، ورجعوا به إلى فاس، وأطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال، وبعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها، وقائما بعد السلطان أبي فارس فيها، فسار إليها وملكها، وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عند ما بلغه ذلك وبذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه، فأجابوه إلى ذلك وأسلموه إلى ثقات أبي زيان، وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله، وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيّان فسكنت أحواله، وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته، وهم على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره. وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، (وبقي) علينا خبر الرهط الذين تحيّزوا منهم إلى بني مرين منذ أول الدولة، وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي، وخبر بني كندور أمرائهم بمراكش، فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 (الخبر عن بني كميّ أحد بطون بني القاسم بن عبد الواد وكيف نزعوا إلى بني مرين وما صار لهم بنواحي مراكش وأرض السوس من الرئاسة) قد تقدّم لنا أوّل الكلام في بني عبد الواد أنّ بني كمي هؤلاء من شعوب القاسم، وأنهم بنو كمي بن يمل بن يزكن بن القاسم إخوة طاع الله وبني دلول وبني معطي دلول. وبني معطي بن جوهر بن علي [1] . وذكرنا ما كان بين طاع الله وبين إخوانهم بني كمي من الفتنة، وكيف قتل كندوز بن عبد الله كبير بني كمي زيّان بن ثابت بن محمد كبير بني طاع الله، وأنّ جابر بن يوسف بن محمد القائم بالأمر من بعده ثار منهم بزيّان، وقتل كندوزا غيلة أو حربا، وبعث برأسه إلى يغمراسن بن زيّان فنصب عليها أهل. بيته القدور شفاية لنفوسهم. واستمرّ الغلب بعدها على بني كمي، فلحقوا بحضرة تونس وكبيرهم إذ ذاك عبد الله بن كندوز. ونزلوا على الأمير أبي زكريا حتى كان من استيلائه على تلمسان ما قدّمنا ذكره. وطمع عبد الله في الاستبداد بتلمسان، فلم يتفق ذلك. ولما هلك مولانا الأمير أبو زكريا، وولي ابنه المنتصر، أقام عبد الله صدرا من دولته. ثم ارتحل هو وقومه إلى المغرب ونزل على يعقوب بن عبد الحق قبل فتح مراكش، فاهتزّ يعقوب لقدومه وأحلّه بالمكان الرفيع من دولته. وأنزل قومه بجهات مراكش، وأقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم. وجعل السلطان انتجاع إبله وراحلته في أحيائهم. وقدّم على رعايتها حسّان بن أبي سعيد الصبيحي وأخاه موسى، وصلا في لفيفه من بلاد المشرق، وكانا عارفين برعاية الإبل والقيام عليها، وأقاموا يتقلّبون في تلك البلاد، ويتعدّون في نجعتها إلى أرض السوس. وأوفد يعقوب بن عبد الحق عبد الله بن كندوز هذا على المنتصر صاحب إفريقية سنة خمس وستين وستمائة مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدّمناه. والتحم بنو كمي ببني مرين وأصبحوا إحدى بطونهم. وهلك عبد الله بن كندوز، وصارت رياستهم من بعده لابنه عمر بن عبد الله. فلمّا نهض يوسف بن يعقوب بن عبد الحق   [1] وفي نسخة أخرى: وبني دلوك وبني موطي بن جوهر بن علي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 إلى المغرب الأوسط وشغل بحصار تلمسان، وتحدّث الناس بما نزل بعبد الواد من بني مرين، أخذت بني كمي الحمية وامتعضوا لقومهم، وأجمعوا الخلاف والخروج على السلطان. ولحقوا بحاجة [1] سنة ثلاث وسبعمائة، واستولوا على بلاد السوس، فخرج إليهم أخو السلطان الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب، فناجزوه الحرب بتادارت وغلبوه، واستمرّوا على خلافهم. ثم عاود محاربتهم بتامطولت سنة أربع وسبعمائة بعدها، فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصّت جناحهم. وقتل عمر بن عبد الله وجماعة من كبرائهم، وفرّوا أمامه إلى الصحراء، ولحقوا بتلمسان وهدم يعيش بن يعقوب تارودنت قاعدة أرض السوس، وأقام بنو كندوز بعدها بتلمسان نحوا من ستة أشهر. ثم توجّسوا الغدر من ولد عثمان بن يغمراسن فرجعوا إلى مراكش. واتبعهم عساكر السلطان وأبلى منهم في القتال عنهم محمد بن أبي بكر بن حمامة بن كندوز، وخلصوا إلى منجاتهم مشرّدين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان يوسف بن يعقوب. وراجعوا طاعة الملوك بالمغرب فعفوا لهم عما سلف من هذه الجزيرة وأعادوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة. وكان أميرهم من بعد عمر ابنه محمد، وأقام في إمارتهم سنين [2] ثم ابنه موسى بن محمد من بعده كذلك. واستخلصه السلطان أبو الحسن أيام الفتنة بينه وبين أخيه أبي عليّ، لعهد أبيهما السلطان أبي سعيد ومن بعده، فكانت له في المدافعة عن نواحي مراكش آثار وأيام. ثم هلك موسى بن محمد فولّى السلطان أبو الحسن مكانه ابنه يعقوب بن موسى. ولما غلب على تلمسان وأصار بني عبد الواد في خوله وجنوده، تمشّت رجالاتهم وساموا أشجانهم حتى إذا كانت واقعة القيروان وتواقف السلطان وبني سليم داخلهم يعقوب بن موسى في أن ينخذل عن السلطان إليهم ببني عبد الواد ومن إليهم من مغراوة وتوجين، وأوعدهم لذلك، ثم مشى في قومه وكافة بني عبد الواد فأجابوه الى ذلك. ولحقوا جميعا ببني سليم، فجرّوا بذلك الهزيمة على السلطان وكانت نكبة القيروان المشهورة. ولحقوا [3] بعدها بتلمسان، وولّوا أمرهم في   [1] وفي نسخة أخرى: ولحقوا بالحاحة. ولم يذكر صاحب معجم البلدان هذه ولا تلك وانما ذكر حاجة: موضع في قول لبيد: فذكّرها مناهل آجنات بحاجة، لا تنزّح بالدّوالي. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: سنتين. [3] الضمير يعود الى بني عبد الواد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 بني يغمراسن. وهلك يعقوب بن موسى بإفريقية، ولحق أخوه رحو بالمغرب. وكان السلطان أبو عنّان قد استعمل على جماعتهم وعملهم عبو بن يوسف بن محمد. وهو ابن عمهم دنيا، فأقام فيهم كذلك حتى هلك، فولي من بعده ابنه محمد بن عبو وهم على ذلك لهذا العهد، يعسكرون للأمير بمراكش، ويتولون من خدمة السلطان هنالك ما لهم فيه الغناء والكفاية. فكأنّهم بمعزل عن بني عبد الواد لاستحكام العداوة بمقتل زيان بن ثابت. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، لا رب غيره ولا معبود سواه . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 (الخبر عن بني راشد بن محمد بن يادين وذكر أوّليتهم وتصاريف أحوالهم) وإنما قدّمنا ذكرهم قبل استتمام بطون بني يادين لأنهم لم يزالوا أحلافا لبني عبد الواد ومن جملتهم، فكانت أخبارهم من أخبارهم، وأمّا راشد أبوهم فهو أخو يادين. واختصّ بنوه كما قلنا ببني عبد الواد، وكانت مواطنهم بالصحراء بالجبل المعروف براشد اسم أبيهم. وكانت مواطن مديونة من قبائل البربر قبلة تاسالت وبنو ورنيد من بطون دمر قبلة تلمسان الى قصر سعيد. وكان جبل هوّارة موطنا لبني يلوما الذين كان لهم الملك كما قدّمنا. ولما اضمحل أمر بني يلوما وذهبت دولتهم، زحف بنو راشد هؤلاء من بطونهم بجبل راشد إلى بسائط مديونة وبني ورنيد، فشنّوا عليهم الغارات، وطالت بينهم الحرب إلى أن غلبوهم على مواطنهم وألجئوهم إلى الأوعار، فاستوطن بنو ورنيد الجبل المطل على تلمسان، واستوطن مديونة جبل تاسالت. وملك بنو راشد بسائطهم القبلية. ثم استوطنوا جبلهم المعروف بهم لهذا العهد، وهو بلد بني يفرن الذين كانوا ملوك تلمسان لأوّل الإسلام، وكان منهم أبو قرّة الصفري كما قدّمناه. وكان منهم بعد ذلك يعلى بن محمد الأمير الّذي قتله جوهر الصقلي قائد الشيعة كما ذكرناه في أخبارهم. ويعلى هذا هو الّذي اختط بهذا الجبل مدينة ايفكان التي هدمها جوهر يوم قتله. فلما ملك بنو راشد هذا الجبل استوطنوه وصار حصنا لهم، ومجالاتهم في ساحة القبلة إلى أن غلبهم العرب عليها لهذا العهد، وألجئوهم إلى الجبل. وكان غلب بني راشد على هذه الأوطان بين دخول بني عبد الواد إلى المغرب الأوسط، وكانوا شيعة لهم وأحلافا في فتنتهم مع بني توجين وبني مرين، وكانت رياستهم في بيت منهم يعرفون ببني عمران، وكان القائم بها لأوّل دخولهم إبراهيم بن عمران واستبدّ عليه أخوه وترمار [1] وقام بأمرهم إلى أن هلك، فولى ابنه مقاتل بن وترمار وقتل عمه إبراهيم وافترقت رياسة بني عمران من يومئذ بين بني إبراهيم وبني وترمار إلا أنّ رياسة بني إبراهيم أظهر، فولي بعد إبراهيم بن عمران ابنه وترمار وكان معاصرا ليغمراسن بن زيّان وطال عمره، ولما هلك لتسعين من المائة السابعة ولي   [1] هكذا في الجدول المرفق وترمار وفي نسخة أخرى: وترمار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 أمرهم غانم ابن أخيه محمد بن إبراهيم. ثم كان فيهم من بعده موسى بن يحيى بن وترمار، لا أدري معاقبا لغانم أو توسطهما أحد. ولما زحف بنو مرين إلى تلمسان آخر زحفهم، صار بنو راشد هؤلاء إلى طاعة السلطان أبي الحسن، وشيخهم لذلك العهد أبو يحيى موسى بن عبد الرحمن بن وترمار بن إبراهيم. وانحصر بتلمسان بنو عمه كرجون بن وترمار وانقرض أمر بني عبد الواد وأشياعهم. ونقل بنو مرين رءوس زناتة أجمع إلى المغرب الأقصى، فكان بنو وترمار هؤلاء ممن صار إلى المغرب وأوطنوه إلى أن صار الأمر لبني عبد الواد الكرّة الثالثة على يد أبي حمو الأخير موسى بن يوسف. وكان شيخ بني راشد لعهده ابن أبي يحيى بن موسى المذكور أقبل إليهم من المغرب من إيالة بني مرين، فاتهمه أبو حمّو بمداخلتهم، فتقبّض عليه واعتقله مدّة بوهران. وفرّ من معتقله فلحق بالمغرب وارتحل بين أحيائهم مدّة. ثم رجع إلى الطاعة واقتضى العهد من السلطان أبي حمو، وولّاه على قومه. ثم تقبّض عليه واعتقله إلى أن قتله بمحبسه سنة ثمان وستين وسبعمائة، وانقرض أمر بني وترمار بن إبراهيم، وأمّا بنو وترمار بن عمران فقام بأمرهم بعد مقاتل بن وترمار أخوه أبو زركن [1] بن وترمار، ثم ابنه يوسف بن أبي زركن، ثم آخرون من بعدهم لم تحضرني أسماؤهم إلى أن غلب عليهم بنو وترمار بن إبراهيم. وقد ذهبت لهذا العهد رياسة أولاد عمران جميعا، وصار بنو راشد هؤلاء خولا للسلطان وجباية، وبقيتهم بجبلهم على الحال التي ذكرناها، والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.   [1] وفي نسخة ثانية: تورزكن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 (الخبر عن بني توجين من شعوب بني يادين من أهل هذه الطبقة الثالثة من زناتة وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب الأوسط وأوّلية ذلك ومصايره) كان هذا الحيّ من أعظم أحياء بني يادين وأوفرهم عددا. وكانت مواطنهم حفافي وادي شلف قبلة جبل وانشريس من أرض السرسو، وهو المسمّى لهذا العهد نهر صا [1] وكان بأرض السرسو بجهة الغرب منه بطون من لواتة، وغلبهم عليها بنو وجديجن   [1] وفي نسخة ثانية: نهر واصل واما صاحب معجم البلدان فقد ذكر صا: بالقصر كورة بمصر، وصا مسماة بصا بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 ومطماطة. ثم صارت أرض السرسو لبني توجين هؤلاء واستضافوها الى مواطنهم الأولى وصارت مواطنهم ما بين موطن بني راشد وجبل دراك في جانب القبلة. وكانت لهم رياسة أيام صنهاجة لعطيّة بن دافلتن، وابن عمه لقمان بن المعتز كما ذكره ابن الرقيق. ولما كانت فتنة حمّاد بن بلكين مع عمه باديس، ونهض إليه باديس من القيروان حتى احتل بوادي شلف، تحيّز إليه بنو توجين هؤلاء، وكان لهم في حروب حمّاد آثار مذكورة. وكان لقمان بن المعتز أظهر من عطية بن دافلتن، وكان قومهم يومئذ زهاء ثلاثة آلاف. وأوفد لقمان ابنه بدرا على باديس قبل اللقاء طاعة له وانحياشا. فلما انهزم حمّاد رعى لهم باديس انحياشهم إليه، وسوّغ لهم ما غنموه، وعقد للقمان على قومه ومواطنه، وعلى ما يفتحه من البلاد بدعوته. ثم انفرد برياستهم بعد حين بنو دافلتن. ويقال إنه دافلتن بن أبي بكر بن الغلب. وكانت رياستهم لعهد الموحدين لعطية بن مناد بن العبّاس بن دافلتن، وكان يلقّب عطية الحيو. وكانت بينهم لعهده وبين بني عبد الواد حروب، كان متولي كبرها من بني عبد الواد شيخهم لذلك العهد عدوى بن يكنيجن [1] بن القاسم، فلم تزل تلك الفتنة بينهم إلى أن غلبهم بنو عبد الواد آخرا على مواطنهم كما نذكره. ولما هلك عطية الحيو قام بأمرهم أبو العبّاس، وكانت له آثار في الإجلاب على ضواحي المغرب الأوسط. ونقض طاعة الموحدين إلى أن هلك سنة سبع وستمائة، دسّ عامل تلمسان يومئذ أبو زيد بن لوحان [2] من اغتاله فقتله. وقام بأمرهم من بعده ابنه عبد القوي، فانفرد برياستهم وتوارثها عقبه من بعده كما نذكره. وكان من أشهر بطون بني توجين هؤلاء يومئذ بنو يدللتن وبنو قمري [3] وبنو مادون وبنو زنداك وبنو وسيل وبنو قاضي وبنو مامت، ويجمع هؤلاء الستة بنو مدن. ثم بنو تيغرين وبنو يرناتن وبنو منكوش، ويجمع هؤلاء الثلاثة بنو سرغين [4] ، ونسب بني زنداك دخيل فيهم، وإنما هم من بطون مغراوة. وبنو منكوش هؤلاء منهم عبد القوي بن العبّاس ابن عطية الحيو، هكذا رأيت نسبه لبعض مؤرّخي زناتة المنكوشي. وكانت رياسة بني   [1] وفي نسخة ثانية: يكنمن. [2] وفي نسخة ثانية: بوجان. [3] وفي نسخة ثانية: نمزي. [4] وفي نسخة ثانية: رسوغين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 توجين جميعا عند انقراض أمر بني عبد المؤمن لعبد القويّ بن العبّاس بن عطية الحيو، وأحياؤهم جميعا بتلك المجالات القبلية. فلمّا وهن أمر بني عبد المؤمن وتغلّب مغراوة على بسائط متيجة، ثم على جبل وانشريس، نازعهم عبد القوي هذا وقومه أمر وانشريس، وغالبوهم إلى أن غلبوهم عليه، واستقرّ في ملكهم وأوطنه بنو تيغرين وبنو منكوش من أحيائهم. ثم تغلبوا على منداس وأوطنها أحياء بني مدن جميعا. وكان الظهور منهم لبني يدللتن، ورياسة بني يدللتن لبني سلامة. وبقي بنو يرناتن من بطونهم بمواطنهم الأولى قبلة وانشريس. وكان من أحلاف بني عطية الحيو بنو تيغرين منهم خاصة، وأولاد عزيز بن يعقوب، ويعرفون جميعا بالوزراء [1] ولما تغلّبوا على الأوطان والتلول، وأزاحوا مغراوة عن المدية ووانشريس وتافركينت، واستأثروا بملكها وملك الأوطان عن غربيها مثل: منداس والجعبات وتاوغزوت، ورئيسهم لذلك العهد عبد القويّ بن العبّاس، والكل لأمره. فصار له ملك بدوي ولم يفارق فيه سكنى الخيام ولا أبعاد النجعة ولا ائتلاف الرحلتين. ينتابون في مشاتيهم إلى مصاب والزاب، وينزلون في المصايف بلادهم هذه من التل ولم يزل هذا شأن عبد القوي وابنه محمدا، إلى أن تنازع بنوه الأمر من بعده، وقتل بعضهم بعضا. وتغلّب بنو عبد الواد على عامّة أوطانهم وأحيائهم، واستبدّ عليهم بنو يرناتن وبنو يدللتن فصاروا إلى بني عبد الواد. وبقي أعقابهم بجبل وانشريس إلى أن انقرضوا على ما نذكره بعد. وكان عبد القويّ لما غلب مغراوة على جبل وانشريس، اختطّ حصن مرات، بعد أن كان منديل المغراوي شرع في اختطاطه، فبنى منه القصبة ولم يكمله، فأكمله محمد بن عبد القوي من بعده. ولما استبدّ بنو أبي حفص بأمر إفريقية، وصارت لهم خلافة الموحّدين نهض الأمير أبو زكريا إلى المغرب الأوسط، ودخلت في طاعته قبائل صنهاجة، وفرّت زناتة أمامه. وردّد إليهم الغزو فأصاب منهم. وتقبّض في بعض غزواته على عبد القوي بن العبّاس أمير بني توجين فاعتقله بالحضرة. ثم من عليه وأطلقه على أن يستألف له قومه، فصاروا شيعة له ولقومه آخر الدهر. ونهض الأمير أبو زكريا بعدها إلى تلمسان، فكان عبد القوي وقومه في جملته حتى إذا ملك   [1] وفي نسخة ثانية: بالحشم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 تلمسان، ورجع إلى الحضرة عقد لعبد القويّ هذا على قومه ووطنه، وأذن له في اتخاذ الآلة، فكانت أوّل مراسم الملك لبني توجين هؤلاء. وكانت حالهم مع بني عبد الواد تختلف في السلم والحروب. ولما هلك السعيد على يد يغمراسن وقومه كما ذكرناه، استنفر يغمراسن سائر أحياء زناتة لغزو المغرب، ومسابقة بني مرين إليه، فنفر معه عبد القوي في قومه سنة سبع وأربعين وستمائة وانتهوا إلى تازى، واعترضهم أبو يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين في قومه، فنكصوا واتبعهم إلى انكاد فكان اللقاء، وانكشفت جموع بني يادين وكانت الهزيمة التي ذكرناها في أخبار بني عبد الواد. وهلك عبد القوي مرجعه منها في سنته بالموضع المعروف باحمون [1] من مواطنهم. وتصدّى للقيام بعده بأمرهم ابنه يوسف، فمكث في تلك الإمارة أسبوعا، ثم قتله على جدث أبيه أخوه محمد بن عبد القويّ، وولي عهد أبيه سابع مواراته. وفرّ ابنه صالح بن يوسف إلى بلاد صنهاجة بجبال المدية، فأقام بها هو وبنوه. واستقلّ محمد برياسة بني توجين، واستغلظ ملكه، وكان الفحل الّذي لا يقرع أنفه. ونازعه يغمراسن أمره ونهض إلى حربه سنة تسع وأربعين وستمائة وعمد إلى حصن تافركينت فنازله، وبه يومئذ حافده عليّ بن زيان بن محمد في عصابة من قومه، فحاصره أياما وامتنعت عليه فارتحل عنها، ثم تواضعوا أوزار الحرب ودعاه يغمراسن إلى مثل ما دعا إليه أباه من غزو بني مرين في بلادهم فأجاب. ونهضوا سنة سبع وخمسين وستمائة ومعهم مغراوة فانتهوا إلى كلدمان ما بين تازى وأرض الريف. ولقيهم يعقوب بن عبد الحق في جموعه فانكشفوا ورجعوا منهزمين إلى بلادهم كما ذكرناه. وكانت بينه وبين يغمراسن بعد ذلك فتن وحروب، فنازله فيها بجبل وانشريس مرّات، وجاس خلال وطنه. ولم يقع بعدها بينهما مراجعة لاستبداد يغمراسن بالملك، وسمّوه إلى التغلّب على زناتة أجمع وبلادهم، وكانوا جميعا منحاشين إلى الدولة [2] الحفصيّة. وكان محمد بن عبد القوي كثير الطاعة للسلطان المستنصر. (ولما نزل) النصارى الإفرنجة بساحل تونس سنة ثمان وستين وستمائة وطمعوا في ملك الحضرة، بعث المستنصر إلى ملوك زناتة بالصريخ فصرفوا وجوههم إليه، وخفّ من بينهم محمد بن عبد القويّ في قومه ومن احتشد من أهل وطنه، ونزل على السلطان   [1] وفي نسخة ثانية: ماحنون، وفي نسخة أخرى: ماحيون. [2] وفي نسخة ثانية: الدعوة الحفصيّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 بتونس وأبلى في جهاد العدوّ أحسن البلاء، وكانت له في أيامه معهم مقامات مذكورة، ومواقف مشهورة، وعند الله محتسبة معدودة. ولما ارتحل العدوّ عن الحضرة وأخذ محمد بن عبد القويّ في الانصراف إلى وطنه، أسنى السلطان جائزته، وعمّ بالإحسان وجوه قومه وعساكره، وأقطعه بلاد مغراوة وأوماش من وطن الزاب، وأحسن منقلبه. ولم يزل بعد ذلك معتقلا بطاعته مستظهرا على عدوه بالانحياش إليه. ولما استغلظ بنو مرين على يغمراسن بعد استيلائهم على أمصار المغرب واستبدادهم بملكه، وصل محمد يده بهم في الاستظهار على يغمراسن، وأوفد ابنه زيّان بن محمد عليهم. ولما نهض يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان سنة سبعين وستمائة وأوقع بيغمراسن في الوقيعة التي هلك فيها ابنه فارس. نهض محمد بن عبد القوي للقائه ومرّ في طريقه بالبطحاء، وهي يومئذ ثغر لأعمال يغمراسن فهدمها. ولقي يعقوب بن عبد الحق في ساحة تلمسان مباهيا بآلته فأكرم يعقوب وفادته وبرّ مقدمه. ونازلوها أياما فامتنعت عليهم، وأجمعوا على الإفراج وتأذن لهم يعقوب بن عبد الحق متلوما عليها إلى أن يلحق محمد وقومه ببلادهم، حذرا عليهم من غائلة يغمراسن ففعل، وملأ حقائبهم باتحافه، وجنّب لهم مائة من الجياد العتاق بالمراكب الثقيلة، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب، وعمّهم بالصلات والخلع الفاخرة، واستكثر لهم من السلاح والفازات والأخبية والحملان وارتحلوا، ولحق محمد بن عبد القويّ بمكانه من جبل وانشريس، واتصلت حروبه مع يغمراسن، وكثر اجلابه على وطنه وعيثه في بلاده. وهو مع ذلك مقيم على موالاة يعقوب واتحافه بالعتاق من الخيل والمستجاد من الطرف. حتى أنّ يعقوب إذا اشترط على يغمراسن في مهادنته جعل سلمهم من سلمه، وحربهم من حربه، وبسببهم كان نهوض يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين وستمائة لما اشترط عليه ذلك، ولجّ في قبوله، فنهض إليه وأوقع به بخرزوزة. ثم أناخ عليه بتلمسان، ووافاه هنالك محمد بن عبد القويّ فلقيه بالقصاب [1] ، وعاثوا في نواحي تلمسان نهبا وتخريبا. ثم أذن يعقوب لمحمد وقومه في الانطلاق إلى بلادهم، وتلوم هو بمكانه من ضواحي تلمسان مدة منجاتهم إلى مكانهم من وانشريس حذرا عليهم من اعتراض   [1] وهي القصبات: مدينة بالمغرب من بلاد البربر: معجم البلدان. ابن خلدون م 14 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 يغمراسن. ولم يزل شأنهما ذلك إلى أن هلك يغمراسن بسدلونة [1] من بلاد مغراوة خاتمة إحدى وثمانين وستمائة وفي خلال ذلك استغاظ بنو مرين على بني عبد الواد، واستوسق لمحمد هذا ملكه، فتغلب على أوطان صنهاجة بجبال المدية، وأخرج الثعالبة من جبل تيطري بعد أن غدر بمشيختهم وقتلهم، فانزاحوا عنه إلى بسائط متيجة وأوطنوها. واستولى محمد على حصن المدية وهو المسمى بأهله لمديّة (بفتح اللام والميم وكسر الدال وتشديد الياء بعدها وهاء النسب في آخرها) . وهم بطن من بطون صنهاجة وكان المختط لها بلكّين بن زيري. ولما استولى محمد عليها وعلى ضواحيها انزل أولاد عزيز بن يعقوب من حشمه بها، وجعلها لهم موطنا وولاية. وفرّ بنو صالح ابن أخيه يوسف بن عبد القوي من مكانهم بين صنهاجة منذ مقتل أبيه يوسف كما ذكرناه. ولحقوا ببلاد الموحدين بإفريقية، فلقوهم مبرّة وتكريما. وأقطعوا لهم بضواحي قسنطينة، وكانوا يقولون عليهم أيام حروبهم وفي مواطن قتالهم. وكان من أظهرهم عمر بن صالح وابناه صالح ويحيى بن عمر، وحافده يحيى بن صالح بن عمر في آخرين مشاهير. وأعقابهم لهذا العهد بنواحي قسنطينة وفي إيالة الملوك من آل أبي حفص، يعسكرون معهم في غزواتهم ويبلون في حروبهم، ويقومون بوظائف خدمتهم. وكان الوالي من أولاد عزيز على المدية حسن بن يعقوب، وبنوه من بعده يوسف وعليّ، وكانت مواطنهم ما بين المدية وموطنهم الأوّل ماخنون. وكان بنو يدللتن أيضا من بني توجين قد استولوا على حصن الجعبات وقلعة تاوغزوت. ونزل القلعة كبيرهم سلامة بن علي مقيما على طاعة محمد بن عبد القوي وقومه، فاتصل ملك محمد بن عبد القوي في ضواحي المغرب الأوسط ما بين مواطن بني راشد إلى جبال صنهاجة بنواحي المدية، وما في قبلة ذلك من بلاد السرسو وجباله إلى أرض الزاب. وكان يبعد الرحلة في مشتاه فينزل الروسن ومغرة [2] والمسيلة. ولم يزل دأبه ذلك. ولما هلك يغمراسن سنة إحدى وثمانين وستمائة كما ذكرناه استجدّت الفتنة بين عثمان ابنه وبين محمد بن عبد القوى على أثر ذلك سنة أربع وثمانين وستمائة وولي من بعده ابنه سيّد الناس، فلم تطل مدّة ملكه. وقتله أخوه موسى لسنة أو نحوها من بعده مهلك أبيه. وقام موسى بن   [1] وفي نسخة أخرى: شدبوية ولم يذكرها ياقوت الحموي في معجمه. [2] وفي نسخة ثانية: الدوسن والمقرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 محمد في إمارة بني توجين نحوا من عامين. وكان أهل مرات من أشدّ أهل وطنه شوكة وأقواهم غائلة، فحدّثته نفسه أن يستلحم مشيختهم ويريح نفسه من محاذرتهم، فأجمع لذلك ونزلها، ونذروا بشأنه ورأيه فيهم فاستماتوا جميعا وثاروا به فقاتلهم. ثم انهزم مثخنا بالجراحة وألجئوه إلى مهاوي الحصن فتردّى منها وهلك. وولي من بعده عمر ابن أخيه إسماعيل بن محمد مدّة أربعة أعوام، ثم غدر به أولاد عمّه زيان بن محمد فقتلوه وولّوا كبيرهم إبراهيم بن زيان وكان حسن الولاية عليهم، يقال: ما ولي بعد محمد فيهم مثله. وفي خلال هذه الولايات استغلظ عليهم بنو عبد الواد واشتدّت وطأة عثمان بن يغمراسن عليهم بعد مهلك أبيهم محمد، فنهض إليهم سنة ست وثمانين وستمائة وحاصرهم بجبل وانشريس وعاث في أوطانهم ونقل زروعها إلى مازونة حين غلب عليها مغراوة. ثم نازل حصن تافركينت وملكها بمداخلة القائد بها غالب الخصيّ مولى سيّد الناس بن محمد، وقفل إلى تلمسان. ثم نهض إلى أولاد سلامة بقلعة تاوغزوت، وامتنعوا عليه مرارا، ثم أعطوه اليد على الطاعة ومفارقة بني محمد بن عبد القوي فنبذوا لهم العهد، وصاروا إلى إيالة عثمان بن يغمراسن. وفرضوا لهم المغارم على بني يدللتن. وسلك عثمان بن يغمراسن مسلك التضريب بين قبائل بني توجين وتحريضهم على إبراهيم بن زيّان أميرهم، فعدا عليه زكراز [1] بن أعجمي شيخ بني مادون وقتله بالبطحاء في إحدى غزواته لسبعة أشهر من ملكه. وولي بعده موسى بن زرارة بن محمد بن عبد القوي، بايع له بنو تيغرين واختلف سائر بني توجين فأقام بعض سنة. وعثمان بن يغمراسن في خلال هذا يستألف بني توجين شعبا فشعبا إلى أن نهض إلى جبل وانشريس فملكه. وفرّ أمامه موسى بن زرارة إلى نواحي المدية وهلك في مفرّه ذلك. ثم نهض عثمان إلى المدية سنة ثمان وثمانين وستمائة بعدها فملكها بمداخلة المدية من قبائل صنهاجة، غدروا بأولاد عزيز وأمكنوه منها. ثم انتقضوا عليه لسبعة أشهر ورجعوا إلى إيالة أولاد عزيز، فصالحوا عثمان بن يوسف على الإتاوة والطاعة كما كانوا مع محمد بن عبد القوي وبنيه، فملك عثمان بن يغمراسن عامّة بلاد توجين. ثم شغل بما دهمه من مطالبة بني مرين أيام يوسف بن يعقوب، فولّى على بني توجين من بني محمد بن عبد القوي أبو بكر بن إبراهيم بن محمد مدّة   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكدان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 عامين، أخاف فيها الناس وأساء السيرة. ثم هلك فنصب بنو تيغرين بعده أخاه عطية المعروف بالأصمّ، وخالفهم أولاد عزيز وجميع قبائل توجين فبايعوا ليوسف ابن زيان بن محمد. وزحفوا إلى جبل وانشريس فحاصروا به عطية وبني تيغرين عاما أو يزيد. وكان يحيى بن عطية كبير بني تيغرين هو الّذي تولّى البيعة لعطية الأصمّ. فلما اشتدّ بهم الحصار واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان ورغبه في ملك جبل وانشريس فبعث معه الجيوش لنظر أخيه أبي سرحان، ثم أخيه أبي يحيى. وكان نهوض أبي يحيى سنة إحدى وسبعمائة، فتوغّل في ناحية الشرق، ولما رجع صمد إلى جبل وانشريس، فهدم حصونه، وقفل ونهض ثانية إلى بلاد بني توجين فشرّدهم عنها، وأطاعه أهل تافركينت، ثم انتهى إلى المدية فافتتحها صلحا، واختطّ قصبتها ورجع إلى أخيه يوسف بن يعقوب، فانتقض أهل تافركينت بعد صدوره عنهم. ثم راجع بنو عبد القوي بصائرهم في التمسّك بالطاعة. ووفدوا على يوسف بن يعقوب فتقبّل طاعتهم وأعادهم إلى بلادهم، وأقطعهم. وولّى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي، وجعل وزارته ليحيى بن عطية فغلبه على دولته، واستقام ملكه. وهلك خلال ذلك فعقد يوسف بن بن يعقوب مكانه لمحمد بن عطية الأصمّ، واستقام على طاعته وقتا، ثم انتقض بين يدي مهلكه سنة ست وسبعمائة وحمل قومه على الخلاف. ولما هلك يوسف بن يعقوب وتجافى بنو مرين من بعدها لبني يغمراسن عن جميع الأمصار التي تملّكوها بالمغرب الأوسط، استمكن بنو يغمراسن منها ودفعوا المتغلّبين عنها. ولحق الفلّ من أولاد عبد القوي ببلاد الموحدين، فحلّوا من دولتهم محل الإيثار والتكرمة. وكان للعبّاس بن محمد بن عبد القوي مع الملوك من آل أبي حفص مقام الخلّة والمصافاة إلى أن هلك، وبقي عقبه في جند السلطان. ولما خلا الجوّ من هؤلاء المرشحين تغلّب على جبل وانشريس من بعدهم كبير بني تيغرين أحمد بن محمد من أعقاب يعلى بن محمد سلطان بني يفرن. فأقام يحيى بن عطية هذا في رياستهم أياما، ثم هلك، وقام بأمره من بعده أخوه عثمان بن عطية. ثم هلك وولي من بعده ابنه عمر بن عثمان، واستقل مع قومه بجبل وانشريس، واستقلّ أولاد عزيز بالمدية ونواحيها ورياستهم ليوسف وعليّ ابني حسن ابن يعقوب، والكل في طاعة أبي حمو سلطان بني عبد الواد لما غلبهم على أمرهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 وانتزع الرئاسة من بني عبد القوي [1] أمرائهم إلى أن خرج على السلطان أبي حمو ابن عمه يوسف بن يغمراسن، ولحق بأولاد عزيز فبايعوه وداخلوا في كشانة عمر بن عثمان كبير بني تيغرين وصاحب جبل وانشريس، فأجابهم وأصفق معهم سائر الأعشار ويكوشة [2] وبنو يرناتن. وزحفوا مع محمد بن يوسف إلى السلطان أبي حمو في عسكره بتهل ففضّوه، وكان من شأن فتنته معهم ما ذكرناه في أخبار بني عبد الواد إلى أن هلك السلطان أبو حمو وولي ابنه أبو تاشفين، فنهض إليهم في العساكر، وكان عمر بن عثمان قد لحقته الغيرة من مخالصة محمد بن يوسف لأولاد عزيز دون قومه، فداخل السلطان أبا تاشفين في الانحراف عنه، فلما نزل بالجبل، ولحق محمد بن يوسف بحصن توكال ليمتنع له، نزع عنه عمر بن عثمان ولحق بأبي تاشفين ودلّه على مكامن الحصن، فدلف إليه أبو تاشفين وأخذ بمخنقه. وافترق عن محمد بن يوسف أولياؤه وأشياعه فتقبّض عليه، وقيد أسيرا إلى السلطان أبي تاشفين فقتل بين يديه قعصا بالرماح سنة تسع عشرة وسبعمائة وبعث برأسه إلى تلمسان، وصلب شلوه بالحصن الّذي امتنع فيه أيام انتزائه. ورجع أمر وانشريس إلى عمر بن عثمان هذا، وحصلت ولايته لأبي تاشفين إلى أن هلك بتلمسان في بعض أيامهم مع بني مرين، أعوام نازلها السلطان أبو الحسن كما ذكرنا في أخبار الحصار. ثم لما تغلّب بنو مرين على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن ابنه نصر بن عمر على الجبل، وكان خير وال وفاء بالذمّة والطاعة [3] وخلوصا في الولاية، وصدقا في الانحياش، وإحسانا للمملكة، وتوفيرا للجباية. ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان، وتطاول الأعياص من زناتة إلى استرجاع ملكهم، انتزى بضواحي المدية من آل عبد القوي عديّ بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي، وناغى الخوارج في دعوتهم، واشتمل عليه بنو عزيز هؤلاء وبنو يرناتن جيرانهم، وزحف إلى جبل وانشريس لينال مع الحشم من يلي أمرهم والمداخلين لعدوّهم في قطع دابرهم، وكبيرهم يومئذ نصر بن عمر بن عثمان. وبايع نصر المسعود ابن أبي زبد بن خالد بن محمد بن عبد القوي من أعقابهم، ثم خلص إليهم من   [1] وفي نسخة ثانية: من بني عبد الواد. [2] وفي نسخة ثانية: منكوشة. [3] وفي نسخة ثانية: وفاء بأزمّة الطاعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 جملة عدي بن يوسف حذرا على نفسه من أصحابه. وقاتلهم عدي وقومه فامتنعوا عليه، ودارت بينهم حروب كانت العاقبة فيها والظهور لنصر بن عمر وقومه. ثم دخل عدي في جملة السلطان أبي الحسن لما خلص من تونس إلى الجزائر، وبقي مسعود بينهم وملّكه أبو سعيد بن عبد الرحمن لما ملك تلمسان هو وقومه. فلم يزل هنالك الى أن غلبهم السلطان أبو عنان، فسار في جملته بعد أن فرّ إلى زواوة. واستنزله منها ونقله إلى فاس، وانقضى ملكهم ودولتهم، وانقطع أثر بني محمد بن عبد القوي. وأقام نصر بن عمر في ولاية جبل وانشريس وعقد له السلطان أبو عنان عليه سائر دولته. ولم يزل قائما بدعوة بني مرين من بعده إلى أن غلبهم السلطان أبو حمو الأخير، وهو ابن موسى بن يوسف على الأمر، فأعطاه نصر الطاعة. ثم اضطرمت نار الفتنة بين العرب وبين بني عبد الواد أعوام سبعين وسبعمائة، وقاموا بدعوة أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمو، فانحاش نصر بن عمر إليهم، وأخذ بدعوة الأمير أبي زيان حينا. ثم هلك أيام تلك الفتنة وقام بأمرهم من بعده أخوه يوسف بن عمر متقبّلا مذاهبه. وهو لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة صاحب جبل وانشريس، وحاله مع أبي حمّو مختلف في الطاعة والخلاف، والله مالك الأمور، لا رب غيره ولا معبود سواه . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 (الخبر عن بني سلامة أصحاب قلعة تاوغزوت رؤساء بني يدللتن من بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وأوّليتهم ومصايرهم) كان بنو يدللتن هؤلاء من شعوب بني توجين وأشدّهم شوكة وأوفرهم عددا، وكان لهم ظهور من بين سائر تلك البطون. وكان بنو عبد القويّ ملوك بني توجين يعرفون لهم ذلك، ويوجبون لهم حقّه. ولما دخلوا إلى التلول بعد انقراض بني يلومي وبني ومانوا نزل بنو قاضي وبنو مادون بأرض منداس، فأوطنوها. وجاء بنو يدللتن على أثرهم، فأوطنوا الجعبات وتاوغزوت ورياستهم يومئذ لنصر بن سلطان بن عيسى. ثم هلك فقام بأمرهم ابنه مناد بن نصر، ثم أخوه عليّ بن نصر من بعده ثم ابنه إبراهيم بن عليّ من بعده. ثم هلك وقام بأمرهم أخوه سلامة بن عليّ على حين استفحل ملك عبد القويّ وبنيه، فاستفحل أمره هو في قومه واختطّ القلعة بتاوغزوت المنسوبة إليه وإلى بنيه، وكانت من قبل رباطا لبعض المنقطعين من عرب سويد. ويزعم بنو سلامة هؤلاء أنهم دخلاء في نسب توجين، وأنهم من العرب من بني سليم بن منصور. وجاء جدّهم عيسى أو سلطان نازعا عن قومه لدم أصابه فيهم، فخلطه شيخ بني يدللتن من بني توجين بنسبه، وكفل بنيه من بعده فكانت له سببا في رياسته على بني يدللتن وبنيه من بعده. ولما هلك سلامة بن علي قام بأمرهم من بعده ابنه يغمراسن بن سلامة، على حين استغلظ بنو عبد الواد على بني توجين من بعد مهلك محمد بن عبد القوي سلطانهم الأكبر. فكان عثمان بن يغمراسن يتردّد إلى بلادهم بالغزو، ويطيل فيها العيث. ونازل في بعض غزواته قلعتهم هذه، وبها يغمراسن فامتنع عليه. وخالفه يوسف بن يعقوب وبنو مرين إلى تلمسان، فأجفل على القلعة وسابق بني مرين إلى دار ملكه. واتبعه يغمراسن بن سلامة مغيرا في أعقابه، فكرّ عليه بالمكان المعروف بتليوان. ودارت بينهم هناك حروب هلك فيها يغمراسن بن سلامة، وقام بالأمر من بعده أخو محمد بن سلامة، فأذعن لطاعة عثمان بن يغمراسن، وخالف بنو عبد القوي وجعل الإتاوة على قومه ووطنه لملوك بني عبد الواد، فلم تزل عليهم لملوك تلمسان. ولحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 اخوه سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان يوسف بن يعقوب في غزوته التي حاصر فيها تلمسان حصاره الطويل، فرعى لسعد بن سلامة هجرته إليه وولّاه على بني يدللتن والقلعة. وفرّ أخوه محمد بن سلامة فلحق بجبل راشد وأقام هنالك الى أن هلك يوسف بن يعقوب ورجع أمر المغرب الأوسط لبني عبد الواد فوضعوا الإتاوة على بني توجين وأصاروهم الى الجباية. ولم يزل سعد على ولايته إلى أن هلك أبو حمو وولي تاشفين، فسخط سعدا وبعث عن أخيه محمد من جبل راشد، فولّاه مكانه. ولحق سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان أبي الحسن، ودخل أخوه محمد مع أبي تاشفين فانحصر بتلمسان، وولي سعد بن سلامة مكانه. ثم هلك محمد في بعض أيام الحصار وحروبه. ولما انقرض أمر بني عبد الواد رغب سعد من السلطان تخلية سبيله لقضاء فرضه، فحجّ وهلك مرجعه من الحج في طريقه. وعهد إلى السلطان أبي الحسن واستوصاه ببنيه على لسان وليّه عريف بن يحيى كبير بني سويد. فولّى السلطان أبو الحسن ابنه سليمان بن سعد على بني يدللتن والقلعة، وانتقض أمر السلطان أبي الحسن وعاد الأمر إلى أبي سعيد وأبي ثابت ابني عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، فكانت بينه وبينهم ولاية انحراف. وكان أولياؤهم من العرب بني سويد من زغبة لما كانوا جيرانهم في مواطنهم من ناحية القبلة، فطمع وترمار بن عريف شيخهم في التغلّب على وطن بني يدللتن، ومانعه دونه سليمان هذا، وبالغ في دفاعه إلى أن ملك السلطان أبو عنّان بلاد المغرب الأوسط، ورعى لوترمار وابنه عريف حق انحياشهم إليه وهجرتهم إلى قومه، فأقطع وترمار بن عريف القلعة وما إليها وجباية بني يدللتن أجمع. وألحق سليمان بن سعد بن سلامة في جنده ووجوه عسكره إلى أن هلك السلطان، وعاد الأمر لبني عبد الواد على يد أبي حمو الأخير، فولّي سليمان على القلعة وعلى قومه. واستغلظ أمر العرب عليه فاستراب سليمان هذا ونذر بالشرّ منه، فلحق بأولاد عريف، ثم راجع الطاعة فتقبّض عليه واغتاله، وذهب دمه هدرا. ثم غلبه العرب على عامّة المغرب الأوسط، وأقطع القلعة وبني يدللتن لأولاد عريف استئلافا لهم. ثم أقطعهم بني مادون ثم منداس، فأصبحت بطون بني توجين كلّها خولا لسويد وعبدا لجبايتهم إلّا جبل وانشريس فإنه لم يزل لبني تيغرين والوالي عليهم يوسف بن عمر منهم كما قلناه. ونظّم أبو حمو أولاد سلامة في جنده وأثبتهم في ديوانه وأقطعهم القصبات من نواحي تلمسان في عطائهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 وهم على ذلك لهذا العهد. وللَّه الخلق والأمر، لا ربّ سواه ولا معبود إلّا إيّاه، له الحكم وإليه ترجعون، وهو نعم المولى ونعم النصير، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم. الخبر عن بني يرناتن إحدى بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم من التقلب والامارة وذكر أوّليتهم ومصايره كان بنو يرناتن هؤلاء من أوفر قبائل بني توجين وأعزّهم جانبا وأكبرهم صيتا. ولما دخل بنو توجين إلى تلول المغرب الأوسط، أقاموا بمواطنهم الأولى ما بين واضون وزمتة [1] . ثم يعودون من القبلة يجولون جانبي نهر واصل من أعلى وادي شلف.   [1] وفي نسخة ثانية: رينه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 وكانت رياستهم في نصر بن عليّ بن تميم بن يوسف بن بونوال، وكان شيخهم مهيب ابن نصر منهم، وكان عبد القوي بن العبّاس وابنه محمد أمراء بني توجين يختصّونهم بالإثرة والتجلّة لمكانهم من قومهم، وما يؤنسون من عظيم عنائهم. وكان محمد بن عبد القوي في سلطانه يؤثر عليهم من الحشم أولاد عزيز، وكان واليهم لعهده وعهد بنيه عبو بن حسن بن عزيز. وقد كان أصهر مهيب بن نصر إلى عبد القوي في ابنته، فأنكحه إياها وولدت له نصر بن مهيب، فشرفت خؤولته لمحمد بن عبد القوي وعلا كعبه في إمارته. ثم ولي بعده ابنه عليّ بن نصر، وكان له من الولد نصر وعنتر وآخرون يعرفون بأمّهم، واسمها تاسرغينت. وولي بعده ابنه نصر بن علي فطال أمد إمارته في قومه. واختلف بنو عبد القوي وغلبهم بنو عبد الواد على ما بأيديهم، فصرفت ملوك زناتة وجه العناية إليه، فبعد صيته وعرف بنوه من بعده بشهرته، وكان ولودا فيقال: إنّه خلّف ثلاثة عشر من البنين، ما منهم إلّا صاحب حرب أو مقنب. ومن مشاهيرهم عمر الّذي قتله السلطان أبو الحسن بمرات حين سعى به أنه داخل في اغتياله، ففرّ وأدرك فقتل بمرات. ومنهم منديل الّذي قتله بنو تيغرين أيام ولّوا عليّ ابن الناصر وقتلوا معه عبو بن حسن بن عزيز، ومنهم عنّان ومات قتيلا في حصار تلمسان أيام أبي تاشفين، ومنهم مسعود ومهيب وسعدو وداود وموسى ويعقوب والعبّاس ويوسف في آخرين معروفين عندهم. هذا شأن أولاد نصر بن علي بن نصر ابن مهيب. وأمّا ولد عنتر أخيه فكان منهم أبو الفتوح بن عنتر. ثم من ولده عيسى بن أبي الفتوح، فكان رئيسا على بني أبيه، وكانت إحدى وصائفهم سقطت بدار عثمان بن يغمراسن، وادّعت الحمل من سيّدها أبي الفتوح، وجاءت بأخ لعيسى يسمّى معروفا، ربّي بدارهم. واستوزره أبو حمو وابنه من بعده، وبلغ المبالغ في دولتهم وكان يدعى معروفا الكبير. ولحق به أيام رياسته في دولة أبي حمو الأوّل أخوه عيسى ابن أبي الفتوح مغاضبا لقومه، فسعى له في الولاية على بني راشد وجباية أوطانهم، وأنزله بلد سعيدة، فكانت له بها إمارة، وكان له من الولد أبو بكر وعبو وطاهر ووترمار، وعند ما غلب بنو مرين على بني عبد الواد ولّاهم السلطان أبو الحسن على بني يرناتن متداولين وأما ولد تاسرغينت من بني علي بن نصر بن مهيب، فلم يكن لهم ذكر في رياسة قومهم، إلا أنّ بعض وصائفهم سقطت أيضا إلى دار أبي تاشفين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 فولدت غلاما يعرف بعطية بن موسى نشأ في دارهم ينسب إلى بني تاسرغينت هؤلاء. وتناولته النجابة في خدمتهم، فولّوه الأعمال النبيهة، وهو لهذا العهد عامل أبي حمو الأخير على شلف وما إليها. وقد غلب العرب لهذا العهد على وطن بني يرناتن، وملكوا عليهم يعود ماحنون. وبقيت صبابتهم بجبل ورنيد [1] . وعليهم لهذا العهد سعيد بن عمر من ولد نصر بن عليّ بن نصر بن مهيب، يعطون المغرم للسلطان ويصانعون العرب بالإتاوة. وبيد الله تصاريف الأمور سبحانه لا رب غيره.   [1] وفي نسخة ثانية: جبل ورينة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 الخبر عن بني مرين وأنسابهم وشعوبهم وما تأثلوا بالمغرب من السلطان والدولة التي استعملت سائر زناتة وانتظمت كراسيّ الملك بالعدوتين وأولية ذلك ومصايره قد ذكرنا أنّ بني مرين هؤلاء من شعوب بني واسين، وذكرنا نسب واسين في زناتة، وذكرنا أنهم بنو مرين بن ورتاجن بن ماخوخ بن جديج بن فاتن بن يدر بن يخفت ابن عبد الله بن ورتنيص بن المعز بن إبراهيم بن سجيك بن واسين، وأنهم إخوة بني يلومي ومديونة. وربّما يشهد بذلك جوار مواطنهم قبل الملك ما بين صا [1] وملويّة. وذكرنا كيف اقتسموا الضاحية والقفر مع إخوانهم بني بادين [2] بن محمد، وكيف اتصلت فتنتهم معهم سائر أيامهم. وكان الغلب أولا لبني بادين بن محمد لكثرة عددهم، فإنّهم كما ذكرنا خمسة بطون: بنو عبد الواد وتوجين ومصاب، وبنو زردال وإخوانهم بنو راشد بن محمد. وكانوا أهل تلول المغرب الأوسط دونهم. وبقي هذا الحي من بني مرين بمجالات القفر من فيكيك إلى سجلماسة إلى ملويّة. وربما يتخطّون في ظعنهم إلى بلاد الزاب. ويذكر نسّابتهم أن الرئاسة فيهم قبل تلك العصور كانت لمحمد بن ورزين [3] بن فكوس بن كوماط بن مرين، وأنه كان لمحمد إخوة آخرون يعرفون بأمهم تنالفت. وكان بنو عمّه ونكاسن بن فكوس. وكان لمحمد من الولد سبعة: شقيقان وهما حمامة وعسكر. وأبناء علات أمهات أولاد، وهم سنكمان وسكميان وسكم ووراغ وقزونت [4] وتسمّى هذه الخمسة في لسانهم تيريغين، ومعناه عندهم الجماعة. يزعمون أن محمدا لما هلك قام بأمره في قومه ابنه حمامة، وكان الأكبر. ثم من بعده أخوه عسكر، وكان له من الولد ثلاثة: نكوم وأبو يكنى، ويلقب المخضّب، وعلي ويلقّب لاعدر. ولما هلك قام برياسته فيهم ابنه المخضّب، فلم يزل أميرا عليهم إلى أن كان أمر الموحّدين. وزحف عبد المؤمن إلى تاشفين بن علي بن يوسف، فحاصره   [1] كذا، وهو وادي (زا) . (وقد مرّ معنا من قبل ولم نجد له ذكر في معجم البلدان) . [2] وفي نسخة ثانية: بني يادين. [3] كذا، وفي نسخة: ورزير. [4] كذا، وفي نسخة: فرونت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 بتلمسان. وسرّح الشيخ أبا حفص في العساكر لحرب زناتة بالمغرب الأوسط، وجمع له بنو بادين كلّهم وبنو يلومي وبنو مرين ومغراوة، ففضّ الموحّدون جموعهم واستلحموا أكثرهم. ثم راجع بنو يلومي وبنو بادين طاعتهم، وأخلص بنو عبد الواد في خدمتهم ونصيحتهم. ولحق بنو مرين بالقفر، فلما غلب عبد المؤمن على وهران واستولى على أموال لمتونة وبعث ذخيرتهم بتلك الغنائم إلى جبل تين ملّل حيث داره، ومن أين كان منبعث الدعوة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بمكانهم من الزاب، وشيخهم يومئذ المخضّب بن عسكر، فأجمع اعتراضهما بقومه. ولحق العير بوادي تلاغ، فاحتازها من أيدي الموحدين. واستنفر عبد المؤمن لاستنقاذها أولياءه من زناتة، وسرّحهم مع الموحدين لذلك، فأبلى بنو عبد الواد فيها بلاء حسنا. وكان اللقاء في فحص مسون، وانكشف بنو مرين، وقتل المخضّب بن عسكر، واكتسح بنو عبد الواد حللهم، وذلك سنة أربعين وخمسمائة. فلحق بنو مرين بعدها بصحرائهم ومجالات قفرهم، وقام بأمرهم من بعد المخضّب أبو بكر ابن عمّه حمامة ابن محمد إلى أن هلك، فقام بأمره ابنه محيو، ولم يزل مطاعا فيهم إلى أن استنفرهم المنصور لغزاة الأركة، فشهدوها وأبلوا البلاء الحسن. وأصابت محيو يومئذ جراحة انتقضت عليه مرجعه منها، فهلك بصحراء الزاب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وكان من رياسة عبد الحق ابنه من بعده، وبقائها في عقبه ما نذكره إن شاء الله تعالى . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 الخبر عن إمارة عبد الحق بن محيو المستقرة في بنيه وإمارة ابنه عثمان من بعده ثم أخيه محمد بن عبد الحق بعدهما وما كان فيها من الأحداث لمّا هلك محيو بن أبي بكر بن حمامة من جراحته كما قلناه، وكان له من الولد عبد الحق ووسناف ويحياتن. وكان عبد الحق أكبرهم، فقام بأمر بني مرين، وكان خير أمير عليهم قياما بمصالحهم وتعففا عما في أيديهم، وتقويما لهم على الجادة ونظرا في العواقب، واستمرّت أيامهم. ولما هلك الناصر رابع خلفاء الموحّدين بالمغرب سنة عشر وستمائة مرجعه من غزاة العقاب، وقام بأمر الموحّدين من بعده ابنه يوسف المستنصر، نصبه الموحّدون للأمر غلاما لم يبلغ الحلم. وشغلته أحوال الصبا وجنونه عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم وأغفل الأمور. وتواكل الموحّدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه. ونفس عن مخنقهم من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور وضعفت الحامية. وتهاونوا بأمرهم، وفشلت ريحهم. وكان هذا الحي لذلك العهد بمجالات القفار، من فيكيك الى صا وملويّة كما قدمناه من شأنهم. وكانوا يطرقون في صعودهم إلى التلول والأرياف منذ أول دولة الموحدين وما قبلها جهات كرسيف إلى وطاط، ويأنسون بمن هنالك من بقايا زناتة الأولى: مثل مكناسة بجبال تازى، وبني يرنيان من مغراوة الموطنين قصور وطاط من أعالي ملوية. فيتقلّبون بتلك الجهات عام المربع والمصيف، وينحدرون إلى مشاتيهم بما امتاروه من الحبوب لأقواتهم. فلما رأوا من اختلال بلاد المغرب ما رأوا انتهزوا فيها الفرصة، وتخطّوا إليها القفر، ودخلوا ثناياه، وتفرّقوا في جهاته. وأرجفوا بخيلهم وركابهم على ساكنه، واكتسحوا بالغارة والنهب عامة بسائطهم. ولجأت الرعايا إلى معتصماتهم ومعاقلهم، وكثر شاكيهم. وأظلم الجو بينهم وبين السلطان والدولة، فآذنوهم بالحرب وأجمعوا لغزوهم وقطع دابرهم. وأغرى الخليفة المستنصر عظيم الموحّدين أبا علي بن وانودين بجميع العساكر والحشود من مراكش، وسرّحه إلى السيد أبي إبراهيم ابن أمير الموحّدين يوسف بن عبد المؤمن بمكانه من إمارة فاس. وأوعز إليه أن يخرج لغزو بني مرين، وأمره أن يثخن ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 يستبقي. واتصل الخبر ببني مرين وهم في جهات الريف وبلاد بطويّة، فتركوا أثقالهم بحصن تازوطا، وصمدوا إليهم. والتقى الجمعان بوادي نكور، فكان الظهور لبني مرين والدبرة على الموحّدين. وامتلأت الأيدي من أسلابهم وأمتعتهم، ورجعوا إلى تازى وفاس عراة يخصفون عليهم من ورق النبات المعروف عند أهل المغرب بالمشغلة. يوارون به سوءاتهم لكثرة الخصب عامئذ، واعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلّاء. حتى لقد سميت الواقعة يومئذ بعام المشغلة. وصمد بنو مرين بعدها إلى تازى، ففلّوا حاميتها أخرى. ثم اختلفت بنو محمد رؤساؤهم وانتبذ عنهم من عشائرهم بنو عسكر بن محمد، لمنافسة وجدوها في أنفسهم من استقلال بني عمهم حمامة بن محمد بالرياسة دونهم، بعد أن كان أومض عندهم منها في عسكر، وابنه المخضّب إيماض من أخلف بارقه. فحالفوا عبد الحق أميرهم وقومه إلى مظاهرة أولياء الموحدين، وحامية المغرب من قبائل رياح الموطنين بالهبط وأزغار لحديث عهدهم بالتوحّش والعزّ منذ إنزال المنصور إيّاهم بذلك القطر من إفريقية، فتحيّزوا إليهم وكاثروهم على قومهم. وصمدوا جميعا للقاء بني مرين سنة أربع عشرة وستمائة، ودارت بينهم حرب تولّى الصبر مقامها. وهلك فيها أميرهم عبد الحق وكبير بنيه إدريس. وتذامر لمهلكها بنو مرين. وجلّى في تلك الحومة حمامة بن يصليتن من بني عسكر، والأمير ابن محيو السكمي. فانكشفت رياح آخرا، وقتل منهم أبطال. وولّى بنو مرين عليهم بعد مهلك عبد الحق ابنه عثمان تلو إدريس، وشهرته بينهم أدرغال، ومعناه برطانتهم الأعور. وكان لعبد الحق من الولد عشرة، تسعة ذكور وأختهم ورتطليم: فإدريس وعبد الله ورحو لامرأة من بني علي اسمها سوط النساء، وعثمان ومحمد لامرأة من بني ونكاسن اسمها النّوار بنت تصاليت، وأبو بكر لامرأة من بني تنالفت وهي تاغزونت بنت أبي بكر بن حفص، وزيّان لامرأة من بني ورتاجن، وأبو عياد لامرأة من بني وللوى إحدى بطون عبد الواد واسمها أم الفرج، ويعقوب لأم اليمن بنت محلى من بطوية. وكان أكبرهم إدريس الهالك مع أبيه عبد الحق، فقام بأمر بني مرين من بعد عبد الحق ابنه عثمان، بايعه لوقته حمامة بن يصليتن ولمير بن محيو ومن إليهما من مشيخة قومهما. واتبعوا منهزمة رياح وأثخنوا فيهم. وثار عثمان بأبيه وأخيه حتى شفا نفسه منهم ولاذوا بالسلم، فسالمهم على أتاوة يؤدونها إليه وإلى قومه كل سنة. ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 استشرى من بعد ذلك داء بني مرين وأعضل خطبهم، وكثر الثّوار بالمغرب، وامتنع عامة الرعايا عن المغرم، وفسدت السابلة. واعتصم الأمراء والعمّال من السلطان فمن دونه بالأمصار والمدن، وغلبوا أولئك على الضاحية. وتقلّص ظل الحكّام عن البدو جملة. وافتقد بنو مرين الحامية دون الوطن والدفاع، فمدوا إلى البلاد يدا. وسار بهم أميرهم أبو سعيد عثمان بن عبد الحق في نواحي المغرب يتقرى مسالكه وشعوبه، ويضع المغارم على أهله حتى دخل أكثرهم في أمره، فبايعه من الظواعن الشاوية والقبائل الآهلة: هوّارة وزكارة، ثم تسول ومكناسة، ثم بطوية وقشتالة، ثم سدراتة وبهلولة ومديونة. ففرض عليهم الخراج وألزمهم المغارم، وفرّق فيهم العمّال. ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس وتازى ومكناسة وقصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها إليه على رأس كل حول، على أن يكفّ الغارة عنهم ويصلح سابلتهم. ثم غزا ظواعن زناتة سنة عشرين وستمائة، وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وقبض أيديهم عمّا امتدت إليه من الفساد والنهب. وعطف بعدها على رياح أهل أزغار والهبط وأثأر به بأبيه، فأثخن فيهم وأبادهم. ولم يزل دأبه ذلك إلى أن هلك باغتيال علجة سنة سبع وثلاثين وستمائة. وقام بأمر بني مرين من بعده أخوه محمد بن عبد الحق، فتقبّل سنن أخيه في تدويخ بلاد المغرب وأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم والوضائع من ظواعنه وبدوه وسائر رعاياه. وبعث الرشيد أبا محمد بن وانودين لحربهم. وعقد له على مكناسة، فدخلها وأجحف بأهلها في المغارم. ثم نزل بنو مرين بمتيجة وغيرها من ضواحيها، فنادى في عساكره وخرج إليهم، فدارت بينهم حرب شديدة هلك فيها خلق من الجانبين. وبارز محمد بن إدريس بن عبد الحق قائدا من الروم، واختلفا ضربتين هلك العلج بإحداهما، وانجرح محمد في وجهه بالأخرى. واندمل جرحه، فصار أثر في وجهه لقب من أجله أبا ضربة. ثم شدّ بنو مرين على الموحّدين، فانكشفوا ورجع ابن وانودين إلى مكناسة مفلولا. وبقي بنو عبد المؤمن أثناء ذلك في مرض من الأيام، وتثاقل عن الحماية. ثم أومضت دولتهم آخرا إيماض الخمود. وذلك أنه لما هلك الرشيد بن المأمون سنة أربعين وستمائة، وولي أخوه علي وتلقّب بالسعيد، وبايعه أهل المغرب، انصرفت عزائمه إلى غزو بني مرين، وقطع أطماعهم عما سمت إليه من تملّك الوطن، فأغزى عسكر الموحّدين لقتالهم، ومعهم قبائل العرب والمصامدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 وجموع الروم. فنهضوا سنة اثنتين وأربعين وستمائة في جيش كثيف يناهز عشرين ألفا فيما زعموا. وزحف إليهم بنو مرين بوادي ياباش، وصبر الفريقان، وهلك الأمير محمد بن عبد الحق في الجولة بيد زعيم من زعماء الروم. وانكشفت بنو مرين واتبعهم الموحدون، ودخلوا تحت الليل، فلحقوا بجبال غياثة من نواحي تازى واعتصموا بها أياما. ثم خرجوا إلى بلاد الصحراء، وولّوا عليهم أبا يحيى بن عبد الحق، فقام بأمرهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن دولة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بني مرين وفاتح الأمصار ومقيم الرسوم الملوكية من الآلة وغيرها لمن بعده من امرائهم لما ولي أبو يحيى بن عبد الحق أمر بني مرين سنة اثنتين وأربعين وستمائة، كان من أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه، أن قسّم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين عشائر بني مرين. وأنزل كلّا منهم في ناحية تسوّغها سائر الأيام طعمة. فاستركبوا الرجل أتباعهم، واستلحقوا من غاشيتهم، وتوفّرت عساكرهم. ثم نبضت نار المنافسة بين أحيائهم، وخالف بنو عسكر جماعتهم، وصاروا إلى الموحدين، فحرّضوهم على أبي يحيى بن عبد الحق وبني حمامة وأغروهم بهم. وبعثوا الصريخ إلى يغمراسن بن زيان، فوصل في قومه إلى فاس. واجتمعوا جميعا إلى قائد الموحّدين. وأعطوا الرهن على صدق البلاء في الأمير أبي يحيى وأتباعه. وصمدوا إليه حتى انتهوا إلى ورغة، ثم إلى كرت [1] . وأعجزهم فانكفّوا راجعين إلى فاس. ونذر يغمراسن بغدر الموحدين، فخرج في قومه مع أوليائه بني عسكر. وعارضهم الأمير أبو يحيى بوادي سبو، فلم يطق حربهم. ورجع عنهم عسكر الموحدين بما صرخ في معسكرهم من موت الخليفة السعيد. ثم بعثوا إليهم لملاطفتهم في الفيئة إلى الطاعة ومذاهب الخدمة، القائد عنبر الخصيّ مولى الخليفة في حصّة من الروم والناشبة، فتقبّض عليهم بنو عسكر وتمسّكوا بهم في رهنهم. وقتلوا كافة النصارى، فأطلق أبناءهم ولحق   [1] هي كرت: مدينة في أقصى بلاد المغرب قرب بلاد السودان وربما قبلت بالثاء. (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 يغمراسن وقومه بتلمسان. ثم رجع بنو عسكر إلى ولاية أميرهم أبي يحيى. واجتمع بنو مرين لشأنهم وتملّكوا الأعمال. ثم مدوا عينهم إلى تملّك الأمصار، فنزل أبو يحيى بجملته جبل زرهون. ودعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب إفريقية، لما كان يومئذ على دعوته وفي ولايته، فحاصرها وضيّق عليها بقطع المرافق وترديد الغارات ومعاودة الحرب، إلى أن أذعنوا لطاعته، فافتتحها صلحا بمداخلة أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعيمها أبي الحسن بن أبي العافية. وبعثوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة، كان قاضيا فيهم يومئذ، فأقطع السلطان ليعقوب ثلث جبايتها، ثم أحسّ الأمير أبو يحيى بن عبد الحق من نفسه الاستبداد، ومن قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة. وبلغ الخبر إلى السعيد بتغلّبه على مكناسة وصرفها إلى دعوة ابن أبي حفص، فوجم لها وفاوض الملأ من أهل دولته في أمره، وأراهم كيف اقتطع الأمر عنهم شيئا فشيئا: فابن أبي حفص اقتطع إفريقية. ثم يغمراسن بن زيّان وبنو عبد الواد اقتطعوا تلمسان والمغرب الأوسط، وأقاموا فيها دعوة ابن أبي حفص، وأطمعوه في الحركة إلى مراكش بمظاهرتهم. وابن هود اقتطع عدوة الأندلس، وأقام فيها دعوة بني العباس، وابن الأحمر في الجانب الآخر مقيم لدعوة ابن أبي حفص. وهؤلاء بنو مرين تغلّبوا على ضواحي المغرب، ثم سموا إلى تملّك الأمصار. ثم افتتح أميرهم أبو يحيى مكناسة وأظهر فيها دعوة ابن أبي حفص، وجاهر بالاستبداد. ويوشك إن رضينا هذه الدّنيّة، وأغضينا عن هذه الواقعات، أن يختلّ الأمر أو تنقرض الدعوة. فتذامروا وامتعضوا وتداعوا للصمود إليهم، فجهّز السعيد عساكره. واحتشد عرب المغرب وقبائله، واستنفر الموحدين والمصامدة، ونهض من مراكش سنة خمس وأربعين وستمائة يريد مكناسة: وبني مرين أوّلا، ثم تلمسان ويغمراسن ثانيا، ثم إفريقية وابن أبي حفص آخرا. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت. ووصل الأمير أبو يحيى إلى معسكره متواريا عنهم عينا لقومه، حتى صدقهم كنه الخبر. وعلم أن لا طاقة له بهم، فأفرج عن البلاد. وتناذر بنو مرين بذلك من أماكنهم، فتلاحقوا به واجتمعوا إليه بتازوطا من بلاد الريف. ونزل سعيد مكناسة، ولاذ أهلها بالطاعة، وسألوا العفو عن الجريرة. واستشفعوا بالمصاحف، برز بها الأولاد على رءوسهم، وانتظموا مع النساء في صعيد حاسرات منكسرات الطرف من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 الخشوع ووجوم الذنب والتوسّل. فعفا عنهم وتقبّل فيئهم، وارتحل إلى تازى في اتباع بني مرين. وأجمع بنو أوطاس الفتك بأبي يحيى بن عبد الحق غيرة ومناسفة، ودس إليه بذلك مهيب من مشيختهم، فترحّل عنهم إلى بلاد بني يزناسن، ونزل بعين الصفا. ثم راجع نظره في مسالمة الموحّدين والفيئة إلى أمرهم ومظاهرتهم على عدوّهم يغمراسن وقومه من بني عبد الواد، ليكون فيها شفاء نفسه منهم، فأوفد مشيخة قومه عليه بتازى، فأدوا طاعته وفيئته، فتقبّلها وصفح لهم عن الجرائر التي أتوها. وسألوه أن يستكفي بالأمير أبي يحيى في أمر تلمسان ويغمراسن، على أن يمده بالعساكر رامحة وناشبة، فاتهمهم الموحدون وحذروا منهم غائلة العصبيّة، فأمرهم السعيد بالعسكرة معه، فأمده الأمير أبو يحيى بخمسمائة من قبائل بني مرين. وعقد عليهم لابن عمه أبي عياد بن يحيى بن أبي بكر بن حمامة، وخرجوا تحت رايات السلطان. ونهض من تازى يريد تلمسان وما وراءها، وكان من خبر مهلكه على جبل تامززدكت بيد بني عبد الواد ما ذكرناه في أخبارهم. ولما هلك وانفضت عساكره متسابقين إلى مراكش، وجمهورهم مجتمعون إلى عبد الله ابن الخليفة السعيد ولي عهده، وتحت رايات أبيه. وطار الخبر بذلك إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، وهو بجهات بني يزناسن. وقد خلص إليه هنالك ابن عمه أبو عياد. وبعث بني مرين من تيار تلك الصدمة، فانتهز الفرصة وأرصد لعسكر الموحدين وفلّهم بكرسيف، فأوقع بهم وامتلأت أيدي بني مرين من أسلابهم، وانتزعوا الآلة من أيديهم. وأصار إليه كتيبة الروم والناشبة من الغزو، واتخذ الموكب الملوكي. وهلك الأمير عبد الله بن السعيد في جوانب تلك الملحمة، ويئسوا للموحدين بعدها من الكرّة. ونهض الأمير أبو يحيى وقومه إلى بلاد المغرب مسابقين إليه يغمراسن بن زيان بما كان ملوك الموحدين، أوجدوهم السبيل إلى ذلك باستجاشة على بني مرين أيام فتنتهم معهم، فكانوا يبيحونه حرم المغرب ويوطئونه عساكر قومه ما بين تازى إلى فاس، إلى القصر مع عساكر الموحدين، فكان ليغمراسن وقومه بذلك طمع فيها لولا ما كبحهم فأس بني مرين وجدّع من أنوفهم. وكان أول ما بدأ به أبو يحيى بن عبد الحق أعمال وطاط، فافتتح حصونهم بملوية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 ودوّخ جبلهم. ثم رحل إلى فاس، وقد أجمع أمره على انتزاعها من ملكة بني عبد المؤمن، وإقامة الدعوة لابن أبي حفص بها وبسائر نواحيها. والعامل بها يومئذ السيد أبو العبّاس، فأناخ عليها بركابه. وتلطّف في مداخلة أهلها، وضمن لهم جميل النظر وحميد السياسة. وكفّ الأيدي عنهم، والحماية لهم بحسن المغبّة، وصالح العائدة، فأجابوه ووثقوا بعهده وعنائه. وآووا إلى ظلّه وركنوا إلى طاعته، وانتحال الدعوة الحفصيّة بأمره. ونبذوا طاعة بني عبد المؤمن يأسا من صريخهم وكثرتهم. وحضر أبو محمد القشتالي، وأشهده الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذبّ عنهم، وحسن الملكة والكفالة. وتقبّل مذاهب العدل فيهم، فكان حضوره ملاك تلك العقدة والبركة التي يعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة. وكانت البيعة بالرابطة خارج باب الفتوح. ودخل إلى قصبة فاس لشهرين اثنين من مهلك السعيد، فاتح ست وأربعين وستمائة. وأخرج السيد أبا العبّاس من القصبة، وبعث معه خمسين فارسا أجازوه أم ربيع ورجعوا. ثم نهض إلى منازلة تازى، وبها السيد أبو علي، فنازلها أربعة أشهر. ثم نزلوا على حكمه، فقتلهم ومن على آخرين منهم. وسدّ ثغرها، وثقف أطرافها، وأقطع رباط تازى وحصون ملويّة لأخيه يعقوب بن عبد الحق. ورجع إلى فاس، فوفد عليه بها مشيخة أهل مكناسة، وجددوا بيعتهم وعاودوا طاعتهم. ولحق بهم على أثرهم أهل سلا ورباط الفتح، فتملّك الأمير أبو يحيى هذه البلاد الأربعة أمّهات أمصار المغرب. واستولى على نواحيها إلى وادي أم ربيع، فأقام فيها دعوة ابن أبي حفص، وبعث بها إليه. واستبدّ بنو مرين بملك المغرب الأقصى، وبنو عبد الواد بملك المغرب الأوسط، وبنو أبي حفص بإفريقية. وخمد ذبال آل عبد المؤمن، وركدت ريحهم، وآذنت بالانقراض دولتهم، وأشرف على الفناء أمرهم. وإلى الله عاقبة الأمور. الخبر عن انتقاض أهل فاس على أبي يحيى بن عبد الحق وظفره بهم بعد إيقاعه بيغمراسن وقومه بايسلى لما ملك الأمر أبو يحيى بن عبد الحق بمدينة فاس سنة ست وأربعين وستمائة، استولى على بلاد المغرب بعد مهلك السعيد. وقام بأمر الموحّدين بمراكش أبو حفص عمر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 المرتضى ابن السيّد أبي إبراهيم إسحاق الّذي كان قائد عسكر الموحدين في حربهم مع بني مرين عام المشغلة، ابن أمير المؤمنين أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. كان السعيد تركه واليا بقصبة رباط الفتح من سلا، فاستدعاه الموحدون وبايعوه بيعة الخلافة. وقام بأمرهم، فلما تغلّب الأمير أبو يحيى على بلاد المغرب وملك مدينة فاس كما ذكرناه، خرج إلى بلاد فازاز والمعدن لفتح بلاد زناتة وتدويخ نواحيها. واستعمل على فاس مولاه السعود بن خرباش، من جماعة الحشم أخلاف بني مرين وصنائعهم. وكان الأمير أبي يحيى استبقى بها من كان فيها من عسكر الموحدين من غير عيصهم في السبيل التي كانوا عليها من الخدمة. وكان فيهم طائفة من الروم، استخدمهم إلى نظر قائدهم شأنه، وكانوا من حصّة السعود هنالك. ووقعت بينهم وبين شيع الموحدين من أهل البلد مداخلة، وفكوا بالسعود عاملهم وقلبوا الدعوة للمرتضى الخليفة بمراكش سكيت الحلبة ومخلف المضمار. وكان المتولي لكبر تلك الثورة ابن حشّار المشرف وأخوه وابن أبي طاهر [1] وابنه، اجتمعوا إلى القاضي أبي عبد الرحمن المغيلي، زعيم فئة الشورى بينهم يومئذ وتوامروا فيها. وأغروا قائد الروم بقتل السعود، وعدوا عليه بمقعد حكمه من القصبة، وهاجوه ببعض المحاورات فغضب. ووثب عليه الرومي، فقتله وطاف برأسه الهاتف بسكك المدينة في شوال سنة سبع وأربعين وستمائة. وانتهبت داره، واستبيحت حرمه. ونصبوا قائد الروم لضبط البلد، وبعثوا بيعتهم إلى المرتضى. واتصل الخبر بالأمير أبي يحيى، وهو منازل بلد فازاز، فأفرج عنها. وأغذّ السير إلى فاس، فأناخ بعساكره عليها. وشمّر لحصارها، وقطع السابلة عنها. وبعثوا إلى المرتضى بالصريخ، فلم يرجع إليهم قولا، ولا ملك لهم ضرّا ولا نفعا، ولا وجّه لما نزل بهم وجها. حاشا إنّه استجاش بالأمير أبي يحيى يغمراسن بن زيان على أمره، وأغراه بعدوه، وأمّله لكشف هذه النازلة عمن انحاش إلى طاعته. وتعلّقت أطماع يغمراسن بطروق بلاد المغرب، فاحتشد لحركته. ونهض من تلمسان للأخذ بحجزة الأمير أبي يحيى عن فاس، وإجابة صريخ الخليفة لذلك. وبلغ الأمير أبا يحيى خبر نهوضه إليه لتسعة أشهر من منازلته البلد، فجمّر الكتائب عليها.   [1] كذا، في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: طاطو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 صمد إليه قبل وصوله من تخوم بلاده، والتقى الجمعان بايسلى من بسائط وجدة، فتزاحف القوم وأبلوا. وكانوا ملحمة عظيمة، هلك فيها عبد الحق بن محمد بن عبد الحق بيد إبراهيم بن هشام من بني عبد الواد. ثم انكشف بنو عبد الواد، وهلك يغمراسن بن تاشفين من أكابر مشيختهم، ونجا يغمراسن بن زيّان إلى تلمسان. وانكفأ الأمير أبو يحيى إلى معسكره للأخذ بمخنق فاس، فسقط في أيدي أهلها، ولم يجدوا وليجة من دون طاعته، فسألوا الأمان، وبذله لهم على غرم ما تلف له من المال بداره يوم الثورة، وقدره مائة ألف دينار، فتحمّلوها. وأمكنوه من قياد البلد، فدخلها في جمادى من سنة ثمان وأربعين وستمائة. وطالبهم بالمال، فعجزوا ونقضوا شرطه، فحقّ عليهم القول. وتقبّض على القاضي أبي عبد الرحمن وابن أبي طاطو وابنه، وابن حشار وأخيه المتولّين كبر الفعلة فقتلهم، ورفع على الشرفات رءوسهم. وأخذ الباقين بغرم المال طوعا أو كرها، فكان ذلك مما عبّد رعية فاس وقادهم لأحكام بني مرين. وضرب الرهب على قلوبهم لهذا العهد، فخشعت منهم الأصوات وانقادت الهمم، ولم يحدّثوا بعدها أنفسهم بغمس يد في فتنة. والله مالك الأرض ومن عليها. الخبر عن تغلب الأمير أبي يحيى على مدينة سلا وارتجاعها من يده وهزيمة المرتضى بعدها لما كمل للأمير أبي يحيى فتح مدينة فاس، واستوسق أمر بني مرين بها، رجع إلى ما كان فيه من منازلة بلاد فازاز فافتتحها. ودوّخ أوطان زناتة، واقتضى مغارمهم وحسم علل الثائرين فيها. ثم تخطّى إلى مدينة سلا ورباط الفتح سنة تسع وأربعين وستمائة، فملكها وتاخم الموحّدين بثغرها. واستعمل عليها ابن أخيه يعقوب بن عبد الله ابن عبد الحق، وعقد له على ذلك الثغر، وضمّ إليه الأعمال. وبلغ الخبر بذلك إلى المرتضى، فأهمّه الشأن. وأحضر الملأ من الموحّدين وفاوضهم، واعتزم على حرب بني مرين. وسرّح العساكر سنة خمسين وستمائة، فأحاطت بسلا، فافتتحوها وعادت إلى طاعة المرتضى. وعقد عليها لأبي عبد الله بن أبي يعلو من مشيخة الموحدين. وكان المرتضى قد صمد بنفسه سنة تسع وأربعين وستمائة إلى محاربة بني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 مرين في جموع الموحّدين وعساكر الدولة، صمد بنو مرين للقائه. والتقى الجمعان بايملولين، ففضّوا جموعه، وكانت الدبرة عليه والظهور لهم. ثم كان بعدها فتح سلا، وغلب الموحدين عليها. وأجمع المرتضى بعدها على احتشاد أهل سلطانه، ومعاودة الخروج بنفسه إلى غزوهم لما خشي من امتداد أمرهم. وتقلّص ملك الموحّدين، فعسكر خارج حضرته سنة ثلاث وخمسين وستمائة وبعث الحاشرين في الجهات، فاجتمع إليه أمم الموحدين والعرب والمصامدة. وأغذّ السير تلقاءهم، حتى إذا انتهى إلى جبال بهلولة من نواحي فاس، وصمد إليه الأمير أبو يحيى في عساكر بني مرين، ومن اجتمع إليهم من دونهم. والتقى الجمعان هنالك. وصدقهم بنو مرين القتال، فاختلّ مصاف السلطان، وانهزمت عساكره وأسلمه قومه. ورجع إلى مراكش مفلولا. واستولى القوم على معسكره واستباحوا سرادقه وفساطيطه، وانتهبوا جميع ما وجدوا بها من المال والذخيرة، واستاقوا سائر الكراع والظهر، وامتلأت أيديهم من الغنائم. واعتزّ أمرهم، وانبسط سلطانهم، وكان يوما له ما بعده. وأغرى أثر هذه الحركة عساكر بني مرين تادلا [1] واستباح بني جابر حاميتها من جشم ببلد أبي نفيس، واستلحم أبطالهم، وألان من حدّهم، وخضّد من شوكتهم. وفي أثناء هذه الحروب كان مقتل علي بن عثمان بن عبد الحق، وهو ابن أخي الأمير أبي يحيى. شعر منه بفساد الدخلة والاجتماع للتوثّب به، فدسّ لابنه أبي حديد مفتاح بقتله، بجهات مكناسة سنة إحدى وخمسين وستمائة. والله تعالى أعلم. (الخبر عن فتح سجلماسة وبلاد القبلة وما كان في ذلك من الاحداث) لما يئس بنو عبد المؤمن من غلبهم بني مرين على ما صار في أيديهم من بلاد المغرب وعادوا إلى مدافعتهم عن صمامة الدولة التي تحملت إياها شفافهم لو أطاقوا المدافعة عنها وملك بنو مرين عامّة بلاد التلول، اعتزم الأمير أبو يحيى بعدها على الحركة إلى بلاد القبلة ففتح سجلماسة ودرعة وما إليها سنة ثلاث وخمسين وستمائة وافتتحها بمداخلة من ابن القطراني، غدر بعامل الموحّدين فتقبّض عليه، وأمكن منها الأمير   [1] كذا بالأصل في جميع النسخ، وفي معجم البلدان: تادلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 أبا يحيى فملكها، وما إليها من درعة سائر بلاد القبلة. وعقد لابنه أبي حديد. وبلغ الخبر إلى المرتضى فسرّح العساكر سنة أربع وخمسين وستمائة لاستنقاذها، وعقد عليهم لابن عطّوش، ففرّ راجعا إلى مراكش، ثم نهض سنة خمس وخمسين وستمائة إلى محاربة يغمراس وبنيه بأبي سليط، فأوقع بهم واعتزم على اتباعه، فثناه عن رأيه في ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق لعهد تأكد بينه وبين يغمراس فرجع. ولما انتهى إلى المقر مدة هذه، بلغه أن يغمراسن قصد سجلماسة ودرعة لمداخلة من بعض أهلها أطمعته في ملكها، فأغذّ السير إليها بجموعه، ودخلها ولصبيحة دخوله وصل يغمراسن لشأنه، فلمّا علم بمكان أبي يحيى من البلد سقط في يده ويئس من غلابه، ودارت بينهم حرب تكافئوا فيها وهلك سليمان بن عثمان بن عبد الحق ابن أخي الأمير أبي يحيى، وانقلب يغمراسن إلى بلده، وعقد الأمير أبو يحيى على سجلماسة ودرعة وسائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن، واستعمل على الجباية عبد السلام الأوربي وداود بن يوسف، وانكفأ راجعا إلى فاس. والله تعالى أعلم. الخبر عن مهلك أبي يحيى وما كان اثر ذلك من الاحداث التي تمحضت عن استبداد أخيه يعقوب بن عبد الحق بالأمر لما رجع الأمير أبو يحيى من حرب يغمراسن بسجلماسة، أقام أياما بفاس. ثم نهض إلى سجلماسة متفقدا لثغورها، فانقلب منها عليلا. وهلك حتف أنفه على سرير ملكه في رجب سنة ست وخمسين وستمائة أمضى ما كان عزما، وأطول إلى تناول الملك يدا. اختطفته المنون عن شأنه ودفن بمقبرة باب الفتوح من فاس، ضجيعا للمولى أبي محمد الفشتالي كما عهد لأهل بيته. وتصدّى للقيام بأمره ابنه عمر واشتمل عليه عامّة قومه. ومالت المشيخة وأهل الحل والعقد إلى عمّه يعقوب بن عبد الحق، وكان غائبا عن مهلك أخيه بتازي، فلما بلغه الخبر أسرع اللحاق بفاس وتوجهت إليه وجوه الأكابر. وأحس عمر بصاغية الناس إليه، وحرّضه أتباعه على الفتك بعمه [1] ، فاعتصم بالقصبة، وسعى الناس في إصلاح ذات بينهما، فتفادى يعقوب عن الأمر، ودفعه لابن أخيه، على أن تكون له بلاد تازى وبطوية وملوية، ولما لحق   [1] وفي نسخة ثانية: به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 بتازى واجتمع إليه كافة بني مرين، عذلوه فيما كان منه فاستلأم، وحملوه على العودة في الأمر، ووعدوه من أنفسهم المظاهرة والمؤازرة فأجاب، وبايعوه وصمد إلى فاس، وبرز عمر للقائه فانتهى إلى المسجدين، ولما تراءى الجمعان خذ له جنوده وأسلموه، فرجع إلى فاس مغلولا، ووجّه الرغبة إلى عمه أن يقطعه مكناسة وينزل له عن الأمر، فأجابه إلى ذلك، ودخل السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق مدينة فاس فملكها سنة سبع وخمسين وستمائة وتمشت طاعته في بلاد المغرب ما بين ملوية وأم الربيع وسجلماسة وقصر كتامة. واقتصر عمر على إمارة مكناسة فتولاها أياما، ثم اغتاله من عشيرة عمر وإبراهيم ابنا عمّه عثمان بن عبد الحق والعباس ابن عمه محمد بن عبد الحق فقتلوه وثأروا منه بدم كانوا يعتدّونه عليه. وهلك لعام أو بعد عام من إمارته، فكفى يعقوب شأنه واستقام سلطانه، وذهب التنازع والمشاق عن أمره. وكان يغمراسن بعد مهلك قرنه الأمير أبي يحيى سما له أمل في الاجلاب على المغرب، فجمع لذلك قومه واستجاش بني توجين ومغراوة وأظمعهم في غيل الأسود ونهضوا إلى المغرب حتى انتهوا إلى كلدامان وصمد السلطان يعقوب بن عبد الحق إلى لقائهم فغلبهم ورجعوا الى تفيئته [1] ، ومرّ يغمراسن ببلاد بطوية فأحرق وانتسف واستباح وأعظم فيها النكاية. ورجع السلطان إلى فاس وتقبّل مذاهب أخيه الأمير أبي يحيى في فتح أمصار المغرب وتدويخ أقطاره. وكان مما أكرمه الله به أن فتح أمره باستنقاذ مدينة سلا من أيدي النصارى، فكان له بها أثر جميل وذكر خالد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن فجأة العدو مدينة سلا واستنقاذها من أيديهم) كان يعقوب بن عبد الله [2] قد استعمله عمّه الأمير أبو يحيى على مدينة سلا لما ملكها كما ذكرناه. ولما استرجعها الموحّدون من يده أقام يتغلب في جهاتها مراصدا لأهلها وحاميتها. ولما بويع عمّه يعقوب بن عبد الحق اسقته بعض الأحوال، فذهب   [1] وفي نسخة ثانية: ورجعوا على تعبية. [2] وفي نسخة ثانية: بن عبد الحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 مغاضبا حتى نزل غبولة، وألطف الحيلة في تملك رباط الفتح وسلا ليعتدّها ذريعة لما أسرّ في نفسه، فتمّت له الحيلة، وركب عاملها ابن يعلو البحر فارا إلى أزمور. وخلف أمواله وحرمه فتملّك يعقوب بن عبد الله البلد وجاهر بالخلع، وصرف إلى منازعة عمه السلطان أبي يوسف وجوه العزم، وداخل تجار الحرب في الامداد بالسلاح. فتماروا في ذلك وكثر سفر المتردّدين بينهم، حتى كثروا أهلها وأسملوا فيها غرّة عيد الفطر من سنة ثمان وخمسين وستمائة عند شغل الناس بعيدهم. وثاروا بسلا، وسبوا الحرم وانتهبوا الأموال، وضبطوا البلد وامتنع يعقوب بن عبد الله برباط الفتح، وطار الصريخ إلى السلطان أبي يوسف، وكان بتازى مستشرفا لأحوال يغمراسن، فنادى في قومه، وطار بأجنحة الخيول ووصلها ليوم وليلة، وتلاحقت به أمداد المسلمين من أهل الديوان والمطوعة. ونازلها أربع عشرة ليلة، ثم اقتحمها عليهم عنوة، وأثخن فيهم بالقتل. ثم رمّ بالبناء ما كان متثلّما بسورها الغربي حيث أمكنت منه الفرصة في البلد وتناول البناء فيه بيده والله لا يضيع عمل عامل. وخشي يعقوب بن عبد الله بادرة السلطان، فخرج من رباط الفتح وأسلمه فضبطه السلطان وثقفه. ثم نهض إلى بلاد تامسنا وأنفى، فملكها وضبطها ولحق يعقوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة، فامتنع به وسرّح السلطان ابنه أبا مالك عبد الواحد وعليّ بن زيّان لمنازلته. وسار إلى لقاء يغمراسن لقاء المهادنة، فلقيه بجوحرمان [1] وافترقا على السلم ووضع أوزار الحرب، ورجع السلطان إلى المغرب فخرج عليه أبناء أخيه أولاد إدريس. ولحقوا بقصر كتامة. شايعوا يعقوب ابن عمهم عبد الله على رأيه. واجتمعوا إلى أكبرهم محمد بن إدريس فيمن إليهم من العشير والصنائع، فنهض إليهم واعتصموا بجبال غمارة، ثم استنزلهم واسترضاهم وعقد لعامر ابن إدريس سنة ستين وستمائة على عسكر من ثلاثة آلاف فارس أو يزيدون من المطوعة من بني مرين، وأغزاهم إلى العدوة لجهاد العدوّ وحملهم، وفرض لهم. وشفع بها عمله في واقعة سلا وهو أوّل جيش أجاز من بني مرين، فكان لهم في الجهاد والمرابطة مقامات محمودة وذكر خالد تقبّل سلفهم فيها خلفهم من بعدهم حسبما نذكره. وأقام يعقوب بن عبد الله خارجا بالنواحي مثقلا في الجهات إلى أن قتله طلحة بن على   [1] وفي نسخة ثانية: فلقيه بوادي محرمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 بساقيه غبّولة من ناحية سلا سنة ثمان وستين وستمائة فكفى السلطان شأنه. وكان المرتضى مذ توالت عليهم الوقائع واستمرّ الظهور لبني مرين انحجر في جدرانه وتوارى بالأسوار عن عدوّه، فلم يسم إلى لقاء زحف ولا حدّث نفسه بشهود حرب، واستأسد بنو مرين على الدولة وشرهوا إلى التهام البقية، وأسفوا إلى منازلة مراكش دار الخلافة، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبر عن منازلة السلطان أبي يوسف حضرة مراكش دار الخلافة وعنصر الدولة وما كان أثر ذلك من نزوع أبي دبوس إليه وكيف نصبه للامر وكان مهلك المرتضى على يده ثم انتقض عليه لما فرغ السلطان من شأن الخوارج عليه من عشيرة، استجمع لمنازلة المرتضى والموحّدين في دارهم، ورأى أنه أوهن لدولتهم وأقوى لأمره عليهم. وبعث قومه واحتشد أهل ممالكه، واستكمل تعبيته وسار حتى انتهى إلى ايكليز [1] واعتزم على ذلك سنة ستين وستمائة وشارف دار الخلافة. ثم نزل بقعرها وأخذ بمخنقها. وعقد المرتضى لحربهم للسيد أبي العلاء إدريس المكنّى بأبي دبّوس ابن السيّد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن، فعبّى كتائبه ورتّب مصافه، وبرز لمدافعتهم ظاهر الحضرة، فكانت بينهم حروب بعد العهد بمثلها، استشهد فيها الأمير عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، وكانوا يسمونه برطانتهم المعجوب [2] ففتّ مهلكه في عضدهم، وارتحلوا عنها إلى أعمالهم، واعترضهم عساكر الموحّدين بوادي أمّ الربيع، وعليهم يحيى بن عبد الله بن وانودين، فاقتتلوا في بطن الوادي وانهزمت عساكر الموحدين. وكان في مسيل الوادي كدي تحسر عنها غمر الماء تبدو كأنها أرجل، فسميت الواقعة بها أمّ الرجلين. ثم سعى سماسرة الفتن عند الخليفة المرتضى في ابن عمّه وقائد حربه السيّد أبي دبوس بطلبه الأمر لنفسه، وشعر بالسعاية فخشي   [1] وفي نسخة اخرى: ايكلين. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: ايعجوب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 بادرة المرتضى ولحق بالسلطان أبي يوسف مدخله إلى فاس من منازلته آخر سنة إحدى وستين وستمائة نازعا إليه، فأقام عنده مليا. ثم سأل منه الإعانة على أمره بعسكر يمدّه وآلة يتّخذها لملكه، ومال يصرفه في ضروراته على أن يشركه في القسمة والفتح والسلطان، فأمدّه بخمسة آلاف من بني مرين، وبالكفاية من المال والمستجاد من الآلة وأهاب له بالعرب والقبائل من أهل مملكته ومن سواهم أن يكونوا يدا معه. وسار في الكتائب حتى شارف الحضرة، ودسّ إلى أشياعه ومن يداخله من الموحّدين في أمره، فثاروا بالمرتضى وأخفضوه [1] عنها، فلحق بأزمور مستجيشا بصهره ابن عطوش. ودخل أبو دبوس الحضرة في المحرّم فاتح خمس وستين وستمائة وتقبّض ابن عطوش عامل أزمور على المرتضى واقتاده أسيرا إلى أبي دبوس، فبعث مولاه مزاحما فاحتزّ رأسه في طريقه، واستقلّ بالخلافة صبابه آل عبد المؤمن. ثم بعث إليه السلطان في الوفاء بالمشارطة، فاستنكف، وعثا ونقض العهد وأساء الخطاب، فنهض إليه في جموع بني مرين وعساكر المغرب، فخام عن اللقاء وانحجز بمراكش. ونازلة السلطان أياما تباعا ثم سار في الجهات والنواحي يحطّم الزرع وينسف الأقوات. وعجز أبو دبوس عن دفاعه، فاستجاش عليه بيغمراسن بن زيان ليفت في عضده ويشغله عما وراءه، ويأخذ بحجزته عن التهامه على ما نذكر لو أمهلته الأيام، وانفسح له الأجل. الخبر عن وقيعة تلاغ بين السلطان يعقوب بن عبد الحق ويغمراسن بن زيان بإغراء أبي دبوس وتضريبه لما نازل السلطان أبو يوسف حضرة مراكش وقعد على ترائبه للتوثّب عليها، لم يجد أبو دبّوس وليجة من دون قصده إلّا استجاشته بيغمراسن وقومه عليه، ليأخذوا بحجزته عنه، ويشغلوه من ورائه. فبعث إليه الصريخ في كشف بلواه ومدافعة عدوّه. وأكد العهد وأسنى الهديّة، فشمّر يغمراسن لاستنقاذه وجذب عدوّه من ورائه، وشنّ الغارات على ثغور المغرب وأضرم نارا فأهاج عليه وعلى قومه من السلطان يعقوب ليثا عاديا، وأرهف منه عزما ماضيا، وأفرج يعقوب على مراكش بعزم النهوض إلى   [1] وفي نسخة ثانية: اجهضوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 تلمسان، ونزل بفاس، فتلوم بها أياما حتى أخذ أهبة الحرب، وأكمل استعدادها ورحل فاتح ست وستين وستمائة وسلك على كرسيف، ثم على تافرطا، وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ، وعبّى كل منهم كتائبه ورتّب مصافه، وبرز النساء سافرات الوجوه على سبيل التحريض لحسن وسعد بن ويرغين [1] ولما فاء الفيء ومال النهار، وكثرت حشود المغرب وجموع بني عبد الواد ومن إليهم، انكشفوا ومنحوا العدوّ أكتافهم. وهلك أبو حفص عمر كبير ولد يغمراسن وولي عهده في جماعة من عشيرة، ذكرناهم في أخباره. وأخذ يغمراسن بأعقاب قومه، فكان لهم ردءا إلى أن خلصوا من المعترك ووصلوا إلى بلادهم في جمادى من سنتهم، وعاد السلطان أبو يوسف إلى مكانه من حصار مراكش والله أعلم. الخبر عن السفارة والمهاداة التي وقعت بين السلطان يعقوب ابن عبد الحق وبين المستنصر الخليفة بتونس لن آل أبي حفص كان الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص منذ دعا لنفسه بتونس سنة خمس وعشرين وستمائة طموحا إلى ملك مرّاكش مقر الدعوة ومنبعث الدولة وأصل الخلافة. وكان يؤمّل لذلك زناتة، وإلّا فما دونه من خضد شوكة آل عبد المؤمن، وتقليم أظافر بأسهم، وردّهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه، وتغلّب على تلمسان سنة أربعين وستمائة ودخل يغمراسن بن زيان في دعوته وصار فيئة له وتبعه على عدوّه كما ذكرناه، فوصل به جناحة للمدافعة. وناغاه بنو مرين في مراسلة ابن أبي حفص ومخاطبته، والتخفيض عليه فيما يهمه من شأن عدوه، وحمل ما يفتحون من بلاد المغرب على البيعة له والطاعة مثل: فاس ومكناسة والقصر. وكان هو يلاطفهم بالتحف والهدايا، ويريهم البرّ في الكتاب والخطاب والمعاملة والتكريم للوفد غير سبيل آل عبد المؤمن، فكانوا يجنحون بذلك إلى مراسلته، وإيفاد قرابتهم عليه. وولي ابنه المستنصر بعده سنة سبع وأربعين وستمائة فتقبّل مذاهب أبيه وأوفى عليه بالإيعاز إليهم بمنازلة مراكش، وضمان الإنفاق عليهم فيها، فكان يبث لذلك أحمالا   [1] وفي نسخة ثانية: على سبيل التحريض، يحيين ويعدين ويرغبن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 من المال والسلاح وأعدادا وافرة من الخيل بمراكبها للحملان، ولم يزل ذلك دأبه معهم. ولما فعل أبو دبّوس فعلته في نقض العهد واستجمع السلطان لمنازلته، قدم بين يدي عمله مراسلة الخليفة المستنصر يخبره الخبر ويتلطّف له في استنزال المدد، فأوفد عليه ابن أخيه عامر بن إدريس بن عبد الحق، وأصحبه عبد الله بن كندوز لعبد الواد كبير بني كمي، وقريع يغمراسن الّذي ثأر يغمراسن من أبيه كندوز بأبيه زيان كما ذكرناه في أخبارهم. وكان خلص إليه من حضرة المستنصر فلقاه مبرّة وتكريما، وأوفد معهم الكاتب أبا عبد الله محمد الكناني من صنائع دولة آل عبد المؤمن، كان نزع إلى أخيه الأمير أبي يحيى لما رأى من اختلال الدولة، وأنزله مكناسة وآثره بالصحبة والخلّة، فجمع له يعقوب بن عبد الحق في هذا الوفد من الأشراف من يحسن الرئاسة، ويعرب عما في ضمائر الناس، ويدله على شرف مرسلة. فوفدوا على المستنصر سنة خمس وستين وستمائة وأدّوا رسالتهم وحركوا له جوار المظاهرة على صاحب مراكش وكبح عنانه، فحنّ واهتز سرورا من أعواده، ولقاهم مبرّة التكريم وإحسان النزل، وردّ الأمير عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز لوقتهما. وتمسّك بالكناني من بينهم لمصاحبة وفده، فطال مقامه عنده إلى أن كان من فتح مراكش ما نذكره. ثم أوفد المستنصر على السلطان يعقوب بن عبد الحق آخر سنة تسع وستين وستمائة بعدها شيخ الجماعة من الموحّدين لعهده أبا زكريا يحيى بن صالح الهنتاني مع جماعة من مشيخة الموحدين في مرافقة محمد الكناني، وبعث معهم إلى السلطان هدية سنيّة يلاطفه بها ويتاحفه، انتخب فيها من الجياد والسلاح وأصناف الثياب الغريبة العمل ما انتقاه. ووفق رضاه وهمته على الاستكثار منه، فحسن موقعها وتحدّث وانقلب وفده أحسن منقلب بعد أن تلطّف محمد الكناني في ذكر الخليفة المستنصر على منبر مراكش، فتم له، وشهد له وفد الموحّدين فعظم سرورهم وانقلبوا محبورين مسرورين، واتصلت بعد ذلك مهاداة المستنصر ليعقوب بن عبد الحق إلى أن هلك، وحذا ابنه الواثق من بعده على سننه، فبعث إليه سنة سبع وسبعين وستمائة هدية حافلة، بعث بها القاضي أبا العباس الغماريّ قاضي بجاية فعظم موقعها، وكان لأبي العبّاس الغماري بالمغرب ذكر تحدّث به الناس والله أعلم . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 (الخبر عن فتح مراكش ومهلك أبي دبوس وانقراض دولة الموحدين من المغرب) لما رجع السلطان أبو يوسف من حرب يغمراسن ورأى أن قد كفى عدوّه وكف غربة وردّ من كيده وكيد أبي دبوس صريخه، صرف حينئذ عزائمه إلى غزو مراكش، والعودة إلى مضايقتها كما كان لأول أمره، ونهض لغزاته من فاس في شعبان من سنته. ولما جاوزوا أمّ الربيع، بثّ السرايا وسرّح الغارات، وأطلق الأيدي والأعنة للنهب والعيث، فحطّموا زروعها وانتسفوا آثارها، وتقرى نواحيها كذلك بقية عامة. ثم غزا عرب الخلط من جشم بتادلا، فأثخن فيهم واستباحهم. ثم نزل وادي العبيد، ثم غزا بلاد صنهاجة، ولم يزل ينقل ركابه بأنحاء البلاد المراكشية وأحوازها حتى حضرت صدور بني عبد المؤمن وقومه، وأغزاهم أولياء الدولة من عرب جشم بنهوض الخليفة لمدافعة عدوّه، فجمع لذلك وبرز في جيوش ضخمة وجموع وافرة، واستجرّه أبو يوسف بالفرار أمامه ليبعد عن مدد الصريخ، فيستمكن منه حتى نزل عفو. ثم كرّ إليه والتحم القتال فاختل مصافه وفرّت عساكره. وانهزم يريد مراكش فأدركوه دون أمله. واعتاقه أجله، فطعن في مفرّه وخرّ صريعا لليدين وللفم واجتز رأسه. وهلك بمهلكه وزيره عمران وكاتبه عليّ بن عبد الله المغيلي. وارتحل السلطان أبو يوسف إلى مراكش وفرّ من كان بها من الموحدين، فلحقوا بجبل تين ملّل، وبايعوا إسحاق أخا المرتضى، فبقي ذبالة هنالك سنين. ثم تقبّض عليه سنة أربع وسبعين وستمائة، وسيق إلى السلطان هو وأبو سعيد ابن عمّه السيد أبي الربيع والقبائلي وأولاده فقتلوا جميعا. وانقرض أمر بني عبد المؤمن. والله وارث الأرض ومن عليها. وخرج الملاء وأهل الشورى من الحضرة إلى السلطان فأمّنهم ووصلهم. ودخل مراكش في بروز فخم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وورث ملك آل عبد المؤمن وتولّاه. واستوسق أمره بالمغرب، وتطامن الناس لبأسه، وسكنوا لظلّ سلطانه. وأقام بمراكش إلى رمضان من سنته، وأغزى ابنه الأمير أبا مالك إلى بلاد السوس فافتتحها وأوغل في ديارها ودوّخ أقطارها، ثم خرج بنفسه إلى بلاد درعة فأوقع بهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 الوقيعة المشهورة التي خضدت من شوكتهم، ورجع لشهرين من غزاته، ثم أجمع الرحلة إلى داره بفاس فعقد على مراكش وأعمالها لمحمد بن عليّ بن يحيى من كبار أوليائهم ومن أهل خؤولته، وكان من طبقة الوزراء حسبما يأتي التعريف به وبعشيرته، وأنزله بقصبة مراكش، وجعل المسالح في أعمالها لنظره، وعهد إليه بتدويخ الأقطار ومحو آثار بني عبد المؤمن، وفصل إلى حضرته في شوّال وأراح بسلا، فكان من خبر عهده لابنه ما نذكره ان شاء الله تعالى. الخبر عن عهد السلطان لابنه أبي مالك وما كان عقب ذلك من خروج القرابة عليه أولاد أخيه إدريس واجازتهم الى الأندلس لما تلوم السلطان بسلا منصرفه من رباط الفتح وأراح بها ركائبه عرض له طائف من المرض ووعك وعكا شديدا. فلمّا أبلّ جمع قومه وعهد لابنه فيهم أبي مالك عبد الواحد كبير ولده، لما علم من أهليته لذلك. وأخذ له البيعة عليهم، فأعطوها طواعية، وأسف القرابة من ولد أخويه عبد الله وإدريس لأمّهما سوط النساء، ووجدوا في أنفسهم لما يرون أنّ عبد الله وإدريس أكابر ولد عبد الحق، ولهما التقدّم على من بعدهما من ولده، وأنهما أحق بالأمر، فرجعت هنت إلى أذنابها [1] ، ونفسوا عن ابن السلطان لما أخذ له من البيعة والعهد. ونزعوا عنه إلى جبل علودان من جبال غمارة عشّ خلافهم. ومدرج فتنتهم، وذلك سنة تسع وستين وستمائة ورياستهم يومئذ لمحمد بن إدريس وموسى بن رحّو بن عبد الله، وخرج معهم ولد أبي عياد بن عبد الحق وأغزاهم السلطان ولده أبا يعقوب يوسف في خمسة آلاف من عسكره، فأحاط بهم وأخذ بمخنقهم، ولحق به أخوه أبو مالك في عسكره، ومعه مسعود بن كانون شيخ سفيان. ثم خرج في أثرهم السلطان أبو يوسف واجتمع معسكرهم بتافركا ونازلوهم ثلاثا. وهلك في حروبهم منديل بن ورتطليم. ولما رأوا أن أحيط بهم سألوا الأمان، فبذله وأنزلهم. واستلّ سخائمهم ومسح ما في صدورهم، ووصل بهم إلى   [1] وفي نسخة ثانية: فعادت هيف الى أديانها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 حضرته. وسألوا منه الاذن في اللحاق بتلمسان حياء من كبر ما ارتكبوه، فأذن لهم، وأجازوا البحر إلى الأندلس، وخالفهم عامر بن إدريس لما أنس من صاغية السلطان إليه، فتخلّف عنهم بتلمسان حتى توثق لنفسه بالعهد وعاد الى قومه بعد منازلة السلطان بتلمسان كما نذكره الآن. واحتلّ بنو إدريس وعبد الله وابن عمهم أبو عياد بأندلس على حين أقفر من الحامية جوها، واستأسد العدوّ على ثغرها. وغلبت شفاههم فاحتلّوها أسودا ضارية، وسيوفا ماضية، معوّدين لقاء الأبطال وقراع الحتوف والنزال. مستغلظين بخشونة البداوة وصرامة العز وبسالة التوحّش فعظمت نكايتهم في العدوّ واعترضوا شجي في صدره دون الوطن الّذي كان طعمه له في ظنّه، وارتدّوه على عقبه، ونشطوا من همم المسلمين المستضعفين وراء البحر وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم. وزاحموا أمير الأندلس في رياستها بمنكب، فتجافى لهم عن خطّة الحرب ورياسة الغزاة من أهل العدوة من أعياصهم وقبائلهم ومن سواهم من أمم البرابرة، وتناقلوه وساهموه في الجباية لفرط العطاء والديوان، فبذله لهم واستمدّوا على العدوّ [1] وحسن أثرهم فيها كما نذكره بعد في أخبار القرابة. ثم أعمل السلطان نظره في غزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن حركة السلطان أبي يوسف الى تلمسان وواقعيته على يغمراسن وقومه بايسيلى لما غلب السلطان أبو يوسف على بني عبد المؤمن وفتح مراكش واستولى على ملكهم سنة ثمان وستين وستمائة وعاد إلى فاس كما ذكرناه، تحرّك ما كان في نفسه من ضغائن يغمراسن وبني عبد الواد، وما أسفوا به من تخذيل عزائمه ومجادلته [2] عن قصده. ورأى أنّ واقعة تلاغ لم تشف صدره، ولا أطفأت نار موجدته، فأجمع أمره على غزوهم. واقتدر بما صار إليه من الملك والسلطان على حشد أهل المغرب لحربهم وقطع دابرهم، فعسكر بفاس، وسرّح ولده وولّي عهده أبا مالك إلى مراكش في   [1] وفي نسخة ثانية: واستمروا على ذلك لهذا العهد. [2] وفي نسخة اخرى: مجاذبته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 خواصّه ووزرائه حاشدين في مدائنها وضواحيها وقبائل العرب والمصامدة وبني ورا وغمرة وصنهاجة، وبقايا عساكر الموحدين بالحضرة، وحامية الأمصار من جند الروم وناشبة الغزو فاستكثر من أعدادهم واستوفى حشدهم. واحتفل السلطان بحركته وارتحل عن فاس سنة سبعين وستمائة وتلوم بملوية إلى أن لحقته الحشود وتوافت إليه أمداد العرب من قبائل جشم أهل تامسنا الذين هم سفيان والخلط والعاصم، وبنو جابر ومن معهم من الأثبج، وقبائل ذوي حسّان والشبانات من المعقل أهل السوس الأقصى، وقبائل رياح أهل أزغار والهبط. فاعترض هنالك عساكر وعبّى مواكبه، فيقال بلغت ثلاثين ألفا. وارتحل يريد تلمسان، ولما انتهى إلى أنكاد [1] وافته رسل ابن الأحمر هنالك ووفد المسلمين بالأندلس صريخا على العدوّ يستجيشون بإخوانهم المسلمين ويسألونهم الإعانة، فتحرّكت همته للجهاد ونصر المسلمين من عدوّهم. ونظر في صرف الشواغل عن ذلك، وجنح إلى السلم مع يغمراسن، وصوّب الملاء في ذلك رأيه لما كانوا عليه من إيثار الجهاد. وانتدب جماعة من المشيخة إلى السعي في صلاح ذات بينهما، وانكفأ من غرب عدوتهما. وساروا إلى يغمراسن فوافوه بظاهر تلمسان وقد أخذ أهبته واستعدّ للقاء. واحتشد زناتة أهل ممالكه بالشرق من بني عبد الواد وبني راشد ومغراوة وأحلافهم من العرب زغبة. فلجّ في ذلك واستكبر وصم عن إسعافهم. وزحف في جموعه، والتقى الجمعان بوادي ايسيلي من بسائط وجدة، والسلطان أبو يوسف قد عبى كتائبه، ورتّب مصافه وجعل ولديه الأميرين أبا مالك وأبا يعقوب في الجناحين، وسار في القلب، فدارت بينهم حرب شديدة انجلت عن هلاك فارس بن يغمراسن، وجماعة من بني عبد الواد. وكاثرهم حشود المغرب الأقصى وقبائله، وعساكر الموحدين والبلاد المراكشية، فولوا الأدبار. وهلك عامّة عسكر الروم لثباتهم بثبات السلطان فطحنتهم رحى الحرب. وتقبّض على قائدهم بيرنيس. ونجا يغمراسن بن زيان في فلّه مدافعا دون أهله إلى تلمسان. ومرّ بفساطيطه، فأضرمها نارا، وانتهب معسكره، واستبيحت حرمه. وأقام السلطان أبو يوسف على وجدة حتى خرّبها وأصرع بالتراب   [1] انكاد: مدينة قرب تلمسان من بلاد البربر من أرض المغرب، كانت لعليّ بن أحمد قديما، ذات سور من تراب في غاية الارتفاع والعرض، وواديها يشقها نصفين، منها الى تاهرت بالعرض مشرقا ثلاث مراحل (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 أسوارها، وألصق بالرغام جدرانها. ثم نهض إلى تلمسان فحاصرها أياما وأطلق الأيدي في ساحتها بالنهب والعيث، وشنّ الغارات على البسائط، فاكتسحها سبيا ونسفها نسفا. وهلك في طريقه إلى تلمسان وزيره عيسى بن ماساي، وكان من علية وزرائه وحماة ميدانه له في ذلك أخبار مذكورة. وكان مهلكه في شوّال من هذه السنة. ووصله بمثواه من حصارها محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، ومستصرخه على بني عبد الواد لما نال منه يغمراسن من طبخ القهر وذلّ الغلب والتحيف في كافة قبيلة مباهيا بآلته، فأكرم السلطان أبو يوسف وفادته واستركب الناس للقائه وبرور مقدمه. واتخاذ رتبة السلاح لمباهاته، وأقام محاصرا لتلمسان معه أياما حتى وقع اليأس وامتنع البلد، واشتدّ شوكة حاميته ثم أجمع السلطان أبو يوسف على الإفراج عنها وأشار على الأمير محمد بن عبد القويّ وقومه بالقفول قبل قفوله، وان يغذّوا السير إلى بلادهم. وملاء حقائبهم باتحافه وجنب لهم من المائة من المقرّبات بمراكبها، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب. وعمهم بالخلع مع الصلات والخلع الفاخرة. واستكثر لهم من السلاح والفازات والفساطيط، وحملهم على الظهر، وارتحلوا وتلوّم السلطان أياما لمنجاتهم إلى مقرّهم من جبل وانشريس حذرا من غائلة يغمراسن من انتهاز الفرصة فيهم. ثم دخل إلى فاس ودخلها مفتتح إحدى وسبعين وستمائة وهلك ولده الأمير أبو مالك وليّ عهده لأيام من مقدمه، فأسف لمهلكه. ثم تعزّى بالصبر الجميل عن فقده، ورجع إلى حاله في افتتاح بلاد المغرب. وكان في غزوته هذه ملك حصن تاونت، وهو معقل مطغرة، وشحنه بالأقوات لما رآه ثغرا مجاورا لعدوّه. وأسلمه لنظر هارون ابن شيخ مطغرة. ثم ملك حصن مليلة بساحل الريف مرجعه من غزاته هذه. وأقام هارون بحصن تاونت، ودعا لنفسه. ولم يزل يغمراسن يردّد الغزو إليه حتى فرّ من الحصن واستلمه سنة خمس وسبعين وستمائة ولحق بالسلطان أبي يوسف كما ذكرناه في أخباره، عند ذكر قبيلة مطغرة وكان من شأنه ما ذكرناه. الخبر عن افتتاح مدينة طنجة وطاعة أهل سبتة وفرض الاتاوة عليهم وما قارن ذلك من الاحداث كانت هاتان المدينتان سبتة وطنجة من أوّل دولة الموحّدين من أعظم عمالاتهم وأكبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 ممالكهم بما كانت ثغر العدوة ومرفأ الأساطيل، ودارا لإنشاء الآلات التجرية [1] ، وفرضة الجواز إلى الجهاد. فكانت ولايتها مختصة بالقرابة من السادة بني عبد المؤمن. وقد ذكرنا أن الرشيد كان عقد علي أعمالها لأبي عليّ بن خلاص من أهل بلنسية، وأنه بعد استفحال الأمير أبي زكريا بإفريقية ومهلك الرشيد، صرف الدعوة إليه سنة أربعين وستمائة وبعث إليه بالمال والبيعة مع ابنه أبي القاسم. وولّى على طنجة يوسف ابن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمدانيّ المعروف بابن الأمير قائدا على الرجل الأندلسيين، وضابطا للقصبة. وعقد الأمير أبو زكريا على سبتة لأبي يحيى بن أبي زكريا، ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص فنزل بها واستراب أبو علي ابن خلاص من العواقب عند مهلك ابنه الوافد على السلطان غريقا في البحر، فرحل بجملته إلى تونس في السفن، وأراح ببجاية، فكان فيها هلاكه سنة ست وأربعين وستمائة ويقال هلك في سفينته ودفن بجاية، ولما هلك الأمير أبو زكريا سنة سبع وأربعين وستمائة بعدها انتقض أهل سبتة على ابنه المستنصر وطردوا ابن الشهيد، وقتلوا العمّال الذين كانوا معه، وصرفوا الدعوة للمرتضى. وتولّى ذلك حجفون [2] الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي كبير المشيخة بسبتة، وأعظمهم تجلّة، نشأ في حجر أبيه الفقيه الصالح أبي العبّاس أحمد مكنوفا بالجلالة مغذّوا بالعلم والدين، لما كان له فيها قدم إلى أن هلك، فأوجب أهل البلد لابنه ما عرفوه من حقّه وحق أبيه من قبله، وكانوا يفزعون إليه في المهمّات ويسلمون له في الشورى، فأغرى الرنداحي بهذه الفعلة ففعلها وعقد المرتضى لأبي القاسم العزفي على سبتة مستقلا من غير إشراف أحد من السادة، ولا من الموحّدين. واكتفى بغنائه في ذلك الثغر وعقد لحجبون الرنداحي على قيادة الأساطيل بالمغرب، فورثها عنه بنوه إلى أن زاحمهم العزفي بمناكب رياسته، فقوضوا عن سبتة فمنهم من نزل بمالقة على ابن الأحمر ومنهم من نزل بجاية على أبي حفص، ولهم في الدولتين آثار تشهد برياستهم. واستقل الفقيه أبو القاسم العزفي برياسة سبتة، وأورثها بنيه من بعده على ما نذكره بعد. وكانت طنجة تالية سبتة في سائر الأحوال وتبعا لها، فاتبع ابن الأمير صاحبها إمارة   [1] وفي نسخة ثانية: البحرية. [2] وفي نسخة اخرى: حجبون الرنداحي وفي نسخة ثانية: حجبون الزنداحي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 الفقيه أبي القاسم. ثم انتقض عليه لسنة واستبدّ وخطب لابن أبي حفص، ثم للعباسي، ثم لنفسه، وسلك فيها مسلك العزفي في سبتة، ولبثوا كذلك ما شاء الله، حتى إذا ملك بنو مرين المغرب وانبثوا في شعابه، ومدّوا اليد في ممالكه فتناولوها، ونزلوا معاقلة وحصونه فافتتحوها، وهلك الأمير أبو يحيى عبد الحق وابنه عمر من بعده. وتحيّز بنوه في ذويهم وأتباعهم وحشمهم إلى ناحية طنجة وأصيلا، فأوطنوا ضاحيتها وأفسدوا سابلتها وضيقوا على ساكنها، واكتسحوا ما حواليها، وشارطهم ابن الأمير على خراج معلوم على أن يكفوا الأذيّة ويحموا الحوزة ويصلحوا السابلة. فاتصلت يده بيدهم، وتردّدوا إلى البلد لاقتضاء حاجاتهم. ثم مكروا وأضمروا الغدر ودخلوا في بعض أيامهم متأبطين السلاح، وفتكوا بابن الأمير غيلة، فثارت بهم العامّة لحينهم واستلحموا في مصرع واحد سنة خمس وستين وستمائة واجتمعوا إلى ولده وبقيت في ملكته خمسة أشهر. ثم استولى عليها العزفي فنهض إليها بعساكره من الرجل برّا وبحرا، واستولى عليها، وفرّ ابن الأمير ولحق بتونس ونزل على المستنصر واستقرّت طنجة في إيالة العزفي فضبطها وقام بأمرها، وولّى عليها من قبله. وأشرك الملاء من أشرافها في الشورى. ونازلها الأمير أبو مالك سنة ست وستين وستمائة فامتنعت عليه وأقامت على ذلك ستا، حتى إذا انتظم السلطان أبو يوسف ببلاد المغرب في ملكته، واستولى على حضرة مراكش ومحا دولة بني عبد المؤمن، وفرغ من أمر عدوه يغمراسن، وهم بتلك الناحية واستضافة عملها، فأجمع الحركة إليها ونازل طنجة مفتتح سنة اثنتين وسبعين بما كانت في البسيط من دون سبتة، وأقام عليها أياما. ثم اعتزم على الإفراج عنها، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وافترق بينهم. وتنادى في بعض الناشية من السور بشعاب بني مرين، فبادر سرعان أناس إلى تسوّر حيطانها فملكوها عليهم، وقاتلوا أهل البلد ظلام ليلتهم، ثم دخلوا البلد من صبيحتها عنوة، ونادى منادي السلطان في الناس بالأمان والعفو عن أهل البلد، فسكن روعهم ومهد وفرغ من شأن طنجة. ثم بعث ولده الأمير أبا يعقوب في عساكر ضخمة لمنازلة العزفي في سبتة وارغامه على الطاعة، فنازلها أياما، ثم لاذ بالطاعة على المنعة. واشترط على نفسه خراجا يؤديه كل سنة، فتقبّل السلطان منه، وأفرجت عساكره عنهم، وقفل إلى حضرته. وصرف نظره إلى فتح سجلماسة وإزعاج بني عبد الواد المتغلّبين عليها، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 الخبر عن فتح سجلماسة الثاني ودخولها عنوة على بني عبد الواد والمنبات من عرب المعقل قد ذكرنا ما كان من تغلّب الأمير أبي يحيى بن عبد الحق على سجلماسة وبلاد درعة، وأنه عقد عليها وعلى سائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن، وأنزل معه ابنه مفتاحا المكنّى بأبي حديد في مشيخته لحياطتها. وأنّ المرتضى سرّح وزيره ابن عطوش سنة أربع وخمسين وستمائة في العساكر لارتجاعها، فنهض الأمير أبو يحيى إليه وشرّده عنها ورجعه على عقبه. وأن يغمراسن بن زيّان من بعد واقعة أبي سليط سنة خمس وخمسين وستمائة، قصدها لعورة دلّ عليها، وغرّة أمل إصابتها، فسابقه إليها الأمير أبو يحيى ومالقة من دونها ورجع عنها خائب المسعى مفلول الحامية. وكان الأمير أبو يحيى من بعد أن عقد عليها ليوسف بن يزكاسن عقد عليها من بعده لسنة ونصف من ولايته ليحيى بن أبي منديل كبير بني عسكرا قتالهم، ومقاسميهم نسب محمد بن وطيص [1] ثم عقد عليها لشهرين لمحمد بن عمران ابن عبلة من بني يرنيان صنائع دولتهم. واستعمل معه على الجباية أبا طالب الحبشي [2] وجعل مسلحة الجند بها لنظر أبي يحيى القطراني، وملّكه قيادتهم. وأقاموا على ذلك سنتين اثنتين. ولما هلك الأمير أبو يحيى وشغل السلطان أبو يوسف بحرب يغمراسن ومنازلة مراكش، سما للقطراني أمل في الاستبداد بها، وداخل في ذلك بعض أهل الفتن وظاهره يوسف بن الغزي [3] وفتكوا بعمّار الورند غزاني شيخ الجماعة بالبلد. وائتمروا بمحمد بن عمران بن عبلة، فخرج ولحق بالسلطان، واستبدّ القطراني بها. ثم ثار به أهل البلد سنة ثمان وخمسين وستمائة لسنة ونصف من لدن استبداده وقتلوه. وصرفوا بيعتهم إلى الخليفة المرتضى بمراكش. وتولّى كبر ذلك القاضي ابن حجّاج وعليّ بن عمر، فعقد له المرتضى عليها وأقام بها أميرا. ونازلتهم عساكر بني مرين والسلطان أبو يوسف سنة ستين وستمائة ونصب عليها آلات الحصار فأحرقوها وامتنعوا،   [1] وفي نسخة ثانية: ورصيص. [2] وفي نسخة ثانية: أبا طالب بن الحبسي. [3] وفي نسخة أخرى: يوسف بن فرج العزفي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 وأفرج عنهم. وأقام عليّ بن عمر في سلطانه ذلك ثلاث سنين، ثم هلك. وكان الأمير يغمراسن بن زيان منذ غلب الموحدين على تلمسان والمغرب الأوسط، وصار في ملكته، تحيّز إليه من عرب المعقل قبيل المنبات من ذوي منصور، بما كانت مجالات المعقل مجاورة لمجالات بني يادين في القفر. وإنما ارتحلوا عنها من بعد ما جأجأ يغمراسن من بني عامر بمجالاتهم من مصاب ببلاد بني يزيد، فزاحموا المعقل بالمناكب عن مجالاتهم ببلاد فيكيك وصا. ورحّلوهم إلى ملويّة وما وراءها من بلاد سجلماسة، فملكوا تلك المجالات. ونبذ يغمراسن العهد إلى ذوي عبيد الله منهم واستخلص المنبات هؤلاء، فكانوا له حلفاء وشيعة ولقومه ودعوته خالصة. وكانت سجلماسة في مجالاتهم منقلب ظعنهم وناجعتهم، ولهم فيها طاعة معروفة. فلما هلك عليّ بن عمر آثروا يغمراسن بملكها، فحملوا أهل البلد على القيام بطاعته، وخاطبوه وجأجئوا به، فغشيها بعساكره وملكها وضبطها. وعقد عليها لعبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع من ولد محمد بن زكراز بن يندوكس [1] ويعرف بابن حنينة نسبه إلى أمّ أبيه أخت يغمراسن ومعه يغمراسن بن حمامة. وأنزل معهما ولده الأمير يحيى لإقامة الرسم الملوكي. ثم أداله بأخيه من السنة الأخرى، وكذا كان شأنه في كل سنة. ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب وانتظم أمصاره ومعاقلة في طاعته، وغلب بني عبد المؤمن على دار خلافتهم، ومحا رسمهم، وافتتح طنجة وطوع سبتة مرفأ الجواز إلى العدوة، وثغر المغرب، سما أمله إلى بلاد القبلة فوجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة من أيدي بني عبد الواد المتغلّبين عليها وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين وستمائة فنازلها وقد حشد إليها أهل المغرب أجمع، من زناتة والعرب والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرّادات، وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانه أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة تردّ الأفعال إلى قدرة باريها. فأقام عليها حولا كريتا يغاديها القتال ويراوحها، إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد، فدخلوها عنوة من   [1] وفي نسخة أخرى: زكدان بن تيدوكسن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 تلك الفرجة في صفر من سنة ثلاث وسبعين وستمائة فقتلوا المقاتلة والحامية وسبوا الذرية [1] ، وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة، ومن كان معهم من بني عبد الواد وأمراء المنبات، وكمل فتح بلاد المغرب للسلطان أبي يوسف، وتمشّت طاعته في أقطاره. فلم يبق فيه معقل يدين بغير دعوته، ولا جماعة تتحيّز إلى غير فيئته ولا أمل ينصرف إلى سواه، ولما كملت له نعم الله في استيساق ملكه وتمهيد أمره، انصرف أمله إلى الغزو وإيثار طاعة الله بجهاد أعدائه، واستنقاذ المستضعفين من وراء البحر من عباده على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ولما انكفأ راجعا من سجلماسة، قصد مراكش من حيث جاء، ثم وقف إلى سلا فأراح بها أياما ونظر في شئونها، وسدّ ثغورها. وبلغه الخبر بوفادة أبي طالب صاحب سبتة الفقيه أبي القاسم العزفي على فاس، فأغذّ السير إلى حضرته، وأكرم وفادته وأحسن منقلبه إلى أبيه مملوء الحقائب ببرّه، رطب اللسان بشكره. ثم شرع في إجازة ولده كما نذكره الآن إن شاء الله تعالى. الخبر عن شأن الجهاد وظهور السلطان أبي يوسف على النصارى وقتل زعيمهم ذننه وما قارن ذلك كانت عدوة الأندلس منذ أوّل الفتح ثغرا للمسلمين، فيه جهادهم ورباطهم ومدارج شهادتهم وسبيل سعادتهم. وكانت مواطنهم فيه على مثل الرضف، وبين الظفر والناب من اسود الكفر لتوقر أممهم جوارها [2] وإحاطتهم بها من جميع جهاتها، وحجز البحر بينهم وبين إخوانهم المسلمين وقد كان عمر بن عبد العزيز رأى أن يخرج المسلمين منها لانقطاعهم عن قومهم وأهل دينهم، وبعدهم عن الصريخ. وشاور في ذلك كبار التابعين وأشراف العرب فرأوه رأيا. واعتزم عليه لولا ما عاقه من المنية وعلى ذلك، فكان للإسلام فيه اعتزاز على من جاورهم من أهل الكفر، بطول دولة العرب من قريش ومضر واليمن. وكانت نهاية عزّهم وسورة غلبهم أيام بني أمية   [1] وفي نسخة ثانية: سبوا الرعية. [2] وفي نسخة ثانية: لتوفر أمتهم في جوارها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 بها، الطائرة الذكر الباسطة جناحها على العدوتين منذ ثلاث مئات من السنين أو ما يقاربها. حتى انتثر سلكها بعد المائة الرابعة من الهجرة، وافترقت الجماعة طوائف وفشلت ريح المسلمين وراء البحر بفناء دولة العرب. واعتز البربر بالمغرب واستفحل شأنهم وجاءت دولة المرابطين فجمعت ما كان مفترقا بالمغرب من كلمة الإسلام. وتمسكوا بالسنّة وتشوّقوا إلى الجهاد، واستدعاهم إخوانهم من وراء البحر للمدافعة عنهم، فأجازوا إليهم وأبلوا في جهاد العدوّ أحسن البلاء، وأوقعوا بالطاغية ابن أدفوش يوم الزلّاقة وغيرها. وفتحوا حصونا واسترجعوا أخرى واستنزلوا الثوّار ملوك الطوائف، وجمعوا الكلمة بالعدوتين. وجاء على أثرهم الموحّدون سالكين أحسن مذاهبهم، فكان لهم في الجهاد آثار على الطاغية أيام، منها يوم الأرك ليعقوب بن المنصور وغيره من الأيام، حتى إذا فشلت ريح الموحدين وافترقت كلمتهم وتنازع الأمر سادة بني عبد المؤمن الأمراء بالأندلس، وتحاربوا على الخلافة واستجاشوا بالطاغية وأمكنوه من كثير من حصون المسلمين طعمة على الاستظهار، فخشي أهل الأندلس على أنفسهم وثاروا بالموحدين وأخرجوهم وتولى ذلك ابن هود بمرسية وشرق الأندلس، وعمّ بدعوته سائر أقطارها، وأقام الدعوة فيها للعبّاسيّين، وخاطبهم ببغداد كما ذكرناه في أخبارهم. واستوفينا كلا بما وضعناه في مكانه. ثم انحجز ابن هود على الغريبة [1] لبعدها عنه، وفقده للعصابة المتناولة لها، وأنه لم تكن صنعته في الملك مستحكمة وتكالب الطاغية على الأندلس من كل جهة، وكثر اختلاف المسلمين بينهم. وشغل بنو عبد المؤمن بما دهمهم من المغرب من شأن بني مرين وزناتة. فتلافى محمد بن يوسف بن الأحمر أمر الغربية، وثار بحصنه أرجونة وكان شجاعا قدما ثبتا في الحروب، فتلقّف الكرّة من يد ابن هود خلع الدعوة العبّاسية، ودعا للأمير أبي زكريا بن أبي حفص سنة تسع وعشرين وستمائة فلم يزل في فتنة ابن هود يجاذبه الحبل ويقارعه على عمالات الأندلس واحدة بعد أخرى إلى أن هلك ابن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة. وتكالب العدو خلال ذلك على جزيرة الأندلس من كل جانب ووفر له ابن هود   [1] وفي نسخة ثانية: ثم عجز ابن هود عن الغربية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 الجزية وبلغ بها أربعمائة ألف من الدنانير في كل سنة. ونزل له على اثنتين [1] من حصون المسلمين. وخشي ابن الأحمر أن يستغلظ عليه بالطاغية فجنح هو إليه وتمسّك بعروته، ونفر في جملته إلى منازلة إشبيليّة نكاية لأهلها. ولما هلك الأمير أبو زكريا نبذ الدعوة الحفصيّة، واستبدّ لنفسه، وتسمّى بأمير المسلمين، ونازعه بالشرق أعقاب ابن هود وبني مردنيش، ودعاه الأمر إلى النزول للطاغية من بلاد الفرنتيرة، فنزل عليها بأسرها. وكانت هذه المدّة من سنة اثنتين وعشرين إلى سنة سبعين، فترة ضاعت فيها ثغور المسلمين واستبيح حماهم، والتهم العدوّ بلادهم وأموالهم نهبا في الحروب، ووضيعة ومداراة في السلم. واستولى طواغيت الكفر على أمصارها وقواعدها فملك ابن أدفوش قرطبة سنة ست وثلاثين، وجيان سنة أربع وأربعين، وإشبيليّة سنة ست وأربعين. وتملك قمط برشلونة مدينة بلنسية سنة سبع وثلاثين إلى ما بينهما من الحصون والمعاقل التي لا تعدّ ولا تحصى، وانقرض أمر الثوار بالشرق وتفرّد ابن الأحمر بغرب الأندلس، وضاق نطاقه على الممانعة دون البسائط الفيح من الفرنتيرة وما قاربها، ورأى أنّ التمسك بها مع قلّة العدد وضعف الشوكة مما يوهن أمره ويطمع فيه عدوّه، فعقد السلم مع الطاغية على النزول عنها أجمع. ولجأ بالمسلمين إلى سيف البحر معتصمين بأوعاره من عدوّهم. واختار لنزله مدينة غرناطة، وابتنى بها لسكناه حصن الحمراء حسبما شرحنا ذلك كله في مواضعه. وفي أثناء هذا كلّه لم يزل صريخه ينادي بالمسلمين من وراء البحر والملأ من أهل الأندلس يفدون على أمير المسلمين أبي يوسف للإعانة ونصر الملة، واستنقاذ الحرم والولدان من أنياب العدو فلا يجد مفزعا إلى ذلك بما كان فيه من مجاذبة الحبل مع الموحدين، ثم مع يغمراسن. ثم شغله بفتح بلاد المغرب وتدويخ أقطاره إلى أن هلك السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن الأحمر المعروف بالشيخ، وأبي دبوس، لقبين كانا له على حين استكمال أمير المسلمين فتح المغرب وفراغه من شأن عدوّه سنة إحدى وسبعين وستمائة على أن بني مرين كانوا يؤثرون الجهاد ويسمون إليه وفي نفوسهم جنوح إليه وصاغية. ولما استوحش بنو إدريس بن عبد الحق وخرجوا سنة إحدى وستين وستمائة على   [1] وفي نسخة ثانية: ثلاثين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 السلطان يعقوب بن عبد الحق واسترضاهم واستصلحهم انتدب الكثير منهم للغزو وإجازة البحر لصريخ المسلمين بالأندلس، واجتمع إليهم من مطوعة بني مرين عسكر ضخم من الغزاة ثلاثة آلاف أو يزيدون وعقد السلطان على ذلك العسكر لعامر بن إدريس فوصلوا إلى الأندلس فكان لهم فيها ذكر ونكاية في العدوّ، وكان الشيخ ابن الأحمر عهد إلى ولده القائم بالأمر بعده محمد، الشهير بالفقيه، لانتحاله طلب العلم أيام أبيه. وأوصاه أن يتمسّك بعروة أمير المسلمين ويخطب نصره، ويدرأ به ويقدّمه عن نفسه وعن المسلمين تكالب الطاغية. فبادر لذلك لحين مواراة أبيه وأوفد مشيخة الأندلس كافة عليه، ولقيه وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة خاتم الفتوح بالثغور المغربية وملاذ العز ومقاد الملك. وتبادروا للإسلام [1] وألقوا إليه كنه الخبر عن كلب العدو على المسلمين، وثقل وطأته، فحيّا وفدهم ورؤساءهم، وبادر لإجابة داعي الله واستئثار الجنة. وكان أمير المسلمين منذ أوّل أمره مؤثرا أعمال الجهاد كلفا به مختارا له حتى أعطي الخيار سائر آماله، حتى لقد كان اعتزم على الغزو إلى الأندلس أيام أخيه الأمير أبي يحيى وطلب إذنه في ذلك عند ما ملكوا مكناسة سنة ثلاث وأربعين وستمائة فلم يأذن له وفصل إلى الغزو في حشمه وذويه ومن أطاعه من عشيرته. وأوعز الأمير أبو يحيى لصاحب الأمر بسبتة لذلك العهد أبي علي بن خلاص بأن يمنعه الإجازة، ويقطع عنه أسبابها. ولما انتهى إلى قصر الجواز، ثنى عزمه عن ذلك الولي يعقوب بن هارون الخبري، ووعده بالجهاد أميرا مستنفرا للمسلمين ظاهرا على العدوّ، فكان في نفسه من ذلك شغل وإليه صاغية. فلما قدم عليه هذا الوفد نبّهوا عزائمه وذكروا همته، فأعمل في الاحتشاد وبعث في النفير. ونهض من فاس شهر شوّال من سنة ثلاث وسبعين وستمائة إلى فرضة المجاز من طنجة. وجهّز خمسة آلاف من قومه أزاح عللهم واستوفى أعطياتهم وعقد عليهم لابنه منديل وأعطاه الراية. واستدعى من الغد صاحب سبتة في السفن لإجازتهم فوافاه بقصر الجواز عشرون من الأساطيل، فأجاز العسكر ونزل بطريف، وأراح ثلاثا، ودخل دار الحرب وتوغّل فيها، وأجلب على ثغورها وبسائطها. وامتلأت أيديهم من المغانم وأثخنوا بالقتل والأسر وتخريب العمران ونسف الآثار، حتى نزل   [1] وفي نسخة أخرى: وتنادوا للإسلام بالثأر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 بساحة شريس، فخام حاميتها عن اللقاء وانحجروا في البلد، وقفل عنها إلى الجزيرة وقد امتلأت أيديهم من الأموال وحقائبهم من السبي وركائبهم من الكراع والسلاح. ورأى أهل الأندلس قد ثاروا بعام العقاب حتى جاءت بعدها الطاعة الكبرى على أهل الكفر، واتصل الخبر بأمير المسلمين فاعتزم على الغزو بنفسه، وخشي على ثغور بلاده من عادية يغمراسن في الفتنة، فبعث حافده تاشفين بن عبد الواحد في وفد من بني مرين لعقد السلم مع يغمراسن والرجوع للاتفاق والموادعة. ووضع أوزار الحرب بين المسلمين للقيام بوظيفة الجهاد فأكرم موصله وموصل قومه. وبادر إلى الإجابة والألفة، وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السلطان لعقد السلم. وبعث معهم الرسل وأسنى الهديّة وجمع الله كلمة الإسلام، وعظم موقع هذا السلم من أمير المسلمين لما كان في نفسه من الصاغية إلى الجهاد، وإيثاره مبرورات الأعمال. وبثّ الصدقات يشكر الله على ما منحه من التفرّغ لذلك. ثم استنفر الكافة واحتشد القبائل والجموع، ودعا المسلمين إلى الجهاد. وخاطب في ذلك كافة أهل المغرب من زناتة والعرب والموحّدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأوربة ومكناسة وجميع قبائل البرابرة وأهل المغرب من المرتزقة والمطّوعة. وأهاب بهم وشرع في إجازة البحر، فأجازه من فرضة طنجة لصفر من سنة أربع وسبعين وستمائة واحتلّ بساحة طريف. وكان لما استصرخه السلطان ابن الأحمر وأوفد عليه مشايخ الأندلس اشترط عليه النزول عن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره، فتجافى له عن رندة وطريف. ولما احتل بطنجة بادر إليه ابن هشام الثائر بالجزيرة الخضراء، وأجاز البحر إليه. ولقيه بظاهر طنجة فأدّى له طاعته وأمكنه من قياد بلده. وكان الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة وأخوه أبو إسحاق صهر السلطان ابن الأحمر تبعا له في أمره ومؤازرا له على شأنه كله. وأبوهما أبو الحسن هو الّذي تولى كبر الثورة على ابن هود ومداخلة أهل إشبيليّة في الفتك بابن الباجي. فلما استوت قدمه في ملكه وغلب الثوّار على أمره فسد ما بينهما بعد أن كان ولّى أبا محمد على مقاله وأبا إسحاق على وادي آش [1] ، فامتنع أبو محمد بن أشقيلولة بمالقة واستأثر بها وبغربيتها دونه. ومع ذلك فكانوا على   [1] أش: بالفتح والشين مخففة، وربما مدت همزته: مدينة الأشات بالأندلس من كورة البيرة وتعرف بوادي أش، والغالب على شجرها الشاهبلوط، وتنحدر إليها أنهار من جبال الثلج، بينها وبين غرناطة أربعون ميلا، وهي بين غرناطة وبجّانة (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 الصاغية فيئة ولحمة. ولما أحس أبو محمد بإجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق، قدم إليه الوفد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم، وانحاش إلى جانب السلطان وولايته، وأمحضه المخالصة والنصيحة. فلما احتل السلطان بناحية طريف ملأت كتائبه ساحة الأرض ما بينهما وبين الجزيرة وتسابق السلطان ابن الأحمر، وهو الفقيه أبو محمد ابن الشيخ أبي دبوس صاحب غرناطة والرئيس أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة والغربية، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش إلى لقاء السلطان وتناغوا في برور مقدمه والإذعان له، ففاوضهما في أمور الجهاد، وأرجعهما لحينه إلى بلديهما. وانصرف ابن الأحمر مغاضبا لبعض النزعات أحفظته وأغذّ السير إلى الفرنتيرة، وعقد لولده الأمير أبي يعقوب على خمسة آلاف من عسكره. وسرّح كتائبه في البسائط وخلال المعاقل تنسف الزرع وتحطّم الغروس وتخرّب العمران وتنتهب الأموال وتكتسح السرح وتقتل المقاتلة وتسبي النساء والذرّية، حتى انتهى إلى المدور وتالسة [1] وأبدة [2] واقتحم حصن بلمة عنوة. وأتى على سائر الحصون في طريقه فطمس معالمها واكتسح أموالها. وقفل والأرض تموج سبيا إلى أن عرس بأستجة من تخوم دار الحرب. وجاء النذير باتباع العدو وآثارهم لاستنقاذ أسراهم وارتجاع أموالهم. وأنّ زعيم الروم وعظيمهم ذنّته [3] خرج في طلبهم بأمم بلاد النصرانية من المحتلم فما فوقه. فقدّم السلطان الغنائم بين يديه وسرّح ألفا من الفرسان أمامها، وسار يقتفيها، حتى إذا طلّت رايات العدو من ورائهم كان الزحف، ورتّب المصاف وحرّض وذكّر. وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحرّكت هممها، وأبلت في طاعة ربّها والذبّ عن دينها. وجاءت بما يعرف من بأسها وبلائها في مقاماتها ومواقفها. ولم يكن إلّا كلّا ولا، حتى هبت ريح النصر وظهر أمر الله وانكشفت جموع النصرانية، وقتل الزعيم ذنّنه والكثير من جموع الكفر. ومنح الله المسلمين أكتافهم، واستمرّ القتل فيهم. وأحصي القتلى في المعركة فكانوا ستة آلاف، واستشهد من المسلمين ما يناهز الثلاثين أكرمهم الله بالشهادة وآثرهم بما عنده. ونصر الله حزبه   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: بايسة. [2] أبّدة: بالضم ثم الفتح والتشديد: اسم مدينة بالأندلس من كورة جيّان تعرف بأبدة العرب، اختطها عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وتمّمها ابنه محمد. (معجم البلدان) . [3] وفي نسخة أخرى دتنه، وكذا في نفح الطيب ج 1 ص 449 وقد ذكر أيضا ذونّنه ودونّنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 وأعزّ أولياءه ونصر دينه. وبدا للعدو ما لم يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملّة وقيامها بنصر الكلمة. وبعث أمير المسلمين برأس الزعيم ذنّنه إلى ابن الأحمر فردّه زعموا سرا إلى قومه بعد أن طيّبه وأكرمه، ولاية أخلصها لهم، مداراة وانحرافا عن أمير المسلمين، ظهرت شواهده عليه بعد حين كما نذكره، وقفل أمير المسلمين من غزاته إلى الجزيرة منتصف ربيع من سنته، فقسّم في المجاهدين الغنائم وما نفلوه من أموال عدوّهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم، بعد الاستئثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب والسنّة ليصرفه في مصارفه. ويقال: كان مبلغ الغنائم في هذه الغزاة مائة ألف من البقر وأربعة وعشرين ألفا، ومن الأسارى سبعة آلاف وثمان مائة وثلاثين، ومن الكراع أربعة عشر ألفا وستمائة، وأمّا الغنم فاتسعت عن الحصر كثرة، حتى لقد زعموا بيعت الشاة في الجزيرة بدرهم واحد، وكذلك السلاح. وأقام أمير المسلمين بالجزيرة أياما ثم خرج لجمادى غازيا إلى إشبيليّة فجاس خلالها وتقرّى نواحيها وأقطارها، وأثخن بالقتل والنهب في جهاتها وعمرانها. وارتحل إلى شريش فأذاقها وبال العيث والاكتساح. ورجع إلى الجزيرة لشهرين من غزاته، ونظر في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزل عسكره منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العسكر وجفائهم. وتحيّز لها مكانا لصق الجزيرة، فأوعز ببناء المدينة المشهورة بالبنية وجعل ذلك لنظر من يثق به من ذويه [1] . ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب من سنة أربع وسبعين وستمائة فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر، واحتل بقصر مصمودة وأمر ببناء السور على بادس مرفأ الجواز ببلاد غمارة. وتولى ذلك إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف بن محيو. ثم رحل إلى فاس فدخلها في شعبان، وصرف النظر إلى أحوال دولته، واختطاط البلد الجديد لنزله ونزل حاشيته، واستنزال الثوّار عليه بالمغرب على ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن اختطاط البلد الجديد بفاس وما كان على بقية ذلك من الأحداث) لما قفل السلطان أمير المسلمين من غزاتة الجهاديّة، وتمّ صنع الله لديه في ظهور   [1] وفي نسخة ثانية: دونه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 الإسلام على يديه، واعتزاز أهل الأندلس بفيئته، راح بالمغرب إلى نعمة أخرى من ظهور أوليائه وحسم أدواء الفساد في دولته، شفعت مواهب السعادة، وأجملت [1] عوائد الصنع، وذلك أنّ صبابة بني عبد المؤمن وفلّهم، لمّا فرّوا من مراكش عند الفتح لحقوا بجبل تين ملّل جرثومة أمرهم، ومنبعث دعوتهم. وملاحد خلفائهم، وحضرة سلفهم، ودار إمامهم، ومسجد مهديّهم. كانوا يعكفون عليه متيّمنين بطيره، ملتمسين بركة زيارته، ويقدمون ذلك أمام غزواتهم قرية بين يدي أعمالهم يعتدّونها من صالح مساعيهم. فلما خلص الفلّ إليه اعتصموا بمعقله وآووا إلى ركونه، ونصبوا للقيام بأمرهم عيصا من أعياص خلفاء بني عبد المؤمن ضعيف المنبه [2] خاسر الصفقة من مواهب الحظ، وهو إسحاق أخو المرتضى. وبايعوه سنة تسع وستين وستمائة يرجون منه رجع الكرّة، وإدالة الدولة، وكان المتولي لكبر ذلك وزير دولتهم ابن عطّوش. ولما عقد السلطان يعقوب بن عبد الحق لمحمد بن علي بن محلى على أعمال مراكش، لم يقدّم عملا على محاربتهم، وتخذيل الناس عنهم، واستمالة أشياعهم. وجمعوا له سنة أربع وسبعين وستمائة على غرّة ظنّوها، فأوقع بهم وفلّ من غربهم. ثم صمد إلى الجبل لشهر ربيع من سنته فافتضّ عذرته وفضّ ختامه، واقتحمه عليهم عنوة بعد مطاولة النزال والحرب. وهلك الوزير ابن عطوش في جوانب الملحمة، وتقبّض على خليفته المستضعف. وابن عمّه أبي سعيد ابن السيّد أبي الربيع ومن معهما من الأولياء. وجنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة بمراكش، فضربت أعناقهم وصلبت أشلاؤهم. وكان فيمن قتل منهم كاتبه القبائلي وأولاده، وعاثت العساكر في جبل تينما [3] واكتسحت أمواله. وبعثرت قبور خلفاء بني عبد المؤمن. واستخرج شلو يوسف وابنه يعقوب المنصور، فقطعت رءوسهم. وتولى كبر ذلك أبو علي الملياني النازع إلى السلطان أبي يوسف من مليانة عش غوايته ومواطن انتزائه كما قدّمناه وكان السلطان أقطعه بلاد أغوات إكراما لوفادته، فحضر هذه الغزاة في جملة العساكر   [1] وفي نسخة ثانية: وأكملت. [2] وفي نسخة ثانية: ضعيف المنية. [3] تين ملل: جبال بالمغرب بها قرى ومزارع يسكنها البرابرة، بين أوّلها ومراكش، سرير ملك بني عبد المؤمن، نحو ثلاثة فراسخ، بها كان أول خروج محمد بن تومرت المسمّى بالمهديّ الّذي أقام الدولة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 وراى أن قد شفى نفسه بإخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم، والعيث بأشلائهم لما نقم منه الموحّدون. وأزعجوه من قراره، فنكرها السلطان لجلاله. وتجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته وجواره، وعدّها من هناته. ولما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد، ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة، وقطع دابر بني عبد المؤمن، فتظاهر السرور لديه، وارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه. ولما سكن غرب الثوار، وتمهّد أمر المغرب، ورأى أمير المسلمين أنّ أمره قد استفحل، وملكه قد استوسق، واتسع نطاق دولته، وعظمت غاشيته وكثر وافده، رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه. فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس، بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه، وشرع في تأسيسها لثالث من شوال في سنة أربع وسبعين وستمائة هذه. وجمع الأيدي عليها، وحشد الصنّاع والفعلة لبنائها. وأحضر لها الحزّى والمعدلين لحركات الكواكب، فاعتاموا في الطوالع النجومية مما يرضون أثره، ورصدوا أوانه. وكان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطّان وأبو عبد الله بن الحبّاك، المقدّمان في الصناعة، فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي. ونزلها بحاشيته، وذويه سنة أربع وسبعين وستمائة كما ذكرناه. واختطّوا بها الدور والمنازل، وأجرى فيها المياه إلى قصوره، وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام. ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة، فشرع في بنائها من سنته، وكان لحين إجازته البحر قافلا من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزرو [1] نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة، فاغذ إليه السلطان بعساكره وأناخ عليه. واستنزله لشهر على ما سأل من الأمان والرتبة. وحسم الداء من خروجه. واستوزر صنيعته فتح الله السدراتي، وأجرى له رزق الوزارة على عوائدهم. ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي أتحفه بها بين يدي غزاته. وكان شغله عنها أمر الجهاد، فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش، وحكمات مموهة بالذهب والفضة، وثلاثين من البغال الفارهة ذكورا وإناثا بمراكبها الفارسية من السروج، والنسوانية من الولايا، وأحمالا من الأديم المعروف دباغة بالشركسي، إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب وينافسون فيه.   [1] وفي نسخة ثانية: أزور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 وفي سنة خمس وسبعين وستمائة من بعدها أهدى له محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، وصاحب جبل وانشريش أربعة من الجياد انتقاها من خيل المغرب كافة، ورأى أنها على قلّة عددها أحفل هدية. وفي نفسه أثناء هذا كله من الجهاد شغل شاغل يتخطى إليه سائر أعماله حسبما نذكر. (الخبر عن إجازة أمير المسلمين ثانية وما كان فيها من الغزوات) لما قفل أمير المسلمين من غزاته الأولى، واستنزل الخوارج وثقف الثغور، وهادي الملوك واختط المدينة لنزله كما ذكرنا ذلك كله. ثم خرج فاتح سنة ست وسبعين وستمائة إلى جهة مراكش لسدّ ثغوره، وتثقيف أطرافه. وتوغّل في أرض السوس، وبعث وزيره فتح الله السدراتي بالعساكر فجاس خلاله، ثم انكفأ راجعا. وخاطب قبائل المغرب كافة بالنفير إلى الجهاد، فتباطئوا واستمرّ على تحريضهم، ونهض إلى رباط الفتح وتلوم بها في انتظار الغزاة فثبطوا، فخفّ هو واحتل بطريف آخر محرم. ثم ارتحل إلى الجزيرة، ثم إلى رندة. ووافاه هنالك الرئيسان أبو إسحاق بن أشقيلولة صاحب قمارش، وأبو محمد صاحب مالقة للغزو معه. وارتحلوا إلى منازلة إشبيليّة فعرسوا عليها يوم المولد النبوي. وكان بها ملك الجلالقة ابن أدفونش، فخام عن اللقاء وبرز إلى ساحة البلد محاميا عن أهلها. ورتّب أمير المسلمين مصافه وجعل ولده الأمير أبا يعقوب في المقدّمة، وزحف في التعبية فأحجروا العدو في البلد، واقتحموا أثرهم الوادي وأثخنوا فيهم. وباتت العساكر ليلتهم يجادون في متون الخيل وقد أضرموا النيران بساحتها. وارتحل من الغد إلى أرض الشرط، وبثّ السرايا والغوازي في سائر النواحي. وأناخ بجمهور العسكر عليها، فلم يزل يتقرّى تلك الجهات حتى أباد عمرانها وطمس معالمها. ودخل حصن قطيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنوة، وأثخن في القتل والسبي. ثم ارتحل بالغنائم والأثقال [1] إلى الجزيرة لسرار شهره، فأراح وقسّم الغنائم في المجاهدين. ثم خرج غازيا إلى شريش منتصف ربيع الآخر   [1] وفي نسخة ثانية: تم قفل بالغنائم والأنفال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 فنازلها وأذاقها نكال الحرب. وأقفر نواحيها، وقطع أشجارها وأباد خضراءها وحرق ديارها، ونسف آثارها، وأثخن فيها بالقتل والأسر. وبعث ولده الأمير أبي يعقوب في سريّة من معسكره للغوار على اشبيلية وحصون الواد [1] ، فبالغ في النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطير [2] . ثم صبح إشبيلية بمقارة فاكتسحها وانفكأ إلى أمير المسلمين، فقفلوا جميعا إلى الجزيرة. وأراح وقسّم في المجاهدين غنائمهم. ثم ندب إلى غزو قرطبة، ورغبهم في عمرانها وثروة مساكنها، وخطب بلادها، فانعطفوا إلى إجابته، وخاطب ابن الأحمر يستنفره. وخرج لأوّل جمادى من الجزيرة، ووافاهم ابن الأحمر بناحية أرشدونة، فأكرم وصوله وشكر حفوفه الى الجهاد وبداره. ونازلوا حصن بني بشير فدخلته عنوة، وقتلت المقاتلة وسبيت النساء، ونفلت الأموال وخرّب الحصن. ثم بثّ السرايا والغارات في البسائط فاكتسحها وامتلأت الأيدي وأثرى العسكر. وتقرّوا المنازل والعمران في طريقهم حتى احتلوا بساحة قرطبة فنازلوها، وانحجرت حامية العدوّ من وراء الأسوار وانبثت بعوث المسلمين وسراياهم في نواحيها، فنسفوا آثارها وخرّبوا عمرانها واكتسحوا قراها وضياعها. وتردّدوا على جهاتها، ودخل حصن بركونة عنوة، ثم أرجونة كذلك، وقدّم بعثا إلى حيانة [3] قاسمها حظها من الخسف والدمار. وخام الطاغية عن اللقاء وأيقن بخراب عمرانها. وإتلاف بلده. فجنح إلى السلم وخطبه من أمير المسلمين، فدفعه إلى ابن الأحمر وجعل الأمر في ذلك إليه تكرمة لمشهده ووفاء بحقه، وأجابهم ابن الأحمر إليه بعد عرضه على أمير المسلمين والتماس إذنه فيه لما فيه من المصلحة وجنوح أهل الأندلس إليه منذ المدد الطويلة، فانعقد السلم. وقفل أمير المسلمين من غزاته وجعل طريقه على غرناطة احتفاء بالسلطان ابن الأحمر وخرج له عن الغنائم كلّها، فاحتوى عليها. ودخل أمير المسلمين الى الجزيرة في أوّل رجب من عامئذ، فأراح ونظر في ترتيب المسالح على الثغور، وتملّك مالقة كما نذكره.   [1] وفي نسخة ثانية: حصون الوادي. [2] وفي نسخة ثانية: القناطير. [3] حيانة: لا وجود لحيانة وإنما حيّانية وهي في أرض دمشق والمقصود جيان كما في نسخة أخرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 (الخبر عن تملك السلطان مدينة مالقة من يد ابن اشقيلولة) كان بنو اشقيلولة هؤلاء من رؤساء الأندلس المؤمّلين لمدافعة العدوّ، وكانوا نظراء لابن الأحمر في الرئاسة، وهما أبو محمد عبد الله وأبوا إسحاق إبراهيم ابنا أبي الحسن بن أشقيلولة. وكان أبو محمد منهم صهرا له على ابنته فكانوا له بذلك خاصة فأشركهم في أمره واعتضد بعصابتهم وبأبيهم من قبل على مقاومة ابن هود وسائر الثوّار حتى إذا استمكن من فرصته واستوى على كرسيه استبدّ دونهم وأنزلهم الى مقامات الوزراء. وعقد لأبي محمد صهره على ابنته على مدينة مالقة والغربيّة، وعقد لأبي الحسن صهره على أخته على وادي آش وما إليها، وعقد لابنه أبي إسحاق إبراهيم بن عليّ على قمارش وما إلى ذلك. ووجدوا في أنفسهم، واستمرّ الحال على ذلك. ولما هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة وولي ابنه الفقيه محمد، سموا إلى منازعته. وأوفد أبو محمد صاحب مالقة ابنه أبا سعيد على السلطان يعقوب بن عبد الحق، وهو منازل طنجة. ووفد معه أبو محمد إلى السلطان بطاعته وبيعته أهل مالقة سنة ثلاث وسبعين وستمائة وعقد له عليها. ونزع ابنه أبو سعيد فرج إلى دار الحرب، ثم رجع لسنته فقتل بمالقة. ولما أجاز السلطان إلى الأندلس إجازته الأولى سنة أربع وسبعين وستمائة تلقّاه أبو محمد بالجزيرة مع ابن الأحمر وفاوضهما السلطان في أمر الجهاد وردّهما إلى أعمالها. ولما أجاز إجازته الثانية سنة ست وسبعين وستمائة لقيه بالجزيرة الرئيسان ابنا أشقيلولة: أبو محمد صاحب مالقة، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش وقمارش، فشهدا معه الغزاة. ولما قفل اعتلّ أبو محمد صاحب مالقة، ثم هلك غرة جمادى من سنته فلحق ابنه محمد بالسلطان آخر شهر رمضان. وهو متلوّم بالجزيرة، منصرفه عن الغزو كما ذكرناه، فنزل له عن البلد ودعاه إلى احتيازها، فعقد عليها لابنه أبي زيّان منديل، فسار إليها في بعث، وكان ابن أشقيلولة لحين فصوله إلى لقاء السلطان، أمر ابن عمّه محمد الأزرق بن أبي الحجّاج يوسف بن الزرقاء بإخلاء منازل السلطان بالقصبة واعدادها، فتمّ ذلك لثلاث ليال، واضطرب الأمير أبو زيّان معسكره بخارجها، وأنفذ محمد بن عمران بن عيلة في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 رهط من رجال بني مرين إلى القصبة فنزلها وملك أمر البلد. وكان السلطان ابن الأحمر لما بلغه وفاة أبي محمد بن أشقيلولة سما أمله إلى الاستيلاء على مالقة وأنّ ابن أخته شيعة له. وبعث لذلك وزيره أبا سلطان عزيز الداني، فوافى معسكر الأمير أبي زيان بساحتها. ورجا أن يتجافى عنها لسلطانه، فأعرض عن ذلك وتجهّم له. ودخل إليها لثلاث بقين من رمضان. وانقلب الداني عنها بخفي حنين، ولما قضى السلطان بالجزيرة صومه ونسكه، خرج إلى مالقة فوافاها سادس شوّال، وبرز إليه أهلها في يوم مشهود، واحتفلوا له احتفال أيام الزينة سرورا بمقدم السلطان، ودخولهم في إيالته. وأقام فيهم إلى خاتم سنته. ثم عقد عليها لعمر بن يحيى بن محلى من صنائع دولتهم. وأنزل معه المسالح وزيان بن أبي عيّاد بن عبد الحق في طائفة لنظره من أبطال بني مرين. واستوصاه بمحمد بن أشقيلولة وارتحل إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب سنة سبع وسبعين وستمائة وقد اهتزت الدنيا لقدومه وامتلأت القلوب سرورا بما كيّفه الله من نصر المسلمين بالعدوة، وعلوّ راية السلطان على كل راية. وعظمت لذلك موجدة ابن الأحمر، ونشأت الفتنة كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن تظاهر ابن الأحمر والطاغية على منع السلطان أبي يوسف من إجازة ابن الأحمر واصفاق يغمراسن بن زيان معهم من وراء البحر على الأخذ بحجزته عنهم وواقعة السلطان على يغمراسن بخرزوزة لما أجاز أمير المسلمين إلى العدوة إجازته الأولى، ولقي العدو بأستجة، وقتل الله ذنّنه بأيدي عسكره. وصنع له من الظهور والعزّ ما لا كفاء له، ارتاب ابن الأحمر بمكانه، فبدا له ما لم يكن يحتسب، وظنّ بأمير المسلمين الظنون، واعترض ذكره شأن يوسف بن تاشفين والمرابطين مع ابن عبّاد سلطان الأندلس. وأكّد ذلك عنده جنوح الرؤساء من بني أشقيلولة وغيرهم إليه وانقيادهم لأمره، فشرق بمكانه وحذر غوائله. وتكدّر الجو بينهما وأجاز الإجازة الثانية، فانقبض ابن الأحمر عن لقائه، ودارت بينهما مخاطبات شعريّة في معنى العتاب على ألسنة كتّابهما نسردها الآن، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 (فمن ذلك قصيدة كتبها إليه ابن الأحمر سنة أربع وسبعين وستمائة بعد واقعة ذنّنه واعتزامه على الرجوع إلى المغرب، فخاطبه بها ليلة الإقامة بالجزيرة حذرا من غائلة العدو، وينحو فيها منحى الاستعطاف وهي من نظم كاتبه أبي عمر بن المرابط: هل من معيني في الهوى أو منجدي ... من متهم في الأرض أو من منجد هذا الهوى داع فهل من مسعف ... بإجابة وإنابة أو مسعد هذا سبيل الرشد قد وضحت فهل ... بالعدوتين من امرئ مسترشد يرجو النجاة بجنّة الفردوس أو ... يخشى المصير إلى الجحيم الموقد يا آمل النصر العزيز على العدا ... أجب الهدى تسعد به وتؤيّد سرّ النجاة إلى النجاة مشمّرا ... إنّ الهدى لهو النجاة لمن هدي يا من يقول غدا أتوب ولا غد ... ألديك علم أن تعيش إلى غد لا تغترر بنسيئة الأجل الّذي ... إن لم يحن لك نقده فكأن قد سفر عليك طويلة أيامه ... لم تستعدّا لطوله فاستعدد أو ما علمت بأنّه لا بدّ من ... زاد لكلّ مسافر فتزوّد هذا الجهاد رئيس أعمال التقى ... خذمنه زادك لارتحالك تسعد هذا الرباط بأرض أندلس فرح ... منه لما يرضي إلهك واغتدي سوّدت وجهك بالمعاصي فالتمس ... وجها للقيا الله غير مسوّد وامح الخطايا بالدموع فربّما ... محت الدموع خطيئة المتعمد من ذا يتوب لربّه من ذنبه ... أو يقتدي بنبيّه أو يهتدي وتعوّضت منهم بكلّ معاند ... مستكبر قد كان لم يتشهّد كم من أسير عندهم وأسيرة ... فكلاهما يبغي الفداء فما فدي كم من عقيلة معشر معقولة ... فيهم تودّ لو انها في ملحد كم من وليد بينهم قد ودّ من ... ولداه ودّا أنّه لم يولد كم من تقيّ في السلاسل موثق ... يبكي لآخر في الكبول مقيّد وشهيد معترك توزّعه الردى ... ما بين حدّي ذابل ومهنّد ضجّت ملائكة السماء لحالهم ... ورثى لهم من قلبه كالجلمد أفلا تذوب قلوبكم إخواننا ... مما دهانا من ردى أو من ردي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 أفلا تراعون الأذمّة بيننا ... من حرمة ومحبّة وتودد أكذا يعيث الروم في إخوانكم ... وسيوفكم للثأر لم تتقلّد يا حسرتى لحميّة الإسلام قد ... خمدت وكانت قبل ذا تتوقّد أين العزائم ما لها لا تقتضي [1] ... هل يقطع الهنديّ غير مجرّد أبني مرين أنتم جيراننا ... وأحق من في صرخة بهم ابتدي فالجار كان به يوصّي المصطفى ... جبريل حقا في الصحيح المسند أبني مرين والقبائل كلّها ... في المغرب الأدنى لنا والأبعد كتب الجهاد عليكم فتبادروا ... منه إلى الفرض الأحقّ الأوكد وارضوا بإحدى الحسنيين وأقرضوا ... حسنا تفوزوا بالحسان الخرد هذي الجنان تفتّحت أبوابها ... والحور قاعدة لكم بالمرصد هل من بايع [2] من ربّه من مشتر ... منه الحصول على النعيم السرمد للَّه في نصر الخليفة [3] موعد ... صدق فثوروا لانتجاز الموعد هذي الثغور بكم إليكم تشتكي ... شكوى العديم إلى الغنيّ الأوجد ما بال شمل المسلمين مبدّد ... فيها وشمل الكفر غير مبدّد أنتم جيوش الله ملء فضائه ... تأسون للدّين الغريب المفرد ماذا اعتذاركم غدا لنبيّكم ... وطريق هذا العذر غير ممهّد إن قال لم فرّطتم في أمّتي؟ ... وتركتموهم للعدوّ المعتدي؟ تاللَّه لو أنّ العقوبة لم تخف ... لكفى الحياء من وجه ذاك السيّد إخواننا صلّوا عليه وسلّموا ... وسلوا الشفاعة منه يوم المشهد واسعوا لنصرة دينه يسقيكم ... من حوضه في الحشر أعذب مورد وصدر جوابها من نظم عبد العزيز شاعر السلطان يعقوب بن عبد الحق بما نصّه: لبيّك لا تخش اعتداء المعتدي إلخ وكذلك أجاب عنها أيضا مالك بن المرحل بقوله:   [1] وفي نسخة ثانية: لا تنقضي. [2] وفي نسخة ثانية: من بائع. [3] وفي نسخة ثانية: الخليفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 شهد الإله وأنت يا أرض اشهدي إلخ فأجابهما أبو عمرو بن المرابط كاتب ابن الأحمر بقوله: قل للبغاة وللعداة الحسّد إلخ ولما أجاز السلطان يعقوب بن عبد الحق الإجازة الثانية سنة ست وسبعين وستمائة كما نذكره، صار ابن الأحمر إلى الاستعتاب والرضا ولقي يعقوب بن عبد الحق فأنشد كاتبه أبو عمرو بن المرابط يوم اجتماعهما قوله بشرى لحزب الله والإيمان إلخ ولما انقضى المجلس أمر السلطان شاعره عبد العزيز بمساجلة قصيدته، وأنشدها ثاني المجلس بحضرة ابن الأحمر ونصّها اليوم كن في غبطة وأمان إلخ ثم كان أثناء ذلك ما وقع من استيلاء السلطان يعقوب بن عبد الحق على مدينة مالقة والغربيّة، جلّ عمله بعد مهلك صاحبها أبي محمد عبد الله بن أشقيلولة، فبرم لذلك وخيل عليه، ففزع الى مداخلة الطاغية في شأنه واتصال يده بيده، وان يعود إلى مكان أبيه من ولايته ليدافع به السلطان وقومه عن أرضه، ويأمن معه من زوال سلطانه، لما كانت كلمة الإسلام حجزا دونه. فاهتبل الطاغية غرّتها، ونكث عهد أمير المسلمين، ونقض السلم، ونبذ إليه العهد. واغزى أساطيله الجزيرة الخضراء حيث مسالح السلطان وعساكره. وأرست بالزقاق حيث فراض الجواز. هنا وانقطع المسلمون من جنود السلطان وقومه وراء البحر ويئسوا من صريخه. وانتبذ عمر ابن يحيى بن محلى عن قومه بمكان إمارته مالقة، وكان بنو محلى هؤلاء من كبار قومهم بطويّة وكانوا حلفاء لبني حمامة بن محمد منذ دخولهم المغرب. وأصهر عبد الحق أبو الأملاك إلى أبيهم محلى في ابنته أم اليمن، فكان من ولدها السلطان يعقوب بن عبد الحق. وكانت امرأة صالحة خرجت إلى الحجّ سنة ثلاث وأربعين وستمائة فقضت فريضة الله عليها وعادت إلى المغرب رابعة من السنين سنة سبع وأربعين وستمائة ثم خرجت ثانية سنة اثنتين وخمسين وستمائة فتطوّعت بحجة أخرى وهلكت بمصر منصرفها من تلك السنة سنة ثلاث وخمسين وستمائة فكان لبني محلى أبيها مكان من الدولة ودالة على السلطان لخؤولتهم ووشايج قرابتهم وغنائهم في قومهم ولما استولى السلطان على حضرة الموحّدين مراكش، عقد لمحمد بن علي بن محلى على جميع أعمالها، فكانت له بالاضطلاع بها مقاما محمودة. واتصلت ولايته عليها من لدن سنة ثمان وستين إلى سنة سبع وثمانين وستمائة ثم كان مهلكه أيام يوسف بن يعقوب كما نذكر. ولما نزع محمد بن أشقيلولة إلى السلطان بالجزيرة سنة ست وسبعين وستمائة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 متجافيا له عن ولاية مالقة بعد وفاة أبيه الرئيس أبي محمد، واستولى السلطان عليها، واعتزم على الإجازة كما قدّمناه، وعقد على مالقة والغربية وسائر ثغورها وأعمالها لعمر بن يحيى بن محلى. وكان أخوه طلحة بن يحيى ذا بأس وصرامة وقوة شكيمة، واعتزاز على السلطان بمكان الخئولة، وهو الّذي قتل يعقوب بن عبد الحق بغبولة سنة ثمان وستين وستمائة كما قلناه، وظاهر فتح الله الهدراي [1] مولى السلطان ووزيره على قتال أبي العلاء بن أبي طلحة بن أبي قريش، عامل المغرب بكدية العرايش بظاهر فاس سنة اثنتين وستين وستمائة ونزع سنة أربع وسبعين وستمائة إلى جبل آزروا عند مرجع السلطان من إجازته الأولى، فاستنزله ورجّعه إلى مجلسه من جملته. ثم نزع من الجزيرة إلى غرناطة سنة ست وسبعين وستمائة عند مرجع السلطان من أمر مالقة، وأجاز البحر إلى بلاد الريف. ثم رجع إلى القبلة وأقام بين بني توجين. ثم أجازا إلى الأندلس سنة سبع وسبعين وستمائة عند ما أضرم نار هذه الفتنة بين هذا السلطان وبين ابن الأحمر والطاغية، واحتل أسطول النصارى بالزقاق، وانقطعت عساكر السلطان وراء البحر. وأحس أخوه عمر صاحب مالقة باظلام الجوّ بينه وبين السلطان بما كان من أمر أخيه طلحة من قبل فلاطفه ابن الأحمر عند استقراره بغرناطة في مداخلة أخيه عمر في النزول عن مالقة، والاعتياض عنها بشلوبانية [2] والمنكب طعمة. وخاطبه في ذلك أخوه طلحة فأجاب وخرج ابن الأحمر بعساكره إلى مالقة، وتقبّض عمر بن محلى على زيّان بن بو عياد قائد بني مرين ومحمد بن أشقيلولة. وأمكن ابن الأحمر من البلد فداخلها آخر رمضان من سنته. وأنزل ابن محلى بشلوبانية واحتمل ذخيرته وما كان السلطان ائتمنه عليه من المال والعدد الجهاديّة. واتصلت يد ابن الأحمر بيد الطاغية على منع أمير المسلمين من الإجازة، وراسلوا يغمراسن بن زيّان من وراء البحر وراسلهم في مشاقة السلطان وإفساد ثغوره وإنزال العوائق به المانعة من حركته، والأخذ بأذياله عن النهوض إلى الجهاد. وأسنوا فيما بينهما الإتحاف والمهاداة. وجنب يغمراسن إلى ابن الأحمر ثلاثين   [1] وفي نسخة ثانية: السدراتي وقد مرّ معنا من قبل السدراتي. [2] هي شلوبينية حصن بالأندلس من أعمال كورة إلبيرة على شاطئ البحر كثير الموز وقصب السكر والشاه بلوط (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 من عتاق الخيل مع ثياب من عمل الصوف، وبعث إليه ابن الأحمر صحبة ابن مروان التجاني كفء ذلك عشرة آلاف دينار، فلم يرض بالمال في هديته وردّه. وأصفقت أيديهم جميعا على السلطان، ورأوا أن قد بلغوا في إحكام أمرهم وسدّ مذاهبه إليهم، واتصل الخبر بأمير المسلمين وهو بمراكش. كان صمد إليها مرجعه من الغزو في شهر المحرّم فاتح سبع وسبعين وستمائة لما كان من عيث العرب جشم بتامسنا وإفسادهم السابلة. فنقف أطرافها وحسم أدواءها. ولما بلغه خبر ابن محلى ومالقة ومنازلة الطاغية للجزيرة، نهض لثالثة من شوّال يريد طنجة. ولما انتهى إلى تامسنا، وافاه الخبر بنزول الطاغية على الجزيرة، وإحاطة عساكره بها سادس شوال، بعد أن كانت أساطيله منازلتها منذ ربيع، وأنه مشرف على التهامها. وبعثوا إليه يستعدونه فاعتزم على الرحيل. ثم اتصل به الخبر بخروج مسعود بن كانون أمير سفيان من جشم ببلاد نفيس من المصامدة خامس ذي القعدة. وأنّ الناس اجتمعوا إليه من قومه وغيرهم. فكرّ إليه راجعا وقدم بين يديه حافده تاشفين بن أبي مالك، ووزيره يحيى حازم، وجاء على ساقتهم وفرّوا أمام جيوشه، وانتهب معسكرهم وحللهم، واستباح عرب الحرث ابن سفيان. ولحق مسعود بمعقل السكسيوي، ونازلة السلطان بعساكره أياما. وسرّح ابنه الأمير أبا زيّان منديل إلى بلاد السوس لتمهيدها وتدويخ أقطارها، فأوغل في ديارها وقفل إلى أبيه خاتم سنته. واتصل بالسلطان ما نال أهل الجزيرة من ضيق الحصار وشدّة القتال وإعواز الأقوات، وأنهم قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرّة الكفر، فأهمه ذلك وأعمل النظر فيه، وعقد لولي عهده ابنه الأمير أبي يعقوب من مراكش على الغزو إليها. وأغزى الأساطيل في البحر إلى جهاد عدوهم، فوصل إلى طنجة لصفر من سنة ثمان وسبعين وستمائة وأوعز إلى البلاد البحرية لاعداد الأساطيل بسبتة وطنجة وسلا، وقسّم الأعطيات وتوفّرت همم المسلمين على الجهاد، وصدقت عزائمهم على الموت. وأبلى الفقيه أبو حاتم العزفي صاحب سبتة لما بلغه خطاب أمير المسلمين في ذلك البلاء الحسن، وقام فيه المقام المحمود. واستقرّ كافة أهل بلده فركبوا البحر أجمعين من المحتلم فما فوقه. ورأى ابن الأحمر ما نزل بالمسلمين في الجزيرة، وإشراف الطاغية على أخذها، فندم في ممالأته ونبذ عهده، وأعدّ أساطيل سواحله من المنكب والمريّة ومالقة مددا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 للمسلمين. واجتمعت الأساطيل بمرفإ سبتة تناهز السبعين، قد أخذت بطرفي الزقاق في أحفل زيّ وأحسن قوّة وأكمل عدة وأوفر عدد، وعقد عليهم الأمير أبو يعقوب رايته، وأقلعوا عن طنجة ثامن ربيع الأوّل. وانتشرت قلوعهم في البحر فأجازوه، وباتوا ليلة المولد الكريم بمرقى الجبل، وصبحوا العدوة وأساطيلهم تناهز أربعمائة، فتظاهروا في دروعهم وأسبغوا من شكّتهم، وأخلصوا للَّه عزائمهم، وصدقوا مع الله نياتهم، وتنادوا بالجنّة شعارهم. ووعظ وذكر خطباؤهم، والتحم القتال ونزل الصبر. ولم يكن إلا كلّا ولا حتى نضحوا العدوّ بالنبل، فانكشفوا وتساقطوا في العباب. فاستلحمهم السيف وغشيهم اليم، وملك المسلمون أساطيلهم ودخلوا مرقى الجزيرة وفرضتها عنوة، فاختل معسكر الطاغية. وداخلهم الرعب من إجازة الأمير أبي يعقوب ومن معه من الحامية، فأفرج لحينه عن البلد، وانتشرت النساء والصبيان بساحته، وغلبت المقاتلة كثيرا من العسكر على مخلفهم، فغنموا من الحنطة والأدم والفواكه ما ملأ أسواق البلد أياما، حتى وصلتها الميرة من النواحي. وأجاز الأمير أبو يعقوب من حينه فأرهب العدوّ في كل ناحية، وصدّه عن الغزو شأن الفتنة مع ابن الأحمر، فرأى أن يعقد مع الطاغية سلما، ويصل به لمنازلة غرناطة يدا. وأجابه إلى ذلك الطاغية رهبة من بأسه، وموجدة على ابن الأحمر في مدد أهل الجزيرة. وبعث أساقفته لعقد ذلك فأجازهم الأمير أبو يعقوب إلى أبيه أمير المسلمين فغضب لها، ونكر على ابنه. وزوى عنه وجه رضاه، ورجّعهم إلى طاغيتهم مخفقي السعي. وأجاز أبو يعقوب ابن السلطان إلى أبيه ومعه وفد أهل الجزيرة، فلقوا السلطان بمكانه من بلاد السوس. وولّى عليهم ابنه أبا زيّان فنزل بالجزيرة، وأحكم العقدة مع الطاغية، ونازل المريلة [1] من طاعة ابن الأحمر برا وبحرا فامتنعت عليه. وانضوى إليه أهل الحصون الغربيّة بطاعتهم حذرا من الطاغية فتقبّلهم. ثم جاءه المدد من المغرب، ونازل رندة فامتنعت. والطاغية أثناء ذلك يجوس خلال الأندلس. ونازل ابن الأحمر بغرناطة مع بني أشقيلولة وابن الدليل. ثم راجع ابن الأحمر مسالمة بني مرين، وبعث لأبي زيّان ابن السلطان بالصلح، واجتمع معه بأحواز مريلة كما نذكر بعد.   [1] وفي نسخة أخرى: مرتلة وفي نسخة ثانية: مديلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 ولما ارتحل السلطان من معسكره إلى جبل السكسيوي يريد السوس، ثم أغزى العساكر ورجع من طريقه الى مراكش حتى إذا انقضت غزاة البربر رجع إلى فاس، وبعث خطابه إلى الآفاق مستنفرا للجهاد. وفصل في رجب من سنة ثمان وسبعين وستمائة حتى انتهى إلى طنجة وعاين ما اختلّ من أحوال المسلمين في تلك الفترة، وما جرت إليه فتنة ابن الأحمر من اعتزاز الطاغية، وما حدّثته نفسه من التهام الجزيرة الأندلسية ومن فيها. وظاهره على ابن الأحمر منافسوه في رياسته بنو أشقيلولة، فاستجرّه الرئيس أبو الحسن بن أبي إسحاق صاحب وادي آش، ونازل معه غرناطة سنة تسع وسبعين وستمائة خمسة عشر يوما ثم أفرجوا، ولقيتهم عساكر غرناطة من زناتة بعد ذلك من سنتهم. وغلبهم [1] طلحة بن محلى وتاشفين بن معطي كبير تيربيغين بحصن المسلى، فأظهرهم الله عليهم. وهلك من النصارى ما يناهز سبعمائة من فرسانهم. واستشهد فيها من أعياص بني مرين عثمان بن محمد بن عبد الحق. واستجر الطاغية سنة ثمانين وستمائة بعدها الرئيس أبو محمد عبد الله أخو صاحب وادي آش إلى منازلة غرناطة، فنازلها الطاغية وأقام عليها أياما. ثم ارتحل وقد اعتز عليهم، وأشفق السلطان على المسلمين وعلى ما نال ابن الأحمر من خسف الطاغية، فراسله في الموادعة واتفاق الكلمة وشرط عليه النزول عن مالقة، فرجع السلطان إلى إزالة العوائق عن شأنه من الجهاد، وكان من أعظمها فتنة يغمراسن. واستيقن ما دار بينه وبين ابن الأحمر والطاغية ابن أخي أدفونش من الاتصال والاصفاق في تجديد الصلح والاتفاق، فلجّ وكشف الوجه في العناد وأعلن بما وقع بينه وبين أهل العدوة مسلمهم وكافرهم من الوصلة، وأنه معتزم على طيّ [2] بلاد المغرب. فصرف أمير المسلمين عزمه إلى غزو يغمراسن. وقفل إلى فاس لثلاثة أشهر من نزوله طنجة، فدخلها آخر شوّال وأعاد الرسل إلى يغمراسن لإقامة الحجّة عليه، والتجأ بمسالمة بني توجين والتجافي عنهم لموالاتهم أمير المسلمين. فقام يغمراسن في ركائبه وقعد ولج في طغيانه. وارتحل أمير المسلمين من فاس سنة تسع وسبعين وستمائة وقدم ابنه أبا يعقوب في العساكر وأدركه بتازى. ولما انتهى إلى ملوية تلوّم في انتظار   [1] وفي نسخة أخرى: وعليهم. [2] وفي نسخة ثانية: وصلي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 العساكر ثم ارتحل إلى تاسة ثم تاقيا [1] وصمد إليه يغمراسن بحشود زناتة والعرب بحللهم وكافة ناجعتهم، والتقت عيون القوم، فكانت بينهم حرب. وركب على آثارهما العسكران والتحم القتال، وكان الزحف بخرزوزة من ملعب تيفني [2] ، ورتّب أمير المسلمين مصافه وجعل كتيبته وكتيبة ابنه الأمير أبي يعقوب جناحين للعسكر. واشتد القتال سائر النهار، وانكشف بنو عبد الواد عند ما أراح القوم، وانتهب جميع مخلفهم وما كان في معسكرهم من المتاع والكراع والسلاح والفساطيط، وبات عسكر أمير المسلمين ليلتهم في صهوات خيلهم، واتبعوا من الغد آثار عدوّهم. واكتسحت أموال العرب الناجعة الذين كانوا مع يغمراسن، وامتلأت أيدي بني مرين من نعمهم وشائهم. ودخلوا بلاد يغمراسن وزناتة. ووافاه هنالك محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، لقيه بناحية القصبات، وعاثوا جميعا في بلاده نهبا وتخريبا ثم أذن لبني توجين في اللحاق ببلادهم وأخذ هو بمخنق تلمسان متلوّما لوصول محمد بن عبد القوي وقومه إلى منجاتهم من جبل ونشريس حذرا عليهم من غائلة يغمراسن. ثم أفرج عنها وقفل إلى المغرب ودخل فاس شهر رمضان من سنة ثمانين وستمائة ثم نهض إلى مراكش فاحتلّ بها فاتح إحدى وثمانين وستمائة بعدها، وسرّح ابنه الأمير أبا يعقوب إلى السوس لتدويخ أقطاره، ووافاه بمراكش صريخ الطاغية على ابنه شانجة الخارج عليه، فاغتنم الفرصة في فساد بينهم لقضاء أربه من الجهاد، وارتحل مبادرا بالإجازة إلى الأندلس. والله تعالى أعلم. الخبر عن اجازة السلطان أبي يوسف صريخا للطاغية لخروج ابنه شانجة عليه وافتراق كلمة النصرانية وما كان في هذه الأخبار من الغزوات لما رجع السلطان من غزاة تلمسان إلى فاس، وارتحل إلى مراكش وافاه بها وفد الطاغية من بطارقته وزعماء دولته، وقواميس ملّته صريخا على ابنه شانجة. خرج عليه في طائفة من النصارى وغلبوه على أمره، فانتصر أمير المسلمين ودعاه لحربهم   [1] كذا في النسخة الباريسية ونسخة أخرى، وفي نسخة ثانية: ثم ارتحل الى نامه ثم إلى تافنا. [2] وفي نسخة ثانية: منقي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 وأمّله لاسترجاع ملكه من أيديهم، فأجاب أمير المسلمين داعية رجاء للكرة بافتراقهم، وارتحل حتى انتهى إلى قصر المجاز، وأوعز إلى الناس بالنفير إلى الجهاد، وأجاز إلى الخضراء فاحتل بها لربيع الثاني من سنة إحدى وثمانين وستمائة واجتمعت عليه مسالح الثغور بالأندلس وسار حتى نزل صخرة عبّاد [1] ، فوافاه بها الطاغية ذليلا لعزّ الإسلام مؤمّلا صريخ السلطان، فأكبر وفادته وأكرم موصله وعظّم قدره وأمدّه لنفقاته بمائة ألف من مال المسلمين استرهن فيها التاج الذخيرة عند سلفه، وبقي بدارهم فخرا للأعقاب لهذا العهد. ودخل معه دار الحرب غازيا حتى ينازل قرطبة، وبها شانجة ابن الطاغية الخارج عليه مع طائفة، فقاتلها أياما ثم أفرج عنها. وتنقّل في جهاتها ونواحيها وارتحل إلى طليطلة فعاث في جهاتها، وخرّب عمرانها حتى انتهى إلى حصن مجريط من أقصى الثغر، فامتلأت أيدي المسلمين وضاق معسكرهم بالغنائم التي استاقوها. وقفل إلى الجزيرة فاحتلّ بها لشعبان من سنته، وكان عمر بن محلى نزع إلى طاعة السلطان فهمّ به ابن الأحمر، ونبذ إليه عهده. وارتجع المنكب من يده ونازلة بعساكره فاتح هذه السنة، فجهّز السلطان إليه لوصوله الجزيرة أسطوله. وأفرج ابن الأحمر عنه، فبادر إلى السلطان بطاعته، ووصل بيعة شلوبانية فأبقاه فيها بدعوته. ثم راجع طاعة ابن الأحمر في شوّال من سنته، فتقبّل فيئته وأعاضه عنها بالمنكب [2] إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبر عن شأن السلم مع ابن الأحمر وتجافي السلطان له عن مالقة ثم تجدّد الغزو بعد ذلك لما اتصلت يد السلطان بيد الطاغية، خشي ابن الأحمر غائلته، فجنح إلى موالاة شانجة الخارج عن أبيه. ووصل يده بيده، وأكّد له العقد على نفسه وأضرمت له الأندلس نارا وفتنة. ولم تغن شانجة عن ابن الأحمر شيئا ورجع السلطان من غزاته مع الطاغية، وقد ظهر على ابنه فأجمع على منازلة مالقة، ونهض إليها من الجزيرة فاتح اثنتين وثمانين وستمائة فتغلّب على الحصون الغربيّة كلّها. ثم أسعف إلى مالقة   [1] وفي نسخة أخرى: عياد. [2] المنكب: كان حصنا قويا، وهو اليوم فرضة صغيرة على البحر تابعة لمركز مطريل في مديرية غرناطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 فأناخ عليها بعساكره. وضاق النطاق على ابن الأحمر وبدا له سوء المغبّة في شأن مالقة ومداخلة ابن محلى في الغدر بها، وأعمل نظره في الخلاص من ورطتها. ولم ير لها إلّا وليّ عهد السلطان ابنه أبا يوسف، فخاطبه بمكانه من المغرب مستصرخا لرقع هذا الخرق، وجمع كلمة المسلمين على عدوّهم، فأجابه واغتنم المثوبة في مسعاه. وأجاز لشهر صفر، فوافى أمير المسلمين بمعسكره على مالقة. ورغب منه السلم لابن الأحمر عن شأن مالقة والتجافي له عنها، فأسعف رغبة ابنه لما يؤمّل في ذلك من رضى الله في جهاد عدوّه وإعلاء كلمته. وانعقد السلم وانبسط أمل ابن الأحمر، وتجدّدت عزائم المسلمين، وقفل السلطان إلى الجزيرة وبثّ السرايا في دار الحرب فأوغلوا وأثخنوا. ثم استأنف الغزو بنفسه إلى طليطلة فخرج من الجزيرة غازيا غرّة ربيع الثاني من سنة اثنتين وثمانين وستمائة حتى انتهى إلى قرطبة، فأثخن وغنم وخرّب العمران وافتتح الحصون. ثم ارتحل نحو البرت وخلف معسكره بظاهر بيّاسة [1] وأغذ السير في أرض قفر لليلتين انتهى إلى البرت من نواحي طليطلة [2] ، فسرّح الخيل في البسائط حتى تقرّى جميع ما فيها. ولم ينته إلى طليطلة لتثاقل الناس بكثرة الغنائم، وأثخن في القتل، وقفل على غير طريقه فأثخن وخرّب وانتهى إلى أبدّة. ووقف بساحتها والعدوّ منحجزون، ثم رجع إلى معسكره بساسة وأراح ثلاثا ينسف آثارها ويقتلع أشجارها. وقفل إلى الجزيرة فاحتلّ بها شهر رجب وقسّم الغنائم ونفل من الخمس. وولّى على الجزيرة حافده عيسى ابن الأمير أبي مالك ابنه، فهلك شهيدا بالمعترك لشهرين من ولايته، وأجاز السلطان غرّة شعبان إلى المغرب، ومعه ابنه أبو زيّان منديل، وأراح بطنجة ثلاثا. وأغذّ السير إلى فاس فاحتل بها آخر شعبان، ولما قضى صيامه ونسكه، ارتحل إلى مراكش لتمهيدها. وتفقّد أحوالها. وقسّم من نظره لنواحي سلا وأزدرد [3] فأقام برباط الفتح شهرين اثنين، واحتل مراكش فاتح ثلاث وثمانين وستمائة وبلغه مهلك الطاغية ابن أدفونش واجتماع النصرانية على ابنه شانجة الخارج عليه، فتحرّكت إلى الجهاد عزائمه وسرّح الأمير أبا يعقوب وليّ عهده   [1] بياسة: بينها وبين جيّان عشرون ميلا وتطل على النهر الكبير، استولى عليها الروم سنة 632 هجرية. [2] طليطلة: كانت عاصمة الأندلس قبل دخول طارق بن زياد، وهي مشرفة على ما يليها من الأندلس الى الجنوب، وكانت من أولى المدن التي انتزعت من يد العرب إذ استولى عليها الفونش السادس عام 478 هـ وجرّ ذلك الى معركة الزلّاقة. [3] وفي نسخة ثانية: أزور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 بالعسكر إلى بلاد السوس لغزو العرب، وكفّ عاديتهم، ومحو آثار الخوارج المنتزين على الدولة، فأجفلوا أمامه، واتبع آثارهم إلى الساقية الحمراء آخر العمران من بلاد السوس، فهلك أكثر العرب في تلك القفار مسغبة وعطشا، وقفل لما بلغه من اعتلال أمير المؤمنين، ووصل إلى مراكش وقد أبلّ، وقد اعتزم على الجهاد والغزو وشكر الله، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن إجازة السلطان أبي يوسف الرابعة ومحاصرة شريش وما تخلل ذلك من الغزوات لما اعتزم أمير المسلمين على الإجازة واعترض جنوده وحاشيته، وأزاح عللهم، وبعث في قبائل المغرب بالنفير، ونهض من مراكش في جمادى الآخرة لثلاث وثمانين وستمائة واحتل رباط الفتح منتصف شعبان فقضى به صومه ونسكه، ثم ارتحل إلى قصر مصمودة وشرع في إجازة العساكر والحشود من المرتزقة والمطوّعة خاتم سنته. ثم أجاز البحر بنفسه غرّة صفر من سنة أربع وثمانين وستمائة بعدها واحتلّ بظاهرها [1] . ثم سار منها إلى الخضراء وأراح أياما. ثم خرج غازيا حتى انتهى إلى وادلك [2] ، وسرّح الخيول في بلاد العدوّ وبسائطها يحرق وينسف. فلمّا خرّب بلاد النصرانية ودمّر أرضهم قصد مدينة شريش [3] ، فنزل بساحتها وأناخ عليها، وبثّ السرايا والغارات في جميع نواحيها، وبعث المسالح التي كانت بالثغور، فتوافت لديه. ولحقه حافده عمر بن أبي مالك بجمع وافر من المجاهدين من أهل المغرب فرسانا ورجالا، ووافته حصة العزفي من سبتة غزاة ناشبة تناهز خمسمائة من الرجل. وأوعز إلى وليّ عهده الأمير أبي يعقوب باستنفار من بقي بالعدوة من المسلمين الى الجهاد، وعقد لحافده الآخر منصور بن عبد الواحد على ألف فارس من الغزاة. وأعطاه الراية   [1] وفي نسخة ثانية: واحتل بطريق. [2] وفي نسخة ثانية: وادي لك وفي نفح الطيب ج 1 ص 249 وادي لكة. [3] شريش: قال الحجاري: ان مدينة شريش بنت إشبيليّة- تقع الى الجنوب الشرقي من بطليوس وتشتهر اليوم بالنبيذ الجيّد- وواديها ابن واديها. وهي مدينة جليلة ضخمة الأسواق، لأهلها همم، وظرف في اللباس وإظهار الرفاهيّة وتخلّق بالآداب. ولا تكاد ترى فيها إلّا عاشقا ومعشوقا. تشتهر بالمجنبات وهي نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها (نفح الطيب ج 1 ص 184) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 وسرّحه لغزو إشبيلية لآخر صفر من سنته، فغنموا ومرّوا بقرمونة [1] في منصرفهم. فاستباحوها وأثخنوا بالقتل والأسر ورجعوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم. وبعث وزيره محمد بن عطو [2] ومحمد بن عمران بن عبلة عيونا، فوافوا حصن القناطر وروطة، واستكشفوا ضعف الحامية واختلال الثغور، فعقد ثانية لحافده عمر بن عبد الواحد على مثلها من الفرسان لثالثة من ربيع وأعطاه الراية، وسرّحه إلى بسائط وادلكّ، فرجعوا من الغنائم بما ملأ العساكر بعد أن أثخنوا فيها بالقتل والتخريب وتحريق الزروع واقتلاع الثمار، وأبادوا عمرانها. ثم سرّح ثامن ربيع عسكرا للإغارة على حصن أركش، ووافوه على غرّة فاكتسحوا أموالهم. ثم عقد تاسع ربيع لابنه أبي معروف على ألف من الفرسان. وسرّحه لغزو إشبيلية فساروا حتى توقف عليها. وانحجزت منه حاميتها، فخرّب عمرانها وحرق زروعها وقطع شجرها. وامتلأت أيدي عسكره سبيا وأموالا، ورجع إلى معسكر السلطان مملوء الحقائب. ثم عقد ثالثة لحافده عمر منتصف ربيع لغزو حصن كان بالقرب من معسكره، وسرّح الرجل من الناشبة والفعلة بالآلات. وأمدّه بالرجل من المصامدة. وغزاة سبتة فاقتحموه عنوة على أهله، وقتلوا المقاتلة وسبوا النساء والذريّة، وأرغموا خده بالتراب. ولسبع عشرة من الشهر ركب السلطان إلى حصن سقوط قريبا من معسكره، فخرّبه وحرّقه بالنار، واستباحة. وقتل المقاتلة وسبى أهله. ولعشرين من شهره وصل وليّ عهده، الأمير أبو يعقوب من العدوة بنفير أهل المغرب وكافّة القبائل في جيوش ضخمة، وعساكر موفورة، وركب أمير المسلمين للقائهم وبرور مقدمهم. واعترض العساكر الموافية يومئذ فكانت ثلاثة عشر ألفا من المصامدة، وثمانية آلاف من برابرة المغرب متطوّعون كلّهم بالجهاد، فعقد السلطان له على خمسة آلاف من المرتزقة وألفين من المتطوّعة وثلاثة عشر ألفا من الرجل والفين من الناشبة وسرّحه لغزو إشبيلية والإثخان في نواحيها، فعبّى كتائبه ونهض لوجهه. وبث الغارات بين يديه، فأثخنوا وسبوا وقتلوا واقتحموا الحصون واكتسحوا الأموال. وعاج على الشرق والغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها واقتحم من حصونها عدة، وقفل إلى معسكر أمير المسلمين   [1] قرمونة: مدينة الى الشمال الشرقي من إشبيلية على بعد 35 كلم وكانت كورة واسعة تضم عدة مدن وحصون. [2] وفي نسخة ثانية: محمد بن عتّو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 ظاهرا عزيزا غانما. ولسادس ربيع الثاني وصل الأمير أبو زيّان منديل بن طريف بعسكر وافر من المسلمين فعقد له غداة وصوله وأمدّه بعسكر آخر وأغزاه قرمونة والوادي الكبير، فأغار على قرمونة. وطمعت حاميتها في المدافعة فبرزوا له وصدقهم القتال فانكشفوا حتى احجزوهم في البلد. ثم أحاطوا ببرج كان قريبا من البلد، فقاتلوه ساعة من نهار واقتحموه عنوة، ولم يزل يتقرّى المنازل والعمران حتى وقف بساحة إشبيلية، فأغار واقتحم برجا كان هنالك عينا على المسلمين، وأضرمه نارا. وامتلأت أيدي عساكره، وقفل إلى معسكر أمير المسلمين. ولثلاث عشرة من ربيع الثاني عقد للأمير أبي يعقوب لمنازلة جزيرة كيوثر [1] ، فصمد إليها وقاتلها واقتحمها عنوة. وفي ثاني جمادى عقد لطلحة بن يحيى بن محلى، وكان بعد مداخلته أخاه عمر في شأن مالقة سنة خمس وسبعين وستمائة خرج إلى الحجّ، فقضى فرضه ورجع، ومرّ في طريقه بتونس واتهمه الدعي ابن أبي عمارة كان بها يومئذ فاعتقله سنة اثنتين وثمانين، ثم سرّحه ولحق بقومه بالمغرب. ثم أجاز الأندلس غازيا في ركاب السلطان، فعقد له في هذه الغزاة على مائتين من الفرسان وسرّحه إلى إشبيلية ليكون رتبة [2] للمعسكر وبعث معه لذلك عيونا من اليهود والمعاهدين من النصارى، يتعرّفون له أخبار الطاغية شانجة وأمير المسلمين أثناء ذلك يغادي شريش ويراوحها بالقتال والتخريب، ونسف الآثار، وبث السرايا كل يوم وليلة في بلاد العدو، فلا يخلو يوما عن تجهيز عسكر أو اغزاء جيش أو عقد راية أو بعث سرية، حتى انتسف العمران في جميع بلاد النصرانيّة، وخرّب بسائط إشبيلية وليلة [3] وقرمونة واستجة وجبال الشرق وجميع بسائط الفرنتيرة. وأبلى في هذه الغزوات عيّاد العاصمي من شيوخ جشم، وخضر الغزي أمير الأكراد بلاء عظيما. وكان لهم فيها ذكر. وكذلك غزاة سبتة وسائر المجاهدين والعرب من جشم وغيرهم. فلما دمّرها تدميرا ونسفها تخريبا واكتسحها غارة ونهبا، وزحم فصل الشتاء وانقطعت الميرة عن العسكر، اعتزم على القفول وأفرج عن شريش لآخر رجب، ووافاه مدد غرناطة من عساكر الغزاة وقائدهم يعلى بن أبي عياد بن عبد الحق بوادي بردة،   [1] وفي نسخة ثانية: جزيرة كبوتر. [2] بمعنى قائدا وفي نسخة ثانية: ربيبة وليس لها أي معنى حسب مقتضى السياق. [3] وفي نسخة ثانية: لبلة كما في نفح الطيب 1/ 141. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 فلقاهم مبرّة، وتكريما وانقلبوا إلى أهلهم. واتصل به أنّ العدو أوعز إلى أساطيله باحتلال الزقاق والاعتراض دون الفراض فأوعز أمير المسلمين الى جميع سواحله من سبتة وطنجة والمنكب وجزيرة وطيف وبلاد الريف ورباط الفتح. واستدعى أساطيله فتوافت منها ستة وثلاثون أسطولا متكاملة في عدّتها وعديدها، فأحجمت أساطيل العدوّ عنها وارتدت على أعقابها. واحتلّ بالجزيرة غرّة رمضان. واستيقن الطاغية شانجة وأهل ملّته أنّ بلادهم قد فنيت وأرضهم خربت وتبيّنوا العجز عن المدافعة والحماية، فجنحوا إلى السلم وضرعوا إلى أمير المسلمين في كفّ عاديته عنهم على ما يذكر ووصل إلى السلطان بمكانه من منازلة شريش عمر بن أبي يحيى بن محلى نازعا إلى طاعته، فاتهمه لما سبق من تلاعبه وأمر أخاه طلحة فنكبه. واحتمل إلى طريف فاعتقل بها، وسار طلحة إلى المنكب فاستصفى أموال أخيه عمر وذخائره وسار إلى السلطان. وأقرّ ثانية أخاه موسى على عمله بالمنكب، وأمدّه بعسكر من الرجل. ثم أطلق عمر لليال من اعتقاله. وأجاز طلحة وعمر في ركاب السلطان. ونزع منصور بن أبي مالك حافد السلطان إلى غرناطة، ثم لحق منها بالمنكب وأقام مع موسى بن أبي يحيى بن محلى، فأقرّه السلطان ورضي بمقامه والله تعالى أعلم. (الخبر عن وفادة الطاغية شانجة وانعقاد السلم ومهلك السلطان على تفيئة ذلك) لما نزل ببلاد النصرانية بلاد ابن أدفونش من أمير المسلمين ما نزل من تدمير قراهم واكتساح أموالهم وسبي نسائهم وإبادة مقاتلتهم وتخريب معاقلهم وانتساف عمرانهم، زاغت منهم الأبصار وبلغت القلوب الحناجر واستيقنوا أن لا عاصم من أمير المسلمين، فاجتمعوا إلى طاغيتهم شانجة، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة، متوجعين مما أذاقهم جنود الله من سوء العذاب وأليم النكال. وحملوه على الضراعة لأمير المسلمين في السلم وإيفاد الملأ من كبار النصرانية عليه في ذلك. وإلّا فلا تزال تصيبهم منه قارعة، وتحل قريبا من دارهم فأجاب إلى ما دعوه إليه من الخسف والهضيمة لدينه. وأوفد على أمير المسلمين من بطارقتهم وشما مستهم وأساقفهم يخطبون السلم ويضرعون في المهادنة والإبقاء ووضع أوزار الحرب، فردّهم أمير المسلمين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 اعتزازا عليهم. ثم أعادهم الطاغية بترديد الرغبة على أن يشترط ما شاء من عزّ دينه وقومه. فأسعفهم أمير المسلمين وجنح إلى السلم لما تيقن من صاغيتهم إليه وذلّهم لعزّ الإسلام. وأجابهم إلى ما سألوه واشترط عليهم ما تقبّلوه من مسالمة المسلمين كافة من قومه وغير قومه، والوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من الملوك أو غداوتهم، ورفع الضريبة عن تجّار المسلمين بدار الحرب من بلاده، وترك التضريب بين ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة. وبعث لعمّه عبد الحق ابن الترجمان باشتراط ذلك وأحكام عقده. فاستبلغ وأكّد في الوفاء. ووفدت رسل ابن الأحمر على الطاغية وهو عنده لعقد السلم معه دون أمير المسلمين على قومه، ومدافعته عنهم، فأحضرهم بمشهد ابن الترجمان وأسمعهم ما عقد أمير المسلمين على قومه وأهل ملّته. وقال لهم إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي في مقام السلم والحرب، وهذا أمير المسلمين ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه عنكم فانصرفوا. ولما رأى عبد الحق صاغيته إلى مرضاة السلطان وسوس إليه بالوفادة لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة، وأراه مغبة ذلك في سل السخيمة وتسكين الحفيظة وتمكين الألفة، فصغى إلى وفاته. وسأل لقيّ الأمير أبي يعقوب ولي عهده من قبل ليطمئن عليه، فوصل إليه ولقيه على فراسخ من شريش. وباتا بمعسكر المسلمين هنالك. ثم ارتحلا من الغد للقاء أمير المسلمين وقد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية وقومه وإظهار شعار الإسلام أبهته، فاحتفلوا وتأهّبوا وأظهروا عزّ الملّة وشدّة الشوكة ووفور الحامية. ولقيه أمير المسلمين بأحسن مبرّة وأتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء الملل. وقدّم الطاغية بين يديه هديّة أتحف بها أمير المسلمين وابنه من ظرف بلاده، كان فيها زوج من الحيوان الوحشي المسمّى بالفيل، وحمارة من حمر الوحش إلى غير ذلك من الظرف. فقبلها السلطان وابنه وقابلوه بكفائها ومضاعفتها، وكمل عقد السلم، وتقبّل الطاغية سائر الشروط ورضي بعزّ الإسلام عنه. وانقلب إلى قومه بملء صدره من الرضا والمسرّة وسأل منه أمير المسلمين أن يبعث من كتب العلم التي بأيدي النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام، فاستكثر من أصنافها في ثلاثة عشر حملا بعث بها إليه، فوقفها السلطان بالمدرسة التي أسسها بفاس لطلب العلم. وقفل أمير المسلمين إلى الجزيرة لليلتين بقيتا لرمضان، فقضى صومه ونسكه. وجعل من قيام ليله جزءا لمحاضرة أهل العلم. وأعدّ الشعراء كلمات أنشدوها يوم الفطر بمشهد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 الملأ في مجلس أمير المسلمين. وكان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة عزّوز المكناسي. ذكر فيها سير أمير المسلمين وغزواته على نسق. ثم أعمل أمير المسلمين نظره في الثغور فرتّب بها المسالح وعقد عليها لابنه الأمير أبي زيّان منديل، وأنزله بركوان مقربة مالقة، واستوصاه بأن لا يحدث في بلاد ابن الأحمر حدثا. وعقد لعيّاد بن أبي عيّاض العاصمي على مسلحة أخرى، وأنزله بأصطبونة. وأجاز ابنه الأمير أبا يعقوب لتفقد أحوال المغرب ومباشرة أموره، فأجاز في أسطول القائد محمد بن القاسم الرنداحي قائد سبتة. وأوعز إليه بالبناء على قبر أبيه أبي الملوك عبد الحق، ولقيه إدريس بتافرطست، فاختطّ هنالك رباطا وبنى على قبورهم أسمنة من الرخام، ونقشها بالكتابة، ورتّب عليها قرّاء لتلاوة القرآن، ووقف على ذلك ضياعا وفدنا. وهلك خلال ذلك وزيره يحيى بن أبي منديل العسكري لمنتصف رمضان. ثم اعتلّ بعد ذلك أمير المسلمين لشهر ذي الحجة واشتدّ وجعه وهلك لآخر محرّم سنة خمس وثمانين وستمائة والله أعلم. (الخبر عن دولة السلطان وما كان فيها من الاحداث وشأن الخوارج لأوّل دولته) لما اعتل أمير المسلمين أبو يوسف بالجزيرة، مرّضه نساؤه، وطيّرن الخبر إلى ولي العهد الأمير أبي يعقوب وهو بمكانه من المغرب، فأغذّ السير، وقضى أمير المسلمين قبل وصوله، فأخذ له البيعة على الناس وزراء أبيه وعظماء قومه، وأجاز إليهم البحر، فجدّدوا بيعته غرّة صفر سنة خمس وثمانين وستمائة وأخذوها على الكافة. وانعقد أمر السلطان يومئذ ففرّق الأموال وأجزل الصلات، وسرّح السجون ورفع عن الناس الأخذ بزكاة الفطر، ووكّلهم فيها إلى أمانتهم. وقبض أيدي العمّال عن الظلم والاعتداء والجور على الرعايا، ورفع المكوس ومحا رسم الرتب، وصرف اعتناءه إلى إصلاح السابلة. وكان أوّل شيء أحدث من أمره إلى أن بعث ابن الأحمر وضرب موعدا للقائه، فبدر إليه ولقيه بظاهر مربالة [1] لأوّل ربيع. ولقاه مبرّة وتكريما   [1] وفي نفح الطيب ج 5 ص 85: مربلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 وتجافى له عن جميع الثغور الأندلسية التي كانت لمملكته ما عدا الجزيرة وطريف. وتفرّقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة، ورجع السلطان إلى الجزيرة ووافاه بها وفد الطاغية شانجة مجدّدين عقد السلم الّذي عقد له أمير المسلمين عفا الله عنه فأجابهم. ولمّا تمهّد أمر الأندلس ومرّ عن النظر فيها، عهد لأخيه أبي عطيّة العبّاس على الثغور الغربية والإمارة عليها. وعقد لعلي بن يوسف بن يزكاسن على مسالحها، وأمدّه بثلاثة آلاف من عساكره. وأجاز إلى المغرب فاحتلّ بقصر مصمودة سابع ربيع الثاني. ثم ارتحل إلى فاس، واحتلّ بها لاثنتي عشرة خلت من جمادى، ولحين استقراره بدار ملكه، خرج عليه محمد بن إدريس بن عبد الحق في إخوته وبنيه وذويهم، ولحق بجبل ورغة [1] . ودعا لنفسه، وسرّح إليه السلطان أخاه أبا معروف، فبدا له في النزوع إليهم، ولحق بهم. فأغزاهم السلطان عساكره وردّد إليهم البعوث والكتائب، وتلطّف في استنزال أخيه، فنزل عن الخلاف وعاد إلى حسن طاعته. وفرّ أولاد إدريس إلى تلمسان، وتقبّض عليهم أثناء طريقهم، وسرّح السلطان أخاه أبا زيّان إلى تازى، وأوعز إليه بقتلهم بمليلي خارج تازى لرجب من سنة خمس وثمانين وستمائة ورهب الأعياص عند ذلك من بادرة السلطان ففرقوا ولحق بغرناطة أولاد أبي العلاء إدريس بن عبد الحق، وأولاد يحيى بن عبد الحق، وأولاد عثمان بن يزول. ورجع أولاد أبي يحيى إلى السلطان بعد اقتضاء عهده وأمانه. وهلك أخوه محمد بن يعقوب بن عبد الحق لشعبان من منته. وهلك عمر ابن أخيه أبي مالك بطنجة. ثم خرج على السلطان عمر بن عثمان بن يوسف العسكري بقلعة قندلاوة، ونبذ الطاعة وأذن بالحرب. وأوعز السلطان إلى بني عسكر ومن إليهم من القبائل المجاورين لها، فاحتشدوا له ونازلوه. ثم نهض بركابه وعساكره إلى منازلته، واحتل بسدورة [2] ، وخافه عمر على نفسه، وأيقن أنه أحيط به، فسأل الأمان. وبذله السلطان على شريطة اللحاق بتلمسان، فبعث من يوثق به من الخيرة فنزل. فوفّى له السلطان بعهده، ولحق بتلمسان بأهله وولده. ثم ارتحل السلطان في رمضان من سنته إلى مراكش لتمهيد أنحائها، وتثقيف أطرافها،   [1] وفي نسخة ثانية: جبل درعة. [2] وفي نسخة ثانية: بنبدورة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 واحتل بها في شوّال، واعتمل النظر في مصالحها، ونزع خلال ذلك طلحة بن محلى البطوي إلى بني حسّان من المعقل، وخرج على السلطان ودعا لنفسه. وعقد السلطان لمنصور ابن أخيه أبي مالك على العساكر، وعهد له بولاية السوس وسرّحه لاستنزال الخوارج، ومحو آثار الفساد. وارتاب بمكان أخيه عمر فغرّبه إلى غرناطة، فقتله أولاد أبي العلاء يوم وصوله إليها، فسار الأمير منصور في الجيوش والكتائب، وغزا عرب المعقل وأثخن فيهم. وقتل طلحة بن محلى في بعض حروبهم لثلاث عشرة في جمادى سنة ست وثمانين وستمائة وبعث برأسه إلى سدّة السلطان فعلق بتازى. ثم نهض في رمضان لغزو المعقل بصحراء درعة لما أضرّوا العمران وأفسدوا السابلة. وسار إليهم في اثني عشر ألفا من الفرسان، ومرّ على بلاد هسكورة معترضا جبل درن. وأدركهم بالقفر نواجع، فأثخن فيهم بالقتل والسبي. واستكثر من رءوسهم فعلّقت بشرافات مراكش وسجلماسة وفاس. وعاد من غزوة إلى مراكش آخر شوّال، فنكب محمد بن علي بن محلى عاملها القديم الولاية عليها من لدن غلب الموحدين، لما وقع من الارتياب بأولاد محلى لما آتاهم كبيرهم طلحة، فنكب غرّة المحرّم من سنة سبع وثمانين وستمائة. وهلك في محبسه لشهر صفر بعده. وهلك على ذلك المزوار قاسم بن عتوّ [1] . وعقد السلطان على مراكش وأعمالها لمحمد بن عطو الجاناتي من موالي دولتهم ولاء الحلف. وترك معه ابنه أبا عامر. ثم ارتحل إلى حضرة فاس، فاحتل بها منتصف ربيع، ووافته بها عرسه بنت موسى بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق من غرناطة في وفد من وزراء ابن الأحمر وأهل دولته، فأعرس بها وكان بعث إلى أبيها من قبل في الاصهار بها. ووافت معها رسل ابن الأحمر يسألونه التجافي عن وادي آش، فأسعفهم بها، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الخبر عن دخول وادي آش في طاعة السلطان ثم رجوعها الى طاعة ابن الأحمر) كان أبو الحسن بن أشقيلولة ظهير السلطان ابن الأحمر على ملكه، ومعينة على شأنه، وكان له في الدولة بذلك مكان. ولما هلك خلف من الولد أبا محمد عبد الله وأبا   [1] وفي نسخة ثانية: قاسم بن عبّو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 إسحاق إبراهيم، فعقد ابن الأحمر لأبي محمد على مالقة ولأبي إسحاق على قمارش ووادي آش. ولما هلك السلطان ابن الأحمر حدثت مغاضبات ومنافسات بينهما وبينه، وتأدى ذلك إلى الفتنة كما قلناه ودخل أبو محمد في طاعة السلطان أبي يوسف. ثم هلك فلحق ابنه محمد بالسلطان، ونزل له عن البلد سنة ست وسبعين وستمائة ثم هلك أبو إسحاق سنة اثنتين وثمانين وستمائة وغلب ابن الأحمر على حصن قمارش وصار إليه. وكان الرئيس أبو إسحاق قد عقد لابنه أبي الحسن على وادي آش وحصونها، واتصلت الفتنة بينه وبين ابن الأحمر، وظاهر أبو الحسن عليه الطاغية وأجلب أخوه أبو محمد معه على غرناطة هو وابن الدليل. وطال أمر الفتنة بينهما وبين ابن الأحمر. ثم انعقد السلم بين المسلمين والنصارى، وخشي أبو محمد بن أشقيلولة على نفسه عادية ابن الأحمر، فتذمم بطاعة صاحب المغرب، وأقام دعوته بوادي آش سنة ست وثمانين وستمائة فلم يعرض لها ابن الأحمر حتى إذا وقعت المواصلة بينه وبين ابن السلطان أبي يعقوب، وكان شأن هذا الصهر على يده، بعث رسله إلى السلطان يسأله التجافي عن وادي آش، فتجافى له عنها وبعث إلى أبي الحسن بن أشقيلولة بذلك فتركها. وارتحل إليه سنة سبع وثمانين وستمائة ولقيه بسلا، فأعطاه القصر الكبير وأعماله طعمة سوّغه إياها. ثم نزل لبنيه آخر دولتهم. واستمكن ابن الأحمر من وادي آش وحصونها، ولم يبق له بالأندلس منازع من قرابته. والله يؤتي ملكه من يشاء، والله أعلم. (الخبر عن خروج الأمير أبي عامر ونزوعه الى مراكش ثم فيئته الى الطاعة) لما احتل السلطان بفاس وأقام بها خرج عليه ابنه أبو عامر، ولحق بمراكش، ودعا لنفسه أخريات شوال من سنة سبع وثمانين وستمائة وساعده على الخلاف والانتزاء عاملها محمد بن عطّو. وخرج السلطان في أثره إلى مراكش، فبرز إلى لقائه، فكانت الدائرة عليهم وحاصرهم السلطان بمراكش أياما. ثم خلص أبو عامر إلى بيت المال فاستصفى ما فيه وقتل المشرف ابن أبي البركات، ولحق بجبال المصامدة، ودخل السلطان من غده إلى البلد يوم عرفة، فعفا وسكن ونهض منصور ابن أخيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 الأمير أبو مالك من السوس إلى حاجة فدوّخ انحاءها. ثم سرّح إليه المدد من مراكش، فأوقعوا بوكنة [1] من برابرة السوس، وقتل منهم ما يناهز أربعين من سرواتهم. وكان فيمن قتل منهم شيخهم حيون [2] بن إبراهيم. ثم إنّ ابنه أبا عامر ضاق ذرعه بسخط أبيه وإجلابه في الخلاف، فلحق بتلمسان ومعه وزيره ابن عطو فاتح سنة ثمان وثمانين وستمائة فآواهم عثمان بن يغمراسن، ومهّد لهم المكان ولبثوا عنده أياما. ثم عطف السلطان على ابنه رحم لما عطفت ابنته عليه، فرضي عنه وأعاده إلى مكانه، وطالب عثمان بن يغمراسن أن يسلم إليه ابن عطو الناجم في النفاق مع ابنه، فأبى من إضاعة جواره وإخفار ذمّته، وأغلظ له الرسول في القول فسطا به واعتقله، فثارت من السلطان الحفائظ الكامنة، وتحرّكت الإحن القديمة، والنزلات المتوارثة. واعتزم على غزو تلمسان والله أعلم. (الخبر عن تجدد الفتنة مع عثمان بن يغمراسن وغزو السلطان مدينة تلمسان ومنازلته إياها) كانت الفتنة بين هذين الحيّين قديمة من لدن مجالاتهم بالقفر من حمراء ملويّة إلى صا، إلى فيكيك، ولما انتقلوا إلى التلول وتغلّبوا على الضواحي بالمغرب الأقصى والأوسط، لم تزل فتنتهم متّصلة وأيام حروبهم فيها مذكورة. وكانت دولة الموحدين عند اختلالها والتياثها تستنصر منهم بالتضريب بينهم والفتنة، فتأكدت لذلك أحوالها واتصلت أيامها. وكان بين يغمراسن بن زيّان وأبي يحيى بن عبد الحق فيها وقائع ومشاهد، نقلنا منها بعضا من كل. واستظهر الموحدون بيغمراسن عليه في بعضها. وكان الغلب أكثر ما يكون لأبي يحيى بن عبد الحق لوفور قبيلة. إلّا أنّ يغمراسن كان يتصدّى لمقاومته في سائر وقائعه. ولما طمس أثر بني عبد المؤمن واستولى يعقوب ابن عبد الحق على ملكهم، وصارت في جملته عساكرهم، وتضاعف عليه، وأسف على ملك يغمراسن ملكه. وجمع له فأوقع به في تلاغ الواقعة المعروفة. ثم أوقع به ثانية وثالثة. ولما استوت قدم يعقوب بن عبد الحق في ملكه، واستكمل فتح   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكنة. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حبون- حبور- حنون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 المغرب وسائر أمصاره، وكبح يغمراسن عن التطاول إلى مقاومته، وأوهن قواه بفلّ جموعه ومنازلته في داره، ومظاهرة أقتاله من زناتة بني توجين ومغراوة عليه. فانصرف بعد ذلك إلى الجهاد، فكان له فيه شغل عمّا سواه كما نقلناه في أخباره. ولما انصرف ارتاب ابن الأحمر بمكان السلطان يعقوب بن عبد الحق من الأندلس، وحذّره على ملكه، وتظاهر مع الطاغية على منعه من الإجازة إلى عدوتهم، ثم خشوا أن لا يستقلوا بمدافعته، فراسلوا يغمراسن في الأخذ بحجزته. وأجابهم إليها وجرّد عزائمه لها، واتصلت أيديهم في التظاهر عليه. ثم فسد ما بين ابن الأحمر والطاغية ولم يكن له بدّ من ولاية يعقوب بن عبد الحق، فتولى [1] بواسطة ابنه يوسف بن يعقوب كما ذكرناه وأطلعوه على خباء يغمراسن في مظاهرتهم، فأغزاه سنة تسع وسبعين وستمائة وهزمه بخرزونة [2] . ونازلة بتلمسان ووطأ عدوّه من بني توجين بساحته كما ذكرناه. ثم انصرف إلى شأنه من الجهاد، وهلك يغمراسن بن زيّان على تفيئة ذلك سنة إحدى وثمانين وستمائة، وأوصى ابنه عثمان ولي عهده، زعموا أن لا يحدّث نفسه بمقاومة بني مرين ومساماتهم في الغلب، وأن لا يبرز إلى لقائهم بالصحراء، وأن يلوذ منهم بالجدران متى سموا إليه. وألقى إليه، زعموا أنّ بني مرين بعد تغلّبهم على مراكش، وانضياف سلطان الموحدين إلى سلطانهم، ازدادت قوّتهم وتضاعف غلبهم. وقال له زعموا فيما أوصاه. ولا يغرّنك أني رجعت إليهم بعدها، وبرزت إلى لقائهم، فإنّي أنفت أنّ أرجع عن مقاومتهم بعد اعتيادها، وأترك مبارزتهم وقد عرفها الناس. وأنت لا يضرّك العجز عن مبارزتهم والنكول عن لقائهم، فليس لك في ذلك مقام معلوم، ولا عادة سالفة، واجهد جهدك في التغلّب على إفريقية وراءك، فإن فعلت كانت المناهضة. وهذه الوصاة زعموا هي التي حملت عثمان وبنيه من بعده على طلب ملك إفريقية، ومنازلة بجاية وحربهم مع الموحدين. ولمّا هلك يغمراسن ذهب ابنه إلى مسالمة بني مرين، فبعث أخاه محمدا إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق، وأجاز البحر إليه بالأندلس. ووافاه بأركش في إجازته الرابعة سنة أربع وثمانين وستمائة فعقد له ما جاء إليه من السلم والمهادنة، ورجّعه إلى أخيه وقومه ممتلئا كرامة وسرورا. وهلك يعقوب بن عبد الحق أثر ذلك سنة خمس وثمانين   [1] وفي نسخة ثانية: فتولاه. [2] وفي نسخة ثانية: خرزوزة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 وستمائة وقام بالأمر ابنه يوسف بن يعقوب. وانتزى الخوارج عليه بكل جهة، فشمّر لهم واستنزلهم وحسم أدواءهم. ثم خرج عليه ابنه آخرا كما ذكرناه بممالأة وزير السلطان محمد بن عطّو. ثم فاء إلى طاعة أبيه ورضي عنه، وأعاده إلى مكانه من حضرته. وطالب عثمان بن يغمراسن كما ذكرناه في ابن عطو المنتزي عليه مع ابنه، فأبى عثمان من تسليمه وتحرّكت حفيظة السلطان واعتزم على غزوهم، فارتحل من مراكش لصفر من سنة سبع وثمانين [1] وعقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الرحمن. ثم نهض لغزاته من فاس آخر ربيع من سنته في عساكره وجنوده، وحشد القبائل وكافة أهل المغرب، وسار حتى نزل تلمسان فانحجز عثمان وقومه بها، ولاذوا منه بجدرانها. فسار في نواحيها ينسف الآثار ويخرب العمران ويحطم الزرع. ثم نزل بذراع الصابون بساحتها. ثم انتقل منه إلى تامة [2] وحاصرها أربعين يوما، وقطع أشجارها، وأباد خضراءها. ولما امتنعت عليه أفرج عنها وانكفأ راجعا إلى المغرب. وقضى نسك الفطر بعين الصفا من بلاد بني يرناتن، ونسك الأضحى وقربانه بتازى، وتلبّث بها، ومنها كان فصوله للغزو عند انتقاض الطاغية كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن انتقاض الطاغية واجازة السلطان لغزوه) لما رجع السلطان من غزو تلمسان وافاه الخبر بأنّ الطاغية شانجة انتقض ونبذ العهد، وتجاوز التخوم وأغار على الثغور، فأوعز إلى قائد المسالح علي بن يوسف بن يزكاسن بالدخول إلى دار الحرب ومنازلة شريش. وشنّ الغارات على بلاد الطاغية، فنهض لذلك في ربيع الآخر من سنة تسعين وستمائة وجاس خلالها، وتوغّل في أقطارها، وأبلغ في النكاية. وفصل السلطان من تازى غازيا على أثره في جمادى، واحتل قصر مصمودة، واستنفر أهل المغرب وقبائله. ونفروا وشرع في إجازتهم البحر. وبعث الطاغية أساطيله إلى الزقاق حجزا دون الإجازة، فأوعز السلطان إلى قوّاد أساطيله بالسواحل فأغزاهم. والتقت الأساطيل ببحر الزقاق في شعبان فاقتتلوا وانكشف   [1] وفي نسخة ثانية: تسع وثمانين. [2] وفي نسخة ثانية: ثمامة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 المسلمون ومحصهم الله. ثم أغزاهم ثانية وخامت أساطيل العدو عن اللقاء، وصاعدوا عن الزقاق. وملكته أساطيل السلطان فأجاز أخريات رمضان واحتلّ بطريف. ثم دخل دار الحرب غازيا، فنازل حصن بجير ثلاثة أشهر، وضيّق عليهم. وبثّ السرايا في أرض العدو، وردّد الغارات على شريش وإشبيلية ونواحيها إلى أن بلغ في النكاية والإثخان. وقضى من الجهاد وطرا، وزاحمه فصل الشتاء وانقطاع الميرة عن العسكر، فأفرج عن الحصن ورجع إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب فاتح إحدى وتسعين وستمائة فتظاهر ابن الأحمر والطاغية على منعه كما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم. (الخبر عن انتقاض ابن الأحمر ومظاهرته للطاغية على طريف أعادها الله للمسلمين) لما قفل السلطان من غزاتة فاتح إحدى وتسعين وستمائة كما ذكرناه، وقد أبلغ في نكاية العدوّ وأثخن في بلاده، فأهمّ الطاغية أمره، وثقلت عليه وطأته، والتمس الوليجة من دونه. وحذّر ابن الأحمر غائلته، ورأى أنّ مغبّة حاله الاستيلاء على الأندلس وغلبه على أمره، ففاوض الطاغية وخلصوا نجيّا. وتحدّثوا أنّ استمكانه من الإجازة إليهم إنّما هو لقرب مسافة بحر الزقاق، وانتظام ثغور المسلمين حفافيه لتصرف شوانيهم وسفنهم متى أرادوا فضلا عن الأساطيل وأن أمّ تلك الثغور طريف، وأنهم إذا استمكنوا منها كانت ربيئة لهم على بحر الزقاق. وكان أسطولهم بمرقاها بمرصد الأساطيل صاحب المغرب الخائضين لجّة ذلك البحر، فاعتزم الطاغية على منازلة طريف. وزعم له ابن الأحمر بمظاهرته على ذلك، وشرط له المدد والميرة لأقوات العسكر أيام منازلتها، على أن تكون له إن خلصت. وتعاونوا على ذلك وأناخ الطاغية بعساكر النصرانية على طريف. وألحّ عليها بالقتال ونصب الآلات وانقطع عنها المدد والميرة. واحتلت أساطيله ببحر الزقاق، فحالفوا دون الصريخ من السلطان وإخوانهم المسلمين. وضرب ابن الأحمر معسكره بمالقة قريبا منه، وسرّب إليه المدد من السلاح والرجال والميرة من الأقوات، وبعث عسكرا لمنازلة حصن أصطبونة، وتغلّب عليه بعد مدة من الحصار. واتصلت هذه الحال أربعة أشهر حتى أصاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 أهل طريف الجهد، ونال منهم الحصار، فراسلوا الطاغية في الصلح والنزول عن البلد، فصالحهم واستنزلهم سنة إحدى وتسعين وستمائة ووفّى لهم بعهده. واستشرف ابن الأحمر إلى تجافي الطاغية عنها لما عقدوا عليه، فأعرض عن ذلك واستأثر بها بعد أن كان نزل له عن ستة من الحصون عوضا منها، ففسد ذات بينهما، ورجع ابن الأحمر إلى تمسّكه بالسلطان واستعانته به لأهل ملّته على الطاغية. وأوفد ابن عمّه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف ووزيره أبا سلطان عزيز الداني في وفد من أهل حضرته لتجديد العهد وتأكيد المودّة وتقرير المعذرة عن شأن طريف. فوافوه بمكانه من منازلة تازوطا كما يذكر بعد. فأبرموا العقد وأحكموا الصلح وانصرفوا إلى ابن الأحمر سنة اثنتين وتسعين وستمائة بأسعاف غرضه من المواخاة واتصال اليد. وهلك خلال ذلك قائد المسالح بالأندلس علي بن يزكاسن في ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين وستمائة وعقد السلطان لابنه ولي عهده، الأمير أبي عامر على ثغور الأندلس التي في طاعته، وعهد له بالنظر في مصالحها. وأنفذه إلى قصر المجاز بعسكره فوافاه هنالك السلطان ابن الأحمر كما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم. (الخبر عن وفادة ابن الأحمر على السلطان والتقائهما بطنجة) لما رجعت الرسل الى ابن الأحمر، وقد كرّمت وفادتهم وقضيت حاجتهم، وأحكمت في المواخاة مقاصدهم، وقع ذلك من ابن الأحمر أجمل موقع، وطار سرورا من أعواده. وأجمع الرحلة إلى السلطان لإحكام الودّ والاستبلاغ في العذر عن واقعة طريف وشأنها، واستعدادهم لإغاثة المسلمين ونصرهم من عدوّهم. فاعتزم على ذلك وأجاز البحر ذا القعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة واحتل بنيونش من ساحة سبتة. ثم ارتحل إلى طنجة، وقدّم بين يدي نجواه هدية سنيّة أتحف بها السلطان، كان من أحفلها وأحسنها موقعا لديه فيما زعموا المصحف الكبير، أحد مصاحف عثمان ابن عفّان أحد الأربعة المنبعثة إلى الآفاق، المختص هذا منها بالمغرب، كما نقله السلف. كان بنو أمية يتوارثونه بقرطبة، فتلقاه الأمير أبو عامر هنالك، وأخوه الأمير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 أبو عبد الرحمن ابنا السلطان واحتفلا في مبرّته. ثم جاء السلطان على أثرهما من حضرته لتلقّيه وبرور مقدمه، ووافاه بطنجة، وبلغ في تكرمته وبرّ وفادته ما يكرّم به مثله. وبسط ابن الأحمر العذر عن شأن طريف فتجافى السلطان عن العذل وأعرض عنه وقبل منه. وبرّ واحتفى ووصل وأجزل، ونزل له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة والغربية وعشرين حصنا من ثغور الأندلس كانت من قبل لطاعة صاحب المغرب ونزل عساكره. وعاد ابن الأحمر إلى الأندلس خاتم اثنتين وتسعين وستمائة محبوّا محبورا. وأجازت عساكر السلطان معه لحصار طريف وعقد على حربها ومنازلتها لوزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن الخرباش الجشمي، فنازلها مدّة، وامتنعت فأفرج عنها. وصرف السلطان همّته إلى غزو تلمسان وحصارها. كما يذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن انتزاء الوزير الوساطي بحصن تازوطا من جهات الريف واستنزال السلطان إياه) كان بنو الوزير هؤلاء رؤساء بني واطاس من قبل بني مرين، ويرون أن نسبهم دخيل في بني مرين. وأنّهم من أعقاب علي بن يوسف بن تاشفين لحقوا بالبدو ونزلوا على بني واطاس، ورسخت فيهم عروقهم حتى لبسوا جلدتهم. ولم يزل السرو متربعا بين أعينهم لذلك، والرئاسة شامخة بأنوفهم. وكانوا يرومون الفتك بالأمراء من أولاد عبد الحق، فلم يطيقوه. ولما احتلّ السعيد بتازى غازيا إلى تلمسان كما ذكرناه، ولحق ببلدهم الأمير أبو يحيى بن عبد الحق ائتمروا في الفتك به. ونذر بشأنهم فارتحل، ففرّوا إلى غبولة وعين الصفا من بلاد بني يزناسن، وهنالك بلغه خبر مهلك السعيد. وكانت بلاد الريف لبني واطاس من لدن دخول بني مرين المغرب واقتسامهم لأعماله فكانت ضواحيها لنزلهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم. وكان حصن تازوطا بها من أمنع المعاقل بالمغرب وكان الملوك من أولاد عبد الحق يعتنون بشأنه، وينزلونه من أوليائهم من يثقون بغنائه واطلاعه، ليكون آخذا بناصية هؤلاء الرهط. وشجا في صدورهم عمّا يسيمون إليه. وكان السلطان قد عقد عليه لمنصور ابن أخيه الأمير أبي مالك بعد مهلك ابنه أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق. وكان عمر بن يحيى ابن الوزير وأخوه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 عامر رئيسين على بني واطاس لذلك العهد، فاستوهنوا أمر السلطان بعد مهلك أبيه، وحدّثوا أنفسهم بالانتزاء بتازوطا والاستبداد بتلك الناحية، فوثب عمر منهم بمنصور ابن أخي السلطان شهر شوال من سنة إحدى وتسعين وستمائة وفتك برجاله وذويه وأزعجه عنها، وغلبه على مال الجباية الّذي كان بقصره، فاستصفاه واستأثر به. واستبدّ وشحن الحصن برجاله وحاشيته ووجوه قومه. ووصل منصور إلى السلطان وهلك لليال من منجاته أسفا لما أصابه. وسرّح السلطان وزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن خرباش بالعساكر لمنازلته فأناخ عليه. ثم نهض السلطان على أثره ووافاه واضطرب معسكره بساحته. وخالف عامر أخاه عمر إلى السلطان بقومه حذرا من مغبّة الأمر، وأشفق عمر لشدّة الحصار ويئس من الخلاص، وظنّ أن قد أحيط به ودسّ إلى أخيه عامر، فاستأذن السلطان في مداخلته في الدخول على الحصن فأذن له. واحتمل ذخيرته وفرّ إلى تلمسان. وبدا لعامر في رأيه عند ما خلص إلى الحصن وخلاله من أخيه عمر الجوّ. وحذر غائلة السلطان وخشي أن يثأر منه بابن أخيه، فامتنع بالحصن. ثم ندم وسقط في يده، وفي خلال ذلك كان وصول وفد الأندلس، وأرسوا أساطيلهم بمرسى غساسة، فبعث إليهم عامر أن يشفعوا له عند السلطان لوجاهتهم لديه، فتقبّلت شفاعتهم على شريطة إجازته إلى الأندلس، وكره ذلك وقدّم بين يديه بعض حاشيته إلى الأسطول مكرا بهم، وخاض الليل إلى تلمسان، وتقبّض السلطان على ولده وقتل. وأسلم أهل الاسطول من كان من حاشيته لديهم، وتجافوا عن إجازتهم على السلطان لما مكر بهم عامر فامر فاستلحموا مع من كان بالحصن من أتباعهم وقرابتهم وذريّاتهم [1] وتملّك السلطان حصن تازوطا وأنزل به عمّاله، ومسلحته وقفل إلى حضرته بفاس آخر جمادى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة والله تعالى أعلم. (الخبر عن نزوع أبي عامر ابن السلطان الى بلاد الريف وجهات غمارة) كان الأمير أبو عامر بعد إجازة ابن الأحمر إلى السلطان أبيه ورضاه عنه، وتأكيد   [1] وفي نسخة ثانية: ذويهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 مؤاخاته وإغراء وزيره بمنازلة طريف، واستنزاله أولاد الوزير المنتزين بحصن تازوطا رجع من قصر مصمودة إلى بلاد الريف بإيعاز أبيه إليه بذلك لتسكين أحوالها. وكان أولاد الأمير أبي يحيى بن عبد الحق قد نزعوا إلى تلمسان لسعاية فيهم، وقرت في صدر السلطان، فأقاموا بها أياما، ثم استعطفوا السلطان واسترضوه، فرضي وأذن لهم في الرجوع في محلّهم من قومهم ودولتهم. وبلغ الخبر الأمير أبا عامر وهو بمعسكره من الريف، فأجمع على اغتيالهم في طريقهم فظنّ أنه يرضي بذلك أباه. واعترضهم بوادي القطف من ملويّة سنة خمس وتسعين وستمائة فاستلحمهم وانتهى الخبر إلى السلطان فقام في ركائبه وقعد، وتبرّأ إلى ابنه [1] من إخفار ذمّته. ومن صنيع ابنه. وسخطه وأقصاه، فذهب مغاضبا ولحق ببلاد الريف. ثم صعد إلى جبل غمارة، فلم يزل طريدا بينهم. ونازلته عساكر أبيه لنظر ميمون بن وردار [2] الجشميّ، ثم لنظر يرزيكن بن المولاة تاميمونت. وأوقع بهم مرارا آخرها بيرزيكن سنة سبع وتسعين وستمائة، وذكر الربجي [3] مؤرّخ دولتهم أنّ خروجه بجبل غمارة كان سنة أربع وتسعين وستمائة وقتله لأولاد الأمير أبي يحيى كان سنة خمس وتسعين وستمائة بعدها أغزاهم [4] من مثوى انتزائه، وقتلهم كما ذكرناه والله أعلم. ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك ببني سعيد من جبال غمارة سنة ثمان وتسعين وستمائة ونقل شلوه إلى فاس فووري بباب الفتوح ملحد قومهم هنالك. وأعقب ولدين نقلهما السلطان جدّهما، فكانا الخليفتين من بعده ملي ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الخبر عن حصار تلمسان الكبير وما تخلل ذلك من الاحداث) كان عثمان بن يغمراسن بعد إفراج السلطان سنة تسع وثمانين وستمائة وانتقاض الطاغية   [1] وفي نسخة ثانية: إلى الله. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وردان. [3] وفي نسخة ثانية: الزليخي. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أغرابهم من مثوى انتزائه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 وابن الأحمر عليه كما قلناه، صرف إلى ولايتهما وجه تدبيره وأوفد على الطاغية ابن بريدي من صنائع دولته سنة اثنتين وتسعين وستمائة ووجّهه الطاغية مع الريك ريكسن رسول من كبار قومه. ثم عاد إليه الحاج مسعود من حاشيته، ووصل يده بيده يظنّ ذلك دافعا عنه. واعتدّها السلطان عليه وطوى له على النثّ. حتى إذا فرغ من شأن الأندلس وهلك الطاغية شانجة سنة ثلاث وتسعين وستمائة لإحدى عشرة من سني ملكه، وارتحل السلطان إلى طنجة لمشارفة أحوال الأندلس سنة أربع وتسعين وستمائة فأجاز إليه السلطان ابن الأحمر ولقيه بطنجة، وأحكم معه المؤاخاة. ولما استيقن سكون أحوالها، نزل لابن الأحمر عن جميع الثغور التي بها الطاغية، وأجمع غزو تلمسان، ولحق به بين يدي ذلك ثابت بن منديل المغراوي صريخا على ابن يغمراسن ومستجيشا بقومه فتقبله وأجاره. وكان أصاب الناس أعوام اثنتين وتسعين وستمائة قحط، ونالتهم سنة وهنوا لها. ثم أنّ الله رحم خلقه وأدرّ نعمته، وأعاد الناس إلى ما عهدوه من سبوغ نعمهم وخصب عيشهم. ووفد عليه سنة أربع وتسعين وستمائة ثابت بن منديل أمير مغراوة مستصرخا به من عثمان بن يغمراسن، فبعث من كبار قومه موسى بن أبي حمّو إلى تلمسان شغيعا في ثابت بن منديل فردّه عثمان أقبح ردّ وأساء في إجابته، فعاود الرسالة إليهم في شأنه، فلم يزدهم إلّا إصرارا [1] فاعتزم على غزو بلادهم واستعدّ لذلك، ونهض سنة أربع وتسعين وستمائة حتى انتهى إلى بلاد تاوريرت، وكانت تخما لعمل بني مرين وبني عبد الواد في جانبها عامل السلطان أبي يعقوب، وفي جانبها الآخر عامل عثمان بن يغمراسن. فطرد السلطان عامل ابن يغمراسن وتميز بها، واختطّ الحصن الّذي هنالك لهذا العهد. تولاه بنفسه يغادي الفعلة ويراوحهم، وأكمل بناءه في شهر رمضان من سنته. واتخذه ثغرا لملكه، وأنزل بني عسكر لحياطته وسدّ فروجه. وعقد عليهم لأخيه أبي يحيى بن يعقوب، وانكفأ راجعا إلى الحضرة. ثم خرج من فاس سنة خمس وتسعين وستمائة غازيا إلى تلمسان، ومرّ بوجدة، فهدم أسوارها وتغلّب على مسيفة والزغاوة [2] . وانتهى إلى ندرومة، ونازلها أربعين يوما ورماها بالمنجنيق. وضيّق عليها وامتنعت عليه فأفرج عنها ثاني الفطر. ثم أغزى   [1] وفي نسخة ثانية: فلم تزدهم إلا ضرارا. [2] وفي نسخة ثانية: الزغّارة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 تلمسان سنة ست وتسعين وستمائة وبرز لمدافعته عثمان بن يغمراسن، فهزمه وحجزه بتلمسان، ونزل بساحتها وقتل خلقا من أهلها، ونازلها أياما. ثم أقلع عنها وقفل إلى المغرب وقضى منسك الأضحى من سنته بتازى. فأعرس هنالك لحافدة أبي ثابت ابن منديل، كان أصهر فيها إلى جدّها قبل مهلكه سنة ست وتسعين وستمائة قتيلا ببحيرة الزيتون من ظاهر فاس. قتله بعض بني ورتاجن في دم كان لهم في قومه، فثأر السلطان به من قاتله وأعرس بحافدته. وأوعز ببناء القصر بتازى، وقفل إلى فاس فاتح سنة سبع وتسعين وستمائة. ثم ارتحل إلى مكناسة وانكفأ إلى فاس. ثم نهض جمادى غازيا تلمسان ومرّ بوجدة فأوعز ببنائها وتحصين أسوارها، واتخذ بها قصبة ودارا لسكناه ومسجدا وأغزى إلى تلمسان، ونزل بساحتها، وأحاطت عساكره إحاطة الهالة بها، ونصب عليها القوس البعيدة النزع العظيمة الهيكل المسمّاة بقوس الزيار ازدلف إليه الصنّاع والمهندسون بعملها، وكانت توقر على أحد عشر بغلا. ثم لما امتنعت عليه تلمسان أفرج عنها فاتح سنة ثمان وتسعين وستمائة ومرّ بوجدة، فأنزل بها الكتائب من بني عسكر لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب كما كانوا بتاوريرت، وأوعز إليهم بترديد الغزاة على أعمال ابن يغمراسن وإفساد سابلتها. وضاقت أحوالهم ويئسوا من صريخ صاحبهم، فأوفدوا على الأمير أبي يحيى وفدا منهم يسألون الأمان بمن وراءهم من قومهم، على أن يمكّنوه من قياد بلدهم، ويدينوا بطاعة السلطان، فبذل لهم من ذلك ما أرضاهم، ودخل البلد بعساكره، واتبعهم أهل تاوونت وأوفد مشيختهم جميعا على السلطان آخر جمادى، فقدموا عليه لحضرته وأدّوا طاعتهم، فقبلها. ورغبوا إليه في الحركة إلى بلادهم ليريحهم من ملكة عدوّه وعدوّهم ابن يغمراسن، ووصفوا من عسفه وجوره وضعفه عن الحماية، ما استنهض السلطان لذلك على ما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم. (الخبر عن الحصار الكبير لتلمسان وما تخلل ذلك من الأحداث) لما توفّرت عزائم السلطان عن النهوض إلى تلمسان، ومطاولة حصارها إلى أن يظفر بها وبقومها، واستيقن أنه لا مدافع له عن ذلك، نهض من فاس شهر رجب من سنة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 ثمان وتسعين وستمائة بعد أن استكمل حشده. ونادى في قومه، واعترض عساكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم. وارتجل في التعبية واحتل بساحة تلمسان ثاني شعبان وأناخ عليها وضرب معسكره بفنائها. وحجز عثمان بن يغمراسن وحاميتها من قومه، وأدار الأسوار سياجا على عمرانها كلّه، ومن ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى. ورتّب المسالح على أبوابها وفرجها، وسرّح عساكره لمحاصرتها فاقتحموها [1] وآتوا طاعتهم، وأوفد مشيختهم وسط شعبان. ثم سرّح عساكره لمحاصرة وهران وتقرّى البسائط ومنازلة الأمصار، فأخذت مازونة في جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين وستمائة وتنس في شعبان بعده، وتالموت [2] والقصبات وتامزردكت في رمضان منه، وفيه كان فتح مدينة وهران. وسارت عساكره في الجهات إلى أن بلغت بجاية كما نذكره. وأخذ الرعب بقلوب الأمم بالنواحي، وتغلّب على ضواحي مغراوة وتوجين، وسارت فيها عساكره ودوّختها كتائبه، واقتحمت أمصارها مثل مليانة ومستغانم وشرشال والبطحاء ووانشريش والمرية [3] وتافركينت، وأطاعه زيري المنتزي ببرشك. وأتى بيعته، وابن علان المنتزي بالجزائر. وأزعج الناكثين منهم عن طاعته، واستألف أهل الطاعة [4] كما نذكره. وحذره الموحدون من ورائهم بإفريقية ملوك بجاية وملوك تونس، فمدّوا إليه يد المواصلة ولاطفوه بالمتاحفة والمهاداة كما نذكره، وخاطب صاحب الديار المصرية ملك الترك وهاداه وراجعه كما نذكره، ووفد عليه شرفاء مكة بني أبي نمى كما نذكر. وهو في خلال ذلك مستجمع للمطاولة بالحصار والتضييق، متجاف عن القتال إلّا في بعض الأيام، ولم تبلغ أربعة أو خمسة ينزل شديد العقاب والسطوة بمن يميرها ويأخذ بالمرصاد على من يتسلّل بالأقوات اليها. قد جعل سرداق الأسوار المحيطة ملاكا لأمره في ذلك، فلا يخلص إليهم الطيف ولا يكاد يصل إليهم العيث مدّة مقامه عليها، إلى أن هلك بعد مائة شهر كما نذكره. واختطّ بمكان فسطاط المعسكر قصرا لسكناه، واتّخذ به مسجدا لمصلّاه وأدار عليها السور، وأمر الناس بالبناء فبنوا الدور الواسعة والمنازل الرحيبة   [1] وفي نسخة ثانية: وسرّح عساكره الى هنين فافتتحها. [2] وفي نسخة ثانية: تاللوت. [3] وفي نسخة ثانية: المدية. [4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخ أخرى: أهل الظاعنة. وأهل الصاغية وأهل الطاغية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 والقصور الأنيقة، واتخذوا البساتين وأجروا المياه. ثم أمر بإدارة السور سياجا على ذلك سنة اثنتين وسبعمائة، وصيّرها مصرا، فكانت من أعظم الأمصار والمدن وأحفلها اتساع خطة وكثرة عمران ونفاق أسواق، واحتفال بناء وتشييد منعة. وأمر باتخاذ الحمامات والمارستان، وابتنى مسجدا جامعا، وشيّد له مئذنة رفيعة، فكان من أحفل مساجد الأمصار وأعظمها، وسمّاها المنصورة، واستبحر عمرانها ونفقت أسواقها [1] ، ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق فكانت إحدى مدائن المغرب. وخرّبها آل يغمراسن عند مهلكه، وارتحال كتائبه عنها، بعد أن كان بنو عبد الواد أشرفوا على الهلاك، وأذنوا بالانقراض كما نذكره، فتداركهم من لطف الله ما شأنه أن يتدارك المتورطين في المهالك، والله غالب على أمره. (الخبر عن افتتاح بلاد مغراوة وما تخلل ذلك من الأحداث) لما أناخ السلطان على تلمسان وتغلّب على ضواحي بني عبد الواد، وافتتح أمصارهم، سما إلى التغلّب على ممالك مغراوة وبني توجين. وكان ثابت بن منديل قد وفد على السلطان بمقرّ ملكه من فاس سنة أربع وتسعين وستمائة وأصهر إليه في حافدته، فعقد له عليها. وهلك ثابت بمكان وفادته من دولتهم، وأعرس السلطان بحافدته سنة ست وتسعين وستمائة كما ذكرنا ذلك من قبل، فلمّا تغلّب السلطان على مال بني عبد الواد جهّز عساكره إلى بلاد مغراوة، وعقد عليها لعلي بن محمد من عظماء بني ورتاجن، فتغلّبوا على الضواحي وشرّدوا مغراوة إلى رءوس المعاقل. واعتصم راشد بن محمد بن ثابت بن منديل صهر السلطان بمليانة فنازلوه بها. ثم استنزلوه على الأمان تسع وتسعين وستمائة فأوفدوه على السلطان، فلقاه مبرّة وتكرمة، وخلطه بجملته (لمكان) صهره معه. ثم افتتحوا مدينة تدلس [2] ومازونة وشرشال. وأعطى زيري بن حمّاد المنتزي على برشك من بلادهم يد الطاعة. وأوفد على السلطان للبيعة، واستولوا على ضواحي شلف كلّها. ولاذت مغراوة بطاعة السلطان.   [1] وفي نسخة ثانية: وهالت أسواقها. [2] وفي نسخة ثانية: تنس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 وعقد عليهم وعلى جميع بلادهم لعمر بن ويفرن بن منديل فآسف ذلك راشد بن محمد لما كان يراه لنفسه من الاختصاص. ولما كانت أخته حظيّة السلطان وكريمته، ونافس عمر بن ويفرن في إمارة قومه، فلحق بجبال متيجة، وأجلب على من هنالك من عمّال السلطان وعساكره وانحاش إليه مرضى القلوب من قومه، فاعصوصبوا عليه. وداخلوا أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وملّكوه أمرهم في ربيع من المائة السابعة. ثم بيّت عمر بن ويفرن بمعسكره من أزمور، فقتله واستباح المعسكر. وبلغ الخبر إلى السلطان، فسرّح العساكر من بني مرين وعقد لعليّ بن الحسن بن أبي الطلاق على قومه من بني عسكر، ولعليّ بن محمد الخيريّ على قومه من بني ورتاجن، وجعل الأمر شورى بينهما، وأشرك معهما عليها الحسّاني من صنائع دولته، وأبا بكر بن إبراهيم بن عبد القوي من أعياص بني توجين. وعقد على مغراوة محمد بن عمر بن منديل، وأشركه معهم، وزحفوا إلى راشد. ولمّا أحس بالعساكر لجأ إلى معقل بني بو سعيد فيمن معه من شيعة مغراوة. وأنزل بمازونة عليا وحمّو ابني عمه يحيى بن ثابت، واستوصاهم بضبط البلد، وأنه مشرف عليهم من الجبل. وجاءت عساكر السلطان إلى بلاد مغراوة فتغلّبوا على البسائط وأناخوا بمازونة، وضربوا معسكرهم بساحتها، وأخذوا بمخنقها، واهتبل عليّ وقومه غرّة في معسكر بني مرين فبيّتهم سنة إحدى وسبعمائة. وانفضّ المعسكر وتقبّض على علي بن محمد الخيريّ، ثم امتنعوا عليه وعاد المعسكر إلى مكانهم من حصارهم، وجهدهم حالهم فنزل إليهم حمّو بن يحيى على حكم السلطان. وأنفذوه إليه فتقبّض عليه. ثم نزل عليّ ثانية من غير عهد، فأشخصوه إلى السلطان فلقاه مبرّة وتكريما، تأنيسا الراشد المنتزي بمعقله. واقتحمت على أهلها عنوة سنة ثلاث وسبعمائة فمات منهم عالم واحتملت رءوسهم إلى سدّة السلطان، رءوسهم إلى سدّة السلطان، فرميت في حفائر البلد المحصور إرهابا لهم وتخذيلا، ولما عقد السلطان لأخيه أبي يحيى على بلاد الشرق وسرّحه لتدويخ التخوم، نازل راشد بمعقله من بني بو سعيد، فبيت راشد معسكرهم إحدى لياليه، فانفضّوا وقتل طائفة من بني مرين. ووجد السلطان لها فأمر بقتل عليّ وحمّو ابني عمه يحيى، ومن كان معتقلا معهما من قومهما. ورفعوا على الجذوع وأثبتوهم بالسهام، ونزل راشد بعدها عن معقلة ولحق بمتيجة، وانحاش إليه منيف بن ثابت، وأوشاب من مغراوة وتحيّز الآخرون إلى أميرهم محمد بن عمر بن منديل الّذي عقد له السلطان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 عليهم. ثم تأشّبت على راشد ومنيف خوارج الثعالبة ومليكش، وصمد إليهم الأمير ابو يحيى في عساكره ثانية، ونازلهم بمعاقلهم ورغبوا في السلم، فبذله السلطان لهم، وأجاز منيف بن ثابت إلى الأندلس فيمن إليه من بنيه وعشيرة، فاستقرّوا بها آخر الأيام. ولحق راشد ببلاد الموحّدين ووفد محمد بن منديل سنة خمس وسبعمائة على السلطان، فأوسعه حبّا وتكريما. وتمهّدت بلاد مغراوة واستبدّ بملكها السلطان، وصرف إليها العمّال، ولم يزل كذلك إلى أن هلك سنة ست وسبعمائة والله تعالى أعلم. (الخبر عن افتتاح بلاد توجين وما تخلل ذلك) لما نازل يوسف بن يعقوب تلمسان وأحاط بها، وتغلّب على بني عبد الواد، وسما إلى تملك بلاد توجين. وكان عثمان بن يغمراسن قد غلبهم على مواطنهم، وملك جبل وانشريش وتصرّف في بني عبد القوي بالولاية والعزل وأخذ الإتاوة سنة إحدى وسبعمائة، وأوعز إليه السلطان ببناء البطحاء التي هدمها محمد بن عبد القويّ، فبناها وتوغّل في قاصية المشرق، ثم انكفأ راجعا إلى حضرة أخيه وعطف على بلاد بني توجين سنة اثنتين وسبعمائة وفرّ بنو عبد القوي إلى ضواحيهم بالقفر، ودخل إلى جبل وانشريش وهدم حصونهم به، ورجع إلى الحضرة. ثم بادر أهل تافركينت سنة ثلاث وسبعمائة بإيتاء طاعتهم [1] . وانتقضوا طاعتهم بعدها. ثم بعث أهل المرية بطاعتهم السلطان، فتقبّلها وأوعز ببناء قصبتها. وراجع بنو عبد القوي بعد ذلك بصائرهم فدخلوا في طاعة السلطان، ووفدوا عليه بمكانه من المنصورة مدينته المحيطة على تلمسان سنة ثلاث وسبعمائة فتقبّل طاعتهم ورعى سابقتهم، وأعادهم إلى بلادهم وأقطعهم، وولّى عليهم عليّ بن الناصر بن عبد القوي، وأوعز ببناء قصبة المريّة سنة أربع وكملت سنة خمس وسبعمائة وهلك عليّ بن الناصر خلال ذلك، فعقد عليهم لمحمد بن عطية الأصمّ كما ذكرناه. فاستمرّ على الطاعة، ثم انتقض سنة ست وسبعمائة وحمل قومه على الخلاف، وانتبذوا عن الوطن إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما نذكره إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: بإتيان الطاعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 (الخبر عن مراسلة الموحدين ملوك افريقية بتونس وبجاية لزناتة وأحوالهم معهم) كان لبني أبي حفص ملوك إفريقية مع زناتة هؤلاء أهل المغرب من بني مرين وبني عبد الواد سوابق مذكورة، فكان لهم على يغمراسن وبنيه طاعة معروفة يؤدّون بيعتها ويخطبون على منابرهم بدعوتها مذ تغلّب الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد على تلمسان. وعقده عليها ليغمراسن، واستمرّ حالهم على ذلك. وكانت لهم أيضا مع بني مرين ولاية وسابقة بما كان بنو مرين مذ أول أمرهم يخاطبون الأمير أبا زكريا، ويبعثون له بيعة البلاد التي يتغلّبون عليها، مثل مكناسة والقصر ومراكش آخرا. ثم صارت مخالصته من لدن عهد المستنصر ويعقوب بن عبد الحق. وكانوا يتحفونهم بالمال والهدايا في سبيل المدد على صاحب مراكش، وقد ذكرنا السفارة التي وقعت بينهما سنة خمس وستين وستمائة وأن يعقوب أوفد عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز ومحمد الكناني، وأوفد عليه المستنصر سنة سبع وستين وستمائة بعدها كبير الموحّدين يحيى بن صالح الهنتاتي في وفد من مشيخة الموحّدين، ومعهم هدية سنيّة. ثم أوفد الواثق ابنه سنة تسع وسبعين قاضي بجاية المذكور أبا العبّاس أحمد الغماري، وأسنى الهديّة معه. ولم يزل الشأن بينهم هذا إلى أن افترق أمر آل أبي حفص. وطار الأمير أبو زكريا بابن الأمير أبي إسحاق بن يحيى بن عبد الواحد من عشه بتلمسان في وكر عثمان بن يغمراسن، وأسف إلى بجاية فاستولى عليها سنة ثلاث وثمانين وستمائة، واستضاف إليها قسنطينة وبونة، وصيّرهما عملا لملكه، ونصب لهما كرسيا لأمره، وأسف عثمان بن يغمراسن لفراره من بلده لما كان عليه من التمسّك بدعوة عمّه أبي حفص صاحب تونس، فشقّ ذلك عليه ونكره، واستمرّت الحال على ذلك. ولما نزل السلطان يوسف بن يعقوب بمخنق تلمسان وأرسى قواعد ملكه بساحتها، وسرّح عساكره لالتهام الأمصار والجهات، وتوجّس الموحّدون الخيفة منه على أوطانهم. وكان الأمير أبو زكريا في جهات تدلس محاميا عن حوزته وعمله. ووصله هنالك راشد بن محمد نازعا عن السلطان أبي يعقوب. ثم طلعت العساكر على تلك الجهات في اتباعه، فزحف إليه عسكر الموحّدين سنة تسع وتسعين وستمائة بناحية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 جبل الزاب، ففضّوا جمعه وأوقعوا به واستلحموا جنوده، واستمرّ القتل فيهم، وبقيت عظامهم ماثلة بمصارعهم سنين. ورجع الأمير أبو زكريا إلى بجاية فانحصر بها وهلك على تفيئة ذلك على رأس المائة السابعة. وقارن ذلك مغاضبة بينه وبين أمير الزواودة لعهده عثمان بن سبّاع بن يحيى ابن دريد بن مسعود البلط، فوفد على السلطان أخريات إحدى وسبعمائة، ورغّبه في ملك بجاية. واستمدّه للسير إليها، فأوعز إلى أخيه الأمير أبي يحيى بمكانه من منازلة مغراوة ومليكش والثعالبة، بأن ينهض إلى أعمال الموحّدين. وسار عثمان بن سبّاع وقومه بين يدي العساكر يتقصّون الطريق إلى أن تجاوز الأمير أبو يحيى بعساكره بجاية، واحتل بتاكرارت من أوطان سدويكش من أعمال بجاية. وأطلّ على بلاد سدويكش وانكفأ راجعا، فأوطأ عساكره ساحة بجاية وبها الأمير خالد بن يحيى، وناشبهم القتال بعض أيام، جلا فيها أولياء السلطان أبي البقاء عن أنفسهم وسلطانهم. وأمر بروض السلطان المسمّى بالبديع فخرّبه، وكان من آنق الرياض وأحفلها. وقفل إلى مكانه من تدويخ البلاد، وأعرض عن أعمال الموحّدين. وكان صاحب تونس لذلك العهد محمد بن المستنصر الملقّب بأبي عصيدة بن يحيى الواثق، فأوفد على السلطان شيخ الموحدين بدولته محمد بن أكمازير عاقدا أسباب الولاية، ومحكما مذاهب الوصلة، ومقرّرا سوابق السلف. فوفد في مشيخة من قومه لشعبان سنة ثلاث وسبعمائة. وناغاه الأمير أبو البقاء خالد صاحب بجاية، وأوفد مشيخة من أهل دولته كذلك. وبرّ السلطان وفادتهم وأحسن منقلبهم. ثم عاد ابن أكمازير سنة أربع وسبعمائة، ومعه شيخ الموحدين وصاحب السلطان أبو عبد الله بن يزريكن في وفد من عظماء الموحدين، وأوفد صاحب بجابة حاجبه أبا محمد الرخامي، وشيخ الموحّدين بدولته عيّاد بن سعيد بن عثيمن. ووفدوا جميعا على السلطان ثالث جمادى، فأحسن السلطان في تكرمتهم ما شاء، ووصلهم إلى نفسه بمساكن داره وأراهم أريكة [1] ملكه وأطافهم قصوره ورياضه بعد أن فرشت ونمّقت، فملأ قلوبهم جلالا وعظمة، ثم بعثهم إلى المغرب ليطوفوا على قصور الملك بفاس ومراكش، ويشاهدوا آثار سلفهم، وأوعز إلى عمّال المغرب بالاستبلاغ في   [1] وفي نسخة ثانية: أبهة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 تكرمتهم واتحافهم، فانتهوا من ذلك إلى الغاية، وانقلبوا إلى حضرته آخر جمادى، وانصرفوا إلى ملكهم [1] بالحديث عن شأن رسالتهم وكرامة وفدهم. ثم أعاد ملوكهم مراسلة السلطان سنة خمس وسبعمائة بعدها، فوفد أبو عبد الله بن أكمازير من تونس وعيّاد بن سعيد من بجاية. وأوفد السلطان على صاحب تونس مع رسوله صاحب الفتيا بحضرته الفقيه أبا الحسن التونسي [2] وعليّ بن يحيى البركشي رسولين يسألان المدد بأسطوله، فقضوا رسالتهم وانقلبوا سنة خمس وسبعمائة. ووصل بخبرها أبو عبد الله المزدوري من مشيخة الموحدين، واقترن بذلك وصول حسّون بن محمد بن حسّون المكناسي من صنائع السلطان، كما أوفده مع ابن عثيمن على مراسلة الأمير أبي البقاء خالد صاحب بجاية في طلب الأسطول أيضا، فرجعوه بالمعاذير. وأوفدوا معه عبد الله بن عبد الحق بن سليمان فتلقّاهم السلطان بالمبرّة، وأوعز إلى عامله بوهران أن يستبلغ في تكريم عمرة الأسطول، فجرى في ذلك على مذهبه وانقلبوا جميعا أحسن منقلب. وغنى السلطان عن أسطولهم لفوات وقت الحاجة إليه من منازلة بلاد السواحل إذ كان قد تملّكها أيام مما طلتهم ببيعته. واتصل الخبر بصاحب تلمسان الأمير أبي زيان بن عثمان المبايع أيام الحصار عند مهلك أبيه عثمان بن يغمراسن آخر سنة ثلاث وسبعمائة فبلغه صنيع الموحدين في موالاة عدوه السلطان يوسف بن يعقوب ومظاهرته بأساطيلهم عليه، فأسفهم ذلك وأخرسوا منابرهم عما كانت تنطق به من الدعاء من عهد يغمراسن، فلم يراجعوا دعوتهم من بعد، وهلك السلطان على نفيئة ذلك، والبقاء للَّه وحده. الخبر عن مراسلة ملوك المشرق الأقصى ومهاداتهم ووقادة أمراء الترك على السلطان وما تخلل ذلك لما استولى السلطان على المغرب الأوسط بممالكه وأعماله، وهنأته ملوك الأقطار وأعراب الضواحي والقفار، وصلحت السابلة ومشت الرفاق إلى الآفاق، واستجد أهل المغرب عزما في قضاء فرضهم، ورغبوا من السلطان إذنه لركب الحاج في السفر إلى   [1] وفي نسخة ثانية: ملوكهم. [2] وفي نسخة ثانية: التنسي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 مكة، فقد كان عهدهم بمثلها الفساد السابلة واستهجان الدول. فبينما السلطان في ذلك آمل إذ داخله لحرم الله وروضة نبيّه صلى الله عليه وسلّم شوق، فأمر بانتساخ مصحف رائق الصنعة، كتبه ونمقه أحمد بن الحسن الكاتب المحسن، واستوسع في جرمه وعمل غشاءه من بديع الصنعة، واستكثر فيه من معالق الذهب المنظّم بخرزات الدرّ والياقوت، وجعلت منها حصاة وسط المعلق تفوق الحصيات مقدارا وشكلا وحسنا، واستكثر من الأصونة عليه ووقفه على الحرم الشريف، وبعث به مع الحاج سنة ثلاث وسبعمائة وعني بشأن هذا الركب، فسرّح معهم حامية من زناتة تناهز خمسمائة من الأبطال، وقلّد القضاء عليهم محمد بن رغبوش من أعلام أهل المغرب، وخاطب صاحب الديار المصريّة واستوصاه بحاج المغرب من أهل مملكته، وأتحفه بهدية من طرف بلاده استكثر فيها من الخيل العراب والمطايا الفارهة، يقال إنّ المطايا كانت منها أربعمائة حدّثني بذلك من لقيته إلى ما يناسب ذلك من طرف المغرب وما عونه. ونهج بها السبيل للحاج من أهل المغرب، فأجمعوا الحج سنة أربع سبعمائة بعدها وعقد السلطان على دلالتهم لأبي زيد الغفاريّ، وفصلوا من تلمسان لشهر ربيع الأوّل. وفي شهر ربيع الآخر بعده كان مقدم الحاج الأولين حملة المصحف ووفد معهم على السلطان الشريف لبيدة بن أبي نمي نازعا عن سلطان الترك لما كان تقبض على أخويه حميضة ورميثة اثر مهلك أبيهم أبي نمي صاحب مكة سنة إحدى وسبعمائة، فاستبلغ السلطان في تكريمه وسرّحه إلى المغرب ليجول في أقطاره، ويطوف على معالم الملك وقصوره، وأوعز إلى العمّال بتكريمه واتحافه على شاكلته. ورجع إلى حضرة السلطان سنة خمس وسبعمائة وفصل منها إلى المشرق، وصحبه من أعلام المغرب أبو عبد الله موري [1] حاجا، ولشعبان من سنة خمس وسبعمائة وصل أبو زيد الغفاريّ دليل ركب الحاج الآخرين، ومعه بيعة الشرفاء أهل مكّة للسلطان، لما اسفهم صاحب مصر بالتقبّض على إخوانهم، وكان شأنهم ذلك متى غاظهم السلطان. فقد سبق في أخبار المستنصر بن أبي حفص مثلها، وأهدوا إلى السلطان ثوبا من كسوة البيت شغف به، واتخذ منه ثوبا للباسه في الجمع والأعياد يستبطنه بين ثيابه تبركا   [1] وفي نسخة ثانية: أبو عبد الله فوزي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 به، ولما وصلت هدية السلطان إلى صاحب مصر لعهده الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي حسن موقعها لديه، وذهب إلى المكافأة، فجمع من طرف بلاده من الثياب والحيوان ما يستغرب جنسه وشكله، من نوع الفيل والزرافة، وأوفد بها من عظماء دولته الأمير اليليلي [1] وفصل من القاهرة أخريات سنة خمس وسبعمائة ووصلت إلى تونس في ربيع من سنة ست وسبعمائة بعدها. ثم كان وصولها إلى سدّة السلطان بالمنصورة من البلد الجديد في جمادى الآخرة، واهتز السلطان لقدومها وأركب الناس إلى لقائها، واحتفل للقاء هذا الأمير اليليلي ومن معه من أمراء الترك، وبرّ وفادتهم، واستبلغ في تكريمهم نزلا وقرى، وبعثهم إلى المغرب على العادة في مبرّة أمثالهم، وهلك السلطان خلال ذلك وتقبّل أبو ثابت سنة من بعده في تكريمهم، فأحسن منقلبهم وملاء حقائبهم صلة، وفصلوا من المغرب لذي الحجة سنة سبع وسبعمائة ولما انتهوا إلى بلاد بني حسن في ربيع من سنة ثمان وسبعمائة اعترضهم الأعراب بالقفر فانتهبوهم وخلصوا إلى مصر بجريعة الزمن [2] . فلم يعاودوا بعدها إلى المغرب سفرا ولا لفتوا إليه وجها. وطالما أوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه له، ويهادونهم ويكافئون ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا، وكان الناس لعهدهم ذلك يتهمون أنّ الذين نهبوهم أعراب حصين بدسيسة من صاحب تلمسان أبي حمو لعهدهم، منافسة لصاحب المغرب لما بينهم من العداوات والإحن القديمة. (أخبرني) شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلّي قال: حضرت بين يدي السلطان وقد وصله بعض الحاج من أهل بلده مستصحبا كتاب الملك الناصر بالعتاب عن شأن هؤلاء الأمراء، وما أصابهم في طريقهم من بلاده، وأهدى له مع ذلك كوبين من دهن البلسان المختص ببلدهم، وخمسة مماليك من الترك رماة بخمسة أقواس من قسي الغزّ المؤنّقة الصنعة من العرى والعقب، فاستقل السلطان هديته تلك بالنسبة إلى ما أهدوا إلى ملك المغرب، ثم استدعى القاضي محمد بن هدية، وكان يكتب عنه فقال له: اكتب الآن إلى الملك الناصر كما أقول لك، ولا تحرّف كلمة عن موضعها إلّا ما تقتضيه صناعة الإعراب، وقل له: أمّا عتابك عن شأن الرسل وما أصابهم   [1] وفي نسخة اخرى: التليلي. [2] وفي نسخة اخرى: بجريعة الذقن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 في طريقهم فقد حضروا عندي وأبنت لهم الاستعجال حذرا مما أصابهم، وأريتهم مخاوف بلادنا وما فيها من غوائل الأعراب، فكان جوابهم أنّا جئنا من عند ملك المغرب فكيف نخاف مغترّين بشأنهم يحسبون أنّ أمره نافذ في أعراب فلاتنا [1] . وأمّا الهدية فتردّ عليك، أمّا دهن البلسان فنحن قوم بادية لا نعرف إلّا الزيت وحسبنا به دهنا. وأمّا المماليك الرماة فقد افتتحنا بهم إشبيلية وصرفناهم إليك لتستفتح بهم بغداد والسلام. قال لي شيخنا وكان الناس إذ ذاك لا يشكّون أنّ انتهابهم كان باذن منه. وكان هذا الكتاب دليلا على ما في نفسه. وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون. الخبر عن انتقاض ابن الأحمر واستيلاء الرئيس سعيد على سبتة وخروج عثمان بن العلاء في غمارة لما أحكم السلطان عقد المهادنة والولاية مع السلطان ابن الأحمر المعروف بالفقيه، عند إجازته إليه بطنجة سنة اثنتين وتسعين وستمائة كما ذكرناه، وفرغ لعدوّه تمسّك ابن الأحمر بولايته تلك إلى أن هلك سنة إحدى وسبعمائة في شهر شعبان منه. وقام بالأمر الأندلسي من بعده ابنه محمد المعروف بالمخلوع. واستبدّ عليه كاتبه أبو عبد الله بن الحكيم من مشايخ رندة، كان اصطفاه لكتابته أيام أبيه. فاضطلع بأموره وغلب عليه. وكان هذا السلطان المخلوع ضرير البصر ويقال إنه ابن الحكيم، فغلب عليه واستبدّ إلى أن قتلهما أخوه أبو الجيوش نصر سنة ثمان وسبعمائة كما نذكره، وكان من أوّل آرائه عند استيلائه على الأمر من بعد أبيه المبادرة إلى إحكام ولاية السلطان، واتصال يده بيده، فأوفد إليه لحين ولايته وزير أبيه السلطان أبي عزيز الداني، ووزيره الكاتب أبا عبد الله بن الحكيم، فوصلا الى [2] السلطان بمعسكره من حصار تلمسان وتلقّاهما بالقبول والمبرّة، وجدّدت له أحكام الودّ والولاية، وانقلبا إلى مرسلهما خير منقلب. وتقدّم السلطان إليهم في المدد برجل الأندلس وناشبتهم المعوّدين منازلة الحصون والمناغرة بالرباط، فتبادروا إلى إسعافه، وبعثوا حصّتهم لحين مرجعهم إلى سلطانهم، فوصلت سنة اثنتين وسبعمائة. وكانت لهم نكاية في العدو وأثر   [1] وفي نسخة اخرى: في أعراب قبائلنا. [2] وفي نسخة ثانية: فوفدوا على السلطان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 البلد المخروب. ثم بدا لمحمد بن الأحمر المخلوع في ولاية السلطان لمنافسات جرت إلى ذلك. وبعث إلى أدفونش هراندة بن شانجة، وأحكم له عقد السلم ولاطفة في الولاية، فانعقد ذلك بينهما سنة ثلاث وسبعمائة واتصل خبره بالسلطان فسخطه ورجّع إليه حصتهم آخر سنة ثلاث وسبعمائة، واتصل خبره بالسلطان لسنة من مقدمهم بعد أن أبلوا وأثخنوا، وطوى لهم على النث واعتمل ابن الأحمر وشيعته في الاستعداد لمدافعة السلطان والارصاد لسطوته بهم. وأوعز إلى صاحب مالقة ابن عمّه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن محمد بن نصر، وليه من دون القرابة بما كان له من الصهر على أخته، والمضطلع له بثغر الغربيّة، فأوعز إليه بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان والقبض على ابن العزفي، والرجوع إلى ولاية ابن الأحمر. وكان أهل سبتة منذ هلك إبراهيم الفقيه أبو القاسم العزفي سنة سبع وسبعين وستمائة قام بأمرهم ولده أبو حاتم. وكان أبو طالب رديفا له في الأمر إلا أنه استبدّ عليه بصاغيته إلى الرئاسة، وإيثار أبي حاتم للخمول مع إيجابه حق أخيه الأكبر، واجابته الداعي من دون دفع [1] إليه فاستقام أمرهما مدّة. وكان من سياستهما من أوّل أمرهما، الأخذ بدعوة السلطان فيما لنظرهما، والعمل بطاعته والتجافي عن السكني بقصور الملك والتحرّج من أبّهة السلطان لمكانهم، فأنزلوا بالقصبة عبد الله بن مخلص قائدا من البيوتات اصطنعوه وجعلوا إليه أحكام البلد، وضبط الحامية له فاضطلع بذلك سنين. ثم أسفه يحيى بن أبي طالب ببعض النزغات الرئاسيّة وحجر عليه الأحكام في ذويه. ثم أغرى به أباه وطالبه، بحساب الخرج لعطاء الحامية وغفلوا عما وراءها من التظنن فيه والريبة به ثقة بمكانه واستنامة إليه. وهم مع ذلك على أوّلهم في موالاة السلطان والأخذ بدعوته والوفود عليه في أوقاته. ولما فسدت ولاية ابن الأحمر للسلطان وعقد على محاولة سبتة وجدّ السبيل إلى ذلك بما طوى صاحب الأحكام بالقصبة على النثّ، فداخله الرئيس أبو سعيد صاحب الثغر بمالقة جاره بسبتة، ووعده الغدر ببني العزفي وأن يصحبهم في أساطيله، فشرّع الرئيس أبو سعيد في إنشاء الأساطيل البحرية، واستنفار الناس للمثاغرة، وأنّ العدو لمالقة بالمرصاد، وشحنها بالفرسان والرجل والناشبة والأقوات، وأخفى وجه قصده عن الناس، حتى إذا   [1] وفي نسخة ثانية: متى روفع إليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 افلعت أساطيله بيّت سبتة لسبع وعشرين من شوّال سنة خمس وسبعمائة وأرسى بساحتها الموعد صاحب القصبة، فأدخله إلى حصنه فملكه، ونشر راياته بأسوارها، وسرّب جيوشه إلى البلد فتسايلوا وركب إلى دور بني العزفي فتقبّض عليهم، وعلى والدهم وحاشيتهم. وطيّر الخبر إلى السلطان بغرناطة، فوصل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم، ونادى في الناس بالأمان، وبسط المعدلة، وأركب ابن العزفي السفن إلى مالقة. ثم أجازوا غرناطة وقدموا على ابن الأحمر، فأجل قدومهم وأركب الناس إلى لقائهم، وجلس لهم جلوسا فخما حتى أدّوا بيعتهم وقضوا وفادتهم، وأنزلوا بالقصور وأجريت عليهم سنية الأرزاق. واستقروا بالأندلس إلى أن صاروا بعد إلى المغرب كما نذكر واستبدّ الرئيس أبو سعيد بأمر سبتة وثقف أطرافها وسدّ ثغورها، وأقام دعوة ابن عمه صاحب الأندلس بأنحائها. وكان عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص الملك المريني أجاز معه البحر إليها أميرا على الغزاة بمالقة، وقائدا لعصبتهم تحت لوائه. فموّه بنصبه للملك بالمغرب. وخاطب قبائل غمارة في ذلك، فوقفوا بين الإقدام والإحجام واتصل ذلك كله بالسلطان وهو بمعسكره من حصار تلمسان، فاستشاط لها غيظا وحمي أنفه نفرة، واستنفره الصريخ، فبعث ابنه الأمير أبا سالم لسدّ تلك الفرجة، وجمع إليه العساكر وتقدّم إليه باحتشاد قبائل الريف وبلاد تازى، فأغذّ السير إليها وأحاطت عساكره بها، فحاصرها مدّة. ثم بيته عثمان بن أبي العلاء فاختلّ معسكره، وأفرج عنها منهزما، فسخطه السلطان وذوى عنه وجه رضاه، وسار عثمان بن أبي العلاء في نواحي سبتة، وبلاد غمارة، وتغلّب على تكيساس، وانتهى إلى قصر ابن عبد الكريم في آخر سنة ست وسبعمائة لسنة من استيلائهم على سبتة، مقيما رسم السلطان مناديا بالدعاء لنفسه، فاعتزم السلطان على النهوض إليه من أمر تلمسان، لما كانت على شفا هلكة ومحا بينة انفضاض، لولا عوائق الأقدار بمهلكه، كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن انتقاض بني كمي من بني عبد الواد وخروجهم بأرض السوس) كان هؤلاء الرهط من بني عبد الواد من بطون بني علي من شعب أبي القاسم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كندوز بن [1] بن كمي ولما استقل زيان برياسة أولاد علي بن ثابت بن محمد من أولاد طاع الله، ونفس عليه كنذوز هذا ما آتاه الله من الرئاسة، وجاذبه حبلها، واحتقر زيّان شأنه فلم يحفل به. ثم تأشب عليه أخلاط من قومه وواضعه الحرب [2] . وهلك زيّان بيد كندوز، وقام بأمر أولاد علي جابر بن يوسف بن محمد. ثم تناقلت الرئاسة فيهم إلى أن عادت لولد ثابت بن محمد، واستقل بها أبو عزة زكراز [3] بن زيّان ولم تطل أيامه. والتحم بين أولاد كمي وبين أولاد طاع الله، وتناسوا الإحن، وصارت رياسة طاع الله لولد يغمراسن بن زيّان، واستتبعوا قبائل عبد الواد كافة، واعتمل يغمراسن في الثأر بأبيه زيّان من قاتله كندوز، فاغتاله ببيته، دعاه لمأدبة جميع لها بني أبيه، حتى إذا اطمأنّ المجلس تعاوروه بأسيافهم واحتزّوا رأسه، وبعثوا به إلى أمّهم، فنصبت عليه القدر ثالث أثافيها تشفّيا منه وحفيظة. وطالب يغمراسن بقيّة بني كندوز ففرّوا أمام مطالبته، وأبعدوا المذهب ولحقوا بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، فأقاموا بسدّته أحوالا، وكانوا يرجعون في رياستهم لعبد الله بن كندوز، ثم تذكروا عهد البداوة وحنّوا إلى عشير زناتة، فراجعوا المغرب ولحقوا ببني مرين أقتالهم. ونزل عبد الله بن كندوز على يعقوب بن عبد الحق خير نزل، فلقاه من البرّ والترحيب بما ملأ صدره وأكد اغتباطه، وأقطعه بناحية مراكش الكفاية له ولقومه، وأنزلهم هنالك. وجعل انتجاع إبله وراحلته لحسّان بن أبي سعيد الصبيحي وأخيه موسى من ذويهم وحاشيتهم، وألطف منزلة عبد الله ورفع مكانه بمجلسه، واكتفى به في كثير من أموره، وأوفده على المستنصر صاحب إفريقية سنة خمس وستين وستمائة مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدّمناه. واستقرّ بنو كندوز هؤلاء بالمغرب الأقصى، واستمرّت الأيام على ذلك، وصاروا من جملة قبائل بني مرين وفي عدادهم. وهلك عبد الله بن كندوز وصارت رياستهم لعمر ابنه من بعده. ولما لفت السلطان يوسف بن يعقوب عزائمه إلى بني عبد الواد ونازل تلمسان، وطاول حصارها، واستطال بنو مرين وذووهم على بني عبد الواد، وأحسّوا بهم أخذتهم   [1] بياض بالأصل ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا اي ذكر لوالد كندوز هذا. [2] وفي نسخة ثانية: ناشب عليه اخلاط من قومهم، وواضعهم الحرب. [3] وفي نسخة ثانية: زكدان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 العزّة بالإثم، وأدركتهم النعرة، فأجمع بنو كندوز هؤلاء الخلاف والخروج على السلطان ولحقوا بحاجة سنة ثلاث وسبعمائة. واحتفل الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب لغزوهم سنة أربع وسبعمائة، فناجزوه الحرب بتادرت، واستمروا على خلافهم. ثم قاتلهم يعيش وعساكره ثانية بتامطريت سنة أربع وسبعمائة فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصّت جناحهم وأوهت من رياستهم [1] . وقتل جماعة من بني عبد الواد بأزعار وتاكما [2] ، وأثخن يعيش بن يعقوب في بلاد السوس، وهدم تارودانت قاعدة أرضها وأمّ قراها، كان بها عبد الرحمن بن الحسن بن يدّر من بقية الأمراء على السوس من قبل بني عبد المؤمن، وقد مرّ ذكرهم. وكانت بينه وبين عرب المعقل من الشبانات وبني حسّان منذ انقرضت دولة الموحّدين حرب سجال هلك في بعضها عمه عليّ بن يدّر سنة ثمان وستين وستمائة وصارت إمارته بعد حين إلى عبد الرحمن هذا، ولم يزالوا في حربه إلى أن تملّك السوس يعيش بن يعقوب، وهدم تارودانت قاعدة أرضها. ثم راجع عبد الرحمن أمره وبنى بلده تارودانت هذه سنة ست بعدها. ويزعم بنو يدر هؤلاء أنهم مستقرّون بذلك القصر من لدن عهد الطوالع من العرب، وأنهم لم يزالوا أمراء به تعقد لهم ولايته كابرا عن كابر، ولقد أدركت على عهد السلطان أبي عنّان وأخيه أبي سالم من بعده شيخا كبيرا من ولد عبد الرحمن، فحدّثني بمثل ذلك، وأنهم من ولد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، والله أعلم. ولم يزل بنو كندوز مشرّدين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان، وراجعوا طاعة الملوك من بني مرين من بعده وعفوا لهم عما سلف من هذه الجريمة، وأعادوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة إلى هذا العهد كما سنذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مهلك المشيخة من المصامدة بتلبيس أبي الملياني) قد ذكرنا شأن أبي علي الملياني وأوليته في أخبار مغراوة الثانية، وما كان من ثورته   [1] وفي نسخة ثانية: وأوهنت بأسهم [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: بارعارن بامكا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 بمليانة وانتزائه عليها. ثم إزعاج العسكر إيّاه منها ولحاقه بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، وما أحلّه من مراتب التكرمة والمبرّة. وأقطعه بلد أغمات طعمة، فاستقرّ بها، وما كان منه في العبث بأشلاء الموحّدين ونبش أجداثهم، وموجدة السلطان والناس عليه لذلك. وأرصد له المصامدة الغوائل لما كان منه في ذلك، ولمّا هلك يعقوب بن عبد الحق استعمله يوسف بن يعقوب على جباية المصامدة، فلم يضطلع بها وسعى به مشيختهم عند السلطان أنه احتجز المال لنفسه، وحاسبوه فصدقوه السعاية، فاعتقله السلطان وأقصاه، وهلك سنة ست وثمانين وستمائة واصطنع السلطان أحمد ابن أخيه واستعمله في كتابته، وأقام على ذلك ببابه وفي جملته. وكان السلطان سخط على مشيخة المصامدة عليّ بن محمد كبير هنتاتة، وعبد الكريم بن عيسى كبير كدميوة، وأوعز إلى ابنه الأمير علي بمراكش باعتقالهما، فاعتقلهما فيمن لهما من الولد والجاشية. وأحسن بذلك أحمد بن الملياني فاستعجل الثأر. وكانت العلامة السلطانية على الكتاب في الدولة لم تختص بكاتب واحد، بل كل منهم يضع العلامة بخطّه على كتابه إذا أكمله، لما كانوا كلّهم ثقاتا أمناء، وكانوا عند السلطان كأسنان المشط. فكتب أحمد بن الملياني إلى ابن السلطان الأمير بمراكش سنة سبع وتسعين وستمائة كتابا عن أمر أبيه، يأمره فيه بقتل مشيخة المصامدة ولا يمهلهم طرفة عين. ووضع عليها العلامة التي تنفّذ بها الأوامر، وختم الكتاب. وبعث به مع البريد ونجا بنفسه إلى البلد الجديد. وعجب الناس بشأنه. ولما وصل الكتاب إلى ابن السلطان بمراكش أخرج أولئك الرهط المعتقلين من المصامدة إلى مصارعهم، وقتل علي بن محمد وولده، وعبد الكريم بن عيسى وولده عيسى، وعلي ومنصور وابن أخيه عبد العزيز. وطيّر الأمير وزيره إلى أبيه بالخبر فقتله لحينه حنقا عليه، وأنفذ البريد باعتقال ابنه، وجرّد على ابن الملياني ففقد ولحق بتلمسان. ونزل على آل زيّان. ثم لحق من بعدها بالأندلس عند إفراج السلطان عنها في تلك السنة كما ذكرناه. وبها هلك. واقتصر السلطان من يومئذ في علامته على من يختاره من صنائعه ويثق بأمانته. وجعلها لذلك العهد لعبد الله بن أبي مدين خالصته المضطلع بأمور مملكته، فاختصّت من بعده لهذا العهد، والله تعالى أعلم . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 (الخبر عن رياسة اليهود بني رقاصة ومقتلهم) كان السلطان يعقوب [1] في صباه مؤثرا للذاته ومستترا بها عن أبيه يعقوب بن عبد الحق لمكانه من الدين والوقار. وكان يشرب الخمر ويعاقر بها الندمان. وكان خليفة بن رقاصة من اليهود المعاهدين بفاس قهرمانا لداره على عادة الأمراء في مثله من المعاهدين، فكان يزدلف إليه بوجوه الخدم ومذاهبها، فاستعمله هذا الأمير في اعتصارها والقيام على شئونها، فكانت له بذلك خلوة منه أوجبت له الحظّ عنده، حتى إذا هلك يعقوب بن عبد الحق واستقلّ ابنه يوسف بأعباء ملكه، واتصلت خلواته في معاقرة الندمان، وانفرد ابن وقاصة بخلوته ذلك مع ما كان من القهرمة، عظمت رياسته وعلا كعبه في الدولة. وتلقى الخاصة الأوامر منه، فصار له الوجه بينهم وعظم قدره بعظم الدولة. (أخبرني) شيخي الأبلّي قال: وكان لخليفة هذا أخ يسمى إبراهيم، وابن عم يسمى خليفة، لقّبوه بالصغيرة لمكانه هو من هذا الاسم. وكان له صهر يعرفون ببني السبتي، كبيرهم موسى، وكان رديفه في قهرمته، فلم يفق السلطان من نشوة صباه وملهاه حتى وجدهم على حال استتبعوا فيها العلية من القبيل والوزراء والشرفاء والعلماء. وأوجده السبيل عليهم، فسطا بهم سطوة واحدة واعتقلوا في شعبان من سنة إحدى وسبعمائة بمعسكره من حصار تلمسان. وقتل خليفة الكبير وأخوه إبراهيم وموسى بن السبتي وإخوته بعد أن امتحنوا ومثّل بهم، وأتت النكبة على حاشيتهم وذويهم وأقاربهم، فلم تبق منهم باقية. واستبقى منهم خليفة الأصغر احتقارا لشأنه، حتى كان من قتله بعد ما نذكر، وعبث بسائرهم، وطهّرت الدولة من رجسهم، وأزيل منها معرّة رياستهم، والأمور بيد الله سبحانه. (الخبر عن مهلك السلطان أبي يعقوب) كان في جملة السلطان وحاشيته مولى من العبيد الخصيان من موالي ابن الملياني يسمى   [1] حسب مقتضى السياق السلطان يوسف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 سعادة، صار إلى السلطان من لدن استعماله إيّاه بمراكش، وكان على ثبج من الجهل والغباوة. بمكان، وكان السلطان يخلط الخصيان بأهله ويكشف لهم الحجاب عن ذوات محارمه، ولما كانت واقعة العزّ مولاه، واتهم بمداخلة بعض الحرم، وقتل بالظنّة، واستراب السلطان بكثير من حاشيته الملابسين لداره، اعتقل جملة من الخصيان كان فيهم عنبر الكبير عريفهم. وحجب سائرهم فارتاعوا لذلك وسوّلت لهذا الخصيّ الخبيث نفسه الشيطانية الفتك بالسلطان، فعمد إليه وهو في بعض الحجر من قصره، وآذنه فأذن له فألفاه مستلقيا على فراشه مختضبا بالحنّاء، فوثب عليه وطعنه طعنات قطع بها أمعاءه وخرج هاربا. وانطلق بعض الأولياء في أثره، فأدرك من العشيّ بناحية تاسالة فتقبّض عليه، وسيق إلى القصر فقتله العبيد والحاشية. وصابر السلطان ميتته إلى آخر النهار، ثم قضى رحمه الله يوم الأربعاء سابع ذي القعدة من سنة ست وسبعمائة وقبر هنالك. ثم نقل بعد ما سكنت الهيعة إلى مقبرتهم بشالة، فدفن بها مع سلفه والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن ولاية السلطان أبي ثابت) واستلحامه المرشحين وما تخلل ذلك من الاحداث كان الأمير أبو عامر ابن السلطان أبي يعقوب وولي عهده لما هلك طريدا ببلاد بني سعيد بغمارة والريف سنة ثمان وتسعين وستمائة كما ذكرنا، خلّف ولديه عامرا وسليمان في كفالة السلطان جدّهما، فكان لهما بعينه حلاوة وفي قلبه لوطة، لمكان حبه لأبيهما واغترابه عنه، فحدب عليهما وآثرهما من نفسه بمكان. وكان الأمير أبو ثابت عامر أصغر قومه، إقداما وشجاعة وجراءة، وكانت له في بني ورتاجن خؤلة. فلحين مهلك السلطان عرضوا له ودعوه للبيعة فبايعوه، وحضر لها الأمير أبو يحيى بن يعقوب عمّ أبيه، عز بمجتمعهم [1] اتفاقا، وحملوه على الطاعة، وكان أقرب للأمر منه لو حضره رجال، فأعطى القياد في المساعدة، وطوى على النث. وبادر الحاشية والوزراء بالبلد الجديد عند مهلك السلطان، فبايعوا ابنه الأمير أبا سالم. وكاد أمر بني   [1] وفي نسخة ثانية: عثر بمجمعهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 مرين أن يفترق وكلمتهم أن تفسد، فبعث الأمير أبو ثابت لحينه إلى تلمسان للأمير أبي زيان وأبي حمو ابني عثمان بن يغمراسن. وعقد لهما حلفا على الإفراج عنهم. ثم أمره أن يمدّه بالآلة ويرفعا له كسر البيت إن كان غير ما أمل. وحضر للعقد أبو حمو فأحكمه ومال أكثر بني مرين وأهل الحل والعقد إلى الأمير أبي ثابت. وتفرّد ببيعة أبي سالم البطانة والوزراء والحاشية والأجناد ومن إليهم، وكان بالبلد الجديد مسكنه، وأشاروا عليه بالمناجزة فخرج وقد عبّى كتائبه، فوقف وتهيّب [1] وخام عن اللقاء ووعدهم الإقدام بالغداة، وكرّ راجعا إلى قصره، فيئسوا منه، وتسلّلوا إذا إلى الأمير أبي ثابت، وهو بمرقب من الجبل مطل عليهم حتى إذا انحجر أبو سالم بالبلد، انحاش إليه الجملة دفعة واحدة. فلما استوفت القبائل والعساكر لديه، زحف إلى البلد الجديد مثوى السلطان وسياج قصوره ومختط عزمه، وانتهى إلى ساحتها مغتنما الفرصة. وخرج إليه أبو زيد [2] يخلف بن عمران الفودودي، فأرجل عن فرسه بأمر أبي يحيى، وقتل بين يديه قعصا بالرماح. وكان قريب عهد بالوزارة، استوزره السلطان قبيل مهلكه في شعبان من سنة ست وسبعمائة. وفرّ أبو سالم إلى جهة المغرب وصحبه من عشيرة من أولاد رحّو بن عبد الله بن عبد الحق العبّاسي وعيسى وعلي ابنا رحّو وابن أخيهم جمال الدين بن موسى. وأتبعهم الأمير أبو ثابت شرذمة من عسكره أدركوهم بندرومة، فتقبّضوا عليهم ونفذ أمر السلطان بقتل أبي سالم وجمال الدين، واستبقى الآخرين. وأمر بإحراق باب البلد ليفتحها العسكر، فأطلّ عليهم قهرمان دارهم عبد الله بن أبي مدين الكاتب، وأخبره بفرار أبي سالم، وباتفاق الناس على طاعته. ورغب إليه في المسالمة ليلتهم حتى ينفجر الصباح خشية على دارهم من معرّة العساكر وهجومها ففعل. وأمره الأمير أبو يحيى باعتقال أبي الحجّاج بن اشقيلولة، فاعتقله لقديم من العداوة كانت بينهما، ثم أمر بقتله، وإنفاذ رأسه فقتل. وأمر السلطان ليلتئذ بإضرام النيران حتى إذا أضاء الظلام وبات راكبا، ودخل القصر لصبحه فوارى جده بعد أن صلّى عليه. وغصّ بمكان الأمير أبي يحيى لما تعدّد فيه الترشيح وفاوض في شأنه كبير القرابة يومئذ   [1] وفي نسخة ثانية: وبهت. [2] وفي نسخة ثانية: الوزير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 عبد الحق بن عثمان ابن الأمير أبي يفرن [1] ، محمد بن عبد الحق ومن حضره من الوزراء مثل إبراهيم بن عبد الجليل الونكاسي وإبراهيم بن عيسى اليرنياني وغيرهما من الخاصة، فأشاروا بقتله، ونميت عنه كلمات في معنى التربّص بالسلطان ودولته، وابتغاء العصابة لأمره. وركب الأمير أبو يحيى إلى القصر ثالث البيعة، فأخذ السلطان بيده ودخل معه إلى الحرم لعزائهنّ عن أخيه السلطان. ثم خرج على الخاصّة وتخلّف عنه السلطان وقد دسّ إلى عبد الحق بن عثمان أن يتقبّض عليه ففعل. ثم برز السلطان إليهم وهو موثق فأمر بالإجهاز عليه، ولم يمهله، وألحق به يومئذ وزيره عيسى بن موسى الفودودي، وفشا الخبر بمهلك هؤلاء الرهط، فرهب منه القرابة، وفرّ يعيش بن يعقوب أخو السلطان وابنه عثمان المعروف بأمّه قضينت [2] ومسعود بن الأمير أبي مالك، والعبّاس بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق ولحقوا جميعا بعثمان بن أبي العلاء بمكانه من غمارة، وخلا الجو من المرشحين، واستبدّ السلطان بملك قومه، وأمن غوائل المنازعين. ولما تمّ له الأمر واستوسق أمر الملك، وفّى لبني عثمان بن يغمراسن بالإفراج عنهم، ونزل لهم عن جميع البلاد التي صارت إلى طاعته من بلاد المغرب الأوسط من أعمالهم، وأعمال بني توجين ومغراوة. ودعاه إلى بدار المغرب، ما كان من اختلال عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق بسبتة، ودعائه لنفسه بين يدي مهلك السلطان، وخروجه إلى بلاد غمارة، واستيلائه على قصر كتامة، فاعتزم على الرحلة إلى المغرب وفوّض الأمر في الرحلة بأهل المدينة الجديدة للوزير إبراهيم بن عبد السلام لما كانت حينئذ غاصّة بالساكن مستبحرة في الاعتمار، ممتلئة من الخرثيّ [3] والآلة، فأحسن السياسة في أمرهم وضرب لهم الآجال والمواعيد إلى أن استوقوا الرحلة، وتركوها قواء، خرّبها بنو عثمان بن يغمراسن عند رحلة بني مرين إلى المغرب، وتحيّنوا لذلك فترات الفتن، فطمسوا معالمها طمسا ونسفوها نسفا. وقدّم السلطان بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد الحق انعجون [4] في العساكر   [1] وفي نسخة ثانية: أبي معرّف. [2] وفي نسخة ثانية: قضيب. [3] وفي نسخة بولاق المصرية: من الخزائن. [4] وفي نسخة بولاق المصرية: اتعجوب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 والجنود، وعقد له على حرب ابن أبي العلاء. وتلوّم بالبلد الجديد لموافاة المسالح التي كانت بثغور المشرق، ولما نزل عنها جميعا لبني عثمان بن يغمراسن ارتحل غرّة ذي الحجة، ودخل فاس فاتح سبع وسبعمائة والله أعلم. (الخبر عن انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش وتغلّب السلطان عليه) لما فصل أبو ثابت عن معسكرهم بتلمسان إلى المغرب، قدّم بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد الحق انعجون ابن السلطان أبي يوسف في العساكر والجنود، وعقد له على حرب عثمان بن أبي العلاء كما ذكرناه. وعقد على بلاد مراكش ونواحيها لابن عمه الآخر يوسف بن محمد بن أبي عيّاد بن عبد الحق، وعهد له بالنظر في أحوالها، فسار إليها واحتل بها. ثم حدّثته نفسه بالانتزاء، فقتل الوالي بمراكش، واستركب واستلحق، واتخذ الآلة، وجاهر بالخلعان. وتقبّض على والي البلد فقتله بالسوط في جمادى سنة سبع وسبعمائة، ودعا لنفسه. واتصل الخبر بالسلطان لأوّل قدومه، فسرّح إليه وزيره يوسف بن عيسى بن السعود الجشميّ، ويعقوب بن أصناك، في خمسة آلاف من عساكره، ودفعهم إلى حربه. وخرج في أثرهم بكتائبه. وبرز يوسف بن أبي عيّاد، وأجازوا أم الربيع فانهزم أمام الوزير وعساكره واتبعه الوزير ففرّ إلى أغمات. ثم فرّ إلى جبال هسكورة، ولحق به موسى بن سعيد الصبيحي من أغمات، تدلّى من سورها، ودخل الوزير يوسف إلى مراكش. ثم خرج إثره ولحقه، فكانت بينهما جولة، وقتل منهم خلق، ولحق بهسكورة. ودخل السلطان أبو ثابت مراكش منتصف رجب من سنة سبع وسبعمائة وأمر بقتل أوربة المداخلة كانوا له في انتزائه فاستلحموا. ولما لحق يوسف بن أبي عياد بجبال هسكورة، ونزل على مخلوف بن عبّو، وتذمّم بجواره، فلم يجره على السلطان. وتقبّض عليه، واقتاده إلى مراكش مع ثمانية من أصحابه تولوا كبر ذلك الأمر، فقتلوا في مصرع واحد بعد أن مثّل بهم السلطان بالسياط. وبعث برأس يوسف إلى فاس، فنصب بسورها وأثخن القتل فيمن سواهم ممن داخله في الانتزاء، فاستلحم منهم أمم بمراكش وأغمات. وسخط خلال ذلك وزيره إبراهيم بن عبد الجليل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 فاعتقله واعتقل عشيرة من بني دولين ومن بني ونكاسن، وقتل الحسن بن دولين منهم، ثم عفا عنهم. وخرج منتصف شعبان إلى منازلة السكسيوي وتدويخ جهات مراكش، فتلقّاه السكسيوي بطاعته المعروفة. وأسنى الهديّة فتقبّل طاعته وخدمته. ثم سرّح قائده يعقوب بن آصناد في اتباع زكنة حتى توغّل في بلاد السوس ففرّوا أمامه إلى الرمال. وانقطع أثرهم ورجع إلى معسكر السلطان. وانكفأ السلطان بعساكره إلى مراكش، فاحتل بها غرّة رمضان. ثم قفل إلى فاس بعد أن قتل جماعة من شيوخ بني ورا. وجعل طريقه في بلاد صنهاجة، وسار في بلاد تامسنا، وتلقّاه عرب جشم من قبائل الخلط وسفيان وبني جابر والعاصم، فاستصحبهم إلى آنفى وتقبّض على ستين من أشياخهم، فاستلحم منهم عشرين ممن نمي عنهم إفساد السابلة. ودخل رباط الفتح أخريات رمضان فقتل هنالك من الأعراب أمّة ممن يؤثر عنه الحرابة. ثم ارتحل منتصف شوّال الغز ورياح أهل آزغار والهبط. واثار بالإحن القديمة، فأثخن فيهم بالقتل والسبي وقفل إلى فاس، فاحتلّ بها منتصف ذي القعدة. وفجأه الخبر بهزيمة عبد الحق بن عثمان، واستلحام الروم من عساكره، ومهلك عبد الواحد الفودودي من رجالات دولته. وأن عثمان بن أبي العلاء قد استفحل أمره بجهات غمارة، فأجمع لغزوه، والله أعلم (الخبر عن غزاة السلطان لمدافعة عثمان بن أبي العلاء ببلاد الهبط ومهلكه بطنجة بعد ظهوره) لما ملك الرئيس أبو سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر سبتة سنة خمس وسبعمائة، وأقام بها الدعوة لابن عمّه المخلوع محمد بن محمد الفقيه ابن محمد الشيخ ابن يوسف بن نصر كما ذكرناه، وأجاز معه رئيس الغزاة المجاهدين بمحل إمارته من مالقة عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص هذا البيت، كان مرشّحا للملك فيهم. واستقدمه معه ليفرّق به الكلمة في المغرب بفتنة الدولة مدافعة عن سبتة لما كان هاج السلطان قومه فأخذها [1] واستقام ملكها. وطمع   [1] وفي نسخة بولاق المصرية: لما كانوا اهاجوا السلطان وقدمه بأخذها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 عثمان في ملك المغرب بامدادهم ومظاهرتهم، وسوّلت له نفسه ذلك، فخرج من سبتة وولّى على جيش الغزاة بعده عمر ابن عمّه رحّو بن عبد الله. ونجم هو ببلاد غمارة، فدعا لنفسه وإجابته القبائل منهم. واحتلّ بحصن علودان من أمنع معاقلهم، وبايعوه على الموت. ثم نهض إلى أصيلا والعريش فغلب عليها. واتصل ذلك كلّه بالسلطان الهالك أبي يعقوب فلم يحركه استهانة بأمرهم. وبعث ابنه أبا سالم بالعساكر، فنازل سبتة أياما. ثم أقلع عنها. وبعث بعده أخاه يعيش بن يعقوب وأنزله طنجة، وجمّر معه الكتائب وجعلها ثغرا. وزحف إليه عثمان بن أبي العلاء فتأخّر عن طنجة إلى القصر. ثم اتبعه فخرج إليه أهل القصر فرسانا ورجالا ورماة مع يعيش، فوصلوا إلى وادي وراء، ثم انهزموا إلى البلد. ومات عمر بن ياسين، ونزل عثمان عليهم القصر يوما، ثم دخله من غده. ثم كان مهلك السلطان، وفرّ يعيش بن يعقوب خيفة من أبي ثابت، فلحق بعثمان بن أبي العلاء واستقام أمره بتلك الجهات برهة. وكان السلطان أبو ثابت لمّا احتل بالمغرب شغله ما كان من انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش كما قدّمناه، فعقد على حرب عثمان بن أبي العلاء مكان عمّه يعيش بن يعقوب لعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من رجال بيته، فزحف إليه. ونهض عثمان إلى لقائه منتصف ذي الحجّة سنة سبع وسبعمائة فهزمه واستلحم من كان معه من جند الروم. وهلك في تلك الوقعة عبد الواحد الفودودي من رجالات السلطان المرشّحين ردفاء الوزارة. وسار عثمان إلى قصر كتامة فنزله، واستولى على جهاته. وعلى تفيئة ذلك كان رجوع السلطان من غزاة مراكش وقد حسم الداء ومحا أثر النفاق، فاعتزم على الحركة إلى بلاد غمارة يمحو منها أثر دعوة ابن أبي العلاء التي كادت تلج عليه ممالكه بالمغرب، ويردّه على عقبه ويستخلص سبتة من يد ابن الأحمر لما صارت ركابا لمن يروم الانتزاء والخروج من القرابة والأعياص المستنفرين وراء البحر غزاة في سبيل الله، فنهض من فاس منتصف ذي الحجة من سنة سبع وسبعمائة ولما انتهى إلى قصر كتامة تلوم به ثلاثا حتى توافت عساكره وحشوده، وكمل اعتراضها وفرّ عثمان بن أبي العلاء أمامه، وارتحل السلطان في اتباعه فنازل حصن علودان واقتحمه عنوة. واستلحم به زهاء أربعمائة. ثم نازل بلد الدمنة، واقتحمها وأثخن فيها قتلا وسبيا لتمسّكهم بطاعة ابن أبي العلاء ومظاهرتهم له. ثم كبس القصر واستباحة. ثم ارتحل إلى طنجة واحتلّ بها غرّة ثمان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 وسبعمائة وانحجر ابن أبي العلاء بسبتة مع أوليائه وسرّح السلطان عساكره، فتفرّقت نواحي سبتة بالاكتساح والغارة. وأمر باختطاط بلد تيطاوين لنزول معسكره والأخذ بمخنق سبتة. وأوفد كبير الفقهاء بمجلسه أبا يحيى بن أبي الصبر إليهم في شأن النزول عن البلد. وفي خلال ذلك اعتلّ السلطان فمرض وقضى أياما قلائل وهلك في ثامن صفر من سنته، ودفن بظاهر طنجة. ثم حمل شلوه بعد أيام إلى مدفن آبائه بشالة فووري هنالك. رحمة الله عليه وعليهم. (الخبر عن دولة السلطان أبي الربيع وما كان فيها من الاحداث) لما ملك السلطان أبو ثابت تصدّى للقيام بالأمر عمّه علي ابن السلطان أبي يعقوب المعروف بأمّه رزيكة، وخلص الملأ من بني مرين أهل الحلّ والعقد إلى أخيه أبي الربيع فبايعوه. وتقبّض على عمه عليّ بن رزيكة المستام للإمرة، فاعتقله بطنجة إلى أن هلك بها سنة عشر وسبعمائة لجمادى. وبثّ العطاء في الناس وأجزل وارتحل نحو فاس. واتبعه عثمان بن أبي العلاء في جيش كثيف، وبيّته وقد نذر به العسكر فأيقظوا ليلتهم ووافاهم على الظهر بساحة علودان، فناجزهم الحرب. وكانت الدائرة على عثمان وقومه. وتقبّض على ولده وكثير من عساكره. وأثخن أولياء السلطان فيهم بالقتل والسبي، وكان الظهور الّذي لا كفاء له. ووصل أبو يحيى بن أبي الصبر إلى الأندلس، وقد أحكم عقدة الصلح. وقد كان ابن الأحمر جاء للقاء السلطان أبي ثابت، ووصل إلى الجزيرة الخضراء فأدركه خبر مهلكه، فتوقف عن الجواز، وأجاز ابن أبي الصبر بأحكام المؤاخاة. واجتاز عثمان بن أبي العلاء إلى العدوة فيمن معه من القرابة. فلحق بغرناطة. وأغذّ السلطان السير إلى حضرته، فدخل فاس آخر ربيع من سنة ثمان وسبعمائة واستقامت الأمور وتمهّد الملك، وعقد السلم مع صاحب تلمسان موسى بن عثمان بن يغمراسن، وأقام وادعا بحضرته. وكانت أيامه خير أيام، هدنة وسكونا وترفا لأهل الدولة. وفي أيامه تغالى الناس في أثمان العقار، فبلغت قيمتها فوق المعتاد. حتى لقد بيع كثير من الدور بفاس بألف دينار من الذهب العين. وتنافس الناس في البناء فعالوا الصروح، واتخذوا القصور المشيّدة بالصخر والرخام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 وزخرفوها بالزليج والنقوش. وتناغوا في لبس الحرير وركوب الفاره. وأكل الطيب واقتناء الحلي من الذهب والفضة. واستبحر العمران، وظهرت الزينة والترف، والسلطان وادع بداره متملّى أريكته إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. (الخبر عن مقتل عبد الله بن أبي مدين) كان أبو شعيب بن مخلوف من بني أبي عثمان من قبائل كتامة المجاورين للقصر الكبير، وكان منتحلا للدين ومشتهرا به. ولما أجلب بنو مرين على المغرب وجالوا في بسائطه، وتغلّبوا على ضواحيه، صحب البرّ منهم البرّ والفاجر من أهله مثله. وكان بنو عبد الحق قد تحيّزوا لأبي شعيب هذا فيمن تحيّزوه للصحابة من أهل الدين، فكان إمام صلاتهم. وكان يعقوب بن عبد الحق أشدّهم صحابة له، وأوفاهم به ذماما فاتصل به حبله، واتصلت [1] صحابته، وعظم في الدولة قدره وانبسط بين الناس جاه ولده وأقاربه وحاشيته. وربى بنو شعيب هذا عبد الله ومحمد المعروف بالحاج، وأبو القاسم ومن بعدهم من إخوتهم بقصر كتامة في جو ذلك الجاه. وهلك السلطان يعقوب بن عبد الحق فاستخلصهم يوسف بن عبد الحق لخدمته، واستعملهم على مختصاته. ثم ترقى بهم في رتب خدمته وأخصّائه، درجة بعد أخرى إلى أن هلك أبوهم أبو مدين شعيب سنة سبع وتسعين وستمائة وكان المقدّم منهم عند السلطان عبد الله، فاربى [2] على ثنيات العزّ والوزارة والخلّة والولاية. وتقدّم لحظوته في مجلسه كل حظوة، واختصه بوضع علامته على الرسائل والأوامر الصادرة عنه، وجعل إليه حسبان الخراج والضرب على أيدي العمّال، وتنفيذ الأوامر بالقبض والبسط فيهم. واستخلصه لمناجاة الخلوات والإفضاء بذات الصدور، فوقف ببابه الإشراف من الخاصة والقبيل والقرابة والولد، وسوّدوه وخطبوا نائله. وكان عبد الله قد استعمل مع ذلك أخاه محمدا على جباية المصامدة بمراكش، وهنّأ أبا القاسم   [1] وفي نسخة ثانية: استمرت. [2] وفي نسخة ثانية: فأوفى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 الدعة بفاس، فأقام بها متمليا راحته عريضا جاهه، طاعما كاسيا، تتسرّب إليه أموال العمّال في سبيل الإتحاف، وتقف ببابه صدور الركائب إلى أن هلك السلطان أبو يوسف. ويقال إنّ له خائنة في دمه مع سعاية الملياني. ولما ولي من بعده أخوه أبو الربيع فتقبّل فيه مذاهب سلفه. وكان بنو وقاصة اليهود حين نكبوا، باشر نكبتهم لمكانه من إصدار الأوامر. ويزعمون أنّ له فيهم سعاية. وكان خليفة الأصغر منهم قد استبقى كما ذكرناه، فلما أفضى الأمر إلى السلطان أبي الربيع استعمل خليفة بداره في بعض المهن، وباشر [1] الخدم حتى اتصل بمباشرة السلطان، فجعل غايته السعاية بعبد الله بن أبي مدين. وكان يؤثر عن السلطان أبي الربيع بأنه لا تؤمن بوائقه مع حرم ذويه، وتعرف خليفة ذلك من مقالات الناس، فدسّ إلى السلطان أنّ عبد الله بن أبي مدين يعرض باتهام السلطان في ابنته، وأن صدره وغر بذلك، وأنه مترصد بالدولة. وكان يخشى العائلة بما كان عليه من مداخلة القبيل، ولما كان داعيته من دواعي آل يعقوب، فتعجّل السلطان دفع غائلته واستدعاه صبيحة زفاف ابنته، زعموا عن زوجها فاستحثّه قائد الروم من داره بفاس. ونذر بالشر، فلم يغنه النذر، ومرّ في طريقه إلى دار السلطان بمقبرة أبي يحيى بن العربيّ، فطعنه القائد هنالك من ورائه طعنة أكبته على ذقنه. واحتزّ رأسه وألقاه بين يدي السلطان. ودخل الوزير سليمان بن يرزيكن فوجده بين يديه، فذهبت نفسه عليه وعلى مكانه من الدولة حسرة وأسفا، وأيقظ السلطان لمكر اليهودي، فوقفه على براءة كان ابن أبي مدين بعثها للسلطان معه بالتنصّل والحلف، فتيقّظ وعلم مكر اليهودي به، فندم وفتك لحينه بخليفة بن وقاصة وذويه من اليهود المتصدّين للخدمة، وسطا بهم سطوة الهلكة، فأصبحوا مثلا للآخرين، والله أعلم. (الخبر عن ثورة أهل سبتة بالأندلسيين ومراجعتهم طاعة السلطان) لما قفل السلطان أبو الربيع من غزاة سبتة بعد أن شرّد عثمان بن أبي العلاء وأحجره   [1] وفي نسخة ثانية: ولابس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 بسبتة، وأجاز منها إلى العدوة ومن كان معه من القرابة كما قلناه، بلغه الخبر بضجر أهل سبتة، ومرض قلوبهم من ولاية الأندلسيين وسوء ملكتهم. ودسّ إليه بعض أشياعه بالبلد بمثل ذلك، فأغزى صنيعته تاشفين بن يعقوب الوطاسي أخا وزيره في عساكر ضخمة من بني مرين. وسائر الطبقات من الجند. وأوعز إليه بالتقدّم إلى سبتة ومنازلتها، فأغذّ إليها السير ونزل بساحتها، ولما أحسّ به أهل البلد تمشت رجالاتهم [1] وتنادوا بشعارهم، وثاروا على من كان بينهم من قوّاد ابن الأحمر وعمّاله وأخرجوا منها حاميته وجنوده. واقتحمها العساكر واحتل بقصبتها تاشفين بن يعقوب عاشر صفر من سنة تسع وسبعمائة. وطير الفوائق بالخبر إلى السلطان فعمّ السرور وعظم شأن الفرح. وتقبّض على قائد القصبة أبي زكريا يحيى بن مليلة، وعلى قائد البحر أبي الحسن بن كماشة، وعلى قائد الحروب بها من الأعياص عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق. كان صاحب الأندلس عقد له مكان ابن عمّه عثمان بن أبي العلاء عند إجازته البحر إلى الجهاد كما ذكرناه. وكتب إلى السلطان بالفتح، وأوفد عليه الملأ من مشيخة أهل سبتة وأهل الشورى. وبلغ الخبر إلى ابن الأحمر فارتاع لذلك وخشي عادية السلطان، وجيوش المغرب حين انتهوا إلى الفرضة. وقد كان الطاغية في تلك الأيام نازل الجزيرة الخضراء، وأقلع عنها على الصلح بعد أن أذاقها من الحصار شدّة، وبعد أن نازل جبل الفتح، فتغلّب عليه وملكه. وانهزم زعيم من زعمائه يعرف بألفنش بيرس، هزمه أبو يحيى بن عبد الله بن أبي العلاء صاحب الجيش بمالقة، لقيه وهو يجوس خلال البلاد بعد تملّك الجبل، فهزم النصارى وقتلوا أبرح قتل. وأهم المسلمين شأن الجبل فبادر السلطان أبو الجيوش. بإنفاذ رسله راغبين في السلم خاطبين للولاية. وتبرّع بالنزول عن الجزيرة ورندة وحصونها، ترغيبا للسلطان في الجهاد، فتقبّل منه السلطان وعقد له الصلح على ما رغب، وأصهر إليه في أخته، فأنكحه إياها. وبعث بالمدد للجهاد، أموالا وخيولا وجنائب مع عثمان بن عيسى اليرنياني. واتصلت بينهما الولاية إلى مهلك السلطان والبقاء للَّه وحده.   [1] وفي نسخة أخرى: بهشت. وتبهّش القوم: اجتمعوا (قاموس) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 (الخبر عن بيعة عبد الحق بن عثمان بممالأة الوزير والمشيخة وظهور السلطان عليهم ثم مهلكه باثر ذلك) كانت رسل ابن الأحمر خلال هذه المهادنة والمكاتبات تختلف إلى باب السلطان، ووصل منهم في بعض أحيانها خلف من مترفيهم، فجاهر بالكبائر، فكشف صفحة وجهه في معاقرة الخمر والإدمان عليه. وكان السلطان منذ شهر جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة قد عزل القاضي بفاس أبا غالب المغيلي، وعهد بأحكام القضاء لشيخ الفتيا المذكور بها أبي الحسن الملقّب بالصغير. وكان على نهج [1] من تغيير المنكرات والتعسّف فيها، حتى لقد كان مطاوعا في ذلك وسواس النسك الأعجمي، ومتجاوزا به الحدود المتعارفة بين أهل الشريعة في سائر الأمصار. وأحضر عنده ذات يوم هذا الرسول ثملا، وحضر العدول فاستروحوه، ثم أمضى حكم الله فيه، وأقام عليه الحدّ. وأضرمته هذه الموجدة، فاضطرم غيظا وتعرّض للوزير رحّو بن يعقوب الوطاسي منصرفه من دار السلطان في موكبه، وكشف عن ظهر يريه السياط وينعي عليهم سوء هذا المرتكب مع الرسل. فتبرّم لذلك الوزير وأدركته الحفيظة، وسرّح وزعته [2] وحشمه في إحضار القاضي على أسوإ الحالات من التنكيل والتلّ لذقنه، فمضوا لتلك الوجهة، واعتصم القاضي بالمسجد الجامع، ونادى المسلمين، فثارت العامّة فيهم، ومرج أمر الناس. واتصل الخبر بالسلطان فتلافاه بالبعث في أولئك النفر من وزعة الوزير، وضرب أعناقهم، وجعلهم عظة لمن وراءهم، فأسرّها الوزير في نفسه، وداخل الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق من بني عسكر بن محمد شيخ بني مرين، والمسلم له في شوارهم. وقائد الروم غنصالة المنفرد برياسة العسكر وشوكته، وكان لهم بالوزير اختصاص آثروه له على سلطانه، فدعا لهم لبيعة [3] عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق كبير القرابة وأسد الأعياص، وخلع طاعة السلطان فأجابوه وبايعوا له، وتمّ أمرهم نجيّا. ثم خرج عاشر جمادى من سنة عشر   [1] وفي نسخة أخرى: ثبج. [2] الوزعة: ج وازع وهو الّذي يدير أمر الجيوش (قاموس) . [3] وفي نسخة ثانية: فدعاهم إلى بيعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 وسبعمائة إلى ظاهر البلد الجديد بمكان الرمكة، وجاهروا بالخلعان وأقاموا الآلة وبايعوا سلطانهم عبد الحق على عيون الملأ. وعسكروا بالعدوة القصوى من سبّو تخم بلاد العسكر، وإزاء نبدورة من معاقل الحسن بن علي زعيم تلك الثورة. ثم ارتحلوا من الغد إلى تازى وخرج السلطان في أثرهم فعسكر بسبّو وتلوّم لاعتراض العساكر، وإزاحة العلل، واحتل القوم برباط تازي، وأوفدوا على موسى بن عثمان بن يغمراسن سلطان بني عبد الواد يدعونه إلى المظاهرة واتصال اليد، والمدد بالعساكر والأموال جنوحا إلى التي هي آثر لديه من تفريق كلمة عدوّه، فتثاقل عن ذلك لمكان السلم الّذي عقد له السلطان مذ أوّل الدولة، وليستبين سبيل القوم. وقدّم السلطان بين يديه يوسف بن عيسى الجشميّ، وعمر بن موسى الفودودي في جموع كتيبة من بني مرين. وسار في ساقتهم، فانكشف القوم عن تازى ولحقوا بتلمسان صرخا. وحمد السلطان مغبّة تثاقله عن نصرهم ووجد بها الحجة عليهم، إذ غاية مظاهرته إياهم أن يملّكهم تازى، وقد انكشفوا عنها فيئسوا من صريخه. وأجاز عبد الحق بن عثمان ورحّو بن يعقوب إلى الأندلس، فأقام رحّو بها إلى أن قتله أولاد ابن أبي العلاء، ورجع الحسن بن علي إلى مكانه من قبيله ومحلّه من مجلس السلطان بعد أن اقتضى عهده بالأمان على ذلك. ولما احتلّ السلطان بتازى حسم الداء ومحا أثر الشقاق، وأثخن في حاشية الخوارج وذويهم بالقتل والسبي. ثم اعتلّ أثناء ذلك وهلك لليال من اعتلاله سلخ جمادى الأخيرة من سنة عشر وسبعمائة ووري بصحن الجامع الأعظم من تازى، وبويع السلطان أبو سعيد، كما نذكره إن شاء الله. (الخبر عن دولة السلطان أبي سعيد وما كان فيها من الأحداث) لما هلك السلطان أبو الربيع بتازى تطاول للأمر عمّه عثمان ابن السلطان أبي يعقوب المعروف بأمّه قضنيت [1] . واستام المنصب وأسدى في ذلك وألحم. وحضر الوزراء والمشيخة بالقصر بعد هدء من الليل، وأثاروا شيخ القرابة يومئذ وكبير الأعياص   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: قضيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 المرشحين، وسرّبت إليهم الأموال. وجاءهم عثمان ابن السلطان أبي يعقوب مستاما، فزجروه واستدعوا السلطان أبا سعيد، فحضر وبايعوه ليلتئذ وأنفذ كتبه إلى النواحي والجهات باقتضاء البيعة. وسرّح ابنه الأكبر الأمير أبا الحسن إلى فاس، فدخلها غرّة رجب من سنة عشر وسبعمائة. ودخل القصر واطلع على أمواله وذخيرته، وفي غد ليلته أخذت البيعة للسلطان بظاهر تازي على بني مرين، وسائر زناتة والعرب والقبائل والعساكر والحاشية والموالي والصنائع والعلماء والصلحاء ونقباء الناس وعرفائهم والخاصة والدهماء. فقام بالأمر واستوسق له الملك. وفرّق الأعطيات وأسنى الجوائز، وتفقّد الدواوين ورفع الظلامات، وحطّ المغارم والمكوس. وسرّح أهل السجون، ورفع عن أهل فاس وظيفة الرباع [1] وارتحل لعشرين من رجب إلى حضرته، فاحتلّ بفاس. وقدم عليه وفود التهنئة من جميع بلاد المغرب. ثم خرج لذي القعدة بعدها إلى رباط الفتح لتفقّد الأحوال والنظر في أحوال الرعايا، واهتمّ بالجهاد، وأنشأ الأساطيل للغزو في سبيل الله. ولما قضى منسك الأضحى بعده، رجع إلى حضرته بفاس. ثم عقد سنة إحدى عشرة وسبعمائة لأخيه الأمير أبي البقاء يعيش على ثغور الأندلس: الجزيرة ورندة وما إليها من الحصون. ثم نهض من الحصون سنة ثلاث عشرة وسبعمائة إلى مراكش لما كان بها من اختلال الأحوال، وخروج عدي بن هنّو الهسكوري، ونقضه للطاعة، فنازله وحاصره مدّة، واقتحم حصنه عنوة عليه، وحمله إلى دار ملكه عنوة، فأودعه المطبق. ثم رجع إلى غزو تلمسان، والله أعلم. (الخبر عن حركة السلطان أبي سعيد الى تلمسان أولى حركاته اليها) لما خرج عبد الحق بن عثمان على السلطان أبي الربيع، وتغلّب على تازى بمظاهرة الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق كبير بني عسكر، واختلف رسلهم إلى أبي حمّو موسى بن عثمان سلطان بني عبد الواد، اسف ذلك بني مرين وحرّك من   [1] يعني أنه رفع عنهم ضريبة الربع التي كانوا يدفعونها للحاكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 إحنهم [1] ، ولما لحق الخارجون على الدولة بالسلطان أبي حمّو وأقبل عليهم أضرم ذلك حقد بني مرين. وولّى السلطان أبو سعيد الأمر وفي أنفسهم من بني عبد الواد غصّة. فلما استوسق أمر السلطان، ودوّخ الجهات المراكشية، وعقد على البلاد الأندلسية وفرغ من شأن المغرب، اعتزم على غزو تلمسان فنهض إليه سنة أربع عشرة وسبعمائة ولما انتهى إلى وادي ملويّة قدّم ابنيه أبا الحسن وأبا عليّ في عسكرين عظيمين في الجناحين، وسار في ساقتهما، ودخل بلاد بني عبد الواد على هذه التعبية، فاكتسح نواحيها واصطلم نعمها. ونازل وجدة، فقاتلها قتالا شديدا وامتنعت عليه ثم نهض إلى تلمسان فنزل بالملعب من ساحتها. وانحجر موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على معاقلها ورعاياها وسائر ضواحيها، فحطّمها حطما، ونسف جهاتها نسفا، ودوّخ جبال بني يرناسن وفتح معاقلها وأثخن فيها وانتهى إلى وجدة. وكان معه في معسكره أخوه يعيش بن يعقوب، وقد أدركته بعض استرابة بأمره ففرّ إلى تلمسان، ونزل على أبي حمّو ورجع السلطان على تعبيته إلى تازى، فأقام بها. وبعث ابنه الأمير أبا عليّ إلى فاس فكان من خروجه على أبيه ما نذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي وما كان بينه وبين أبيه من الواقعات) كان للسلطان أبي سعيد اثنان من الولد أكبرهما لأمته الحبشية، وهو عليّ، والأصغر لمملوكة من سبي النصارى وهو عمر. وكان هذا الأصغر آثرهما لديه، وأعلقهما بقلبه منذ نشأ، فكان عليه حدبا وبه مشغوفا. ولما استولى على ملك المغرب، رشّحه بولاية عهده، وهو شاب لم يطرّ شاربه. ووضع له ألقاب الإمارة، وصيّر معه الجلساء والخاصّة والكتّاب وأمره باتخاذ العلامة في كتبه. وعقد على وزارته لإبراهيم بن عيسى اليرنياني من صنائع دولتهم وكبار المرشحين بها. ولما رآه أخوه الأكبر أبو الحسن صاغية أبيه إليه، وكان شديد البرور بوالديه، انحاش إليه وصار في جملته، وخلط نفسه بحاشيته طاعة لأبيه واستمرّت حال الأمير أبي عليّ على هذا، وخاطبه الملوك من   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: وحرّك مزاجهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 النواحي وخاطبهم، وهادوه وعقد الرايات، وأثبت في الديوان ومحا وزاد في العطاء ونقص، وكاد أن يستبدّ. ولما قفل السلطان أبو سعيد من غزاته إلى تلمسان سنة أربع عشرة وسبعمائة أقام بتازى وبعث ولديه إلى فاس، فلما استقرّ الأمير أبو عليّ بفاس حدّثته نفسه بالاستبداد على أبيه، وخلعه وراوضه المداخلون له في المكر بالسلطان حتى يتقبّض عليه، فأبي وركب الخلاف وجاهر بالخلعان ودعا لنفسه، فأطاعه الناس لما كان السلطان جعل إليه من أمرهم. وعسكر بساحة البلد الجديد يريد غزو السلطان، فبرز من تازى بعسكره يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. ثم بدا للأمير أبي عليّ في شأن وزيره، وحدّثته نفسه بالتقبّض عليه استرابة به لما كان بلغه من المكاتبة بينه وبين السلطان، فبعث لذلك عمر بن يخلف الفردودي، وتفطّن الوزير لما حاوله من المكر، فتقبّض عليه ونزع إلى السلطان أبي سعيد فتقبّله ورضي عنه. وارتحل إلى لقاء ابنه، ولما تراءى الجمعان بالقرمدة ما بين فاس وتازى، واختل مصاف السلطان وانهزم عسكره وأفلت بعد أن أصابته جراحة في يده وهن لها، ولحق بتازى فليلا جريحا. ولحق به ابنه الأمير أبو الحسن نازعا إليه من جملة أخيه أبي علي بعد المحنة وفاء لحق أبيه، فاستبشر السلطان بالظهور والفتح، وحمد المغبة، وأناخ الأمير أبو علي بعساكره على تازى، وسعى الخواص بين السلطان وابنه في الصلح على أن يخرج له السلطان عن الأمر ويقتصر على تازى وجهاتها، فتمّ ذلك بينهما وانعقد. وشهد الملأ من مشيخة العرب وزناتة وأهل الأمصار، واستحكم عقده وانكفأ الأمير أبو عليّ إلى حضرة فاس مملّكا. وتوافت إليه بيعات الأمصار بالمغرب ووفودهم، واستوسق أمره. ثم اعتلّ على أثر ذلك واشتدّ وجعه، وصار إلى حال الموت وخشي الناس على أنفسهم تلاشى الأمر بمهلكه، فسايلوا إلى السلطان بتازى، ثم نزع على الأمير أبي عليّ وزيره أبو بكر بن النوار [1] وكاتبه منديل بن محمد الكتاني، وسائر خواصه، ولحقوا بالسلطان وحملوه على تلافي الأمر، فنهض من تازى واجتمع إليه كافة بني مرين والجند. وعسكر على البلد الجديد وأقام محاصرا لها، وابتنى دارا لسكناه وجعل لابنه الأمير أبي الحسن ما كان لأخيه أبي علي من ولاية العهد وتفويض الأمر.   [1] وفي النسخة المصرية: أبو بكر بن النوان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 وتفرد أبو عليّ بطائفة من النصارى المستخدمين بدولتهم، كان قائدهم يمتّ إليه بخؤولة، وضبط البلد مدّة مرضه حتى إذا أفاق وتبيّن اختلال أمره، بعث إلى أبيه في الصفح والرضى، وان ينزل له عما انتزى عليه من الأمر على أن يقطعه سجلماسة وما إليها، ويسوغه ما احتمل من المال والذخيرة من دراهم، فأجابه لذلك، وانعقد بينهما سنة خمس عشرة وسبعمائة وخرج الأمير أبو علي بخاصّته وحشمه، وعسكر بالزيتون من ظاهر البلد. وفي له السلطان بما اشترط وارتحل إلى سجلماسة، ودخل السلطان إلى البلد الجديد ونزل بقصره، وأصلح شئون ملكه، وأنزل ابنه الأمير أبا الحسن بالدار البيضاء من قصوره، وفوّض إليه في سلطانه تفويض الاستقلال. وأذن له في اتخاذ الوزراء والكتّاب، ووضع العلامة على كتبه وسائر ما كان لأخيه. ووفدت إليه بيعات الأمصار بالمغرب، ورجعوا إلى طاعته. ونزل الأمير أبو علي بسجلماسة فأقام بها ملكا، ودوّن الدواوين، واستلحق واستركب، وفرض العطاء واستخدم ظواعن العرب من المعقل، وافتتح معاقل الصحراء وقصور تاورت [1] وتيكورارين وتمنطيت، وغزا بلاد السوس فافتتحها وتغلب على ضواحيها، وأثخن في أعرابها من ذوي حسّان والشبانات وزكنة، حتى استقاموا على طاعته. وبيّت عبد الرحمن بن يدر أمير الأنصار بالسوس في تارودانت مقرّه، فافتتحها عليه عنوة وقتله، واصطلم نعمته وأباد سلطانه. وأقام لبني مرين في بلاد القبلة ملكا وسلطانا، وانتقض على السلطان سنة عشرين وسبعمائة وتغلّب على درعة، وسما إلى طلب مراكش، فعقد السلطان على حربه لأخيه الأمير أبي الحسن، وجعله إليه، وأغزاه ونهض على أثره، واعتلّ [2] بمراكش، وثقف أطرافها وحسم عللها. وعقد عليها لكندوز بن عثمان من صنائع دولتهم، وقفل بعساكره إلى الحضرة. ثم نهض الأمير أبو علي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بجموعه من سلجماسة وأغذّ السير إلى مراكش، فاختلفت عساكره بها قبل أن يجتمع لكندوز أمره. فتقبّض عليه وضرب عنقه ورفعه على القناة وملك مراكش وسائر ضواحيها. وبلغ الخبر إلى السلطان، فخرج من حضرته في عساكره بعد أن احتشد. وأزاح العلل، واستوفى   [1] وفي النسخة المصرية: توات. [2] وفي النسخة المصرية: فاحتلوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 الأعطيات، وقدّم بين يديه ابنه الأمير أبا الحسن ولي عهده الغالب على أمره في عساكره وجموعه. وجاء في ساقته، وسار على هذه التعبية. ولما انتهى إلى بويو [1] من وادي ملويّة نذروا بالبيات من أبي علي وجنوده، فحذروهم وأيقظوا ليلتهم. وبيّتهم بمعسكرهم ذلك، فكانت الدبرة عليه. وفلّ عسكره. وارتحلوا من الغد في أثره. وسلك على جبال درن، وافترقت جنوده في أوعاره، ولحقهم من معراتها شناعات، حتى ترجّل الأمير أبو عليّ عن فرسه، وسعى على قدميه، وخلص من ورطة ذلك الجبل بعد عصب الريق، ولحق بسجلماسة، ومهّد السلطان نواحي مراكش، وعقد عليها لموسى بن علي بن محمد الهنتاتي، فعظم غناؤه في ذلك واضطلاعه وامتدّت أيام ولايته وارتحل السلطان إلى سجلماسة، فدافعه الأمير أبو علي بالخضوع في الصفح والرضا والعودة إلى السلم، فأجابه السلطان لما كان شغفه من حبّه، فقد كان يؤثر عنه من ذلك غرائب. ورجع إلى الحضرة وأقام الأمير أبو علي بمكانه من ملك القبلة إلى أن هلك السلطان، وتغلّب عليه أخوه السلطان أبو الحسن كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن نكبة منديل الكتاني ومقتله) كان أبوه محمد بن محمد الكتاني [2] من علية الكتاب بدولة الموحّدين، ونزع من مراكش عند ما انحل نظام بني عبد المؤمن وانفض جمعهم إلى مكناسة، فأوطنها في إيالة بني مرين. واتصل بالسلطان يعقوب بن عبد الحق فصحبه فيمن كان يثائر على صحابته من أعلام المغرب. وسفر عنه إلى الملوك كما ذكرناه في سفارته إلى المستنصر سنة خمس وستين وستمائة وهلك السلطان يعقوب بن عبد الحق فازداد الكتاني عند ابنه يوسف بن يعقوب حظوة ومكانه إلى أن سخطه ونكبه سنة سبع وستين وستمائة وأقصاه من يومئذ وهلك في حال سخطته وبقي من بعده ابنه منديل هذا في جملة السلطان أبي يعقوب متبرما بمقام عبد الله بن أبي مدين المستولي على قهرمة دار   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية توتو وفي نسخة أخرى نونو. [2] وفي النسخة المصرية: الكناني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 السلطان ومخالصته في خلواته مغضيا لذلك. متوقعا النكبة في أكثر أيامه مضطرمة له بالحسد جوانحه، مع ما كان عليه من القيام على حسبان الديوان عرف فيه بسبقه وتشابه صديقه وعدوه. ولما تغلّب السلطان على ضواحي شلف ومغراوة واستعمل على حسبان الجباية، وجعل إليه ديوان العسكر هنالك، وإلى نظره اعتراضهم وتمحيصهم، فنزل على مليانة مع من كان هنالك من الأمراء مثل علي بن محمد الخيريّ والحسن بن علي بن أبي الطلاق العسكري إلى أن هلك السلطان أبو يعقوب، ورجّع أبو ثابت البلاد إلى أبي زيّان وأخيه أبي حمّو فخفّ عليهما، وحلا بعيونهما، واستبلغا في تكريمه وانصرف إلى مغربه. وكان معسكر السلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان قد صحب أخاه أبا سعيد عثمان بن يعقوب في حال خموله، وتأكّدت بينهما الخلّة التي رعاها له السلطان أبو سعيد. فلمّا ولي أمر المغرب متّ بذلك إليه، فعرفه له واختصّه وخالصة، وجعل إليه وضع علامته وحسبان جبايته، ومستخلص أحواله، والمفاوضة بذات صدره. ورفع مجلسه في بسائطه، وقدّمه على خاصته. وكان كثير الطاعة للأمير أبي علي ابنه المتغلّب على أبيه قبل أوّل أمره [1] . ولما استبدّ وخلع أباه انحاش منديل هذا إليه. ثم نزع عنه حين تبيّن اختلال أمره، وكان الأمير أبو الحسن يحقد عليه ولاية أخيه أبي عليّ لما كان بينهما من المنافسة. وكان كثيرا ما يوغر صدره بإيجاب حق عمر عليه، وامتهانه في خدمته. وطوى له على النث حتى إذا انفرد بمجلس أبيه وفصل عمر إلى سجلماسة أحكم السعاية فيه وإلحاح [2] في الهلكة التي أحكم [3] السلطان عليها أذنا واعية، حتى تأذّن الله بإهلاكه. وكان منديل هذا كثيرا ما يغضب السلطان في المحاورة والخطاب دالة عليه وكبرا، فاعتدّ عليه من ذلك كلمات وأحوالا، وسخطه سنة ثمان عشرة وسبعمائة واذن لابنه الأمير أبي الحسن في نكبته، فاعتقله واستصفى أمواله، وطوى ديوانه وامتحنه أياما، ثم قتله بمحبسه خنقا، ويقال جوعا. وذهب مثلا في الغابرين، والله خير الوارثين.   [1] وفي النسخة المصرية: المتغلب على أبيه أول مرّة. [2] وفي النسخة المصرية: الآلاء. [3] وفي النسخة المصرية: صرّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 (الخبر عن انتقاض العزفي بسبتة ومنازلته ثم مصيرها الى طاعة السلطان بعد مهلكه) كان بنو العز في لما تغلب عليهم الرئيس أبو سعيد ونقلهم إلى غرناطة سنة خمس وسبعمائة استقرّوا بها في إيالة المخلوع ثالث ملوك بني الأحمر، حتى إذا استولى السلطان أبو الربيع على سبتة سنة تسع وسبعمائة أذنوه في الإجازة إلى المغرب، فأجازوا إلى فاس، فاستقروا بها. وكان يحيى وعبد الرحمن ابنا أبي طالب من سراتهم وكبارهم، وكانوا يغشون مجالس أهل العلم، لما كانوا عليه من انتحال الطلب [1] . وكان أبو سعيد أيام إمارة بني أبيه يجالس بالمسجد الجامع القرويين شيخ الفتيا أبا الحسن الصغير. وكان يحيى بن أبي طالب يلازمه، فاتصل به وصارت له وسيلة يحتسبها عنده. فلمّا ولي الأمر واستقلّ به، رعى لهم زمام صحابتهم، ووفّى لهم مقاصدهم. وعقد ليحيى على سبتة، ورجّعهم إلى مقرّ إمارتهم منها ومحل رياستهم، فارتحلوا إليها سنة عشر وسبعمائة وأقاموا دعوة السلطان أبي سعيد والتزموا طاعته. ثم تغلّب الأمير أبو علي على أمر أبيه، واستبدّ عليه فعقد على سبتة لأبي زكريا حيّون بن أبي العلاء القرشي، وعزل يحيى بن أبي طالب عنها. واستقدمه إلى فاس فقدمها هو وأبوه أبو طالب وعمّه حاتم، واستقرّوا في جملة السلطان. وهلك أبو طالب بفاس خلال ذلك حتى إذا كان من خروج الأمير أبي علي على أبيه ما قدّمناه، لحق يحيى بن أبي طالب وأخوه بالسلطان نازعين من جملة الأمير أبي علي. فلما اعتلّ بالبلد الجديد ونازلة السلطان بها فحينئذ عقد السلطان ليحيى بن أبي طالب على سبتة، وبعثه إليها ليقيم دعوته بتلك الجهات. وتمسّك بابنه محمد رهنا على طاعته، فاستقلّ بإمارتها، وأقام دعوة السلطان وطاعته بها. وأخذ بيعته على الناس، واتصل ذلك سنتين [2] . وهلك عمّه أبو حاتم هنالك بعد مرجعه معه من المغرب سنة ست عشرة وسبعمائة. ثم انتقض على طاعة السلطان ونبذ طاعة الأمراء، ورجع إلى حال سلفه من أمر الشورى في البلد. واستقدم من الأندلس عبد الحق بن   [1] وفي النسخة المصرية: الطب. [2] وفي نسخة ثانية: سنين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 عثمان فقدم عليه وعقد له على الحرب ليفرّق الكلمة به، ويوهن ببأسه عزائم السلطان في مطالبته. وجهّز السلطان إليه العساكر من بني مرين وعقد علي حربه للوزير إبراهيم بن عيسى، فزحف إليه وحاصره، وتعلّل عليهم بطلب ابنه، فبعث به السلطان إلى وزيره إبراهيم ليعطي طاعته، فيسلمه، وجاءه الخبر من عيون كانت بالعسكر وأن ابنه كائن بفسطاط الوزير بساحة البحر، بحيث تتأتى الفرصة في أخذه، فبيّت المعسكر، وهجم عبد الحق بن عثمان بحشمه وذويه على فسطاط الوزير، فاحتمله إلى أبيه وركبت العساكر للهيعة، فلم يقفوا على خبر حتى تفقّد الوزير ابن العز في. واتهموا قائدهم إبراهيم بن عيسى الوزير بممالأة العدوّ على ذلك، فاجتمعت مشيختهم وتقبّضوا عليه، وحملوه إلى السلطان ابتلاء للطاعة واستبصارا في نصح السلطان، فشكر لهم وأطلق وزيره لابتلاء نصيحته. ورغب يحيى بن العزفي بعدها في رضى السلطان وولايته. ونهض السلطان سنة تسع عشرة وسبعمائة إلى طنجة لاختبار طاعته، فعقد له على سبتة واشترط هو على نفسه الوفاء لجباية السلطان، وأسنى هديته في كل سنة. واستمرّت الحال على ذلك إلى أن هلك يحيى العزفي سنة عشرين وسبعمائة. وقام بالأمر بعده ابنه محمد إلى نظر عمّه محمد بن عليّ بن الفقيه أبي القاسم شيخ قرابتهم. وكان قائد الأساطيل بسبتة ووليّ النظر فيها بعد أن نزع القائد يحيى الرنداحي إلى الأندلس، واختلف الغوغاء بسبتة، وانتهز السلطان الفرصة فأجمع على النهوض إليها سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وبادروا بإيتاء طاعتهم. وعجز محمد ابن يحيى عن المناهضة، وظنّها محمد بن عيسى من نفسه، فتعرّض للأمر في أوغاد من اللفيف، فاجتمعوا إليه وادفعهم الملأ عن ذلك، وحملوهم على الطاعة، واقتادوا بني العز في إلى السلطان فانقادوا، واحتل السلطان بقصبة سبتة، وثقف جهاتها ورمّ منثلمها وأصلح خللها. واستعمل كبار رجالاته وخواصّ مجلسه في أعمالها، فعقد لحاجبه عامر بن فتح الله الصدراتي على حاميتها، وعقد لأبي القاسم بن أبي مدين على جبايتها والنظر في مبانيها، وإخراج الأموال للنفقات فيها. وأسنى جوائز الملأ من مشيختها، ووفر أقطاعاتهم وجراياتهم. وأوعز ببناء البلد المسمّى أفراك على سبتة، فشرعوا في بنائها سنة تسع وعشرين وسبعمائة وانكفأ راجعا إلى حضرته، والله تعالى أعلم . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 (الخبر عن استقدام عبد المهيمن للكتابة والعلامة) كان بنو عبد المهيمن من بيوتات سبتة، ونسبهم في حضرموت. وكانوا أهل تجلّة ووقار، منتحلين للعلم. وكان أبو محمد قاضيا بسبتة أيام أبي طالب وأبي حاتم، وكان له معهم صهر. ونشأ ابنه عبد المهيمن هذا في حجر الطلب والجلالة، وقرأ صناعة العربيّة على الأستاذ الغافقي وحذق فيها. ولما نزلت بهم نكبة الرئيس أبي سعيد سنة خمس وسبعمائة واحتملوا إلى غرناطة، احتمل فيهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه. وقرأ عبد المهيمن بغرناطة على مشيختها، وازداد علما وبصرا باللسان والحديث. واستكتب بدار السلطان محمد المخلوع، واختصّ بوزيره المتغلّب على دولته محمد بن الحكيم الرنديّ فيمن اختص به من رؤساء بني العزفي. ثم رجع بعد نكبة ابن الحكيم إلى سبتة، وكتب عن قائدها ابن مسلمة مدّة. ولما استخلص بنو مرين سبتة سنة تسع وسبعمائة اقتصر على الكتابة، وأقام منتحلا مذاهب سلفه في انتحال العلم ونزول المروءة. ولما استولى السلطان أبو سعيد على المغرب واستقل بولاية العهد، وتغلّب على الأمر ابنه أبو علي، وكان محبّا للعلم مولعا بأهله منتحلا لفنونه. وكانت دولته خلوا من صناعة التراسل مذ عهد الموحدين للبداوة الموجودة في أوّلهم [1] . وحصل للأمير أبي عليّ بعض البصر بالبلاغة واللسان تفطّن به لشأن ذلك، وخلو دولتهم من الكتّاب المرسلين، وأنهم إنما يحكمون الخطّ الّذي حذقوا فيه. ورأى الأصابع تشير إلى عبد المهيمن في رياسة تلك الصناعة، فولع به. وكان كثير الوفادة مع أهل بلده أوقات وفادتهم، فيختصه الأمير أبو علي بمزيد برّه وكرامته، ويرفع مجلسه، ويخطبه للكتابة وهو يمتنع عليه. حتى إذا أمضى عزيمته في ذلك أوعز إلى عامله بسبتة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أن يشخصه إلى بابهم فقلده كتابته وعلامته حتى إذا خرج أبو علي على أبيه تحيز عبد المهيمن الى الأمير أبي الحسن، فلما صولح أبو علي على النزول عن البلد الجديد وكتب شرطه على السلطان كان من جملتها كون عبد المهيمن معه، وأمضى له السلطان ذلك وأنف الأمير أبو   [1] وفي طبعة بولاق: الموجدة في دولتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 الحسن منها، فأقسم ليقتلنّه إن عمل بذلك، فرفع عبد المهيمن أمره إلى السلطان ولاذ به، وألقى نفسه بين يديه، فرقّ لشكواه وأمره باعتزالهما معا والرجوع إلى خدمته. وأنزله بمعسكره وأقام على ذلك، واختصه منديل الكتاني كبير الدولة وزعيم الخاصة، وأنكحه ابنته، ولما نكب منديل جعل السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين، وكان غفلا خلوا من الآداب، فكان يرجع إلى عبد السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين، وكان غفلا خلوا من الآداب، فكان يرجع إلى عبد المهيمن في قراءة الكتب وإصلاحها، وإنشائها حتى عرف السلطان له ذلك، فاقتصر عليه وجعل وضع العلامة إليه سنة ثمان عشرة وسبعمائة فاضطلع بها ورسخت قدمه في مجلس السلطان، وارتفع صيته. واستمرّ على ذلك أيام السلطان وابنه أبي الحسن من بعده إلى أن هلك بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة والله سبحانه وتعالى خير الوارثين. (الخبر عن صريخ أهل الأندلس ومهلك بطرة على غرناطة) كان الطاغية شانجة بن أدفونش قد تكالب على أهل الأندلس من بعد أبيه هراندة الهالك سنة اثنتين وثمانين وستمائة. ومنذ غلب على طريف شغل السلطان يوسف بن يعقوب بعده ببني يغمراسن، ثم تشاغل حفدته من بعده بأمرهم وتقاصرت مددهم، وهلك شانجة سنة ثلاث وسبعين [1] وولى ابنه هراندة ونازل الجزيرة الخضراء فرضة الجهاد لبني مرين حولا كاملا، ونازلت أساطيله جبل الفتح واشتدّ الحصار على المسلمين. وراسل هراندة بن أدفونش صاحب برشلونة أن يشغل أهل الأندلس من ورائهم، ويأخذ بحجزتهم، فنازل المريّة وحاصرها الحصار المشهور سنة تسع وسبعمائة ونصب عليها الآلات. وكان منها برج العود المشهور بطول الأسوار بمقدار ثلاث قامات، وتحيّل المسلمون على إحراقه فأحرق. وحفر العدوّ تحت الأرض مسربا مقدار ما يسير فيه عشرون راكبا. وتفطّن المسلمون واحتفر قبالتهم مثله إلى أن نفذ بعضهم   [1] الصحيح ثلاث وتسعين وستمائة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 لبعض، واقتتلوا من تحت الأرض وعقد ابن الأحمر لعثمان بن أبي العلاء زعيم الأعياص على عسكر بعثه مددا لأهل المريّة، فلقيه جمع من النصارى كان الطاغية بعثهم لحصار مرشانة [1] ، فهزمهم عثمان واستلحمهم، ونزل قريبا من معسكر الطاغية وألحّ بمغاداتهم ومراوحتهم الى أن رغبوا إليه في السلم وأفرج عن البلد. وتغلّب الطاغية، خلال ذلك على جبل الفتح، وأقامت عساكره على سماتة [2] واسطبونة [3] ، وزحف العبّاس بن رحّو بن عبد الله وعثمان بن أبي العلاء في العساكر لاغاثة البلدين، فأوقع عثمان بعسكر اسطبونة، وقتل قائدهم ألفنش بيرش [4] في نحو ثلاثة آلاف فارس واستلحموا. ثم زحف عثمان لاغاثة العبّاس وكان دخل عوجين فحاصرته جموع النصارى به، فانفضوا الخبر زحفه، وبلغ الخبر إلى الطاغية بمكانه من ظاهر الجزيرة بفتكة عثمان في قومه، فسرّح جموع النصرانية، ولقيهم عثمان فأوقع بهم، وقتل زعماءهم. وارتحل الطاغية يريد لقاءهم فخالف أهل البلد إلى معسكره، وانتهبوا محلاته وفساطيطه، وأتيحت للمسلمين عليهم الكرّة، وامتلأت الأيدي من غنائمهم وأسراهم. ثم هلك الطاغية أثر هذه الهزائم سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وهو هراندة بن شانجة. وولي بعد ابنه الهنشة طفلا صغيرا، جعلوه لنظر عمّه دون بطرة ابن شانجة، وزعيم النصرانيّة جوان فكفلاه. واستقام أمرهم على ذلك، وشغل السلطان أبو سعيد ملك المغرب بشأن ابنه وخروجه، فاهتبل النصرانية الغرّة في الأندلس وزحفوا إلى غرناطة سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأناخوا عليها بعسكرهم وأممهم. وبعث أهل الأندلس صريخهم إلى السلطان واعتذر لهم بمكان أبي العلاء من دولتهم، ومحله من رياستهم، وأنه مرشّح للأمر في قومه بني مرين، يخشى معه تفريق الكلمة. وشرط عليهم أن يدفعوه إليه برمّته حتى يتم أمرّ الجهاد، ويعيده إليهم حوطة على المسلمين. ولم يمكنهم ذلك لمكان عثمان بن أبي العلاء لصرامته وعصابته   [1] مرشانة: مدينة من أعمال قرمونة بالأندلس (معجم البلدان) . [2] كذا في النسخة الباريسية وفي طبعة بولاق شمانة وفي نسخة أخرى: سماية وفي معجم البلدان ذكر سمانة وهو اسم موضع ولم يزد على ذلك. [3] اسطبونة: لم يذكرها صاحب معجم البلدان ولعلها اسطبة المذكورة في نفح الطيب ج 1 ص 165 وتبعد عن قرطبة 36 ميلا. [4] وفي نسخة ثانية: ألفنس بترس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 من قومه، فأخفق سعيهم واستلحموا. وأطالت أمم النصرانية بغرناطة، وطمعوا في التهامها. ثم إنّ الله نفّس مخنقهم، ودافع قدرته عنهم، وكيّف لعثمان بن أبي العلاء وعصبته واقعة فيهم كانت أغرب الوقائع. صمدوا إلى موقف الطاغية بجملتهم، وكانوا زهاء مائتين أو أكثر، وصابروهم حتى خالطوهم في مراكزهم، فصرعوا بطرة وجوان، وولوهم الأدبار. واعترضتهم من ورائهم مسارب الماء للشرب من شقيل [1] فتطارحوا فيها. وهلك أكثرهم، واكتسحت أموالهم، وأعزّ الله دينه، وأهلك عدوّه. ونصب رأس بطرة بسور البلد عبرة لمن يذكر، وهو باق هنالك لهذا العهد. والله تعالى أعلم. (الخبر عن صهر الموحدين والحركة الى تلمسان على اثره وما تخلل ذلك من الاحداث) لما انفرج الحصار عن ولد يغمراسن بن زيّان أحد ملوك بني عبد الواد سنة ست وسبعمائة وتجافى أبو ثابت عن بلادهم، ونزل لهم عما كان بنو مرين ملكوه منها بسيوفهم. واستقل أبو حمّو بملك بني عبد الواد على رأس الحول منها، صرف نظره واهتمامه إلى بلاد المشرق، فتغلّب على بلاد مغراوة، ثم على بلاد بني توجين، ومحا منها أثر سلطانهم. ولحق أعياصهم من ولد عبد القوي بن عطيّة ولد منديل بن عبد الرحمن بالموحّدين بني أبي حفص مع من تبعهم من رءوس قبائلهم، وصاروا في جملة عساكرهم. واستلحق مولانا السلطان أبو يحيى وحاجبه يعقوب بن عمر منهم جندا كثيفا أثبتهم في الديوان، وغالب بهم الخوارج والمنازعين للدولة. ثم زحف أبو حمّو إلى الجزائر وغلب ابن علّان عليها سنة [2] ونقله إلى تلمسان ووفى له. وفرّ بنو منصور أمراء ملكيش أهل بسيط متيجة من صنهاجة، فلحقوا بالموحّدين واصطنعوهم. وتملّك قاصية المغرب الأوسط وتاخم عمل الموحدين بعمله. ثم تغلّب على تدلس سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وتجنى على مولانا السلطان أبي يحيى بما وقع بينهم من المراسلة أيام انتزى ابن مخلوف ببجاية كما ذكرناه في أخباره. فحثّ عزائمه   [1] وفي نسخة ثانية: شنيل. [2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 لمنزلتها وطلب بلاد الموحّدين، وأوطأ عساكره أرضهم، ونازل أمصارهم بجاية وقسنطينة. واختصّ بجاية بشوكته من ذلك، وجهّز العساكر مع مسعود ابن عمّه أبي عامر إبراهيم لمضايقتها. وكان خلال ذلك ما قدّمناه من خروج محمد بن يوسف ابن يغمراسن عليه سنة [1] وقيام بني توجين بأمره، واقتطاع جبل وانشريس من عمالة ملكه. واستمرّت الحال على ذلك حتى هلك السلطان أبو حمّو سنة ثمان عشرة وسبعمائة وقام بأمرهم ابنه أبو تاشفين عبد الرحمن فصنع له في ابن عمه محمد بن يوسف. ونهض إليه بعساكر بني عبد الواد حتى نازلة بمعتصمه من جبل وانشريش وداخله عمر بن عثمان كبير بني تيغرين في المكر به، فتقبّض عليه وقتله سنة تسع عشرة وسبعمائة وارتحل إلى بجاية حتى احتل بساحتها، وامتنع عليه الحاجب ابن عمر فأقام يوما أو بعضه. ثم انكفأ راجعا إلى تلمسان، وردّد البعوث إلى أوطان بجاية، وابتنى الحصون لتجمير الكتائب، فابتنى بوادي بجاية من أعلاه حصن بكر، ثم حصن تامزردكت. ثم اختط بتيكلات على مرحلة منها بلدا سمّاها تامزيزدكت على اسم المعقل الّذي كان لأوليهم بالجبل قبالة وجدة. وامتنع يغمراسن به على السعيد كما قدّمناه، فاختطّ بلد تيكلات هذه، وشحنها بالأقوات والعساكر، وصيّرها ثغرا لملكه، وأنزل بها جنده. وعقد عليها لموسى بن علي الكردي كبير دولته، ودولة أبيه [2] . واستحثّه أمراء الكعوب من بني سليم لملك إفريقية حين مغاضبتهم لمولانا السلطان أبي يحيى اللحياني، وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي عمران، وأبي إسحاق بن أبي يحيى الشهيد، مرّة بعد أخرى كما ذكرناه في أخبارهم جميعا. وكانت حروبهم سجالا إلى أن كان بين جيوش زناتة والموحدين الزحف المشهور بالرياش من نواحي مرماجنّة سنة تسع وعشرين وسبعمائة زحفت فيه إلى السلطان أبي يحيى عساكر زناتة مع حمزة بن عمر أمير بني كعب. ومن إليه من البدو، وعليهم يحيى بن موسى من صنائع دولة آل يغمراسن. وقد نصبوا للملك محمد بن أبي عمران بن أبي حفص، ومعهم عبد الحق بن عثمان من أعياض بني عبد الحق في بنيه وذويه. وكان نزع إليهم من عند الموحّدين كما ذكرناه، فاختلّ مصاف مولانا السلطان أبي يحيى   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا. [2] وفي نسخة ثانية: لموسى بن علي العزفي كبير دولته ودولة ابنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 وانهزم، واستولوا على فساطيطه بما فيها من الذخيرة والحرم، وانتهبوا معسكره وتقبّضوا على ولديه الموليين أحمد وعمر، وأشخصوهما إلى تلمسان. وأصيب السلطان في بدنه بجراحات أوهنته، وخلص إلى بونة ناجيا برمقه. وركب السفين منها إلى بجاية، فأقام بها يدمل جراحة، واستولت زناتة على تونس. ودخلها محمد بن أبي عمران وسمّوه باسم السلطان ومقادته في يد يحيى بن موسى أمير زناتة. واعتزم مولانا السلطان أبو يحيى على الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد صريخا على آل يغمراسن. وأشار حاجبه محمد بن سيّد الناس بإنفاذ ابنه الأمير أبي زكريا صاحب الثغر استنكافا له عن مثلها، فتقبّل إشارته وأركب ابنه البحر لذلك. وبعث إليه معه أبا محمد عبد الله بن تاشفين من مشيخة الموحّدين نافضا أمامه طرف المقاصد والمحاورات، ونزلوا بغسّاسة من سواحل المغرب، وقدموا على السلطان أبي سعيد بحضرته، وأبلغوه صريخ مولانا السلطان أبي يحيى، فاهتزّ لذلك هو وابنه الأمير أبو الحسن، وقال لابنه الأمير في ذلك المحفل: يا بني لقد قصدك أكبر أقوامنا وموصلك، وو الله لأبذلنّ في مظاهرتكم مالي وقومي ونفسي، ولأسيرنّ بعساكري إلى تلمسان فأنزلها مع أبيك، فانصرفوا إلى منازلهم مسرورين. وكان فيما شرطه عليهم السلطان أبو سعيد مسير مولانا السلطان أبي يحيى بعساكره إلى منازلة تلمسان معه فقبلوا. ونهض السلطان أبو سعيد إلى تلمسان سنة ثلاثين وسبعمائة ولما انتهوا إلى وادي ملويّة وعسكر بضره، جاءهم الخبر اليقين باستيلاء السلطان أبي يحيى على حضرة تونس وإجهاضه زناتة وسلطانهم عنها. فاستدعى مولانا السلطان الأمير أبا زكريا يحيى ابنه ووزيره أبا محمد عبد الله بن تافراكين وأمرهم بالانصراف إلى صاحبهم وأسنى جوائزهم وحاجاتهم [1] . وركبوا أساطيلهم من غسّاسة وأرسل معهم للخطبة الصهر إبراهيم بن أبي حاتم العزفي والقاضي بحضرته أبي عبد الله بن عبد الرزاق، وانكفأ على عقبه راجعا إلى حضرته. ولما انعقد الصهر بين الأمير أبي الحسن، والسلطان أبي يحيى في ابنته شقيقة الأمير يحيى، زفّها إليهم في أساطيله مع مشيخة من الموحدين، كبيرهم أبو القاسم بن عبّو [2] . ووصلوا بها إلى موسى غسّاسة سنة إحدى وثلاثين بين يدي مهلك السلطان أبي سعيد، فقاموا لها على أقدام البرّ   [1] وفي النسخة المصرية: وحباءهم. [2] وفي النسخة المصرية: بن عقّور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 والتكرمة، وبعثوا الظهر إلى غسّاسة لركوبها وحمل أثقالها، وصيغت حكمات الذهب والفضّة ومدّت ولايا الحرير المغشّاة بالذهب، واحتفل لوافدها وأعراسها غاية الاحتفال بما لم يسمع مثله في دولتهم. وتولت قهارمة الدار من عجز النساء ما يتولاه مثلهم من ذلك فطم الصنيع، وتحدّث الناس به. وهلك السلطان أبو سعيد بين يدي موصلها، والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن مهلك السلطان أبي سعيد عفا الله عنه وولاية السلطان أبي الحسن وما تخلل ذلك من الاحداث) كان السلطان لما بلغه وصول العروس بنت مولانا السلطان أبي يحيى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة واهتزّت الدولة لقدومها عليهم تعظيما لحق أبيها وقومها واحتفاء بها، ارتحل السلطان أبو سعيد إلى تازى ليشارف أحوالها بنفسه احتفاء [1] في تكرمتها وسرورا بعرس ابنه. واعتلّ هنالك ومرض حتى إذا أشفى على الهلكة، ارتحل به وليّ العهد الأمير أبو الحسن إلى الحضرة، وحمله في فراشه على أكتاف الحاشية والخول، حتى نزل بسبو، ثم أدخله كذلك ليلا إلى داره. وأدركته المنية في طريقه، فقضى رحمة الله عليه، فوضعوه بمكانه من البيت. واستدعى الصالحين لمواراته، فووري لشهر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة والبقاء للَّه وحده، وكل شيء هالك إلّا وجهه. ولما هلك السلطان أبو سعيد اجتمع الخاصّة من المشيخة ورجالات الدولة لوليّ عهده الأمير أبي الحسن، وعقدوا له على أنفسهم، وآتوه طاعتهم وبيعتهم. وأمر بنقل معسكره من سبو، وأضرب بالزيتون من ساحة فاس. ولما ووري السلطان، خرج إلى معسكره بالتعبية، واجتمع إليه الناس على طبقاتهم لأداء البيعة، وجلس بفسطاطه، وتولى أخذ البيعة له يومئذ على الناس المزوار عبّو بن قاسم رئيس الوزعة [2] ، والمتصرّفين وحاجب الباب القديم الولاية بذلك في دارهم منذ عهد السلطان يوسف بن يعقوب. وزفّت إليه يومئذ عروسه بنت السلطان أبي يحيى،   [1] وفي النسخة المصرية: استبلاغا. [2] ج وازع وهو الّذي يتولى أمر الجيوش. (قاموس) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 فأعرس بها بمكانه من المعسكر، وأجمع أمره على الانتقام لأبيها من عدوّه. وبدأ باستكشاف حال أخيه أبي عليّ، وكان السلطان أبوهما يستوصيه به لما كان له بقلبه من العلاقة. وكان ولي العهد هذا يؤثر لرضاه جهده، فاعتزم على الحركة إلى سجلماسة لمشارفة أحواله، والله تعالى أعلم. (الخبر عن حركة السلطان أبي الحسن إلى سجلماسة وانكفائه عنها الى تلمسان بعد الصلح مع أخيه والاتفاق) لما هلك السلطان أبو سعيد وكملت بيعة السلطان أبي الحسن، وكان كثيرا ما يستوصيه بأخيه أبي علي لما كان كلفا به شفوقا عليه، فأراد مشارفة أحواله قبل النهوض إلى تلمسان، فارتحل من معسكره بالزيتون قاصدا سجلماسة، وتلقته في طريقه وفود الأمير أبي علي أخيه مؤدّيا حقه، موجبا مبرّته، مهنئا له بما آتاه الله من الملك، متجافيا عن المنازعة فيه، قانعا من تراث أبيه بما سأل، في يده، طالبا العقد له بذلك من أخيه. فأجابه السلطان أبو الحسن إلى ما سأل، وعقد له على سجلماسة وما إليها من بلاد القبلة كما كان لعهد أبيهما. وشهد الملأ من القبيل وسائر زناتة والعرب، وانكفأ راجعا إلى تلمسان لإجابة صريخ الموحّدين، وأغذّ السير إليها. ولما انتهى إلى تلمسان تنكّب عنها متجاوزا إلى جهة المشرق لوعد مولانا السلطان أبي يحيى بالنزول معه على تلمسان، كما كان عليه وفاقهم ومشارطتهم مع الأمير أبي زكريا الرسول إليهم. فاحتل بتاسالت في شعبان من سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وتلوّم بها وأوعز إلى أساطيله بمراسي المغرب فأغزاها إلى سواحل تلمسان. وجهّز لمولانا السلطان أبي يحيى مددا من عسكره أركبهم الأساطيل من سواحل وهران، وعقد عليهم لمحمد البطوي من صنائع دولته. ونزلوا بجاية، ووافوا بها مولانا السلطان أبا يحيى فصاروا في جملته. ونهضوا معه إلى تيكلات ثغر بني عبد الواد المجمّرة بها الكتائب لحصار بجاية، وبها يومئذ ابن هزرع من قوّادهم، وأجفل من كان بها من العسكر قبل وصوله إليهم، فلحقوا بآخر عملهم من المغرب الأوسط. وأناخ مولانا السلطان أبو يحيى عليها بعساكر من الموحّدين والعرب والبربر وسائر الحشود، فخرّبوا عمرانها وانتهبوا ما كان من الأقوات مختزنا بها، وكان بحرا لا يدرك ساحله، لما كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 السلطان أبو حمو من لدن اختطها قد أوعز إلى العمّال بسائر البلاد الشرقيّة، منذ عمل البطحاء أن ينقلوا أعشار الحبوب إليها وسائر الأقوات. وتقبّل ابنه السلطان أبو تاشفين مذهبه في ذلك. ولم يزل دأبهم إلى حين حلّت بها هذه الفاقرة فانتهب الناس من تلك الأقوات ما لا كفاء له. وأضرعوا مختطّها بالأرض فنسفوها نسفا، وذروها قاعا صفصفا. والسلطان أبو الحسن خلال ذلك متشوّف لأحوالهم منتظر قدوم مولانا السلطان أبي يحيى عليه لمنازلة تلمسان، حتى وافاه الخبر بانتقاض أخيه كما نذكره، فانكفأ راجعا، واتصل الخبر بمولانا السلطان أبي يحيى فقفل إلى حضرته. وحمل البطوي معه وأسنى جائزته وجوائز عسكره، وانصرفوا إلى السلطان مرسلهم في سفنهم من ساعتها. وانقبض عنان السلطان أبي تاشفين عن غزو بلاد الموحّدين إلى أن انقرض أمره، والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي ونهوض السلطان أبي الحسن اليه وظفره به) لما توغّل السلطان أبو الحسن في غزاة تلمسان وتجاوزها إلى تاسالت لوعد مولانا السلطان أبي يحيى، دسّ أبو تاشفين إلى الأمير أبي علي في اتصال اليد والاتفاق على السلطان أبي الحسن، وأن يأخذ كل واحد منهما بحجزته عن صاحبه متى همّ به، وانعقد بينهما على ذلك. وانتقض الأمير أبو علي على أخيه السلطان أبي الحسن، ونهض من سجلماسة إلى درعة فقتل بها عامل السلطان، واستعمل عليه من ذويه، وسرّح العسكر إلى بلاد مراكش. واتصل الخبر بالسلطان وهو بمعسكره بتاسالت، فأحفظه شأنه، وأجمع على الانتقام منه، فانكفأ راجعا إلى الحضرة. وأنزل بثغر تاوريرت تخم عمله معسكرا، وعقد عليه لابنه تاشفين، وجعله إلى نظر وزيره منديل بن حمامة بن تيربيغين، وأغذّ السير إلى سجلماسة، فنزل عليها وأحاطت عساكره بها، وأخذ بمخنقها وحشد الفعلة والصنّاع لعمل الآلات لحصارها، والبناء بساحتها. وأقام يغاديها القتال ويراوحها حولا كريتا. ونهض أبو تاشفين في عساكره وقومه إلى ثغر المغرب ليوطئه عساكره، وبعث في نواحيه يجاذب السلطان عن مكانه من حصاره. ولما انتهى إلى تاوريرت برز إليه ابن السلطان في وزرائه وعساكره، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 وزحفوا إليه في التعبية، فاختلّ مصافه وانهزم ولم يلق أحدا، وعاد إلى منحجره وبادر إلى إمداد الأمير أبي علي بعسكره، فعقد على حصة من جنده وبعث بهم إليه، فتسرّبوا إلى البلد زرافات ووحدانا حتى استكملوا عنده، وطاولهم السلطان الحصار وأنزل بهم أنواع الحرب والنكال حتى تغلّب عليهم، واقتحم البلد عنوة، وتقبّض على الأمير أبي علي عند باب قصره. وسيق إلى السلطان فأمهله واعتقله، واستولى على ملكه. وعقد على سجلماسة واستعمل عليها، ورحل منكفئا إلى الحضرة، فاحتل بها سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واعتقل أخاه في إحدى حجر القصر إلى أن قتله لأشهر من اعتقاله خنقا بمحبسه. وعدد له هذا الفتح بفتح الجبل واسترجاعه من يد العدّ ودمره الله بأيدي عسكره، وتحت راية ابنه أبي مالك، كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن منازلة جبل الفتح واستئثار الأمير أبي مالك والمسلمين به) لما هلك السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد المتغلّب على ملك الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش، قام بالأمر بعده ابنه محمد طفلا صغيرا لنظر وزيره محمد بن المحروق من بيوت الأندلس وصنائع الدولة. واستبدّ عليه. فلمّا شب وناهز أنف من الاستبداد عليه، وأغراه المعلوجي من حشمه بالوزير، فاغتاله وقتله سنة تسع وعشرين وسبعمائة وشمّر للاستبداد وشدّ أواخي الملك. وكان الطاغية قد أخذ جبل الفتح سنة تسع، وجاورت النصرانية به ثغور الفرضة، وكان شجى في صدرها، وأهمّ المسلمين شأنه. وشغل عنهم صاحب المغرب بما كان فيه من فتنة ابنه، فرجّعوا الجزيرة وحصونها إلى ابن الأحمر منذ سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لأوّل المائة الثامنة. واستغلظ الطاغية عليهم بعد ذلك فرجّعوا الجزيرة إلى صاحب المغرب سنة تسع وعشرين وسبعمائة وولّي عليها السلطان أبو سعيد من أهل دولته سلطان بن مهلهل من عرب الخلط أخواله. وأسفّ الطاغية إلى حصونها عند مهلك السلطان أبي سعيد فملك أكثرها، ومنع البحر من الإجازة. وقارن ذلك استبداد صاحب الأندلس، وقتله لوزيره ابن المحروق. وأهمّه شأن الطاغية، فبادر لإجازة البحر. ووفد على ابن خلدون م 22 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 السلطان أبي الحسن بدار ملكه من فاس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأكبر موصله وأركب الناس للقائه، وأنزله بروض المصارّة لصق داره، واستبلغ في تكريمه. وفاوضه ابن الأحمر في شأن المسلمين وراء البحر، وما أهمّهم من عدوّهم، وشكا إليه حال الجبل واعتراضه شجى في صدر الثغور، فأشكاه السلطان. وعامل الله في أسباب الجهاد، وكان مشغوفا به متقبّلا مذهب جدّه يعقوب فيه. وعقد لابنه الأمير أبي مالك على خمسة آلاف من بني مرين، وأنفذه مع السلطان محمد بن إسماعيل لمنازلة الجبل، فاحتل بالجزيرة، وتتابع إليه الأطول بالمدد. وأرسل ابن الأحمر حاشرين في الأندلس، فتسايلوا إليه، وأضربوا معسكرهم جميعا بساحة الجبل. وأبلوا في حربه ومنازلته البلاء الحسن، إلى أن تغلّبوا عليه سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واقتحمه المسلمون عنوة، ونفلهم الله من كان به من النصرانيّة بما معهم، ووافاه الطاغية بأمم الكفر لثالثة فتحه، وقد شحنه المسلمون بالأقوات، نقلوها من الجزيرة على خيولهم. وباشر نقلها الأمير أبو مالك وابن الأحمر، فنقلها الناس عامّة. وتحيّز الأمير أبو مالك إلى الجزيرة وترك بالجبل يحيى بن طلحة بن محلى من وزراء أبيه. ووصل الطاغية بعد ثلاث فأناخ عليه. وبرز أبو مالك بعساكره، فنزل بحذائه [1] وبعث إلى الأمير أبي عبد الله صاحب الأندلس. فوصل بحشد المسلمين بعد أن دوّخ أرض النصرانيّة. وخرج فنزل بإزاء عسكر الطاغية، وتحصّن العدوّ في محلّتهم. وقاموا كذلك عادية لقرب العهد بارتجاعه، وخفّة ما به من الحامية والسلاح، فبادر السلطان ابن الأحمر إلى لقاء الطاغية. وسبق الناس إلى فسطاطه عجلا بائعا نفسه من الله في رضى المسلمين، وسدّ فرجتهم، فتلقاه الطاغية راجلا حاسرا إعظاما لموصله، وأجابه إلى ما سأل من الإفراج عن هذا المعقل، وأتحفه بذخائر مما لديه، وارتحل لفوره. وأخذ الأمير أبو مالك في تثقيف أطراف الثغر، وسدّ فروجه، وأنزل الحامية به، ونقل الأقوات إليه، وكان فتحا طوّق دولة السلطان أبي الحسن قلادة الفخر إلى آخر الأيام. ثم رجع بعدها إلى شأنه من منازلة تلمسان، والله تعالى أعلم.   [1] وفي النسخة المصرية: قبالته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 (الخبر عن حصار تلمسان وتغلب السلطان أبي الحسن عليها وانقراض أمر بني عبد الواد بمهلك أبي تاشفين) لما تغلّب السلطان على أخيه وحسم علّة انتزائه ومنازعته وسدّ ثغور المغرب، وعظمت لديه نعمة الله بظهور عسكره على النصرانية، وارتجاع جبل الفتح من أيديهم بعد أن أقام في ملكة الطاغية نحوا من عشرين سنة. فرغ لعدوه وأجمع على غزو تلمسان. ووفد عليه رسل السلطان أبي يحيى في سبيل التهنئة بالفتح والأخذ بحجزة أبي تاشفين على الثغور. وأوفد السلطان إلى أبي تاشفين شفعاء في أن يتخلى عن عمل الموحّدين جملة، ويتراجع لهم عن تدلس، ويرجع إلى تخوم عمله منذ أوّل الأمر، ولو عامئذ ليعلم الناس جاه السلطان عند الملوك، ويقدّروه حقّ قدره، واستنكف أبو تاشفين مع ذلك وأغلظ للرسل في القول، وأفحش بمجلسه بعض السفهاء من العبيد في الردّ عليهم والنيل من مرسلهم، فانقلبوا إليه بما أحفظه، فانبعثت عزائم السلطان للصمود إليهم. وعسكر بساحة البلد الجديد، وبعث وزراءه إلى قاصية البلاد المراكشيّة لحشد القبائل والعساكر. ثم تعجّل فاعترض جنوده وأزاح عللهم وعبّى مواكبه، وسار في التعبية. وفصل بمعسكره من فاس أواسط خمس وثلاثين وسبعمائة وسار يجرّ الشوك والمدر من أمم المغرب وجنوده. ومرّ بوجدة، فجمّر الكتائب لحصارها. ثم مرّ بند رومة فقاتلها بعض يوم واقتحمها، فقتل حاميتها واستولى عليها آخر سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ثم سار على تعبيته حتى أناخ على تلمسان، وبلغه الخبر بتغلّب عساكره على وجدة سنة ست وثلاثين وسبعمائة فأوعز إليه بتخريب أسوارها، فأضرعوها بالأرض. وتوافت إليه إمداد النواحي وجهاتها وحشودها، وربض على فريسته. ووفدت إليه قبائل مغراوة وبني توجين فآتوه طاعتهم. ثم سرّح عساكره إلى الجهات فتغلّب على وهران وهنين، ثم على مليانة وتنس والجزائر كذلك سنة ست وثلاثين وسبعمائة ونزع إليه يحيى بن موسى صاحب القاصية الشرقية من عمله، والمتاخم كان لعمل الموحّدين، والقائم بحصار بجاية بعد نكبة موسى بن علي فلقاه مبرّة وتكريما، ورفع بساطه ونظمه في طبقات وزرائه وجلسائه. وعقد على فتح البلاد الشرقيّة ليحيى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 ابن سليمان العسكري كبير بني عسكر بن محمد وشيخ بني مرين، وصاحب شوراهم بمجلس السلطان، والمخصوص بصهر من السلطان. عقد له على ابنته فسار في الألوية والجنود وطوّع ضاحية الشرق وقبائله، وافتتح أمصاره حتى انتهى إلى المريّة [1] . ونظّم البلاد في طاعة السلطان، وأحشد مقاتلتها إلى معسكره فلحقوا له وكاثروا جنوده. واستعمل السلطان على وانشريش وعمل الحشم من بني توجين. وعقد لسعد بن سلامة بن علي على بني يدللتين. وجعل الوالي بالقلعة إلى نظره. وكان خلص إليه بالمغرب قبل فصوله نازعا عن أبي تاشفين لمكان أخيه قريعة محمد من الدولة. واستعمل السلطان أيضا على شلف وسائر أعمال المغرب الأوسط. واختطّ السلطان بغربي [2] تلسمان البلد الجديد لسكناه، ونزل عساكره وسماه المنصورية [3] . وأدار على البلد المخروب سياجا من السور ونطاقا من الخندق. ونصب المجانيق والآلات من وراء خندقه وشيّد قبالة كل برج من أبراج البلد برجا على ساقة خندقه ينضح رماته بالنبل رماتهم، ويشغلونهم بأنفسهم حتى شيّد برجا آخر أقرب منه، وترتفع شرفاته فوق خندقهم. ولم يزل يتقرّب بوضع الأبراج من حدّ إلى ما بعده، حتى اختطها من قرب على ساقه خندقهم. وتماصع المقاتلة بالسيوف من أعيالها، ورتّب المجانيق إلى رجمها ودكّها، فنالت من ذلك فوق الغاية. واشتدّ الحرب وضاق نطاق الحصار. وكان السلطان يصحبهم كل يوم بالبكور والتطواف على البلد من جميع جهاته لتفقّد المقاتلة في مراكزهم، وربما ينفرد في طوافه بعض الأيام عن حاشيته، فاهتبلوا الأمر يحسبونه غرّة. وصفّوا جيوشهم من وراء السور مما يلي الجبل المطلّ على البلد، حتى إذا حاذاه السلطان في تطوافه فتحوا أبوابهم، وأرسلوا عليه عقبان جنودهم، واضطرّوه إلى سفح الجبل حتى لحق بأوعاره، وكاد أن ينزل عن فرسه هو وولّيه عريف بن يحيى أمير سويد. ووصل الصائح إلى المعسكر فركب الأميران ابناه: ابو عبد الرحمن وأبو مالك، في جموع بني مرين، وتهاوت فرسان المعسكر من كلّ جانب، فشمّر جنود بني عبد الواد إلى مراكزهم. ثم دفعوهم عنها، وحملوهم على   [1] وفي نسخة ثانية: المدية. [2] وفي نسخة ثانية: بقرب تلسمان. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية المنصورة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 هوّة الخندق فتطارحوا فيه وترادفوا وهلك بالكظيظ أكثر ممن هلك بالقتل. واستلحم في ذلك اليوم زعماء ملئهم [1] مثل عمر بن عثمان كبير الحشم من بني توجين، ومحمد بن سلامة بن عليّ كبير بني يدللتن منهم أيضا وغيرهم. وكان يوما له ما بعده. واعتز بنو مرين عليهم من يومئذ. ونذر بنو عبد الواد بالتغلّب عليهم، واتصلت الحرب مدّة عامين. ثم اقتحمها السلطان غلابا لسبع وعشرين من رمضان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. ووقف أبو تاشفين بساحة قصره مع خاصّته، وقاتل هنالك حتى قتل ابناه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن عليّ ووليّه عبد الحق بن عثمان من أعياص عبد الحق. نزع إليه من جملة الموحّدين كما أشرنا إليه ونستوفي خبره. فهلك هو وابنه وابن أخيه، وأثخنت السلطان أبا تاشفين الجراحة ووهن لها، فتقبّض عليه. واختبنه [2] بعض الفرسان إلى السلطان فلقيه الأمير أبو عبد الرحمن صالي تلك الحروب وأورد غمرتها بنفسه، فاعترضه وقد غضّ الطرف بموكبه، فأمر به في الحين فقتل، واحتزّ رأسه، وسخط ذلك السلطان من فعله لحرصه على توبيخه وتفريعه، وذهب مثلا في الغابرين. واقتحم السلطان بكافّة عساكره، وتواقع الناس بباب كشوط [3] لجنوبهم من كظيظ الزحام، فهلك منهم أمم. وانطلقت أيدي النهب على البلد فلحقت الكثير من أهله معرّات في أموالهم وحرمهم. وخلص السلطان إلى المسجد الجامع مع لمّة من خواصه وحاشيته. واستدعى شيوخ الفتيا بالبلد أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام، وفاء بحق العلم وأهله، فخلصوا إليه بعد الجهد ووعظوه وذكروه بما نال الناس من النهب، فركب لذلك بنفسه وسكن وأوزع جنوده وأشياعه من الرعيّة، وقبض أيديهم عن الفساد وعاد إلى معسكره بالبلد الجديد. وقد كمل الفتح وعزّ النصر، وشهد ذلك اليوم أبو محمد بن تافراكين، وافاه رسولا عن مولانا السلطان أبي يحيى مجدّدا للعهد، فأعجله السلطان إلى مرسلة بالخبر وسابق السابقين. ودخل تونس لسبع عشرة ليلة من نوبة الفتح، فعظم السرور عند السلطان أبي يحيى بمهلك عدوّه والانتقام منه بشارة، واعتدّها بمساعيه. ورفع السلطان أبو الحسن القتل عن بني عبد الواد أعدائهم، وشفى نفسه   [1] وفي نسخة ثانية: ملاحمهم. [2] اختبن الشيء: اخذه في خبنة ثيابه (قاموس) . [3] وفي نسخة ثانية: كشوك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 بقتل سلطانهم، وعفا عنهم وأثبتهم في الديوان، وفرض لهم العطاء، واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم،. وجمع كلمة بني واسين من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين، وسائر زناتة وأنزلهم ببلاد المغرب وسدّ بكل طائفة منهم ثغرا من أعماله، وساروا عصبا تحت لوائه، فأنزل منهم بقاصية السوس وبلاد غمارة، وأجاز منهم إلى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين، واندرجوا في جملته، واتسع نطاق ملكه. وأصبح ملك زناتة بعد أن كان ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أن كان سلطان المغرب. والأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. (الخبر عن نكبة الأمير عبد الرحمن بمتيجة وتقبض السلطان عليه ثم مهلكه آخرا) قد قدّمنا ما كان من اشتراط السلطان أبي سعيد على الموحّدين منازلتهم تلمسان مع عساكره، وتلوّم السلطان أبي الحسن بتاسالت لانتظار مولانا السلطان أبي يحيى. ولما نازل تلمسان بعساكره المرّة الثانية، لم يطالبهم بذلك. وكان أبو محمد بن تافراكين يتردّد إليه وهو بمعسكره من حصار تلمسان مؤدّيا حقه مستخبرا مآل عدوّهم. فلمّا تغلّب على تلمسان أسرّ إليه سفيره أبو محمد بن تافراكين بأنّ سلطانه قادم عليه للقائه وتهنئته بالظفر بعدوّه. وتشوّف السلطان أبو الحسن إليها لما كان يحب الفخر ويعنى به، وارتحل من تلمسان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وعسكر ببسيط بمتيجة منتظرا وفادة مولانا السلطان أبي يحيى عليه، وتكاسل السلطان عنها لما أراه سيفه المتحكّم في دولته محمد بن الحكيم من حذر مغبتها، وقال له: إنّ لقاء سلطانين لا يتّفق إلّا في يوم على أحدهما، فكره ذلك السلطان وتقاعد عنه: وطال مقام السلطان أبي الحسن في انتظار الموعد الّذي ألقى إليه أبو محمد بن تافراكين، واعتل لأشهر من مقامه ومرض بفسطاطه. وتحدّث أهل المعسكر بمهلكه. وكان ابنا الأمير أبو عبد الرحمن وأبو مالك متناغيين في ولاية عهده منذ أيام جدّهما أبي سعيد. وكان السلطان قد جعل لهما من أوّل دولته ألقاب الإمارة وأحوالها من اتخاذ الوزراء والكتّاب ووضع العلامة وتدوين الدواوين وإثبات العطاء. واستلحاق الفرسان والانفراد بالعساكر، فكانا من ذلك على ثبج. وجعل لهما مع ذلك الجلوس لمقعد فصله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 مناوية لتنفيذ الأوامر السلطانيّة، فكانا لذلك رديفين له في سلطانه. ولما اشتدّ وجع السلطان تمشّت سماسرة الفتن بين هذين الأميرين وحزّب أهل المعسكر لهما أحزابها، وبثّ كل واحد منهما المال وحمل على المقربات. وصارت شيعا وانقسموا فرقا. وهمّ الأمير أبو عبد الرحمن بالتوثّب على الأمر قبل أن يتبيّن حال السلطان بإغراء وزرائه وبطانته بذلك. وتفطّن خاصّة السلطان لها، فأخبروه الخبر وحضّوه على الخروج إلى الناس قبل أن يتفاقم الأمر ويتّسع الخرق، فبرز إلى فسطاط جلوسه وتسامع أهل المعسكر به، فازدحموا على مجلسه وتقبيل يده. وتقبّض على أهل الظنّة من العساكر، فأودعهم السجن وسخط على الأميرين. ورحل الناس من معسكرهما، فردّهما إلى معسكره. ثم رجع إلى فسطاطه فارتاب الأميران لذلك ووجما، وطفئت نار فتنتهما وسكن سعي المفسدين عندهما وانتبذ الناس عنهما. فاشتدّت روعة الأمير أبي عبد الرحمن، وركب من فساطيطه وخاض الليل، وأصبح بحلّة أولاد علي [1] أمراء زغبة الموطّنين بأرض حمزة، فتقبّض عليه أميرهم موسى بن أبي الفضل. وردّه إلى أبيه، فاعتقله بوجدة، ورتّب العيون لحراسته من حشمه إلى أن قتل بعد ذلك سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. وثبت بالسجّان فقتله. وأنفذ السلطان حاجبه علّان بن محمد فقضى عليه. ولحق وزيره زيّان بن عمر الوطاسي بالموحدين فأجاروه. ورضي السلطان صبيحة نزوع أبي عبد الرحمن عن أخيه أبي مالك، وعقد له على ثغور عمله بالأندلس، وصرفه إليها، وانكفأ إلى تلمسان. والله أعلم. (الخبر عن خروج ابن هيدور وتلبسيه بابي عبد الرحمن) لما تقبّض السلطان على ابنه عبد الرحمن وأودعه السجن، تفرّق خدمة وحشمه وانذعروا في الجهات. وهمل جازر من مطبخه، كان يعرف بابن هيدور، كان شبيها له في الصورة، فلحق ببني عامر من زغبة، وكانوا لذلك العهد منحرفين عن   [1] وفي نسخة ثانية: أولاد زغلي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 الطاعة، خوارج على الدولة لما كان السلطان وأبوه اختصا عريف بن يحيى أمير بني سويد أقتالهم، منذ نزع إليهم عن أبي تاشفين. فركبوا سنن الخلاف ولبسوا جلدة النفاق، وانتبذوا بالقفار. ورياستهم لذلك العهد لصغير بن عامر وإخوته. وعقد السلطان على حربهم لونزمار ابن وليّه عريف. وكان سيّد البدو يومئذ، فجمع لهم وشمّر لطلبهم، وأبعدوا أمامه في المذاهب، وأوقع بهم مرارا. ولحق بهم هذا الجازر، وانتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن وأنه أبو عبد الرحمن ابنه النازع عنه، فشبّه لهم وبايعوه وأجلبوا به على نواحي المرية [1] . وبرز إليهم قائدها مجاهد بن [2] من صنائع الدولة، ففضّوا جمعه وانهزم أمامهم. ثم جمع لهم ونزمار وفرّوا عن تلك النواحي وافترق جمعهم. ونبذوا لذلك الجازر عهده، فلحق ببني يرناتن من زواوة، ونزل على سيّدتهم شمسي فقامت بأمره. وحمل بنوها من بني عبد الصمد قومهم على طاعته. وشاع في الناس خبره فمن مصدّق ومن مكذّب حتى تبيّنت ووقفوا على كذبه في انتسابه، فنبذوا عهده ولحق بالزواودة أمراء رياح، ونزل على سيّدهم يعقوب بن عليّ، وانتسب له في مثل ذلك، فأجاره إن صدق نسبه. وأوعز السلطان إلى السلطان أبي يحيى صاحب إفريقية في شأنه، فبعث إلى يعقوب وأشخصه إلى السلطان مع ذويه، فلحق به بمكانه من سبتة فامتحنه السلطان وقطعه من خلاف وانحسم دواؤه. وبقي بالمغرب تحت جراية من الدولة إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وسبعمائة [3] والله تعالى أعلم. (الخبر عن شأن الجهاد واغزاء السلطان ابنه الأمير ابا مالك واستشهاده) لما فرغ السلطان من أمر عدوّه وما تبع من ذلك من الأحوال، صرف اعتزامه إلى الجهاد لما كان كلفا به. وكان الطاغية منذ شغل بني مرين عن الجهاد منذ عهد يعقوب بن عبد الحق قد اعتزوا على المسلمين بالعدوة. ونازلوا معاقلهم،   [1] وفي نسخة ثانية: المدية. [2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد مجاهد هذا في المراجع التي بين أيدينا. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: ثمان وستين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 وتغلّبوا على الكثير منها، وارتجعوا الجبل ونازلوا السلطان أبا الوليد في عقر داره بغرناطة. ووضعوا عليه الجزية فتقبّلها وأسفّوا إلى التهام المسلمين بالأندلس. فلما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوّه وعلت على الأيدي يده، وانفسح نطاق ملكه، دعته نفسه إلى الجهاد. وأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور من عمله بالعدوة سنة أربعين وسبعمائة بالدخول إلى دار الحرب، وجهّز إليه العساكر من حضرته وأنفذ إليه الوزراء، فشخص غازيا في الحفل، وتوغّل في بلاد الطاغية واكتسحها، وخرج بالسبي والغنائم إلى أدنى صدره من أرضهم وأناخ بها. واتصل به الخبر بأنّ النصارى جمعوا له، وأغذّوا السير في اتباعه. وأشار عليه الملأ بالخروج من أرضهم وإجازة الوادي الّذي كان تخما بين أرض الإسلام ودار الحرب. وأن يصير إلى مدن المسلمين فيمتنع بها، فلج في إبايته وصمّم على التعريس. وكان قرما ثبتا إلا أنه غير بصير بالحروب لمكان سنه، فصبحهم عساكر النصرانيّة في مضاجعهم قبل أن يركبوا وخاطبوهم في ابايتهم. وأدرك الأمير أبو مالك بالأرض قبل أن يستوي على فرسه فجدلوه واستلحموا الكثير من قومه، واحتووا على المعسكر بما فيه من أموال المسلمين وأموالهم، ورجعوا على أعقابهم. واتصل الخبر بالسلطان فتفجّع لهلاك ابنه، واسترحم له، واحتسب عند الله أجره وفي سبيله قتله. وشرع في إجازة العساكر للجهاد وتجهيز الأساطيل. (الخبر عن واقعة الملند والظفر به وظهور اساطيل المسلمين على اسطول النصارى) لما بلغ الخبر إلى السلطان باستشهاد ابنه، أخرج وزراءه إلى السواحل لتجهيز الأساطيل. وفتح ديوان العطاء، واعترض الجنود وأزاح عللهم. واستنفر أهل المغرب وارتحل إلى سبتة ليباشر أحوال الجهاد. وتسامعت أمم النصرانية بذلك، فاستعدّوا للدفاع. وأخرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق ليمنع السلطان من الإجازة. واستحثّ السلطان أساطيل المسلمين من مراسي العدوة. وبعث إلى الموحدين بتجهيز أسطولهم إليه، فعقدوا عليه لزيد بن فرحون قائد أسطول بجاية من صنائع دولتهم، ووافى ستة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 في ستة عشر من أساطيل إفريقية، كان من طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجّاية. وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز المائة. وعقد السلطان عليها لمحمد بن عليّ العزفي الّذي كان صاحب سبتة يوم فتحها، وأمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق. وقد اكتمل عديدهم وعدّتهم، فاستلأموا وتظاهروا في السلاح. وزحفوا إلى أسطول النصارى وتواقفوا مليا. ثم قرّبوا الأساطيل بعضها إلى بعض وقرنوها للمصاف، فلم يمض إلا كلا ولا [1] حتى هبّت ريح النصر، وأظفر الله المسلمين بعدوّهم، وخالطوهم في أساطيلهم واستلحموهم هبرا بالسيوف، وطعنا بالرماح، وألقوا أشلاءهم في اليم وقتلوا قائدهم الملند واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة، فبرز الناس لمشاهدتها وطيف بكثير من رءوسهم في جوانب البلد. ونظمت أصفاد الأسرى بدار الإنشاء. وعظم الفتح وجلس السلطان للتهنئة، وأنشدت الشعراء بين يديه، وكان يوما من أعز الأيام، والمنّة للَّه. (الخبر عن واقعة طريف وتمحيص المسلمين) لما ظفر المسلمون بأسطول النصارى وخضّدوا شوكتهم عن ممانعة الجواز، شرع السلطان في إجازة العساكر الغزاة من المطوّعة والمرتزقة، وانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة. ولما استكمل إجازة العساكر أجاز هو في أسطوله مع خاصّته وحشمه آخر سنة أربعين وسبعمائة ونزل بساحة طريف وأناخ بعساكره عليها، واضطرب معسكره بفنائها، وبدأ بمنازلتها. ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجّاج ابن السلطان أبي الوليد بعسكر الأندلس من غزاة زناتة وحامية الثغور ورجل البدو، فعسكروا حذاء معسكره وأحاطوا بطريف نطاقا واحدا، وأنزلوا بهم أنواع القتال، ونصبوا عليها الآلات. وجهّز الطاغية أسطولا آخر اعترض به الزقاق لقطع المرافق عن المعسكر، وطال ثواؤهم [2] بمكانهم من حصار البلد، ففنيت أزودتهم وافتقدوا العلوفات، فوهن الظهر واختلّت أحوال المعسكر. واحتشد الطاغية أمم النصرانيّة   [1] وفي نسخة ثانية: ولم يكن إلا كلا ولا. [2] بمعنى مقامهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 وظاهره البرتقال صاحب أشبونة، وغرب الأندلس، فجاء معه في قومه. وزحف إليهم لستة أشهر من نزولهم. ولما قرب معسكرهم سرّب إلى طريف جيشا من النصارى أكمنه بها، فدخلوه ليلا على حين غفلة من العسس الّذي أرصد لهم. وأحسّوا بهم آخر ليلتهم، فثاروا بهم من مراصدهم وأدركوا أعقابهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عددا ولبسوا على السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم حذرا من سطوته. وزحف الطاغية من الغد في جموعه، وعبّى السلطان مواكب المسلمين صفوفا، وتزاحفوا ولما نشب الحرب برز الجيش الكمين من البلد وخالفوهم إلى المعسكر، وعمدوا إلى فسطاط السلطان ودافعهم عنه الناشبة الذين أعدّوا لحراسته فاستلحموهم. ثم دافعهم النساء عن أنفسهنّ فقتلوهنّ وخلصوا إلى خطايا السلطان: عائشة بنت عمه أبي يحيى بن يعقوب، وفاطمة بنت مولانا السلطان أبي يحيى ملك إفريقية، وغيرهما من حظاياه فقتلوهنّ واستلبوهنّ. وانتهبوا سائر الفساطيط وأضرموا المعسكر نارا وأحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم فاختلّ مصافهم وارتدّوا على أعقابهم بعد أن كان ابن السلطان صمم في طائفة من قومه وذويه حتى خالطهم في صفوفهم، فأحاطوا به وتقبّضوا عليه، وولّى السلطان متحيزا إلى فئة المسلمين، واستشهد كثير من الغزاة ووصل الطاغية إلى فسطاط السلطان من المحلّة وأنكر قتل النساء والولدان، ووقف منه لمنتهى أثره، وانكفأ راجعا إلى بلاده، ولحق ابن الأحمر بغرناطة، وخلص السلطان إلى الجزيرة، ثم إلى الجبل. ثم ركب السفين إلى سبتة في ليله ومحّص الله المسلمين وأجزل ثوابهم. وأرجأ لهم الكرّة على عدوّهم. (الخبر عن منازلة الطاغية الجزيرة، ثم تغلبه عليها بعد أن غلب على القلعة من ثغور ابن الأحمر) لما رجع الطاغية من طريف استأسد على المسلمين بالأندلس، وطمع في التهامهم، وجمع عساكر النصرانية، ونازل قلعة بني سعيد ثغر غرناطة. وعلى مرحلة منها وجمع الآلات والأيدي على حصارها، واشتدّ مخنقها وأصابهم الجهد من العطش، فنزلوا على حكمه سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وأدال الله الطيب منها بالخبيث، وانصرف إلى بلده. وكان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعودة إلى الجهاد لرجع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 الكرّة وبعث في الأمصار للاستنفار، وأخرج قوّاده إلى سواحل البحر لتجهيز الأساطيل حتى اكتمل له منها عدد. ثم ارتحل إلى سبتة لمشارفتها، وقدّم عساكره إلى العدوة مع وزيره عسكر بن تاحضريت. وبعث على الجزيرة محمد بن العبّاس بن تاحضريت من قرابة الوزير، وبعثه إليها مددا من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليرنياني من المرشحين للوزارة ببابه، وبلغ الطاغية خبره فجهّز أسطوله وأجراه إلى بحر الزقاق لمدافعته. وتلاقت الأساطيل ومحّص الله المسلمين واستشهد منهم أعاد وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق وملكوه دون المسلمين وأقبل الطاغية من إشبيلية في عساكر النصرانية حتى أناخ بها على الجزيرة الخضراء مرفا أساطيل المسلمين وفرضة المجاز. وأمّل أن ينظمها في مملكته مع جارتها طريف، وحشد الفعلة والصنّاع للآلات، وجمع الأيدي عليها وطاولها الحصار. واتخذ أهل المعسكر بيوتا من الخشب للمطاولة. وجاء السلطان أبو الحجّاج بعساكر الأندلس فنزل قبالة الطاغية بظاهر جبل الفتح في سبيل الممانعة. وأقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة ليسرّب عليها المدد من الفرسان والمال والزرع في أحايين الفعلة من أساطيلهم، وتحت جناح الليل، فلم يغنهم ذلك، واشتدّ عليهم الحصار وأصابهم الجهد. وأجاز إليه السلطان أبو الحجّاج يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية، بعد إذن الطاغية له في الإجازة مكرا به وترصّد له بعض الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال وخلصوا إلى الساحل بعد غصّ الريق، وضاقت أحوال الجزيرة ومن كان بها من عساكر السلطان. وسألوا من الطاغية الأمان على أن ينزلوا عن البلد فبذله وخرجوا فوفّى لهم. وأجازوا إلى المغرب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فأنزلهم السلطان ببلاده على خير نزل، ولقّاهم من المبرّة والكرامة ما أعاضهم ممّا فاتهم، وخلع عليهم وحملهم وأجازهم بما تحدّث به الناس. وتقبّض على وزيره عسكر بن تاحضريت عقوبة على تقصيره في المدافعة، مع تمكّنه منها بما كان لديه من العساكر. وانكفأ السلطان إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله، وإنجاز وعده في رجوع الكرّة وعلوّ الدين. والله متمّ نوره ولو كره الكافرون . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 (الخبر عن شفاعة صاحب تونس في أولاد أبي العلاء ووصولهم الى السلطان) كان عثمان بن أبي العلاء من أعياض آل عبد الحق، شيخ الغزاة المجاهدين من زناتة والبربر بالأندلس. وكان له فيها مقام معلوم في حماية الثغور ومدافعة العدوّ، وغزو دار الحرب، ومساهمة صاحب الأندلس الجهاد كما نستوفي أخباره. وكان السلطان أبو سعيد لما استصرخ بأهل الأندلس اعتذر بمكانه بينهم. واشترط عليهم أن يمكّنوه من قياده حتى يقضي نوبة الجهاد، فلم يسعفوه بذلك. ولمّا هلك عثمان بن أبي العلاء، قام بالأمر من بعده في مراسم الجهاد بنوه وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم أبي ثابت عامر. وقويت عصابتهم بالموالي والأبناء، وغلبت على يد السلطان يدهم، واستبدّوا عليه في أكثر الأحوال، واستنكف لها، وكان ذلك مما دعاه إلى القدوم على السلطان أبي الحسن. وارتاب بنو أبي العلاء في إجازته إليه، واتهموه على أنفسهم، وأسعدهم إلى منازلة جبل الفتح على كره. فلمّا تغلّب المسلمون عليه، وقضى ابن الأحمر من مدافعة الطاغية عنه بالرغبة ما قضى كما ذكرناه، واعتزم على القفول إلى حضرته، أجمعوا الفتك به في طريقه. وداخلوا في ذلك مولاه ابن المعلوجي لما أسفهم به من إرهاف حدّه والتضييق عليهم في جاههم، فبرموا وطووا على البث [1] ، حتى إذا وجدوا من أبي العلاء صاغية إلى ذلك، خفّوا إلى إجابتها، ونذر بهم محمد بن الأحمر فبعث عن السفن تعرضه في طريقه [2] وساحل إليهم، وتسابقوا لشأنهم قبل فوته، فأدركوه دون حصن أصطبونة. وعتبوه فاستعتب، وأغلظوا له في القول، وقتلوا مولاه عاصما صاحب ديوان العطاء تجنّيا عليه. ونكر ذلك السلطان فتناولوه بالرماح قعصا وطعنا حتى أقعصوه. ورجعوا إلى المعسكر فاستدعوا من كان داخلهم من الموالي. وجاءوا بأخيه أبي الحجّاج يوسف بن أبي الوليد، فبايعوا له وأصفقوا على تقديمه. وسرّح لحينه قائده ابن عزّون، فاستولى له على دار ملكه، وتمّ أمره وحجبه رضوان مولى أبيهم، واستبدّ عليه، وسكن بين   [1] وفي نسخة ثانية: على النث. [2] وفي نسخة ثانية: فبعث على السفين يعترضه في طريقه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 جنبيه من بني أبي العلاء وقتلهم لأخيه داء دخيل، حتى إذا سما السلطان أبو الحسن إلى الجهاد، وأجاز المدد إلى ثغور عمله بالأندلس، وعقد لابنه الأمير أبي مالك، أسرّ إليهم في شأن بني أبي العلاء بما كان أبوه السلطان أبو سعيد اشترط عليهم في مثلها. ووافق منه داعية لذلك فتقبّض عليهم أبو الحجّاج وأودعهم المطبق أجمع. ثم أشخصهم في السفين إلى مراسي إفريقية، فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي يحيى. وبعث فيهم السلطان أبو الحسن إليه فاعتقلهم، ثم أوعز إليه مع عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته، فتوقّف عنها. وأبى من إخفار ذمّتهم ووسوس إليه وزيره أبو محمد بن تافراكين بأن مقصد السلطان فيهم غير ما ظنّوا به من الشرّ. ورغب ببعثهم إليه والمبالغة في الشفاعة فيهم، علما بأنّ شفاعته لا تردّ فأجابه لذلك، وجنبوهم إليه مع ابن بكرون. واتبعهم أبو محمد بن تافراكين بكتاب الشفاعة فيهم من السلطان. وقدموا على السلطان أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة فتلقّاهم بالبرّ والترحيب إكراما لشفيعهم. وأنزلهم بمعسكره وجنّب لهم المقرّبات بالمراكب الثقيلة، وضرب لهم الفساطيط، وأسنى لهم الخلع والجوائز وفرض لهم أعلى رتب العطاء وصاروا في جملته. ولمّا احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة، سعى عنده فيهم بأنّ كثيرا من المفسدين يداخلونهم في الخروج والتوثّب على الملك، فتقبّض عليهم وأودعهم في السجن بمكناسة، إلى أن كان من خبرهم مع ابنه أبي عنّان ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم. (الخبر عن هدية السلطان الى المشرق وبعثه بنسخ المصحف من خطه الى الحرمين والقدس) كان للسلطان أبي الحسن مذهب في ولاية ملوك المشرق، والكلف بالمعاهد الشريفة تقبّله من سلفه. وضاعفه لديه متن ديانته. ولمّا قضى من أمر تلمسان ما قضى، وتغلّب على المغرب الأوسط، وصار أهل النواحي تحت ربقة منه، واستطال بجناح سلطانه، خاطب لحينه صاحب مصر والشام محمد بن قلاوون الملك الناصر، وعرّفه بالفتح وارتفاع العوائق عن الحاج في سابلتهم. وكان فرانقه [1] في ذلك   [1] الفرانق: البريد وربما سمعوا دليل الجيش فرانقا، فارسي معرب (قاموس) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 فارس بن ميمون بن وردار. وعاد بجواب الكتاب وتقرير المودّة بين السلف. وأجمع السلطان على كتب نسخة عتيقة من المصحف الكريم بخط يده ليوقفها بالحرم الشريف قربة إلى الله تعالى، وابتغاء للمثوبة، فانتسخها وجمع الورّاقين لمعاناة تذهيبها وتنميقها، والقرّاء لضبطها وتهذيبها حتى اكتمل شأنها، وصنع لها وعاء مؤلفا من خشب الأبنوس والعاج والصندل فائق الصنعة وغشي بصفائح الذهب ونظم الجوهر والياقوت واتخذ له اصونه الجلد المحكمة الصنعة وغشّي بصفائح الذهب، ونظم بالجوهر والياقوت، واتخذت له أصونة الجلد المحكمة الصناعة، المرقوم أديمها بخطوط الذهب من فوقها غلاف الحرير والديباج وأغشية الكتّان. وأخرج من خزائنه أموالا عينها لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفا على القرّاء فيها، وأوفد على الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر والشام، خواص مجلسه وكبار أهل دولته، مثل عريف بن يحيى أمير زغبة، والسابق المقدّم في بساطه على كل خالصة عطيّة بن مهلهل بن يحيى كبير الخولة. وبعث كاتبه أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين وعريف الوزعة ببابه وصاحب دولته عبو بن قاسم المزوار [1] ، واحتفل في الهدية للمزوار للسلطان صاحب مصر احتفالا تحدّث الناس به دهرا. ووقفت على برنامج الهدية بخط أبي الفضل بن أبي مدين هذا الرسول ووعيته وأنسيته وذكر لي بعض قهارمة الدار أنه كان فيها خمسمائة من عتاق الخيل المقرّبات، بسروج الذهب والفضة ولجمها، خالصا ومغشي ومموها، وخمسمائة حمل من متاع المغرب وما عونه وأسلحته، ومن نسج الصوف المحكّم ثيابا وأكسية وبرانس وعمائم، وأزرا معلمة وغير معلمة. ومن نسج الحرير الفائق المعلم بالذهب ملوّنا وغير ملوّن، وساذجا ومنمّقا. ومن الدّرق المجلوبة من بلاد الصحراء المحكمة بالدباغ المتعارف، وتنسب إلى اللمط. ومن خرثيّ المغرب وما عونه وما يستظرف صناعته بالمشرق، حتى لقد كان فيها مكيل من حصى الجوهر والياقوت. واعتزمت حظية من حظايا أبيه على الحج في ركابه ذلك، فأذن لها واستبلغ في تكريمها. واستوصى بها وافده وسلطان مصر في كتابه. وفصلوا من تلمسان سنة [2] وأدّوا رسالتهم إلى الملك الناصر وهديتهم،   [1] وفي نسخة ثانية: وعريف الوزعة بدولته، وصاحب الباب عبّو بن قاسم المزوار. [2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 فتقبّلها وحسن لديه موقعها. وكان يوم وفادتهم عليه بمصر يوما مشهودا، تحدّث به الناس دهرا، ولقاهم في طريقهم أنواع البرّ والتكرمة حتى قضوا فرضهم، ووضعوا المصحف الكريم حيث أمرهم صاحبهم. وأسنى هدية السلطان من فساطيطهم الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب، ومن ثياب الإسكندرية البديعة النسج المرقومة بالذهب، ورجّعهم بها إلى مرسلهم وقد استبلغ في تكريمهم ووصلتهم. وبقي حديث هذه الهديّة مذكورا بين الناس لهذا العهد. ثم انتسخ السلطان نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأوّل، ووقفها على القراءة بالمدينة، وبعث بها من تخيّره لذلك العهد من أهل دولته. سنة [1] واتصلت الولاية بينه وبين الملك الناصر إلى أن هلك سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وولي الأمر من بعده ابنه أبو الفداء إسماعيل، فخاطبه السلطان وأتحفه وعزّاه عن أبيه، وأوفد عليه كاتبه وصاحب ديوان الخراج أبا الفضل بن عبد الله بن أبي مدين فقضى من وفادته ما حمل. وكان شأنه عجبا في إظهار أبّهة سلطانه، والإنفاق على المستضعفين من الحاج في طريقه، واتحاف رجال الدولة التركيّة بدأت يده والتعفّف عمّا في أيديهم. ثم شرع بعد استيلائه على إفريقية كما نذكره في كتاب نسخة أخرى من المصحف الكريم ليوقفها ببيت المقدس، فلم يقدر إتمامها، وهلك قبل فراغه من نسخها، كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن هدية السلطان الى ملك مالي من السودان المجاورين للمغرب) كان للسلطان أبي الحسن مذهب في الفخر يتطاول به إلى مناغات الملوك الأعاظم واقتفاء سننهم في مهاداة الأقتال والأمصار [2] ، وإيفاد الرسل على ملوك النواحي القاصية والتخوم البعيدة. وكان ملك مالي أعظم ملوك السودان لعهده مجاورا لملكه بالمغرب على مائة مرحلة في القفر من ثغور ممالكه القبليّة. ولمّا غلب بني عبد الواد على تلمسان وابتزّهم ملكهم، واستولى على ممالك المغرب الأوسط، وتحدّث الناس   [1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا. [2] وفي نسخة ثانية: الانظار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 بشأن أبي تاشفين وحصاره ومقتله، وما كان للسلطان في ذلك من سورة التغلّب وآية العزّ وإهانة العدو وشاعت أخبار ذلك في الآفاق. وسما سلطان مالي منسا موسى المتقدّم ذكره في أخبارهم إلى مخاطبته. فأوفد عليه فرانقين من أهل مملكته مع ترجمان من الملثّمين المجاورين لممالكهم من صنهاجة، فوفدوا على السلطان في التهنئة بالغلب والظفر بالعدو، فأكرم وفادتهم وأحسن مثواهم ومنقلبهم. ونزع إلى طريقته في الفخر، فأتحف طرفا من متاع المغرب وماعونه من ذخيرة داره وأسناها، وعيّن رجالا من أهل دولته، كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن أبي مدين ومولاه عنبر الخصيّ. وأوفدهم بها على ملك مالي منسا سليمان بن منسا موسى، لمهلك أبيه قبل مرجع وفده. وأوعز إلى أعراب الفلاة من المعقل بالسير معهم ذاهبين وجائين، فشمّر لذلك علي بن غانم أمير أولاد جار الله من المعقل، وصحبهم في طريقهم امتثالا لأمر السلطان. وتوغّل ذلك الركاب في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول المشقة، فأحسن مبرّتهم وأعظم موصلهم وأكرم وفادتهم ومنقلبهم. وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظّمون سلطانه، ويوجبون حقّه، ويؤدّون طاعته من خضوع مرسلهم وقيامه بحق السلطان واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به، فأدّوا رسالتهم وبلغ السلطان أربا من اعتزازه على الملوك وخضوعهم لسلطانه، وقضاء حقّ الشكر للَّه في صنعه. (الخبر عن اصهار السلطان الى صاحب تونس) لما هلكت ابنة السلطان أبي يحيى بطريف فيمن هلك من حظايا السلطان أبي الحسن بفساطيطه، بقي في نفسه منها شيء حنينا إلى ما شغفته به من خلالها وعزة سلطانها، وقيامها على بيتها، وظفرها في تصريفها [1] ، والاستمتاع بأصول الترف ولذاذة العيش في عشيرتها، فسما أمله إلى الاعتياض عنها ببعض أخواتها. وأوفد في خطبتها وليّه عريف بن يحيى أمير زغبة، وكاتب الجباية والعساكر بدولته أبا الفضل ابن عبد الله بن أبي مدين، وفقيه الفتوى بمجلسه أبا عبد الله محمد بن سليمان   [1] وفي نسخة ثانية: تصرفاتها. ابن خلدون م 23 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 السطي، ومولاه عنبر الخصّي، فوفدوا يوم مثنى من سنة ست وأربعين وسبعمائة وأنزلوا منزل البرّ، واستبلغ في تكريمهم ودسّ الحاجب أبو عبد الله بن تافراكين إلى سلطانه غرض وفادتهم، فأبى من ذلك صونا لحرمة عن جولة الأقطار وتحكّم الرجال، واستعظاما لمثل هذا العرس. ولم يزل حاجبه ابن تافراكين يخفض عليه الشأن ويعظّم عليه حقّ السلطان أبي الحسن في ردّ خطبته مع الأذمّة السابقة بينهما من الصهر والمخالصة إلى أن أجاب وأسعف. وجعل ذلك إليه فانعقد الصهر بينهما وأخذ الحاجب في شوار العروس، وتأنق فيه واحتفل واستكثر وطال ثواء الرسل إلى أن استكمل وارتحلوا من تونس لربيع من سنة تسع [1] وأربعين وسبعمائة وأوعز مولانا السلطان أبو يحيى إلى ابنه الفضل صاحب بونة وشقيق هذا العروس أن يزفّها على السلطان أبي الحسن قياما بحقّه، وبعث من بابه مشيخة من الموحدين مقدّمهم عبد الواحد بن محمد بن أكمازير، صحبوا ركابها إليه. ووفدوا جميعا على السلطان واتصل الخبر أثناء طريقهم بمهلك مولانا السلطان أبي يحيى عفا الله عنه، فعزاهم السلطان أبو الحسن عنه عند ما وصلوا إليه، واستبلغ في تكريمهم وأجمل موعد أخيها الفضل بسلطانه ومظاهرته على تراث أبيه فاطمأنت به الدار الى أن سار في جملة السلطان وتحت ألويته إلى إفريقية كما نذكر إن شاء الله تعالى. (الخبر عن حركة السلطان الى إفريقية واستيلائه عليها) كان السلطان أبو الحسن قد امتدّت عينه إلى ملك إفريقية لولا مكان السلطان أبي يحيى من ولايته وصهره، وأقام يتحيّن لها الأوقات، ولمّا بعث إليه في الصهر وأشيع بتلمسان أن الموحدين ردّوا خطبته، نهض من المنصورة بتلمسان وأغذّ السير إلى فاس ففتح ديوان العطاء، وأزاح علل العسكر، وعقد على المغرب الأقصى لحافده منصور ابن الأمير أبي مالك، وفوّض إلى الحسن بن سليمان بن يرزيكن في أحكام الشرطة، وعقد له على الضاحية، وارتحل إلى تلمسان مضمرا الحركة إلى إفريقية حتى إذا جاء الخبر اليقين بالإسعاف والزفاف سكن عزمه [2] وهدأ طائره. فلمّا هلك السلطان أبو   [1] وفي نسخة ثانية: سنة سبع. [2] وفي نسخة ثانية: سكن غربة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 يحيى في رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وكان من قيام ابنه عمر بالأمر، ونزوع الحاجب أبي محمد بن تافراكين في رمضان منها ما ذكرناه، تحرّكت عزائم السلطان لذلك. ورغبه ابن تافراكين في ملك الموحّدين، فرغب وجاء على أثره الخبر بما كان من قتل عمر لأخيه أحمد وليّ العهد، وكان يستظهر على عهده بكتاب أبيه، وما أودعه السلطان بحاشيته من الوفاق على ذلك بخطه، واقتضاه منه حاجبه أبو القاسم بن عتّو في سفارته إليه، فامتعض السلطان لما أضاع عمر من عهد أبيه، وهدر من دم أخيه. وارتكب مذاهب العقوق فيهم، وخرق السباج الّذي فرضه بخطّه عليهم، فأجمع الحركة إلى إفريقية ولحق به خالد بن حمزة بن عمر نازعا إليه ومستغذّا مسيره، ففتح ديوان العطاء ونادى في الناس بالمسير إلى إفريقية، وأزاح عللهم. وكان صاحب بجاية المولى أبو عبد الله حافد مولانا الأمير أبي يحيى، وفد على السلطان أبي الحسن إثر مهلك جدّه بقرب المآب [1] بسفارة أبيه إليه، ويطلب الإقرار على عمله. فلما استيأس منه واستيقن حركته بنفسه إلى إفريقية، طلب الرجوع إلى مكانه فأسعف وفصل إلى بجاية. ولما قضى السلطان منسك الأضحى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد لابنه الأمير أبي عنّان على المغرب الأوسط، وعهد إليه بالنظر في أموره كافة، وجعل إليه جبايته، وارتحل يريد إفريقية. وسار في جملته هو وخالد بن حمزة أمير البدو. ولما احتلّ بوهران ووافاه هنالك وفد قسطيلة وبلاد الجريد، يقدمهم أحمد بن مكي أمير حربه [2] ورديف أخيه عبد الملك في إمارته، ويحيى بن محمد بن يملول أمير توزر سقط إليها بعد خروج الأمير أبي عمر العبّاس ولي العهد عنها، ومهلكه بتونس، وأحمد بن عامر بن العابد رئيس نفطة، رجعا إليهما كذلك بعد مهلك وليّ العهد، فلقيه هؤلاء الرؤساء بوهران في ملإ من وجوه بلادهم، فآتوه بيعتهم وقضوا حق طاعته. وتثاقل محمد بن ثابت أمير طرابلس عن اللحاق به، فبعث بيعته معهم، فأكرم وفدهم وعقد لهم على أمصارهم، وصرفهم إلى أعمالهم. وتمسّك بأحمد بن مكي لصحابة ركابه، وفي جملته، وأغذّ السير. ولما احتل ببني حسن من أعمال بجاية، وافاه بها منصور بن فضل بن مزني أمير بسكرة وبلاد الزاب في وفد من أهل   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: المتات وفي نسخة ثانية: المتاب وفي أخرى المناب. [2] وفي نسخة أخرى: أمير جربة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 وطنه، ويعقوب بن علي بن أحمد سيّد الزواودة وأمير البدو بضاحية بجاية وقسنطينة، فتلقّاهم بالمبرّة والاحتفاء وألزمهم ساقته. وسرّح بين يديه قائده حمو بن يحيى العسكري [1] من صنائع أبيه، فلمّا عسكر بساحة بجاية أبو عبد الله وأبي عليه أهل البلد رهبة من السلطان ورغبة فيه، وانفضّوا من حوله، ولحقت مشيختهم من القضاة وأهل الفتيا والشورى بمجلس السلطان. وسابقهم إليه حاجبه فارح مولى ابن سيد الناس، فأدّى طاعته ورجّعه إليه للخروج للقاء ركابه. وارتحل حتى إذا أطلّت راياته على البلد، بادر المولى أبو عبد الله ولقيه بساحة البلد، واعتذر من تخلّفه فتقبّل عذره وأحله من البرّ والتكرمة محل الولد العزيز. وأقطعه عمل كومية من نواحي هنين، وأسنى جرايته بتلمسان وأصحبه إلى ابنه أبي عنّان صاحب المغرب الأوسط واستوصاه به. ودخل بجاية فرفع عنهم الظلامات وحطّ عنهم الربع من المغارم. ونظر في أحوال ثغورها فثقفها وسدّ فروجها. وعقد عليها لمحمد بن النوار [2] من طبقة الوزراء والمرشحين لها، وأنزل معه حامية من بني مرين. وكاتب الخراج ببابه بركات بن حسّون بن البوّاق، وارتحل مغذّا لسيرة حتى احتل بقسطينة. وتلقّاه أميرها أبو زيد حافد مولانا السلطان أبي يحيى وأخواه أبو العبّاس أحمد وأبو يحيى زكريا وسائر إخوتهم، فأتوه ببيعتهم ونزلوا له عن عملهم. وأدالهم السلطان منه بندرومة من عمل تلمسان، عقد للمولى أبي زيد على إمارتها، وجعل له إسوة إخوته في أقطاع جبايتها، ودخل البلد وعقد عليها لمحمد بن العبّاس، وانزل معه العبّاس بن عمر في قومه من بني عسكر. وأمضى أقطاعات الزواودة ووافاه هنالك عمر بن حمزة سيّد الكعوب لعهده وأمير البدو مستحثا لركابه. وأخبره برحيل السلطان عمر ابن مولانا السلطان أبي يحيى من تونس فيمن اجتمع إليه من أولاد مهلهل أقتالهم من الكعوب موجها إلى ناحية قابس. وأشار على السلطان بتسريح العساكر لاعتراضه قبل أن يخلص إلى طرابلس، فسرّح معه حمّو بن يحيى العسكري قائده في عسكر من بني مرين والجند. وارتحلوا في اتباع السلطان أبي حفص، وتلوّم السلطان أبو الحسن بقسنطينة، واعترض عساكره بسطح الجعاب منها. وصرف يوسف بن مزني إلى عمله بالزاب، بعد أن خلع عليه وحمله.   [1] وفي نسخة أخرى: العشري. [2] وفي نسخة ثانية: بن الثوار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 ثم عقد للمولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى على مكان عمله ببونة، وملأ حقائبه جائزة وخلعا نفيسة وسرّحه، ثم ارتحل على أثرهم وأوعز حمّو بن يحيى مع الناجعة من أولاد أبي الليل، ولحقوا بالأمير أبي حفص بمباركة من ناحية قابس، فأوقعوا به وتردّى عن فرسه في حومة القتال هو ومولاه ظافر السنان القائم بدولته من المعلوجي، فتقبّض عليهما وسيقا إلى أبي حمّو فاعتقلهما إلى الليل، ثم ذبحهما وأنفذ برءوسهما إلى السلطان. ولحق الفلّ بقابس، فتقبّض عبد الملك بن مكي على أبي القاسم بن عتّو صاحب الأمير أبي حفص وشيخ الموحدين، وعلى صخر بن موسى شيخ بني سكين من سدويكش فيمن تقبّض عليه من ذلك الفلّ، وأشخصهم مقرنين في الأصفاد إلى السلطان. وسرّح السلطان عساكره إلى تونس، وعقد عليهم ليحيى بن سليمان صهره من بني عسكر على ابنته، وأنفذ معه أحمد بن مكي فاحتلوا بتونس، واستولوا عليها. وانطلق ابن مكي إلى مكان عمله من هنالك لما عقد له السلطان عليه وسرّحه إليه بعد أن خلع عليه وعلى حاشيته وحمّلهم. ونزل السلطان بناحية باجة، فوافاه هنالك البريد برأس الأمير أبي حفص. وعظم الفتح. ثم ارتحل إلى تونس واحتلّ بها يوم الأربعاء الثامن لجمادى الآخرة من سنة ثمان. وتلقّاه وفد تونس وملؤها من شيوخ الشورى وأرباب الفتيا، فآتوا طاعتهم وانقلبوا مسرورين بملكتهم. ثم عبّى يوم السبت إلى دخولها مواكبه، وصفّ جنوده سماطين من معسكره بسيجوم إلى باب البلد يناهز ثلاثة أميال أو أربعة. وركب بنو مرين إلى مراكزهم في جموعهم وتحت راياتهم. وركب السلطان من فسطاطه وراكبه من على يمينه وليّه عريف بن يحيى أمير زغبة، ويليه أبو محمد عبد الله بن تافراكين ومن على يساره الأمير أبو عبد الله محمد أخو مولانا السلطان أبي يحيى، ويليه الأمير أبو عبد الله ابن أخيه خالد، كانا معتقلين بقسنطينة مع ولدهما منذ خروج أخيه الأمير أبي فارس فأطلقهم السلطان أبو الحسن وصحبوه إلى تونس، فكانوا طرازا في ذلك الموكب فيمن لا يحصى من أعياص بني مرين وكبرائهم. وهدرت طبوله، وخفقت راياته، وكانت يومئذ مائة. وجاء والمواكب تجتمع عليه صفّا صفّا إلى أن وصل إلى البلد، وقد ماجت الأرض بالجيوش، وكان يوما لم ير مثله فيما عقلناه. ودخل السلطان إلى القصر وخلع على أبي محمد بن تافراكين كسوته وقرّب إليه فرسه بسرجه ولجامه. وطعم الناس بين يديه وانتشروا. ودخل السلطان مع أبي محمد بن تافراكين إلى حجر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 القصر ومساكن الخلفاء، فطاف عليها ودخل منه إلى الرياض المتصلة به المدعوّة برأس الطابية، فطاف على بساتينه وجوائزه، وأفضى منه إلى معسكره وأنزل يحيى ابن سليمان بقصبة تونس في عسكر لحمايتها. ووصل إليه فلّ الأمير أبي حفص والأسرى بقابس مقرنين في أصفادهم، فأودعهم السجن بعد أن قطع أبا القاسم بن عتّو وصخر بن موسى من خلاف، لفتيا الفقهاء بحرابتهم [1] . وارتحل من الغد إلى القيروان فجال في نواحيها. ووقف على آثار الأوّلين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين، وزار أجداث العلماء والصالحين. ثم سار إلى المهديّة ووقف على ساحل البحر، ونظر في عاقبة الذين كانوا من قبل أشدّ قوّة وآثارا في الأرض، واعتبر بأحوالهم. ومرّ في طريقه بقصر الأجم ورباط المنستير، وانكفأ راجعا إلى تونس، واحتل بها غرّة رمضان وأنزل المسالح على ثغور إفريقية، وأقطع بني مرين البلاد والضواحي، وأمضى أقطاعات الموحّدين للعرب. واستعمل على الجهات وسكن القصر وقد عظم الفتح وعظمت في الاستيلاء على الممالك والدول المنّة. واتصلت ممالكه ما بين مسراته والسوس الأقصى من هذه العدوة، وإلى رندة من عدوة الأندلس. والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين ودفع إليه الشعراء بتونس يهنّئونه بالفتح، وكان سابقهم في تلك النوبة أبو القاسم الرحوي من ناشئة أهل الأدب فرفع إليه قوله: أجابك شرق إذ دعوت ومغرب ... فمكّة هشّت للّقاء ويثرب وناداك مصر والعراق وشامه ... بدارا، فصدع الدين عندك يشعب وحيّتك أو كادت تحيّى منابر ... عليها دعاة الحقّ باسمك تخطب فسارع منّا كلّ دان وشاسع ... إلى طاعة من طاعة الله تحسب وتاقت لك الأرواح حبّا ورغبة ... وأنت على الآمال تنأى وتقرب ففي البلدة البيضاء معشر ... وأنت بأفق الناصريّة ترقب ووافتك من ذات النخيل وفودها ... فلقاهم أهل لديك ومرحب ولم تتلكّأ عن إباء بجاية ... ولكنّ تراض الصعب حينا وتركب تأبّت فلمّا أن أطلّت عساكر ... ترى الشهب منها تستباح وتنهب   [1] وفي نسخة ثانية: بجرايتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 تبادر منهم مذعن ومسلم ... وأذعن منهم شاغب ومؤلّب وما تونس إلّا بمصر مروع ... وفي حرم أمست لديك تسرّب وما أهلها إلا بغاث لصائد ... وبالعزّ منها استنصروا وتعقّبوا وقد كنت قبل اليوم كهف زعيمهم ... فها أنت كهف للجميع ومهرب فكل يرى أنّ الزمان أداله ... بكم فأجاب العيش والعيش مخصب وكذلك ابن طائع وإن اعتلت ... به السنّ أحوالا وأنت له أب وما ذاك إلا أن عدلك ينتمي ... إلى الخلفاء الراشدين وينسب تساميت في ملك ونسك بحظة ... حذيّاك محراب لديها ومركب إذا لذّ للأملاك خمر مدامة ... فلذّ لك القرآن يتلى ويكتب وإن أد من القوم الصبوح فإنّما ... على ركعات بالضحى أنت تدأب وإن حمدوا الشرب الغبوق فإنّما ... شرابك بالإمساء ذكر مرتّب وإن خشنت أخلاقهم وتحجّبوا ... فما أنت فظّ بل، ولا متحجّب [1] لقد كرمت منك السجايا فأصبحت ... إذا ما أمرّ الدهر تحلو وتعذب كما شيّدت بيتا في ذؤابة معشر ... يزيدهم قحطان فخرا ويغرب هم التاركو قلب القساور خضّعا ... وعن شأوهم كفّت عبيد وأغلب هم الناس والأملاك تحت جوارهم ... هم العظم الأرض العظيمة مغرب [2] هم المالكو الملك العظيم فبيتهم [3] ... على كاهل السبع الشداد مطنّب لقد أصبحت بغداد تحسد بأسهم ... وحلة ودّت أن تكون مناسب [4] تجلّت ببيت [5] المجد منهم كواكب ... لقد حلّ منها شارق ومغرّب فاللَّه منهم ثلّة بغريبة [6] ... يروم بناها الأعجميّ فيعرب لقد قام عبد الحقّ للحقّ طالبا ... فما فاته منه الّذي قام يطلب وأعقب يعقوبا يؤم سبيله ... فلم يخطه وهو السبيل المنجب [7]   [1] وفي نسخة ثانية: فما أنت فظ لا ولا متحجب. [2] وفي نسخة ثانية: تغرب. [3] وفي نسخة ثانية: ودستهم. [4] وفي نسخة ثانية: ودجلة ودّت ان يكون بها سب. [5] وفي نسخة ثانية: تحلت سماء. [6] وفي نسخة ثانية: «ثلّة يعربية يروم ثباها» . [7] وفي نسخة ثانية: الملحّب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 وخلّف عثمانا فلله صارم ... به بان للإسلام شرع ومذهب فكم في سبيل الله شنّ إغارة ... لما شاد أهل الكفر أمست تخرّب ولمّا أراد الله إتمام منّة ... تقلّدها منّا مطيع ومذنب أتى بك للدين الحنيفيّ آية ... تعرّى بها عن لامع الحقّ غيهب فجئت بما يرضى به الله سالكا ... سبيلا إلى رضوانه بك يذهب وقمت بأمر الله حقّ قيامه ... يناضل عنه منك نضل مدرّب وأصبح أهل الله أهلا وشيعة ... لكم ولهم منكم مكان ومنصب وحلّ بأهل الفتك ما حلّ عزمهم ... وقام لديهم واعظ مترقّب [1] وجاهدت في الرحمن حقّ جهاده ... فراهب أهل الكفر بأسك يرهب وأنقذت من أيدي الإغارة أمّة ... وأولى جهاد كان بل هو أوجب فأصبحت الدنيا عروسا يزفّها ... لأمرك من جاري المقادير [2] مغرب فلا مصر إلا قد تمنّاك أهله ... ولا أرض إلّا باذّكارك تخصب وما الأرض إلّا منزل أنت ربّه ... وما حلّها إلّا الودود المرجّب تملّكت شطر الأرض كسبا وشطرها ... وراثا [3] فطاب الكلّ إرثا ومكسب [3] بجيش على الألواح والماء يمتطي ... وجيش على الضمر السوابق يركب وجيش من الإحسان والعدل والتقى ... وذلك لعمر الله أغلى وأغلب فلا مركب إلا يزيّن راكبا ... ولا راكب إلّا به ازدان مركب ولا رمح إلّا وهو أهيف خاطر ... ولا سيف إلّا وهو أبيض فأضب [4] فكم كاتب خطّيّه ودواته ... ولم يقر خطا يغتدى وهو يكتب [5] يمرّ على الأبطال وهو كأنّه ... هزبر وأبطال الفوارس ربرب وكم كاتب لا ينكر الطعن رمحه ... خبير بأيام الأعاريب معرب له من عجيب السّحر بالقول أضرب ... وفي هامة القوم المضارب مضرب فها هو في الأقوال واش محبّر ... وها هو في الأمثال ثاو مجرّب   [1] وفي نسخة ثانية: ومثّوب. [2] وفي نسخة ثانية: التقادير. [3] وفي نسخة ثانية: تراثا فطاب الملك إرثا ومكسب. [4] وفي نسخة ثانية: مقضب. [5] ولم يقر خطا لا، ولا هو يكتب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 ومن ساحب بردا من العلم والتقى ... عليه ذيول الداوديّة تسحب له صبغة في العلم جاءت بأصبغ ... وشهبان فهم لم يشمهنّ أشهب فيا عسكرا قد ضمّ أعلام عالم ... به طاب في الدنيا لنا متقلّب هم الفئة العلياء والمعشر الّذي ... إذا حلّ شعبا [1] فهو للحق مشعب لك الفضل في الدنيا على كل قاطن ... ومرتحل أنّى يجيء ويذهب ويا مالكا [2] عدلا رضى متورّعا ... مناقبه العلياء تتلى وتكتب شرعت من الإحسان فينا شريعة ... تساوى بهاناء ومن يتقرّب وأسميت أهل النسك إذ كنت منهم ... فمنك أخو التقوى قريب مقرّب وأعليت قدر العلم إذ كنت عالما ... فقيها وفي طلّابه لك مأرب فمدحك محتوم على كلّ قائل ... ومن ذا الّذي يحصي الرمال ويحسب فلله كم تعطي وتمطي وتجتبي ... فللبحر من كفيك قد صحّ منسب فلا برحت كفّاك في الأرض مزنة ... يطيب بها للخلق مرعى ومشرب ولا زلت في علياء مجدك راقيا ... وشانئك المدحوض ينكى وينكب توافي على أقصى أمانيك آمنا ... فلا برّ يستعصى ولا يتعصّب الخبر عن واقعة العرب مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما تخللها من الأحداث كان هؤلاء الكعوب من بني سليم رؤساء البدو بإفريقية، وكان لهم اعتزاز على الدولة لا يعرفون غيره مذ أوّلها بل وما قبله، إذ كان سليم هؤلاء منذ تغلّب العرب من مضر على الدول والممالك أوّل الإسلام انتبذوا إلى الضواحي والقفار، وأعطوا من صدقاتهم عن عزّة، وارتاب الخلفاء بهم لذلك حتى لقد أوصى المنصور ابنه المهدي أن لا يستعين بأحد منهم كما ذكر الطبري. فلما انثالت الدولة العبّاسية واستبدّ الموالي من العجم عليهم، اعتز بنو سليم هؤلاء بالقفر من أرض نجد، وأجلبوا على الحاج بالحرمين، ونالتهم منهم معرّات، ولما انقسم ملك الإسلام بين العبّاسية والشيعة   [1] وفي نسخة ثانية: صعبا. [2] وفي نسخة ثانية: يا ملكا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 واختطّوا القاهرة، نفقت لهم أسواق الفتنة والتعزز، وساموا الدولتين بالهضيمة وقطع السابلة. ثم أغراهم العبيديّون بالمغرب وأجازوا إلى برقة على أثر الهلاليّين فخرّبوا عمرانها وأجروا في خلائها، حتى إذا خرج ابن غانية على الموحّدين وانتزى بالثغور الشرقيّة طرابلس وقابس، واجتمع معه قراقش الغزيّ مولى بني أيوب ملوك مصر والشام، وانضاف إليهم أفاريق العرب من بني سليم هؤلاء وغيرهم، أجلبوا معه على الضواحي والأمصار، وصاروا في جملتهم من ناعق فتنتهم. ولمّا هلك قراقش وابن غانية واستبدّ آل أبي حفص بإفريقية وأعزّ الزواودة على الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص، استظهر عليهم ببني سليم هؤلاء، وزاحمهم بظواعنهم وأقطعهم بإفريقية ونقلهم عن مجالاتهم بطرابلس وأنزلهم بالقيروان، فكان لهم من الدولة مكان وعليها اعتزاز، ولما افترق سلطان بني أبي حفص، واستبدّ الكعوب برياسة البدو، وضربوا بين أعياصها وسعوا في شقاقها، وأصابت منهم وأصابوا منها، وكان بين مولانا الأمير أبي يحيى وبين حمزة بن عمر أخي الأمير منازعة وفتن وحرب سجال أعانه عليها ما كان من زحف بني عبد الواد إلى إفريقية وطمعهم في تملّك ثغورها، فكان يستجرّ جيوشهم لذلك، وينصب الأعياص من بني أبي حفص يزاحم بهم، ثم غلبه مولانا السلطان أبو بكر آخرا واستجرّه إلى الطاعة ما كان من قطع كلمة الزبون [1] عن مولانا السلطان أبي يحيى، وهلاك عدوّه من آل يغمراسن، بسيف وليّه وظهيره السلطان أبي الحسن، فأذعن وسكن غرب اعتزازه. وحمل بني سليم على إعطاء صدقاتهم، فأعطوها بالكراهة. ثم هلك باغتيال الدولة له فيما يزعمون، وقام بالأمر بنوه ولم يعرفوا عواقب الأمور ولا أبلوا باعتساف الدولة، ولم يعهدوا ولا سمعوا لسلفهم غير الاعتزاز فحدّثتهم أنفسهم بالفتنة والاعتزاز على قائد الدولة. وحاربوه فغلبوه، وأجلبوا على السلطان في ملكه، ونازلوه بعقر داره سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ولما سامهم الأمير ابن مولانا السلطان أبي يحيى الهضيمة بعد مهلك أبيه، نزعوا إلى أخيه وليّ العهد، فجاء إلى تونس وملكها سبعا. ثم اقتحم عليه أخوه الأمير أبو حفص فقتله. وتقبّض يوم اقتحامه البلد   [1] الزبن: دفع الشيء عن الشيء، وجرب زبون. تزين الناس، أي تصدعهم وتدفعهم، على التشبيه بالناقة التي تزبن ولدها عن ضرعها وتزبن الحالب أي تدفعه بثفناتها وقال الجوهري: أما الزبون للغبي والحريف فليس من كلام أهل البادية (لسان العرب) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 على أبي الهول بن حمزة أخيهم، فقتله صبرا بباب داره بالقصبة، فأسفهم بها. ونزعوا الى السلطان أبي الحسن ورغّبوه في ملك إفريقية واستعدّوه إليها. ولما تغلب السلطان على الوطن وكانت حاله في الاعتزاز على من في طاعته غير حال الموحدين وملكته للبدو غير ملكتهم، وحين رأى اعتزازهم على الدولة وكثرة ما أقطعتهم من الضواحي والأمصار، نكره وأدالهم من الأمصار التي أقطعهم الموحدون بأعطيات فرضها لهم في الديوان. واستكثر جبايتهم، فنقصهم الكثير منها وشكا إليه الرعيّة من البدو وما ينالونهم به من الظلامات والجور بفرض الاتاوة التي يسمونها الخفارة، فقبض أيديهم عنها وأوعز إلى الرعايا بمنعهم منها، فارتابوا لذلك، وفسدت نياتهم وثقلت وطأة الدولة عليهم فترصّدوا لها. وتسامع ذؤبانهم وبواديهم بذلك، فأغاروا على قياطين [1] بني مرين ومسالحهم بثغور إفريقية وفروجها، واستاقوا أموالهم، وكثر شاكيهم [2] وأظلم الجو منهم بينهم وبين السلطان والدولة. ووفد عليه بتونس بعد مرجعه من المهديّة وفد من مشيختهم، كان فيهم خالد بن حمزة مستحبة [3] إلى إفريقية، وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين، وابن عمه خليفة بن بو زيد من أولاد القوس، فأنزلهم السلطان وأكرمهم. ثم رفع إليه الأمير عبد الرحمن ابن السلطان أبي يحيى زكريا بن اللحياني كان في جملته، وكان من خبره أنه رجع من المشرق بعد مهلك أبيه بمصر كما قدّمناه سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فدعا لنفسه بجهات طرابلس. وتابعه أعراب ذباب، وبايع له عبد الملك بن مكي صاحب قابس. ونهض معه إلى تونس في غيبة السلطان لتخريب تامزيزدكت كما ذكرناه، فملكها أياما وأحس بمرجع السلطان فأجفل عنها. ولحق عبد الواحد بن اللحياني إلى تلمسان، إلى أن دلف إليها السلطان أبو الحسن بعساكره، ففارقهم وخرج إليه، فأحلّه محل التّكرمة والمبرة واستقرّ في جملته إلى أن ملك تونس. ورفع إليه عند مقدم هذا الوفد أنّهم دسّوا إليه مع بعض حشمه، وطلبوه في الخروج معهم لينصّبوه للأمر بإفريقية وتبرّأ إلى السلطان من   [1] القيطون: المخدع، أعجمي، وقيل: بلغة أهل مصر وبربر: قال ابن بري: القيطون بيت في بيت (لسان العرب) . [2] وفي نسخة ثانية: كثر شكاتهم. [3] كذا في النسخة الباريسية ولا معنى لها هنا وفي نسخة ثانية: مستحثه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 ذلك، فأحضروا بالقصر ووبخهم الحاجب علال بن محمد بن المصمود، وأمر بهم، فسحبوا إلى السجن. وفتح السلطان ديوان العطاء وعسكر بسيجوم من ساحة البلد بعد قضائه منسك الفطر من سنته. وبعث في المسالح والعساكر فتوافت إليه واتصل الخبر بأولاد أبي اليل وأولاد القوس باعتقال وفدهم وعسكرة السلطان لهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتعاقدوا على الموت، وبعثوا إلى أقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد. وكانوا بعد مهلك سلطانهم أبي حفص قد لحقوا بالقفر وانتبذوا عن إفريقية فرارا من مطالبة السلطان بما كانوا شيعة لعدوّهم. فأغذّ السير إليهم أبو الليل بن حمزة متطارحا عليهم بنفسه في الاجتماع على الخروج على السلطان، فأجابوه وارتحلوا معه. وتوافت أحياء بني كعب وحكيم جميعا بتوزر من بلاد الجريد، فهدروا الدماء بينهم وتدامروا وتبايعوا على الموت، والتمسوا من أعياص الملك من ينصبونه للأمر، فدلّهم بعض سماسرة الفتن على رجل من أعقاب أبي دبّوس فريسة بني مرين من خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش، عند ما استولى عليها. وكان من خبره أنّ أباه عثمان بن إدريس بن أبي دبّوس لحق بمهلك أبيه بالأندلس، وصحب هنالك مرغم بن صابر شيخ بني ذباب وهو أسير ببرشلونة. فلما انطلق من أسره صحبه إلى وطن ذباب بعد أن عقد قمص برشلونة بينهما حلفا، وأمدّهما بأسطول على مال التزماه له. ونزل بضواحي طرابلس وجبال البربر بها، ودعا لنفسه هنالك وقام بدعوته كافة العرب من ذباب، وقاتل طرابلس، فامتنعت عليه. ثم بايعه أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب بإفريقية، وأجلب به على تونس، فلم يتم أمره لرسوخ دعوة الحفصيّين بإفريقية وانقطاع أمر بني عبد المؤمن منها، وآثارهم منذ الأحوال العديدة والآماد المتقادمة فنسي أمرهم. وهلك عثمان بن إدريس هذا بجربة، ثم ابنه عبد السلام بعده، وترك من الولد ثلاثة: أصغرهم أحمد، وكان صناع اليدين. ولحقوا بتونس بعد ما طوّحت بهم طوائح الاغتراب، وظنّوا أن قد تنوسي شأن أبيهم، فتقبّض عليهم مولانا السلطان أبو يحيى وأودعهم السجن إلى أن غرّبهم إلى الاسكندرية سنة أربع وأربعين وسبعمائة ورجع أحمد إلى إفريقية، واحتل بتوزر محترفا بالخياطة يتعيّش منها، فاستدعاه بنو كعب هؤلاء حين اتفقت أهواؤهم ومن اتبعهم من أحلافهم أولاد القوس، وسائر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 شعوب علاق. وخرج إليهم من توزر فنصّبوه للأمر وجمعوا له شيئا. من الفساطيط والآلة والكسوة الفاخرة والمقربات. وأقاموا له رسم السلطان، وعسكروا عليه بحللهم وقياطينهم، وارتحلوا لمناجزة السلطان، ولما قضى منسك الأضحى من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ارتحل من ساحة تونس يريدهم، فوافاهم في الفرح بين بسيط تونس وبسيط القيروان المسمى بالثنيّة، فأجفلوا أمامه وصدقوه القتال منهزمين، وهو في اتباعهم إلى أن احتلّ بالقيروان، ورأوا أن لا ملجأ منه، فتذامروا واتفقوا على الاستماتة، ودسّ إليهم من عسكر السلطان بنو عبد الواد ومغراوة وبنو توجين فغلبوا بني مرين، ووعدوهم بالمناجزة صبيحة يومهم ليتحيّزوا إليهم براياتهم، وصبحوا معسكر السلطان، وركب إليهم في الآلة والتعبية، فاختلّ المصاف، وتحيّز إليهم الكثير، ونجا السلطان إلى القيروان فدخلها في الفلّ من عساكره ثامن المحرم سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وتدافعت ساقات العرب في أثره وتسابقوا إلى المعسكر، فانتهبوه ودخلوا فسطاط السلطان، فاستولوا على ذخيرته والكثير من حرمه، وأحاطوا بالقيروان، وأحاطت [1] حللهم بها سياجا، وتعاوت ذئابهم بأطراف البقاع، وأجلب ناعق الفتنة من كل مكان. وبلغ الخبر إلى تونس فاستحصن بالقصبة أولياء السلطان وحرمه، ونزع ابن تافراكين من جملة السلطان بالقيروان إليهم، فعقدوا له على حجابة سلطانهم أحمد بن أبي دبّوس ودفعوه إلى محاربة من كان بالقصبة بتونس، وأغذّ إليها السير واجتمع إليه أشياخ الموحّدين وزعانف الغوغاء والجند، وأحاطوا بالقصبة، وعاودها [2] القتال، ونصب المنجنيق لحصارها. ووصل سلطانه أحمد على أثره، فامتنعت عليهم، ولم يغنوا فيها غناء، وافترق أمر الكعوب وخالف بعضهم بعضا إلى السلطان، وتساقطوا إليه، فتنفّس مخنق الحصار عن القيروان، واختلفت إليه رسل أولاد مهلهل، وأحسن بهم أولاد أبي الليل بن حمزة بنفسه، وعاهد السلطان على الإفراج، ولم يفوا بعهده. وداخل السلطان أولاد مهلهل في الخروج إلى سوسة، فعاهدوه على ذلك. وأوعز أسطوله بمرساها وخرج معهم ليلا على تعبية، فلحق بسوسة وبلغ الخبر إلى ابن تافراكين بمكانه من حصار القصبة، فركب السفين ليلا إلى الإسكندرية. وارتاب سلطانهم ابن أبي دبّوس، لما وقف   [1] وفي نسخة ثانية: وأحدقت. [2] وفي نسخة ثانية: وغاداها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 على خبره فانفضّ جمعهم وأفرجوا عن القصبة. وركب السلطان أسطوله من سوسة، ونزل بتونس آخر جمادى واعتمل في إصلاح أسوارها وإدارة الخندق عليها، وأقام لها من الامتناع والتحصين رسما ثبت له من بعده، ودفع به في نحر عدوّه. واستقلّ من نكبة القيروان وعثرتها، وخلص من هوّتها والله يفعل ما يشاء. ولحق أولاد أبي الليل وسلطانهم أحمد بن أبي دبّوس بتونس، فأحاطوا بالسلطان واستبلغوا في حصاره، وخلصت ولاية أولاد مهلهل للسلطان، فعوّل عليهم ثم راجع بنو حمزة رأيهم في طاعة السلطان فدخل كبيرهم عمر إليه في شعبان، وتقبّضوا على سلطانهم أحمد بن أبي دبّوس وقادوه إلى السلطان استبلاغا في الطاعة، وامحاضا للولاية فتقبّل فيئتهم، وأودع ابن أبي دبّوس السجن، وأصهر إلى عمر بابنه أبي الفضل، فعقد له على بنته، واختلفت أحوالهم في الطاعة والانحراف إلى أن كان ما نذكر. والله غالب على أمره. (الخبر عن انتقاض الثغور الغربية ورجوعها إلى دعوة الموحدين) كان المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، لمّا قدم على السلطان أبي الحسن بتلمسان في زفاف شقيقته سنة سبع وأربعين وسبعمائة بعد ما اتصل به في طريقه مهلك أبيه، أوسع له السلطان كنفه، ومهّد له جانب كرامته وبرّه، وغمز له بوعد في المظاهرة على ملك أبيه تعزى به عن فقده. وارتحل السلطان إلى إفريقية. والمولى الفضل يرجو أن يجعل سلطانها إليه، حتى إذا استولى السلطان على الثغرين بجاية وقسنطينة، وارتحل إلى تونس، عقد له على مكان إمارته أيام أبيه ببونة، فصرفه إليه، فانقطع أمله وفسد ضميره وطوى على البث [1] حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان، سما إلى التوثّب على ملك سلفه. وكان أهل قسنطينة وبجاية قد برموا من الدولة، واستنقلوا وطأة الإيالة لما اعتادوا من الملك الرفيق [2] ، فأشرأبّوا إلى الثورة   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى النث. ونثّ الخبر أفشاه. وبثّ الخبر اذاعه ونشره. والأصح البث بمعنى أشدّ الحزن أو الحزن الشديد (قاموس) وقد مرّت معنا هذه الكلمة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب. [2] وفي نسخة ثانية: لما اعتادوا من الملكة الرقيقة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 عند ما بلغهم خبر النكبة. وقد كان توافي بقسنطينة ركاب من المغرب في طوائف من الوفود والعساكر، وكان فيهم ابن صغير من أبناء السلطان، عقد له على عسكر من أهل المغرب، وأوعز إليه باللحاق بتونس، وفيهم عمّال المغرب قدموا عند رأس الحول بجبايتهم وحسبانهم، وفيهم أيضا وفد من زعماء النصارى بعثهم الطاغية ابن أدفونش مع تاشفين ابن السلطان لما أطلقه من الأسر بعد ما عقد السلم والمهادنة، وكان أسيرا عندهم من لدن واقعة طريف كما ذكرناه. وكان أصابه مسّ من الجنون. فلمّا خلصت الولاية بين السلطان والطاغية، وعظم عنه الإتحاف والمهاداة، وبلغه خبر السلطان وتملّكه إفريقية، أطلق ابنه تاشفين وبعث معه هؤلاء الزعماء للتهنئة، وفيهم أيضا وفد من أهل مالي ملوك السودان بالمغرب، أوفدهم ملكهم منسا سليمان للتهنئة بسلطان إفريقية. وكان معهم أيضا يوسف بن مزتي عامل الزاب وأميره، قدم بجباية عمله. واتصل به خبر الركّاب بقسنطينة فلحق بهم مؤثرا صحابتهم إلى سدّة السلطان. وتوافت هؤلاء الوفود جميعا بقسنطينة، واعصوصبوا على ولد السلطان. فلما وصل خبر النكبة اشرأبّ الغوغاء من أهل البلد إلى الثورة، وتحلّبت شفاههم إلى ما بأيديهم من أموال الجباية وأحوال الثورة، فنقموا عليهم سوء الملكة، ودسّ مشيختهم إلى المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى بمكانه من بونة، وقد كشف القناع في الانتزاء على عمله والدعاء لنفسه، فخطبوه للأمر، واستحثّوه للقدوم، فأغذّ السير. وتسامع بخبره أولياء السلطان، فخشي ابن مزني على نفسه، وخرج إلى معسكره بحلّة أولاد يعقوب ابن علي أمير الزواودة، ولجأ ابن السلطان وأولياؤه إلى القصبة. ومكر بهم أهل البلد في الدفاع دونهم حتى إذا أطلت رايات المولى الفضل وثبوا بهم، وحجزوهم إلى القصبة وأحاطوا بها حتى استنزلوهم على أمان عقدوه لهم. ولحقوا بحلة يعقوب، فعسكروا بها بعد أن نقض أهل البلاد عهدهم في ذات يدهم، فاستصفوه وأشار عليهم ابن مزني باللحاق ببسكرة لتكون ركابهم إلى السلطان، فارتحلوا جميعا في جوار يعقوب لما له في تلك الضواحي، حتى لحقوا ببسكرة، ونزلوا منها على ابن مزني خير نزل، وكفاهم كل شيء يهمهم على طبقاتهم ومقاماتهم، وعناية السلطان بمن كان وافدا منهم، حتى سار بهم يعقوب بن علي إلى السلطان وأوفدهم عليه في رجب من سنته. واتصل الخبر بأهل بجاية بالفعلة التي فعل أهل قسنطينة، فساجلوهم في الثورة. وكنسوا منازل أولياء السلطان وعمّاله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 فاستباحوها واستلبوهم وأخرجوهم من بين ظهرانيهم عراة، فلحقوا بالمغرب وطيّروا الخبر إلى المولى الفضل، واستحثّوه للقدوم، فقدم عليهم وعقد على قسنطينة وبونة لمن استكفى به من خاصّته ورجالات دولته، واحتل بجاية لشهر ربيع من سنته. وأعاد ملك سلفه. واستوسق أمره بهذه الثغور إلى أن كان من خبره مع السلطان بعد خروجه من بجاية ما نذكره ان شاء الله. الخبر عن انتزاء أولاد السلطان بالمغرب الأوسط والأقصى ثم استقلال أبي عنان بملك المغرب لما اتصل خبر النكبة بالقيروان بالأمير أبي عنان ابن السلطان، وكان صاحب تلمسان والمغرب الأوسط، وتساقط إليه الفلّ من عسكر أبيه عراة زرافات ووحدانا، وأرجف الناس بمهلك السلطان بالقيروان، فتطاول الأمير أبو عنّان للاستئثار بسلطان أبيه دون الأبناء، لما كان له من الإيثار عند أبيه لصيانته وعفافه، واستظهاره القرآن، فكان محلا بعين أبيه لأمثالها. وكان عثمان بن يحيى بن جرار من مشيخة بني عبد الواد وأولاد يندوكسن [1] بن طاع الله منهم، وكان له محل من الدولة كما ذكرناه عند أخباره، وكان السلطان أذن له في الرجوع إلى المغرب، فرجع من معسكره بالمهدية، ونزل بزاوية العبّاد من تلمسان، وكان مسمتا وقورا، جهينة خبر ممتعا في حديثه، وكان مرجما فيه الوقوف على الحدثان. وكان الأمير أبو عنّان متشوّقا إلى خبر أبيه، ففزع إلى عثمان بن جرار في تعرفها. واستدعاه وأنس به، وكان في قلبه مرض من السلطان، فأودع إذن الأمير أبي عنّان ما أراد من الأماني بتورّط السلطان في المهلكة، وبشرّه بمصير الأمر إليه، فصادف منه إذنا واعية. واشتمل عليه ابن جرار من بعدها. وردّ الخبر بنكبة السلطان فأغراه ابن جرار بالتوثّب على الملك، وسوّل له الاستئثار به من دون إخوانه يقينا بمهلك السلطان. ثم أوهمه الصدق بإرجاف الناس بموت السلطان، فاعتزم وشحذ عزيمته في ذلك ما اتصل به من حافد السلطان منصور ابن الأمير أبي مالك صاحب فاس وأعمال المغرب من الانتزاء على عمله، وأنه فتح ديوان العطاء واستلحق واستركب لغيبة بني مرين عن   [1] وفي نسخة ثانية: تيدوكسن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 بلادهم، وخلاء جوّه من عساكرهم، وأظهر العسكر والحشد لاستنقاذ السلطان من هوّة القيروان يسدّ منها حسوا في ارتقاء، وتفطّن لشأنه الحسن بن سليمان بن يرزيكن عامل القصبة بفاس، وصاحب الشرطة بالضواحي، فاستأذنه باللحاق بالسلطان، فأذن له راحة من مكانه. وأصحبه عمال المصامدة ونواحي مراكش ليستقدمهم على السلطان بجباياتهم، فلحق بالأمير أبي عنّان على حين أمضى عزيمته على التوثّب والدعاء لنفسه، فقبض أموالهم وأخرج ما كان بموضع السلطان بالمنصورة من المال والذخيرة، وجاهر بالدعاء لنفسه، وجلس للبيعة بمجلس السلطان من قصره في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة فبايعه الملأ. وقرأ كتاب بيعتهم على الإشهاد، ثم بايعه العامّة، وانفض المجلس وقد عقد سلطانه ورست قواعد ملكه. وركب في التعبية والآلة حتى نزل بقبة الملعب. وطعم الناس وانتشروا وعقد على وزارته للحسن بن يرزيكن، ثم لفارس بن ميمون بن وردار وجعله رديفا له وتبعا. ورفع مكان ابن جرار عليهم. واختصّ لولايته ومناجاة خلوته كاتبه أبا عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمر [1] وسنذكر خبره. ثم فتح الديوان واستركب من تساقط إليه من فلّ أبيه، وخلع عليهم ودفع إليهم أعطياتهم وأزاح عللهم. وبينما هو يريد الرحلة إلى المغرب بلغه أن ونزمار بن عريف وليّ السلطان، وخالصته عريف بن يحيى، وكان أمير زغبة لعهده ومقدّما على سائر البدو، وبلغه أنه قد جمع له يريد حربه، وغلبه على ما صار إليه من الانتزاء والثورة على أبيه. وأنه قصد تلمسان بجموعه من العرب وزناتة المغرب الأوسط، فعقد للحسن بن سليمان وزيره على حربه وأعطاه الآلة وسرّحه للقائه، وسرّح معه من حضر من بني عامر أقتال سويد، وارتحل في عسكره حتى احتلّ تسالة، وناجزه ونزمار الحرب، ففلّت جموعه ومنحوا أكتافهم، واتبع الوزير عسكرهم [2] ، واكتسح أموالهم وحللهم، وعاد إلى سلطانه بالفتح والغنائم. وارتحل الأمير أبو عنّان إلى المغرب، وعقد على تلمسان لعثمان بن جرّار وأنزله بالقصر القديم منها، حتى كان من أمره مع عثمان بن عبد الرحمن ما ذكرناه في أخبارهم. ولما انتهى إلى وادي الزيتون وشى إليه بالوزير الحسن بن سليمان أنه مضمر الفتك به بتازى تزلفا إلى السلطان ووفاء بطاعته، وأنه داخل في ذلك الحافد منصورا صاحب   [1] وفي نسخة ثانية: ابا عبد الله بن محمد ابن القاضي عبد الله بن أبي عمر. [2] وفي نسخة ثانية: وابتع الوزير وعسكره آثارهم. ابن خلدون م 24 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 أعمال المغرب، بما كان يظهر من طاعة جدّه، فارتاب الأمير أبو عنّان به واستظهر واشيه على ذلك بكتابه. فلما قرأه تقبّض عليه، وقتله بالمساء خنقا، وأغذ السير إلى المغرب. وبلغ الخبر منصور بن أبي مالك صاحب فاس فزحف للقائه، والتقى الجمعان بناحية تازى وبوادي أبي الاجراف، فاختلّ مصاف منصور وانهزمت جموعه ولحق بفاس. وانحجر بالبلد الجديد وارتحل الأمير أبو عنّان في أثره، وتسايل الناس على طبقاتهم إليه، وآتوه الطاعة وأناخ بعساكره على البلد الجديد في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين، وأخذ بمخنقها وجمع الأيدي والفعلة على الآلات لحصارها، ولحين نزوله على البلد الجديد أوعز إلى الوالي بمكانه، أن يطلق أولاد أبي العلاء المعتقلين بالقصبة، فأطلقهم ولحقوا به فأقاموا معه على حصار البلد الجديد، وطال تمرّسه بها إلى أن ضاقت أحوالهم واختلفت أهواؤهم، ونزع إليه أهل الشوكة منهم. ونزع إليهم عثمان بن إدريس بن أبي العلاء فيمن إليه من الحاشية بإذنه له في ذلك سرا ليمكن إليه [1] ، فدسّ إليه وواعدوه الثورة بالبلد، فثار بها واقتحمها الأمير أبو عنّان عليهم، ونزل منصور بن أبي مالك على حكمه، فاعتقله إلى أن قتله بمحبسه، واستولى على دار الملك وسائر أعمال المغرب وتسابقت إليه وفود الأمصار للتهنئة بالبيعة. وتمسّك أهل سبتة بطاعة السلطان والانقياد لقائدهم عبد الله بن علي بن سعيد من طبقة الوزراء حينا، ثم توثّبوا به وعقدوا على أنفسهم للأمير أبي عنّان، وقادوا عاملهم إليه. وتولى كبر الثورة فيهم زعيمهم الشريف أبو العبّاس أحمد بن محمد بن رافع من بيت أبي الشريف من آل الحسين [2] ، كانوا انتقلوا إليها من صقلّيّة، واستوسق للأمير أبي عنان ملك المغرب، واجتمع إليه قومه من بني مرين للأمر، وأقام مع السلطان بتونس وفاء بحقّه، وحصّ جناح أبيه عن الكرّة على الكعوب الناكثين لعهده، الناكبين عن طاعته، فأقام بتونس يرجو الأيام، ويؤمّل الكرّة. والأطراف تنتقض والخوارج تتجدّد إلى أن ارتحل إلى المغرب بعد اليأس، كما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: ليمكنه منهم. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: آل الحسن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 الخبر عن انتقاض النواحي وانتزاء بني عبد الواد بتلمسان ومغراوة بشلف وتوجين بالمرية لما كانت نكبة السلطان بالقيروان وانتثر ملك زناتة، وانتقضت قواعد سلطانهم، اجتمع كل قوم منهم لإبرام أمرهم والنظر في شأن جماعتهم، وكانوا جميعا نزعوا إلى الكعوب الخارجين على السلطان، وبنزوعهم تمت الدبرة عليه. ولحقوا بتونس مع الحاجب أبي محمد بن تافراكين ليلحقوا منها بأعمالهم. وكان في جملة السلطان جماعة من أعياصهم منهم عثمان وإخوته الزعيم ويوسف وإبراهيم أبناء عبد الرحمن بن يحيى ابن يغمراسن بن زيّان سلطان بني عبد الواد، صار في إيالة السلطان منذ فتح تلمسان وإنزالهم بالجزيرة للرباط. ثم رجعوا بعد استئثار الطاغية بها من مكانهم من دولته، وساروا إلى القيروان تحت لوائه ومنهم علي بن راشد بن محمد بن منديل. وقد ذكرنا أخبار أبيه وأنه ربي في إيالة السلطان وجوّ الدولة يتيما، وكفلته نعمتها منذ نشأته حتى كأنه لا يعرف سواها، فاجتمع بنو عبد الواد بتونس وعقدوا على أنفسهم لعثمان ابن عبد الرحمن لما كان كبير إخوته، وأتوه ببيعتهم شرقي المصلى العتيق المطلّ على سيجوم من ساحة البلد، لعهده بهم يومئذ. وقد وضعوا له درقة بالأرض من اللمط أجلسوه عليها، ثم ازدحموا مكبين على يده يقبّلونها للبيعة. ثم اجتمع من بعدهم مغراوة إلى علي بن راشد وبايعوه وحفوا به. وتعاهد بنو عبد الواد ومغراوة على الألفة وانتظام الكلمة وهدر الدماء. وارتحلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط، فنزل علي بن راشد قومه بموضع عملهم من ضواحي شلف، وتغلّبوا على أمصاره وافتتحوا تدلس [1] وأخرجوا منها أولياء السلطان وعسكره، وقتلوا القاضي بمازونة سرحان، كان مقيما بها لدعوة السلطان، ثم سولت له نفسه التوثّب والانتزاء، فدعا لنفسه، وقتله علي بن راشد وقومه. وأجاز عبد الرحمن وقومه من بني عبد الواد إلى محل ملكهم بتلمسان، فألفوا عثمان ابن جرار قد انتزى بها بعد منصرف الأمير أبي عنّان ودعا لنفسه، فتجهّم له الناس لتوثّبه على المنصب الّذي ليس لأبيه، واستمسك بالبلد أياما يؤمّل نزوع قومه إليه. ثم   [1] وفي نسخة ثانية: تنس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 زحف إليه بنو عبد الواد وسلطانهم فصدقوه الزحف، وثارت به الغوغاء، وكسروا أبواب البلد، وخرجوا إلى السلطان فأدخلوه القصر، واحتلّ به في جمادى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة وتسابق الناس إلى مجلسه مثنى وفرادى، وبايعوه البيعة العامّة. ثم تفقد ابن جرار، ثم أغرى به البحث، فعثر عليه ببعض زوايا القصر، واحتمل إلى المطبق فأودع به إلى أن سرّب إليه الماء فمات غريقا في هوته. وساهم السلطان أبو سعيد عثمان أخاه أبا ثابت الزعيم في سلطانه، وأشركه في أمره، وأردفه في ملكه، وجعل إليه أمر الحرب والضواحي والبدو كلها. واستوزر قريبه يحيى بن داود بن مكن، من ولد محمد بن يندوكس بن طاع الله، واستوسق ملكهم، وأوفدوا مشيختهم على الأمير أبي عنّان صاحب المغرب، وسلطان بني مرين، فعقدوا معه السلم والمهادنة، واشترطوا له عن أنفسهم دفاع السلطان إليه. وزحفوا إلى وهران من ثغور أعمالهم، ونازلوا بها أولياء السلطان وعساكره، وعاملها يومئذ عبد الله بن أجانا [1] من صنائع السلطان أبي الحسن إلى أن غلبوه عليها، واستنزلوه صلحا لأشهر من حصارها. واستمسك أهل الجزائر بطاعة السلطان، واعتصموا بها، وعقد عليها لقائده محمد ابن يحيى بن العسكري [2] من صنائع أبيه، بعثه إليهم من تونس بعد نكبة القيروان. ونجم بالمدية علي [3] بن يوسف بن زيّان بن محمد بن عبد القوي داعيا لنفسه، وطالبا سلطان سلفه، وامتنع عليه معقل ملكهم بجبل وانشريش لمكان ولد عمر بن عثمان وقومهم من بني تيغرين في رياسته، وانحاش إليه أولاد عزيز من بني توجين أهل ضاحية المدية فقاموا بأمره، واعصوصبوا عليه، وكانت بينه وبين أبناء عمر بن عثمان بوانشريش حرب سجال إلى أن هلك، وخلص أمر بني توجين لأبناء عمر بن عثمان، وهم على مذهبهم من طاعة السلطان وتمسّكهم بدعوته، وهو مقيم خلال هذا بتونس إلى أن أزمع الرحلة، واحتل بالجزائر كما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: عبّو بن جانا. [2] وفي نسخة ثانية: محمد بن يحيى العشري. [3] وفي نسخة ثانية: عدي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 (الخبر عن رجوع الثغور الغربية لأمراء الموحدين ببجاية وقسنطينة) لما توثّب الأمير أبو عنان على ملك أبيه وبويع بتلمسان، وكانت للأمير أبي عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية لديه خلّة ومصافاة، من لدن بعثه إليه السلطان أبوه من بجاية. وأنزله بتلمسان فدعا له السابقة وآثره بالإمارة، وعقد له على محل إمارته من بجاية، وأمدّه بما يرضيه من المال والسلاح. ودفعه إليها ليكون حجرا دون السلطان بتونس، وضمن له هذا الأمير صدّه عن الخلوص إليه، وسدّ المذاهب دونه. وأوعز أبو عنّان إلى أساطيله بوهران، فركبها الأمير إلى تدلس ودخلها. ونزل إليه صنهاجة أهل ضاحية بجاية، عن عمّه الأمير أبي العبّاس الفضل، واعصوصبوا عليه، وقاموا بأمره لقديم نعمته وسالف إمارة أبيه. ولما ارتحل الأمير أبو عنّان إلى المغرب، رحل في جملته الأمير أبو زيد عبد الرحمن ابن الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة ومعه إخوته، فاختصّهم يومئذ بتغريبه وخلطهم بنفسه. فلما غلب الأمير أبو عنان منصور ابن أخيه أبي مالك على البلد الجديد، واستولى على المغرب، رأى أن يبعث ملوك الموحّدين إلى بلادهم، ويدفع في صدر أبيه بمكانهم، فسرّح الأمير أبا زيد وإخوته، وكان منهم السلطان أبو العبّاس الّذي جبر الله به الصدع، ونظم الشمل، فوصلوا إلى موطن ملكهم ومحل إمارتهم. وكان مولاهم نبيل حاجب أبيهم قد تقدّم إلى بجاية، ولحق بالأمير أبي عبد الله من حصارها. ثم تقدّم إلى قسنطينة وبها مولى من موالي السلطان المتغلّب عليها، وهو الأمير أبو العبّاس الفضل. فلحين إطلاله على جهاتها وشعور أهلها بمكانه، لفحت منهم عزائز المودّة، وذكروا جميع الإيالة، وأجمعوا التوثّب بواليهم. واحتلّ نبيل بظاهر قسنطينة، فشرهت العامّة إلى إمارته، والقيام بدعوة مواليه. وتوثّب أشياعهم على أولياء عمّهم، فأخرجوهم، واستولى القائد نبيل على قسنطينة وأعمالها، وأقام دعوة الأمير أبي زيد وإخوته كما كانت أوّل مرّة بها: وجاءوا من المغرب إلى مراكز إمارتهم، ودعوتهم بها قائمة، ورايتهم على أنحائها خافقة، فاحتلوا بها حلول الآساد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 بعرانينها [1] والكواكب بآفاقها، ونهض الأمير أبو عبد الله محمد فيمن اجتمع إليه من البطانة والأولياء، إلى محاصرة بلد بجاية، فأحجر عمّه بالبلد، وأخذ بمخنقها أياما، ثم أفرج عنها، ثم رجع إلى مكانه من حصارها. ودسّ إليه بعض أشياعه بالبلد، وسرّب إليه المال في الغوغاء، فواعدوه فتح أبواب الربض في إحدى ليالي رمضان سنة تسع وأربعين وسبعمائة واقتحم البلد وملاء الفضاء بهدير طبوله، فهبّ الناس من مراقدهم فزعين وقد ولج الأمير وقومه البلد. ونجا الأمير الفضل إلى شعاب الجبل وكواريه المطلّ على القصبة راجلا حافيا، فاختفى به إلى أن عثر عليه ضحى النهار، وسيق إلى ابن أخيه، فحنّ عليه وأركبه السفين إلى محل إمارته من بونة. وخلص ملك بجاية للأمير أبي عبد الله هذا واقتعد سرير آبائه بها، وكتبوا للأمير أبي عنان بالفتح، وتجديد المخالصة والموالاة، والعمل عن مدافعة أبيه من جهاته، والله تعالى أعلم. الخبر عن نهوض الناصر ابن السلطان ووليه عريف بن يحيى من تونس الى المغرب الأوسط لما بلغ السلطان خبر ما وقع بالمغرب من انتقاض أطرافه، وتغلّب الأعياص من قومه وسواهم على أعماله، ووصل إليه يعقوب بن علي أمير الزواودة بولده وعماله ووفده، نظر في تلافي أمره بتسريح ولده الناصر إلى المغرب الأوسط لارتجاع ملكه، ومحو آثار الخوارج من أعمالهم. فنهض مع يعقوب بن علي وأصحبه وليه عريف بن يحيى أمير زغبة ليستظهر به على ملك المغرب، وقدّمهما طليعة بين يديه، وسار الناصر إلى بسكرة، واضطرب معسكره بها، ثم فصل من بلاد رياح إلى بلاد زغبة، واجتمع إليه أولياؤهم من العرب ومن زناتة من بني توجين أهل وانشريش وغيرهم. وزحف إليهم الزعيم أبو ثابت من تلمسان في قومه من بني عبد الواد وغيرهم للمدافعة. والتقى الجمعان بوادي ورك فانفضّت جموع الناصر وانذعروا، ورجع على عقبه إلى بسكرة وخلص عريف بن يحيى إلى قومه سويد، ثم قطع القفر إلى المغرب الأقصى. ولحق   [1] العرانين جمع عرنين وهو السيد الشريف والصحيح ان يقول عرائنها: جمع عرين وهو مأوى الأسد (قاموس) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 بالأمير أبي عنان فنزل منه بألطف محل، ورجع الناصر إلى بسكرة، وارتحل مع أوليائهم أولاد مهلهل لمدافعة أولاد أبي الليل وسلطانهم المولى الفضل عن تونس كما ذكرناه. وأحسّوا به، فنهض إليهم، وفرّوا أمامه، إلى أن خلص الناصر إلى بسكرة ثانية، واتخذها مثوى إلى أن لحق بأبيه بالجزائر عند رحلته من تونس إليها كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن رحلة السلطان أبي الحسن الى المغرب وتغلب المولى الفضل على تونس وما دعا إلى ذلك من الأحوال لما خلص المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى من نكبة بجاية، وامتنّ عليه ابن أخيه، فلحق بمحل إمارته من بونة. ووافته بها مشيخة أولاد أبي الليل، أوفدهم عليه بنو حمزة بن عمر يستحثّونه لملك إفريقية، يرغّبونه فيه، فأجاب داعيتهم ونهض إليهم بعد قضاء نسك الفطر من سنة تسع وأربعين، ونزل مجللهم وأوجفوا بخيلهم وركابهم على ضواحي إفريقية، وجبوها، وصمدوا إلى تونس فنازلوها وأخذوا بمخنقها أياما، ثم أخذ بحجزتهم عنها شيعة السلطان وأولياؤه من أولاد مهلهل وابنه الناصر عند قفوله من المغرب الأوسط مفلولا فرحلوهم وشرّدوهم. ثم رجعوا إلى مكانهم من حصارها، ثم انفضوا عنها. وتحيّز خالد بن حمزة إلى شيعة السلطان أبي الحسن مع أولاد مهلهل وقومه، فاعتزّوا به وذهب عمر بن حمزة إلى المشرق لقضاء فرضه، وأجفل أبو الليل أخوه مع المولى الفضل إلى القفر حتى كان من دخول أهل الجريد في طاعته ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكان السلطان لمّا خلص من القيروان إلى تونس، وفد إليه أحمد بن مكي مهنيا ومفاوضا في شأن الثغر وما مني به من انتقاض الأطراف وفساد الرعية. وتدارك السلطان أمره عند فواته بالتولية على أهل القطر من جنسهم استئلافا للكافة. واستبقاء لطاعتهم. فعقد على عمل قابس وجربة والحامة [1] ، وما إليها لعبد الواحد ابن السلطان زكريا بن أحمد اللحياني، وأنفذه مع أحمد بن مكي إلى عمله، فهلك بجربة لليال من مقدمه في الطاعون   [1] وفي نسخة أخرى: الحمة وهي أصح، وهي مدينة بإفريقية من عمل قسطيلية من نواحي بلاد الجريد (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 الجارف عامئذ. وعقد لأبي القاسم بن عتّو شيخ الموحدين على توزر ونفطة وسائر بلاد الجريد، بعد أن كان استخلصه بعد مفرّ أبي محمد بن تافراكين قريعة، وما أضمر [1] من سوء دخلته، فنزل بتوزر وجمع أهل الجريد على الولاية والمخالصة، ولما نازل المولى أبو العبّاس الفضل تونس مرتين، وشرّد أولاد مهلهل وامتنعت عليه، عمد إلى الجريد سنة خمس وأربعين وسبعمائة يحاول فيه ملكا، وخاطب أبا القاسم بن عتّو يذكّره عهده وعهد سلفه وحقوقهم، فتذكّر وحنّ، ونظر إلى ما ناله به السلطان من المثلة في أطرافه. واستثار كامن حقده، فانحرف وحمل الناس على طاعة المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، فسارعوا إلى الإجابة وبايعه أهل توزر وقفصة ونفطة والحامة، ثم دعا ابن مكين إلى طاعته فأجاب إليها وبايعه أهل قابس وجربة أيضا. وانتهى الخبر إلى السلطان باستيلاء المولى الفضل على أمصار إفريقية، وأنه ناهض إلى تونس، فأهمّه الشأن وخشي على أمره، وكانت بطانته يوسوسون إليه بالرحلة إلى المغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه، فأجابهم إليه وشحن أساطيله بالأقوات، وأزاح علل المسافرين. ولما قضى منسك الفطر من سنة خمسين وسبعمائة ركب البحر أيام استفحال فصل الشتاء، وعقد لابنه أبي الفضل على تونس ثقة بما بينه وبين أولاد حمزة من الصهر، وتفاديا بمكانه من معرّة الغوغاء وثورتهم. وأقلع من مرسى تونس، ولخمس دخل مرسى بجاية، وقد احتاجوا إلى الماء فمنعهم صاحب بجاية من الورود، وأوعز إلى سائر سواحله بمنعهم، فزحفوا إلى الساحل وقاتلوا من صدّهم عن الماء إلى أن غلبوهم واستقوا وأقلعوا، وعصفت بهم الريح ليلتئذ وجاءهم الموج من كل مكان، وألقاهم اليمّ بالساحل بعد أن تكسّرت الأجفان، وغرق الكثير من بطانته وعامّة الناس، وقذف الموج بالسلطان فألقاه إلى الجزيرة قرب الساحل من بلاد زواوة مع بعض حشمه عراة، فمكثوا ليلتهم وصبحهم جفن من الأساطيل كان قد سلم من ذلك العاصف، فقرّبوا إليه حين رأوه وقد تصايح به البربر من الجبال وتواثبوا إليه فاختطفه أولياؤه من أهل الجفن قبل أن يصل إليه البربر،   [1] وفي نسخة أخرى: وما ظهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 وقذفوا به إلى الجزائر فنزل بها، ولأم صدعه. وخلع على من وصل من فلّ الأساطيل ومن خرج إليه من أوليائه، ولحق به ابنه الناصر من بسكرة، واتصل بالمولى الفضل خبر رحيله من تونس وهو ببلاد الجريد، فأغذ السير إلى تونس، ونزل بها على ابنه ومن كان بها من مخلف أوليائه، فغلبوهم عليها. واتصل أهل البلد بهم وأحاطوا يوم منى بالقصبة. واستنزلوا ابن السلطان أبا الفضل الأمير بالقصبة على الأمان، فخرج إلى بيت أبي الليل بن حمزة، وأنفذ معه من أبلغه إلى مأمنه، فلحق بأبيه بالجزائر وبادر إلى السلطان عليّ بن يوسف المنتزى بالمدية من بني عبد القوي، فصار في جملته، وخرج له عن الأمر، وزعم أنه إنما كان قائما بدعوته، فتقبّل منه وأقرّه على عمله. ووفد عليه أولياؤه من العرب سويد والحرث والحصين ومن إليهم ممن اجتمع إلى وليه ونزمار بن عريف المتمسّك بطاعته. ووفد عليه أيضا علي بن راشد أمير مغراوة، وأغزاه بني عبد الواد [1] ، واشترط عليه إقراره بوطنه وعمله إذا تمّ أمره، فأبى من قبول الاشتراط ظنّا بعهده عن النكث، فنزع عنه وصار إلى مظاهرة بني عبد الواد عليه. وبعث أبو سعيد عثمان صاحب تلمسان إلى الأمير أبي عنان في المدد، فبعث إليه بعسكر من بني مرين عقد عليهم ليحيى بن رحّو بن تاشفين بن معطي من تيربيغن، وزحف الزعيم أبو ثابت إلى حرب السلطان أبي الحسن فيمن اجتمع له من عسكر بني مرين ومغراوة. وخرج السلطان من الجزائر وعسكر بمتيجة، واحتشد ونزمار سائر العرب بحللهم، ووافاه بهم، وارتحلوا إلى شلف، ولما التقى الجمعان بشدبونة صدقه مغراوة الحملة وصابرهم ابنه الناصر وطعن في الجولة فهلك واختلّ مصاف السلطان واستبيح معسكره، وانتهب فساطيطه، وخلص مع وليّه ونزمار بن عريف وقومه بعد أن استبيحت حللهم، فخرجوا إلى جبل وانشريش، ثم لحقوا بجبل راشد، ورجع القوم عن اتباعهم، وانكفؤا إلى الجزائر فتغلّبوا عليها، وأخرجوا من كان بها من أولياء السلطان ومحوا آثار دعوته من المغرب الأوسط جملة. والأمر بيد الله يؤتيه من يشاء.   [1] وفي نسخة ثانية: وأغراه ببني عبد الواد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 الخبر عن استيلاء السلطان على سجلماسة ثم فراره عنها امام ابنه إلى مراكش واستيلائه عليها وما تخلل ذلك لما انفضت جموع السلطان بشدبونة وقلّ عساكره، وهلك الناصر ابنه، خلص إلى الصحراء مع وليّه ونزمار ولحق بحلل قومه سويد وأوطانهم قبلة جبل وانشريش، وأجمع أمره على قصد المغرب موطن قومه ومنبت عزّه ودار ملكه. وارتحل معه وليّه ونزمار بالنازعة [1] من قومه، وخرجوا إلى جبل راشد. ثم أبعدوا المذاهب وقطعوا المفاوز إلى سجلماسة في القفر. فلما أطلوا عليها وعاين أهلها السلطان تهافتوا عليه تهافت الفراش، وخرج إليه العذارى من وراء ستورهنّ صاغية إليه، وإيثارا لإيالته. وفرّ العامل بسجلماسة إلى منجاته. وكان الأمير أبو عنان لما بلغه الخبر بقصد سجلماسة، ارتحل إليها في قومه وكافة عساكره بعد أن أزاح عللهم وأفاض عطاءه فيهم، وكان ببني مرين نفرة عن السلطان وحذر من غائلته لجنايتهم بالتخاذل في المواقف، والفرار عنه في الشدائد، ولما كان يبعد بهم في الأسفار ويتجشّم بهم المهالك، فكانوا لذلك مجتمعين على منابذته، ومخلصين في مناصحة ابنه منازعة، فما لبث السلطان أن جاءه الخبر بوصولهم إليه في العساكر الضخمة، مغذّين السير إلى دفاعه، وعلم من حاله أنه لا يطيق دفاعهم، وأجفل عنه ونزمار وليّه في قومه سويد. وكان من خبره أنّ عريف بن يحيى كان نزع إلى الأمير أبي عنان وأحلّه بمحله المعهود من تشريفهم وولايتهم، حتى إذا بلغه الخبر بمناصحة ونزمار للسلطان ومظاهرته وقصده المغرب معه بناجعته، زوى عنه وجه رضاه بعض الشيء، وأقسم له لئن لم تفارق السلطان لأوقعنّ بك وبابنك عشر [2] وكان معه في جملة الأمير أبي عنان، وأمره بأن يكتب له بذلك، فآثر ونزمار رضى أبيه. وعلم أنّ غناءه عن السلطان في وطن المغرب قليل، فأجفل عنه ولحق بالزاب وانتبذ عن قومه، وألقى عصاه ببسكرة، فكان ثواؤه بها إلى أن لحق بالأمير أبي عنان على ما نذكره. ولما أجفل السلطان عن سجلماسة، دخل الأمير أبو عنان إليها وثقف أطرافها وسدّ   [1] وفي نسخة ثانية: بالناجعة. [2] وفي نسخة ثانية: عنتر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 فروجها، وعقد عليها ليحياتن بن عمر بن عبد المؤمن كبير بني ونكاسن، وبلغه قصد السلطان إلى مراكش، فاعتزم على الرحلة إليها وأبى عليه قومه، فرجع بهم إلى فاس إلى أن كان من خبرهم مع السلطان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن استيلاء السلطان على مراكش ثم انهزامه أمام الأمير أبي عنان ومهلكه بجبل هنتاتة عفا الله عنه لما أجفل السلطان عن سجلماسة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بين يدي الأمير أبي عنان وعسكر بني مرين، قصد مراكش، وركب إليها الأوعار من جبال المصامدة. ولما شارفها تسارع إليه أهل جهاتها بالطاعة من كل أوب، ونسلوا من كل حدب. ولحق عامل مراكش بالأمير أبي عنان ونزع إلى السلطان صاحب ديوان الجباية أبو محمد [1] بن محمد بن أبي مدين بما كان في المودع من مال الجباية، فاختصّه واستكتبه وجعل إليه علامته، واستركب واستلحق وجبى الأموال، وبثّ العطاء، ودخل في طاعته قبائل العرب من جشم وسائر المصامدة. وثاب له بمراكش ملك أمّل معه أن يستولي على سلطانه، ويرتجع فارط أمره من يد مبتزّه. وكان الأمير أبو عنان لما رجع إلى فاس عسكر بساحتها، وشرع في العطاء وإزاحة العلل، وتقبّض على كاتب الجباية يحيى بن حمزة بن شعيب بن محمد بن أبي مدين، اتّهمه بممالأة بني مرين في الإمالة عليه عن اللحاق بمرّاكش من سجلماسة. وأثار حقده في ذلك ما كان من نزوع عمّه أبي المجد إلى السلطان بأموال الجباية، ووسوس إليه في السعاية به كاتبه وخالصته أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن أبي عمر [2] لما بينهما من المنافسة، فتقبّض عليه وامتحنه، ثم قطع لسانه وهلك في ذلك الامتحان، وارتحل الأمير أبو عنان وجموع بني مرين إلى مراكش، وبرز السلطان إلى لقائهم ومدافعتهم، وانتهى كل واحد من الفريقين إلى وادي أم ربيع، وتربّص كل بصاحبه إجازة الوادي. ثم أجازه السلطان أبو الحسن وأصبحوا جميعا في التعبية،   [1] وفي نسخة ثانية: ابو المجد. [2] وفي نسخة ثانية: ابو عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمرو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 والتقى الجمعان بتامرغوست [1] في آخر صفر من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختلّ مصاف السلطان وانهزم عسكره، ولحق به أبطال بني مرين فرجعوا عنه حياء وهيبة. وكبا به فرسه يومئذ في مفرّه، فسقط إلى الأرض والفرسان تحوم حوله. واعترضهم دونه أبو دينار سليمان بن علي بن أحمد أمير الزواودة، ورديف أخيه يعقوب، كان هاجر مع السلطان من الجزائر، ولم يزل في جملته إلى يومئذ. فدافع عنه حتى ركب وسار من ورائه ردءا له. وتقبّض على حاجبه علال بن محمد، فصار في يد الأمير أبي عنان وأودعه السجن إلى أن امتن عليه بعد مهلك أبيه. وخلص السلطان إلى جبل هنتاتة ومعه كبيرهم عبد العزيز بن محمد بن علي، فنزل عليه وأجاره واجتمع إليه الملأ من قومه هنتاتة ومن انضاف إليهم من المصامدة، وتدامروا وتعاهدوا على الدفاع عنه، وبايعوه على الموت، وجاء أبو عنان على أثره حتى احتل بمرّاكش، وأنزل عساكره على جبل هنتاتة، ورتّب المسالح لحصاره وحربه، وطال عليه ثواؤه، وطلب السلطان من ابنه الإبقاء، وبعث في حاجبه محمد بن أبي عمر فحضر عنده، وأحسن العذر عن الأمير أبي عنان والتمس له الرضى منه، فرضي عنه، وكتب له بولاية عهده. وأوعز إليه بأن يبعث له مالا وكسى، فسرّح الحاجب ابن أبي عمر بإخراجها من المودع بدار ملكهم، واعتلّ السلطان خلال ذلك، فمرّضه أولياؤه وخاصّته، وافتصد لإخراج الدم، ثم باشر الماء لفصده للطهارة، فورم وهلك لليال قريبة عفا الله عنه، لثلاث وعشرين من ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وبعث أولياؤه الخبر إلى ابنه بمعسكره من ساحة مراكش، ورفعوه على أعواده إليه فتلقّاه حافيا حاسرا، وقبّل أعواده وبكى، واسترجع ورضي عن أوليائه وخاصّته، وأنزلهم بالمحل الّذي رضوه من دولته، ووارى أباه بمراكش إلى أن نقله إلى مقبرة سلفهم بشالة في طريقه إلى فاس وتلقى أبا دينار ابن علي بن أحمد بالقبول والكرامة، وأحلّه محل الرحب والسعة، وأسنى جائزته، وخلع عليه وحمّله. وانصرف من فاس إلى قومه يستحثّهم للقاء السلطان أبي عنان بتلمسان لما كان أجمع على الحركة إليها بعد مهلك أبيه، ورعى لعبد العزيز بن محمد أمير هنتاتة إجارته للسلطان واستماتته دونه، فعقد له على قومه وأحلّه بالمحل الرفيع من دولته ومجلسه، واستبلغ في تكريمه، والله تعالى أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: تامدغرست. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 الخبر عن حركة السلطان أبي عنان إلى تلمسان وإيقاعه ببني عبد الواد بانكاد ومهلك سلطانهم سعيد لما هلك السلطان أبو الحسن وانقضى شأن الحصار ارتحل السلطان أبو عنان إلى فاس ونقل شلو أبيه إلى مقبرتهم بشالة فدفنه مع من هنالك من سلفه. وأغذّ السير إلى فاس وقد استبدّ بالأمر، وخلت الدولة عن المنازع، فاحتل بفاس وأجمع أمره على غزو بني عبد الواد لارتجاع ما بأيديهم من الملك الّذي سموا لاستخلاصه. ولما كان فاتح سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة نادى بالعطاء وأزاح العلل، وعسكر بساحة البلد الجديد، واعترض العساكر وارتحل يريد تلمسان، واتصل الخبر بأبي سعيد وأخيه، فجمعوا قومهم ومن إليهم من الأشياع والأحزاب من زناتة والعرب، وارتحلوا إلى لقائه، ونزل السلطان بعساكره وادي ملوّية، وتلوّم به أياما لاعتراض الحشود والعرب. ثم رحل على التعبية حتى إذا احتل ببسيط أنكاد وتراءى الجمعان، انفضّ سرعان المعسكر ولحقوا بالعرب [1] وركب السلطان في التعبية وخاض بحر القتال، وقد أظلم الجوّ به حتى إذا خلص إليهم من غمره، وخالطهم في صفوفهم، ولّوا الأدبار، ومنحوهم الأكتاف، واتبع بنو مرين آثارهم فاستولوا على معسكرهم واستباحوه واستباحوهم قتلا وسبيا، وصفدوهم أسرى، وغشيهم الليل وهم متسايلون في أثرهم، وتقبّض على أبي سعيد سلطانهم، فسيق إلى السلطان فأمر باعتقاله، وأطلق أيدي بني مرين من الغد على حلل العرب من المعقل، فاستباحوهم واكتسحوا أموالهم جزاء بما شرهوا إليه من النهب في المحلّة في هيعة ذلك المجال. ثم ارتحل على تعبيته إلى تلمسان فاحتلّ بها لربيع من سنته، واستوت في ملكها قدمه، وأحضر أبا سعيد فقرّعه ووبّخه وأراه أعماله حسرة عليها، وأحضر الفقهاء وأرباب الفتيا، فأفتوا بحرابته وقتله. فأمضى حكم الله فيه، فذبح في محبسه لتاسعة من اعتقاله، وجعله مثلا للآخرين. وخلص أخوه الزعيم أبو ثابت إلى قاصية الشرق، فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: بالمغرب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 الخبر عن شأن أبي ثابت وإيقاع بني مرين به بوادي شلف وتقبض الموحدين عليه بجاية لما أوقع السلطان ببني عبد الواد بأنكاد، وتقبّض على أبي سعيد سلطانهم، خلص أبو ثابت أخوه في فلّ منهم، ومرّ بتلمسان، فاحتمل حرمهم ومخلفهم، وأجفل إلى الشرق، فاحتل بشلف من بلاد مغراوة وعسكر هنالك. واجتمع إليه أوشاب من زناتة، وحدّث نفسه باللقاء، ووعدها بالصبر والثبات، وسرّح السلطان وزيره فارس بن ميمون بن ودرار في عساكر بني مرين والجند، فأغذ السير إليهم وارتحل من تلمسان على أثره، ولما تراءى الجمعان صدق الفريقان المجاولة، وخاضوا النهر بالقراع. ثم صدق بنو مرين الحملة واجتازوا النهر إليهم، فانكشفوا واتبعوا آثارهم واستلحموهم، واستباحوا معسكرهم واستاقوا أموالهم ودوابهم ونساءهم، وارتحلوا في اتباعهم، وكتب الوزير بالفتح إلى السلطان، ومرّ أبو ثابت بالجزائر طارقا، وأجاز إلى قاصية المشرق، فاعترضهم قبائل زواوة وأرجلوهم عن خيلهم، وانتهبوا أسلابهم، ومرّوا حفاة عراة، واحتل الوزير بالجزائر، واستولى عليها واقتضى بيعة السلطان منهم فآتوها، واحتل الوزير بالمدية وأوعز إلى أمير بجاية المولى أبي عبد الله حافد مولانا الأمير أبي يحيى مع وليّه ونزمار وخالصته يعقوب بن علي بالتقبّض على أبي ثابت وأشياعه فأذكوا العيون عليهم وقعدوا لهم بالمرصاد، وعثر بعض الحشم على أبي ثابت وأبي زيّان ابن أخيه أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود، فرفعوهم إلى الأمير ببجاية، فاعتقلهم وارتحل للقاء السلطان بالمدية وبعثهم مع مقدّمته، وجاء على أثرهم ونزل على السلطان بمعسكره من المدية خير نزل، بعد أن تلقّاه بالمبرّة والاحتفاء، وركب للقائه، ونزل عن فرسه للسلطان، فنزل السلطان برّا له، وأودع أبا ثابت السجن. وتوافت إليه وفود الزواودة بمكانه من المدية، فأكرم وفدهم وأسنى أعطياتهم من الخلع والحملان والذهب، وانقلبوا خير منقلب، ووافته بمكانه ذلك بيعة ابن مزني عامل الزاب ووفدهم، فأكرمهم ووصلهم. وفرغ السلطان من شأن المغرب الأوسط، وبثّ العمّال في نواحيه، وثقف أطرافه، وسما إلى ملك إفريقية كما نذكره إن شاء الله تعالى . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 (الخبر عن تملك السلطان أبي عنان بجاية وانتقال صاحبها الى المغرب) لما وصل السلطان أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا يحيى صاحب بجاية إلى السلطان بمكانه من المدية في شعبان من سنته، وأقبل السلطان عليه، وبوّأه كنف ترحيبه وكرامته، خلص الأمير به نجيّا، وشكا إليه ما يلقاه من أهل عمله من الامتناع من الجباية والسعي في الفساد، وما يتبع ذلك من زبون الحامية واستبداد البطانة. وكان السلطان متشوّقا لمثلها، فأشار عليه بالنزول عنها، وأن يديله عنها بما شاء من بلاده، فسارع إلى قبول إشارته، ودسّ إليه مع حاجبه محمد بن أبي عمرو أن يشهد بذلك على رءوس الملاء، ففعل، ونقم عليه بطانته ذلك، وفرّ بعضهم من معسكره، فلحق بإفريقية، ومنهم علي ابن القائد محمد بن الحكيم. وأمره السلطان أن يكتب بخطّه إلى عامله على البلد بالنزول عنها وتمكين عمّال السلطان منها ففعل وعقد السلطان عليها لعمر بن علي الوطاسي من أولاد الوزير الّذي ذكرنا خبر انتزائهم بتازوطا من قبل، ولما قضى السلطان حاجته من المغرب الأوسط واستولى على بجاية، انكفأ راجعا إلى تلمسان لشهود الفطر بها، ودخلها في يوم مشهود، وحمل أبا ثابت ووزيره يحيى بن داود على جملين يخطوان بهما في ذلك المحفل بين السماطين، فكانا عبرة لمن حضر وسيقا من الغد إلى مصارعهما، فقتلا قعصا بالرماح، وأنزل السلطان المولى الأمير أبا عبد الله صاحب بجاية خير نزل، وفرش له في مجلسه تكرمة له إلى أن كان من توثّب صنهاجة وأهل بجاية بعمر بن علي ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى. (الخبر عن ثورة أهل بجاية ونهوض الحاجب اليها في العساكر) كان صنهاجة هؤلاء من أعقاب ملكانة [1] ملوك القلعة وبجاية، نزل أولوهم بوادي   [1] وفي نسخة ثانية: تكلاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 بجاية بين القبائل من برابرتها الكتاميين في مواطن بني ورياكل منذ أوّل دولة الموحدين، وأقطعوهم على العسكرة معهم، ولما ضعفت جنود الموحّدين وقلّ عددهم انفردوا بالعسكرة مع السلطان، وصار لهم بذلك اعتزاز وزبون على الدولة. وكان الأمير أبو عبد الله هذا قد أصاب منهم لأوّل أمره، وقتل محمد بن تميم من أكابر مشيختهم، وكان صاحبه فارح مولى ابن سيّد الناس عريفا عليه من عهد أبيه الأمير أبي زكريا، وكان مستبدّا على المولى أبي عبد الله، فلما نزل عن إمارته للسلطان أبي عنان سخط ذلك ونقمه عليه، وأسرّها في نفسه ولم يبدها لكماله، وسرّحه أميره مع عمر بن علي الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه وماعون داره، فوصل إليها وشكا إليه الصنهاجيون مغبّة أمرهم في ثقل الوطأة وسوء الملكة فأشكاهم ودعاهم إلى الثّورة ببني مرين، والقيام بدعوة الموحّدين للمولى أبي زيّان صاحب قسنطينة، فأجابوه وتواعدوا بالفتك بعمر بن علي بمجلسه من القصبة. وتولى كبرها منصور بن الحاج من مشيختهم، وباكره بداره على عادة الأمراء، ولما أكبّ عليه ليلثم أطرافه طعنه بخنجره، وفرّ إلى بيته جريحا فولجوا عليه واستلحموه. وثارت الغوغاء من أهل البلد في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. وركب الحاجب فارح وهتف الهاتف بدعوة المولى أبي زيد صاحب قسنطينة، وطيروا بالخبر واستدعوه، فتثاقل عن إجابتهم، وبعث مولى ابن المعلوجي للقيام بأمرهم. وبلغ الخبر إلى السلطان فاتّهم المولى أبا عبد الله بمداخلة حاجبة، فاعتقله بداره. واعتقل وفدا من ملاء بجاية كان ببابه، وثبتت آراء المشيخة من أهل بجاية، وتمشّت رجالاتهم وأولو الرأي والشورى منهم في الفتك بصنهاجة والعلج، وداخلهم القائد هلال مولى ابن سيّد الناس من المعلوجي، وعلي بن محمد بن ألميت حاجب الأمير أبي زكريا يحيى، ومحمد ابن الحاجب أبي عبد الله بن سيّد الناس وتواعدوا للفتك بفارح يوم وصول النائب من قبل صاحب قسنطينة، فجهروا بالنكير على الحاجب، ودعوه إلى المسجد ليؤامروه. ونذر بأمرهم فاعتدّ دار شيخ الفتيا أحمد بن إدريس فاقتحموا عليه الدار، وباشره مولاه محمد بن سيّد الناس، فطعنه وأشواه، ورمي بشلوه من سقف الدار، وقطع رأسه، فبعثوا به إلى السلطان، وفرّ منصور بن الحاج وقومه صنهاجة من البلد، وكان بالمرسي أحمد بن سعيد القرموني من خاصّة السلطان، جاء في السفن لبعض حاجاته من تونس، ووافى مرسي بجاية يومئذ فأنزلوه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 واعصوصبوا عليه، وتنادوا بدعوة السلطان وطاعته، فأشار عليهم أحمد القرموني أن يبعثوا إلى قائد تدلس من مشيخة بني مرين يحياتن [1] بن عمر بن عبد المؤمن الونكاسي، فاستدعوه ووصل إليهم في جملة [2] من العسكر، وبعثوا بأخبارهم إلى السلطان وانتظروا. فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أمر حاجبه محمد بن أبي عمر بالنهوض إلى بجاية، فعسكر بساحة تلمسان. وانتقى له السلطان من قومه وجنوده خمسة آلاف فارس أزاح عللهم، واستوفى أعطياتهم وسرّحه فنهض من تلمسان بعد قضاء منسك الأضحى، وأغذ السير إلى بجاية، ولما نزل ببني حسن جمع له بمعسكرهم من تيكلات، وخرج إليه المشيخة والوزراء، فتقبّض على القائد هلال وأشخصه إلى السلطان ودخل البلد على التعبية، واحتلّ بقصبتها لمحرّم فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وسكن الناس وخلع على المشيخة، واختص علي بن ألميت [3] ومحمد بن سيّد الناس، واستظهر بهم على أمره، وتقبّض على جماعة من الغوغاء وعلى من تحت أيديهم ممن يتهم بالمداخلة في الثورة [4] يناهزون مائتين، واعتقلهم وأركبهم السفن إلى المغرب، فودّع الناس وسكنوا وتوافت وفود الزواودة من كل جهة، فأجزل صلاتهم واقتضى الطاعة منهم [5] . ووصل عامل الزاب يوسف، وسدّ فروجه وارتحل إلى تلمسان أوّل جمادى لشهرين من مدخله، وأغذّ السير بمن معه من العرب والوفود، وكنت يومئذ في جملتهم، وقد خلع عليّ وحملني وأجزل صلتي، وضرب لي الفساطيط، فوفدت في ركابه، وقدم تلمسان لأوّل جمادى الأخيرة، فجلس السلطان للوفد واعترض ما جنب له من الجياد والهديّة، وكان يوما مشهودا. ثم أسنى السلطان جوائز الوفد، واختصّ يوسف بن مزني ويعقوب بن علي بمزيد من البرّ والصلة، وخصوا بجاه من الكرامة، وآمرهم في شأن إفريقية ومنازلة قسنطينة. ورجع معهم الحاجب ابن أبي عمر على كره منه لما نذكره من أخباره، وانصرفوا إلى مواطنهم لأوّل شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة وانقلبت معه بعد   [1] وفي نسخة ثانية: يحيى. [2] وفي نسخة ثانية: في لمّة. [3] وفي نسخة ثانية: المنت. [4] وفي نسخة ثانية: التوثب. [5] وفي نسخة ثانية: واقتضى على الطاعة رهنهم. ابن خلدون م 25 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 إسناء الجائزة والخلع والحملان من السلطان، والوعد الجميل بتجديد ما إلى قومه ببلده من الأقطاع والله أعلم. الخبر عن الحاجب ابن أبي عمرو وما عقد له السلطان على ثغر بجاية وعلى منازلة قسنطينة ونهوضه لذلك سلف هذا الرجل من أهل المهديّة من أجواد العرب من بني تميم بإفريقية، وانتقل جدّه عليّ إلى تونس باستدعاء السلطان المستنصر، وكان فقيها عارفا بالفتيا والأحكام، وقلّده القضاء بالحضرة واستعمله على كتب علامته في الرسائل والأوامر الكبرى والصغرى، فاضطلع بذلك، وهلك على حالة من التجلّة والمنصب، وقلّد ابنه عبد الله من بعده العلامتين أيام أبي حفص عمر ابن الأمير أبي زكريا كما كان لأبيه، فاضطلع لذلك وكان أخوه أحمد بن علي مستنا [1] وقورا منتحلا للعلم. ونشأ ابنه محمد وقرأ بتونس، وتفقّه على مشيختها. ولما التاثت أمورهم وتلاشت أحوالهم، خرج محمد بن أحمد بن على مبتغيا للرزق والمعاش، وطوّحت به الطوائح إلى بلد القلّ. وكان منتحلا للطلب [2] والكتابة، فاستعمل شاهدا بمرسى القلّ أيام رياسة الحاجب ابن أبي عمرو [3] ، وكانت له صحبة مع حسن بن محمد السبتي المنتحل بنسب الشرف. وكانا رفيقين في مطارح اغترابهما، فسعى له في مرافقة الشهرة، فأسعفا واتصلا بابن أبي عمرو فحمد مذاهبهما، ولما نزع الشريف عبد الوهاب زعيم تدلس إلى طاعة الموحّدين أيام التياث أبي حمّو بخروج محمد بن يوسف عليه، واعتلال الدولة، ودخل في أمر ابن أبي عمرو وجملته، فبعث محمد ابن أبي عمرو هذا وصاحبه إلى تدلس، واستعمل حسن الشريف في القضاء، ومحمد بن أبي عمرو في شهادة الديوان. فلما برئت الدولة من مرضها، واستفحل أمر أبي حمّو وتغلّب على تدلس، وصار رئيس الفتيا من الإمام لاقتضاء طاعتها، وإنفاذ أهلها على السلطان في الوفد، واستقرّا بتلمسان يومئذ واستعملا في خطة   [1] وفي نسخة ثانية: مسمتا، واستعملت هنا بمعنى مرضعا. [2] أي لطلب العلم. وربّما تكون محرفة عن (الطب) . [3] وفي نسخة ثانية: الحاجب ابن غمر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 القضاء متعاقبين أيام بني عبد الواد وأيام السلطان أبي الحسن. وتعصّب على بن أبي عمرو أيام قضائه جماعة من مشيخة البلد، وسعوا به إلى السلطان أبي الحسن، وتظلّموا فأشكاهم على علم ببراءته، واختصّه بتأديب ولده فارس هذا وتعليمه، فأفرغ وسعه في ذلك وربّى ولده محمدا هذا الحاجب مع السلطان أبي عنان توأما وخليلا وألقى عليه محبته حتى إذا خلص له الملك رفع رتبة محمد بن أبي عمرو هذا، ورقاه من منزلة إلى أخرى حتى إذا أربى به على سائر المراتب، وجعل إليه العلامة والقيادة والحجابة والسفارة وديوان الجند والحساب والقهرمة وسائر ألقاب دولته، وخصوصيات داره، فانصرفت إليه الوجوه، ووقفت ببابه الأشراف من الأعياص والقبائل والشرفاء والعلماء، وسرّب إليه العمّال أموال الجباية تزلفا، وطال أمره واستيلاؤه على السلطان ونفس عليه رجال الدولة ووزراؤها ما آتاه الله من الحظ، حتى إذا خلا لهم وجه السلطان منه عند نهوضه إلى بجاية، حامت أغراض السعاية على مكانه فقرطست وألقى السلطان أذنه إلى استماعها. فلمّا رجع من بجاية، وكانت له الدالّة على السلطان، وجدّ عليه في قبول الألاقي. ولقيه مغاضبا فتنكّر له السلطان، ثم تجنّى بطلب الغيبة عن الدولة، ويعقد له على بجاية متوهّما أنّ السلطان ضنين به، فبادر السلطان إلى إسعافه، وبدا له ما لم يحتسب من الأعراض عنه. ورجع إلى الرغبة في الإقالة فلم يسعف. وعقد له على حرب قسنطينة وحكّمه في المال والجيش، وارتحل في شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة واحتل ببجاية آخرها وأشتى بها. ونصب الموحدون تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المعتقل عندهم من لدن عهد المولى الفضل واعتقاله إيّاه، فنصّبوه للأمر لتفريق كلمة بني مرين وجمعوا له الآلة والفساطيط، وقام بأمره ميمون بن علي لمنافسته مع أخيه يعقوب، وسمع بخبره يعقوب، فأغذّ السير بحاله من بلاد الزاب، وفرّق جمعهم وردّهم على أعقابهم، وأحجزهم بالبلد. ولمّا انصرم الشتاء وقضى منسك الأضحى، عسكر بساحة البلد، واعترض العساكر وأزاح عللهم، وفرّق أعطياتهم، وارتحل إلى منازلة قسنطينة، واجتمع إليه الزواودة بحللهم، وجمع المولى أبو زيد صاحب قسنطينة من كان على دعوته من أحياء بونة وميمون بن علي بن أحمد وشيعته من الزواودة، وعقد عليهم لحاجبه نبيل وسرّحه للقاء ابن أبي عمرو وعساكره، فأوقع بهم الحاجب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 لجمادى من سنة خمس وخمسين وسبعمائة واكتسح أموالهم ونازل قسنطينة حتى تفادوا منه بتمكينه من تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المنصوب للأمر، فاقتادوه إليه وأشخصه إلى أخيه السلطان. وأوفد المولى أبو زيد ابنه على السلطان أبي عنان، فتقبّل وفادته وشكر مراجعته، وانكفأ الحاجب ابن أبي عمرو إلى بجاية، وأقام بها إلى أن هلك في المحرم سنة ست وخمسين وسبعمائة فذهب حميد السيرة عند أهل البلد، وتفجّعوا لمهلكه، وبعث السلطان دوابه لارتحال عياله وولده، ونقل شلوه إلى مقبرة أبيه بتلمسان. وسرّح ابنه أبا زيّان في عساكر بني مرين لمواراته بها. وعقد على بجاية لعبد الله بن علي بن سعيد وزيره، فنهض إليها في شهر ربيع من سنة ست وخمسين وسبعمائة واستقرّ بها وتقبّل ما حمده الناس من مذاهب الحاجب وسيرته فيها على ما نذكره، وجهّز العساكر إلى حصار قسنطينة إلى أن كان من فتحها ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن خروج أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن بجبل السكسيوي ومكر عامل درعة به ومهلكه كان السلطان أبو عنان بعد مهلك أبيه لحق به في جملته أخواه أبو الفضل محمد وأبو سالم إبراهيم، وتدبّر في ترشيحهما وحذر عليهما مغبته، فأشخصهما إلى الأندلس، واستقرّا بها في إيالة أبي الحجّاج ابن السلطان أبي الوليد ابن الرئيس أبي سعيد. ثم ندم على ما أتاه من ذلك، فلما استولى على تلمسان والمغرب الأوسط، ورأى أن قد استفحل أمره واعتز بسلطانه، أوعز إلى أبي الحجّاج أن يشخصهما إليه ليكون مقامهما لديه أحوط للكلمة من أن يعتمد على تفريقهما سماسرة الفتن. وخشي أبو الحجّاج عليهما غائلته فأبى من إسلامهما إليه، وأجاب الرسل بأنه لا يخفر ذمّته وجوار المسلمين المجاهدين، فأحفظ السلطان كلمته، وأوعز إلى حاجبه محمد بن أبي عمرو بأن يخاطبه في ذلك بالتوبيخ واللائمة، فكتب له كتابا قرّعه فيه وقفني عليه الحاجب ببجاية أيام كوني معه، فقضيت عجبا من فصوله وأغراضه، ولما قرأه أبو الحجّاج دسّ إلى كبيرهما أبي الفضل باللحاق بالطاغية، وكانت بينهما ولاية ومخالصة منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، فنزع إليه أبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 الفضل وأجاره، وجهز به أسطولا إلى مراسي المغرب. وأنزله بساحة السوس، فلحق بالسكسيوي عبد الله ودعا لنفسه. وبلغ الخبر إلى السلطان بين مقدم حاجبه ابن أبي عمرو من فتح بجاية سنة أربع وخمسين وسبعمائة فجهّز عساكره إلى المغرب، وعقد على حرب السكسيوي لوزيره فارس بن ميمون بن وردار وسرّحه إليه، فنهض من تلمسان لربيع سنة أربع وخمسين وسبعمائة وأغذّ السير إلى السكسيوي ونزل بمخنقه، وأحاط به، واختطّ مدينة لمعسكره وتجهيز كتائبه بسفح جبله، سماها القاهرة. واستبدّ الحصار على السكسيوي وأرسل إلى الوزير في الرجوع إلى طاعته المعروفة، وأن ينبذ العهد إلى أبي الفضل، ففارقه وانتقل إلى جبال المصامدة. ودخل الوزير فارس إلى أرض السوس فدوّخ أقطارها، ومهّد الحال [1] ، وسارت الألوية والجيوش في جهاته، ورتّب المسالح في ثغوره وأمصاره مثل ايغري وفوريان وتارودانت، وثقف أطرافه وسدّ فروجه. وسار أبو الفضل في جبال المصامدة إلى أن انتهى إلى صناكة، وألقى بنفسه على ابن حميدي منهم مما يلي بلاد درعة، فأجاره وقام بأمره. ونازلة عامل درعة يومئذ عبد الله بن مسلم الزردالي من مشيخة دولة بني عبد الواد، كان اصطنعه السلطان أبو الحسن منذ تغلّبه عليهم، وفتحه لتلمسان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فاستقرّ في دولتهم، ومن جملة صنائعهم، فأخذ بمخنق ابن حميدي وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إليه، وداخله في التقبّض على أبي الفضل، وأن يبذل له في ذلك ما أحبّ من المال، فأجاب ولاطف عبد الله بن مسلم الأمير أبا الفضل ووعده من نفسه الدخول في الأمر، وطلب لقاءه، فركب إليه أبو الفضل. ولما استمكن منه عبد الله بن مسلم تقبّض عليه، ودفع لابن الحميدي ما اشترط له من المال، وأشخصه معتقلا إلى أخيه السلطان أبي عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة فأودعه السجن، وكتب بالفتح إلى القاصية. ثم قتله لليال من اعتقاله خنقا بمحبسه. وانقضى أمر الخوارج، وتمهّدت الدولة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: ومهّد انحاءه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 (الخبر عن انتقاض عيسى بن الحسن بجبل الفتح ومهلكه) كان عيسى بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق هذا من مشيخة بني مرين، وكان صاحب شوراهم لعهده، وقد كنا قصصنا من أخبار أبيه الحسن عند ذكر دولة أبي الربيع. وكان السلطان أبو الحسن قد عقد له على ثغور عمله بالأندلس، وأنزله بجبل الفتح عند ما أكمل بناءه وجعل إليه النظر في مسالح الثغور وتفريق العطاء على مسالحها، فطال عهد ولايته ورسخ فيها قدمه، وكان السلطان أبو الحسن يبعث عنه في الشورى متى عنت. وحضره عند سفره إلى افريقية وأشار عليه بالاقتصار عنها، وأراه ان قبائل بني مرين لا تفي اعدادهم بمسالح الثغور إذا رتبت شرقا وغربا وعدوة البحر وأنّ إفريقية تحتاج من ذلك إلى أوفر الأعداد وأشدّ الشوكة، لتغلّب العرب عليها، وبعد عهدهم بالانقياد، فأعرض السلطان عن نصيحته لما كان شره إلى تملكها، وصرفه إلى مكان عمله بالثغور الأندلسية. ولما كانت نكبة القيروان وانتزى الأبناء بفاس وتلمسان، أجاز البحر لحسم الداء ونزل بغسّاسة ثم انتقل إلى وطنه بتازى وجمع قومه بني عسكر، وألقى السلطان أبا عنان قد هزم عساكر ابن أخيه وأخذ بمخنقه، فأجاب عليه وبيته بمعسكره من ساحة البلد الجديد وعقد السلطان أبو عنان على حربه لصنيعته سعيد بن موسى العجيسي، وأنزله بثغر بلاد بني عسكر على وادي بوحلوا. وتواقفا كذلك أياما حتى تغلّب السلطان أبو عنان على البلد الجديد، ثم أرسل عيسى بن الحسن في الرجوع إلى طاعته وأبطأ عنه صريخ السلطان أبي الحسن بإفريقية فراجعه واشترط عليه، فتقبل وسار إليه فتلقاه السلطان وامتلاء سرورا بمقدمه، وأنزله بصدوره [1] وجعل الشورى إليه في مجلسه، واستمرّت على ذلك حاله. ولما تمكّنت حال ابن أبي عمرو بعد مهلك السلطان أبي الحسن انفرد بخلة السلطان ومناجاته، وحجبه عن الخاصة والبطانة، أحفظه ذلك ولم يبدها. واستأذن السلطان في الحجّ، فأذن له وقضى فرضه، ورجع إلى محله من بساط السلطان سنة   [1] وفي نسخة ثانية: وأنزله قصوره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 ست وخمسين وسبعمائة ولقي ابن أبي عمرو بجباية، وتطارح عليه في ان يصلح حاله عند سلطانه، فوعده في ذلك، ولما وفد على السلطان وجده قد استبدّ في الشورى، وتنكّر للخاصة والجلساء، فاستأذنه في الرجوع إلى محلّه من الثغر لإقامة رسم الجهاد فأذن له. وأجاز البحر إلى جبل الفتح من سنته، وكان صاحب ديوان العطاء بالجبل يحيى الفرقاجي، وكان مستظهرا على العمّال، وكان ابنه أبو يحيى قدم برم بمكانه. فلمّا وصل عيسى إلى الجبل اتبعه السلطان بأعطيات المسالح مع مسعود بن كندوس [1] من صنائع دولته، فسرّب الفرقاجي إلى الضرب على يده شأنه مع ابنه أيام مغيبه، وأنف عيسى من ذلك فتقبّض عليه، وأودعه المطبق، وردّ ابن كندوس على عقبه، وأركبه السفين من ليلته إلى سبتة، وجاهر بالخلعان، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي عنان فقلق لذلك، وقام في ركائبه وقعد، وأوعز بتجهيز الأساطيل، وظنّ أنه قد تدبّر من الطاغية وابن الأحمر. وبعث أحمد بن الخطيب قائد البحر بطنجة عينا على شأنهم، فوصل إلى مرسى الجبل. وكان عيسى بن الحسن لما جاهر بالخلعان تمشّت رجالات الثغر وعرفاء الرجل من غمارة الغزاة الموطنون بالجبل، وتحدّثوا في شأنه، وامتنعوا من الخروج على السلطان، وتآمروا في إسلامه برمته. وخلا به سليمان بن داود من عرفاء العسكر [2] ، كان من خواصه وأهل شوراه، وكان عيسى قد مكن قومه عند السلطان واستعمله على رنده، فلما جاهر عيسى بالخلعان، وركب ظهر الغدر، خالفه سليمان هذا إلى طاعة السلطان، وأنفذ كتبه وطاعته، واشتبه عليه الأمر فندم إذ لم يكن بني أمره على أساس من الرأي، فلما احتلّ أسطول أحمد بن الخطيب بمرسى الجبل، خرج إليه وناشده الله والعهد أن يبلغ السلطان طاعته، والبراءة مما صنع أهل الجبل، ونسبها إليهم. فعند ذلك خشي غمارة على أنفسهم، فثاروا به، ولجأ إلى الحصن فاقتحموه عليه وشدّوه وابنه وثاقا، وألقوه في أسطول ابن الخطيب، وأنزله بسبتة وطيّر للسلطان بالخبر، فخلع عليه وأمر خاصّته فخلعوا عليه. وبعث عمر ابن وزيره عبد الله بن علي وعمر بن العجوز قائد جند النصارى، فأحضروهما بدار السلطان يوم منى من سنة ست وخمسين وسبعمائة وجلس لهما السلطان ووقفا بين يديه وتنصّلا واعتذرا، فلم يقبل منهما وأودعهما السجن وشدد   [1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ابن كندوز [2] وفي نسخة ثانية: سليمان بن داود بن أعراب العسكري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 وثاقهما، حتى قضى منسك الأضحى. ولما كان ختم سنته أمر بهما فجنبا إلى مصارعهما وقتل عيسى قعصا بالرماح، وقطع ابنه أبو يحيى من خلاف، وأبى من مداواة قطعه، فلم يزل يتخبّط في دمه إلى أن هلك لثالثة [1] قطعه، وأصبحا مثلا في الآخرين، وعقد على جبل الفتح وسائر ثغور الأندلس لسليمان بن داود إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن نهوض السلطان الى فتح قسنطينة وفتحها ثم فتح تونس عقبها) لما هلك الحاجب محمد بن أبي عمرو، عقد السلطان على ثغور بجاية وما وراءها من بلاد إفريقية لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد، وسرّحه إليها وأطلق يده في الجباية والعطاء. وكانت جبال ضواحي قسنطينة قد تملكها السلطان لما كانت الزواودة متغلّبة عليها. وكان عامّة أهل ذلك الوطن قبائل سدويكش، وعقد السلطان عليهم لموسى ابن إبراهيم بن عيسى، وأنزله بتاوريرت آخر عمل بجاية في أقاربه وولده وصنائعه. ولما نزل ابن أبي عمرو بجاية وأخذ بمخنق قسنطينة، ثم أرحل عنها على ما عقد من السلم مع المولى الأمير أبي زيد، أنزل موسى بن إبراهيم بميلة، فاستقرّ بها. ولمّا ولي الوزير عبد الله بن علي أمر إفريقية، أوعز إليه السلطان بمنازلة قسنطينة، فنزلها سنة سبع وخمسين وسبعمائة وأخذ بمخنقها، ونصب المنجنيق عليها، واشتدّ الحصار بأهلها، وكادوا أن يلقوا باليد لولا ما بلغ العسكر من الإرجاف بمهلك السلطان فأفرجوا عنها، ولحق المولى أبو زيد ببونة، وأسلم البلد إلى أخيه مولانا الأمير أبي العبّاس أيّده الله تعالى، عند ما وصل إليه من إفريقية، كان بها مع العرب طالبا ملكهم بتونس، ومجلبا بهم على ابن تافراكين منذ نازلوا تونس سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة كما مرّ، فلمّا رجع الآن إلى قسنطينة مع خالد بن حمزة، داخل المولى أبا زيد في خروجه إلى حصار تونس، وإقامة مولانا أبي العبّاس بقسنطينة، فأجاب لذلك وخرج معه، ودخل مولانا أبو العبّاس إلى قسنطينة، ودعا لنفسه، وضبط قسنطينة وكان مدلا ببأسه وإقدامه، وداخله بعض المنحرفين من بني مرين من أولاد   [1] وفي نسخة ثانية: لثانية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 بو سعيد وسدويكش في تبييت موسى بن إبراهيم بمعسكره من ميلة، فبيّتوه وانتهبوا معسكره وقتلوا أولاده وخلص إلى تاوريرت، ثم إلى بجاية، ولحق بمولانا السلطان مفلولا. ونكر السلطان على وزيره عبد الله بن علي ما وقع بموسى بن إبراهيم، وأنه قصّر في إمداده، فسرّح شعيب بن ميمون وتقبّض عليه، وأشخصه إلى السلطان معتقلا، وعقد على بجاية مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود من صنائع دولته، وفي خلال ذلك راسل المولى أبو زيد الحاجب أبا محمد عبد الله بن تافراكين المتغلّب على عمّه إبراهيم في النزول لهم عن بونه، والقدوم عليهم بتونس، فقبلوه وأحلّوه محل وليّ العهد، واستعملوا على بونة من صنائعهم، ولما بلغ خبر موسى بن إبراهيم إلى السلطان أيام التشريق من سنة سبع وخمسين وسبعمائة اعتزم على الحركة إلى إفريقية، واضطرب معسكره بساحة البلد الجديد، وبعث في الحشد إلى مراكش. وأوعز إلى بني مرين بأخذ الأهبة للسفر، وجلس للعطاء والاعتراض من لدن وصول الخبر إليه إلى شهر ربيع من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة. ثم ارتحل من فاس وسرّح في مقدمته وزيره فارس بن ميمون في العساكر، وسار في ساقته على التعبية إلى أن احتل ببجاية، وتلوّم لإزاحة العلل. ونازل الوزير قسنطينة. ثم جاء السلطان على أثره ولما أطلّت راياته، وماجت الأرض بعساكره، ذعر أهل البلد، وألقوا بأيديهم إلى الإذعان، وانفضّوا من حول سلطانهم مهطعين إلى السلطان، وتحيّز صاحب البلد في خاصّته إلى القصبة. ووصل أخوه المولى الفضل فطلب الأمان، فبذله السلطان لهم وخرجوا، وأنزلهم بمعسكره أياما، ثم بعث بالسلطان في الاسطول إلى سبتة فاعتقله بها إلى أن كان من أمره ما نذكره بعد. وعقد على قسنطينة لمنصور ابن الحاج خلوف الباباني [1] من مشيخة بني مرين وأهل الشورى منهم، وأنزله بالقصبة في شعبان من سنته، ووصل إليه بمعسكره من ساحة قسنطينة بيعة يحيى بن يملول صاحب توزر، وبيعة علي بن الخلف صاحب نفطة. ووفد ابن مكي مجدّدا طاعته. ووصل إليه أولاد مهلهل أمراء الكعوب وأقتال بني أبي الليل يستحثّونه لملك تونس، فسرّح معهم العساكر وعقد عليهم ليحيى بن رحّو بن تاشفين، وبعث أسطوله في البحر مددا لهم، وعقد عليه للرّئيس محمد بن يوسف   [1] وفي نسخة ثانية: الياباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 الأبكم، وساروا إلى تونس وأخرج الحاجب أبا محمد بن تافراكين سلطانه أبو إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى مع أولاد أبي الليل، وجهّز معه العساكر لما أحسّ بقدوم عساكر السلطان. ووصل الأسطول إلى مرسى تونس فقاتلهم يوما أو بعض يوم، وركب الليل إلى المهديّة فتحصّن بها. ودخل أولياء السلطان إلى تونس في رمضان من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وأقاموا بها دعوته. واحتل يحيى بن رحّو بالقصبة، وأنفذ الأوامر، وكتبوا إلى السلطان بالفتح. ونظر السلطان بعد ذلك في أحوال ذلك، وقبض أيدي العرب من رياح عن الإتاوة التي يسمونها الخفارة فارتابوا، وطالبهم بالرهن فأجمعوا على الخلاف. فأرهف لهم حدّه، وتبيّن يعقوب ابن علي أميرهم مكره، فخرج معهم ولحقوا جميعا بالزاب، وارتحل في أثرهم. وسار يوسف بن مزني عامل الزاب ببعض الطريق أمامه حتى نزل ببسكرة. ثم ارتحل إلى طولقة [1] فتقبّض على مقدّمها عبد الرحمن بن أحمد بإشارة ابن مزني، وخرّب حصون يعقوب بن علي، وأجفلوا إلى القفر أمامه. ورجع عنهم. وحمل له ابن مزني جباية الزاب بعد أن ردّ عامّة معسكره بالقرى من الأدم والحنطة والحملان والعلوفة ثلاث ليال نفذت في ذلك، وكافأه السلطان على صنيعه، فخلع عليه وعلى أهله وولده وأسنى جوائزهم ورجع إلى قسنطينة، واعتزم على الرحلة إلى تونس. وضاق ذرع العساكر بشأن النفقات والأبعاد في المذهب، وارتكاب الخطر في دخول افريقية، فتمشّت رجالاتهم في الانفضاض عن السلطان. وداخلوا الوزير فارس بن ميمون فوافقهم على ذلك وأذن المشيخة والنقباء لمن تحت أيديهم من القبائل في اللحاق بالمغرب حتى تفردوا، وأنهى إلى السلطان أنّهم تآمروا في قتله. ونصب إدريس بن أبي عثمان بن أبي العلاء للأمر، فأسرّها في نفسه ولم يبدها لهم. ورأى قلّة من معه من العساكر، وعلم بانفضاضهم، فكرّ راجعا إلى المغرب بعد أن ارتحل عن قسنطينة مرحلتين إلى الشرق، وأغذ السير إلى فاس، واحتل بها غرّة ذي الحجة من سنته. وتقبّض يوم دخوله على وزيره فارس بن ميمون، اتهمه بمداخلة بني مرين في شأنه، وقتله رابع أيام التشريق قعصا بالرماح، وتقبّض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع منهم السجن، وبلغ إلى الجهات خبر رجوعه من قسنطينة إلى   [1] مدينة بالمغرب من ناحية الزاب الكبير من صقع الجريد (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 المغرب فارتحل أبو محمد بن تافراكين من المهديّة إلى تونس، ولما أطلّ عليها ثار شيعته بالبلد على من كان بها من عساكر السلطان، وخلصوا إلى السفين، فنجوا إلى المغرب، وجاء على أثرهم يحيى بن رحّو بمن معه من العساكر من أولاد مهلهل، كان بناحية الجريد لاقتضاء جبايته، واجتمعوا جميعا بباب السلطان، وأرجأ حركته إلى العام [1] القابل، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن وزارة سليمان بن داود ونهوضه بالعساكر إلى إفريقية) لما رجع السلطان من إفريقية ولم يستتم فتحها، بقي في نفسه منها شيء. وخشي على ضواحي قسنطينة من يعقوب بن علي ومن معه من الزواودة المخالفين، فأهمّه شأنهم، واستدعى سليمان بن داود من مكانه بثغور الأندلس، وعقد له على وزارته، وسرّحه في العساكر إلى إفريقية، فارتحل إليها في ربيع من سنة تسع وخمسين وسبعمائة وكان يعقوب بن علي لمّا كشف وجهه في الخلاف، أقام السلطان مكانه أخاه ميمون بن علي منازعة، وقدّمه على أولاد محمد من الزواودة، وأحله بمكانه من رياسة البدو والضواحي، ونزع إليه عن أخيه يعقوب الكثير من قومهم، وتمسّك بطاعة السلطان طوائف من أولاد سبّاع بن يحيى وكبيرهم يومئذ عثمان بن يوسف بن سليمان، فانحاشوا جميعا للوزير ونزلوا على معسكره بحللهم. وارتحل السلطان في أثره حتى احتل بتلمسان فأقام بها لمشارفة أحواله منها، واحتل الوزير سليمان بوطن قسنطينة. وأغذّ السير إلى عمال الزاب يوسف بن مزني بأن تكون يده معه، وأن يؤامره في أحوال الزواودة لرسوخه في معرفتها، فارتحل إليه من بسكرة، ونازلوا جبل أوراس واقتضوا جبايته ومغارمه. وشرّدوا المخالفين من الزواودة عن العيث في الوطن، فتمّ غرضهم من ذلك. وانتهى الوزير وعساكر السلطان إلى أوّل أوطان إفريقية من آخر مجالات رياح، وانكفأ راجعا إلى المغرب. ووافى السلطان بتلمسان، ووصلت معه وفود العرب الذين أبلوا في الخدمة، فوصلهم السلطان   [1] وفي نسخة ثانية: الى اليوم القابل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 وخلع عليهم وحملهم، وفرض لهم العطاء بالزاب وكتب لهم به، وانقلبوا إلى أهلهم، ووفد على أثرهم أحمد بن يوسف بن مزني، أوفده أبوه بهديّة السلطان من الخيل والرقيق والرزق [1] فتقبّلها السلطان وأكرم وفادته وأنزله، واستصحبه إلى فاس ليريه أحوال كرامته، وليستبلغ في الاحتفاء به، واحتل بدار ملكه منتصف ذي القعدة من سنة تسع وخمسين وسبعمائة والله أعلم. الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان ونصب السعيد للأمر باستبداد الوزير حسن بن عمر في ذلك لما وصل السلطان إلى دار ملكه بفاس، احتل بها بين يدي العيد الأكبر حتى إذا قضى الصلاة من يوم الأضحى أدركه المرض، وأعجله طائف الوجع عن الجلوس يوم العيد على العادة، فدخل إلى قصره ولزم فراشه، واستبدّ به وجعه، وأطاف به النساء يمرّضنه. وكان ابنه أبو زيان ولي عهده، وكان وزيره يحيى بن موسى القفولي [2] من صنائع دولتهم وأبناء وزرائهم، قد عقد له السلطان على وزارته واستوصاه به، فتعجّل الأمر، وداخل رءوس بني مرين في الانحياش إلى أميرهم والفتك بالوزير الحسن بن عمر وداخله في ذلك عمر بن ميمون لعداوة بينهما وبين الوزير فخشيهما الحسن بن عمر على نفسه. وفاوض عليه أهل المجلس بذات صدره، وكانت نفرتهم عن وليّ العهد مستحكمة لما أبلوا من سوء خلته وشرّ ملكته، فاتفقوا على تحويل الأمر عنه. ثم نمي إليهم أنّ السلطان مشرف على الهلكة لا محالة، وأنه موقع بهم من قبل مهلكه، فأجمعوا أمرهم على الفتك به والبيعة لأخيه السعيد طفلا خماسيا، وباكروا دار السلطان فتقبّضوا على وزيره موسى بن عيسى وعمر بن ميمون فقتلوهما، وأجلسوا السعيد للبيعة. وأوعز وزيره مسعود بن رحو بن ماسى بالتقبّض على أبي زيّان من نواحي القصر، فدخل إليه وتلطّف في إخراجه من بين الحرم. وقاده إلى أخيه فبايع وتلّ إلى بعض حجر القصر، فأتلف فيها مهجته. واستقلّ الحسن بن عمر بالأمر يوم الأربعاء الرابع والعشرين لذي الحجة من سنة تسع   [1] وفي نسخة ثانية: الدرق. [2] وفي نسخة ثانية: العقولي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 وخمسين وسبعمائة والسلطان أثناء ذلك على فراشه يجود بنفسه. وارتقب الناس دفنه يوم الأربعاء والخميس بعده، فلم يدفن فارتابوا، وفشا الكلام وارتاب الجماعة، فأدخل الوزير زعموا إليه بمكانه من بيته من غطه حتى أتلفه. ودفن يوم السبت، وحجب الحسن بن عمر الولد المنصوب للأمر، وأغلق عليه بابه، وتفرّد بالأمر والنهي دونه. ولحق عبد الرحمن ابن السلطان أبي عنان بجبل الكاي يوم بيعة أخيه، وكان أسنّ منه وإنما آثروه لمكان ابن عمّه مسعود بن ماسي من وزارته، فبعثوا إليه من لاطفه واستنزله على الأمان، وجاء به إلى أخيه فاعتقله الحسن بالقصبة من فاس. وبعث على أبناء السلطان الأصاغر الأمراء بالثغور، فجاء المعتصم من سجلماسة، وامتنع المعتمد بمراكش، وكان بها في كفالة عامر بن محمد الهنتاتي استوصاه به السلطان وجعله هنالك لنظره، فمنعه من الوصول، وخرج به من مراكش إلى معقلة من جبل هنتاتة، وجهّز الوزير العساكر لمحاربته، ولم يزل هنالك إلى أن استنزله عمّه السلطان أبو سالم عند استيلائه على ملك المغرب، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبر عن تجهيز العساكر الى مراكش ونهوض الوزير سليمان بن داود لمحاربة عامر بن محمد كان عامر بن محمد بن علي شيخ هنتاتة من قبائل المصامدة. وكان السلطان يعقوب قد استعمل أباه محمد بن علي على جبايتهم، والسلطان أبو سعيد استعمل عمّه موسى بن علي وربّي عامر هذا في كفالة الدولة، وسار في جملة السلطان إلى إفريقية، وولّاه السلطان أحكام الشرطة بتونس. ولمّا ركب البحر إلى المغرب أركب حرمه وحظاياه في السفن، وجعلهم إلى نظر عامر بن محمد. وأجازوا البحر إلى الأندلس فنزلوا المريّة وبلغهم غرق السلطان أبي الحسن وعسكره، فأقام بهم بمكانه من المريّة، ودعي للسلطان أبي عنان، فلم يجب داعية وفاء ببيعة أبيه، حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بدارهم بالجبل، ورعى لهم السلطان أبو عنان إجارتهم لأبيه، حين لفظته البلاد وتحاماه الناس، أجمع أمره على الوفادة عليه، فوفد بمن معه من الحرم. وأكرم السلطان أبو عنان وفادته وأحسن نزله، ثم عقد له على جباية المصامدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة وبعثه لها من تلمسان، فاضطلع بهذه الولاية وأحسن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 الغناء فيها، والكفاية عليها، حتى كان السلطان أبو عنان يقول: وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية المشرق من سلطاني كما كفاني عامر بن محمد ناحية المغرب، وأتورع، ونافسه الوزراء في مقامه ذلك عند السلطان ورتبته. وانفرد الحسن بن عمر آخر الأمر بوزارة السلطان، واشتدّت منافسته وانتهت إلى العداوة والسعاية. وكان السلطان بين يدي مهلكه ولّى أبناءه الأصاغر على أعمال ملكه، فعقد لابنه محمد المعتمد على مراكش، واستوزر له، وجعله إلى نظر عامر واستوصاه به. فلمّا هلك السلطان واستقل الحسن بن عمر بالأمر ونصّب السعيد للملك، استقدم الأبناء من الجهات، فبعث عن المعتمد من مراكش فأبى عليه عامر من الوفادة عليهم، وصعد به إلى معقلة من جبل هنتاتة، وبلغ الحسن بن عمر خبره، فجهّز إليه العساكر وأزاح عللهم، وعقد على حربه للوزير سليمان بن داود مساهمه في القيام بالأمر، وسرّحه في المحرم سنة ستين وسبعمائة، فأغذ السير إلى مراكش واستولى عليها، وصعد إلى الجبل فأحاط به، وضيّق على عامر وطاول منازلته. وأشرف على اقتحام معقلة إلى أن بلغه خبر افتراق بني مرين، وخروج منصور بن سليمان من أعياص الملك على الدولة، وأنه منازل للبلد الجديد، فانفضّ العسكر من حوله وتسابقوا إلى منصور بن سليمان، فلحق به الوزير سليمان بن داود وتنفّس الحصار عن عامر، إلى أن استولى السلطان أبو سالم على ملك المغرب في شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستقدم عامرا والمعتمد ابن أخيه من مكانهم بالجبل، فقدم عليه وأسلمه إليه كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن ظهور أبي حمو بنواحي تلمسان وتجهيز العساكر لمدافعته، ثم تغلبه وما تخلل ذلك من الأحداث كان ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن هؤلاء أربعة كما ذكرناه في أخبارهم، وكان يوسف كبيرهم، وكان سكوتا منتحلا لطرق الخير لا يريد علوا في الأرض، ولما هلك أخوه عثمان بتلمسان، عقد له على هنين [1] ، وكان ابنه يوسف بن موسى [2]   [1] وفي نسخة ثانية: تنس. [2] وفي نسخة ثانية: وكان ابنه موسى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 متقبّلا مذهبه في السكوت والدعة ومجانبة أهل الشرّ، ولما تغلّب السلطان أبو عنان عليهم سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وفرّ أبو ثابت إلى قاصية المشرق، واستلبهم [1] قبائل زواوة وأرجلوهم عن خيلهم سعوا على أقدامهم، وانتبذ أبو ثابت وأبو زيّان ابن أخيه أبي سعيد وموسى ابن أخيه يوسف ووزيرهم يحيى بن داود ناحية عن قومهم، وسلكوا غير طريقهم، وتقبّض على أبي ثابت ويحيى بن داود محمد بن عثمان، وخلص موسى إلى تونس، فنزل على الحاجب محمد بن تافراكين وسلطانه خير نزل، وأجارهم مع فلّ من قومه خلصوا إليهم وأسنوا جرايتهم. وبعث السلطان أبو عنان فيهم إلى ابن تافراكين فأبى من إسلامهم وجاهر بإجارتهم على السلطان. ولما استولت عساكر السلطان على تونس، وأجفل عنها سلطانها أبو إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيى، خرج موسى بن يوسف هذا في جملته، ولما رجع السلطان إلى المغرب صمد المولى أبو إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيى، وابن أخيه المولى أبي زيد صاحب قسنطينة مع يعقوب بن علي وقومه من الزواودة إلى منازلة قسنطينة وارتجاعها، وسار في جملتهم موسى بن يوسف هذا فيمن كان عنده من زناتة قومه. وكان بنو عامر من زغبة خارجين على السلطان أبي عنان منذ غلبه بنو عبد الواد على تلمسان. وكانت رياستهم إلى صغير بن عامر بن إبراهيم، لحق بإفريقية في قومه ونزلوا على يعقوب بن علي، وجاوروه بحللهم وظعنهم، فلما أفرجوا عن قسنطينة بعد امتناعها، واعتزم صغير على الرحلة بقومه إلى وطنهم من صحراء المغرب الأوسط، دعوا موسى بن يوسف هذا إلى الرحلة معهم لينصبوه للأمر، ويجلبوا به على تلمسان، فخلّى الموحدون سبيله، وأعانوه بما اقتدروا عليه لوقتهم، وعلى حال سفرهم من آلة وفسطاط. وارتحل مع بني عامر، وارتحل مع صولة بن يعقوب بن علي، وزيّان بن عثمان بن سبّاع من أمراء الزواودة، وصغار [2] بن عيسى في حلل من بني سعيد إحدى بطون رياح. وأغذّوا السير إلى المغرب للعيث في نواحيه. وجمع لهم أقتالهم من سويد أولياء السلطان والدولة، والتقوا بقبلة تلمسان، فانهزمت سويد وهلك عثمان بن ونزمار كبيرهم، وكان مهلك السلطان في خلال ذلك. وكان السلطان حين استعمل الأبناء على الجهات، عقد لمحمد المهدي من أولاده على   [1] وفي نسخة ثانية: واهتبلتهم. [2] وفي نسخة ثانية: دغار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 تلمسان. ولما اتصل الخبر بوفاة السلطان بالمغرب، أغذّوا السير إلى تلمسان، وملكوا ضواحيها، وجهّز الحسن بن عمر لها عسكرا عقد عليه وعلى الحامية الذين بها لسعيد ابن موسى العجيسي من صنائع السلطان. وسرّحه إليها، وسار في جملته أحمد بن مزني فاصلا إلى عمله بعد أن وصله وخلع عليه وحمله، وسار سعيد بن موسى في العساكر إلى تلمسان، واحتل بها في صفر من سنة ستين وسبعمائة وزحف إليه جموع بني عامر وسلطانهم أبو حمّو موسى بن يوسف، فغلبوهم على الضاحية وأحجزوهم بالبلد. ثم ناجزوهم الحرب أياما، واقتحموها عليهم لليال خلون من ربيع، واستباحوا من كان بها من العسكر، وامتلأت أيديهم من أسلابهم ونهابهم. وخلص سعيد بن موسى بابن السلطان إلى حلّة صغير بن عامر فأجاره ومن جاء على أثره من قومه، وأوفد برجالات من بني عامر ينصبون [1] له الطريق أمامه إلى أن أبلغوه مأمنه من دار ملكهم، واستولى أبو حمّو على ملك تلمسان، واستأثر بالهدية التي ألفى بمودعها، كان السلطان انتقاها وبعث بها إلى صاحب برشلونة بطرة بن ألقنط وبعث إليه فيه بفرس أدهم من مقرباته بمركب ولحام مذهبين ثقيلين. فاتخذ أبو حمّو ذلك الفرس لركوبه، وصرف الهديّة في مصارفه ووجوه مذاهبه. والله غالب على أمره. الخبر عن نهوض الوزير مسعود بن ماسي إلى تلمسان وتغلبه عليها ثم انتقاضه ونصبه سليمان بن منصور للامر لما بلغ الوزير الحسن بن عمر خبر تلمسان واستيلاء أبي حمو عليها، جمع مشيخة بني مرين وأمرهم بالنهوض إليها، فأبوا عليه من النهوض بنفسه، وأشاروا بتجهيز العساكر ووعدوه مسيرهم كافة، ففتح ديوان العطاء وفرّق الأموال وأسنى الصلات وأزاح العلل، وعسكر بساحة البلد الجديد. ثم عقد عليهم لمسعود بن رحّو بن ماسي وحمل معه المال وأعطاه الآلة وسار في الألوية والعساكر. وكان في جملته منصور بن سليمان بن منصور بن أبي مالك بن يعقوب بن عبد الحق، وكان الناس يرجفون بأنّ   [1] وفي نسخة ثانية: ينفضون: نفض المكان واستنقضه إذا نظر جميع ما فيه حتى يعرفه. وعن الليث: النفضة، بالتحريك، الجماعة يبعثون في الأرض متجسسين لينظروا هل فيها عدو أو خوف (لسان العرب) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 سلطان المغرب صائر إليه بعد مهلك أبي عنان. وشاع ذلك على ألسنة الناس وذاع وتحدّث به السمّر والندمان، وخشي منصور على نفسه لذلك، فجاء إلى الوزير الحسن وشكا إليه ذلك، فانتهره أن يختلج بفكره هذا الوسواس انتهارا خلا من وجه السياسة، فانزجر واقتصر. ولقد شهدت هذا الموطن، ورحمت ذلّة انكساره وخضوعه في موقفه. ورحل الوزير مسعود في التعبية وأفرج أبو حمّو عن تلمسان، ودخلها مسعود في ربيع الثاني واستولى عليها. وخرج أبو حمّو إلى الصحراء، وقد اجتمعت عليه جموع العرب من زغبة والمعقل. ثم خالفوا بني مرين إلى المغرب واحتلوا بانكاد بحللهم وظواعنهم، وجهز إليهم مسعود بن رحّو عسكرا من جنوده انتقى فيه مشيخة بني مرين وأمراءهم، وعقد عليهم لعامر ابن عمّه عبّو بن ماسي [1] ، وسرّحهم فزحفوا إليه بساحة وجدة، وصدقهم العرب الحملة، فانكشفوا واستبيح معسكرهم، واستلبت مشيختهم، وأرجلوا عن خيلهم، ودخلوا إلى وجدة عراة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بتلمسان، وكان في قلوبهم مرض من استبداد الوزير عليهم وحجره لسلطانهم، فكانوا يتربّصون بالدولة. فلما بلغ الخبر وحاص الناس لها حيصة الحمر، خلص بعضهم نجيا بساحة البلد، واتفقوا على البيعة ليعيش بن علي بن أبي زيّان ابن السلطان أبي يعقوب فبايعوه. وانتهى الخبر إلى الوزير مسعود بن رحّو، وكان متحيّنا السلطان منصور بن سليمان فاستدعاه وأكرهه على البيعة، وبايعه معه الرئيس الأكبر من بني الأحمر، وقائد جند النصارى القهردور [2] ، وتسايل إليه الناس، وتسامع الملأ من بني مرين بالخبر، فتهاووا إليه من كل جانب. وذهب يعيش بن أبي زيّان لوجهه، فركب البحر وخلص إلى الأندلس، وانعقد الأمر لمنصور بن سليمان. واحتمل بني مرين على كلمته، وارتحل بهم من تلمسان يريد المغرب. واعترضهم جموع العرب في طريقهم فأوقعوا بهم، وامتلأت أيديهم من أسلابهم وظعنهم. وأغذّوا السير إلى المغرب، واحتلوا بسبّو في منتصف جمادى الأخيرة، وبلغ الخبر إلى الحسن بن عمر فاضطرب معسكره بساحة البلد. وأخرج السلطان في الآلة والتعبية إلى أن أنزله بفسطاطه. ولما غشيهم الليل انفضّ عنه الملأ إلى السلطان منصور بن سليمان، فأوقد   [1] وفي نسخة ثانية: ماساي. [2] وفي نسخة ثانية: القمندوز. ابن خلدون م 26 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 الشموع وأذكى النيران حوالي الفسطاط، وجمع الموالي والجند وأركب السلطان، ودخل إلى قصره، وانحجز بالبلد الجديد، وأصبح منصور بن سليمان فارتحل في التعبية حتى نزل بكدية العرائس في الثاني والعشرين لجمادى الأخيرة، واضطرب معسكره بها، وغدا عليها بالقتال وشدّ عليها الحملات، وامتنعت يومها. ثم جمع الأيدي على اتخاذ الآلات للحصار. واجتمعت إليه وفود الأمصار بالمغرب للبيعة، ولحقت به كتائب بني مرين التي كانت محجّرة بمراكش لحصار عامر مع الوزير سليمان بن داود فاستوزره، وأطلق عبد الله بن علي وزير السلطان أبي عنان من معتقله بسبتة، فخلص منه خلوص الإبريز بعد السبك. وأمر منصور بن سليمان بتسريح السجون، فخرج من كان بها من دعّار بجاية وقسنطينة، وكانوا معتقلين من لدن استيلاء السلطان أبي عنان على بلادهم. وانطلقوا إلى مواطنهم، وأقام على البلد الجديد يغاديها القتال ويراوحها ونزع عنه إلى الوزير الحسن بن عمر طائفة من بني مرين. ولحق آخرون ببلادهم، وانتقضوا عليه ينتظرون مآل أمره. ولبث على هذه الحال إلى غرّة شعبان، فكان من قدوم السلطان أبي سالم لملك سلفه بالمغرب، واستيلائه عليه، ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن نزول المولى أبي سالم بجبال غمارة واستيلائه على ملك المغرب ومقتل منصور بن سليمان كان السلطان أبو سالم بعد مهلك أبيه واستقراره بالأندلس، وخروج أبي الفضل بالسوس لطلب الأمر، ثم ظفر السلطان أبي عنان به ومهلكه كما ذكرناه، قد تورّع وسكن وسالمه السلطان. ثم لما هلك سلطان الأندلس أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة يوم الفطر بمصلى العيد طعنه أسود مدسوس كان ينسب إلى أخيه محمد من بعض إماء قصرهم. ونصّبوا للأمر ابنه محمدا وحجبه مولاه رضوان [1] . واستبدّ عليه. وكان للسلطان أبي عنان اعتزاز كما ذكرناه، وكان يؤمّل ملك الأندلس. وأوعز إليهم عند ما طرقه طائف المرض سنة سبع وخمسين وسبعمائة أن   [1] وفي نسخة ثانية: روضان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 يبعثوا إليه طبيب دارهم إبراهيم بن زرور الذمّي، وامتنع من ذلك اليهودي، واعتذر وردّوه فتنكّر لهم السلطان، ولما وصل إلى فاس من فتح قسنطينة وإفريقية تقبّض على وزيره والمشيخة من قبله، تجنيا عليهم إذ لم يبادروا السلطان بنفسه أو حاجبه للتهنئة [1] . وأظلم الجوّ بينهم، واعتزم على النهوض إليهم وكانوا منحاشين بالجملة إلى الطاغية بطرة بن أدفونش صاحب قشتالة، منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ثم استبدّ رضوان على الدولة بعد مهلك أبي الحجّاج، فكانت له صاغية إليه، ظاهرها النظر للمسلمين بمسالمة عدوّهم. وكان السلطان أبو عنان يعتدّ ذلك عليهم، وعلم أنه لا بدّ أن يمدّهم بأساطيله ويدافعوه عن الإجازة إليهم. وكان بين الطاغية بطرة وبين قمص برشلونة فتنة هلك فيها أهل ملّتهم، فصرف السلطان قصده إلى قمص برشلونة وخاطبه في اتصال اليد على ابن أدفونش، واجتمع أسطول المسلمين وأسطول النصارى القمص بالزقاق، وضربوا لذلك الموعد وأتحفه السلطان بهديّة سنيّة من متاع المغرب وماعونه، ومركب ذهبيّ صنيع، ومقرب من جياده وأنفذها إليه، فبلغت تلمسان، وهلك قبل وصولها إلى محلها، ولما هلك السلطان أبو عنان أمّل أخوه المولى أبو سالم ملك أخيه، وطمع في مظاهرة أهل الأندلس له على ذلك لما كان بينهم وبين أخيه، واستدعاه أشياع من أهل المغرب، ووصل البعض منهم إليه بمكانه من غرناطة، وطلب الاذن من رضوان في الإجازة، فأبى عليه، فأحفظه ذلك. ونزع إلى ملك قشتالة متطارحا بنفسه عليه أن يجهّز له الأسطول للإجازة إلى المغرب، فاشترط عليه وتقبّل شرطه. وأجازه في أسطوله إلى مراكش، فامتنع عامر من قبوله لما كان فيه من التضييق والحصار بحضرة سليمان بن داود كما ذكرناه. فانكفأ راجعا على عقبه. فلما حاذى طنجة وبلاد غمارة وألقى بنفسه إليهم، ونزل من الصفيحة من بلادهم. واشتملت عليه قبائلهم، وتسايلوا إليه من كل جانب وبايعوه على الموت. وملك سبتة وطنجة، وبها يومئذ السلطان أبو العبّاس بن أبي حفص صاحب قسنطينة لحق بها بعد الخروج من اعتقاله بسبتة كما ذكرناه، فاختصّه المولى أبو سالم   [1] وفي نسخة ثانية: إبراهيم بن زرزر الذمي، وامتنع من ذلك اليهودي، واعتذر واعذره، فنكر لهم السلطان قبله، ولما وصل الى فاس من فتح قسنطينة وافريقية وتقبّض على وزيره والمشيخة من قبله، تجنيا عليهم، إن لم يبادر السلطان بنفسه وحاجبه للتهنئة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 بالصحبة والخلّة، والبواء [1] في اغترابه ذلك، إلى أن استولى على ملكه، وألفى بطنجة الحسن بن يوسف الورتاجني، وكاتب ديوان الجند أبا الحسن بن علي بن السعود، والشريف أبا القاسم التلمساني. فكان منصور بن سليمان ارتاب بهم واتهمهم بمداخلة الوزير الحسن بن عمر بمكانه من البلد الجديد، فصرفهم من معسكره إلى الأندلس، فوافوا الأمير [2] أبا سالم عند استيلائه على طنجة، فصاروا إلى إيالته، واستوزر الحسن بن يوسف، واستكتب لعلامته أبا الحسن علي بن السعود، واختص الشريف بالمجالسة والمراكبة. ثم قام أهل الثغور الأندلسية بدعوته، وأجاز يحيى بن عمر صاحب جبل الفتح بمن كان معه من العسكر، وطالت حصاة المولى أبي سالم واتسع معسكره، وبلغ الخبر إلى الثائر على البلد الجديد منصور بن سليمان، فجهّز عسكرا لدفاعه وعقد عليه لأخويه عيسى وطلحة، وأنزلهما قصر كتامة، وقاتلوه فهزموه، واعتصم بالجبل وبادر الحسن بن عمر من وراء الجدران فبعث طاعته إليه، ووعده بالتمكين من دار ملكه. وداخل بعض أشياع المولى أبي سالم مسعود بن رحّو بن ماسي وزير منصور في النزوع إلى السلطان، وكان قد ارتاب بمنصور وابنه عليّ، فنزع وانفضّ الناس من حول منصور، وتخاذل أشياعه من بني مرين، ولحق بباديس من سواحل المغرب. ومشى أهل العسكر بأجمعهم في ساقاتهم ومواكبهم على التعبية، فلحقوا بالسلطان أبي سالم واستعدوه إلى دار ملكه، فأغذّ السير وخلع الحسن بن عمر سلطانه السعيد من الأمر لتسعة أشهر من خلافته، وأسلمه عمّه وخرج إليه فبايعه. ودخل السلطان إلى البلد الجديد يوم الجمعة منتصف شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستولى على ملك المغرب، وتوافت وفود النواحي بالبيعات، وعقد للحسن بن عمر على مراكش، وجهّزه إليها بالعساكر ريبة بمكانه. واستوزر مسعود بن رحّو بن ماسي والحسن بن يوسف الورتاجني، واصطفى من خواصّه خطيب أبيه الفقيه أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق، وجعل إلى مؤلف هذا الكتاب توقيعه وكتابة سرّه. وكنت نزعت إليه من معسكر منصور بن سليمان بكدية العرايس لما رأيت من اختلال أحواله، ومصير الأمر إلى السلطان، فأقبل عليّ وأنزلني بمحل التنويه،   [1] وفي نسخة ثانية: وألفه. [2] وفي نسخة ثانية: المولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 واستخلصني لكتابته. واستوسق أمره بالمغرب وتقبّض شيعة السلطان بباديس على منصور بن سليمان وابنه عليّ وقادوهم مصفّدين إلى سدّته، وأحضرهم ووبّخهم، وجنبوا إلى مصارعهم، فقتلوا قعصا بالرماح آخر شعبان من سنته. وجمع الأبناء والقرابة المرشّحين من ولد أبيه، وأشخصهم إلى رندة من ثغورهم بالأندلس، ووكّل بهم من يحرسهم، ونزع محمد ابن أخيه أبو عبد الرحمن منهم إلى غرناطة. ثم لحق منها بالطاغية، واستقرّ لديه حتى كان من تملّكه المغرب ما نقصّه إن شاء الله تعالى. وهلك الباقون غرقا بالبحر بإيعاز السلطان بذلك بعد مدّة من سلطانه، أركبهم السفن إلى المشرق، ثم غرّقهم. وخلص الملك من الخوارج والمنازعين، واستوسق له الأمر، والله غالب على أمره. واحتفل السلطان في كرامة مولانا السلطان أبي العبّاس، وأشاد ببره وأوعز باتخاذ دار عامر بن فتح الله وزير أبيه لنزله، ومهّد له المجلس لضيق أريكته، ووعده بالمظاهرة على ملكه إلى أن بعثه من تلمسان عند استيلائه عليها، كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان) لما هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصّب ابنه محمد للأمر، واستبدّ عليه رضوان مولى أبيه، وكان قد رشّح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته. فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم، وقد كان له صهر من ابن عمّه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد في شقيقته فكان يدعوه سرّا إلى القيام بأمره متى أمكنته فرصة في الدولة، فخرج السلطان إلى بعض منتزهاته برياضه، فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين من رمضان من سنة ستين وسبعمائة في بعض أوشاب، جمعهم من الطغام لثورته. وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته، وقربوا إلى إسماعيل فرسه فركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته، وقرعوا طبولهم بسور الحمراء، وفرّ السلطان من مكانه بمنتزهه إلى وادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان، واتصل الخبر بالسلطان المولى أبي سالم، فامتعض لمهلك رضوان، وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم، وأزعج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه لاستقلاله، فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب، وأطلق اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله بن الخطيب، كانوا اعتقلوه لأوّل أمرهم لما كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع. فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه، فأطلقوه. ولحق الرسول أبو القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب، وأجاز لذي القعدة من سنته. وقدم على السلطان بفاس وأجلّ قدومه، وركب للقائه، ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه [1] ، وغصّ بالمشيخة والعلية. ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائقة يستصرخه لسلطانه، ويستحثّه لمظاهرته على أمره. واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة، ونصّ القصيدة: سلا هل لديها من محبّرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونمّ به الزهر وهل باكر الوسميّ دارا على اللوى ... عفت آيها إلّا التوهّم والذكر بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر وجوّي الّذي ربّى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر نبت بي لا عن جفوة وقلالة ... ولا نسخ الوصل الهنيّ لها هجر ولكنّها الدنيا قليل متاعها ... ولذّاتها دأبا تزور وتزوّر فمن لي بنيل القرب منها ودوننا ... مدى طال حتّى يومه عندنا شهر وللَّه عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كلّ جانحة جمر وقد بدّدت درّ الدموع يد النوى ... وللبين أشجان يضيق لها الصدر بكينا على النهر السرور عشيّة ... فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر أقول لأظعاني وقد غالها السري ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر رويدك بعد العسر يسر فأبشري ... بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر وإن تجبن الأيام لم تجبن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخدل الصبر وإن عركت منّي الخطوب مجرّبا ... نقابا تسوّى عنده الحلو والمرّ [2]   [1] وفي نسخة ثانية: بزينته. [2] وفي نسخة ثانية: نفاقا تساوي عنده الحلو والمرّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 فقد عجمت عودا صليتا مقوما [1] ... وعزما كما تمضي المهنّدة البتر إذا أنت بالبيضاء قد زرت منزلي ... فلا اللّحم حلّ ما جنيت [2] ولا الظهر زجرنا بإبراهيم ملء [3] همومنا ... فلمّا رأينا وجهه صدق الزجر بمنتخب من آل يعقوب كلّما ... دجا الخطب لم يكذب لعرمته فخر تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلمّا رأته صدّق الخبر الخبر ندي لو حواه البحر لذّ مذاقه ... ولم يتعقّب مدّه أبدا جزر وباس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أذياله الفتية [4] البكر أطاعته حتى العصم في قنن الربا ... وهشّت إلى تأميله الأنجم الزّهر قصدناك يا مولى الملوك على النوى ... لتنصفنا ممّا جنى عبدك الدهر كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسّف والكبر وعدنا بذاك المجد فانصرف الردى ... ولذنا بذاك العزّ فانهزم الشرّ ولما أتينا البحر نرهب موجه ... ذكرنا بذاك العزّ الغمر فاحتقر البحر [5] خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضلّ في أوصاف من دونك الشعر دعتك قلوب المسلمين وأخلصت ... وقد طاب منها السرّ للَّه والجهر ومدّت إلى الله الأكفّ ضراعة ... فقال لهنّ الله قد قضي الأمر وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحرّ فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ... وقد كان ممّا نابه ليس يفتر وأمّنت بالسّلم البلاد وأهلها ... فلا ضيمة تعدو ولا روعة تعرو وقد كان مولانا أبوك مصرّحا ... بأنك في أولاده الولد البرّ وقد كنت حقا بالخلافة بعده [6] ... على الفور لكن كلّ شيء له قدر   [1] وفي نسخة ثانية: فقد عجمت عددا صليبا على النوى. [2] وفي نسخة ثانية: ما حييت. [3] وفي نسخة ثانية: برء. [4] وفي نسخة ثانية: البتكة. [5] وفي نسخة ثانية: ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا بذاك الغمر ما احتقر البحر [6] وفي نسخة ثانية: وكنت حقيقا بالخلافة بعده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 فأوحشت من دار الخلافة أهلها [1] ... أقامت زمانا لا يلوح بها البدر وردّ عليك الله حقّك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل السّتر وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ... وقد عدموا ركن الأمانة واضطرّوا وزادك بالتمحيص عزّا ورفعة ... وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر وأنت الّذي تدعى إذا دهم الرّدى ... وأنت الّذي ترجى إذا أخلف القطر وأنت إذا جار الزمان بحكمه ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... كسير ومن علياك يلتمس النصر غريب يرجّي منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر فعد يا أمير المؤمنين [2] لبيعة ... موثّقة قد حلّ عقدتها الغدر ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بآل مرين جاءه العزّ والنصر وخذ يا إمام الحقّ للحقّ ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العزّ والأجر وأنت لها يا ناصر الحقّ فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو فإن قيل مال مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش عندك العسكر الحرّ [3] يكفّ بك العادي ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر أعده إلى أوطانه عنك ثانيا ... وقلّده نعماك التي ما لها حصر وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدّهم عنه التغلّب والقهر وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر مرامك سهل لا يؤدك كفله ... سوى أنّه عرض له في الغلى حظر [4] وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد ولكنّ الثناء هو العمر ومن باع ما يفنى بباق مخلّد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر ومن دون ما تبقيه يا مالك العلى ... جياد المذاكي والمحجّلة الغرّ وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأراجلها درّ وشهب إذا ما ضمّرت يوم غارة ... مطهّمة غارت بها الأنجم الزهر   [1] وفي نسخة ثانية: هالة. [2] وفي نسخة ثانية: المسلمين. [3] وفي نسخة ثانية: المجر. [4] وفي نسخة ثانية: سوى عرض ما ان له في العلى خطر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 وأسد رجال من مرين أعزة ... عمائمها بيض وآمالها سمر عليهم من الماذيّ كلّ مفاضة ... تدافع في أعطافها اللّجج الخضر هم القوم إن هبّوا لكشف مملّة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر إذا سئلوا أعطوا، وإن نوزعوا سطوا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عاهدوا برّوا وإن سمعوا العواء وافوا بأنفس ... كرام على هاماتها في الورى البرّ [1] وإن مدحوا هزّوا ارتياحا كأنّهم ... نشاوى تمشّت في معاطفهم خمر وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر أمولاي غاضت فكرتي وتبدّلت ... طباعي، فلا طبع يقيني [2] ولا فكر ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم يبق عين ولا أثر فأوجدت منى فائتا أي فائت ... وأنشرت ميتا ضمّ أشلاءه قبر بدأت بفضل لم أكن لعظمه ... بأهل فحلّ اللّطف وانشرح الصدر وطوّقتني النعمى المضعّفة [3] التي ... يقلّ عليها منّي الحمد والشكر وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود العزّ والجاه والوقر جزاك الّذي أسنى مقامك رحمة ... تفكّ بها العاني وينفس [4] مضطرّ إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر ولكنّنا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حقّ له العذر ثم انقضى المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله، وقد فرشت له القصور وقرّبت له الجياد بالمراكب المذهّبة، وبعث إليه بالكساء الفاخرة، ورتّب الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع، وانحفظ عليه رسم سلطانه في الركب والرجل، ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الأداة أدبا مع السلطان، واستقرّ في حملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس، وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين وسبعمائة ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: وان سمعوا العوراء فروا بأنفس حرام على هماتها في الوغي الغرّ [2] وفي نسخة ثانية: بعين. [3] وفي نسخة ثانية: المضاعفة. [4] وفي نسخة ثانية: وينعش. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 (الخبر عن انتقاض الحسن بن عمر وخروجه بتادلا وتغلب السلطان عليه ومهلكه) لما فصل الوزير الحسن بن عمر إلى مراكش واستقرّ بها، تأثّل له بها سلطان ورياسة، نفسها أهل مجلس السلطان [1] وسعوا في تنكّر السلطان له، حتى أظلم الجوّ بينهما، وشعر الوزير بذلك فارتاب بمكانه، وخشي بادرة السلطان على نفسه، وخرج من مراكش في شهر صفر من سنة إحدى وستين وسبعمائة فلحق بتادلّا منحرفا عن الطاعة، مرتبكا أمره، وتلقاه بنو جابر من جشم، واعصوصبوا عليه وأجاروه. وجهّز السلطان عساكره إلى حربه، وعقد عليها لوزيره الحسن بن يوسف وسرّحه إليه فاحتل بتادلا، ولحق الحسن بن عمر بالجبل، واعتصم به مع الحسين بن علي الورديغي كبيرهم. وأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم، وداخل الوزير بعض أهل الجبل من صناكة في الثورة بهم، وسرّب إليهم المال فثاروا بهم، وانفض جمعهم، وتقبّض على الحسن بن عمر، وقاده برمّته إلى عسكر السلطان فاعتقله الوزير، وانكفأ راجعا إلى الحضرة. وقدم بها على السلطان في يوم مشهود، واستركب السلطان فيه العسكر وجلس ببرج الذهب مقعده في ساحة البلد لاعتراض عساكره. وحمل السلطان الحسن بن عمر على جمل طيف به بين أهل ذلك المحشر، وقرّب إلى مجلس السلطان فأومأ إلى تقبيل الأرض فوق جمله، وركب السلطان إلى قصره، وانفضّ الجمع وقد شهروا وصاروا عبرة من عبر الدنيا. ودخل السلطان قصره فاقتعد أريكته واستدعى خاصّته وجلساءه، وأحضره فوبّخه وقرّر عليه مرتكبه، فتلوّى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار. وحضرت هذا المجلس يومئذ فيمن حضره من العليّة والخاصّة، فكان مقاما تسيل فيه العيون رحمة وعبرة. ثم أمر به السلطان فسحب على وجهه، ونتفت لحيته وضرب بالعصي، وتلّ إلى محبسه، وقتل لليال من اعتقاله قعصا بالرماح بساحة البلد، ونصب شلوه بسور البلد عن باب المحروق، وأصبح مثلا في الآخرين.   [1] وفي نسخة ثانية: نفسها عليه الوزراء بمجلس السلطان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 (الخبر عن وفد السودان وهديتهم وأغرابهم فيها بالزرافة) كان السلطان أبو الحسن لما أهدى إلى ملك السودان منسا سليمان بن منسا موسى هديّته المذكورة في خبره، اعتمل في مكافأته وجمع لمهادات من طرف أرضه وغرائب بلاده، وهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك، ووصلت الهديّة إلى أقصى ثغورهم من الأرس [1] . وهلك منسا سليمان قبل وصولها. واختلف أهل مالي وافترق أمرهم [2] . وتواثب ملوكهم على الأمر وقتل بعضهم بعضا، وشغلوا بالفتنة حتى قام فيهم منسا زاطة [3] واستوسق له أمرهم ونظر في أعطاف ملكه، وأخبر بشأن الهديّة وأخبر أنّها بوالاتن فأمر بإنفاذها إلى ملك المغرب، وضمّ إليها حيوان الزرافة الغريب الشكل، العظيم الهيكل، المختلف الشبه بالحيوانات. وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى فاس في صفر من سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا جلس لهم السلطان ببرج الذهب مجلس العرض. ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء، فبرزوا ينسلون من كل حدب حتى غصّ بهم الفضاء وركب بعضهم بعضا في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وأنشد الشعراء في معرض المدح والتهنئة، ووصف الحال. وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدّوا رسالتهم بتأكيد الودّ والمخالصة، والعذر عن إبطاء الهديّة بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر، وتعظيم سلطانهم وما صار إليه. والترجمان يترجم عنهم وهم يصدّقونه بالنزع في أوتار قسيّهم عادة معروفة لهم. وحيّوا السلطان يحثون التراب على رءوسهم على سنّة ملوك العجم. ثم ركب السلطان وانفضّ ذلك الجمع وقد طار به الذكر. واستقرّ ذلك الوفد في إيالة السلطان وتحت جرايته، وهلك السلطان قبل انصرافهم، فوصلهم القائم بالأمر من بعده، وانصرفوا إلى مراكش وأجازوا منها إلى ذوي حسّان عرب المعقل من السوس المتّصلين ببلادهم. ولحقوا من هنالك بسلطانهم، والأمر للَّه وحده.   [1] وفي نسخة ثانية: إلى أقصى تخومهم من والاتن. [2] وفي نسخة ثانية: ملكهم. [3] وفي نسخة ثانية: منساجاطه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 الخبر عن حركة السلطان الى تلمسان واستيلائه عليها وإيثار أبي زيان حافد أبي تاشفين بملكها وما كان من ذلك من صرف أمراء الموحدين إلى بلادهم لما استقلّ السلطان بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة كما ذكرناه، وكان العامل على درعة عبد الله بن مسلم الزردالي من أخلاف بني عبد الواد وشيعة أبي زيان [1] ، اصطنعه السلطان أبو الحسن عند تغلّبه على تلمسان. واستعمله أبو عنان بعد ذلك على بلاد درعة كما ذكرناه. وتأتى له [2] المكر بأبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن حين خروجه على أخيه السلطان أبي عنان بجبل ابن حميدي، فارتاب عند استقلال المولى أبي سالم بالأمر. وخشي بادرته لما رآه من حقده عليه بسبب أخيه أبي الفضل، لما كان بينهما من لحمة الاغتراب، فداخل بطانة له من عرب المعقل، واحتمل ذخائره وأمواله وأهله وقطع القفر إلى تلمسان، ولحق بالسلطان أبي حمّو آخر سنة ستين وسبعمائة فنزل منه خير نزل، وعقد له حين وصوله على وزارته، وباهى به وبمكانه، وفوّض إليه في التدبير والحلّ والعقد، فشمر عن ساعده في الخدمة، وجأجأ بعرب المعقل من مواطنهم رغبة في ولايته وإيثارا لمكانته من الدولة، ورهبة من سلطان المغرب لما كانوا ارتكبوه من موافقة بني مرين مرّة بعد أخرى، فاستقرّوا بتلمسان وانحاشوا جميعا إلى بني عبد الواد، وبعث السلطان أبو سالم إلى أبي حمّو في شأن عاملهم عبد الله بن مسلم، فلم يرجع له جوابا عنه، وحضر عليه ولاية المعقل أهل وطنه، فلجّ في شأنهم فأجمع السلطان أمره على النهوض إليهم. واضطرب معسكره بساحة البلد وفتح ديوان العطاء ونادى في الناس بالنفير إلى تلمسان. وأزاح العلل. وبعث الحاشدين من وزرائه إلى مراكش فتوافت حشود الجهات ببابه، وفصل من. فاس في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة وجمع أبو حمّو من في إيالته وعلى التشييع لدولته من زناتة والعرب من بني عامر والمعقل كافة، ما عدا العمارنة، كان   [1] وفي نسخة ثانية: آل زيّان. [2] وفي نسخة ثانية: وتولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 أميرهم الزبير بن طلحة متحيّزا إلى السلطان. وأجفلوا عن تلمسان وخرجوا إلى الصحراء. ودخل السلطان إلى تلمسان ثالث رجب، وخالفه أبو حمّو وأشياعه إلى المغرب، فنزلوا كرسيف بلد ونزمار بن عريف، وخرّبوه واكتسحوا ما وجدوا فيه حقدا على ونزمار وقومه بولاية بني مرين. وتخطوا إلى وطاط، فعاثوا في نواحيه، وانقلبوا إلى أنكاد، وبلغ السلطان خبرهم فتلافى أمر المغرب. وعقد على تلمسان لحافد من حفدة السلطان أبي تاشفين، كان ربّي في حجرهم وتحت كفالة نعمتهم، وهو أبو زيّان محمد بن عثمان، وشهرته بالفتى، وأنزله بالقصر القديم من تلمسان وعسكر عليه زناتة الشرق كلّهم، واستوزر له ابن عمّه عمر بن محمد بن إبراهيم بن مكي [1] ومن أبناء وزرائهم سعيد بن موسى بن علي، وأعطاه عشرة أحمال من المال دنانير ودراهم، ودفع إليه الآلة. وذكر حينئذ لمولانا السلطان أبي العبّاس سوابقه وإيلافه في المنزل الخشن، فنزل له عن محل إمارته قسنطينة. وصرف أيضا المولى أبا عبد الله صاحب بجاية لاسترجاع بلده بجاية، فعقد لهما بذلك وحملهما. وخلع عليهما وأعطاهما حملين من المال. وكانت بجاية لذلك العهد قد تغلّب عليها عمّهم المولى أبو إسحاق إبراهيم صاحب تونس، فكتب إلى عاملهم على قسنطينة منصور بن الحاج خلوف أن ينزل عن بلدة مولانا السلطان أبي العبّاس أحمد، ويمكّنه منها، وودّع هؤلاء الأمراء وانكفأ راجعا إلى حضرته لسدّ ثغور المغرب، وحسم داء العدوّ، فدخل فاس في شعبان من سنته. ولم يلبث أن رجع أبو زيّان على أثره بعد أن أجفل عن تلمسان ولحق بوانشريش. وتغلّب عليه أبو حمّو وفضّ جموعه، فلحق بالسلطان واستقلّ أبو حمّو بملك تلمسان، وبعث في السلم إلى السلطان فعقد له من ذلك ما رضيه كما ذكرناه. الخبر عن مهلك السلطان أبي سالم واستيلاء عمر بن عبد الله على ملك المغرب ونصبه للملوك واحدا بعد واحد إلى أن هلك كان السلطان قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق وكان من خبره أن   [1] وفي نسخة: بن مكن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 سلفه من أهل رباط الشيخ أبي مدين كان جدّه قيّما على خدمة قبره ومسجده واتصل القيام على هذا الرباط في عقبه، وكان جدّه الثالث محمد معروفا بالولاية، ولما مات دفنه يغمراسن بالقصر القديم ليجاوره بجدثه تبرّكا به، وكان ابنه أحمد أبو محمد هذا قد ارتحل إلى المشرق، وجاور الحرمين إلى أن هلك وربّى ابنه محمد بالمشرق ما بين الحجاز ومصر. وقفل إلى المغرب بعد أن أسرّ أشياء [1] في الطلب وتفقّه على أولاد الإمام، ولما ابتنى السلطان أبو الحسن مسجد العباد ولّاه الخطابة به، وسمعه يخطب على المنبر وقد أحسن في ذكره والدعاء له، فحلا بعينه واستخلصه لنفسه وأحله محل القرب من نفسه [2] ، وجعله خطيبا حيث يصلي من مساجد المغرب، وسفر عنه إلى الملوك، ولمّا كانت نكبة القيروان خلص إلى المغرب واستقرّ برباط العباد بجبل سلفه، بعد أحوال أضربنا عن ذكرها اختصارا. ولما خلص السلطان إلى الجزائر داخله أبو سعيد صاحب تلمسان في السفارة عنه إلى السلطان أبي الحسن وصلاح ما بينهما فسار لذلك ونقمه أبو ثابت وبنو عبد الواد ونكروه على سلطانهم. وسرّحوا صغير بن عامر في اتباعه، فتقبّض عليه وأودعوه المطبق. ثم أشخصوه بعد حين إلى الأندلس فاتصل بأبي الحجّاج صاحب غرناطة. وولّاه خطابته لما اشتهر به من إجادة الخطبة للملوك بزعمهم. وألف السلطان أبا سالم في مثوى اغترابهما من غرناطة، وشاركه عند أبي الحجّاج في مهمّاته. ولما نزل بجبال غمارة داخل بني مرين والوزراء في القيام بدعوته. وكان له في ذلك مقام محمود. فرعى السلطان وسائله وبوآته [3] القديمة والحادثة إلى مقامه عند أبيه، فلما استوسق له ملك المغرب استخصّه بولايته وألقى عليه محبّته وعنايته، وكان مؤامره ونجيّ خلوته والغالب على هواه، فانصرفت إليه الوجوه وخضعت له الرقاب ووطئ عقبه [4] الأشراف والوزراء، وعطف على بابه القوّاد والأمراء وصار زمام الدولة بيده. وكان يتجافى عن ذلك أكثر أوقاته حذرا من سوء المغبّة، ويزجر من يتعرّض   [1] وفي نسخة أخرى: بعدان شدا شيئا. [2] وفي نسخة أخرى: من مجلسه. [3] وفي نسخة ثانية: ووالاته. [4] وفي نسخة ثانية: عتبته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 له في الشكاية ويردهم إلى أصحاب المراتب والخطط بباب السلطان، وهم يعلمون أنه قد ضرب على أيديهم، فنقموا ذلك وسخطوا الدولة من أجله. ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدّمه: ونفس عليه الوزراء ما ثبت له عند السلطان من الحظ، فتربّصوا بالدولة، وشمل هذا الداء الخاصّة والعامة. وكان عمر بن عبد الله ابن علي لما هلك أبوه الوزير عبد الله بن علي في جمادى سنة ستين وسبعمائة عند استيلاء السلطان على ملكه، تحلبّت شفاه أهل الدولة على تراثه. وكان مثريا فاستجار منهم بابن مرزوق، وساهمه في تراث أبيه بعد أن حملوا السلطان على النيل منه، والإهانة له، فأجاره منهم. ورفع عند السلطان رتبته وحمله على الإصهار إليه في أخته، وقلّده السلطان أمانة البلد الجديد دار ملكه متى عنت له الرحلة عنها. وأصهر عمر إلى وزير الدولة مسعود بن ماسي تسكينا لروعته [1] واستخلاصا لمودّته، وسفر عن السلطان إلى صاحب تلمسان في شعبان من سنة اثنين وستين وسبعمائة ونمي عنه أنه داخل صاحب تلمسان في بعض المكر فهمّ بنكبته وقتله، ودافع عنه ابن مرزوق وخلص من عقابه، وطوى على البثّ وتربّص بالدولة. وأعيد إلى مكانه من الأمانة على دار الملك أوّل ذي القعدة مرجعه من تلمسان لما كان السلطان قد تحوّل عنها إلى القصبة بفاس، واختطّ إيوانا فخما لجلوسه بها، لضيق قصوره بها [2] . فلما استولى عمر على دار الملك حدّثته نفسه بالتوثّب وسوّل له ذلك ما اطلع عليه من مرض القلوب والنكير على الدولة، لمكان ابن مرزوق من السلطان فداخل قائد الجند غريسة ابن انطول [3] وتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة سنة اثنين وستين وسبعمائة وخلصوا إلى تاشفين الموسوس ابن السلطان أبي الحسن بمكانه من البلد الجديد، فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك، وقرّبوا له مركبه وأخرجوه إلى أريكة السلطان فأقعدوه عليها. وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة له، وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى مودع المال، ففرضوا العطاء من غير تقدير ولا حسبان، وماج أهل البلد الجديد من الجند بعضهم في بعض،   [1] وفي نسخة ثانية: لغربه. [2] وفي النسخة الجزائرية كلمتان زائدتان (متغنيا الابردين) وفي نسخة أخرى: لصق قصوره. وفي النسخة الباريسية الكلمتان غير واضحتين وهما محرفتان. [3] وفي نسخة ثانية: انطون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 واختطفوا ما وصلوا إليه من العطاء، وانتهبوا ما كان بالمخازن الخارجية من السلع والعدّة. وأضرموا النار في بيوتها سترا على ما ضاع منها، وأصبح السلطان بمكانه من القصبة، فركب واجتمع إليه من حضر من الأولياء والقبائل، وغدا على البلد الجديد وطاف بها يروم منها منفذا، فاستعصب واضطرب معسكره بكدية العرائس لحصارها، ونادى في الناس بالاجتماع إليه. ونزل عند قائلة الهاجرة بفسطاطة، فتسايل الناس عنه إلى البلد الجديد فوجا بعد فوج بمرأى منه إلى أن سار إليها أهل مجلسه وخاصته، فطلب النجاة بنفسه وركب في لمّة من الفرسان مع وزرائه: مسعود بن رحّو وسليمان بن داود ومقدّم الموالي والجند ببابه سليمان بن نصار [1] ، وأذن لابن مرزوق في الدخول إلى داره، ومضى على وجهه. ولما غشيهم الليل انفضّوا عنه، ورجع الوزير إلى دار الملك فتقبّض عليهما عمر بن عبد الله ومساهمه غريسة بن أنطول واعتقلاهما متفرقين، وأشخص علي بن مهدي بن يرزيجن في طلب السلطان، فعثر عليه نائما في بعض المحاشر [2] بوادي ورغة، وقد نزع عنه لباسه اختفاء بشخصه، وتوارى على العيون بمكانه، فتقبّض عليه وحمله على بغل، وطيّر الخبر إلى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن وردار [3] ، وفتح الله بن عامر ابن فتح الله. وأمرهما بقتله وإنفاذ رأسه، فلقياه بخندق القصب إزاء كدية العرائس، فأمر بعض جنود النصارى أن يتولى ذبحه وحمل رأسه في مخلاة، فوضعه بين يدي الوزير والمشيخة. واستقلّ عمر بالأمر ونصب الموسوس تاشفين يموه به على الناس، وذوات الأمور إلى غاياتها ولكل أجل كتاب. الخبر عن الفتك بابن أنطول قائد العسكر من النصارى ثم خروج يحيى بن رحو وبني مرين عن الطاعة لما تقبّض عمر بن عبد الله على الوزير، كان معتقل سليمان بن داود بدار غريسة قائد   [1] وفي نسخة ثانية: سليمان بن ونصار. [2] وفي نسخة ثانية: المجاشر: «قال الاصمعي: بنو فلان جشر إذا كانوا يبيتون مكانهم لا يأوون إلى بيوتهم. وابل جشر: تذهب حيث شاءت وكذلك الحمر. وأصبحوا جشرا إذا كانوا يبيتون وكأنهم لا يرجعون إلى أهليهم» وكلمة مجاشر عامية بمعنى المراعي، مأخوذة من معنى جشر (لسان العرب) . [3] وفي نسخة ثانية: بن داود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 النصارى، ومعتقل ابن ماسي بداره ضنا به عن الامتهان لمكان صهره. ولما كان يؤمّل منه من الاستظهار على أمره بعصابته من الأبناء والإخوة والقرابة، وكان غريسة بن أنطول صديقا لسليمان بن ونصار، فلما رجع عن السلطان ليلة انفضاضهم، نزل عليه وكان يعاقره الخمر، فأتاه سحرا وتفاوضا في اعتقال عمرو [1] وإقامة معتقله سليمان بن داود في الوزارة لما هو عليه من السنّ ورسوخ القدم في الأمر. ونمي إلى عمر الخبر، فارتاب وكان خلوا من العصابة ففزع إلى قائد المركب السلطاني من الرجل الأندلسيّين يومئذ إبراهيم البطروجي [2] ، فباثّه أمره وبايعه على الاستماتة دونه. ثم استقل عصابتهم ففزع إلى يحيى بن رحّو شيخ بني مرين وصاحب شوراهم فشكا إليه، فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطول وأصحابه. وانبرم عقد ابن أنطول وسليمان ابن ونصار على شأنهم وغدوا إلى القصر. وداخل ابن أنطول طائفة من النصارى للاستظهار بهم، ولمّا توافت بنو مرين بمجلس السلطان على عادتهم وطعموا، دعا عمر بن عبد الله القائد ابن أنطول بين يدي يحيى بن رحّو وقد أحضر البطروجي رجل الأندلسيّين، فسأله تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن فأبى وضنّ به عن الإهانة حتى سأل مثلها من ابن ماسي صاحبه، فأمر عمر بالتقبّض عليه، فكشّر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة، فتواثبت بنو مرين وقتلوه لحينه. واستلحموا من وجد بالدار من جند النصارى عند دخولهم [3] ، وفرّوا إلى معسكرهم ويعرف بالملاح جوار البلد الجديد. وأرجف الغوغاء بالمدينة أنّ ابن أنطول غدر بالوزير فقتل جند النصارى حيث وجدوا من سكك المدينة. وتزاحفوا إلى الملاح لاستلحام من به من الجند، وركب بنو مرين لحماية جندهم من معرّة الغوغاء، وانتهب يومئذ الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم. وقتل النصارى كثيرا من المجّان كانوا يعاقرون الخمر بالملاح، واستبدّ عمر بالدار واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل. وبعث من قتله بمحبسه. وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور بدار الملك واعتقله بها، واستولى على أمره ورجع في الشورى إلى   [1] وفي نسخة ثانية: فباثه شجوه وتفاوضا في اغتيال عمر. [2] وفي نسخة ثانية: البطروحي. [3] وفي نسخة ثانية: بعد جولة. ابن خلدون م 27 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 يحيى بن رحّو، واعصوصب بنو مرين عليه، واعتز على الأمراء والدولة، وكان عد الخاصة السلطان أبي سالم حريصا على قتلهم، وكان عمر يريد استبقاءهم لما أمّله في ابن ماسي، فخشنت صدورهم عليه، ودبّروا في شأنه. وخاطب هو عامر بن محمد في اتصال اليد واقتسام ملك المغرب، وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم، اعتدّه عنده وليجة لخلاصه من ربقة الحصار الّذي هم به مشيخة بني مرين. وكان أبو الفضل هذا بالقصبة تحت الرقبة والأرصاد، فتفقّد من مكانه. وأغلظ المشيخة في العتب لعمر في ذلك، فلم يستعتب، ونبذ إليهم العهد وامتنع بالبلد الجديد، ومنعهم من الدخول إليه فاعصوصبوا على كبيرهم يحيى بن رحّو وعسكروا بباب الفتوح، وجأجئوا [1] بعبد الحليم ابن السلطان أبي علي وكان من خبرهم معه ما نذكره. وأطلق عمر بن عبد الله مسعود بن ماسي من محبسه وسرّحه إلى مراكش، وأوعده في الاجلاب عليهم إن حاصروه كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن وصول عبد الحليم ابن السلطان من تلمسان وحصار البلد الجديد) كان السلطان أبو الحسن لما قتل أخاه السلطان أبا علي وقضى الحق الّذي له في ذمته [2] عمل بالحق الّذي عليه في ولده وحرمه، فكفلهم وغذاهم بنعمته، وساواهم بولده في كافة شئونهم، وأنكح ابنته تاحضريت العزيزة عليه عليا منهم المكنّى بأبي سلوس [3] ونزع عنه وهو بالقيروان أيام النكبة ولحق بالعرب. وأجلب معهم على السلطان بالقيروان وتونس. ثم انصرف من إفريقية ولحق بتلمسان ونزل على سلطانها أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن فبوّأه كرامته. ثم شرع في الإجازة إلى الأندلس، وبعث فيه السلطان أبو عنان قبل فصوله، فاشخصوه إليه فاعتقله. ثم أحضره ووبّخه على مرتكبه مع السلطان أبي الحسن وجحده حقه. ثم قتله لليلتين من شهور إحدى وخمسين وسبعمائة، ولما هلك السلطان أبو الحسن ولحقت جملته من   [1] وفي نسخة ثانية: وجاءوا. [2] وفي نسخة ثانية: في دمه. [3] وفي نسخة ثانية: بأبي يفلوسن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 الخاصّة والأبناء بالسلطان أبي عنان، وأشخص إخوته إلى الأندلس، وأشخص معهم ولد الأمير أبي علي هؤلاء عبد الحليم وعبد المؤمن والمنصور والناصر وسعيد ابن أخيهم أبي زيّان، فاستقرّوا بالأندلس في جوار ابن الأحمر. ثم طلب أبو عنان إشخاصهم بعد، كما طلب إشخاص أخيه، فأجارهم ابن الأحمر جميعا وامتنع من إسلامهم إليه. وكان من المغاضبة لذلك ما قدّمناه. ولما اعتقل السلطان أبو سالم الأبناء المرشّحين برندة، كما قدّمناه، نزع منهم عبد الرحمن بن علي بن أبي يفلوسن إلى غرناطة فلحق بأعماله. وكان السلطان أبو سالم بمكانهم مستريبا بشأنهم حتى لقد قتل محمد بن أبي يفلوسن ابن أخته تاحضريت وهو في حجرها وحجره، استرابه بما نمي عنه. ولما أجاز أبو عبد الله المخلوع ابن أبي الحجّاج، إلى المغرب ونزل عليه وصار إلى إيالته، ورأى أن قد ملك أمره في هؤلاء المرشحين بغرناطة، وأرسل الرئيس محمد بن إسماعيل عند توثّبه على الأمراء واستلحامه أبناء السلطان أبي الحجّاج، فراسله في اعتقالهم ثم فسد ما بين الرئيس والطاغية، وأخذ منه كثيرا من حصون المسلمين. وبعث إلى السلطان أبي سالم في أن يخلي سبيل المخلوع إليه، فامتنع وفاء للرئيس. ثم دافع الطاغية عن ثغوره بإسعاف طلبته، فجهّز المخلوع وملأ حقائبه صلة وأعطاه الآلة، وأوعز إلى أسطوله بسبتة فجهّز وبعث علال بن محمد ثقة أبيه [1] فأركبه الأسطول وركب معه إلى الطاغية. وخلص الخبر إلى الرئيس بمكانه من ملك غرناطة، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان يراسله في أولاد أبي علي، وأن يجيزهم إليه ليجدهم زبونا على السلطان أبي سالم، فبادر لحينه وأطلقهم من مكان اعتقالهم، وأركب عبد الحليم وعبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيهما على أبي يفلوسن. في الأسطول، وأجازهم إلى مرسى هنين بين يدي مهلك السلطان أبي سالم، فنزلوا من صاحب تلمسان بأعزّ جوار. ونصّب عبد الحليم منهم لملك المغرب. وكان محمد السبيع بن موسى بن إبراهيم نزع عن عمر ولحق بتلمسان، فتوافى معهم وأخبرهم بمهلك السلطان وبايع له وأغراه بالرحلة [2] إلى المغرب ثم تتابعت وفود بني مرين بمثلها، فسرّحه أبو حمّو وأعطاه الآلة، واستوزر له محمد السبيع وارتحل معه   [1] وفي نسخة ثانية: ثقة إليه. [2] وفي نسخة ثانية: وأغراه بالدخلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 يغذّ السير. ولقي في طريقه محمد بن زكراز من أولاد علي من شيوخ بني ونكاس أهل دبدوا وثغر المغرب منذ دخول بني مرين إليه، فبايعه وحمل قومه على طاعته، وأغذّ السير وكان يحيى بن رحّو والمشيخة لما نبذ عمر بن عبد الله إليهم العهد، وعسكروا بباب الفتوح، أوفدوا مشيخة منهم على تلمسان لاستقدام السلطان عبد الحليم، فوافوه بتازي ورجعوا معه، وتلقته جماعة بني مرين بسبّو، ونزلوا على البلد الجديد يوم السبت سابع محرّم من سنة ثلاث وستين وسبعمائة واضطرب معسكرهم بكدية العرائس، وغادوا البلد القتال وراوحوها سبعة أيام، وتتابعت وفودهم وبيعات الأمصار توافيهم والحشود تتسايل إليهم ثم إنّ عمر بن عبد الله برز من السبت القابل في مقدّمة السلطان أبي عمر بمن معه من جند المسلمين والنصارى، رامحة وناشبة. ووكّل بالسلطان من جاء به في الساقة على التعبية المحكمة. وناشبهم الحرب فدلفوا إليه فاستطرد لهم ليتمكّن الناشبة من عقرهم من الأسوار حتى فشت فيهم الجراحات. ثم صمّم نحوهم وانفرج القلب وانفضت الجموع وزحف السلطان في الساقة فانذعروا في الجهات. وافترق بنو مرين إلى مواطنهم ولحق يحيى بن رحّو بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ الخلط، ولحق عبد الحليم وإخوته بتازي بعد أن شهد لهم أهل المقام بصدق الجلاد وحسن البلاء في ذلك المجال وصابر عمر بن عبد الله قدوم محمد بن أبي عبد الرحمن كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن قدوم الأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن وبيعته بالبلد الجديد في كفالة عمر بن عبد الله لما نبذ بنو مرين عهدهم واعصوصبوا عليه، ونكروا ما جاء به من البيعة لأبي عمر مع فقده العقل الّذي هو شرط الخلافة شرعا وعادة، ونقموا عليه، اتّهم نفسه في نظره، وفرع إلى التماس المرشحين، فوقع نظره على حافد السلطان أبي الحسن محمد ابن الأمير أبي عبد الله النازع لأوّل دولة السلطان أبي سالم من رندة إلى الطاغية. وكان قد نزل منه بخير مثوى، فبعث إليه مولاه عتيقا الخصيّ، ثم تلاه بعثمان بن الياسمين، ثم تلاهما بالرئيس الأبكم من بني الأحمر في كل ذلك يستحثّ قدومه، وخاطب المخلوع ابن الأحمر وهو في جوار الطاغية كما قدّمناه قريب عهد بجواره، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 فخاطبه في استحثاثه واستخلاصه من يد الطاغية. وكان المخلوع يرتاد لنفسه منزلا من ثغور المسلمين لما فسد بينه وبين الطاغية ورام النزوع عن إيالته، فاشترط على الوزير عمر النزول له عن رندة فتقبّل شرطه، وبعث إليه الكتاب بالنزول عنها بعد أن وضع الملأ عليه خطوطهم من بني مرين والخاصة والشرفاء والفقهاء، فسار ابن الأحمر إلى الطاغية. وسأله تسريح محمد هذا إلى ملكه، وأن قبيله دعوه إلى ذلك، فسرّحه بعد أن شرط عليه، وكتب الكتاب بقبوله وفصل من إشبيلية في شهر المحرّم فاتح ثلاث وستين وسبعمائة ونزل بسبتة وبها سعيد بن عثمان من قرابة عمر بن عبد الله. أرصده لقدومه فطير بالخبر إليه فخلع أبا عمر من الملك لعام من بيعته، وأنزله بداره مع حرمه. وبعث الى السلطان أبي زيّان محمد بالبيعة والآلة والفساطيط. ثم جهّز عسكرا للقائه فتلقّوه بطنجة. وأغذّ السير إلى الحضرة فنزل منتصف شهر صفر بكدية العرائس. واضطرب معسكره بها، وتلقّاه الوزير يومئذ وبايعه وأخرج فسطاطه، فاضطربه بمعسكره وتلوّم السلطان هنالك ثلاثا. ثم دخل في الرابع إلى قصره واقتعد أريكته وتودّع ملكه وعمر مستبدّ عليه لا يكل إليه أمرا ولا نهيا. واستطال عند ذلك المنازعون أولاد أبي علي كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن تجهيز السلطان عبد الحليم واخوته الى سجلماسة بعد الواقعة عليهم بمكناسة لما سمع عبد الحليم بقدوم محمد بن أبي عبد الرحمن من سبتة إلى فاس وهو بمكانه من تازى، سرّح أخاه عبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيه إلى اعتراضه، فانتهوا إلى مكناسة وخاموا عن لقائه، فلما دخل إلى البلد الجديد أجلبوا بالغارة على النواحي وكثر العيث. وأجمع الوزير عمر على الخروج إليهم بالعساكر، فبرز بالتعبية والآلة، وبات بوادي النجاء. ثم أصبح على تعبيته وأغذّ السير إلى مكناسة، فزحف إليه عبد المؤمن وابن أخيه عبد الرحمن في جموعهما فجاولهما القتال ساعة، ثم صمم إليهم فدفعهم عن مكناسة. وانكشفوا فلحقوا بأخيهم السلطان عبد الحليم بتازى، ونزل الوزير عمر بساحة مكناسة، وأوفد بالفتح على السلطان، وكنت وافده إليه يومئذ، فعمّت البشرى واتصل السرور. وتهنّأ السلطان بملكه وتودّع من يومئذ سلطانه. ولمّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 وصل عبد المؤمن إلى أخيه عبد الحليم بتازى مفلولا انتقض معسكره ونزعوا عنه إلى فاس، وذهب لوجهه هو وإخوته مع وزيرهم السبيع بن محمد ومن كان معهم من عرب المعقل، فلحقوا بسجلماسة. وكان أهلها قد دخلوا في بيعتهم ودانوا بطاعتهم فاستعروا بها. وجدّدوا رسم الملك والسلطان إلى أن كان من خروجهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن قدوم عامر بن محمد ومسعود بن ماسي من مراكش وما كان من وزارة ابن ماسي واستبداد عامر بمراكش كان السلطان أبو سالم لما استقلّ بملك المغرب، استعمل على جباية المصامدة وولاية مراكش محمد بن أبي العلاء بن أبي طلحة من أبناء العمّال، وكان مطلعا بها. وناقش الكبير من ذوي عامر فأحفظه ذلك وربما تكرّرت سعايته في عامر عند السلطان ولم يقبل. ولما بلغ إلى عامر مهلك السلطان أبي سالم وقيام عمر بالأمر، وكانت بينهما خلة بيت محمد ابن أبي العلاء فتقبّض عليه وامتحنه وقتله، واستقلّ بأمر مراكش وبعث إليه الوزير عمر بأبي الفضل بن السلطان أبي سالم يعتدّه لما يقع من حصار بني مرين إياه أن يجلب به عامر عليهم ويستنقضه كما ذكرناه. ثم سرّح مسعود بن ماسي كما ذكرناه، ولما أحاط بنو مرين بالبلد الجديد جمع عامر من إليه من الجند والحشود وزحف بأبي الفضل بن السلطان أبي سالم إلى أنفى، ونزل بوادي أم ربيع، ولما انفضّ جمعهم من على البلد الجديد، لحق به يحيى بن رحّو، وكان له صديقا ملاطفا، فتنكّر له توفية لعمر بن عبد الله وصاحبه مسعود، وبعثه إلى الجبل ولم يشهد الجمع، فذهب مغاضبا. ولحق بسجلماسة بالسلطان عبد الحليم وهلك في بعض حروبه مع العرب. ولما انفضّ عبد المؤمن وأجفل عبد الحليم من تازي ولحقوا بسجلماسة، واستوسق الأمر لعمر بن عبد الله وفرغ من شأن المنازعين ومضايقتهم له، رجع إلى ما كان يؤمّله من الاستظهار على أمره بمسعود بن ماسي وإخوته وأقاربه لمكان الصهر الّذي بينهما، فاستقدمه للوزارة مرضاة لبني مرين لما كانوا عليه من استمالتهم لجميع المذاهب والإغضاء عمّا نالوه به من النكاية. وكان عامر بن محمد مجمعا القدوم على السلطان فقدم في صحابته ونزلا من الدولة بخير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 منزل، وعقد السلطان لمسعود بن رحّو على وزارته بإشارة الوزير عمر فاضطلع بها، ودفعه عمر إليها استمالة إليه وثقة بمكانه واستظهارا بعصابته. وعقد مع عامر بن محمد الحلف على مقاسمة المغرب من لحم وأدم رفيع [1] وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم إسعافا بغرض عامر بن محمد في ذلك وأصهر عامر إليهم في بنت مولانا السلطان أبي يحيى المتوفى عنها السلطان أبو عنان [2] ، فحملوا أولياءها على العقد عليها وانكفأ راجعا إلى مكان عمله بمراكش يجرّ الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعا لجمادى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وصرف عمر عزيمته إلى تشريد عبد الحليم وأخيه من سجلماسة، كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن زحف الوزير عمر بن عبد الله الى سجلماسة) لما احتلّ عبد الحليم وإخوته بسجلماسة، اجتمع إليهم عرب المعقل كافة بحللهم. واقتضوا خراج البلد فوزّعوه فيهم، وانتضوا على الطاعة رهنهم. وأقطعهم جنات المختص [3] بأسرها واعصوصبوا عليه. واستحثه يحيى بن رحّو ومن هنالك من مشيخة بني مرين إلى النهوض للمغرب، فأجمع أمره على ذلك. وتدبّر الوزير عمر أمره وخشي أن يضطرم جمرة، فأجمع إليه الحركة. ونادى في الناس بالعطاء والرحلة فاجتمعوا إليه وبثّ العطاء فيهم. واعترض العساكر وأزاح العلل وارتحل من ظاهر فاس في شعبان من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وارتحل معه ظهيره مسعود بن ماسي وبرز السلطان عبد الحليم إلى لقائهم. ولما تراءت الفئتان بتاغز وطت عند فرج الجبل المفضي من تلول المغرب الى الصحراء، هموا باللقاء. ثم تواقفوا أياما وتمشّت بينهم رجالات العرب في الصلح والتجافي لعبد الحليم عن سجلماسة تراث أبيه، فعقد بينهما وافترقا. ورجع كل واحد منهما إلى عمله ومكانه من سلطانه. ودخل عمر والوزير مسعود إلى البلد الجديد في رمضان من سنته، وتلقّاهما سلطانهما بأنواع المبرّة والكرامة. ونزع الوزير محمد بن السبيع عن السلطان عبد الحليم   [1] وفي نسخة أخرى: تخم وادي أم ربيع وهذا أصح حسب مقتضى السياق. [2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ابو الحسن. [3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: جهات المختص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 إلى الوزير عمر وسلطانه فتقبّل وحل محل التكرمة والردافة للوزارة واستقرّ كل بمكانه. وتوادعوا أمرهم إلى ما كان من خلع عبد المؤمن لأخيه عبد الحليم، ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن بيعة العرب لعبد المؤمن وخروج عبد الحليم الى المشرق) لما رجع عبد الحليم بعد عقد السلم مع الوزير عمر إلى سجلماسة واستقرّ بها وكان عرب المعقل من ذوي منصور فريقين: الأحلاف وأولاد حسين. وكانت سجلماسة وطنا للأحلاف وفي مجالاتهم منذ أوّل أمرهم ودخولهم المغرب. وكان من أولاد حسين في ممالأة الوزير عمر ما قدّمناه، فكانت صاغية السلطان عبد الحليم إلى الأحلاف بسبب ذلك أكثر، فأسفّ ذلك أولاد حسين على الأحلاف وتجدّدت لذلك الفتنة وتزاحفوا. وأخرج السلطان عبد الحليم أخاه عبد المؤمن لرقع ما بينهما من الخرق ولأمته، فلما قدم على أولاد حسين دعوه إلى البيعة والقيام بأمره فأبى فأكرهوه عليها وبايعوه. وزحفوا إلى سجلماسة في صفر من سنة أربع وستين وستمائة وبرز عبد الحليم إليهم في أوليائه من الأحلاف وتواقفوا مليا وعقلوا رواحلهم وانكشف الأحلاف وانهزموا. وهلك يحيى بن رحّو كبير المشيخة من بني مرين يومئذ في حربهم. وتغلّبوا على سجلماسة، ودخل إليها عبد المؤمن وتخلّى له أخوه عبد الحليم عن الأمر وخرج إلى المشرق لقضاء فرضه، فودّعه وزوّده بما أرادوا وارتحل إلى الحج وقطع المفازة إلى بلد مالي من السودان. وصحب منها ركّاب الحج إلى مصر، ونزل على أميرها المتغلّب على سلطانها يومئذ، وهو مليغا الحاصكي [1] وأنهى خبره إليه وعرف بمكانه، فاستبلغ في تكريمه بما يناسب بيته وسلطانه. وقضى حجه وانصرف إلى المغرب، فهلك بقرب الإسكندرية سنة ست وستين وسبعمائة واستقل عبد المؤمن، بأمر سجلماسة حتى كان من نهوض العسكر إليه ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة أخرى: يلبغا الخاصكيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 (الخبر عن نهوض ابن ماسي بالعساكر الى سجلماسة واستيلائه عليها ولحاق عبد المؤمن بمراكش) لما افترقت كلمة أولاد السلطان أبي عنان وخلع عبد المؤمن أخاه تطاول الوزير عمر إلى التغلّب عليهم. ونزع إليه الأحلاف عدوّ أولاد حسين وشيعة عبد الحليم المخلوع، فجهّز العساكر وبثّ العطاء وأزاح العلل، وسرّح ظهيره مسعود بن ماسي إلى سجلماسة، فنهض إليها في ربيع من سنة أربع وستين وسبعمائة. وتلقّاه الأحلاف بحللهم وناجعتهم، وأغذّ السير ونزع الكثير من أولاد حسين للوزير مسعود. وبعث عامر بن محمد عن عبد المؤمن من سجلماسة، فتركها ولحق بعامر فتقبّض عليه واعتقله بداره من جبل هنتاتة. ودخل الوزير مسعود إلى سجلماسة واستولى عليها. واقتلع منها جرثومة الشقاق بافتراق دعوة أولاد أبي علي منها. وكرّ راجعا إلى المغرب لشهرين من حركته، فاحتل بفاس إلى أن كان من خبر انتقاضه على عمر وفساد ذات بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن انتقاض عامر ثم انتقاض الوزير ابن ماسي على أثره) لما استقل عامر بالناحية الغربيّة من جبال المصامدة ومراكش وما إلى ذلك من الأعمال واستبد بها، ونصب لأمره أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم واستوزر له واستكفأ لأمره [1] ، وصارت كأنها دولة مستقلة، فصرف إليه النازعون من بني مرين على الدولة وجوه مفرّهم ولجئوا إليه، فأجارهم عن الدولة واجتمع إليه منهم ملأ. وأشاروا إليه باستقدام عبد المؤمن وأنه أبلغ ترشيحا من أبي الفضل بنسبه وقيامه على أمره وصاغية بني مرين إليه، فاستدعاه وأظهر لعمر أنّه يروم بذلك مصلحته والمكر بعبد المؤمن. ونمي ذلك كله إلى عمر فارتاب به ونزع إليه آخرا السبيع بن موسى بن   [1] وفي نسخة أخرى: واستكتب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 إبراهيم الوزير. كان لعبد الحليم فكشف القناع في بطانته [1] وتجهيز العساكر إليه. واستراب بأهل ولايته، وعثر على كتاب من الوزير مسعود بن ماسي إليه يخالصه ويبذل له النصيحة، فتقبّض على حامله وأودعه السجن، فتنكّر مسعود وأغراه صحابته الملاشون [2] له من بني مرين بالخروج ومنازعة عمر في الأمر. ووعدوه النصر منه، فاضطرب معسكره بالزيتون من خارج فاس موريا بالنزهة أبّان الربيع. وزخرف الأرض في شهر رجب من سنة خمس وستين وسبعمائة. وبني أصحابه الفساطيط في معسكره حتى إذا استوفى جمعهم واعتزم على الخروج، ارتحل مجاهرا بالخلاف، وعسكر بوادي النجا بمن كان يعده الخروج معه من بني مرين. ثم ارتحل إلى مكناسة، وكتب إلى عبد الرحمن بن علي بن يفلوسن. يستقدمه للبيعة، وكان بجهات تادّلّا قد خرج بها بعد انصرافهم من سجلماسة، وتخلف عن أخيه عبد المؤمن. وبعث عامر إليهم بعثا فهزموه ثم لحق ببني ونكاسن، فبعث إليه ابن ماسي وأصحابه، فقدم عليهم وبايعوه. وأخرج عمر سلطانه محمد بن أبي عبد الرحمن وعسكر بكدية العرائس. وبثّ العطاء وأزاح العلل. ثم ارتحل إلى وادي النجا، فبيّته مسعود وقومه فثبت هو وعسكره في مراكزهم حتى إنجاب الظلام وفرّوا أمامهم، فاتبعوا آثارهم وانفضّ جمعهم وبدا لهم ما لم يحتسبوه من اصفاق الناس على السلطان ووزيره عمر واعتصامهم بطاعته، فانذعروا. ولحق مسعود بن ماسي بن رحّو بتادلّا، ولحق الأمير عبد الرحمن ببلاد بني ونكاسن. ورجع عمر والسلطان إلى مكانهما من الحضرة. واستمال مشيخة بني مرين فرجعوا إليه وعفا لهم عنها واستصلحهم. وتمسّك أبو بكر بن حمامة بدعوة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأقامهما في نواحيه، وبايعه عليها موسى بن سيّد الناس من بني علي أهل جبل دبدو من بني ونكاسن بما كان صهرا له. وخالفه قومه إلى الوزير عمر وواعدوه بالنهوض إلى أبي بكر بن حمامة، فنهض وغلبه على بلاده. واقتحم حصنه انكاوان [3] وفرّ هو وصهره موسى وفارقوا سلطانهم عبد الرحمن ونبذوا إليه عهده. ورجعوا إلى طاعة صاحب فاس، فلحق هو بتلمسان ونزل على السلطان أبي حمّو   [1] وفي نسخة أخرى: مطالبته. [2] وفي نسخة أخرى: الملابسون. [3] وفي نسخة أخرى: ايكلوان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 فاستبلغ في تكريمه ولحق وزيره مسعود بن ماسي بدبدة ونزل على أميره محمد بن زكراز [1] صاحب ذلك الثغر. وبعث إلى الأمير عبد الرحمن من تلمسان ليطارد به لفرصة ظنّها في المغرب ينتهزها. وأبي عليه أبو حمّو من ذلك، فركب مطيّة الفرار ولحق بابن ماسي وأصحابه، فنصّبوه للأمر وأجلبوا على تازى. ونهض الوزير إليهم في العساكر واحتلّ بتازى وتعرّضوا للقائه، ففضّ جموعهم وردّهم على أعقابهم إلى جبل دبدو وسعى بينهم ونزمار بن عريف ولي الدولة في قبض عنانهم عن المنازعة والتجافي عن طلب الأمر، وأن يجيزوا إلى الأندلس للجهاد فأجاز عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره ابن ماسي من غسّاسة فاتح سبع وستين وسبعمائة وخلا الجو من أجلابهم وعنادهم ورجع الوزير إلى فاس واحتشد إلى مراكش كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن نهوض الوزير عمر وسلطانه الى مراكش) لما فرغ عمر من شأن مسعود وعبد الرحمن بن أبي يفلوسن صرف نظره إلى ناحية مراكش وانتزى عامر بن محمد بها. وأجمع أمره على الحركة إليه فأفاض العطاء. ونادى بالسفر إلى حرب عامر وأزاح العلل، وارتحل إليه لرجب من سنة سبع وستين وسبعمائة وصعد عامر وسلطانه أبو الفضل إلى الجبل. فاعتصم به وأطلق عبد المؤمن من معتقله، ونصب له الآلة وأجلسه على سرير حذاء سرير أبي الفضل يوهم أنه قد بايع له، وانه أحكم أمره يجأجئ بذلك لبني مرين لما يعلم من صاغيتهم إليه. وخشي مغبّة ذلك، فألان له القول ولاطفه في الخطاب، وسعى بينهما في الصلح حسّون بن علي الصبيحي فعقد له عمر من ذلك ما أرضاه وانقلب إلى فاس. ورجّع عامر عبد المؤمن إلى معتقله وأمر الأحوال على ما كانت من قبل إلى أن بلغهم قتل الوزير لسلطانه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: محمد بن زكدان وقد مر معنا في السابق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 (الخبر عن مهلك السلطان محمد بن أبي عبد الرحمن وبيعة عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن) كان شأن هذا الوزير عمر في الاستبداد على سلطانه هذا عجبا حتى بلغ مبلغ الحجر من الصبيان. وكان جعل عليه العيون والرقباء حتى من حرمه وأهل قصره. وكان السلطان كثيرا ما يتنفّس الصعداء مع ندمائه ومن يختصّه بذلك من حرمه إلى أن حدّث نفسه باغتيال الوزير، وأمر بذلك طائفة من العبيد كانوا يختصّون به، فنمى القول، وأرسل به إلى الوزير بعض الحرم كانت عينا له عليه، فخشي على نفسه، وكان من الاستبداد والدولة أن الحجاب مرفوع له عن خلوات السلطان وحرمه، ومكاشفة رتبه، فخلص إليه في حشمه وهو معاقر لندمائه، فطردهم عنه وتناوله غطا حتى فاض وألقوه في بئر في روض الغزلان. واستدعى الخاصّة فأراهم مكانه وأنه سقط عن دابته وهو ثمل في تلك البئر، وذلك في المحرم فاتح ثمان وستين وسبعمائة لست سنين من خلافته. واستدعى من حينئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن وكان في بعض الدور من القصبة بفاس تحت الرقباء والحراسة من الوزير لما كان السلطان محمد يروم الفتك به غيرة منه على الملك، لمكان ترشيحه، فحضر بالقصر وجلس على سرير الملك. وفتحت الأبواب لبني مرين والخاصّة والعامّة فازدحموا على تقبيل يده معطين الصفقة بطاعته. وكمل أمره وبادر الوزير من حينه إلى تجهيز العساكر إلى مراكش ونادى بالعطاء وفتح الديوان وكمل الأعراض وارتحل بسلطانه من فاس في شهر شعبان، وأغذّ السير إلى مراكش ونازل عامر بن محمد بمعقله من جبل هنتاتة ومعه الأمير أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن ابن السلطان أبي عليّ، أطلقه من الاعتقال أيضا وأجلسه موازي ابن عمه، واتخذ له الآلة يموّه به في شأنه الأوّل، ثم سعى بينه وبين عمر في الصلح، فانعقد بينهما وانكفأ راجعا بسلطانه إلى فاس في شهر شوّال، فكان حتفه إثر ذلك، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 (الخبر عن مقتل الوزير عمر بن عبد الله واستبداد السلطان عبد العزيز بأمره) كان عمر قد عظم استبداده على السلطان عبد العزيز فحجره ومنعه من التصرّف في شيء من أمره. ومنع الناس من النهوض له في شيء من أمورهم. وكانت أمّه حذرة عليه إشفاقا وحبّا. وكان عمر لما ملك أمره واستبدّ عليه، سما إلى الإصهار إليهم في بنت السلطان أبي عنان، واشترط لها زعموا تولية أخيها الأمير ونمي ذلك إلى السلطان، وأن عمر مغتاله لا محالة. وقارن ذلك أنّ عمر أوعز إلى السلطان بالتحوّل عن قصره إلى القصبة، فركب أسنّة الغدر لاضطراره واعتزم على الفتك به، وأكمن بزوايا داره جماعة من الرجال وأعدّهم بالتوثّب به. ثم استدعاه إلى بيته للمؤامرة معه على سنته، فدخل معه وأغلق الموالي من الخصيان باب القصر من ورائه. ثم أغلظ له السلطان بالقول وعتبة. ودلف الرجال إليه من زوايا الدار فتناولوه بالسيوف هبرا. وصرخ ببطانته بحيث أسمعهم فحملوا على الباب وكسروا أغلاقه فألفوه مضرّجا بدمائه، فولّوا الأدبار وانفضّوا من القصر وانذعروا وخرج السلطان إلى مجلسه فاقتعد أريكته واستدعى خاصته. وعقد لعمر بن مسعود بن منديل بن حمامة من بني مرين وشعيب بن ميمون بن وردان من الجشم ويحيى بن ميمون بن المصمود من الموالي، وكملت بيعته منتصف ذي القعدة سنة ثمان وستين وسبعمائة وتقبّض على عليّ بن الوزير عمر وأخيه وعمّه وحاشيتهم، وسرّ بهم واعتقلهم حتى أتى القتل عليهم لليال. واستأصل المكان شأفتهم وسكن وأمن ورد النافرين بأمانه وبسط بشره ثم تقبّض لأيام على سليمان بن داود ومحمد السبيع، وكانا في مخالصة عمر بمكان فاعتقلهما استرابة بهما ولشيء نمى له عنهما. وأودعهما السجن إلى أن هلكا واعتقل معهما علال بن محمد والشريف أبا القاسم ريبة بصحابتهما. ثم امتنّ عليهما بشفاعة ابن الخطيب وزير ابن الأحمر وأقصاه. ثم أطلق عنانه في الاستبداد وقبض أيدي الخاصّة والبطانة عن التصرّف في شيء من سلطانه إلّا بإذنه وعن أمره. وهلك لأشهر من استبداد الوزير شعيب بن ميمون. ثم هلك يحيى بن ميمون على ما نذكره إن شاء الله تعالى . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 (الخبر عن انتزاء أبي الفضل بن المولى أبي سالم ثم نهوض السلطان اليه ومهلكه) لما فتك السلطان عبد العزيز بعمر بن عبد الله المتغلّب عليه، سوّلت لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه مثلها في عامر بن محمد، لمكان استبداده عليه، وأغراه بذلك البطانة. وتوجس لها عامر فتمارض بداره. واستأذنه في الصعود إلى معتصمه بالجبل ليمرّضه هنالك أقاربه وحرمه، وارتحل بجملته. ويئس أبو الفضل من الاستمكان منه وأغراه حشمه بالراحة من عبد المؤمن. ولليال من منصرف عامر ثمل أبو الفضل ذات ليلة، وبعث عن قائد الجند من النصارى، فأمر بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة مراكش فجاء برأسه إليه. وطار الخبر إلى عامر فارتاع وحمد الله إذ خلص من غائلته. وبعث ببيعته الى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغّبه في ملك مراكش. ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض إلى مراكش. ونادى في الناس بالعطاء، وقضى أسباب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة واستبدّ أبو الفضل من بعد مهلك عبد المؤمن واستوزر طلحة النوري [1] وجعل علامته لمحمد بن محمد بن منديل الكناني، وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي. ثم أشخص طلحة النوري بسعاية الكناني، فقتله واعتمد منازلة عامر بعساكره. ولما فصل لذلك من مراكش جاءه الخبر بحركة السلطان عبد العزيز إليه، فانفضّ معسكره ولحق بتادلّا ليعتصم بها في معقل بني جابر. وعاج السلطان بعساكره عن مراكش إليها، فنازله وأخذ بمخنقه وقاتله، ففلّ عسكره وداخله بعض بني جابر في الإخلال بمصافه يوم الحرب على مال يعطيه لهم، ففعلوا، وانهزمت عساكر أبي الفضل وجموعه، وتقبّض على أشياعه. وسيق مبارك بن إبراهيم الى السلطان فاعتقله إلى أن قتله مع عامر عند مهلكه كما نذكره. وفرّ الكناني إلى حيث لم يعلم مسقطه. ثم لحق بعامر بن محمد ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة من ورائهم. وداخلهم أشياع السلطان من بني جابر وبذلوا لهم المال الدثر في إسلامه. فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون، فجاء به أسيرا   [1] وفي نسخة أخرى: السنوري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 وأحضره السلطان فوبّخه وقرّعه واعتقله بفسطاط في جواره، ثم غطّ من الليل. وكان مهلكه في رمضان من سنة تسع وستين وسبعمائة سنين من إمارته على مراكش، وبعث السلطان إلى عامر يختبر طاعته بذلك فأبى عليه وجاهر بالخلاف إلى أن كان من شأنهما ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن نكبة الوزير يحيى بن ميمون بن مصمود ومقتله) كان يحيى بن ميمون هذا من رجالات دولتهم وربى في دولة السلطان أبي الحسن، وكان عمّه علال عدوّا له بعداوة أبيه. ولما انتزى السلطان أبو عنان على ملك أبيه، استخلص يحيى هذا سائر أيامه، وهلك عمر يوم مهلكه كما ذكرناه. واستعمل يحيى هذا ببجاية، فلم يزل بها إلى أن تقبّض عليه الموحدون، لما استخلصوا بجاية من يده. وسار إلى تونس واعتقل بها مدّة. ثم صرفوه إلى المغرب أيام عمر، فاختصّ به. ولما عقد له السلطان عبد العزيز على وزارته وكان قوي الشكيمة شديد الحزم صعب العداوة مرهف الحدّ، وكان عمّه علال بعد أن أطلقه السلطان من الاعتقال نكبه عن إذنه [1] وأقامه متصرّفا بين يديه، فألقى إلى السلطان استبداد يحيى عليه وحذّره من شأنه، ورفع إليه أنه يروم تحويل الدعوة لبعض القرابة من آل عبد الحق، وأنه داخل في ذلك قوّاد الجند من النصارى. وأصاب الوزير وجع قعد به عن مجلس السلطان، فاختلف الناس إلى زيارته وعكف ببابه قوّاد النصارى، فاستريب بأمرهم وتيقّن الأمر بعكوفهم، فأرسل السلطان من حشمه من تقبّض عليه وأودعه السجن. ثم جنب إلى مصرعه من الغد وقتل قعصا بالرماح، وقتل المتّهمون من القرابة وقوّاد الجند، واستلحموا جميعا وصاروا مثلا في الآخرين، والأمر للَّه. (الخبر عن حركة السلطان الى عامر بن محمد ومنازلته بجبله ثم الظفر به) لما فرغ السلطان من شأن أبي الفضل عقد على مراكش لعليّ بن محمد بن أجّانا من   [1] وفي نسخة ثانية: مكّنه من اذنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 صنائع دولتهم. وأوعز إليه بالتضييق على عامر والأخذ بمخنقه وإلجائه إلى الطاعة. وانقلب إلى فاس، واعتزم على الحركة إلى تلمسان. وبينما هو في الاستنفار لذلك إذ جاءه الخبر بأنّ علي بن أجّانا نهض إلى عامر وحاصره أياما. وأن عامرا زحف إليه. ففضّ معسكره وتقبّض على ابن أجّانا والكثير من العسكر، فاعتقلهم، فقام السلطان في ركائبه وقعد، وأجمع أمره على النهوض إليه بكافة بني مرين وأهل المغرب، فبعث في الحشود وبثّ العطاء، وعسكر بظاهر البلد حتى استوفى الغرض وعقد على وزارته لأبي بكر بن الغازي بن يحيى بن الكاس، لمكان فيه من مخايل الرئاسة والكفاية، وارتفع محله. وارتحل سنة سبعين وسبعمائة فاحتلّ بمراكش، ثم خرج إلى منازلة الجبل ونازلة [1] ، وكان عامر بن محمد قد نصب بعض الأعياص من آل عبد الحق من ولد أبي ثابت بن يعقوب اسمه تاشفين، ولحق به علي بن عمر ويعلان من شيوخ بني ورتاجن كبير بني مرين، وصاحب الشورى فيهم لعهده، فاشتدّ أزره به. وتوافي به كثير من الجند النازعين عن السلطان رهبة من بأسه أو سخطة لحاله، أو رغبة فيما عند عامر فرتبهم [2] . وأمسك الله يده عن العطاء، فلم تنس [3] بقطرة. وطال مثوى السلطان بساحته وعلى حصاره. ورتّب المقاعد للمقاتلة وغاداه للقتال وراوحه. وتغلّب على حصونه شيئا فشيئا إلى أن تعلّق بأعلى جبل تامسكروط، وكان لأبي بكر بن غازي غناء مذكور، ويئس أصحاب عامر وأشياعه من عطائه. وفسد ما بينه وبين علي بن عمر هذا، فدس إلى السلطان يطلب الأمان، وتوثّق لنفسه ثم نزع إليه. وداخله فارس بن عبد العزيز أخي عامر في القيام بدعوة السلطان والخلاف على عمّه، لما كان يوسق به من إرهاف الحدّ وتفضيل ابنه أبي بكر عليه فبلغ خبره إلى السلطان واقتضى له وثيقة من الأمان والعهد بعث به إليه فثار بعمّه. واستدعى القبائل من الجبل فأجابوه واستحث السلطان للزحف إليهم، فزحفت العساكر والجنود واستولت على معتصم الجبل. ولما استيقن عامر أن قد أحيط به أوعز إلى ابنه أن يلحق بالسلطان مموّها بالنزوع، فألقى بنفسه إليه وبذل له   [1] وفي نسخة ثانية: ثم خرج إلى منازلته. [2] وفي نسخة ثانية: قريبهم. [3] وفي نسخة ثانية: لم يسل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 الأمان وألحقه بجملته. وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه ليخلص إلى السوس فردّه الثلج. وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام بردا وثلجا حتى تراكم بالجبل بعضه على بعض. وسدّ المسالك فاقتحمه عامر وهلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبة. وعاين الهلكة العاجلة فرجع مخفيا أثره إلى غار أوى إليه مع أدلّاء بذل لهم المال يسلكون به ظهر الجبل إلى الصحراء بالسوس. وأقاموا ينتظرون إمساك الثلج. وأقام وأغرى السلطان بالبحث عنه فدلّهم عليه بعض البربر عثروا عليه فسيق إلى السلطان وأحضره بين يديه ووبّخه فاعتذر ونجع بالطاعة. ورغب في الإقالة واعترف بالذنب، فحمل إلى مضرب بني له بإزاء فسطاط السلطان، واعتقل هنالك. وتقبّض يومئذ على محمد الكناني فاعتقل وانطلقت الأيدي على معاقل عامر ودياره، فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات والخرق ما لا عين رأت ولا خطر على قلب أحد منهم. واستولى السلطان على الجبل ومعاقلة في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة لحول من يوم حصاره. وعقد على هنتاتة لفارس بن عبد العزيز بن محمد ابن علي وارتحل إلى فاس واحتل بها آخر رمضان ودخلها في يوم مشهود برز فيه الناس. وحمل عامر وسلطانه تاشفين على جملين وقد أفرغ عليهما الرث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان ذلك عبرة لمن رآه ولما قضى منسك الفطر أحضر عامر فقرعه بذنوبه وأوتي بكتابه بخطه يخاطب فيه أبا حمو ويستنجده على السلطان فشهد عليه وأمر به السلطان فامتحن ولم يزل يجلد حتى انتنّ لحمه، وضرب بالعصيّ حتى ورمت أعضاؤه، وهلك بين يدي الوزعة، وأحضر الكناني ففعل به مثله. وجنّب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا بالرماح وجنب مبارك بن إبراهيم من محبسه بعد الاعتقال، فألحق بهم ولكل أجل كتاب وصفا الجوّ للسلطان من المنازعين. وفرغ لغزو تلمسان كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن ارتجاع الجزيرة الخضراء) قد تقدّم لنا ذكر تغلّب الطاغية ابن الهنشة على الجزيرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وأنه نازل بعدها جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وهلك بالطاعون وهو محاصر له عند ما استفحل أمره واشتدّت شوكته. وكفى الله شأنه وولّى أمر الجلالقة بعده ابنه ابن خلدون م 28 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 بطرة، وعدا على سائر إخوته. وفرّ أخوه القمط ابن حظية أبيه المسمّاة بلغتهم ألريق (بهمزة) إلى قمط برشلونة فأجاره وأنزله خير نزل. ولحق به من الزعماء المريكس [1] ابن خالته وغيره من اقماطهم [2] وبعث إليه بطرة ملك قشتالة في إسلام أخيه فأبي من إخفار جواره. وحدثت بينهما بذلك الفتنة الطويلة افتتح بطرة فيها كثيرا من معاقل صاحب برشلونة وأوطأ عساكره نواحي أرضه، وحاصر بلنسية قاعدة شرق الأندلس مرارا أرجف عليها بعساكره، وملأ البحر إليها بأساطيله إلى أن ثقلت على النصرانية وطأته وساءت فيها ملكته، فانتقضوا عليه ودعوا القمط أخاه فزحف إلى قرطبة. وثار على بطرة أهل إشبيلية وتيقّن صاغية النصارى إليه، ففرّ عن ممالكه ولحق بملك الافرنج وراء جليقية وفي الجوف عنها وهو صاحب انكلطرة، واسمه ألفنس غالس. ووفد عليه صريخا سنة سبع وستين وسبعمائة فجمع قومه وخرج في صريخه إلى أن استولى على ممالكه. ورجع ملك الأفرنج فعاد النصارى إلى شأنهم مع بطرة. وغلب القمط على سائر الممالك فتحيّز بطرة إلى ثغوره مما يلي بلاد المسلمين. ونادى صريخا بابن الأحمر فانتهز فيها الفرصة. ودخل بعساكر المسلمين فأثخن في أرض النصرانية، وخرّب معاقلهم ومدنهم مثل أبدة وجيان وغيرهما من أمهات أمصارهم. ثم رجع إلى غرناطة، ولم تزل الفتنة قائمة بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلب عليه القمط وقتله. وفي خلال هذه الفتن بقيت ثغورهم مما يلي أرض المسلمين عورة. وتشوّف المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين. وكان صاحب المغرب في شغل عن ذلك بما كان فيه من انتقاض أبي الفضل ابن أخيه وعامر بن محمد، فراسل صاحب الأندلس أن يزحف إليه بعساكره على أنّ عليه عطاءهم وإمداده بالمال والأساطيل على أن يكون مثوبة جهاده خالصة له، فأجاب إلى ذلك وبعث إليه أحمال المال. وأوعز إلى أساطيله بسبتة فعمرت وأقلعت من مرسى الجزيرة لحصارها وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العلل، واستعدّ الآلات للحصار، فنازلها أياما قلائل. ثم أيقن النصارى بالهلك لبعدهم عن الصريخ ويأسهم عن مدد ملوكهم، وألقوا باليد وسألوا النزول على حكم السلم فأجابهم السلطان إليه، ونزلوا عن البلد وأقيمت فيها شعائر الإسلام   [1] وفي نسخة ثانية: المركش. [2] وفي نسخة ثانية: اقماصهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 ومراسمه، ومحيت منها كلمة الكفر وطواغيته. وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة وولّى ابن الأحمر عليها من قبله. ولم تزل لنظره إلى أن تمحّض النظر عن هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها، فهدمت أعوام ثمانين وسبعمائة وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس. والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن حركة السلطان الى تلمسان واستيلائه عليها وعلى سائر بلادها وفرار أبي حمو عنها) كان عرب المعقل موطنين بصحراء المغرب من لدن السوس ودرعة وتافيلالت وملويّة وصا [1] . وكان بنو منصور منهم أولاد حسين والأحلاف مختصين بطاعة بني مرين وفي وطنهم. وكانوا مغلوبين للدولة تحت قهر من سلطانها. ولما ارتجع بنو عبد الواد ملكهم بتلمسان على يد أبي حمّو، وكان الاحلاف بالمغرب، عاث هؤلاء المعقل وأكثروا في الوطن الفساد. ولما استقالت الدولة من عثارها تحيّزوا إلى بني عبد الواد وأقطعوهم في أوطانهم. واستقرّوا هنالك من لدن نزوع عبد الله بن مسلم العامل بدرعة إلى أبي حمّو ووزارته له. وفسد ما بين سلطان المغرب وأبي حمّو من جرّاء ذلك. ونهض أبو حمّو سنة ست وستين وسبعمائة إلى المغرب، وعاث في نواحي دبدو ثغر المغرب فنشأت [2] لذلك نار العداوة بينه وبين صاحب الثغر محمد بن زكراز [3] فكان داعية لعداء صاحب المغرب على الأيام. ولما استبدّ السلطان عبد العزيز وهلك صاحبهم عبد الله بن مسلم، وتردّدت الرسل بين أبي حمّو وبين السلطان عبد العزيز، كان فيما اشترط عليه التجافي عن قبول عرب المعقل عرب وطنه، لما فيه من الاستكثار بهم عليه. وأبي عليهم أبو حمّو منها لاستظهاره بهم على زغبة من أهل وطنه وغيرهم. وكثر التلاحي في ذلك وأحفظ السلطان وهمّ بالنهوض إليه سنة سبعين وسبعمائة وأقصر لما أخذ بحجزته من خلاف عامر. وصاحب الثغر محمد بن زكراز أثناء ذلك يحرّضه على الحركة إلى أبي حمّو ويرغّبه في ملك تلمسان. ولما قضى السلطان حركة مراكش   [1] هي قلعة (زا) وال (ز) تلفظ (صاد) عند البربر، لذلك كتبها ابن خلدون بالصاد. [2] وفي نسخة ثانية: نشبت. [3] وفي نسخة ثانية: زكدان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 وفرغ من شأن عامر ورجع إلى فاس، ولقي [1] بها أبو بكر بن عريف أمير سويد في قومه من بني مالك بحللهم وناجعتهم، صريخا على أبي حمّو لما نال منهم. وتقبّض على أخيهم محمد ورؤساء بني مالك جزاء بما يعرف لهم ولسلفهم من ولاية صاحب المغرب. ووفد عليه رسل أهل الجزائر ببيعتهم يستحثّون السلطان لاستنقاذهم من لهواته. وأمر السلطان بذلك وليه ونزمار ومحمد بن زكراز صاحب دبدو فزعموا له بالغناء في ذلك واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشدين إلى مراكش للاحتشاد، وتوافي الناس ببابه على طبقاتهم أيام منى من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وأفاض العطاء وأزاح العلل، ولما قضى منسك الأضحى اعترض العساكر ورحل إلى تلمسان، واحتل بتازى. وبلغ خبر نهوضه إلى أبي حمّو، فجمع من إليه من زناتة الشرق وبني عامر من عرب المعقل وزغبة. وتوافت جموعه بساحة تلمسان واضطرب هنالك معسكره واعترض جنوده واعتزم على الزحف للقاء بني مرين ثقة بمكان المعقل. وتحيّز من كان معه من عرب المعقل الأحلاف وعبيد الله إلى السلطان عبد العزيز بمداخلة وليّهم ونزمار. واجتمعوا إليه وسرّح معهم صنائعه فارتحلوا بين يديه وسلكوا طريق الصحراء. وبلغ خبر تحيّزهم وإقبالهم إلى أبي حمّو فأجفل هو وجنوده وأشياعه من بني عامر وسلكوا على البطحاء. ثم ارتحلوا عنها وعاجوا على منداس، وخرجوا إلى بلاد الديالم. ثم لحقوا بوطن رياح فنزلوا على أولاد سبّاع بن علي بن يحيى. وارتحل السلطان عبد العزيز من تازي وقدّم بين يديه وزيره أبا بكر بن غازي، فدخل تلمسان وملكها. ورحل السلطان على أثره واحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر ابن غازي على العساكر من بني مرين والجنود والعرب من المعقل وسويد، وسرّحه في اتباعه وجعل شوراه إلى وليّه ونزمار وفوّض إليه في ذلك. فارتحلوا من تلمسان آخر المحرّم وكنت وافدا على أبي حمّو، فلما أجفل عن تلمسان ودّعته وانصرفت إلى هنين للإجازة إلى الأندلس. ووشى بعض المفسدين إلى السلطان بأني احتملت مالا للأندلس، فبعث جريدة من معسكره للقبض عليّ، ووافوني بوادي الزيتون قبل   [1] وفي نسخة ثانية: وافاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 مدخلي إلى تلمسان فأحضرني وسألني، وتبين كذب الواشي فأطلقني وخلع عليّ وحملني. ولما ارتحل الوزير في اتباع أبي حمّو استدعاني وأمرني بالنهوض إلى رياح والقيام فيهم بدعوته وطاعته، وصرفهم عن طاعة أبي حمّو وصريخه، فنهضت لذلك، ولحقت بالوزير بالبطحاء، وارتحلت معه إلى وادي ورك من بلاد العطاف، فودّعته وذهبت لوجهي وجمعت رياح على طاعة السلطان ونكبت بهم عن طاعة أبي حمّو فنكبوا عنها. وخرج أبو زيان من محل نزوله بحصين، فلحق بأولاد محمد ابن علي بن سبّاع من الزواودة. وارتحل أبو حمّو من المسيلة فنزل بالدوسن وتلوّم بها. وأوفدت من الزواودة على الوزير ونزمار فكانوا أدلّاءهم في النهوض إليه. ووافوه بمكانه من الدوسن في معسكره من زناتة وحلل بني عامر، والوزير في التعبية، وأمم زناتة والعرب من المعقل وزغبة ورياح مخيفة [1] به. فأجهضوه عن ماله ومعسكره، فانتهب بأسره. واكتسحت أموال العرب الذين معه، ونجا بدمائه إلى مصاب. وتلاحق به ولده وقومه متفرّقين على كل مفازة، وتلوّم الوزير بالدوسن أياما. ووافاه بذلك لحاق بني مرين [2] وانقلب إلى المغرب. ومرّ على قصور بني عامر بالصحراء فاستباحها، وشرّدهم عنها إلى قاصية القفر ومفازة العطش. ولحق بتلمسان في ربيع الثاني. ووفدت أنا بالزواودة على السلطان ورئيسهم أبو دينار بن علي بن أحمد، فبرّ السلطان مقدمه ورعى له سوابقه عند أخيه [3] ، وخلع عليه وحمله وخلع على الوفد كافة وانصرفوا إلى مواطنهم. وبعث السلطان عمّاله على الأمصار، وعقد لصنائعه على النواحي، وجهّز الكتائب مع وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة، لحصار حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن منديل، كان ربّي في حجر الدولة ونشأ في جوّ نعمتها وسخط حاله لديهم. فنزع إلى وطن سلفه من مغراوة. ونزل بجبل بني بو سعيد فأجاروه وبايعوه على الموت دونه. وسرّح السلطان وزيره إلى الأخذ بمخنقهم، فنزل عليهم وقاتلهم وامتنعوا في رأس شاهقهم، فأوطن الوزير بالخميس من وادي شلف وأحجرهم بمعتصمهم. وتوافت لديه الأمداد من تلمسان، فجهّزها   [1] وفي نسخة ثانية: محدقة به. [2] وفي نسخة ثانية: ووافاه هنالك اتحاف ابن مزني. [3] وفي نسخة ثانية: عند أبيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 كتائب وبوأهم المقاعد للحصار، وأقام هنالك واستولى السلطان على سائر الوطن من الأمصار والأعمال، وعقد عليها واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه. والله تعالى أعلم. (الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان الى تيطرا واجلاب العرب بأبي حمو على تلمسان الى أن غلبهم السلطان جميعا على الأمر واستوسق له الملك) لما خلص أبو حمّو من وقعة الدوسن هو وأحياء بني عامر أشياعه، لحقوا بالصحراء وأبعدوا فيها عن قصورهم قبلة جبل راشد. وجمع الوزير ونزمار بن عريف بأحياء العرب كافة من زغبة والمعقل. وكان السلطان لما احتل بتلمسان طلب العرب منه إطلاق أيديهم على ما أقطعهم أبو حمّو إيّاه من الوطن على الزبون والاعتزاز عليه، فاستنكف من ذلك لعظم سلطانه واستبداد ملكه، فسخطوا أحوالهم ورجوا أن يكون لأبي حمّو ظهور ينالون به من ذلك ما أمّلوه. فلمّا انهزم وقلّت عساكره، وظهر السلطان ظهورا لا كفاء له فيئسوا، أجمع رحّو بن منصور أمير الخراج من عبيد الله إحدى بطون المعقل الخروج على السلطان، ولما خرج العرب إلى مشاتيهم لحق بأبي حمّو وأحياء بني عامر وكاثروهم وقادوهم إلى العيث في الأوطان. فأجلبوا على ممالك السلطان ونازلوا وجدة في رجب من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وصمدت نحوهم العساكر من تلمسان، فأجفلوا وعاجوا إلى البطحاء فاكتسحوا أوطانها. ونهض إليهم الوزير في العساكر ففرّوا أمامه، واتبع آثارهم إلى أن أصحروا. واستنسر خلال ذلك حمزة بن علي بن راشد، فبيّت معسكر الوزير بمكانه من حصار شلف، ففضّ جموعه ولحق مفلولا بالبطحاء وبلغ الخبر إلى حصين وكانوا راهبين من السلطان، لما اشتهر عنهم من الأجلاب على الدول والقيام بأمر الخوارج، فجأجئوا بأبي زيان الثائر كان عندهم من مكانه بأحياء أولاد يحيى بن عليّ بن سبّاع من الزواودة، فلحق بهم وأجلبوا على ضواحي المدية ونازلوا عسكر السلطان بها. واضطرم المغرب الأوسط نازلا، واتصل ذلك به مدة. ولمّا كان سنة ثلاث وسبعين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 وسبعمائة استمال السلطان رحّو بن منصور عن أبي حمّو وبذل له مالا وأقطعه ما أحبّ من الضواحي، وفعل ذلك بسائرهم وملأ صدورهم ترغيبا. واعتزم على تجهيز العساكر معهم لحسم أدواء الفساد وإخراج الثوّار من النواحي. واتهم وزيره عمر بن مسعود بالمداهنة في أمر المغراوي، فسرّح من دولته من تقبّض عليه وأشخصه إلى حضرته مقيّدا. واعتقله بفاس وجهّز عساكره واعترض جنوده، وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي على حرب الثوّار والخوارج، فنهض من تلمسان في رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة واعتمد حمزة على ابن راشد في معتصمه بجبل بني بو سعيد، وألح عليه بالقتال فعضتهم الحرب بنابها، وداخلهم الرعب، وأوفدوا مشيختهم على الوزير بالطاعة. ونبذ العهد إلى حمزة فعقد لهم ما ابتغوه. ولحق حمزة بأبي زيان بمكانه من حصين. ثم أثنى عزمه عن ذلك ورجع إلى ضواحي شلف. وبيّته بعض الحامية فثبتوا في مراكزهم وانفضّ جمعه، وتقبّض عليه وسيق إلى الوزير فاعتقله وبعث إلى السلطان في شأنه، فأمر بقتله، فاحتزّ رأسه ورءوس أشياعه وبعث بهم الى السلطان وعلق أشلاءهم بسور مليانة. ثم زحف إلى حصين فأحجرهم بمعقلهم بتيطرا، واجتمعت إليه أحياء زغبة كافة. فأحاط بهم من كل جانب وطاولهم الحصار وعاودوهم الحرب، وخاطبني السلطان بمكاني من الزاب، وأوعز إليّ بنفير رياح كافّة إلى معسكر الوزير فاستنزلهم [1] بأحيائهم وناجعتهم، ونازلنا الجبل من ناحية الصحراء مما يلي ضواحي رياح، فأصابهم الجهد وداخلهم الرعب، وانفضّوا من المعقل وانذعروا في الجهات في المحرم فاتح أربع وسبعين وسبعمائة ولحق أبو زيّان بواركلي، واستولى الوزير على المعقل وانتهب ما فيه، واقتضى رهن حصين على الطاعة وقرّر عليهم الوضائع والمغارم، فأعطوها عن يد. وكان أبو حمّو في خلال ذلك قد أجلب على تلمسان ينتهز الفرصة في انتباذ العسكر عن السلطان. وكان وليّه خالد بن عامر أمير بني عامر من زغبة مريد الطاعة، لما اتهم أبو حمّو به من ولاية رديفه عبد الله بن عسكر بن معروف دونه، فأسخطه ذلك، وداخل السلطان عبد العزيز في الانحراف إليه عن أبي حمّو على مال حمله إليه، فنزع عنه. وجهّز له السلطان عسكر الحرب أبي حمّو في ذي القعدة من سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من   [1] وفي نسخة ثانية: فاستنفرتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 بني عامر وأولاد يغمور من المعقل، وعقد عليهم لمحمد بن عثمان من قرابة أبي بكر بن غازي وتعرّضوا للقائهم، ففضّ جمعهم ومنحوا أكتافهم وأحيط بمعسكر أبي حمو وحلل العرب فاكتسح ما فيها واستولى بنو مرين على أمواله وحرمه وولده، فاستاقوهم إلى السلطان وأشخصهم إلى فاس فأنزلهم بقصوره. وتقبّض على مولاه عطيّة بن موسى صاحب شلف، فامتنّ عليه وألحقه بجملته. ونجا ابو حمّو وألقى بنفسه إلى عبد الله بن صغير مستميتا، فامتنّ عليه وبعث معه الأدلّاء إلى تيكورارين من بلاد القبلة، فنزلها وكان ذلك بين يدي فتح تيطرا بليال. واستوت قدم السلطان في ملكه واستولى على المغرب الأوسط، ودفع الثوّار والخوارج عنه. واستمال كافة العرب إلى طاعته فأتوها راغبين راهبين. ووفد عليه للوزير أبو بكر بن غازي من قاصية الشرق ومعه مشيخة العرب من كل حيّ من أحيائهم فوصلهم واحتفى بقدومهم، وركب للقاء الوزير وطلب المشيخة في الرهن على الطاعة والاستحثاث لتشريد أبي حمّو من تيكورارين، وأوسع حفايتهم وبرّهم وانصرفوا إلى مشاتيهم معتملين في أسباب الحركة إلى تيكورارين إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن قدوم ابن الخطيب على السلطان بتلمسان نازعا اليه عن سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس) أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الّذي فيه ساحتها المسمّى بالمرج على وادي سنجيل، ويقال شنبيل المنحرف في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلف معروفون في وزارتها. وانتقل أبو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام، ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدّب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب. وأخذ عن أشياخه وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيّد منه. وبلغ في الشعر والترسيل حيث لا يجاري فيهما. وامتدح السلطان أبا الحجّاج من ملوك بني الأحمر وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماه، فرقّاه السلطان إلى خدمته وأثبته في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 ديوان الكتّاب ببابه مرءوسا بأبي الحسن بن الحباب [1] شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية. وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه، عند ما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبدّ عليه كما مرّ في أخبارهم. فاستبدّ ابن الحباب برياسة الكتّاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فولّى السلطان أبو الحجّاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه مثنّاة بالوزارة. ولقبه بها فاستقلّ بذلك. وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة. ثم داخله السلطان في تولية العمّال على يديه بالمشارطات، فجمع له بها أموالا. وبلغ به المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد من قبله. وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة مغريا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلّى في أغراض سفارته. ثم هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة، وطعنه فأشواه وفاض لوقته، وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء. وبويع ابنه محمد بالأمر لوقته، وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم. واستبدّ بالدولة، وأفراد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه، واتخذ لكتابته غيره، وجعل ابن الخطيب رديفا له في أمره وتشاركا في الاستبداد معا، فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة. ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان مستمدّين له على عدوّهم الطاغية على عادتهم مع سلفه. فلمّا قدم على السلطان ومثل بين يديه، تقدّم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها استأذنه في إنشاد شيء من الشعر يقدّمه بين يدي نجواه، فأذن له، وأنشد وهو قائم: خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر ودافعت عنك كفّ قدرته ... ما ليس يستطيع دفعه البشر وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفّك المطر والناس طرّا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا   [1] وفي نسخة ثانية: الجياب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 وجملة الأمر أنّه وطن ... في غير علياك ما له وطر ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا وقد أهمّتهم نفوسهم ... فوجّهوني إليك وانتظروا. فاهتزّ السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس. وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم إلّا بجميع عطائهم [1] . ثم أثقل كاهلهم بالإحسان، وردّهم بجميع ما طلبوه. وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد: لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلّم على السلطان إلّا هذا. ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين. ثم نازلهم [2] محمد الرئيس ابن عمّ السلطان يشاركه في جدّه الرئيس أبي سعيد. وتحيّن خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء. وتسوّر دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوانا في بيته، فقتله. وذهب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجّاج، لما كان صهره على شقيقته. وكان معتقلا بالحمراء، فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدّا عليه. وأحسّ السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان، فركب باديا إلى وادي آش وضبطها. وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب. وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس. واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيّق عليه في محبسه. وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودّة استحكمت أيام مقامه بالأندلس كما مرّ. وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم، فزيّن له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس، ويكفّ به عادية القرابة المرشّحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب، فقبل ذلك منه. وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه. وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني، وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب. وحل معتقله. فأطلق، وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش، وسار في ركاب السلطان. وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتزّ لقدوم ابن الأحمر، وركب في المواكب لتلقّيه، وأجلسه إزاء كرسيّه، وأنشد ابن الخطيب قصيدته كما مرّ يستصرخ السلطان لنصره، فوعده وقد   [1] وفي نسخة ثانية: طلباتهم. [2] وفي نسخة ثانية: ثم ثار بهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 كان يوما مشهودا وقد مرّ ذكره. ثم أكرم مثواه وأرغد نزله، ووفّر أرزاق القادمين في ركابه وانتصر به. وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والأقطاع. ثم استأنس واستأذن السلطان في التحوّل إلى جهات مراكش والوقوف على آثار الملك بها، فأذن له وكتب إلى العمّال باتحافه، فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظّ وعند ما مرّ بسلا في قفوله من سفره، دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على رويّ الراء الموصولة يريثه ويستثير به استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها: إن بان منزله وشطّت داره ... قامت مقام عيانه أخباره قسّم زمانك عبرة أو غيرة [1] ... هذا ثراه وهذه آثاره فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة، فشفعوه. واستقرّ هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة. ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة كما مرّ في أخباره. وبعث عن مخلّفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره. فسرّ السلطان بمقدمه وردّه إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله. وكان عثمان بن يحيى عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية في ركاب أبيه عند ما أحسّ بالشرّ من الرئيس صاحب غرناطة. وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب، فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك، وتغلب في مذاهب خدمته. وانحرفوا عن الطاغية بعد ما يئسوا من الفتح على يديه، فتحوّلوا عنه إلى ثغور بلاده. وخاطبوا عمر بن عبد الله في أن يمكّنهم من بعض الثغور الغربية التي أطاعتهم بالأندلس، يرتقبون منها الفتح. وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك، وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمّة مرعيّة ومخالصة متأكدة، فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله. وحملته على أن يردّ عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه، فقبل إشارتي في ذلك. وتسوّرها السلطان المخلوع، ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته. وهو مقدّم في بطانته. ثم غزوا منها مالقة، فكانت ركابا للفتح. وملكها السلطان واستولى بعدها على دار   [1] وفي نسخة ثانية: غيرة أو عبرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 ملكها بغرناطة، وعثمان بن يحيى مقدّم القوم في الدولة عريق في المخالصة، وله على السلطان دالة واستبداد على هواه. فلما فصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده، وأعاده السلطان إلى مكانه من الدولة من علوّ يده وقبول إشارته، فأدركته الغيرة من عثمان، ونكر على السلطان الاستكفاء به، والتخوّف من هؤلاء الأعياص على ملكه، فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق. ثم غرّبهم بعد ذلك، وخلا لابن الخطيب الجوّ وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير المملكة، وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته، وانفرد ابن الخطيب بالحلّ والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصّة والكافّة. وغصّت به بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه [1] وقد صمّ السلطان عن قبولها. ونمي الخبر بذلك الى ابن الخطيب، فشمّر عن ساعده في التقويض عنهم. واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ في التقبّض على ابن عمّه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي. كانوا قد نصّبوه شيخا على الغزاة في الأندلس لما أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك، وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مرين، فاضطرّ إلى الإجازة إلى الأندلس، فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماسي ونزلوا على السلطان على المخلوع أعوام سبع وستين وسبعمائة فأكرم نزلهم، وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة، فقدم عبد الرحمن مكانه. وكان السلطان عبد العزيز قد استبدّ بملكه بعد قتله الوزير عمر بن عبد الله، فغصّ بما فعله السلطان المخلوع من ذلك. وتوقّع انتقاض أمره منهم. ووقف على مخاطبات ابن عبد الرحمن يسرّ بها في بني مرين، فجزع لذلك. وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي واراحة نفسه من شغبهم، على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه، فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه، على يد سفيره إلى الأندلس، وكاتبه أبي يحيى بن أبي مدين. بني مرين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماسي فتقبّض عليهما. واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية. وربّما خيّل أنّ السلطان مال إلى قبولها وأنّهم قد   [1] وفي نسخة ثانية: فتفننوا في السعايات فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 أحفظوه عليه، فأجمع التحوّل عن الأندلس إلى المغرب. واستأذن السلطان في تفقّد الثغور الغربيّة. وسار إليها في لمّة من فرسانه، ومعه ابنه عليّ الّذي كان خالصة السلطان وذهب لطبنه. فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة، مال إليه وسرّح إذنه بين يديه، فخرج قائد الخيل لتلقّيه. وقد كان السلطان عبد العزيز قد أوعز إليه بذلك، وجهّز إليه الأسطول من حينه، فأجاز إلى سبتة وتلقّاه بها بأنواع التكرمة وامتثال الأوامر [1] . ثم سار لقصد السلطان، فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامته من تلمسان، فاهتزّت له الدولة. وأركب السلطان خاصّته لتلقّيه، وأحلّه بمجلسه بمحل الأمن والغبطة، ومن دولته بمكان الشرف [2] والعزّة. وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن أبي مدين سفيرا إلى الأندلس في طلب أهله وولده، فجاء بهم على أكمل الحالات من الأمن والتكرمة. ثم لغط المنافسون له في شأنه وأغروا سلطانه بتتبع عثراته، وأبدى ما كان كامنا في نفسه من سقطات دالته وإحصاء عصابته [3] . وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه. ورفعت إلى قاضي الحضرة الحسن بن الحسن، فاسترعاها [4] وسجّل عليه بالزندقة. وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه. وبعث القاضي أبو الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات، وإمضاء حكم الله فيه، فصمّ لذلك وأنف لذمّته أن تخفر ولجواره أن يردى [5] وقال لهم: هلا انتقمتم وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه؟ وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري. ثم وفرّ الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته. فلمّا هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان، سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي القائم بالدولة، فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنّق في بناء المساكن واغتراس الجنات، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى. واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي نسخة ثانية: المراسيم. [2] وفي نسخة ثانية: النبوّة. [3] وفي نسخة ثانية: مغائبه. [4] وفي نسخة ثانية: فاسترداها. [5] وفي نسخة ثانية: أن يرد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 الخبر عن مهلك السلطان عبد العزيز وبيعة ابنه السعيد واستبداد أبي بكر بن غازي عليه ورجوع بني مرين إلى المغرب كان السلطان منذ أوّل نشأته قد أزمنت به الحمى بما أصابه من مرض النحول، ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو سالم على احتماله مع الأبناء إلى رندة. ولما شبّ أفاق من مرضه وصلح بدنه. ثم عاوده وجعه في مثواه بتلمسان وتزايد نحوله. ولما كمل الفتح واستفحل سلطانه واشتدّ به الوجع وصابر المرض وكتمه عن الناس خشية الإرجاف، واضطرب معسكره خارج تلمسان للحاق بالمغرب، ولما كان ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وسبعمائة قضى متودّعا بين أهله وولده ودسّ الخدم بالخبر إلى الوزير، فخرج على الناس وقد احتمل محمد السعيد ابن السلطان على كنفه فعزّى الناس عن خليفتهم لسبع سنين من خلافته، وألقى ابنه بين أيديهم فازدحموا عليه باكين متفجّعين، يعطونه الصفقة ويقبّلون يديه للبيعة، وأخرجوه للمعسكر. ثم أخرج الوزير شلو السلطان على أعواده وأنزله بفساطيطه، وأيقظ بالليل بحراسة المعسكر. وأذن للناس بالرحيل، فخرجوا أفواجا إلى المحلّة. ثم ارتحلوا لثلاث، وأغذّوا السير إلى المغرب واحتلوا بتازى ثم أغذّوا السير إلى فاس، واحتلّ ابن السلطان بدار ملكه وجلس للبيعة العامّة بقصره. وتوافت وفود الأمصار ببيعتهم على العادة. واستبدّ عليه الوزير أبو بكر بن غازي، وحجبه بقصره وحجره عن التصرّف في شيء من سلطانه، ولم يكن في سنّ التصرّف، واستعمل على الجهات وجلس بمجلس الفضل، واشتغل بأمر المغرب إبراما ونقضا إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (الخبر عن استيلاء أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط) لما فصل بنو مرين من تلمسان إثر مهلك السلطان عبد العزيز واحتلوا بتازي اجتمع المشيخة وعقدوا على تلمسان لإبراهيم ابن السلطان أبي تاشفين كان ربّي في كفالة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 دولتهم منذ مهلك أبيه، فآثروه بذلك لخلوصته. وبعثوه مع رحّو بن منصور أمير عبيد الله من المعقل، وسرّحوا معهما من كان بالمغرب من مغراوة إلى وطن ملكهم بشلف. وعقدوا عليهم لعليّ بن هارون بن منديل بن عبد الرحمن وأخيه رحمون وانصرفوا إلى بلادهم. وكان عطية بن موسى مولى أبي حمّو قد صار إلى السلطان عبد العزيز وألحقه بجملته وبطانته، فلمّا هلك السلطان خرج من القصر واختفى بالبلد حتى إذا فصل بنو مرين من معسكرهم ظاهر البلد، خرج من مكان اختفائه، وقام بدعوة مولاه أبي حمّو، واجتمع إليه شيعة من أهل البلد مع من تأشّب إليه من الغوغاء، وحملوا الخاصة على البيعة لأبي حمّو، ووصلهم إبراهيم بن أبي تاشفين مع رحّو بن منصور وقومه من عبيد الله، فنبذوه وامتنعوا عليه، فرجع عنهم إلى المغرب، وطيّر أولاد يعمور أولياء أبي حمو من عبيد الله بالخبر إليه وهو بمثواه من تيكورارين. واتصل بابنه أبي تاشفين وهو عند يحيى بن عامر [1] فدخل إلى تلمسان ومن معه من بني عبد الواد، وتساقط إليه فلّهم من كل جانب، ووصل السلطان على أثرهم بعد اليأس منه، فدخلها في جمادى من سنة أربع وسبعين وسبعمائة واستقل بملكه، وتقبّض على بطانته الذين آسفوه في اغترابه، ونمي له عنهم السعي عليه، فقتلهم، ورجع ملك بني عبد الواد وسلطانهم، ونهض إلى مغراوة أولياء بني مرين بمكانهم من شلف، فغلبهم عليه بعد مطاولة وحروب سجال هلك فيها رحمون بن هارون، ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره، واستقلّ بالأمر حسبما ذكرناه في أخباره. واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فهمّ بالنهوض إليه. ثم ثنى عزمه ما كان من خروج الأمير عبد الرحمن بناحية بطوية فشغله شأنه عن ذلك. الخبر عن إجازة الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن الى المغرب واجتماع بطوية إليه وقيامهم بشأنه كان محمد المخلوع ابن الأحمر قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة   [1] وفي نسخة ثانية: وهو بحي بني عامر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 ثلاث وستين وسبعمائة وقتل له الطاغية عدوّه الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع، واستوى على كرسيّه واستقلّ بملكه، ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب واستخلصه وعقد له على وزارته، وفوّض إليه في القيام بملكه فاستولى عليه وملك هواه. وكانت عينه ممتدّة إلى المغرب وسكناه إلى أن نزلت به آفة في رياسته، فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه، وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلّهم غيرة على ولد عمّهم السلطان أبي عليّ ويخشونهم على أمرهم. ولمّا لحق الأمير عبد الرحمن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب واستخلصه لنجواه، ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته، وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة والمجاهدين من زناتة مكان بني عمّه من الأعياص، فكانت له آثار في الاضطلاع بها، ولما استبدّ السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه، وكان ابن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه، فدسّ إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره المطارد به مسعود بن ماسي، وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز سلطان المغرب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدّم من الوسائل ومهّد من السوابق فقدمه السلطان وأحلّه من مجلسه محل الاصطفاء والقرب. وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده، فبعثهم إليه واستقرّ في جملة السلطان. ثم تأكدت العداوة بينه وبين ابن الأحمر فرغب السلطان في ملك الأندلس وحمله عليه وتواعدوا لذلك عند مرجعه من تلمسان إلى المغرب. ونمي ذلك إلى ابن الأحمر فبعث إلى السلطان بهديّة لم يسمع بمثلها، انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه، وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه، فأبى السلطان من ذلك ونكره، ولمّا هلك واستبدّ الوزير ابن غازي بالأمر تحيّز إليه، ابن الخطيب وداخله وخاطبه ابن الأحمر فيه بمثل ما خاطب السلطان، فلم يؤب [1] واستنكف ذلك وأقبح الردّ، وانصرف رسله إليه، وقد رهب سطوته، فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماسي ونهض إلى جبل الفتح فنازله بعساكره   [1] وفي نسخة ثانية: فلجّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 ونزل عبد الرحمن ببطوية في ذي القعدة من سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ومعه وزيره مسعود بن ماسي، فاجتمع قبائل بطوية إليه وبايعوه على القيام بدعوته والموت دونه، واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فعقد لابن عمه محمد بن عثمان على سبتة وبعثه لسدّ ثغورها لما خشي عليها من ابن الأحمر، ونهض من فاس بالآلة والعساكر ونازل عبد الرحمن ببطوية، فقاتله أياما ثم رجع إلى تازى ثم إلى فاس، ودخل الأمير عبد الرحمن تازي واستولى عليها، ودخل الوزير إلى فاس وقعد بمجلس الفصل، وهو مجمع العودة إلى تازي لتشريد عدوّه إلى أن جاء الخبر ببيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم واستقلاله بالملك وما كان خلال ذلك من الأحداث لما نزل محمد بن عثمان بالثغر من سبتة لسدّ فروجها، ومدافعة ما يخشى من عادية ابن الأحمر عليها، وكان قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقه، وتكرّرت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان بالعتاب، فاستعتب له وقبّح ما جاء به ابن عمّه من الاستغلاظ له، فوجد ابن الأحمر بذلك السبيل إلى غرضه، وداخله في البيعة للسلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الرقبة والحوطة، وأن يقيمه للمسلمين سلطانا يحوط سياجهم [1] ويدافع عنهم ولا يتركهم فوضى وهملا. ويجب [2] بيعة الصبيّ الّذي لم تنعقد بيعته شرعا، واختصّ هذا بالسلطان من بين أولئك الأبناء وفاء بحقوق أبيه، ووعده بالمظاهرة على ذلك، واشترط عليه أن ينزلوا له عن الجبل إذا انعقد أمرهم، ويشخصوا إليه بيعة الأبناء والقرابة من طنجة ليكونوا في إيالته وتحت حوطته، وأن يبعثوا إليه ابن الخطيب متى قدروا عليه، ويبعثوا إليه بقية الأبناء والقرابة فقبل محمد بن عثمان شرطه كان سفيره في ذلك أحمد المرغني [3] من طبقات كتّاب الأشغال بسبتة، كان السلطان أبو الحسن تزوّج أمّه   [1] وفي نسخة ثانية: يجول بسياجهم. [2] جبّه: قطعه، وهنا تعني يمنع. [3] وفي نسخة ثانية: الرعينيّ. ابن خلدون م 29 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 ليلة إجازته من واقعة طريف وافتقاد حظاياه، حتى لحق به الحرم من فاس، فردّها إلى أهلها ونشأ المرغني في توهّم هذه الكفالة، فانتفخ نحره لذلك ويحسبها وصلة إلى أبناء السلطان أبي الحسن، وكان سفيرا بين محمد بن عثمان وابن الأحمر، فأمّل الرئاسة في هذه الدولة، وركب محمد بن عثمان من سبتة إلى طنجة، وقصد مكان اعتقالهم. واستدعى أبا العبّاس أحمد ابن السلطان أبي سالم من مكانه مع الأبناء فبايع له، وحمل الناس على طاعته، واستقدم أهل سبتة بكتاب للبيعة، فقدموا وخاطب أهل الجبل فبايعوا، وأفرج ابن الأحمر عنهم. وبعث إليه محمد بن عثمان بالنزول عن جبل الفتح، وخاطبوا أهله بالرجوع إلى طاعته، فارتحل من مالقة إليه ودخله واستولى عليه، ومحا دعوة بني مرين مما وراء البحر، وأهدى للسلطان أبي العبّاس وأمدّه بعسكر من غزاة الأندلس وحمل إليه مالا للإعانة على أمره. وكان محمد بن عثمان عند فصوله من فاس، وودّعه الوزير ابن عمّه فاوضه في شأن السلطان، وأن يقدّم للناس إماما يرجعون إليه ويترك له أمرهم، وآمره في ذلك، ولم يفترقا على مبرم من أمرهم. فلمّا ارتكب هذا المرتكب وجاء بهذا الأمر، خاطب الوزير يمّوه عليه بأنه فعل بمقتضى المؤامرة، وأنّه عن إذنه والله أعلم بما دار بينهما، ولجّ الوزير في تكذيبه والبراءة للناس مما رمى به ولاطفه في نقض ذلك الأمر، وردّ أبا العباس إلى مكانه مع الأبناء تحت الحوطة، وأبى محمد بن عثمان من ذلك ودافعه باجتماع الناس عليه وانعقاد الأمر. وبينما الوزير يروم ذلك جاءه الخبر بأنّ محمد بن عثمان أشخص الأبناء المعتقلين كلّهم إلى الأندلس، وأنهم حصلوا في كفالة ابن الأحمر، فوجم وأعرض عن ابن عمّه وسلطانه، ونهض إلى تازى ليفرغ من عدوّه إليهم، فنازل الأمير عبد الرحمن وأخذ بمخنقه، واهتبل محمد بن عثمان الغرّة في ملك المغرب، فوصله مدد السلطان ابن الأحمر وعسكره تحت رايته، عقدها عليهم ليوسف بن سليمان بن عثمان بن أبي العلاء من مشيخة الغزاة المجاهدين، وعسكر آخر من رجل الأندلس الناشبة يناهزون سبعمائة. وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن عمّه السلطان أبي العبّاس أحمد، ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها، وعقد بينهما الاتفاق والمواصلة وأن يختصّ عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا، وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس خالفوا إليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 الوزير وانتهوا إلى قصر ابن عبد الحليم [1] ، وبلغ الخبر إلى الوزير بمكانه من حصار تازى فانفضّ معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس. وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون، فصمد إليه الوزير بعساكره، وصمّم نحوه بمكانه من قنّة الجبل، فاختل مصافه وانهزمت ساقة العسكر من ورائه، ورجع على عقبه مفلولا وانتهب المعسكر ودخل إلى البلد الجديد. وجأجأ بالعرب أولاد حسين أن يعسكروا له بالزيتون ظاهر فاس، ويخرج بجموعه إلى حللهم، فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازى بمن كان معه من العرب الأحلاف وشرّدهم إلى الصحراء، وشارف السلطان أبا العبّاس أحمد بجموعه العرب وزناتة، وبعثوا إلى وليّ سلفهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصر مرادة الّذي اختطّه بملوية فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم، فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق فاجتمعوا بوادي النجا. وحضر لعقدهم واتفاقهم وحلفهم على اتصال اليد على عدوّهم ومنازلته بالبلد الجديد حتى يمكن الله منه وارتحلوا بجمعهم إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وسبعمائة وبرز إليهم الوزير بعساكره فدارت الحرب وحمى الوطيس واشتدّ القتال مليا. ثم زحف إليه العسكران بساقتهما وآلتهما فاختلّ مصافه وانهزمت جيوشه وجموعه وأحيط به، وخلص إلى البلد الجديد بعد غصّ الريق. وأضرب السلطان أبو العبّاس معسكره بكدية العرائس، ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائه، وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاف. ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الناشبة، واحتكموا في ضياع ابن الخطيب بفاس، فهدموها وعاثوا فيها. ولمّا كان فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة داخل محمد بن عثمان ابن عمه أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان، لما كان الحصار قد اشتدّ ويئس من الصريخ، وأعجزه المال فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له في أعمال مراكش، وأن يديلوه بها من سجلماسة فعقدوا له على كره، وطووا على المكر. وخرج الوزير أبو بكر للسلطان أبي العبّاس أحمد، وبايعه واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة فبذله. ودخل السلطان أبو   [1] وفي نسخة ثانية: عبد الكريم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 العباس أحمد إلى البلد الجديد سابع المحرم. وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها، وارتحل معه علي بن عمر بن ويغلان شيخ بني مرين والوزير ابن ماسي، ثم نزع عنه ابن ماسي إلى فاس لعهد كان قد اقتضاه من السلطان أبي العبّاس، وأجاز البحر إلى الأندلس فاستقرّ بها في إيالة ابن الأحمر، واستقلّ السلطان أبو العبّاس ابن السلطان أبي سالم بملك المغرب ووزيره محمد بن عثمان، وفوض إليه شئونه وغلب على هواه. وصار أمر الشورى إلى سليمان بن داود، كان نزع إليه من البلد الجديد من جملة أبي بكر بن غازي بعد أن كان أطلقه من محبسه، واستخلصه. وجعل إليه مرجع أمره فتركه أحوج ما كان إليه، ولحق بالسلطان أبي العباس بمكانه من حصار البلد الجديد. فلمّا استوسق ملكه ألقى الوزير محمد بن عثمان مقاد الدولة له، وصار إليه أمر الشورى ورياسة المشيخة. واستحكمت المودّة بينه وبين ابن الأحمر وتأكّدت المداخلة. وجعلوا إليه المرجع في نقضهم وإبرامهم لمكان الأبناء المرشحين من إيالته. ولمّا ارتحل الأمير عبد الرحمن إلى مراكش نبذوا إليه العهد وتعللوا عليه بأنّ العقد الأوّل له، إنّما كان على ملك سلفه ومراكش إنما ألجأهم إلى العقد عليها إلجاء، واعتزموا على النهوض إليه ثم أقصروا وانعقدت بينهما السلم سنة ست وسبعين وسبعمائة وجعلوا التخم بينهما أزمور وعقدوا على ثغرها لحسّان الصبيحي فلم يزل عليها إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الخبر عن مقتل ابن الخطيب) ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين وسبعمائة واستقلّ بسلطانه والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه، وسليمان بن داود رديف له، وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر عند ما بويع بطنجة على نكبة ابن الخطيب وإسلامه إليه لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز لملك الأندلس. فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقي الوزير أبا بكر بن غازي بساحة البلد الجديد، فهزمه السلطان ولاذ منه بالحصار، آوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه، فلما استولى السلطان على البلد الجديد أقام أياما، ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض عليه فقبضوا عليه وأودعوه السجن، وطيّروا بالخبر إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 السلطان ابن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان قد تابع السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس، حتى أعاده الله إلى ملكه. فلما استقرّ له سلطانه أجاز إليه سليمان سفيرا عن عمر بن عبد الله ومقتضيا عهده من السلطان. فصدّه ابن الخطيب عن ذلك بأنّ تلك الرئاسة إنّما هي لأعياص الملك من آل عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة. فرجع سليمان آيسا [1] وحقد ذلك لابن الخطيب. ثم جاور الأندلس بمحل إمارته من جبل الفتح، فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات ينفّس كل منهما لصاحبه بما يحفظه لما كمن في صدورهما. وحين بلغ الخبر بالقبض على ابن الخطيب إلى السلطان بعث كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب، وهو أبو عبد الله بن زمرك، فقدم على السلطان أبي العبّاس وأحضر ابن الخطيب بالشورى في مجلس الخاصّة وأهل الشورى، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه، فعظم عليه النكرير فيها، فوبّخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملاثم تل إلى محبسه. واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجّلة عليه، وأفتى بعض الفقهاء فيه ودسّ سليمان بن داود إليه لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله، فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة جاءوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر، وقتلوه خنقا في محبسه، وأخرجوا شلوه من الغد فدفن في مقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على شأفة قبّره طريحا وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه نارا، فاحترق شعره واسودّ بشره، وأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان واعتدّوها من هناته، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته، والله الفعال لما يريد وكان عفى الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت، فيتجيش هو أتقه بالشعر يبكي نفسه (ومما قال في ذلك) : بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ [2] ونحن صموت وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلات تلاه القنوت   [1] وفي نسخة ثانية: يائسا. [2] وفي نسخة ثانية: لوعد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 وكنّا عظاما فصرنا عظاما ... وكنّا نقوت فها نحن قوت وكنّا شموس سماء العلا ... عزين فناحت عليها البيوت [1] فكم جزلت ذا الحسام الظبا ... وذو البحث كم جدّلته التحوت [2] وكم سيق للقبر في خرقة ... فتى ملئت من كساه التخوت فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات ومن ذا الّذي لا يفوت فمن كان يفرح منكم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت (الخبر عن اجازة سليمان بن داود الأندلس ومقامه إلى أن هلك بها) كان سليمان بن داود هذا منذ عضّته الخطوب واختلفت عليه النكبات [3] يروم الفرار بنفسه إلى الأندلس للمقامة مع غزاة المجاهدين من قومه. ولما استقرّ السلطان ابن الأحمر بفاس عند خلعه ووفادته على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة وداخله سليمان بن داود في تأميل الكون عنده، فعاهده على ذلك وأن يقدّمه على الغزاة المجاهدين من قومه. ولما عاد إلى ملكه وفد عليه سليمان بن داود بغرناطة في سبيل السفارة عن عمر بن عبد الله سنة ست وستين وسبعمائة وأن يؤكد عقده من السلطان، فحال دون ذلك ابن الخطيب ومارى [4] السلطان عن ذلك بأنّ شياخة الغزاة مخصوصة بأعياص الملك من بني عبد الحق لمكان عصابتهم بالأندلس، فأخفق أمل سليمان حينئذ وحقدها على ابن الخطيب ورجع إلى مرسلة، ثم كانت نكبته أيام السلطان عبد العزيز فلم يخلص منها إلا بعد مهلكه، أطلقه أبو بكر بن غازي المستبدّ بالأمر من بعده، ليعتضد بمكانه على شأنه. فلما استبدّ الحصار على ابن غازي خرج عنه سليمان ولحق بالسلطان أبي العباس ابن المولى أبي سالم بمكانه من ظاهر البلد   [1] وفي نسخة ثانية: زغر بن فباحت علينا السموت. [2] وفي نسخة ثانية: فكم جدلس ذا الحسام الظبا وذو البخت لم خذلته البخوت [3] وفي نسخة ثانية: النكايات. [4] وفي نسخة أخرى: وثنى رأي السلطان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 الجديد، فكان ذلك من أسباب الفتح، ولما دخل السلطان إلى دار ملكه من البلد الجديد فاتح سنة ست وستين وسبعمائة واستوسق أمره، رفع مجلس سليمان وأحلّه محل الشورى، واعتضد به وزيره محمد بن عثمان واستخلصه كما ذكرناه. وكان يرجع إلى رأيه وهو في خلال ذلك يحاول اللحاق بالأندلس، فكان من أوّل عمله التقرّب إلى السلطان ابن الأحمر بإغراء الوزير محمد بن عثمان بقتل ابن الوزير مسنويه [1] ، فتمّ ذلك لأوّل الدولة. وجرت الأمور بعدها على الاعتمال في مرضاته إلى أن حاول السفارة إليه في أغراض سلطانه، سنة ثمان وستين وسبعمائة في صحابة ونزمار بن عريف، فتلقّاهما السلطان ابن الأحمر بما يتلقى به أمثالهما وأغرب في تكرمتهما. وأما ونزمار فانقلب راجعا لأوّل تأدية الرسالة، يتقضى من السلطان حظّه لقواد أسطوله بتسهيل الإجازة إليه متى رامها. وخرج يتصيّد فلحق بمرسى مالقة ودفع أمر السلطان بخطه، إلى قائد الأسطول، فأجازه إلى سبتة ولحق بمكانه. وأمّا سليمان فاعتزم على المقام عند ابن الأحمر وأقام هنالك خالصة ونجيا ومشاورا، الى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. الخبر عن شأن الوزير أبي بكر بن غازي وما كان من تغريبه الى مايرقة ثم رجوعه وانتقاضه بعد ذلك لما اشتدّ الحصار بالوزير أبي بكر بن غازي وفنيت أمواله وأموال السلطان، وظنّ أنه أحيط به، داخله الوزير محمد بن عثمان من مكانهم بحصاره في النزول عن البلد على الأمان والإبقاء فأجاب وخرج إلى السلطان أبي العبّاس بن أبي سالم، فعقد له أمانا بخطّه، وتحوّل إلى داره بفاس وأسلم سلطانه المنصوب للأمر، فتسلّمه منه الوزير محمد بن عثمان، واشتدّ في الاحتياط عليه إلى أن بعثه إلى السلطان ابن الأحمر، فكان في جملة الأبناء عنده، ودخل السلطان أبو العباس إلى دار ملكه واقتعد سريره ونفذت في الممالك أوامره. وأقام أبو بكر بن غازي على حاله بداره والخاصّة يباكرونه والنفوس منطوية على تأميله، فغصّ به أهل الدولة وتردّدت فيه   [1] وفي نسخة ثانية: بقتل ابن الخطيب مشنوئه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 السعاية، وتقبّض عليه السلطان وأشخصه إلى غسّاسة، وركب منها السفين إلى ميورقة آخر ست وسبعين وسبعمائة فأقام بها شهرا ومخاطباته مترددة إلى الوزير محمد بن عثمان. ثم عطفته عليه رحم، فأذن له في القدوم، إلى المغرب والمقامة بغسّاسة فقدمها أوائل سنة سبع وسبعين وسبعمائة واستبدّ بإمارتها. وبدا له رأي في تأميل الوثبة [1] وظهر ما كان يخفيه لابن عمّه من المنافسة، فخاطب ابن الأحمر وراء البحر ولاطفه بالتحف والهدايا، فكتب إلى ابن عمّه محمد بن عثمان يحضّه على إعادته إلى مكانه دفعا لغوائله، فأبى من ذلك، وداخله ونزمار بن عريف في بعضها كذلك، فلح في الامتناع وحمل سلطانه على نبذ العهد لأبي بكر بن غازي، فتنكّر له وأجمع المسير إليه بعساكر العرب، فخرج من فاس سنة تسع وسبعين وسبعمائة وبلغ الخبر إلى أبي بكر بن غازي فاستجاش بالعرب وأحثّهم للوصول، فوصل إليه الأحلاف من المعقل، وسرّب فيهم أمواله، وخرج من غسّاسة فألقى بينهم نفسه، وعمد إلى بعض العرب الطارئين فنصّبه للأمر مشبّها ببعض أبناء السلطان أبي الحسن. وزحف إليه السلطان حتى نزل بتازى، فأجفلت أحياء العرب أمام العساكر من بني مرين والجند، ونجا ابن غازي معهم بدمائه. ثم داخله ونزمار بن عريف في الإذعان للسلطان عن شق الخلاف، فأجاب ووصل به إلى سدّة الملك، فبعث به السلطان محتاطا عليه إلى فاس فاعتقل بها. ونزلت مقدّمات العساكر بوادي ملويّة، وداخل صاحب تلمسان منها رعب، فأوفد على السلطان من قومه وكبار مجلسه ملاطفا مداريا، فتقبّل منه وعقد السلم، وأصدر به كتابه وعهده بخطّه، وانكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن بثّ العمّال في تلك النواحي على جبايتها، فجمعوا له منها ما رضي. ولما احتلّ بدار ملكه، أنفذ أمره بقتل أبي بكر بن غازي فقتل بمحبسه طعنا بالرماح [2] وذهب مثلا في الأيام، واستوسق للسلطان أمره. وأحكم العقد مع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن صاحب مراكش، وتردّدت المهاداة بينهما بعض إلى بعض، وإلى صاحب الأندلس وإليه منهما فامتلأت المغرب هدنة وأمنا، وانبعثت الآمال بساطا وغبطة والحال متصلة على ذلك لهذا العهد آخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة أيام إشرافنا على هذا التأليف، والله مقدر الليل والنهار.   [1] وفي نسخة ثانية: الرتبة. [2] وفي نسخة ثانية: طعنا بالخناجر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 الخبر عن انتقاض الصلح بين الأمير عبد الرحمن صاحب مراكش والسلطان أبي العبّاس صاحب فاس واستيلاء عبد الرحمن على أزمور ومقتل عاملها حسون بن على كان علي بن عمر كبير بني ورتاجن وشيخ بني ويغلان منهم، قد تحيّز إلى الأمير عبد الرحمن منذ إجازته إلى الأندلس واستيلائه على تازى ثم زحفه إلى حصار البلد الجديد مع السلطان أبي العباس كما مرّ. فوصل في جملته إلى مراكش، وكان صاحب شواره وكبير دولته. وكان يظعن على خالد بن إبراهيم الهربرحى شيخ جاجة [1] من قبائل المصامدة ما بين مراكش وبلاد السوس، وقد كان علي بن عمر انتقض على ابن غازي الوزير المستبدّ بعد السلطان عبد العزيز، ولحق بالسوس. ومرّ بخالد بن إبراهيم هذا فاعترضه في طريقه وأخذ الكثير من أثقاله ورواحله. وخلص هو إلى منجاته بالسوس، وقد حقد ذلك لخالد. ثم حثّ [2] شيوخ المعقل عند ما أجاز الأمير عبد الرحمن من الأندلس إلى نواحي تازى يروم اللحاق بهم، فوفدوا عليه. وسار معهم إلى أحيائهم وأقام معهم وهو في طاعة الأمير عبد الرحمن ودعوته إلى أن اتصل به بين يدي حصاره البلد الجديد مع السلطان أبي العباس. فلمّا فتح السلطان البلد الجديد أوّل سنة ست وسبعين وسبعمائة واستولى على ملكهم بها، وفصل عبد الرحمن إلى مراكش كما كان الوفاق بينهم، وسار علي بن عمر في جملة السلطان عبد الرحمن إلى مراكش، واستأذنه في قتل خالد صاحبه، فلم يأذن له، فأحفظه ذلك وطوى عليه، وبعد أيام صعد جبل وريكة في غرض من أغراض الدولة، وتقدّم إلى حافده عامر ابن ابنه محمد بقتل خالد، فقتله بظاهر مراكش، ولحق بجدّه عليّ بن عمر بوريكة، فتلطّف له الأمير عبد الرحمن وراسله بالملاينة والاستعطاف. ثم ركب إليه بنفسه واستصلحه ونزل به إلى مراكش فأقام معه أياما. ثم ارتاب ولحق بأزمور وعاملها يومئذ حسّون بن علي الصبيحي فأغراه بالإجلاب على عمل مراكش، وزحفوا جميعا إلى عمل صنهاجة.   [1] وفي نسخة ثانية: المبرازي شيخ حاحة. وفي نسخة أخرى المبرازي. [2] وفي نسخة ثانية: ثم بعث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 وسرّح الأمير عبد الرحمن لمدافعتهم كبير دولته يومئذ وابن عمّه عبد الكريم بن عيسى ابن سليمان بن منصور بن أبي مالك، وهو عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، فخرج في العساكر ومعه منصور مولى الأمير عبد الرحمن، فلقوا عليّ بن عمر فهزموه وأخذوا سواده، ولجأ إلى أزمور. ثم وفد هو وحسّون بن علي إلى السلطان بفاس. ووقعت أثناء ذلك المراسلة بين السلطانين، وانعقد بينهما الصلح. فأقام علي بن عمر بفاس ورجع حسّون بن علي إلى مكان عمله بأزمور، ثم انتقض ما بين السلطانين ثانيا. وكان عند الأمير عبد الرحمن أخوان من ولد محمد بن يعقوب بن حسّان الصبيحي وهما علي وأحمد، جرثومتا بغي وفساد، وعدا على كبيرهما علي بن يعقوب ابن علي بن حسّان فقتله، واستعدى أخوه موسى عليه السلطان فأعداه. وأذن له في أن يثأر منه بأخيه فيقتله فخرج لذلك أحمد أخو عليّ، وهمّ بقتل موسى، فاستجار موسى بيعقوب بن موسى بن سيّد الناس كبير بني ونكاسن، وصهر الأمير عبد الرحمن. وأقام أياما في جواره، ثم هرب إلى أزمور فلحقه نار الفتنة. ونهض الأمير عبد الرحمن إلى أزمور فلم يطق حسّان بن علي دفاعه فملكها عليه وقتله واستباحها. وبلغ الخبر إلى السلطان بفاس فنهض في عساكره وانتهى إلى سلا. ورجع الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وسار السلطان في اتباعه حتى نزل بحصن أكمليم من مراكش، وأقام هنالك نحوا من ثلاثة أشهر والقتال يتردّد بينهم. ثم سعى بين السلطانين في الصلح، فاصطلحوا على حدود العمالات أولا، وانكفأ صاحب فاس إلى عمله وبلده. وبعث الحسن بن يحيى بن حسّون الصنهاجيّ عاملا على الثغر بأزمور، فأقام بها، وكان أصله من صنهاجة أهل وطن أزمور، وله سلف في خدمة بني مرين منذ أوّل دولتهم، وكان أبوه يحيى في دولة السلطان أبي الحسن عاملا في الجباية بأزمور وغيرها. وهلك في خدمته بتونس أيام مقام السلطان بها، وترك ولده يستعمل في مثل ذلك، ونزع الحسن هذا منهم إلى الجندية فلبس شارتها وتصرّف في الولاية المناسبة لها. واتصل بخدمة السلطان أبي العبّاس لأوّل بيعته بطنجة. وكان يومئذ عاملا بالقصر الكبير فدخل في دعوته وصار في جملته، وشهد معه الفتح واستعمله في خطط السيف، حتى ولّاه أزمور هذه الولاية فقام بها كما نذكره. (وأمّا الصبيحيّون) فالخبر عن أوليتهم أنّ جدّهم حسّان من قبيلة صبيح من أفاريق سويد، جاء مع عبد الله بن كندوز الكمي من بني عبد الواد حين جاء من تونس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 وأوفد على السلطان ابن عبد الحق ولقيه كما مرّ. وكان حسّان من رعاة إبله. فلما استقرّ عبد الله بن كندوز بناحية مراكش وأقطعه السلطان يعقوب في أعمالها، وكان الظهر الّذي يحمل عليه السلطان متفرّقا في سارية المغرب، فجمعه وجعله لنظر عبد الله بن كندوز، فجمع له الرعاة وكبيرهم يومئذ حسّان الصبيحيّ، فكان يباشر السلطان في شأن ذلك الظهر ويطالعه في مهمّاته، فحصلت له مداخلة أجلبت إليه الحظ، حتى ارتفع وكبر. ونشئوا في ظلّ الدولة وعزّها وتصرفوا في الولايات فيها، وانفردوا بالشاوية فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم لهذا العهد إلى ما كانوا يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات، وكان لحسّان من الولد علي ويعقوب وطلحة وغيرهم، ومن حسّان هذا تفرّعت شعوبهم في ولده، وهم لهذا العهد متصرفون في الدولة على ما كان سلفهم من ولاية الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الّذي يحمل من الإبل، ولهم عدد وكثرة ونباهة في الدولة، والله أعلم. الانتقاض الثاني بين صاحب فاس وصاحب مراكش ونهوض صاحب فاس إليه وحصاره ثم عودهما إلى الصلح لما رجع السلطان إلى فاس على ما استقرّ من الصلح، طلب الأمير عبد الرحمن أن يدخل عمالة صنهاجة ودكالة في أعماله، وكتب السلطان إلى الحسن بن يحيى عامل أزمور وتلك العمالة بأن يتوجّه إليه ويسدّ المذاهب في ذلك دونه. وكان الحسن بن يحيى مضطغنا على الدولة، فلما وصل إليه داخله في الخلاف وأن يملّكه تلك العمالة، فازداد الأمير عبد الرحمن بذلك قوّة على أمره، وتعلّل على صاحب فاس بأن يكون حدّا بين الدولتين ووادي أم ربيع. واستمرّ صاحب فاس على الاباية من ذلك، فنهض الأمير عبد الرحمن من مراكش، ودخل الحسن بن يحيى في طاعته فملكها، وبعث مولاه منصورا في العساكر إلى أنفاه [1] فاستولى عليها وصادر أعيانها وقاضيها وواليها وبلغ الخبر إلى السلطان، فنهض من فاس في عساكره، وانتهى إلى   [1] وفي نسخة ثانية: أنف. وفي أخرى: أنفى. ذكرها ياقوت في شعر هذيل (لأنف بلد) ولم يحدد موقعها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 سلا، فهرب منصور من أنفاء وتركها. ولحق بمولاه عبد الرحمن فأجفل من أزمور إلى مراكش، والسلطان في أثره حتى انتهى إلى قنطرة الوادي، على غلوة من البلد، وأقام خمسة أشهر يحاصرها، واتصل الخبر بالسلطان ابن الأحمر صاحب الأندلس، فبعث خالصته الوزير أبا القاسم الحكيم الرنديّ ليعقد الصلح بينهما، فعقده على أن يسترهن السلطان أولاد الأمير عبد الرحمن وحافد أبي الحسن. وانكفأ السلطان راجعا إلى سلا. ولحق به جماعة من جملة الأمير عبد الرحمن من بني مرين وغيرهم، نزعوا عنه، وكان محمد بن يعقوب الصبحي لقي في طريقه مولى الأمير عبد الرحمن، جاء به مكرها إلى السلطان. وكان من النازعين أيضا يعقوب بن موسى بن سيّد الناس كبير بني ونكاسن، وأبو بكر بن رحّو بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق، ومحمد بن مسعود الإدريسي وزيّان بن عمر بن علي الوطاسي وغيرهم من المشاهير. وقدموا على السلطان بسلا فتقبّلهم وأحسن كرامتهم، ورحل راجعا إلى فاس والله أعلم. انتقاض علي بن زكريا شيخ الهساكرة على الأمير عبد الرحمن وفتكه بمولاه منصور ومقتل الأمير عبد الرحمن لما رجع السلطان إلى فاس وبدا من الخلل في دولة الأمير عبد الرحمن وانتقاض الناس عليه ما قدّمناه، نزع يده من التعويل على العساكر، وشرع في تحصين البلد. وضرب الأسوار على القصبة وحفر الخنادق وتبيّن بذلك اختلال أمره. وكان علي بن زكريا شيخ هسكورة وكبير المصامدة وكان في دعوته منذ دخل مراكش فتلافى أمره مع صاحب فاس، ومدّ إليه يدا من طاعته. ثم انتقض على الأمير عبد الرحمن ودخل في دعوة السلطان، وبعث إليه الأمير عبد الرحمن مولاه منصورا يستألفه، فأرصد إليه في طريقه من حاشيته من قتله، وبعث برأسه إلى فاس، فنهض السلطان في عساكره إلى مراكش. واعتصم الأمير عبد الرحمن بالقصبة وقد كان أفردها عن المدينة بالأسوار. وخندق عليها فملك السلطان المدينة ورتّب على القصبة المقاتلة من كل جهة، ونصب الآلة وأدار عليها من جهة المدينة حائطا وأقام يحاصرها تسعة [1]   [1] وفي نسخة ثانية: سبعة أشهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 أشهر يغاديها القتال ويراوحها. وكان أحمد بن محمد الصبيحي من الذين بوءوا المقاعد لقتالها، فهمّ بالانتقاض وحدّثته نفسه بغدرة السلطان والتوثّب به. وسعى بذلك إلى السلطان، فتقبّض عليه وحبسه. وبعث السلطان بالنفير إلى أعماله، فتوافت الأمداد من كل ناحية، وبعث إليه صاحب الأندلس مددا من العسكر. فلما اشتدّ القتال والحصار بالأمير عبد الرحمن ونفذت الأقوات، وأيقن أصحابه بالهلكة، وأهمّتهم أنفسهم. وهرب عنه وزيره محمد بن عمر [1] شيخ الهساكرة والمصامدة لعهد السلطان أبي الحسن وابنه، وقد مرّ ذكره. فلمّا لحق هذا بالسلطان وعلم أنه إنّما جاء مضطرا قبض عليه وحبسه. ثم انفضّ الناس عن الأمير عبد الرحمن ونزلوا من الأسوار ناجين إلى السلطان. وأصبح في قصبته منفردا، وقد بات ليلته يراوض ولديه على الاستماتة وهما: أبو عامر وسليم. وركب السلطان من الغد في التعبية وجاء إلى القصبة فاقتحمها بمقدّمته، ولقيهم الأمير عبد الرحمن وولداه مباشرا إلى الميدان بين أبواب دورهم، فجالوا معهم جولة قتل فيها ولداه، تولّى قتلهم علي بن إدريس وزيّان بن عمر الوطاسي وطال ما كان زيّان يمتري يدي نعمهم [2] ويجر ذيله خيلاء في جاههم، فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء. والله لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. 4: 40 وكان ذلك خاتم جمادى الأخيرة سنة أربع وثمانين وسبعمائة لعشر سنين من إمارته على مراكش. ثم رحل السلطان منقلبا إلى فاس، وقد استولى على سائر أعمال المغرب، وظفر بعدوّه ودفع النازعين عن ملكه. والله أعلم. (اجلاب العرب على المغرب في مغيب السلطان بغرية من ولد أبي علي وأبي تاشفين بن أبي حمو صاحب تلمسان ومجيء أبي حمو على أثرهم) كان أولاد حسين من عرب المعقل مخالفين على السلطان من قبل مسيره إلى مراكش. وكان شيخهم يوسف بن علي بن غانم قد حدثت بينه وبين الوزير القائم على الدولة   [1] وفي نسخة ثانية: فهرب عنه وزيره نجوّ بن العلم من بقية بيت محمد بن عمر. وفي نسخة أخرى يجو. [2] وفي نسخة ثانية: كان يمتري ثدي نعمتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 محمد بن عثمان منافرة وفتنة. وبعث العساكر إلى سجلماسة، فخرّب ما كان له بها من العقار والأملاك. وأقام منتقضا بالقفر. فلما حاصر السلطان الأمير عبد الرحمن بمراكش وأخذ بمخنقه أرسل أبا العشائر ابن عمّه منصور إلى يوسف بن علي وقومه، ليجلبوا به على المغرب ويأخذوا بحجزة السلطان عن حصاره، فسار لذلك. ولما قدم على يوسف سار به إلى تلمسان مستجيشا بالسلطان أبي حمّو لذلك القصد، لما كان بينه وبين الأمير عبد الرحمن من العهد على ذلك. فبعث أبو حمّو معهم ابنه أبا تاشفين في بعض عساكره، وسار في الباقين على أثرهم. وسار أبو تاشفين وأبو العشائر إلى أحياء العرب، فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فيها. وكان السلطان عند سفره إلى مراكش استخلف على دار ملكه بفاس علي بن مهدي العسكري في جماعة من الجند. واستنجد بونزمار بن عريف شيخ سويد وولي الدولة المقيم بأحياء ملويّة، فحالف بين عرب المعقل واستألف منهم العمارنة والمنبات وهم الأحلاف. واجتمع مع علي بن مهدي، وساروا لمدافعة العدوّ بنواحي مكناسة، فصدّوهم عن مرامهم ومنعوهم من دخول البلاد فأقاموا متواقفين أيّاما. وقصد أبو حمّو في عسكره مدينة تازى وحاصرها سبعا، وخرّب قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازورت. وبينما هم على ذلك بلغ الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد الرحمن، فأجفلوا من كل ناحية. وخرج أولاد حسين وأبو العشائر وأبو تاشفين والعرب الأحلاف في اتباعهم، وأجفل أبو حمّو عن تازى راجعا إلى تلمسان ومرّ بقصر ونزمار في نواحي بطوية المسمى بمرادة، هدمه ووصل السلطان إلى فاس وقد تمّ له الظهور والفتح إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (نهوض السلطان الى تلمسان وفتحها وتخريبها) كان السلطان لما بلغه ما فعل العرب وأبو حمّو بالمغرب لم يشغله ذلك عن شأنه، ونقم على أبي حمّو ما أتاه من ذلك، وأنه نقص عهده من غير داع إلى النقض. فلمّا احتلّ بدار ملكه بفاس أراح أياما، ثم أجمع النهوض إلى تلمسان. وخرج في عساكره على عادتهم وانتهى إلى تاوريرت. وبلغ الخبر إلى أبي حمّو، فاضطرب أمره واعتزم على الحصار، وجمع أهل البلد عليه واستعدّوا له. ثم خرج في بعض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 تلك الليالي بولده وأهله وخاصته، وأصبح مخيّما بالصفصف [1] وانفض أهل البلد إليه بعضهم بعياله وولده مستمسكين به، متفادين من معرّة هجوم العساكر فلم يرعه ذلك عن قصده، وارتحل ذاهبا إلى البطحاء. ثم قصد بلاد مغراوة فنزل في بني بو سعيد قريبا من شلف، وأنزل أولاده الأصاغر وأهله بحصن تاحجمومت. وجاء السلطان إلى تلمسان فملكها واستقرّ فيها أياما. ثم هدم أسوارها وقصور الملك بها، بإغراء وليّه ونزمار جزاء بما فعله أبو حمّو في تخريب قصر تازروت وحصن مرادة. ثم خرج من تلمسان في اتباع أبي حمّو، ونزل على مرحلة منها. وبلغه الخبر هنالك بإجازة السلطان موسى ابن عمّه أبي عنّان من الأندلس إلى المغرب وأنه خالفه إلى دار الملك، فانكفأ راجعا وأغذّ السير إلى المغرب كما نذكر. ورجع أبو حمّو إلى تلمسان واستقرّ في ملكه بها، كما ذكرناه في أخباره. اجازة السلطان موسى ابن السلطان أبي عنان من الأندلس الى المغرب واستيلاؤه على الملك وظفره بابن عمه السلطان أبي العباس وإزعاجه الى الأندلس) قد تقدم أنّ السلطان محمد بن الأحمر المخلوع، كان له تحكّم في دولة السلطان أبي العبّاس بن أبي سالم صاحب المغرب بما كان من إشارته على محمد بن عثمان ببيعته وهو معتقل بطنجة، ثم بما أمدّه من مدد العساكر والأموال، حتى أمره واستولى على البلد الجديد كما قدّمناه في أوّل خبره. ثم بما كان له من الزبون عليهم بالقرابة المرشّحين الذين كانوا معتقلين بطنجة مع السلطان أبي العبّاس من أسباط السلطان أبي الحسن من ولد أبي عنان وأبي سالم والفضل وأبي عامر وأبي عبد الرحمن وغيرهم. وكانوا متعاهدين في معتقلهم أنّ من أتاح الله له الملك منهم يخرجهم من الاعتقال ويجيزهم إلى الأندلس. فلما بويع السلطان أبو العبّاس وفّى لهم بهذا العهد وأجازهم إلى الأندلس، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر أكرم نزل، أنزلهم بقصور ملكه بالحمراء وقرّب لهم المراكب، وأفاض عليهم العطاء ووسّع لهم الجرايات والأرزاق. وأقاموا   [1] وفي نسخة ثانية: بالصفصيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 هنالك في ظلّ ظليل من كنفه فكان لهم به وثوب على ملك المغرب وكان الوزير القائم بها محمد بن عثمان يقدر له قدر ذلك كله فيجري في أغراضه وقصوده ويحكمه في الدولة ما شاء أن يحكمه، حتى توجّهت الوجوه إلى ابن الأحمر وراء البحر من أشياخ بني مرين والعرب، وأصبح المغرب كأنّه من بعض أعمال الأندلس. ولما نهض السلطان إلى تلمسان خاطبوه وأوصوه بالمغرب، وترك محمد بن عثمان بدار الملك كاتبه محمد بن الحسن، كان مصطنعا عنده من بقيّة شيع الموحّدين ببجاية، فاختصّه ورقّاه واستخلفه في سفره هذا على دار الملك. فلمّا انتهوا إلى تلمسان وحصل له من الفتح ما حصل، كتبوا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر مع شيطان من ذرّية عبّو بن قاسم المرواني [1] كان بدارهم وهو عبد الواحد بن محمد بن عبّو كان يسمو بنفسه إلى العظائم التي ليس لها بأهل ويتربّص لذلك بالدولة. وكان ابن الأحمر مع كثرة تحكّمه فيهم يتنحّى لهم بعض الأوقات بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو مخالفة في الأمر لا يجدون عنها وليجة، فيصطنع [2] لهم ذلك. فلمّا قدم عليه عبد الواحد هذا بخبر الفتح وقصّ عليه القصص، دسّ له أنّ أهل الدولة مضطربون على سلطانهم ومستبدلون به لو وجدوا، وبلغ من ذلك ما حمل وما لم يحمل. وأشار له بجلاء المغرب من الحامية جملة وأنّ دار الملك ليس بها إلّا كاتب حضريّ لا يحسن المدافعة، وهو أعرف به، فانتهز الفرصة ابن الأحمر وجهّز موسى ابن السلطان أبي عنان من الأسباط المقيمين عنده. واستوزر له مسعود بن رحّو بن ماسي من طبقات الوزراء من بني مرين ومن بني قودر من أحلافهم. وله في ذلك سلف وقد كان بعثه من قبل وزيرا للأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن حين أجاز إلى المغرب أيام استبداد أبي بكر بن غازي. فلم يزل معه حتى كان حصار البلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العبّاس عليها. وذهب عبد الرحمن إلى مراكش فاستأذنه مسعود في الانصراف إلى الأندلس، فأذن له ورجع عنه إلى فاس. ثم فارقها وأجاز إلى الأندلس متودّعا ومتودّدا للكل ومعوّلا على ابن الأحمر، فتلقّاه بالقبول وأوسع له النزول والجراية وخلطه بنفسه وأحضره مع ندمائه. ولم يزل كذلك إلى أن جهّزه وزيرا إلى المغرب مع السلطان أبي عنان وبعث معهما عسكرا. ثم ركب السفين إلى سبتة وكانت بينه وبين   [1] وفي نسخة ثانية: المزوار. [2] فيضطغن: كذا في النسخة المصرية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 شرفائها ورؤساء الشورى بها مداخلة، فقاموا بدعوة السلطان موسى وأدخلوه وقبضوا على عاملها رحّو بن الزعيم المكدوني [1] وجاءوا به إلى السلطان فملكها غرّة صفر من سنة ست وثمانين وسبعمائة وسلّمها إلى ابن الأحمر، فدخلت في طاعته. وسار هو إلى فاس، فوصلها لأيام قريبة، وأحاط بدار الملك، واجتمع عليه الغوغاء، ونزل الدهش بمحمد بن الحسن فبادر بطاعته. ودخل السلطان إلى دار الملك، وقبض عليه لوقته، وذلك في عشر ربيع الأوّل من السنة. وجاء الناس بطاعته من كل جانب، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس بمكانه من نواحي تلمسان بأنّ السلطان موسى قد نزل بسبتة، فجهّز عليّ بن منصور وترجمان الجند وجند النصارى ببابه مع طائفة منهم. وبعثهم حامية لدار الملك فانتهوا إلى تازى وبلغهم خبر فتحها فأقاموا هنالك. وأغذّ السلطان أبو العباس السير إلى فاس، فلقيهم خبر فتحها بتاوريرت، فتقدّم إلى ملوية وتردّد في رأيه بين المسير إلى سجلماسة مع العرب أو قصد المغرب. ثم استمرّ عزمه، ونزل بتازى وأقام فيها أربعا، وتقدّم إلى الركن، وأهل دولته خلال ذلك يخوضون في الانتقاض عليه تسلّلا إلى ابن عمّه السلطان موسى المتولي على فاس، ويوم أصبح من الركن أرجفوا به. ثم انتقضوا عليه طوائف قاصدين فاس، ورجع هو إلى تازى بعد أن انتهب معسكره وأضرمت النار في خيامه وخزائنه. ثم أصبح بتازى من ليلته فدخلها، وعاملها يومئذ الخيّر من موالي السلطان أبي الحسن. وذهب محمد بن عثمان إلى وليّ الدولة ونزمار بن عريف وأمراء المغرب من المعقل. ولما دخل السلطان أبو العباس إلى تازى كتب إلى ابن عمّه السلطان موسى يذكره العهد بينهما، وقد كان السلطان ابن الأحمر عهد إليه أن يبعث به إليه إن ظفر به، فبادر السلطان موسى باستدعائه مع جماعة من وجوه بني عسكر، أهل تلك الناحية، وهم زكريا بن يحيى بن سليمان ومحمد بن داود بن أعراب [2] ، ومعهم العبّاس بن عمر الوسناني فجاءوا به وأنزلوه بالزاوية بغدير الحمص بظاهر فاس، فقيّد هنالك ثم بعثه إلى الأندلس موكلا به مع عمر بن رحّو أخي الوزير مسعود بن ماسي. واستصحب ابنه أبا فارس وترك سائرهم بفاس وأجاز البحر من سبتة فأنزله السلطان ابن الأحمر بقلعة ملكه الحمراء، وفكّ قيوده ووكّل به، ووسّع له في الجراية فأقام هنالك   [1] وفي نسخة أخرى: المكدودي. [2] وفي النسخة المصرية: بن عراب. ابن خلدون م 30 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 محتاطا به الى أن كان ما نذكره ان شاء الله تعالى. (نكبة الوزير محمد بن عثمان ومقتله) أصل هذا الوزير محمد بن الكاس [1] إحدى بطون بني ورتاجن، وكان بنو عبد الحق عند ما تأثّلوا ملكهم بالمغرب يستعملون منهم في الوزارة. وربّما وقعت بينهم هنالك وبين بني إدريس وبني عبد الله منافسة، قتلوا فيها بعض بني الكاس منهم في دولة السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. ثم استوزره السلطان أبو الحسن بعد مهلك وزيره يحيى بن طلحة ابن محلى بمكانه من حصار تلمسان، وقام بوزارته أياما [2] ، وحضر معه وقعة طريف سنة إحدى وأربعين وسبعمائة من هذه المائة، واستشهد فيها، ونشأ ابنه أبو بكر في ظلّ الدولة ممتعا بحسن الكفالة وسعة الرزق، وكانت أمّه أمّ ولد، وخلفه عليها ابن عمه محمد بن عثمان هذا الوزير، فنشأ أبو بكر في حجره. وكان أعلى رتبة منه بأولية أبيه وسلفه، حتى إذا بلغ أشدّه واستوى سمت به الحال [3] ، وجال أمصار [4] الملوك في اختياره وترشيحه، حتى استوزره السلطان عبد العزيز كما قلناه. وقام بوزارته أحسن قيام، وأصبح محمد بن عثمان هذا رديفه. وهلك السلطان عبد العزيز فنصّب أبو بكر ابنه السعيد للملك صبيا لم يثغر، وكان من انتقاض أمره وحصاره بالبلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العبّاس عليه ما قدّمناه، قام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي العبّاس مستبدّا عليه. ودفع إليه أمور ملكه، وشغل بلذّاته، فقام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي العبّاس من أمور الدولة ما عاناه حتى كان من استيلاء السلطان موسى على دار ملكهم ما مرّ. وانفضّ بنو مرين عنه للسلطان أبي العبّاس كما ذكرناه، ورجع إلى تازى، فدخلها السلطان أبو العبّاس وفارقهم محمد بن عثمان إلى وليّ الدولة ونزمار بن عريف وهو مقيم بتازى، وتذمّم له فتجهّم له ونزمار وأعرض عنه، فسار معدّا إلى أحياء المنيات من   [1] وفي النسخة المصرية: أصل هذا الوزير من بني الكاس. [2] وفي النسخة المصرية: أعواما. [3] وفي النسخة المصرية: الخلال. [4] وفي النسخة المصرية: وجالت ابصار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 عرب المعقل. كانوا هنالك قبلة تازى لذمّة صحابة كانت بينه وبين شيخهم أحمد ابن عبّو فنزل عليه متذمّما به، فخادعه وبعث بخبره إلى السلطان، فجهّز إليه عسكرا مع المزوار عبد الواحد بن محمد بن عبّو بن قاسم بن ورزوق بن بومريطت والحسن العوفيّ [1] من الموالي فتبرّأ منه العرب وأسلموه إليه، فجاءوا به وأشهروه يوم دخوله إلى فاس. واعتقل أياما وامتحن في سبيل المصادرة ثم استصفى. ثم قتل ذبحا بمحبسه، والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن خروج الحسن بن الناصر بغمارة ونهوض الوزير ابن ماسي اليه بالعساكر لما استقل السلطان موسى بملك المغرب وقام مسعود بن ماسي بوزارته مستبدّا عليه، وكان من تغريبهم السلطان أبا العبّاس إلى الأندلس وقتلهم [2] وزيره محمد بن عثمان وافتراق أشياع الوزير محمد بن عثمان وقرابته وبطانته، فطلبوا بطن الأرض ولحق منهم ابن أخيه العبّاس بن المقداد بتونس، فوجد هنالك الحسن بن الناصر ابن السلطان أبي علي قد لحق بها من مقرّه بالأندلس في سبيل طلب الملك فثاب له رأي في الرجوع به إلى المغرب لطلب الأمر هنالك، فخرج به من تونس وقطع المفاوز والمشاق إلى أن انتهى إلى جبل غمارة، ونزل على أهل الصفيحة منهم، فأكرموا مثواه وتلقّيه، وأعلنوا بالقيام بدعوته. واستوزر العبّاس بن المقداد. وبلغ الخبر إلى مسعود ابن ماسي فجهّز العساكر مع أخيه مهدي بن ماسي، فحاصره بجبل الصفيحة أياما، وامتنع عليهم، فتجهّز الوزير مسعود بن ماسي بالعساكر من دار الملك وسار لحصاره. ثم رجع من طريقه لما بلغه من وفاة السلطان بعده، والله أعلم. (وفاة السلطان موسى والبيعة للمنتصر ابن السلطان أبي العباس) كان السلطان موسى لما استقل بملك المغرب استنكف من استبداد ابن ماسي عليه   [1] وفي النسخة المصرية: بن وزروق بن توقريطت والحسن اوافو من الموالي. [2] وفي النسخة المصرية: وتكبتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 وداخل بطانته في الفتك به. وأكثر ما كان يفاوض في ذلك كاتبه وخالصته محمد ابن كاتب أبيه، وخالصته محمد بن أبي عمر. وكان للسلطان موسى ندمان يطلعهم على الكثير من أموره منهم العبّاس بن عمر بن عثمان الوسناقي، وكان الوزير مسعود بن ماسي قد خلّف أبا عمر على أمّه وربي في حجره، فكان يدلي إليه بذلك، وينهي إليه ما يدور في مجلس السلطان في شأنه. فحصلت للوزير بذلك نفرة طلب لأجلها البعد عن السلطان. وبادر للخروج لمدافعة الحسن القائم بغمارة. واستخلف على دار الملك أخاه يعيش بن رحّو بن ماسي. فلما انتهى إلى القصر الكبير لحقه الخبر بوفاة السلطان موسى، وكانت وفاته في جمادى الآخرة طرقه المرض فهلك ليوم وليلة لثلاث سنين من خلافته. وكان الناس يرمون يعيش أخا الوزير بأنّه سمّه، وبادر يعيش فنصب ابن عمّه للملك، وهو المنتصر ابن السلطان أبي العبّاس، وانكفأ راجعا لوزير مسعود من القصر، وقتل السبيع محمد بن موسى من طبقة الوزراء، وقد مرّ ذكره وذكر قومه، وكان اعتقله أيام السلطان موسى فقتله بعد وفاته. واستمرّت أمور الدولة في استقلاله والله أعلم. (إجازة الواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن من الأندلس والبيعة له) كان الوزير مسعود بن ماسي لما استوحش من السلطان موسى بعث ابنه يحيى وعبد الواحد المزوار إلى السلطان ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان أبي العبّاس إلى ملكه فأخرجه ابن الأحمر من الاعتقال وجاء به إلى جبل الفتح يروم إجازته إلى العدوة. فلما توفي السلطان موسى بدا للوزير مسعود في أمره، ودسّ للسلطان ابن الأحمر في ردّه، وأن يبعث إليه بالواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن من القرابة المقيمين عنده. ورآه أليق بالاستبداد والحجر، فأسعفه ابن الأحمر في ذلك، وردّ السلطان أحمد إلى مكانه بالحمراء، وجاء بالواثق فحضر بجبل الفتح عنده، وفي خلال ذلك وصل جماعة من أهل الدولة وانتقضوا على الوزير مسعود، ولحقوا بسبتة، وأجازوا إلى السلطان ابن الأحمر وهم يعيش بن علي بن فارس الياباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 وسيّور بن يحيى بن عمر الونكاسني وأحمد بن محمد الصبيحيّ، فوفد [1] إليهم الواثق، ورجعوا به إلى المغرب على أنّهم في خدمة الوزير، حتى إذا انتهوا إلى جبل زرهون المطل على مكناسة أظهروا الخلاف على الوزير وصعدوا الى قبائل زرهون واعتصموا بجبلهم. ولحق بهم من كان على مثل دينهم من الخلاف على ابن ماسي وصاروا معهم يدا مثل طلحة بن الزبير الورتاجني وسيّور بن يحياتن بن عمر الونكاسني ومحمد التونسي من بني أبي الطلاق وفارح بن مهدي من معلوجي السلطان، وأصله من موالي بني زيان ملوك تلمسان. وكان أحمد بن محمد الصبيحي حين جاء مع الواثق قد استطال على أصحابه وأصهر الاستبداد بما كان من طائفة الجند المستخدمين، فغصّ به أهل الدولة وتبرءوا منه للسلطان الواثق، فأظهر لهم البراءة منه، فوثبوا به وقتلوه عند خيمة السلطان، وتولّى كبر ذلك يعيش بن علي بن فارس الياباني كبير بني مرين، فذهب مثلا في الغابرين، ولم تبك عليه سماء ولا أرض. وكان رزوق بن بوفريطت من موالي بني علي بن زيّان من شيوخ بني ونكاسن من أعيان الدولة ومقدّمي الجند، قد انتقض على الدولة أيام السلطان موسى ولحق بأحياء أولاد حسين من عرب المعقل المخالفين منذ أيام السلطان موسى. ونزل على شيخهم يوسف بن علي بن غانم لذمّة صحابة بينهما من جوارهم في المواطن. وكان معه في ذلك محمد بن يوسف بن علّال، كان أبوه يوسف من صنائع السلطان أبي الحسن، ونشأة دولته استوحشا من الوزير، فلحقا بالعرب [2] فلمّا جاء هذا السلطان الواثق قدما عليه، فلقيهما بالتكرمة وأحلّهما في مقامهما من الدولة، وخرج الوزير مسعود بن ماسي في العساكر، ونزل قبائلهم بجبل مغيلة وقاتلهم هنالك أياما وداخل الذين مع الواثق واستمالهم. وبعث عسكرا إلى مكناسة فحاصروها، وكان بها يومئذ عبد الحق بن الحسن بن يوسف الورتاجني، فاستنفر له منها وملكها، وتردّدت المراسلات بينه وبين الواثق وأصحابه على أن ينصبوه للأمر. ويبعث بالمنتصر المنصوب عنده إلى أبيه السلطان أبي العبّاس بالأندلس وانعقد الأمر بينهم على ذلك. وسار الواثق في أصحابه إلى الوزير ابن ماساي فنزل عليه. ومضى يعيش بن علي بن فارس عنهم ذاهبا لوجهه. وسار الوزير بالواثق إلى دار الملك،   [1] وفي نسخة ثانية: فدفع. [2] وفي النسخة المصرية: بالمغرب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 فبايعه في شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بعد أن اشترط عليه لنفسه وأصحابه ما شاء. وأجاز سلطانه المنتصر إلى أبيه السلطان أبي العباس بالأندلس وقبض على جماعة ممن كان مع الواثق مثل المزوار عبد الواحد، وقتله، وعلى فارح بن مهدي وحبسه، وعلى الخيّر مولى الأمير عبد الرحمن وامتحنه، وعلى آخرين سواهم. ثم قبض على جماعة من بطانة السلطان موسى كانوا يداخلونه في القبض والفتك به، فحبسهم وقتل بعضهم. وعلى جند الأندلس الذين جاءوا مددا للواثق، وعلى قوّادهم من معلوجي ابن الأحمر فأودعهم السجن. ثم تقبّض على كاتب السلطان موسى بن أبي الفضل بن أبي عمر مرجعه من السفارة عن سلطانه إلى الأندلس، فاعتقله وصادره. ثم خلّى سبيله. ثم بعث إلى الحسن بن الناصر الثائر بجبل الصفيحة من غمارة مع إدريس بن موسى بن يوسف الياباني، فخادعه باستدعائه للملك والبيعة له، فخدعه واستنزله وجاء به فاعتقله أياما. ثم أجازه للأندلس، واستقرّ الأمر على ذلك، والله أعلم. الفتنة بين الوزير ابن ماسي وبين السلطان ابن الأحمر واجازة السلطان أبي العباس الى سبتة لطلب ملكه واستيلاؤه عليها لما بلغ الوزير ابن ماسي للواثق ورأى أنه قد استقلّ بالدولة ودفع عنها الشواغب، وصرف نظره إلى ما فرّط من أعمال الدولة، وافتتح أمره بسبتة. وقد كان السلطان موسى لأول إجازته أعطاها لابن الأحمر كما مرّ. فبعث إليه الآن الوزير ابن ماسي في ارتجاعها منه على سبيل الملاطفة، فاستشاط لها ابن الأحمر ولجّ في الردّ، فنشأت الفتنة لذلك، وجهّز ابن ماسي العساكر لحصار سبتة مع العبّاس بن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن علّال بن أمصمود، والرئيس محمد بن أحمد الأبكم من بني الأحمر. ثم من بيت السلطان الشيخ فاتح أمرهم وممهّد دولتهم، وراسل السلطان إشبيلية والجلالقة من بني أدفونش وراء البحر، بأن يبعث إليهم ابن عمّ السلطان ابن الأحمر محمد بن إسماعيل مع الرئيس الأبكم ليجلبا من ناحيته على الأندلس. وجاءت عساكر الوزير إلى سبتة فحاصروها ودخلوها عنوة. واعتصم حامية الأندلس الذين كانوا بها بالقصبة، واتصلت الجولة بين الفريقين وسط البلد، وأوفد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 أهل القصبة النيران بالجبل علامة على أمرهم ليراها ابن الأحمر. وكان مقيما بمالقة، فبادر بتجهيز الأسطول مشحونا بالمقاتلة مددا لهم. ثم استدعى السلطان أبو العباس من مكانه بالحمراء، وأركبه السفين إلى القصبة في غرّة صفر سنة تسع وثمانين وسبعمائة وأشرف عليهم من الغد وناداهم من السور يدعوهم إلى طاعته. فلمّا رأوه اضطربوا وافترقوا وخرج إليهم، فنهب سوادهم ودخلوا في طاعته متسايلين، ورجع جمهور العسكر ومقدّموهم إلى طنجة واستولى السلطان على مدينة سبتة. وبعث إليه ابن الأحمر بالنزول عنها، وردّها إليه فاستقرت في ملكه وكملت بها بيعته، وكان يوليه أمر الأضياف الواردين والله تعالى أعلم. مسير السلطان أبي العباس من سبتة لطلب ملكه بفاس ونهوض ابن ماسي لدفاعه ورجوعه منهزما ولما استولى السلطان أبو العباس على سبتة وتمّ له ملكها، واعتزم على المسير لطلب ملكه بفاس، وأغراه ابن الأحمر بذلك ووعده بالمدد لما كان من مداخلة ابن ماسي لجماعة من بطانته في أن يقتلوه ويملّكوا الرئيس الأبكم يقال: إنّ الّذي داخله في ذلك من بطانة ابن الأحمر يوسف بن مسعود البلنسيّ، ومحمد ابن الوزير أبي القاسم بن الحكيم الرنديّ وشعر بهم السلطان ابن الأحمر وهو يومئذ على جبل الفتح يطالع أمور السلطان أبي العبّاس، فقتلهم جميعا وإخوانهم. ويقال: إنّ ذلك كان بسعاية القائم على دولته مولاه خالد، كان يغصّ بهم ويعاديهم، فأخفى عليهم هذه [1] . وتمت سعايته بهم، فاستشاط ابن الأحمر غضبا على ابن ماسي، وبعث إلى السلطان أبي العبّاس يستنفره للرحلة إلى طلب ملكه، فاستخلف على سبتة رحّو ابن الزعيم المكرودي عاملها من قبل كما مرّ وسار إلى طنجة وعاملها من قبل الواثق صالح بن رحّو الياباني ومعه بها الرئيس الأبكم من قبل العساكر، فحاصرها أياما وامتنعت عليه فجمّر عنهم الكتائب وسار عنها إلى أصيلا، فدخلت في دعوته وملكها. ونهض الوزير من فاس في العساكر بعد أن استخلف أخاه يعيش على دار   [1] وفي نسخة ثانية: فاحتال عليهم بهذه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 الملك وسار. ولحقت مقدّمته بأصيلا ففارقها السلطان أبو العبّاس، وصعد إلى جبل الصفيحة، فاعتصم به وجاء الوزير ابن ماسي فتقدّم الى حصاره بالجبل، وجمع عليه رماة الرجل من الأندلسيّين الذين كانوا بطنجة، وأقام يحاصره بالصفيحة شهرين. وكان يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين من عرب المعقل، مخالفا على الوزير مسعود وداعية إلى السلطان أبي العبّاس وشيعة له. وكان يراسل ابن الأحمر في شأنه. فلما سمع باستيلائه على سبتة وإقباله إلى فاس، جمع أشياعه من العرب، ودخل في طاعته إلى بلاد المغرب ما بين فاس ومكناسة. وشنّ الغارات على البسائط واكتسحها، وأرجف الرعايا وأجفلوا إلى الحصون، وكان ونزمار بن عريف وليّ الدولة شيعة للسلطان، وكان يكاتبه وهو بالأندلس ويكاتب ابن الأحمر بشأنه. فلمّا اشتدّ الحصار بالسلطان في الصفيحة، بعث ابنه أبا فارس إلى ونزمار بمكانه من نواحي تازى. وبعث معه سيّور بن يحيى بن عمر، فقام ونزمار بدعوته، وسار به إلى مدينة تازى، وعاملها سليمان الغودودي من قرابة الوزير ابن ماسي. فلمّا نزل بها أبو فارس ابن السلطان بادر إلى طاعته وأمكنه من البلد، فاستولى عليها واستوزر سليمان هذا. وسار إلى صفيروا [1] ومعه ونزمار للاجتماع بعرب المعقل وأسفّ بهم إلى حصار فاس. وكان محمد بن الدمغة عاملا على ورغة، فبعث إليه السلطان عسكرا مع العبّاس بن المقداد ابن أخت الوزير محمد بن عثمان فقتلوه وجاءوا برأسه، ونجم الخلاف على يعيش بالبلد الجديد من كل جهة، وطيّر الخبر بذلك كلّه إلى أخيه بمكانه من حصار السلطان بالصفيحة، فانفضّت عنه العساكر وأجفل راجعا إلى فاس. وسار السلطان في اتباعه ودخل في طاعته عامل مكناسة، وجاء الخيّر مولى الأمير عبد الرحمن ولقيه يوسف بن علي بن غانم ومن معه من أحياء العرب، وساروا جميعا إلى فاس. وكان أبو فارس ابن السلطان قد رحل من تازى إلى صفيروا للقاء أبيه، فاعترضه ابن ماسي في العساكر رجاء أن يفلّه. ولقيه ببني بهلول فنزع أهل المعسكر إلى أبي فارس ابن السلطان وهو بمكناسة، فارتحل يغذّ السير إلى فاس. وسار ابنه أبو فارس للقائه على وادي النجا. وصبحوا البلد الجديد فنزلوا عليه بجموعهم وقد اعتصم به الوزير في أوليائه وبطانته، ومعه يغمراسن بن محمد   [1] وفي النسخة المصرية: صفروي وفي نسخة أخرى: صفرون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 السالفي [1] ومراهن بني مرين الذين استرهنهم عند مسيره للقاء السلطان بأصيلا، والله أعلم. (ظهور دعوة السلطان أبي العباس في مراكش واستيلاء أوليائه عليها) كان الوزير مسعود بن ماسي قد ولّى على مراكش وأعمال المصامدة أخاه عمر بن رحّو وكانت منتظمة في طاعته. فلما بلغ الخبر بوصول السلطان إلى سبتة واستيلائه عليها قامت [2] رءوس أوليائه إلى إظهار دعوته بتلك النواحي، فقام بدعوته بجبل الهساكرة عليّ بن زكريا. وبعث الوزير مسعود من مكانه في حصار السلطان بالصفيحة في أمداده بالعساكر من مراكش، فزحف إليه مخلوف بن سليمان الوارتيني [3] صاحب الأعمال ما بين مراكش والسوس، وقعد الباقون عن نصره وتفرّقوا. وصعد أبو ثابت حافد عليّ بن عمر إلى جبل الهساكرة ومعه يوسف بن يعقوب بن علي الصبيحي، فاستمدّ علي بن زكريا ورجع إلى مراكش مجلبا على عليّ ابن رحّو مناوشة القتال ساعة. ثم غلبه على البلد وملكها من يده ونزل بقصبة الملك. وحبس عمر بن رحّو بها. وكتب للسلطان بذلك، وهو بمكناسة متوجها إلى فاس، فكتب إليه بأن يصله بعساكر مراكش لحصار دار الملك فجمع العساكر واستخلف على قصبة مراكش بعض بني عمّه، ولحق بالسلطان، وأقام معه في حصار البلد الجديد، والله أعلم. (ولاية المنتصر ابن السلطان أبي علي على مراكش واستقلاله بها) كان السلطان أبو العباس حين ملك المغرب بعث ابنه المنتصر في البحر إلى سلا،   [1] وفي النسخة المصرية: التنالقني. [2] وفي النسخة المصرية: تطاولت. [3] وفي النسخة المصرية: الوارتني وفي نسخة أخرى: الواريني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 واستوزر له عبد الحق بن يوسف الورتاجني [1] فوصل الى سلا وأقام بها، ومرّ به رزوق بن توفريطت راجعا من دكالة، حين نزول السلطان على البلد الجديد، فتلطّف في استدعائه، ثم قبض عليه وبعث به لأبيه مقيّدا فأودعه السجن وقتل بعد ذلك بمحبسه. ثم بعث السلطان إلى ابنه المنتصر بولاية مراكش وأن يسير إليها. فلما وصل إلى مراكش امتنع النائب بالقصبة، فدسّ لعبد الحق وزير المنتصر أنّ النائب قد همّ بقتله، وحينئذ يمكّن المنتصر من القصبة. فأجفل بالمنتصر وصعد إلى جبل هنتاتة، وطيّر بالخبر إلى السلطان، فتغيّر لأبي ثابت وأمره أن يكاتب نائبة بتمكين ابنه من القصبة. واستوزر له سعيد بن عبدون وبعثه بالكتاب، وعزل عبد الحق عن وزارة ابنه، واستدعاه لفاس، فوصل سعيد بن عبدون إلى مراكش، ودفع إلى النائب بالقصبة كتاب مستخلفه إلى الامتثال، وأمكنه من القصبة واعتزل عنها فدخلها. وبعث عن المنتصر ابن السلطان، واستولوا عليها، وقبضوا على نائب عامر الّذي كان بها وسائر شيعته وبطانته، وامتحنوهم واستصفوهم إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (حصار البلد الجديد وفتحها ونكبة الوزير ابن ماسي ومقتله) لما نزل السلطان على البلد الجديد واجتمع إليه سائر قبيلته وأوليائه وبطانته، داخل الوزير مسعودا الحنق على بني مرين لانتباذهم عنه. فأمر بقتل أبنائهم الذين استرهنوهم على الوفاء له، فلاطفه يغمراسن السالفي في المنع من ذلك، فأقصر عنه، وضيّق السلطان مخنقه بالحصار ثلاثة أشهر حتى دعا إلى النزول والطاعة، فبعث إليه ولي الدولة ونزمار بن عريف وخالصته محمد بن علّال فعقد لهم الأمان لنفسه ولمن معه على أن يستمرّ على الوزارة ويبعث بسلطانه الواثق إلى الأندلس، واستحلفهم على ذلك وخرج معهم للسلطان فدخل السلطان البلد الجديد خامس رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة لثلاثة أعوام وأربعة أشهر من خلعه. ولحين دخوله قبض على الواثق   [1] وفي النسخة المصرية: عبد الحق بن الحسن بن يوسف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 وبعث به معتقلا إلى طنجة وقتل بها بعد ذلك. ولما استولى على أمره قبض على الوزير ابن ماسي ليومين من دخوله، وإخوته وحاشيته، وامتحنهم جميعا فهلكوا في العذاب. ثم سلّط على مسعود من العذاب والانتقام ما لا يعبّر عنه، ونقم عليه ما فعله في دور بني مرين النازعين إلى السلطان، فإنه كان متى هرب عند أحد منهم يعمد إلى بيوته فينهبها ويخرّبها فأمر السلطان بعقابه في أطلالها، فكان يؤتى به إلى كل بيت منها، فيضرب عشرين سوطا إلى أن قتله العذاب [1] وتجاوز الحدّ. ثم أمر به فقطعت أربعته، فهلك عند قطع الثانية، فذهب مثلا في الآخرين. (وزارة محمد بن علال [2] ) كان أبوه يوسف بن علّال من رؤساء الدولة [3] وصانعة السلطان أبي الحسن. وربّي في داره. ولمّا ضخم أمره سما به إلى ولاية الأعمال، فولّاه على درعة فانتزى وانتخب أولياء الدولة. ثم ولّاه السلطان أبو عنان أمر طنجة ومائدته وضيوفه واستكفى به في ذلك، وولّاه أخوه أبو سالم بعده كذلك. ثم بعثه إلى سجلماسة فعانى بها من أمور العرب مشقّة، وعزلها عنها، وهلك بفاس. وكان له جماعة من الولد قد نشؤا في ظلّ هذه النعمة، وحدبت النجابة بمحمد المذكور منهم. فلما استولى السلطان أبو العبّاس استعمله في أمور الضيوف والمائدة كما كانت لأبيه. ثم رقّاه إلى المخالصة وخلطه بنفسه، فلمّا خلع السلطان واستولى الوزير ابن ماسي على المغرب، وكانت بينه وبين أخيه يعيش بن ماسي إحن قديمة، فسكن لصولتهم حتى إذا اضطرمت نار الفتنة بالمغرب وأجلبت عرب المعقل الخلاف، فاستوحش محمد هذا، فلحق بأحيائهم مع رزوق بن توفريطت كما مرّ ذكره ونزل على يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين، وأقاما معه في خلافه، حتى إذا أجاز السلطان الواثق إلى الأندلس، ووصل مع أصحابه إلى جبل زرهون، وأظهروا الخلاف على ابن ماسي بادر محمد هذا ورزوق إلى السلطان، ودخلا في طاعته متبرّءين من النفاق الّذي حملهم عليه   [1] وفي النسخة المصرية: إلى أن أفحش فيه العذاب. [2] وفي النسخة المصرية: هلال. [3] وفي النسخة المصرية: من نشأة الدولة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 عداوة الوزير ابن ماسي. فما كان إلّا أن انعقد الصلح بين الواثق وابن ماسي وسار به وأصحابه إلى فاس، وحصلوا في قبضة ابن ماسي فعفا لهم عمّا كان منهم، واستعملهم في مهود ولايتهم. ثم جاء الخبر بإجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة، فاضطرب محمد بن يوسف وذكر مخالصة السلطان ومنافرة ابن ماسي، فأجمع أمره ولحق بسبتة، فتلقّاه السلطان بالكرامة، وسرّ بمقدمه ودفعه إلى القيام بأمر دولته، فلم يزل متصرّفا بين يديه إلى أن نزل إلى البلد الجديد. ولأيام من حصارها خلع عليه الوزارة ودفعه إليها، فقام بها أحسن قيام. ثم كان الفتح وانتظم أمر الدولة، ومحمد هذا يصرّف الوزارة على أحسن أحوالها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. (ظهور محمد بن السلطان عبد الحليم بسجلماسة) قد تقدّم لنا ذكر السلطان عبد الحليم ابن السلطان أبي علي، وكان يدعى بحلي كيف، بايع له بنو مرين وأجلبوا به على عمر بن عبد الله سنة ثلاث وستين وسبعمائة أيام مبعثه للسلطان أبي عمر ابن السلطان أبي الحسن. وحاصروا معه البلد الجديد حتى خرج لدفاعهم وقاتلهم، فانهزموا وافترقوا. ولحق السلطان عبد الحليم بتازى وأخوه عبد المؤمن بمكناسة، ومعه ابن أخيهما عبد الرحمن بن أبي يفلوسن. ثم بايع الوزير عمر بن عبد الله لمحمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن واستبدل به من أبي عمر لما كان بنو مرين يرمونه بالجنون والوسوسة، فاستدعى محمد بن أبي عبد الرحمن من مطرح اغترابه بإشبيليّة وبايعه وخرج في العساكر لمدافعة عبد المؤمن وعبد الرحمن عن مكناسة، فلقيهما وهزمهما ولحقا بالسلطان عبد الحليم بتازى وساروا جميعا إلى سجلماسة، فاستقرّوا فيها والسلطان عبد الحليم، وقد تقدّم خبر ذلك كله في أماكنه. ثم كان الخلاف بين عرب المعقل أولاد حسين والأحلاف. وخرج عبد المؤمن للإصلاح بينهم، فبايع له أولاد حسين ونصّبوه كرها للملك. وخرج السلطان عبد الحق إليهم في جموع الأحلاف فقاتلوه وهزموه، وقتلوا كبار قومه، كان منهم يحيى بن رحّو بن تاشفين بن معطي شيخ بني تيربيغن وكبير دولة بني مرين، أجلت المعركة عن قتله. ودخل عبد المؤمن البلد منفردا بالملك. وصرف السلطان أخاه عبد الحليم إلى المشرق لقضاء فرضه برغبته في ذلك، فسار على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 طريق القفر مسلك الحاج من التكرور إلى أن وصل القاهرة، والمستبدّ بها يومئذ يلبغا الخاصكي، على الأشرف شعبان بن حسين من أسباط الملك الناصر محمد بن قلاوون، فأكرم وفادته ووسّع نزله وجرايته، وأدرّ لحاشيته الأرزاق، ثم أعانه على طريقه للحج بالأزواد والأبنية والظهر من الكراع والخفّ. ولما انصرف من حجّه زوّده لسفر المغرب. وهلك بضروجة [1] سنة سبع وستين وسبعمائة ورجعت حاشيته إلى المغرب بحرمة وولده. وكان ترك محمدا هذا رضيعا، فشبّ متقلّبا من الدولة من ملك إلى آخر، منتبذا عن قومه بغيرة السلطان أبي الحسن من بني عمّهم السلطان أبي عليّ. وكان أكثر ما يكون مقامه عند أبي حمّو سلطان بني عبد الواد بتلمسان لما يروم به من الأجلاب على المغرب، ودفع عادية بني مرين عنه. فلمّا وقع بالمغرب من انتقاض عرب المعقل على الوزير مسعود بن ماسي سنة تسع وثمانين وسبعمائة واستمرّوا على الخلاف، انتهز أبو حمّو الفرصة، وبعث محمد بن عبد الحليم هذا إلى المعقل ليجلب بهم على المغرب، ويمزّقوا من الملك ما قدروا عليه، فلحق بأحيائهم ونزل على الأحلاف الذين هم أمس رحما بسجلماسة وأقرب موطنا إليها. وكان الوزير ابن ماسي قد ولّى عليها من أقاربه عليّ بن إبراهيم بن عبّو بن ماسي، فلما ظهر عليه السلطان أبو العبّاس وضيّق مخنقه بالبلد الجديد، دسّ إلى الأحلاف وإلى قريبه عليّ ابن إبراهيم أن ينصّب محمد ابن السلطان أبي العباس عنه، وينفّسوا من حصاره، ففعلوا ذلك. ودخل محمد إلى سجلماسة فملكها، وقام عليّ بن إبراهيم بوزارته حتى إذا استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد، وفتك بالوزير مسعود بن ماسي وبإخوته وسائر قرابته، اضطرب علي بن إبراهيم وفسد ما بينه وبين سلطانه محمد، فخرج عن سجلماسة ودعا إلى أبي حمو سلطان تلمسان كما كان. ثم زادت هواجس علي بن إبراهيم وارتيابه فخرج عن سجلماسة وتركها، ولحق بأحياء العرب. وسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه. ونزل على السلطان أبي حمّو إلى أن هلك، فسار إلى تونس وحضر وفاة السلطان أبي العبّاس بها سنة تسع وتسعين وسبعمائة ولحق محمد ابن السلطان عبد الحليم بعد مهلك أبي حمّو بتونس. ثم ارتحل بعد وفاة السلطان أبي العبّاس الى المشرق لحجة فرضه [2] ، والله تعالى أعلم.   [1] وفي النسخة المصرية: بتروجة وفي نسخة أخرى: بيروجة. [2] وفي النسخة المصرية: الى المشرق في سبيل جولة ووطاوعة واغتراب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 (نكبة ابن أبي عمر ومهلكه وحركات ابن حسون) لما استقل السلطان بملكه واقتعد سريره، صرف نظره إلى أولياء تلك الدولة ومن يرتاب منه. وكان محمد بن أبي عمر قد تقدّم ذكره وأوّليته، من جملة خواصه وأوليائه وندمائه. وكان السلطان يقسم له من عنايته وجميل نظره ويرفعه عن نظرائه. فلمّا ولي السلطان موسى نزعت إليه نوازع المخالصة لأبيه من السلطان أبي عنان فقد كان أبوه أعزّ بطانته كما مرّ، فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفعه على منابر أهل الدولة. وجعل إليه كتاب علامته على المراسم السلطانية، كما كان لأبيه. وكان يفاوضه في مهمّاته ويرجع إليه في أموره حتى غصّ به أهل الدولة ونمي عنه للوزير مسعود بن ماسي أنه يداخل السلطان في نكبته. وربما سعى عند سلطانه في جماعة من بطانة السلطان أحمد، فأتى عليهم النكال والقتل لكلمات [1] كانت تجري بينهم وبينه في مجالسة المنادمة عند السلطان حقدها لهم. فلما ظفر بالحظ من سلطانه، سعى بهم فقتلهم. وكان القاضي أبو إسحاق اليزناسني من بطانة السلطان أحمد وكان يحضر مع ندمائه فحقد له ابن أبي عامر، وأغرى به سلطانه فضربه وأطافه، وجاء بها شنعاء غريبة في القبح. وسفر عن سلطانه إلى الأندلس، وكان يمرّ بمجلس السلطان أحمد ومكان اعتقاله. وربّما يلقاه فلا يلمّ إليه ولا يجيبه [2] ، ولا يوجب له حقا، فأحفظ ذلك السلطان. ولما فرغ من ابن ماسي قبض على ابن أبي عمر هذا وأودعه السجن، ثم امتحنه بعد ذلك إلى أن هلك بالسياط، عفا الله عنه. وحمل إلى داره، وبينما أهله يحضّرونه إلى قبره وإذا بالسلطان قد أمر بأن يسحب بنواحي البلد إبلاغا في التنكيل، فحمل من نعشه وقد ربط حبل برجله، وسحب في سائر أنحاء المدينة. ثم ألقي في بعض المزابل [3] . ثم قبض على حركات ابن حسّون وكان مجلبا في الفتنة، وكان العرب المخالفون من المعقل، لما أجاز السلطان إلى سبتة، وحركات هذا بتدلّا، راودوه على طاعة السلطان فامتنع أوّلا. ثم أكرهوه وجاءوا به   [1] وفي النسخة المصرية: لفلتات. [2] وفي النسخة المصرية: فلم يلم بتحية. [3] وفي النسخة المصرية: ثم القي على بعض الكثبان من أطرافها وأصبح مثلا في الآخرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 إلى السلطان فطوى على ذلك حتى استقام أمره. وملك البلد الجديد فتقبّض عليه وامتحنه، إلى أن هلك، والله وارث الأرض ومن عليها. (خلاف علي بن زكريا بجبل الهساكرة ونكبته) لما ملك السلطان البلد الجديد واستولى على ملكه، وفد عليه علي بن زكريا شيخ هسكورة مستصفيا [1] بما قدم من سوابقه. وقد كان حضر معه حصار البلد الجديد واستدعاه، فجاء بقومه وعساكر المصامدة وأبلى في حصارها، فرعى السلطان سوابقه وولّاه الولاية الكبرى على المصامدة على عادة الدولة في ذلك. ثم وفد معه محمد بن إبراهيم الميراري [2] من شيوخ المصامدة وكانت له ذمّة صهر مع الوزير محمد ابن يوسف بن علّال على أخته، فولّاه السلطان مكان علي بن زكريا فغضب لها واستشاط وبادر إلى الانتقاض والخلاف. ونصب بعض القرابة من بني عبد الحق، فجهّز إليه السلطان العساكر مع محمد بن يوسف بن علّال وصالح بن حمّو الياباني وأمر صاحب درعة وهو يومئذ عمر بن عبد المؤمن بن عمر أن ينهض إليه بعساكر درعة من جهة القبلة، فساروا إليه وحاصروه في جبله. وجاولوه مرّات ينهزم في جميعها حتى غلبوه على جبله. وسار إلى إبراهيم بن عمران الصناكي المجاور له في جبله فاستذمّ به. وخشي إبراهيم معرّة الخلاف والغلب، ورغّبه الوزير محمد بن يوسف بما بذل له، فأمكنه منه، وقبض على الوزير وجاء به إلى فاس، فأدخله في يوم مشهود وشهّره، واعتقل فلم يزل في الاعتقال إلى أن هلك السلطان أبو العبّاس. وارتاب به أهل الدولة بعده فقتلوه، كما نذكره إن شاء الله تعالى. وفادة أبي تاشفين على السلطان أبي العباس صريخا على أبيه ومسيره بالعساكر ومقتل أبيه السلطان أبي حمو كان أبو تاشفين ابن السلطان أبي حمو قد وثب على أبيه آخر ثمان وثمانين وسبعمائة   [1] وفي النسخة المصرية: مستصبا. [2] وفي نسخة ثانية: المبرازي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 بممالئته لغيره من إخوته واعتقله بوهران. وخرج بالعساكر لطلب إخوته المنتصر وأبي زيّان وعمر [1] فامتنعوا عند حصين بجبل تيطرى فحاصرهم أياما. ثم تذكر غائلة أبيه، فبعث ابنه أبا زيّان في جماعة من بطانته منهم ابن الوزير عمران بن موسى وعبد الله بن جابر الخراساني، فقتلوا بعض ولده بتلمسان، ومضوا إليه وهو بمحبسه في وهران. فلمّا شعر بهم أشرف من الحصن ونادى في أهل المدينة متذمّما بهم، فهرعوا إليه. وتدلّى إليهم في عمامته وقد احتزم بها فأنزلوه وأحدقوا به وأجلسوه على سريره. وتولّى كبر ذلك خطيب البلد ابن جذورة [2] ولحق أبو زيّان بن أبي تاشفين ناجيا إلى تلمسان. واتبعه السلطان أبو حمّو ففرّ منها إلى أبيه. ودخل أبو حمّو تلمسان وهي طلل وأسوارها خراب، فأقام فيها رسم دولته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فأجفل من تيطرى وأغذّ السير فدخلها. واعتصم أبوه بمئذنة المسجد، فاستنزله منها وتجافى عن قتله. ورغب إليه أبوه في رحلة المشرق لقضاء فرضه، فاسعفه وأركبه السفين مع بعض تجّار النصارى إلى الإسكندرية موكلا به. فلمّا حاذى مرسى بجاية لاطف النصراني في تخلية سبيله فأسعفه وملك أمره. وبعث إلى صاحب الأمر ببجاية يستأذنه في النزول، فأذن له. وسار منها إلى الجزائر، واستخدم العرب، واستصعب عليه أمر تلمسان، فخرج إلى الصحراء. وجاء إلى تلمسان من جهة المغرب فهزم عساكر ابنه أبي تاشفين وملكها. وخرج أبو تاشفين هاربا منها، فلحق بأحياء سويد في مشاتيهم. ودخل أبو حمّو تلمسان في رجب سنة تسعين وسبعمائة. وقد تقدّم شرح هذه الأخبار كلّها مستوعبة. ثم وفد أبو تاشفين مع محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العبّاس صريخا على أبيه، ومؤمّلا الكرّة بإمداده. فبعث له السلطان وأجمل عليه المواعيد. وقام أبو تاشفين في انتظارها والوزير محمد بن يوسف بن علّال يعده ويمنّيه ويحلف له على الوفاء. وبعث السلطان أبو حمّو إلى ابن الأحمر لما يعلم من استطالته على دولة بني مرين كما مرّ، يتوسّل إليه في أن يصدّهم عن صريخ أبي تاشفين وإمداده عليه فجلا ابن الأحمر في ذلك وجعلها من أهمّ حاجاته. وخاطب السلطان أبا العباس في أن يجيز إليه أبا تاشفين، فتعلّل عليه في ذلك بأنه استجار بابنه أبي فارس، واستذمّ به. ولم يزل الوزير ابن علّال يفتل لسلطانه ولابن الأحمر في   [1] وفي النسخة المصرية: وعمير (وهي الأصح) . [2] وفي النسخة المصرية: خزروت وفي نسخة أخرى: حرزورة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 الذروة والغارب، حتى تمّ أمره وأنجز له السلطان بالنظر موعده. وبعث ابنه الأمير أبا فارس والوزير ابن علّال في العساكر صريخين له، وانتهوا إلى تازى. وبلغ الخبر إلى أبي حمّو فخرج من تلمسان في عساكره، واستألف أولياءه من عبيد الله. ونزل بالغيران من وراء جبل بني راشد المطلّ على تلمسان، وأقام هنالك متحصّنا بالجبل، وجاءت العيون إلى عساكر بني مرين بتازى بمكانه هو وأعرابه من الغيران، فأجمعوا غزوة. وسار الوزير علّال وأبو تاشفين وسلكوا القفر ودليلهم سليمان بن ناجي من الأحلاف. حتى صبّحوا أبا حمّو ومن معه من أحياء الجرّاح [1] في مكانهم بالغيران. فجاولوهم ساعة، ثم ولّوا منهزمين، وكبا بالسلطان أبي حمّو فرسه فسقط، وأدركه بعض أصحاب أبي تاشفين فقتلوه قعصا بالرماح، وجاءوا برأسه إلى ابنه أبي تاشفين والوزير ابن علّال، فبعثوا به إلى السلطان، وجيء بابنه عمير أسيرا، فهمّ أخوه أبو تاشفين بقتله، فمنعه بنو مرين أياما. ثم أمكنوه منه فقتله، ودخل تلمسان آخر إحدى وتسعين وسبعمائة وخيّم الوزير وعساكر بني مرين بظاهر البلد، حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب وأقام أبو تاشفين بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب ويخطب له على منابر تلمسان وأعمالها، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة، كما اشترط على نفسه. وكان أبو حمّو لما ملك تلمسان ولّى ابنه أبا زيّان على الجزائر، فلمّا بلغه مقتل أبيه امتعض ولحق بأحياء حصين ناجيا وصريخا. وجاءه وفد بني عامر من زغبة يدعونه للملك. فسار إليهم. وقام بدعوته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصرها أياما. ثم سرّب أبو تاشفين المال في العرب فافترقوا عن أبي زيّان، وخرج إليه أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة. ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل، وعاود حصار تلمسان في شوّال. وبعث أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب، فجاءه بمدد من العساكر. ولما انتهى إلى تاوريرت، أفرج أبو زيّان عن تلمسان وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب، فوفد عليه صريخا فتلقّاه وبرّ مقدمه ووعده النصر من عدوّه. وأقام هنالك إلى حين مهلك أبي تاشفين، والله أعلم.   [1] وفي نسخة ثانية: الخراج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 (وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان) لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان ومقيما فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العبّاس ابن السلطان أبي سالم، ومؤدّيا الضريبة التي فرضها عليه منذ ملك، وأخوه الأمير زيّان عند صاحب المغرب ينتظر وعده بالنصر عليه، حتى تغيّر السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية، فأجاب داعي أبي زيّان وجهّزه بالعساكر لملك تلمسان. فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة وانتهى إلى تازى، وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به، ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم بدولته أحمد بن العزّ من صنائعهم وكان يمت إليه بخؤولة، فولّى بعده مكانه صبيا من أبنائه، وأقام بكفالته. وكان يوسف بن أبي حمّو وهو ابن الزابية واليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين، فلمّا بلغه الخبر أغذّ السير مع العرب فدخل تلمسان، وقتل أحمد بن العزّ والصبي المكفول ابن أخيه أبي تاشفين، فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب خرج إلى تازى، وبعث من هنالك ابنه أبا فارس في العساكر وردّ أبا زيّان بن أبي حمّو إلى فاس، ووكّل به. وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها واقام فيها دعوة أبيه. وتقدّم وزير أبيه صالح بن أبي حمّو إلى مليانة، فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف بن الزابية بحصن تاجمعومت وأقام الوزير صالح يحاصره. وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط، والله غالب على أمره. وفاة أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط كأن السلطان أبو العبّاس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الّذي تقدّم لفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حجّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق. وتقدّمت إلى السلطان فيه وأخبرته بمحله من قومه، فأكرم تلقّيه وحمله بعد قضاء حجّه هدية إلى صاحب المغرب، يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك. فلمّا قدم يوسف بها على السلطان أبي العبّاس أعظم موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها. وشرع في المكافأة عليها بمتخير الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه. واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول. وأنه يرسله من تازى أيام مقامته تلك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم سنة ست وتسعين وسبعمائة واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى وولّوه مكانه، ورجعوا به إلى فاس. وأطلقوا أبا زيّان بن أبي حمّو من الاعتقال، وبعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها، وقائما بدعوة السلطان أبي فارس فيها، فسار إليها وملكها، وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عند ما بلغه ذلك وبذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه، فأجابوه إلى ذلك، وأسلموه إلى ثقات أبي زيّان. وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله، وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيّان فسكنت أحواله وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته. وهم على ذلك لهذا العهد، والله غالب على أمره، وهو على كل شيء قدير. وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، وبقي علينا خبر الرهط الذين تحيّزوا منهم إلى بني مرين من أول الدولة. وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي، وخبر بني كندوز أمرائهم بمراكش. فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 الخبر عن القرابة المرشحين من آل عبد الحق من الغزاة المجاهدين بالأندلس الذين قاسموا ابن الأحمر في ملكه وانفردوا برياسة جهاده كانت الجزيرة الأندلسية وراء البحر منذ انقراض [1] أمر بني عبد المؤمن وقيام ابن الأحمر بأمرها، قليلة الحامية، ضعيفة الأحوال إلّا من يلهمه الله لعمل الجهاد من قبائل زناتة المؤمّلين كرّة الملك والمقتسمين ممالك المغرب، وخصوصا بني مرين أهل المغرب الأقصى لاتّصال عدوة الأندلس ببسائطه ولتعدّد الفراض ببحر الزقاق القريب العدوتين. وما زال أهل الزقاق على قديم الزمان لأجل ذلك فرضة دون سواحل المغرب. (ولما استولى) بنو مرين على ممالكه، وضاقت أحوال المسلمين بالأندلس، وأخذ بمخنقهم الطاغية حتى ألجأهم إلى سيف البحر واستأثر بالقوسرة [2] وما وراءها. واستأثر بنو القمص أهل برشلونة وقطلوسة بشرق الأندلس. وانتشر في الأقطار ما كان من أمر قرطبة وأضنيها إشبيلية وبلنسية، وامتعض لذلك المسلمون وتنافسوا في الجهاد وإمداد الأندلس بأموالهم وأنفسهم، وسابق الناس إلى ذلك الأمير ابو زكريا بن أبي حفص بما كان صاحب الوقت والمؤمّل للكرّة، فاستنفذ الكثير من أمواله ومقرّباته في إمدادهم بعد أن كانوا آثروا القيام بدعوته، وأوفدوا عليه المشيخة ببيعتهم. وكان ليعقوب بن عبد الحق أمل في الجهاد وحرص عليه. فاعتزم في سلطان أخيه أبي يحيى على الإجازة لذلك، فمنعه ضنّة به عن الاغتراب عنه. وأوعز إلى صاحب سبتة يومئذ أبي علي بن خلاص بمنعه منها، فوعّر له السبيل وسدّ عليه المذاهب. ولم ينشب يعقوب بن عبد الحق أن قام بسلطان المغرب بعد أخيه أبي يحيى وشغل بشأنه. وأهمّه شأن ابن أخيه إدريس منهم في الجهاد بعد العدوة، فاغتنمها منه وعقد له من مطوعة زناتة على ثلاثة آلاف أو يزيدون. وأجاز معه رحّو ابن عمه عبد الله بن عبد الحق. وفصلوا إلى الأندلس سنة إحدى وستين وستمائة فحسنت   [1] وفي النسخة المصرية: انقضاء. [2] وفي الطبعة المصرية: الفرنتيرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 آثارهم في الجهاد وكرمت مقاماتهم. ثم رجع عامر بن إدريس إلى المغرب وكثر انتقاض القرابة. ونافسهم أقيال زناتة في مثلها، فاجتمع أبناء الملوك بالمغرب الأوسط مثل عبد الملك ويغمراسن بن زيان وعامر بن منديل بن عبد الرحمن وزيان بن محمد ابن عبد القوي فتعاقدوا على الإجازة إلى الأندلس إلى الجهاد، وأجازوا فيمن خفّ معهم من قومهم سنة ست وسبعين وستمائة، فامتلأت الأندلس بأقيال زناتة وأعياص الملك منهم. وكان فيمن أجاز من أعياصهم بنو عيسى بن يحيى بن وسناف بن عبّو ابن أبي بكر بن حمامة. ومنهم سليمان وإبراهيم [1] وكانت لهما آثار في الجهاد ومقامات محمودة، وكان موسى بن رحّو لما نازلة السلطان وبني أبيه عبد الله بن عبد الحق بحصن علودان ونزلوا على عهده لحق بتلمسان. وكان بنو عبد الله بن عبد الحق وإدريس بن عبد الحق عصبة من بين سائرهم، لأنّ عبد الله وإدريس كانا شقيقين لسوط النساء بنت عبد الحق، فاقتفى أثر يعقوب بن عبد الحق بن عبد الله محمدا ابن عمّه إدريس، وخرج على السلطان بقصر كتامة سنة ثلاث وستين وستمائة، ثم استرضاه عمّه واستنزله. وبقي يعقوب بن عبد الله في انتقاضه ينتقل في الجهات إلى أن قتله طلحة بن محلى من أولياء السلطان سنة ثلاث وستين وستمائة بجهات سلا، فكفى السلطان شأنه. ولما كان من عهد السلطان لابنه أبي مالك ما قدّمناه نفّس عليه هؤلاء القرابة هذا الشأن، فانتفضوا ولحق ابن إدريس بحصن علودان. ولحق موسى بن رحّو بن عبد الله بجبال غمارة ومعه أولاد عمه أبي عياد بن عبد الحق، ونازلهم السلطان حتى نزلوا على عهده، وأجازهم إلى الأندلس سنة سبعين وستمائة، فأقاموا بها للجهاد سوقا ونافسهم أقيال زناتة في مثلها بتلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس سنة سبعين وستمائة، فولاه السلطان ابن الأحمر على جميع الغزاة المجاهدين هنالك، لما كان كبيرهم ومحلّ سؤلهم [2] . ولم يلبث أن عاد إلى المغرب، فولّى السلطان مكانه أخاه عبد الحق. ثم رجع عنه مغاضبا إلى تلمسان، فولي مكانه على الغزاة المجاهدين إبراهيم بن عيسى بن يحيى بن وسناف إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.   [1] وفي الطبعة المصرية: ومنهم سليمان بن إبراهيم. [2] وفي نسخة ثانية: فحل شولهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 الخبر عن موسى بن رحو فاتح هذه الرئاسة بالأندلس وخبر أخيه عبد الحق من بعده وابنه حمو بن عبد الحق بعدهما لما هلك السلطان الشيخ بن الأحمر وولي ابنه السلطان الفقيه، ووفد على السلطان يعقوب بن عبد الحق صريخا للمسلمين، فأجاز إليه أوّل إجازته سنة ثلاث وسبعين وستمائة وأوقع بجيوش النصرانية. وقتل الزعيم دنّنه واستولى له الغلب على الأندلس، وبدا لابن الأحمر في أمره وخشي مغبته، وتوقع أن يكون شأنه معه شأن يوسف بن تاشفين والمرابطين مع ابن عياد. وكان بالأندلس قرابته بنو أشقيلولة قد قاسموه في ممالكها، وانفردوا بوادي آش ومالقة وقمارش حسبما ذكرناه في أخباره مع السلطان، وانتقض عليه أيضا من رؤساء الأندلس ابن عبدريل [1] وابن الدليل، فكانوا يجلبون على بلاد المسلمين. وكانوا قد استنجدوا جيوش النصرانية ونازلوا غرناطة، وعاثوا في الجهات، فلما استوت قدم السلطان يعقوب بن عبد الحق بالأندلس، وصل هؤلاء الثوّار به أيديهم، فخشيهم ابن الأحمر جميعا على نفسه. وقلب السلطان ليوسف ظهر المجن، واستظهر عليه بالأعياص من قرابته. وكان هؤلاء القرابة من أولاد رحّو بن عبد الله بن عبد الحق وإدريس بن عبد الحق، وينسبون جميعا إلى سوط النساء كما ذكرناه، ومن أولاد أبي عياد بن عبد الحق لما أوجسوا الخيفة من السلطان واستشعروا النكير منه، لحقوا بالأندلس ثورية بالجهاد، وانتبذوا عن الهول [2] فرارا من محله. وقد كان السلطان أبو يوسف حين انتقضوا عليه أشخصهم إلى الأندلس، فاجتمع منهم عند ابن الأحمر عصابة من أولاد عبد الحق كما قلناه، وأولاد وسناف وأولاد نزّول وتاشفين بن معطي كبير بني تيربيغن من بني محمد. وتبعهم أولاد محلى أخوال السلطان أبي يوسف، وكان ابن الأحمر كثيرا ما يعقد لهم على الغزاة المجاهدين من زناتة لدار الحرب، فعقد أولا لموسى بن رحّو سنة ثلاث وسبعين وستمائة ولأخيه عبد الحق بعد انصرافه إلى المغرب، ثم لإبراهيم بن عيسى بعد انصرافهما معا كما قلناه. ثم رجعا فعقد لموسى بن رحّو ثانية على أشياخه،   [1] وفي نسخة ثانية: ابن عبدويل. [2] وفي نسخة ثانية: وانتباذا عن الشول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 وأثبت له قدما في الرئاسة ليحسن به دفاع السلطان أبي يوسف عنهم. ثم تداولت الامارة فيهم ما بينهم وبين عمومتهم. وربما عقد قبل ذلك أزمان الفترة ليعلى بن أبي عيّاد بن عبد الحق في بعض الغزوات، ولتاشفين بن معطي في أخرى سنة تسع وسبعين وستمائة ومعه طلحة بن محلى، فاعترضوا الطاغية دون حصر المسلمين وربّما كان لهم الظهور. ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أبي تاشفين وعقد ابن الأحمر في بعض حروبه معه ليعلى بن أبي عياد على زناتة جميعا، وحاشهم إلى رايته، فانفضّت جموع أبي يوسف، وظهروا عليه، وتقبّضوا في المعركة على ابنه منديل، واستاقوه أسيرا إلى أن أطلقه السلطان ابن الأحمر في سلم عقده بعد مهلكه، مع أبيه يوسف بن يعقوب. واستبدّ موسى بن رحّو من بعدها بإمارة الغزاة بالأندلس إلى أن هلك، فوليها من بعده أخوه عبد الحق إلى أن هلك سنة تسع وسبعين وستمائة وكان مظفّر الراية على عدوّ المسلمين. ولمّا هلك ولي من بعده ابنه حمّو بن عبد الحق فكانت هذه الامارة متّصلة في بني رحّو إلى أن انتقلت منهم إلى إخوانهم من بني أبي العلاء وغيرهم. واندرج حمّو في جملة عثمان بن أبي العلاء من بعد حسبما نذكر. وأمّا إبراهيم بن عيسى الوسنافي فإنه رجع إلى المغرب، ونزل على يوسف بن يعقوب وقتله بمكانه من حصار تلمسان بعد حين من الدهر، وبعد أن كبر وعمي. والله مالك الأمور لا ربّ غيره، وكان مهلك ابن أبي عيّاد سنة سبع وثمانين وستمائة ومعطي بن أبي تاشفين سنة تسع وثمانين وستمائة وطلحة بن محلى سنة ست وثمانين وستمائة والله أعلم. (الخبر عن عبد الحق بن عثمان شيخ الغزاة بالأندلس) كان عبد الحق هذا من أعياص الملك المريني ويعاسيبهم وهو من ولد محمد بن عبد الحق ثاني الأمراء على بني مرين بعد أبيهم عبد الحق. وهلك أبوه عثمان بن محمد بالأندلس إحدى أيام الجهاد سنة تسع وسبعين وستمائة وربّي عبد الحق هذا في حجر السلطان يوسف بن يعقوب إلى أن كان من أمر خروجه مع الوزير رحّو بن يعقوب على السلطان أبي الربيع ما ذكرناه في أخباره. ولحق بتلمسان وأجاز منها إلى الأندلس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 وسلطانه يومئذ أبو الجيوش ابن السلطان الفقيه. وشيخ زناتة حمّو بن عبد الحق بن رحّو. وخاطبهم السلطان أبو سعيد ملك المغرب في اعتقاله، فأجابوه وفرّ من محبسه، ولحق بدار الحرب. ولما انتقض أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد وبايع لنفسه بمالقة، وزحف إلى غرناطة فنازلها، ووقعت الحرب بظاهرها بين الفريقين وأخذ في بعض حروبهما [1] حمّو بن عبد الحق أسيرا، وسيق إلى السلطان أبي الوليد. وكان معه عمّه أبو العبّاس بن رحّو فأبى من اسار ابن أخيه وخلّى عنه، فرجع إلى سلطانه فارتاب به لذلك. وعقد على الغزاة مكانه لعبد الحق بن عثمان استدعاه من مكانه بدار الحرب. ثم غلبهم أبو الوليد على غرناطة. وتحوّل أبو الجيوش على وادي آش على سلم انعقد بينهم، وسار معه عبد الحق بن عثمان على شأنه. ثم وقعت بينه وبين أبي الجيوش مغاضبة، لحق لأجلها بالطاغية وأجاز إلى سبتة، فاستظهر به أبو يحيى بن أبي طالب العزفي أيام حصار السلطان أبي سعيد إياه، فكان له في حماية ثغره والدفاع عنه آثار مذكورة. ثم عقد السلطان أبو سعيد السلم ليحيى العزفي، وأفرج عنه، فارتحل عبد الحق بن عثمان إلى إفريقية. ونزل ببجاية سنة تسع عشرة وسبعمائة على أبي عبد الرحمن بن عمر صاحب السلطان أبي يحيى المستبدّ بالثغور الغربيّة، فأكرم نزله، وأوسع قراره، وضرب له الفساطيط بالزينة [2] من ساحة البلد استبلاغا في تكريمه وحمله وأصحابه على مائة وخمسين من الخيل، ثم أقدمهم على السلطان بتونس فبرّ مقدمهم، وخلط عبد الحق بنفسه وآثره بالخلّة والصحابة، وأجلّه بمكان الاستظهار به وبعصابته. ولما عقد السلطان لمحمد بن سيّد الناس على حجابته سنة سبع وعشرين وسبعمائة واستقدمه لذلك من ثغر بجاية كما ذكرناه، عظمت رياسته واستغلظ حجّابه، وحجب عبد الحق ذات يوم عن بابه، فسخطها وذهب مغاضبا، وداخل أبا فارس في الخروج على أخيه، فأجابه وخرج به من تونس، فكان من خبرهم ومقتل أبي فارس وخلوص عبد الحق إلى تلمسان ونزوله على أبي تاشفين، وغزوة إلى إفريقية مع عساكر بني عبد الواد سنة سبع وعشرين وسبعمائة ما ذكرناه في أخبار الدولة الحفصيّة. ثم لما رجع بنو عبد الواد إلى تلمسان صمد مولانا السلطان أبو يحيى إلى تونس في   [1] وفي نسخة ثانية: في بعض أيامها. [2] وفي نسخة ثانية: بالرشة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 أخريات سنته. وفرّ ابن أبي عمران السلطان المنصوب بتونس من بني أبي حفص إلى أحياء العرب، وتقبّض على أبي رزين [1] ابن أخي عبد الحق بن عثمان في جملة من أصحابه، فقتله قعصا بالرماح. ورجع عبد الحق بن عثمان إلى مكانه من تلمسان، فأقام بمثواه عند أبي تاشفين متبوّئا من الكرامة والاعتزاز ما شاء إلى أن هلك بمهلك أبي تاشفين يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان عليهم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وقتلوا جميعا عند قصر الملك أبو تاشفين وأبناء عثمان ومسعود وحاجبه موسى بن علي، ونزيله عبد الحق هذا، وأبو ثابت ابن أخيه، فقطعت رءوسهم وتركت أشلاؤهم بساحة القصر عبرة للمعتبرين حسبما ذكرناه في أخبار أبي تاشفين، والله أعلم. (الخبر عن عثمان بن أبي العلاء من أمراء الغزاة المجاهدين بالأندلس) كان أولاد سوط النساء من ولد عبد الحق، أهل عصابة واعتزاز على قومهم، وهم أولاد إدريس وعبد الله ابنيها والشقيقين كما ذكرناه. وكان مهلك إدريس الأكبر يوم مهلك أبيه بتافريطت [2] ومهلك عبد الله قبله. وخلف عبد الله ثلاثة من الولد تشعّب فيهم نسله، وهم: يعقوب ورحّو وإدريس. واستعمل أبو يحيى بن عبد الحق يعقوبا منهم على سلا عند افتتاحه إياها سنة تسع وأربعين وستمائة ثم انتزى بها بعد ذلك على عمّه يعقوب سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان من شأن ثورة النصارى به ما ذكرناه، واستخلصها يعقوب بن عبد الحق ولحق يعقوب بن عبد الله بعلودان من بلاد غمارة، وامتنع بها، وخرج على أثره ابنا عمّه إدريس وهما: عامر ومحمد، وانتزوا بالقصر الكبير، ولحق بهم كافة أولاد سوط النساء. وطالبهم السلطان فلحقوا بجبال غمارة ونازلهم، ثم استنزلهم بعد ذلك على الأمان، وعقد لعامر على الغزو إلى الأندلس سنة ستين وستمائة كما ذكرناه، وأجاز معه رحّو بن عبد الله. ورجع محمد بن عامر ومرّ إلى تلمسان سنة ثمانين وستمائة وأجاز منها إلى الأندلس.   [1] وفي نسخة ثانية: أبي زيان، وفي نسخة ثانية: ابن رزين. [2] وفي نسخة ثانية: بتافرطنيت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 ثم خرجوا على السلطان يعقوب بن عبد الحق سنة تسع وثمانين وستمائة [1] ومعهم ولد أبي عياد بن عبد الحق واعتصموا بعلودان، واستنزلهم السلطان على اللحاق بتلمسان فلحقوا بها. وأجاز أولاد سوط النساء وأولاد أبي عياد كافة إلى الأندلس واستقرّوا بها يومئذ، ورجع عامر منهم ومحمد وكان من خبره ما نذكر. وهلك يعقوب بن عبد الله سنة ثمان وستين وستمائة في اغترابه بقفوله من رباط الفتح، قتله طلحة بن محلى. واستقرّ بنوه من أولاد سوط النساء بالمغرب، وكان ابنه أبو ثابت أميرا على بلاد السوس أيام السلطان يوسف بن يعقوب وأوقع بالركبة [2] سنة تسع وتسعين وستمائة ولم يزل بنوه بالمغرب من يومئذ. وكان من إخوانه أبي العلاء ورحّو ابنا عبد الله بن عبد الحق تشعّب نسله فيهما، وأجاز رحّو إلى الأندلس مع عامر ومحمد ابن عمّه إدريس. ثم أجاز موسى ابنه سنة تسع وتسعين وستمائة [3] مع أولاد أبي عيّاد وأولاد سوط النساء. ثم رجع إلى محلّه من الدولة وفرّ ثانيا سنة خمس وسبعين وستمائة إلى تلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس واستقرّ بها. وأجاز أولاد أبي العلاء سنة خمس وثمانين وستمائة مع أولاد أبي يحيى بن عبد الحق وأولاد عثمان بن عبد الحق واستقرّوا بالأندلس، وكانوا يرجعون في رياستهم لكبيرهم عبد الله بن أبي العلاء. وعقد له ابن الأحمر على الغزاة من زناتة فيمن كان يعقد لهم من زناتة قبل استقرار المنصب، إلى أن هلك شهيدا في إحدى غزوات سنة ثلاث وتسعين وستمائة وعقد المخلوع ابن الأحمر لأخيه عثمان بن أبي العلاء، على حامية مالقة وغربيّها من الغزاة لنظر ابن عمّه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر. ولما غدر الرئيس أبو سعيد بسبتة سنة خمس وسبعمائة وتمّت له في مثلها الحيلة، واضطرمت نار العداوة بينه وبين صاحب المغرب، فنصبوا عثمان هذا للأمر، وأجازوه إلى غمارة، فثار بها ودعا لنفسه، وتغلّب على أصيلا والعرائش، وكان ما ذكرنا إلى أن غلبه أبو الربيع سنة ثمانين وستمائة، ورجع إلى مكانه بالأندلس ولما اعتزم أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد على الخروج على أبي الجيوش صاحب غرناطة، داخل في ذلك شيخ الغزاة بمالقة عثمان بن أبي العلاء، فساعده عليه، واعتقل أباه الرئيس أبا سعيد، وزحف   [1] وفي نسخة ثانية: تسع وستين. [2] وفي نسخة ثانية: يزكنة. [3] وفي نسخة ثانية: تسع وستين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 إلى غرناطة سنة أربع عشرة وسبعمائة فلما استولى عليها عقد لعثمان هذا على إمارة الغزاة المجاهدين من زناتة، وصرف عنها عثمان بن عبد الحق: بن عثمان، فلحق بوادي آش مع أبي الجيوش. وصار حمّو بن عبد الحق بن رحّو في جملته بعد أن كان شيخا على الغزاة كما قلناه. واستمرّت أيام ولاية عثمان هذا، وبعد فيها صيته، وغصّ صاحب المغرب أبو سعيد بمكانه، ولما استصرخه المسلمون للجهاد سنة ثمان عشرة وسبعمائة اعتذر بمكان عثمان هذا، واشترط عليهم القبض عليه حتى يرجع عنهم فلم يكن ذلك، ونازل الطاغية غرناطة وحاصرها، وكان لعثمان وبنيه في ذلك آثار مذكورة. وأتاح الله للمسلمين في النصرانية على يد عثمان هذا وبنيه ما لم يخطر على قلب أحد منهم، فتأكّد اغتباط الدولة والمسلمين بمكانهم إلى أن هلك أبو الوليد سنة خمس وعشرين وسبعمائة، باغتيال بعض الرؤساء من قرابته بمداخلة عثمان هذا، زعموا في غدره، ونصّب للأمر ابنه محمد صبيا لم يبلغ الحلم. وأقام بأمره وزيره محمد بن المحروق من صنائع دولتهم، فاستبدّ عليه وألقى زمام الدولة بيد عثمان في النقض والإبرام، فاعتزّ عليهم وقاسمهم في الأمر، واستأثر في أعطيات الغزاة بكثير من أموال الجباية، حتى خشي الوزير على الدولة. وأدار الرأي في كبره [1] على التغلّب، فجمح وفسد ما بينه وبين الوزير ابن المحروق، فانتقض عليه وخرج مغاضبا، فاضطربت فساطيطه بمرج غرناطة. واعصوصب جماعة الغزاة من قبائل زناتة عليه، واعتصم الوزير وأهل الدولة بالحمراء وسعى الناس بينهما أياما، وأدار الوزير الرأي في أن ينصب له كفؤا من قرابته، يجاذبه الحبل ويشغله بشأنه عن الدولة، فجأجأ بيحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق وكان في جملة عثمان وأصهر إليه في ابنته. وعقد له على الغزاة وتسايلوا إليه. وبرز [2] عثمان بمعسكره في عشيرة وولده، وعقد معه السلم في أن يجيز إلى المغرب. وأوفد بطانته على السلطان أبي سعيد سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وارتحل من ساحة غرناطة في ألف فارس من ذويه وأقاربه وحشمه. وقصد تدرش [3] ليجعلها فرضة لمجازه، حتى إذا حاذى تدرش [4]   [1] وفي نسخة ثانية: في كبحه. [2] وفي نسخة ثانية: وتفرّد. [3] وفي نسخة ثانية: وقصد المرية. [4] وفي نسخة ثانية: اندوس وفي نسخة أخرى: اندوجر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 وكان بينه وبين رؤسائها مداخلة، فخرجوا إليه مؤدّين حق مبرّته، فغدر بهم وأركب إليها فملكها وضبطها، وأنزل بها حرمه وأثقاله. ودعا محمد ابن الرئيس أبي سعيد من شلوبانية كان منزلا بها، فجاء إليه ونصّبه للأمر، وشنّ الغارات على غرناطة صباحا ومساء، واضطرمت نار الفتنة. واستركب يحيى بن رحّو من قدر عليه من زناتة. وطالت الحرب سنين حتى إذا فتك السلطان محمد بن الأحمر بوزيره ابن المحروق، استدعى عثمان بن أبي العلاء، وعقد له السلم على أن يجيز عمّه إلى المغرب ويلحق بغرناطة لشأنه من رياسة الغزاة، فتمّ ذلك سنة تسع وعشرين وسبعمائة ورجع إلى مكانه من الدولة. وهلك إثر ذلك لسبع وثلاثين سنة من إمارته على الغزاة. والبقاء للَّه وحده. (الخبر عن رياسة ابنه أبي ثابت من بعده ومصير أمرهم) لما هلك شيخ الغزاة ويعسوب زناتة عثمان بن أبي العلاء، قام بأمره وقومه ابنه أبو ثابت عامر، وعقد السلطان أبو عبد الله بن أبي الوليد له على الغزاة المجاهدين كما كان أبوه، فعظم شأنه قوّة وشكيمة وكثرة عصابة ونفوذ رأي وبسالة. وكان لقومه اعتزاز على الدولة، بما عجموا من عودها، وكانوا أولي بأس وقوّة فيها واستبداد عليها، وكان السلطان محمد بن أبي الوليد مستنكفا عن الاستبداد عليه في القلّة والكثرة، فكان كثيرا ما يخرّقهم [1] بتسفيه آرائهم والتضييق عليهم في جاههم. ولما وفد على السلطان أبي الحسن سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة صريخا على الطاغية، واستغذّ ابنه الأمير أبا مالك لمنازلة جبل الفتح، اتهموه بمداخلة السلطان أبي الحسن في شأنهم، فتنكّروا وأجمعوا الفتك به، وداخلوا في ذلك بعض صنائعه ممن كان متربّصا بالدولة فساعدهم. ولمّا افتتح الجبل وكان من شأنه ما قدّمنا ذكره، وزحف الطاغية فأناخ عليه، وقصد ابن الأحمر الطاغية في بنيه راغبا أن يرجع إلى الحصن، فرجع   [1] وفي نسخة ثانية: يحقدهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 وافترقت عساكر المسلمين، ارتحل السلطان ابن الأحمر إلى غرناطة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وقد قعدوا له بمرصد من طريقه. ونمي الخبر إليه، فدعا بأسطوله لركوب البحر إلى مالقة، واستبق إليهم الخبر بذلك، فتبادروا إليه ولقوة بطريقة من ساحل اصطبونة، فلاحوه وعاتبوه في شأن صنيعته عاصم من معلوجيه، وحاجّهم عنه، فاعتوروا عاصما بالرماح فنكر ذلك عليهم، فألحقوه به، وخرّ صريعا عن مركوبة، وبعثوا إلى أخيه يوسف فأعطوه بيعتهم، وصفقة أيمانهم، ورجعوا به إلى غرناطة وهو حذر منهم لفعلتهم التي فعلوا. واستمرّت الحال على ذلك. ولما استكمل السلطان أبو الحسن فتح تلمسان وصرف عزائمه إلى الجهاد داخل ابن الأحمر في إزاحتهم عن الأندلس مكان جهاده، فصادف منه إسعافا وقبولا وحرصا على ذلك، وتقبّض على أبي ثابت وإخوته إدريس ومنصور وسلطان. وفرّ أخوهم سليمان فلحق بالطاغية، وكان له في يوم طريف أثر في الإيقام بالمسلمين، ولما تقبّض ابن الأحمر على أبي ثابت وإخوته، أودعهم جميعا المطبق أياما، ثم غرّبهم إلى إفريقية، فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي يحيى. وأوعز إليه السلطان أبو الحسن بالتوثق منهم أن يتصلوا بنواحي المغرب، ويخالفوه إليها أيام شغله بالجهاد في الأندلس، فاعتقلهم وأوفد أبا محمد بن تافراكين إلى سدّة السلطان أبي الحسن إليه شفيعا فيهم، فتقبّل شفاعته وأحسن نزلهم وكرامتهم، حتى إذا احتلّ بسبتة أيام حصار الجزيرة في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة سعى بهم عنده، فتقبّض عليهم واعتقلهم بمكناسة. ولما انتزى ابنه الأمير أبو عنان على الأمر. وهزم منصور ابن أخيه أبي مالك صاحب فاس، ونازلة بالبلد الجديد، بعث فيهم إلى مكناسة، فأطلقهم من الاعتقال وأفاض فيهم الإحسان، واستظهر على شأنه. وأحلّ ابا ثابت محل الشورى من مجلسه، وداخل إدريس أخاه في المكر بالبلد الجديد، فنزع إليها ومكر بهم، وثار عليهم إلى أن نزلوا على حكم السلطان أبي عنان، فعقد لأبي ثابت على سبتة وبلاد الريف ليشارف منها الأندلس محل إمارته. وأطلق يده في المال والجيش، وفصل لذلك، فهلك بالطاعون يومئذ سنة تسع وأربعين وسبعمائة بمعسكره إزاء معسكر السلطان من حصار البلد الجديد. واستقرّ إخوانه في إيالة السلطان أبي عنان بالمغرب الأقصى إلى أن كان من مفرّ أخيه إدريس وولايته على الغزاة بالأندلس، ما نذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 الخبر عن يحيى بن عمر بن رحو وإمارته على الغزاة بالأندلس أوّلا وثانيا ومبدإ ذلك وتصاريفه كان رحّو بن عبد الله كبير ولد عبد الله بن عبد الحق، وكان له بنون كثيرون، وتشعّب نسله فيهم، منهم: موسى وعبد الحق والعبّاس وعمر ومحمد وعلي ويوسف. أجازوا كلهم إلى الأندلس مع أولاد سوط النساء من تلمسان كما قدّمناه. وأقام عمر بعدهم بتلمسان مدّة واتخذ بها الأهل والولد. ثم لحقهم وولّى موسى إمارة الغزاة بعد إبراهيم ابن عيسى الوسنافي، وبعده أخوه عبد الحق على الغزاة أقام بها مدّة وأجاز إلى سبتة مع الرئيس أبي سعيد وعثمان بن أبي العلاء سنة خمس وسبعمائة وولي بعدها على الغزاة المجاهدين. ثم رجع إلى الأندلس، ولم يلبث بها أن أجاز إلى المغرب. ونزل على السلطان أبي سعيد، فأكرم نزله، ثم رجع إلى الأندلس. ولما ولي إمارة الغزاة عثمان بن أبي العلاء، وكان بينهم من المنافسة ما يكون بين فحول الشول، أشخص بني رحّو جميعا إلى إفريقية، فنزلوا على مولانا السلطان أبي يحيى خير نزل، اصطفاهم واستخلصهم واستظهر جمعهم في حروبه. وهلك عمر بن رحّو ببلاد الجريد وقبره ببشرى من نفزاوة معروف، ونزع ابنه يحيى من بين إخوته عن مولانا السلطان أبي يحيى، وصار في جملة ابن أبي عمران، ثم لحق بزواوة وأقام في بني يتراتن [1] سنين، ثم أجاز إلى الأندلس واستقرّ بمكانه من قومه. واصطفاه عثمان بن أبي العلاء وأصهر إليه بابنته، وخلطه بنفسه. ولما فسد ما بينه وبين ابن المحروق وزير السلطان بغرناطة سنة سبع وعشرين وسبعمائة واعصوصب عليه الغزاة بمعسكره من مرج غرناطة دسّ إليه يومئذ ابن المحروق إلى يحيى بن عمر هذا. ودعاه إلى مكان عمله ليضبطه [2] بذلك، فأجاب ونزع عن عثمان وقومه إلى ابن المحروق وسلطانه. وعقد له على الغزاة فتسايلوا إليه عن عثمان شيخهم، وانصرف إلى المدية وكان من شأنه ما قصصناه في أخباره، وأقام يحيى بن عمر في رياسته إلى أن هلك ابن المحروق بفتكة سلطانه. واستدعى عثمان بن أبي العلاء للرئاسة فرجع إليها.   [1] وفي نسخة ثانية: يراتن. [2] وفي نسخة ثانية: إلى مكان عثمان ليغيظه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 وصرف يحيى بن عمر إلى وادي آش، وعقد له على الغزاة بها فأقام حينا، ثم رجع إلى مكانه بين قومه. واصطفاه عثمان بن أبي العلاء وابنه أبا ثابت لما كانت أمه بنت موسى بن رحّو، فكان يتعصّب لخؤولته فيهم ثم هلك عثمان وكان ما قدّمناه من شأن ولده وفتكهم بالسلطان المخلوع. وتقبّض أخوهم أبو الحجاج عليهم، وأشخصهم إلى إفريقية وقوّض مباني رياستهم. وعقد على الغزاة مكانهم ليحيى بن عمر هذا، فاضطلع بها أحسن اضطلاع. واستمرّت حاله وحضر مشاهد أبي الحجاج مع السلطان أبي الحسن، فظهرت كفايته وغناؤه. ولما هلك أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة طعينا بمصلّى العيد، في آخر سجدة من صلاته، بيد عبد من عبيد اصطبله مصاب في عقله، أغري زعموا به، وقتل لحينه هبرا بالسيوف. وبويع لابنه محمد، أخذ له البيعة على الناس يومئذ مولاه رضوان من معلوجاتهم، حاجب أبيه وعمّه. وقام بأمره واستبدّ عليه وحجره، فقاسم يحيى بن عمر هذا في شأنه وشاركه في أمره وشدّ أزر سلطانه به، حتى إذا ثار بالحمراء الرئيس ابن عمّهم محمد ابن إسماعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد قائما بدعوة إسماعيل بن أبي الحجاج أخي السلطان محمد كان ساكنا بالحمراء. وتحيّنوا لذلك مغيب السلطان في متنزهه بروضة خارج الحمراء، فخالفوه إليها وكبسوها ليلا فقتلوا الحاجب المستبد رضوان. وأجلس السلطان على سرير ملكه ونادوا بالناس إلى بيعته. ولما أصبح غدا عليهم يحيى بن عمر بعد أن يئسوا منه وخشوا عاديته، فأتاهم ببيعته وأعطى عليها صفقته وانصرف إلى منزله. وبعد استيلائهم استخلصوا إدريس بن عثمان بن أبي العلاء، كان وصل إليهم من دار الحرب بأرض برشلونة كما نذكر. وولّوه إمارة الغزاة وائتمروا في التقبّض على يحيى بن عمر. ونذر بذلك فركب في حاشيته يؤمّ دار الحرب من أرض الجلالقة، واتبعه إدريس فيمن إليه من قومه، فقاتلهم صدر نهاره وفضّ جموعهم. ثم خلص إلى تخوم النصرانية ولحق منها بسدّة ملك المغرب أثر سلطانه المخلوع محمد بن أبي الحجّاج، وخلّف ابنه أبا سعيد عثمان بدار الحرب. ونزل يومئذ على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة فأكرم مثواه وأحله من مجلسه محل الشورى والمؤامرة، واستقرّ في جملته إلى أن بعث ملك قشتالة في السلطان المخلوع، بإشارة ابنه أبي سعيد وسعايته في ذلك، ليجلب به على أهل الأندلس بما نقضوا من عهده. وجهّزه السلطان أبو سالم سنة ثلاث وستين وسبعمائة فصحبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 يحيى بن عمر هذا. ولقيهم ابنه أبو سعيد عثمان وقاموا بأمر سلطانهم، واستولى على الأندلس بمظاهرتهم، وكان لهم آثار في ذلك. ولما استولى على غرناطة سنة ثلاث وستين وسبعمائة عقد ليحيى بن عمر على إمارة الغزاة كما كان وأعلى يده. واستخلص عثمان لشوراه وخلطه ببطانته. ونافسه الوزير يومئذ محمد بن الخطيب فسعى فيهم، وأغرى السلطان بهم، فتقبّض عليهم سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق. ثم أشخص يحيى سنة ست وستين وسبعمائة إلى المشرق وركب السفن من المدية [1] فنزل بالإسكندرية، ورجع منها إلى المغرب، ونزل على عمر بن عبد الله أيام استبداده واستقرّ في كرامة وخير مقامة، ولم يزل بالمغرب على أعز الأحوال إلى أن هلك سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة ثم استخلص ابنه أبا سعيد عثمان من الاعتقال سنة تسع وستين [2] وسبعمائة إلى إفريقية ونزل ببجاية على مولانا السلطان أبي العبّاس حافد مولانا السلطان أبي يحيى واستقرّ في جملته. وحضر معه فتح تونس وأبلى فيه. وأقطع له السلطان وأسنى له الجراية، وخلطه بنفسه واصطفاه لشوراه وخلّته، وهو لهذا العهد من عظماء مجلسه وظهرائه في مقامات حروبه، وإخوته بالأندلس على مراكز عزّهم وفي ظلال عصبيتهم مع قومهم، وقد ذهب مواجد السلطان بالأندلس عليهم وصار إلى جميل رأيه فيهم. والله مالك الملك ومقلّب القلوب لا ربّ غيره. (الخبر عن إدريس بن عثمان بن أبي العلاء وإمارته بالأندلس ومصاير أمره) لما هلك أبو ثابت بن عثمان بن أبي العلاء سنة خمسين وسبعمائة، واستمرّ إخوته في جملة السلطان أبي عنان ملك المغرب وأقطعهم وأسنى جراياتهم، وكان في إدريس منهم بقية الترشيح يراه الناس به. فلمّا نهض السلطان إلى فتح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة توغّل في ديار إفريقية وحام قومه عن مواقعها، تحيّلوا عليه في الرجوع به عن قصده منها. وأذنت المشيخة لمن معهم من قومهم في الانطلاق إلى المغرب حتى خفّ المعسكر من أهله وتآمروا، زعموا في اغتيال السلطان والإدالة منه   [1] وفي نسخة ثانية: المرية. [2] وفي نسخة ثانية: سبع وستين. ابن خلدون م 32 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 بإدريس هذا، ونذر بذلك فكرّ راجعا كما ذكرناه في أخباره. ولما اشيع ذلك ركب إدريس ظهر الغدر وفرّ من العسكر ليلا، ولحق بتونس، ونزل على القائم بالدولة يومئذ الحاجب أبي محمد بن تافراكين خير نزل وأبرّه. وركب السفين من تونس إلى العدوة، فنزل على ابن القمص صاحب برشلونة في حشمه وذويه. وأقام هنالك إلى أن كان من مهلك رضوان الحاجب المستبدّ بالأندلس سنة ستين وسبعمائة ما قدّمناه فنزع إلى منبته من غرناطة. ونزل على إسماعيل ابن السلطان أبي الحجّاج والقائم بدولته يومئذ الرئيس محمد ابن عمّه إسماعيل بن محمد الرئيس أبي سعيد فلقوه مبرّة وتكريما ورجوه بالإدالة به من يحيى بن عمر أمير الغزاة يومئذ، لما كانوا يتّهمونه به من ممالأة المخلوع صاحب الأمر عليهم. ولما نزع يحيى بن عمر إلى الطاغية، ولحق بدار الحرب سنة إحدى وستين وسبعمائة عقدوا لإدريس بن عثمان هذا على الغزاة مكانه. وولّوه خطة أبيه وأخيه بدولتهم، فاضطلع بها. ومالأ الرئيس محمدا على قتل سلطانه إسماعيل بن الحجّاج واستبدّ بالأمر، ولسنتين من ولايته غلبه المخلوع أبو عبد الله على الأمر، وزحف إليه من رندة، كان نزل بها بعد خروجه من دار الحرب مغاضبا للطاغية. وأذن له وزير المغرب عمر بن عبد الله في نزولها فنزلها، ثم زحف إلى الثائر بغرناطة على ملكهم الرئيس وحاشيته فأجفلوا. ولحق الرئيس محمد بن إدريس هذا بقشتالة، ونزلوا في جملتهم وحاشيتهم على الطاغية، فتقبّض عليهم. وقتل الرئيس محمد وحاشيته جزاء بما أتوه من غدر رضوان. ثم غدر السلطان إسماعيل من بعده وأودع إدريس ومن معه من الغزاة السجن بإشبيليّة، فلم يزل في أسره إلى أن تحيّل في الفرار بمداخلة مسلم من الأسرى [1] أعدّ له فرسا إزاء معتقله، ففكّ قيده، ونقب البيت، وامتطى فرسه ولحق بأرض المسلمين سنة ست وستين وسبعمائة واتبعوه فأعجزهم، وجاء إلى السلطان أبي عبد الله محمد المخلوع فأكرم نزله وأحسن مبرّته، ثم استأذنه في اللحاق بالمغرب فأذن له وأجاز إلى سبتة، وبلغ شأنه إلى صاحب الأمر بالمغرب يومئذ عمر بن عبد الله، فأوعز إلى صاحب سبتة بالتقبّض عليه لمكان ما يؤنس من ترشيحه. وأودعه السجن بمكناسة، ثم نقله السلطان عبد العزيز إلى سجن الغدر [2] بفاس، ثم قتلوه خنقا سنة سبعين وسبعمائة   [1] وفي طبعة بولاق المصرية: الدجن. [2] وفي طبعة بولاق المصرية: الغور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 والله وارث الأرض ومن عليها. (الخبر عن إمارة علي بن بدر الدين على الغزاة بالأندلس ومصاير أمره) قد ذكرنا أنّ موسى بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، كان أجاز إلى الأندلس مع محمد وعامر ابني إدريس بن عبد الحق وقومهم، أولاد سوط النساء سنة تسع وستين وسبعمائة ثم رجع إلى المغرب وفرّ إلى تلمسان وأجاز منها إلى الأندلس. وولي إمارة الغزاة بها إلى أن هلك بعد أن أصهر إليه السلطان يوسف بن يعقوب في ابنته، فعقد له عليها وزفّها إليه سنة تسع وسبعين وسبعمائة مع وفد من قومهم. وكان لموسى بن رحّو من الولد جماعة أكبرهم المحمدان جمال الدين وبدر الدين، وضع عليهما هذين اللقبين على طريقة أهل المشرق الشريف المكيّ الوافد على المغرب لذلك العهد من شرفاء مكة. وكان هؤلاء الأعياص من ملوكهم وأقيالهم يعظمون أهل البيت النبوي ويلتمسون الدعاء والبركة منهم فيما تيسّر من أحوالهم، فحمل موسى بن رحّو ولديه هذين عند وضعهما إلى الشريف يحنّكهما ويدعو لهما، فقال له الشريف خذ إليك جمال الدين، وقال في الآخر خذ إليك بدر الدين، فاستحب موسى دعاءهما بهذين اللقبين تبرّكا بتسمية الشريف بهما، فاشتهرا بهذين الاسمين. ولما بلغا الأشد وشاركا أباهما في حمل الرئاسة وكان من مهلكه ما ذكرناه، وانحرفت رياسة الغزاة عنهما إلى عمّهما عبد الحق وابنه، فلحق جمال الدين منهما بالطاغية سنة ثلاث ثم أجاز البحر من قرطاجنّة الى السلطان يوسف بن يعقوب من معسكره من حصار تلمسان، واستقرّ في جملته حتى إذا هلك السلطان تصدّى ابنه ابو سالم للقيام بأمره، وكان مغلّبا مضعّفا فلم يتمّ أمره، وتناول الملك أبو ثابت حافد السلطان واستولى عليه. وفرّ أبو سالم عشيّ مهلكه ومعه من القرابة جمال الدين هذا وأعمامه العباس وعيسى وعلي بنو رحّو بن عبد الله، فتقبّض عليهم في طريقهم بمديونة وسيقوا إلى السلطان أبي ثابت، فقتل عمّه أبا سالم وجمال الدين بن موسى بن رحّو، وامتنّ على الباقين واستحياهم، وانصرف السلطان بعدها إلى الأندلس، فكانت له في الجهاد آثار كما ذكرناه قبل. وأما بدر الدين فلم يزل بالأندلس مع قومه، ومحله من الرئاسة والتجلّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 محلّه من النسب إلى أن هلك، فقام بأمره من بعده ابنه علي بن بدر الدين مزاحما لقومه في الرئاسة، مباهيا في الترشيح. وكان كثيرا ما يعقد له ملوك بني الأحمر على الغزاة من زناتة المرابطين بالثغور فيما بعد عن الحضرة من قواعد الأندلس، مثل مالقة والمرية ووادي آش، سبيل المرشحين من أهل بيته، وكانت إمارة الغزاة بالأندلس مستأثرة بأمر السيف والحرب، مقاسمة للسلطان أكثر الجباية في الأعطية والأرزاق لما كانت الحاجة إليهم في مدافعة العدوّ ومقارعة ملك المغرب إلى ملك الأندلس، يغضّون لهم عن استطالتهم عليهم لمكان حاجتهم إلى دفاع العدوّين، حتى إذا سكن ريح الطاغية بما كان من شغله بفتنة أهل دينه منذ منتصف هذه المائة، وشغل بنو مرين أيضا بعد مهلك السلطان أبي الحسن وتناسوا عهد الغلب على أقتالهم وجيرانهم، وتناسوا عهد ذلك أجمع. فاعتزم صاحب الأندلس على محو هذه الخطّة من دولته. وأغراه بذلك وزيره ابن الخطيب كما ذكرناه حرصا على خلاء الجوّ له، فتقبّض على يحيى بن عمر وبنيه سنة أربع وستين وسبعمائة كما ذكرناه، وعقد على الغزاة المجاهدين لابنه وليّ عهده الأمير يوسف، ومحا رسم الخطة لبني مرين بالجملة إلى أن توهّم فناء الحامية منهم بفناء بيوت العصبيّة الكبرى، فراجع رأيه في ذلك. وكان علي بن بدر الدين خالصة له وكان مقدّما على الغزاة بوادي آش. ولما لحق السلطان به ناجيا من النكبة ليلة مهلك رضوان، مانع دونه وظاهره على أمره حتى إذا ارتحل إلى المغرب ارتحل معه. ونزلوا جميعا على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة كما ذكرناه. ولما رجع إلى الأندلس رجع في جملته فكان له بذلك عهد وذمّة رعاهما السلطان له، وكان يستخلصه ويناجيه. فلمّا تفقّد مكان الأمير على الغزاة ونظر من يولّيه عثر اختياره على هذا لسابقته ووسائله وما تولّاه من نصحه ووقوفه عند حدّه، فعقد له سنة سبع وستين وسبعمائة على الغزاة كما كان أولوه، فقام بها واضطلع بأمورها، واستمرّت حاله إلى أن هلك حتف أنفه سنة ثمان وستين وسبعمائة، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. الخبر عن إمارة عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي على الغزاة بالأندلس ومصاير أمره كان أولاد السلطان أبي علي قد استوقروا بالأندلس وأجازوا إلى طلب الأمر بالمغرب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 وكان من أمرهم ما شرحناه، إلى أن أجاز عبد الرحمن هذا مع وزيره المصادر [1] به مسعود بن رحّو بن ماسي سنة ست وستين وسبعمائة من غساسة على سلم عقده لهم وزير المغرب المستبدّ بأمره يومئذ عمر بن عبد الله. ونزل عبد الرحمن هذا بالمنكب، وكان السلطان يومئذ معسكرا بها فتلقّاه من البرّ بما يناسبه. وأكرم مثواه وأسنى الجراية له ولوزيره ولحاشيته. واستقرّوا في جملة الغزاة المجاهدين حتى إذا هلك علي بن بدر الدين سنة ثمان وستين وسبعمائة نظر السلطان فيمن يوليه أمرهم، فعثر اختياره على عبد الرحمن هذا لما عرف به من البسالة والإقدام ولقرب الشرائح [2] بينه وبين ملك المغرب يومئذ، التي هي ملاك الترشيح لهذه الخطة بالأندلس كما قدّمناه، لما كانت رشائح ولد عبد الله بن عبد الحق قد بعدت باتصال الملك في عمود نسب صاحب المغرب دون نسبهم، فآثره صاحب الأندلس بها، وعقد له على الغزاة المجاهدين سنة ثمان وستين وسبعمائة وأضفى عليه لبوس الكرامة والتجلّة وأقعده بمجلس المؤازرة [3] كما كان الأمراء قبله، واتصل الخبر بسلطان المغرب يومئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، فغصّ بمكانه، وتوهّم أنّ هذه الإمارة زيادة في ترشيحه ووسيلة لملكه، وكانت لوزير الأندلس محمد بن الخطيب مداخلة مع صاحب المغرب، بما أمّل أن يجعله فيئة لاعتصامه، فأوعز إليه بالتحيّل على إفساد ما بينه وبين صاحب الأندلس، فجهد في ذلك جهده. ونسب عليه وعلى وزيره مسعود بن ماسي إلى عظماء القبيل وبعض البطانة من أهل الدولة التحسّب [4] والدعوة إلى الخروج على صاحب المغرب، فأحضرهم السلطان ابن الأحمر وأعطاهم كتابهم، فشهد عليهم وأمر بهم المغرب، فأحضرهم السلطان ابن الأحمر وأعطاهم كتابهم، فشهد عليهم وأمر بهم فاعتقلوا في المطبق سنة سبعين وسبعمائة واسترضى صاحب المغرب بفعلته فيهم، ونزع الوزير ابن الخطيب بعد ذلك إلى السلطان عبد العزيز، وتبيّن للسلطان مكره واحتياله عليه في شأنهم. ولما هلك عبد العزيز وأظلم الجوّ بين صاحب الأندلس وبين   [1] وفي طبعة بولاق المصرية: المطارد به. [2] وفي طبعة بولاق المصرية: الوشائج. [3] وفي طبعة بولاق المصرية: الوزارة. [4] وفي طبعة بولاق المصرية: بالتحبيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 القائم بالدولة أبي بكر بن غازي كما قدّمناه، وامتعض ابن الأحمر للمسلمين من الفوضى، أطلق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماسي من الاعتقال وجهّز لهما الأسطول، فأجازوا فيه إلى المغرب ونزلوا بمرسى غساسة على بطوية داعيا لنفسه، فقاموا بأمره وكان من شأنه مع الوزير أبي بكر بن غازي ما قصصناه، واستقرّ آخرا بمراكش وتقاسم ممالك المغرب وأعماله مع السلطان أبي العبّاس أحمد ابن أبي سالم صاحب المغرب لهذا العهد. وصار التخم بينهما وادي ملويّة. ووقف كلّ واحد منهما عند حدّه، وأغفل صاحب الأندلس هذه الخطة من دولته ومحا رسمها من ملكه. وصار أمر الغزاة المجاهدين إليه، وباشر أحوالهم بنفسه، وعمّهم بنظره، وخصّ القرابة المرشّحين منهم بمزيد تكرمته وعنايته. والأمر على ذلك لهذا العهد، وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء لا ربّ غيره ولا معبود سواه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 تمّ كتاب أخبار الدول الإسلامية بالمغرب لولي الدين أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي المالكي. والحمد للَّه رب العالمين [1] . (التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب) [2] أصل هذا البيت من إشبيلية انتقل عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن أدفونش عليها إلى تونس في أواسط المائة السابعة (نسبه) عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون [3] هذا لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هذه العشرة، ويغلب على الظنّ أنّهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عددا، لأنّ خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس، فإن كان أوّل الفتح فالمدّة لهذا العهد سبعمائة سنة، فيكونون زهاء العشرين، ثلاثة لكل مائة، كما تقدّم في أوّل الكتاب الأوّل. ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب، معروف وله صحبة. قال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة: هو وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل، ابن النعمان بن ربيعة بن الحرث بن عوف بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن مرّة بن حمير بن زيد بن الحضرميّ بن عمر بن عبد الله بن   [1] هكذا في النسخة الجزائرية تحقيق البارون دي سلان وفي طبعة بولاق المصرية وغيرها فقد أضيف الى هذا الكتاب فصل التعريف بابن خلدون. [2] هكذا ختم ابن خلدون الجزء الأخير من كتابه بالتعريف عن نفسه وأضاف بخطه في بعض النسخ «ورحلته غربا وشرقا» . [3] بفتح الخاء هكذا اضبطه بخط يده وكما نص عليه السخاوي في الضوء اللامع ج 4 ص 145. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 عوف بن جردم بن جرسم بن عبد شمس بن زيد بن لؤيّ بن ثبت [1] بن قدامة ابن أعجب بن مالك بن مالك بن لؤيّ بن قحطان. وابنه علقمة بن وائل وعبد الجبّار بن علقمة بن وائل. وذكره أبو عمر بن عبد البرّ في حرف الواو من الاستيعاب. وأنه وفد على النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فبسط له رداءه وأجلسه عليه، وقال: «اللَّهمّ بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة» . وبعث معاوية بن أبي سفيان إلى قومه يعلّمهم الإسلام والقرآن، فكان له بذلك صحابة مع معاوية. ووفد عليه لأوّل خلافته فأجازه، فردّ عليه جائزته ولم يقبلها. ولما كانت وقعة حجر بن عديّ الكندي بالكوفة، اجتمع رءوس أهل اليمن، فيهم وائل هذا فكانوا مع زياد بن أبي سفيان [2] عليه، حتى أوثقوه وجاءوا به إلى معاوية فقتله كما هو معروف. وقال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون من ولده، جدّهم الداخل من المشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريت [3] بن معديكرب بن الحرث بن وائل بن حجر قال: ومن عقبه كريت بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد، وكانا من أعظم ثوار الأندلس. قال ابن حزم: وأخوه محمد، كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون. وترك أبو العاصي محمدا وأحمد وعبد الله. قال: وأخوهم عثمان، له عقب ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس تلميذ مسلمة المجريطي [4] . وهو أبو مسلم عمر بن محمد [5] بن تقي بن عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان بن خلدون الداخل. وابن عمّه أحمد بن محمد بن عبد الله. قال: ولم يبق من ولد كريت   [1] قيّدها بخطه بفتح الشين وسكون الباء الموحدة بعدها مثناة فوفية. [2] هو زياد بن أبيه وهو الّذي اعترف به معاوية بانه أخوه. [3] وفي نسخة ثانية: كريب وقد قيّده بخطه بضم الكاف وفتح الراء. [4] المجريطي وهو مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي: فيلسوف، رياض، فلكي، كان أمام الرياضيين بالأندلس وأوسعهم احاطة بعلم الأفلاك وحركات النجوم مولده ووفاته بمجريط (مدريد) الأعلام للزركلي/ ج 7 ص 224. [5] وفي عيون الانباء ج 2 ص 41: عمر بن أحمد بن خلدون بن بقي، وابن خلدون هذا من أشراف إشبيلية، وكان فيلسوفا مهندسا طبيبا توفي سنة 449 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 الرئيس المذكور إلّا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت انتهى. كلام ابن حزم. (سلفه بالأندلس) ولما دخل خلدون بن عثمان جدّنا إلى الأندلس، نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت، ونشأ بيت بنيه بها، ثم انتقل إلى إشبيلية. وكانوا في جند اليمن، وكان الكريت من عقبه وأخيه خالد، الثورة المعروفة بإشبيليّة أيام الأمير عبد الله المرواني، ثار على أبي عبدة وملكها من يده أعواما. ثم ثار عليه عبد الله بن حجّاج بإملاء الأمير عبد الله وقتله، وذلك في أواخر المائة الثالثة. (وتلخيص الخبر عن ثورته [1] ) ما نقله ابن سعيد [2] عن الحجازي [3] وابن حيان [4] وغيرهما، وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرّخ إشبيلية أنّ الأندلس لما اضطرمت بالفتن أيام الأمير عبد الله، تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثورة والاستبداد، وكان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة بيوت: بيت أبي عبدة وبرئيسهم يومئذ ابن عبد الغافر بن أبي عبيدة، وكان عبد الرحمن الداخل ولّى إشبيلية وأعمالها أبا عبدة، وكان حافده أميّة من أعلام الدولة بقرطبة، ويولّونه الممالك الضخمة. وبيت بني خلدون ورئيسهم كريت المذكور، ويردفه خالد أخوه. قال ابن حيّان: وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية، نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانيّة ورياسة علمية. ثم بيت بني حجّاج ورئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حيّان: هو من لخم وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية. فلمّا عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين ومائتين، وكان الأمير عبد الله قد ولّى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر، وبعث معه ابنه محمدا وجعله في كفالته، فاجتمع هؤلاء النفر وثاروا بمحمد بن الأمير   [1] راجع أخبار هذه الثورة في المجلد الرابع من هذا الكتاب. [2] هو علي بن موسى بن سعيد العنسيّ الغرناطي (610- 673) صاحب كتاب «المغرب» و «المشرق» وغيرهما. يعتمد عليه ابن خلدون كثير في النسب والتاريخ. [3] هو صاحب كتاب «المسهب في غرائب المغرب، وهو أبو محمد عبد الله إبراهيم الحجاري نسبة إلى وادي الحجارة وهو من أهل القرن السابع. [4] ابن حيان: هو مؤرخ الأندلس واسمه أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان القرطبي (377- 469) له كتاب المتين في التاريخ، والمقتبس في تاريخ الأندلس وكتاب معرفة الصحابة. (وفيات الأعيان 1 ص 210) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 عبد الله، وبأميّة صاحبهم، وهو يمالئهم على ذلك، ويكيد بابن الأمير عبد الله. وحاصروه حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه، واستبدّ أمية بإشبيليّة، ودسّ على عبد الله بن حجّاج من قتله، وأقام أخاه إبراهيم مكانه. وضبط إشبيلية واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجّاج ثم ثاروا به، وهمّ بقتل أبنائهم فراجعوا طاعته، وحلفوا له، فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية. وحاربوه فاستمات وقتل حرمه وعقر خيوله، وأحرق موجودة. وقاتلهم حتى قتلوه مقبلا غير مدبر، وعاثت العامة في رأسه. وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خلع فقتلوه، فقبل منهم مداراة، وبعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته، فاستبدّوا عليه وفتكوا بابنه، وتولّى كبر ذلك كريت بن خلدون. واستقل بإمارتها. وكان إبراهيم بن حجّاج بعد ما قتل أخوه عبد الله على ما ذكره ابن سعيد عن الحجاري سمت نفسه إلى التفرّد، فظاهر ابن حفصون [1] أعظم ثوّار الأندلس يومئذ، وكان بمالقة وأعمالها إلى رندة، فكان له منه ردء. ثم انصرف إلى مداراة كريت بن خلدون وملابسته، فردفه في أمره، وأشركه في سلطانه، وكان في كريت تحامل على الرعيّة وتعصّب، فكان يتجهّم لهم ويغلظ عليهم، وابن حجّاج يسلك بهم الرّفق والتلطّف في الشفقة [2] بهم عنده، فانحرفوا عن كريت إلى إبراهيم. ثم دسّ إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية، لتسكن إليه العامّة، فكتب إليه العهد بذلك. وأطلع عليه عرفاء البلد مع ما أشربوا من حبّه، والنفرة عن كريت، ثم أجمع الثورة. وهاجت العامّة بكريت فقتلوه، وبعث برأسه إلى الأمير عبد الله، واستقرّ بإمارة إشبيلية. قال ابن حيّان: وحصّن مدينة قرمونة من أعظم معاقل الأندلس، وجعلها مرتبطا لخيله، وكان ينتقل بينها وبين إشبيلية. واتخذ الجند ورتّبهم طبقات، وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا، وبعث إليه المدد في الصوائف [3] . وكان مقصودا   [1] هو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن ادفونش القس. وهو أول ثائر بالأندلس وهو الّذي افتتح الخلاف بها، وفارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن سنة 270 وتوفي سنة 306 (راجع أخبار ثورته في المجلد الرابع من هذا الكتاب. [2] وفي نسخة ثانية: في الشفاعة. [3] الصوائف: جمع صائفة: «وهي غزوات المسلمين الى بلاد الروم. سميت صوائف لأنهم كانوا يغزون صيفا تفاديا من شدة البرد (تاج العروس) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 ممدّحا، قصده أهل البيوتات فوصلهم، ومدحه الشعراء ومدحه أبو عمر بن عبد ربّه صاحب العقد [1] وقصده من بين سائر الثوّار فعرف حقه وأعظم جائزته. ولم يزل بين بني خلدون بإشبيليّة كما ذكره ابن حيّان وابن حزم وغيرهما، سائر أيام بني أمية إلى زمان الطوائف [2] ، وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة. ولما غلب كعب بن عبّاد [3] على إشبيلية، واستبدّ على أهلها استوزر من بني خلدون هؤلاء واستعملهم في رتب دولته، وحضروا معه وقعة الجلالقة [4] كانت لابن عبّاد وليوسف بن تاشفين على ملوك الجلالقة، فاستشهد فيها طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ثبتوا في الجولة مع ابن عبّاد فاستلحموا في ذلك الموقف. بما كان الظهور للمسلمين، ونصرهم الله على عدوّهم. ثم تغلّب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس، واضمحلّت دولة العرب وفنيت قبائلهم. (سلفه بإفريقية) ولما استولى الموحدون [5] على الأندلس وملكوها من يد المرابطين، وكان ملوكهم عبد المؤمن وبنيه. وكان الشيخ أبو حفص [6] كبير هنتاتة زعيم دولتهم. وولّوه على إشبيلية وغرب الأندلس مرارا، ثم ولّوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم، ثم ابنه أبا زكريا كذلك، فكان لسلفنا بإشبيليّة اتصال بهم، وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمّهات، ويعرف بالمحتسب للأمير أبي زكريا [7]   [1] هو أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم أبو عمر (246- 328) الأديب الإمام صاحب العقد الفريد من أهل قرطبة (الأعلام 1/ 207) وله ترجمة في وفيات الأعيان 1/ 39. [2] يبتدأ عصر ملوك الطوائف بالأندلس بنهاية الخلافة الاموية، وينتهي بغلبة يوسف ابن تاشفين المرابطي عليهم جميعا، واستيلائه على الأندلس (راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب) . [3] هو أبو القاسم المعتمد محمد بن المعتضد بن عباد (431- 488) أكبر ملوك الطوائف بالأندلس (راجع ترجمته في المجلد الرابع من هذا الكتاب) و (وفيات الأعيان) . [4] وفي نسخة ثانية: الزلاقة: وهي من المعارك المشهورة في تاريخ الأندلس بل في التاريخ الإسلامي، وكان لها الأثر البعيد في الحياة الإسلامية في الأندلس وقد أسهب المؤرخون في ذكرها وذكر تفاصيلها. [5] نشأت دولة الموحدين على يد محمد بن تومرت وهو المهدي. وقد ابتدأت دولتهم بالغرب سنة 514 وانتهت سنة 688 هـ، وامتد سلطانها الى الأندلس من سنة 540- 609 هـ. راجع تاريخ أبي الفداء 2/ 243. [6] هو أول التابعين لدعوة مهدي الموحدين وكان يسمى بالشيخ واسمه عمر بن يحيى بن محمد الهنتاتي ولقبه أبو حفص، وإليه تنسب الدولة الحفصية بإفريقية ومنهم من يردهم الى ذرية عمر بن الخطاب وليس هذا بصحيح. [7] «هو الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد الحفصي، ملك جل إفريقية. بايعه أهل الأندلس وامّله أهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته عليهم، جارية من سبي الجلالقة، اتخذها أم ولد، وكان له منها ابنه أبو زكريا يحيى وليّ عهده الهالك في أيامه، وأخواه عمر وأبو بكر، وكانت تلقّب أمّ الخلفاء. ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سنة عشرين وستمائة. ودعا لنفسه بها وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين وستمائة واستبدّ بإفريقية، وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس، وثار عليهم ابن هود [1] . ثم هلك واضطربت الأندلس وتكالب الطاغية عليها، وتردّد الغزو إلى الفرنتيرة بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيّان. وثار ابن الأحمر من غرب الأندلس من حصن أرجونة يرجو التماسك بما بقي من رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيليّة. وهم بنو الباجي، وبنو الجدّ، وبنو الوزير، وبنو سيّد الناس، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة على ابن هود، وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة، ويتمسّكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعّرة، من مالقة إلى غرناطة إلى المريّة، فلم يوافقوه على بلادهم. وكان مقدّمهم أبو مروان الباجي، فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي وبايع مرّة لابن هود ومرّة لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن، ومرّة للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية. ونزل غرناطة واتخذها دار ملكه، وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل الملك، فخشي بنو خلدون سوء العاقبة من الطاغية، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة، ونزلوا سبتة، وأجلب الطاغية على تلك الثغور فملك قرطبة وإشبيلية وقرمونة وجيّان وما إليها في مدّة عشرين سنة. ولما نزل بنو خلدون بسبتة أصهر إليهم العزفيّ بأبنائه وبناته، فاختلط بهم، وكان له معهم صهر مذكور. وكان جدّنا الحسن بن محمد، وهو سبط ابن المحتسب قد أجاز فيمن أجاز إليهم، فذكروا سوابق سلفه عند الأمير أبي زكريا، فقصده، وقدم عليه فأكرم قدومه، وارتحل إلى المشرق فقضى فرضه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكريا على بونة، فأكرمه واستقرّ في ظل دولته ومرعى نعمته، وفرض له الأرزاق وأقطع الأقطاع. وهلك هنالك فدفن ببونة سنة سبع وأربعين وستمائة وولي ابنه المستنصر   [ () ] شرق الأندلس لصد هجوم ملكي ارغون وقشتالة، فأوفدوا إليه كاتب ابن مردنيش ابا عبد الله بن الأبار فأنشده القصيدة السينية المشهورة: أدرك بخيلك خيل الله اندلسا ... ان السبيل الى منجاتها درسا» [1] هو محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن هو الجذامي. راجع أخبار ثورته في المجلد الرابع من هذا الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 محمد، فأجرى جدّنا أبا بكر على ما كان لأبيه. ثم ضرب الدهر ضرباته، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين وستمائة، وولي ابنه يحيى، وجاء أخوه الأمير أبو إسحاق من الأندلس بعد أن كان فرّ إليها أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى، واستقلّ هو بملك إفريقية، ودفع جدّنا أبا بكر محمدا على عمل الأشغال في الدولة على سنن عظماء الدولة الموحدين فيها قبله، من الانفراد بولاية العمّال وعزلهم وحسبانهم على الجباية، فاضطلع بتلك الرتبة. ثم عقد السلطان أبو إسحاق لابنه محمد، وهو جدّنا الأقرب على حجابة وليّ عهده ابنه أبي فارس أيام أن أقصاه إلى بجاية [1] . ثم استعفى جدّنا من ذلك فأعفاه ورجع إلى الحضرة، ولما غلب الدعي ابن أبي عمارة [2] على ملكهم بتونس، اعتقل جدّنا أبا بكر محمدا، وصادره على الأموال ثم قتله خنقا في محبسه. وذهب ابنه محمد جدّنا الأقرب مع السلطان أبي إسحاق وأبنائه إلى بجاية فتقبّض عليه ابنه أبو فارس، وخرج مع العساكر هو وإخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة، وهو يشبه بالفضل بن المخلوع حتى إذا استلحموا بمرماجنّة جنّة خلص جدّنا محمد مع أبي حفص ابن الأمير أبي زكريا من الملحمة، ومعهما الفازازي وأبو الحسين بن سيّد الناس فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان. وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص، وكان يؤثره عليهم. فأما أبو الحسين بن سيّد الناس، فاستنكف من إيثار الفازازي عليه، بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية، ولحق بالمولى أبي زكريا الأوسط بتلمسان، وكان من شأنه ما ذكرناه. وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص وسكن لايثار الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمور رعى له سابقته وأقطعه، ونظّمه في جملة القوّاد ومراتب أهل الحروب، واستكفى به في الكثير من أمر ملكه، ورشّحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة، واصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدبّاغ كاتب الفازازي وجعل محمد بن خلدون رديفا له في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك السلطان، وجاءت دولة الأمير خالد، فأبقاه على حاله من التجلّة والكرامة، ولم   [1] بجاية: وتسمى الناصرية نسبة الى بانيها الناصر بن علناس بن حماد بن زيري الصنهاجي، بناها في حدود سنة 457:- تقع اليوم- على ساحل البحر الأبيض من الجزائر وكانت قاعدة المغرب الأوسط (معجم البلدان) . [2] هو أحمد بن روق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة (الاحاطة في تاريخ غرناطة 1 174) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 يستعمله ولا عقد له، إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني فاصطنعه، واستكفى به عند ما تنبّضت عروق التغلّب من العرب، ودفعه إلى حماية الجزيرة من لاج [1] إحدى بطون سليم الموطنين بنواحيها، فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى الشرق وقضى سنة ثمان عشرة وأظهر التوبة والإقلاع، وعاود الحج متنقلا سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ولزم كسر بيته. وأبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع والجراية، ودعاه إلى حجابته مرارا فامتنع. (أخبرني) محمد بن منصور بن مزني قال: لما هلك الحاجب بن محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار سنة سبع وعشرين وسبعمائة، استدعى السلطان جدّك محمد بن خلدون وأراده على الحجابة، وأن يفوّض إليه أمره، فأبى واستعفى فأعفاه وآمره فيمن يوليه حجابته، فأثار عليه بصاحب ثغر بجاية محمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس لاستحقاقه ذلك بكفايته واضطلاعه، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس، وإشبيلية من قبل. وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والدين [2] فعمل السلطان على إشارته واستدعى ابن سيّد الناس وولّاه حجابته. وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من تونس يستعمل جدّنا محمدا عليها وثوقا بنظره واستنامة إليه إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ونزع ابنه، وهو والدي محمد بن أبي بكر عن طريقة السيف والخدمة إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليه في حجر أبي عبد الله الرندي [3] الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده في العلم والفتيا، وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبي حسين وعمّه حسن، الوليّين الشهيرين. وكان جدّنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنه وهو والدي رحمه الله فقرأ وتفقّه، وكان مقدّما في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه، عهدي بأهل البلد يتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حوكهم عليه، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة.   [1] وفي نسخة ثانية: دلاج. [2] وفي نسخة ثانية: الذوين. [3] وفي نسخة ثانية: الزبيديّ. نسبة الى قرية بساحل المهدية توفي عام 740 هـ وهو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عبد الله القرشي الزبيدي. والرندي نسبة الى (رندة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 (أمّا نشأتي) فإنّي ولدت بتونس في غرّة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربّيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن سعد بن نزال [1] الأنصاري، أصله من جالبة الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماما في القراءات لا يلحق شأوه، وكان من أشهر شيوخه في القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد بن البطوي [2] ومشيخته فيها، وأسانيده معروفة. وبعد أن استظهرت القرآن العظيم عن حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفرادا وجمعا [3] في إحدى وعشرين ختمة، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى ثم قرأت برواية يعقوب [4] ختمة واحدة جمعا بين الروايتين عنه، وعرضت عليه رحمه الله قصيدة الشاطبي [5] اللامية في القراءات والرائية في الرسم. وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي عبد الله البطوي وغيره من شيوخه، وعرضت عليه كتاب التفسير لأحاديث الموطأ لابن عبد البرّ حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ، مقتصرا على الأحاديث فقط. ودرست عليه كتبا جمّة مثل كتاب التسهيل لابن مالك [6] ومختصر ابن الخطيب في الفقه [7] ولم أكملهما بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلّمت صناعة العربية على والدي   [1] وفي نسخة ثانية برال: بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المشددة، هكذا قيّده ابن خلدون بخط يده. [2] وفي نسخة ثانية: البطرني: نسبة الى بطرنة من إقليم بلنسية بشرق الأندلس. وقد ضبطها ابن خلدون بخط يده: بفتح الباء والطاء المهملة وراء ساكنة بعدها نون. [3] «الإفراد ان يتلى القرآن كله أو جزء منه برواية واحدة لأحد القراء السبع أو العشرة المشهورين، والجمع أن يجمع القارئ عند قراءته للقرآن كله أو جزء منه بين روايتين فأكثر من الروايات السبع أو العشر المتواترة. ويسمى بالجمع الكبير ان استوفى القارئ سبع قراآت فأكثر. وإلّا سموه بالجمع الصغير. [4] هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرميّ البصري (117- 205) أحد القراء العشرة، وله قراءة مشهورة عنه، وهي احدى القراءات العشر. راجع طبقات القراء (1/ 285) و (2/ 234) . [5] هو أبو القاسم بن خلف بن أحمد الشاطبي الرعينيّ، رحل الى الشرق ودخل القاهرة، حيث مدرسة القاضي الفاضل، وقد نظم قصيدته اللامية المعروفة بالشاطية أو حرز الأماني، والرائية وتعرف بالعقيلة (طبقات القراء 2/ 20) . [6] هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي الحياني النحويّ المشهور (600- 672) وكتابه تسهيل الفوائد جمع قواعد النحو بإيجاز. [7] وفي نسخة ثانية: ابن الحاجب وهو عثمان بن عمر بن يونس المعروف بابن الحاجب جمال الدين المصري (570- 646) له مختصر في الفقه ذكره ابن خلدون في مقدمته راجع (وفيات الأعيان 1/ 395) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله محمد العربيّ الحصايري، وكان إماما في النحو وله شرح مستوفى على كتاب التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش المزازي [1] . ومنهم أبو العبّاس أحمد بن القصّار، كان ممتعا في صناعة النحو، وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي وهو حيّ لهذا العهد بتونس. ومنهم إمام العربية والأدب بتونس أبو عبد الله محمد بن بحر، لازمت مجلسه وأفدت عليه، وكان بحرا زاخرا في علوم اللسان. وأشار عليّ بحفظ الشعر فحفظت كتب الأشعار الستة، والحماسة للأعلم [2] وشعر حبيب [3] وطائفة من شعر المتنبي، ومن أشعار كتاب الأغاني. ولازمت أيضا مجلس إمام المحدّثين بتونس، شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسيّ الوادياشي صاحب الرحلتين، وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجّاج إلّا فوتا يسيرا من كتاب الصّيد، وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوّله إلى آخره، وبعضا من الأمّهات الخمس، وناولني [4] كتبا كثيرة في العربية والفقه وأجازني إجازة عامّة، وأخبرني عن مشايخه المذكورين أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العبّاس أحمد بن الغمّاز الخزرجي. وأخذت الفقه بتونس من جماعة، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحيّاني، وأبو القاسم محمد القصير، وقرأت عليه كتاب التهذيب لأبي سعيد البرادعي، مختصر المدوّنة، وكتاب المالكيّة، وتفقّهت عليه. وكنت في خلال ذلك انتاب مجلس شيخنا الإمام قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام مع أخي عمر رحمة الله عليهما، وأفدت منه وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب الموطأ للإمام مالك، وكانت له طرق عالية عن أبي محمد بن هارون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس، وكلّهم سمعت عليه، وكتب لي وأجازني، ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.   [1] وفي نسخة ثانية: الزرزالي. [2] هو يوسف بن سليمان بن عيسى النحويّ الشنتمري- نسبة الى شنت مريّة- المعروف بالأعلم (وفيات الأعيان) ج 2 ص 465. [3] المشاعر المشهور وهو حبيب بن أوس الحارث الطائي أبو تمام (190- 226) (وفيات الأعيان) . [4] المناولة حسب مصطلح الحديث تعني الإجازة لشخص بالرواية عن شخص آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن عند ما ملك إفريقية سنة ثمان وأربعين جماعة من أهل العلم كان يلزمهم شهود مجلسه، ويتجمّل بمكانهم فيه، فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب وإمام مذهب مالك أبو عبد الله محمد بن سليمان السطّي، فكنت انتاب مجلسه وأفدت عليه. ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن وصاحب علامته التي توضع أسفل مكتوباته، إمام المحدّثين أبو محمد عبد المهيمن الحضرميّ، لازمته وأخذت عنه سماعا وإجازة، الأمّهات الست. وكتاب الموطأ، والسير لابن إسحاق، وكتاب ابن الصلاح في الحديث، وكتبا كثيرة سرت [1] عن حفظي. وكانت بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة، كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة الاف سفر في الحديث والفقه والعربية والأدب والمعقول وسائر الفنون، مضبوطة كلها مقابلة. ولا يخلو ديوان منها عن ضبط بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفة، حتى الفقه والعربية الغريبة الإسناد إلى مؤلفها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي إمام المقرءين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم بالجمع الكبير بين القراءات السبع، من طريق أبي عمر والداني وابن شريح [2] لم أكملها، وسمعت عليه عدّة كتب، وأجازني بالإجازة العامّة. ومنهم شيخ العلوم العقلية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأيلّي أصله من تلمسان وبها نشأ، وقرأ كتب التعليم وحذق فيها، وأظلّه الحصار الكبير بتلمسان أعوام المائة السابعة، فخرج منها وحجّ ولقي أعلام المشرق يومئذ، فلم يأخذ عنهم لأنه كان مختلطا بعارض عرض في عقله. ثم رجع من المشرق وأفاق وقرأ المنطق والأصلين على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام، وكان قرأ بتونس مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن على تلميذ أبي زيتون الشهير الذكر [3] وجاءا إلى تلمسان بعلم كثير من المنقول والمعقول، فقرأ الأيلّي على أبي موسى منهما كما قلناه، ثم خرج من تلمسان هاربا إلى المغرب لأنّ سلطانها أبا حمّو يومئذ من ولد يغمراسن بن زيّان، كان يكرهه على التصرّف في أعماله، وضبط الجباية بحسبانه، ففرّ إلى المغرب، ولحق   [1] وفي نسخة ثانية: شذت. [2] هو المقرئ محمد بن شريح بن أحمد بن محمد ابو عبد الله الإشبيلي (388- 476) . [3] هو ابن زيتون أبو القاسم، القاسم بن أبي بكر بن مسافر (621- 691) قام برحلة الى الشرق وأخذ عن علمائه، ثم رجع بعدها الى تونس ما سند إليه مهمة القضاء والإفتاء، وهو أول من أظهر تآليف فخر الدين الرازيّ في تونس. ابن خلدون م 33 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 بمراكش، ولازم العالم الشهير الذكر أبا العبّاس بن البناء، فحصّل عنه سائر العلوم العقلية، وورث مقامه فيها وأرفع، ثم صعد إلى جبل الهساكرة بعد وفاة الشيخ باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، فأفاده وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد والأبلّي معه. ثم اختصّه السلطان أبو الحسن ونظّمه في جملة العلماء بمجلسه، وهو في خلال ذلك يعلّم العلوم العقلية، ويبثّها بين أهل المغرب حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصاره. وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه. ولما قدم على تونس في جملة السلطان أبي الحسن، لزمته، وأخذت عنه العلوم العقلية [1] ، والمنطق، وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية، وكان رحمه الله تعالى يشهد لي بالتبريز في ذلك. وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن، صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي، كان يكتب عن السلطان ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتّاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطّه. وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب في براعة خطّه، وكثرة علمه، وحسن سمته، وإجادته في فقه الوثائق، والبلاغة في الترسيل عن السلطان، وحوك الشعر والخطابة على المنابر، لأنه كان كثيرا ما يصلّي بالسلطان. فلمّا قدم علينا بتونس صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخا، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما أفدت منهم. وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحويّ شاعر تونس في قصيدة على رويّ النون يرغب منه أن يذكره [2] لشيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه للسلطان أبي الحسن في قصيدة [3] على روي الياء، وقد تقدّم ذكرها في أخبار السلطان. وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي هذه: عرفت زماني حين أفكرت عرفاني ... وأيقنت أن لا حظّ في كفّ كيوان [4] وأن لا اختيار في اختيار مقوّم ... وأن لا قراع بالقران لأقران   [1] وفي نسخة ثانية: وأخذت عنه الأصلين. [2] وفي نسخة ثانية: يرغب منه تذكرة. [3] وفي نسخة ثانية: في قصيدته. [4] اسم لأحد الكواكب السيارة ويدعى زحل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 وأن نظام الشكل أكمل نظمه ... لأضعاف قاض في الدليل برجحان وأنّ افتقار المرء من فقراته ... ومن ثقله يغني اللبيب بأوزان إلى آخرها، ثم يقول في ذكر العلماء القادمين: هم القوم كلّ القوم أمّا حلومهم ... فأرسخ من طودي ثبير وثهلان [1] فلا طيش يعلوهم [2] وأمّا علومهم ... فأعلامها تهديك من غير نيران ثم يقول في آخرها وهامت على عبد المهيمن تونس ... وقد ظفرت منه بوصل وقربان وما علقت مني الضمائر غيره ... وإن هويت كلا بحب ابن رضوان وكتب هذا الشاعر صاحبنا الرحوي يذكّر عبد المهيمن بذلك. لهي النفس في اكتساب وسعي ... وهو العمر في انتهاب وفي وأرى الناس بين ساع لرشد ... يتوخّى الهدى وساع لغيّ وأرى العلم للبريّة زينا ... فتزيّ منه بأحسن زيّ وأرى الفضل قد تجمّع كلّا ... في ابن عبد المهيمن الحضرميّ ثم يقول في آخرها ينبغي القرب من مراقي الأماني ... والتّرقّي للجانب العلويّ فأنلها مرامها مستهلا [3] ... كلّ دان يسعى وكلّ قصيّ ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فشغلوا عن ذلك ولم يظفر هذا الرحوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف فطوى البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس، لخلّة كانت بينه وبين والدي رحمه الله أيام قدومهم علينا. فلما كانت وقعة القيروان ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي الحسن، فاعتصموا بالقصبة دار الملك، حيث كان ولد السلطان وأهله، وانتقض عليه ابن تافراكين، وخرج من القيروان إلى العرب، وهم يحاصرون السلطان، وقد   [1] ثبير: جبل بظاهر مكة. ثهلان: جبل في بلاد بني غير (تاج العروس) . [2] وفي نسخة ثانية: يعروهم. [3] وفي نسخة ثانية: فأنلها مرامها نلت سهلا ... كل دان بغي وكل قصيّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 اجتمعوا على أبي دبّوس وبايعوا له كما مرّ في أخبار السلطان، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس، فحاصر القصبة وامتنعت عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس، وقد سمع الهيعة [1] خرج من بيته إلى دارنا فاختفى عند أبي رحمه الله، وأقام متخفيا عندنا نحوا من ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة، وركب البحر إلى تونس، وفرّ ابن تافراكين إلى المشرق، وخرج عبد المهيمن من الاختفاء، وأعاده السلطان إلى ما كان عليه من وظيفة الولاية والكتابة [2] وكان كثيرا ما يخاطب والدي رحمه الله ويشكره على موالاته، ومما كتب إليه وحفظته من خطّه: محمد ذو المكارم قد ثناني [3] ... فعال شكره أبدا عناني جزى الله ابن خلدون حياة ... منعّمة وخلدا في الجنان فكم أولى ووالى من جميل ... وبرّ بالفعال وباللّسان وراعى الحضرميّة في الّذي قد ... جنى من ودّه ورد الحنان [4] أبا بكر ثناؤك طول دهري ... أردّد باللسان وبالجنان وعن علياك ما امتدّت حياتي ... أكافح بالحسام وباللسان فمنك أفدت خلّا لست دهري ... أرى عن حبّه أثنى عناني أوهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره، هم سبّاق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب، فأمّا ابنا الإمام منهم، فكانا أخوين من أهل برشك من أعمال تلمسان، واسم أكبرهم أبو زيد عبد الرحمن، والأصغر أبو موسى عيسى. وكان أبوهما إماما ببعض مساجد برشك، واتهمه المتغلّب يومئذ على البلد زيرم بن حمّاد [5] بأنّ عنده وديعة من المال لبعض أعدائه، فطالبه بها، ولاذ بالامتناع، وبيّته زيرم لينتزع المال من يده، فدافعه وقتل، وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في آخر المائة   [1] وفي نسخة ثانية: ووقوع الهيعة. [2] وفي نسخة ثانية: وظيفة العلامة والكتابة. [3] وفي نسخة ثانية: لمحمد ذوي المكارم قد ثناني. [4] وفي نسخة ثانية: وراعى الحضرمية في الّذي قد ... حبا من ودّه ومن الحنان [5] زيري بن حمّاد: وقد ورد في مكان سابق من هذا الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 السابعة، وأخذا العلم بها عن تلميذ ابن زيتون، وتفقّها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدّكّالي، وانقلبا إلى المغرب بحظّ وافر من العلم، وأقاما بالجزائر يبثّان العلم بها لامتناع برشك عليهما من أجل زيرم المتغلّب عليها، والسلطان أبو يعقوب يومئذ صاحب المغرب الأقصى من بني مرين جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور [1] ، وبث بها جيوشه في نواحيها، وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها، وملك عمر مغراوة بشلف، وحصر مليانة، بعث إليها الحسن بن أبي الطلاق من بني عسكر، وعليّ بن محمد ابن الخيّر من بني ورتاجن، ومعهما لضبط الجباية واستخلاص الأموال الكاتب منديل بن محمد الكناني، فارتحل هذان الأخوان من الجزائر، وأخذا عليه [2] ، فحليا بعين منديل الكناني [3] ، فقرّبهما واصطفاهما، واتّخذهما لتعليم ولده محمد. فلما هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب بمكانه من حصار تلمسان سنة خمس وسبعمائة [4] على يد خصيّ من خصيانه طعنه فأشواه، وهلك. وأقام بالملك بعده حافده أبو ثابت بعد أمور ذكرناها في أخباره، ووقع بينه وبين صاحب تلمسان من بعده يومئذ، أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن وأخيه أبي حمّو العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان، وردّ أعمالها عليه، فوفّى لهم بذلك وعاد إلى المغرب. وارتحل ابن أبي الطلاق من شلف، والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب. ومرّوا بتلمسان فأوصى لهما أبو حمّو وأثنى عليهما حلّة بمقامهما في العلم، واغتبط بهما أبو حمّو وبنى لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان. وأقاما عنده على مجرى أهل العلم. وسننهم. وهلك أبو حمّو، وكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السلطان أبو الحسن المريني الى تلمسان، وملكها عنوة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب، أسست لهما عقيدة صالحة، فاستدعاهما لحين دخوله، وأدنى مجلسهما وشاد بمكرمتهما، ورفع جاههما على أهل طبقتهما. وصار يجمّل بهما مجلسه متى مرّ بتلمسان ووفدا عليه في الأولى التي نفر فيها أعيان بلادهما. ثم استنفرهما   [1] دام هذا الحصار حوالي ثمان سنوات وثلاث أشهر. [2] وفي نسخة ثانية: واحتلا بمليانة. [3] وفي نسخة ثانية: الكناني. [4] وفي كتاب العبر والإحاطة انه قتل سنة 706 راجع الدرر الكامنة ج 4 ص 480. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 إلى الغزو وحضرا معه واقعة طريف، وعادا إلى بلدهما. وتوفي أبو زيد منهما إثر ذلك، وبقي أخوه موسى متبوّئا ما شاء من ظلال تلك الكرامة. ولما سار السلطان أبو الحسن إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كما مرّ في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكرّما موقّرا، عالي المحل، قريب المجلس منه. فلما استولى على إفريقية سرّحه إلى بلده، فأقام بها يسيرا وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين في مسالك تلك الكرامة موقرين فيها طبقا على طبق إلى هذا العهد. وأمّا السطّي، واسمه محمد بن سليمان من قبيلة سطّة، من بطون أوربة بنواحي فاس، فنزل أبوه سليمان مدينة فاس. ونشأ محمد فيها وأخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصغير إمام المالكيّة بالمغرب، والطائر الذكر وقاضي الجماعة بفاس، وتفقّه وقرأ عليه، وكان أحفظ الناس لمذهب مالك، وأفقههم فيه. وكان السلطان أبو الحسن لعظم همته [1] وبعد شأوه في الفضل يتشوّف إلى تزيين مجلسه. بالعلماء، واختار منهم جماعة لصحابته ومجالسته، كان منهم هذا الإمام محمد بن سليمان. وقدم علينا بتونس في جملته، وشهدنا وفور فضله [2] ، وكان في الفقه من بينهم لا يجارى حفظا وفهما، عهدي به رحمه الله تعالى، وأخي موسى [3] يقرأ عليه كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخميّ، وهو يصحّحه عليه من إملائه وحفظه في مجالس عديدة، وكان هذا حاله في أكثر ما يعاني في جملة من الكتب [4] . وحضر مع السلطان أبي الحسن واقعة القيروان وخلص معه إلى تونس، وأقام بها نحوا من سنتين، وانتقض المغرب على السلطان واستقلّ به ابنه أبو عنان. ثم ركب السلطان أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين وسبعمائة ومرّ ببجاية فأدركه الغرق في سواحلها، فغرقت أساطيله وغرق أهله، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم، ورمى به البحر ببعض الجزر هنالك حتى استنقذه منها بعض أساطيله، ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجودة، وهلك الكثير من عياله وأصحابه، وكان من أمره ما مرّ في أخباره.   [1] وفي نسخة أخرى: وكان السلطان أبو الحسن لدينه وسرواته. [2] وفي نسخة أخرى: فضائله. [3] وفي نسخة أخرى: أخي محمد. [4] وفي نسخة أخرى: وكذا كان حاله في أكثر ما يعاني حمله من الكتب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 وأمّا الأيلّي واسمه محمد بن إبراهيم فمنشؤه بتلمسان، وأصله من جالية الأندلس من أهل أيلّة من بلد الجوف [1] منها، أجاز بأبيه وعمه أحمد، فاستخدمهم يغمراسن ابن زيّان وولده في جندهم، وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته، فولدت له محمدا هذا. ونشأ بتلمسان في كفالة جدّه القاضي، فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجنديّة التي كانت منتحل أبيه وعمّه. فلما أيفع وأدرك سبق إلى ذهنه محبّة التعاليم، فبرز بها واشتهر وعكف الناس عليه في تعلّمها، وهذا في سنّ البلوغ. ثم أظل السلطان يوسف بن يعقوب وخيّم عليها يحاصرها، وسيّر العساكر إلى الأعمال، فافتتح أكثرها. وكان إبراهيم الأيلّي قائدا بهنين مرسى تلمسان في لجّة من الجند، فلمّا ملكها يوسف بن يعقوب اعتقل من وجد بها من أشياع بني عبد الواد [2] واعتقل إبراهيم الأيلّي، وشاع الخبر في تلمسان بأنّ يوسف ابن يعقوب يسترهن أبناءهم ويطلقهم، فتشوّف ابنه محمد إلى اللحاق بهم من أجل ذلك. وأغراه أهله بالعزم عليه، فتسوّر الأسوار وخرج إلى أبيه فلم يجد خبر الاسترهان صحيحا. واستخدمه يوسف بن يعقوب قائدا على الجند الأندلسيين بتاوريرت، فكره المقام على ذلك، ونزع عن طوره، ولبس المسوح، وسار قاصدا إلى الحجّ. وانتهى إلى رباط العبّاد [3] مختفيا في صحبة الفقراء، فوجد هنالك رئيسا من أهل كربلا [4] من بني الحسين جاء إلى المغرب يروم إقامة دعوته فيه، وكان مغفلا [5] ، فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب وشدّة غلبه أيس من مرامه ونزع عن ذلك، واعتزم على الرجوع إلى بلده، فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته. قال رحمه الله: وبعد حين انكشف لي حاله وما جاء له، واندرجت في جملته   [1] المراد بالجوف، الشمال في لغة المغاربة والأندلسيين. [2] وفي نسخة ثانية: من شيع ابن زيان. [3] رباط العبّاد: (مرتفع جميل خارج مدينة تلمسان، كان مدفن الأولياء والصلحاء والعلماء. وهناك موضعان عرفا باسم «العبارة» أحدهما يسمى (العباد الفوقي والعباد السفلي) وكان بباب الجياد من أبواب تلمسان) . [4] كربلاء: بالمدّ: وهو الموضع الّذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنه، في طرف البرية عند الكوفة، فاشتقاقه فالكربلة رخاوة في القدمين، يقال جاء يمشي مكربلا، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة فسميت بذلك. (معجم البلدان) ويطلق هذا الاسم اليوم على لواء كامل من ألوية العراق. [5] وفي نسخة ثانية: وكان معقلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 وأصحابه وتابعيه. قال: وكان يتلقّاه في كل بلد من أصحابه وأشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد والنفقات من بلده، إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الاسكندرية. قال: واشتدّت عليّ الغلمة في البحر واستحييت من كثرة الاغتسال لمكان هذا الرئيس، فأشار عليّ بعض بطانته بشرب الكافور، فاغترفت منه غرفة فشربتها فاختلطت. وقدم الديار المصرية على تلك الحال، وبها يومئذ تقيّ الدين بن دقيق العيد وابن الرفعة وصفيّ الدين الهندي، والتبريزي وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول. فلم يكن قصاراه إلّا تمييز أشخاصهم إذا ذكرهم لنا، لما كان به من الاختلاط. ثم حجّ مع ذلك الرئيس وسار في جملته إلى كربلاء فبعث به من أصحابه من أوصله إلى مأمنه ببلاد زواوة من أطراف المغرب. وقال لي شيخنا رحمه الله: كان معي دنانير كثيرة تزودتها من المغرب واستبطنتها في جبّة كنت ألبسها، فلمّا نزل بي ما نزل انتزعها مني، حتى إذا بعث أصحابه يشيّعوني إلى المغرب دفعها إليهم، حتى إذا أوصلوني إلى المأمن أعطوني إياها، وأشهدوا عليّ في كتاب حملوه معهم إليه كما أمرهم. ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار، فعاد إلى تلمسان وقد أفاق من اختلاطه، وانبعثت همّته إلى تعلّم العلم. وكان مائلا إلى العقليات فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام، وجملة من الأصلين، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان قد استفحل ملكه، وكان ضابطا للأمور، وبلغه عن شيخنا تقدّمه في علم الحساب، فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة أحواله [1] . وتفادى شيخنا من ذلك فأكرهه عليه، فأعمل الحيلة في الخلاص منه، ولحق بفاس أيام السلطان أبي الربيع [2] ، وبعث فيه أبو حمّو، فاختفى بفاس للتعاليم من اليهودي خليفة المغيلي [3] ، فاستوفى عليه فنونها، وحذق وخرج متواريا من فاس، فلحق بمراكش أعوام عشر وسبعمائة. ونزل على الإمام أبي العبّاس بن البنّاء شيخ المعقول والمنقول، والمبرّز في التصوّف علما وحالا، فلزمه، وأخذ عنه وتضلّع في علم المعقول   [1] وفي نسخة ثانية: مشارفة عمّا له. [2] ابو الربيع: وهو سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب بن يوسف بن عبد الحق المريني المتوفى سنة 710 هـ. [3] وفي نسخة ثانية: واختفى بفاس عند شيخ التعاليم من اليهود، خلّوف المغيلي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 والتعاليم والحكمة. ثم استدعاه شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، وكان في طاعة السلطان، فدخل [1] إليه شيخنا وأقام عنده مدّة، قرأ عليه فيها وحصّل. واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ، فكثرت إفادته، واستفادته، وعلي ابن محمد في ذلك على محبته وتعظيمه، وامتثال إشارته، فغلب على هواه، وعظمت رياسته في تلك القبائل. ولما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من جبله، نزل الشيخ معه، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كلّ ناحية، فانتشر علمه، واشتهر ذكره، فلمّا فتح السلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام، ذكره له بأطيب الذكر، ووصفه بالتقدّم في العلوم، وكان السلطان معتنيا بجمع العلماء بمجلسه كما ذكرناه. فاستدعاه من مكانه بفاس ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه، وعكف على التدريس والتعليم، ولزم صحابة السلطان، وحضر معه واقعة طريف، وواقعة القيروان بإفريقية. وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله خلّة [2] ، كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه، فلزمت مجلسه وأخذت عنه العلوم العقليّة بالتعاليم. ثم قرأت المنطق وما بعده من الأصلين، وعلوم الحكمة. وعرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب. وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا، فأشرنا عليه بالمقام وثبّطناه عن السفر، فقبل وأقام. وطالبنا به السلطان أبو الحسن فأحسنّا له العذر، فتجافى عنه. وكان من حديث غرقه في البحر ما قدّمناه. وأقام الشيخ بتونس، ونحن وأهل بلدنا جميعا نتساجل في غشيان مجلسه، والأخذ عنه، فلمّا هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة وفرغ ابنه أبو عنان من شواغله، وملك تلمسان من بني عبد الواد، كتب فيه يطلبه من صاحب تونس وسلطانها يومئذ أبو إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي يحيى في كفالة شيخ الموحّدين أبي محمد بن تافراكين، فأسلمه إلى سفيره. وركب معه البحر في اسطول أبي عنان الّذي جاء فيه السفير، ومرّ ببجاية ودخلها، وأقام بها شهرا، حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول. ثم ارتحل ونزل بمرسى هنين وقدم على أبي عنان بتلمسان، وأحلّه محل التكرمة، ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء. وكان يقرأ عليه ويأخذ عنه إلى أن هلك بفاس سنة سبع   [1] وفي نسخة ثانية: فصعد إليه شيخنا. [2] وفي نسخة ثانية: صحابة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 وخمسين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة. (وأمّا عبد المهيمن) كاتب السلطان أبي الحسن، فأصله من سبتة، وبيتهم بها قديم، ويعرفون ببني عبد المهيمن وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني العزفي. ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته وأخذ عن مشيختها واختصّ بالأستاذ أبي إسحاق الغافقي [1] ، ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد صاحب الأندلس سبتة، ونقل بني العزفي مع جملة أعيانها إلى غرناطة، ونقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه عبد المهيمن، فاستكمل قراءة العلم هنالك وقرأ على مشيختها ابن الزبير ونظرائه [2] ، وتقدّم في معرفة كتاب سيبويه، وبرز في علوّ الإسناد، وكثرة المشيخة. وكتب له أهل المغرب والأندلس والمشرق، واستكتبه رئيس الأندلس يومئذ الوزير أبو عبد الله ابن الحكيم الرندي، المستبد على السلطان المخلوع ابن الأحمر [3] فكتب عنه ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه، مثل المحدّث أبي عبد الله بن سيد الفهري [4] وأبي العبّاس أحمد العزفي، والعالم الصوفيّ المتجرّد أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني، وكانا لا يجاريان في البلاغة والشعر إلى غير هؤلاء ممن كان مختصّا به، وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة. فلما انكب الوزير الحكيم [5] ، وعادت سبتة إلى طاعة بني مرين، عاد عبد المهيمن إليها واستقر بها. ثم ولي الأمر أبو سعيد وغلب عليه ابنه أبو علي، واستبدّ بحمل الدولة. تشوّف إلى استدعاء الفضلاء، وتجمّل بمكانهم، فاستقدم عبد المهيمن من سبتة واستكتبه سنة اثنتي عشرة وسبعمائة. ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة وسبعمائة، وامتنع بالبلد الجديد، وخرج منها إلى سجلماسة لصلح عقده مع أبيه، فتمسّك السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن واتخذه كاتبا إلى أن دفعه إلى رياسة الكتّاب، ورسم علامته في الرسائل   [1] هو إبراهيم بن أحمد بن عيسى الإشبيلي ابو إسحاق، عرف بالغافقي، دخل سبته وولي القضاء بها. توفي سنة 716 هـ (الدرر الكامنة 1/ 13) . [2] وفي نسخة ثانية: وأخذ عن أبي جعفر بن الزبير ونظرائه. [3] وفي نسخة ثانية: السلطان المخلوع من بني الأحمر وهو محمد بن محمد بن محمد بن نصر، يكنى (أبا عبد الله) ثالث ملوك بني الأحمر (655- 713) وهو الّذي بنى مسجد الحمراء الأعظم بغرناطة. [4] وفي نسخة ثانية: المحدّث أبي عبد الله بن رشيد الفهري وهو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السبتي، محدّث ورحالة مشهور. [5] الوزير ابن الحكيم أو الوزير الشاعر أبو عبد الله الرندي محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم وشهرته ابن الحكيم. راجع: الاحاطة في تاريخ غرناطة ج 2/ 378. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 والأوامر، فتقدّم لذلك سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ولم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. وسار مع أبي الحسن إلى إفريقية، وتخلّف عن واقعة القيروان بتونس، لما كان به من علّة التقرس. فلمّا كانت الهيعة بتونس، ووصل خبر الواقعة، وتحيّز أولياء السلطان إلى القصبة مع حرمه، تسرّب عبد المهيمن في المدينة منتبذا عنهم، وتوارى في بيتنا خشية أن يصاب معهم بمكروه. فلمّا انجلت تلك الغيابة، ورجع السلطان من القيروان إلى سوسة وركب منها البحر إلى تونس، أعرض عن عبد المهيمن لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة، وجعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين [1] وقد كانت من قبل مقصورة على هذا البيت، وأقام عبد المهيمن عطلا من العمل شهرا [2] . ثم أعتبه السلطان ورضي عنه، وردّ إليه العلامة كما كان، ثم توفي لأيام قلائل بتونس بالطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة ومولده سنة خمس وسبعين وستمائة من المائة قبلها، وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة، فليطالع هناك من أحبّ الوقوف عليه. (وأمّا ابن رضوان) الّذي ذكره الرّحويّ في قصيدته، فهو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان البحاري [3] أصله من الأندلس، نشأ بمالقة، وأخذ عن مشيختها، وحذق في العربية والأدب، وتفنّن في العلوم ونظم ونثر، وكان مجيدا في الترسيل، ومحسنا في كتابة الوثائق. وارتحل بعد واقعة طريف ونزل سبتة، ولقي بها السلطان أبا الحسن [4] ومدحه وأجازه، واختصّ بالقاضي إبراهيم بن يحيى [5] وهو يومئذ قاضي العساكر وخطيب السلطان، وكان يستنيبه في القضاء والخطابة، ثم نظمه في جملة الكتّاب بباب السلطان. واختصّ بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتّاب   [1] هو عبد الله بن أبي مدين شعيب العثماني كان في خدمة بني مرين فاشتهر، فقلّدوه الحجابة ورياسة الكتّاب. ولد بقصر كتامة ونشأ بمكناسة وتعلم بها. [2] وفي نسخة ثانية: مدة أشهر. [3] أو البخاري كما في نسخة أخرى. [4] هو السلطان أبو الحسن علي بن أبي سعيد بن يعقوب المريني المتوفى سنة 752 هـ (شذرات الذهب) 6/ 172. [5] هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي التازي أبو إسحاق، ويعرف بابن أبي يحيى المتوفى بعد سنة 748 (الإحاطة في تاريخ غرناطة 1/ 217) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 والأخذ عنه، إلى أن رحل السلطان إلى إفريقية، وكانت واقعة القيروان، وانحصر بالقصبة بتونس مع من انحصر بها من أشياعه مع أهله وحرمه. وكان السلطان قد خلّف ابن رضوان في بعض خدمته، فجلا عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات. وتولّى كبر ذلك، فقام فيه أحسن قيام إلى أن وصل السلطان من القيروان، فرعى له حق خدمته تأنيسا وقربا، وكثرة استعمال إلى أن رحل من تونس في الأسطول إلى المغرب سنة خمسين وسبعمائة كما مرّ. واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل، وخلّف أبا القاسم بن رضوان كاتبا له، فأقاما كذلك أياما. ثم غلبهم على تونس سلطان الموحّدين الفضل ابن السلطان أبي يحيى. ونجا أبو الفضل إلى أبيه، ولم يطق ابن رضوان الرحلة معه، فأقام بتونس حولا، ثم ركب البحر إلى الأندلس، وأقام بالمريّة مع جملة من هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن، كان فيهم عامر ابن محمد بن علي شيخ هنتاتة كافلا لحرم السلطان أبي الحسن وابنه. أركبهم السفين معه من تونس عند ما ارتحل، فخلص إلى الأندلس، ونزلوا بالمريّة وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس، فلحق بهم ابن رضوان وأقام معهم. ودعاه أبو الحجّاج سلطان الأندلس [1] الى أن يستكتبه فامتنع، ثم هلك السلطان أبو الحسن وارتحل مخلّفه الذين كانوا بالمريّة، ووفدوا على السلطان أبي عنان، ووفد معهم ابن رضوان، فرعى له وسائله في خدمة أبيه، واستكتبه واختصّه بشهود مجلسه مع طلبة العلم بحضرته. وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة، ونجيّ الخلوة وصاحب العلامة، وحسبان الجباية والعساكر، قد غلب على هوى السلطان، واختص به، فاستخدم له ابن رضوان حتى علق منه بذمّة [2] ، ولاية وصحبة وانتظام في السمر، وغشيان المجالس الخاصة، وهو مع ذلك يدنيه من السلطان. وينفق سوقه عنده، ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهمّ، فحلا بعين السلطان ونفقت عنده فضائله. فلما سار أبو عمرو في العساكر إلى بجاية سنة أربع وخمسين وسبعمائة انفرد ابن رضوان بعلامة الكتاب عن السلطان، ثم رجع ابن أبي عمرو وقد سخطه السلطان، فأقصاه إلى بجاية وولّاه   [1] ابو الحجاج هذا، هو يوسف بن إسماعيل ابن الأحمر (718- 755) هو سابع ملوك بني الأحمر تولى الحكم سنة 334. [2] وفي نسخة ثانية: بدمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 عليها، وعلى سائر أعمالها، وعلى حرب الموحّدين بقسنطينة. وأفرد ابن رضوان بالكتابة، وجعل إليه العلامة كما كانت لابن أبي عمرو، فاستقلّ بها موفّر الاقطاع والإسهام والجاه. ثم سخطه آخر سبع وخمسين وسبعمائة وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مدين والإنشاء والتوقيع لأبي إسحاق إبراهيم بن الحاج الغرناطي [1] ، فلما كانت دولة السلطان أبي سالم [2] جعل العلامة لعلي بن محمد بن مسعود [3] صاحب ديوان العساكر والإنشاء والتوقيع والسرّ لمؤلف الكتاب عبد الرحمن ابن خلدون. ثم هلك أبو سالم سنة اثنتين وستين وسبعمائة واستبدّ الوزير عمر بن عبد الله على من كفله من أبنائه، فجعل العلامة لابن رضوان سائر أيامه، وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، واستبدّ بملكه، فلم يزل ابن رضوان على العلامة، وهلك عبد العزيز وولي ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس وابن رضوان على حاله، ثم غلب السلطان أحمد على الملك وانتزعه من السعيد، وأبي بكر بن غازي، وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس، مستبدّا عليه، والعلامة لابن رضوان كما كانت إلى أن هلك بأزمور [4] في حركة السلطان أحمد إلى مراكش، لحصار عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي. وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب وأعيانه، هلك كثير منهم في الطاعون الجارف بتونس، وغرق جماعة منهم في أسطوله لمّا غرق، وتخطّت النكبة منهم آخرين إلى أن استوفوا ما قدّر من آجالهم. (فمن حضر معه بإفريقية) الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الزواويّ شيخ القرّاء بالمغرب، أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس، وروى عن الرحّالة أبي عبد الله بن رشيد، وكان إماما في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا يجاري. وله مع ذلك   [1] النميري أبو إسحاق يعرف بابن الحاج ولد سنة 713 وهو إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم ... راجع (الإحاطة 1/ 193) . [2] أبو سالم هو إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن وشقيق السلطان أبي عنان فارس. [3] كنيته أبو الحسن من الأندلس نشأ في بيت علم وكان فقيها أديبا لغويا، قدم مع أبيه الى تلمسان واسمه علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن سعود الخزاعي. [4] ذكرها ياقوت تحت اسم: أزمورة: ثلاث ضمات متواليات وتشديد الميم والواو ساكنة وراء مهملة: بلد بالمغرب في جبال البربر (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 صوت من مزامير آل داود [1] وكان يصلّي بالسلطان التراويح ويقرأ عليه بعض الأحيان حزبه. (وممن حضر معه) بإفريقية الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصبّاغ من أهل مكناسة، كان مبرّزا في المعقول والمنقول، وعارفا بالحديث وبرجاله، وإماما في معرفة كتّاب الموطأ وإقرائه، أخذ العلوم عن مشيخة فاس ومكناسة، ولقي شيخنا أبا عبد الله الأيلّي، ولازمه وأخذ عنه العلوم العقلية، فاستنفد بقيّة طلبه عليه، فبرز آخرا، واختاره السلطان لمجلسه واستدعاه، ولم يزل معه إلى أن هلك غريقا في ذلك الأسطول. (ومنهم القاضي أبو عبد الله) محمد بن عبد الله بن عبد النور من أعمال ندرومة ونسبه في صنهاجة كان مبرّزا في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس، تفقّه فيه على الأخوين أبي زيد وأبي موسى ابني الإمام، وكان من جملة [2] أصحابهما. ولما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان رفع من منزلة ابني الإمام واختصهما بالشورى في بلدهما. وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري لهم الأرزاق ويعمر بهم مجلسه، فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه من ينظمه في فقهاء المجالس، فأشار عليه بابن عبد النور هذا، فأدناه وقرّب مجلسه، وولّاه قضاء عسكره، ولم يزل في جملته إلى أن هلك بالطاعون بتونس سنة تسع وأربعين وسبعمائة وكان قد خلف أخاه عليّا رفيقه في تدريس ابن الإمام إلّا أنه أقصر باعا منه في الفقه. فلمّا خلع السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن، ونهض إلى فاس، استنفره في جملته وولّاه قضاء مكناسة، فلم يزل بها حتى تغلّب عمر بن عبد الله على الدولة كما مرّ، فنزع إلى قضاء فرضه فسرّحه. فخرج حاجّا سنة أربع وستين وسبعمائة فلمّا قدم على مكة وكان به بقية مرض، هلك في طواف القدوم. وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد، وأن يبلغ وصيته به للأمير المتغلّب على الديار المصرية يومئذ يلبغا الخاصكي [3] فأحسن خلافته فيه وولّاه من وظائف الفقهاء ما   [1] يروى ابن أبي موسى الأشعري أنه كان يقرأ القرآن، فسمعه النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: أعطيت مزمارا من مزامير آل داود يعني بذلك حسن صوته (تاج العروس 3/ 340) . [2] وفي نسخة ثانية: جلّة. [3] هو يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري الأمير الكبير الشهير. أول ما أمّره الناصر حسن مقدم ألف بعد موت تنكره ثم كان يلبغا راس من قام على استاذه الناصر حسن حتى قتل وتسلطن المنصور محمد بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 سدّ به خلّته، وصان عن سؤال الناس وجهه، وكان له عفا الله عنه كلف بعلم الكيمياء، طالبا لمن غلط في ذلك وأمثاله [1] . فلم يزل يعاني من ذلك ما يورّطه مع الناس في دينه وعرضه إلى أن دعته الضرورة للترحّل عن مصر، ولحق ببغداد وناله مثل ذلك. فلحق بماردين [2] واستقرّ عند صاحبها، فأحسن جواره إلى أن بلغنا بعد التسعين أنه هلك هنالك حتف أنفه والبقاء للَّه وحده. (ومنهم شيخ التعاليم) أبو عبد الله محمد بن النجّار من أهل تلمسان، أخذ العلم ببلده عن مشيختها، وعن شيخنا الأيلّي وبرّز عليه. ثم ارتحل إلى المغرب فلقي بسبتة إمام التعاليم أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجسطيّ في الهيئة، وأخذ بمراكش عن الإمام أبي العبّاس بن البنّاء، وكان إماما في علم النجامة وأحكامها، وما يتعلّق بها، ورجع إلى تلمسان بعلم كثير، واستخلصته الدولة. فلمّا هلك أبو تاشفين وملك السلطان أبو الحسن نظمه في جملته وأجرى له رزقه، فحضر معه بإفريقية وهلك في الطاعون. (ومنهم) أبو العبّاس أحمد بن شعيب [3] من أهل فاس، برع في الأدب واللسان والعلوم العقلية، من الفلسفة والتعاليم والطب وغيرها. ونظمه السلطان أبو سعيد في جملة الكتّاب وأجرى عليه رزق الأطبّاء لتقدّمه فيه، فكان كاتبه وطبيبه، وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده، فحضر بإفريقية وهلك بها في ذلك الطاعون. وكان له شعر سابق به الفحول من المتقدّمين والمتأخّرين، وكانت له إمامة في نقد الشعر وبصر به، وما حضرني الآن من شعره إلا قوله:   [ () ] حاجي ... وعند ما تسلطن الأشرف شعبان تناهت الى يلبغا الرئاسة ولقب نظام الملك وصار إليه الأمر والفهي وهو السلطان في الباطن ... (شذرات الذهب 6/ 212) . [1] وفي نسخة ثانية: كلف بعمل الكيمياء، تابعا لمن غلط في ذلك من أمثاله. [2] ماردين: قلعة مشهورة على قنّة جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين وذلك الفضاء الواسع مشهورة بمدارسها وخاناتها ودورها وهي كالدرج، كل دار فوق الأخرى وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور، ذكرها جرير في قوله: يا خزر تغلب إن اللؤم حالفكم ما دام في ماردين الزيت يعتصر. (معجم البلدان) ويطلق هذا الاسم اليوم على إقليم واسع من تركيا. [3] هو احمد بن شعيب الجزنائي التازي نزيل فاس. كتب للسلطان أبي الحسن المريني وتوفي بتونس سنة 750 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 دار الهوى نجد وساكنها ... أقصى أمانيّ النفس من نجد هل باكر الوسميّ ساحتها ... واستنّ في قيعانها الجرد أو بات معتلّ النسيم بها ... مستشفيا بالبان والرند يتلو أحاديث الذين هم ... قصدي وإن جاروا عن القصد أيام سمر ظلالها وطني ... منها وزرق مياهها وردي ومطارح النظرات في رشاء ... أحوى المدامع أهيف القدّ يرنو إليك بعين جارية ... قتل المحبّ بها على عمد حتى أجدّ بهم على عجل ... ريب الخطوب وعاثر الجدّ فقدوا فما وأبيك بعدهم ... عيشي شفى إلّا على الفقد [1] وغدوا دفينا قد تضمّنه ... بطن الثرى وقرارة اللّحد ومشرّدا من دون رؤيته ... قذف النّوى وتنوفة البعد أجرى عليّ العيش بعدهم ... أني جرعت حميمهم وحدي [2] لا تلحني يا صاح في شجن ... أخفيت منه فوق ما أبدي بالقرب لي سكن يؤوّبني ... من ذكره سهد على سهد فرخان قد تركا بمضيعة ... رزئت [3] عن الرّفداء والرفد (ومنهم) صاحبنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق من أهل تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعبّاد، ومتوارثين خدمة تربته من لدن جدّهم خادمه في حياته. وكان جدّه الخامس أو السادس واسمه أبو بكر بن مرزوق معروفا بالولاية فيهم. ولما هلك دفنه يغمراسن [4] بن زيّان السلطان بتلمسان من بني عبد الواد في التربة بقصره، ليدفن بإزائه متى قدّر بوفاته. ونشأ محمد هذا بتلمسان، ومولده فيما أخبرني سنة عشر وسبعمائة [5] ، وارتحل مع أبيه إلى المشرق سنة ثمان عشرة   [1] وفي نسخة ثانية: فقدوا فلا وأبيك بعدهم ما عشت لا آسي على الفقد. [2] وفي نسخة ثانية: اني فقدت جميعهم وحدي. [3] وفي نسخة ثانية: زويت. [4] يغمراسن بن زيان بن ثابت بن محمد السلطان من بني عبد الواد، كان من أشد بني عبد الواد بأسا، وكانت له في النفوس مهابة، ولي الملك سنة 733، ودان له المغرب الأوسط وتلمسان. [5] ما ذكره ابن خلدون عن مولد تاريخ ابن مرزوق يختلف عما ذكره ابن الخطيب في الإحاطة حيث يقول أنه ولد سنة 711 هـ بدل 710 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 وسبعمائة ومرّ ببجاية فسمع بها على الشيخ أبي علي ناصر الدين ودخل الشرق. وجاور أبوه بالحرمين الشريفين، ورجع هو إلى القاهرة وأقام بها. وقرأ على برهان الدين الصّفاقصيّ المالكيّ وأخيه. وبرع في الطلب والرواية، وكان يجيد الخطّين. ثم رجع سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة الى المغرب ولقي السلطان أبا الحسن بمكانه من حصار تلمسان، وقد شيد بالعبّاد مسجدا عظيما، وكان عمّه ابن مرزوق خطيبا به على عادتهم في العبّاد. وتوفي فولّاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمّه. وسمعه يخطب على المنبر ويشيد بذكره والثناء عليه، فحلا بعينه واختصّه وقرّبه، وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام، ويأخذ نفسه بلقاء الفضلاء والأكابر والأخذ عنهم، والسلطان كل يوم يزيد ترقّيه [1] ، وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين، فكان يستعمله في السفارة عنه إلى صاحب الأندلس. ثم سفر عنه بعد أن ملك إفريقية إلى ابن أدفونش ملك قشتالة في تقرير الصلح، واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين. كان أسر يوم طريف فغاب في تلك السفارة عن واقعة القيروان. ورجع بتاشفين مع طائفة من زعماء النصرانيّة جاءوا في السفارة عن ملكهم، ولقيهم خبر واقعة القيروان بقسنطينة من بلاد إفريقية، وبها عامل السلطان وحاميته، فثار أهل قسنطينة بهم جميعا ونهبوهم، وخطبوا للفضل ابن السلطان أبي يحيى، وراجعوا الموحّدين، واستدعوه فجاء إليهم وملك البلد. وانطلق ابن مرزوق عائدا إلى المغرب مع جماعة من الأعيان، والعمّال والسفراء عن الملوك. ووفد على السلطان أبي عنان مع أمة حظية أبي الحسن وأثيرته. كانت راحلة إليه، فأدركها الخبر بقسنطينة، وحضرت الهيعة. فوثب ابنها أبو عنان على ملك أبيه واستيلائه على فاس، فرجعت إليه وابن مرزوق في خدمتها. ثم طلب اللحاق بتلمسان فسرّحوه إليها، وأقام بالعبّاد مكان سلفه. وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن زيّان قد بايع له قبيلة بني عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس، وابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة كما مرّ في أخبارهم. وانصرفوا إلى تلمسان فوجدا بها أبا سعيد عثمان بن جرّار أقد استعمله عليها السلطان أبو عنان عند انتقاضه على أبيه، ومسيره إلى فاس، وانتقض ابن جرّار من بعده، ودعا لنفسه، وصمد إليه عثمان بن   [1] وفي نسخة ثانية: والسلطان في كل يوم يزيده رتبة. ابن خلدون م 34 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 عبد الرحمن ومعه أخوه أبو ثابت وقومهما، فملكوا تلمسان من يد ابن جرّار وحبسوه ثم قتلوه. واستبدّ أبو سعيد بملك تلمسان وأخوه أبو ثابت يردفه، وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس وغرق أسطوله ونجا هو إلى الجزائر فاحتل بها، وأخذ في الحشد إلى تلمسان، فرأى أبو سعيد أن يكفّ غربة عنهم، بمواصلة تقع بينهما، واختار لذلك الخطيب ابن مرزوق [1] فاستدعاه وأسرّ إليه بما يلقيه عند السلطان أبي الحسن، وذهب لذلك على طريق الصحراء. وأطلّ أبو ثابت وقومه على الخبر فنكروه على أبي سعيد وعاتبوه فأنكر، فبعثوا صغير بن عامر في اعتراض ابن مرزوق فجاء به وحبسوه أياما. ثم أجازوه البحر إلى الأندلس فنزل على السلطان أبي الحجّاج بغرناطة، وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف، فرعى له أبو الحجّاج ذمّة تلك المعرفة، وأدناه واستعمله في الخطابة بجامعة بالحمراء. فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين وسبعمائة بعد مهلك أبيه، واستيلائه على تلمسان وأعمالها، فقدم عليه ورعى له وسائله، ونظمه في أكابر أهل مجلسه. وكان يقرأ الكتب بين يديه في مجلسه العليّ [2] ويدرّس في نوبته مع من يدرّس في مجلسه منهم. ثم بعثه إلى تونس عام ملكها سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ليخطب له ابنه السلطان أبي يحيى، فردّت تلك الخطبة واختفت بتونس. ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعا على مكانها، فسخطه لذلك ورجع السلطان من قسنطينة، فثار أهل تونس بمن كان بها من عمّاله وحاميته. واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهديّة، فجاء وملك البلد. وركب القوم الأسطول ونزلوا بمراسي تلمسان. وأوعز السلطان باعتقال ابن مرزوق، وخرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدّمي الحجّاب [3] ببابه، فلقيه بتاسالت فقيّده هنالك. وجاء به فأحضره السلطان وقرّعه، ثم حبسه مدّة وأطلقه بين يدي مهلكه. واضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان، وبايع بعض بني مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق. وحاصروا البلد الجديد، وبها ابنه السعيد ووزيره المستبدّ عليه الحسن بن عمر، وكان السلطان أبو سالم بالأندلس غرّبه إليها   [1] وفي نسخة ثانية: ابن مرزوي. [2] وفي نسخة ثانية: العلمي. [3] وفي نسخة ثانية: الجنادرة وهو تحريف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 أخوه السلطان أبو عنان مع بني عمّهم ولد السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن، وحصولهم جميعا في قبضته. فلما توفي أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب، فمنعه رضوان القائم يومئذ بملك الأندلس مستبدّا على ابن السلطان أبي الحجّاج، فلحق هو بإشبيليّة من دار الحرب، ونزل على بطرة [1] ملكهم يومئذ، فهيّأ له السفن وأجازه إلى العدوة فنزل، بجبل الصفيحة من بلاد غمارة، وقام بدعوته بنو مسير [2] وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم، ثم أمدّوه واستولى على ملكه في خبر طويل ذكرناه في أخبار دولته. وكان ابن مرزوق يداخله وهو بالأندلس ويستخدم له، ويفاوضه في أموره وربما كان يكاتبه، وهو بجبل الصفيحة، ويداخل زعماء قومه في الأخذ بدعوته. فلمّا ملك السلطان أبو سالم رعى له تلك الوسائل أجمع، ورفعه على الناس، وألقى عليه محبّته وجعل زمام الأمور بيده، فوطئ الناس عقبه وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفت الوجوه إليه، فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة ونقموه على السلطان، وتربّصوا به حتى وثب عبد الله بن عمر بالبلد الجديد، وافترق الناس عن السلطان. وقتله عمر بن عبد الله آخر اثنتين وستين وسبعمائة وحبس ابن مرزوق وأغرى به سلطانه الّذي نصبه، محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي الحسن فامتحنه واستصفاه، ثم أطلقه بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله فمنعه منهم. ولحق بتونس سنة أربع وستين وسبعمائة ونزل على السلطان أبي إسحاق وصاحب دولته المستبدّ عليه أبي محمد بن تافراكين، فأكرموا نزله وولّوه الخطابة بجامع الموحّدين بتونس. وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو إسحاق سنة سبعين وسبعمائة وولي ابنه خالد. وزحف السلطان أبو العبّاس حافد السلطان أبي يحيى من مقرّه بقسنطينة إلى تونس فملكها، وقتل خالدا سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. وكان ابن مرزوق يستريب منه لما كان يميل وهو بفاس مع ابن عمّه محمد صاحب بجاية، ويؤثره عند السلطان أبي سالم عليه، فعزله السلطان أبو العبّاس عن الخطبة بتونس، فوجم لها وأجمع الرحلة إلى المشرق. وسرّحه السلطان فركب السفن ونزل بالإسكندريّة، ثم رحل إلى القاهرة ولقي أهل العلم وأمراء الدولة، ونفقت بضائعه   [1] بطرة بطاء فوقها نقطتان: اشارة الى أن نطقها بين الطاء والتاء وهذا ما أشار اليه ابن خلدون في مقدمته. [2] وفي نسخة ثانية: بنو مثنى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 عندهم، وأوصلوه إلى السلطان وهو يومئذ الأشرف [1] . فكان يحضر يومئذ مجلسه وولّاه الوظائف العلمية، فكان ينتجع منها معاشه. وكان الّذي وصل حبله بالسلطان أستاذ داره محمد بن آقبغا آص [2] لقيه أوّل قدومه فحلا بعينه، واستظرف جملته، فسعى له وأنجح سعايته، ولم يزل مقيما بالقاهرة موقّر الرتبة معروف الفضيلة، مرشّحا لقضاء المالكية ملازما للتدريس في وظائفه إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة هكذا ذكر من حضره من جملة السلطان أبي الحسن من أشياخنا وأصحابنا، وليس موضوع الكتاب الإطالة، فلنقتصر على هذا القدر، ونرجع إلى ما كنّا فيه من أخبار المؤلف. (ولاية العلامة بتونس ثم الرحلة بعدها الى المغرب والكتابة على السلطان أبي عنان) ولم أزل منذ نشأت وناهزت مكبّا على تحصيل العلم، حريصا على اقتناء الفضائل، متنقّلا بين دروس العلم وحلقاته، إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب الأعيان والصدور وجميع المشيخة، وهلك أبواي رحمهما الله. ولزمت مجلس شيخنا أبي عبد الله الأيلّي، وعكفت على القراءة عليه ثلاث سنين إلى أن شدوت بعض الشيء، واستدعاه السلطان أبو عنان فارتحل إليه، واستدعاني أبو محمد بن تافراكين المستبدّ على الدولة يومئذ بتونس إلى كتابة العلامة عن السلطان أبي إسحاق. مذ نهض إليه من قسنطينة صاحبها أبو زيد حافد السلطان أبي يحيى في عساكره، ومعه العرب أولاد مهلهل الذين استنجدوه لذلك، فخرج ابن تافراكين وسلطانه أبو إسحاق مع العرب أولاد أبي الليل، وبثّ العطاء في عسكره، وعمّر له المراتب والوظائف. وتعلّل عليه صاحب العالمة أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بالاستزادة من العطاء، فعزله وأدالني منه، فكتبت العلامة عن السلطان، وهي «الحمد للَّه والشكر للَّه» بالقلم الغليظ ما بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم. وخرجت   [1] السلطان الأشرف هو ابو المفاخر شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون (754- 778) تولى الملك سنة 764 هـ. [2] هو الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص المتوفى سنة 795 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 معهم أوّل سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وقد كنت منطويا على الرحلة من إفريقية لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي وعطلاني [1] عن طلب العلم. فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب وانحسر تيّارهم عن إفريقية، وأكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة وأشياخ، فاعتزمت على اللحاق بهم، وصدّني عن ذلك أخي وكبيري محمد رحمه الله، فلما دعيت إلى هذه الوظيفة سارعت إلى الإجابة لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب، وكان كذلك، فإنّا لمّا خرجنا من تونس نزلنا بلاد هوّارة، وزحفت العساكر بعضها إلى بعض بفحص مرماجنّة وانهزم صفّنا ونجوت أنا إلى أبّة، فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوسناني [2] من كبراء المرابطين، ثم تحوّلت إلى سبتة ونزلت بها على محمد بن عبدون صاحبها، فأقمت عنده ليالي حتى هيّأ لي الطريق مع رفيق من المغرب [3] ، وسافرت إلى قفصة، وأقمت بها أياما حتى قدم علينا بها الفقيه محمد ابن الرئيس منصور بن مزني، وأخوه يوسف يومئذ صاحب الزاب وكان هو بتونس، فلمّا حاصرها الأمير أبو زيد خرج إليه فكان معه. فلمّا بلغهم الخبر بأنّ السلطان أبا عنان ملك المغرب، نهض إلى تلمسان فملكها، وقتل سلطانها عثمان بن عبد الرحمن، وأخاه أبا ثابت وأنه انتهى الى المدية وملك بجاية من يد صاحبها الأمير أبي عبد الله من حفدة السلطان أبي يحيى، وراسله عند ما أطلّ على بلده، فسار إليه، ونزل له عنها. وصار في جملته، وولي أبو عنان على بجاية عمر ابن علي شيخ بني وطّاس من بني الوزير شيوخهم. فلمّا بلغهم هذا الخبر أجفل الأمير عبد الرحمن من مكانه عن حصار تونس، ومرّ بقفصة فدخل إلينا محمد بن مزني ذاهبا إلى الزاب، فرافقته إلى بسكرة، ودخلت إلى أخيه هنالك، ونزل هو بعض قرى الزاب تحت جراية أخيه إلى أن انصرم الشتاء. وكان أبو عنان لما ملك بجاية ولّى عليها عمر بن علي بن الوزير من شيوخ بني وطّاس فجاء فارح مولى الأمير أبي عبد الله لنقل حرمه وولده، فداخل بعض السفهاء من صنهاجة في قتل عمر بن علي فقتله في مجلسه ووثب هو على البلد وأرسل إلى الأمير أبي زيد يستدعيه من قسنطينة، فتمشّت رجالات البلد بينهم خشية من سطوة السلطان.   [1] وفي نسخة ثانية: عطلتي. [2] وفي نسخة ثانية: الوشتاتي. [3] وفي نسخة ثانية: وبذرق لي مع رفيق من العرب، والبذرقة كلمة معرّبه معناها الخفارة أو العصمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 ثم ثاروا بفارح فقتلوه وأعادوا دعوة السلطان كما كانت. وبعثوا عن عامل السلطان بتدلس يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن من شيوخ بني ونكاسن من بني مرين، فملكوه قيادهم وبعثوا إلى السلطان بطاعتهم، فأخرج لوقته حاجبه محمد بن أبي عمرو، واكتنف [1] له الجند وصرف معه وجوه دولته وأعيان بطانته. وارتحلت من بسكرة وافدا على السلطان أبي عنان بتلمسان، فلقيت ابن أبي عمرو بالبطحاء، وتلقّاني من الكرامة بما لم أحتسبه، وردّني معه إلى بجاية فشهدت الفتح، وتسايلت وفود إفريقية إليه. فلمّا رجع إلى السلطان وفدت معهم فنالني من كرامته وإحسانه ما لم أحتسبه، إذ كنت شابا لم يطرّ شاربي. ثم انصرفت مع الوفود ورجع ابن أبي عمرو إلى بجاية، فأقمت عنده حتى انصرم الشتاء أواخر أربع وخمسين وسبعمائة وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه، وجرى ذكري عنده وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس، فأخبره الذين لقيتهم بتونس عني ووصفوني له، فكتب إليّ الحاجب يستقدمني، فقدمت عليه سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونظمني في أهل مجلسه العلمي، وألزمني شهود الصلوات معه، ثم استعملني في كتابته والتوقيع بين يديه على كره مني، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي. وعكفت على النظر والقراءة ولقاء المشيخة من أهل المغرب ومن أهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة، وحصلت من الإفادة منهم على البغية. وكان في جملته يومئذ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الصفّار من أهل مراكش إمام القراءات لوقته، أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب وكبيرهم شيخ المحدّثين الرحّالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهريّ سيّد أهل المغرب، وكان يعارض السلطان القرآن برواياته السبع إلى أن توفي. (ومنهم) قاضي الجماعة بفاس أبو عبد الله محمد المغربي [2] صاحبنا، من أهل تلمسان، أخذ العلم بها عن أبي عبد الله محمد السلويّ [3] ورد عليها من المغرب خلوا من المعارف. ثم دعته همّته إلى التحلي بالعلم، فعكف في بيته على مدارسة القرآن   [1] وفي نسخة ثانية: واكثف. [2] وفي نسخة ثانية: المقّريّ وهو ابو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر المقري بتشديد القاف المفتوحة نسبة الى مقرة. أو سكون الكاف والميم في الحالتين مفتوحة. (الإحاطة 2/ 136) . [3] وفي نسخة ثانية: السلاوي نسبة الى سلّا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 فحفظه، وقرأه بالسبع. ثم عكف على كتاب التسهيل في العربية فحفظه، ثم على مختصر ابن الحاجب في الفقه والأصول فحفظهما. ثم لزم الفقيه عمران المشدّالي من تلاميذ أبي علي ناصر الدين، وتفقّه عليه، وبرز في العلوم إلى حيث لم تلحق غايته. وبنى السلطان أبو تاشفين مدرسة بتلمسان، فقدّمه للتدريس بها، يضاهي به أولاد الإمام، وتفقّه عليه بتلمسان جماعة كان من أوفرهم سهما في العلوم أبو عبد الله المغربي هذا. ولما جاء شيخا أبو عبد الله الأيلّي إلى تلمسان عند استيلاء السلطان أبي الحسن عليها، وكان أبو عبد الله السلوي قد قتل يوم فتح تلمسان، قتله بعض أشياع السلطان لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي علي بسجلماسة قبل انتحاله العلم، كان السلطان توعّده عليه، فقتل بباب المدرسة، فلزم أبو عبد الله المغربي بعده مجلس شيخنا الأيلي ومجالس ابني الإمام. واستبحر في العلم وتفنّن. ولما انتقض السلطان أبو عنان سنة تسع وأربعين وسبعمائة وخلع أباه، ندبه إلى كتب البيعة فكتبها وقرأها على الناس في يوم مشهود. وارتحل مع السلطان إلى فاس، فلمّا ملكها عزل قاضيها الشيخ المعمّر أبا عبد الله بن عبد الرزاق وولّاه مكانه، فلم يزل قاضيا بها إلى أن أسخطه لبعض النزعات الملوكيّة، فعزله وأدال منه بالفقيه أبي عبد الله الفشتالي [1] آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة، ثم بعثه في سفارة إلى الأندلس فامتنع من الرجوع. وقام السلطان لها في ركابه، ونقم [2] على صاحب الأندلس تمسّكه به، وبعث إليه فيه يستقدمه، فلاذ ابن الأحمر بالشفاعة فيه، واقتضى له كتاب أمان بخط السلطان أبي عنان، وأوفده في جماعة من شيوخ العلم بغرناطة القاطنين بها [3] منهم: شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي شيخ الدنيا جلالة وعلما ووقارا ورياسة وإمام اللسان فصاحة وبيانا [4] وتقدّما في نظمه ونثره. وترسّلاته. وشيخنا الآخر أبو البركات محمد بن محمد بن الحاج البلقيني [5] من أهل المرية شيخ المحدّثين والفقهاء والأدباء والصوفية والخطباء   [1] القشتالي: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد القشتالي القاضي بفاس، كان بيته معمورا بالجود والخير والصلاح، وكان أبو عبد الله هذا أحد اعلام المغرب (الإحاطة 2/ 133) . [2] وفي نسخة ثانية: ونكر. [3] وفي نسخة ثانية: وأوفده مع الجماعة من شيوخ العلم بغرناطة ومنهم القاصيان بغرناطة. [4] وفي نسخة ثانية: وامام اللسان حوكا ونقدا. [5] وفي نسخة ثانية: البلّفيقي: وهو محمد بن محمد بن إبراهيم ابن الحاج البلفيقي (708- 770) طبقات القراء 2/ 235. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 بالأندلس، وسيّد أهل العلم بإطلاق، والمتفنّن في أساليب المعارف، وآداب الصحابة للملوك فمن دونهم، فوفدوا به على السلطان شفيعين على عظيم تشوّفه للقائهما، فقبلت الشفاعة وأنجحت الوسيلة. حضرت بمجلس السلطان يوم وفادتهما سنة سبع وخمسين وسبعمائة وكان يوما مشهودا. واستقرّ القاضي المغربي في مكان بباب السلطان عطلا من الولاية والجراية. وجرت عليه بعد ذلك محنة من السلطان وقعت بينه وبين أقاربه، امتنع من الحضور معهم عند القاضي الفشتالي، فتقدّم السلطان إلى بعض أكابر الوزعة ببابه أن يسحبه إلى مجلس القاضي حتى ينفذ فيه حكمه، فكان الناس يعدّونها محنة، ثم ولّاه السلطان بعد ذلك قضاء العساكر في دولته، عند ما ارتحل إلى قسنطينة. فلما افتتحها وعاد إلى دار ملكه بفاس آخر ثمان وخمسين وسبعمائة اعتلّ القاضي المغربي في طريقه، وهلك عند قدومه بفاس. (ومنهم صاحبنا) الإمام العالم القدوة [1] ، فارس المعقول والمنقول، وصاحب الفروع والأصول، أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني، ويعرف بالعلوي نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان، تسمّى العلوين، فكان أهل بلده لا يدافعون في نسبهم. وربّما يغمز فيه بعض الفجرة ممن لا يروعه دينه ولا معرفته بالأنساب ببعض من اللغو، لا يلتفت إليه، نشأ هذا الرجل بتلمسان وأخذ العلم عن مشيختها، واختص بأولاد الإمام وتفقّه عليهما في الفقه والأصول والكلام، ثم لزم شيخنا أبا عبد الله الأبلي وتضلّع من معارفه، فاستبحر وتفجّرت ينابيع العلوم من مداركه. ثم ارتحل إلى تونس في بعض مذاهبه سنة أربعين وسبعمائة ولقي شيخنا القاضي أبا عبد الله ابن عبد السلام وحضر مجلسه وأفاد منه، واستعظم رتبته في العلم. وكان ابن عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محله ويعرف حقّه حتى لقد زعموا أنه كان يخلو به في بيته، فيقرأ عليه فصل التصوّف من كتاب الإشارات لابن سينا، لما كان هو أحكم ذلك الكتاب على شيخنا الأبلّي وقرأ عليه كثيرا من كتاب الشفاء لابن سينا، ومن تلاخيص كتب أرسطو لابن رشد، ومن الحساب والهندسة والفرائض علاوة على ما كان يحمله من الفقه والعربية وسائر علوم الشريعة، وكانت له في كتب الخلافيات يد   [1] وفي نسخة ثانية: العالم الفذّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 طولى، وقدم عالية، فعرف له ابن عبد السلام ذلك كلّه وأوجب حقّه، وانقلب إلى تلمسان، وانتصب لتدريس العلم وبثّه فملأ المغرب معارف وتلاميذ، إلى أن اضطرب المغرب بعد واقعة القيروان. ثم هلك السلطان أبو الحسن، وزحف أبو عنان إلى تلمسان فملكها سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فاستخلص الشريف أبا عبد الله واختاره لمجلسه العليّ مع من اختاره من المشيخة، وزحف به إلى فاس فتبرّم الشريف من الاغتراب وردّد الشكوى وعرف السلطان ذلك [1] وارتاب به. ثم بلغه أثناء ذلك أنّ عثمان بن عبد الرحمن سلطان تلمسان أوصاه على ولده، وأودع له مالا عند بعض الأعيان من أهل تلمسان، وأنّ الشريف مطلع على ذلك، فانتزع الوديعة وسخط الشريف بذلك ونكبه، وأقام في اعتقاله أشهرا، ثم أطلقه أوّل ست وخمسين وسبعمائة وأقصاه، ثم أعتبه بعد فتح قسنطينة وأعاده إلى مجلسه إلى أن هلك السلطان آخر تسع وخمسين وسبعمائة. وملك أبو حمّو بن يوسف بن عبد الرحمن تلمسان من يد بني مرين، واستدعى الشريف من فاس فسرّحه القائم بالأمر يومئذ الوزير عمر بن عبد الله فانطلق إلى تلمسان. وأطلقه [2] أبو حمو براحتيه، وأصهر له في ابنته، فزوّجها إياه، وبنى له مدرسة جعل في بعض جوانبها مدفن أبيه وعمّه، وأقام الشريف يدرس العلم إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وأخبرني رحمه الله أنّ مولده سنة عشر وسبعمائة. (ومنهم صاحبنا) الكاتب القاضي أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي من برجة [3] الأندلس. كان كاتب السلطان أبي عنان وصاحب الإنشاء والسرّ في دولته، وكان مختصّا به، وأثيرا لديه. وأصله من برجة الأندلس نشأ بها واجتهد في العلم والتحصيل، وقرأ وسمع وتفقّه على مشيخة الأندلس. واستبحر في الأدب وبرز في النظم والنثر، وكان لا يجاري في كرم الطباع وحسن المعاشرة، ولين الجانب وبذل البشر والمعروف. وارتحل إلى بجاية في عشر الأربعين وسبعمائة، وبها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي يحيى منفردا بملكها على حين أقفر من رسم الكتابة والبلاغة،   [1] وفي نسخة ثانية: فاحفظ السلطان بذلك. [2] وفي نسخة ثانية: وتلقّاه أبو حمو براحتيه. [3] برجة: مدينة بالأندلس من أعمال البيرة، ينسب إليها أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الجذامي المقري، هو منسوب إلى برجة بلدة من أعمال المرية (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 فبادرت أهل الدولة إلى اصطفائه وإيثاره بخطة الإنشاء والكتاب عن السلطان إلى أن هلك الأمير أبو زكريا، ونصب ابنه محمّد مكانه، فكتب عنه على رسمه ثم هلك السلطان أبو يحيى، وزحف السلطان أبو الحسن إلى إفريقية واستولى على بجاية، ونقل الأمير محمدا بأهله وحاشيته إلى تلمسان كما تقدّم في أخباره، فنزل أبو القاسم البرجي تلمسان، وأقام بها واتصل خبره بأبي عنان ابن السلطان أبي الحسن وهو يومئذ أميرها، ولقيه، فوقع من قلبه بمكان إلى أن كانت واقعة القيروان. وخلع أبو عنان واستبدّ بالأمر فاستكتبه وحمله إلى المغرب، ولم يسم به إلى العلامة لأنه آثر بها محمد بن أبي عمر بما كان أبوه يعلّمه القرآن والعلم. وربّي محمد بداره، فولّاه العلامة، والبرجي مرادف له في رياسته إلى أن انقرضوا جميعا. وهلك السلطان أبو عنان واستولى أخوه أبو سالم على ملك المغرب، وغلب ابن مرزوق على هواه كما قدّمناه، فنقل البرجيّ من الكتابة واستعمله في قضاء العساكر، فلم يزل على القضاء إلى أن هلك سنة ست وثمانين وسبعمائة وأخبرني رحمه الله ان مولده سنة عشر وسبعمائة. (ومنهم شيخنا المعمّر الرحالة) أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق شيخ وقته جلالة وتربية وعلما وخبرة بأهل بلده، وعظمة فيهم. نشأ بفاس وأخذ عن مشيختها، وارتحل إلى تونس فلقي القاضي أبا إسحاق بن عبد الرفيع، والقاضي أبا عبد الله النفزاويّ. وأهل طبقتهما، وأخذ عنهم وتفقّه عليهم، ورجع إلى المغرب ولازم سنن الأكابر والمشايخ إلى أن ولّاه السلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس، فأقام على ذلك إلى أن جاء السلطان أبو عنان من تلمسان بعد واقعة القيروان، وخلعه أباه فعزله بالفقيه أبي عبد الله المغربي، وأقام عطلا في بيته. ولما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه، والإفادة منهم، واستدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق، فكان يأخذ عنه الحديث، ويقرأ عليه القرآن برواياته في مجلس خاص إلى أن هلك رحمه الله بين يدي مهلك السلطان أبي عنان، إلى آخرين وآخرين من أهل المغرب والأندلس، كلّهم لقيت وذاكرت وأفدت منه، وأجازني بالإجازة العامّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 (حديث النكبة من السلطان أبي عنان) كان اتصالي بالسلطان أبي عنان آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة وقرّبني وأدناني، واستعملني في كتابته، واختصّني بمجلسه للمناظرة والتوقيع عنه فكثر المنافسون وارتفعت السعايات حتى قويت عنده بعد أن كان لا يغير عن صفائه [1] . ثم اعتلّ السلطان آخر سبع وخمسين وسبعمائة وكان قد حصلت بيني وبين الأمير محمد صاحب بجاية من الموحّدين مداخلة، أحكمها ما كان لسلفي في دولتهم. وغفلت عن التحفّظ من مثل ذلك، من غيرة السلطان، فما هو إلا أن شغل بوجعه، حتى نمي إليه بعض الغواة أنّ صاحب بجاية معتمل في الفرار ليسترجع بلده، وبها يومئذ وزيره الكبير عبد الله بني عليّ، فانبعث السلطان لذلك، وبادر بالقبض عليه. وكان فيما نمي إليه أني داخلته في ذلك، فقبض عليّ وامتحنني وحبسني. ثم أطلق الأمير محمدا وما زلت أنا في اعتقاله إلى أن هلك، وخاطبته بين يدي مهلكه مستوطفا بقصيدة أولها: على أيّ حال لليالي أعاتب ... وأيّ صروف للزمان أغالب كفى حزنا أني على القرب نازح ... وأني على دعوى شهودي غائب وأني على حكم الحوادث نازل ... تسالمني طورا وطورا تحارب ومنها في التشوّق: سلوتهم إلا ادّكار معاهد ... لها في اللّيالي الغابرات غرائب وإنّ نسيم الريح منهم يشوقني ... إليهم وتصيبني البروق اللواعب وهي طويلة، نحو مائتين بيتا، ذهبت عن حفظي، فكان لها منه موّقع، وهشّ لها. وكان بتلمسان، فوعد بالإفراج عني عند حلوله بفاس، ولخمس ليال من حلوله طرقه الوجع، وهلك لخمس عشرة ليلة، في رابع وعشرين ذي الحجّة، خاتم تسع وخمسين وسبعمائة. وبادر القائم بالدولة، الوزير الحسن بن عمر الى إطلاق جماعة من المعتقلين، كنت فيهم، فخلع عليّ، وحملني، وأعادني إلى ما كنت   [1] وفي نسخة ثانية: واستعملني في كتابته، حتى تكدّر جوي عنده، بعد ان كان لا يعبّر عن صغائه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 عليه، وطلبت منه الانصراف إلى بلدي، فأبى عليّ، وعاملني بوجوه كرامته، ومذاهب إحسانه، إلى أن اضطرب أمره، وانتقض عليه بنو مرين، وكان ما قدّمناه في أخبارهم. (الكتابة عن السلطان أبي سالم في السر والإنشاء) ولما أجاز السلطان أبو سالم من الأندلس لطلب ملكه، ونزل بجبل الصّفيحة من بلاد غماره. وكان الخطيب ابن مرزوق بفاس، فبثّ دعوته سرا، واستعان بي على أمره، بما كان بيني وبين أشياخ بني مرين من المحبّة وائتلاف، فحملت الكثير منهم على ذلك، وأجابوني إليه، وأنا يومئذ أكتب عن القائم بأمر بني مرين، منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، وقد نصّبوه للملك، وحاصروا الوزير الحسن بن عمر، وسلطانه السّعيد ابن أبي عنان، بالبلد الجديد. فقصدني ابن مرزوق في ذلك، وأوصل إليّ كتاب السلطان أبي سالم. بالحضّ على ذلك، وإجمال الوعد فيه. وألقى عليّ حمله، فنهضت به، وتقدّمت إلى شيوخ بني مرين، وأمراء الدولة بالتحريض على ذلك، حتى أجابوا، وبعث ابن مرزوق إلى الحسن بن عمر، يدعو إلى طاعة السلطان أبي سالم، وقد ضجر من الحصار، فبادر إلى الإجابة، واتفق رأي بني مرين على الانفضاض عن منصور بن سليمان، والدخول إلى البلد الجديد، فلما تمّ عقدهم على ذلك نزعت إلى السلطان أبي سالم في طائفة من وجوه أهل الدولة، كان منهم محمد بن عثمان بن الكاس، المستبدّ بعد ذلك بملك المغرب على سلطانه، وكان ذلك النّزوع مبدأ حظّه، وفاتحة رياسته، بسعايتي له عند السلطان، فلما قدمت على السلطان بالصّفيحة، بما عندي من أخبار الدولة، وما أجمعوا عليه من خلع منصور بن سليمان، وبالموعد الّذي ضربوه لذلك، واستحثثته. فارتحل، ولقينا البشير بإجفال منصور بن سليمان، وفراره إلى نواحي بادس، ودخول بني مرين إلى البلد الجديد، وإظهار الحسن بن عمر دعوة السلطان أبي سالم. ثم لقيتنا، بالقصر الكبير، قبائل السلطان، وعساكره، على راياتهم، ووزير منصور بن سليمان، وهو مسعود بن رحّو بن ماساي، فتلقّاه السلطان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 بالكرامة كما يجب له، واستوزره عوضا نائبا للحسن بن يوسف بن عليّ بن محمد الورتاجني السابق إلى وزارته، لقيه بسبتة، وقد غرّبه منصور بن سليمان إلى الأندلس فاستوزره واستكفاه. ولما اجتمعت العساكر عنده بالقصر صعد إلى فاس ولقيه الحسن بن عمر بظاهرها، فأعطاه طاعته، ودخل إلى دار ملكه وانا في ركابه، لخمس عشرة ليلة من نزوعي إليه، منتصف شعبان سنة ستين وسبعمائة، فرعى لي السابقة واستعملني في كتابة سرّه، والترسيل عنه، والإنشاء لمخاطباته، وكان أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل بدون أن يشاركني أحد ممن ينتحل الكتابة في الأسجاع، لضعف انتحالها، وخفاء المعاني منها على أكثر الناس، بخلاف غير المرسل [1] ، فانفردت به يومئذ، وكان مستغربا عند من هم من أهل هذه الصناعة. ثم أخذت نفسي بالشعر، وانثال عليّ منه بحور، توسطت بين الإجادة والقصور، وكان مما أنشدته إيّاه ليلة المولد النبوي من سنة ثلاث وستين وسبعمائة [2] . أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عبرتي ونحيبي وأبين يوم البين موقف [3] ساعة ... لعوّاد [4] مشغوف الفؤاد كئيب للَّه عهد الظاعنين وقد غدا [5] ... قلبي رهين صبابة ووجيب غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشربت [6] بعدهم بماء غروب يا ناقعا بالعتب غلّة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي يستعذب الصّبّ الملام وإنّني ... ماء المدام [7] لديّ غير شروب ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكّر منزل وحبيب أصبوا إلى أطلال [8] كانت مطلعا ... للبدر منهم أو كناس ربيب   [1] وفي نسخة ثانية: بخلاف المرسل. [2] وفي نسخة ثانية: سنة اثنتين وستين وسبعمائة. [3] وفي نسخة ثانية: وقفة ساعة. [4] وفي نسخة ثانية: لوداع. [5] وفي نسخة ثانية: وغادروا. [6] وفي نسخة ثانية: فشرقت. وماء الغروب: الدموع حين تخرج من العين. [7] وفي نسخة ثانية: ماء الملام. [8] وفي نسخة ثانية: الاطلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 عبثت به أيدي البلى وتردّدت ... في عطفها للدّهر أيّ خطوب تبلى معاهدها وإنّ عهودها ... ليجرّها [1] وصفي وحسن نسيبي وإذا الديار تعرّضت لمتيّم ... هزّت لذكراها أولى التشبيب [2] إيه على الصّبر الجميل فإنّه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغضّ طرفي حاسد ورقيب والدار مونقة بما لبست من ... الأيام تجلوها بكلّ قشيب [3] يا سائق الأظعان يعتسف الفلا ... بتواصل الأسناد والتأويب [4] متهافتا عن رحل كلّ مدلّل ... نشوان من آن ومس لغوب [5] تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صبا وجنوب إن هام من ظمأ الصّبابة ضحبه ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب إن تعترض مسراهم سدف الدّجى ... صدعوا الدّجى بغرامة المشبوب في كلّ شعب منية. من دونها ... هجر الأماني أو لقاء شعوب هلّا عطفت صدورهنّ إلى التي ... فيها لغانية [6] أعين وقلوب فتؤمّ من أكناف يثرب مأمنا ... يكفيك ما تخشاه من تثريب حيث النبوّة آيها مجلوّة ... تتلومن الآثار كل غريب سر عجيب ليس يحجبه الثرى [7] ... ما كان سرّ الله بالمحجوب ومنها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه وسلم والإطناب في مدحه: إني دعوتك واثقا بإجابتي ... يا خير مدعوّ وخير مجيب قصّرت في مدحي فإن يك طيّبا ... فبما لذكرك من أريج الطّيب ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كلّ مطيب [8]   [1] وفي نسخة ثانية: ليجدّها. [2] وفي نسخة ثانية: هزته ذكراها إلى التشبيب. [3] وفي نسخة ثانية: والدار مونقة محاسها بما لبست من الأيام كل قشيب [4] وفي نسخة ثانية: ويواصل الإسآد بالتأويب. والإسآد: سير الليل كله لا تعريس فيه. والتأويب: سير النهار لا تعريج فيه (لسان العرب) . [5] وفي نسخة ثانية: نشوان من اين ومسر لغوب. والأين: الإعياء واللغوب التعب. [6] وفي نسخة ثانية: لبانة. [7] وفي نسخة ثانية: سرّ عجيب لم يحجّبه الثرى. [8] هنا إشارة الى مدح القرآن للنّبيّ (صلى الله عليه وسلم) «وانك لعلى خلق يحطم» آية 68 من سورة الانعام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 يا هل تبلّغي الليالي زورة ... تدني إليّ الفوز بالمرغوب أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحطّ أوزاري وإصر ذنوبي في فتية هجروا المنى وتعوّدوا ... إنضاء كلّ نجيبة ونجيب يطوي صحائف ليلهم نوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب إن رنّم الحادي بذكرك ردّدوا ... أنفاس مشتاق إليك طروبي أو غرّد الركب الخليّ بطيبة ... حنّوا لملقاها حنين النيب ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب الظاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النقع كلّ سبيب والواهبون المقرّبات صوافنا ... من كلّ خوّار العنان لعوب والمانعون الجار حتى عرضه ... في منتدى الأعداء غير معيب تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم ... والعزّ شيمة مرتجى ومهيب ومنها في ذكر إجازته البحر واستيلائه على ملكه: سائل بني طامي العباب وقد سرى ... تزجيه ريح العزم ذات هبوب تهديه شهب أسنّة وعزائم ... يصد عن ليل الحادث المرهوب حتى انجلت ظلل الظلام [1] بسعيه ... وسطا الهدى بفريقه المغلوب أبني الأولى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروا بتاجها المغصوب [2] جمعوا لحفظ الدين أيّ مناقب ... كرموا بها في مشهد ومغيب للَّه مجدك طارفا أو تالدا ... فلقد شهدنا منه كل عجيب كم رهبة أو رغبة لك في العلا ... تقتاد بالترغيب والترهيب لا زلت مسرورا بأشرف دولة ... يبدو الهدى من أفقها المرغوب تحيي المعالي غاديا أو رائحا ... وحديد سعدك ضامن المطلوب ومن قصيدة خاطبته بها عند وصول هديّة ملك السودان إليه، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة: قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد   [1] وفي نسخة أخرى: حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه. [2] وفي نسخة أخرى: يا بن الألى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المغصوب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 ونبذت سلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد ولربّ وصل كنت آمله ... فاعتضت منه بمؤلم الصدّ لا عهد عند الصبر أطلبه ... إنّ الغرام أضاع من عهدي يلحى العذول فما أعنّفه ... وأقول ضلّ فأبتغي رشدي وأعارض النفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعلّلي بضعيف ما تهدي يا سائق الأظعان معتسفا ... طيّ الفلاة لطيّة الوجد أرح الركّاب ففي الصّبا نبأ ... يغني عن المستنّة الجرد وسل الرّبوع برامة خبرا ... عن ساكني نجد وعن نجد ما لي يلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد لأبيت إلّا الرشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرشد نعم الخليفة في هدى وتقى ... وبناء عزّ شامخ الطّود نجل السراة الغرّ شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد ومنها في ذكر خلوصي إليه وما ارتكبته فيه: للَّه منى إذ تأوّبني ... ذكراه وهو بشاهق فرد شهم يفلّ بواترا قضبا ... وجموع أقيال أولي اليدّ أو ريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حقّ المجد من قصدي ووردت عن ظمأ مناهله ... فرويت عن عزّ ومن رفدي هي جنّة المأوى لمن كانت ... آماله بمطالب المجد لو لم أعلّ برد [1] كوثرها ... ما قلت هذي جنّة اللد من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النوى وتنوفة البعد أني أنفت على رجائهم ... وملكت عزّ جميعهم وحدي ورقيمة الأعطاف حالية ... موشيّة بوشائح البرد وحشيّه الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالغرد [2]   [1] وفي نسخة ثانية: بورد. [2] وفي نسخة ثانية: بالقود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 تسمو بجيد بالغ صعدا ... شرف الصّروح بغير ما جهد طالت رءوس الشامخات به ... ولربّما قصرت عن الوهد قطعت إليك تنائفا وصلت ... آسارها بالقهد والوخد [1] تحدي على استصغائها ذللا ... وتبيت طوع القنّ والقدّ [2] بسعودك اللّاتي ضمنّ لها ... طول الحياة بعيشة رغد جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد وافوك أنضاء تقلّبهم ... أيدي السّرى بالغور والنجد كالطيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسلّ من غمد يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد ويرون لحظك من وفادتهم ... فخرا على الأتراك والهند يا مستعينا جلّ في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي جازاك ربّك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم من يسدي وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزّة أبدا وفي سعد وأنشدته في سائر أيامه غير هاتين القصيدتين كثيرا لم يحضرني الآن شيء منه. ثم غلب ابن مرزوق على هواه وأفرد بخالصته وكبح الشكائم عن قربه، فانقبضت وقصّرت الخطو، مع البقاء على ما كنت فيه من كتابة سرّه وإنشاء مخاطباته ومر اسمه. ولّاني آخر الدولة «خطّة المظالم» فوفّيتها حقّها ودفعت للكثير مما أرجو ثوابه. ولم يزل ابن مرزوق آخذا في سعايته بي وبأمثالي من أهل الدولة، غيرة ومنافسة إلى أن انتقض الأمر على السلطان بسببه، وثار الوزير عمر بن عبد الله بدار الملك فصار إليه الناس، ونبذوا السلطان وبيعته، وكان في ذلك هلاكه على ما ذكرناه في أخبارهم. ولما قام الوزير عمر بالأمر أقرّني علي ما كنت عليه، ووفّر أقطاعي وزاد في جرايتي وكنت أسمو بطغيان الشباب إلى أرفع مما كنت فيه وأدلّ في ذلك بسابق مودّة معه،   [1] وفي نسخة ثانية: إسادها بالنص والوخد. والنص: التحريك حتى تستخرج من الناقة أقصى سيرها. والوخد: ضرب من سير الإبل، وهو سعة الخطو في المشي (لسان العرب) . [2] وفي نسخة ثانية: تخدي على استصعابها ذللا، تخدي: تسرع، والقن: العبد. والعدّ: سير يصنع من جلد غير مدبوغ. ابن خلدون م 35 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 منذ أيام السلطان أبي عنان، وصحابة استحكم عقدها بيني وبين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية، فكان ثالث آثافينا، ومصقلة فكاهتنا، واشتدّت غيرة السلطان لذلك كما مرّ، وسطا بنا، وتغافل عن عمر بن عبد الله لمكان أبيه من ثغر بجاية، ثم حملني الإدلال عليه أيام سلطانه، وما ارتكبه في حقي من القصور بي عمّا أسمو إليه إلى أن هجرته، وقعدت عن دار السلطان مغاضبا له، فتنكّر لي وأقطعني جانبا من الإعراض، فطلبت الرحلة إلى بلدي بإفريقية. وكان بنو عبد الواد قد راجعوا ملكهم بتلمسان والمغرب الأوسط فمنعني من ذلك أن يغتبط أبو حمّو صاحب تلمسان بمكاني، فأقيم عنده، وألحّ في المنع من ذلك، وأبيت أنا إلّا الرّحلة، واستجرت في ذلك برديفه وصهره الوزير مسعود بن رحّو بن ماسي، ودخلت عليه يوم الفطر سنة ثلاث وستين وسبعمائة فأنشدته: هنيئا لصوم لا عداه قبول ... وبشرى لعيد أنت فيه منيل وهنّئتها من عزّة وسعادة ... تتابع أعوام بها وفصول سقى الله دهرا أنت إنسان عينه ... ولا مسّ ربعا في حماك محول فعصرك ما بين الليالي مواسم ... له غرر وضّاحة وحجول وجانبك المأمول للجود مشرّع ... يحوم عليه عالم وجهول عساك وإن ضنّ الزمان منوّلي ... فرسم الأماني من سواك محيل أجرني فليس الدهر لي بمسالم ... إذا لم يكن لي في ذراك مقيل وأوليتني الحسنى بما أنا آمل ... فمثلك يؤلي راجيا وينيل وو الله ما رمت الترحّل عن قلى ... ولا سخطة للعيش فهو جزيل ولا رغبة عن هذه الدار إنّها ... لظلّ على هذا الأنام ظليل ولكن نأى بالشعب عنّا حبائب ... شجاهنّ خطب والفراق طويل يهيج بهنّ الوجد إني نازح ... وأنّ فؤادي حيث هنّ حلول عزيز عليهنّ الّذي قد لقيته ... وأنّ اغترابي في البلاد يطول توارت بابنيّ [1] البقاع كأنني ... تخطّفت أو غالت ركابي غول ذكرتك يا مغنى الأحبّة والهوى ... فطارت لقلبي أنّة وعويل   [1] وفي نسخة ثانية: بأنبائي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 وحيّيت عن شوق رباك كأنّما ... يمثّل لي فيء [1] بها وطلول أأحبابنا والعهد بيني وبينكم ... كريم وما عهد الكريم يحول إذا أنا لم ترض الحمول مدامعي ... فلا قرّبتني للّقاء حمول الام مقامي حيث لم ترد العلا ... مرادي ولم تعط القياد ذلول أجاذب فضل العمر يوما وليلة ... وساء صباح بينها وأصيل ويذهب بي ما بين يأس ومطمع ... زمان بنيل المعلوات بخيل تعلّلني منه أمان خوادع ... ويؤنسني منه أمان مطول [2] أما لليالي لا تردّ خطوبها ... ففي كبدي من وقعهنّ فلول يروّعني عن صرفها كلّ حادث ... تكاد له صمّ البلاد تزول أداري على رغم العداة بريبة [3] ... يصانع واش خوفها وعذول وأغدو بأشجاني عليلا كأنّما ... تجود بنفسي زفرة وغليل وإنّي وإن أصبحت في دار غربة ... تحيل الليالي سلوتي وتديل وصدّتني الأيام عن خير منزل ... عهدت به أن لا يضام نزيل لأعلم أنّ الخير والشرّ ينتهي ... مداه وأنّ الله سوف يديل وإني عزيز بابن ماساي مكثر ... وإن هان أنصار وبان خليل فأعانني الوزير مسعود عليه حتى أذن لي في الانطلاق على شريطة العدول عن تلمسان في أيّ مذهب أردت، فاخترت الأندلس وصرفت ولدي وأمّهم إلى أخوالهم، أولاد القائد محمد بن الحكيم بقسنطينة فاتح أربع وستين وسبعمائة وجعلت أنا طريقي على الأندلس، وكان سلطانها أبو عبد الله المخلوع، وحين وفد على السلطان أبي سالم بفاس، وأقام عنده، حصلت لي معه سابقة وصلة ووسيلة خدمة، من جهة الوزير أبي عبد الله بن الخطيب، لما كان بيني وبينه من الصحابة، فكنت أقوم بخدمته واعتمل في قضاء حاجاته في الدولة، ولمّا أجاز باستدعاء الطاغية لاسترجاع ملكه حين فسد ما بين الطاغية وبين الرئيس المتوثّب عليه بالأندلس من قرابته، خلفته فيما   [1] وفي نسخة ثانية: يمثل لي نؤي [2] وفي نسخة ثانية: تعللني عنه أمان خوادع ... ويؤنسني ليّان منه مطول [3] وفي نسخة ثانية: اداري على الرغم العدي لا لريبة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 ترك من عياله وولده بفاس، خير خلف في قضاء حاجاتهم وإدرار أرزاقهم، من المتولّين لها، والاستخدام لهم. ثم فسد ما بين الطاغية وبينه، قبل ظفره بملكه، برجوعه عما اشترط له من التجافي عن حصون المسلمين التي تملّكها بالإجلاب، ففارقه إلى بلاد المسلمين باستجة [1] وكتب إلى عمر بن عبد الله يطلب مصرا ينزله من أمصار الأندلس الغربيّة التي كانت ركابا لملوك المغرب في جهادهم. وخاطبني أنا في ذلك، فكنت له نعم الوسيلة عند عمر، حتى تمّ قصده من ذلك، وتجافى له عن رندة وأعمالها، فنزلها وتملّكها، وكانت دار هجرته، وركاب فتحه، وملك منها الأندلس أواسط ثلاث وستين وسبعمائة واستوحشت أنا من عمر إثر ذلك كما مرّ، وارتحلت إليه معوّلا على سوابقي عنده، فقرّب في المكافآت كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الرحلة الى الأندلس) ولما أجمعت الرحلة إلى الأندلس بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة، وكتبت لهم إلى صاحبها السلطان أبي العبّاس من حفدة السلطان أبي يحيى، وبأني أمرّ على الأندلس وأجيز عليه من هنالك. وسرت إلى سبتة فرضة المجاز، وكبيرها يومئذ الشريف أبو العبّاس أحمد بن الشريف الحسني، ذو النسب الواضح السالم من الريبة عند كافة أهل المغرب، انتقل سلفه إلى سبتة من صقلّيّة. وأكرمهم بنو العزفي أوّلا وصاهروهم. ثم عظم صيتهم في البلد فتنكّروا لهم وغرّبهم يحيى العزفي آخرهم إلى الجزيرة، فاعترضتهم مراكب النصارى في الزقاق [2] فأسروهم. وانتدب السلطان أبو سعيد إلى فديتهم رعاية لشرفهم، فبعث إلى النصارى في ذلك فأجابوه. وفادى هذا الرجل وأباه على ثلاثة آلاف دينار، ورجعوا إلى سبتة، وانقرض بنو العزفي   [1] وفي نسخة أخرى اسجه. وقد سجّلها ابن خلدون بخط يده بفتح الهمزة وكسر السين المخففة. وفي معجم البلدان إستيجة: بالكسر ثم السكون وكسر التاء وجيم وهاء، اسم لكورة بالأندلس متصلة بأعمال ريّة بين القبلة والمغرب من قرطبة. وهي كورة قديمة واسعة الرساتيق والأراضي على نهر سنجل. وهو نهر غرناطة بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ وأعمالها متصلة باعمال قرطبة (معجم البلدان) . [2] هو مضيق يقع بين طنجة وجبل طارق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 ودولتهم، وهلك والد الشريف وصدر هو إلى رياسة الشورى. لما كانت واقعة القيروان، وخلع أبو عنان أباه واستولى على المغرب، وكان بسبتة عبد الله بن علي الوزير واليا من قبل السلطان أبي الحسن، فتمسّك بدعوته، ومال أهل البلد إلى السلطان أبي عنان وبثّ فيهم الشريف دعوته، فثاروا بالوزير وأخرجوه، ووفدوا على أبي عنان وأمكنوه من بلدهم، فولّى عليها من عظماء دولته سعيد بن موسى العجيسي، كان كافل تربيته في صغره. وأفرد هذا الشريف برياسة الشورى في سبتة، فلم يكن يقطع أمرا دونه، ووفد على السلطان بعض الأيام فتلقّاه من المبرة بما لا يشاركه فيه أحد من وفود الملوك والعظماء. ولم يزل على ذلك سائر أيام السلطان وبعد وفاته، وكان معظّما وقور المجلس، هشّ اللقاء، كريم الوفادة، متحلّيا بالعلم والأدب، منتحلا للشعر غاية في الكرم وحسن العهد، وسذاجة النفس، ولمّا مررت به سنة أربع وستين وسبعمائة أنزلني ببيته إزاء المسجد الجامع، ورأيت منه ما لا يقدّر مثله من الملوك، وأركبني الحرّاقة [1] ليلة سفري يباشر دحرجتها إلى الماء بيده، إغرابا في الفضل والمساهمة، وحططت بجبل الفتح وهو يومئذ لصاحب المغرب، ثم خرجت منه إلى غرناطة وكتبت للسلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني، وليلة بتّ بقرب غرناطة على بريد منها، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنيني بالقدوم، ويؤنسني ونصّه: حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرّحب والسهل يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المعصب [2] لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسّي اغتباطي بالشبيبة والأهل وودّي لا يحتاج فيه لشاهد ... وتقريري المعلوم ضرب من الجهل أقسمت بمن حجّت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمّة الأحياء لميته ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته. لو خيّرت أيها المحبّ الحبيب الّذي زيارته الأمنيّة السنيّة، والعارفة الوارفة، واللطيفة المطيفة بين رجع الشباب يقطر ماؤه، ويرف نماؤه، ويغازل عيون الكواكب، فضلا عن الكواعب، إشارة وإيماء، بحيث لا آلو في   [1] الحراقة: نوع من السفن الصغيرة فيها مرامي نيران يرمى بها العدو، ومنهم من كان يستعملها للنزهة. [2] وفي نسخة ثانية: المهدّاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 حظ يلمّ بسياج لمّته، أو يقدح ذباله في ظلمته، أو يقدّم حواريه في ملمته [1] . من الأحابش وأمّته. وزمانه روح وراح، ومغدى في النعيم مراح، وخصب صراح، ورنى وجراح [2] ، وانتخاب واقتراح، وصدر ما به إلا انشراح، ومسرّات يردفها أفراح، وبين قدومك خليع الرسن ممتّعا، والحمد للَّه باليقظة والوسن، محكما في نسك الجنيد أو فتك الحسن، ممتّعا بظرف المعارف، مالئا آلف الصيارف، ماحيا بأنوار البراهين شبه الزخارف، لما اخترت الشباب وإن شاقني زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد للَّه الّذي رفأ حنوّه اغترابي [3] وملّكني أزمّة آرابي، وغبّطني بمالي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصّني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي. وعجّلت هذه مغبطّة بمناخ المطيّة، وملتقى للسعود غير البطيّة، وتهنّي الآمال الوثيرة الوطية، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ربّك، متجمّلة بزيّك، عاقلة خطيّ سمهريك [4] ، ومولى مكارمه، مشيدة لأمثالك، ومضان منالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع فضل مجدك في التخلّف عن الإصحار لا بل اللقاء من وراء البحار والسلام. ثم أصبحت من الغد قادما على البلد وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة وقد اهتز السلطان لقدومي، وهيّأ لي المنزل من قصوره بفرشه وما عونه، وأركب خاصّته للقائي تحفّيا وبرّا ومجازاة بالحسنى. ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك، وخلع عليّ وانصرفت. وخرج الوزير ابن الخطيب فشيّعني إلى مكان نزلي، ثم نظمني في علية أهل مجلسه، واختصّني بالنجاء في خلوته، والمواكبة في ركوبه والمواكلة والمطايبة والمفاكهة في خلوات أنسه، وأقمت عنده، وسفرت عنه سنة خمس وستين وسبعمائة إلى الطاغية ملك قشتالة يومئذ، بطرة بن الهنشة بن أدفونش لإتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوة بهديّة فاخرة من ثياب الحرير والجياد والمقرّبات بمراكب الذهب الثقيلة، فلقيت الطاغية بإشبيليّة وعاينت آثار سلفي بها، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه، وأظهر الاغتباط بمكاني، وعلم أوليّة   [1] وفي نسخة ثانية: ملّته. [2] وفي نسخة ثانية: وفصف وصراح، ودقى وجراح. [3] وفي نسخة ثانية: الّذي رقى جنون اغترابي. [4] وفي نسخة ثانية: عامله خطا مهريك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 سلفنا بإشبيليّة وأثنى عليّ عنده طبيبه إبراهيم ابن زرور [1] اليهودي المقدّم في الطب والنجامة، وكان لقيني بمجلس السلطان أبي عنان وقد استدعاه يستطبّه، وهو يومئذ بدار ابن الأحمر بالأندلس. ثم نزع بعد مهلك رضوان بن القائم بدولتهم إلى الطاغية، فأقام عنده ونظّمه في أطبائه، فلمّا قدمت أنا عليه أثنى عليّ عنده، فطلب الطاغية حينئذ المقام عنده، وأن يردّ عليّ تراث سلفي بإشبيليّة، وكان بيد زعماء دولته، فتفاديت من ذلك بما قبله. ولم يزل على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه، فزوّدني وحملني [2] واختصّني ببغلة فارهة، بمركب ثقيل ولجام ذهبيّين، أهديتهما إلى السلطان فأقطعني قرية البيرة من أراضي السقي بمرج غرناطة، وكتب لي بها منشورا كان نصّه [3] ثم حضرت ليلة المولد النبويّ لخامسة قدومي، وكان يحتفل في الصنيع فيها والدعوة وإنشاد الشعر اقتداء بملوك المغرب، فأنشدته ليلتئذ: حيّ المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني إنّ الألى نزحت داري ودارهم ... تحمّلوا القلب في آثارهم دوني وقفت أنشد صبرا ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسما لا يناجيني أمثّل الرّبع من شوقي فألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني وينهب الوجد مني كل لؤلؤة ... ما زال قلبي عليها غير مأمون سقت جفوني مغاني الرّبع بعدهم ... بالدّمع وقف على أطلاله الجوني [4]   [1] وفي نسخة ثانية: زرزر. [2] بمعنى اعطاني ظهرا لأركبه. [3] بياض بالأصل في جميع النسخ لعلّ ابن خلدون ترك هذا الفراغ عن قصد ليثبت نصّ هذا المنشور ولكن الموت عاجله قبل إتمام عمله هذا. [4] الجون: السود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أنّ قلبي إلى السلوان يدعوني أحبابنا هل لعهد الوصل مدّكر ... منكم وهل نسمة عنكم تحييني ما لي وللطّيف لا يعتاد زائره ... وللنّسيم عليلا لا يداويني يا أهل نجد وما نجد وساكنها ... حسنا سوى جنّة الفردوس والعين أعندكم أنّني ما مرّ ذكركم ... إلّا انثنيت كأنّ الرّاح تثنيني أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم ... شوقا ولولاكم ما كان يصبيني يا نازحا والمنى تدنيه من خلدي [1] ... حتى لأحسبه قربا يناجيني أسلى هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوما بحال عنك يسليني ترى الليالي أنستك ادّكاري يا ... من لم تكن ذكره الأيام تنسيني ومنها في وصف الإيوان الّذي بناه لجلوسه بين قصوره: يا مصنعا شيّدت منه السّعود حمى ... لا يطرق الدّهر مبناه بتوهين صرح يحار لديه الطرف مفتتنا ... فيما يروقك من شكل وتلوين بعدا لإيوان كسرى إنّ مشورك [2] ... السامي لأعظم من تلك الأواوين ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... «أشهى إلى القلب من أبواب جيرون» [3] ومنها في التّعريض بمنصرفي من العدوة: من مبلغ عنّي الصّحب الألى تركوا ... ودّي وضاع حماهم إذ أضاعوني أني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحيّيني وأنني ظاعنا لم ألق بعدهم ... دهرا أشاكي ولا خصما يشاكيني لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلّب الطّرف بين الخوف والهون سقيا ورعيا لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظّ غير مغبون أرتاد منها مليّا لا يماطلني ... وعدا وأرجو كريما لا يعنّيني وهاك منها قواف طيّها حكم ... مثل الأزاهر في طيّ الرياحين   [1] الخلد: البال. [2] مشورك: كلمة مغربية تعني مكان جلوس السلطان ومن دونه الحكام ولا تزال تستعمل في مثل هذا المعنى بالمغرب. [3] جيرون: عند باب دمشق من بناء سليمان بن داود عليه السلام. يقال إن الشياطين بنته وهي سقيفة مستطيلة على عمد وسقائف وحولها مدينة تطيف بها. يقال واسم الشيطان الّذي بناه جيرون فسمّي به ... (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 تلوح إن جليت درا وإن تليت ... تثني عليك بأنفاس البساتين عانيت منها بجهدي كلّ شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني يمانع الفكر عنها ما تقسّمه ... من كلّ حزن بطيّ الصدر مكنون لكن بسعدك ذلّت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين وأنشدته سنة خمس وستين وسبعمائة في إعذار ولده، والصّنيع الّذي احتفل لهم فيه، ودعا إليه الجفلى [1] من نواحي الأندلس ولم يحضرني منها إلّا ما أذكره: صحا الشوق لولا عبرة ونحيب ... وذكرى تجدّ الوجد حين تثوب [2] وقلب أبى إلّا الوفاء بعهده ... وإن نزحت دار وبان حبيب وللَّه مني بعد حادثة النّوى ... فؤاد لتذكير [3] العهود طروب يؤرّقه طيف الخيال إذا سرى ... وتذكي حشاه نفحة وهبوب خليليّ لا تستعديا قد دعا الأسى [4] ... فإنّي لما يدعو الأسى لمجيب ألمّا على الأطلال نقض حقوقها ... من الدمع فيّاض الشؤون سكوب ولا تعذلاني في البكاء فإنّها ... حشاشة نفسي في الدموع تذوب ومنها في تقدّم ولده للاعذار من غير نكول: فيمّم منه الحفل لا متقاعس ... ولا نكس [5] عند اللقاء هيوب وراح كما راح الحسام من الوغى ... تروق حلاه والفرند خضيب شواهر [6] أهدتهنّ منك شمائل ... وخلق بصفوف المجد منك مشوب ومنها في الثناء على ولديه: هما النّيّران الطالعان على الهدى ... بآيات فتح شأنهنّ عجيب   [1] الجفلي: هي أن تدعو الناس الى طعامك دعوة عامة من غير اختصاص. يقال «دعي فلان في النقرى لا في الجفلى» أي في الدعوة الخاصة لا العامة (قاموس) . [2] النحيب: البكاء وفي النسخة الباريسية تئوب وكذلك تثوب يجمعان نفس المعنى أي ترجع وتعود. [3] وفي نسخة ثانية: لتذكار. [4] وفي نسخة ثانية: خليلي إلا تسعدا فدعا الأسى ... [5] وفي نسخة ثانية: لخطب ولا نكس، والنكس: الرجل الضعيف والمقصّر عن غاية النجدة والكرم. [6] وفي نسخة ثانية: شواهد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 شهابان في الهيجا نعامان في الثوى [1] ... تسحّ المعالي منهما وتصوب يدان لبسط المكرّمات نماهما ... إلى المجد فيّاض اليدين وهوب وأنشدته ليلة المولد الكريم من هذه السنة: أبى الطيف أن يعتاد إلا توهّما ... فمن لي ألقى الخيال المسلّما وقد كنت أستهديه لو كان نافعي ... واستمطر الأجفان لو تمطر الظما [2] ولكن خيال كاذب وطماعة ... تعلّل قلبا بالأماني متيّما أيا صاحبي نجواي والحبّ لوعة ... يبيح بشكواها الضمير المكتما خذا لفؤادي العهد من نفس الصّبا ... وطيّ النّقا [3] والبان من أجرع الحمى الأصنع الشوق الّذي هو صانع ... فحبّي مقيم أقصّر الشوق أوسما وإني ليدعوني السلوّ تعلّلا ... وتنهاني الأشجان أن أتقدّما لمن دمن أقفرن إلّا هواتف ... تردّد في أطلالهنّ الترنّما عرفت بها سيّما الهوى وتنكّرت ... فعجت على آياتها متوسّما وذو الشّوق يعتاد الربوع دوارسا ... ويعرف آثار الديار توهّما تؤوّبني والليل بيني وبينه ... وميض بأطراف الثنايا تضرّما أجدّ لي العهد القديم كأنّه ... أشار بتذكار العهود فأفهما عجبت لمرتاع الجوانح خافق ... بكيت له خلف الدّجا وتبسّما وبتّ أروّيه كؤوس مدامعي ... وبات يعاطيني الحديث عن الحمى وصافحته عن رسم دار بذي الغضي ... لبست بها ثوب الشبيبة معلما لعهدي بها تدني الظّباء أوانسا ... وتطلع في آفاقها الغيد أنجما أحنّ إليها حيث سار بي الهوى ... وأنجد رحلي في البلاد وأتهما ولما استقرّ القرار، واطمأنّت الدار، وكان من السلطان الاغتباط والاستبشار، وكثر الحنين إلى الأهل والتذكار، أمر لاستقدام [4] أهلي من مطرح اغترابهم من   [1] وفي نسخة ثانية: شهابان في الهيجا غمامان في الندى. [2] وفي نسخة ثانية: لو تنقع الظما أي لو تروي العطشان. [3] وفي نسخة ثانية: ظبي النقا، والنقا: الكثيب من الرمل. [4] وفي نسخة ثانية: استقدام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 قسنطينة، بعث إليهم من جاء بهم إلى تلمسان. وأمر قائد الأسطول بالمريّة، فسار في إجازتهم في أسطوله، واحتلّوا بالمريّة. واستأذنت السلطان في تلقّيهم، وقدمت بهم على الحضرة بعد أن هيّأت لهم المنزل والبستان ودمنة الفلح، وسائر ضروريات المعاش. وكتبت الى الوزير ابن الخطيب عند ما قاربت الحضرة، وقد كتبت إليه أستأذنه في القدوم، وما أعتمده في أحواله. سيّدي، قدمت بالطّير اليمانين، على البلد الأمين، واستضفت الرفّاء إلى البنين، ومتعت بطول السنين. وصلتني البراءة المعرّبة عن كتب اللقاء، ودنوّ المزار، وذهاب البعد، وقرب الديار، وأستفهم سيدي عمّا عندي في القدوم على المخدوم، وأحبّ أن يستقدمني سيدي إلى الباب الكريم [1] في الوقت الّذي يجد المجلس الجمهوري لم يقض حجيجه، ولم يصخ [2] بهيجه، ويصل الأهل بعده إلى المحل الّذي هيأته السعادة لاستقرارهم، واختاره اليمن قبل اختيارهم والسلام. ثم لم يلبث الأعداء وأهل السعايات أن حملوا الوزير ابن الخطيب من ملابستي للسلطان، واشتماله عليّ، وحرّكوا له جواد الغيرة فتنكّر. وشممت منه رائحة الانقباض مع استبداده بالدولة، وتحكمّه في سائر أحوالها، وجاءتني كتب السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بأنه استولى عليها في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة واستدعاني إليه، فاستأذنت السلطان ابن الأحمر في الارتحال إليه. وعميت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء للمودّة، فارتمض [3] لذلك، ولم يسعه إلّا الاسعاف، فودّع وزوّد وكتب لي مرسوما بالتشييع من إملاء الوزير ابن الخطيب نصّه: هذا ظهير كريم، تضمّن تشييعا وترفيعا وإكراما وإعظاما، وكان لعمل الصنيع ختاما، وعلى الّذي أحسن تماما، وأشاد به للمعتمد به بالاغتباط الّذي راق قساما [4] ، وتوفر إقساما، وأعلق بالقبول أن نوى بعد القوى رجوعا وآثر على الظعن المزمع مقاما.   [1] وفي نسخة ثانية: والحق ان يتقدّم سيدي الى الباب الكريم. [2] وفي نسخة ثانية: ولا صوّح بهيجه. [3] بمعنى اشتدّ قلقه. [4] القسام: الجمال والحسن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه، وحبسه الأمير أبو عبد الله ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجّاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر أيّد الله أمره، وأعزّ نصره، وأعلى ذكره، للوليّ الجليس، الحظيّ المكين، المقرّب الأودّ الابن الفقيه الجليل الصدر الأوحد، الرئيس العالم الفاضل الكامل، الموقع الأمين الأظهر الأرضى، الأخلص الأصفى، أبي زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الجليل، الحسيب الأصيل، المرفّع المعظّم، الصدر الأوحد، الأسمى الأفضل الموقّر المبرور أبي يحيى ابن الشيخ الجليل الكبير، الرفيع الماجد، القائد الحظيّ، المعظّم الموقّر، المبرور المرحوم أبي عبد الله بن خلدون. وصله الله أسباب السعادة، وبلّغه من فضله أقصى الإرادة، أعلن بما عنده، أيّده الله من الاعتقاد الجميل في جانبه المرفّع، وإن كان غنيا عن الإعلان، وأعرب عن معرفة مقداره في الحسبان، العلماء الرؤساء الأعيان، وأشاد باتّصال رضاه عن مقاصده البرّة وشيمه الحسان، من لدن وفد على بابه، وفادة العزّ الراسخ البنيان، وأقام المقام الّذي عيّن له رفعة المكان، وإجلال الشان، إلى أن عزم على قصد وطنه، أبلغه الله في ظل الأمن [1] والأمان، وكفالة الرحمن بعد الاغتباط المربي على الخير بالعيان، والتمسّك بجواره بجهد الإمكان، ثم قبول عذره بما جبلت الأنفس عليه من الحنين إلى المعاهد والأوطان. بعد أن لم يدّخر عنه كرامة رفيعة، ولم يحجب عنه وجه صنيعه، فولّاه القيادة والسيادة [2] وأحلّه جليسا معتمدا بالاستشارة، ثم أصحبه تشييعا يشهد بالضنانة بفراقه، ويجمع له برّ الوجاهة من جميع آفاقه، ويجعله بيده رتيمة خنصر [3] ووثيقة سامع أو مبصر، فمهما لوى أخدعه إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره، وتملّيه من نهمة سفره، أو نزع به حسن العهد وحنين الودّ، فصدر العناية به مشروح، وباب الرضا والقبول مفتوح، وما عهده من الحظوة والبرّ ممنوح. فما كان القصد في مثله من أمجاد الأولياء التحوّل، ولا الاعتقاد الكريم التبدّل، ولا الزمن الأخير أن ينسخ الأوّل. على هذا فليطو ضميره، وليرد ما شاء نميره، ومن وقف عليه من القوّاد والأشياخ والخدّام برا وبحرا على اختلاف الخطط والرتب، وتباين الأحوال والنسب، أن يعرفوا حق   [1] وفي نسخة ثانية: اليمن. [2] وفي نسخة ثانية: السفارة. [3] رتيمة خنصر: الخيط الّذي يشد في الإصبع لتستذكر به الحاجة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 هذا الاعتقال في كلّ ما يحتاج إليه من تشييع ونزول، وإعانة وقبول، واعتناء موصول إلى أن يكمل الغرض، ويؤدّي من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض بحول الله وقوّته. وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ست وستين وسبعمائة. وبعد التاريخ العلامة بخطّ السلطان، ونصّها «صح هذا» . (الرحلة من الأندلس الى بجاية وولاية الحجابة بها على الاستبداد) كانت بجاية ثغرا لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين. ولما صار أمرهم للسلطان أبي يحيى منهم، واستقلّ بملك إفريقية، ولّى في ثغر بجاية ابنه الأمير أبو زكريا، وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير أبا عبد الله. وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط ينازعونه في أعماله، ويحجرون الكتائب على بجاية [1] ، ويجلبون على قسنطينة إلى أن تمسّك السلطان أبو بكر بذمّة من السلطان أبي الحسن ملك المغرب الأوسط والأقصى من بني مرين، وله الشّفوف على سائر ملوكهم. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد، وملكها عنوة وقتل سلطانها أبا تاشفين وذلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وخفّ ما كان على الموحّدين من أمر بني عبد الواد، واستقامت دولتهم. ثم هلك أبو عبد الله ابن السلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين وسبعمائة، وخلّف سبعة من الأولاد، كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن، ثم أبو العبّاس أحمد، فولّى الأمير أبو زيد مكان أبيه في كفالة نبيل مولاهم. ثم توفّي الأمير أبو زكريا ببجاية سنة ست وأربعين وسبعمائة، وخلّف ثلاثة من الأولاد، كبيرهم أبو عبد الله محمد، وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها، فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن زكريا، وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه. وبادر السلطان فرقع هذا الخرق بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه. ثم توفي السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين وسبعمائة وزحف أبو الحسن إلى إفريقية   [1] وفي نسخة ثانية: ويجمّرون العساكر على بجاية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 فملكها، ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب. وأقطع لهم هنالك إلى أن كانت حادثة القيروان، وخلع السلطان أبو عنان أباه. وارتحل من تلمسان إلى فاس، فنقل معه هؤلاء الأمراء أهل بجاية وقسنطينة، وخلطهم بنفسه، وبالغ في تكرمتهم. ثم صرفهم إلى ثغورهم الأمير أبا عبد الله أولا، وإخوته من تلمسان، وأبا زيد وإخوته من فاس ليستبدّوا بثغورهم، ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن، فوصلوا إلى بلادهم وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين، فانتزعوها منه. واستقرّ أبو عبد الله ببجاية حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة، وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فهزم ملوكها من بني عبد الواد وأبادهم، ونزل المدية وأطلّ على بجاية، وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه، وشكا إليه ما يلقاه من زبون [1] الجند والعرب، وقلّة الجباية. وخرج له عن ثغر بجاية فملكها، وأنزل عمّاله بها، ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب، فلم يزل عنده في كفاية [2] وكرامة. ولما قدمت على السلطان أبي عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة واستخلصني منه، نبضت عروق السابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله، واستدعاني لصحابته، فأسرعت وكان السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك. ثم كثر المنافسون ورفعوا إلى السلطان وقد طرقه مرض أرجف له الناس، فرفعوا له أنّ الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية، وأني عاقدته على ذلك، على أن يولّيني حجابته، فانبعث له السلطان وسطا بنا واعتقلني نحوا من سنتين إلى أن هلك. وجاء السلطان أبو سالم واستولى على المغرب، ووليت كتابة سرّه، ثم نهض إلى تلمسان وملكها من يد بني عبد الواد، وأخرج منها أبا حمّو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن، ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس، وولّى على تلمسان أبا زيّان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين وأمدّه بالأموال والعساكر من أهل وطنه ليدافع أبا حمّو عن تلمسان ويكون خالصة له، وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية كما ذكرناه، والأمير أبو العبّاس صاحب قسنطينة بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواما تباعا.   [1] زبون: بمعنى الحرب. [2] وفي نسخة ثانية: حفاية والحفاية المبالغة في الإكرام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 558 ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة، وترك أخاه أبا العبّاس بها فخلعه، واستبدّ بالأمر وخرج إلى العساكر المجمّرة عليها من بني مرين، فهزمهم وأثخن فيهم. ونهض السلطان إليه من فاس سنة ثمان وخمسين وسبعمائة فتبرّأ منه أهل البلد وأسلموه، فبعثه إلى سبتة في البحر، واعتقله بها حتى إذا ملك السلطان أبو سالم سبتة عند إجازته من الأندلس سنة ستين وسبعمائة أطلقه من الاعتقال وصحبه إلى دار ملكه ووعده بردّ بلده عليه. فلمّا ولّى أبو زيّان على تلمسان أشار عليه خاصّته ونصحاؤه بأن يبعث هؤلاء الموحّدين إلى ثغورهم، فبعث أبا عبد الله إلى بجاية وقد كان ملكها عمّه أبو إسحاق صاحب تلمسان [1] ، ومكفول بن تافراكين من يد بني مرين. وبعث أبا العبّاس إلى قسنطينة وبها زعيم من زعماء بني مرين. وكتب إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها فملكها لوقته، وسار الأمير أبو عبد الله إلى بجاية فطال إجلابه عليها، ومعاودته حصارها. وألحّ أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي إسحاق. وقد كان لي المقام المحمود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم. وتولّيت كبر ذلك مع خاصّة السلطان أبي سالم وكتاب أهل مجلسه، حتى تمّ القصد من ذلك، وكتب لي الأمير أبو عبد الله بخطّه عهدا بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه، ومعنى الحجابة في دولنا بالمغرب الاستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد. وكان لي أخ صغير اسمه يحيى [2] ، أصغر مني، فبعثه مع الأمير أبي عبد الله حافظا للرسم، ورجعت مع السلطان إلى فاس. ثم كان ما قدّمته من انصرافي إلى الأندلس والمقام بها إلى أن تنكّر الوزير ابن الخطيب وأظلم الجوّ بيني وبينه. وبينما نحن في ذلك، وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يدعمه في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وكتب لي الأمير أبو عبد الله يستقدمني، فاعتزمت على ذلك، ونكر السلطان أبو عبد الله ابن الأحمر ذلك مني، لا لظنّه سوى ذلك [3] ، إذ لم يطّلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب، فأمضيت   [1] وفي نسخة ثنية: صاحب تونس وهي أصح لأنه كان على تلمسان يومئذ أبو زيان محمد بن أبي سعيد. [2] هو يحيى بن خلدون وقد قتل سنة 780 بأمر من أبي تاشفين بن أبي زيان. كان مؤرخا وأديبا، له كتاب «بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد» . [3] وفي نسخة ثانية: لا يظنه لسوى ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 559 العزم، ووقع منه الإسعاف والبرّ والألطاف. وركبت البحر من مرسى المريّة، منتصف ست وستين وسبعمائة ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب للقائي، وتهافت أهل البلد عليّ من كل أوب يمسحون أعطافي، ويقبّلون يديّ، وكان يوما مشهودا. ثم وصلت إلى السلطان فحيّا وفدّى، وخلع وحمل، وأصبحت من الغد، وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي، واستقللت بحمل ملكه، واستفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه، وقدّمني للخطابة بجامع القصبة وأنا مع ذلك، عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوة، إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة، لا أنفكّ عن ذلك. ووجدت بينه وبين ابن عمّه السلطان أبي العبّاس صاحب قسنطينة فتنة، أحدثتها المشاحّة في حدود الأعمال من الرعايا والعمّال، وشبّت نار هذه الفتنة بعرب أوطانهم من الزواودة من رياح، تنفيقا لسوق الزبون يميرون [1] به أموالهم، فكانوا في أهمّ شقة بجمع بعضهم لبعض فالتقو سنة ست وستين وسبعمائة بفدحيوه [2] ، وانقسم العرب عليهما، وكان يعقوب بن علي مع السلطان أبي العبّاس، فانهزم السلطان أبو عبد الله ورجع إلى بجاية مفلولا بعد أن كنت جمعت له أموالا كثيرة أنفق جميعها في العرب، ولمّا رجع وأعوزته النفقة، خرجت بنفسي إلى قبائل البربر بالجبال [3] الممتنعين من المغارم منذ سنين، فدخلت بلادهم واستبحت حماهم، وأخذت رهنهم على الطاعة، حتى استوفيت منهم الجباية، وكان لنا في ذلك مدد وإعانة. ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان يطلب منه الصّهر، فأسعفه بذلك ليصل يده به على ابن عمّه، وزوّجه ابنته، ثم نهض السلطان أبو العبّاس سنة سبع وستين وسبعمائة وجاس أوطان بجاية، وكاتب أهل البلد، وكانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله لما كان يرهف الحدّ لهم، ويشدّ وطأته عليهم، فأجابوه إلى الانحراف عنه. وخرج الشيخ أبو عبد الله يروم مدافعته، ونزل جبل إيزو معتصما به، فبيّته السلطان أبو العبّاس في عساكره وجموع الأعراب من أولاد محمد من رياح بمكانه ذلك،   [1] وفي نسخة ثانية: يمترون به أموالهم: أي يستخرجونها. [2] وفي نسخة ثانية: بفرجيوة. [3] وفي نسخة ثانية: الى قبائل البربر بجبال بجاية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 560 بإغراء ابن صخر وقبائل سدويكش، وكبسه في مخيّمه وركض هاربا، فلحقه وقتله، وسار إلى البلد بمواعدة أهلها. وجاءني الخبر بذلك، وأنا مقيم بقصبة السلطان بقصوره، وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر والبيعة لبعض أبناء السلطان، فتفاديت من ذلك، وخرجت إلى السلطان أبي العبّاس فأكرمني وحيّاني [1] ، وأمكنته من بلده، وأجرى أحوالها [2] كلها على معهودها. وكثرت السعاية عنده في والتحذير من مكاني، وشعرت بذلك، فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك، فأذن لي بعد ما أبى، وخرجت إلى العرب، ونزلت على يعقوب بن عليّ. ثم بدا له الشأن في أمري، وقبض على أخي واعتقله ببونة. وكبس بيوتنا، فظنّ بها ذخيرة وأموالا فأخفق ظنّه. ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن عليّ وقصدت بسكرة [3] لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزنى، وبين أبيه، فأكرم وبرّ وساهم في الحادث بماله وجاهه والله أعلم. (مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان) كان السلطان أبو حمو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصّهر في ابنته، وكانت عنده بتلمسان. فلما بلغه مقتل أبيها واستيلاء السلطان أبي العبّاس ابن عمّه صاحب قسنطينة على بجاية، أظهر الامتعاض لذلك، وكان أهل بجاية قد توجّسوا الخيفة من سلطانهم بإرهاف حدّه، وشدّة بطشه. وسطوته فانحرفوا عنه باطنا وكاتبوا ابن عمّه بقسنطينة كما ذكرناه. ودسّوا للسلطان أبي حمّو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما. فلمّا استولى السلطان أبو العباس وقتل ابن عمّه رأوا أن جرحهم قد اندمل، وحاجتهم قد قضيت، فاعصوصبوا عليه، وأظهر السلطان أبو حمّو الامتعاض للواقعة يسرّ منها   [1] وفي نسخة ثانية: حباني. [2] وفي نسخة ثانية: احوالي. [3] بسكرة: بلد بالجزائر كانت قاعدة بلاد الزاب (معجم البلدان) . ابن خلدون م 36 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 561 حسوا في ارتقاء [1] ، ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية، لما كان يرى نفسه كفؤها بعدده وعديده، وما سلف من قومه في حصارها، فسار من تلمسان يجرّ الشوك والمدر [2] ، خيّم بالرشّة من ساحتها، ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم من لدن تلمسان إلى بلاد حصين من بني عامر وبني يعقوب وسويد والديالم والعطاف وحصين. وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند أعجله السلطان أبو حمّو عن استكمال الحشد، ودافع أهل البلد أحسن الدفاع، وبعث السلطان أبو العبّاس عن أبي زيّان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمّو من قسنطينة، كان معتقلا بها، وأمر مولاه وقائد عسكره بشيرا أن يخرج معه في العساكر، وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمو، وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان، وأبلغهم النذير أنّه إنّ ملك بجاية اعتقلهم بها، فراسلوا أبا زيّان وركبوا إليه، واعتقدوا معه وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن، ودفعوا شرذمة كانت مجمّرة بإزائهم، فاقتلعوا خباءهم، وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشّة، وعاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا، وتتابع الناس في الانجفال حتى أفردوا السلطان في مخيّمه فحمل رواحله وسار، وغصّت الطرق بزحامهم، وتراكم بعضهم على بعض، فهلك منهم عوالم. وأخذهم سكّان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية، وقد غشيهم الليل، فتركوا أزوادهم ورحالهم. وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد غصّ الريق، وأصبحوا على منجاة. وقذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان، وكان السلطان أبو حمّو قد بلغه خبر خروجي من بجاية، وما أحدثه السلطان بعدي في أهلي ومخلفي، فكتب إليّ يستقدمني قبل هذه الواقعة، وكانت الأمور قد اشتبهت، فتفاديت بالأعذار، وأقمت بأحياء يعقوب بن عليّ. ثم ارتحلت إلى بسكرة فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزني. فلمّا وصل السلطان أبو حمّو إلى تلمسان وقد جزع للواقعة، أخذ في استئلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية، وخاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم، وملك   [1] الأصح حسوا في ارتغاء: أي يشرب اللبن خفية، ويتظاهر بأنه يأخذ الرغوة، وهو مثل يضرب بمن يظهر أمرا وهو يريد غيره. [2] مثل عام ويعني به كثرة جيشه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 زمامهم، ورأى أن يعوّل عليّ في ذلك، واستدعاني لحجابته وعلامته، وكتب بخطّه مدرجة في الكتاب نصّها: الحمد للَّه على ما أنعم، والشكر للَّه على ما وهب، ليعلم الفقيه المكرّم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، حفظه الله، انك تصل إلى مقامنا الكريم بما خصصناكم به من الرتبة المنيعة، والمنزلة المنيفة، وهو قلم خلافتنا، والانتظام في سلك أوليائنا، وقد أعلمناكم بذلك، وكتب بخطّ يده عبد الله المتوكل على الله، موسى بن يوسف لطف الله به وخار له. وبعده بخطّ الكاتب ما نصّه: بتاريخ السابع عشر من شهر رجب الفرد الّذي من عام تسع وستين وسبعمائة، عرّفنا الله خيره. ونصّ الكتاب الّذي هذه مدرجته، وهو بخطّ الكاتب: «أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد ووالى رعايتكم، إنّا قد ثبت عندنا، وصحّ لدينا ما انطويتم عليه من المحبّة في مقامنا، والانقطاع إلى جنابنا، والتشييع قديما وحديثا لنا، مع ما نعلمه من محاسن اشتملت عليها أوصافكم، ومعارف فقتم فيها نظراءكم، ورسوخ القدم في الفنون العلميّة والآداب العربيّة. وكانت خطّة الحجابة ببابنا العليّ أسماه الله إلى درجات أمثالكم، وأرفع الخطط لنظرائكم، قربا منّا، واختصاصا بمقامنا، واطّلاعا على خفايا أسرارنا، آثرناكم بها إيثارا، وقدّمناكم لها اصطفاء واختيارا، فاعملوا على الوصول إلى بابنا العليّ أسماه الله لما لكم فيه من التنويه، والقدر النبيه، حاجبا لعليّ بابنا، ومستودعا لأسرارنا، وصاحبا لكريم علامتنا، إلى ما شاكل ذلك من الانعام العميم، والخير الجسيم، والاعتناء والتكريم. لا يشارككم مشارك في ذلك، ولا يزاحمكم أحد، وإن وجد من أمثالكم فأعملوه وعوّلوا عليه، والله تعالى يتولّاكم، ويصل سرّاءكم، ويوالي احتفاءكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» . وتأدّت إليّ هذه الكتب السلطانيّة على يد سفير من وزرائه جاء إلى أشياخ الزواودة في هذا الغرض، فقمت له في ذلك أحسن قيام وشايعته أحسن مشايعة، وحملتهم على إجابة داعي السلطان والبدار إلى خدمته. وانحرف كبراؤهم عن السلطان أبي العبّاس إلى خدمته، والاعتمال في مذاهبه، واستقام غرضه من ذلك، وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله، وقدم عليّ ببسكرة، فبعثته إلى السلطان أبي حمّو كالنائب عني في الوظيفة، متفاديا عن تجشّم أهوالها بما كنت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 563 نزعت عن غواية الرتب. وطال عليّ إغفال العلم، فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمّة على المطالعة والتدريس، فوصل إليه الأخ فاستكفى به في ذلك، ودفعه إليه. ووصلني مع هذه الكتب السلطانيّة كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب من غرناطة يتشوّق إليّ، وتأدّى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر، فبعث إليّ من هنالك ونصّه: بنفسي وما نفسي عليّ رخيصة [1] ... فينزلني عنها المكاس بأثمان حبيب نأى عنّي وصمّ لا أنثني ... وراش سهام البين عمدا فأضناني [2] وقد كان همّ الشّيب لا كان كائنا [3] ... فقد آدني لما ترحّل همّان شرعت له من دمع عينيّ موردا ... فكدّر شربي بالفراق وأظماني وأرعيّته من حسن عهدي حميّة [4] ... فأجدب آمالي وأوحش أزماني حلفت على ما عنده لي من رضى ... قياسا بما عندي فأحنّث أيماني وإني على ما نالني منه من قلى ... لأشتاق من لقياه نعبة ظمآن سألت جنوني فيه تقريب عرسه ... فقست بحرّ الشوق جنّ سليمان إذا ما دعا داع من القوم باسمه ... وثبت وما استثبت شيمة هيمان وتاللَّه ما أصغيت فيه لعاذل ... تحاميته حتى ارعوى وتحاماني ولا استشعرت نفسي برحمة عابد ... تظلّل يوما مثله عبد رحمان ولا شعرت من قبله بتشوّق ... تخلّل منها بين روح وجثمان أمّا الشوق فحدّث عن البحر ولا حرج، وأمّا الصبر فسل به أيّة درج، بعد أن تجاوز اللوى [5] والمنعرج، لكن الشدّة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله الأرج، وأني بالصبر على إبر الزبر [6] لا بل الضّرب الهبر، ومطاولة اليوم والشهر، تحت حكم   [1] وفي نسخة ثانية: بهيّنة. [2] وفي نسخة ثانية: فأحماني وأحمى الصيد: رماه فقتله في مكانه. [3] وفي نسخة ثانية: كافيا. [4] وفي نسخة ثانية: جميمه. [5] اللوى: ما التوى من الرمل. [6] وفي نسخة ثانية: الدبر أي الزنانير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 564 القهر، ومن للعين أن تسلو سلوّ القصر عن إنسانها المبصر، أو تذهل ذهول الزاهد عن سرّها الرائي والمشاهد، وفي الجسد مضغة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه أو ترحت، وإذا كان الفراق هو الحمام الأوّل، فعلام المعوّل أعيت مراوضة الفراق على الرواق [1] ، وكادت لوعة الاشتياق أن تفضي إلى السياق [2] . تركتموني بعد تشييعكم ... أوسع أمر الصبر عصيانا أقرع سنّي ندما تارة ... وأستميح الدّمع أحيانا وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، وجدّدت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، أسائل نون النؤى [3] عن أهليه، وهيام المرقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلّثة من منازل الموحّدين، وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، كلفت لعمر الله بسائل عن جفوني المؤرقة، ونائم عن شجوني [4] المجتمعة المتفرّقة، ظعن عن ملال، لا متبرّما بشرّ حال [5] وكدر الوصل بعد صفائه، وضرّح النّصل بعد عهد وفائه. أقل اشتياقا أيها القلب إنّما ... رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا فها أنا أبكي عليه بدم أساله، وأندب في ربع الفراق آسى له، وأشكو إليه حال قلب صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودّعه، وانشقّ ريّاه أنف ارتياح قد جدعه، واستعديه على ظلم ابتدعه. «خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي [6] فلولا عسى الرجاء ولعلّه، لا بل شفاعة المحلّ الّذي حلّه، لنشرت ألوية العتب، وبثثت كتائبها كمينا في شعاب الكتب، تهزّ من الألفات رماحا هزّ الأسنّة [7] وتوتّر من النونات أمثال القسيّ المرنّة، وتقود من مجموع الطّرس والنقس بلقا تردي في   [1] وفي نسخة ثانية: عمل الرّاق. [2] السياق: بداية مفارقة الروح. [3] النؤى: الحفير حول الخيمة يمنع عنها المسيل. [4] وفي نسخة ثانية: عن همومي. [5] وفي نسخة ثانية: لا متبرّما منا بشرّ خلال. [6] هذا البيت «لجميل بثينة» وهو جميل بن عبد الله بن معمر العذري. [7] وفي نسخة ثانية خزر الأسنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 565 الأعنّة، ولكنه أوى إلى الحرم الأمين، وتفيّأ ظلال الجوار المؤمّن من معرّة الغوار عن الشمال واليمين، حرم الخلال المزنيّة، والظلال اليزنيّة، والهمم السنيّة، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدّنيّة، حيث الرّفد الممنوح، والطير الميامن يزجر لها السنوح والمثوى الّذي إليه مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان، فهو الجنوح. نسب كأنّ عليه من شمس الضّحى ... نورا ومن فلق الصّباح عمودا ومن حلّ بتلك المثابة فقد اطمأنّ جنبه، وتغمّد بالعفو ذنبه، (وللَّه در القائل) : فو حقّه لقد انتدبت لوصفه ... بالبخل لولا أنّ حمصا داره بلد متى أذكره هيج [1] لوعتي ... وإذا قدحت الزّند طار شراره اللَّهمّ غفرا، وأين قراره النخيل، من مثوى الألف البخيل، ومكذبة المخيل، وأين نائية هجر، من متبرئ ممن ألحد وفجر [2] من أنكر غيث مسودّة [3] ... في الأرض ينوء بمخلفها فبنان بني مزنى مزن ... تنهلّ بلطف مصرّفها مزن مذحلّ ببسكرة ... يوما نطقت بمصحفها شكرت حتى بعبارتها ... وبمعنها وبأحرفها ضحكت بأبي العباس من ... الأيام ثنايا زخرفها وشكرت الدنيا متى عرفت ... مزن فيها بمعرّفها [4] بل نقول لا محل للولد [5] ، لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلّ بهذا البلد، لقد حلّ بينك عرى الجلد، وخلد الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من الخلد، فحيّا الله زمانا شفيت في قربك زمانته [6] ، واحتليت في ذروة مجدك جمانته، ويا من لمشوق لم يفض من طول خلّتك لبانته [7] ، وأهلا بروض أضلّت شباب معارفك   [1] وفي نسخة ثانية: تهتج. [2] وفي نسخة ثانية: وابن ثانية هجر، من متبوإ من ألحد وفجر. [3] وفي نسخة ثانية: من أنكر غيثا منشؤه. [4] وفي نسخة ثانية: وتنكّرت الدنيا حتى عرفت منه بمعرّفها. [5] وفي نسخة ثانية: يا محلّ الولد. [6] بمعنى العامة. [7] وفي نسخة ثانية: وقضيت في مرعى خلّتك لبناته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 566 بانته، فحمائمه بعدك تندب فيساعدها الجندب، ونواسمه ترقّ فتتغاشى، وعشبانه تتهافت وتتلاشى، وأدواحه في ارتباك، وحمائمه في مأتم ذي اشتباك، كأن لم تكن قمرها لات قبابه، ولم يكن أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابة، ولم يسبح إنسان عينك [1] في ماء شبابه، فلهفا عليك من درّة اختلستها يد النوى، ومطل بردّها الدّهر ولوى، ونعق غراب بينها في ربوع الهوى، ونطق بالزّجر فما نطق عن الهوى، وبأيّ شيء يعتاض منك أيتها الرّياض، بعد أن طما نهرك الفيّاض، وفهقت [2] الحياض، ولا كان الشانئ المشنوء والحرب المهنوء من قطيع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الأمر الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لمّا كمل، فشرّع [3] الشراع فراع، وواصل الإسراع، فكأنّما هو تمساح النّيل ضايق الأحباب في البرهة، وأختطف بهم من الشط نزهة العين، وعين النزهة، ولجّج بها، والعيون تنظر، والعبر عن الاتباع [4] تخطر، فلم يقدر إلّا على الأسف، والتماح الأثر المنتسف، والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووفر الحبرة [5] من الحسرة، إنّما نشكو إلى الله البثّ والحزن، ونستمطر منه المزن [6] ، وبسيف الرجاء نصول، إذا شرّعت لليأس أسنّة ونصول. ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممّن داره صول فإن كان كلام [7] الفراق رغيبا، لمّا نويت مغيبا، وجلّلت الوقت الهنيّ تشغيبا، فلعلّ الملتقى يكون قريبا، وحديثه يروى صحيحا غريبا. إيه سيدي كيف حال تلك الشمائل المزهرة المخايل، والشيم الهامية الديم؟ هل يمرّ ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاصف البين ذباله؟ أو ترثي لمؤق [8] شأنها سكب لا يفتر، وشوق   [1] بؤبؤ العين. [2] امتلأت. [3] وفي نسخة ثانية: نشر الشراع فراع. [4] وفي نسخة ثانية: الغمر عن الاتباع يحظر. والغمر: الماء الكثير. [5] وفي نسخة ثانية: الجسرة أي الناقة. [6] المزن: السحاب. [7] وفي نسخة ثانية: كلم وهو الجرح. [8] وفي نسخة ثانية: لشئون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 567 يبتّ حبال المشوّق [1] ويبتر وضنى تقصر عن حلله الفائقة صنعاء وتستر [2] والأمر أعظم والله يستر، وما الّذي يضيرك صير من بلفح السموم يضيرك [3] ، بعد أن أضرمت وأشعلت وأوقدت، وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، إن تترفق بذماء، أو تردّ بنغبة ماء، أرماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحيّة عليها شذ أنفاسك، أو تنظر إلينا من البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك، فربّما قنعت الأنفس المحبّة بخيال يزور، وتعلّلت بنوال منذور، ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور. يا من ترحّل والرياح لأجله ... تشتاق أن يعبق شذا ريّاها [4] تحيا النفوس إذا بعثت تحيّة ... وإذا قرأت ترى ومن أحياها [5] ولئن أحييت بها فيما سلف نفوسنا تفديك، والله إلى الخير يهديك، فنحن نقول معشر مودّيك «ثنّ ولا تجعلها بيضة الديك [6] وعذرا فإنّي لم أجترئ على خطابك بالفقرة الفقيرة، وأدللت لديّ محرابك برفع العقيرة، عن نشاط بعث مرسومه [7] ولا اغتباط بالأدب إلّا بسياسة تسوسه، أو في على الفترة ناموسه وانما هو نفاق نفثة المصدور [8] ، وهناء الجرب المجدور، وإن تعلّل به مخارق، فثمّ قياس فارق، والّذي هيّأ هذا القدر وسبّبه، وسهّل المكروه إليّ منه وحبّبه، ما اقتضاه الصّنو يحيى، أمدّ الله حياته، وحرس من الحوادث جهاته [9] ، من خطاب ارتشف لهذه القريحة العديمة بلالتها، بعد أن رضي غلالتها، ورسخ إلى الصهر الحضرميّ سلالتها، فلم يسع إلّا إسعافه، بما أعافه، فأمليت مجيبا ما لا يعدّ في يوم الرهان   [1] وفي نسخة ثانية: حبال الصبر. [2] صنعاء: اليمن وتستر مدينة بخوزستان وقد ضبطها ابن خلدون تستر وقد ضبطها ياقوت الحموي تستر (معجم البلدان) . [3] وفي نسخة ثانية: صين من لفح السموم نضيرك. [4] وفي نسخة ثانية: يشتاق إن هبت شذا رياها. [5] وفي نسخة ثانية: وإذا عزمت اقرأ «ومن أحياها» (الآية 32 من سورته المائدة) . [6] وفي نسخة ثانية: «ثنّي ولا تجعليها بيضه لدّيك» وهو عجز بيت لبشار بن بر وهو: قد زرتنا زوره في النوم واحدة ثني ولا تجعليها بيضه لدّيك. [7] وفي نسخة ثانية: مرموسة والمرموس: المدفون. [8] وفي نسخة ثانية: (ولا اعتباط بالأدب تغري بسياسته سوسة، وانبساط أوحى إليّ على الفترة ناموسه، وإنما هو اتفاق جرّته نفثه المصدور) . [9] وفي نسخة ثانية: ذاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 نجيبا، وأسمعته وجيبا لمّا ساجلت بهذه التّرهات سحرا عجيبا، حتى إذا ألف القلم العريان فسحه [1] ، وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوّه وموقف شلوّه [2] ، إلا وقد تحيّز إلى فئتك مغترّا بل معترّا، واستقبلها ضاحكا مفترّا، وهشّ لها برّا، وإن كان من الخجل مصفرّا، وليس بأوّل من هجر، في التماس الوصل ممن هجر، أو بعث التمر إلى هجر [3] ، وأيّ نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام، بعد أن حال الجريض دون القريض [4] ، وشغل المريض عن التعريض، وغلب الشوق الكسل، ونشرت [5] الشعرات البيض كأنها الأسل، تروع برقط الحيّات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر، والشباب [6] عند البيات، والشيب الموت العاجل، وإذا ابيضّ زرع صبّحته المناجل، والمعتبر الآجل، وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بإبعاده، وأسره في ملكة عاده، فأغض أبقاك الله، وأسمح لمن قصّر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثّواب، واشف بعض الجوى بالجواب. تولّاك الله فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك أية سلكت، ووسمك من السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات، والسلام الكريم يعتمد حلال [7] ولدي وساكن خلدي، بل أخي وإن اتّقيت عتبة وسيّدي، ورحمة الله وبركاته، من محبّة المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني من عام سبعين وسبعمائة. وكان تقدّم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إليّ، بعث به إلى تلمسان فتأخّر وصوله، حتى بعث به أخي يحيى عند وفادته على السلطان، ونصّ الكتاب. يا سيدي إجلالا واعتدادا، وأخي ودّا واعتقادا، ومحلّ ولدي شفقة حلت مني   [1] وفي نسخة ثانية: سبحه والسبح: الجري. [2] وفي نسخة ثانية: مثلوّه. [3] الهجر: الهندي في الكلام والهجر الثانية الفراق، والهجر الثالثة: بلد بالهجرين. [4] الجريص: الغصّة بالريق، والقريض: الشعر. [5] وفي نسخة ثانية: ونصلت. [6] وفي نسخة ثانية: الشيات والشيات ج. شية، وهي سواد في بياض أو بياض في سواد. [7] حلال: ج حلة: بيت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 569 فؤادا. طال عليّ انقطاع أنبائك، واختفاء أخبارك، فرجوت أن أبلغ المنية بهذا المكتوب إليك، وتخترق الموانع دونك، وإن كنت في موالاتك كالعاطش الّذي لا يروى، والآكل الّذي لا يشبع، شأن من تجاوز الحدود الطبيعية، والعوائد المألوفة، فأنا بعد إنهاء التحيّة المطلولة الروض بماء الدموع، وتقرير الشوق القديم اللّزيم، وشكوى البعاد الأليم، والابتهال في إتاحة القرب [1] قبل الفوت من الله ميسّر العسير، ومقرّب البعيد، أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالا [2] في مجال الخلوص لك، وأشدّهم حرصا على اتّصال سعادتك، وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك، واستقرارك ببسكرة على الغبطة بك باللجإ إلى تلك الرئاسة الزكيّة، الكريمة الأب، الشهيرة الفضل، المعروفة القدر على البعد، حرسها الله ملجأ للفضلاء، ومخيّما لرجال العلياء، ومهبّا لطيب الثناء، بحول وقوّته، وقاربت كلّ ساح السلامة [3] فاحمدوا الله على الخلاص، وقاربوا في معاملة الآمال، وضنّوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاقّ، وأبخلوا بها عن المتالف، فمطلوب الحريص على الدّنيا خسيس، والموانع الحافّة جمّة، والحاصل حسرة، وما قلّ سعي يحمد حاله العاقبة [4] ، والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت، إنّما ينال منه الضروريّ، ومثلك لا يعجزه مع الناس [5] العافية، إضعاف ما يرجى به العمر من المأكل والمشرب، وحسبنا الله. وإن تشوّفت لحال المحبّ تلك السيادة الفذّة والبنوّة البرّة، فالحال حال من جعل الزّمام بيد القدر، والسير في مهيع الغفلة، والسبح في تيار الشواغل، ومن وراء الأمور غيب محجوب، وأجل مكتوب، يؤمّل فيه عادة الستر من الله، إلّا أنّ الضجر الّذي تعلمونه حفظه الناس لما عجزت الحيلة، وأعوز الناصر [6] وسدّت المذاهب، والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال.   [1] وفي نسخة ثانية: وسؤال إناحة القرب. [2] وفي نسخة ثانية: وفي نسخة ثانية محالا والمحال: التدبير. وال «مجال الاولى تكون مصدرا والمجال الثانية: مكان الجولان. [3] وفي نسخة ثانية: وما كل وقت تتاح فيه السلامة. [4] وفي نسخة ثانية: وبأقل السعي تحصل حالة العاقية. [5] وفي نسخة ثانية: مع التماس العاقية. [6] وفي نسخة ثانية: المناص: الملجأ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 570 وفيما يرجع إلى السلطان تولّاه الله على إضعاف ما باشر سيّدي من الأغياء في البرّ، ووصل سبب الالتحام والاشتمال مع الإقبال [1] وما ينتجه متعوّد الظهور، والحمد للَّه. وفيما يرجع إلى الأحباب والأولاد فعلى ما علمت الآن الشوق يخامر القلوب، وتصوّر اللّقاء مما يزهد في الوطن، وحاضر النّعم سنّى الله ذلك على أفضل حال، ويسرّه قبل الارتحال من دار المحال. وفيما يرجع إلى الوطن فأحوال النائم خصبا، وهدنة وظهورا على العدوّ، وحسبك فافتتاح حصن آش وبرغة [2] القاطعة بين بلاد الإسلام، ووبرة [3] والعارين وبيعة [4] وحصن السّهلة في عام. ثم دخل بلد إطريرة بنت إشبيلية عنوة، والاستيلاء على ما يناهز خمسة آلاف من السبي من فتح دار الملك، وبلدة قرطبة، ومدينة جيّان عنوة في اليوم الأغرّ المحجّل، وقتل المقاتلة، وسبي الذرّية، وتعفية الآثار حتى لا يلمّ بها العمران، ثم افتتاح مدينة رندة التي تلف جيّان في ملاءتها، دار التّجر، والرفاهيّة والبنات الحافلة، والنعم الثّرّة، نسأل الله جلّ وعلا أن يصل عوائد نصره، ولا يقطع عنا سيب رحمته، وأن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه. ولم يتزيد من الحوادث إلّا ما علمتم من أخذ الله لنسب [5] السوء، وخبث الأرض، المسلوب من أثر الخير، عمر بن عبد الله، وتحكّم شرّ الميتة في نفسه، وإتيان النكال على حاشيته، والاستئصال على نفيسة [6] ، والاضطراب مستول على الوطن بعده، إلا أنّ القرب على علالته [7] لا يرجحه غيره.   [1] وفي نسخة ثانية: الاستقلال. [2] وفي نسخة ثانية حض آشر وبرغه وهو أصحّ وحصص آشر (Lznajar) في الجنوب الشرقي لحص روطة (Rute) على ضفة رافد من روافد شنيل، وقد حرّف فكتب في بعض النسخ (أشب) اما برغه (Burgo) فتقع بين مالقة ورندة (نفح الطيب 6/ 367- 368) . [3] وفي نسخة ثانية: وبذة وهي الأصح لأن وبرة من قرى اليمامة وهي بعيدة عن بحثنا هذا أما وبذة فهي مدينة من أعمال شنت بريّة بالأندلس (معجم البلدان) . [4] يجمع التلمساني في تفح الطيب بغية وباغة باسم واحد، «وباغة مدينة بالأندلس من كورة البيرة بين المغرب والقبلة منها» . وربما تكون بيغو: «بلد بالأندلس من أعمال جيّان» (معجم البلدان) . [5] وفي نسخة ثانية: لنسمة. [6] وفي نسخة ثانية: على ذاته. [7] وفي نسخة ثانية: إلا أن الغرب على علّاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 571 والأندلس اليوم شيخ غزاتها عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي عليّ، بعد وفاة الشيخ أبي الحسن علي بن بدر الدين رحمه الله. وقد استقرّ بها بعد انصراف سيّدي الأمير المذكور، والوزير مسعود بن رحّو، وعمر بن عثمان بن سليمان. والسلطان ملك النصارى بطرة قد عاد إلى ملكه بإشبيليّة، وأخوه مجلب عليه بقشتالة وقرطبة مخالفة عليه، قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم، داعين لأخيه، والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح. وخرق الله لهم عوائد في باب الظهور والخير، لم تكن تخطر في الآمال. وقد تلقّب السلطان أيّده الله بعقب هذه المكنّفات بالغنيّ باللَّه وصدرت عنه مخاطبات بمجمل الفتوح ومفصلها يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن. وأمّا ما يرجع إلى ما يتشوّف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت، فصدرت تقاييده، وتفاصيل [1] يقال فيها بعد ما اعتملت تلك السيادة بالانصراف يا إبراهيم ولا إبراهيم اليوم. منها أنّ كتابا رفع إلى السلطان في المحبّة [2] من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة فعارضته، وجعلت الموضوع أشرف، وهو محبّة الله [3] ، فجاء كتابا ادّعى الأصحاب غرابته. وقد وجّه إلى الشرق وصحبته كتاب «تاريخ غرناطة» وغيره من تأليفي. وتعرّف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر، وانتال الناس عليه، وهو في لطافة الإعراض، متكلّف أغراض المشارقة من ملحه: سلّمت لمصر في الهوى من بلد ... يهديه هواؤها لدى استنشاقه من ينكر دعوتي فقل عني له ... تكفي امرأة العزيز من عشّاقه والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه. وصدر عني جزء سمّيته «الغيرة على أهل الحيرة» وجزء سمّيته «حمد الجمهور على السنن المشهور» . والإكباب على اختصار كتاب «التاج [4] » للجوهري وردّ حجمه إلى مقدار الخمس، مع حفظ ترتيبه   [1] وفي نسخة ثانية: تصانيف. [2] هو ديوان الصبابة. طبع بمصر سنة 1302 هـ. [3] يعني كتابه «روضة التعريف بالحب الشريف وهو من كتب التصوف قلّ ان نجد مثله في المكتبة الإسلامية. راجع نفح الطيب ج 5/ 117 وما بعدها. [4] هو كتاب «تاج اللغة وصحاح العربية. وفي مخطوط قديم كتب سنة 851 ذكر اسمه تاج اللغة وسرّ العربية ويعرف بالصحاح أو كتاب الصحيح في اللغة (معجم المطبوعات العربية 1/ 723) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 572 السّهل، والله المعين على مشغلة نقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه. والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيّادة والبنوّة، إذ لا يتعذّر وجود قافل من حجّ، أو لاحق بتلمسان يبعثها السيد الشريف منها، فالنفس شديدة التعطّش، والقلوب قد بلغت من الشوق والاستطلاع الحناجر. والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه، ويلبسك العافية، ويخلّصك وإياي من الورطة، ويحملنا أجمعين على الجادّة. ويختم لنا بالسعادة. والسلام الكريم عودا على بدء، ورحمة الله وبركاته من المحبّ المشوّق الذاكر الداعي ابن الخطيب، في الثاني من جمادى الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة انتهى. (فأجبته) عن هذه المخاطبات، وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته فلم يكن شأوه يلحق. ونصّ الجواب: سيّدي مجدا وعلوّا، وواحدي ذخرا مرجوّا ومحلّ والدي برّا وحنّوا. ما زال الشوق مذ نأت بي وبك الدار، واستحكم بيننا البعاد، يرعي سمعي أنباءك، ويخيّل إليّ من أيدي الرياح تناول رسائلك، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع، وعهد غير مضاع وودّ ذي أجناس وأنواع، فنشر بقلبي ميت السلوّ وحشر أنواع المسرّات، وقدح للقائك زناد الأمل، والله أسأل الامتناع [1] بك قبل الفوت على ما يرضيك، ويسني أمانيّ وأمانيك. وحيّيته تحيّة الهائم، لمواقع الغمائم، والمدلج للصّباح المتبلّج، وأملى على معترج الأولياء [2] خصوصا فيك، من اطمئنان الحال، وحسن القرار، وذهاب الهواجس، وسكون النفرة، وعموما في الدولة من رسوخ القدم، وهبوب ريح النصر، والظهور على عدوّ الله باسترجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة، وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانيّة، غريبة لا تثبت إلّا في الحلم وآية من آيات الله. وإن خبيئة هذا الفتح في طيِّئ العصور السالفة إلى هذه المدّة الكريمة، لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة، حيث أظهر على يدها خوارق العادة، وما تجد آخر الأيام من معجزات   [1] وفي نسخة ثانية: الامتاع. [2] وفي نسخة ثانية: وأملّ على مقترح الأولياء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 573 الملّة، وكمل فيها والحمد للَّه بحسن التدبير ويمن التعبية [1] ، من حميد الأثر، وخالد الذّكر، طراز في حلّة الخلافة النّصريّة، وتاج في مفرق الوزارة. كتبه الله لك فيما يرضاه الله من عباده. ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا العصر المحروس، وأذعته في الملأ سرورا لعزّ الإسلام وإظهارا للنعمة، واستطرادا لذكر الدولة المولويّة بما تستحقّه من طيب الثناء والتماس الدعاء، والتحديث بنعمتها، والإشادة بفضلها على الدول السالفة والخالفة وتقدّمها، فانشرحت الصدور حباء، وامتلأت القلوب إجلالا وتعظيما، وحسنت الآثار اعتقادا ودعاء. وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنوانا، ولما عساه يستعجم من نعتي في مناقبها ترجمانا، زاده الله من فضله، وأمتع المسلمين سكون الغريب من الشوق المزعج [2] ، والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفا لتجافي عرمها عن الأمن [3] والتقويض عن دار العزيز المولى المنعم، والسيّد الكريم، والبلد الطيّب، والإخوان البررة، «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير» وإن تشوّفت السيادة الكريمة إلى الحال، فعلى ما علمتم سيرا مع الأمل، ومغالبة للأيام على الحظّ، وإقطاعا للغفلة جانب العمر. هل نافعي والجدّ في صبب ... مدى مع الآمال في صعد رجع الله بنا إليه، ولعلّ في عظتكم النافعة شفاء من هذا الداء، العياء إن شاء الله، وأنّ لطف الله مصاحب من هذه الرئاسة المزنية، وحسبك بها عليه عصمة وافية [4] ، صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدّها منهم كما علمتم، حين تفاقم الخطب، وتلوّن الدهر، والإفلات من مظانّ النكبة، وقد رنّقت [5] حولها بعد ما جرّته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمّه، قريعة في الملك وقسيمه في النسب، والتياث الجاه، وتغيّر السلطان، واعتقال الأخ المخلّف،   [1] وفي نسخة ثانية: ويمن النقيبة. ويقال رجل ميمون النقيبة أي مظفر المطالب ناجح الفعال. [2] وفي نسخة ثانية: وأمتع المسلمين ببقائه، وبثثته شكوى الغريب من السوق المزعج. [3] وفي نسخة ثانية: للتجافي عن مهاد الأمن. [4] وفي نسخة ثانية: وحسبك بها علمته عصمة وافية. [5] رنقت حولها: أي توقفت. وفي نسخة ثانية: رتعت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 574 واليأس منه لولا تكييف الله في نجائه، والعيث بعده في المنزل والولد، واغتصاب الضياع المقتناة من بقايا ما متّعت به الدولة النّصرية أبقاها الله من النعمة، فآوى إلى الوكر، وساهم في الحادث وأشرك في الجاه والمال، وأعان على نوائب الدهر وطلب الوثر [1] حين رأى الدهر قلاني وأمّل الملوك استخلاصي، وتجاوزوا في إتحافي والله المخلص من عقال الآمال، والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورّطة. وأنبأني سيّدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة في هذه الفتوحات الجليلة، وبودّي لو وقع الإتحاف بها أو بعضها، فلقد عاودني الندم على ما فرّطت. وأمّا أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم من استقرار السلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبدّا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحّدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره، رحمة الله عليه مضايقا في حياته الوطن واحكامه بالعرب، المستظهرين بدعوته، مصانعا لهم بوفرة على أمان الرعايا والسابلة. لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت، ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة خلافا كما علمتم، محمّلا الدولة بصرامته وقوّة شكيمته فوق طوقها، من الاستبداد والضرب على أيدي المستقلين من الأعراب، منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك إلّا ما شمل البلاد من تغلّب العرب ونقص الأرض من الأطراف والوسط، وخمود ذبال [2] الدول في كل جهة وكل بداية إلى تمام. وأمّا أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه [3] . وأمّا المشرق فأخبار الحاجّ هذه السنة من اختلاله، وانتقاض سلطانه، وانتزاء الجفاة على كرسيّه، وفساد المصانع والسقايات المعدّة لوفد الله وحاجّ بيته، ما يسخن العين ويطيل البثّ، حتى زعموا أنّ الهيعة اتصلت بالقاهرة أياما. وكثر الهرج في أزقّتها وأسواقها لما وقع بين سندمر [4] المتغلّب بعد يلبغا الخاصكي، وبين سلطانه ظاهر القلعة، من الجولة التي كانت دائرتها عليه، أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى، من حاشيته، وموالي يلبغا،   [1] الوثر: الثوب الّذي تجلّل به الثياب فيعلوها. وفي نسخة ثانية طلب الوتر: أي الثأر. [2] ذبال ج ذبيلة: الفتيلة. [3] سرّه. [4] وفي نسخة ثانية: أسندمر وهو الأمير الدوادار الكبير في دولة الأشرف وكان دويدارا عن يلبغا الناصري ثم ثار عليه. مات بالإسكندرية سنة 769 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 575 وتقبّض على الباقين، فأودع منهم السجون، وصلب الكثير، وقتل سندمر في محبسه، وألقى زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان فقام بها مستبدّا وقادها مستقلّا، وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب جلّ وعلا. ورغبتي من سيّدي أبقاه الله أن لا يغبّ خطابه عني متى أمكن، أن يصل منّته الجمة، وأن يقبّل عني أقدام تلك الذات المولويّة، ويعرّفه بما عندي من التشيع لسلطانه، والشكر لنعمته، وأن ينهي عني لحاشيته وأهل اختصاصه التحيّة المختلسة من أنفاس الرياض، كبيرهم وصغيرهم. وقد تأدّى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاجّ نافع سلّمه الله تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إيّاه بتلمسان بحضرة السلطان أبي حمّو أيّده الله، فربّما يصل وسيّدي يوضح من ثنائي ودعاني ما عجز عنه الكتاب، والله يبقيكم ذخرا للمسلمين وملاذا للآملين بفضله، والسلام الكريم عليكم، وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب، والأهل والحاشية والأصحاب، من المحبّ فيكم المعتدّ بكم شيعة فضلكم ابن خلدون ورحمة الله وبركاته. عنوانه سيدي وعمادي وربّ الصائع والأيادي والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي إمام الأمّة، علم الأئمّة، تاج الملّة فخر العلماء عماد الإسلام، مصطفى الملوك الكرام، كافل الإمامة، تاج الدول أثير الله، ولي أمير المؤمنين، الغنيّ باللَّه أيّده الله، الوزير أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله، وتولّى عن المسلمين جزاه. (وكتب) إليّ من غرناطة: يا سيدي ووليّ وأخي ومحلّ ولدي، كان الله لكم حيث كنتم ولا أعدمكم لطّفه وعنايته، لو كان مستقرّكم بحيث يتأتى إليه ترديد رسول، وإنفاذ مقتطع [1] أو توجيه نائب، لرجعت على نفسي بالأئمة في إغفال حقّكم، ولكن العذر ما علمتم، واحمدوا الله على الاستقرار في كنف ذلك الفاضل الّذي وسعكم كنفه، وشملكم فضله، شكرا للَّه حسبه الّذي لم يخلف وشهرته التي لم تكدّر. وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ وافد الحرمين بمجموع الفتوح [2] في إيصال كتابي   [1] وفي نسخة ثانية: أو ايفاد متطّلع. [2] كانت العادة عندهم ان يبعثوا باخبار فتوحهم وتوسعاتهم التي تحصل كل سنة، يرسلونها الى الملوك والسلاطين وإلى الحرم النبوي بوجه خاص، وهذا ما أشار إليه ابن الخطيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 576 هذا، وبودّي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رأسها وصدرها، فيكون لكم في ذلك بعض أنس، وربّما تأدّى ذلك في بعضه ممّا لم يختم عليه وظواهر الأمور نحيل عليه في تعريفكم بها، وأما البواطن فممّا لا تتأتى كثرة وجمامة، وأخص ما أظنّ تشوّفكم إليه حالي، فاعلموا أني قد بلغ بي الماء الزبى [1] واستولى عليّ سوء المزاج المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز الشفاء [2] لبقاء السبب، والعجز عن دفعه، وهي هذه المداخلة جعل الله عاقبتها إلى خير، ولم أترك وجها من وجوه الحيلة إلّا بذلته، فما أغنى عني شيئا، ولولا أني بعدكم شغلت الفكر بهذا التأليف مع الزهد، وبعد العهد، وعدم الإلماع بمطالعة الكتب، لم تتمشّ من طريق فساد الفكر إلى هذا الحدّ، وأخر ما صدر عني كناش [3] سميته باستنزال اللطف الموجود في أسر الوجود. أمليته في هذه الأيام التي أقيم فيها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد بودّي لو وقفتم عليه، وعلى كتابي في المحبّة، وعسى الله أن ييسر ذلك. ومع هذا كله والله ما قصّرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم إمّا من جهة أخيكم أو من جهة السيد الشريف أبي عبد الله، حتى من المغرب إذا سمعت الركب متوجها منه، فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا، والأحوال كلها على ما تركتموها عليه، وأحبابكم بخير على ما علمتم من الشوق والتشوّف. والارتماض على مفارقتكم، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه. والله يحفظكم، ويتولّى أموركم، والسلام عليكم ورحمة الله. من المحبّ الواحش ابن الخطيب في ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة. وبباطنه مدرجة نصّها: سيّدي رضي الله عنكم استقرّ بتلمسان في سبيل تقلّب ومسارعة مزاج تعرفونه. صاحبنا المقدّم في الطب أبو عبد الله الشقوري. فإذا اتصل بكم فأعينوه على ما يقف عليه اختياره، وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم. عنوانه سيدي ومحلّ أخي الفقيه الجليل الصدر الكبير المعظّم الرئيس الحاجب العالم   [1] مثل يضرب للشيء الّذي تجاوز الحد. [2] وفي نسخة ثانية: أعوز العلاج. [3] كناش: دفتر تقيد فيه الفوائد والشوارد للضبط، يستعمله المغاربة كثيرا الى اليوم. وقد ذكره التلمساني في نفح الطيب باسم «استنزال اللطف الموجود في سر الوجود» . تاج العروس 4/ 347. ابن خلدون م 37 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 577 الفاضل الوزير ابن خلدون. وصل الله سعده وحرس مجده بمنّه. وإنما طوّلت بذكر هذه المخاطبات، وإن كانت فيما يظهر خارجة عن غرض الكتاب لأنّ فيها كثيرا من أخباري وشرح حالي فيستوفي ذلك منها ما يتشوّف إليه من المطالعين للكتاب. ثم إنّ السلطان أبا حمّو لم يزل معتملا في الإجلاب على بجاية واستئلاف قبائل رياح لذلك، ومعولا علي مشايعتي فيه، ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص، لما كان بينه وبين أخيه صاحب بجاية وقسنطينة من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك، فكان يوفد رسله عليه في كل وقت، ويمرّون بي وأنا ببسكرة فأكّد الوصلة بمخاطبة كل منهما، وكان أبو زيان ابن عمّ السلطان أبي حمّو بعد إجفاله عن بجاية واختلال معسكره قد سار في أثره إلى تلمسان، وأجلب على نواحيها فلم يظفر بشيء، وعاد إلى حصين فأقام بينهم، واشتملوا عليه، ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط. ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم، فخرج في عساكره منتصف تسع وستين وسبعمائة إلى حصين وأبي زيان، واعتصموا بجبل تيطري، وبعث إليّ في استنفار الزواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء، وكتب يستدعي أشياخهم يعقوب بن علي كبير أولاد محمد، وعثمان بن يوسف كبير أولاد سبّاع بن يحيى. وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بامدادهم في ذلك، فأمدّهم، وسرنا مغرّبين إليه حتى نزلنا القطفا بتل تيطري، وقد أحاط السلطان به من جهة التل، على أنه إذا افرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية، وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العبّاس فعسكر بمن استألف من بقايا قبائل رياح، وعسكر بطرف ثنيّة القطفا المفضية إلى المسيلة. وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة، وهم خالد بن عامر كبير بني عامر، وأولاد عريف كبراء سويد، ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا، فأجفلت أحياء الزواودة، وتأخّرنا إلى المسيلة. ثم إلى الزاب، وسارت زغبة إلى تيطري واجتمعوا مع أبي زيان وحصين وهجموا على معسكر أبي حمّو ففلّوه ورجع منهزما إلى تلمسان. ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زغبة ورياح يؤمّل الظفر بوطنه وابن عمّه، والكرة على بجاية عاما فعاما، وأنا على حالي في مشايعته، وإيلاف ما بينه وبين الزواودة، والسلطان أبي إسحاق صاحب تونس وابنه خالد من بعده. ثم دخلت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 578 زغبة في طاعته واجتمعوا على خدمته ونهض من تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية، وذلك في أخريات إحدى وسبعين وسبعمائة فوفدت عليه بطائفة من الزواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله، ونطالعه بما يرسم له في خدمته، فلقيناه بالبطحاء، وضرب لنا موعدا بالجزائر، انصرف به العرب إلى أهليهم، وتخلّفت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم، وصلّيت به عيد الفطر على البطحاء، وخطبت به وأنشدته عند انصرافه من المصلى تهنئة بالعيد وغرضه [1] : هذي الديار فحيّهنّ صباحا ... وقف المطايا بينهنّ طلاحا لا تسأل الأطلال إن لم تروها ... عبرات عينك واكفا ممتاحا فلقد أخذن على جفونك موثقا ... أن لا يرين مع البعاد شحاحا إيه على الحيّ الجميع وربّما ... طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا ومنازل للظاعنين استعجمت ... حزنا وكانت بالسرور فصاحا وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها إلّا هذا. وبينما نحن في ذلك إذ بلغ الخبر بأنّ السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش، وكان أخذ بمخنقه منذ حول، وساقه إلى فاس، فقتله بالعذاب، وأنّه عازم على النهوض إلى تلمسان لما سلف من السلطان أبي حمو أثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبله، من الإجلاب على ثغور المغرب، ولحين وصول هذا الخبر، أضرب السلطان أبو حمّو على ذلك الّذي كان فيه، وكرّ راجعا إلى تلمسان. وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة، فاستألف وجمع وسدّد الرجال وقضى عيد الأضحى، وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس لتعذّر الوجهة إلى بلاد رياح، وقد أظلم الجوّ بالفتنة، وانقطعت السبل، فأذن لي وحمّلني رسالة إلى السلطان ابن الأحمر. وانصرفت إلى المرسي بهنين، وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازا في عساكره، فأجفل بعدي من تلمسان ذاهبا إلى الصحراء على طريق البطحاء. وتعذّر عليّ ركوب البحر من هنين فأقصرت، وتأدّى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين، وأنّ معي وديعة احتملتها إلى صاحب   [1] وفي نسخة ثانية: أهنيه بالعيد، وأحرّضه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 579 الأندلس، تخيّل ذلك بعض الغواة، وكتب به إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة، واستمرّ هو إلى تلمسان، ووافتني السّرية بهنين وكشفوا الخبر، فلم يقفوا على صحّته، وحملوني إلى السلطان فلقيته قريبا من تلمسان، واستكشفني عن ذلك الخبر فأعلمته بنفيه، وعنّفني على مفارقة دارهم، فاعتذرت له لما كان من عمر بن عبد الله المستبدّ عليهم، وشهد لي كبير مجلسه، ووليّ أبيه وابن وليه ونزمار بن عريف، ووزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة، واحتفّت الألطاف، وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية، وأفهمني أنه يروم تملّكها، فهوّنت عليه السبيل في ذلك فسرّ به، وأقمت تلك الليلة في الاعتقال. ثم أطلقني من الغد فعمدت إلى رباط الشيخ الوليّ أبي مدين ونزلت بجواره مؤثرا للتخلي والانقطاع للعلم، لو تركت له. (مشايعة السلطان عبد العزيز صاحب المغرب على بني عبد الواد) ولما دخل السلطان عبد العزيز إلى تلمسان واستولى عليها، وبلغ خبره إلى أبي حمّو وهو بالبطحاء، فأجفل من هنالك، وخرج في قومه وشيعته من بني عامر ذاهبا، إلى بلاد رياح، فسرّح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه. وجمع عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليّه ونزمار وتدبيره. ثم أعمل السلطان نظره ورأى أن يقدّمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطئ [1] أمره، وأحملهم على مناصرته وشفاء نفسه من عدوّه بما كان السلطان أيس [2] من استتباع رياح وتصريفهم فيما يريده من مذاهب الطاعة. فاستدعاني من خلوتي بالعبادة عند رباط الوليّ أبي مدين. وأنا قد أخذت في تدريس العلم واعتزمت على الانقطاع، فآنسني وقرّبني، ودعاني لما ذهب إليه من ذلك، فلم يسعني إلّا إجابته، وخلع عليّ وحملني، وكتب إلى شيوخ الزواودة بامتثال أمري وما ألقيه إليهم من أوامره، وكتب إلى يعقوب بن علي وابن   [1] وفي نسخة ثانية: لأوطد. [2] وفي نسخة ثانية: آنس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 580 مزنى بمساعدتي على ذلك. وأن يحاولوا على استخلاص أبي حمّو من بين أحياء بني عامر، ويحوّلوه إلى حيّ يعقوب بن علي، فودّعته وانصرفت في عاشوراء سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فلحقت الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء، ولقيته ودفعت إليه كتاب السلطان، وتقدّمت أمامه وشيّعني ونزمار يومئذ وأوصاني بأخيه محمد، وقد كان أبو حمّو قبض عليه عند ما أحسن منهم بالخلاف، وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب. وأخرجه معه من تلمسان مقيّدا واحتمله في معسكره، فأكّد على ونزمار في المحاولة على استخلاصه بما أمكن، وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد يبدروني [1] وتقدّم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيّان من بينهم، فسرنا جميعا وانتهينا إلى أحياء حصين وأخبرهم فرج بن عيسى بوصيّة عمه ونزمار إليهم فنبذوا إلى أبي زيّان عهده، وبعثوا معه من أوصله إلى بلاد رياح. ونزل على أولاد يحيى بن علي بن سبّاع، وتوغّلوا به في القفر، واستمريت ذاهبا إلى بلاد رياح، فلمّا انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمّو وأحياء رياح معسكرين قريبا منها في وطن أولاد سبّاع بن يحيى من الزواودة، وقد تسايلوا [2] إليه، وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه، فلما سمعوا بمكاني من المسيلة، جاءوا إليّ فحملتهم على طاعة السلطان عبد العزيز، وأوفدت أعيانهم وأشياخهم على الوزير أبي بكر بن غازي، فلقوه ببلاد الديالم عند نهر واصل، فأتوه طاعتهم، ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوّه. ونهض معهم وتقدّمت أنا من المسيلة إلى بسكرة، فلقيت بها يعقوب بن علي، واتفق هو وابن مزنى على طاعة السلطان، وبعث ابنه محمدا للقاء أبي حمّو، وأمر بني عامر خالد بن عامر يدعوهم إلى نزول وطنه، والبعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز، فوجده متدليا من المسيلة إلى الصحراء. ولقيه على الدّوسن وبات ليلتهم يعرض عليهم التحوّل من وطن أولاد بني سبّاع إلى وطنهم بشرقي الزاب. وأصبح يومه كذلك، فما راعهم آخر النهار إلّا انتشار العجاج خارجا إليهم من أفواه الثنيّة، فركبوا يستشرفون، وإذا بهوادي الخيل طالعة من الثنيّة، وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة منثالة أمام الوزير أبي بكر بن غازي قد دلّ بهم الطريق   [1] البذرقة الخفارة. والمبذرق: الخفير. [2] تسايل القوم: توافدوا من جهة وفي نسخة ثانية تساتلوا وتساتل القوم أي خرجوا متتابعين الواحد تلو الآخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 581 وفد أولاد سباع الذين بعثهم من المسيلة، فلما أشرفوا على المخيّم أغاروا عليه مع غروب الشمس. فأجفل بنو عامر وانتهب مخيم السلطان أبي حمّو ورحاله وأمواله. ونجا بنفسه تحت الليل، وتمزّق شمل ولده وحرمه حتى خلصوا إليه بعد أيام، واجتمعوا بقصور مصاف من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من نهابهم، وانطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة وأطلق الموكّلون به وجاء إلى الوزير وأخيه ونزمار وتلقّوه بما يجب له، وأقام الوزير أبو بكر بن غازي بالدوسن أياما أراح فيها. وبعث إليه ابن مزنى بطاعته وأرغد له من الزاد والعلوفة، وارتحل راجعا إلى المغرب، وتخلّفت بعده أياما عند أهلي ببسكرة، ثم ارتحلت إلى السلطان في وفد عظيم من الزواودة، يقدّمهم أبو دينار أخو يعقوب بن علي وجماعة من أعيانهم. فسابقنا الوزير إلى تلمسان وقدمنا على السلطان فوسعنا من حبائه وتكرمته، ونزله ما بعد العهد بمثله. ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء بعد أن مرّ بقصور بني عامر هنالك، فخرّبها وكان يوم قدومه على السلطان يوما مشهودا، وأذن بعدها لوفود الزواودة في الانصراف إلى بلادهم. وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير ووليّه ونزمار بن عريف، فودّعوه وبالغ في الإحسان وانصرفوا إلى بلادهم. ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيان من بين أحياء الزواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين، فآمرني في ذلك، وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم، فانطلقت لذلك. وكان أحياء حصين قد توجّسوا الخيفة من السلطان، وتنكّروا له، وانصرفوا إلى أهليهم بعد مرجعهم من غزاتهم مع الوزير، وبادروا باستدعاء أبي زيّان من مكانه عند أولاد يحيى بن علي، وأنزلوه بينهم، واشتملوا عليه، وعادوا إلى الخلاف الّذي كانوا عليه أيام أبي حمّو واشتعل المغرب الأوسط نارا. ونجم [1] صبي من بيت الملك في مغراوة وهو حمزة بن علي بن راشد، فرّ من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها، فاستولى على شلف وبلاد قومه، وبعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته، وأعيا داؤه وانقطعت أنا ببسكرة، وحال ذلك ما بيني وبين السلطان إلّا بالكتاب والرسالة. وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفرّ الوزير ابن الخطيب من الأندلس وقدومه على السلطان بتلمسان حين توجّس الخيفة من   [1] نجم: ظهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 582 سلطانه، بما كان له من الاستبداد عليه، وكثرة السعاية من البطانة فيه، فأعمل الرحلة إلى الثغور الغربيّة لمطالعتها بإذن سلطانه، فلمّا حاذى جبل الفتح قبل الفرضة دخل إلى الجبل وبيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد بقبوله. وأجاز البحر من حينه إلى سبتة، وسار إلى السلطان بتلمسان، وقدم عليه بها في يوم مشهود، وتلقّاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النّعم بما لا يعهد بمثله. وكتب إليّ من تلمسان يعرّفني بخبره، ويلمّ ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس، ولم يحضرني الآن كتابه فكان جوابي عنه ما نصّه: الحمد للَّه ولا قوّة إلّا باللَّه، ولا رادّ لما قضى الله. يا سيدي ونعم الذّخر الأبدي، والعروة الوثقى التي أعلقتها [1] يدي أسلّم عليك سلام القدوم على المخدوم، والخضوع للملك المتبوع، لا بل أحيّيكم تحيّة المشوّق للمعشوق، والمدلج للصباح المتبلّج، وأقرّر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي فيه من حبي لكم، ومعرفتي بمقداركم، وذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم، والثناء عليكم، والإشادة في الآفاق بمناقبكم ديدنا [2] معروفا، وسجية راسخة يعلم الله وكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً 4: 79. وهذا كما في علمكم أسنى ما اختلف أوّلا ولا آخرا، ولا شاهدا ولا غائبا، وأنتم أعلم بما تعني نفسه وأكبر شهادة بما في خفايا ضميري، ولو كنت ذلك فقد سلف من حقوقكم، وجميل أخذكم، واجتلاب الحظّ لو هيّأه القدر، لمساعيكم وإيثاري بالمكان من سلطانكم ودولتكم، ما يستلين معاطف القلوب، ويستل سخائم الهواجس، فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة [3] أو إخفار وطن [4] ، ولو تعلّق بقلب ساق حرزرزور [5] فحاش للَّه أن يقدح في الخلوص لكم، أو يرجح سوائبكم [6] ، إنما هي خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء. وو الله وجميع ما يقسم به، ما اطّلع على مستكنّه مني غير صديقي، وصديقكم الملابس، كان لي ولكم، الحكيم الفاضل أبي عبد الله الشّقوري أعزّه الله. نفثة مصدور، ومباثة خلوص، إذ   [1] وفي نسخة ثانية: اعتقلتها. [2] الديدن: العادة. [3] بمعنى الجفوة. [4] وفي نسخة ثانية: أو إحقاق ظن. [5] وفي نسخة ثانية: ولو تعلّق بقلب ساق حرّ ذرء وذرء. وبلغني ذرء من خير أي قليل منه. [6] وفي نسخة ثانية: سوابقكم: ج سابقة ويعني: أياديكم البيضاء التي اسديتموها إليّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 583 أنا أعلم الناس بمكانه منكم، وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان واضمحلال أمره من إجماع الأمر على الرحلة إليكم، والخفوق إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم تعرّضت فيهم للتهم، ووقفت بمجال الظنون، حتى تورّطت في الهلكة بما ارتفع عنّي مما لم آته، ولا طويت العقد عليه، لولا حلم مولانا الخليفة ولولا حسن رأيه في وثبات بصيرته، لكنت في الهالكين الأوّلين، كل ذلك شوقا إلى لقائكم، وتمثّلا لأنسكم، فلا تظنّوا بي الظنون، ولا تصدّقوا التوهّمات، فأنا من قد عملتم صداقة وسذاجة وخلوصا، واتفاق ظاهر وباطن، أثبت الناس عهدا وأحفظهم غيبا، وأعرفهم بوزان الإخوان، ومزايا الفضلاء، ولأمر ما تأخر كتابي من تلمسان، فأني كنت استشعر ممن استضافني ريبا بخطاب سواه، خصوصا جهتكم، لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة، واتصال اليد مع أنّ الرسول تردّد إليّ وأعلمني اهتمامكم واهتمام السلطان تولاه الله باستكشاف ما أبهم [1] من حالي، فلم أترك شيئا مما أعلم تشوّقكم إليه إلّا وكشفت له قناعة، وآمنته على إبلاغه، ولم أزل بعد إيناس المولى الخليفة لدمائي وجذبه بضبعي، سابحا في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر. وسقطت إلي محل مجد خدمتي من هذه القاصية، أخبار خلوصكم إلى المغرب قبل فصول راحلتي إلى الحضرة، غير خلية [2] ولا ملتئمة، ولم يتعيّن ملقي العصا، ولا مستقر النّوى، فأرجأت الخطاب إلى استجلائها، وأفدت من كتابكم العزيز الجاري على سنن الفضل، ومذاهب المجد، غريب ما كيّفه القدر من بديع [3] الحال لديكم، وعجيب تأتّى أملكم الشارد فيه كما كنّا نستبعده عند المفاوضة، فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه، وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين، العائدة بحسن المآل في المخلّف، من أهل وولد ومتاع وأثر بعد أن رضتم جموح الأيام وتوقّلتم قلل العز [4] وقدتم الدنيا بحذافيرها وأخذتم بآفاق السماء على أهلها. وهنيئا فقد نالت نفسكم التوّاقة أبعد أمانيها، ثم   [1] وفي نسخة ثانية: انبهم والأصح استبهم. [2] وفي نسخة ثانية: غير جلية. [3] وفي نسخة ثانية: من تنويع. [4] أي صعدتم قمم العزّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 584 تاقت إلى ما عند الله، وأشهد لما ألهمتم للإعراض عن الدنيا، ونزع اليد من حطامها عند الأصحاب والأقيال، ونهى الآمال إلّا جذبا وعناية من الله وحبّا، وإذا أراد الله أمرا يسّر أسبابه. واتصل بي ما كان من تحفّي السيادة المولويّة بكم واهتزاز الدولة لقدومكم، ومثل هذه الخلافة، أيدها الله من يثابر على المفاخر، ويستأثر بالأخاير، وليت ذلك عند إقبالكم على الحظّ، وأنسكم باجتلاء الآمال، حتى يحسن المتاع، ويتجمّل السرير الملوكي بمكانكم، فالظنّ أنّ هذا الباعث الّذي هزم الآمال ونبذ الحظوظ، وهوّن المفارق العزيز سوّمكم الله حتى يأخذ بيدكم إلى قضاء المجاهدة، ويستوي بكم على جدد [1] الرياضة، «والله يهدي للتي هي أقوم» . كأنّي بالأقدام نقلت والبصائر بإلهام الحق صقلت والمقامات خلفت، بعد أن استقبلت، والعرفان شيمة [2] أنواره وبوارقه، والوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه. وأمّا حالي والظنّ بكم الاهتمام بها، والبحث عنها فغير خفيّة بالباب المولويّ أعلاه الله، ومظهرها في طاعته، ومصدرها عن أمره، وتصاريفها في خدمته، والزعم أني قمت المقام المحمود في التشيّع والانحياش، واستمالة الكافّة إلى المناصحة، ومخالصة القلوب للولاية، وما يتشوّقه مجدكم، ويتطلع إليه فضلكم، وأما اهتمامكم في خاصتها من النفس والولد، فجهينة خبره مؤدي كتابي إليكم، ناشئ تأديبي وثمرة ترتيبي، فسهّلوا له الإذن، وألينوا له جانب النّجوى حتى يؤدّي ما عندكم وما عندي، وخذوه بأعقاب الأحاديث إن يقف عند مباديها، وائتمنوه على ما تحدثون، فليس بضنين [3] على السرّ. وتشوّقي بما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المقرّب في المجد والفضل، المساهم في الشدائد، كبير المغرب، وظهير الدولة، أبو يحيى بن أبي مدين، كان   [1] وفي نسخة ثانية: على جودي: والجودي: جبل مطل على جزيرة ابن عمر، ولعلّ ابن خلدون توصد قوله تعالى «وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ 11: 44» اي رسوّ سفينة نوح عليه السلام على جبل الجودي عند الطوفان (معجم البلدان) . [2] شيمة: ج شيم: الخلق والطبيعة، العادة. وفي نسخة ثانية: شيمت، من شام، شيما السيف: استلّه. وشما وشيوما الرجل: حقق الحملة في الحرب. [3] وفي نسخة ثانية: بظنين: ورجل ظنين: متهم. وهو ينظر الى قوله تعالى: «وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ 81: 24» الآية 24 من سورة التكوير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 585 الله له في شأن الولد والمخلف تشوّق الصديق لكم، الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يديكم، فأطلعوه [1] طلع ذلك، ولا يهمّكم بالفراق الواقع حسن، فالسلطان كبير، والأثر جميل، والعدوّ الساعي قليل حقير، والنيّة صالحة، والعمل خالص، ومن كان للَّه كان الله له. واستطلاع الرئاسة المرتبة [2] الكافلة كافأ الله يده البيضاء عني وعنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم، ويشكر الزمان على ولائه بمثلكم [3] . وقد قرّرت من علو [4] مناقبكم، وبعد شأوكم وغريب منحاكم، ما شهدت به آثاركم الشائعة الخالدة في الرئاسة، المتأدية على ألسنة الصادر والوارد من الكافة، من حمل الدولة، واستقامة السياسة، ووقفته على سلامكم، وهو يراجعكم بالتحيّة، ويساهمكم بالدعاء. وسلامي على سيّدي، وفلذة كبدي ومحلّ ولدي، الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم، أعزّه الله وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدّولة بالمكان العزيز والرتبة النابهة، والله يلحفكم جميعا رداء العافية، والستر ويمهّد لكم محل الغبطة والأمن، ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته، ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته، والسلام الكريم يخصّكم من المحبّ الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم، عبد الرحمن بن خلدون ورحمة الله وبركاته. في يوم الفطر عام اثنين وسبعين وسبعمائة. وكان بعث إليّ مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس عند ما دخل جبل الفتح، وصار إلى إيالة بني مرين، فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب، فرأيت أن أثبته هنا، وإن لم يكن من غرض التأليف لغرابته، ونهايته في الجودة، وأنّ مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب، مع ما فيه من زيادة الاطّلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها ونصّ الكتاب. بانوا فمن كان باكيا يبكي ... هذي ركاب السّرى بلا شكّ فمن ظهور الرّكاب معملة ... إلى بطون الرّبى إلى الفلك   [1] وفي نسخة ثانية: فأطلعوني. [2] وفي نسخة ثانية: الرئاسة المزنية. [3] وفي نسخة ثانية: على ولادة لمثلكم. [4] وفي نسخة ثانية: وقد قررت لعلومه من مناقبكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 586 تصدّع الشّمل مثل ما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السلك من النّوى قبل لم أزل حذرا ... هذا النّوى جلّ مالك الملك مولاي كان الله لكم، وتولّى أمركم. أسلّم عليكم سلام الوداع، وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع، من بعد التفرّق والانصداع، وأقرّر لديكم أنّ الإنسان أسير الأقدار، مسلوب الاختيار، متقلّب في حكم الخواطر والأفكار، وأن لا بدّ لكل أوّل من آخر، وأن التفرّق لمّا لزم كلّ اثنين بموت أو حياة، ولم يكن منه بدّ، كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب، ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور. ويعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم، ومقامه لديكم بحال قلق، ولولا تعليلكم ووعدكم وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم، وقطع نواحل الأيام حريصا على استكمال سنّكم. ونهوض ولدكم واضطلاعكم بأمركم، وتمكن هدنة وطنكم، وما تحمّل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم، وما استقرّ بيده من عهودكم، وأنّ العبد الآن تسبّب لكم في الهدنة من بعد الظهور والعزّ، ونجح السعي وتأتّي لسنين، كثيرة الصلح، ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس مشغّب من القرابة، وتحرّك لمطالعة الثغور الغربيّة، وقرب من فرضة المجاز واتصال الأرض ببلاد المشرق، لطرقته الأفكار وزعزعت صبره رياح الخواطر، وتذكّر أشراف العمر على التمام، وعواقب الاستغراق، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض، فغلبته حال شديدة هزمت التعشّق بالشمل الجميع، والوطن المليح، والجاه الكبير، والسلطان القليل النظير، وعمل بمقتضى قوله «موتوا قبل أن تموتوا [1] » فإن صحّت الحال المرجوة من إمداد الله، تنقّلت الأقدام إلى أمام، وقوى التعلّق بعروة الله الوثقى، وإن وقع العجز، أو افتضح العزم، فاللَّه يعاملنا بلطفه، وهذا المرتكب مرام صعب، لكن سهّله عليّ أمور: منها أنّ الانصراف لما لم يكن منه بد، لم يتعيّن على غير هذه الصورة، إذ كان عندكم من باب المحال، ومنها أنّ مولاي لو سمح لي بغرض الانصراف لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا والله! ولكان الموت أسبق إليّ، وكفى بهذه الوسيلة الحسنة التي يعرفها وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به، وأظنّ أني لا أصدّق، ومنها اغتنام المفارقة في زمن   [1] يعني: موتوا اختيارا قبل ان تموتوا اضطرارا، وذلك يترك الشهوات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 587 الأمان والهدنة الطويلة والاستغناء إذا كان الانصراف المفروض ضروريا قبيحا في غير هذه الحال. ومنها وهو أقوى الأعذار أني مهما لم أطق تمام هذا الأمر أو ضاق ذرعي به، لعجز أو مرض أو خوف طريق، أو نفاد زاد أو شوق غالب، رجعت رجوع الأب الشفيق إلى الولد البرّ الرضيّ، إذ لم أخلّف ورائي مانعا من الرجوع من قول قبيح ولا فعل، بل خلّفت الوسائل المرعيّة، والآثار الخالدة، والسير الجميلة، وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي وكبار وطني وأهل طوري، وتركتكم على أتمّ ما أرضاه، مثنيا عليكم داعيا لكم، وإن فسح الله في الأمد، وقضي الحاجة، فأملى العودة إلى ولدي وتربتي، وإن قطع الأجل فأرجو أن أكون ممّن وقع أجره على الله. فإن كان تصرّفي صوابا وجاريا على السّداد، فلا يلام من أصاب، وإن كان عن حمق، وفساد عقل، فلا يلام من اختلّ عقله، وفسد مزاجه، بل يعذر ويشفق عليه، ويرحم، وإن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل، وجليت الذنوب، ونشرت [1] بعدي العيوب، فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك، ويستحضر الحساب [2] من التربية والتعليم وخدمة السّلف، وتخليد الآثار وتسمية الولد وتلقيب السلطان، والإرشاد إلى الأعمال الصالحة، والمداخلة والملابسة، لم يتخلّل ذلك قط خيانة في مال ولا سرّ، ولا غش في تدبير ولا تعلّق به محار [3] ، ولا كدرة نقص، ولا حمل عليه خوف منكم، ولا طمع فيما بيدكم، وإن لم تكن هذه دواعي الرّعي والوصلة والإبقاء، ففيم تكون بين بني آدم؟ وأنا قد رحلت فلا أوصيتكم بمال، فهو عندي أهون متروك، ولا بولد فهم رجالكم، وخدّامكم، ومن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم، ولا بعيال، فهي من مزيّات بيتكم، وخواصّ داركم، إنّما أوصيكم بحظّي العزيز، كان علي بوطنكم كم، وهو أنتم، فأنا أوصيكم بكم، فارعوني فيكم خاصّة. أوصيكم بتقوى الله والعمل لغد، وقبض عنان اللهو في موطن الجدّ، والحياء من الله الّذي محّص وأقال، وأعاد النعمة بعد زوالها لينظر كيف تعملون، وأطلب منكم عوض ما وفّرته   [1] وفي نسخة ثانية: حشرت. [2] وفي نسخة ثانية: الحسنات. [3] وفي نسخة ثانية: ولا تعلّق به عار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 588 عليكم من زاد طريق ومكافاة وإعانة، زادا سهلا عليكم، وهو أن تقولوا لي: غفر الله لك ما ضيّعت من حقّي خطأ أو عمدا، وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت. واعلموا أيضا على جهة النصيحة أنّ ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل ملك، واعتقاده وبرّه والسؤال عنه وذكره بالجميل، والاذن في زيارته حنانة منكم [1] وسعه ذرع، ودها، فإنّما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت، ثم أقشعت وترك الأزاهر تفوح والمحاسن تلوح، ومثاله معكم مثل المرضعة، أرضعت السياسة، والتدبير الميمون، ثم رفدتكم في مهد الصلح والأمان، وغطّتكم بقناع العافية، وانصرفت إلى الحمّام تغسل اللبن والوضر، وتعود فإن وجدت الرّضيع نائما فحسن، أو قد انتبه فلم تتركه إلّا في حدّ الانفطام. ونختم هذه العزارة بالحلف الأكيد أني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين ولا في دنيا إلّا وقد وفّيت لكم، ولا فارقتكم إلّا عن عجز، ومن ظنّ خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم، والله يرشدكم ويتولّى أمركم. ويعول [2] خاطركم في ركوب البحر. انتهت نسخة الكتاب وفي طيّها هذه الأبيات: صاب مزن الدموع من جفن صبّك ... عند ما استروح الصبا من مهبّك كيف يسلو يا جنّتي عنك وقد [3] ... كان قبل الوجود جنّ بحبّك ثم قل كيف كان قبل انتشاء الروح ... من أنسك الشّهيّ وقربك لم يدع بيتك المنيع حماه ... لسواه إلّا بيت ربّك أول عذري الرّضى فما جئت بدعا ... دمت والفضل والرّضى من دأبك وإذا ما ادّعيت كربا لفقدي ... أين كربي ووحشتي من كربك ولدي في ذراك وكري في دوحك ... لحدي وتربتي في تربك يا زمانا أغرى الفراق بشملي ... ليتني أهبتي أخذت لحرّبك أركبتني صروفك الصّعب حتى ... جئت بالبين وهو أصعب صعبك وكتب آخر النسخة يخاطبني.   [1] وفي نسخة ثانية: نجاية منكم. [2] وفي نسخة ثانية: ونقول. [3] وفي نسخة ثانية: كيف يسلويا جنّتي عنك، وقد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 589 هذا ما تيسّر، والله وليّ الخيرة لي ولكم من هذا الخباط [1] الّذي لا نسبة بينه وبين أولى الكمال، ردّنا الله إليه، وأخلص توكّلنا عليه، وصرف الرغبة على ما لديه. وفي طيّ النسخة مدرجة نصّها. رضي الله عن سيادتكم، أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع، مما استحضره الولد في الوقت، وهو يسلّم عليكم بما يجب لكم، وقد حصل من حظوة هذا المقام الكريم على حظّ وافر، وأجزل إحسانه ونوّه بجرايته، وأثبت الفرسان خلفه، والحمد للَّه. ثم اتّصل مقامي ببسكرة والمغرب الأوسط، مضطرب بالفتنة المانعة من الاتصال بالسلطان عبد العزيز وحمزة بن راشد ببلاد مغراوة والوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمومت وأبو زيان العبد الوادي ببلاد حصين وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته. ثم سخط السلطان وزيره عمر بن مسعود ونكر منه تقصيره في أمر حمزة وأصحابه، فاستدعاه إلى تلمسان وقبض عليه، وبعث به إلى فاس معتقلا، فحبس هنالك، وجهّز العساكر مع الوزير ابن غازي، فنهض إليه، وحاصره ففرّ من الحصن ولحق بمليانة مجتازا عليها، فأنذر به عاملها فتقبّض عليه، وسيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه، فضربت أعناقهم، وصلبهم عظة ومزدجر الأهل الفتنة. ثم أوعز السلطان بالمسير إلى حصين وأبي زيّان، فسار في العساكر واستنفر أحياء العرب من زغبة فأوعبهم ونهض إلى حصين فامتنعوا بجبل تيطري، ونزل الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على جبل تيطري من جهة التل، فأخذ بمخنقهم، وكاتب السلطان أشياخ الزواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة. وكاتب أحمد بن مزني صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم، وكتب إليّ يأمرني بالمسير بهم لذلك، فاجتمعوا عليّ، وسرت بهم أوّل سنة أربع وسبعين وسبعمائة حتى نزلنا بالقطفة [2] ، في جماعة منهم على الوزير بمكانه من حصار تيطري، فحدّ لهم حدود الخدمة، وشارطهم على الجزاء. ورجعت إلى أحيائهم بالقطفة، فاشتدوا في   [1] الخباط: داء كالجنون. [2] القطفة: تقع شرقي مدينة مليانة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 590 حصار الجبل وألجئوهم بسوامّهم وظهرهم إلى قنّته، فهلك لهم الخفّ والحافر [1] ، وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب، وراسل بعضهم في الطاعة خفية فارتاب بعضهم من بعض وانفضّوا ليلا من الجبل، وأبو زيان معهم ذاهبين إلى الصحراء، واستولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلّفهم، ولما بلغوا مأمنهم من القفر نبذوا إلى أبي زيّان عهده، فلحق بجبال غمرة، ووفد أعيانهم على السلطان عبد العزيز بتلمسان، وفاءوا إلى طاعته فتقبّل طاعتهم، وأعادهم إلى أوطانهم، وتقدّم الوزير عن أمر السلطان بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سبّاع للقبض على أبي زيّان في جبل غمرة، وفاء بحق الطاعة لأنّ غمرة من رعاياهم، فمضينا لذلك، فلم نجده عندهم، وأخبرونا أنه ارتحل عنهم إلى بلد واركلا من مدن الصحراء، فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان، فانصرفنا من هنالك، ومضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم، ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة، وخاطبت السلطان بما وقع في ذلك، وأقمت منتظرا أوامره حتى جاءني استدعاؤه إلى حضرته فرحلت إليه. (فضل الوزير ابن الخطيب [2] ) وكان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النّظم والنّثر، والمعارف والأدب، لا يساجل مداه [3] ، ولا يهتدى فيها بمثل هداه. فممّا كتب عن سلطانه إلى سلطان تونس جوابا عن كتاب وصل إليه مصحوبا بهديّة من الخيل والرّقيق، فراجعهم عنه بما نصّه إلى آخره: الخلافة التي ارتفع في عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلّت مباني فخرها الشائع، وعزّها الذائع، على ما أسّسه الأسلاف ووجب لحقّها الجازم، وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها [4] المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا   [1] يعني: الجمال والخيول. [2] هذا الفصل غير موجود في نسختنا وقد أضفناه من نسخة بولاق المصرية، طبعة دار الكتاب اللبناني حتى لا يفوت شيء عن القارئ من هذا الكتاب النفيس. [3] المدّ: مصدر المدى، يقال بيني وبينه قدر مدّ البصر «أي مداه» . [4] العلاء والعلى: الرفعة والشرف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 591 على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض الأفواف [1] ، لما زارها الغمام الوكاف [2] ، ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف [3] ، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها [4] العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحقّ والإنصاف. خلافة وجهة تعظيمنا إذ توجّهت الوجوه ومن نؤثره إذا أهمّنا ما نرجوه، ونفدّيه ونبدّيه [5] إذا استمنح المحقوب واستدفع المكروه السلطان الكذا [6] بن أبي إسحاق بن السلطان الكذا، أبي يحيى بن أبي بكر بن السلطان الكذا، أبي زكريا بن السلطان الكذا، أبي إسحاق ابن الأمير الكذا، أبي زكريا ابن الشيخ الكذا، أبي محمّد بن عبد الواحد بن أبي حفص، أبقاه الله ومقامه مقام إبراهيم رزقا وأمانا. لا يخص جلب الثمرات إليه وقتا ولا يعيّن زمانا، وكان على من يتخطّف الناس من حوله [7] مؤيدا باللَّه معانا. معظّم قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقّه بالابتدار، المثنى على معاليه المخلدة الآثار، في اصونة [8] النّظام والنّثار [9] ، ثناء الروضة المعطار، على الامطار، الداعي الى الله بطول بقائه في عصمة منسدلة الأستار، وعزة ثابتة المركز مستقيمة المدار، وان يختم له بعد بلوغ غايات الحال، ونهاية الأعمال، بالزلفى وعقبي الدار. عبد الله الغنيّ باللَّه أمير المسلمين، محمّد بن مولانا أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر.   [1] كذا بالأصول، ولعل أصل الكلام: «الرياض بالافواف» ، والفوف، بالضم: الزهر والجمع أفواف. [2] وكف الماء: سال. [3] الاستشراف: التطلع الى الشيء. [4] الفواضل: الأيادي الجميلة. [5] فداه: قال له فداك، ونبديه: نبرزه. ولعل المعنى: نضعه في مكان ممتاز. [6] ادخل ابن الخطيب «ل» على «كذا» الموضوعة للكناية عما لم يرد المتكلم ذكره وقد شاع في رسائله هذا الاستعمال. [7] إشارته الى الآيات 35- 37 من سورة إبراهيم واضحة. [8] جمع صوان، وهو ما صنت به الشيء. [9] النثار: النثر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 592 سلام كريم كما حملت أحاديث الازهار نسمات الأسحار، وروت ثغور الاقاحي والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلى على منصة الاشتهار، وجه عروس النّهار، يخص خلافتكم الكريمة النّجار، العزيزة الجار ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله الّذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن قياسها، وجعل الأرواح «اجنادا مجنّدة» - كما ورد في الخبر [1]- تحنّ الى أجناسها، منجد هذه الملّة من أوليائه الجلّة بمن يروض الآمال بعد شماسها [2] ، وييسّر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودّات في ذاته وابتغاء مرضاته على حين أخلاف لباسها، الملك الحقّ، وأصل الأسباب بحوله بعد انتكاث امراسها [3] ومغني النفوس بطوله، بعد إفلاسها- حمدا يدرّ أخلاف [4] النّعم بعد إبساسها [5] ، وينشر رمم الأموال من أرماسها [6] ، ويقدس النّفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها [7] . والصلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها [8] عند اقتناء الأنوار واقتباسها، مطهّر الأرض من أوضارها [9] وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيّد الرّسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها، الآتي مهيمنا على آثارها، في حين فترتها [10] ومن بعد نصرتها واستيئاسها [11] ، مرغم الضّراغم في أخياسها [12] ، بعد افترارها وافتراسها [13] ، ومعفّر أجرام الأصنام ومصّمت أجراسها.   [1] يشير الى الحديث: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . [2] شمست الدابة شماسا. شردت وجمحت. [3] جمع مرس، وهو الحبل. وانتكث الحبل. انتقض بعد ان كان مبرما. [4] الأخلاف، جمع خلف (بالكسر) ، وهو الضرع. [5] أبس بالناقة. دعا ولدها لتدر على حالبها. [6] جمع رمس، وهو القبر. [7] الإبلاس: القنوط، وقطع الرجاء. [8] النبراس (بالكسر) : المصباح. [9] أو ضارها: ج وضر: وسخ. [10] الفترة: ما بين كل نبيين، أو رسولين من زمان انقطعت فيه الرسالة. [11] استيأس: يئس، وابن الخطيب ينظر الى الآية: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا 12: 110 ... إلخ» . [12] جمع خيس، وهو موضع الأسد. [13] افتر الأسد: أبدى أسنانه، يريد بعد أن كانت تفتر عن أسنانها وتفترس. ابن خلدون م 38 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 593 والرّضا عن آله وأصحابه وعثرته وأحزابه، حماة شرعته البيضاء وحرّاسها، وملقحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام [1] مراسها [2] ، ورهبان الدّجى تتكفّل مناجاة السّميع العليم، في وحشة الليل البهيم بإيناسها، وتفاوح نسيم الأسحار، عند الاستغفار، بطيب أنفاسها. والدّعاء لخلافتكم العليّة المستنصريّة بالصّنائع التي تشعشع أيدي العزّة القعساء [3] من أكواسها، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها، وأنباء الفتوح، المؤيّدة بالملائكة والرّوح، ريحان جلّاسها وآيات المفاخر التي ترك الأول للآخر، مكتتبة الأسطار بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وبأسها، والعز والعدل منسوبين لفسطاطها [4] وقسطاسها، وصفيحة [5] النّصر العزيز تقبض كفّها، المؤيّدة باللَّه، على رياسها [6] ، عند اهتياج أضدادها، وشره [7] أنكاسها [8] ، لانتهاب البلاد وانتهاسها [9] وهبوب رياح رياحها وتمرّد مرداسها [10] . فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من كتائب نصره أمدادا تذعن أعناق الأنام، لطاعة ملككم المنصور الأعلام، عند إحساسها [11] ، وآتاكم من آيات العنايات، آية تضرب الصّخرة الصّماء، ممّن عصاها بعصاها، فتبادر بانبجاسها [12] ،- من   [1] الاحتدام: شدة الحر، واحتدمت النار: التهبت. [2] المراس: الممارس. [3] عزة قعساء: ثابتة. [4] الفسطاط: المدينة، ومجتمع أهل المصر حول جامعهم. [5] الصفيحة: السيف العريض. [6] رئاس السيف، ورياسه: مقبضه، وقائمه. [7] الشرة: شدة الحرص، وأسوؤه. [8] الأنكاس: جمع نكس، وهو الرجل الضعيف. [9] انتهس اللحم: أخذه بمقدم أسنانه. والمراد الاستيلاء على الأراضي وانتقاصها من الأطراف، فعل من يتنقص قطعة اللحم بالأكل. [10] رياح من أكثر القبائل الهلالية جمعا، وأوفرهم عددا. وأبوهم: رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر. والرئاسة على رياح في عهد ابن خلدون لأبناء داود بن مرداس بن رياح، وإلى داود هذا تنتسب «الدواودة» . [11] الإحساس: الرؤية والعلم. [12] انبجس الماء: تفجر، وفي الكلام معنى الآية: « ... وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً 7: 160 إلخ» آية 160 من سورة الأعراف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 594 حمراء غرناطة، حرسها الله، وأيام الإسلام، بعناية الملك العلّام تحتفل وفود الملائكة الكرام، لولائمها وأعراسها، وطّاعين الطّعان، في عدوّ الدّين المعان، تجدّد عهدها بعام عمواسها [1] . والحمد للَّه حمدا معادا يقيّد شوارد النّعم، ويستدرّ مواهب الجود والكرم ويؤمّن من انتكاث الجدود [2] وانتكاسها [3] ، وليّ الآمال ومكاسها [4] ، وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها، زهو الرياض بوردها وآسها، وتستمدّ أضواء الفضائل من مقباسها [5] ، وتروي رواة الإفادة، والإجادة غريب الوجادة [6] ، عن ضحّاكها وعبّاسها [7] . وإلى هذا أعلى الله معارج قدركم، وقد فعل، وأنطق بحجج فخركم من احتفى وانتعل، فإنّه وصلنا كتابكم الّذي حسبناه، على صنائع الله لنا، تميمة [8] لا تلقع [9] بعدها عين، وجعلناه- على حلل مواهبه- قلادة لا يحتاج معها زين، ودعوناه من جيب الكنانة [10] آية بيضاء الكتابة، لم يبق معها شكّ ولا مين، وقرأنا منه وثيقة ودّ هضم فيها عن غريم الزّمان دين، ورأينا منه إنشاء، خدم اليراع بين يديه وشّاء، واحتزم بهميان [11] عقدته مشّاء، وسئل عن معانيه الاختراع فقال: «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً» 56: 35   [1] عمواس، بفتح العين والميم، وبسكون الميم مع فتح العين أو كسرها: قرية بفلسطين بين الرملة وبيت المقدس. وفيها وقع الطاعون الّذي كان في سنة 18 هـ، مات فيه كثير من الناس، ويقال انه أول طاعون كان في الإسلام. تاريخ الطبري 4/ 201- 203، معجم البلدان، تاج العروس (عمس) . [2] انتكث: انصرف. والجد: الحظ والبخت، والجمع: الجدود. [3] انتكس: انقلب على رأسه، وخاب وخسر. [4] المكاس: المشاحة، والمشاكسة. [5] أقبس فلان: أعطى نارا، والمقباس: ما قبست به النار. [6] الوجادة (بالكسر) : أن تجد بخط غيرك شيئا، فتقول عند الرواية: وجدت بخط فلان كذا، وحينذاك يقال: «هذه رواية بالوجادة» . وللمحدثين في كيفية التحديث عن طريق الوجادة، ودرجة الثقة بها، وشروطها، تفصيل تجده في «فتح المغيث» للعراقي 3/ 15 وما بعدها. [7] المسمون ب «الضحاك» ، و «عباس» من المحدثين كثير، وليس يريد ابن الخطيب أحدا منهم بعينه، وانما يقصد الى «الطباق» بين ضحاك، وعباس. [8] التميمة: عوذة تعلق على الإنسان يتعود بها. [9] لقعه بعينه: أصابه بها، ويقول أبو عبيدة: ان اللقع لم يسمع الا في الإصابة بالعين. [10] الكنانة: جعبة الشهام تتخذ من جلود لا خشب فيها. [11] الهميان (بالكسر) : المنطقة، والكلام على تشبيه القلم المتخذ من القصب، وفي وسطه عقدة، بالرجل قد اتخذ منطقة في وسطه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 595 ، فأهلا به من عربيّ أبيّ يصف السّانح والبانة [1] ، ويبين فيحسن الإبانة، أدّى الأمانة، وسئل عن حيّه فانتمى إلى كنانة [2] ، وأفصح وهو لا ينبس [3] ، وتهلّلت قسماته وليل حبره يعبس، وكأنّ خاتمه المقفل على صوانه [4] ، المتحف بباكر الورد في غير أوانه، رعف من مسك عنوانه، وللَّه من قلم دبّج تلك الحلل، ونقع بمجاج [5] الدوّاة المستمدّة من عين الحياة الغلل [6] ، فلقد تخارق في الجود، مقتديا بالخلافة التي خلد فخرها في الوجود، فجاد بسرّ البيان ولبابة، وسمح في سبيل الكرم حتّى بماء شبابه، وجمع لفرط بشاشته وفهامته، بعد شهادة السّيف بشهامته، فمشى من التّرحيب، في الطّرس الرّحيب، على أم هامته. وأكرم به من حكيم، أفصح بملغوز [7] الإكسير [8] ، في اللّفظ اليسير، وشرح بلسان الخبير، سرّ صناعة التّدبير [9] ، كأنما خدم الملكة السّاحرة [10] بتلك البلاد، قبل اشتجار الجلاد [11] ، فآثرته بالطّارف من سحرها والتّلاد، أو عثر بالمعلّقة، وتيك القديمة المطلّقة، بدفية دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني   [1] السانح: ما أتاك من عن يمينك من ظبي أو طير، وهو مما يتيمنون به. والبانة واحدة البان، وهو شجر يسمو ويطول في استواء مثل نبات الأثل، ويتخذ منه دهن. [2] كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، أبو القبيلة، وهو الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم. [3] التبس: أقل الكلام، وما نبس بكلمة: أي ما تكلم. [4] الصوان: ما تصون به الشيء. [5] مجاج الدواة: ما تمجه. [6] نقع الماء غلته: أروي عطشه. [7] كذا في الأصول. والصواب «ملغز» ، لأن فعله رباعي. [8] الإكسير: الكيمياء وهي كلمة مولدة. ولأهل الصنعة في الإكسير كلام مغلق طويل فيه العجب. ويطلقون الإكسير أيضا على «الحجر المكرم» ، وهو المادة التي تلقى على المواد حال ذوبانها، فتحولها الى ذهب أو فضة بزعمهم. وانظر تاج العروس (كسر) . [9] صناعة التدبير: يعني بها تحويل المعادن الى الذهب أو الفضة، وتلك كانت، ولا تزال، مشكلة المشتغلين بعلم الكيمياء القديم. [10] يعني بالملكة الساحرة الكاهنة البربرية، من قبيلة جراوة إحدى قبائل زناتة. [11] اشتجر القوم: تشابكوا، وتشاجروا بالرماح: تطاعنوا. والجلاد: الضرب بالسيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 596 الحنايا [1] ، قبل أن تقطع به عن أمانيه المنايا، ببديعة، أو خلف جرجير [2] الرّوم، قبل منازلة القروم، على وديعة، أو أسلمه ابن أبي سرح [3] ، في نشب للفتح وسرح [4] ، أو حتم له روح بن حاتم [5] ببلوغ المطلب، أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب [6] ، أو خصّه زيادة الله بمزيد [7] ، أو شارك الشّيعة في أمر أبي يزيد [8] ، أو سار على منهاج، في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كلّ هاج. وأعجب به، وقد عزّز منه مثنى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع، واسترقاق الطّباع، بين مثان للإبداع ومثالث، كيف اقتدر على هذا المحيد، وناصح مع التثليث مقام التوحيد، نستغفر الله وليّ العون، على الصّمت والصّون، فالقلم هو الموحّد قبل الكون، والمتّصف من صفات السّادة، أولي العبادة، بضمور الجسم   [1] الحنايا: جمع حنية، وهي القوس. ويريد بها: مجرى الماء الّذي اجتلب الى «قرطاجنة» ووضع على أعمدة عالية، عقدت بأقواس وصلت بين عدة جبال منحازة من بعض، ثم أجرى الماء فوق هذه «الحنايا» العالية. وكانت المسافة بين قرطاجنة، وبين منبع الماء ثلاثة أيام، ولا تزال بقايا هذه موضع العبرة من مشاهديها. انظر ياقوت- (معجم البلدان) . [2] هو الطريق الّذي كانت له الولاية على المغرب من قبل الإمبراطور البيزنطي. وقد انفصل عن بيزنطة، واستقل بالمغرب عند الفتح الإسلامي، والعرب يسمونه جرجير. وابن الخطيب يشير اليّ ما كان من الحوادث بين الجيش الإسلامي، وبين جرجير أيام الفتح. [3] هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان كتاب الوحي للرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم ارتد، وأهدر دمه يوم فتح مكة، وكان محمد بن أبي بكر الصديق يقول عنه حين ولي مصر: انه لم يعد الى الإسلام بعد ردته. ابن الأثير 3/ 57، 82. [4] النشب: المال والعقار، والسرح: المال يسأم في المرعى، يغدى به ويراح. وقد صالح أهل افريقية عبد الله بن أبي سرح على مليونين وخمسمائة ألف دينارا، وبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألفا، وقد أصبح هذا المبلغ مضرب المثل، وإلى ذلك ينظر ابن الخطيب. انظر العبرم 2. [5] هو روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، كان من الكرماء الأجواد. ولي الكوفة، ثم السند، ثم البصرة أيام المهدي، وولي إفريقية أيام الرشيد، وبها توفي سنة 174. وفيات الأعيان 1/ 235. [6] هو الأغلب بن سالم، أحد الذين قاموا مع أبي مسلم الخراساني بالدعوة العباسية، وتولى الأغلب أيام المنصور ولاية القيروان، وابنه إبراهيم بن الأغلب، هو رأس دولة الأغالبة بتونس، التي تبتدئ سنة 184 هـ، وتنتهي سنة 296 هـ. [7] زيادة الله هو ثاني ملوك بني الأغلب، (201- 223) قلده الخليفة المأمون العباسي. [8] هو أبو يزيد: مخلد بن كيداد (أو كتداد) بن سعد الله بن مغيث اليفرني، وقد عرف أيضا بصاحب الحمار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 597 وصفرة اللّون، إنّما هي كرامة فاروقيّة، وأثارة [1] من حديث سارية [2] وبقيّة، سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب، عن كريم جناب، وإصابة السّهم لسواه محسوبة، وإلى الرّامي الّذي سدّده منسوبة، ولا تنكر على الغمام بارقة، ولا على المتحقّقين بمقام التّوحيد كرامة خارقة، فما شاءه الفضل من غرائب برّ وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشّكر فيها وسجد، حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع من مهبّها، واستزارت غمائم الطباع من مصبّها، فآتت أكلها مرّتين بإذن ربّها، لا. بل كتيبة عزّ طاعنت بقنا [3] الألفات سطورها، فلا يرونها النّقد ولا يطورها [4] ، ونزعت عن قسيّ النّونات خطوطها، واصطفّت من بياض الطّرس [5] ، وسواد النّفس، بلق [5] تحوطها. فما كأس المدير، على الغدير [6] ، بين الخورنق [7] والسّدير [8] ، تقامر بنرد [9] الحباب، عقول ذوي الألباب، وتغرق كسرى في العباب [10] ، وتهدي،- وهي الشّمطاء [11]- نشاط الشّباب، وقد أسرج ابن سريج [12] وألجم، وأفصح   [1] الأثارة البقية. [2] يشير الى قصة سارية بن زنيم بن عمر بن عبد الله بن جابر الكناني أمير الجيش الإسلامي في وقعة «نهاوند» ، فقد كمن له العدو في جبل، ولم يكن قد علم به، فناداه عمر رضي الله عنه من فوق المنبر بالمدينة يحذره «يا سارية! الجبل!» فسمع سارية صوت عمر. وهي كرامة ذكروها للفاروق رضي الله عنه. تاج العروس (سري) . [3] جمع قناة، وهي الرمح. [4] لا يطورها: لا يقرب اليها. [5] الطرس: الصحيفة التي محيت ثم كتبت. والنقس: الحبر. وبلق: جمع أبلق، أو بلقاء، وهي الخيول التي في لونها سواد وبياض. [6] يشير إلى قصة امرئ القيس يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. [7] الخورنق: قصر النعمان بن المنذر بظاهر الحيرة. [8] السدير قصر للنعمان أيضا بالحيرة، قريب من الخورنق. [9] النرد: أعجمي معرب، وورد في الحديث: «نردشير» ، وهو نوع مما يقامر به. [10] بنى كسرى أبرويز- فوق دجلة- بناء اتخذه لمجالس أنسه، ففاضت دجلة وأغرقته مرات، أنقذ كسرى فيها من الغرق- والى ذلك يشير ابن الخطيب. انظر الطبري 2/ 144- 145. [11] امرأة شمطاء: بيضاء الشعر، ويكنى بذلك عن قدم الخمر. [12] أبو يحيى عبيد الله بن سريج المغني المعروف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 598 الغريض [1] بعد ما جمجم، وأعرب النّاي [2] الأعجم، ووقّع معبد [3] بالقضيب، وشرعت في حساب العقد [4] بنان الكفّ الخضيب، وكأنّ الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثّقيل بثانية [5] ، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه، المراود تشرع في الوشي، أو العناكب تسرع في المشي، وما المخبر بنيل الرّغائب، أو قدوم الحبيب الغائب، لا. بل إشارة البشير، بكمّ المشير، على العشير، بأجلب للسرور، من زائره المتلقّى بالبرور، وأدعى للحبور، من سفيره المبهج السفور، فلم نر مثله من كتيبة كتاب تجنب [6] الجرد، تمرح في الأرسان [7] ، وتتشوّف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهزّ معاطف [8] الارتياح، من صهيلها الصراح، بالنّغمات الحسان، إذا أوجست الصّريخ نازعت أفناء الأعنّة، وكاثرت بأسنّة آذانها مشرعة الأسنّة، فإن ادّعى الظليم [9] أشكالها فهو ظالم، أو نازعها الظّبي هواديها [10] وأكفالها فهو هاذ أو حالم، وإن سئل الأصمعي [11] عن عيوب الغرر والأوضاح [12] ، قال مشيرا إلى وجوهها الصّباح [13] :   [1] أبو يزيد، وأبو مروان: عبد الملك. ولقب بالغريض لأنه كان طري الوجه غض الشباب، وهو من مولدي البربر. أخذ الغناء عن ابن سريج، وعارضه في كل أصواته. [2] الناي: المزمار. [3] هو معبد بن وهب المغني المعروف. غنى في دولة بني أمية، ومات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق. [4] حساب العقد، ويسمى حساب العقود أيضا: نوع من الحساب يكون بأصابع اليدين، ويقال له حساب اليد، وفي الحديث: «وعقد عقد تسعين» . وقد ألفوا فيه رسائل وأراجيز، منها أرجوزة أبي الحسن علي الشهير بابن المغربي، وشرحها عبد القادر بن علي بن شعبان العوفيّ. [5] كذا في الأصول، ومقتضى السياق: «الثقيل الأول بثانيه» . [6] من الجنب: وهو أن تجنب فرسا عريا عند الرهان الى الفرس الّذي تسابق عليه، فإذا فتر المركوب، تحولت الى المجنوب. ويريد أن هذه الرسالة بمنزلة خيول احتياطية. [7] جمع رسن، وهو الحبل يتخذ زماما للدابة وغيرها. [8] المعاطف: الأردية، والعرب تضع الرداء موضع البهجة، والحسن، والبهاء، والنعمة. [9] الظليم: فرس فضالة بن هند بن شريك الأسدي. والظليم ذكر النعام. [10] هوادي الخيل: أعناقها. [11] عبد الملك بن قريب، اللغوي المشهور (122- 216) ، على خلاف في المولد والوفاة. وابن الخطيب يشير الى ما عرف عن الأصمعي من خبرته الواسعة بالخيل، وله في ذلك مع أبي عبيدة معمر بن المثنى قصة طريفة. انظرها في ترجمة الأصمعي في وفيات ابن خلكان 1/ 362. [12] جمع غرة: وهي البياض، والوضح: البياض أيضا. ويكنى به في الفرس عن البرص، والجمع أوضاح. [13] وجه صبيح: جميل، والجمع صباح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 599 «جلدة بين العين والأنف سالم» [1] من كلّ عبل الشّوى [2] ، مسابق للنّجم إذا هوى، سامي التّليل [3] ، عريض ما تحت الشّليل [4] ، ممسوحة أعطافه بمنديل النّسيم البليل. من أحمر كالمدام، تجلى على النّدام [5] ، عقب الفدام [6] ، أتحف لونه بالورد، في زمن البرد، وحيّي أفق محيّاه بكوكب السّعد، وتشوّف الواصفون إلى عدّ محاسنه فأعيت على العد، بحر يساجل البحر عند المدّ، وريح تباري الرّيح عند الشّدّ [7] ، بالذّراع الأشدّ [8] ، حكم له مدير فلك الكفل باعتدال فصل القدّ، وميّزه قدره المميّز عند الاستباق، بقصب السّباق [9] ، عند اعتبار الحدّ، وولّد مختطّ غرّته أشكال الجمال، على الكمال، بين البياض والحمرة ونقاء الخد، وحفظ رواية الخلق الوجيه [10] ، عن جدّه الوجيه [11] ، ولا تنكر الرواية على الحافظ ابن الجدّ [12] .   [1] شطر بيت قاله عبد الله بن عمر لما لامه الناس في حب ابنه سالم، وأوله: يديرونني عن سالم وأريغهم ... وجلدة إلخ وجعله لمحبته بمنزلة جلدة بين عينه وأنفه. وفي الحديث: «لا تؤذوا عمارا، فإنما عمار جلدة ما بين عيني» . وسالم هذا، يكنى أبا عمر، وأبا المنذر، من خيار الناس، وفقهائهم. مات بالمدينة سنة 106. لسان العرب (سلم) . [2] شوى الفرس: قوائمه، وعبل الشوى: غليظ القوائم. [3] التليل العنق. [4] الشليل الحلس، والكساء الّذي يجعل تحت الرحل. [5] جمع نديم وهو الشريب الّذي ينادمك. [6] الفدام الخرقة التي يضعها الساقي من الأعاجم، والمجوس على فمه عند السقي. وكانت عادتهم، إذا سقوا، ان يفدموا أفواههم. وفدام الإبريق، والكوز: المصفاة التي توضع عليه. [7] الشد: العدو. [8] الأشد الأقوى، يقال حلبتها بالساعد الأشد، أي حين لم اقدر على الرّفق، أخذت الأمر بالشدة والقوة. [9] كانت الغاية التي يحددونها للسباق تذرع بالقصب، ثم تركز القصبة في منتهى الغاية، فمن سبق اقتلعها وأخذها، ليعلم الناس أنه السابق من غير نزاع، ويقال حاز أو أحرز قصبة السبق. تاج (قصب) . [10] الوجيه: ذو الجاه. [11] الوجيه: فرس من خيل العرب نجيب. [12] يومي ابن الخطيب الى أبي بكر محمد بن عبد الله بن فرج الفهري المعروف بابن الجد (496- 586) . أصله من «لبلة» ، واستوطن إشبيلية، وعاصر ابن رشد الفقيه، وابا بكر بن العربيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 600 وأشقر، أبي الخلق، والوجه الطّلق أن يحفر، كأنّما صيغ من العسجد، وطرف بالدّر وأنعل بالزبرجد، ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة [1] ، واختصّ بفلج [2] الخصام، عند اشتجار المعركة، وانفرد بمضاعف السّهام، المنكسرة على الهام، في الفرائض المشتركة [3] ، واتّصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطّبع من أصناف الحركة، أصغى إلى السّماء بأذن ملهم، وأغرى لسان الصّهيل- عند التباس معاني الهمز والتّسهيل- ببيان المبهم، وفتنت العيون من ذهب جسمه، ولجين نجمه، بالدّينار والدّرهم، فإن انقضّ فرجم، أو ريح لها حجم، وإن اعترض فشفق لاح به للنّجم نجم. وأصفر قيّد الأوابد الحرّة، وأمسك المحاسن وأطلق الغرّة، وسئل من أنت في قوّاد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب؟ فقال: أنا المهلّب بن أبي صفرة [4] ، نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحثى به وجوه الحرب العوان [5] ، أغار بنخوة الصّائل [6] ، على معصفرات الأصائل [7] ، فارتداها، وعمد إلي خيوط شعاع الشّمس، عند جانحة الأمس، فألحم منها حلّته وأسداها، واستعدت عليه تلك المحاسن فما أعداها، فهو أصيل تمسّك بذيل اللّيل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من الفتام ليله، فيحسده فرقد [8] الأفق وسهيله [9] .   [1] يشير الى حديث: «ان يمن الخيل في شقرتها» ، رواه الإمام أحمد في المسند 2/ 272. [2] الفلج: الظفر والفوز. [3] يومئ الى المعاني التي تعارفها الفقهاء بينهم في باب «التوارث» من الفقه الإسلامي، فالسهم: النصيب الّذي فرضه الشارع للوارث، وانكسار السهام يكون حيث تضيق التركة عن استيفاء الفرائض كاملة، وبتقرر العول. [4] أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة الأزدي. له مع الخوارج حروب ومواقع ظهرت فيها شجاعته. وفيات الأعيان 2/ 191- 195. [5] الحرب العوان: الحرب التي سبقتها حرب أخرى. [6] النخوة: العظمة، والكبر، والصائل: المستطيل المتوثب. [7] الأصيل: العشي، والجمع الأصائل. [8] الفرقد: واحد الفرقدين، وهما كوكبان من صورة بنات نعش الصغرى، ويقال الفرقد على الكوكبين معا. [9] سهيل: كوكب من الكواكب الجنوبية، ولذلك لا يراه سكان البلدان الشمالية مثل خراسان، وأرمينية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 601 وأشهب تغشّى من لونه مفاضة، وتسربل منه لأمة فضفاضة، قد احتفل زينه، لمّا رقم بالنّبال لجينه، فهو الأشمط، الّذي حقه لا يغمط، والدّارع [1] المسارع، والأعزل الذّارع [2] ، وراقي الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع [3] . وأكرم به من مرتاض سالك، ومجتهد على غايات السّابقين الأولين متهالك، وأشهب [4] يروي من الخليفة، ذي الشّيم المنيفة، عن مالك. وحبارى [5] كلّما سابق وبارى، استعار جناح الحبارى، فإذا أعملت الحسبة، قيل من هنا جاءت النّسبة، طرد النّمر، لما عظم أمره وأمر [6] ، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزّه الفروة ملطّخة بدمه، وكأنّ مضاعف الورد نثر عليه من طبقة، أو الفلك، لمّا ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه .... وقرطاسي حقّه لا يجهل ، «متى ما ترقّى العين فيه تسفّل» [7] ، إن نزع عنه جلّة [8] ، فهو نجم كلّه، انفرد بمادّة الألوان، قبل أن تشوبها يد الأكوان، أو تمزجها أقلام الملوان [9] ، يتقدّم الكتيبة منه لواء ناصع، أو أبيض مناصع [10] ، لبس وقار المشيب، في ريعان العمر القشيب، وأنصتت الآذان من صهيلة المطيل المطيب، لمّا ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب، وإن تعتّب منه للتأخير متعتّب، قلنا: الواو لا ترتب [11] ، ما بين فحل وحرّة، وبهرمانة [12] ودرّة، ويا لله   [1] رجل دارع: ذو درع. [2] ذرع: أسرع، كأنه لسرعته يقيس المسافات بالذراع. [3] الفارع: المرتفع، الحسن، والبارع: التام في كل فضيلة. [4] يوري بأشهب بن عبد العزيز المالكي أبو عمر المصري. وقد تقدم ذكره. [5] الحباري: لونه لون الحباري. والحباري بضم الحاء، وفتح الباء المخففة، وراء مفتوحة بعد ألف: طائر رمادي اللون، وهو أشد الطير طيرانا، وأبعدها شوطا. ولذلك يقول: ان سرعة هذا الفرس تأتي من شبهه بالحبارى الّذي له هذه الصفة. حياة الحيوان للدميري 1/ 196. [6] أمر: كثر. [7] عجز بيت لامرئ القيس وصدره: ورحنا يكاد الطرف بقشر دونه متى إلخ. وفي الأصول: « ..... فيه تسهل» . والمثبت رواية الديوان، وشرحه للبطليوسي ص 34 طبع التقدم سنة 1223 هـ. [8] جل الفرس، وجاله: الغطاء الّذي تلبسه إياه لتصونه. [9] الملوان: الليل والنهار. [10] الناصع: الخالص من كل شيء، والمناصع: المجالس. جمع منصع. [11] يشير الى قول النحاة: ان العطف بالواو لا يفيد ترتيبا بين معطوفاتها. [12] البهرمان: نبات بأرض العرب يصبغ به، يقال له العصفر، ولونه دون الأرجوان في الحمرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 602 من ابتسام غرّة، ووضوح يمن في طرّة [1] ، وبهجة للعين وقرّة، وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصّوا الحديث بفري الأديم [2] ، وأوجف المتعصّب، وإن أبى المنصب، مرتبة التّقديم، وطمح الى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقورن المثري بالعديم، وبخس في سوق الكسد الكيل، ودجا الليل، وظهره في فلك الأنصاف الميل، لمّا تذوكرت الخيل، فجيء بالوجيه [3] والخطّار [4] ، والذائد [5] وذي الخمار [6] وداحس [7] والسّكب [8] ، والأبجر [9] وزاد الرّكب [10] ، والجموح [11] واليحموم [12] ، والكميت [13] ومكتوم [14] ، والأعوج [15] وحلوان، ولاحق والغضبان، وعفزر، والزّعفران والمحبّر واللّعّاب، والأغرّ والغراب، وشعلة والعقاب، والفياض واليعبوب، والمذهب واليعسوب، والصّموت والقطيب، وهيدب والصّبيب، وأهلوب وهدّاج،   [1] الطرة: الناصية، اشارة الى الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة» . [2] الأديم: الجلد، وفريه: قطعه. وهو يشير إلى قول ابن شرف القيرواني: أغرى الناس بامتداح القديم ... وبذم الحديث غير الذميم ليس إلا لأنهم حسدوا ... الحي ورقوا على العظام الرميم [3] الوجيه: فرس لغني بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان. وهو مما سمي من جياد الفحول، والإناث المنجبات. تاج العروس (وجه) ، مخصص 6/ 195. [4] الخطار: فرس حذيفة بن بدر الفزاري. وله ذكر في حرب داحس والغبراء. المخصص 6/ 196، تاج (خطر، دحس) . [5] الذائذ: فرس نجيب من نسل الحرون، ومن أبنائه أشقر مروان. تاج (ذاد) . [6] ذو الخمار: فرس للزبير بن العوام، ولمالك بن نويرة الشاعر. المخصص 6/ 194 تاج (خمر) . [7] داحس: فرس قيس بن زهير بن جذيمة العبسيّ. له ذكر في حرب داحس والغبراء المخصص 6/ 196، تاج (دحس) ، وانظر مجمع الأمثال: «أشأم من داحس» 1/ 256. [8] السكب: من أفراس النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أول فرس ملكه. المخصص 6/ 193، تاج (سكب) . [9] الأبجر: من خيل غطفان بن سعد، وهو فرس عنترة بن شداد العبسيّ. تاج (بجر) . [10] زاد الركب: فرس للأزد، وهو من أقدم فرسان العرب. [11] الجموح (كصبور) : فرس مسلم بن عمرو الباهلي، وفرس للحكم بن عرعرة النميري تاج (جمع) . [12] اليحموم: فرس النعمان بن المنذر، ولذلك كان يقال للنعمان فارس اليحموم. وسمي باليحموم عدة أفراس. تاج 8/ 261. [13] الكميت: ذكر في تاج العروس في (كمت) عشرة أفراس باسم الكميت، مع أسماء أصحابها. [14] مكتوم: فرس لغني بن أعصر، من جياد الفحول. تاج (كتم) . [15] أعوج (بلا لام) : فرس لبني هلال، تنسب إليه الأعوجيات، كان لكندة فأخذته سليم، ثم صار إلى بني هلال، بعد أن كان لبني آكل المرار. تاج (عوج) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 603 والحرون وخراج، وعلوي والجناح، والأحوى ومجاح، والعصا والنّعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وخوصاء والعرادة [1] ، فكم بين الشّاهد والغائب، والفروش والرّغائب [2] ، وفرق ما بين الأثر والعيان، غنيّ عن البيان، وشتّان بين الصّريح والمشتبه، وللَّه درّ القائل: «خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به [3] » والنّاسخ [4] يختلف به الحكم، وشرّ الدواب عند التفضيل بين هذه الدّوابّ الصّمّ البكم [5] إلّا ما ركبه نبيّ، أو كان له يوم الافتخار وبرهان خفي [6] ومفضّل ما سمع على ما رأى غبيّ، فلو أنصفت محاسنها التي وصفت، لأقضمت [7] حبّ القلوب علفا، وأوردت ماء الشّبيبة نطفا [8] ، واتخذت لها من عذر [9] الخدود الملاح عذر موشيّة [10] ، وعلّلت بصفير الحان القيان كلّ عشيّة، وأنعلت بالأهلّة، وغطيت بالرياض بدل الأجلّة [11] . إلى الرقيق [12] ، الخليق بالحسن الحقيق، يسوقه إلى مثوى الرعاية روقة [13] الفتيان رعاته، ويهدي عقيقها من سبحه [14] أشكالا تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقفت ناظر الاستحسان لا يريم [15] ، لما بهره منظرها الوسيم، وتخامل   [1] العرادة وما قبلها: أسماء أفراس لرجال مشهورين من رؤساء قبائل العرب القدامى. [2] الرغائب: جمع رغيبة، وهي الأمر المرغوب فيه. تاج (رغب) . [3] صدر بيت للمتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وعجزة عن شرح العكبريّ 2/ 68 طبع الشرفية: « .......... ... في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل» . [4] النسخ في مصطلح أهل أصول الفقه: إنهاء حكم شرعي ثبت بنص شرعي، وإحلال حكم آخر بدله بنص شرعي جاء دليلا على انتهاء الحكم الأول والناسخ: هو النص الأخير الّذي بمقتضاه يرتفع الحكم الأول، ويلغي النص السابق. [5] الإشارة الى الآية 22 من سورة الأنفال. [6] خفي: خاف، مستور. [7] القضم: أكل القضيم، وهو شعير الدابة، وأقضم الدابة: قدم لها القضيم. [8] النطفة: الماء الصافي، والجمع نطف. [9] العذار: خط لحية الغلام، والجمع عذر. [10] العذار من اللجام: السيران اللذان يجتمعان عند قفا الفرس، والجمع عذر. [11] جل الدابة: ما تغطى به، والجمع جلال، وجمع جلال: أجلة. [12] الرقيق: الضعيف لا صبر له على شدة البرد، ونحوه. [13] الروقة من الغلمان الملاح منهم، يقال غلمان روقة: أي حسان، والمفرد رائق. [14] السبج: خرز أسود. [15] لا يريم: لا يبرح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 604 الظّليم [1] ، وتضاؤل الريّم [2] وأخرس مفوّه [3] اللسان، وهو بملكات البيان، الحفيظ العليم، وناب لسان الحال، عن لسان المقال، عند الاعتقال [4] ، فقال يخاطب المقام الّذي أطلعت أزهارها غمائم جوده، واقتضت اختيارها بركات وجوده: لو علمنا أيّها الملك الأصيل، الّذي كرم منه الاجمال والتفصيل، أنّ الثناء يوازيها، لكلنا لك بكيلك، أو الشّكر يعادلها ويجازيها، لتعرّضنا بالوشل [5] إلى نيل نيلك [6] ، أو قلنا هي التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر بقوله: «أدرك بخيلك» ، حين شرق بدمعه الشّرق [7] ، وانهزم الجمع واستولى الفرق، واتسع فيه- والحكم للَّه- الخرق [8] ورأى أن مقام التّوحيد بالمظاهرة على التّثليث، وحزبه الخبيث، الأولى والأحق. والآن قد أغنى الله بتلك النيّة، عن اتخاذ الطوال الردينيّة [9] ، وبالدّعاء من تلك المثابة الدينيّة إلى ربّ المنيّة [10] ، وعن الجرد العربيّة، في مقاود اللّيوث الأبية، وجدّد برسم هذه الهديّة، مراسيم العهود الوديّة، والذّمم الموحّديّة، لتكون علامة على الأصل، ومكذّبة لدعوى الوقف والفصل، وإشعارا بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل، ولأمها حراما على النّصل [11] . وحضر بين يدينا رسولكم، فقرّر من فضلكم ما لا ينكره من عرف علوّ مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم، وأجبناه عنه بجهد [12] ما كنّا   [1] الظليم: ذكر النعام، وفرس فضالة بن شريك الأسدي. [2] الريم: الظبي الخالص البياض. [3] رجل مفوه: يجيد القول. [4] اعتقل لسانه: حبس، ولم يقدر على الكلام. [5] الوشل: الماء القليل. [6] النيل: نهر مصر. والنيل (بالفتح) : العطاء. [7] يريد شرق الأندلس. [8] يشير الى المثل: «اتسع الخرق على الرافع» الّذي يقال عند استفحال الأمر، والعجز عن إصلاحه. تاج (خرق) . [9] الردينية: منسوبة إلى ردينة، وهي امرأة السمهري، وكانا يقومان الرماح والقنا بخط هجر، فيقال: الرماح الردينية، والحطية، نسبة الى الشخص تارة، وإلى الموضع أخرى. [10] البنية: الكعبة، وكانت تسمى بنية إبراهيم، وكثر قسمهم بها فيقولون: «لا ورب هذه البنية» . [11] اللام: جمع لأمة، وهي الدرع. والنصل: حديدة السهم والرمح. اللسان (نصل) . [12] الجهد (بالفتح) المشقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 605 لنقنع من جناه [1] المهتصر [2] ، بالمقتضب المختصر، ولا لنقابل طول طوله [3] بالقصر، لولا طروّ الحصر [4] . وقد كان بين الأسلاف- رحمة الله عليهم ورضوانه- ودّ أبرمت من أجل الله معاقده [5] ، ووثرت للخلوص [6] ، الجليّ النّصوص، مضاجعه القارّة ومراقده، وتعاهد بالجميل يوجع لفقده فاقده، أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده، فنحن الآن لا ندري أيّ مكارمكم نذكر، أو أيّ فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي في الحقيقة عندنا فتح، أم هديّتكم، وفي وصفها للأقلام سبح [7] ، ولعدوّ الإسلام بحكمة حكمتها كبح [8] ، إنّما نكل الشّكر لمن يوفّي في جزاء الأعمال البرّة، ولا يبخس مثقال الذّرّة ولا أدنى من مثقال الذّرّة، ذي الرّحمة الثّرّة [9] ، والألطاف المتّصلة المستمرّة، لا إله إلّا هو. وإن تشوّفتم إلى الأحوال الرّاهنة، وأسباب الكفر الواهية بقدرة الله- الواهنة [10] ، فنحن نطرفكم بطرفها [11] ، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفيها، وهو أننا لمّا أعادنا الله من التّمحيص، إلى مثابة التّخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرّر على من قبلنا وعلينا- أن الدّنيا- وإن غرّ الغرور [12] وأنام على سرر الغفلة السّرور، فلم ينفع الخطور [13] على أجداث [14] الأحباب والمرور،-   [1] الجنى: ما يجتنى من الشجر وغيره. [2] المهتصرة الممال، يقال هصرت الغصن: إذا أملته إليك. [3] الطول (بالضم) : خلاف العرض. والطول (بالفتح) : المن، يقال طال عليه: إذا امتن. [4] الحصر: العي، وعدم القدرة على الابانة. [5] المعاقد: العقد. [6] وثر الفراش (بالضم) : وطؤ ولان. [7] السبح: الجري. [8] كبح الفرس: جذبه إليه باللجام يمنعه عن الجري. [9] الرحمة الثرة: الغزيرة الكثيرة. [10] وهي، وهن: ضعف. [11] جمع طرفة (بالضم) : الشيطان، [12] وفي القرآن: «ولا يغرنكم باللَّه الغرور» . [13] الخطور: التبختر في المشي. [14] جمع جدث: وهو القبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 606 جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي ولا يحبر [1] ، إنّما هو خبر يخبر، وأن الحسرة بمقدار ما على تركه يجبر، وأنّ الأعمار أحلام، وأنّ النّاس نيام، وربما رحل الرّاحل عن الخان [2] ، وقد جلّله بالأذى والدّخان، أو ترك به طيبا، وثناء يقوم بعد للآتي خطيبا، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا [3] ، والتفقّد للثّغور مسواكا، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ» 61: 10 [4] من حجج الاستشهاد، وبادرنا رمق [5] الحصون المضاعة وجنح [6] التّقيّة [7] دامس [8] ، وعواريها [9] لا تردّ يد لامس [10] ، وساكنها بائس، والأعصم [11] في شعفاتها [12] من العصمة يائس، فزيّنّا ببيض الشّرفات ثناياها، وأفعمنا بالعذب الفرات ركاياها [13] وغشّينا بالصّفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفي الأجور ثوابها، وبيّضنا بناصع الكلس أثوابها، فهي اليوم توهم حسّ العيان، أنها قطع من بيض العنان [14] ، وتكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفّلة للمؤمنين من فزع الدّنيا والآخرة بالأمان، وأقرضنا الله قرضا، وأوسعنا مدوّنة الجيش [15] عرضا، وفرضنا إنصافه مع الاهلّة فرضا، واستندنا من التّوكل على الله الغنيّ الحميد إلى ظلّ لواء، ونبذنا إلى الطّاغية   [1] يخبر ينعم ويسر ويكرم. [2] الخان المكان الّذي ينزله المسافرون، وهو الفندق. [3] ملاك الأمر: ما يقوم به ذلك الأمر. [4] يشير الى الآيات (10- 13) من سورة الصف. [5] الرمق: بقية الحياة والروح. وفي الكلام تجوز. [6] جنح الطريق: جانبه، وجنح القوم: ناحيتهم. [7] التقية: التحفظ. [8] ليل دامس: مظلم. [9] جمع عارية، وهي المتجردة من الثياب. والعورات: الخلل في الثغر وغيره، يتخوف منه في الحروب. [10] يقال للمرأة التي تزني: لا ترديد لامس، أي لا ترد من يريدها عن نفسها. [11] الأعصم: الوعل، وعصمته: بياض في رجله. [12] الشعفات، جمع شعفة، وهي رءوس الجبال. [13] جمع ركية وهي البئر. [14] العنان: السحاب. [15] يريد الجيش الرسمي الّذي كان مدونا في سجلات الدولة. وفي مقدمة الإحاطة 1/ 19، 36 وصف للجيش الأندلسي، وسلاحه، وأقسامه، وذكر لمقدار ما كان يأخذه كل شهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 607 عهده على سواء [1] وقلنا: ربّنا أنت العزيز، وكلّ جبّار لعزّك ذليل، وحزبك هو الكثير، وما سواه قليل، أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض [2] علينا مدارع [3] الصّابرين، واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظّافرين، وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فتحرّكنا أول الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خفّ من الحشود، واقتصار على ما بحضرتنا من العساكر المظفّرة والجنود، إلى حصن آشر [4] البازي المطلّ، وركاب العدوّ الضالّ المضلّ، ومهدي نفثات [5] الصّلّ [6] ، على امتناعه وارتفاعه، وسمو يفاعه [7] ، وما بذل العدوّ فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده، فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره [8] ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة، وجلا مده الملمومة [9] وأحجاره، حتى فرعنا [10] بحول من لا حول ولا قوة إلا به- أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن البلاد والعباد أضراره، بعد أن استضفنا إليه حصن السّهلة جاره، ورحلنا عنه بعد أن شحنّاه رابطة وحامية، وأزوادا نامية، وعملنا بيدنا في رمّ ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسابقة الرّجال، واقتدينا بنبيّنا- صلوات الله عليه وسلامه- في الخندق [11] لمّا حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول حديثه والارتجال [12] ، وما كان ليقرّ للإسلام مع تركه القرار، وقد كثب الجوار،   [1] نبذ العهد: نقضه، وألقاه الى من كان بينه وبينه. والتعبير مقتبس من الآية 58 من سورة الأنفال. [2] أفض: أفرغ. [3] جمع مدرع: وهو ضرب من الثياب. [4] حصن آشر: يقع الى الجنوب الشرقي لحصن ورطة، على ضفة رافد من روافد نهر شنيل. [5] نفثت الحية السم: إذا لسعت بأنفها، فإذا عضت بابها قيل: نشطت. [6] الصل (بالكسر) : الحية التي لا تنفع فيها الرقية. [7] اليفاع: ما ارتفع من الأرض. [8] الأوار (بالضم) : حرارة النار، والشمس، والعطش. [9] جلامدة، جمع جلمد، وهو الصخر. والملمومة: المستديرة الصلبة. [10] فرعنا: علونا. [11] كانت غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة. الطبري 3/ 43. [12] نقل السهيليّ في الروض الأنف عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل الهدي: أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يرتجز يوم الخندق فيقول: بسم الإله وبه بدنيا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 608 وتداعى الدّعرة [1] وتعاوى الشّرار [2] . وقد كنا أغرينا من بالجهة الغربية من المسلمين بمدينة برغه التي سدت بين القاعدتين رندة ومالقة الطريق، وألبست ذلّ الفراق ذلك الفريق، ومنعتهما أن يسيغا الريق، فلا سبيل الى الإلمام، لطيف المنام، إلا في الأحلام، ولا رسالة إلا في أجنحة هدل [3] الحمام، فيسّر الله فتحها، وعجّل منحها، بعد حرب انبتّت فيها النّحور، وتزيّنت الحور. وتبع هذه الأمّ بنات شهيرة، وبقع للزّرع والضّرع خيرة [4] ، فشفي الثّغر من بوسه، وتهلّل وجه الإسلام بتلك النّاحية النّاجية بعد عبوسة. ثم أعملنا الحركة إلى مدينة إطريرة [5] ، على بعد المدى، وتغلغلها في بلاد العدا، واقتحام هول الفلا وغول الرّدى، مدينة تبنّتها حمص [6] فأوسعت الدّار، وأغلت الشّوار [7] ، وراعت الاستكثار، وبسطت الاعتمار [8] ، رجّح لدينا قصدها على البعد، والطّريق الجعد، ما أسفت [9] به المسلمين من استئصال طائفة من أسراهم، مرّوا بها آمنين، وبطائرها المشئوم متيمنين، قد أنهكهم [10]   [ () ] ولو عبدنا غيره شقينا فحبذا ربا وحب دينا سيرة ابن هشام 3/ 227، 228. [1] رجل داعر (بالمهملة) : يسرق، يزني، ويؤذي الناس، والجمع دعرة. [2] تعاوت الشرار: تجمعت للفتنة، وتعاووا عليه: تعاونوا وتساعدوا. [3] الهديل: ذكر الحمام. والجمع هدل، كسرير وسرر. [4] الخيرة: المختار من كل شيء، يريد: بقاع مختارة للزرع والضرع. [5] اطريرة (Ultrera) :تقع الجنوب الشرقي من إشبيلية على بعد 39 كلم، وقد ضبطت بكسر الهمزة وسكون الطاء. [6] يريد إشبيلية، سماها حمص جند بني أمية الّذي نزل بها حين جاء من حمص الشام. وقد فعلوا ذلك في كثير من مدن الأندلس. ياقوت (معجم البلدان) . [7] الشوار: متاع البيت، ويريد به ما تعارف عليه الفقهاء، مما يشترى من الصداق الّذي يدفعه الزوج، وتجهز به الزوجة من حلى، وغطاء، ووطاء إلخ، ذلك لأنه جعل «حمص» أما لا طريرة قد زوجتها وجهزتها، فتغالت- لما في الأم من حب لابنتها- في هذا الجهاز إلخ. فجاء بالألفاظ الفقهية بمعانيها التي اصطلحوا عليها. [8] يريد بالاعتمار: الاستعمار، والاستغلال. [9] أسفاه: أطاشه حلمه، وحمله على الطيش. [10] أنهكهم: أجهدهم، وأضناهم. ابن خلدون م 39 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 609 الاعتقال، والقيود الثقال، وأضرعهم الإسار وجلّلهم الإنكسار، فجدّلوهم [1] في مصرع واحد، وتركوهم عبرة للرّائي والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواجد [2] ، وترة الماجد [3] ، فكبسناها كبسا، وفجأناها بإلهام من لا يضلّ ولا ينسى وصبّحتها الخيل، ثم تلاحق الرّجل لمّا جنّ الليل، وحاق بها الويل، فأبيح منها الذّمار [4] ، وأخذها الدّمار، ومحقت [5] من مصانعها البيض الأهلّة وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهلها الضّلوع الحرار [6] ، وسلّطت على هياكلها النّار، واستولى على الآلاف العديدة من سبيها، وانتهى إلى إشبيلية الثّكلى المغار [7] فجلّل وجوه من بها من كبار النّصرانية الصّغار [8] ، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقله [9] الأوقار [10] . وعدنا والأرض تموج سبيا، لم نترك بعفرين شبلا [11] ولا بوجرة ظبيا [12] ، والعقائل [13] حسرى، والعيون يبهرها الصّنع الأسرى [14] وصبح السّرى قد حمد من بعد المسرى [15] ، فسبحان الّذي أسرى [16] ، ولسان الحميّة ينادي، في تلك الكنائس المخرّبة والنّوادي: يا لثارات الأسرى!   [1] فجدلوهم: صرعوهم. [2] الثكل: فقد المرأة ولدها، وفقد الرجل ولده أيضا، والواجد: الغضبان. [3] الترة: الذحل والثأر. والماجد: الكريم، ومن له آباء متقدمون في الشرف. [4] الذمار: ما وراء الرجل مما يحق له ان يحميه. والدمار (بالمهملة) : الهلاك. [5] المحق: النقصان وذهاب البركة. لسان العرب (محق) . [6] الضلوع الحرار: العطشى. [7] المغار: مصدر ميمي بمعنى الإغارة. [8] جلل وجوههم: عم وجوههم. والصغار: الذل. [9] أقل الشيء: أطاق حمله. [10] الأوقار: جمع وقر، وهو الجمل. وأكثر ما يستعمل في حمل البغل والحمار. [11] عفرين بلد تكثر فيه الأسود. والشبل: ولد الأسود. [12] وجرة: فلاة بوسط نجد، لا تخلو من شجر، ومياه، ومرعى. والوحش فيها كثير. (تاج- وجر) . [13] جمع عقيلة، وهي المرأة الكريمة، النفيسة. [14] الصنع الأسرى: الأشراف، والأرفع. [15] ينظر الى المثل: «عند الصباح يحمد القوم السري» ، الّذي يضرب للرجل يحتمل الشقة رجاء الراحة. انظر الميدان 2/ 304. [16] اقتباس من الآية 1 من سورة الإسراء. وأسرى: سار ليلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 610 ولم يكن إلا أن نفلت الأنفال [1] ، ووسمت بالأوضاح الأغفال [2] ، وتميّزت الهوادي والأكفال [3] ، وكان إلى غزو مدينة جيّان الاحتفال، قدنا إليها الجرد [4] تلاعب الظلال نشاطا، والأبطال تقتحم الأخطار رضى بما عند الله واغتباطا، والمهنّدة الدّلق [5] تسبق إلى الرقاب استلالا واختراطا، واستكثرنا من عدد القتال احتياطا، وأزحنا العلل عمّن أراد جهادا منجيا غباره من دخان جهنّم ورباطا، ونادينا الجهاد! الجهاد! يا أمّة الجهاد! راية النّبيّ الهادي! الجنّة تحت ظلال السّيوف الحداد!، فهزّ النداء إلى الله تعالى كلّ عارم وغامر [6] ، وائتمر الجمّ من دعوى الحق إلى أمر آمر، وأتى النّاس من الفجوج [7] العميقة رجالا وعلى كل ضامر [8] ، وكاثرت الرّايات أزهار البطاح لونا وعدا، وسدّت الحشود مسالك الطّريق العريضة سدّا، ومدّ بحرها الزّاخر مدّا، فلا يجد لها النّاظر ولا المناظر حدّا. وهذه المدينة هي الأمّ الولود، والجنّة التي في النّار لسكّانها من الكفّار الخلود، وكرسيّ الملك، ومجنبة [9] الوسطى من السّلك، باءت بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان بغيرها من أمّات [10] البلدان، رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيّات السّود، ومنصّب [11] التّماثيل الهائلة، ومعلّق النّواقيس المصلصلة.   [1] الأنفال: جمع نفل، وهو الغنيمة: ونفلت: أعطيت. [2] الأوضاح، جمع وضح، وهو البياض. والاغفال: الاراضي الموات، يقال ارض عفل: لا علم بها، ولا سمه. [3] هو ادى كل شيء: أوائله. يريد: تميز الشجعان الذين كانوا يتصدرون المعركة، من الاكفال (جمع كفل) : وهم الذين يكونون في مؤخر الموقعة همتهم التأخر، والفرار. [4] جمع أجرد، وهو الفرس القصير الشعر، وذلك في علامات العتق والكرم. [5] سيف دلق: سهل الخروج من غمده، والجمع: دلق. [6] العامر من الأرض: المستغل. والغامر: الّذي يغمره الماء، ويراد به الأرض التي لم تستثمر. يريد: أقبل الناس من كل جانب. [7] جمع فج، وهو الطريق البعيد، والواسع، والّذي بين جبلين. [8] الجمل الضامر: الخفيف الجسم. [9] المجنبة: التي تأخذ مكانها جانب الجوهرة الوسطى من العقد. يريد ان مدينة جيان تحتل المرتبة الثانية بالقياس الى حضرة الملك. [10] أمات، جمع أم، ويغلب أن تأتي جمعا لام ما لا يعقل. وانظر اللسان «أم» ، «أمه» . [11] منصب اسم مكان، بمعنى الموضع الّذي أقيمت فيه هذه التماثيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 611 فأدنينا إليها المراحل، وعنينا ببحار المحلّات المستقلّات منها السّاحل [1] ، ولما أكثبنا [2] جوارها، وكدنا نلتمح [3] نارها، تحرّكنا إليها ووشاح [4] الأفق المرقوم، بزهر النّجوم، قد دار دائره، واللّيل من خوف الصّباح، على سطحه المستباح، قد شابت غدائره، والنّسر [5] يرفرف باليمن طائره، والسّماك الرّامح [6] يثأر بعز الإسلام ثائره، والنّعائم راعدة [7] فرائص [8] الجسد، من خوف الأسد [9] ، والقوس [10] يرسل سهم السّعادة [11] ، بوتر العادة، إلى أهداف النعم المعادة، والجوزاء [12] عابرة نهر المجرّة [13] ، والزهرة [14] تغار من الشّعري العبور [15]   [1] أحل فلان أهله بمكان كذا: جعلهم يحلونه. واستقل القوم: ذهبوا وارتحلوا. [2] اكثب: قارب، ودنا من الشيء. [3] التمحه: أبصره بنظر خفيف. [4] الوشاح: شيء ينسج عريضا من أديم، ويرصع بالجواهر، وتشده المرأة بين عاتقها وكشحها. [5] النسران: كوكبان شآميان، أحدهما واقع، والأخر طائر. فالواقع كوكب نير، خلفه كوكبان أصغر منه، يكونان معه صورة الاتافي، ويقولون: هما جناحاه وقد ضمهما إليه حين وقع. أما الطائر، فهو إزاء النسر الواقع في ناحية الشمال، وتفصل بينهما المجرة، وهو كوكب منير بين كوكبين تخيلوهما جناحيه قد نشرهما. وانظر كتاب «الأنواء» لابن قتيبة ص 133 لسان (نسر) . [6] السماء الرامح: نجم نير شمالي، خلفه كوكبان بمنزلة الرمح له. وهو نجم لا نوء له ويقابله السماك الأعزل، وهو من منازل القمر. [7] النعائم: منزلة من منازل القمر، وهي أربعة كواكب مربعة على طرف المجرة. وهناك نعائم واردة، ونعائم صادرة، فالواردة منها هي التي ترد في نهر المجرة، والصادرة قد وردت وصدرت، أي رجعت عنها. لسان العرب (نعم) . [8] راعدة الفرائص: فزعة، مرتجفة، والفرائص، جمع فريصة، وهي مرجع الكتف الى الخاصرة في وسط الجنب. [9] الأسد: أحد البروج الشمالية الاثني عشر. وكواكبه 34 كوكبا. [10] القوس، ويسمى الرامي: أحد البروج الاثني عشر من البروج الجنوبية، وهو كوكبة على صورة شخص نصفه الأعلى إنسان، بيده قوس يرمي به، والنصف الأسفل منه على صورة فرس. وكواكبه 31 كوكبا، ويقع خلف كوكبة العقرب. [11] السهم- في مصطلح المنجمين: عبارة عن موضع في دائرة فلك البروج، يقع بين طولي كوكبين من الكواكب السيارة. ولهم في استخراجه طرق حسابية معروفة، ولهذا الموضع المعين دلالة خاصة. وأقوى السهام: سهم السعادة، وسهم الغيب. [12] الجوزاء، وتسمى التوأمين: برج من بروج الشمس الشمالية، وهي صورة إنسانين رأسهما، وسائر كواكبهما في الشمال والمشرق عن اجرة، وأرجلهما الى الجنوب والمغرب في نفس المجرة، وهما كالمتعانقين. كواكبها 25 كوكبا. [13] المجرة: البياض الّذي يرى في السماء، وتسمى عند العوام بسبيل التبانين، وهي كواكب صغار، متقاربة، متشابكة لا تتمايز حسا، بل هي لشدة تكاثفها وصغرها صارت كأنها لطخات سحابية، والعرب تسميها أم النجوم لاجتماع النجوم فيها. عجائب المخلوقات للقزويني 1/ 32 وما بعدها. [14] الزهرة، كتؤدة: نجم أبيض مضيء من الكواكب السبعة السيارة، ويسميها المنجمون السعد الأصغر، لأنها في السعادة دون المشتري. تاج العروس (زهر) . [15] الشعري العبور (بكسر الشين) : كوكب نير من كوكبة الجوزاء، في حجم الزهرة ونورها تقريبا، يقال لها الشعرى العبور، ومرزم الشعرى، ذكرت في القرآن: «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى» 53: 49 (49 من سورة النجم) . وقد عبدها قوم من العرب في الجاهلية. وسميت العبور لأنها- فيما يزعمون- عبرت السماء عرضا، ولم يعبرها غيرها، فلذلك عبدوها. تاج العروس (شعر) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 612 بالضّرّة، وعطارد [4] يسدي في حبل الحروب، على البلد المحروب [5] ويلحمه، ويناظر على أشكالها الهندسيّة فيفحمه، والأحمر [6] يبهر، وبعلمه الأبيض يغري وينهر، والمشتري يبدئ في فضل الجهاد ويعيد، ويزاحم في الحلقات، على ما للسّعادة من الصّفقات، ويزيد [7] ، وزحل [8] عن الطّالع [9] منزحل [10] ، وعن العاشر [11] مرتحل، وفي زلق السّعود وحل، والبدر يطالع حجر المنجنيق [12] ، كيف يهوي إلى النّيق [13] ، ومطلع الشّمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب. ولما فشا سرّ الصباح، واهتزت أعطاف الرّايات بتحيّات مبشّرات الرّياح أطللنا [14] عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس، فنظرنا منظرا يروع بأسا ومنعة [15] ، ويروق وضعا وصنعة، تلفّعت [16] معاقلة الشّم للسّحاب ببرود،   [4] عطارد، ويسمى- في عرف أهل المغرب- الكاتب: كوكب من السبعة السيارة. واقترانه بزحل يدل على الخسف والزلزال، وبالمريخ يدل على الشدائد. [5] المحروب: المسلوب المال، المنهوب. [6] الأحمر وهو المريخ: دليل على الحروب وأصحابها، فإذا كان في البرج الرابع من الطالع، دل ذلك على كثرة القتل في الحروب، وشدة الهول. [7] زحل، والمشتري، والمريخ، إذا اقترنت بعضها ببعض، أو تناظرت، بأن كانت ناظرة بعضها إلى بعض نظر عداوة، وذلك عند التربيع والمقابلة- إذا حصل ذلك عند حلول الشمس برأس الحمل، فان ذلك يدل على وقوع حرب. [8] رحل، وهو كيوان: إذا اتصل به القمر اتصال عداوة، فان ذلك يدل على البلايا والرزايا. [9] الطالع: هو البرج الّذي على الأفق الشرقي. [10] زحل عن مكانه: زل، وحاد. [11] العاشر: هو البرج الّذي يقع فوق سمت الرأس. [12] المنجنيق (بفتح الميم وكسرها) : آلة لرمي الحجارة على العدو في الحرب. شفاء الغليل ص 133. [13] النيق: أرفع موضع في الجبل. [14] أطللنا عليها: أشرفنا عليها. [15] منعة: قوة تمنع من يريده بسوء. [16] تلفع: تلحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 613 ووردت من غدر المزن في برود [1] ، وأشرعت لاقتطاف أزهار النجوم والذراع بين النطاق معاصم رود [2] ، وبلدا يحيي الماسح والذارع [3] ، وينظم المحاني والأجارع [4] ، فقلنا: اللَّهمّ نفّله أيدي عبادك، وأرنا فيه آية من آيات جهادك، ونزلنا بساحتها العريضة المتون، نزول الغيث الهتون، وتيمّنّا من فحصها بسورة «التين والزّيتون» ، متبرئة من أمان الرحمان للبلد المفتون، وأعجلنا الناس بحميّة نفوسهم النفيسة، وسجيّة شجاعتهم البئيسة [5] ، عن أن تبوّأ [6] للقتال المقاعد [7] ، وتدني بأسماع شهير النفير منهم الأباعد، وقبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم، فدفعوا من أصحر إليهم من الفرسان. وسبق إلى حومة الميدان [8] ، حتى أحجروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد [9] ، في موقف يذهل الوالد عن الولد، صابت السّهام فيه غماما [10] ، وطارت كأسراب الحمام تهدى حماما [11] ، وأضحت القنا قصدا [12] ، بعد أن كانت شهابا رصدا، وماج بحر القتام [13] بأمواج النّصول، وأخذ الأرض الرجفان لزلزال الصّياح الموصول، فلا ترى إلّا شهيدا تظلّل مصرعه الحور [14] ، وصريعا تقذف به الى الساحل تلك البحور، ونواشب [15] تبأى [16] بها الوجوه الوجيهة عند الله والنّحور،   [1] البرود من الشراب: ما يبرد الغلة. [2] رخصة ناعمة. [3] مسح الأرض: قاس مساحتها. وذرعها: قاسها بالذراع. [4] المحاني، جمع محنية، وهي منعرج الوادي، وما انحنى من الأرض. والاجارع، جمع أجرع، وهي الأرض الطيبة المنبت، والأرض فيها حزونة. [5] الشديدة البأس. [6] تبوأ: تهيأ. [7] المقاعد: مواقف للقتال تعين لكل واحد من المقاتلين، يعني عجلنا بالهجوم قبل ان يتخذ كل مقاتل مكانا معينا، اشارة الى الآية «وَإِذْ غَدَوْتَ من أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» 3: 121 (121 من سورة آل عمران) . [8] حومة الميدان: أسد موضع فيه وقت القتال. [9] الجلد: القوة، والصبر. [10] صابت السهام غماما: نزلت كالغمام لكثرتها. [11] الحمام (بالكسر) : قضاء الموت وقدره. [12] قصدا: قطعا، يقال: القنا قصد أي مكسورة. [13] القتام: الغبار. [14] جمع حوراء، وهي التي اشتد بياض عينها، وسواد سوادها. [15] نواشب: سهام ناشبة في وجوه المحاربين، أو في أعناقهم. [16] تبأى بها: تنشق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 614 فالمقضب [1] ، فوده [2] يخضب، والأسمر، غصنه يستثمر، والمغفر [3] ، حماه يخفر، وظهور القسيّ تقصم [4] ، وعصم الجند الكوافر تفصم [5] ، وورق اليلب [6] في المنقلب يسقط، والبيض تكتب والسّمر تنقط [7] ، فاقتحم الربض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون المبصرين والمستبصرين عزّة دينه، وتبرّأ الشيطان من خدينه [8] ، ونهب الكفّار وخذلوا، وبكلّ مرصد جدّلوا، ثمّ دخل البلد بعده غلابا، وجلّل [9] قتلا واستلابا، فلا تسل إلا الظّبا [10] والأسل [11] عن قيام ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت [12] والمباني، وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأول الى الوجود الثّاني [13] ، وتخارق السّيف فجاء بغير المعتاد، ونهلت القنا الرّدينيّة من الدّماء، حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسيّ وسحّت، وأرنّت حتى بحّت، ونفدت موادّها فشحّت، مما ألحّت، وسدّت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوه الشّأفة وقطع الدّابر [14] ، وأزلف الشّهيد وأحسب الصّابر [15] ، وسبقت رسل الفتح الّذي لم يسمع بمثله في   [1] سيف مقضب: قطاع. [2] الفود: معظم شعر اللمة مما يلي الاذن. واسناد ذلك للسيف على جهة التوسع. [3] المغفر: ما يلبسه الدارع على رأسه من الزرد ونحوه. [4] تقصم: تكسر. [5] عصم الكوافر: جمع عصمة، وأصل العصمة الجبل، وكل ما أمسك شيئا فقد عصمه. والكوافر جمع كافرة وهو يريد هنا أن الجند جماعات، فصح له جمع فاعل على فواعل. تفصم: تقطع وتنفصل. مقتبس من الآية: «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» . 60: 10 [6] اليلب: الدروع، والدرق. [7] البيض: السيوف. والسمر: الرماح. [8] الخدين: الصديق. [9] جلل قتلا: عمه القتل. [10] الظبا، جمع ظبة، وهي حد السيف، والسنان، والنصل، والحنجر، ونحوها. [11] الأسل: عيدان طوال دقاق مستوية لا ورق لها، وتسمى الرماح والقنا أسلا، على التشبيه بها في الطول، والاستواء، والدقة. [12] المبائت، جمع مبيت، مكان البيتوتة. [13] يعني بالوجود الأول: الوجود الخارجي، وهو المرئي بالعين الملموس. أما الوجود الثاني فهو الوجود الذهني، والمعنى أن هذه المدينة قد أصبحت موجودة في الأذهان صورتها بعد أن كانت موجودة العين. وانظر معيار العلم للغزالي ص 37. وشرح المقاصد للسعد 1/ 57 (طبع إستانبول سنة 1277 هـ) . [14] الشأفة: الأصل، واستأصل شأفته أي أصله. وقطع الدابر: استأصل آخرهم. [15] أزلف الشهيد: قربه اليه. وأحسب الصابر: أعطاه ما يرضي، أو أعطاه حتى قال حسبي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 615 الزّمن الغابر. تنقل البشرى من أفواه المحابر، إلى آذان المنابر. أقمنا بها أياما نعقر الأشجار [1] ، ونستأصل بالتّخريب الوجار [2] ، ولسان الانتقام من عبدة الأصنام، ينادي: يا لثارات الإسكندريّة [3] تشفيا من الفجار [4] ، ورعيا لحق الجار، وقفلنا وأجنحة الرّايات، برياح العنايات، خافقة وأوفاق [5] ، التّوفيق، النّاشئة من خطوط الطّريق، موافقة، وأسواق العزّ باللَّه نافقة، وحملاء الرّفق مصاحبة- والحمد للَّه مرافقة، وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق الصّهب السّبال [6] ، ورفعت على الأكفال، ردفاء كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام الجبال، بالهندام [7] والاحتيال، وهلك بمهلك هذه الأمّ هذه الأمّ بنات كنّ يرتضعن ثديها الحوافل [8] ، ويستوثرن حجرها الكافل، شمل التّخريب أسوارها، وعجّلت النّار بوارها.   [1] نعقر الأشجار: نقطع رءوسها، فتيبس. [2] الوجار (بالكسر ويفتح) : جحر الضبع، والأسد، والثعلب، والذئب ونحوها. [3] يشير ابن الخطيب الى «الواقعة» التي حدثت بالإسكندرية سنة 767 هـ، ومجملها ان حاكم قبرص، انتهز غيبة حاكم الاسكندرية في الحجاز للحج، فهاجم البلد في اسطول بلغت قطعه نحو 70 فيما قالوا، وقد خرج أهل الاسكندرية للنزهة غير مقدرين للخطر، وكانت الحامية الموجودة قليلة، والأسوار والحصون خالية من المدافعين، فهاجم العدو الأهالي العز الآمنين، ففروا الى المدينة، وأغلقوا عليهم الأبواب، فأحرقها العدو واقتحم البلد عليهم.. فكانت مذابح هتكت فيها حرمات. وانظر تفصيلها في العبرم 5. [4] شبّه مهاجمة الاسكندرية الآمنة بحرب «الفجّار» ، التي سميت بذلك لما استحل فيها من حرمات، حيث كانت في الأشهر الحرم. [5] أوفاق، جمع وفق، وهي مربعات تحتوي على بيوت مربعة صغيرة، وتوضع في تلك البيوت أرقام، أو حروف، على نظام بحيث لا يتكرر عدد في بيتين، وبحيث يكون مجموع أضلاع المربع، ومجموع أقطارها متساويا، ويسمى الوفق- بعد ذلك- بما في أحد أضلاعه من بيوت، فيقال: المثلث، والمربع، والمخمس إلخ، وقد يحتوي على مائة من البيوت فيقال: الوفق المئيني. ويقول أصحاب الأفق: ان للاعداد- في هذا الوضع- خواص روحانية، وآثارا عجيبة، إذا اختير للعمل بها وقت مناسب، وساعة شريفة. وكلام ابن الخطيب على التشبيه والتجوز. [6] الصهب: جمع أصهب، وهو الأبيض تخالطه حمرة. والسبال: جمع سبلة، وهي اللحية، أو ما على الشارب من شعر، ويقال للاعداء عامة هم صهب السبال، ذلك لأن الصهوبة في الروم، وقد كانوا أعداء العرب، ثم قالوا لكل الأعداء: هم صهب السبال. [7] الهندام آلة يحتال بها على رفع أو تحريك الأشياء الثقيلة التي لا تستطيع قوى الإنسان المجردة ان ترفعها، أو تحركها. وقد وصف هذه الآلة ابن خلدون في آخر فصل البناء من مقدمته. [8] الحوافل: جمع حافلة، الضرع الممتلئ لبنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 616 ثم تحرّكنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء الأدلاء [1] قبل المتح [2] ، فبشّرت بالمنح، وقصدنا مدينة أبّدة، وهي ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيّان في حين الحين [3] ، مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق [4] ، وتمشّت فيه أرباضها تمشّي الكتابة الجامحة في المهرق [5] ، المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع المتناسب، والفلح المعيي ريعه [6] عمل الحاسب وكوارة [7] الدّبر [8] اللّاسب [9] المتعدّدة اليعاسب [10] ، فأناخ العفاء [11] بربوعها العامرة، ودارت كؤوس عقار [12] الحتوف [13] ، ببنان السّيوف، على متديريها المعاقرة [14] ، وصبّحتها طلائع الفاقرة [15] ، وأغريت ببطون أسوارها عوج المعاول [16] ، الباقرة [17] ، ودخلت مدينتها عنوة السّيف، في أسرع من خطرة الطّيف، ولا تسأل عن الكيف، فلم يبلغ العفاء من مدينة حافلة، وعقيلة في حلل المحاسن رافلة [18] ، ما بلغ من هذه البائسة [19] التي سجدت لآلهة النّيران أبراجها،   [1] جمع دلو، وهي ما يستقى به. والأدلاء: جمع دليل، وهو المرشد. ويريد: قدمنا قبل بدء القتال- طلائع لنكشف ما عند العدو من استعداد. [2] المتح: الاستقاء. [3] الحين: الهلاك. [4] الأخرق: البعيد الواسع. [5] المهرق: الصحيفة البيضاء يكتب فيها. [6] الريع: النماء، والزيادة، وارض مربعة: مخصبة، وهذا هو المراد هنا. [7] الكوار، والكوارة: شيء يتخذ للنحل من القضبان. [8] الدبر: النحل. [9] لسبته النحلة، لسعته. [10] اليعسوب: أمير النحل. والجمع الصحيح يعاسيب. [11] أناخ الجمل: برك. والعفاء: المحو، والإزالة. [12] العقار: الخمر. [13] الحتوف: جمع حتف، وهو الموت. [14] معاقر الخمر: مدمنها، والجمع: معاقرة: ولعله يريد بمتديريها، دياريها. [15] الفاقرة: الداهية الكاسرة. [16] جمع معول، وهو الحديدة تنقر بها الجبال. أو هو الفأس. [17] بقر الشيء بقرا: فتحه، ووسعه، وشقه. [18] امرأة رافلة: تجر ذيلها جرا حسنا إذا مشت. [19] البائسة: الفقيرة. والتي نزلت بها بلية ترحم من أجلها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 617 وتضاءل [1] بالرّغام [2] معراجها، وضفت [3] على أعطافها [4] ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كناس [5] الغزلان. ثم تأهّبنا لغزو أمّ القرى الكافرة، وخزائن المزاين [6] الوافرة، وربّة الشّهرة السافرة [7] ، والأنباء المسافرة، قرطبة، وما أدراك ماهية! ذات الأرجاء الحالية [8] الكاسية [9] ، والأطواد الرّاسخة الرّاسية، والمباني الماهية، والزّهراء [10] الزّاهية، والمحاسن غير المتناهية، حيث هالة بدر السّماء قد استدارت من السّور المشيد البناء دارا، ونهر المجرّة من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض [11] ، قد لصق بها جارا، وفلك الدّولاب، المعتدل الانقلاب، قد استقام مدارا، ورجّع الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأول وادّكارا [12] حيث الطّود كالتّاج، يزدان بلجين العذب المجاج [13] ، فيزري بتاج كسرى ودارا، حيث قسيّ الجسور [14] المديدة، كأنّها عوج [15] المطيّ العديدة، تعبر النّهر قطارا،   [1] تضاءل: تصاغر وذل. [2] الرغام (بالفتح) : التراب. [3] ثوب ضاف: سابغ طويل. [4] عطفا كل شيء: جانباه، والجمع أعطاف. [5] الكناس: موضع في الشجر يستكن فيه الظبي ويستقر، إذا اشتد الحر. [6] المزاين: ما يتزين به. [7] السافرة: الذاهبة كل مذهب. [8] الحالية: التي لبست حليا. [9] الكاسية: المكتسية. [10] الزهراء: مدينة في شمال قرطبة على بعد ثلاثة أميال منها، تحت جبل العروس، بنها الناصر المرواني أبو المظفر عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله أول سنة 325 هـ، وسماها باسم جارية كان يحبها، اشتهت أن يبني لها مدينة في جبل العروس، ويسميها باسمها. وقد وصفها المقري في نفح الطيب 1/ 344- 374 صنع ليدن. [11] الغيضة: مغيض ماء يجتمع، فينبت فيه الشجر، وجمعها غياض. [12] يريد ان قرطبة دائمة الحنين الى الحكم الإسلامي الّذي انتظمها منذ الفتح حتى سنة 633 هـ، حيث سقطت في أيدي الاسبان. [13] المجاج: العسل، ومجاج المزن: مطرها. [14] الّذي نعرف ان على نهر قرطبة جسرين، بني الأعظم منهما- بأمر عمر بن عبد العزيز- السمح بن مالك الخولانيّ. أو عبد الرحمن بن عبيد الله الغامقي، وكانوا يسمونه قنطرة الوادي، وكانت اقواسه سبع عشرة قوسا، سعة الواحدة منها خمسون شبرا. نفح الطيب 1/ 226، 246 بولاق. [15] جمع عوجاء، وهي الضامرة من الإبل. والمطي: جمع مطية، وهي البعير يمتطى ظهره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 618 حيث آثار [1] العامري [2] المجاهد [3] ، تعبق [4] بين تلك المعاهد، شذّي معطارا، حيث كرائم السّحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدرّ نثارا، حيث شمول الشّمال [5] تدار على الأدواح [6] ، بالغدوّ والرّواح، فترى الغصون سكارى، وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح، تفتضّ من شقائق [7] البطاح، أبكارا، حيث ثغور الأقاح [8] الباسم، تقبّلها بالسّحر زوار النّواسم، فتخفق قلوب النّجوم الغيارى، حيث المصلّى [9] العتيق، قد رحب مجالا وطال منارا [10] ، وأزرى ببلاط الوليد [11] احتقارا،   [1] من آثاره: المنية المعروفة بالعامرية، والمدينة «الزاهرة» التي اتخذها مقرا لحكمه، والزيادة التي أضافها لمسجد قرطبة في الناحية الشرقية منه. نفح الطيب 2601- 274- 277 بولاق. [2] هو محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن عبد الله بن عامر المعافري، دخل جده الأندلس مع طارق بن زياد. واستوزره الحكم المستنصر لابنه هشام، فلما مات حجبه ابن أبي عامر، واستولى على الدولة، وأمر بأن يحيى بتحية الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور. توفي مبطونا بمدينة سالم، بأقصى ثغور المسلمين سنة 393 أو 394. العبر لابن خلدون م 4. [3] كان المنصور بن أبي عامر محبا للجهاد، غزا بنفسه- مدة ملكه- نيفا وخمسين غزوة، لم تنتكس له فيها راية، ولا فل له فيها جيش. ومن شعره في ذلك. ألم ترني بعت المقامة بالسرى ... ولين الحشايا بالخيول الضوامر وبدلت بعد الزعفران وطيبه ... صدى الدرع من مستحكمات المسامر فلا تحسبوا أني شغلت بلذة ... ولكن أطعت الله في كل كافر وكان يأمر أن ينفض غبار ثيابه التي حضر فيها القتال، وان يجمع ويحتفظ به، فلما حضرته الوفاة أمر أن ينشر على كفنه إذا وضع في قبره. رحمه الله. العبرم 4. [4] عبق الطيب: فاح وانتشر: (تاج) . [5] الشمول: الخمر. والشمال: الريح تهب من القطب، ويقال، خمر مشمولة إذا ضربتها ريح الشمال فأصبحت باردة الطعم. [6] جمع دوحة: وهي الشجرة العظيمة المتسعة. [7] يريد شقائق النعمان، وتسمى الشقر أيضا، وهي نور أحمر، والنعمان اسم الدم، فشبهت حمرتها بحمرة الدم، وسميت شقائق النعمان، وغلب عليها الشقائق. [8] جمع اقحوان، وهو نبت طيب الريح، له نور أصفر، وحواليه ورق أبيض، كأنه ثغر جارية حدثة السن، وانظر مفردات ابن البيطار 1/ 48. والصواب: «الاقاح البواسم» . [9] يريد جامع قرطبة، وقد وصفه الحميري في الروض المعطار وصفا مفصلا ص 153- 155، وانظر نفح الطيب 1/ 358- 360 طبع ليدن. [10] وصف منارة جامع قرطبة وصفا دقيقا، وقاسها كذلك، الحميري في الروض المعطار ص 155- 156. [11] كان الوليد بن عبد الملك من أفضل خلفاء بني أمية، أعطى المجذمين، وقال لهم لا تسألوا الناس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 619 حيث الظّهور [1] المثارة بسلاح [2] الفلاح، تجبّ عن مثل أسنمة [3] المهارى [4] ، والبطون [5] كأنها لتدميث [6] الغمائم، بطون العذارى، والأدواح العالية، تخترق أعلامها الهادية، بالجداول الحيارى [7] . فما شئت من جو بقيل [8] ، ومعرّس للحسن ومقيل، وما لك للعقل وعقيل [9] ، وخمائل، كم فيها للبلابل، من قال وقيل، وخفيف يجاور بثقيل، وسنابل تكي من فوق سوقها، وقصب بسوقها، الهمزات على الألفات، والعصافير البديعة الصّفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل لهبوب الصّبا والجنوب، مالئة الجيوب، بدرّ الحبوب، وبطاح لا تعرف عين المحل [10] ، فتطلبه بالذّحل [11] ، ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار، عند افتتاح السّوسن والبهار [12] ، غير العبدان من سودان النّحل، وبحر الفلاحة   [ () ] وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان صاحب بناء واتخذ المصانع والضياع، وكان الناس في زمانه، يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، وبنى المساجد: مسجد المدينة، ومسجد دمشق، الّذي أنفق عليه أموالا عظيمة، وأحضر له الصناع من بلاد الروم ومن سائر بلاد الإسلام، وكانت العرب تسميه بلاط الوليد. وانظر تاريخ الطبري 8/ 58- 97 وتاريخ أبي الفداء 1/ 210، مقدمة ابن خلدون ص 640 طبع دار الكتاب اللبناني- بيروت. [1] الظهر من الأرض: ما غلظ وارتفع. [2] أثار الأرض بالسن- وهي الحديدة التي تحرث بها الأرض- إذا قلبها على الحب بعد ما فتحت مرة، وفي القرآن: «وَأَثارُوا الْأَرْضَ» 30: 9: حرثوها وزرعوها، واستخرجوا منها بركاتها. [3] جب السنام: قطعه. وسنام الناقة: أعلى ظهرها والجمع أسنمة. [4] إبل مهرية: منسوبة الى مهرة بن حيدان أبي قبيلة، وهم جي عظيم والجمع مهارى. [5] جمع بطن والبطن من الأرض: ما لان وسهل واطمأن. [6] دمث الشيء: مرسه حتى لان. [7] الحيارى: جمع حيران وهو المتردد في الأمر، لا يدري وجهة يهتدي إليها. ويريد ان الجداول لالتوائها، وكثرة منعطفاتها، تشبه في سيرها شخصا حيران قد التبست عليه السبل. [8] الجو: المنخفض من الأرض. والبقيل: المكان ذو البقل، وكل نبات أخضرت به الأرض فهو بقل. [9] يوري بمالك وعقيل ابني فارج بن مالك، نديمي جذيمة الأبرش، ولهما مع عمرو بن عدي خبر تجد تفصيله في تاريخ الطبري 2/ 30- 31. [10] المحل: الجدب، وهو انقطاع المطر. [11] الذحل: الثأر. [12] البهار- عند أهل المغرب-: نبات طيب الريح، له قضبان خضر، في رءوسها أقماع يخرج منها نور ينبسط منه ورق أبيض، وفي وسط البياض دائرة صفراء من ورق صغير. وهذه هي الصفة التي أثبتها أهل المشرق للنرجس، حيث قالوا: هو ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر، فالبهار عند أهل المغرب هو النرجس عند أهل المشرق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 620 الّذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ الطّية [1] البعيدة راحله، إلى الوادي، وسمر النّوادي [2] ، وقرار دموع الغوادي [3] ، للتّجاسر على تخطّيه، عند تمطّيه [4] ، الجسر العادي، والوطن الّذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الّذي في جوفه كلّ صيد [5] ، أقلّ كرسيّه خلافة الإسلام، وأغار بالرّصافة [6] والجسر دار السّلام [7] ، وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام أو تعبّر به عن ذلك الكمال فنون الكلام. فأعملنا إليها السّرى والسّير، وقدنا إليها الخيل قد عقد الله في نواصيها الخير [8] . ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب، والقلوب تلتمس الإعانة من منعم مجزل، وتستنزل مدد الملائكة من منجد منزل، والرّكائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل [9] برز من حاميتها المحامية، ووقود النّار الحامية، وبقية السّيف الوافرة على الحصاد النّامية، قطع الغمائم الهامية، وأمواج البحور الطّامية، واستجنّت [10] بظلال أبطال المجال، أعداد الرجال، الناشبة [11] والرامية، وتصدّى للنّزال، من   [1] الطية: الناحية. [2] السمر: الحديث بالليل. والنادي: المجلس، والجمع الصحيح: أندية. [3] الغاد: السحابة تنشأ فتمطر غدوة، والجمع غواد. [4] تمطية: امتداده. كنى به عن امتلاء النهر بالمياه أيام الشتاء. [5] الفرا: الحمار الوحشي، وهو من أعظم ما يصطاده الناس، وفي الكلام إشارة إلى المثل: «كل الصيد في جوف الفرا» الّذي يضرب لما يفضل على غيره. ميداني 2/ 55. [6] الرصافة: قصر بناه عبد الرحمن الداخل، في الشمال الغربي لقرطبة، واتخذه لسكناه، نقل إليه من الشام كثيرا من أشجار الفاكهة والأزهار، وسماه باسم رصافة جده هشام بن عبد الملك. معجم البلدان 4/ 257. [7] يريد بغداد، وسماها مدينة السلام أبو جعفر المنصور، وكان ذلك سنة 146 هـ. انظر تاريخ بغداد 1/ 66- 67. [8] اشارة الى حديث البخاري: «الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة» . الجامع الصحيح 4/ 187 طبع الاستانة. [9] مطلع المعلقة المشهورة لامرئ القيس. [10] استجنت: استترت. [11] الناشبة: قوم يرمون بالنشاب، وهي السهام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 621 صناديدها [1] الصّهب السّبال، أمثال الهضاب الراسية، تجنّها [2] جنن [3] السوابغ الكاسية، وقواميسها [4] المفادية للصّلبان يوم بؤسها بنفوسها المواسية [5] ، وخنازيرها التي عدتها [6] عن قبول حجج الله ورسوله، ستور الظّلم الغاشية، وصخور القلوب القاسية، فكان بين الفريقين أمام جسرها الّذي فرق البحر، وحلّى بلجينه، ولآلئ زينه، منها النّحر، حرب لم تنسج الأزمان على منوالها [7] ، ولا أتت الأيام الحبالي بمثل أجنّة [8] أهوالها، من قاسها بالفجار [9] أفك وفجر [10] ، أو مثّلها بجفر الهباءة [11] خرف وهجر [12] ، ومن شبّهها بحرب داحس والغبراء [13] ، فما عرف الخبر، فليسأل من جرّب وخبر، ومن نظّرها بيوم شعب جبلة [14] فهو ذو بله [15] ، أو عادلها ببطن عاقل [16] ، فغير عاقل، أو احتجّ بيوم ذي قار [17] ، فهو إلى   [1] الصنديد: السيد الشجاع. والجمع صناديد. [2] تجنها: تسترها. [3] الجنن: جمع جنة، وهي السترة. [4] القواميس، جمع قومس (بوزن جوهر) ، وهو مرافق الملك، ونديمه، والأمير. [5] المواسي: المعين. [6] عديته فتعدى: أي تجاوز الحد الّذي حد له. [7] المنوال: المنسج تنسج عليه الثياب. يريد لم تأت الأيام بمثل هذه الحروب. [8] حبالي: جمع حبلى. والاجنة جمع جنين. [9] حروب الفجار عدة، واشهرها- وهي آخرها- تلك التي كانت بين قريش وكنانة، وبين هوازن. وقد شهدها النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار، وسميت فجارا لما استحلوا فيها من حرمة الأشهر الحرم. العقد الفريد 3/ 368- 371. [10] أفك: كذب. وفجر: مال عن الحق. [11] جفر الهباءة: يوم كان لعبس على ذبيان، سمي بالموضع الّذي كانت فيه موقعتهم، وهو مستنقع في ارض غطفان. العقد الفريد 3/ 316- 317، ياقوت (معجم البلدان) ، الميداني 2/ 269. [12] خرف: فسد عقله. هجر: خلط في كلامه وهذي. [13] داحس والغبراء: يوم من أشهر أيامهم، بلغ من بعد اثره ان اتخذوه مبدأ من مبادئ تواريخهم في الجاهلية، ويقال انه دام أربعين سنة. وكان بين عبس وذبيان. وداحس والغبراء: فرسان، وسمي اليوم بهما لما انه كان يسببهما، انظر العقد الفريد 3/ 313- 314. [14] كان يوم شعب جبلة لعامر وعبس على دبيان، وكان- فيما يقول أبو عبيدة- قبل الإسلام بأربعين سنة (وشعب جبلة: هضبة حمراء بنجد) . العقد الفريد 3/ 307- 310، ياقوت (معجم البلدان) . [15] البله: الغفلة. [16] بطن عاقل: يوم كان لذبيان على بني عامر، (أو كان بين بني خثعم، وبني حنظلة) ، ذكر سببه في العقد الفريد 3/ 305- 306، وانظر مجمع الأمثال 2/ 264. [17] يوم ذي طار: يوم مشهور كان أيام النبي صلّى الله عليه وسلم، وأثر عنه انه قال: «انه أول يوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 622 المعرفة ذو افتقار، أو ناضل بيوم الكديد [1] ، فسهمه غير السديد، انما كان مقاما غير معتاد، ومرعى نفوس لم يف بوصفه لسان مرتاد [2] وزلزال جبال أوتاد [3] ، ومتلف [4] مذخور لسلطان الشيطان وعتاد [5] ، أعلم [6] فيه البطل الباسل [7] ، وتورّد الأبيض الباتر [8] ، وتأوّد الأسمر [9] العاسل [10] ، ودوّم الجلمد [11] المتكاسل، وانبعث من حدب [12] الحنيّة [13] ، إلى هدف الرّميّة [14] ، الناشر الناسل [15] ، ورويت لمرسلات السّهام المراسل، ثم أفضى أمر الرّماح إلى التّشاجر والارتباك، ونشبت الأسنّة في الدّروع نشب السمك في الشّباك، ثم اختلط المرعيّ بالهمل [16] ، وعزل الرّدينيّ عن العمل، وعادت السّيوف من فوق المفارق تيجانا، بعد أن شقّت غدر السّوابغ خلجانا، واتّحدت جداول الدّروع، فصارت بحرا، وكان التّعانق، فلا ترى إلّا نحرا يلازم نحرا، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة مناد إلى فراق الأبد وداع، واستكشفت مآل الصّبر الأنفس الشّفافة [17] ، وهبّت بريح النّصر الطّلائع المبشّرة الهفّافة [18] ، ثم أمدّ السّيل ذلك   [ () ] انتصفت فيه العرب من العجم» . وتفصيل اخباره، وأسبابه، مذكورة في العقد 3/ 374- 378. [1] كان يوم الكديد لسليم على كنانة، وفيه قتل ربيعة بن مكدم، فارس كنانة. وانظر العقد الفريد 3/ 326. [2] المرتاد والرائد: الّذي يتقدم القوم في التماس النجمة واختيار المرعى الحسن. [3] أوتاد الأرض: جبالها. [4] المتلف: المفازة، والقفر، سمي بذلك لانه يتلف سالكه. [5] العتاد: العدة تعدها لأمر ما. [6] أعلم الفارس: جعل لنفسه علامة الشجعان، وأعلم نفسه: وسمها بسيما الحرب. [7] الباسل: الشجاع. [8] تورد: احمر. الأبيض الباتر: السيف القاطع. [9] تأود: أعوج وانثنى. الأسمر: الرمح. [10] عسل الرمح: اضطرب واحتز، ورمح عاسل: مضطرب لدن. [11] دوم: تحرك ودار. والجلد: الصخر. [12] حدب الحنية: تقوسها وانعطافها. [13] الحنية: القوس، فعيلة بمعنى مفعولة، وأكثر ما تكون حنية عند توتيرها، والرمي بها. [14] الرمية: الطريدة التي يرميها الصائد. [15] الناشر: المهتز. والناسل: المسرع. [16] هو مثل والمرعى: الإبل التي لها راع، والهمل: الضوال من النعم لا راعي لها. [17] أنفس شفافة: فاضلة. [18] الهفافة: السريعة المرور في هبوبها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 623 العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللّباب، وقال لسان النّصر: «ادخلوا عليهم الباب» ، فأصبحت طوائف الكفّار، حصائد مناجل الشّفار، فمغافرهم قد رضيت حرماتها بالإخفار [1] ، ورءوسهم محطوطة في غير مقام الاستغفار، وعلت الرّايات من فوق تلك الأبراج المستطرقة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح البوار، لولا الانتهاء إلى الحدّ والمقدار، والوقوف عند اختفاء سرّ الأقدار. ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيّقنا حصرها، وأدرنا بلآليء القباب البيض خصرها، وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما [2] ، وترمي الأدواح ببوارها، وتسلّط النّيران على أقطارها، فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر، فرأينا أن نروضها بالاجتثاث [3] والانتساف [4] ، ونوالي على زروعها وربوعها كرّات رياح الاعتساف، حتّى يتهيأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنّا بفضل الله إرث نعمتها، ثم كانت من موقفها الإفاضة من [5] بعد نحر النّحور، وقذف جمار الدّمار على العدوّ المدحور، وتدافعت خلفنا السّيّقات [6] المتّسقات تدافع أمواج البحور. وبعد أن ألححنا على جنّاتها المصحرة [7] ، وكرومها المستبحرة إلحاح الغريم [8] ، وعوّضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائف من ربّنا فأصبحت كالصّريم [9] ، وأغرينا حلاق [10] النّار بجمم الجميم [11] ، وراكمنا في أحواف   [1] أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وذمامه، والهمزة فيه للازالة، أي أزلت خفارته. [2] حام الطائر حول الماء حياما: دوم ودار. [3] الاجتثاث: انتزاع الشجر من أصوله. [4] انتساف الزرع: اقتلاعه. [5] الافاضة: الدفع في السير بكثرة، ولا يكون الا عن تفرق جمع. وفي «الافاضة» و «البحر» ، و «رمي الجمار» ثورية واضحة بالمعاني الإسلامية المتعارفة في باب «الحج» . [6] السيقات: ما استاقه العدو من الدواب، ويقال لما سيق من النهب فطرد، سيقة. [7] المتسعة، يقال أصحر المكان: أي اتسع. [8] الغريم: الّذي له الدين. [9] الصريم: الليل، وأصبحت كالصريم: احترقت وصارت في مثل سواده، والإشارة إلى الآية: «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ من رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» 68: 19- 20. [10] حلاق الشعر: إزالته بالموسى. والكلام على تشبيه إحراق النبات بحلق شعر الرأس. [11] الجمم: جمع جمة، وهي الشعر الكثير. والجميم نبت يطول حتى يصير مثل جمة الشعر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 624 أجرافها [1] غمائم الدّخان، يذكّر طيبه البان بيوم الغميم [2] ، وأرسلنا رياح الغارات «لا تذر من شيء أتت عليه إلّا جعلته كالرّميم» [3] ، واستقبلنا الوادي يهول مدّا، ويروع سيفه الصّقيل حدا، فيسّره الله من بعد الإعواز، وانطلقت على الفرصة بتلك الفرضة أيدي الانتهاز، وسألنا من سائله أسد بن الفرات [4] فأفتى برجحان الجواز، فعمّ الاكتساح والاستباح جميع الأحواز [5] فأديل [6] المصون، وانتهبت القرى، وهدّت الحصون، واجتثت الأصول، وحطّمت الغصون، ولم نرفع عنها إلى اليوم غارة تصابحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضّاحكة باليوم العبوس، فهي الآن مجرى السوابق ومجرّ العوالي [7] ، على التوالي، والحسرات تتجدّد في أطلالها البوالي، وكأن بها قد ضرعت، وإلى الدعوة المحمّدية أسرعت، بقدرة من لو انزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدعت [8] ، وعزة من أذعنت الجبابرة لعزّه وخضعت، وعدنا والبنود لا يعرف اللفّ نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التّقطيب بشرها، والأيدي بالعروة الوثقى متعلّقة، والألسن بشكر نعم الله منطلقة، والسّيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسرابيل الدّروع [9] خلقه [10] ، والجياد من ردّها إلى المرابط والأواري [11] ، ردّ العواري، حنيقة، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقة، تنظر إلينا نظر العاتب، وتعود من ميادين الاختيال والمراح،   [1] الأحواف، جمع حوف وهو الناحية. والأجراف جمع جرف، وهو ما أكل السيل من أسفل شق الوادي، وعرض الجبل. ويريد الأمكنة الغائرة، والمطمئنة. [2] الغميم: موضع بين مكة والمدينة. ويوم الغميم: من الأيام التي كانت بين كنانة وخزاعة سيرة ابن هشام 4/ 34- 35. [3] الرميم: البالي. [4] يوري بأسد بن الفرات بن سنان: أبي عبد الله الفقيه المالكي المشهور (145- 213) على خلاف في المولد والوفاة. وانظر ترتيب المدارك. مخطوطة دار الكتب 1/ 118، معالم الإيمان 2/ 2- 17، ديباج 98. [5] الأحواز: ضواحي المدينة وأطرافها. [6] أديل: أهين. [7] أجره الرمح: طعنه به وتركه فيه يجره والعالية: أعلى القناة، والجمع: العوالي. ومجر العوالي: المكان الّذي يقع فيه الإجرار والطعن. [8] اقتباس من الآية 21 من سورة الحشر. [9] السرابيل: الدروع، وكل ما لبس فهو سربال. [10] الخلق: البالي، يقال ثوب خلق، وجبة خلق بالتذكير فيهما. لسان العرب. [11] الأواري: جمع آري، وهو مربط الدابة ومحبسها. ابن خلدون م 40 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 625 تحت حلل السّلاح، عود الصّبيان إلى المكاتب، والطّبل بلسان العزّ هادر [1] والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر [2] ، ووجود نوع الرّماح، من بعد ذلك الكفاح نادر، والقاسم يرتّب بين يديه من السّبي النّوادر، ووارد مناهل الأجور، غير المحلّاء [3] ، ولا المهجور، غير صادر [4] ، ومناظر الفصل الآتي، عقب أخيه الشّاتي، على المطلوب المواتي مصادر [5] والله على تيسير الصّعاب، وتخويل المنن الرّغاب [6] ، قادر، لا إله إلّا هو. فما أجمل لنا صنعه الحفيّ [7] ، وأكرم بنا لطفه الخفيّ، اللَّهمّ لا نحصي ثناء عليك، ولا نلجأ منك إلّا إليك، ولا نلتمس خير الدّنيا والاخرة إلّا لديك، فأعد علينا عوائد نصرك، يا مبدئ يا معيد، وأعنّا من وسائل شكرك، على ما ينثال به المزيد، يا حيّ يا قيّوم يا فعّال لما يريد [8] . وقارنت رسالتكم الميمونة لدينا حذق فتح [9] بعيد صيته [10] مشرئبّ ليته [11] ، وفخر من فوق النّجوم العواتم [12] مبيته، عجبنا من تأتي أمله الشّارد، وقلنا: البركة في قدم الوارد، وهو أنّ ملك النّصارى لاطفنا بجملة من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتّماثيل [13] فيها ببيوت الله قد نصبت أدالها [14] الله- بمحاولتنا- الطيّب من الخبيث، والتّوحيد من التّثليث، وعاد إليها الإسلام عود الأب الغائب، الى البنات الحبائب، يسأل عن شئونها، ويمسح دموع الرّقّة من   [1] هادر: يردد صوته. [2] بادره الأمر: عاجله. [3] حلأ الماشية عن الماء: صدها وحبسها عن الورود. [4] الوارد الّذي يرد الماء. والصادر: الّذي رجع من الماء بعد الورود. [5] مصادر: مراجع، صادرة على كذا: راجعة. [6] الرغيبة: العطاء الكثير، والأمر مرغوب فيه، والجمع رغاب. [7] الصنع الحفي: اللطيف. [8] كذا في الأصل: «يا فعال لما يريد» . والمنادي هنا مما يجب فيه النصب. فلذلك الأصح: يا فعالا. [9] حذق الغلام القرآن حذقا: مهر فيه، ويقال لليوم الّذي يختم فيه القرآن: هذا يوم حذاق، والعادة أن يحتفل بهذا اليوم. [10] بعيد الصيت، مشتهر الذكر بين الناس. [11] اشرأب: ارتفع وعلا. والليت بالكسر: صفحة العنق. [12] النجوم العواتم: التي تظلم من الغبرة التي في السماء، ويكون ذلك في زمن الجدب، لأن نجوم الشتاء أشد اضاءة لبقاء السماء. [13] التماثيل: الأصنام. [14] أدالها الله: أبدلها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 626 جفونها، وهي للرّوم خطّة خسف [1] قلّما ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرة من نوادر الوجود. والى الله علينا وعليكم عوارف [2] الجود، وجعلنا في محاريب الشّكر من الرّكّع السّجود. عرّفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيات عسير لنسرّكم بما منح الله دينكم، ونتوج بعز الملّة الحنيفية جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإنّ دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب المسئولة من المنعم الوهّاب متقاض [3] ، أولى من ساهم في برّ، وعامل الله بخلوص سرّ، وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيّكم، وتراث ميتكم، ولكم مزيّة القدم، ورسوخ القدم، والخلافة مقرّها إيوانكم، وأصحاب الامام مالك- رضي الله عنه- مستقرّها قيروانكم، وهجّير المنابر [4] ذكر إمامكم، والتوحيد إعلامكم، والوقائع الشّهيرة في الكفر منسوبة الى أيامكم، والصّحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السّلام وشائح سلطانكم [5] ، ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم، ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيّدات تعريف أبوابكم. والله- عزّ وجلّ- يتولّى عنا من شكركم المحتوم، ما قصّر المكتوب منه عن المكتوم، ويبقيكم لإقامة الرّسوم، ويحلّ محبّتكم من القلوب محلّ الأرواح من الجسوم، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نعمه عندكم. والسّلام الكريم، الطّيب الزكي المبارك البرّ العميم، يخصّكم كثيرا أثيرا، ما أطلع الصّبح وجها منيرا، بعد أن أرسل النّسيم سفيرا، وكان الوميض [6] الباسم لأكواس الغمائم [7] ، على أزهار الكمائم [8] ، مديرا، ورحمة الله وبركاته.   [1] الخطة: الطريقة. والخسف: الذل، وتحميل الإنسان ما يكره. [2] العوارف: جمع عارفة، وهي العطية. [3] تقاضاه الدين: قبضه منه. [4] هجير المنابر: شأنها ودأبها. [5] يريد أن الحفصيين من سلالة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رأى بعض المؤرخين ذلك. [6] الوميض: اللامع من البرق لمعا خفيا. [7] شبه القطرات من الماء تنثرها الغمائم على الزهور، بكئوس الخمر تدار على الشاربين. [8] الكمائم: جمع كمامة، وهي غطاء النور وبرعومته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 627 وكتب إليّ يهنّئني بمولود، ويعاتب على تأخير الخبر بولادة عنه [1] : هنيئا أبا الفضل الرضا وأبا زيد ... وأمّنت من بغي يخاف ومن كيد بطالع يمن طال في السعد شأوه [2] ... فما هو من عمره الرجال ولا زيد وقيّد بشكر الله أنعمه التي ... أوابدها [3] تأبى سوى الشكر من قيد أهلا بدري المكاتب [4] ، وصدري المراتب، وعتبى الزّمن [5] العاتب [6] وبكر المشتري والكاتب [7] ، ومرحبا بالطالع، في أسعد المطالع، والثّاقب [8] ، في أجلى المراقب، وسهلا بغنيّ البشير، وعزّة الأهل والعشير، وتاج الفخر الّذي يقصر عنه كسرى وأردشير [9] ، الآن اعتضدت الحلّة الحضرمية [10] بالفارس، وأمن السّارح [11] في حمى الحارس، وسعدت بالمنير الكبير، أفلاك التّدوير [12] ، من حلقات المدارس، وقرّت بالجنى الكريم عين الغارس، واحتقرت أنظار الآبلي وأبحاث ابن الدّارس،   [1] قدم لها ابن الخطيب في ريحانة الكتاب بقوله: ومن ذلك في مخاطبة صاحب قلم الإنشاء أبي زيد بن خلدون. [2] الشأو: الشوط والغاية. [3] جمع آبدة، وهي في الأصل البهيمة توحشت، ونفرت من الانس. [4] كوكب دري: ثاقب شديد الإنارة، عظيم المقدار. [5] أعتبه: أزال عتبة، والعتبى: اسم من الإعتاب. وفي المثل: «لك العتبى ولا أعود» . أي لك مني أن أرضيك، بقوله التائب المعتذر مجمع الأمثال 2/ 102. [6] الزمن العاتب: الغاضب. [7] كان ابن الخطيب شغوفا بأن يوري في كتابته بمصطلحات العلوم، وهو هنا ناظر الى ما اصطلح عليه المنجمون من أن القمر إذا اتصل- وهو في البروج الصاعدة- بالمشتري، وهو كوكب سعد، وبالكاتب- وهو عطارد في عرف أهل المغرب- دل ذلك على أن المولود ذكر، وأن حظه من العلوم العقلية، والنقلية كبير. [8] الثاقب: المرتفع. [9] هو أردشير بن بابك، أول ملوك الدولة السلسانية (226- 241 م) . وقد ورد في بعض النسخ، وتاريخ أبي الفداء: «أزدشير» بالزاي. وهو تصحيف قديم، فقد قال ابن حجر: «وسمعت من يذكره بالزاي» . تاج العروس 2/ 288، الطبري 2/ 56. [10] الحلة: البيت، والجمع الحلال. والحضرمية نسبة الى حضرموت، حيث ينتهي نسب ابن خلدون. [11] السارح: الّذي يغدو عليك ويروح. [12] فلك التدوير- لكل كوكب- هو فلك صغير لا يحيط بالأرض، وفيه يكون مسير الكوكب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 628 وقيل للمشكلات: طالما ألفت الخمرة [1] ، وأمضيت على الأذهان الامرة [2] ، فتأهّبي للغارة المبيحة لحماك، وتحيّزي إلى فئة البطل المستأثر برشف لماك. وللَّه من نصبة [3] احتفى فيها المشتري واحتفل، وكفى سنيّ تربيتها وكفل، واختال عطارد في حلل الجذل لها ورفل، واتّضحت الحدود [4] ، وتهلّلت الوجوه [5] ، وتنافست المثلّثات [6] تؤمّل الحظّ وترجوه، ونبّه البيت على [7] واجبه، وأشار لحظ الشّرف [8] بحاجبه، وأسرع نيّر النّوبة [9] في الأوبة [10] ، قائما في الاعتذار مقام التّوبة، واستأثر بالبروج المولّدة بيت البنين [11] ، وتخطّت خطا القمر رأس الجوزهر [12] وذنب التّنّين، وساوق منها حكم الأصل، حذوك النّعل بالنّعل،   [1] الخمرة: الاستتار، والاختفاء. [2] الإمرة: الإمارة. [3] النصبة الفلكية: هي الهيئة التي يكون عليها الفلك حين طلب دلالته على الحوادث. [4] قسم المنجمون درجات كل برج من البروج الاثني عشر، بين الكواكب الخمسة المتحيرة، قسمة غير متساوية، وجعلوا كل قسم منها يحص كوكبا من الكواكب الخمسة، وسموه حد ذلك الكوكب. [5] وقسموا كذلك كل برج الى ثلاثة أقسام متساوية، وسموا كل قسم منها وجها، ثم فرقوها على الكواكب المتحيرة، وابتدءوا من برج الحمل، وجعلوا لكل وجه منها كوكبا من السبعة السيارة، سموه صاحب ذلك الوجه. [6] البروج الاثنا عشر تنقسم الى أربعة أقسام- بعدد الطبائع الأربع، وكل ثلاثة بروج منها تتفق في طبعة واحدة من الطبائع الأربع تسمى مثلثة، فيقال: مثلثة نارية، أو ترابية، أو هوائية، أو مائية، ويختص بكل مثلثة ثلاثة كواكب من السيارة تسمى أربابها، يكون أحدها صاحب المثلث المقدم بالنهار، والثاني المقنم بالليل، والثالث شريكهما في الليل والنهار. ومعنى ذلك أن الكواكب إذا كان في واحد من هذه البروج التي تكون مثلثة، قيل أنه في مثلثة، أي أنه في وضع له فيه حظ وقوة. [7] بيت الكوكب: محل أمنه، وصحته، وسلامته، ولكل من النيرين: الشمس والقمر، بيت واحد. أما بقية الكواكب الخمسة المتحيرة، فكل واحد منها له بيتان. [8] شرف الكوكب: محل عزه، وعلوه، وسعادته، ولكل من الكواكب السبعة برج فيه شرفه، والبرج كله شرف لذلك الكوكب، محل عزه، وعلوه، وسعادته، ولكل من الكواكب السبعة برج فيه شرفه، والبرج كله شرف لذلك الكوكب، الا أن أقوى شرفه درجات معينة من ذلك البرج تنسب الى ذلك الكوكب وتختص به، فيقال حين يحل بها: انه في شرفه. [9] نير النوبة يكون في الغالب الهيلاج (دليل العمر) ، وهو بالنهار الشمس، وبالليل القمر. [10] الأوبة: الرجوع والعودة. [11] البيت الّذي له دلالة على الأولاد: هو البرج الخامس من البيوت الاثني عشر والابتداء في العد من البرج الطالع، وهو الواقع على الأفق الشرقي، ويزعمون أنه كلما كان الخامس أحد البروج الشمالية، دل ذلك على كثرة النسل. [12] النقطتان اللتان يتقاطع عليهما فلك البروج مع فلك أي كوكب، تسميان العقدتين، ونقطة التقاطع الشمالية منهما، يسمونها الجو زهر، ونقطة الرأس، والتي نقابلها تسمى النوبهر، ونقطة الذنب. والجو زهر الّذي يقصدونه، والّذي دونوا حركته في التقاويم والأزياج، هو جوزهر القمر خاصة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 629 تحويل السّنين [1] ، وحقّق هذا المولود بين المواليد نسبة عمر الوالد، فتجاوز درجة المئين، واقترن بعاشره [2] السّعدان [3] اقتران الجسد، وثبت بدقيقة مركزه قلب الأسد، وسرق من بيت أعدائه [4] خرثيّ [5] الغلّ والحسد، ونظّفت طرق التّسيير [6] ، كما نفعل بين يدي السادة عند المسير، وسقط الشيخ الهرم من الدّرج في البير، ودفع المقاتل إلى الوبال [7] الكبير. لم لا ينال العلا أو يعقد التّاج ... والمشتري طالع والشّمس هيلاج [8] والسّعد يركض في ميدانها مرحا ... جذلان والفلك الدّوّار هملاج [9] كأن به- والله يهديه- قد انتقل من مهد التنويم، الى النّهج القويم، ومن أريكة الذّراع، الى تصريف اليراع [10] ، ومن كتد [11] الدّاية [12] ، الى مقام الهداية، والغاية المختطفة [13] البداية، جعل الله وقايته عليه عوذة [14] ، وقسم حسدته قسمة محرّم اللّحم، بين منخنقة [15] ونطيحة [16] ومتردّية [17]   [1] هو تحصيل الحركة الوسطى للشمس عند حلولها برأس أحد الفصول الأربعة. ولهم في ذلك طرق حسابية معروفة. [2] العاشر: هو بين السلطان. [3] السعدان: المشتري والزهرة، وأكبرهما المشتري. [4] بيت الأعداء: هو البيت الثاني عشر. [5] الخرثيّ (بالضم) : أثاث البيت، أو اردأ المتاع. [6] التسيير: ان ينظركم بين الهلاج (دليل العمر) ، وبين السعد أو النحس، فيؤخذ لكل درجة سنة، ويقال تصيبه السعادة أو النحس الى كذا وكذا سنة. [7] الوبال: هو البرج المقابل لبيت الكوكب، وهو البرج السابع من كل بيت، ويسمى نظيره، ومقابله، وذلك أن يكون بينهما ستة بروج، وهي نصف الفلك. [8] الهيلاج: دليل العمر، والهياليج خمسة: الشمس، والقمر، والطالع، وسهم السعادة، وجزء الاجتماع والاستقبال. وانما كانت ادلة العمر لأنها تسير الى السعود والنحوس. [9] الهملاج: المركب الحسن السير، والمسرع. يقول: لم لا ينال العلا، وقد اتخذ الفلك مركبا له. [10] يعني بأريكة الذراع عهد الطفولة. واليراع: القصب، ويريد الأقلام. [11] الكتد: مجمع الكتفين من الإنسان، وكاهله. [12] الداية: القابلة. [13] يريد أنه سيبلغ الغاية في الفضل في الزمن القصير. [14] العوذة: ما يعلق على الإنسان ليقيه من العين ونحوها. [15] المنخنقة: الشاة، وغيرها، تخنق بجبل أو غيره. [16] النطيحة: الشاة تنطحها الأخرى بقرونها، فعيلة بمعنى مفعولة. [17] المتردية. الساقطة من جبل، أو في بئر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 630 وموقوذة [1] ، وحفظ هلاله في البدار [2] الى تمّه وبعد تمّه، وأقرّ به عين أبيه وأمّه. غير أنّي- والله يغفر لسيدي- بيد أنّي راكع في سبيل الشّكر وساجد، فأنا عاتب وواجد، إذ كان ظنّي أنّ البريد بهذا الخبر إليّ يعمل، وأنّ إتحافي به لا يهمل، فانعكست القضيّة، ورابت الحال المرضيّة، وفضلت الأمور الذّاتية الأمور العرضيّة، والحكم جازم، وأحد الفرضين لازم، إما عدم السّوية [3] ، ويعارضه اعتناء حبله مغار [4] ، وعهدة سلم لم يدخلها جزية ولا صغار، أو جهل بمقدار الهبة، ويعارضه علم بمقدار الحقوق، ورضى مناف للعقوق، فوقع الأشكال، وربّما لطف عذر كان عليه الاتّكال. وإذا لم يبشّر مثلي بمنحة الله قبل تلك الذّات السرية، الخليقة بالنّعم الحرية، فمن الّذي يبشّر، وعلى من يعرض بزّها [5] أو ينشر، وهي التي واصلت التّفقّد [6] ، وبهرجت [7] المعاملة وأبت أن تنقد، وأنّست الغربة وجرحها غير مندمل [8] ، ونفّست الكربة وجنحها [9] على الجوانح [10] مشتمل، فمتى فرض نسيان الحقوق لم ينلني فرض، ولا شهد به عليّ سماء ولا أرض، وإن قصّر فيما يجب لسيدي عمل، لم يقصّر رجاء ولا أمل، ولي في شرح حمده ناقة وجمل [11] . ومنه جلّ وعلا نسأل أن يريه قرّة العين في نفسه وماله وبنيه، ويجعل أكبر عطايا الهيالج أصغر سنيه، ويقلّد عواتق [12]   [1] الموقوذة. المقتولة ضربا بالخشب أو بالحجر. وكل هذه الأصناف قد حرم اكله القرآن على المسلم. وانظر الآية رقم 3 من سورة المائدة، واحكام القرآن لابن العربيّ 1/ 222، 223. [2] يدعو له بأن يصاحبه الحفظ في سائر أطوار نموه الى أن يكتمل. [3] السوية. العدل، والنصفة. [4] حبل مغار: محكم الفتل. [5] البز: الثياب. [6] التفقد: التعرف لاحوال الناس، وتعهدها. [7] بهرج: عدل عن الطريق المسلوك. [8] اندمل الجرح. بريء. [9] الجنح: الظلمة. [10] الجوانح: الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر. [11] هو عكس لمعنى المثل: «لا ناقتي في هذا، ولا جملي» ، الّذي يضرب للتبري من الشيء، الميداني 2/ 113، 114. [12] العواتق: جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 631 الكواكب البابانية [1] حمائل أمانيه. وإن تشوّف سيدي لحال وليّه، فخلوة طيبة، ورحمة من جانب الله صيّبة، وبرق يشام [2] ، فيقال: حدّث ما وراءك يا هشام. وللَّه درّ شيخنا إذ يقول: لا بارك للَّه في إن لم ... أصرّف النّفس في الأهمّ وكثّر الله في همومي ... إن كان غير الخلاص همّي وإن أنعم سيّدي بالإلماع بحاله، وحال الولد المبارك، فذلك من غرر إحسانه، ومنزلته في لحظ لحظبي بمنزلة إنسانه، والسّلام. (العودة الى المغرب الأقصى) ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب [3] ، كما ذكرت تفاصيله، وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى، وهو صاحب زمام رياح، وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزّاب [4] ، وهم يرجعون اليه في الكثير من أمورهم، فلم أشعر إلّا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب، ووغر صدره [5] ، وصدّق في ظنونه وتوهّماته، وطاوع الوشاة فيما يوردون على سمعه من التّقوّل والاختلاق، وجاش صدره بذلك، فكتب إلى ونزمار بن عريف، وليّ السلطان، وصاحب شواره، يتنفّس الصّعداء من ذلك، فأنهاه إلى السلطان، فاستدعاني لوقته، وارتحلت من بسكرة   [1] الكواكب الببانيات (أو البابانية) : هي التي لا تنزل الشمس بها، ولا القمر. [2] شام البرق: نظر الى سحابته اين تمطر. [3] هو أبو فارس، عبد العزيز بن أبي الحسن بن أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق المريني، بويع سنة 767، وتوفي سنة 774. من ألمع ملوك بني مرين، أعاد الدولة قوتها وشبابها، وأزال عنها حجر المستبدين، وإلى أبي فارس هذا أهدى ابن خلدون مقدمته، ولا تزال صيغة الإهداء محفوظة بديباجة النسخة المطبوعة ببولاق. [4] بلاد الزاب: منطقة واسعة كانت تشغل المساحة الواقعة في جنوب جبال أوراس، وتشمل بسكرة، وما حولها. ياقوت (معجم البلدان) . [5] وغر صدره: امتلأ غيظا وحقدا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 632 بالأهل والولد، في يوم المولد الكريم سنة أربع وسبعين وسبعمائة متوجها الى السلطان وكان قد طرقه المرض فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط، لقيني هنالك خبر وفاته، وأنّ ابنه أبا بكر السعيد نصّب بعده للأمر في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وأنه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذّا السير إلى فاس، وكان على مليانة يومئذ عليّ بن حسون بن أبي علي الهساطي [1] من قواد السلطان وموالي بيته، فارتحلت معه إلى أحياء العطاف ونزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم، وبدرني بعضهم إلى حلّة أولاد عريف أمراء سويد، ثم لحق بنا بعد أيام عليّ بن حسّون في عساكره وارتحلنا جميعا إلى المغرب على طريق الصحراء، وكان أبو حمّو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان فاستولى عليها وعلى سائر أعماله، وأوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله في المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين [2] مخرج وادي صا [3] ، فاعترضونا هنالك فنجا من نجامّنا على خيولهم إلى جبل دبدو وانتهبوا جميع ما كان معنا وأرجلوا الكثير من الفرسان، وكنت فيهم، وبقيت يومئذ في قفره ضاحيا عاريا إلى أن حصلت إلى العمران ولحقت بأصحابي بجبل دبدو ووقع في خلال ذلك من الألطاف ما لا يعبّر عنه، ولا يسع الوفاء بشكره. ثم سرنا إلى فاس ووفدت على الوزير أبي بكر وابن عمّه محمد بن عثمان بفاس في جمادى من السنة، وكان لي معه قديم صحبة واختصاص منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة، عند إجازته من الأندلس لطلب ملكه كما مرّ في غير موضع من الكتاب، فلقيني من برّ الوزير وكرامته وتوفير جرايته وإقطاعه، فوق ما احتسب وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل، ثابت [4] الرتبة عظيم الجاه، منوّة المجلس عند السلطان. ثم انصرم فصل الشتاء وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي وبين السلطان ابن الأحمر منافرة بسبب ابن الخطيب، وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاده عنهم، وأنف الوزير من ذلك فأظلم الجو بينهما، وأخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر ليشغله به ونزع ابن   [1] وفي نسخة ثانية: اليناطي. [2] رأس العين يعرف بعين بني مطهر، وهي منابع تقع في شرق مدينة دبدو. [3] وادي صا، أو زا بقع في جنوب عين البرديل عن يمين وادي ملوية حوالي 51 كلم. [4] وفي نسخة ثانية: نابه الرتبة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 633 الأحمر [1] إلى إطلاق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي، والوزير مسعود بن رحّو [2] بن ماسي كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز وأشار بذلك ابن الخطيب حين كان في وزارتهما بالأندلس، فأطلقهما الآن وبعثهما لطلب الملك بالمغرب، وأجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة [3] فنزلوا بها ولحقوا بقبائل بطوية هنالك، فاشتملوا عليهم، وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن. ونهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس فنزل على جبل الفتح فحاصره، وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدعوة بني مرين، فوجّه لحينه ابن عمه محمد بن عثمان بن الكاس إلى سبتة لإمداد الحامية الذين لهم بالجبل، ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن، فوجده قد ملك ملك تازي، فأقام عليها يحاصره، وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شبابا من بني أبيه المرشّحين، فحبسهم بطنجة. صاحبه على ما كان منه، واشتدّ عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسيّ من كفئه، ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبيّا لم يثغر، فاستعتب له محمد، واستقال من ذلك، فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة، وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضا بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن، يفرّج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء. وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه، فبادر من وقته إلى طنجة وأخرج السلطان أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه، وبايع له وسار به إلى سبتة، وكتب لابن الأحمر يعرّفه بذلك، ويطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح، فأمدّه بما شاء من المال والعسكر واستولى على جبل الفتح وشحنه بحاميته، وكان أحمد ابن السلطان أبي سالم قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم، على أنّ من صار له الملك إليه منهم، يجيز الباقين إلى الأندلس، فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم، وأجازهم جميعا، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر، فأكرم نزلهم ووفّر جراياتهم. وبلغ الخبر بذلك كلّه إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازى، فأخذه المقيم المقعد من فعلة ابن عمّه،   [1] وفي نسخة ثانية: للإجلاب على الأندلس، فبادر ابن الأحمر. [2] رحو في اللغة البربرية تعني تصغير عبد الرحمن. [3] غساسة تقع عند مصب وادي ملوية حيث تقطن قبائل بطوية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 634 وكرّ [1] راجعا إلى دار الملك، وعسكر بكدية العرائس من فاس [2] وتوعّد ابن عمّه محمد بن عثمان فاعتذر بأنه امتثل وصيّته، فاستشاط وتهدّده واتسع الخرق بينهما، وارتحل محمد بن عثمان بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون [3] المطل على مكناسة، فعسكر به، واشتملوا عليه، وزحف إليهم الوزير أبو بكر وصعد الجبل فقاتلوه وهزموه، ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك، وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن والاعتضاد به، ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبدّ به لنفسه، فراسله محمد ابن عثمان في ذلك، واستدعاه واستمدّه وكان ونزمار بن عريف وليّ سلفهم قد أظلم الجوّ بينه وبين الوزير أبي بكر، لأنّه سأله وهو يحاصر تازى في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع، واتهمه بمداخلته والميل له، فاعتزم على التقبّض عليه، ودسّ إليه بعض عيونه، فركب الليل ولحق بأحياء الأحلاف من المعقل، وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن، ومعهم علي بن عمر الويغلاني كبير بني ورتاجن، كان انتقض على الوزير ابن غازي ولحق بالسوس [4] . ثم خاض القفر إلى هؤلاء الأحلاف فنزل بينهم مقيما لدعوة الأمير عبد الرحمن، فجاءهم ونزمار مفلتا من حبالة الوزير أبي بكر وحرّضهم على ما هم فيه، ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم ووزيره محمد ابن عثمان، وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم. وخرج من تازي فلقيهم، ونزل بين أحيائهم، ورحلوا جميعا إلى إمداد السلطان أبي العبّاس حتى انتهوا إلى صفروي [5] . ثم اجتمعوا جميعا على وادي النجا، وتعاقدوا على شأنهم، وأصبحوا غدا على التعبية، كل من ناحيته.   [1] وفي نسخة ثانية: وفوّض راجعا ولا معنى لها هنا حسب مقتضى السياق. [2] وفي نسخة ثانية: بكدية العرائس من ظاهرها. [3] جبل زرهون: بقرب فاس فيه أمّة لا يحصون ويقع على بعد 30 كلم من مدينة مكناسة الزيتون، وبه مدفن المولى إدريس الأكبر مؤسس الدولة الإدريسية بالمغرب، وبالجبل تقع مدينة وليلى التاريخية. [4] السوس: إقليم واسع. يقع في جنوب مدينة مراكش وراء جبال أطلس، ويتخلله واد عظيم يسمى وادي سوس، تتفرع منه عدة اودية، وحول الوادي وفروعه مزارع واسعة، بها أشجار ونخيل، وباقليم السوس مدن كبيرة. منها: تارودانت وتزنيت، وعلى ساحلي البحر المحيط حيث مصب وادي سوس تقع مدينة اغادير. [5] وفي نسخة ثانية: صفووى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 635 وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق، وولّى منهزما فانحجر بالبلد الجديد [1] ، وخيّم القوم بكدية العرائس محاصرين له، وذلك أيام عيد الفطر من سنة خمس وسبعين وسبعمائة فحاصروها ثلاثة أشهر وأخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه، فأذعن للصلح على خلع الصبيّ المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز، وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمّه، والبيعة له، وكان السلطان أبو العبّاس والأمير عبد الرحمن قد تعاهدوا عند الاجتماع بوادي النجا على التعاون والتناصر، على أنّ الملك للسلطان أبي العبّاس بسائر أعمال المغرب، وأنّ للأمير عبد الرحمن بلد سجلماسة ودرعة [2] والأعمال التي كانت لجدّه السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن. ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار، واشتطّ بطلب مراكش وأعمالها فأغضوا له في ذلك، وشارطوه على ذلك حتى يتمّ لهم الفتح، فلما انعقد ما بين السلطان أبي العبّاس والوزير أبي بكر، وخرج إليه من البلد الجديد، وخلع سلطانه الصبيّ المنصوب، ودخل السلطان أبو العبّاس إلى دار الملك فاتح ست وسبعين وسبعمائة وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذّ السير إلى مراكش، وبدا للسلطان أبي العبّاس ووزيره محمد بن عثمان في شأنه، فسرّحوا العساكر في اتباعه، وانتهوا خلفه إلى وادي بهت فواقفوه ساعة من نهار، ثم أحجموا عنه، وولّوا على راياتهم، وسار هو إلى مراكش، ورجع عنه وزيره مسعود بن ماسي بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودّع بها، فسرّحه لذلك، وسار إلى مراكش فملكها. وأمّا أنا فكنت مقيما بفاس في ظلّ الدولة وعنايتها، منذ قدمت على الوزير سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما مرّ، عاكفا على قراءة العلم وتدريسه، فلمّا جاء السلطان أبو العبّاس والأمير عبد الرحمن وعسكروا بكدية العرائس، وخرج أهل الدولة إليهم من الفقهاء والكتاب والجند، وأذن للناس جميعا في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك، فكنت أبا كرهما معا، وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مرّ   [1] البلد الجديد: تسمّى أيضا المدينة البيضاء، وفاس الجديد، بناها يعقوب بن عبد الحق المريني على وادي فاس سنة 764. [2] درعة: وتنطق درا وكذلك تكتب على الخرائط، وهي مقاطعة كبيرة وراء جبال أطلس شرقي إقليم السوس، تصل حدودها الى البحر المحيط من مدن هذا الإقليم: ورزازت في السفح الجنوبي لجبال أطلس وسكانها مختلطين من العرب وبربر صنهاجة. وهذا الإقليم هو الموطن الأصلي لدولة السعديين بالمغرب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 636 ذكره قبل هذا، فكان يظهر لي رعاية ذلك، ويكثر من المواعيد، وكان الأمير عبد الرحمن يميل إليّ ويستدعيني أكثر أوقاته، ويشاورني في أحواله، فغصّ بذلك الوزير محمد بن عثمان وأغرى سلطانه فتقبّض عليّ. وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك، وعلم أنّي إنّما أتيت من جرّاه، فحلف ليقوّضن خيامه، وبعث وزيره مسعود بن ماسي لذلك، فأطلقني من الغد، ثم كان افتراقهما لثالثة. ودخل الأمير أبو العبّاس دار الملك، وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وكنت أنا يومئذ مستوحشا، فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزما على الإجازة إلى الأندلس من ساحل آسفي، معوّلا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماسي لهواي فيه، فلمّا رجع مسعود ثني عزمي في ذلك، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف، لتقدّمه وسيلة إلى السلطان أبي العبّاس صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس، ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس، واستأذنه في شأني، فأذن لي بعد مطاولة وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان بن داود بن أعراب، ورجال الدولة. وكان الأخ يحيى لمّا رحل السلطان أبو حمّو من تلمسان، رجع عنه من بلاد زغبة إلى السلطان عبد العزيز، فاستقرّ في خدمته، وبعده في خدمة ابنه السعيد المنصوب مكانه. ولمّا استولى السلطان أبو العبّاس على البلد الجديد استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان، فأذن له وقدم على السلطان أبي حمّو، فأعاده لكتابة سرّه كما كان أوّل أمره، وأذن لي أنا بعده فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار والدّعة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الاجازة الثانية إلى الأندلس ثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العرب والمقامة عند أولاد عريف ولما كان ما قصصته من تنكّر السلطان أبي العبّاس صاحب فاس والذهاب مع الأمير عبد الرحمن، ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف طلبا للوسيلة في انصرافي إلى الأندلس بقصد الفرار والانقياض، والعكوف على قراءة العلم، فتمّ ذلك ووقع الإسعاف به بعد الامتناع، وأجزت إلى الأندلس في ربيع سنة ست وسبعين وسبعمائة ولقيني السلطان بالكرامة وأحسن النزل على عادته، وكنت لقيت بجبل الفتح كاتب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 637 السلطان ابن الأحمر من بعد ابن الخطيب الفقيه أبا عبد الله بن زمرك، ذاهبا إلى فاس في غرض التهنئة، وأجاز إلى سبتة في أسطوله، وأوصيته بإجازة أهلي وولدي إلى غرناطة، فلمّا وصل إلى فاس، وتحدّث مع أهلي في إجازتهم، تنكّروا لذلك، وساءهم استقراري بالأندلس، واتّهموا أنّي ربّما أحمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبد الرحمن الّذي اتّهموني بملابسته، ومنعوا أهلي من اللحاق بي. وخاطبوا ابن الأحمر في أن يرجّعني إليهم، فأبى من ذلك، فطلبوا منه أن يجيزني إلى عدوة تلمسان، وكان مسعود بن ماسي قد أذنوا له في اللحاق بالأندلس، فحملوه مشافهة السلطان بذلك، وأبدوا له انّي كنت ساعيا في خلاص ابن الخطيب، وكانوا قد اعتقلوه لأوّل استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به. وبعث إليه [1] ابن الخطيب مستصرخا به، ومتوسّلا، فخاطبت في شأنه أهل الدولة، وعوّلت فيه منهم على ونزمار وابن ماسي، فلم تنجح تلك السعاية، وقتل ابن الخطيب بمحبسه، فلمّا قدم ابن ماسي على السلطان ابن الأحمر وقد أغروه بي فألقى إلى السلطان ما كان منّي في شأن ابن الخطيب، فاستوحش من ذلك، وأسعفهم بإجازتي إلى العدوة، ونزلت بهنين والجوّ بيني وبين السلطان أبي حمّو مظلم بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزاب كما مرّ. فأوعز بمقامي بهنين، ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني فبعث عني إلى تلمسان، واستقررت بها بالعبّاد، ولحق بي أهلي وولدي من فاس، وأقاموا معي وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين وسبعمائة وأخذت في بثّ العلم، وعرض للسلطان أبي حمّو رأي في الزواودة، وحاجة إلى استئلافهم، فاستدعاني وكلّفني السفارة إليهم في هذا الغرض، فاستوحشت منه ونكرته على نفسي لما آثرته من التخلّي والانقطاع، وأجبته إلى ذلك ظاهرا، وخرجت مسافرا من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء، فعدلت ذات اليمين إلى منداس ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول [2] فلقوني بالتحف والكرامة، وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا عن أهلي وولدي بتلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عنّي في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني بأهلي في قلعة أولاد سلامة [3] من بلاد بني توجين التي صارت لهم بأقطاع السلطان، فأقمت بها أربعة   [1] الضمير يعود الى ابن خلدون. [2] جبل كزول: يقع في الجنوب الغربي لمدينة تيارت على بعد 10 كلم. [3] تسمى هذه القلعة قلعة تاوغزوت في مقاطعة وهران من بلاد الجزائر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 638 أعوام متخليا عن الشواغل كلّها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدّمة على ذلك النحو الغريب الّذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسألت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها، وتألّفت نتائجها، وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره إن شاء الله تعالى. (الفيئة الى السلطان أبي العباس بتونس) ولما نزلت بقلعة ابن سلامة من أحياء أولاد عريف، وسكنت بقصر أبي بكر بن عريف الّذي اختطّه بها، وكان من أحفل المساكن وأوثقها. ثم طال مقامي هنالك وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان، وعاكف على تأليف هذا الكتاب، وقد فرغت من مقدّمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة، وتشوّفت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت النكير من حفظي، وأردت التنقيح والتصحيح، ثم طرقني مرض أربى على البنية لولا ما تدارك من لطف الله، فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العبّاس والرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي ومساكنهم، وآثارهم وقبورهم، فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته، والمراجعة، فما كان غير بعيد، وإذا بخطابه وعهوده بالإذن والاستحثاث للقدوم، فكان الخفوق للرحلة فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الاجص [1] من بادية رياح، كانوا هنالك ينتجعون الميرة بمنداس، وارتحلنا في رجب سنة ثمانين وسبعمائة وسلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب. ثم صعدت إلى التل مع حاشية يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار [2] الضيعة التي اختطّها بالزاب، فرحلت معهم [3] إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة، ومعه صاحبها الأمير إبراهيم ابن السلطان أبي العبّاس بمخيّمه ومعسكره، فحضرت عنده وقسم لي من برّه وكرامته فوق الرضى وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة وإقامة أهلي في كفالة إحسانه، ريثما أصل إلى حضرة أبيه، وبعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومه،   [1] وفي نسخة ثانية: عرب الأخضر. [2] فرفار: واحة صغيرة تبعد 33 كلم عن مدينة بسكرة إلى الجنوب الغربي. [3] وفي نسخة ثانية: فرحلتهم معي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 639 وسرت إلى السلطان أبي العبّاس وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها، فوافيته بظاهر سوسة، فحيّا وفادتي برّ مقدمي وبالغ في تأنيسي، وشاورني في مهمّات أموره، ثم ردّني إلى تونس وأوعز إلى نائبة بها مولاه فارح بتهيئة المنزل، والكفاية من الجراية والعلوفة، وجزيل الإحسان، فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة، وآويت إلى ظلّ ظليل من عناية السلطان وحرمته، وبعثت إلى الأهل والولد وجمعت شملهم في مرعى تلك النعمة، وألقيت عصا التسيار، وطالت غيبة السلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد، وذهب فلّهم في النواحي، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة، ونزل على صهره ابن مزني، وقسم السلطان بلاد الجريد بين ولده، فأنزل ابنه محمدا المنتصر بتوزر [1] وجعل نفطة ونفزاوة من أعماله، وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة، وعاد إلى تونس مظفّرا مزهرا، فأقبل عليّ واستدناني لمجالسته، والنجاء في خلوته، فغصّ بطانته من ذلك، وأفاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح، وكانوا يعكفون على إمام الجامع، وشيخ الفتيا محمد بن عرفة، وكان في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المرسي بمجالسة الشيوخ، فكثيرا ما كان يظهر شفوفي [2] عليه، وإن كان أسنّ مني فاسودّت تلك النكتة في قلبه، ولم تفارقه، ولما قدمت تونس انثال عليّ طلبة العلم من أصحابه وسواهم يطلبون الإفادة والاشتغال، وأسعفتهم بذلك، فعظم عليه، وكان يسرّ التنفير إلى الكثير منهم، فلم يقبلوا، واشتدّت غيرته ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه، فاتفقوا على شأنهم في التأنيب والسعاية بي، والسلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك، وقد كلّفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوّقه إلى المعارف والأخبار، واقتناء الفضائل فأكملت منه أخبار البربر وزناتة، وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل اليّ منها، وأكملت منها نسخة رفعتها إلى خزانته. وكان مما يغرون به السلطان قعودي على امتداحه، فإنّي كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة، وتفرّغت للعلم فقط، فكانوا يقولون له إنّما ترك ذلك استهانة بسلطانك لكثرة امتداحه للملوك قبلك، وتنسّمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم، فلمّا رفعت له الكتاب وتوّجته باسمه أنشدت في   [1] نوزر: مدينة واقعة على الحافة الشمالية لشط الجريد بينها وبين نقطة عشرة فراسخ (معجم البلدان) . [2] شف عليه شفوفا إذا زاد أو نقص (لسان العرب) وهنا يعني الزيادة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 640 ذلك اليوم هذه القصيدة امتدحه، وأذكّر سيره وفتوحاته، واعتذر عن انتحال الشعر واستعطفه بهدية الكتاب إليه فقلت: هل غير بابك للغريب مؤمّل ... أو عن جنابك للاماني معدل هي همّة بعثت إليك على النّوى ... عزما كما شحذا لحسام الصّيقل متبوّأ الدنيا ومنتجع المنى ... والغيث حيث العارض المتهلل حيث القصور الزاهرات منيفة ... تعنو لها زهر النجوم وتحفل [1] حيث الخيام البيض ترفع للقرى ... قد فاح في أرجائهنّ المندل [2] حيث الحمى للعزّ في ساحاته ... ظلّ أفاءته الوشيج الذبّل حيث الرماح يكاد يورق عودها ... مما تعلّ من الدماء وتنهل حيث الكرام ينوب عن نار القرى ... عرف الكباء بحيّهم والمندل حيث الجياد أملن شجعان الوغى ... مما أطالوا في المنار وأوغلوا [3] حيث الوجوه الغرّ قنعها الحيا ... والبشر في صفحاتها يتهلّل حيث الملوك الصيد والنّفر الألى ... عزّ الجوار لديهم والمنزل من شيعة المهديّ بل من شيعة ... التوحيد جاء به الكتاب مفصّل [4] شادوا على التقوى مباني عزّهم ... للَّه ما شادوا بذاك وأثّلوا بل شيعة الرحمن ألقى حبّهم ... في خلقه فسموا بذاك وفضّلوا قوم أبو حفص أب لهم وما ... أدراك والفاروق جدّ أوّل [5] نسب كما اضطردت أنابيب القنا ... وأتى على تقويمهنّ معدّل سام على هام الزّمان كأنّه ... للفجر تاج بالبدور مكلّل   [1] وفي نسخة ثانية: تعنى بها زهر النجوم وتحفل. [2] وفي نسخة ثانية: حيث الخيام البيض يرفع للعلى ... والمكرمات طرافها المتهدل [3] وفي نسخة ثانية: حيث الجياد أملهن بنو الوغى ... ممّا أطالوا في المغار وأوغلوا [4] وفي نسخة ثانية: يفصّل. [5] ابو حفص هو عمر بن عبد الله الصنهاجي ويعرف بأزناج وعمر ومزال، ويذكر ابن خلدون ان نسب الحفصيين ينتهي إلى ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب ونقل ذلك عن ابن نخيل وغيره من الموحدين (راجع المجلد السادس من هذا الكتاب) . ابن خلدون م 41 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 641 فضل الأنام حديثهم وقديمهم ... ولأنت إن نصّبوا أعزّوا أفضل وبنوا على قلل التخوم ووطّدوا ... وبناؤك العالي أشدّ وأطول ولقد أقول لخائض بحر الغلا ... والليل مدّثر الجوانب أليل [1] ماض على غول الدّجى لا يتّقي ... منها وذا بله ذبال مشعل متقلّب فوق الرماح [2] كأنّه ... طيف بأطراف المهاد موكّل يبغي منال الفوز من طرق الغنى ... ويرود مخصبها الّذي لا يمجل أرح الرّكاب فقد ظفرت بواهب ... يعطي عطاء المنعمين فيجزل للَّه من خلق كريم في النّدى ... كالروض حيّاه نديّ مخضوضل هذا أمير المؤمنين إمامنا ... في الدين والدنيا إليه الموئل هذا أبو العبّاس خير خليفة ... شهدت له الشّيم التي لا تجهل مستنصر باللَّه في قهر العدا ... وعلى إعانة ربّه متوكّل سبق الملوك إلى العلا متمهّلا ... للَّه منك السابق المتمهّل فلأنت أعلى المالكين وإن غدوا ... يتسابقون إلى العلاء وأكمل قائس قديما منهم بقديمكم [3] ... فالأمر فيه واضح لا يجهل دانوا لقومكم بأقوم طاعة ... هي عروة الدين التي لا تفصل سائل تلمسانا بها وزناتة ... ومرين قبلهم كما قد ينقل وأسأل بأندلس مدائن ملكها ... تخبرك حين استأنسوا واستأهلوا وأسأل بذا مرّاكشا وقصورها ... فلقد تجيب رسومها من يسأل يا أيّها الملك الوفيّ يا ذا الّذي ... ملاء القلوب وفوق ما يتمثّل [4] للَّه منك مؤيّد عزماته ... تمضي كما يمضي القضاء المرسل حيث الزمان يحتّ أعظم حتّه [5] ... فافترّ عنه وهو أكلح أعضل والشّمل من أنبائه متصدّع ... وعلا خلافتهم [6] مضاع مهمل   [1] وفي نسخة ثانية: والليل مزيّد الجوانب أليل [2] وفي نسخة ثانية: الرّحال. [3] وفي نسخة ثانية: قائس قديما منكم بقديمهم. [4] وفي نسخة ثانية: يا أيها الملك الّذي في نعته ملء القلوب وفوق ما يتمثّل [5] وفي نسخة ثانية: جئت الزمان بحيث أعضل خطبه، وأعصل مكان أعضل في الشطر الثاني والأعصل: المعوج والشديد الالتواء. والأعضل: الأشد قبحا. [6] وفي نسخة ثانية: وحمى خلافته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 642 والخلق قد صرفوا إليك قلوبهم ... ورجوا إصلاح الحال منك وأمّلوا فعجلته لما انتدبت لأمره ... بالبأس والعزم الّذي لا يمهل ذلّلت منه جامحا لا ينثني ... سهّلت وعرا كاد لا يتسهّل وألنت من سوس العتاة وذدتهم ... عن ذلك الحرم الّذي قد حلّلوا كانت لصولة صولة ولقومه ... يعدو ذؤيب بها وتسطو المعقل ومهلهل تسدي وتلحم في التي ... ما أحكموها فهي بعد مهلهل والمراد بصولة هنا صولة بن خالد بن حمزة أولاد أبي الليل. وذؤيب هو ابن عمّه أحمد بن حمزة. والمعقل فريق من العرب من أحلافهم، ومهلهل هم بنو مهلهل بن قاسم أنظارهم وأقتالهم. ثم رجع إلى وصف العرب وأحيائهم: عجب الأنام لشأنهم بادون قد ... قذفت بحيّهم المطيّ الذلّل رفعوا القباب على العماد وعندها ... الجرد السّلاهب والرّماح العسل [1] في كلّ طامي الرب منعقد الحصا [2] ... تهدي للجّته الظماء فتنهل حيّ شرابهم السراب ورزقهم ... ريح يروح به الكميّ ومنصل [3] حيّ حلول بالعراء ودونهم ... قذف النّوى إن يظعنوا أو يقبلوا كانوا يروعون الملوك بما بدوا ... وغدت ترفّه بالنعيم وتخضل فبدوت لا تلوي على دعة ولا ... تأوي إلى ظلّ القصور وتهزل [4] طورا يصافحك الهجير وتارة ... فيه بخفّاق البنود تظلّل وإذا تعاطى الضمر في يوم الوغى [5] ... كأس النجيع فبالصّهيل تعلّل مخشوشنا في العزّ معتملا له ... في مثل هذا يحسن المستعمل تفري حشى البيداء لا يسري بها ... ركب ولا يهوي إليه جحفل وتجرّ أذيال الكتائب فوقها ... تختال في السّمر الطوال وترفل   [1] السلاهب: ج سلهب. وسلاهبة: الطويل. والعسل: ذو العمل الصالح يستحلى الثناء عليه وهي جمع عاسل. [2] وفي نسخة ثانية: في كل ظامي الترب متّقد الحصى. [3] وفي نسخة ثانية: جنّ شرابهم السراب ورزقهم رمح يروح به الكميّ ومنصل [4] وفي نسخة ثانية: تأوي الى ظلل القصور تهدّل. [5] وفي نسخة ثانية: وإذا تعاطي خمرا يوم الوغى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 643 ترميهم منها بكلّ مدجّج ... شاكي السلاح إذا استعار الأعزل وبكل أسمر غصنه متأوّد ... وبكل أبيض شطّه متهدّل حتى تفرّق ذلك الجمع الألى ... عصفت بهم ريح الجلاء فزلزلوا ثم استملتهم بنعمتك [1] التي ... خضعوا لعزّك بعدها وتذلّلوا ونزعت من أهل الجريد غواية ... وقطعت من أسبابها ما أوصلوا خرّبت من بنيانها ما شيّدوا ... وقطعت من أسبابها ما أصّلوا ونظمت من أمصاره وثغوره ... للملك عقدا بالفتوح يفصّل فسددت مطّلع النفاق وأنت لا ... تنبو ظباك ولا العزيمة تنكل بشكيمة مرهوبة وسياسة ... تجري كما يجري فرات سلسل عذب الزمان لها ولذّ مذاقه ... من بعد ما قد مرّ منه الحنظل فضوى الأنام لعزّ أروع مالك ... سهل الخليقة ما جد متفضّل وتطابقت فيه القلوب على الرضا ... سيّان منها الطفل والمتكهّل يا مالكا وسع الزمان وأهله ... عدلا وأمنا فوق ما قد أمّلوا فالأرض لا يخشى بها غول ولا ... يعدو بساحتها الهزبر المشبل والسّرب يجتابون كل تنوفة ... سرب القطا ما راعهنّ الأجدل [2] سبحان من بعلاك قد أحيا المنى ... وأعاد حليّ الجيد وهو معطّل سبحان من بهداك أوضح للورى ... قصد السبيل فأبصر المتأمّل فكأنّما الدنيا عروس تجتلى ... فتميس في حلل الجمال وترفل وكأنّ مطبقة البلاد بعدله ... عادت فسيحا ليس فيها مجهل وكأنّ أنوار الكواكب ضوعفت ... من نور غرّته التي هي أجمل وكأنّما رفع الحجاب لناظر ... فرأى الحقيقة في الّذي يتخيّل ومنها في العذر عن مدحه: مولاي غاضت فكرتي وتبلّدت ... مني الطّباع فكلّ شيء مشكل تسمو إلى درك الحقائق همّتي ... فأصد عن إدراكهنّ وأعزل   [1] وفي نسخة ثانية: بأنعمك التي. [2] وفي نسخة ثانية: والسّفر، وتنوفة: القفر من الأرض دون ماء. والأجدل: الأشقر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 644 وأجدّ ليلى في امتراء قريحتي [1] ... فتعود غورا بعد ما تسترسل فأبيت يختلج [2] الكلام بخاطري ... والنّظم يشرد والقوافي تجفل وإذا امتريت العفو منه جاهدا ... عاب الجهابذ صنعه واسترذلوا من بعد حول انتقيه ولم يكن ... في الشّعر لي قول يعاب ويمهل [3] فأصونه عن أهله متواريا ... أن لا يضمّهم وشعري محفل وهي البضاعة في القبول نفاقها ... سيّان فيه الفحل والمتطفّل وبنات فكري إن أتتك كليلة ... زهراء [4] تخطر في القصور وتخطل فلها الفخار إذا منحت قبولها ... وأنا على ذاك البليغ المقول ومنها في ذكر الكتاب المؤلف بخزانته: وإليك من سير الزّمان وأهله ... عبرا يدين بفضلها من يعدل صحفا تترجم عن أحاديث الاولى ... درجوا [5] فتجمل عنهم وتفصّل تبدي التبابع والعمالق سرّها ... وثمود قبلهم وعاد الأوّل والقائمون بملّة الإسلام من ... مضر وبربرهم إذا ما حصّلوا لخصت كتب الأوّلين بجمعها ... وأتيت أوّلها بما قد أغفلوا وألنت حوشيّ الكلام كأنّما ... سرد للغات بها لنطقي ذلّل وجعلته لسوار ملكك مفخرا ... يبهي النديّ به ويزهو المحفل [6] والله ما أسرفت فيما قلته ... شيئا ولا الاسراف مني يجمل ولأنت أرسخ في المعالي رتبة ... من أن يموّه عنده متطفّل فملاك كلّ فضيلة وحقيقة ... الناس تعرف فضلها [7] ان بدّلوا والحقّ عندك في الأمور مقدّم ... أبدا فماذا يدّعيه المبطل   [1] امتراء القريحة: استدرارها. [2] وفي نسخة ثانية: يعتلج. [3] وفي نسخة ثانية: في الشعر حوليّ يعاب ويهمل. [4] وفي نسخة ثانية: مرهاء، وامرأة مرهاء أي غير مكتحلة. [5] وفي نسخة ثانية: غبروا. [6] وفي نسخة ثانية: وجعلته لصوان ملك مفخرا يبأي النديّ به ويزهو المحفل ويبأي: يفخر. [7] وفي نسخة ثانية: تعرف وضعها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 645 والله أعطاك التي لا فوقها ... فاحكم بما ترضى فأنت الأعدل أبقاك ربّك للعباد تربّهم ... فاللَّه يخلقهم ورعيك يكفل وكنت انصرفت من معسكره على سوسة إلى تونس، بلغني وأنا مقيم بها أنّه أصابه في طريقه مرض، وعقبه برء فخاطبته بهذه القصيدة: ضحكت وجوه الدهر بعد عبوس ... وتخلّلتنا رحمة من بوس وتوضّحت غرر البشائر بعد ما ... انبهمت فأطلعها حداة العيس [1] صدعوا بها ليل الهموم كأنّما ... صدعوا الظلام بجذوة المقبوس فكأنّهم جنات عدن في الورى [2] ... نشرت لها الآمال من مرموس قرّت عيون الخلق منها بالتي ... شربوا النّعيم لها بغير كؤوس يتمايلون من المسرّة والرضا ... ويقابلون أهلّة بشموس من راكب وافى يحيى راكبا ... وجليس أنس قاده لجليس ومشفّع للَّه يؤنس عنده ... أثر الهدى في المعهد المأنوس يعتدّ منها رحمة قدسيّة ... فيبوء للرحمن بالتقديس طبّ بإخلاص الدّعاء وإنّه ... يشفي من الداء العيا والبوس [3] والمعنيّ به إمام الجامع الأعظم، جامع الزيتونة بتونس. يا ابن الخلافة [4] والذين بنورهم ... نهجت سبيل الحقّ بعد دروس والناصر الدين القويم بعزمه ... طردت إمامتها بغير عكوس [5] هجر المنى فيها ولذّات المنى ... في لذّة التهجير والتّغليس [6] حاط الرياضة بالسياسة فانطوت [7] ... منه لا كرم مالك وسيوس   [1] العيس: الواحد: اعيس، والواحدة: عيساء: الإبل البيض يخالط بياضها سواد خفيف- كرام الإبل. [2] وفي نسخة ثانية: فكأنهم بثوا حياة في الورى. [3] البؤس: أي البؤس الشقاء وفي نسخة ثانية: يشفي من الداء العياء ويوسي. [4] وفي نسخة ثانية: يا ابن الخلائف. [5] وفي نسخة ثانية: طرد استقامتها بغير عكوس. [6] التهجير: التكبير الى الصلاة وفي الحديث: لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه، والتفليس: السير الى صلاة الصبح عند ظلمة آخر الليل. [7] وفي نسخة ثانية: حاط الرعية بالسياسة فانضوت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 646 أسد يحامي عن حمى أشباله ... حتى ضووا منه لأمنع خيس [1] قسما بموشيّ البطاح وقد غدت ... تختال زهوا في ثياب عروس والماثلات من الحنايا. جثّما ... بالبيد من طسم وفل جديس وخز البلى منها الغوارب والذّرى ... فلفتن حذرا بالعيون الشوس لبقاك حرز للأنام وعصمة ... وحياة أرواح لنا ونفوس ولأنت كافل ديننا بحماية ... لولاك ضيّع عهدها وتنوسي الله أعطاك التي لا فوقها ... وحباك حظّا بالموكوس [2] تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا ... سيّان من رأس ومن مرءوس فإذا أقمت فإنّ رعبك راحل ... يحمي على الأعداء كلّ وطيس وإذا رحلت فالسعادة آية ... تقتادها في موكب وخميس وإذا الأدلّة في الكمال تطابقت ... جاءت بمسموع لها ومقيس فأنعم بملكك دولة عاديّة ... تشقي الأعادي بالعذاب البئيس [3] وإليكها منّي على خجل بها ... عذراء قد حليت بكلّ نفيس عذراك قد طمس الشباب ونوره ... وأضاء صبح الشّيب عند طموس لولا عنايتك التي أوليتني ... ما كنت أعني بعدها بطروس [4] والله ما أبقت ممارسة النّوى ... منّي سوى رسم أمرّ دريس [5] أنحى الزمان عليّ في الأدب الّذي ... دارسته بمجامع ودروس فسطا على فرعي [6] وروّع مأمني ... واجتثّ من دوح النشاط غروسي ورضاك رحمتي التي أعتدّها ... تحيي منى نفسي وتذهب بؤسي ثم كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات، وابن عرفة يزيد في إغرائهم متى اجتمعوا إليه، إلى أن أغروا السلطان بسفري معه، ولقّنوا النائب بتونس القائد   [1] الخيس: ج الخيسة: موضع الأسد. [2] الموكوس: (مص) مكس. المنقوص. [3] أي بالعذاب القوي. [4] الطروس: الصحيفة عموما. الصحيفة التي محيت ثم كتبت (وهنا يعني الكتب) . [5] وفي نسخة ثانية: سوى حرس أحمّ وريس. والمرس: الحبل والأحم: الأسود والدريس: الخلق. [6] وفي نسخة ثانية: فسطا على وفري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 647 فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامي معه خشية على أمره مني بزعمه، وتواطئوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان حتى شهد به في غيلة مني ونكر السلطان عليهم ذلك، ثم بعث إليّ وأمرني بالسفر معه، فسارعت إلى الامتثال، وقد شق ذلك عليّ، إلّا أني لم أجد محيصا، فخرجت معه وانتهيت إلى تبسة، وسط وطن تلول إفريقية، وكان منحدرا في عسكره وتوابعه من العرب إلى توزر لأنّ ابن يملول أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة واستنقذها من يد ابنه، فسار السلطان إليه، وشرّده عنها، وأعاد إليها ابنه وأولياءه. ولما نهض من تبسة رجّعني إلى تونس فأقمت بضيعة الرياحين من نواحيها لضمّ زراعتي [1] بها الى أن قفل السلطان ظافرا منصورا فصحبته إلى تونس. ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة أجمع السلطان الحركة إلى الزاب بما كان صاحبه ابن مزني قد آوى ابن يملول إليه ومهّد له في جواره، فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السنة قبلها، وكان بالمرسى سفينة لتجّار الإسكندرية قد شحنها التجّار بأمتعتهم وعروضهم، وهي مقلعة إلى الإسكندرية فتطارحت على السلطان، وتوسّلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي، فأذن لي في ذلك، وخرجت إلى المرسي والناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودّعتهم وركبت البحر منتصف شعبان من السنة، وقوّضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه، وتفرّعت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم، والله وليّ الأمور سبحانه. (الرحلة الى المشرق وولاية القضاء بمصر) ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة أقمنا في البحر نحوا من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر، ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت، واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون، وكنا على ترقّب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سمّوه لذلك، وتمهيده له. وأقمت بالإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحج ولم يقدّر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أوّل ذي   [1] وفي نسخة ثانية: لضم زروعي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 648 العقدة فرأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر الجنّة ومدفع مياه السماء، يسقيهم العلل والنّهل سيحه، ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجّه [1] ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نتحدّث بهذا البلد وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجّهم وتاجرهم في الحديث عنه، سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام. وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من السحاب [2] يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب. وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبويّة [3] إلى الضريح الكريم سنة ست وخمسين وسبعمائة فسألته عن القاهرة فقال. أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إنّ الّذي يتخيّله الإنسان فإنّما يراه دون الصورة التي تخيّلها الاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنّها أوسع من كل ما يتخيّل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون لذلك. ولما دخلتها أقمت أياما وانثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها. ثم كان الاتصال بالسلطان فأبرّ مقامي وآنس الغربة، ووفّر الجراية من صدقاته شأنه   [1] الثج: الصب الكثير. [2] وفي نسخة ثانية الحساب وهي الأصح وبذلك يقول المقريزي في خططته: «قال شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى: أهل مصر كأنما فرقوا من الحساب» الخطط 1/ 79 طبع مصر 1324 هـ. [3] الرسالة النبويّة اعتادوا كتابتها في مناسبات عديدة، كان يبعثون بها الى قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بواسطة رسول خاص الى الروضة الشريفة حيث تقرأ قرب القبر النبوي الكريم وفي نفح الطيب أمثلة عديدة لهذه الرسائل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 649 مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس، وقد صدّهم السلطان هنالك عن السفر اغتباطا بعودي إليه فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه لتخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك بما نصّه [1] . بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [2] . 1: 1 عبد الله ووليّه أخوه برقوق [3] [ ...... ] [4] . السلطان الأعظم، المالك الملك الظاهر، السّيد الأجلّ، العالم العادل، المؤيّد المجاهد، المرابط المثاغر، المظفّر، الشّاهنشاه، سيف الدّنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، إسكندر الزّمان، مولى الإحسان، مملّك أصحاب التخوت والأسرّة والتّيجان، واهب الأقاليم والأقطار، مبيد الطّغاة والبغاة والكفّار، ملك البحرين، مسلك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشّريفين، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، سلطان البسيطة مؤمّن الأرض المحيطة، سيّد الملوك والسلاطين، قسيم [5] أمير المؤمنين [6] ، أبو سعيد برقوق ابن الشّهيد شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس [7] . خلّد الله سلطانه، ونصر   [1] سقط نص هذه الرسالة في أكثر النسخ. وقد أضفنا من نسخة بولاق المصرية طبعة دار الكتاب اللبناني حتى لا يفوتنا شيء من هذا الكتاب. [2] حافظت في هذه الرسالة على الطريقة الرسمية التي كانت متبعة في ذلك العهد، والتي يقول عنها القلقشندي في صبح الأعشى (7/ 378) ، في رسم المكاتبة الى صاحب فاس، وغيره من ملوك المغرب: « ... وهو أن يكتب بعد البسملة، بحيث يكون تحتها سواء، في الجانب الأيمن من غير أول السطر مسامتا للبسملة، وهي: السلطان الأعظم إلخ» . [3] في خطط المقريزي 2/ 211 بولاق: «واما البريد، وخلاص الحقوق والظلامات، فإنه (السلطان) يكتب أيضا اسمه، وربما كرم المكتوب اليه، فكتب اليه: «أخوه فلان، أو والده فلان، وأخوه» . [4] هذا البياض هو بيت العلامة، وكانت علامة الناصر محمد بن قلاوون: «الله أملي» ، وعمل ذلك الملوك بعده. خطط المقريزي 2/ 211 بولاق، والاستقصاء 2/ 72، صبح الأعشى 7/ 378. [5] القسيم بمعنى القاسم، والمراد أنه قاسم أمير المؤمنين الملك، وساهمه في الأمر، فصارا فيه مشتركين. صبح الأعشى 7/ 65، 113. [6] هو المتوكل على الله، ابو عبد الله محمد بن المعصد الخليفة العباسي. ولي سنة 763 هـ وامتدت أيامه 45 سنة، حبس فيها وخلع، ومات سنة 808 هـ. «تاريخ الخلفاء» ص 202، 203. [7] كذا، وهو سيف الدين انز الجركسي العثماني سنة 783 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 650 جيوشه وأعوانه- يخص الحضرة السّنية السّرية، المظفّرة الميمونة، المنصورة المصونة، حضرة السلطان العالم، العادل المؤيّد، المجاهد الأوحد، أبي العبّاس، ذخر الإسلام والمسلمين، عدّة الدنيا والدين، قدوة الموحّدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدّول. لا زالت مملكته بقوّته عامرة، ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة، ومعدلته تبوّئه غرفات العز في الدنيا والاخرة. سلام صفا ورده وضفا برده، وثناء فاح ندّه، ولاح سعده، ووداد زاد وجده، وجاد جدّه. امّا بعد حمد الله الّذي جعل القلوب أجنادا مجنّدة، وأسباب الوداد على البعاد مؤكّدة، ووسائل المحبّة بين الملوك في كلّ يوم مجدّدة، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الّذي نصره الله بالرّعب مسيرة شهر وأيّده [1] وأعلى به منار الدين وشيّده، وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده، صلاة دائمة مؤبّدة. فإننا نوضّح لعلمه الكريم، أن الله- وله الحمد- جعل جبلّتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف وأهله، ورفعة شأنه، ونشر إعلامه، ومحبّة أهله وخدّامه، وتيسير مقاصدهم، وتحقيق أملهم، والإحسان إليهم، والتقرّب إلى الله بذلك في السّر والعلانية، فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرّة عين الأولياء، وهداة خلق الله في أرضه، لا سيمّا من رزقه الله الدّراية فيما علمه من ذلك، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك، مثل من سطّرنا هذه المكاتبة بسببه: المجلس [2] . السامي، الشّيخي، الأجلّي، الكبيري، العالمي، الفاضلي، الأثيلي، الأثيري، الإمامي، العلّامي القدوة، المقتدي، الفريدي، المحقّقي، الأصيلي، الأوحدي، الماجدي، الولوي [3] ، جمال الإسلام والمسلمين، جمال العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة البلغاء، علامة الأمّة، إمام الأئمّة، مفيد   [1] يشير الى حديث الصحيحين: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» . (كنوز الحقائق) للمناوي. [2] هذا النوع من الحلي والألقاب الخاصة بأرباب الوظائف الدينية، يأتي في المرتبة الثالثة، فالأولى: درجة «المقر» ، والثانية: درجة «الجناب» ، والثالثة: درجة «المجلس» ، ولكل من الدرجات فروع، و «المجلس السامي» أحد فروع درجة «المجلس» . وانظر تفصيل القول عن هذه الاستعمالات في صبح الأعشى 7/ 15، 154- 159. [3] هذه النسبة الى «ولي الدين» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 651 الطالبين، خالصة الملوك والسلاطين [1] عبد الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته، فإنه أولى بالإكرام، وأحرى، وأحقّ بالرعاية وأجلّ قدرا، وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة، وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية، لا رغبة عن بلاده، بل تحبّبا إلينا، وتقرّبا إلى خواطرنا، بالجواهر النفيسة، من ذاته الحسنة، وصفاته الجميلة، ووجدنا منه فوق ما في النفوس، مما يجلّ عن الوصف ويربي على التعداد. يا له من غريب وصف ودار، قد أتى عنكم بكل غريب، وما برح- من حين ورد علينا- يبالغ في شكر الحضرة العليّة، ومدح صفاتها الجميلة، إلى أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حبّها، وآثرنا المكاتبة إليها. «والعين تعشق قبل الأذن أحيانا» [2] وذكر لنا في أثناء ذلك، أهله وأولاده، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العليّة، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده، ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا، فاقتضت آراؤنا الشريفة، الكتابة إلى الحضرة العليّة لهذين السببين الجميلين، وقد آثرنا إعلام الحضرة العليّة بذلك، ليكون على خاطره الكريم، والقصد من محبته، يقدّم أمره العالي بطلب أهل الشيخ وليّ الدين المشار إليه، وإزاحة أعذارهم، وإزالة عوائقهم، والوصيّة بهم، وتجهيزهم إليه مكرّمين، محترمين، على أجمل الوجوه صحبة قاصده الشيخ الصالح، العارف السالك الأوحد، سعد الدين مسعود المكناسي، الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله، ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة للعلية، مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم ورعايتهم، والتّأكيد عليهم في هذا المعنى، وإذا وصل من بها من البحرية، كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفسهم، ويربي على أملهم، بحيث يهتمّ بذلك على ما عهد من محبّته، وجميل اعتماده، مع ما يتحف به من مراسلاته، ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يحرسه بملائكته وآياته، بمنّه ويمنه إن شاء الله.   [1] اصطلحوا على أن يلحقوا ياء النسب بآخر الألقاب المفردة للمبالغة في التعظيم، ثم جعلوا النسبة الى نفس صاحب اللقب أرفع رتبة من النسبة الى شيء خارج عنه. ومن هنا كان «الاجلي» و «القاضوي» ارفع رتبة من «الجلالي» ، و «القضائي» . صبح الأعشى 6/ 78، 100. ثم ان لهذه الألقاب دلالات متعارفة خاصة. تولى تحديدها القلقشندي في صبح الأعشى 7/ 20، 73. [2] عجز بيت لبشار بن برد، وصدره- كما في الأغاني 3/ 19 بولاق: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والاذن ...... » الجزء: 7 ¦ الصفحة: 652 كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ستّ وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف. الحمد للَّه وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم. ثم هلك بعض المدرّسين بمدرسة القمحية [1] بمصر، من وقف صلاح الدّين بن أيّوب، فولّاني تدريسها مكانه [2] ، وبينا أنا في ذلك، إذ سخط السلطان قاضي المالكية [3] في دولته، لبعض النّزعات فعزله، وهو رابع أربعة بعدد المذاهب، يدعى كلّ منهم قاضي القضاة، تمييزا عن الحكّام بالنّيابة عنهم، لاتّساع خطّة هذا المعمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه، وكبير جماعتهم قاضي الشّافعية، لعموم ولايته في الأعمال شرقا وغربا، وبالصّعيد [4] والفيوم [5] ، واستقلاله بالنّظر في أموال اليتامى والوصايا، ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديما بالولاية إنّما كانت تكون له. فلما عزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة اختصّني السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني وتنويها بذكري وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلّا إمضاءه وخلع عليّ بإيوانه وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمود ووفّيت جهدي بما آمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة مسوّيا بين الخصمين، آخذا بحقّ الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين جانحا إلى التثبّت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل   [1] كان موقع القمحية بجوار العتيق (جامع عمرو) بمصر، وكان موضعها يعرف بدار الغزل، وهو قيسارية كان يباع فيها الغزل، فهدمها صلاح الدين، وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية، ورتب فيها مدرسين، وجعل لها أوقافا كانت ضيعة بالفيوم تغل قمحا كان مدرسوها يتقاسمونه، ولذلك صارت لا تعرف الا بالمدرسة القمحية. خطط المقريزي 2/ 364 بولاق. [2] في السلوك في حوادث سنة 786: «وفي 25 محرم، درّس شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، بالمدرسة القمحية بمصر، عوضا عن علم الدين سلمان البساطي بعد موته، وحضر معه الأمير الطنبغا الجوباني، والأمير يونس الدوادار، وقضاة القضاة والأعيان» . [3] هو جمال الدين عبد الرحمن بن سليمان بن خير المالكي (721- 791) . [4] كان القدماء يعتبرون مبدأ الصعيد الشمالي من قرب القاهرة، ويمتد على ضفتي الوادي جنوبا حتى يصل الى أسوان الّذي كان عندهم نهاية الصعيد الجنوبية، وفيما بين أسوان، واخميم، كان الصعيد الأعلى، ومن اخميم الى مدينة البهنسا الواقعة على الضفة الغربية لوادي النيل، كان يسمى الصعيد الأوسط، أما الصعيد الأدنى فكانت بدايته البهنسا، ونهايته في الشمال، قرب الفسطاط. ياقوت معجم البلدان. [5] تقع الفيوم المدينة المعروفة، في الجنوب الشرقي لبحيرة قارون، في الغرب من وادي النيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 653 الشهادات، فقد كان البرّ منهم مختلطا بالفاجر، والطّيب ملتبسا بالخبيث، والحكّام ممسكون عن انتقادهم، متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنّون بهم الخير ويقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء، والتوسّل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بمرجع العقاب، ومؤلم النكال وتأدّى لعلمي الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل الشهادة، وكان منهم كتاب الدواوين للقضاة والتوقيع في مجالسهم، وتدرّبوا على إملاء الدعاوي وتسجيل الحكومات [1] ، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف [2] على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاة بجاههم يدّرعون [3] به مما يتوقعونه من مغبتهم، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم، وقد يسلّط بعض قلمه، على العقود المحكمة فيوجد السبيل إلى حلّها بوجه فقهيّ أو كتابيّ، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة، وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه، فأصبحت خافية الشهرة مجهولة الأعيان، عرضة للبطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا، شارطوه وأجابوه مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا فيه سدّ الحظر والمنع حماية عن التّلاعب، وفشا من ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر [4] في العقود والأملاك. فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم، ثم التفت إلى أهل الفتيا بالمذهب، وكان الحكّام منهم على جانب الحيرة لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم وفتياهم بعد نفوذ الحكم، وإذا فيهم أصاغر، فبينما هم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة، ولا يكادون إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف، وأجازوها من غير مرتّب [5] ولا مستند للأهلية، ولا مرشح، إذ   [1] اي الأحكام. [2] الشفوف: الفضل. [3] أي يحتمون به. [4] هنا بمعني الخداع. [5] وفي نسخة ثانية: فاحتازوها من غير مثرّب. والمثرّب: اللائم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 654 الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقّة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل، يتجاذب كل الخصوم منها رسنا، ويتناول من حافته شقّا، يروم به الفتح [1] على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه، وكفاء أمنيته متتبعا إيّاه في شغب الخلاف، فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذّر وأهلية المفتي وشهرة الإفتاء عندنا [2] ، فلا يكاد هذا المدى ينحسم [3] ولا الشغب ينقطع. فصدعت في ذلك بالحق وكبحت أعنّة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، ولا ينتمون إلى شيخ معروف مشهود، ولا يعرف لهم كتاب في فنّ اتخذوا الناس هزوا وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومثابة [4] للحرم، فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسدا، وحقدوا عليّ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، ليشترون بها الجاه، ويجترءوا به على الله، وربّما اضطرّ أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم، يترخّصون به الإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرّض لأحكام الله بالجهل، فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت حكم الله فيمن أجازوه، فلم يغنوا عن الله شيئا وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة، وانطلقوا يواطئون السفهاء من النيل في عرضي، وسوء الاحدوثة عني بمختلق الافك وقول الزور، ويبثّونه في الناس ويدسّون إلى السلطان التظلّم مني، فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب على الله، ما منيت به في هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين، وماض على سبيل سويّ من الصرامة وقوّة الشكيمة، وتحرّي العدالة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والإعراض متى غمزني لامسها ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة فنكروه مني ودعوني إلى متابعتهم فيما   [1] وفي نسخة ثانية: الفلج ومعناه الظفر والفوز. [2] بياض بالأصل وفي طبعة بولاق: وشهرة الفتيا ليس تمييزها للعاميّ. [3] وفي نسخة ثانية: فلا يكاد هذا المدد ينحسر. [4] وفي نسخة ثانية: مأبنه: وهو مكان الاتهام بالشر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 655 يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذّرت، بناء على أن الحاكم لا يتعيّن عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعلمون أن قد تمالئوا عليه. وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قضيت له من حقّ أخيه شيئا فإنّما أقضي له من النار» . فأبيت من ذلك كلّه إلا إعطاء العهدة حقّها، والوفاء لها، ولمن قلّدنيها، فأصبح الجميع عليّ البا [1] ولمن ينادي بالتأفّف مني عونا، وفي النكير عليّ أمّة، وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير وجه الحق، لاعتمادي على علمي في الجرح، وهي قضية إجماع. وانطلقت الألسن، وارتفع الصخب وأرادني بعض على الحكم بغرضهم، فتوقفت وأغروا بي الخصوم، فتنادوا بالتظلّم عند السلطان، فجمع القضاة وأهل الفتياء في مجلس جعل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز، وتبيّن أمرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله تعالى إرغاما لهم، فغدوا على حرد قادرين، ودسّوا الأولياء السلطان وعظماء الدولة، يقبحون لهم إهمال جاههم وردّ شفاعاتهم، مموّهين بأنّ الحامل على ذلك جهل المصطلح، وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إليّ، تبعث الحليم وتغري الرشيد، يستثيرون حفائظهم عليّ ويشربونهم البغضاء إليّ، والله يجازيهم وسائلهم. فكثر الشغب عليّ من كل جانب، وأظلم الجوّ بيني وبين أهل الدولة، ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته خشية من نكير السلطان وسخطه، فتوقّفت بين الورد والصدر على صراط الرجاء واليأس، وعن قريب تداركني اللطف الربّاني وشملتني نعمة السلطان أيّده الله في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت كما زعموا مصطلحها، فردّها إلى صاحبها الأوّل، وأنشطني من عقالها، فانطلقت حميد   [1] اي يحيكون المكائد له دون علمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 656 الأثر مشيّعا من الكافة بالأسد والدّعاء، وحميد الثّناء، تلحظني العيون بالرحمة وتتناجى الآمال في بالعودة، ورتعت فيما كنت راتعا فيه قبل من مراعي نعمته وظلّ رضاه وعنايته بالعافية التي سألها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ربّه، عاكفا على تدريس علم أو قراءة كتاب أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤمّلا من الله قطع صبابة العمر [1] في العبادة، ومحو عائق السعادة، بفضل الله ونعمته. (السفر لقضاء الحج) ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة، فودّعت السلطان والأمراء وزودوا وأعانوا فوق الكفاية، وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة إلى مرسي الطور [2] بالجانب الغربي من بحر السويس، وركبت البحر من هنالك عاشر الفطر، ووصلنا إلى الينبع [3] لشهر فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي الحجّة، فقضيت الفريضة في هذه السنة. ثم عدت إلى الينبع فأقمت بها خمسين ليلة حتى تهيّأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح فما وسعنا إلّا قطع البحر إلى جانبه الشرقي، ونزلنا بساحل القصير [4] ثم بذرقنا، ثم سرنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص [5] قاعدة الصعيد، فأرحنا بها أياما، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا، ودخلتها في جمادى سنة تسعين وسبعمائة وقضيت حقّ السلطان في لقائه، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبّل ذلك بقبول حسن، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظلّ إحسانه.   [1] أي بغية العمر. [2] الطور: مدينة على الساحل الغربي لشبه جزيرة سيناء (معجم البلدان) . [3] الينبع: من مدن الجزيرة العربية. تقع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر (وما تزال تحتفظ باسمها إلى هذا اليوم) (معجم البلدان) . [4] القصير: تصغير قصر. وهو مرفأ على الساحل الغربي للبحر الأحمر، تؤمه السفن التجارية من الجزيرة العربية واليمن بينه وبين قصبة الصعيد خمسة أيام (معجم البلدان) . [5] قوص: مدينة واسعة: كانت قصبة صعيد مصر، وكان أهلها أرباب غنى وثروة واسعة لأنها كانت محط التجار القادمين من عدن، وأكثر تجار عدن من مدينة قوص (معجم البلدان) . ابن خلدون م 42 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 657 وكنت لما نزلت بالينبع لقيت بها الفقيه الأديب المتفنّن أبا القاسم بن محمد بن شيخ الجماعة، وفارس الأدباء، ومنفّق سوق البلاغة، أبي إسحاق إبراهيم الساحليّ المعروف جدّه بالطّويجن وقد قدم حاجا وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم كاتب سرّ السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظيّ لديه أبي عبد الله بن زمرك، خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوّف ويذكّر بعهود الصحبة نصّه: سلوا البارق النجديّ على عمل نجدي [1] ... تبسّم فاستبكى جفوني من الوجد أجاد ربوعي باللّوى، درك [2] اللّوى ... وسحّ به صوب الغمائم من بعدي ويا زاجر الأظعان وهي ضوامر ... دعوها ترد هيما عطاشا على نجد ولا تنشّقوا الأنفاس منها مع الصّبا ... فإنّ زفير الشوق من مثلها يعدي براها الهوى بري القداح وخطّها ... حزون [3] على صفح من القفر ممتدّ عجبت لها أني تجاذبني الهوى ... وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي لئن شاقها بين العذيب وبارق ... مياه بفيء الظلّ للّبان والرّند [4] فما شاقني إلّا بدور خدورها ... وقد لحن يوم النّفر في قضب ملد [5] فكم في قباب الحيّ من شمس كلّة ... وفي فلك الأزرار من قمر سعد وكم صارم قد سلّ من لحظ أحور ... وكم ذابل قد هزّ من ناعم القدّ خذوا الحذر من سكّان رامة إنّها ... ضعيفات كرّ اللحظ تفتك بالأسد سهام جفون من قسيّ حواجب ... يصاب بها قلب البريّ على عمد وروض جمال ضاع عرف نسيمه ... وما ضاع غير الورد في صفحة الخدّ ونرجس لحظ أرسل الدمع لؤلؤا ... فرشّ بماء الورد روضا من الورد وكم غصن قد عانق الغصن مثله ... وكلّ على كلّ من الشوق يستعدي قبيح وداع قد جلا لعيوننا ... محاسن من روض الجمال بلا عدّ   [1] وفي نسخة ثانية: سلوا البارق النجديّ من علمي نجد. [2] وفي نسخة ثانية: بورك. [3] وفي نسخة ثانية: حروفا. [4] وفي نسخة ثانية: العذيب: ماء لبني تميم. وكذلك بارق. والبان: شجر يسمو ويطول باستقام، ومنه يستخرج دهن البان. والرند: شجر الغار له رائحة طيبة ويستخرج منه الدهن أيضا. [5] الملد: اللين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 658 رعى الله ليلى لو علمت طريقها ... فرشت لأخفاف المطيّ بها خدّي وما شاقني والطيف يرهب أدمعي ... ويسبح في بحر من الليل مزبد وقد سلّ خفّاق الذوائب بارق ... كما سلّ لمّاع الصّقال من الغمد وهزّت محلاة يد الشّوق في الدّجى ... فحلّ الّذي أبرمت للصبر من عقدي وأقلق خفّاق الجوانح نسمة ... تنمّ مع الأصباح خافقة البرد وهبّ عليل لفّ طيّ بروده ... أحاديث أهداها إلى الغور من نجد [1] سوى صادح في الأيّك لم يدر ما الهوى ... ولكن دعا مني الشجون على وعد فهل عند ليلى نعّم الله ليلها ... بأنّ جفوني ما تملّ من السّهد وليلة إذ وافى الحجيج إلى منى [2] ... وفت لي المنى منها بما شئت من قصد فقضيت منها فوق ما أحسب المنى ... وبرد عفاف صانه الله من برد وليس سوى لحظ خفيّ نجيله ... وشكوى كما ارفضّ الجمان من العقد غفرت لدهري بعدها كلّ ما جنى ... سوى ما جشى [3] وفد المشيب على فودي عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي ... وما زال فضل الضّدّ يعرف بالضّد ومن نام في ليل الشباب ضلالة ... سيوقظه صبح المشيب إلى الرّشد أما والهوى ما حدت عن سنن الهدى [4] ... ولا جرت في طرق الصّبابة عن قصد تجاوزت حدّ العاشقين الأولى مضوا [5] ... وأصبحت في دين الهوى أمّة وحدي نسيت وما أنسى وفائي لخلّتي ... وأقفر ربع القلب إلّا من الوجد إليك أبا زيد شكاة رفعتها ... وما أنت من عمر ولديّ ولا زيد بعيشك خبّرني وما زلت مفضلا ... أعندك من شوق كمثل الّذي عندي فكم ثار بي شوق إليك مبرّح ... فظلّت يد الأشواق تقدح من زندي وصفّق حتى الريح في لمم الرّبى ... وأشفق حتى الطّفل في كبد المهد يقابلني منك الصّباح بوجنة ... حكى شفقا فيه الحياء الّذي تبدي   [1] هو غور تهامة ما بين ذات عرق في البحر، وكل ما انحدر سبه مغرّبا عن تهامة فهو غور (معجم البلدان) . [2] الحجيج: قاصدين بيت الله للحجّ، وهني: موضع في جبل عرفة بجانب مكة. [3] وفي نسخة ثانية: ما حنى. [4] وفي نسخة ثانية: أما والهوى ما حلت عن سنن الهوى. [5] وفي نسخة ثانية: تجاوزت حدّ العاشقين الألى قضوا ... والعمة في البصيرة كالعمى في البصر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 659 وتوهمني الشمس المنيرة غرّة ... بوجهك صان الله وجهك عن ردّ محيّاك أجلى في العيون من الضّحى ... وذكرك أحلى في الشّفاه من الشّهد وما أنت إلّا الشمس في علو أفقها ... نفدّيك من قرب وتلحظ من بعد وفي ماغمّة [1] من لا ترى الشّمس عينه ... وما نفع نور الشمس في الأعين الرّمد من القوم صانوا المجد صون عيونهم ... كما قد أباحوا المال ينهب للرفد إذا ازدحموا يوما على الماء أسرة ... فما ازدحموا إلّا على مورد المجد ومهما أغاروا منجدين صريخهم ... يشبّون نار الحرب في الغور والنّجد ولم يقتنوا بعد الثناء [2] ذخيرة ... سوى الصّارم المصقول والصافن النّهد وما اقتسم الأنفال إلّا ممدّح ... بلاها بأعراف المطهّمة الجرد [3] أتنسى ولا تنسى ليالينا التي ... خلسنا بها العينين من جنّة الخلد [4] ركبنا إلى اللّذات في طلق الصّبا ... مطايا الليالي وادعين إلى حدّ فإن لم ندر فيها الكئوس فإنّنا ... وردنا بها للأنس مستعذب الورد لقيتك [5] في غرب وأنت رئيسه ... وبابك للأعلام مجتمع الوفد فآنست حتى ما شكوت بغربة ... وواليت حتى لم أجد مضض الفقد وعدت لقطري شاكرا ما بلوته ... من الخلق المحمود والحسب العدّ [6] إلى أن أجزت البحر يا بحر نحونا ... وزرت مزار الغيث في عقب الجهد ألذّ من النّعمى على حال فاقة ... وأشهى من الوصل الهنيّ على صدّ ولو ساء أن قوّضت رحلك بالنّوى ... وعوّضت منها بالزّميل وبالوخد [7] لقد سرّني أن لحت في أفق العلا ... على الطائر الميمون والطالع السّعد طلعت بأفق الشّرق نجم هداية ... فجئت مع الأنوار فيه على وعد   [1] وفي نسخة ثانية: وفي عمه. [2] وفي نسخة ثانية: بعد البناء. [3] المطهمة: البارعة الجمال والجرد: القصيرة الشعر. [4] وفي نسخة ثانية: خلسن بهنّ العيش في جنة الخلد. [5] آتيتك. [6] الحسب العدّ: القديم. [7] وإن ساءني ان قوّضت رجلك النوى وعوّضت عنّا بالذّميل وبالوخد والذميل: السير اللين، والوخد الإسراع في المشي أو سعة الخطو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 660 يمينا بمن تسري المطيّ سراهم [1] ... عليها سهام قد رمت هدف القصد إلى بيته كيما تزور معاهدا ... بأنّ بها جبريل عن كرم العهد لأنت لنا مهما دجا ليل مشكل ... قدحت به للنور وارية الزّند وحيث استقلّت في ركاب لطيّة ... فأنت تحيي النفس في القرب والبعد وإني بباب الملك حيث عهدتني ... مذيل [2] ظلال الجاه مستحصف العقد أجهّز بالإنشاء كلّ كتيبة ... من الكتب والكتّاب في عرضها جندي نلوذ من المولى الإمام محمّد ... بظل على نهر المبرّة ممتدّ إذا فاض من يميناه بحر سماحة ... وعمّ به الطوفان في النّجد والوهد ركبنا إلى الإحسان في سفن الرّجا ... بحور عطاء ليس تزجر عن صدّ [3] فمن مبلغ الأنصار عني ألوكة ... مغلغلة في الصّدق منجزة الوعد بآية ما أعطى الخليفة ربّه ... مفاتيح فتح ساقها سائق السّعد ودونك من روض المحامد نفحة ... تفوق إذا اصطفّ النديّ من الندّ ثناء يقول المسك إن ذاع عرفه ... أيا لك من ندّ أيا لك من ندّ [4] وما الماء في جوّ السّحاب مروّقا ... بأظهر ذات منك في كنف المهد فكيف وقد حلّتك أسرابها الجلا [5] ... وباهت بك الأعلام بالعلم الفرد وما الطلّ [6] في ثغر من الزّهر باسم ... بأصفى وأذكى من ثنائي ومن ودّي ولا البدر معصوما بتاج تمامه ... بأبهر من ودّي وأسير من حمدي بقيت ابن خلدون إمام هداية ... ولا زلت من دنياك في جنّة الخلد ووصلها بقوله: سيّدي شيخ الأعلام، كنز رؤساء الإسلام، مشرّف حملة السّيوف والأقلام، جمال الخواصّ والظهراء، أثير الدول، خالصة الملوك، مجتبى الخلفاء، سرّ العلاء [7] أوحد الفضلاء، قدوة العلماء، حجّة البلغاء، أبقاكم الله   [1] وفي نسخة ثانية: سواهما: وهي ج ساهمة وهي الناقة الضامرة. [2] وفي نسخة ثانية: مديد، والمستحصف: المستحكم. [3] وفي نسخة ثانية: تجزر عن قدّ. [4] الند الاولى: الطيب والند الثانية: القرين، المثل. [5] وفي نسخة ثانية: الحلي. [6] الطلّ: الندى. [7] وفي نسخة ثانية: نيّر أفق العلاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 661 بقاء جميلا، يعقد لواء الفخر، ويعلى منار الفضل، ويرفع عماد المجد، ويوضح معالم السيادة [1] ، ويرسل أشعّة السعادة، ويفيض أنوار الهداية، ويطلق ألسنة المحامد، وينير [2] أفق المعارف، ويعذب مورد العناية، ويمتع بعمر النهاية ولا نهاية. بآي التحيات أفاتحك وقدرك أعلى، ومطلع فضلك أوضح وأجلى، إن قلت تحية كسرى في الثناء وتبّع، فأثرك لا يقتفي ولا يتبع، تلك تحية عجماء لا تبين ولا تبين، وزمزمة نافرها اللسان العربيّ المبين، وهذه جهالة جهلاء، لا ينطبق على حروفها الاستعلاء، قد محا رسومها الخفاء، وعلى آثار دمنتها العفاء، وإن كانت التحيّتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد، ولكن أين يقعان مما أريد. تحيّة الإسلام أصل في الفخر نسبا. وأوصل بالشرع سببا، فالأولى أن نحيّيك بما حيّا الله في كتابه رسله وأنبياءه، وحيّت به ملائكته في جواره أولياءه، فأقول: السلام عليكم يرسل من رحمة الله غماما ويفتق من الطّروس عن أزهار المحامد كماما، ويستصحب من البركات ما يكون على التي هي أحسن من ذلك مقاما، وأجدّد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والدين المستمدّة من أنوارها سرج المهتدين. زادها الله صلاحا وعرفها نجاحا يتبع فلاحا، وأقرّر ما عندي من تعظيم ارتقي كل آونة شرفه، واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه، وثناء، أنشر بيدك البيضاء صحفه، وعلى ذلك أيّها السيّد المالك، فقد تشعبت عليّ في مخاطبتك المسالك، إن أخذت في تقرير فضلك العميم، ونسبك الصّميم، فو الله ما أدري بأيّ بيعة لفخرك تدفع الظلم، وفي أيّ بحر من ثنائك يسبح القلم، الأمر جلل، والشّمس تكبر على حلي وحلل، وإن أخذت في شكاة الفراق، والاستعداء على الأشواق اتّسع المجال، وحصرت الرويّة والارتجال، فالأولى أن أثرك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق وأسلة اليراع، تخضب مفارق الطّروس بصبيغ الحبر المراق، وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع، في مجال الرقاع، مستولية على أمد الإبداع والاختراع، فإنما هو بثّ يبكي، وفراق يشكي، فيعلم الله مرضي [3] عن أن أشافه   [1] وفي نسخة ثانية: السؤدد. [2] وفي نسخة ثانية: وينشر أفق المعارف. [3] وفي نسخة ثانية: جرحي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 662 من أنبائك ثغور البروق البواسم، وأن أحملك الرّسائل حتى مع سفراء النواسم، وأن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيّا الشارق [1] ، ولمح البارق. ولقد وجّهت إليك جملة من الكتب والقصائد، ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر اللائي استأثر بهنّ البحر، قدّس الله أرواحهم، وأعظم الله أجرك فيهمّ، فإنّها أنافت على مائة وخمسين بيتا، ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع، وغدر وصوله بعد المسافة، والّذي يطرق في سوء الظنّ بذلك ما صدر في مقابلته منكم. فإنّي على علم من كرم قصدكم، ومن حين استغربناكم بذلك الأفق الشرقي [2] لم يصلني منكم كتاب، مع علمي بضياع اثنين منهما بهذا الأفق الغربي (أهـ.) . وفي الكتاب إشارة إلى أنّه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر، ويطلب مني رفعها إلى السلطان، وعرضها عليه بحسب الإمكان، وهي على روي الهمزة ومطلعها: أمدامع منهلّة أم لؤلؤ ... لمّا استهلّ العارض المتلألئ وبعث في طيّ الكتاب، واعتذر بأنه استناب في نسخها، فكتبت همزة رويها ألفا، قال وحقها أن تكتب بالواو لأنها تبدل بالواو وتسهل بين الهمزة والواو، وحرب الإطلاق أيضا يسوقها، واوا، هذا مقتضى الصناعة، وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفا على كل حال على لغة من لا يسهل لكنّه ليس بشيء. وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقيّ لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك، ورفعت النسخة والأصل للسلطان، وقرأها كاتب سرّه ولم يرجع إليّ منها شيء، ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان، فضاعت من يدي. وكان في الكتاب فصل عرّفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحّو المستبدّ بأمر المغرب لذلك العهد، وما جاء به من الانتقاض عليهم، والكفران لصنيعهم، يقول فيه: كان مسعود بن رحّو الّذي أقام بالأندلس عشرين عاما يتبثّك النعيم [3] ويقود الدنيا ويتحيّز العيش والجاه، قد أجيز صحبة ولد عثمان كما تعرفتم من نسخة كتب إنشائه   [1] الشارق: الشمس. [2] وفي نسخة ثانية: من كرم قصدكم وحسن عهدكم، ومن حين استقل نيّركم بذلك الأفق الشرقي. [3] تبنك بالنعيم: أقام به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 663 بجبل الفتح لأهل الحضرة، فاستولى على المملكة، وحصل على الدنيا، وانفرد برياسة دار المغرب لضعف السلطان رحمة الله. ولم يكن إلّا أن كفرت الحقوق، وحنظلت نخلته السحوق، وشف على سواد جلدته سواد العقوق، وداخل من سبتة، فانتقضت طاعة أهلها، وظنّوا أنّ القصبة لا تثبت لهم، وكان قائدها الشيخ الأبهة [1] فلّ الحصار وجلّى القتال، ومحشّ الحرب أبو زكريا بن شعيب، فثبت للصدمة ونوّر للأندلس، فبادره المدد من الجبل ومن مالقة، وتوالت الأمداد وخاف أهل البلد، ورجع شرفاؤه ودخلوا القصبة. واستغاث أهل البلد بمن جاورهم، وجاءهم المدد أيضا، ثم دخل الصالحون في رغبة هذا المقام، ورفع القتال، وفي أثناء ذلك غدروا ثانية، فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العبّاس لتبادر القصبة به ويتوجّه منها إلى المغرب لرغبة بني مرين وغيرهم فيه، وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الّذي قلّدكم رياسة داره، وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره. وبعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه: والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة، إذ لا يمكن بعث تفسير كامل لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو به النفع عند الله، وقد علمتم أنّ عندي التفسير الّذي أوصله عثمان النجاني من تأليف الطيبي [2] والسفر الأوّل من تفسير أبي حيّان، وملخّص إعرابه وكتاب المغني لابن هشام، وسمعت عن براءة تفسير للإمام بهاء الدين ابن عقيل ووصلت إليّ براءة من كلام أكمل الدين الأشيري رضي الله عن جميعهم، ولكني لم أصل إلّا للبسملة، وذكر أبو حيّان في صدر تفسيره أنّ شيخه سليمان النقيب أو أبا سليمان لا أدري الآن صنّف كتابا في البيان في سفرين جعله مقدّمة لكتاب تفسيره الكبير. فإن أمكن سيّدي توجيهه لا بأس انتهى. وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعدّدة لا حاجة إلى ذكرها هاهنا. ثم ختم الكتاب بالسلام، وكتب اسمه محمد بن يوسف بن زمرك الصّريحي، وتاريخه   [1] وفي نسخة ثانية: الشيخ البهمة. [2] هو الحسين بن محمد بن عبد الله شرف الدين الطيبي (توفي 743) له حاشية قيمة على «الكشاف» في أربع مجلدات ضخمة. وشرع بعدها في جمع كتاب في التفسير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 664 العشرون من محرّم سنة تسع وثمانين وسبعمائة (وكتب إليّ) قاضي الجماعة بغرناطة أبو الحسن علي بن الحسن البنيّ [1] : الحمد للَّه والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد رسول الله يا سيّدي وواحدي ودّا وحبّا، ونجيّ الروح بعدا وقربا أبقاكم الله وثوب سيادتكم سابغ، وقمر سعادتكم كلما أفلت الأقمار بازغ، أسلّم بأثّم عليكم، وأقرّر بعض ما لديّ من الأشواق إليكم، من حضرة غرناطة مهّدها الله عن ذلك لكم يتضوّع طيبه وشكر لا يذوى وإن طال الزمان طيبه قد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلّدتم أمرها، وتحملّتم مرّها، فتمثّلت بما قاله شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب [2] عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم [3] عن خطّة القضاء. لا مرحبا بالناس أنفارك [4] ... إذ جهلت رفعة مقدارك لو أنها قد أوتيت رشدها ... ما برحت تعشو إلى نارك ثم تعرّفت كيفيّة انفصالكم وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيّد هنا لكم فرددت وقد توهّمت مشاهدتكم هذه الأبيات. لك الله يا بدر السماحة والبشر ... لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر ولكنّك استعفيت عنها تورّعا ... وتلك سبيل الصالحين كما تدري جريت على نهج السلامة في الّذي ... تخيّرته للنشر منك وللحشر [5] وحق بأنّ العلم ولّاك خطّة ... من العزّ لا تنفك عنها مدى العمر تزيد على مرّ الجديدين جدّة ... وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري ومن لاحظ الأحوال وازن بينها ... وكم لذوي الدنيا الدنيّة من خطر [6]   [1] نسبة إلى بنت (معجم البلدان) وقد ضبطها ابن خلدون بضم الباء وبكسرها. [2] الجيّاب: هو ابو الحسن علي بن محمد بن سليمان الغرناطي الشهير بابن الجياب (673- 749) . [3] هو ابو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الحسني السبتي المعروف بالشريف الغرناطي (698- 760) . [4] وفي نسخة ثانية: لا مرحبا بالناشز الفارك. [5] وفي نسخة ثانية: تخيّرته أبشر بأمنك في الحشر. [6] وفي نسخة ثانية: ولم ير للدنيا الدنية من خطر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 665 وأمسى لأنواع الولايات نابذا ... فغير نكير أن يواجه بالنكر فيهنيك يهنيك الّذي أنت أهله ... من الزّهد فيها والتوقّي من الوزر ولا تكترث من حاسديك فإنّهم ... حصى والحصى لا يرتقي مرتقى الدرّ [1] ومن عامل الأقوام باللَّه مخلصا ... له فيهم نال الجزيل من الأجر بقيت لرفع المجد تحمي ذماره ... وخار لك الرحمن في كلّ ما يجري [2] إيه سيّدي رضي الله عنكم وأرضاكم، أطنبتم في كتابكم في الثناء على السّلطان الّذي أنعم بالاعفاء، والمساعدة على الانفصال عن خطّة القضاء، واستوهبتم الدعاء له من الأولياء وللَّه درّكم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم، فالدعاء له من الواجب فيه استقامة الأمور وصلاح الخاصّة والجمهور، وعند ذلك ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم بجميل الدعاء. أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله، وبلغ كل واحد منكم ما قصده وأمّله. وأنتم أيضا من أهل العلم والجلالة، والفضل والأصالة، وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه، والحظّ الشريف النبيه، لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد العظيمة ظهور، وتحدث بعد الأمور أمور، وبكل اعتبار، فالزمان بكم حيث كنتم مباه، والمحامد مجموعة لكم جمع ثناه. ولما وقف على مكتوبكم إليّ مولانا السلطان أبو عبد الله، أطال الله الثناء على مقاصدكم، وتحقّق جميل [3] ودادكم، وصحيح اعتقادكم، وعمّر مجلسه يومئذ بالثناء عليكم، والشكر لما لديكم. ثم ختم الكتاب بالسّلام من كاتبه عليّ بن عبد الله بن الحسن مؤرّخا بصفر سنة تسعين وسبعمائة وفي طيّه مدرجة بخطّه وقد قصّر فيها عن الإجادة نصّها: سيّدي رضي الله عنكم وأرضاكم، وأظفركم يمناكم بذوائب مناكم أعتذر لكم عن الكتاب المدرج به هذا غير خطّي فإنّي في ذلك الوقت بحال مرض في عينيّ، ولكم العافية الوافية، فيسعني سمحكم وربّما كان لديكم تشوّف بما نزل في هذه المدّة بالمغرب من الهرج أماطه الله، وأمّن بلاد المسلمين. والموجب أنّ الحصّة الموجّهة في خدمة أميرهم الواثق ظهر له ولوزيره ومن ساعده على   [1] وفي نسخة ثانية: البدر. [2] وفي نسخة ثانية: ما تجزي. [3] وفي نسخة ثانية: صحيح ودادكم وجميل اعتقادكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 666 رأيه إمساكها رهينة، وجعله في القيود إلى أن يقع الخروج لهم على مدينة سبتة، وكان القائد على هذه الحصّة العلج المدعو المهنّد، وصاحبه الفتى المدعو نصر الله. وكثر التردّد في القضية إلى أن أبرز القدر توجيه السلطان أبي العبّاس تولاه الله، صحبة فرج بن رضوان بحصّة ثانية، وكان ما كان حسبما تلقيتم من الركبان، هذا ما وسع الوقت من الكلام ثم دعا وختم الكتاب. وإنما كتبت هذه الأخبار وإن كانت خارجة عن غرض هذا الكتاب المؤلّف لأنّ فيها تحقيقا لهذه الواقعات، وهي مذكورة في أماكنها، فربّما يحتاج الناظر إلى تحقيقها من هذا الموضع. وبعد قضاء الفريضة رجعت إلى القاهرة محفوفا بستر الله ولطفه، ولقيت السلطان، فتلقّاني أيّده الله بمعهود مبرّته وعنايته وكانت فتنة الناصريّ بعدها سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. والله يعرّفنا عوارف لطفه، ويمدّ علينا ظلّ ستره، ويختم لنا بصالح الأعمال، وهذا آخر ما انتهيت إليه، وقد نجز الغرض مما أردت إيراده في هذا الكتاب، والله الموفّق برحمته للصواب، والهادي إلى حسن المآرب، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد وعلى آله والأصحاب والحمد للَّه رب العالمين. (ولاية الدروس والخوانق [1] أهل هذه الدّولة التركية بمصر والشام معنيّون- على القدم منذ عهد مواليهم ملوك بني أيّوب- بإنشاء المدارس لتدريس العلم، والخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التّخلّق بآداب الصّوفيّة السّنّية في مطارحة الأذكار، ونوافل الصّلوات. أخذوا ذلك عمّن قبلهم من الدّول الخلافية، فيختطّون مبانيها ويقفون الأراضي المغلّة للإنفاق منها على طلبة العلم، ومتدرّبي الفقراء. وإن استفضل الرّيع شيئا عن ذلك، جعلوه في أعقابهم خوفا على الذّرّية الضّعاف من العيلة [2] . واقتدى بسنّتهم في ذلك من تحت أيديهم من أهل الرّئاسة والثّروة، فكثرت لذلك المدارس والخوانق بمدينة   [1] هذا القسم وما يليه. أضفناه إلى طبعتنا هذه من نسخة طبعة بولاق المصرية دار الكتاب اللبناني. [2] العيلة (بفتح العين) : الفقر والفاقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 667 القاهرة، وأصبحت معاشا للفقراء من الفقهاء والصوفية، وكان ذلك من محاسن هذه الدّولة التّركية، وآثارها الجميلة الخالدة. وكنت لأوّل قدومي على القاهرة، وحصولي في كفالة السلطان، شغرت مدرسة بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيّوب، وقفها على المالكيّة يتدارسون بها الفقه، ووقف عليها أراضي من الفيّوم تغلّ القمح، فسمّيت لذلك القمحيّة، كما وقف أخرى على الشّافعية هنالك، وتوفي مدرّسها حينئذ، فولّاني السلطان تدريسها، وأعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ست وثمانين وسبعمائة، كما ذكرت ذلك من قبل، وحضرني يوم جلوسي للتّدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويها بذكري، وعناية من السلطان ومنهم بجانبي، وخطبت يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها بذكر القوم بما يناسبهم، ويوفي حقّهم، ووصفت المقام، وكان نصّها: الحمد للَّه الّذي بدأ بالنّعم قبل سؤالها، ووفّق من هداه للشّكر على منالها، وجعل جزاء المحسنين في محبّته، ففازوا بعظيم نوالها. وعلّم الإنسان الأسماء والبيان، وما لم يعلم من أمثالها، وميّزه بالعقل الّذي فضّله على أصناف الموجودات وأجيالها، وهداه لقبول أمانة التّكليف، وحمل أثقالها. وخلق الجنّ والإنس للعبادة، ففاز منهم بالسّعادة من جدّ في امتثالها، ويسّر كلّا لما خلق له [1] ، من هداية نفسه أو إضلالها، وفرغ ربّك من خلقها وخلقها وأرزاقها وآجالها. والصّلاة على سيّدنا ومولانا محمد نكتة الأكوان وجمالها، والحجّة البالغة للَّه على كمالها، الّذي رقّاه في أطوار الاصطفاء، وآدم بين الطّين والماء، فجاء خاتم أنبيائها وأرسلها [2] ، ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميّز حرامها من حلالها، ورضي لنا الإسلام دينا، فأتمّ علينا النّعمة بإكمالها [3] . والرّضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها [4] ، وليوث ملاحمه [5]   [1] يشير الى الحديث: «كل ميسر لما خلق له» ، والّذي رواه الإمام أحمد في مسندة. [2] ورد في كلام كثير من علماء المغرب والأندلس، جمع رسول على أرسال. ولم يرد في معاجم اللغة هذا الجمع. والأصح أن يقول ورسلها. [3] يشير الى الآية 3 من سورة المائدة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» 5: 3. [4] الطلال جمع طلل، وهو أخف المطر. [5] الملاحم جمع ملحمة، وهي الوقعة العظيمة القتل، وموضع القتال، والحرب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 668 المشتهرة وأبطالها. وخير أمة أخرجت للنّاس، في توسّطها واعتدالها، وظهور الهداية والاستقامة في أحوالها، صلّى الله عليه وعليهم صلاة تتّصل الخيرات باتّصالها، وتنال البركات من خلالها. أمّا بعد فإنّ الله سبحانه لما أقرّ هذه الملّة الإسلامية في نصابها، وشفاها من أدوائها وأوصابها [1] ، وأورث الأرض عباده الصّالحين من أيدي غصّابها، بعد أن باهلت فارس بتاجها، وعصابها [2] ، وخلت الرّوم إلى تماثيلها وأنصابها وجعل لها من العلماء حفظة وقوّاما، ونجوما يهتدي بها التّابع وأعلاما، يقربونها للدّراية تبيانا وإفهاما، ويوسعونها بالتّدوين ترتيبا وإحكاما، وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما. ثمّ اختار لها الملوك يرفعون عمدها، ويقيمون صغاها [3] بإقامة السّياسة وأودها، ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها، فكان لها بالعلماء الظّهور والانتشار، والذكر السّيّار، والبركات المخلّدة والآثار، ولها بالملوك العزّ والفخار، والصّولة التي يلين لها الجبّار، ويذلّ لعزّة المؤمنين بها الكفّار، وتجلّل وجوه الشّرك معها الصّغار، ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار، والدّول تحتفل والأمصار، واللّيل يختلف والنّهار، حتى أظلّت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من التّرك، الماحين بأنوار أسنّتهم ظلم الضّلالة والشّكّ، القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك [4] ، المصيبين بسهامهم النّافذة ثغر الجهالة والشّرك، المظهرين سرّ قوله: «لا تزال طائفة من أمّتي» [5] فيما يتناولونه من الأخذ والتّرك، ففسحوا خطّة الإسلام، وقاموا بالدّعوة الخلافيّة أحسن القيام، وبثّوها في أقصى التّخوم من الحجاز والشّام، واعتمدوا في خدمة الحرمين الشّريفين ما فضلوا به ملوك الأنام. واقتعدوا كرسيّ مصر الّذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام، على قدم الأيّام، فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران، وتجاوبت فيها المدارس بترجيع   [1] الوصب: الوجع، والمرض، والجمع أوصاب. [2] العصاب: العمامة. [3] الصغا: من الإصغاء: اي مال إليه بسمعه. [4] علائق المين والإفك: أي علائق الكذب. [5] حديث رواه البخاري في آخر باب «علامة النبوة في الإسلام» ومسلم في بابي «الامارة،» و «الايمان» . شرح العيني على «صحيح» البخاري 7/ 579، وشرح النووي على «صحيح» ملم 1/ 55، 2/ 206. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 669 المثاني والقرآن وعمّرت المساجد بالصّلوات والأذان، تكاثر عدد الحصى والشّهبان. وقامت المآذن على قدم الاستغفار والسّبحان [1] معلنة بشعار الإيمان، وازدان جوّها بالقصر فالقصر والإيوان فالإيوان. ونظّم دستها بالعزيز، والظّاهر، والأمير، والسّلطان. فما شئت من ملك يخفق العزّ في إعلامه، وتتوقّد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنّته وسهامه، ومن أسرة للعلماء تتناول العلم بوعد الصّادق ولو تعلّق بأعنان السّماء [2] ، وتنير سراجه في جوانب الشّبه المدلهمّة الظّلماء، ومن قضاة يباهون بالعلم والسّؤدد عند الانتماء، ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصّماء [3] ، ويفصلون الخصومات برأي يفرّق بين اللّبن والماء. ولا كدولة السّلطان الظّاهر، والعزيز القاهر، يعسوب [4] العصائب والجماهر، ومطلع أنواع العزّ الباهر، ومصرّف الكتائب تزري بالبحر الزّاخر، وتقوم بالحجة للقسيّ على الأهلّة في المفاخر، سيف الله المنتضى على العدوّ الكافر، ورحمته المتكفّلة للعباد باللّطف السّاتر، ربّ التّيجان والأسرّة والمنابر، والأواوين العالية والقصور الأزاهر، والملك المؤيّد بالبيض البواتر، والرّماح الشّواجر [5] ، والأقلام المرتضعة أخلاف [6] العزّ في مهود المحابر، والفيض الرّباني الّذي فاق قدرة القادر، وسبقت به العناية للأواخر. سيّد الملوك والسلاطين، كافل أمير المؤمنين، أبو سعيد أمدّه الله بالنّصر المصاحب، والسّعد المؤازر، وعرّفه آثار عنايته في الموارد والمصادر، وأراه حسن العاقبة في الأولى وسرور المنقلب في الآخر، فإنه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه، وآوى الملك إلى كنفه العزيز وحزمه، أصاب شاكلة الرّأي عند ما سدّد من سهمه، وأوقع الرّعايا في ظلّ من أمنه، وعدل من حكمه، وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه، ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها، وشدّ   [1] السبحان: التسبيح. [2] أعنان السماء: نواحيها، وما اعترض من أقطارها. [3] اشتمال الصماء ان تجلل جسدك بثوبك نحو شملة الأعراب بأكسبتهم، وهي ان يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى، وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى، وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا. [4] اليعسوب أمير النحل. [5] رماح شواجر: مختلفة الطعن. [6] أخلاف الضرع: أطرافه. والكلام على التشبيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 670 بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها، من بين مصرّف لعنانها، متقدّم القدم على أعيانها، في بساط إيوانها، وربّ مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها، ولا يذهب الصّواب عن مكانها، ومنفّذ أحكام يشرق الحقّ في بيانها، ويضوع العدل من أردانها [1] ونجيّ [2] خلوة في المهم الأعظم من شأنها، وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل [3] الجرّار، فيشفي الغليل بإعلانها. حفظ الله جميعهم وشمل بالسّعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم. ولمّا سبحت في اللّجّ الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النّهار ينصبّ من صفحه المشرق، وشجرة الملك التي اعزّ بها الإسلام تهتزّ في دوحه المعرق، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق، وينابيع العلوم والفضائل تمدّ وشلنا [4] من فراته المغدق، أو لوني عناية وتشريفا، وغمروني إحسانا ومعروفا، وأوسعوا بهمتي [5] إيضاحا، ونكرتي تعريفا، ثمّ أهّلوني للقيام بوظيفة السّادة المالكيّة بهذا الوقف الشريف، من حسنات السلطان صلاح الدّين أيّوب ملك الجلاد والجهاد، وماحي آثار التّثليث والرّفض الخبيث من البلاد، ومطهّر القدس الشّريف من رجس الكفر بعد أن كانت النّواقيس والصّلبان فيه بمكان العقود من الأجياد. وصاحب الأعمال المتقبّلة يسعى نورها بين يديه في يوم التّناد [6] ، فأقامني السلطان- أيده الله- لتدريس العلم بهذا المكان، لا تقدّما على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشّأن، وإني موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء، وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتّسعة الفضاء، أن يلمحوا بعين الارتضاء، ويتغمّدوا بالصّفح والإغضاء، والبضاعة بينهم مزجاة [7] ، والاعتراف من اللّوم- إن شاء الله- منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في   [1] الأردان: الأكمام. وفي الكلام تجوز. [2] النجي: الشخص الّذي تساره، وفلان نجى فلان، أي يناجيه دون سواه. [3] الأسل: الرماح وكل حديد رهيف من سيف وسكين. [4] الوشل: الماء القليل. [5] البهمة: بهم: الخطة الشديدة. [6] يوم التناد: يوم ينادي «أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا من الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله» 7: 50. لسان العرب. [7] بضاعة مزجاة: قليلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 671 مدارج القبول أعماله، ويبلّغه في الدّارين آماله، ويجعل للحسنى والمقرّ الأسنى، منقلبه ومآله، ويديم على السّادة الأمراء نعمته، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشّمل دولتهم ودولته، ويمدّ قضاة المسلمين وحكّامهم بالعون والتّسديد، ويمتّعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السّعيد، بمنّه وكرمه. وانفضّ ذلك المجلس، وقد شيّعتني العيون بالتّجلّة والوقار، وتناجت النّفوس بالأهلية للمناصب، وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النّزعات الملوكية، فعزله، واستدعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه، فتفاديت من ذلك، وأبى إلّا إمضاءه. وخلع عليّ، وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكم في المدرسة الصّالحية [1] في رجب ستّ وثمانين وسبعمائة، فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفّيت عهد الله في إقامة رسوم الحقّ، وتحرّي المعدلة، حتّى سخطني من لم ترضه أحكام الله، ووقع من شغب أهل الباطل والمراء ما تقدّم ذكره. وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس، فمنعهم سلطان تونس من اللّحاق بي اغتباطا بمكاني، فرغبت من السّلطان أن يشفع عنده في شأنهم، فأجاب، وكتب إليه بالشّفاعة، فركبوا البحر من تونس في السّفين، فما هو إلّا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندريّة، فعصفت بهم الرّياح وغرق المركب بمن فيه، وما فيه، وذهب الموجود والمولود، فعظم الأسف، واختلط الفكر، وأعفاني السلطان من هذه الوظيفة وأراحني، وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريسا وتأليفا. ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته [2] بين القصرين، وجعل فيها مدافن أهله، وعيّن لي فيها تدريس المالكيّة، فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التّدريس على عادتهم في ذلك ونصّها: «الحمد للَّه الّذي من على عباده، بنعمة خلقه وإيجاده، وصرّفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده، وعرّفهم أسرار توحيده، في مظاهر وجوده، وآثار لطفه في وقائع   [1] نسبة إلى بانيها الملك الصالح نجم الدين أيوب. [2] هي المدرسة الظاهرية، وتسمى البرقوقية أيضا. عهد في بنائها الى الأمير جهركس الخليلي، فشرع في بنائها سنة 886، وأنهاها سنة 888. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 672 عباده، وعرضهم على أمانة التّكاليف ليبلوهم بصادق وعده وإبعاده [1] ، ويسّر كلّا لما خلق له، من هدايته أو إضلاله، وغيّه أو رشاده، واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النّجدين [2] لصلاحه أو فساده، وعلّمه ما لم يكن يعلم، من مدارك سمعه وبصره والبيان عمّا في فؤاده، وجعل منهم أنبياء وملوكا يجاهدون في الله حقّ جهاده، ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده، ورفع البيوت المقدّسة بسبحات [3] الذّكر وأوراده. والصّلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد سيّد البشر من نسل آدم وأولاده، لا. بل سيّد الثّقلين [4] في العالم من إنسه وجنّه وأرواحه وأجساده، لا. بل سيّد الملائكة والنّبيّين، الّذي ختم [الله] كمالهم بكماله وآمادهم بآماده، الّذي شرّف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم لنور ولاده، وفصّل له الذّكر الحكيم تفصيلا، كذلك ليثبّت من فؤاده [5] وألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل ربّ العالمين، ليكون من المنذرين لعباده [6] ، فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله وجلاده [7] وأنزل عليه النّصر العزيز، وكانت ملائكة السّماء من إمداده، حتّى ظهر نور الله على رغم من رغم [8] . بإطفائه وإخماده، وكمل الدين الحنيف فلا تخشى والحمد للَّه غائلة انقطاعه ولا نفاذه، ثمّ أعدّ له من الكرامات ما أعدّ في معاده، وفضّله بالمقام المحمود في عرصات القيامة بين أشهاده، وجعل له الشّفاعة فيمن انتظم في امّته، واعتصم بمقاده. والرّضى عن آله وأصحابه، غيوث رحمته، وليوث إنجاده، من ذوي رحمه   [1] ينظر الى الآية 72 من سورة الأحزاب: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» . 33: 72 [2] النجدان: طريق الخير، وطريق الشر. [3] السبحات جمع سبحة، وهي التطوع في الذكر، والصلاة. [4] الثقلان: الجن والإنس. [5] يشير الى الآية 32 من سورة الفرقان: «وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ به فُؤادَكَ» 25: 32. [6] يشير كذلك الى الآيتين 193، 194 من سورة الشعراء: «نَزَلَ به الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ من الْمُنْذِرِينَ» 26: 193- 194. [7] الجلاد: الجهاد. [8] على رغم من رغم: من أساء، والإشارة الى الآية 32 من سورة التوبة: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى الله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» 9: 32. ابن خلدون م 43 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 673 الطّاهرة وأهل وداده المتزوّدين بالتّقوى من خير أزواده، والمراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحقّ وعنادة، وأراد في الدّين بظلمه وإلحاده، حتّى استقام الميسم [1] في دين الله وبلاده، وانتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم، وشعوب الأنام، من عربه وعجمه وفارسه ورومه وتركه وأكراده. صلّى الله عليه وعليهم صلاة تؤذن باتّصال الخير واعتياده، وتؤهّل لاقتناء الثّواب وزيادة، وسلّم كثيرا، وعن الأئمّة الأربعة [2] ، علماء السّنة المتّبعة، والفئة المجتباة المصطنعة، وعن إمامنا من بينهم الّذي حمل الشريعة وبيّنها، وحرّر مقاصدها الشريفة وعيّنها، وتعرّض في الآفاق منها والمطالع، بين شهبها اللّوامه، فزيّنها. نكتة الهداية إذا حقّق مناطها، وشرط التّحصيل والدّراية إذا روعيت أشراطها، وقصد الرّكاب إذا ضربت في طلب العلم آباطها [3] ، عالم المدينة وإمام هذه الأمة الأمينة، ومقبس أنوار النّبوّة من مشكاتها المبينة، الإمام مالك بن أنس. ألحقه الله برضوانه، وعرّفنا بركة الاقتداء بهداه وعرفانه، وعن سلف المؤمنين والمهتدين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين. أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته، ويكفلهم بفضله ونعمته، وييسّرهم لأسباب السّعادة بآداب دينه وشرعته، ويحملهم في العناية بأمورهم، والرّعاية لجمهورهم، على مناهج سنّته ولطائف حكمته. ولذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل وفطرته، وهداهم إلى التّمسّك بكلمته. ثم فضّلهم بما خوّلهم من سعة الرزق وبسطته واشتقاق التّمكين في الأرض من قدرته، فتسابقوا بالخيرات إلى جزائه ومثوبته، وذهبوا بالدّرجات العلى في وفور الأجر ومزيّته. وإنّ مولانا السّلطان الملك الظّاهر، العزيز القاهر، العادل الطّاهر، القائم بأمور الإسلام عند ما أعيا حملها الأكتاد [4] ، وقطب دائرة الملك الّذي أطلع الله من   [1] الميسم: الجمال. [2] هم المجتهدون أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة: (مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل) . [3] يشير الى الحديث: «تضرب أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة» ، وسيأتي له بعد. [4] جمع كتد، وهو مجتمع الكتفين من الإنسان. ويقال: خرجوا علينا اكتادا وأكدادا أي فرقا وأرسالا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 674 حاشيته الأبدال [1] وأنبت الأوتاد [2] ، ومنفّق أسواق العزّ بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد، رحمة الله الكافلة للخلق، ويداه المبسوطتان بالأجل والرّزق، وظلّه الواقي للعباد بما اكتنفهم من العدل والحقّ، قاصم الجبابرة، والمعفّي على آثار الأعاظم من القياصرة، وذوي التّيجان من التبابعة والأكاسرة، أولي الأقيال [3] والأساورة [4] ، وحائز قصب السّبق في الملوك عند المناضلة والمفاخرة، ومفوّض الأمور بإخلاصه إلى وليّ الدنيا والآخرة، مؤيّد كلمة الموحّدين، ورافع دعائم الدّين، وظهير خلافة المؤمنين، سلطان المسلمين أبو سعيد. صدّق الله فيما يقتفي من الله ظنونه، وجعل النّصر ظهيره، كما جعل السّعد قرينه، والعزّ خدينه [5] ، وكان وليّه على القيام بأمور المسلمين ومعينة، وبلّغ الأمّة في اتّصال أيامه، ودوام سلطانه، ما يرجونه من الله ويؤمّلونه. لمّا قلّده الله هذا الأمر الّذي استوى له على كرسيّ الملك، وانتظمت عقود الدّول في لبّات [6] الأيام، وكانت دولته واسطة السّلك، وجمع له الدين بولاية الحرمين، والدنيا بسلطان التّرك. وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال، فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ والتّرك. وجمع عليه قلوب العباد. فشهد سرّها بمحبّه الله [له] شهادة خالصة من الرّيب، بريئة من الشّكّ. حتى استولى من العزّ والملك على المقام الّذي رضيه وحمده. ثم تاقت نفس إلى ما عند الله، فصرف قصده إليه وأعتمده، وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة، لا يسأل عليها أجرا ولا يكدّرها بالمنّة، وأحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الأنس والجنّة، لا، بل النّسم [7] والأجنّة [8] . ثم آوى الخلق إلى عدله   [1] يوري بالابدال في مصطلح الصوفية، وهم أشخاص سبعة: يسافرون بأرواحهم من مكان الى اخر، ويتركون جسدهم في موضعهم الأول، بحيث لا يحسّ أحد بسفرهم. عن «تعريفات» الجرجاني ص 27، و «تعريفات» ابن العربيّ ص 2. [2] والأوتاد عند الصوفية أيضا: عبارة عن أربعة رجال، منازلهم على منازل الأربعة الأركان من العالم: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، كل واحد منهم مقامه في تلك الجهة. عن الجرجاني في «التعريفات» ص 27، وابن العربيّ ص 2. ويريد ان الدولة غنية بالرجال. [3] جمع قيل وهو، في مملكة حمير، بمنزلة الوزير بالنسبة للملك. [4] جمع أسوار، وهو الرامي أو الفارس. وعند الفرس القائد وهنا تعني القوّاد. [5] الخدين: الحبيب والصاحب للمذكر والمؤنث. [6] من لبث: لبثا يده: اي لواها. وهنا بمعنى اضطراب الأيام. [7] النسم: نفس الروح. [8] الأجنة: ج جنين: المستور من كل شيء. والولد ما دام في الرحم قبل أن يرى النور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 675 تصديقا بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنّة، ونافس في اتخاذ المدارس والرّبط لتعليم الكتاب والسنّة، وبناء المساجد المقدّسة يبني له بها الله البيوت في الجنّة، والله لا يضيّع عمل عامل فيما أظهره أو أكنّه. وإنّ ما أنتجته قرائح همّته وعنايته، وأطلعته آفاق عدله وهدايته، ووضحت شواهده على بعد مداه في الفخر وغايته، ونجح مقاصده في الدين وسعايته، هذا المصنع الشّريف، والهيكل الهمم البشرية ترتيبه ورصفه، لا! بل الكلم السّحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة السّحب ومناولة الشهب مارنه [1] العزيز وأنفه، وازدهى بلبوس السّعادة والقبول من الله عطفه، إن فاخر بلاط الوليد، كان له الفخار، أو باهى القصر والإيوان، شهد له المحراب والمنار، أو ناظر صنعاء وغمدان، قامت بحجّته الآثار. إنما هو بهو ملؤه دين وإسلام، وقصر عليه تحية وسلام، وفضاء ربّاني ينشأ في جوّه للرّحمة والسّكينة ظلّة وغمام، وكوكب شرق يضاحك وجه الشّمس منه ثغر بسّام، دفع إلى تشييد أركانه، ورفع القواعد من بنيانه، سيف دولته الّذي استلّه من قراب ملكه وانتضاه، وسهمه الّذي عجم عيدان كنانته فارتضاه، وحسام أمره الّذي صقل فرنده [2] بالعز والعزم وأمضاه، وحاكمه المؤيّد الّذي طالب غريم الأيام، بالأمل العزيز المرام، فاستوفى دينه واقتضاه، الأمير الأعزّ الأعلى جهركس [3] الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع. حرسه الله من خطوب الأيام، وقسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ والسّهام، فقام بالخطو الوساع، لأمره المطاع، وأغرى بها أيدي الإتقان والإبداع. واختصّها من أصناف الفعلة بالماهر الصّناع، يتناظرون في إجادة الأشكال منها والأوضاع، ويتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم بالامتناع، فكأنّ العبقريّ [4] ، يفري- الفريّ [5] ، أو   [1] المارن: طرف الأنف أو ما لان من طرفه. [2] فرنده: السيف، جوهر السيف ووشيه وهو ما يرى فيه شبه مدبّ النمل أو شبه الغبار. [3] هو الأمير سيف الدين جهركس (ويكتب: جهاركس، وجاركس) بن عبد الله اليلبغاوي الحليلي، الّذي ينسب اليه «خان الخليلي» المعروف اليوم بالقاهرة. قتل بظاهر دمشق سنة 891 هـ في الوقعة بين منطاش، والظاهر برقوق. خطط المقريزي 3/ 152- 153، طبع مصر. وقد ضبط في «المنهل» : «جاركس» وهو لفظ أعجمي معناه أربعة أنفس. [4] العبقري نسبة الى «عبقر» ، وهي قرية تسكنها الجن فيما زعموا. ويقولون إذا تعجبوا من جودة شيء أو غرابته، أو دقة صنعه: هو عبقري، ثم توسعوا فسموا الرجل، والسيد، والكبير- عبقريا. (لسان العرب) . [5] يقال هو يفري الفري: إذا عمل عملا فأجاده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 676 العفاريت، قدمت من أماريت [1] . وكأنما حشرت الجنّ والشّياطين، أو نشرت القهارمة [2] من الحكماء الأول والأساطين، جابوا لها الصّخر بالأذواد [3] لا بالواد، واستنزلوا صمّ الأطواد على مطايا الأعواد، ورفعوا سمكها إلى أقصى الآماد، على بعيد المهوى من العماد. وغشّوها من الوشي الأزهر، المضاعف الصّدف والمرمر، ومائع اللّجين الأبيض والذّهب الأحمر، بكلّ مسهّم الحواشي حالي الأبراد، وقدّروه مساجد للصّلوات والأذكار، ومقاعد للسّبحات [4] بالعشي والإبكار، ومجالس للتّلاوة والاستغفار، في الآصال والأسحار، وزوايا للتّخلّي عن ملاحظة الأسماع والأبصار، والتّعرّض للفتوح الرّبّانية والأنوار، ومدارس لقدح زناد الأفكار، ونتاج المعارف الأبكار، وصوغ اللّجين والنّضار، في محكّ القرائح والأبصار. تتفجّر ينابيع الحكمة في رياضه وبستانه، وتتفتّح أبواب الجنّة من غرفه وإيوانه، وتقتاد غرّ السّوابق من العلوم والحقائق، في طلق [5] ميدانه، ويصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح إلى الله من نواحي أركانه، وتوفّر الأجور لغاشيته محتسبة عند الله في ديوانه، راجحة في ميزانه. ثم اختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعيانا، ومن شيوخ الحقائق الصّوفية فرسانا، تصفّح لهم أهل مملكته إنسانا إنسانا، وأشد بقدرهم عناية وإحسانا، ودفعهم إلى وظائفه توسّعا في مذاهب الخير وافتنانا. وعهد إليهم برياضة المريدين، وإفادة المستفيدين، احتسابا للَّه وقربانا، وتقيّلا [6] لمذاهب الملوك من قومه واستنانا، ثمّ نظمني معهم تطولا وامتنانا، ونعمة عظمت موقعا وجلّت شانا، وأنا وإن كنت لقصور البضاعة، متأخرا عن الجماعة، ولقعود الهمّة، عيالا على هؤلاء الأئمّة، فسمحهم يغطّي ويلحف، وبمواهب العفو والتّجاوز يمنح ويتحف. وإنما هي رحمة من مولانا السلطان- أيّده الله- خصّت كما عمّت، ووسمت أغفال النّكرة والإهمال وسمّت، وكملت بها مواهب عطفه وجبره وتمّت، وقد ينتظم الدرّ   [1] أماريت: جمع الجمع لمرت: وهي المفازة والقفر لا نبات فيه. [2] القهارمة: جمع قهرمان، الوكيل أو أمين الدخل والخرج (قاموس) . [3] الأذواد جمع ذود، وهو الجماعة من الإبل. لا يتجاوز عددها الثلاثين ولا يقلّ عن الثلاث. [4] جمع سبحة: وهي التطوع في الدعاء والصلاة. [5] الطلق: الشوط الواحد في جري الخيل، والغاية التي يجري اليها الفرس في السباق. [6] بمعنى من تقيل أباه: أشبهه، وعمل عمله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 677 مع المرجان، وتلتبس العصائب بالتّيجان، وتراض المسوّمة [1] العراب [2] على مسابقة الهجان [3] ، والكلّ في نظر مولانا السلطان وتصريفه، والأهلية بتأهيله والمعرفة بتعريفه، وقوام الحياة والآمال بلطائف إحسانه وصنوفه، والله يوزعنا شكر معروفه، ويوفّقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف وتكليفه، ويحمي حماه من غير الدّهر وصروفه، ويفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه ورماحه وسيوفه، ويريه قرّة العين في نفسه وبنيه، وحاشيته وذويه، وخاصّته ولفيفه، عن الله وفضله. ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية [4] ، القائم للسلطان بأمور مدرسته، وأغروه بصدّي عنها، وقطع أسبابي من ولايتها، ولم يمكن السلطان إلّا إسعافه فأعرضت عن ذلك، وشغلت بما أنا عليه من التّدريس والتّأليف. ثمّ خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة للحجّ، واقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف، وزوّد هو وأمراؤه بما أوسع الحال وأرغده، وركبت بحر السويس من الطّور الى الينبع، ثم صعدت مع المحمل إلى مكّة، فقضيت الفرض عامئذ وعدت في البحر، فنزلت بساحل القصير، ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد، وركبت منها بحر النيل إلى مصر، ولقيت السلطان، وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة، وأعادني إلى ما عهدت من كرامته، وتفيّئ ظلّه. ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش [5] فولّاني إياها بدلا من مدرسته وجلست للتدريس فيها في محرّم أحد وتسعين وسبعمائة، وقمت ذلك اليوم- على العادة- بخطبة نصّها: «الحمد للَّه إجلالا وإعظاما، واعترافا بحقوق النّعم والتزاما، واقتباسا للمزيد منها   [1] المسومة من الخيل: المرعية، والمعلمة. [2] العراب من الإبل، والخيل: التي ليس فيها عرق هجين. [3] الهجان: جمع هجين، وهو الفرس الّذي ليس بعتيق. [4] الماخورية: من الماخور: ج مواخر ومواخير: مجلس الفسّاق بيت الريبة والدعارة. وقيل ان هذه الكلمة فارسية الأصل من (خور) وقيل هي عربية من (مخرت السفينة) لتردّد الناس الى المكان المسمى بها. [5] كذا في الأصل: «صلغتمش» ، ولعلها كانت تنطق باللام فسجلها ابن خلدون كما سمعها. والمدرسة الصرغتمشية هذه التي تقع بجوار جامع أحمد بن طولون، تنسب إلى بانيها الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري أمير رأس نوبة، المتوفى سجينا في الاسكندرية سنة 759، خطط المقريزي 4/ 256- 258 طبع مصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 678 واغتناما، وشكرا على الّذي أحسن وتماما، وسع كلّ شيء رحمة وإنعاما، وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات واضحة وأعلاما، وصرّف الكائنات في قبضة قدرته ظهورا وخفاء وإيجادا وإعداما، وأعطى كلّ شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاما، وأودع مقدور قضائه في مسطور كتابه، فلا يجد محيصا عنه ولا مراما. والصلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد نبيّ الرّحمة الهامية غماما [1] والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعا وحطّمت أصناما، والعروة الوثقى، فاز من اتخذها عصاما [2] ، أول النّبيّين رتبة وآخرهم ختاما، وسيّدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة والرّسل إماما، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا ركنا لدعوته وسناما [3] وحربا على عدوّه وسماما [4] ، وصلوا في مظاهرته جدا واعتزاما، وقطعوا في ذات الله وابتغاء مرضاته أنسابا وأرحاما، حتى ملئوا الأرض إيمانا وإسلاما، وأوسعوا الجاحد والمعاند تبكيتا وإرغاما [5] ، فأصبح ثغر الدين بسّاما ووجه الكفر والباطل عبوسا جهاما. صلّى الله عليه وعليهم ما عاقب ضياء ظلاما، صلاة ترجّح القبول ميزانا، وتبوّئ عند الله مقاما. والرضى عن الأئمة الأربعة، الهداة المتّبعة، مصابيح الأمان ومفاتيح السّنّة الذين أحسنوا بالعلم قياما وكانوا للمتّقين إماما. أمّا بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء والظّهور، والعز الخالد على الظّهور، وانفساح خطّته في آفاق المعمور، فلم يزل دولة عظيمة الآثار، غزيرة الأنصار، بعيدة لصّيت عالية المقدار، جامعة- بمحاسن آدابه وعزّة جنابه- معاني الفخار، منفّقة بضائع علومه في الأقطار، مفجرة ينابيعها كالبحار، مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق أضوأ من النهار، ولا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام ومنابره، وفأخرت بحرمات الله وشعائره واعتمدت بركة الإيمان وأواصره، واعتملت في إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره، وشاهدا بالكمال لأوّله وآخره. وإن مولانا السلطان الملك الظّاهر، العزيز القاهر، شرف الأوائل والأواخر، ورافع   [1] همت السماء: امطرت، والغمام: القطر نفسه. [2] العصام: رباط كل شيء. من حبل ونحوه. [3] السنام: المرتفع من الرمل، والجبل، والمراد انه ملجأ. [4] السمام: جمع سم، وفي حديث عن علي رضي الله عنه: (الدنيا غذاؤها سمام) . [5] الجهام: السحاب لا ماء فيه، ويريد: كريها لا خير فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 679 لواء المعالي والمفاخر، ربّ التّيجان والأسرّة والمنابر، والمجلّي في ميدان السّابقين من الملوك الأكابر، في الزمن الغابر، حامل الأمّة بنظره الرشيد ورأيه الظافر، وكافل الرعايا في ظلّه المديد وعدله الوافر، ومطلع أنوار العزّ والسّعادة من أفقه السّافر، واسطة السّلك من هذا النّظام، والتّاج المحلّى في مفارق الدول والأيام، سيّد الملوك والسلاطين، بركة الإسلام والمسلمين، كافل أمير المؤمنين، أبو سعيد. أعلى الله مقامه، وكافأ عن الأمّة إحسانه الجزيل وأنعامه، وأطال في السّعادة والخيرات المبدأة المعادة لياليه وأيامه، لما أوسع الدين والملك نظرا جميلا من عنايته، وأنام الخلق في حجر كفالته، ومهاد كفايته، وأيقظ لتفقّد الأمور، وصلاح الخاصّة والجمهور، عين كلاءته، كما قلّده الله رعايته [1] وأقام حكام الشريعة والسياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته، ويطلعون وجه العدل سافرا عن آيته. ونصب في دست النيابة من وثق بعدله وسياسته، ورضي الدين بحسن إيالته، وأمّنه على سلطانه ودولته، وهو الوفيّ- والحمد للَّه- بأمانته، ثم صرف نظره إلى بيوت الله يعنى بإنشائها وتأسيسها، ويعمل النّظر الجميل في إشادتها وتقديسها، ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبثّ العلم من يؤهّله لوظائفها ودروسها، فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها، حتى زهت الدولة بملكها ومصرها، وفأخرت الأنام بزمانها الزاهر وعصرها. وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها، فابتهج العالم سرورا بمكانها، واهتزّت الأكوان للمفاخرة بشأنها، وتكفّل الرّحمن، لمن اعتزّ به الإيمان، وصلح على يده الزمان، بوفور المثوبة ورجحانها. وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء التّرك، خفّف الله حسابه وثقّل في الميزان- يوم يعرض على الرحمن- كتابه، وأعظم جزاءه في هذه الصّدقة الجارية وثوابه، عناية جدّد لي لباسها، وإيثارا بالنّعمة التي صحّحت قياسها، وعرفت منه أنواعها وأجناسها، فامتثلت المرسوم، وانطلقت أقيم الرّسوم، وأشكر من الله وسلطانه الحظّ المقسوم. وأنا مع هذا معترف بالقصور، بين أهل العصور، مستعيذ باللَّه وبركة هؤلاء الحضور،   [1] كذا في الأصل، ولعلها: «قلده الله حق رعايته» ، أو «واجب رعايته» ، أو نحو هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 680 السّادة الصّدور، أن يجمح بي مركب الغرور، أو يلج شيطان الدّعوى والزور، في شيء من الأمور. والله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله، ويعرفه الحسنى وزيادة الحظّ الأسنى في عاقبته ومآله، ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه قرّة عينه ورضى آماله، ويديم على السّادة الأمراء ما خوّلهم من رضاه وإقباله، ويحفظ المسلمين في هذا الأمر السّعيد بدوامه واتصاله، ويسدد قضاتهم وحكامهم لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله. وقد رأيت أن أقرّر للقراءة في هذا الدّرس، كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، فإنه من أصول السّنن، وأمّهات الحديث، وهو مع ذلك أصل مذهبنا الّذي عليه مدار مسائله، ومناط أحكامه، وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه. فلنفتتح الكلام بالتّعريف بمؤلفه- رضي الله عنه، ومكانه من الأمانة والديانة، ومنزلة كتابه «الموطّأ» من كتب الحديث. ثم نذكر الروايات والطّرق التي وقعت في هذا الكتاب، وكيف اقتصر الناس منها على رواية يحيي بن يحيي، ونذكر أسانيدي فيها، ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب. أما الإمام مالك- رضي الله عنه، فهو إمام دار الهجرة، وشيخ أهل الحجاز في الحديث والفقه غير منازع، والمقلّد المتبوع لأهل الأمصار وخصوصا أهل المغرب. قال البخاري: مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي. كنيته أبو عبد الله، حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التّيمي ابن أخي طلحة بن عبيد الله. كان إماما، روى عنه يحيى بن سعيد. انتهى كلام البخاري. وجدّه أبو عامر بن عمرو بن الحرث بن عثمان ويقال: غيمان بغين معجمة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة، ابن جثيل بجيم مضمومة وثاء مثلّثة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة، ويقال حثيل أو خثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة، عوض الجيم، ويقال حسل بحاء مهملة مكسورة، وسين مهملة ساكنة، ابن عمرو بن الحرث، وهو ذو أصبح. وذو أصبح بطن من حمير، وهم إخوة يحصب، ونسبهم معروف، فهو حميري صليبة، وقرشيّ حلفا. ولد سنة إحدى وتسعين [1]- فيما   [1] في مولد مالك أقوال اخر غير ما ذكر ابن خلدون تجدها في «الأنساب» للسمعاني، و «وفيات» ابن خلكان، و «الانتقاء» لابن عبد البرص 10. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 681 قال ابن بكير [1] ، واربع وتسعين- فيما قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم [2] ، ونشأ بالمدينة، وتفقّه بها. أخذ عن ربيعة الرأي [3] ، وابن شهاب [4] وعن عمّه أبي سهيل [5] ، وعن جماعة ممّن عاصرهم من التّابعين وتابعين وتابعي التّابعين، وجلس للفتيا والحديث في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شابا يناهز العشرين، وأقام مفتيا بالمدينة ستين سنة. وأخذ عنه الجمّ الغفير من العلماء الأعلام، وارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة، وأعظم من أخذ عنه الإمام محمّد بن إدريس الشّافعي [6] ، وابن وهب [7] ، والأوزاعي [8] ، وسفيان الثّوري [9] ، وابن المبارك [10]- في أمثال لهم وأنظار. وتوفّي سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق من الناقلين لوفاته، وقال الواقدي [11] : عاش مالك تسعين سنة، وقال سحنون [12] عن ابن   [1] هو يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي بالولاء المصري [154- 231] أحد رواة «الموطأ» عن مالك. [2] ابو عبد الله محمد بن عبد الحكيم الفقيه الشافعيّ المصري المشهور [182- 268] . «وفيات» 1/ 578. [3] هو ابو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ مولى آل المنكدر.. المعروف بربيعة الرأي. فقيه مدني جليل. أدرك جماعة من الصحابة. توفي بالأنبار بمدينة «الهاشمية» سنة 136 على خلاف. «المعارف» لابن قتيبة ص 217 (وفيات) 1/ 228. [4] أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي. من أجل فقهاء التابعين بالمدينة. أدرك جماعة من الصحابة [51- 142] على خلاف في المولد والوفاة. (وفيات) ابن خلكان 1/ 571- 572. [5] نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو سهيل التيمي. مات في إمارة أبي العباس. تهذيب التهذيب 10/ 409. [6] الإمام المجتهد أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ينتهي نسبه إلى عبد مناف بن قصيّ، حيث يجتمع مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم [150- 204] «الانتقاء» لابن عبد البرص 66- 122. [7] أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي المصري (125- 197) ، لازم مالكا مدة طويلة. [8] ابو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، ونسبته اما إلى «الأوزاع» بطن من همدان، أو من ذي كلاع من اليمن، أو الى «الأوزاع» قرية بدمشق نزل بها فنسب إليها أدخلته أمه «بيروت» فسكنها، وبها مات سنة 157، ومولده ببعلبكّ سنة 88، أو 93. «المعارف» لابن قتيبة ص 217، «وفيات» 1/ 345. [9] أبو عبد الله سفيان بن سعيد المعروف بالثوري، أحد الأئمة المجتهدين، ولاه المهدي قضاء الكوفة فامتنع، ورمى بصك الولاية في دجلة. «وفيات الأعيان» 1/ 263. [10] أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي مولى بني حنظلة، أحد رواة «الموطأ» عن مالك. «وفيات» 1/ 311. [11] أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني صاحب «المغازي» ، تولى القضاء ببغداد في أيام المأمون. ضعفوه في الحديث [130- 207] . «وفيات» 1/ 640. [12] أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الفقيه المالكي المشهور. [160- 340] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 682 نافع [1] : توفي مالك ابن سبع وثمانين سنة، ولم يختلف أهل زمانه في أمانته، وإتقانه، وحفظه وتثبّته وورعه، حتى لقد قال سفيان بن عيينة [2] : كنّا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة» إنّه مالك بن أنس. وقال الشافّعي: إذا جاء الأثر فمالك النّجم، وقال: إذا جاءك الحديث عن مالك، فشدّ به يديك، وقال أحمد بن حنبل [3] : إذا ذكر الحديث فمالك أمير المؤمنين. وقد ألّف الناس في فضائله كتبا، وشأنه مشهور. وأما الّذي بعثه على تصنيف «الموطّأ» - فيما نقل أبو عمر بن عبد البرّ- فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون [4] ، عمل كتابا على مثال «الموطأ» ، ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة، ولم يذكر فيه شيئا من الحديث، فأتي به مالك، ووقف عليه وأعجبه، وقال: ما أحسن ما عمل هذا! ولو كنت أنا الّذي عملت لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام. وقال غيره: حجّ أبو جعفر المنصور [5] ، ولقيه مالك بالمدينة، فأكرمه وفاوضه. وكان فيما فاوضه: يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وقد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به، تجنّب فيه رخص ابن عبّاس [6] وشدائد ابن عمر [7] ووطّئه للناس   [1] أبو محمد عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ المخزومي، يروي عن مالك كثيرا، ولهم في الثقة به كلام. [2] سفيان بن عيينة بن أبي عمران أبو محمد المحدث المشهور (107- 198) «وفيات» 1/ 264. [3] أبو عبد الله أحمد بن حنبل الإمام المجتهد المعروف، ينتهي نسبه إلى بني شيبان (164- 241) . «وفيات» 1/ 20. [4] عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المتوفى سنة 164 ببغداد في خلافة المهدي. «المعارف» ص 203، «تهذيب التهذيب» 6/ 343. [5] أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الخليفة العباسي الثاني تولى الخلافة سنة 136، وتوفي سنة 158. له ترجمة واسعة في «تاريخ الطبري» 9/ 254- 323. [6] أبو العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وصاحبه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي سنة 68 على خلاف في سنة الوفاة. تاريخ الإسلام للذهبي 3/ 30- 37. [7] أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي صاحب رسول الله، وابن صاحبه. وفي سنة 73، وكان عمره يوم الخندق 25 سنة. تاريخ الإسلام للذهبي 3/ 277- 284. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 683 توطئة. قال مالك: فلقد علّمني التأليف، فكانت هذه وأمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب، فصنّفه وسمّاه «الموطأ» أي المسهّل [1] . قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطأة، أي صار وطيئا، ووطّأته توطئة، ولا يقال وطّيته [2] . ولما شغل بتصنيفه أخذ النّاس بالمدينة يومئذ في تصنيف موطّآت، فقال لمالك أصحابه: نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه النّاس، وأتي ببعضها فنظر فيه، ثم طرحه من يده وقال: ليعلمنّ أن هذا لا يرتفع منه إلا ما أريد به وجه الله، فكأنّما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمع لشيء منها بعد ذلك ذكر، وأقبل مالك على تهذيب كتابه وتوطئته، فيقال إنه أكمله في أربعين سنة. وتلقّت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها، ومن لدن صنّف إلى هلم [3] . وطال ثناء العلماء في كلّ عصر عليه، ولم يختلف في ذلك اثنان. قال الشّافعيّ، وعبد الرحمن بن مهدي [4] : ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أنفع، وفي رواية أصحّ، وفي رواية أكثر صوابا، من «موّطأ» مالك [5] . وقال يونس بن عبد الأعلى [6] : ما رأيت كتابا الّف في العلم أكثر صوابا من «موطّأ» مالك. وأما الطرق والروايات التي وقعت في هذا الكتاب، فإنه كتبه عن مالك جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية، وقيل موطأ فلان لراويه عنه [7] فمنها موطأ الإمام محمد بن   [1] ذكر الزرقاني في شرحه للموطأ 1/ 8، نقلا عن ابن فهد، وجها آخر لتسميته بالموطأ، قال: « .... قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته بالموطأ» . [2] انظر لسان العرب (وطأ) . [3] كذا في الأصلين، وهو استعمال غريب. وقد استعمله في «مقدمته» في فصل الكيمياء ص. وانظر شرح الشريشي على مقامات الحريري 1/ 84، تاج العروس (جر) . [4] ابو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري البصري المتوفى سنة 198. «تهذيب التهذيب» 6/ 281، «المعارف» ص 224. [5] بعد أن ألف البخاري، ومسلم صحيحيهما، لم تبق للموطأ هذه المكانة، ومن هنا أولوا قول الشافعيّ هذا بأنه كان قبل وجود الصحيحين. وانظر مقدمة ابن الصلاح ص 14، تدريب الراويّ ص 25، مقدمة شرح الزرقاني على الموطأ 1/ 9، مقدمة موطأ محمد بن الحسن اللكنوي ص 26 طبع الهند سنة 1306. [6] أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة المحدث المقرئ المصري (170- 264) . تهذيب التهذيب 11/ 440، طبقات القراء 2/ 406. [7] في «ترتيب المدارك» 1/ 34 ظ (نسخة خاصة) ، وشرح الزرقاني على الموطأ 1/ 6- كلمة جامعة عن الذين رووا الموطأ عن مالك، وفي مقدمة عبد الحي اللكنوي لموطأ محمد بن الحسن: ان أحد علماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 684 إدريس الشافعيّ [1] ، ومنها موطأ عبد الله بن وهب، ومنها موطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي [2] ، ومنها موطأ مطرّف بن عبد الله اليساري [3] نسبة إلى سليمان بن يسار، ومنها موطّأ عبد الرّحمن بن القاسم [4] رواه عنه سحنون بن سعيد، ومنها موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي [5] . رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس وأخذ عنه الفقه والحديث، ورجع بعلم كثير وحديث جمّ، وكان فيما أخذ عنه «الموطأ» ، وأدخله الأندلس والمغرب، فأكبّ الناس عليه، واقتصروا على روايته دون ما سواها [6] وعوّلوا على نسقها وترتيبها في شرحهم لكتاب «الموطأ» وتفاسيرهم، ويشيرون إلى الروايات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها، فهجرت الرّوايات الأخرى، وسائر تلك الطّرق، ودرست تلك الموطّآت إلّا موطأ يحيى بن يحيى، فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقا وغربا. وأما سندي في هذا الكتاب المتّصل بيحيى بن يحيى فعلى ما أصفه: حدثني به جماعة من شيوخنا رحمة الله عليهم. منهم إمام المالكية، قاضي   [ () ] «دهلي» ، أورد في كتاب له بالفارسية سماه «بستان المحدثين» القول المستفيض عن الموطأ، ومؤلفه، ونسخه، ويتبين من الخلاصة التي عربها عن الفارسية عبد الحي اللكنوي ان صاحب «البستان» كاد ان يستقصي الموضوع. [1] قال أحمد بن حنبل: كنت سمعت الموطأ من بضعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك، فأعدته على الشافعيّ لأنه أقومهم. زرقاني 1/ 7. [2] أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي المدني المتوفى سنة 221 أو 220. سمع من الإمام مالك نصف الموطأ بقراءة الإمام، وقرأ هو الصف الباقي على الإمام. [3] مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان اليساري الهلالي أبو مصعب المدني ابن أخت الإمام مالك (137- 214) ، على خلاف في وفاته. تهذيب التهذيب 10/ 175 الانتقاء ص 58. [4] أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن جنادة العتقيّ المصري المالكي (128- 191) ، أول من نقل الموطأ إلى مصر. وكان ابو الحسن القابسي يقدم روايته للموطأ على غيره: ويقول في ذلك انه- مع ما يتصف به من الفهم والورع- قد اختص بمالك، ولم يكثر من النقل عن غيره، فخلص بذلك من ان تختلط عليه ألفاظ الرواة، أو تتبدل الأسانيد، وانما نقل كتابا مصنفا، فهو وافر الحظ من السلامة في النقل. [5] هو ابو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس المصمودي البربري الليثي بالولاء. (152- 234) وفيات 2/ 285- 287. [6] كان بقي بن مخلد المحدث الأندلسي يقدم على رواية يحيى هذه، رواية أبي المصعب الزهري، ورواية يحيى بن بكير، وعاتبه في ذلك عبيد الله بن يحيى، وأخوه إسحاق بن يحيى، فاحتج لفعله بأن أبا المصعب قرشي فاستحق التقديم، وبأن يحيى بن بكير أكبر من أبيهما في السن، وبأنه سمع الموطأ من مالك سبع عشرة مرة، ويحيى أبو هما لم يسمعه إلا مرة واحدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 685 الجماعة بتونس وشيخ الفتيا بها، أبو عبد الله محمد بن عبد السّلام بن يوسف الهوّاري، سمعته عليه بمنزله بتونس، من أوله إلى آخره. ومنهم شيخ المسندين بتونس، الرّحالة أبو عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسي الوادي آشي، سمعت عليه بعضه، وأجازني بسائره. ومنهم شيخ المحدثين بالأندلس، وكبير القضاة بها، أبو البركات محمد بن محمد بن محمد- ثلاثة من المحدّثين- ابن إبراهيم بن الحاجّ البلّفيقي، لقيته بفاس سنة ست وخمسين وسبعمائة من هذه المائة السابعة، مقدمه من السّفارة بين ملك الأندلس وملك المغرب. وحضرت مجلسه بجامع القرويّين من فاس، فسمعت عليه بعضا من هذا الكتاب، وأجازني بسائره. ثم لقيته لقاءة أخرى سنة اثنتين وستّين وسبعمائة، استقدمه ملك المغرب، السلطان أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن للأخذ عنه، وكنت أنا القارئ فيما يأخذه عنه، فقرأت عليه صدرا من كتاب «الموطّأ» ، وأجازني بسائره إجازة أخرى. ومنهم شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية، ومفيد جماعتهم، أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الآبلي، قرأت عليه بعضه، وأجازني بسائره، قالوا كلّهم: حدثنا الشيخ المعمّر، أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطّائي [1] ، عن القاضي أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقيّ [2] ، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الحقّ الخزرجي [3] . وحدّثني به أيضا شيخنا أبو البركات، عن إمام المالكيّة ببجاية، ناصر الدين أبي علي، منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدّالي [4] ، عن الإمام شرف الدين   [1] أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد العزيز الطائي القرطبي ثم التونسي الإمام المسند. أخذ عنه الوادي آشي وغيره من مشايخ العلم والحديث (603- 702) . ديباج ص 143 الدرر الكامنة 2/ 303. [2] أبو القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن ... بن بقي بن مخلد (533- 625) . «التكملة لكتاب الصلة» ص 141 طبع الجزائر سنة 1337 هـ، «تكميل الديباج» ص 73. [3] أبو عبد الله محمد بن عبد الحق بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحق الخزرجي القرطبي. سمع من ابن الطلاع. ذكره ابن الأبار في «التكملة» 1/ 214 طبع مدريد سنة 1889 م، وقال انه لم يقف على وفاته. [4] منصور بن محمد بن أحمد بن عبد الحق الزوّاوي المشدّالي ناصر الدين. وهو لقب لزمه من المشرق، حيث انه رحل اليه، وأخذ عن علمائه، ويقول العبدري في «رحلته» : انه لم تكن له عناية والرواية، ومشدّالة قبيلة من زواوة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 686 محمد بن أبي الفضل المرسي، عن أبي الحسن علي بن موسى بن النّقرات [1] عن أبي الحسن علي بن أحمد الكناني [2] . قال الخزرجي والكناني: حدثنا أبو عبد الله محمّد بن فرج [3] مولى ابن الطّلاع، عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصّفّار قاضي الجماعة بقرطبة. وحدّثني به أيضا شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد ابن الغمّاز، عن شيخه أبي الرّبيع سليمان بن موسى بن سالم [4] الكلاعيّ، عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش، وأبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون [5] ، شارح كتاب «الموطأ» ، قال ابن زرقون: حدثنا به أبو عبد الله الخولانيّ [6] ، عن أبي عمرو عثمان بن أحمد القيجاطي [7] ، وقال ابن حبيش: حدّثنا به القاضي أبو عبد الله بن أصبغ [8] ويونس بن محمد بن مغيث، قالا: قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطّلّاع [9] . وقال ابن حبيش أيضا: حدّثنا به أبو   [1] علي بن موسى بن علي (ويقال ابن القاسم) بن علي الأنصاري الجياني يعرف بابن النقرات يكنى أبا الحسن، ويعرف أيضا بابن أرفع رأسه (515- 593) ، ويقول ابن القاضي في جذوة الاقتباس انه كان حيا في سنة 593. طبقات القراء 1/ 581، الجذوة ص 305، فوات الوفيات 2/ 92، تكملة الصلة 2/ 674. [2] علي بن أحمد بن أبي بكر الكناني، يعرف بابن حنين، ويكنى أبا الحسن (476- 569) سمع من ابن الطلاع موطأ مالك. جذوة الاقتباس ص 304. [3] هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن فرج بن الطلاء بالهمزة، وكان أبو مروان بن سراج يقول: كان فرج يطلي مع سيده اللجم في الربض الشرقي عند الباب الجديد من قرطبة، قال: ومن قال الطلاع بالعين فقد اخطأ، وكذلك قال أبو الوليد بن خيرة، وقالا أيضا: ان الطلاع بالعين هو والد مولاه محمد بن يحيى البكري المعروف بابن الطلاع. اما ابو بكر ابن برنجال الداني فيقول: هو بالعين لأن أباه كان يطلع النخل في قرطبة لاجتنائها فعرف بذلك. وقد رحل الناس الى ابن فرج من كل قطر لسماع الموطأ والمدونة، وكان يحفظ الموطأ، وله فيه سند عال. ديباج ص 257. [4] ابو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان بن سليمان يعرف بابن سالم الكلاعي (565- 634) . [5] محمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد بن عبد العزيز زرقون (502- 586) ، آخر من حدث بالإجازة عن الخولانيّ، وكان عالي الرواية. ديباج ص 285. [6] ابو عبد الله احمد بن محمد بن عبد الرحمن بن غلبون الخولانيّ (418- 508) روى عن جماعة، منهم ابو عمرو عثمان بن احمد القيشطالي (القيجاطي) . صلة 1/ 76. [7] عثمان بن احمد بن محمد بن يوسف المعافري القرطبي يكنى ابا عمرو، ويعرف بالقيشيطيالي (القيشطالي، القيجاطي، توفي سنة 431 عن 80 سنة) . صلة 1/ 397. [8] محمد بن أصبغ بن محمد بن أصبغ الأزدي ابو عبد الله، سمع من أبي عبد الله محمد بن فرج، توفي سنة 536، وهو من أبناء الستين. صلة 2/ 528. [9] محمد بن يحيى البكري المتوفى سنة 497. الاستقصاء 1/ 129. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 687 القاسم أحمد بن محمد ورد [1] ، عن القاضي أبي عبد الله محمد بن خلف ابن المرابط [2] ، عن المقرئ أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطّلمنكيّ [3] ، قال القاضي أبو الوليد بن مغيث، والقيجاطي، والطّلمنكيّ: حدّثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى. وقال الطّلمنكيّ: حدّثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن حدير البزّاز، قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ [4] ، قال حدثنا أبو عبد الله محمد ابن وضّاح [5] ، قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك، إلّا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف، أولها خروج المعتكف إلى العيد فإنّ يحيى شكّ في سماعها عن مالك، فسمعها من زياد بن عبد الرحمن الملقّب شبطون [6] عن مالك. ولي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتّصال سندي فيها. فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرميّ كاتب السلطان أبي الحسن، لقيته بتونس عند استيلاء السلطان عليها، وهو في جملته سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وحضرت مجلسه، وأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه بعض «الموطأ» ، وأجازني بالإجازة العامّة، وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، وعن شيخه الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، وعن أبي القاسم القبتوري، وجماعة من مشيخة أهل سبتة، ويتّصل سنده فيه بالقاضي عياض، وأبي العبّاس العز في صاحب كتاب (الدرّ المنظّم في المولد المعظّم) .   [1] احمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن إدريس بن عبد الله بن ورد التميمي أبو القاسم (465- 540) ، سمع الموطأ من أبي علي الغساني. احاطة 1/ 57. [2] القاضي ابو عبد الله محمد بن خلف بن سعيد المعروف بابن المرابط. اجازة ابو عمر الطلمنكي، توفي بالمدينة بعد سنة 480. ديباج 273، 274. [3] احمد بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي عيسى المعافري ابو عمر الطلمنكي، المتوفى سنة 429 ديباج ص 39. [4] قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح أبو محمد البياني القرطبي (244- 340) ، سمع من ابن وضاح. تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضيّ 1/ 297. [5] محمد بن وضاح بن بديع القرطبي ابو عبد الله (199- 286) ، على خلاف في مولده، ووفاته، سمع من يحيى بن يحيى. ديباج ص 239- 240. [6] زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون [بشين معجمة مفتوحة فباء موحدة ساكنة، وبعدها طاء تليها واو ساكنة فنون] ، أول من أدخل مذهب مالك الى الأندلس، وكان أهلها قبله على مذهب الأوزاعي. توفي سنة 204 على خلاف. نفح الطيب 1/ 349. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 688 ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناطة، سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكّار، وجماعة من مشيخة أهل الأندلس، ويتّصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي [1] ، والحافظ أبي عمر بن عبد البرّ بسندهما. ومنها عن شيخنا المكتّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برّال الأنصاري شيخ القراءة بتونس، ومعلّمي كتاب الله، قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السّبع وعرضت عليه قصيدتي الشّاطبي [2] في القراءة، وفي الرّسم، وعرضت عليه كتاب التّقصّي لابن عبد البرّ، وغير ذلك، وأجازني بالإجازة العامّة، وفي هذه بالإجازة الخاصة، وهو يروي هذا الكتاب عن القاضي أبي العبّاس أحمد بن محمد بن الغمّاز، وعن شيخه أبي العبّاس أحمد بن موسى البطرني بسندهما. ومنها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصّفّار المرّاكشي، شيخ القراءات بالمغرب، سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السلطان أبي عثمان ملك المغرب، وهو يسمعه إياه، وأجازني بسائره، وهو يرويه عن شيخه محدّث المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهريّ السّبتيّ [3] عن مشيخة أهل سبتة، وأهل الأندلس، حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم وطرق أسانيدهم، إلا أنّها لم تحضرني الآن، وفيما ذكرناه كفاية والله يوفقنا أجمعين لطاعته وهذا حين أبتدئ، وباللَّه أهتدي. وانفضّ ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتّجلّة والوقار العيون، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب، وأخلص النّجيّ في ذلك الخاصّة والجمهور، وأنا أنتاب مجلس السلطان في أكثر الأحيان، لتأدية الواجب من التّحية والمشافهة بالدّعاء، الى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النّزعات الملوكية، فأبعده، وأخّره عن خطّة القضاء في رجب ستّ وثمانين وسبعمائة، ودعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه فتفاديت من ذلك، وأبي إلّا إمضاءه، وخلع عليّ، وبعث الأمراء   [1] سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب ابو الوليد القاضي. رحل الى المشرق، وعاد الى الأندلس بعلم كثير (403- 494) . ديباج ص 120. [2] اللامية المسماة بحرز الأماني، والمشهورة بالشاطبية، والرائية، وتسمى «عقيلة أتراب القصائد» . [3] هو ابو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر ..... بن رشيد الفهري السبتيّ (657- 721) . ابن خلدون م 44 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 689 معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء، فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفّيت عهد الله وعهده في إقامة رسوم الحقّ، وتحريّ المعدلة، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله، ووقع في ذلك ما تقدّم ذكره، وكثر شغب أهل الباطل والمراء، فأعفاني السلطان منها لحول من يوم الولاية، وكان تقدّمها وصول الخبر بغرق السّفين الواصل من تونس إلى الإسكندريّة، وتلف الموجود والمولود، وعظم الأسف، وحسن العزاء، والله قادر على ما يشاء. ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة لقضاء الفرض، وركبت بحر السويس من الطّور إلى الينبع، ورافقت المحمل إلى مكّة، فقضيت الحجّ عامئذ، وعدت إلى مصر في البحر كما سافرت أولا. وشغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش، فولّاني السّلطان إياها بدلا من مدرسته في محرّم أحد وتسعين وسبعمائة، ومضيت على حالي من الانقباض، والتّدريس، والتّأليف، حتى ولّاني خانقاه بيبرس، ثم عزلني عنها بعد سنة أو أزيد، بسبب أنا أذكره الآن. (ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها) لما رجعت من قضاء الفرض سنة تسعين وسبعمائة، ومضيت على حالي من التّدريس والتأليف، وتعاهد السلطان باللّقاء والتّحيّة والدعاء، وهو ينظر إليّ بعين الشّفقة، ويحسن المواعيد. وكانت بالقاهرة خانقاه شيّدها السلطان بيبرس، ثامن ملوك الترك الّذي استبدّ على النّاصر محمد بن قلاون [1] هو ورفيقه سلار [2] وأنف النّاصر من استبدادهما، وخرج للصيد، فلمّا حاذى الكرك امتنع به، وتركهم وشأنهم، فجلس بيبرس على التّخت مكانه، وكاتب الناصر أمراء الشّام من مماليك أبيه، واستدعوه للقيام معه، وزحف بهم إلى مصر، وعاد إلى سلطانه، وقتل بيبرس   [1] هو الملك الناصر محمد بن الملك المنصور ابن قلاوون. تولى الملك ثلاث مرات كانت الأخيرة منها في سنة 709، وبقي ملكا حتى مات سنة 741، وعمره 58 سنة. الخطط طبع مصر 4/ 98- 102. [2] الأمير سيف الدين سلار المنصوري، كان من أسرى التتار، فخلص وصار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور بن قلاوون، واليه ينتسب، ساءت علاقته بالناصر، فاعتقله، واستصفى أمواله وقتله. راجع المجلد الخامس من هذا الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 690 وسلار سنة ثمان وسبعمائة [1] . وشيّد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر [2] من أعظم المصانع وأحفلها، وأوفرها ريعا، وأكثرها أوقافا، وعين مشيختها، ونظرها لمن يستعدّ له بشرطه في وقفه، فكان رزق النّظر فيها والمشيخة واسعا لمن يتولّاه، وكان ناظرها يومئذ شرف الدّين الأشقر إمام السلطان الظاهر. فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض، فولّاني السلطان مكانه توسعة عليّ، وإحسانا إليّ، وأقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري. فتنة الناصري (وسياقه الخبر عنها بعد تقديم كلام في أحوال الدول يليق بهذا الموضع، ويطلعك على أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج الى الضخامة والاستيلاء، ثم الى الضعف والاضمحلال، والله بالغ أمره) وذلك أن الدّول الكلّية، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحدا بعد واحد، في مدة طويلة، قائمين على ذلك بعصبيّة النّسب أو الولاء، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلّبهم، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب مستحقّين آخرين ينزعونه من أيديهم بالعصبيّة التي يقتدرون بها على ذلك، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى، يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرّجولة والكثرة في العصابة أو القلّة، وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس، والإقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة، وعدم الثّروة من قبل. ثم تنمو الثّروة فيهم بنموّ الجباية التي ملكوها، ويزيّن حبّ الشّهوات للاقتدار عليها، فيعظم التّرف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئا فشيئا   [1] في المجلد الخامس من هذا الكتاب: ان ذلك كان في سنة. 71 وهو الأشبه بالصواب، لأن الناصر عاد الى الملك في سنة 709. [2] كذا بالأصل. ويظهر ان هنا كلمة سقطت أثناء النسخ. ومقتضى السياق: «وشيد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر خانقاه، وهي من أعظم المصانع واحفلها ... إلخ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 691 بتزايد النّعم وتتّسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدّخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكلّ أحد ممن تحت أيديهم، لأن النّاس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كلّ أحد نظره فيما هو فيه من ذلك، فيرجع وراءه، ويطلب كفاء خرجه بدخله. ثم إن البأس يقلّ من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقّة الحاشية والتنعّم، فيتطاول من بقي من رؤساء الدّولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعدّ لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن التّرف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيرة أو بمن يدعوه لذلك، فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحقّ الناس به، وأقربهم إليه، فيصير الملك له، وفي عشيرة، وتصير كأنها دولة أخرى، تمرّ عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النّسب، أو الولاء. سنّة الله في عباده. وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أنّ بني أيّوب لمّا ملكوا مصر والشام، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقلّ بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسّواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيرة من الكرد يعرفون ببني هذان [1] ، وهم قليلون، وإنما كثّر منهم جماعة المسلمين، بهمّة الجهاد الّذي كان صلاح الدين يدعو إليه، فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه، ونصر الله الدّين على يده. وانتزع السّواحل كلّها من أيدي نصارى الفرنج، حتى مسجد بيت المقدّس، فإنّهم كانوا ملكوه وأفحشوا فيه بالقتل والسّبي،، فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم، واقتسموا مدن الشّام، ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدّين، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدّولة، وإقامة رسوم الملك، وأن ذلك يحصل باتخاذ المماليك، والإكثار منهم، كما كان   [1] بفتح الهاء، والذال المعجمة، وبعدها ألف، ثم نون، وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد وفيات 2/ 495. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 692 آخرا في الدولة العباسيّة ببغداد، وأخذ التّجار في جلبهم إليه، فاشترى منهم أعدادا، وأقام لتربيتهم أساتيذ [1] معلمين لحرفة الجندية، من الثقافة والرّمي، بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف، وكان مقيما بأحواز دمياط [2] في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلّبين على حصنها دمياط. وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سمّاها المنصورة [3] ، وبها توفي رحمه الله، فكان نجم الدين نازلا في مدافعة ساكني دمياط من الفرنج، فأصابه هنالك حدث الموت، وكان ابنه المعظّم توران شاه نائبا في حصن كيفا [4] من ديار بكر وراء الفرات، فاجتمع الجند على بيعته، وبعثوا عنه، وانتظروا. وتقطّن الفرنج لشأنهم، فهجموا عليهم، واقتتلوا فنصر الله المسلمين، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس، فبعثوا به إلى مصر. وحبس بدار لقمان، إلى أن فادوه بدمياط، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب. ونصّبوا- للملك، ولهذا اللقاء- زوجة الصالح أيّوب واسمها شجر الدرّ [5] ، فكانت تحكم بين الجند، وتكتب على المراسيم [6] ، وركبت يوم لقاء الفرنج، تحت الصّناجق [7] ، والجند محدقون بها، حتى أعزّ الله دينه، وأتمّ نصره. ثم وصل توران شاه المعظّم، فأقاموه في خطّة الملك مكان أبيه الصالح   [1] اساتيذ وأساتذة ج استاذ: معلم. [2] وقد ضبطها ابن خلدون بخطه بالحركات، بكسر الذال المعجمة، وقد حكى الإعجام الزبيدي في «تاج العروس» ، والسمعاني في «الأنساب» عن أبي محمد بن أبي حبيب الاندلسي قال السمعاني معقبا: «وما عرفناه الا بالدال المهملة» . (معجم البلدان) ، تاج العروس (دمط، ذمط) . [3] بلدة أنشأها الملك الكامل بن العادل بن أيوب بين دمياط والقاهرة، ورابط فيها في وجه الافرنج لما ملكوا دمياط وذلك في سنة 616، ولم يزل بها حتى استنفذ دمياط في رجب سنة 618. (معجم البلدان) . [4] حصن كيفا: قلعة عظيمة مشرفة على دجلة، بين آمد وجيزة ابن عمر من ديار بكر. (معجم البلدان) . [5] بعضهم يكتبها: «شجرة الدر» ، وكان يخطب باسمها على المنابر، ونقشت على «السكة» ، وكان نقشها: «السكة المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة المنصور خليل» ، وخليل هذا ابنها من الملك الصالح توفي في حياة أبيه، وكانت تكنى به. العبر 5، الخطط 2/ 237 بولاق. [6] يعني اتخذت لها «علامة» تختم بها على المراسيم، وكانت علامتها- فيما يرى ابن خلدون: «أم خليل» ، أما ابن الوردي فيقول: «والدة خليل» . العبرم 5، ابن الوردي 2/ 183. [7] جمع سنجق وهو الأصل الرمح، وكانت تجعل في رأسه الراية، ومن ثم أصبح معناه: الراية مباشرة. صح الأعشى 5/ 458. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 693 أيوب، ووصل معه مماليك يدلّون بمكانهم منه، ولهم به اختصاص، ومنه مكان، وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجدّه. أقطاي الجمدار [1] وأيبك التّركماني، وقلاون الصالحي، فأنفوا من تصرفات مماليك توران شاه، واستعلائهم بالحظّ من السلطان، وسخطوهم وسخطوه، وأجمعوا قتله. فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكور، وقتلوه، ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم، واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها، وهلك بعد أيبك ابنه عليّ المنصور، ثم مولاه قطز، ثم الظاهر بيبرس البندقداري [2] . ثم ظهر أمر الطّطر [3] ، واستفحل ملكهم. وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان من خراسان إلى بغداد، فملكها، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس. ثم زحف إلى الشام، فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب، إلى أن استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان، زحف إلى خراسان، فامتعض لذلك، وكرّ راجعا، وشغل بالفتنة معه إلى إن هلك. وخرج قطز من مصر عند ما شغل هولاكو بفتنة بركة، فملك الشام كله، أمصاره ومدنه، وأصاره للترك موالي بني أيوب. واستفحلت دولة هؤلاء المماليك، واتّصلت أيامها واحدا بعد واحد، كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاون عند ما ملك بيبرس الظاهر منهم، فتظاهر به، وأصهر إليه، والترف يومئذ لم يأخذ منهم، والشّدة والشكيمة موجودة فيهم، والبأس والرجولة شعار لهم، وهلك الظاهر بيبرس، وابناه من بعده، كما في أخبارهم. وقام قلاوون بالأمر، فاتّسع نطاق ملكه، وطال ذرع سلطانه، وقصرت أيدي الطّطر عن الشام بمهلك هولاكو، وولاية الأصاغر من ولده، فعظم ملك قلاون، وحسنت آثار سياسته، وأصبح حجة على من بعده، ثم ملك بعده ابناه: خليل الأشرف، ثم محمد الناصر. وطالت أيامه، وكثرت عصابته من مماليكه،   [1] أخبار أقطاي مفصلة في العبر 5 م. والجمدار: هو الّذي يتولى الباس السلطان، أو الأمير ثيابه، وأصله جاما دار فحذف المد منه فقيل: جمدار، وهو مركب من كلمتين فارسيتين: «جاما» . ومعناها ثوب، و «دار» ، ومعناها: ممسك. صبح الأعشى 5/ 459. [2] انظر ترجمته في الخطط 2/ 300، 238 بولاق. وخير توليه السلطنة في العبر 5. والبندقداري: هو الّذي يحمل غرارة البندق خلف السلطان. والبندق: الّذي يرمي به وأصله البندق الّذي يؤكل، وهو في العربية الجلوز، صبح الأعشى 5/ 457. [3] كذا بالأصل، وهي: التتر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 694 حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره. ورتّب للدّولة المراتب، وقدّم منهم في كل رتبة الأمراء، وأوسع لهم الأقطاع والولايات، حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالتّرف أحوالهم. ورحل أرباب البضائع من العلماء والتّجّار إلى مصر، فأوسعهم حباء وبرّا. وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والرّبط والخوانق، وأصبحت دولتهم غرّة في الزمان، وواسطة في الدّول. ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة، فطفق أمراء دولته ينصبون بنيه للملك، واحدا بعد آخر، مستبدّين عليهم، متنافسين في الملك، حتى يغلب واحد منهم الآخر، فيقتله، ويقتل سلطانه من أولاد الناصر، وينصب آخر منهم مكانه، إلى أن انساق الأمر لولده حسن النّصر، فقتل مستبدّه شيخون، وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبغا، فقام بها، ونافسه أقرانه، وأغروا به سلطانه، فأجمع قتله. ونمي إليه الخبر وهو في علوفة البرسيم عند خيله المرتبطة لذلك، فاعتزم على الامتناع، واستعدّ للّقاء. واستدعاه سلطانه، فتثاقل عن القدوم. واستشاط السلطان، وركب في خاصته إليه، فركب هو لمصادمته. وهاجم السلطان ففلّه، ورجع إلى القلعة، وهو في اتّباعه، فلم يلفه بقصره، وأغرى به البحث فتقبّض عليه، واستصفاه، وقتله، ونصب للملك محمد المنصور بن المظفّر حاجي بن الناصر. وقام بالدولة أحسن قيام، وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك، وتهذيبهم بالتّربية، وتوفير النّعم عندهم بالإقطاع، والولايات، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم خلع المنصور بن المظفّر لسنتين، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن النّاصر، فأقام على التّخت وهو في كفالته، وهو على أوّله في إعزاز الدولة، وإظهار التّرف والثروة، حتى ظهرت مخايل العزّ والنّعم، في المساكن والجياد والمماليك والزينة، ثم بطروا النّعمة، وكفروا الحقوق، فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب، فهمّوا بقتله وخلصوا نجيا لذلك في متصيّدهم الشّتوي، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم. ولما أحسّ بذلك ركب ناجيا بنفسه إلى القاهرة، فدخلوا على السلطان الأشرف، وجاءوا به على إثره، وأجازوا البحر، فقبضوا عليه عشيّ يومهم، ثم قتلوه في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرّات لم يعهدوها من أول دولتهم، من النّهب والتّخطّف وطروق المنازل والحمّامات للعبث بالحرم، وإطلاق أعنّة الشّهوات والبغي في كل ناحية، فمرج أمر النّاس، ورفع الأمر إلى السّلطان، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 695 وكثر الدعاء واللّجأ إلى الله. واجتمع أكابر الأمر إلى السلطان، وفاوضوه في كفّ عاديتهم، فأمرهم بالركوب، ونادى في جنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم، والاحتياط بهم في قبضة القهر، فلم يكن إلا كلمح البصر، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عمّرت بهم السّجون، وصفّدوا وطيف بهم على الجمال ينادي بهم، إبلاغا في الشهرة، ثم وسّط [1] أكثرهم، وتتبّع البقيّة بالنّفي والحبس بالثغور القصيّة، ثم أطلقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعة منهم بحبس الكرك: فيهم برقوق الّذي ملك أمرهم بعد ذلك، وبركة الجوباني [2] ، وألطنبغا الجوباني [3] وجهركس الخليلي. وكان طشتمر [4] ، دوادار يلبغا [5] ، قد لطف محلّه عند السلطان الأشرف، وولي الدّوادارية له، وكان يؤمّل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا، فكان يحتال في ذلك يجمع هؤلاء المماليك اليلبغاويّة من حيث سقطوا، يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه، ويغري السلطان بها شفاها ورسالة، إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السّلطان الأشرف، وجعلهم في خدمة ابنه عليّ وليّ عهده. فلما كثروا، وأخذتهم أريحيّة العزّ بعصبيّتهم، صاروا يشتطّون على السّلطان في المطالب، ويعتزّون بعصبية اليلبغاوية. واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين وسبعمائة على قضاء الفرض، فخرج لذلك خروجا فخما، واستناب ابنه عليّا على قلعته وملكه في كفالة قرطاي [6] من أكابر اليلبغاوية، وأخرج معه الخليفة والقضاة، فلما بلغ العقبة [7] اشتطّ المماليك في   [1] وسطه توسيطا: قطعه نصفين، ويقال قتل فلان موسّطا. [2] هو بركة بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير زين الدين. كان أميرا شجاعا يحب العلماء، له مآثر خيرية بمكة، والحرم، وبطريق المدينة. قتل سنة 872. [3] علاء الدين الطنبغا بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير، كان من خيار الأمراء دينا، وعقلا وشجاعة. مات في الواقعة بين منطاش والناصري خارج دمشق سنة 792 هـ، وكان صديقا لابن خلدون، وقد عرف به وأثنى عليه في العبر م 5. [4] طشتمر بن عبد الله العلائي الدوادار الأمير سيف الدين، توفي في دمياط منفيا سنة 786. أثنى عليه ابن تغري بردي كثيرا بمقدار ما قدح في بركة، والظاهر برقوق. [5] لقب للذي يمسك دواة السلطان أو الأمير، ويتولى من الأمور ما يلزم هذا المعنى، من حكم، أو تنفيذ أمور، أو غير ذلك. صبح الأعشى 5/ 462. [6] قرطاي (أو قراطاي) بن عبد الله المعزي الأشرفي سيف الدين، رفيق أينبك، وصهره، وكان من أصاغر الأمراء في دولة الأشرف شعبان بن حسين، ولكنه أصبح في أيام ولده عليّ أمير مائة، ثم مقدم ألف. واختلف مع صديقه أينبك، فحبسه إلى أن مات سنة 779. [7] موقعها في النهاية الشرقية الشمالية لخليج العقبة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 696 طلب جرايتهم من العلوفة والزّاد، واشتطّ الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولّين للجباية. وصار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال، وطشتمر الدّوادار يغضي عنهم يحسب وقت استبداده قد أزف، إلى أن راغمهم السّلطان بالزّجر، فركبوا عليه هنالك، وركب من خيامه مع لفيف من خاصّته، فنضحوه بالنّبل، ورجع إلى خيامه، ثم ركب الهجن مساء، وسار فصبّح القاهرة، وعرّس هو ولفيفه بقبّة النّصر. وكان قرطاي كافل ابنه عليّ المنصور، حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السّلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه، فأغرى عليّا المنصور بن السلطان بالتّوثّب على الملك، فارتاح لذلك وأجابه، وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة، وقد أجلس عليّا مكفوله بباب الإسطبل، وعقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت، وبينما هم في ذلك، صبّحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ، فطاروا إليه زرافات ووحدانا، فوجدوا أصحابه نياما هنالك، وقد تسلّل من بينهم هو وبلبغا الناصري [1] من أكابر اليلبغاويّة، فقطوا رءوسهم جميعا، ورجعوا بها تسيل دما. ووجموا لفقدان الأشرف، وتابعوا النّداء عليه، وإذا بامرأة قد دلّتهم عليه في مكان عرفته، فتسابقوا إليه، وجاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدّوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم، ومخلّف السلطان، واعتزم على قتالهم طمعا في الاستبداد الّذي في نفسه، فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم، فخلعوا عليه بنيابة الشام، وصرفوه لذلك، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميرا آخر من اليلبغاوية [2] قد ساهم قرطاي في هذا الحادث، وأصهر إليه في بعض حرمه، فاستنام له قرطاي، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلا صبوحه بغبوقه، ويستغرق في ذلك، فركب في بعض أيامه، وأركب معه السلطان عليا، واحتاز الأمر من يد قرطاي،   [1] يلبغا بن عبد الله الناصري الاتابكي الأمير سيف الدين، وهو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر بظاهر دمشق. الدرر الكامنة 4/ 440- 442. [2] أينبك بن عبد الله البدري الأمير سيف الدين، كان هو وقرطاي صاحبي الحل والعقد في الدولة. استبد بالمنصور بن الأشرف، ثم تغلب عليه يلبغا الناصري وأودعه سجن الاسكندرية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 697 وصيّره إلى صفد [1] ، واستقلّ بالدولة، ثم انتقض طشتمر بالشّام مع سائر أمرائه، فخرج أينبك في العساكر، وسرّح المقدّمة مع جماعة من الأمراء، وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك، وخرج هو والسلطان في السّاقة [2] ، فلما انتهوا إلى بلبيس، ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه، ورجع إليه أخوه منهزما، فرجع إلى القلعة. ثم اختلف عليه الأمراء، وطالبوه بالحرب في قبّة النّصر، فسرّح العساكر لذلك، فلمّا فصلوا فرّ هو هاربا، وقبض عليه وثقف بالإسكندرية. واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي، ويلبغا النّاصري ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق، فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق، إلى الاستقلال بالأمر وتغلّبوا على سائر الأمراء، واعتقلوهم بالإسكندرية. وفوّضوا الأمر إلى يلبغا النّاصري، وهم يرونه غير خبير، فأشاروا باستدعاء طشتمر، وبعثوا إليه، وانتظروا. فلما جاءه الخبر بذلك ظنّها منية نفسه، وسار إلى مصر، فدفعوا الأمر إليه، وجعلوا له التولية والعزل وأخذ برقوق، وبركة يستكثران من المماليك، بالاستخدام والجاه، وتوفير الاقطاع، إكثافا لعصبيتهما، فانصرفت الوجوه عن سواهما، وارتاب طشتمر بنفسه، وأغراه أصحابه بالتوثّب، ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين وسبعمائة استعجل أصحابه على غير رويّة، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم، وقاتلوا فانهزموا. وتقبّض على طشتمر، وحبس بالإسكندرية، وبعث معه يلبغا الناصري، وخلت الدّولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين، وعمروا المراتب بأصحابهما. ثم كثر شغب التّركمان والعرب بنواحي الشام، فدفعوا يلبغا النّاصري إلى النّيابة بحلب ليستكفوا به في تلك النّاحية. ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال، وأضمر كلّ واحد منهما لصاحبه، وخشي منه، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليخصّ بذلك جناحه، فارتاع لذلك بركة، وخرج بعصابته إلى قبّة النّصر ليواضع برقوقا وأصحابه الحرب هنالك، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الاسطبل، وسرّب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياما يغادونهم ويراوحونهم ثلاثا، إلى أن عضّت بركة وأصحابه الحرب، فانفضّوا عنه، وجيء ببركة، وبعث به إلى   [1] صفد: مدينة في شمالي فلسطين، واقعة في الشمال الغربي لبحيرة طبرية، قريبة من حدود سوريا في الجنوب الغربي، ومن حدود لبنان في الجنوب. [2] ساقة الجيش: مؤخره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 698 الإسكندرية، فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرّام نائب الإسكندرية. وارتفع أصحابه إلى برقوق شاكين، فثأرهم منه بإطلاق أيديهم في النّصفة، فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة، بعد أن سمّر، وحمل على جمل عقابا له، ولم يقنعهم ذلك، فأطلق أيديهم فيما شاءوا منه، ففعلوا ما فعلوا. وانفرد برقوق- بعد ذلك- بحمل الدّولة ينظر في أعطافها [1] بالتّهديد، والتّسديد، والمقاربة [2] ، والحرص على مكافأة الدّخل بالخرج. ونقّص ما أفاض فيه بنو قلاون من الإمعان في التّرف، والسّرف في العوائد والنّفقات، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الرّاجح، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها، وراقب ذلك كلّه برقوق، ونظر في سدّ خلل الدّولة منه، وإصلاحها من مفاسده، يعتدّ ذلك ذريعة للجلوس على التّخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاون، بما أفسد الترف منهم، وأحال الدولة بسببهم، إلى أن حصل من ذلك على البغية، ورضي به أصحابه وعصابته، فجلس على التّخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وتلقّب بالظاهر. ورتّب أهل عصابته في مراتب الدولة، فقام وقاموا بها أحسن قيام، وانقلبت الدولة من آل قلاون إلى برقوق الظاهر وبنيه. واستمرّ الحال على ذلك، ونافسه اليلبغاوية- رفقاؤه في ولاء يلبغا- فيما صار إليه من الأمر، وخصوصا يلبغا نائب حلب، فاعتزم على الانتقاض. وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه، فجاء وحبسه مدّة، ثم رجّعه إلى نيابة حلب، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر، فبعث سنة تسعين وسبعمائة دواداره للقبض عليه، ويستعين في ذلك بالحاجب. وانتقض، واستدعى نائب ملطية [3] ، وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية، وكان قد انتقض قبله، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر، فأجابوه، وساروا في جملته، وتحت لوائه، وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق، فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من أصحابه: وهم الدوادار الأكبر يونس [4] ،   [1] الأعطاف: الجوانب. [2] المقاربة: ترك الغلو في الأمور، وقصد السداد فيها. [3] بفتح الميم واللام، وسكون الطاء، ثم ياء مفتوحة، والعامة تكسر الطاء، وتشدد الياء. تقع في الشمال الغربي لديار بكر من الجمهورية التركية. (معجم البلدان) ، تاج العروس (ملط) . [4] يونس بن عبد الله الأمير سيف الدين الدوادار الأكبر لفك الظاهر، ويعرف بالنوروري (نسبة الى معتقله الأمير جرجي النوروري) . كان من أعاظم دولة الظاهر برقوق، حارب منطاش، والناصري، وعاد في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 699 وجهركس الخليلي أمير الاسطبل، والأتابكي أيتمش، وأيدكار حاجب الحجاب [1] وأحمد بن يلبغا أستاذهم [2] . وخرج النّاصري من حلب في عسكره، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام، ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق، نزع كثير من عسكر السلطان إليهم، وصدقوا الحملة على من بقي فانفضّوا. ونجا ايتمش إلى قلعة دمشق، فدخلها، وقتل جهركس، ويونس، ودخل الناصري دمشق، ثم أجمع المسير إلى مصر، وعميت أنباؤهم حتى أطلّوا على مصر. وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة أنمى عنه، أنه داخله شيطان من شياطين الجند، يعرف بقرط [3] في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين، فلما صحّ الخبر أمر بقتله، وحبس الخليفة سبعا إلى تلك السنة، فأطلقه عند هذا الواقع، ولما وصل إلى قيطا اجتمعت العساكر، ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل، ثم دخل إلى بيته وخرج متنكرا، وتسرّب في غيابات المدينة، وباكر الناصري وأصحابه القلعة، وأمير حاج ابن الأشرف، فأعادوه إلى التخت ولقّبوه المنصور. وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وكان فيهم ألطنبغا الجوباني الّذي كان أمير مجلس [4] ، وقبض السلطان الظاهر عليه، وحبسه أياما، ثم أطلقه وبعثه نائبا على دمشق، ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض، وداخل الناصريّ نائب حلب في ذلك، وأكّد ذلك عند السلطان ما كان بينه وبين النّاصري من المصافاة والمخالصة، فبعث عنه. ولما جاء حبسه بالإسكندرية، فلما ملك الناصري مصر، وأجلس أمير حاج بن   [ () ] جيش منهزم الى القاهرة، وفي طريقه قتل سنة 791 عن نيف وستين سنة. خطط المقريزي 2/ 426 بولاق. [1] أيدكار بن عبد الله العمري سيف الدين، كان أحد أعيان الملك الظاهر، وولاه حجابة الحجاب. ثم انحاز إلى حزب منطاش، ولما عاد برقوق إلى الملك قبض عليه في سنة 794، وقتله. [2] الأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا العمري الخاصكي، كان برقوق مملوكا لوالده، ولذلك عفا عنه حين انحاز إلى الناصري ومنطاش. ولما مات الظاهر، ثار ايتمش وآخرون بالشام، فانضم اليهم أحمد بن يلبغا هذا، وحاربهم فرج بن الظاهر، فانتصر عليهم، وقبض على أحمد بن يلبغا، فقتله في سنة 802. [3] قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة، وكان له أقدام وشجاعة وصل بهما إلى مرادفة الأمراء في مذاهبهم. قتل سنة 785. [4] معناه صاحب الشورى في الدولة، وهو ثاني الأتابك، وتلو رتبته. العبر م 5 صبح الأعشى 5/ 455. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 700 الأشرف [1] على التخت، بعث عنه ليستعين به على أمره، وارتابوا لغيبة الظاهر، وبالغوا في البحث عنه، فاستدعى الجوبانيّ واستنام له، واستحلفه على الأمان، فحلف له، وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصريّ في المضيّ إليه وتأمينه. وحبسوه في بعض قصور الملك، وتشاوروا في أمره، فأشار أمراء اليلبغاوية كلّهم بقتله، وبالغ في ذلك منطاش، ووصل نعير أمير بني مهنّا [2] بالشام للصحابة بينه وبين الناصري، فحضّهم على قتله، ومنع الجوبانيّ من ذلك وفاء بيمينه، فغلت صدورهم منه. واعتزموا على بعثه إلى الكرك [3] ، ودافعوا منطاشا بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية، فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه. ووثق بذلك، فقعد له عند المرساة، وخالفوا به الطريق إلى الكرك، وولّوا عليها نائبا وأوصوه به، فأخفق مسعى منطاش، ودبّر في اغتيال الدولة، وتمارض في بيته. وجاءه الجوباني عائذا فقبض عليه، وحبسه بالإسكندرية، وركب منتقضا، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة. واستجاش هو بأمراء اليلبغاوية، فداهنوا في إجابته، ووقفوا بالرّميلة أمام القلعة. ولم يزل ذلك بينهم أياما حتى انفضّ جمع النّاصري، وخرج هاربا، فاعترضه أصحاب الطريق بفارسكور، وردّوه، فحبسه منطاش بالإسكندرية مع صاحبه، واستقلّ بأمر الملك. وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر، فامتنع النّائب، واعتذر بوقوفه على خطّ السلطان والخليفة والقضاة. وبثّ الظاهر عطاءه في عامّة أهل الكرك، فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الّذي جاء في ذلك، فقتلوه، وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا. واستألف أفاريق من العرب، واتصل به بعض مماليكه، وسار إلى الشام. واعترضه ابن باكيش [4] نائب   [1] الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، يلقب بالمنصور (غير لقبه الصالح الى المنصور) ، وخلع نفسه يوم أن عاد برقوق الى الملك. [2] نعير بن محمد بن حيار بن مهنا بن مانع، لبثه القدم الراسخة في الإمارة. وفي ظفر برقوق به، وبمنطاش، يقول الشيخ زين الدين بن ظاهر: الملك الظاهر في عزه ... أذل من ضل ومن طاشا ورد في قبضته طائعا ... نعيرا العاصي ومنطاشا [3] مدينة في الأردن على بعد 145 كلم من القدس عرفت قديما باسم (كير مؤاب) كانت حصنا للمؤابيين، احتلها الصليبيون واستردها صلاح الدين سنة 1188، كانت مقر مطرانية منذ أوائل العهد المسيحي كما كانت قاعدة لدولة المماليك سنة 1309 [4] الحسن بن باكيش الأمير بدر الدين التركماني، نائب غزة من قبل منطاش. قتله الظاهر بالقاهرة سنة 793، وكان مشهورا بالشجاعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 701 غزّة [1] ، فأوقع به الظاهر، وسار إلى دمشق، وأخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج، وسار على التعبئة ليمانع الظّاهر عن دمشق. وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق [2] ، فواقعه، وأقام محاصرا له. ووصل إليه كمشبغا [3] الحموي نائب حلب، وكان قد أظهر دعوته في عمله، وتجهّز للقائه بعسكره، فلقيه وأزال علله، فأقام له أبّهة الملك. وبيناهم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه وعساكره لقتالهم، فلقيهم الظاهر بشقحب [4] ، فلمّا تراءى الجمعان، حمل الظاهر على السّلطان أمير حاج وعساكره ففضّهم، وانهزم كمشبغا إلى حلب. وسار منطاش في إتباعه، فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج، ففضّها، واحتاز السلطان، والخليفة والقضاة، ووكل بهم. واختلط الفريقان، وصاروا في عمياء من أمرهم، وفرّ منطاش إلى دمشق. واضطرب الظاهر أخبيته [5] ، ونزل على دمشق محاصرا لها. وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه، وجمع القضاة والخليفة، فشهدوا على أمير حاج بالخلع، وعلى الخليفة بإعادة الظّاهر إلى ملكه. ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر، وتغلّب مماليكه عليها، وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية، وكان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعدّ لهم، فتناجوا في التّسوّر منه إلى ظاهره، والتوثّب على القلعة والملك، فخرجوا، وهرب دوادار منطاش الّذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية. وملك مماليك الظاهر القلعة، ورأسهم مملوكه بطا [6] وساس أمرهم، وانتظر خبر سلطانه، فلما وصل الخبر بذلك الى الظاهر، أغذّ السّير إلى مصر. وتلقّاه الناس فرحين مسرورين بعوده وجبره. ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وولّى بطا دوادارا، وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وأعتبهم، وأعادهم إلى   [1] مدينة بفلسطين قرب الساحل، بها ولد الإمام الشافعيّ، ويروى له فيها شعر. (معجم البلدان) . [2] الأمير جنتمر التركماني. [3] كمشبغا بن عبد الله الحموي اليلبغاوي الأمير سيف الدين. توفي سنة 801. [4] شقحب (كجعفر) : موضع قرب دمشق، نسب إليه جماعة من المحدثين. (تاج العروس) . [5] كذا في الأصول، وهي مكررة في أماكن متعددة من تاريخ العبر. وأظنها محرفة أثناء النسخ عن كلمة (ضرب) . فتصبح العبارة: «وضرب الظاهر أخبيته» . [6] الأمير بطا الطولوتمري، خلع عليه الظاهر برقوق سنة 792 دوادارا، ثم نائب دمشق، وليها من قبل استاذه في ذي القعدة سنة 793 الى ان توفي بها سنة 794. وانظر تفصيل ثورة بطا ومن كان معه من المسجونين، في «العبر» المجلد الخامس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 702 مراتبهم. وبعث الجوباني إلى دمشق، والناصري إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه. وولّى سودون على نيابته، وكان ناظرا بالخانقاه التي كنت فيها، وكان ينقم عليّ أحوالا من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء أزمان كنت عليه، ومن تصرّفات دواداره بالخانقاه، وكان يستنيبه عليها، فوغر صدره من ذلك، وكان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى [1] استدعاها منّا منطاش، وأكرهنا على كتابها، فكتبناها، وورّينا فيها بما قدرنا عليه. ولم يقبل السلطان ذلك، وعتب عليه، وخصوصا عليّ، فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عنّي، فولّى فيها غيري وعزلني عنها. وكتبت إلى الجوباني بأبيات اعتذر عن ذلك ليطالعه بها، فتغافل عنها، وأعرض عني مدّة، ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه وإحسانه، ونصّ الأبيات: سيّدي والظنون فيك جميلة ... وأياديك بالأماني كفيلة لا تحل عن جميل رأيك إنّي ... ما لي اليوم غير رأيك حيلة واصطنعني كما اصطنعت بإسداء ... يد من شفاعة أو وسيلة لا تضعني فلست منك مضيعا ... ذمّة الحبّ، والأيادي الجميلة وأجرني فالخطب عضّ بنابيه ... وأجرى الى حماي خيوله   [1] في السلوك: «في 25 قعدة، أحضرت نسخ الفتوى في الملك الظاهر، وزيد فيها: «واستعان على قتل المسلمين بالكفار، وحضر الخليفة المتوكل، وقضاة القضاة: بدر الدين محمد بن أبي البقاء الشافعيّ. وابن خلدون، وسراج الدين عمر بن الملقن الشافعيّ، وعدة دون هؤلاء، في القصر الأبلق، بحضرة الملك المنصور، ومنطاش، وقدمت اليهم الفتوى، فكتبوا عليها بأجمعهم، وانصرفوا» . وفي تاريخ ابن الفرات: «وفي يوم الاثنين اجتمعت الأمراء بالقصر الأبلق بقلعة الجبل، بحضرة السلطان الملك المنصور وحاجي، والأمير منطاش، والخليفة محمد، والقضاة الأربعة، والشيخ سراج الدين البلقيني، وولى القاضي جلال الدين عبد الرحمن قاضي العسكر، وقاضي القضاة بدر الدين بن أبي البقاء الشافعيّ، وقضاة العسكر، ومفتون (كذا) دار العدل، وكتبت فتاوى تتضمن: هل يجوز قتال الملك الظاهر برقوق أم لا؟ وذكروا في الفتاوى أشياء تخالف الشرع الشريف، ومما تضمنته الفتاوى: انه يستعين على قتال المسلمين بالنصارى، فسألوهم (كذا) الجماعة عن ذلك، فقيل لهم ان الملك الظاهر معه جماعة من نصارى الشوبك نحو 600 نفس يقاتل بهم في عسكره: ولم يكن الأمر كذلك، وانما أرادوا التلبيس على العلماء المفتين، فعند ذلك وضعوا (كذا) المذكورون خطوطهم على الفتاوى المذكورة بجواز قتاله، وانفصل المجلس على ذلك ونودي في بكرة هذا النهار في القاهرة لأجناد الحلقة: أن لا يتأخر أحد منهم عن العرض، ومن لم يحضر قطع خبزه» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 703 ولو أنّي دعا بنصري داع ... كنت لي خير معشر وفصيلة أنه أمري الى الّذي جعل الله ... أمور الدّنيا له مكفولة وأراه في ملكه الآية ... الكبرى فولّاه ثم كان مديله أشهدته عناية الله في التمحيص ... أن كان عونه ومنيله العزيز السلطان والملك الظّاهر ... فخر الدنيا وعزّ القبيلة ومجير الإسلام من كل خطب ... كاد زلزال بأسه أن يزيله ومديل العدو بالطّعنة النّجلا ... وتفرّي ماذيّه ونصوله [1] وشكور لأنعم الله يفني ... في رضاه غدوّه وأصيله وتلطّف في وصف حالي وشكوى ... خلّتي [2] يا صفيّة وخليله قل له والمقال يكرم من مثلك ... في محفل العلا أن يقوله يا خوند الملوك يا معد الدّهر ... إذا عدّل [3] الزمان فصوله لا تقصّر في جبر كسرى فما ... زلت أرجيك للأياد الطّويلة أنا جار لكم منعتم حماه ... ونهجتم الى المعالي سبيله وغريب أنّستموه على الوحشة ... والحزن بالرضى والسّهولة وجمعتم من شمله فقضى الله ... فراقا وما قضى مأموله غاله الدّهر في البنين وفي الأهل ... وما كان ظنّه أن يغوله [4] ورمته النّوى [5] فقيدا قد ... اجتاحت عليه فروعه وأصوله فجذبتم بضبعه [6] وأنلتم ... كل ما شاءت العلا أن تنيله ورفعتم من قدره قبل أن ... إليكم عياءه وخموله وفرضتم له حقيقة ودّ ... حاش للَّه أن ترى مستحيلة همة ما عرفتها لسواكم ... وأنا من خبرت دهري وجيله   [1] الطعنة النجلاء: الواسعة العريضة. وتفري: تشق. والماذي (بالمعجمة) : كل سلاح من الحديد. والنصول جمع نصل، وهو حديدة السهم. [2] الحلة (بالفتح) : الحاجة، والفقر. [3] عدل الحكم: اقامه، والميزان سواه. [4] يشير الى غرق اهله في المركب الّذي أقلهم من المغرب، وقد تقدم له ذكر هذا. [5] النوى: الوجه الّذي ينويه المسافر من قرب أو بعد. وهي مؤنثة لا غير. [6] الضبع: العضد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 704 والعدا نمّقوا أحاديث إفك ... كلها في طرائق معلولة روّجوا في شأني غرائب زور ... نصبوها لأمرهم أحبولة ورموا بالذي أرادوا من ... البهتان ظنا بأنها مقبولة زعموا انني أتيت من الأقوال ... ما لا يظنّ بي أن أقوله كيف لي أغمط الحقوق وأنّي ... شكر نعماكم عليّ الجزيلة؟ كيف لي أنكر الأيادي التي ... تعرفها الشّمس والظّلال الظليلة؟ إن يكن ذا فقد برئت من ... الله تعالى وخنت جهرا رسوله طوقونا أمر الكتاب فكانت ... لقداح الظنون فينا مجيلة [1] لا وربّ الكتاب أنزله الله ... على قلب من وعى تنزيله ما رضينا بذاك فعلا ولا جئناه ... طوعا ولا اقتفينا دليله إنما سامنا الكتاب ظلوم ... لا يرجّى دفاعه بالحيلة سخط ناجز وحلم بطيء ... وسلاح [2] للوخز فينا صقلّيّة ودعوني ولست من منصب الحكم ... ولا ساحبا لديهم ذيوله غير أنّي وشى بذكري واش ... يتقصّى أوتاره وذحوله [3] فكتبنا معوّلين على حلمك ... تمحو الإصار عنّا الثّقيلة ما أشرنا به لزيد ولا عمرو ... ولا عيّنوا لنا تفصيله إنما يذكرون عمّن وفيمن ... مبهمات أحكامها منقولة ويظنّن أنّ ذاك على ما ... أضمروا من شناعة أو رذيلة وهو ظنّ عن الصّواب بعيد ... وظلام لم يحسنوا تأويله وجناب السّلطان نزّهه الله ... عن العاب [4] بالهدى والفضيلة وأجلّ الملوك قدرا صفوح ... يرتجي ذنب دهره ليقيله فاقبلوا العذر إنّنا اليوم نرجو ... بحياة السّلطان منكم قبوله وأعينوا على الزّمان غريبا ... يشتكي جدب عيشه ومحوله   [1] يشير الى الفتوى السالفة الذكر عن المقريزي وابن الفرات. [2] السلاح: آلة الحرب، أو حديدته، ويؤنث. [3] أوتار جمع وتر، بمعنى الذحل. والذحل: العداوة. والجمع ذحول. [4] العاب: العيب. ابن خلدون م 45 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 705 جاركم ضيفكم نزيل حماكم ... لا يضيع الكريم يوما نزيله جدّدوا عنده رسوم رضاكم ... فرسوم الكرام غير محيلة داركوه برحمة فلقد أمست ... عقود اصطباره محلولة وانحلوه جبرا فليس يرجّي ... غير إحسانكم لهذي النّحيلة يا حميد الآثار في الدهر يا ... ألطنبغا يا روض العلا ومقيله كيف بالخانقاه ينقل عنّي ... لا لذنب أو جنحة منقولة بل تقلّدتها شغورا بمرسوم ... شريف وخلعة مسدولة ولقد كنت آملا لسواها ... وسواها بوعده ان ينيله وتوثّقت للزّمان علييها ... بعقود ما خلتها محلولة أبلغن قصّتي فمثلك من يقصد ... فعل الحسنى بمن ينتمي له واغنموا من مثوبتي ودعائي ... قربة عند ربكم مقبولة وفي التّعريض بسفره إلى الشام: واصحب العزّ ظافرا بالأماني ... واترك العصبة العدا مفلولة واعتمل في سعادة الملك الظّاهر ... أن تمحو الأذى وتزيله وتعيد الدّنيا لأحسن شمل ... حين تضحي بسعده مشمولة واطلب النّصر من سعادته يصحبك ... دأبا في الظعن والحيلولة وارتقب ما يحلّه بالأعادي ... في جمادى أو زد عليه قليله وخذوه فألا بحسن قبول ... صدّق الله في الزمان مقولة فلقد كان يحسن الفال عند ... المصطفى دائما ويرضى جميلة (السعاية في المهاداة والإتحاف بين ملوك المغرب والملك الظاهر) كثيرا ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضا بالاتحاف بطرف أوطانهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 706 للمواصلة والإعانة متى دعا إليها داع. وكان صلاح الدين بن أيوب هادي يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن، واستجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشّام حين كان معنيّا بإرجاعهم عنها، وبعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ [1] من أمراء شيزر [2] ، فأكرم المنصور رسوله، وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه [3] من العدول عن تخطيطه [4] بأمير المؤمنين، فوجدها غصّة في صدره منعته من إجابته إلى سؤاله، وكان المانع لصلاح الدّين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني [5] بما كان يشاوره في أموره، وكان مقيما لدعوة الخليفة العبّاسي بمصر، فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لاثنين في الملّة كما هو المشهور، وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك، لما يرون أن، الخلافة ليست لقبا فقط، وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدّة والحماية، والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحقّ. فلما انقرضت دولة الموحّدين، وجاءت دولة بني مرين من بعدهم، وصار كبراؤهم ورؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقيّة، فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم، وتسهيل طريقهم، فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البرّ والمواصلة، بالاتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية، فسنّت لذلك طرائق وأخبار مشهورة، من حقّها أن تذكر، وكان يوسف ابن يعقوب بن عبد الحقّ ثالث ملوك بني مرين، أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة [6] ، وهو يومئذ النّاصر بن محمد بن قلاون، هدية ضخمة، أصحبها كريمة   [1] هكذا سماه ابن خلدون هنا، وفي «المقدمة» ، وفي «وفيات ابن خلكان» (2/ 433) ، والروضتين لأبي شامة 1/ 173، والاستقصاء 1/ 174، ان اسمه عبد الرحمن. وهو شمس الدين ابو الحرث (وكناه في الروضتين أبا الحزم) ، عبد الرحمن بن نجم الدولة أبي عبد الله محمد بن مرشد، المتوفى سنة 600 بالقاهرة، والمولود بشيزر سنة 523. [2] قرية قرب المعرة بينها وبين حماة، فتحت سنة 17 هجرية، ومنها الأمراء من بني منقذ، وأول من ملكها منهم من يد الروم علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، وذلك في سنة 474 (معجم البلدان) ، وفيات 1/ 464، تاريخ أبي الفداء 2/ 352 (سنة 502) . وانظر أخبار بني منقذ في تاريخ أبي الفداء أيضا 3/ 32 وما بعدها. [3] جاء في الروضتين (2/ 170- 175) نص الرسالة التي كتبها القاضي الفاضل إلى المنصور الموحدي، ونص رسالة أخرى مضمونها تكليف الأمير ابن منقذ هذا بالسفارة الى الموحدين. [4] تحليته. [5] عبد الرحيم بن الأشرف بهاء الدين ... العسقلاني، ثم المصري المعروف بالقاضي الفاضل مجير الدين (529- 596) . وفيات 1/ 357 وما بعدها. [6] انظر العبر المجلد الخامس، والاستقصاء 2/ 40- 41، حيث تجد تفصيل الحديث عن هذه الهدية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 707 من كرائم داره، احتفل فيها ما شاء من أنواع الطّرف، وأصناف الذّخائر، وخصوصا الخيل والبغال. أخبرني الفقيه ابو إسحاق الحسناوي، كاتب الموحّدين بتونس، أنه عاين تلك الهدية عند مرورها بتونس، قال: وعددت من صنف البغال الفارهة فيها أربعمائة، وسكت عما سوى ذلك. وكان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب، أبو الحسن التّنسيّ كبير أهل الفتيا بتلمسان. ثم كافأ النّاصر عن هذه الهدية بأعلى منها وأحفل [1] مع أميرين من أمراء دولته، أدركا يوسف بن يعقوب وهو يحاصر تلمسان، فبعثهما إلى مرّاكش للنّزاهة [2] في محاسنها، وأدركه الموت في مغيبهما، ورجعا من مرّاكش، فجهّزهما حافده أبو ثابت المالك بعده، وشيّعهما الى مصر، فاعترضتهما قبائل حصين ونهبوهما [3] ، ودخلا بجاية، ثم مضيا إلى تونس، ووصلا من هنالك إلى مصر. ولمّا ملك السلطان أبو الحسن تلمسان، اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد، وكانت لها عليه تربية، فأرادت الحجّ في أيامه وبعنايته، فأذن لها في ذلك، وبعث في خدمتها وليّه عريف بن يحيى من أمراء سويد، وجماعة من أمرائه وبطانته، واستصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء. وانتقى من الخيل العتاق، والمطايا الفرة وقماش الحرير والكتّان، والصوف ومدبوغ الجلود الناعمة، والأواني المتخذة من النحاس والفخّار المخصوص كلّ مصر من المغرب بأصناف من صنائعها، متشابهة الأشكال والأنواع، حتى لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلئ والفصوص، وكان ذلك وقر خمس مائة بعير، وكانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس، بالسروج الذّهبية المرصّعة بالجواهر، واللجم المذهبة، والسّيوف المحلّاة بالذهب واللآلئ، كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار،   [1] جاء في الاستقصاء: 2/ 41: « ... وأما الملك الناصر، فإنه كافأ السلطان يوسف على هديته، بأن جمع من طرف بلاد المشرق ما يستغرب جنسه وشكله، من الثياب والحيوانات، ونحو ذلك، مثل الفيل والزرافة ونحوهما، وأوفد به مع عظماء دولته سنة 705» . [2] استعمال النزاهة، والنزهة بهذا المعنى مختلف فيه بين اللغويين. وانظر تاج العروس «نزه» ، حيث تجد أقوالهم. [3] في الاستقصاء: 2/ 42: « .... ولما انتهوا الى بلاد بني حسن في سنة 708، اعترضتهم الأعراب بالقفر، فانتهبوهم، وخلصوا الى مصر بجريعة الذقن، فلم يعاودوا بعدها سفرا، ولا لفتوا اليه وجها، وطالما اوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه له، ويهادونهم ويكافئون، ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 708 وتدرّجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة، فكانت قيمته مائة دينار. تحدّث الناس بهذه الهديّة دهرا، وعرضت بين يدي الملك النّاصر، فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه، وبولغ في كرامة أولئك الضّيوف، في إنزالهم وقراهم وإزوادهم إلى الحجاز وإلى بلادهم، وبقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم، وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة. ولمّا فصل أرسال [1] ملك المغرب، وقد قضوا فرضهم، بعث الملك النّاصر معهم هديّة كفاء هديتهم، وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة بالإسكندرية، تحمل كلّ عام إلى دار السلطان، قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار، وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور، تشتمل على بيوت للمراقد، وأواوين للجلوس والطّبخ، وأبراج للإشراف على الطرقات، وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض، وفيها تمثال مسجد بمحرابه، وعمده، ومئذنته، حوائطها كلّها من خرق الكتّان الموصولة بحبك الخياطة مفصّلة على الأشكال التي يقترحها المتّخذون لها. وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل، عالية السمك، مخروطة الرأس، رحبة الفناء، تظلّ خمس مائة فارس أو أكثر، وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الصّقيلة، ولجمها كذلك، ومرّت هذه الهدية بتونس، ومعها الخدّام القائمون بنصب الأبنية، فعرضوها على السلطان بتونس. وعاينت يومئذ أصناف تلك الهدية، وتوجّهوا بها إلى سلطانهم، وبقي التعجّب منها دهرا على الألسنة. وكان ملوك تونس من الموحدين، يتعاهدون ملوك مصر بالهديّة في الأوقات. ولما وصلت إلى مصر، واتّصلت بالملك الظاهر، وغمرني بنعمه وكرامته، كاتبت السلطان بتونس يومئذ، وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التّشوّف إلى جياد الخيل، وخصوصا من المغرب، لما فيها [من تحمّل] الشّدّة والصّبر على المتاعب، وكان يقول لي مثل ذلك، وأنّ خيل مصر قصّرت بها الرّاحة والتّنعّم، عن الصّبر على التّعب، فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك الظاهر بما ينتقيه من الجياد الرّائعة، فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه، وحملها في البحر في السّفين الواصل بأهلي وولدي، فغرقت بمرسى الإسكندرية، ونفقت تلك الجياد، مع ما ضاع في   [1] فصل من البلد: خرج عنه. وقد استعمل ابن خلدون «إرسال» جمع رسول في أماكن متفرقة من كتاب العبر، وهذا غير جائز في مختلف كتب اللغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 709 ذلك السّفين، وكلّ شيء بقدر. ثم وصل إلينا عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة شيخ الأعراب: المعقل بالمغرب، يوسف ابن عليّ بن غانم، كبير أولاد حسين ناجيا من سخط السلطان أبي العبّاس أحمد ابن أبي سالم، من ملوك بني مرين بفاس، يروم قضاء فرضه، ويتوسّل بذلك لرضى سلطانه، فوجد السلطان غائبا بالشام في فتنة منطاش، فعرضته لصاحب المحمل. فلمّا عاد من قضاء فرضه، وكان السلطان قد عاد من الشام، فوصلته به، وحضر بين يديه، وشكا بثّه، فكتب الظاهر فيه شفاعة لسلطان وطنه بالمغرب، وحمّله مع ذلك هديّة إليه من قماش وطيب وقسيّ، وأوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب، وانصرف، فقبل سلطانه فيه شفاعة الظّاهر، وأعاده إلى منزلته. وانتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك الظاهر، وأحسن في انتقاء أصناف الهدية، فعاجلته المنيّة دون ذلك، وولي ابنه أبو فارس، وبقي أياما ثمّ هلك، وولي أخوه أبو عامر، فاستكمل الهديّة، وبعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول. وكان السلطان الملك الظاهر، لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب، أراد أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشّراء، فعيّن لذلك مملوكا من مماليكه منسوبا إلى تربية الخليلي، اسمه قطلوبغا [1] ، وبعث عنّي، فحضرت بين يديه، وشاورني في ذلك فوافقته، وسألني كيف يكون طريقه، فأشرت بالكتاب في ذلك الى سلطان تونس من الموحّدين [2] ، وسلطان تلمسان من بني عبد الواد، وسلطان فاس والمغرب من بني مرين، وحمّله لكل واحد منهم هدية خفيفة من القماش والطيب والقسيّ، وانصرف عام تسعة وتسعين وسبعمائة إلى المغرب، وشيّعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه، وبالغ في إكرامه بما يتعيّن. ووصل إلى فاس، فوجد الهدية قد استكملت، ويوسف بن عليّ على المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب أوّلا. وأظلّهم عيد الأضحى بفاس، وخرجوا متوجّهين إلى مصر، وقد أفاض السّلطان من إحسانه وعطائه، على الرّسول قطلوبغا ومن في جملته بما أقرّ عيونهم، وأطلق بالشكر ألسنتهم، وملأ بالثناء ضمائرهم، ومرّوا بتلمسان، وبها   [1] هو قطلوبغا بن عبد الله المتوفى سنة 821. تولى نيابة الاسكندرية والحجابة أيام الظاهر، ونيابة الإسكندرية أيام المؤيد. قال في المنهل: وأظنه من مماليك جاركش الخليلي أمير أخور، والله اعلم. [2] هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 710 يومئذ أبو زيّان، ابن السلطان أبي حمّو من آل يغمراسن بن زيّان، فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراكبها، وكان يحوك الشّعر، فامتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته، ونصّها من أولها الى آخرها: لمن الرّكائب سيرهن دميل [1] ... والصّبر- إلّا بعدهن- جميل يا أيها الحادي رويدك [2] إنّها ... ظعن [3] يميل القلب حيث تميل رفقا بمن حملته فوق ظهورها ... فالحسن فوق ظهورها محمول للَّه آية أنجم: شفّافة ... تنجاب عنها للظلام سدول شهب بآفاق الصدور طلوعها ... ولها بأستار الجدول أفول في الهودج المزرور منها غادة ... تزع الدجى بجبينها فيحول فكأنها قمر على غصن على ... متني كثيب والكثيب مهيل ثارت مطايا فثار بي الهوى ... واعتاد قلبي زفرة وغليل أومت لتوديعي فغالب عبرتي ... نظر تخالسه العيون كليل دمع أغيّض منه خوف رقيبها ... طورا ويغلبني الأسى فيسيل ويح المحبّ وشت به عبراته ... فكأنّها قال عليه وقيل صان الهوى وجفونه يوم النّوى ... لمصون جوهر دمعهنّ تذيل وتهابه أسد السّرى في خيسها [4] ... ويروعه ظبي الحمى المكحول تأبى النفوس الضّيم إلّا في الهوى ... فالحرّ عبد والعزيز ذليل يا بانة الوادي ويا أهل الحمى ... هل ساعة تصغين لي فأقول ما لي إذا هبّ النسيم من الحمى ... أرتاح شوقا للحمى وأميل خلّوا الصّبا يخلص إليّ نسيمها ... إن الصّبا لصبابتي تعليل ما لي أحلّا عن ورود محلّه ... وأذاد عنه وورده منهول [5]   [1] الذميل: ضرب من سير الإبل فوق التزيد. [2] رويدك: اسم فعل بمعنى أمهل. [3] جمع ظعينة، وهي المرأة تكون في الهودج، والهودج نفسه. [4] الخيس: موضع الأسد. [5] حلأ الإبل عن ورود الماء: منعها، وذادها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 711 والباب ليس بمرتج [1] عن مرتج [2] ... والظنّ في المولى الجميل جميل من لي بزورة روضة الهادي الّذي ... ما مثله في المرسلين رسول هو أحمد ومحمد والمصطفى ... والمجتبى وله انتهى التفضيل يا خير من أهدى الهدى وأجلّ من ... أثنى عليه الوحي والتّنزيل وحي من الرّحمن يلقيه على ... قلب النّبي محمد جبريل مدحتك آيات الكتاب وبشّرت ... بقدومك التّوراة والإنجيل صلة الصّلاة عليك تحلو في فمي ... مهما تكرّر ذكرك المعسول فور بعك المأهول إن بأضلعي ... قلبا بحبّك ربعه مأهول هل من سبيل للسّرى حتى أرى ... خير الورى فهو المنى والسّول حتّام تمطلني اللّيالي وعدها ... إنّ الزّمان بوعده لبخيل ما عاقني إلّا عظيم جرائمي ... إن الجرائم حملهنّ ثقيل أنا مغرم فتعطّفوا انا مذنب ... فتحاوزوا أنا عاثر فأقيلوا وأنا البعيد فقرّبوا والمستجير ... فأمّنوا والمرتجى فأنيلوا يا سائقا نحو الحجاز حمولة [3] ... والقلب بين حمولة [4] محمول لمحمّد بلّغ سلام سميّه ... فذمامه بمحمد موصول وسل الإله له اغتفار ذنوبه ... يسمع هناك دعاؤك المقبول وعن المليك أبي سعيد فلتنب ... فلكم له نحو الرّسول رسول متحمّل للَّه كسوة بيته ... يا حبّذاك المحمل المحمول سعد المليك أبي سعيد إنّه ... سيف على أعدائه مسلول ملك يحجّ المغرب الأقصى به ... فلهم به نحو الرّسول وصول [5]   [1] باب مرتج: مغلق. [2] من الرجاء. [3] الحمولة (بالفتح) : ما يحمل عليه الناس من الدواب. [4] الحمول جمع حمل، وهو ما حمل على ظهر الدابة. [5] كانت العناية التي يلقاها الحجاج المغاربة من ملوك مصر، مما يقدره ملوك المغرب التقدير الجميل، وكان مما يقلقهم ان يتعرض وفد الحجاج المغاربة للمتاعب في سفره. صبح الأعشى 9/ 250. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 712 ملك به نام الأنام وأمّنت ... سبل المخاف [1] فلا يخاف سبيل فالملك ضخم والجناب مؤمّل ... والفضل جمّ والعطاء جزيل والصّنع أجمل والفخار مؤثّل ... والمجد أكمل والوفاء أصيل يا مالك البحرين بلّغت المنى ... قد عاد مصر على العراق يصول يا خادم الحرمين حقّ لك الهنا ... فعليك من روح [2] الإله قبول يا متحفي ومفاتحي برسالة ... سلسالة يزهى بها التّرسيل أهديتها حسناء بكرا ما لها ... غيري، وإن كثر الرّجال، كفيل ضاء المداد من الوداد بصحفها ... حتى اضمحلّ عبوسه المجبول [3] جمعت وحاملها بحضرتنا كما ... جمعت بثينة في الهوى وجميل [4] وتأكّدت بهديّة ودّية ... هي للإخاء المرتضى تكميل أطلعت فيها للقسيّ أهلّة ... يرتدّ عنها الطّرف وهو كليل وحسام نصر زاهيا بنضاره ... راق العيون فرنده المعسول ماضي الشّبا [5] لمصابه تعنو الظّبا ... فيه تصول على العدا وتطول وبدائع الحلل اليمانية التي ... روّى معاطفها بمصر النّيل فأجلت فيها ناظري فرأيتها ... حفا يجول الحسن حيث تجول جلّت محاسنها فأهوى نحوها ... بفم القبول اللّثم والتّقبيل يا مسعدي وأخي العزيز ومنجدي ... ومن القلوب إلى هواه تميل إن كان رسم الودّ منك مذيّلا ... بالبرّ وهو بذيله موصول فنظيره عندي وليس يضيره ... بمعارض وهم ولا تخييل ودّ «يزيد» و «ثابت» شهدا به ... و «لخالد» بخلوده تذييل وإليكها تنبيك صدق مودّتي ... صحّ الدليل ووافق المدلول فإذا بذاك المجلس السّامي سمت ... فلديك إقبال لها وقبول   [1] المخاف: موضع الخوف. [2] روح الإله: رحمته. [3] يعني: اضمحلّ العبوس الطبيعي. [4] جميل بن عبد الله بن معمر العذري، وبثينة صاحبته التي عشقها منذ أيام صباه. [5] الشباة: حد السيف وطرفه، والجمع شبا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 713 دام الوداد على البعاد موصّلا ... بين القلوب وحبله موصول وبقيت في نعم لديك مزيدها ... وعليك يضفو ظلّها المسدول ثم مرّوا بعدها بتونس، فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العبّاس من ملوك الموحّدين، هدية ثالثة انتقى لها جياد الخيل، وعزّز بها هدية السلطانين وراءه، مع رسوله من كبار الموحّدين أبي عبد الله بن تافراكين، ووصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظّاهر في آخر السّنة، وعرضت بين يدي السلطان، وانتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة والسّيوف والبسط ومراكب الخيل، وحمل كثيرا منهم على كثير من تلك الجياد وارتبط الباقيات. وكانت هديّة صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج واللّجم الذهبية، والسيوف المحلّاة، وخمسة وثلاثين حملا من أقمشة الحرير والكتّان والصوف والجلد، منتقاة من أحسن هذه الأصناف. وهديّة صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموّهة، وأحمالا من الأقمشة. وهديّة صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشّاة ببراقع الثياب من غير مراكب، وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه، وجلس السّلطان يوم عرضها جلوسا فخما في إيوانه، وحضر الرّسل، وأدّوا ما يجب عن ملوكهم. وعاملهم السلطان بالبرّ والقبول، وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة، والأحوال الضّخمة. ثم حضر وقت خروج الحاجّ، فأستأذنوا في الحجّ مع محمل السلطان، فأذن لهم، وأرغد أزودتهم. وقضوا حجّهم، ورجعوا إلى حضرة السلطان ومعهود مبرّته. ثم انصرفوا إلى مواطنهم، وشيّعهم من برّ السلطان وإحسانه، ما ملأ حقائبهم، وأسنى ذخيرتهم، وحصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السّعي في الوصلة الباقية على الأبد، فحمدت الله على ذلك. (ولاية القضاء الثانية بمصر) ما زلت، منذ العزل عن القضاء الأوّل سنة سبع وثمانين وسبعمائة، مكبا على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 714 الاشتغال بالعلم، تأليفا وتدريسا، والسلطان يولّي في الوظيفة من يراه أهلا متى دعاه إلى ذلك داع، من موت القائم بالوظيفة، أو عزله، وكان يراني الأولى بذلك، لولا وجود الذين شغّبوا من قبل في شأني، من أمراء دولته، وكبار حاشيته، حتى انقرضوا. واتفقت وفاة قاضي المالكيّة إذ ذاك ناصر الدين بن التّنسي [1] ، وكنت مقيما بالفيّوم لضمّ زرعي هنالك، فبعث عنّي، وقلّدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى وثمانمائة، فجريت على السّنن المعروف مني، من القيام بما يجب للوظيفة شرعا وعادة، وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عنّي في ذلك. ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها، وأحضر الخليفة والقضاة والأمراء، وعهد إلى كبير أبنائه فرج، ولإخوته من بعده واحدا واحدا، وأشهدهم على وصيّته بما أراد. وجعل القائم [2] بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه ايتمش [3] ، وقضى رحمة الله عليه، وترتّبت الأمور من بعده كما عهد لهم، وكان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم [4] ، وسمع بالواقعات بعد السلطان فغصّ أن لم يكن هو كافل ابن الظّاهر بعده، ويكون زمام الدّولة بيده. وطفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك، وبينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك [5] أيتمش، وذلك أنّه كان للأتابك دوادار غرّ يتطاول إلى الرئاسة، ويترفّع على أكابر الدّولة بحظّه من أستاذه، وما له من الكفالة على السلطان، فنقموا حالهم مع هذا الدّوادار، وما يسومهم به من التّرفّع عليهم، والتّعرض لإهمال نصائحهم، فأغروا السلطان   [1] هو أحمد بن محمد بن عطاء الله بن عوض الزبيري الاسكندري المالكي المشهور بابن التنسي (بفتح التاء والنون وكسر السين المهملة) ، ولد سنة 740، وتوفي سنة 801. [2] كذا بالأصل، ولعلها «القيام بأمر» . [3] هو أيتمش بن عبد الله الأسندمري البجاسي الجرجاني الأمير سيف الدين، أتابك العساكر بالديار المصرية، أصله من مماليك اسندمر البجاسي الجرجاني (نسبة إلى جرجي نائب حلب) وكان ملك ايتمش قبل أن يحرره الظاهر برقوق. [4] الأمير سيف الدين تنم بن عبد الله الحسني الظاهري، اسمه الأصلي تنبك، وغلب عليه «تنم» ، كان نائب دمشق، وهو من مماليك الظاهر برقوق، قتل سنة 802 بقلعة دمشق. [5] يطلق «أتابك» في أيام المماليك، على مقدم العساكر أو القائد العام، على انه أبو العساكر والأمراء جميعا. وهو مركب من كلمتين: «أتا» بمعنى «أب» ، و «بك» ومعناها أمير. صبح الأعشى 4/ 18، 6/ 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 715 بالخروج من ربقة الحجر، وأطاعهم في ذلك، وأحضر القضاة بمجلسه للدّعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل، بما علم من قيامه بأمره وحسن تصرفاته. وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافّة، وأهل المراتب والوظائف منهم، شهادة قبلها القضاة. وأعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم، ونفذ الحكم يومئذ برفع الحجر عن السلطان في تصرفاته وسياسة ملكه، وانفضّ الجمع، ونزل الأتابك من الإسطبل إلى بيت سكناه. ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك، فلم يروه صوابا، وحملوا الأتابك على نقضه، والقيام بما جعل له السلطان من كفالة ابنه في سلطانه. وركب، وركبوا معه في آخر شهر المولد النّبوي، وقاتلهم أولياء السلطان فرج عشيّ يومهم وليلتها، فهزموهم، وساروا إلى الشّام مستصرخين بالنائب تنم، وقد وقر في نفسه ما وقر من قبل، فبرّ وفادتهم، وأجاب صريخهم. واعتزموا على المضيّ إلى مصر. وكان السّلطان لما انفضّت جموع الأتابك، وسار إلى الشام، اعتمله في الحركة والسّفر لخضد شوكتهم، وتفريق جماعتهم، وخرج في جمادى حتى انتهى إلى غزّة، فجاءه الخبر بأنّ نائب الشام تنم، والأتابك، والأمراء الذين معه، خرجوا من الشّام زاحفين للقاء السلطان، وقد احتشدوا وأوعبوا، وانتهوا قريبا من الرّملة [1] ، فراسلهم السّلطان مع قاضي القضاة الشافعيّ صدر الدين المناوي [2] ، وناصر الدين الرّمّاح، أحد المعلّمين لثقافة الرماح، يعذر إليهم، ويحملهم على اجتماع الكلمة، وترك الفتنة، وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم، فاشتطّوا في المطالب، وصمّموا على ما هم فيه. ووصل الرّسولان بخبرهم، فركب السلطان من الغد، وعبّى عساكره، وصمّم لمعاجلتهم، فلقيهم أثناء طريقه، وهاجمهم فهاجموه، ثم ولّوا الأدبار منهزمين. وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه، فما غشيهم الليل إلّا وهم مصفّدون في الحديد، يقدمهم الأمير تنم نائب الشام وأكابرهم كلّهم. ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق، فآوى إليها، واعتقله نائب القلعة. وسار السلطان إلى دمشق، فدخلها على التعبئة في يوم أغرّ، وأقام بها أياما، وقتل هؤلاء   [1] الرملة: مدينة بفلسطين بينها وبين القدس نحو 18 ميلا، كانت ذا شأن عظيم في الحروب الصليبية (معجم البلدان) . [2] صدر الدين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الشافعيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 716 الأمراء المعتقلين، وكبيرهم الأتابك ذبحا، وقتل تنم من بينهم خنقا، ثم ارتحل راجعا إلى مصر. وكنت استأذنت في التقدّم إلى مصر بين يدي السلطان لزيارة بيت المقدس، فأذن لي في ذلك. ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد، وتبرّكت بزيارته والصّلاة فيه، وتعفّفت عن الدخول إلى القمامة [1] لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن، إذ هو بناء أمم النصرانية على مكان الصّليب بزعمهم، فنكرته نفسي، ونكرت الدّخول إليه. وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب، وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه السلام. ومررت في طريقي إليه ببيت لحم، وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح، شيّدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصّخور، منجدة مصطفّة، مرقوما على رءوسها صور ملوك القياصرة، وتواريخ دولهم، ميسّرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتّراجمة العارفين لأوضاعها، ولقد يشهد هذا المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم. ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى غزّة، وارتحلت منها، فوافيت السلطان بظاهر مصر، ودخلت في ركابه أواخر شهر رمضان سنة اثنين وثمانمائة. وكان بمصر فقيه من المالكيّة يعرف بنور الدّين بن الخلال [2] ، ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكيّة، فحرّضه بعض أصحابه على السّعي في المنصب، وبذل ما تيسّر من موجودة لبعض بطانة السلطان الساعين له في ذلك، فتمّت سعايته في ذلك، ولبس منتصف المحرّم سنة ثلاث وثمانمائة، ورجعت أنا للاشتغال بما كنت مشتغلا به من تدريس العلم وتأليفه، إلى أن كان السّفر لمدافعة تمر عن الشام. (سفر السلطان الى الشام لمدافعة الططر عن بلاده) هؤلاء الططر من شعوب الترك، وقد اتفق النسّابة والمؤرخون على أن أكثر أمم العالم فرقتان، وهما: العرب والترك، وليس في العالم أمة أوفر منهما عددا، هؤلاء في   [1] القمامة (بالضم) : كنيسة كبرى ببيت المقدس. تاج العروس (قمم) (معجم البلدان) . [2] علي بن يوسف بن عبد الله (أو ابن مكي) الدميري (أو الزبيري) ، المعروف بابن الخلال المالكي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 717 جنوب الأرض، وهؤلاء في شمالها، وما زالوا يتناوبون الملك في العالم، فتارة يملك العرب ويزحلون [1] الأعاجم إلى آخر الشمال، وأخرى يزحلهم الأعاجم والترك إلى طرف الجنوب، سنّة الله في عباده. فلنذكر كيف انساق الملك لهؤلاء الططر [2] ، واستقرت الدّول الإسلامية فيهم لهذا العهد فنقول: إن الله سبحانه خلق هذا العالم واعتمره بأصناف البشر على وجه الأرض، في وسط البقعة التي انكشفت من الماء فيه، وهي عند أهل الجغرافيا مقدار الرّبع منه، وقسّموا هذا المعمور بسبعة أجزاء يسمّونها الأقاليم، مبتدأة من خط الاستواء بين المشرق والمغرب، وهو الخطّ الّذي تسامت الشمس فيه رءوس السكان، إلى تمام السّبعة أقاليم. وهذا الخط في جنوب المعمور، وتنتهي السبعة الأقاليم في شماله. وليس في جنوب خط الاستواء عمارة إلى آخر الرّبع المنكشف، لإفراط الحرّ فيه، وهو يمنع من التّكوين، وكذلك ليس بعد الأقاليم السّبعة في جهة الشّمال عمارة، لإفراط البرد فيها، وهو مانع من التكوين أيضا. ودخل الماء المحيط بالأرض من جهة الشرق فوق خط الاستواء بثلاث عشرة درجة، في مدخل فسيح، وانساح مع خطّ الاستواء مغرّبا، فمرّ بالصّين، والهند والسّند واليمن، في جنوبها كلّها. وانتهى إلى وسط الأرض، عند باب المندب [3] ، وهو البحر الهندي والصيني، ثم انحرف من طرفه الغربي في خليج عند باب المندب، ومرّ في جهة الشمال مغرّبا باليمن وتهامة والحجاز ومدين [4] وأيلة [5] وفاران [6] ، وانتهى إلى   [1] زحل عن مكانه: زل، وبعد. [2] كذا بالأصل، وهي: التتر. [3] باب المندب: هو المضيق الواقع في النهاية الجنوبية للبحر الأحمر. :Midian [4] مقاطعة في شمال الحجاز تمتد على الساحل الشرقي للبحر الأحمر الى مبدإ خليج العقبة، وفي الجهة الشرقية منها يقع جبل الصفاة. [5] أيلة Aila) أو: (Ailat ميناه واقع في الزاوية الشمالية الشرقية لخليج العقبة، وكان في القديم مدينة تجارية ذات أهمية كبرى، وقد ورد ذكرها في التوراة، في سفر الملوك 9: 26، 27. خطط المقريزي 1/ 298 (طبع مصر) . [6] فاران: مدينة كانت على ساحل بحر القلزم بناحية الطور، ويقول المقريزي في الخطط (1/ 304 طبع مصر) : « ... وكانت مدينة فاران من جملة مدائن مدين الى اليوم، وبها نخل كثير مثمر، أكلت من ثمره، وبها نهر عظيم، وهي خراب يمر بها العربان» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 718 مدينة القلزم [1] ، ويسمّى بحر السويس، وفي شرقيه بلاد الصّعيد إلى عيذاب [2] ، وبلاد البجاة [3] ، وخرج من هذا البحر الهندي من وسطه خليج آخر يسمّى الخليج الأخضر [4] ، ومرّ شمالا إلى الأبلة [5] ، ويسمّى بحر فارس [6] ، وعليه في شرقيه بلاد فارس [7] ، وكرمان [8] ، والسّند [9] ، ودخل الماء أيضا، من جهة الغرب في خليج متضايق في الإقليم الرابع، ويسمّى بحر الزّقاق [10] ، تكون سعته هنالك ثمانية عشر ميلا. ويمر مشرقا ببلاد البربر، من المغرب الأقصى والأوسط وأرض إفريقية والإسكندرية وأرض التّيه [11] وفلسطين والشام، وعليه في الغرب بلاد الإفرنج كلّها، وخرج منه في الشمال خليجان: الشرقي منهما خليج القسطنطينية [12] والغربي خليج البنادقة [13] ، ويسمّى هذا البحر البحر الرّوسيّ، والشاميّ. ثم إن هذه السّبعة الأقاليم المعمورة، تنقسم من شرقيّها وغربيّها بنصفين: فنصفها   [1] القلزم بالضم ثم السكون ثم زاي مضمومة: بلد ساحلية بجوار السويس والطور، واليها ينسب البحر، فيقال بحر القلزم، ويقول ياقوت في معجم البلدان: « ... وأما اليوم فهي خراب يباب، وصار الميناء الى مدينة قربها يقال لها السويس» . [2] عيذاب: مدينة مصرية على الساحل الافريقي للبحر الأحمر، وكانت في العصور الوسطى ميناء مهما للحجاج الذين يقصدون مكة من الغرب، ومحطة للسفن الهندية التي كانت تأتي من عدن، ولتجار افريقية الوسطى، (معجم البلدان) . [3] البجاة، ويقال البجة: مجموعة من القبائل الحامية تسكن فيما بين النيل والبحر الأحمر، واسمها «البجة» قديم يرجع إلى ما قبل الإسلام، الخطط (طبع مصر 1/ 313- 319) . صبح الأعشى 5/ 273. [4] يريد بالخليج الأخضر خليج عمان. [5] ضبطها ابن خلدون بضم الهمزة والباء الموحدة، وتشديد اللام المفتوحة، وهي مدينة على شاطئ دجلة في زاوية الخليج الّذي يدخل الى مدينة البصرة. معجم البلدان، صبح الأعشى 4/ 336. [6] يسمى بحر فارس اليوم، الخليج الفارسيّ. [7] فارس، أو بلاد العجم: هي التي تعرف اليوم باسم إيران اشتقاقا من كلمة «آرية» وتدل الآن على المملكة الفارسية. (معجم البلدان) . [8] كرمان: احدى المدن الجبلية من مدن إيران: وكانت في القديم ولاية تفصل بين فارس في الغرب، وصحارى لوط في الشرق. (معجم البلدان) . [9] السند: بلاد كانت تفصل بين الهند وكرمان، وبعضهم كان يعد من إقليم السند بلاد مكران الواقعة في جنوب فارس. (معجم البلدان) . [10] هو مضيق جبل طارق الآن. [11] ارض التيه: هي شبه جزيرة سيناء اليوم. [12] يتحدث الآن عن بحرايجة الّذي يصل البحر الأبيض عن طريق الدردنيل، والبوسفور بالبحر الأسود. [13] خليج البنادقة، هو البحر الادرياتي الّذي يقع في نهايته الشمالية خليج البندقية. صبح الأعشى 5/ 404 وما بعدها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 719 الغربي في وسطه البحر الرّوميّ، وفي النصف الشرقي من جانبه الجنوبي البحر الهندي، وكان هذا النصف الغربيّ أقل عمارة من النصف الشرقي، لأن البحر الرّوميّ المتوسط فيه، انفسح في انسياحه، فغمر الكثير من أرضه. والجانب الجنوبيّ منه قليل العمارة لشدّة الحرّ، فالعمران فيه من جانب الشّمال فقط، والنصف الشّرقي عمرانه أكثر بكثير، لأنه لا بحر في وسطه يزاحم. وجانبه الجنوبي فيه البحر الهنديّ، وهو متّسع جدّا، فلطف الهواء فيه بمجاورة الماء، وعدّل مزاجه للتّكوين، فصارت أقاليمه كلّها قابلة للعمارة، فكثر عمرانه. وكان مبدأ هذا العمران في العالم، من لدن آدم صلوات الله عليه، وتناسل ولده أولا في ذلك النصف الشرقيّ، وبادت تلك الأمم ما بينه وبين نوح، ولم نعلم شيئا من أخبارها، لأن الكتب الإلهية لم يرد علينا فيها إلا أخبار نوح وبنيه، وأما ما قبل نوح فلم نعرف شيئا من أخباره، وأقدم الكتب المنزلة المتداولة بين أيدينا التوراة، وليس فيها من أخبار تلك الأجيال شيء، ولا سبيل إلى اتصال الأخبار القديمة إلا بالوحي، وأما الأخبار فهي تدرس بدروس أهلها. واتفق النّسّابون على أن النسل كلّه منحصر في بني نوح، وفي ثلاثة من ولده، وهم سام، وحام، ويافث، فمن سام: العرب، والعبرانيّون، والسّبائيون [1] ، ومن حام: القبط، والكنعانيّون، والبربر، والسّودان، ومن يافث: التّرك، والروم، والخزر [2] ، والفرس، والدّيلم، والجيل. ولا أدري كيف صحّ انحصار النّسب في هؤلاء الثلاثة عند النّسّابين، أمن النقل؟ وهو بعيد كما قدّمناه، أو هو رأي تفرّع لهم من انقسام جماعة المعمور، فجعلوا شعوب كلّ جهة لأهل نسب واحد يشتركون فيه، فجعلوا الجنوب لبني سام، والمغرب لبني حام، والشمال لبني يافث. إلّا أنّه المتناقل بين النّسّابة في العالم، كما قلناه، فلنعتمده ونقول: أول من ملك الأرض من نسل نوح عليه السّلام، النّمرود بن كنعان بن كوش بن حام ووقع ذكره في التوراة. وملك بعده عابر بن شالخ الّذي ينسب إليه   [1] كذا في الأصل. ولعلها: «السريانيون» . [2] ضبطه ابن خلدون بفتح الخاء والزاي، وفي «تثقيف اللسان» لأبي جعفر عمر بن مكي الصقلي « ... ويقولون لقبيلة من الترك الخزر بفتح الخاء والزاي والصواب الخزر بضم الخاء وإسكان الزاي، ويقال انهم سموا بذلك لخزر أعينهم» أي ضيقها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 720 العبرانيون، والسريانيّون، وهم النّبط، وكانت لهم الدّولة العظيمة، وهم ملوك بابل، من نبيط بن أشّور بن سام، وقيل نبيط بن ماش بن إرم، وهم ملوك الأرض بعد الطوفان على ما قاله المسعودي. وغلبهم الفرس على بابل، وما كان في أيديهم من الأرض، وكانت يومئذ في العالم دولتان عظيمتان، لملوك بابل هؤلاء، وللقبط بمصر: هذه في المغرب، والأخرى في المشرق، وكانوا ينتحلون الأعمال السحريّة، ويعوّلون عليها في كثير من أعمالهم، وبرابي مصر [1] ، وفلاحة ابن وحشية، يشهدان بذلك. فلما غلب الفرس على بابل، استقلّ لهم ملك المشرق، وجاء موسى- صلوات الله عليه- بالشريعة الأوليّة، وحرّم السّحر وطرقه، وغلب الله له القبط بإغراق فرعون وقومه، ثم ملك بنو إسرائيل الشّام، واختطوا بيت المقدس، وظهر الروم في ناحية الشمال والمغرب، فغلبوا الفرس الأولى على ملكهم. وملك ذو القرنين الإسكندر ما كان بأيديهم، ثم صار ملك الفرس بالمشرق إلى ملوكهم السّاسانية، وملك بني يونان بالشام والمغرب إلى القياصرة، كما ذكرنا ذلك كلّه من قبل. وأصبحت الدولتان عظيمتين، وانتظمتا العالم بما فيه. ونازع الترك ملوك فارس في خراسان [2] ، وما وراء النّهر [3] ، وكانت بينهم حروب مشهورة، واستقرّ ملكهم في بني أفراسياب، ثم ظهر خاتم الأنبياء محمّد صلوات الله عليه، وجمع العرب على كلمة الإسلام، فاجتمعوا له، «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم» [4] ، وقبضه الله اليه، وقد أمر بالجهاد، ووعد عن الله بأن الأرض لأمته، فزحفوا إلى كسرى، وقيصر بعد سنتين من وفاته، فانتزعوا الملك من أيديهما، وتجاوزوا الفرس إلى التّرك، والرّوم إلى البربر والمغرب، وأصبح العالم كلّه منتظما في دعوة الإسلام. ثم اختلف أهل الدّين من بعده في رجوعهم إلى من ينظم أمرهم، وتشيّع قوم من العرب فزعموا أنه   [1] كان القدماء يعتقدون ان الرسوم التي توجد على البرابي، والمعابد المصرية القديمة، ليست الا طلاسم، وأوفاقا، نقشت على جدرانها ليكون لها مفعول سحري معين: خطط المقريزي 1/ 48 طبع مصر، معجم البلدان «برابي» . [2] تطلق خراسان اليوم على القسم الشرقي لايران، الّذي يتصل بافغانستان. وقد فتحت خراسان سنة 31 هجرية في أيام عثمان رضي الله عنه. (معجم البلدان) . [3] ما وراء النهر: إقليم مشهور يقع فيما وراء نهر جيحون «وهو المراد بالنهر» . (معجم البلدان) . [4] الآية 63 من سورة الأنفال. ابن خلدون م 46 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 721 أوصى بذلك لابن عمّه عليّ، وامتنع الجماعة من قبول ذلك، وأبوا إلّا الاجتهاد في تعيينه، فمضى على ذلك السّلف في دولة بني أميّة التي استفحل الملك والإسلام فيها، وتناقل التشيّع بتشعّب المذاهب، في استحقاق بني عليّ، وأيّهم يتعيّن له ذلك، حتى انساق مذهب من مذاهبهم إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس [1] ، فظهرت شيعته بخراسان، وملكوا تلك الأرض كلّها، والعراق بأسره. ثم غلبوا على بني أميّة، وانتزعوا الملك من أيديهم، واستفحل ملكهم، والإسلام باستفحاله، وتعدّد خلفاؤهم. ثم خامر الدّولة ما يخامر الدّول من التّرف والراحة، ففشلوا. وكثر المنازعون لهم من بني عليّ وغيرهم، فظهرت دولة لبني جعفر الصّادق بالمغرب، وهم العبيديّون [2] بنو عبيد الله المهدي بن محمد، قام بها كتامة وقبائل البربر، واستولوا على المغرب ومصر، ودولة بني العلويّ بطبرستان، قام بها الدّيلم وإخوانهم الجيل، ودولة بني أمية النائية بالأندلس، لأن بني العبّاس لمّا غلبوهم بالمشرق، وأكثروا القتل فيهم، هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ونجا إلى المغرب. ثم ركب البحر إلى الأندلس، فاجتمع عليه من كان هنالك من العرب وموالي بني أميّة، فاستحدث هنالك ملكا آخر لهم، وانقسمت الملّة الإسلامية بين هذه الدّول الأربع إلى المائة الرابعة. ثم انقرض ملك العلويّة من طبرستان [3] ، وانتقل إلى الدّيلم، فاقتسموا خراسان وفارس والعراق، وغلبوا على بغداد، وحجر الخليفة بها بنو بويه منهم [4] . وكان بنو سامان- من أتباع بني طاهر- قد تقلّدوا عمالات ما وراء النّهر، فلمّا فشل أمر الخلافة استبدّوا بتلك النّواحي، وأصاروا لهم فيها ملكا ضخما [5] ، وكان آخرهم محمود بن سبكتكين من مواليهم، فاستبدّ عليهم، وملك خراسان، وما وراء النّهر إلى الشّاش، ثم   [1] كان ذلك في سنة 1290 هـ، وانظر تفصيل القول في تاريخ الطبري 9/ 82 وما بعدها، تاريخ أبي الفداء 1/ 220 وما بعدها. [2] كان مبدأ دولة الفاطميين بالمغرب في سنة 296، ونهايتها سنة 361 هـ. [3] طبرستان: إقليم متسع في غربي خراسان، ويقول ياقوت انه الّذي يسمى أيضا بمازندران. وهو إقليم واقع في شمالي مرتفعات البرز، ويشرف على بحر قزوين. (معجم البلدان) . [4] بنو بويه دولة أسسها أتراك من الديلم في خلافة الراضي باللَّه (322- 447 هـ) . تاريخ أبي الفداء 2/ 83، 152، في المجلد الرابع وما بعدها. [5] ملكت دولة بني سامان هذه ما وراء النهر، وأقامت هناك دعوة بني العباس، ثم استقلت. وقد تحدث عنها ابن خلدون في المجلد الرابع، أبو فداء 2/ 123، 141، صبح الأعشى 4/ 446. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 722 غزنة [1] ، وما وراءها جنوبا إلى الهند. وأجاز إلى بلاد الهند، فافتتح منها كثيرا، واستخرج من كنوزها ذخائر لم يعثر عليها أحد قبله. وأقامت الملّة على هذا النّمط إلى انقضاء المائة الرّابعة، وكان التّرك منذ تعبّدوا للعرب، وأسلموا على ما بأيديهم وراء النّهر، من كاشغر [2] ، والصّاغون إلى فرغانة [3] ، وولّاهم الخلفاء عليها، فاستحدثوا بها ملكا، وكانت بوادي التّرك في تلك النواحي منتجعة أمطار السماء، وعشب الأرض، وكان الظهور فيهم لقبيلة الغزّ من شعوبهم، وهم الخوز، إلا أن استعمال العرب لها عرّب خاءها المعجمة غينا، وأدغمت واوها في الزّاي الثانية، فصارت زايا واحدة مشدّدة. وكانت رياسة الغزّ هؤلاء في بني سلجوق بن ميكائيل، وكانوا يستخدمون لملوك التّرك بتركستان تارة، ولملوك بني سامان في بخارى أخرى. وتحدث بينهما الفتنة، فيتألّفون من شاءوا منهما [4] ، ولما تغلّب محمود بن سبكتكين [5] على بني سامان، وأجاز من خراسان فنزل بخارى [6] ، واقتعد كرسيّهم، وتقبّض على كبار بني سلجوق هؤلاء، وحبسهم بخراسان. ثم مات وقام بالأمر أخوه مسعود [7] ، فملك مكانه، وانتقض عليه بنو سلجوق [8] هؤلاء، وأجاز الغزّ إلى خراسان فملكوها، وملكوا طبرستان من يد الدّيلم، ثم أصبهان [9]   [1] غزنة: مدينة من مدن افغانستان، وكانت عاصمة الدولة التي أسسها نصر الدين محمود بن سبكتكين سنة 366، والتي استمرت الى سنة 578 هجرية. العبر م 4. [2] كانت كاشغر قاعدة «التركستان» وكانت تسمى أيضا «أزدوكند» وهي اليوم في الصين «معجم البلدان) صبح الأعشى 4/ 440. [3] فرغانة كورة واسعة فيما وراء النهر، متاخمة لبلاد تركستان. (معجم البلدان) . [4] انظر كلمة موجزة عن الغز في تاريخ أبي الفداء 3/ 27 وما بعدها. [5] هو محمود بن ناصر الدولة بن سبكتكين (361- 421) ، يلقب سيف الدولة، ويمين الدولة. وليمين الدولة هذا ينسب التاريخ «اليميني» الّذي ألفه له ابو نصر العتبي. ترجمة يمين الدولة في «الوفيات» 2/ 110- 114، وانظر تاريخ أبي الفداء 2/ 165. [6] تقع بخارى اليوم في جمهورية الاتحاد السوفياتي، وكانت قاعدة الدولة السامانية، فتحت فيما بين سنتي 53، 55 هـ، في أيام معاوية. ياقوت (معجم البلدان) . [7] هكذا في الأصل: «أخوه مسعود» . وهو سبق قلم، والصواب: «ابنه مسعود» العبر م 4، «تاريخ دول آل سلجوق» ص 8. [8] ابتدأت الدولة السلجوقية في خلافة القائم بأمر الله العباسي سنة 432، وانتهت في سنة 572، تاريخ أبي الفداء 2/ 171 وما بعدها، العبر 5/ 1 وما بعدها. وقد خص هذه الدولة بالتأليف العماد الأصفهاني، وطبع مختصر لكتاب العماد بالقاهرة سنة 1900 م. [9] كذا بالأصل، أصبهان، وكذا في أكثر الكتب القديمة. وهي: أصفهان بفتح الهمزة وكسرها: مدينة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 723 وفارس، من أيدي بني بويه، وملكهم يومئذ طغرلبك [1] بن ميكائيل من بني سلجوق، وغلب على بغداد [2] من يد بني معزّ الدولة بن بويه المستبدّين على الخليفة يومئذ المطيع [3] ، وحجره عن التصرّف في أمور الخلافة والملك، ثم تجاوز إلى عراق العرب، فغلب على ملوكه، وأبادهم، ثم بلاد البحرين وعمان، ثم على الشّام، وبلاد الرّوم، واستوعب ممالك الإسلام كلّها، فأصارها في ملكه، وانقبضت العرب راجعة إلى الحجاز، مسلوبة من الملك، كأن لهم فيه نصيب، وذلك أعوام الأربعين والأربعمائة، وخرج الإفرنج على بقايا بني أميّة بالأندلس، فانتزعوا الملك من أيديهم، واستولوا على حواضر الأندلس وأمصارها، وضاق النّطاق على العبيديّين بالقاهرة بملوك الغزّ يزاحمونهم فيها من الشام، بمحمود بن زنكي وغيره [4] من أبنائهم ومماليكهم، وبملوك المغرب قد اقتطعوا ما وراء الإسكندرية، بملوك صنهاجة في إفريقية، والملثّمين المرابطين بعدهم بالمغرب الأقصى والأوسط، والمصامدة الموحّدين بعدهم كذلك، وأمام الغزّ والسّلجوقية في ملك المشرق، وبنوهم ومواليهم من بعدهم إلى انقضاء القرن السادس، وقد فشل ريح الغزّ، واختلّت دولتهم، فظهر فيهم جنكيزخان أمير المغل من شعوب الططر [5] ، وكان كاهنا، وجدّه النجر كاهنا مثله. ويزعمون أنه ولد من غير أب [6] ، فغلب الغزّ في المفازة، واستولى على ملك الططر، وزحف إلى كرسيّ   [ () ] جبلية عظيمة في جنوب عراق العجم من بلاد فارس، وتطلق أصفهان على الإقليم أيضا، فتحت في سنة 23 هـ في أيام عمر بن الخطاب (معجم البلدان) . [1] أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، ركن الدين طغرلبك (385- 455) . وفيات الأعيان 2/ 59- 60. [2] كان دخول بغداد والعراق سنة 447. وفيات الأعيان 2/ 60، تاريخ دولة آل سلجوق ص 9. [3] كذا بالأصل: «المطيع» والصواب: «القائم» لأنه الّذي عاصر طغرلبك. وهو أبو جعفر عبد الله بن القادر، القائم بأمر الله. ولد سنة 391، وولي الخلافة سنة 422، وتوفي سنة 467. تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 167- 169. [4] رسمه، على قاعدته التي قررها في أول «المقدمة» بصاد وسطها زاي اشارة الى أن الصاد تشم- عند النطق بها- زايا. وانظر أخبار تملك محمود بن زنكي، في تاريخ أبي الفداء 3/ 30- 58. [5] ولد جنكيزخان ويقال جنكس قان) في سنة 549، وهو من قبيلة تركية تسمى ثيات من أشهر قبائل المغل، وأكثرهم عددا، وكان اسمه- حين بلغ من العمر 13 سنة- تموجين ثم أصاروه: «جنكيز» ، و «خان» تمام الاسم، وهو بمعنى الملك عندهم. العبر م 5. [6] ينتهي نسبه إلى: «بوذ نسبه إلى: «بوذنجر بن الان قوى» ، وألان قوى اسم امرأة هي جدتهم، كانت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 724 الملك بخوارزم. وهو علاء الدّين خوارزم شاه، سلفه من موالي طغرلبك، فغالبه على ملكه، وفرّ أمامه، واتّبعه إلى بحيرة طبرستان، فنجا إلى جزيرة فيها، ومرض هنالك ومات [1] ، ورجع جنكيزخان إلى مازندران، من أمصار طبرستان فنزلها، وأقام بها، وبعث عساكره من المغل حتى استولوا على جميع ما كان للغزّ، وأنزل ابنه طولى [2] بكرسيّ خراسان، وابنه دوشي خان [3] بصراي وبلاد التّرك، وابنه جفطاي [4] بكرسي التّرك فيما وراء النّهر، وهي كاشغر وتركستان، وأقام بمازندران إلى أن مات جنكيزخان ودفن بها [5] ، ومات ابنه طولي وله ولدان، قبلاي [6] وهولاكو [7] ، ثم هلك قبلاي، واستقلّ هولاكو بملك خراسان، وحدث بينه وبين بركة بن دوشي خان [8] فتنة بالمنازعة في القانية، تحاربوا فيها طويلا، ثم أقصروا،   [ () ] متزوجة ثم مات زوجها، وتأيمت وحملت وهي أيم، فنكر عليها اقرباؤها، فذكرت انها رأيت بعض الأيام أن نورا دخل فرجها ثلاث مرات، وطرأ عليها الحمل بعد ذلك، وقال ان في حملي ثلاث ذكور، فان صدقت عند الوضع فذلك، والا فافعلوا ما بدا لكم، فوضعت ثلاث توائم في ذلك الحمل، فظهرت براءتها، بزعمهم، وكان ثالث التوائم «بوذنجر» جد جنكيزخان، وكانوا يسمون التوائم الثلاث: النورانيين نسبة إلى النور المذكور، ولذلك كانوا يقولون لجنكيزخان: ابن الشمس. العبر م 5. [1] هو السلطان علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش بن أرسلان: كان من علماء الملوك وعظمائهم، وكانت مدة ملكه 21 سنة، وتوفي عام 617، وانظر اخبار حروبه مع جنكيزخان في تاريخ أبي الفداء 3/ 133- 134، 154- 158. [2] هو الابن الأصغر لجنيكزخان، وكان عاقلا كيسا، ولذلك أمره أبوه أن يرأس أخويه: جوجي، وجفتاي في حرب قلعة الطالقان التي استعصى عليهما الاستيلاء عليها. وطاؤه تنطق بين التاء والطاء، ويقال في اسمه أيضا: «تولوي» . وانظر العبر م 5. [3] ويقال طوشي خان (بين التاء والطاء) ، ويقال جوجي خان. [4] جقطاي، ويقال «جغتاي» ، ويسمي أيضا كداي، وجداي. [5] كانت وفاته في سنة 625، وهناك رأي غير ما ذكره ابن خلدون في مكان وفاة جنكيزخان، تجده في السلوك ص 227- 228. [6] قبلاي بن تلوي خان المتوفى سنة 695. وقد ضبطه ابن خلدون بالحركات- بضم القاف، وسكون الباء الموحدة، ولام مفتوحة مخففة، ثم ياء ساكنة. [7] يكتبه ابن خلدون: «هولاوو» بواوين أحيانا، وأحيانا أخرى يكتبه: «هولاكو» بنقطة تحت الكاف إشارة الى أن الكاف تنطق كافا فارسية. وقد ابتدأ أمر هولاكو في الظهور في سنة 654، وتوفي سنة 603. وانظر السلوك ص 541. [8] ويقال أيضا: بركة بن توشي بن جنكيز خان. وقد توفي سنة 665. كان مسلما يعظم أهل العلم، وكان يميل الى الملك الظاهر بيبرس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 725 وصرف هولاكو وجهه إلى بلاد أصبهان، وفارس، ثم إلى الخلفاء المستبدّين ببغداد، وعراق العرب، فاستولى على تلك النّواحي، واقتحم بغداد [1] على الخليفة المستعصم، آخر بني العباس [2] وقتله، وأعظم فيها العيث والفساد، وهو يومئذ على دينه من المجوسيّة، ثم تخطّاه إلى الشام، فملك أمصاره وحواضره إلى القدس، وملوك مصر يومئذ من موالي بني أيّوب قد استحاشوا ببركة صاحب صراي، فزحف إلى خراسان ليأخذ بحجزة هولاكو عن الشام ومصر. وبلغ خبره إلى هولاكو فحرد [3] لذلك، لما بينهما من المنافسة والعداوة، وكرّ راجعا إلى العراق، ثم إلى خراسان، لمدافعة بركة. وطالت الفتنة بينهما إلى أن هلك هولاكو سنة ثلاث وستين من المائة السّابعة، وزحف أمراء مصر من موالي بني أيّوب، وكبيرهم يومئذ قطز، وهو سلطانهم فاستولى على أمصار الشام التي كان هولاكو انتزعها من أيدي بني أيوب، واحدة واحدة، واستضاف الشام إلى مصر في ملكه. ثم هدى الله أبغا بن هولاكو إلى الإسلام، فأسلم بعد أن كان أسلم بركة ابن عمّه صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان على يد مريد من أصحاب شمس الدين كبرى [4] ، فتواطأ هو وأبغا بن هولاكو على الإسلام. ثم أسلم بعد ذلك بنو جقطاي وراء النّهر، فانتظمت ممالك الإسلام في أيدي ولد جنكيزخان من المغل، ثم من الطّطر، ولم يخرج عن ملكهم منها إلّا المغرب والأندلس ومصر والحجاز، وأصبحوا، وكأنهم في تلك الممالك خلف من السلجوقيّة والغزّ. واستمرّ الأمر على ذلك لهذا العهد، وانقرض ملك بني هولاكو بموت أبي سعيد آخرهم سنة أربعين من المائة الثامنة [5] . وافترقت دولتهم بين عمّال الدولة وقرابتها من المغل، فملك عراق العرب، وأذربيجان [6]   [1] دخل هولاكو بغداد في سنة 656 هـ. [2] هو ابو احمد عبد الله بن المنتصر، ولد سنة 609، وقتل سنة 656. [3] حرد: اغتاظ وغضب. [4] هو ابو الجناب أحمد بن عمر بن نجم الخيوفي شيخ خوارزم. عرف به السبكي في طبقاته 5/ 11، 12، ولم يذكر مولده ولا وفاته، ووصفه في تاريخ جنكيزخان بأنه: «شيخ المشايخ، وقطب الأوتاد، نجم الدين الكبري» ، وذكر انه مات في حصار مدينة خوارزم. وقد ضبطه ابن خلدون. بضم الكاف وسكون الباء، وفي طبقات الشافعية: «الكبرى على صيغة فعلى كعظمى» . [5] هو ابو سعيد بن خربند بن ارغو بن ابغا بن هولاكو. وانصر اخباره في العبر م 5. [6] آذربيجان، واسمها القديم أثروباتان: إقليم يقع في الجنوب الغربي لبحر قزوين (بحر الخزر) ويحده في الشمال إقليم داغستان، وإقليم جورجيا، ومن المغرب، والجنوب الغربي مقاطعة ارمينية. (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 726 وتوريز [1] ، الشيخ حسن سبط هولاكو [2] ، واتصل ملكها في بنيه لهذا العهد، وملك خراسان وطبرستان شاه وليّ من تابعة بني هولاكو، وملك أصبهان، وفارس، بنو مظفّر البردي [3] من عمّالهم أيضا، وأقاموا بنو دوشي خان في مملكة صراي وآخرهم بها طقطمش بن بردي بك [4] ، ثم سما لبني جقطاي وراء النّهر، وملوكهم أمل في التغلّب على أعمال بني هولاكو، وبني دوشي خان، بما استفحل ملكهم هنالك، لعدم التّرف والتّنعم، فبقوا على البداوة، وكان لهم ملك اسمه ساطلمش [5] هلك لهذا العهد، وأجلسوا ابنه على التّخت مكانه، وأمراء بني جقطاي جميعا في خدمته، وكبيرهم تيمور المعروف بتمر بن طرغاي [6] فقام بأمر هذا الصبي وكفله، وتزوّج أمّه، ومدّ يده إلى ممالك بني دوشي خان التي كانت على دعوتهم وراء النّهر، مثل سمرقند [7] ، وبخارى، وخوارزم، وأجاز إلى طبرستان وخراسان فملكهما. ثم ملك أصبهان، وزحف إلى بغداد، فملكها من يد أحمد بن أويس. وفرّ أحمد مستجيرا بملك مصر، وهو الملك الظاهر برقوق، وقد تقدّم ذكره، فأجاره، ووعده النّصر من عدوّه. وبعث الأمير تمر رسلا إلى صاحب مصر، يقررون معه الولاية والاتّحاد، وحسن الجوار، فوصلوا إلى الرّحبة، فلقيهم عاملها، ودار بينهم الكلام فأوحشوه في الخطاب، وأنزلهم، فبيّت جميعهم، وقتلهم. وخرج الظاهر برقوق من مصر، وجمع العرب والتّركمان، وأناخ على الفرات، وصرخ بطقطمش من كرسيّه بصراي، فحشد ووصل إلى الأبواب [8] . ثم زحف تمر إلى الشام سنة ست وتسعين وسبعمائة وبلغ الرّها [9] ، والظاهر يومئذ على   [1] توريز (تبريز) : احدى مدن إيران الشمالية، وكانت في القديم تشملها مقاطعة آذربيجان (معجم البلدان) . [2] يسمى أيضا الشيخ حسن الصغير. [3] ورد في العبر 5: «اليزدي» . [4] ضبطه ابن خلدون بالحركات بفتح الباء وضمها، وسكون الراء بعدها دال ثم ياء مثناة تحتية ساكنة، ثم باء موحدة مفتوحة. [5] كذا في الأصل، وفي هامش أصل أياصوفيا بخطه: «سيورغتمش» وكتب فوقها كلمة: «أصح» . [6] في نسخة: «طرغان» ، وفي هامش أصل أياصوفيا بخطه: «ترغاي» وكتب فوقها كلمة «أصح» . [7] مدينة مشهورة، تقع اليوم في جمهورية الاتحاد السوفييتي، وكانت في القديم عاصمة بلاد الصغد. (معجم البلدان) . [8] يريد بالأبواب المضايق والممرات التي في الجبال الفاصلة بين إقليم مازندران والعراق العجمي. [9] بلدة مشهورة في شمال حران، وتقع اليوم في الجمهورية التركية، وتسمى أورفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 727 الفرات، فخام [1] تمر عن لقائه. وسار إلى محاربة طقطمش، فاستولى على أعماله كلّها، ورجعت قبائل المغل إلى تمر، وساروا تحت رايته. وذهب طقطمش في ناحية الشمال، وراء بلغار، متذمما بقبائل اروس من شعوب التّرك في الجبال. وسارت عصائب الترك كلها تحت رايات تمر، ثم اضطرب ملوك الهند، واستصرخ خارج منهم بالأمير تمر، فسار إليهم في عساكر المغل، وملك دلّي [2] ، وفرّ صاحبها الى كنباية [3] مرسى بحر الهند، وعاثوا في نواحي بلاد الهند. ثمّ بلغه هنالك مهلك الظاهر برقوق بمصر، فرجع إلى البلاد، ومرّ على العراق، ثم على أرمينية [4] وأرزنكان [5] ، حتى وصل سيواس [6] فخرّبها، وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التّاسعة. ونازل قلعة الروم [7] ، فامتنعت، وتجاوزها الى حلب، فقابله نائب الشام وعساكره في ساحتها، ففضّهم، واقتحم المغل المدينة من كل ناحية. ووقع فيها من العيث والنّهب والمصادرة واستباحة الحرم، ما لم يعهد الناس مثله، ووصل الخبر الى مصر، فتجهز السّلطان فرج ابن الملك الظّاهر [8] الى المدافعة عن الشّام، وخرج في عساكره من التّرك مسابقا المغل وملكهم تمر أن يصدّهم عنها. (لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر) لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر [9] ملك بلاد الروم، وخرّب سيواس، ورجع   [1] خام عنه: نكص، وجبن. [2] هي دلهي اليوم. صبح الأعشى 5/ 68- 69. [3] كباية، أو كبايت، ضبطها ابن خلدون بالحركات بفتح الكاف وسكون النون، وباء مفتوحة بعدها ألف ثم ياء مفتوحة بعدها هاء للتأنيث. وفي صبح الأعشى 5/ 71: أنه ينسب إليها فيقال أنباتي وعلى ذلك فاسمها «أنبايت» بابدال الكاف همزة. وهي مدينة على ساحل بحر الهند. [4] أرمينية: إقليم واقع في غرب آذربيجان، وفي شماله الغربي يقع إقليم جورجيا. صبح الأعشى 4/ 353، (معجم البلدان) . [5] أرزنكان، ويقال أرزنجان: بلدة كانت تعد قديما من بلاد ارمينية، وهي الآن من بلاد الجمهورية التركية. صبح الأعشى 4/ 354. [6] سيواس: مدينة في تركية، تبعد ستين ميلا نحو الشرق من «قيسارية» السلوك ص 313. [7] هي قلعة حصينة واقعة في غربي الفرات مقابل «البيرة» . (معجم البلدان) . [8] هو الملك الناصر زين الدين أبو السادات فرج بن الملك الظاهر. المقريزي 3/ 392- 393 طبع مصر. [9] في عجائب المقدور ص 5، 6: « ... اسمه تيمور بتاء مثناة مكسورة ساكنة، فمثناة تحت، وواو ساكنة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 728 إلى الشّام، جمع السلطان عساكره، وفتح ديوان العطاء، ونادى في الجند بالرحيل الى الشام، وكنت أنا يومئذ معزولا عن الوظيفة [1] ، فاستدعاني دواداره يشبك [2] وأرادني على السّفر معه في ركاب السلطان، فتجافيت عن ذلك. ثم أظهر العزم عليّ بليّن القول، وجزيل الانعام فأصخيت، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث وثمانمائة، فوصلنا إلى غزّة، فأرحنا بها أياما نترقّب الأخبار، ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الططر إلى أن نزلنا شقحب [3] ، وأسرينا فصبّحنا دمشق، والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبكّ [4] قاصدا دمشق، فضرب السلطان خيامه وأبنيته بساحة قبّة يلبغا. ويئس الأمير تمر من مهاجمة البلد، فأقام بمرقب على قبّة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثا أو أربعا، فكانت حربهم سجالا، ثم نمي الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه، أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم، واختلال الدّولة   [ () ] بين ميم مضمومة وراء مهملة، هذه طريقة إملائه ... لكن كرة الألفاظ الأعجمية إذا تداولها صولجان اللغة العربية خرطها في الدوران على بناء أوزانها ... فقالوا تارة تمور، وأخرى تمرلنك» . وضبطه البدر العيني في «عقد الجمان» بخطه بالحركات بفتح التاء وضم الميم بعد راء ساكنة، ثم لام مفتوحة، فنون ساكنة، فكاف. [1] في عقد الجمان، في حوادث سنة 803، وتاريخ ابن قاضي شهبة كذلك: « ... خرج السلطان الملك الناصر فرج، ومعه الخليفة المتوكل على الله، والقضاة الثلاثة، وهم صدر الدين المناوي الشافعيّ، والقاضي نور الدين علي بن الحلال المالكي، والقاضي موفق الدين بن الحنبلي، وأما القاضي جمال الدين الملطي الحنفي فإنه سار لكونه ضعيفا، وشار معهم القاضي ولي الدين ابن خلدون المالكي، وهو معزول» . [2] هو الأمير يشبك الشعبانيّ كان من أمراء الملك الظاهر، تقلب في مناصب مختلفة، وجعل له الملك الظاهر الوصية على أولاده، وفي أيام الملك فرج، تولى وظيفة دوادار كبير، ومشير المملكة تاريخ ابن اياس 2/ 308، 314، 337. وقد ضبطه البدر العيني بخطه في «عقد الجمان» بكسر الياء، وسكون الشين، وفتح الباء. [3] بفتح الشين والحاء المهملة، وسكون القاف بينهما (كجعفر) ، ويقول المقريزي في الخطط 3/ 399 (طبع مصر) : « ... انها بظاهر دمشق» ، وزاد في السلوك ص 932: «تحت جبل غباغب» ، فهي- باء على هذا- في جنوب دمشق. وانظر تاج العروس (شقب) . [4] بعلبكّ: احدى مدن لبنان المشهورة، وهي واقعة في الشمال الشرقي لمدينة زحلة. (معجم البلدان) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 729 بذلك، فأسروا ليلة الجمعة من شهر [ .... ] [1] وركبوا جبل الصّالحية، ثم انحطّوا في شعابه، وساروا على شافة البحر إلى غزّة، وركب الناس ليلا يعتقدون أن السلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر، فساروا عصبا وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر، وأصبح أهل دمشق متحيّرين قد عميت عليهم الأنباء. وجاءني القضاة والفقهاء، واجتمعت بمدرسة العادليّة، واتّفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم، وشاوروا في ذلك نائب القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره، فلم يوافقوه. وخرج القاضي برهان الدّين بن مفلح الحنبلي [2] ومعه شيخ الفقراء بزاوية [ .... ] [3] فأجابهم إلى التأمين، وردهم باستدعاء الوجوه والقضاة، فخرجوا إليه متدلّين من السور بما صبّحهم من التقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان، وردّهم على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرّف الناس في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها، ويملك أمرهم بعزّ ولايته. وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عنّي، وهل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول. وبلغني الخبر من جوف اللّيل، فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج أو التدلّي من السّور، لما حدث عندي من توهّمات ذلك الخبر، فأبوا عليّ أولا، ثم أصخوا لي، ودلّوني من السور، فوجدت بطانته عند الباب، ونائبة الّذي عيّنه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك، من بني جقطاي أهل عصابته، فحيّيتهم وحيّوني، وفدّيت وفدّوني، وقدّم لي شاه ملك، مركوبا، وبعث معي من بطانة السّلطان من أوصلني إليه. فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التعريف باسمي أنّي القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني،   [1] بياض بالأصل، ولعله يريد (شهر جمادى الآخرة) . وانظر تاريخ ابن اياس 1/ 329. [2] هو برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (749- 803) ، وكان يحسن اللغتين: التركية، والفارسية، ولعلهم. لذلك- اختاروه للسفارة. وانظر ابن اياس 1/ 336. [3] بياض في الأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه الزاوية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 730 ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئا على مرفقه، وصحاف الطّعام تمرّ بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام خيمته، حلقا حلقا. فلما دخلت عليه فاتحت بالسّلام، وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومدّ يده إليّ فقبّلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبّار بن النّعمان من فقهاء الحنفيّة بخوارزم [1] ، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من أين جئت من المغرب؟ ولما [2] جئت؟ فقلت: جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها [3] البحر، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع وثمانين من هذه المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظّاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها. فقال لي: وما فعل معك؟ قلت كل خير، برّ مقدمي، وأرغد قراي، وزوّدني للحجّ، ولما رجعت وفّر جرايتي، وأقمت في ظلّه ونعمته، رحمه الله وجزاه. فقال: وكيف كانت توليته إياك القضاء؟ فقلت: مات قاضي المالكيّة قبل موته بشهر، وكان يظنّ بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة، وتحرّي المعدلة والحق، والإعراض عن الجاه، فولّاني مكانه، ومات لشهر بعدها، فلم يرض أهل الدّولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي: وأين ولدك؟ فقلت: بالمغرب الجوّاني كاتب [4] للملك الأعظم هنالك. فقال وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟ فقلت هو عرف خطابهم معناه الدّاخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كلّه على ساحل البحر الشامي من جنوبه، فالأقرب الى هنا برقة، وإفريقية [5] ، والمغرب الأوسط [6] : تلمسان وبلاد زناتة، والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى   [1] هو: (عبد الجبار بن النعمان المعتزلي، أحد خواص تيمور الذين طافوا معه البلاد، وأهلكوا العباد، وأظهروا الظلم والفساد) . ذكره علاء الدين في (تاريخ حلب) وقال: اجتمعت به، فوجدته ذكيا فاضلا، وسألته عن مولده، فقال: يكون لي نحو الأربعين. ورأيت شرح الهداية لأكمل الدين، وقد طالعة عبد الجبار المذكور، وعلّم على مواضع منه، ذكر أنها غلط. وذكره ابن المبرد في (الرياض) وقال: (كان له معرفة بالفقه، والعلوم العقلية، وكان يمتحن العلماء ويناظرهم بين يدي اللنك. وهو من قلة الدين على جانب كبير. توفي سنة 808 هـ) . [2] كذا في الأصل بإثبات ألف (ما) المجرورة عند الاستفهام، ومن لغة حكوها عن الأخفش. [3] كذا بالأصل. [4] كذا في الأصل. [5] هي المملكة التونسية اليوم. [6] مكانه اليوم بلاد (الجزائر) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 731 الجوّاني. فقال لي: وأين مكان طنجة من ذلك المغرب؟ فقلت: في الزّاوية التي بين البحر المحيط، والخليج المسمّى بالزّقاق، وهو خليج البحر الشّامي؟ فقال: وسبتة؟ فقلت: على مسافة من طنجة على ساحل الزّقاق، ومنها التّعدية إلى الأندلس، لقرب مسافته، لأنها هناك نحو العشرين ميلا. فقال: وفاس؟ فقلت: ليست على البحر، وهي في وسط التّلول، وكرسيّ ملوك المغرب من بني مرين. فقال: وسجلماسة؟ قلت: في الحدّ ما بين الأرياف والرّمال من جهة الجنوب. فقال: لا يقنعني هذا، وأحبّ أن تكتب لي بلاد المغرب كلّها، أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده. فقلت: يحصل ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنضّفة القطع. ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة، ويحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأحضرت الأواني منه، وأشار بعرضها عليّ، فمثلت قائما وتناولتها وشربت واستطبت، ووقع ذلك منه أحسن المواقع، ثم جلست وسكتنا، وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعيّة، صدر الدين المناوي، أسره التّابعون لعسكر مصر. بشقحب، وردّوه، فحبس عندهم في طلب الفدية منه، فأصابنا من ذلك وجل، فزوّرت في نفسي كلاما أخاطبه به، وأتلطّفه بتعظيم أحواله، وملكه. وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيرا من الحدثان في ظهوره، وكان المنجّمون المتكلّمون في قرانات العلويّين [1] يترقّبون القران العاشر في المثلّثة الهوائية [2] ، وكان يترقّب عام ستة وستين من المائة السّابعة. فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين وسبعمائة بجامع القرويين من فاس، الخطيب أبا عليّ بن باديس خطيب قسنطينة، وكان ماهرا في ذلك الفن، فسألته عن هذا القران المتوقّع، وما هي آثاره؟ فقال لي: يدلّ على ثائر عظيم في الجانب الشّمالي الشرقي، من أمة بادية   [1] الكوكبان العلويان: زحل، والمشتري، والمراد بالقران- عند الإطلاق- اجتماع المشتري، وزحل خاصة (مفاتيح العلوم ص 232) . [2] المثلثة: كل ثلاثة بروج تكون متفقة في طبيعة واحدة من الطبائع الأربع. (مفاتيح العلوم ص 226) . ولعل ابن خلدون كان يعرف أن تيمور لنك (كان يعتمد على أقوال الأطباء والمنجمين، ويقربهم ويدنيهم، حتى انه كان لا يتحرك الا باختيار فلكي) ، فحدثه بهذا الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 732 أهل خيام، تتغلّب على الممالك، وتقلب الدّول، وتستولي على أكثر المعمور. فقلت: ومتى زمنه؟ فقال: عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره. وكتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي، طبيب ملك الأفرنج ابن أذفونش ومنجّمه. وكان شيخي رحمه الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته في ذلك، أو سايلته عنه يقول: أمره قريب، ولا بدّ لك إن عشت أن تراه. وأما المتصوّفة فكنّا نسمع عنهم بالمغرب ترقّبهم لهذا الكائن، ويرون أن القائم به هو الفاطميّ المشار إليه في الأحاديث النّبوية [1] من الشيعة وغيرهم، فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب، أن الشيخ قال لهم ذات يوم، وقد انفتل من صلاة الغداة: إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي، وكان ذلك في عشر الأربعين من المائة الثامنة، فكان في نفسي من ذلك كله ترقّب له. فوقع في نفسي لأجل الوجل الّذي كنت فيه أن أفاوضه في في شيء من ذلك يستريح إليه، ويأنس به مني، ففاتحته وقلت: أيّدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك. فقال لي التّرجمان عبد الجبّار: وما سبب ذلك؟ فقلت: أمران، الأول أنك سلطان العالم، وملك الدّنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإنّي من أهل العلم، وأبيّن ذلك فأقول: إن الملك إنما يكون بالعصبيّة، وعلى كثرتها يكون قدر الملك، واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد، أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك، وأنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لمّا اجتمعوا في دينهم على نبيّهم، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس، وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك. ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى، أو قيصر، أو الإسكندر، أو بخت نصّر، أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم، وأين الفرس من الترك؟ وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم، وأين الروم من الترك؟ وأما بخت نصّر فكبير أهل بابل، والنّبط. وأين هؤلاء من التّرك؟ وهذا برهان ظاهر على ما ادّعيته في هذا   [1] ذكر هذه الأحاديث في المقدمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 733 الملك. وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمنّي لقائه، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب، والأولياء، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي: وأراك قد ذكرت بخت نصّر مع كسرى، وقيصر، والإسكندر، ولم يكن في عدادهم، لأنهم ملوك أكابر. وبخت نصّر قائد من قوّاد الفرس، كما أنا نائب من نواب صاحب التّخت، وهو هذا، وأشار إلى الصفّ القائمين وراءه، وكان واقفا معهم، وهو ربيبه الّذي تقدّم لنا أنّه تزوج أمّه بعد أبيه ساطلمش، فلم يلفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصفّ أنه خرج عنهم. فرجع إليّ فقال: ومن أي الطوائف هو بخت نصّر؟ فقلت: بين الناس فيه خلاف، فقيل من النّبط بقية ملوك بابل، وقيل من الفرس الأولى، فقال: يعني من ولد منوشهر [1] . قلت نعم هكذا ذكروا، فقال: ومنوشهر له علينا ولادة من قبل الأمهات. ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه، وقلت له: وهذا ممّا يجعلني على بني لقائه. فقال الملك: وأيّ القولين أرجح عندك فيه؟ فقلت إنّه من عقبة ملوك بابل، فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر. فقلت: يعكّر تملينا رأي الطبري، فإنه مؤرّخ الأمة ومحدّثهم، ولا يرجحه غيره، فقال: وما علينا من الطبري؟ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونناظرك. فقلت: وأنا أيضا أناظر على رأي الطبري، وانتهى بنا القول، فسكتّ، وجاءه الخبر بفتح باب المدينة، وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان، فرفع من بين أيدينا، لما في ركبته من الداء، وحمل على فرسه فقبض شكائمه، واستوى في مركبه. وضربت الآلات حفافيه حتى ارتجّ لها الجوّ. وسار نحو دمشق، ونزل في تربة منجك عند باب الجابية، فجلس هناك، ودخل إليه القضاة وأعيان البلد، ودخلت في جملتهم، فأشار إليهم بالانصراف، وإلى شاه ملك نائبة أن يخلع عليهم في وظائفهم، وأشار إليّ بالجلوس، فجلست بين يديه. ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء،   [1] كذا بالأصل وهو: منوجهر بالجيم المتوسطة بينها وبين الشين اسم ملك من الفرس، الأول ومعناه فضيّ الطلعة، وذلك لبهائه، فان مينو بالفارسية: الضضة، فاقتصروا على حذف الياء وقالوا منو. وجهر. الطلعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 734 فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين، وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة، لعلّهم يعثرون بالصّناعة على منفذه، فتناظروا في مجلسه طويلا، ثم انصرفوا، وانصرفت الى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك، فأذن فيه. وأقمت في كسر البيت، واشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب، فكتبته في أيام قليلة، ورفعته إليه فأخذه من يدي، وأمر موقّعه بترجمته إلى اللسان المغلي. ثم اشتدّ في حصار القلعة، ونصب عليها الآلات من المجانيق، والنّفوط، والعرّادات، والنقب، فنصبوا لأيام قليلة ستّين منجنيقا إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهدّم بناؤها من كل جهة، فطلبوا الأمان. وكان بها جماعة من خدّام السلطان ومخلّفه، فأمّنهم السلطان تمر، وحضروا عنده. وخرّب القلعة وطمس معالمها، وصادر أهل البلد على قناطير من الأموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلّفه صاحب مصر هنالك، من الأموال والظّهر والخيام. ثم أطلق أيدي النّهّابة على بيوت أهل المدينة، فاستوعبوا أناسيها، وأمتعتها، وأضرموا النّار فيما بقي من سقط الأقمشة والخرثيّ، فاتصلت النار بحيطان الدّور المدعمة بالخشب، فلم تزل تتوقّد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه، فسال رصاصه، وتهدّمت سقفه وحوائطه، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشّناعة والقبح. وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في ملكه ما يشاء. وكان أيام مقامي عند السلطان تمر، خرج إليه من القلعة يوم أمّن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر، من ذرّية الحاكم العبّاسي [1] الّذي نصبه الظاهر بيبرس، فوقف إلى السلطان تمر يسأله النّصفة في أمره، ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه، فقال له السلطان تمر: أنا أحضر لك الفقهاء والقضاة، فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه. واستدعى الفقهاء والقضاة، واستدعاني فيهم، فحضرنا عنده وحضر هذا الرجل الّذي يسأل منصب الخلافة، فقال له عبد الجبّار: هذا مجلس النصفة فتكلّم. فقال: إن هذه الخلافة لنا ولسلفنا، وإن الحديث [2] صحّ بأن   [1] هو أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن القطبي المتوفى سنة 701. [2] في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100، 101 بعض الآثار التي تمسك بها العباسيون في خلافتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 735 الأمر لبني العبّاس ما بقيت الدّنيا، يعني أمر الخلافة. وإني أحقّ من صاحب المنصب الآن بمصر، لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقّوه، وصار إلى هذا بغير مستند، فاستدعى عبد الجبّار كلّا منّا في أمره، فسكتنا برهة، ثم قال: ما تقولون في هذا الحديث؟ فقال برهان الدّين بن مفلح: الحديث ليس بصحيح. واستدعى ما عندي في ذلك فقلت: الأمر كما قلتم من أنّه غير صحيح، فقال السلطان تمر: فما الّذي أصار الخلافة لبني العبّاس إلى هذا العهد في الإسلام؟ وشافهني بالقول، فقلت: أيّدك الله! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم، أم لا يجب ذلك؟ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب، ومنهم الخوارج، وذهب الجماعة إلى وجوبه، واختلفوا في مستند ذلك الوجوب، فذهب الشيعة كلّهم إلى حديث الوصية، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم أوصى بذلك لعلّي، واختلفوا في تنقّلها عنه إلى عقبه إلى مذاهب كثيرة تشذّ عن الحصر. وأجمع أهل السّنّة على إنكار هذه الوصيّة، وأن مستند الوجوب في ذلك إنما هو الاجتهاد، يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحقّ والفقه والعدل، بفوّضون إليه النظر في أمورهم. ولما تعدّدت فرق العلويّة وانتقلت الوصيّة بزعمهم من بني الحنفيّة إلى بني العبّاس، أوصى بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس، وبثّ دعاته بخراسان. وقام أبو مسلم [1] بهذه الدعوة، فملك خراسان والعراق، ونزل شيعتهم الكوفة، واختاروا للأمر أبا العبّاس السفّاح [2] ابن صاحب هذه الدّعوة، ثم أرادوا أن تكون بيعته على إجماع من أهل السنّة والشيعة، فكاتبوا كبار الأمة يومئذ، وأهل الحلّ والعقد، بالحجاز والعراق، يشاورونهم في أمره، فوقع اختيارهم كلّهم على الرضى به، فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع وإصفاق. ثم عهد بها إلى أخيه المنصور [3] ، وعهد بها المنصور إلى بنيه، فلم تزل متناقلة فيهم، إما   [1] أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني. له ترجمة واسعة في وفيات ابن خلكان 1/ 352- 356. [2] أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (104- 136) وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 99 وما بعدها. [3] أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (95- 158) . تاريخ الخلفاء 101- 106. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 736 بعهد أو باختيار أهل العصر، إلى أن كان المستعصم آخرهم ببغداد. فلمّا استولى عليها هولاكو وقتله، افترق قرابته، ولحق بعضهم بمصر، وهو أحمد الحاكم من عقب الرّاشد، فنصبه الظّاهر بيبرس بمصر، بممالأة أهل الحلّ والعقد من الجند والفقهاء. وانتقل الأمر في بيته إلى هذا الّذي بمصر، لا يعلم خلاف ذلك. فقال لهذا الرّافع: قد سمعت مقال القضاة، وأهل الفتيا، وظهر أنه ليس لك حقّ تطلبه عندي. فانصرف راشدا. (الرجوع عن هذا الأمير تمر الى مصر) كنت لما لقيته، وتدليت إليه من السور كما مرّ أشار عليّ بعض الصّحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم، فأشار بأن أطرفه ببعض هديّة، وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم، فانتقيت من سوق الكتب مصحفا رائعا حسنا في جزء محذو، وسجّادة أنيقة، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة للأبوصيري [1] في مدح النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. وجئت بذلك فدخلت عليه، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه، فلمّا رآني مقبلا مثل قائما وأشار إلي عن يمينه، فجلست وأكابر من الجقطيّة حفافية، فجلست قليلا، ثم استدرت بين يديه، وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها، وهي بيد خدّامي، فوضعتها، واستقبلني، ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه، قام مبادرا فوضعه على رأسه. ثم ناولته البردة، فسألني عنها وعن ناظمها فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها. ثم ناولته السجّادة، فتناولها وقبّلها. ثم وضعت علب الحلوى بين يديه، وتناولت منها حرفا على العادة في التأنيس بذلك. ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه، وتقبّل ذلك كلّه، وأشعر بالرّضى به. ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي، وشأن أصحاب لي هنالك. فقلت أيدك الله! لي كلام أذكره بين يديك، فقال: قل. فقلت أنا غريب بهذه البلاد غربتين، واحدة من   [1] هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الدلاصي البوصيري الصنهاجي (608- 694) على خلاف في تاريخ الوفاة. له ترجمة في فوات الوفيات 2/ 205- 209، حسن المحاضرة 1/ 360. ابن خلدون م 47 ج 7 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 737 المغرب الّذي هو وطني ومنشأي وأخرى من مصر وأهل جيلي بها، وقد حصلت في ظلك، وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي، فقال: قل الّذي تريد أفعله لك، فقلت: حال الغربة أنستني ما أريد، وعساك- أيّدك الله- أن تعرف لي ما أريد. فقال: انتقل من المدينة إلى الأردو [1] عندي، وأنا إن شاء الله أو في كنه قصدك. فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك، فأشار إليه بإمضاء ذلك، فشكرت ودعوت وقلت: وبقيت لي أخرى. فقال: وما هي؟ فقلت هؤلاء المخلّفون عن سلطان مصر. من القرّاء، والموقّعين، والدواوين [2] ، والعمّال، صاروا إلى إيالتك والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير، وعمالاتكم متّسعة، وحاجة ملككم إلى المتصرّفين في صنوف الخدم أشدّ من حاجة غيركم، فقال وما تريد لهم؟ قلت: مكتوب أمان يستنيمون إليه، ويعوّلون في أحوالهم عليه. فقال لكاتبه: اكتب لهم بذلك [3] ، فشكرت ودعوت. وخرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الأمان، وختمه شاه ملك بخاتم السلطان، وانصرفت إلى منزلي. ولما قرب سفره واعتزم على الرحيل عن الشام، دخلت عليه ذات يوم، فلمّا قضينا المعتاد، التفت إليّ وقال: عندك بغلة هنا؟ قلت نعم، قال حسنة؟ قلت نعم، قال وتبيعها؟ فأنا أشتريها منك، فقلت أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك، إنّما أنا أخدمك بها، وبأمثالها لو كانت لي، فقال: أنا أردت أن أكافئك عنها بالإحسان، فقلت: وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به، اصطنعتني، وأحللتني من مجلسك محلّ خواصّك، وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله أيقابلك بمثله، وسكت وسكتّ وحملت البغلة- وأنا معه في المجلس- إليه، ولم أرها بعد. ثم دخلت عليه يوما آخر فقال لي: أتسافر إلى مصر؟ فقلت أيّدك الله، رغبتي إنما هي أنت، وأنت قد آويت وكفلت، فإن كان السّفر إلى مصر في خدمتك فنعم، وإلا فلا بغية لي فيه، فقال لا، بل تسافر إلى عيالك وأهلك، فالتفت إلى ابنه، وكان مسافرا إلى شقحب لمرباع دوابّه، واشتغل يحادثه، فقال لي الفقيه عبد الجبّار الّذي كان يترجم بيننا: إن السلطان يوصي ابنه بك، فدعوت له، ثم رأيت أن   [1] الأردو: المعسكر (تركية) . [2] كذا في الأصل. ولعلها: (بالدواوين) أو (وأصحاب الدواوين) . [3] ذكر هذه الشفاعة المقريزي في السلوك في حوادث سنة 803. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 738 السفر مع ابنه غير مستبين الوجهة، والسفر إلى صفد أقرب السواحل إلينا أملك لأمري، فقلت له ذلك، فأجاب إليه، وأوصي بي قاصدا كان عنده من حاجب صفد ابن الدّاويداري [1] ، فودعته وانصرفت، واختلفت الطريق مع ذلك القاصد، فذهب عنّي، وذهبت عنه، وسافرت في جمع أصحابي، فاعترضتنا جماعة من العشير قطعوا علينا الطّريق، ونهبوا ما معنا، ونجونا إلى قرية هنالك عرايا. واتّصلنا بعد يومين أو ثلاث بالصّبيبة فخلفنا بعض الملبوس، وأجزنا إلى صفد، فأقمنا بها أياما. ثم مر بنا مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الرّوم، وصل فيه رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر، ورجع بجوار رسالته، فركبت معهم البحر إلى غزّة، ونزلت بها، وسافرت منها إلى مصر، فوصلتها في شعبان من هذه السّنة، وهي سنة ثلاث وثمانمائة، وكان السلطان صاحب مصر، قد بعث من بابه سفيرا إلى الأمير تمر إجابة إلى الصلح الّذي طلب منه، فأعقبني إليه. فلما قضى رسالته رجع، وكان وصوله بعد وصولي، فبعث إليّ مع بعض أصحابه يقول لي: إنّ الأمير تمر قد بعث معي إليك ثمن البغلة التي ابتاع منك، وهي هذه فخذها، فإنّه عزم علينا من خلاص ذمّته من مالك هذا. فقلت لا أقبله إلا بعد إذن من السّلطان الّذي بعثك إليه، وأما دون ذلك فلا. ومضيت إلى صاحب الدّولة فأخبرته الخبر فقال وما عليك؟ فقلت: إنّ ذلك لا يجمل بي أن أفعله دون إطلاعكم عليه، فأغضى عن ذلك، وبعثوا إليّ بذلك المبلغ بعد مدّة، واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أعطيه كذلك، وحمدت الله على الخلاص. وكتبت حينئذ كتابا إلى صاحب المغرب، عرّفته بما دار بيني وبين السلطان الطّطر تمر، وكيف كانت واقعته معنا بالشّام، وضمّنت ذلك في فصل من الكتاب نصّه: «وإن تفضّلتم بالسؤال عن حال المملوك، فهي بخير والحمد للَّه، وكنت في العام الفارط توجّهت صحبة الركاب السلطاني إلى الشام عند ما زحف الطّطر إليه من بلاد الروم والعراق، مع ملكهم تمر، واستولى على حلب وحماة وحمص وبعلبكّ،   [1] كذا بالأصل وفي عجائب المقدور ص 113: « ... وكان في صفد تاجر من أهل البلاد أحد الرؤساء والتجار، يدعى علاء الدين، وينسب الى دوادار، كان تقدمت له خدمة على السلطان فولاه حجابة ذلك المكان» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 739 وخرّبها جميعا، وعاثت عساكره فيها بما لم يسمع أشنع منه. ونهض السلطان في عساكره لاستنقاذها، وسبق إلى دمشق، وأقام في مقابلته نحوا من شهر، ثم قفل راجعا إلى مصر، وتخلّف الكثير من أمرائه وقضاته، وكنت في المخلّفين. وسمعت أن سلطانهم تمر سأل عنّي، فلم يسع إلا لقاؤه فخرجت إليه من دمشق، وحضرت مجلسه، وقابلني بخير، واقتضيت منه الأمان لأهل دمشق، وأقمت عنده خمسا وثلاثين يوما، أباكره وأراوجه. ثمّ صرفني، وودّعني على أحسن حال، ورجعت إلى مصر. وكان طلب منّي بغلة كنت أركبها فأعطيته إياها، وسألني البيع فتأفّفت منه، لما كان يعامل به من الجميل، فبعد انصرافي إلى مصر بعث إليّ بثمنها مع رسول كان من جهة السلطان هنالك، وحمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا. وهؤلاء الطّطر هم الذين خرجوا من المفازة وراء النّهر، بينه وبين الصين، أعوام [1] عشرين وستّمائة مع ملكهم الشهير جنكزخان وملك المشرق كلّه من أيدي السّلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب، وقسم الملك بين ثلاثة من بنيه وهم جفطاي، وطولي، ودوشي خان: فجفّطاي كبيرهم، وكان في قسمته تركستان وكاشغر، والصّاغون، والشّاش وفرغانة، وسائر ما وراء النّهر من البلاد. وطولي كان في قسمته أعمال خراسان، وعراق العرب وبلاد فارس وسجستان والسند. وكان أبناؤه: قبلاي، وهولاكو. ودوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق، ومنها صراي، وبلاد الترك إلى خوارزم. وكان لهم أخ رابع يسمى أوكداي كبيرهم، ويسمّونه الخان، ومعناه صاحب التّخت، وهو بمثابة الخليفة في ملك الإسلام. وانقرض عقبه، وانتقلت الخانيّة إلى قبلاي، ثم إلى بني دوشي خان، أصحاب صراي. واستمرّ ملك الططر في هذه الدّول الثلاث، وملك هولاكو بغداد، وعراق العرب، إلى ديار بكر ونهر الفرات. ثم زحف إلى الشام وملكها، ورجع عنها، وزحف إليها بنوه مرارا، وملوك مصر من الترك يدافعونهم عنها، إلى أن انقرض ملك بني هولاكو أعوام أربعين وسبعمائة،   [1] كذا بالأصل، وهو تعبير مألوف في أسلوب ابن خلدون. ورد كثيرا في أماكن متفرقة من كتابه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 740 وملك بعدهم الشيخ حسن النّوين وبنوه. وافترق ملكهم في طوائف من أهل دولتهم، وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام ومصر. ثم في أعوام السبعين أو الثمانين وسبعمائة، ظهر في بني جفطاي وراء النهر أمير اسمه تيمور، وشهرته عند الناس تمر، وهو كافل لصبيّ متّصل النّسب معه إلى جفطاي في آباء كلّهم ملوك، وهذا تمر بن طرغاي هو ابن عمهم، كفل صاحب التّخت منهم اسمه محمود، وتزوج أمّ صرغتمش، ومدّ يده إلى ممالك التتر كلّها، فاستولى عليها إلى ديار بكر، ثم جال في بلاد الروم والهند، وعاثت عساكره في نواحيها، وخرّب حصونها ومدنها، في أخبار يطول شرحها. ثم زحف بعد ذلك إلى الشام، ففعل به ما فعل، والله غالب على أمره. ثم رجع آخرا إلى بلاده، والأخبار تتّصل بأنه قصد سمرقند، وهي كرسيّه. والقوم في عدد لا يسعه الإحصاء، إن قدرت ألف ألف فغير كثير، ولا تقول أنقص، وإن خيّموا في الأرض ملئوا السّاح، وإن سارت كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء، وهم في الغارة والنهب والفتك بأهل العمران، وابتلائهم بأنواع العذاب، على ما يحصّلونه من فئاتهم آية عجب، وعلى عادة بوادي الأعراب. وهذا الملك تمر من زعماء الملوك وفراعنتهم، والناس ينسبونه إلى العلم، وآخرون إلى اعتقاد الرّفض، لما يرون من تفضيله لأهل البيت، وآخرون إلى انتحال السّحر، وليس من ذلك كلّه في شيء، إنّما هو شديد الفطنة والذّكاء، كثير البحث واللّجاج بما يعلم وبما لا يعلم، عمره بين السّتّين والسّبعين، وركبته اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام صباه على ما أخبرني، فيجرّها في قريب المشي، ويتناوله الرّجال على الأيدي عند طول المسافة، وهو مصنوع له، والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده. (ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر) كنت- لما أقمت عند السلطان نمر تلك الأيام التي أقمت- طال مغيبي عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 741 مصر، وشيّعت الأخبار عني بالهلاك، فقدّم للوظيفة من يقوم بها من فضلاء المالكيّة، وهو جمال الدّين الأقفهسي [1] ، غزير الحفظ والذكاء، عفيف النّفس عن التصدّي لحاجات النّاس، ورع في دينه، فقلّدوه منتصف جمادى الآخرة من السنّة. فلما رجعت إلى مصر، عدلوا عن ذلك الرأي، وبدا لهم في أمري، فولّوني في أواخر شعبان من السنة. واستمررت على الحال التي كنت عليها من القيام بالحقّ، والإعراض عن الأغراض، والإنصاف من المطالب، ووقع الإنكار عليّ ممّن لا يدين للحق، ولا يعطي النّصفة من نفسه، فسعوا عند السلطان في ولاية شخص من المالكية يعرف بجمال الدين البساطي [2] ، بذل في ذلك لسعاة داخلوه، قطعة من ماله، ووجوها من الأغراض في قضائه. قاتل الله جميعهم، فخلعوا عليه أواخر رجب، سنة أربع وثمانمائة. ثم راجع السلطان بصيرته، وانتقد رأيه، ورجّع إليّ الوظيفة خاتم سنة أربع وثمانمائة، فأجريت الحال على ما كان. وبقي الأمر كذلك سنة وبعض الأخرى. وأعادوا البساطي الى ما كان، وبما كان، وعلى ما كان، وخلعوا عليه سادس ربيع الأوّل سنة ست وثمانمائة [3] ، ثم أعادوني عاشر شعبان سنة سبع وثمانمائة [4] ، ثم أدالوا به منّي أواخر ذي القعدة [5] من السنة وبيد الله تصاريف الأمور. تم الجزء السابع من تاريخ ابن خلدون وبتمامه اكتمل للمؤرخ ديوان المبتدإ والخبر من عرب وعجم وبربر ويليه الجزء الثامن وهو فهارس عامة للتاريخ المذكور وضع باشراف دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت. وكان الفراغ من طبعة في الرابع والعشرين من شعبان عام 1401 هـ الموافق 26 حزيران 1981 م والحمد للَّه رب العالمين.   [1] هو عبد الله بن مقداد بن إسماعيل بن عبد الله الأقفهسي، جمال الدين المالكي المتوفى سنة 723 هـ. [2] يوسف بن خالد بن نعيم بن نعيم بن محمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي، جمال الدين. [3] انظر «عقد الجمان» للعيني، في حوادث سنة 806. [4] في صبح الأعشى 11/ 189 نص «التقليد» الّذي تولى به البساطي القضاء بعد ابن خلدون. [5] الّذي في «عقد الجمان» للعيني في حوادث سنة 807، أن الّذي خلف ابن خلدون هو جمال الدين الأقفهسي. ولعل ابن خلدون أعرف بمن ولي بدله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 742 [ المجلد الثامن ] فهرس الأعلام والقبائل حرف الألف (آ) ابنايخ، ايتانج. آحاز (2) 167. آحدة (6) 278. آدم عليه السلام- بني آدم (1) 253- 436- 480- (2) 3- 4- 5- 6- 7- 27- 182- 216- 237- 355- 450- 461- (3) 3- 233- 259- 419- (6) 276- 408 (7) 5- 667- 672- 719- 732. آدم شقيق الحجّاج (3) 84. آرام بن حصرون (2) 167. آريوس (1) 291. آزغاس (7) 311. آزر بن ناحور بن ساروخ بن ارغون بن فالغ (2) 18- 36- 38. آزر ميدخت (2) 520- 521- 519. آسا (2) 167. آسية بنت علي (3) 231. آشر بن يعقوب (2) 44. آصاف النبي (2) 112. آقا كبك (5) 430. بني آقسنقر (5) 63. (شمس الدين) آقسنقر- آقسنقر (3) 627- 649- (4) 343- 344- 352- (5) 95- 156- 157- 485. (قسيم الدولة) آقسنقر جد العادل نور الدين الشهيد (3) 587- 590- 594- 595- (4) 353- 362- (5) 10- 11- 12- 14- 18- 19- 20- 21- 54- 59- 169- 170- 171- 261- 262. آقسنقر الاحمديلي صاحب مراغة (3) 618- 624- 625- 643- 644- 645- (5) 68- 70- 92- 93- 97- 99. آقسنقر الأرمني (5) 61. آقسنقر البخاري (5) 58. آقسنقر البرسقي شحنة بغداد (3) 611- 613- 615- 616- 617- 618- 619- 620- (5) 47- 51- 52- 54- 57- 60- 177- 225- 252- 262. آقسنقر السلاري (5) 508- 509. آقسنقر الغارقاني (5) 443- 448- 449- 641. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 (علاء الدين) آقسنقر الكابلي (5) 454. آقسنقر الناصري (5) 509- 510. آقسنقر هزارديناري (5) 206. بني آكل المرار (7) 602. آل الجراح بني الجراح. آل ابرهة بن الصباح ابرهة بن الصباح. آل افريقون أو آل فريغون (4) 468. آل أديس بن أبي سرح أديس بن أبي سرح. آل باديس بني باديس. آل بديل بنى بديل. آل بكلين بني بكلين. آل ثابت بن منديل ثابت بن منديل. آل جراد بني جراد. آل جرار بني جرار. آل جفنة بني جفنة. آل جهينة جهينة. آل حزم حزم. آل الحسن بني حسن. آل الحسين بني حسين. آل حصن بني حصن. آل حصين بني حصين. آل أبي حفص بني أبي حفص. آل حماد بني حماد. آل حمدان بني حمدان. آل حمدان بن حمدون حمدان بن حمدون. آل حمو حمو. آل خالد خالد. آل خزر الخزر. آل الخطاب الخطاب. آل داود بني داود (4) . آل ذي الجدين دي الجدين ذي الخدين. آل رضوان بن تتش رضوان بن تتش. آل زبيد زبيد. آل الزبير بني الزبير. آل زيان بني زيان. آل زير زير. آل زيري زيري. آل زيري بن عطية زيري بن عطية. آل زيري بن مناد زيري بن مناد. آل ساسان بني ساسان. آل سالم بني سالم. آل سباع بني سباع. آل سليمان بن حبيب بن رابع بن ذياب سليمان بن حبيب. آل صفوان بن شحمة صفوان بن شحمة. آل أبي طالب أبو طالب. آل العباس العباس. آل عبد الحق بني عبد الحق. آل عبد المؤمن بني عبد المؤمن. آل عتبة بن ربيعة عتبة بن ربيعة. آل أبي العقيل أبي العقيل. آل علي بني علي. آل عيسى عيسى. آل فضل فضل. آل قراسنقر قراسنقر. آل قيصر قيصر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 آل كسرى كسرى. آل محمد بني محمد. آل مدرار بني مدرار. آل مر مر. آل مراد مراد. آل مضر مضر. آل ملاعب ملاعب. آل المنذر بني المنذر. آل مهارش مهارش. آل المهلب بني المهلب. آل مهنا بني مهنا. آل نجاح بني نجاح. آل نصر بن ربيعة نصر بن ربيعة. آل النعمان النعمان. آل هارون المغمر هارون المغمر. آل يعقوب يعقوب. آل يغمراسن بن زيان يغمراسن بن زيان. آل يوليوس قيصر يوليوس قيصر. آل يونال يونال. الآمدي (1) 577- 649. الآمر بأحكام الله (أبو علي المنصور صاحب مصر) (4) 84- 85- 86- 87- 88- 89. آمنة بنت بغا (3) 366. آمنة بنت وهب بن عبد مناف أم النبي (صلى الله عليه وسلم) (2) 388- 401- 408- (4) 5. آنشة- بنت آنشة بن وارد يرن (7) 7. آي (5) 491. (أ) ابن الأبار (1) 422- 525- 526- (7) 684. الإباضية (3) 213- (4) 48- 243- 388- (6) 147- 148- 150- 151- 158- 159- 160- 185- (7) 15. بنو أبان (2) 302. أبان بن بشير (3) 257. أبان بن سعيد (2) 516. أبان بن سليح صاحب العين (2) 288. أبان بن صالح بن أبي عياش (1) 401- 402. ابان بن صدقة (3) 261- 266. ابان بن عثمان (2) 608- (3) 173. ابان بن عقبة بن أبي معيط (3) 46. أبان بن عمرو بن أمية عقبة بن أبي معيط. ابان بن الوليد (3) 121. ابان جادويه (2) 563. الأبتر مادغيس (6) 116. ابتغا الجوهري (5) 521. ابرا حسن (2) 85- 86. إبراهيم عليه السلام إبراهيم الخليل (1) 29- 168- 436- 438- 439- 444- 803- (2) 5- 6- 11- 36- 37- 38- 39- 40- 41- 42- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 - 78- 80- 81- 82- 92- 93- 125- 288- 387- 393- (3) 419- (4) 5- 149- 249- (5) 445- 481- 555- (6) 120. إبراهيم (2) 46- 49- 50- 88- 97- 184- 216- 237- 406- 409- (3) 343- 575- (5) 271- (6) 381- 577. إبراهيم صاحب البطيحة (4) 363. إبراهيم الامام (4) 9. (أبو إسحاق) إبراهيم (1) 362- (2) 167. (أبو سالم) إبراهيم أخو أبي عنان (1) 12- (7) 387. (أبو طاهر) إبراهيم (3) 538- 539. (ظهير الدين) إبراهيم (5) 204. خواجا إبراهيم (5) 322- 323. أم إبراهيم (5) 204. أبو إبراهيم الأستراباذيّ ابن أخي بهرام (4) 120- 121- (5) 30- 33. بني إبراهيم من ريغة (7) 64. إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل (4) 445- 451. إبراهيم بن أحمد بن الأغلب (3) 452- (4) 39- 40- 41- 388. (أبو إسحاق الغافقي) إبراهيم بن أحمد بن عيسى الاشبيلي (7) 521. إبراهيم بن أحمد أخو أبي الغرانيق (4) 256- 257- 258- 259. إبراهيم بن إسحاق (3) 354- 566- (4) 655- 696. إبراهيم بن إسماعيل الامام (4) 142. إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حفص (6) 339. إبراهيم بن إسماعيل بن علان (7) 98- 99. إبراهيم بن الأشتر (3) 30- 31- 33- 37- 38- 44- 186- 187. إبراهيم بن اشقيلولة (4) 217- (7) 253- 254- 258- 260- 280. (أبو العباس) إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان (1) 30- 314- (3) 286- 300- 316- 441- 449- 452- 453- 454- (4) 8- 14- 15- 16- 40- 42- 43- 246- 247- 248- 249- 261- (6) 148- 157- 159- 185- (7) 101- 596. إبراهيم بن أبي الأغلب (في الأغاني (4) 260. إبراهيم بن الامام (3) 162- 163. إبراهيم بن أمير جندار (5) 557. إبراهيم بن بسام (3) 162. إبراهيم بن بطلقتمر (5) 554. إبراهيم بن بقراخان (4) 513- 514. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 إبراهيم بن بقية (4) 313. أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر (6) 530. إبراهيم بن أبي بكر الشهيد (7) 143. إبراهيم بن بكلين (6) 210. إبراهيم بن تارح (2) 18- 37- 38. إبراهيم بن تاشفين (6) 252- 308. إبراهيم ابن السلطان أبي تاشفين (7) 445- 446. إبراهيم بن تاعب شت (6) 305. إبراهيم بن ثابت بن حسن بن أبي بكر (6) 199. إبراهيم بن جامع (6) 309. إبراهيم بن جبريل (3) 283. إبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير (3) 244. إبراهيم بن جعفر الهمذاني (3) 409. إبراهيم بن أبي حاتم العزفي (6) 497- (7) 332. إبراهيم بن حبيش (4) 260. إبراهيم بن حجاج اللخمي (2) 293. إبراهيم بن حجاج الثائر (4) 170- 171- 172- 175. (أبو عنان) إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين (6) 357. (أبو إسحاق) إبراهيم بن أبي الحسين السهيليّ (4) 639. إبراهيم بن حشيش (4) 42. أبو إبراهيم بن أبي حفص (أبو حاقة) (6) 344. إبراهيم بن حمدان (3) 483- (4) 29. إبراهيم بن حيان السلمي (3) 225. إبراهيم بن خالد بن خزيمة (3) 212. إبراهيم بن خفيش (3) 453. إبراهيم بن رائق (3) 485- 486. إبراهيم بن رباح (3) 338. إبراهيم بن رقاصة (7) 306. إبراهيم بن زرور الذمي إبراهيم بن زرزر اليهودي (7) 402- 406- 550. إبراهيم بن زروق بن رعاية (6) 65. إبراهيم ابن الأمير زكريا (6) 555. إبراهيم بن زياد (4) 269. إبراهيم بن زيان (7) 210. إبراهيم بن زيد بن عمر (4) 280. إبراهيم بن زيدان (4) 280. إبراهيم بن سام الليثي (3) 112. إبراهيم بن سفيان التميمي (4) 248. إبراهيم بن سقمان بن ارتق (5) 250- 257. إبراهيم بن سيجور الدواتي أو الدواني (4) 448- 451- 452- 566- 575- 660- 663. إبراهيم بن سليمان (4) 23. إبراهيم بن سليمان بن واصل (3) 382- 384- 385- 388- 391- 425- 432- (4) 23- 418- 419. إبراهيم بن شركب (4) 420. إبراهيم بن الشهيد الحفصي (6) 489- 490- 492. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 الأشرف المنصور إبراهيم بن شيركوه (5) 413- 414- 415- 416- 438- 440. إبراهيم بن صالح بن علي (3) 267- 275- (4) 380. إبراهيم بن صبيح (3) 262. إبراهيم بن عاصم العقيلي (3) 117. إبراهيم بن العباس (3) 228- 290- 349. إبراهيم بن عبد الجليل الونكاسي (7) 309- 310. إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي (7) 522. إبراهيم بن عبد الرحمن بن يغمراسن (7) 153- 178- 370. إبراهيم بن عبد السلام (7) 309. إبراهيم بن عبد الله (3) 265- (4) 7. إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب (4) 250. إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (1) 250- 251- 393- (3) 235- 238- 241- 244- 245- 246- (4) 123. إبراهيم بن عبد الله التمر وغني (7) 155. إبراهيم بن عثمان بن بشار (3) 127. إبراهيم بن عثمان بن عبد الحق (7) 234. إبراهيم بن عثمان بن نهيك (3) 281. إبراهيم بن علي بن نصر (7) 118- 215. إبراهيم بن عمران الصناكي (7) 202- 478. إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف (5) 483- (7) 255. الوزير إبراهيم بن عيسى (7) 66. أبو العيش إبراهيم بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان (4) 20. إبراهيم بن عيسى اليرنيانى (7) 309- 320- 326- 392. إبراهيم بن غالب المراسي (6) 173. (أبو إسحاق) إبراهيم ابن الحاج الغرناطي (7) 524. إبراهيم بن فارس (4) 450. إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظم (6) 255- 257. إبراهيم بن قراقش (6) 255. إبراهيم بن قريش (5) 170- 261 إبراهيم بن كيغلغ (3) 449. (فخر الدين) إبراهيم بن لقمان (5) 455. إبراهيم بن الليث بن الفضل (3) 318- 327. إبراهيم بن محمد (3) 149- 160- 218- (4) 178- (5) 181- 297- (7) 140- 340. إبراهيم بن محمد بك بن ارتنا النوير عامل أبي سعيد على بلاد الروم (5) 634. إبراهيم بن محمد بن حتول (3) 348. إبراهيم بن محمد بن حسن المثنى (4) 9. إبراهيم بن محمد بن سليمان (4) 21. إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن طاهر (3) 394. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 إبراهيم بن محمد (صلى الله عليه وسلم) بن عبد الله (4) 6. إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الامام (3) 316. إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (أخو أبو جعفر المنصور) (1) 250- (3) 147- 381- (4) 3- (6) 326. إبراهيم بن محمد بن علي بن غانية (أبو إسحاق) (4) 210. إبراهيم بن محمد بن عمر (6) 273. إبراهيم بن محمد بن الفضل (4) 270. إبراهيم بن محمد بن القاسم (4) 19. إبراهيم بن محمد بن مصعب (3) 341. (برهان الدين) إبراهيم بن محمد بن مفلح برهان الدين بن مفلح الحنبلي (7) 729- 735. إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب الصوفي العلويّ (4) 389. إبراهيم بن محمد الأخيضر (4) 124. إبراهيم بن محمد الصنهاجي (6) 211- 212- 221- 239. إبراهيم بن محمد الواثق (5) 505- 517. إبراهيم بن المدبر (3) 376- 379- (4) 22- 384. إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل (4) 670- 671- 672. إبراهيم بن مسلم بن قتيبة (3) 269. إبراهيم بن مسلم بن قريش (4) 341- 343- 344- 345. إبراهيم بن مسلمة (3) 125- 128. إبراهيم بن مشرف الدولة (3) 594 إبراهيم بن المقتدر (3) 508. إبراهيم بن منجك (5) 569. إبراهيم بن المهدي (1) 27- 201- 250- 264- 540- (3) 310- 311- 312- 313- 316- (4) 10 11- 35. إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق (3) 304- 305) 313- (4) 10- 268. إبراهيم بن موسى بن أبي العافية (6) 180. إبراهيم بن موسى بن عباس (4) 40- 41. إبراهيم بن ناصر الدولة بن حمدان (أبو طاهر) (3) 529- (4) 308- 309- 320- 321- 322- 324- 590- 606. إبراهيم بن نصر (6) 85. إبراهيم بن نيال التركماني (5) 189- 190. إبراهيم بن هارون (3) 311. إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي (3) 166- 175- 176- (7) 231. إبراهيم بن هلال الصابي (1) 803. إبراهيم بن همشك (4) 210- (6) 321. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 إبراهيم الأوحد بن ولحيس (4) 91. إبراهيم بن الوليد (3) 136- 140- 143- 164. إبراهيم بن يحيى (4) 201. إبراهيم بن أبي يحيى (7) 398- 412- 520. إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد (6) 45. إبراهيم بن يحيي بن محمد (3) 253- 258. إبراهيم بن يزيد (3) 147. إبراهيم بن يعفر (4) 139. إبراهيم بن يعقوب بن معرف شيخ بني حميد (6) 69- 72- 73. (أبو عامر) إبراهيم بن يغمراسن (6) 441- (7) 120- 121- 139. بني إبراهيم بن يوسف بن عبد المؤمن (6) 198- 335- (7) 223. إبراهيم البطروجي أو لبطروحي (7) 416. إبراهيم العمر بن حسن المثنى بن طباطبا (4) 142. إبراهيم انحليجي (3) 444- (4) 400- 401. إبراهيم الدسوقي (2) 652. إبراهيم الديرج (6) 120. إبراهيم ذو النار (6) 120. (أبو إسحاق) إبراهيم الساحلي الطريحي المعروف بالطونجق شاعر الأندلس (1) 779- (6) 267- 268 (7) 657. إبراهيم السيلار (4) 491. إبراهيم الشروي (3) 303. (الفقيه أبو القاسم) إبراهيم العزفي (7) 301. إبراهيم العلويّ (4) 521. إبراهيم المخلوع (3) 141. إبراهيم المرتضى (4) 145. إبراهيم الموصلي (1) 540- (4) 161. إبراهيم النظام (1) 603. إبراهيم نيال (3) 572- (4) 338- 339- 410- 493- 505- 637- 644- 646- 647- 648- 649- 692- 693- 694- 695- (5) 46. إبراهيم الواثق (3) 665. ابرخيا (2) 355. الأبرد بن فروة الرياحي (3) 187. الأبرد بن قرة التميمي (3) 63. الأبرش الكلبي (3) 119- 142. ابن الأبرص (2) 327. الابركسيس (1) 290. ابرليق (2) 280. ابرهة ابن ابرهة (2) 60- 66- 71- 72- 73- 400. ابرهة الاشرم (2) 69- 70. ابرهة ذو المنار ابرهة بن الصعب ذو المنار (2) 58- 66. ابرهة بن الصياح (2) 65- 67- 70- 555- 636. ابرهمن بال بن اندبال (4) 481. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 أبرويز بن هرمز (2) 211- 212- 213- 214- 215- 216- 262- 263- 264- 266- 32- 360. أبرويز اليوس الحكيم (1) 419. ابصان من سبط يهوذا (2) 105. ابضعة بن معديكرب (2) 476. ابطاليس (2) 240. ابطانش (2) 241. ابطاي (5) 616. ابطريك بن مليكة (2) 257. ابغا الجوهري (5) 561- 563. ابقا الصفدي (5) 562. ابقا العثماني (5) 535- 539- 552. ابقا بن هولاكو ابغا بن هولاكو (5) 201- 202- 444- 447 450- 451- 452- 456- 457- 458- 459- 481- 502- 599- 605- 607- 608- 616- 617- 632- 633- (6) 11- (7) 725. ابقراط (2) 196. إبلان (5) 5. الأبلق الاسدي (1) 136. ابلكتي بن برسق (5) 223. ابلونيوس (1) 515. إبليس (6) 276. ابنايخ اينانج. ابورة (6) 162. أبي بن خلف بن وهب (2) 387- 413- 436- 437. أبي بن عدنان (2) 355. أبي بن كعب (2) 423- 475- 476. أبيا النبي شمويل (2) 107- 109. أبيا بن رحبعم (2) 128- 167. بني ابيب (2) 104. بني أبيق (2) 281. أبين بن زهير بن الغوث بن أبين (2) 290. الابيوردي (أبو العباس الابي الوردي) (1) 30- (3) 547. الابيون (2) 281. شمس الدين أتابك زنكي (5) 255- 459- 463. اتامش (3) 354- 355- 375- (4) 387. الأتراك الترك (1) 9- 17- 18 38- 44- 59- 61- 80 81- 90- 91- 95- 96 99- 101- 104- 106 151- 152- 169- 194 204- 207- 213- 218 230- 233- 252- 266 278- 298- 301- 302 305- 307- 311- 312 321- 330- 334- 339 369- 374- 419- 420 424- 505- 506- 549 565- 658- 706- 730 752- 718- 776- (2) 8- 11- 12- 20- 61 181- 184- 185- 187 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 188- 189- 190- 191 204- 209- 211- 212 218- 219- 220- 223 225- 258- 257- 258 277- 288- 304- 314 315- 336- 538- 562 563- 564- 566- 585 586- (3) 17- 18- 53 59- 60- 66- 69- 70 71- 72- 75- 77- 80 89- 91- 93- 98 100- 101- 102- 103 105- 107- 109- 110 111- 112- 113- 114 117- 118- 119- 122 130- 139- 234- 255 256- 260- 290- 291 314- 329- 332- 335 336- 342- 345- 352 354- 355- 356- 358 359- 360- 362- 364 366- 374- 378- 379 380- 383- 387- 390 396- 403- 446- 470 499- 501- 505- 509 510- 511- 512- 521 523- 524- 529- 530 531- 532- 537- 539 542- 543- 544- 545 546- 549- 550- 551 552- 553- 554- 555- 557- 560- 562- 561 564- 565- 566- 567 569- 571- 573- 576 611- 612- 619- 639 640- 659- 663- 664 665- 666- (4) 22 62- 77- 78- 83- 91 100- 101- 102- 119 130- 133- 138- 140 146- 173- 294- 297 298- 321- 326- 327 328- 329- 330- 333 341- 343- 345- 348 351- 352- 354- 355 360- 365- 383- 410 414- 435- 441- 443 450- 463- 464- 466 468- 469- 470- 472 473- 480- 484- 492 499- 509- 510- 511 512- 513- 514- 516 518- 519- 520- 535 537- 538- 539- 543 545- 549- 550- 564 565- 566- 570- 573 574- 578- 581- 585 589- 591- 592- 594 609- 610- 615- 618 621- 625- 626- 627 628- 630- 632- 633 638- 639- 640- 641 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 644- 646- 649- 653 654- 655- 656- 657 658- 669- 683- (5) 4- 5- 10- 13- 15 24- 25- 26- 36- 40 58- 59- 77- 78- 82 83- 88- 91- 106 107- 110- 126- 128 131- 135- 161- 165 173- 178- 198- 210 216- 220- 253- 273 392- 420- 425- 427 428- 430- 431- 432 433- 438- 439- 448 460- 463- 469- 474 475- 489- 492- 493 494- 496- 501- 502 506- 518- 524- 535 537- 540- 541- 542 543- 545- 546- 550 555- 569- 573- 574 577- 578- 580- 581 584- 585- 587- 589 601- 633- 634- 635 (6) 4- 11- 23- 63 155- 231- 409- 468 484- 491- 494- 602 (7) 57- 148- 196 291- 297- 298- 299 482- 674- 689- 693 716- 717- 719- 720- 722- 724- 727- 732 739. اتريب بن مصر (2) 84- 85- 86. جمال الدين اتسز الاشرفي (5) 465. شمس الدين اتسز الحسامي (5) 432. اتسز بن أوق الخوارزمي أو اتسز بن ارتق الخوارزمي (3) 585- 586 (4) 79- 80- (5) 169. اتسز بن محمد بن انوشتكين (5) 76 77- 79- 86- 108. اتلمش (1) 230. اتوتكين بن أساتكين (3) 425- 428 429- 431. أتيا بن فالغ الخضر (2) 38. اتيكين (5) 95- 96. الاثابج أو بنو الأثبج (2) 364- 369 (4) 77- 129- (6) 18 21- 22- 24- 26- 27 28- 29- 30- 31- 33 37- 43- 44- 55- 78 211- 225- 230- 231 233- 234- 236- 255 316- 320- 585- 586 587- (7) 60- 69- 74 243. الاثلج (3) 65. اثناس اثناسيوس بطرك الاسكندرية (2) 177- 178- 218- 252 254- 255- 258- 259 263. الاثنا عشرية (1) 249- 251- 252. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 اثور بن رائق (2) 78. اثور بن نينوى (2) 78- 132. الأثير عنبر الخادم اثير الشرابي أبو المسك عنبر الخادم (3) 550- 552 (4) 328- 329- 355 628- 629- 630- 633 634. ابن الأثير (2) 65- 100- 118 192- 262- 278- 271 274- 277- 365- 604 644- 652- (3) 29 537- 604- 607- 608 614- 616- 618- 619 626- 629- 633- 637 639- 640- 642- 648 660- (4) 23- 24- 25 28- 74- 75- 76- 80 81- 87- 88- 91 102- 104- 126- 127 257- 258- 302- 303 304- 305- 306- 310 325- 328- 333- 335 338- 339- 348- 351 353- 357- 360- 361 362- 363- 364- 370 373- 375- 381- 383 386- 387- 391- 392 393- 403- 440- 452 478- 501- 512- 513 515- 516- 518- 521 532- 533- 535- 536- 540- 554- 557- 558 562- 566- 567- 570 580- 587- 592- 598 599- 669- 672- 673 680- 681- 682- 684 688- 691- 693- 694 695- 696 (5) 36 59- 77- 83- 110 112- 133- 138- 150 152- 153- 161- 166 167- 177- 187- 235 256- 257- 263- 271 280- 286- 287- 314 327- 342- 359- 378 465- 500- 501- 590 (6) 9- 10- 17- 194 248- 301. اثير الدين صاحب هراة (5) 96. اجأ بن عمرو بن أد بن أدد (2) 288. بني أجاب أو أخاب (2) 118- 131. الاجافل (6) 15. اجانا بن يحيي بن ضري (6) 168 170. إجانة بن تيطاسن بن غرسن (6) 196. اجذام من البتر (6) 118. الأجشم المروروذي (3) 249. أجو بن كي كينة (2) 118. الأجود (6) 8. احاب بن عمري (2) 129- 130. أحاز بن يؤاب (2) 120- 121. احاظة بن حراز بن سعد (2) 291. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 الاحامد (6) 113. الأحايين (6) 509. الأحدب بني الأحدب (1) 636 (5) 197- 410- 514. احزيا ملك القدس (2) 131. احزيا بن آخاز أو امشيا (2) 130 132. احزيا بن يهورام (2) 130. احزياهو (2) 118. احشوارش بن جاماسب بن مهراسب (2) 126. احشوارش بن كيرش بن جاماهن (2) 125. احشويرش (2) 137. الاحلاف (2) 137. الاحلاف (2) 201. بني أحمد (2) 366- (6) 95 567. أحمد صاحب الكرك (5) 507. أبو أحمد سلطان بني عبد الواحد (4) 223. الشريف أحمد (4) 275. المكرم أحمد (4) 271- 272 276. المنصور أحمد (5) 257. أم أحمد (6) 109. أبو الحسن أحمد (4) 680. أبو مروان أحمد الباجي (6) 392. الامام أحمد الباخرزي أبو الباخوري (2) 36- (3) 590- (5) 79 108. السلطان أبو العباس أحمد (4) 223- 225- (7) 32- 187 245- 295- 412- 477. أحمد بك صاحب مراغة (5) 50 204- 223- 251. (الشهاب أبو المحاسن نظام الدين) أحمد (5) 62. أحمد بن إبراهيم (6) 41. (أبو العباس) أحمد بن إبراهيم الضبي وزير فخر الدولة الكافي (4) 617. أحمد بن إبراهيم المالقي (6) 549 554- 556. فتح الدين أحمد بن الأثير الحلي (5) 466. أحمد بن إدريس (6) 284- (7) 383. أحمد بن ارباش (3) 573. أحمد بن ارسلان خان (4) 515. (أبو العباس) أحمد الناصر لدين الله (3) 653. (أبو العباس) أحمد بن إسحاق بن المقتدر القادر (3) 540. أحمد بن أسد (3) 389- (4) 432 433. أحمد بن إسرائيل (3) 338- 362 363- 370- 371. أحمد بن إسماعيل الهاشمي (3) 266 267- 432- 439- 458 أبو نصر أحمد بن إسماعيل بن سامان (4) 30- 31- 427- 428 436- 437- 438- 439 440- 445. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 (أبو القاسم) أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الغساني (6) 508. أحمد بن إسماعيل بن علي (4) 380. أحمد بن أبي الأصبغ بن الأغلب (3) 426. أحمد بن أضحى الهمدانيّ الثائر (4) 177. أبو علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي (4) 89- 90. أحمد بن أويس ابن الشيخ حسن (5) 573- 574- 575- 602 610- 625- 626- 627 628- 629- 630- (7) 726. أحمد بن أيبك (5) 531. أحمد بن بدر (3) 470. أحمد بن برتقش (5) 315- 398. أحمد بن بغا (4) 386- 387. أحمد بن بقي بن مخلد (4) 181. أحمد بن بكر بن أبي سهل عبد الرحمن الجذامي صاحب فاس (4) 48 56- 57- (6) 174 178- 179- 204. أحمد بن أبي بكر (4) 446. أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن عثمان بن سعيد (7) 24. أبو الحسن (الحسين) بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري (6) 437- 438 445- 448- 449- 452 453. أحمد بن بهلول (يملول) (6) 454 507. معز الدولة أحمد بن بويه (3) 492 496- 502- 503- 506 516- 517- 519- 520 521- 522- 523- 524 525- 526- 527- 528 (4) 560- 563- 567 568- 569- 570- 571 572- 573- 574- 576 577- 579- 580- 581 582- 583- 584- 585 589- 594- 607- 669 674- 675. أحمد بن الأمير بيبقا (5) 535 544- 550- 551- 552 575- 628. أحمد بن تقي الدين (5) 342. أحمد بن جعفر بن افلح (6) 230. أحمد بن جميل (3) 379. أحمد بن الجنيد الإسكافي (3) 318 327. أحمد بن جهير (4) 342. أحمد بن جيعوية (جيفونه) (3) 397. (عزيز الدولة أبو نصر) أحمد بن حامد المستوفي (5) 68. أحمد بن الحسن (4) 264- 265. أحمد بن الحسن بن أبي بكر ابن الأمير علي بن حسن الراشد الراشد بن المسترشد (3) 665. أحمد بن الحسن بن علي بن أبي الحسن (4) 57- 113. أحمد بن الحسن بن قتادة (4) 132. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 أحمد بن حسن بن مسعود (7) 64. أحمد بن الحسن بن يوسف (4) 124. أحمد بن الحسن الخان (5) 78. أحمد بن الحسن الكاتب (7) 298. أحمد بن أبي علي الحسن القطبي (7) 734. أحمد بن الحسن السيمندي (4) 495. الخان أحمد بن الحسين (4) 519. أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيي بن الحسن بن القاسم الرسي (5) 578. أحمد بن الحسين البلخي (5) 32. أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمدانيّ (4) 482. أحمد بن حمدان (4) 350. أحمد بن حمدون الثعلبي (3) 430 433- 434. (المنصور) أحمد بن حمزة بن سليمان (4) 140- 275- 277- (6) 102- 523- (7) 362 642. الامام أحمد بن حنبل (1) 26 390- 392- 393- 396 397- 398- 415- 558 561- 566- 604- (4) 652- (7) 684. أبو الفضل أحمد بن جوية أحمد بن حمويه (4) 450. أبو العباس أحمد بن خاقان (3) 379 380- 413- 489. أحمد بن أبي خالد (3) 314- 315 316. الشيخ ابو العباس أحمد بن خالد الناصري (7) 3. أحمد بن خراسان (5) 239- (6) 213. أحمد بن الخصيب (3) 353- 354 375. أحمد بن الخطيب (7) 390. أحمد بن خلف (6) 541. أحمد بن خليفة بن رشاش بن وشاح (6) 32. أحمد بن الخليل بن هشام (3) 323 324- 331. مهذب الدولة شرف الدين أحمد بن أبي الخير عاملي البطيحة (3) 619 (4) 682- 683- (5) 35 307. أحمد بن أبي دؤاد (داود) (1) 277 (3) 335- 336- 340 341- 345- 348- 611. أحمد بن أبي دبوس (7) 364- 365. أحمد بن دوغياش (4) 387. أحمد بن ذباب (دباب) (6) 111. أحمد بن رحو بن غانم (6) 87- 88 (7) 168- 169. أبو أحمد بن الرشيد (3) 359- 362. أحمد بن روق بن أبي عمارة الدعي بن أبي عمارة. أحمد بن الزجالي (6) 160. أحمد بن زكريا المعتصم (5) 540. أبو العباس أحمد بن أبي زكريا الرندي (6) 515. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 أحمد بن زياد الطائي (3) 186. أحمد بن أبي زيد (6) 564- 565. أحمد بن زيرك (3) 487- 488 489. السلطان أبو العباس أحمد ابن المولي أبي سالم (6) 73- 103- 108 (7) 448- 449- 450 451- 452- 454- 456 462- 465- 469- 470 471- 472- 475- 480 481- 482- 496- 501 530- 547- 558- 559 560- 562- 577- 633 634- 635- 636- 638 639- 650- 709. أحمد بن سالم (3) 301- (4) 271. أحمد بن أبي سعيد (4) 114 126- 127. أحمد بن سعيد القرموني (أحمد القرموني) (7) 383. أحمد بن سعيد بن أبي بكر اليغرني (4) 17. أحمد بن سعيد بن ظاهر (6) 615. أحمد بن سعيد بن مسلم بن قتيبة الباهلي (3) 340- 353- 375. أحمد بن سكمان (5) 204. أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبلة بن كامكان بن يزدجرد بن شهربان (4) 31- 436- 437 439- 440. أحمد بن الشاري (3) 432 أحمد بن شاه (3) 482. (الشريف أبو العباس) أحمد بن الشريف الحسيني (7) 547. (أبو العباس) أحمد بن شعيب (7) 526. أحمد بن شميط البجلي (3) 31 33- 39- 40. أبو القاسم أحمد بن الشيخ (6) 444 454- 455 أحمد بن صالح بن مشيرازاد كاتب وصيف (3) 359. أحمد بن الصقر (3) 333. أحمد بن طبان (3) 439. أحمد بن طولون (1) 230- (3) 364- 368- 376- 381 396- 397- 412- 413 414- 415- 420- 421 422- 423- 424- 426 427- 428- 429- 430 438- 440- 441- 443 (4) 58- 91- 257 288- 377- 382- 383 384- 385- 386- 387 389- 390- 391- 392 396- 398- 399- 400 (5) 467- 470- (7) 677. أحمد ابن الخليفة الظاهر أبو العباس أحمد ابن الظاهر المستنصر. أحمد بن ظاهر (طاهر) (4) 694 695. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 أحمد بن العابد (6) 580. أحمد بن عامر بن العابد رئيس نفطة (7) 354. أحمد بن عبده (4) 179. (أبو عبد الله) أحمد بن عبد ربه (1) 23- 26- 817. (أبو جعفر) أحمد بن عبد الرحمن بن ظاهر (4) 209. أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجليّ (3) 370- 398- 416 417- 422- 423- 424 427- 428- 431- 432 477- 559. أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق (6) 217- 218- 234. أبو الفرج أحمد بن الغفار الهمدانيّ (3) 608. أحمد بن عبد الله الخجستاني (3) 393 394- 411- 426- 427 428- (4) 420- 421 422- 423 أحمد بن عبد الله بن أبي دلف (3) 429. أحمد بن عبد الله بن يونس (1) 390. أحمد بن عبد الملك بن سعد (4) 174. أحمد بن عبد الملك بن عماد الدولة المستنصر سيف الدولة. أحمد بن عبد الواحد (أبو عبيد) (6) 101. أحمد بن عبو (7) 466. أحمد بن أبي عبيدة (4) 170- 171. أحمد بن عبيد الله بن سليمان الخصيبي (3) 490- 493. أحمد بن عثمان بن إدريس (6) 102. أحمد بن عثمان بن أبي دبوس (6) 524- 525- 526. أحمد بن عجلان (4) 135- 546 547. أحمد بن عربي (6) 614- 615. أحمد بن العز (7) 196- 418. أبو الحسين أحمد بن عضد الدولة أخو شرف الدولة (3) 536. أحمد بن عطية (6) 308. (أبو القاسم) أحمد بن علي الجرجاني (6) 17- 19- 22- (7) 385. عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري (5) 271 320- 400- 403- 404. أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر أحمد ابن الامام المسترشد أحمد ابن بنت الأغر (5) 442. أحمد بن علي بن الإخشيد (4) 406 443- 600. أحمد بن علي بن حمدان (4) 292. أبو العباس أحمد بن علي بن زين (6) 519. أحمد بن علي بن صعلوك (أخو الصعلوك) (3) 460- 461- 464 482- 484. (أبو الحسن) أحمد بن علي بن مقاتل (3) 510- 512- 513. أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي (3) 314. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 أحمد بن عمر بن العابد (6) 599 600- 601. أحمد بن عمر بن محمد (6) 46. أحمد بن عمر بن نجم الخيومي شمس الدين كبرى (7) 725. أحمد بن عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون (7) 503. أحمد بن عيسى (4) 210- (5) 511- (6) 12. أحمد بن عيسى بن إبراهيم (4) 21. أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد (3) 352. أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيبانيّ (3) 421- 433- 436. أحمد بن غطاش (4) 118- 119 120- 121- 122. أبو العباس أحمد بن الغماز الخزرجي (6) 429- (7) 511. أحمد بن فرغانة (3) 389. أحمد بن أبي الفضل (6) 56. أحمد بن القائد (6) 563. أحمد بن قاروت بك (قاروت بك) (5) 45. أحمد بن القاسم بن أحمد (أبو العيش) (4) 110- (6) 290- 291. أحمد بن القتمري (5) 516- 517. أحمد بن قحطبة (3) 162- 251. أحمد بن القرشي (القريشي) قاضي الشافعية (5) 557- 567. أبو العباس أحمد بن القصار (7) 511. أحمد بن قهرب (قرهب) والي صقلّيّة (4) 46- 262. أحمد بن قيسي صاحب مرتلة (6) 312- 313- 315- 317. أحمد بن كعب (6) 99- 106. أحمد بن كنداجق (كنداج) (3) 429 430- 431- 433. أحمد بن الكوفي (3) 500- 501. أحمد بن كيغلغ (3) 444- 445 446- 459- 471- 473 477- 481- 508- (4) 110- 400- 401- 402 403- 558. أحمد بن لسوقة (4) 421. أحمد بن الليث الكردي (4) 417 437. أحمد بن ليدان (ليران) (6) 607. أحمد بن ليثويه (الينونه- كينونه) (3) 392- 394- 396- 397 398- 426- (4) 24. أحمد بن أبي الليل (6) 100- 460 (7) 363. أحمد بن مالك بن طوق (3) 413 429- (4) 390- 393. أحمد بن مالك بن نصر (3) 339- 340 أبو أحمد بن المتوكل الموفق. أبو العباس أحمد بن المتوكل المعتمد على الله (3) 380- 432. أبو العباس أحمد بن محمد أبو عصيدة (6) 509- (7) 211. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 أبو إبراهيم أحمد بن أبي العباس محمد (4) 253- 254. أبو الحرث أحمد بن محمد (4) 482. (ابن مروان) أحمد بن محمد الباجي (4) 214. أحمد بن محمد الحاكم (5) 505. أحمد بن محمد الصبيحي (7) 460 468. أحمد بن محمد الطائي (3) 429 431- 438- (4) 108. أحمد بن محمد العمري (3) 318. أحمد بن محمد الفيرقوني (4) 463. أحمد بن محمد المنشي الكاتب (5) 157. أحمد بن محمد الواسطي (4) 383. 384- 386- 387- 388 393 . أحمد بن محمد بن أيوب (أبو فورك) (3) 575. أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي (5) 567. أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن زكريا (5) 545. أحمد بن محمد بن بهلول (6) 468. أحمد بن محمد بن الحنفية ذكرويه بن مهرويه (3) 419- (4) 12 107. أبو العباس أحمد بن محمد بن رافع (7) 369. أبو جعفر أحمد بن محمد بن سعيد ابن البلدي ناظر واسط (3) 647. بني أحمد بن محمد بن سليمان (6) 191. أحمد بن محمد بن طاهر (3) 394. أحمد بن محمد بن عبد الحميد (1) 224. أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب (7) 506. أحمد بن محمد بن عبد الرحمن (6) 99. (أبو نصر) أحمد بن محمد بن عبد الصمد (4) 502- 503- 504. أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام (4) 68. أحمد بن محمد بن أبى عبد الله بن أبى عيسى المعافري (7) 687. أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين (أبو معنونة) (6) 108- 109 557. أحمد بن محمد بن عتو (6) 529. أحمد بن محمد بن عطاء الله بن عوض الزبيري الاسكندري المالكي ناصر الدين بن التنسي (7) 714. أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن إدريس بن عبد الله بن ورد التميمي (7) 687. أحمد بن محمد بن الغماز (أبو العباس) (7) 686- 688. أحمد بن محمد بن الفرات (3) 441. أحمد بن محمد بن محمود الحميري (4) 285. أحمد بن محمد بن المظفر (أحمد المظفر) (5) 629- 630. أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي (4) 111. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 أحمد بن محمد بن يعقوب بن عبد الله بن كنيز بن حرقوص من غير (6) 107 (7) 457. أحمد بن أبي محمد بن يعمور (6) 510. أحمد بن المدبر (4) 383- 384. أحمد بن مرزوق (6) 441. أحمد بن مروان الكردي (4) 412. أحمد بن مزني أحمد بن يوسف بن مزني (6) 569- 574- 575 577- 589- 601- (7) 395- 399- 560- 561 577- 581- 599- 631. أحمد بن مزيد (3) 295- 303- (6) 500. أحمد بن مسافر (3) 482. (عماد الله) أحمد بن المستعين (4) 207 (الحاكم) أحمد بن المستكفي (5) 517. (المستعلي باللَّه أبو القاسم) أحمد بن المستنصر (4) 84- 130. أحمد بن مسرور البلخي (3) 460 482. أحمد بن مسلمة (4) 176. أحمد بن معد بن الظاهر علي (4) 81. (أبو العباس) أحمد بن المقتدر القادر (3) 508- (4) 613. أبو أحمد بن المكتفي (3) 488- 490. أبو العباس أحمد بن مكي (6) 511 513- 520- 521- 526 531- 532- 536- 537 541- 544- 559- 566 567- 574- 575- 2576 598- 599- 608- 609 610- 616- (7) 354 355- 356- 574- 357 392. (أبو العباس) أحمد بن الملياني (ابن أخ أبو علي الملياني) (7) 87- 88 305- 306. أحمد بن المنصور (4) 140. أبو العباس أحمد بن منصور البطوي (البطرني) (7) 510. أحمد بن المهدار (الهمدار) (5) 565 570. أحمد بن مهدي الجناني (3) 399 401. أحمد بن مهلهل (7) 144. أحمد بن مهنا بن عيسى (5) 502 503- (6) 13. أحمد بن موسى بن بغا (3) 410 426- 427. أحمد بن موسى بن بقية (أبو جعفر أحمد بن أبي موسى بن بقية) (4) 195. أحمد بن موسى البطرني (أبو العباس) (7) 688. أحمد بن موسى الجون (4) 131. أبو العباس أحمد بن الموفق المعتضد. أحمد بن المولد (3) 424- (4) 24. أحمد بن ميمون بن مدرار (6) 173 214. أحمد بن الملك الناصر (5) 498 507- 508- 509. أحمد بن ناصر الدولة (4) 590. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 أحمد بن نصر القسوري (3) 340 446- 473- 478- 484. 484. أحمد بن نظام الملك (4) 364. أحمد بن هشام (3) 293- 319. أحمد بن واصل (3) 424- 425. أحمد بن وهب (3) 457. أحمد بن ياسين (6) 505. أحمد بن يحيى التحصيني (4) 199. أحمد بن أبي يحيى (7) 332- 354. (أبو القاسم) أحمد بن يزيد بن بقي (7) 685. أحمد بن يصلين المكناسي قائد المهدي (4) 48. أحمد بن يعقوب الصبيحي (4) 224. (أبو المثنى) أحمد بن يعقوب القاضي (3) 447- 448. أحمد بن يعلى (6) 290. (الأمير شهاب الدين) أحمد بن يلبغا العمري الخاصكي (7) 699. أحمد تكرار بن هولاكو (5) 202. أحمد الجعفي (3) 420- 422. أحمد الحاكم الحاكم بأمر الله خليفة مصر. أحمد الحريشيّ (3) 294. أحمد الخجستاني (3) 392. أحمد خان صاحب ما وراء النهر (3) 627- (5) 13. أحمد خان بن خضرخان (4) 515. أبو العباس أحمد الزواوي (7) 512. أحمد الساماني (4) 423. أبو العباس سيدي أحمد السبتي (1) 145- 147- 668. أحمد السجستاني (4) 28- 29. أحمد السعيد (4) 438. أحمد شاه مقدم التركمان (4) 352. أحمد شاوي الشرنخاناه (5) 511 512- 514. أحمد شكار بن أبي بندمر (5) 568. أحمد الصقلي (1) 316- (6) 254 327. أبو جعفر أحمد الصيمري (4) 576 577. أحمد الطويل (4) 555. أبو العباس أحمد العزقي (7) 521. أحمد عقد الدولة (4) 201. أحمد الفتحي (4) 432- 478. أحمد القرموني (7) 384. أحمد الكوفي (3) 511. أحمد المتوكل (5) 578. أحمد المرغني (الرعينيّ) (7) 448 449. (أبو العباس) أحمد صاحب الشامة المهدي أمير المؤمنين (4) 109. الشريف أبو حمد الموسوي والد الشريف الرضي نقيب الطالبيين (3) 530 (4) 127- 308- 314 316. أحمد الموطئ الرسي بن الحسين من بني الهادي (4) 141. أحمد الناخودة (4) 285. أحمد الناصر (الناصر أحمد) (4) 139. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 أحمد نيال تكين (4) 493- 494 497- 503. أحمد الواثق (3) 360. أحمد اليربوعي (3) 403. أحمد الينشتي (6) 394. الاحمديلي سنقر الاحمديلي (4) 371 (5) 70- 89. ابن الاحمديلي (5) 73. أحمر مولى أبي سفيان (2) 630. بني الأحمر (1) 779- 797- (4) 215- 218- (6) 48 63- 539- (7) 264 325- 400- 419- 439 469- 499- 632. ابن أبي الأحمر (6) 385. أحمر بن الحرث بن مالك (2) 462. بنو أحمس بن الغوث بن أنمار (2) 303. الأحمس الطليطلي (6) 285. الأحمق بن قيس (3) 17. الأحنف بن عبد الله العنبري (3) 58. الأحنف بن قيس بن معاوية (2) 376 549- 552- 553- 563 564- 578- 579- 608 616- 617- 618- 620 633- 638- 643- (3) 18- 22- 28- 35- 41 44- 182- 183. الأحوص (1) 798. أبو الأحوص الباهلي (3) 378. الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحرث بن حصن (2) 297. احيال الحاثوني (5) 325. احيحة بن الجلاح بن الحريشيّ الأوسي (2) 400. أبو احيحة [بن] سعيد بن العاص (2) 389- 423. أخاجورا (2) 191. الأخباريون (1) 30- 387. اختيار الدين جنكي بن عمر بن حمزة (5) 136- 138- 139- 144. اختيار الدين حسن (5) 193. اخجوج بن أويس (5) 624. ابن الاخشاء (3) 440- اخشورش العادي (2) 196. اخشويرش بن داريسوس (2) 196. ابن الإخشيد (4) 126. بني الإخشيد (4) 129- 406. الإخشيد (4) 292- 293. الأخفش النحويّ (6) 413- (7) 730. بني الأخضر من بطون رياح (2) 379 (4) 13- (5) 507- 508 (6) 47- 48- 78- 213 (7) 638. اخميم الكوهن (2) 227. الاخنش بن شريق بن عمرو الثقفي سيد بني زهرة (2) 368- 428- 449. اخوش (2) 197. إخيا النبي (2) 114. بني الأخيضر (4) 123. الأخيضر بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون (4) 142. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 الأخيل كعب بن الرحال بن معاوية. اد بن عدنان (2) 355. أم اداس (6) 183. بنو اداس بن زحيك (6) 119- 164 182- 183. اداسة من البتر (6) 118. ادبيل (2) 44- 394. بنو أود بن زبيد بن يشجب بن عريب (2) 303. الادرم بن غالب (2) 460. إدريس اخنخ أخنوخ اشنخ (2) 7. إدريس عليه السلام (1) 140- 517 (2) 6. بني إدريس الادارسة (1) 35 166- 197- 283- 361 365- (2) 20- (4) 2 13- 16- 18- 19- 20 47- 48- 105- 174 184- 274- 249- (6) 160- 165- 176- 177 191- 278- 282- 288 289- 290- 291- 292 293- 295- (7) 25 26- 34- 35- 39- 72 102- 465. الامام إدريس عم المهدي (4) 14 15- 16- 17- 192 194- (6) 157- 434 (7) 484. إدريس الأصغر (4) 15- (7) 102. أبو العباس إدريس الملقب أبي دبوس (6) 102. إدريس بن إبراهيم بن عيسى بن محمد (4) 20- 178- (6) 178 (7) 34. إدريس بن إدريس بن عبد الله (1) 31 32- 33- 34- 35 284- 361- (4) 20 142- (7) 33. إدريس بن حسن بن إدريس (4) 132. إدريس بن حسن بن قتادة (4) 132. إدريس بن حنظلة (3) 93. إدريس بن سعيد بن صالح (6) 285. إدريس بن صالح (6) 284. إدريس بن عبد الله أخو المهدي (4) 247- (6) 165- 195- (7) 13. إدريس بن عبد الله بن الحسن (إدريس الأكبر) (1) 31- 32- 33 34- 35- 251- 283 361- (3) 270- 271 351- (4) 8- (6) 140 191- 192- 301 (7) 33- 34- 101. أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق (4) 217- 219- (6) 342 (7) 224- 236- 241 251- 277- 278- 279 484- 485- 486- 489 493. إدريس بن عثمان (بن أبي عثمان) بن أبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 العلاء (4) 220- 221- (7) 393- 495- 496- 497. إدريس بن علي بن حمود (4) 195 (6) 294. إدريس بن قتادة (4) 134- (5) 448. إدريس بن محمد بن سليمان (4) 20 (7) 34. إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن يوسف بن عيسى بن سليمان (4) 132- (5) 399. إدريس بن معقل العجليّ (3) 127 147. إدريس بن أبي الملك (6) 49. إدريس بن موسي بن يوسف الياباني (7) 469. إدريس بن يحيي (4) 196. (أبو محمد السيد أبو العلاء) إدريس بن يونس بن عبد المؤمن (6) 261 377. أبو إدريس الخولانيّ (1) 277- (3) 172. الادفونش (4) 161- 164- 165 167- 168- 169- 180 190- (6) 248- 315. بني ادفونش (4) 226- 229 230- 231. ابن ادفونش ملك الجلالقة (4) 191 211- 216- 232- (5) 282- (6) 248- 321 322- 329- 330- 335- 336- (7) 258- 275 301- 469- 502- 528 732. ادفونش بن بطرة (4) 226- 227. ادفونش بن شانجة (6) 324. ادهم بن محرز الباهلي (2) 631. أبو الأدهم الرماني (الزماني) (3) 60. ادولف (2) 281. أدوم (2) 112- 130- 131. أدوما سرية ناحور (2) 50. أدين آذين (3) 324- 325. أدين بن الهرامون (2) 539. الاذر (1) 339. اذكوتكين (اذكر تكين) بن اساتكين اتكوتكين اتوتكين (3) 387 414- 415- 417- (4) 28- 29. الأذواء (1) 183- 507. أذينة بن سميدع (2) 30- 288. أراك بن ايوان الكرجي (5) 166. الأرباريون (2) 281. ارباط (2) 69- 70- 72- 120. اربد بن ربيعة بن مالك (2) 478 479. الاربدانية (5) 469- 474. الاربس (3) 453. اربيكان (5) 599. ارتاش أخ إبراهيم ينال (4) 505. ارتاق مرزبان كسرى (2) 79- 80. ارتشخار اوقش (2) 193. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 بني ارتق (2) 20- (5) 177 179- 196- 197- 262 305- 411- 459. الأمير ارتق (4) 342- 343- (5) 257- 499. ارتق بن اكسب (اكسك) (3) 587 589- (4) 352- 414- (5) 10- 11- 12- 13 247- 248- 249. محيي الدين ارتق بن بورى بن محمد بن طغركين (5) 281. ناصر الدين ارتق ارسلان بن قطب الدين أبي الغازي (5) 207- 257. بنو ارثنا ارثنا (2) 20- (5) 631 633- 634. ارتيرزان (5) 344. بني ارثا (5) 202. أرجاماسب (2) 190. ارجواش (5) 475. أرجوان جارية ذخيرة الدين (3) 584. ارجوز (أوخرد) (3) 422. ارخا ابن النجاشي (2) 451- (5) 162. ارخان (5) 149- 150- 152. ارحاب (2) 167. أردشير (1) 419- (2) 190 201- 202- 206- 207 245- 309- 314. أردشير بن بابك بن سامان (2) 199 200- 209- 216- 244 312- (7) 627. أردشير بن دار (2) 192. أردشير بن سابور (2) 322. أردشير بن قباذ شيروية (2) 215. أردشير بن هرمز بن نرسي (2) 206. أردشير بهمن (2) 191- 282. أردشير خرة (2) 565. أردشير كسرى (2) 508- 509 510- 511. أردشير يمن (2) 61. اردنو (5) 611. اردوان بن يلاوش ملك الاشكانيين (2) 199- 200- 201. اردوس (2) 137. اردون بن ادفونش (4) 183- 227. اردون بن رذمير بن برمند بن قريولة بن ادفونش بن بيطر (4) 179 180- 181. اردوية (ازادروية) (4) 592. عز الدين اردين (5) 457. ارذم (3) 578. ارزم الباروني (5) 402. ارستبلوس بن الإسكندر (2) 142 143- 144- 145- 146 147- 152- 153- 156 157- 228- 235. ارسطور (1) 52- 142- 145 319- 616- 632- 645 649- 708- 709- 711 712- 733- 805- (2) 222- 223- (7) 535. السلطان عز الدين ارسلان (5) 93 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 144- 364- 377- 378 379 . ارسلان ارغون (3) 639- (5) 21 22- 106. (أبو الحرث) ارسلان البساسيري (3) 560- 576. ارسلان بوقا التركي (5) 83- 93. ارسلان بن اتسز خوارزم شاه (5) 95 97- 108- 109- 110. ارسلان بن ايلدكز (5) 112. ارسلان بن داود أخو طغرلبك (3) 563 573- (4) 501. ارسلان بن داود بن سقمان بن ارتق (5) 36. ارسلان بن سلجوق (3) 557- (4) 330- 410- 492- 493 499- 635. ارسلان بن سيجور (4) 492. ارسلان بن قليج ارسلان بن مسعود (5) 192. ارسلان تاش (5) 24- 175- 211. ارسلان الحاجب (4) 469- 468 480- 482- 483- 493 511. ارسلان خاتون بنت بدران (4) 340. (أبو شجاع شرف الدولة) ارسلان خان أخو طغان خان (4) 484- 512 513. ارسلان خان بن سليمان بن داود (4) 516- 517- (5) 77 78- 83. ارسلان خان بن محمد بن سليمان سبق (4) 518- 585. ارسلان خان بن يوسف (4) 515. ارسلان دغمش (5) 632. ارسلان شاه ابن السلطان طغرل بن محمد (3) 580- 638- 639 642- 643- 644- 645 647- 653- (5) 32 53- 86- 92- 95- 98 99- 112. نور الدين ارسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود الاتابك زنكي (5) 311 312- 313- 314- 315 316- 317- 318- 389 391- 393- 394- 395 397- 398- 403. ارسلان عثمان (5) 100. ارسلان محمد (4) 519- 520. ارسلاوش (2) 156- 157. ارسوس اكسك (5) 11. ابن ارشا قائد المغل (5) 514- 573. بني ارشي (5) 548. ارشيش بن ارطحشاشت (فارس) (2) 192- 197. ارض خان (5) 609- 610. ارطبون البطريق أمير الروم (2) 543 544- 554. ارطحشاشت بن احشويرش (2) 196. ارطحشاشت بن داريوس (2) 197. ارطحشاشت الثاني (2) 196. ارغش (ارغمش المسترشدي) (3) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 642- 646- 647- (5) 17- 32. ارغو (ارغون) بن ابغا بن هولاكو (5) 202- 573- 599- 617 618- 623- 633. ارغو بن فالغ (2) 37- 38- 80. ارغومس بني ارغومس (4) 229. ارغون (5) 533. ارغون الارفي (5) 520. ارغون الإسماعيلي (5) 511. ارغون الاشرفي (5) 523. ارغون الاشقري (5) 520. ارغون التتر (5) 521- 522. ارغون الدوادار (5) 488- 494 506. ارغون السمندار (5) 554. ارغون شاه (5) 510- 512 524- 525- 528. ارغون العلاوي (5) 509- 510. ارغون الكاملي (الكافلي) (5) 509 512- 513- 514- 515. ارغوي بن ملتكي (5) 58. ارفخشذ (2) 37- 135. ارفخشذ بن سام (2) 8- 9- 18. بني ارفخشذ بن يقطن بن عابر (2) 32. ارفلي (5) 482. ارقاديوس بن تاوداسيوس (2) 255. ارقطاى (5) 510- 511- 589. بني الأرقم (2) 30- 340- 341. الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أبي جندب المخزومي (2) 388. الأرقم بن عبد الله الكندي (3) 15. اركاديش (2) 256- 257. الاركاديين (2) 218- 221. اركس (اركش) (1) 96- (2) 336 (5) 5- 427- 584. اركلاوش بن هيردوس (2) 157- 158. اركلش الجبار ملك الروم (2) 235. اركيش (6) 127. الإرم بن الأرقم (2) 100. إرم بن سام (2) 8- 9- 27 285- 308- 331. إرم بن شداد بن عاد الأكبر (2) 22. إرم عاد (1) 19- 20- (2) 11 22. ارمان (2) 9- 81. ارمانوس ملك الروم (4) 317- 334 599- (5) 6. الارماتيين (2) 119- 308- 331. الأرمن (1) 288- (2) 50- 102 103- 111- 112- 120 128- 139- 145- 147 148- 149- 150- 151 159- 160- 163- 218 237- 277- (3) 350 480- 481- 504- 558 559- 582- (4) 78 79- 82- 85- 90- 91 348- 666- 671- 674 (5) 24- 149- 150 188- 220- 222- 281 368- 375- 395- 431 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 445- 446- 447- 457 458- 459- 465- 466 471- 472- 474- 481 482- 489- 490- 492 493- 506- 526- 610 617- 619- 621- 631 633- 634- 635- 636 (6) 255. ارمن الروم (5) 149. ارمنوس (ارمانوس) بطريق البحر الدمستق (2) 274- 275 276- 277- (3) 582. ارميا النبي من نسل هارون (2) 82 87- 122- 123- 124 189- 354- 355- 356 (6) 127- (7) 4. ارميا بن حزقيا (2) 283. ارميا بن خلقيا (يرميا بن خلقيا) (2) 135- 189. ارميا بن معد بن عدنان (2) 285. (البرنس) ارناط صاحب الكرك (5) 346- 350- 357- 359 370- 447. ارنوس (2) 175. اروادي (2) 12. أروم- بني أروم (2) 48- 100 117- 118- 119- 123 144- 155- 160- 161 162. اروي بنت عبد الرحمن بن رستم (6) 172- 173. اريانوس (2) 201- 256. اريانوس بن قسطنطين (4) 267. ابن اريثا بن أوّل (5) 549. اريش (2) 282. ارياطاني (5) 160. اريوح ملك الأستار (2) 40. اريوس بطرك رومة (2) 239- 255. اريوش (2) 176- 177- 178 248- 251- 252- 253 254. اريوش بن كيستاسب (2) 196. الأز العلان. ازاد ابنة عم فيروز (زوجة شهر بن باذان) (2) 483. ابن الازاوية (2) 527. الازارقة (2) 359- (3) 41- 46 52- 59- 172- 182 185- 188- 189- 201 203- 377- (4) 22 108. أبو الازاهر القشيري (2) 519. ازبة (4) 528- 529. بني ازبك (5) 104. ازبك بن البهلوان (3) 656- 657 658- (5) 101- 102 103- 104- 112- 128 129- 134- 140- 141 146- 147- 148- 149 152- 154- 155- 156 157- 158- 321- 409 588- 591- 592. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 ازبك بن طغرلجاي (5) 607- 608. ازبك خان (القان) (5) 495- 498 595- 596- 599- 609 615- 621- 624- 629. ازجور (ارجون) بن اولغ طرخان الترك (4) 382- 386. الأزد (1) 1- 36- 136- 268 (2) 28- 36- 61- 63 284- 285- 286- 288 300- 301- 302- 303 304- 308- 309- 332 341- 356- 493- 494 506- 507- 581- 586 614- 617- 618- 619 621- 643- 645- (3) 11- 14- 77- 97 107- 115- 117- 145 148- 183- 184- 314 350- (4) 117- 206- (6) 3- 15. أزد بن الغوث بن نبت بن مالك (2) 301. أزد بن ناحور (2) 79. أزد جرش (2) 475. ازداحة من البرانس (وزداجة) (6) 117- 160- 190- 191 192- 286- (7) 43. ازدشير (حسام الدين) (5) 102- 122. الازدهاق الضحاك بن علوان. بني الأزرق (2) 9- 30- 341. ابن الأزرق (3) 450- 547. الأزرقي (1) 440. ازرميدخت بنت أبرويز (2) 214 215- 216. ازعزا بن ألب ارسلان (3) 580. ازكش (2) 11. ابن الازكشي (5) 517. ازكيت من بطون المصامدة (6) 299. ازنكين بن جكرمش (5) 45. أبو الأزهر (3) 237. الأزهر بن شعيب (3) 146. الأزهر بن عوف الأزهر بن عبد عوف (2) 449- 548. اسا بن أبيا (افيا) ملك القدس (2) 116- 117- 128- 129. اسارتكين اساتكين (3) 379 387- 427. أبو اسامة (1) 396. الأمير عز الدين اسامة صاحب بيروت (5) 377- 378- 387- 392 398. اسامة بن أكيل (2) 41. اسامة بن زيد التنوخي (4) 379. اسامة بن زيد بن حارثة (1) 247 267- 269- 414- 514 (2) 298- 382- 434 461- 465- 483- 484 487- 489- 494- 587 593- 603- 610 (3) 175. اسامة بن مالك بن شيرز الكناني (5) 227. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 اسامة بن مبارك بن منقذ الكناني (5) 253. (مؤيد الدولة) اسامة بن مرشد (5) 286. اسامة بن منقذ (4) 93- 94- 95. أبو اسامة الجشمي (2) 442. اسباشيانس (2) 239- 240- 241. أسباط بن عدي بن شوليم (2) 129. الاسبان (6) 314- 317- 321 323. اسبيانوس (اسبنانوس) أبو طيطش (2) 134- 160- 161- 162. الاسبيدان (2) 559. استاذسيس (3) 249. أبو جعفر استاذ هرمز (4) 606- 622. الاستبان الاستبار (5) 294. استبراق قيصر بن نقضور (استيراق) (2) 272- 273- (3) 290. استدمر (5) 538. استدمر البجاسي الجرجاني (7) 714. استدمر ابن العثماني (5) 532. استدمر بن يعقوب شاه (5) 554. استدمر السر غتمش (5) 528- 529. استدمر الناصري (5) 516- 517 520- 521- 522- 523. استرخان الخوارزمي (3) 256. استروبلوس بن ارستبلوس (2) 157. استفانس (2) 274. استمارس بن مرينا (2) 87. استوير بن نوجهان (2) 183. اسجم بن المعافر (2) 54. ابن إسحاق محمد بن إسحاق. إسحاق عليه السلام (1) 436- 441 (2) 41- 42- 43- 44 45- 46- 48- 50- 93 94- 97- 251- (3) 61 161- (4) 5. (شمس الدين) إسحاق (5) 614. بني إسحاق (4) 175- (6) 190. أبو إسحاق (الأستاذ) (1) 648 812- (3) 230- 232. إسحاق أخو المرتضى (7) 240- 256. المولي أبو إسحاق (3) 535- (6) 328- 334- 338- 405 406- 559. السيد أبو إسحاق الأحول (6) 337. ابن إسحاق الأزرق (3) 270. أبو إسحاق الأسفراييني (1) 117 137- 623. إسحاق البرزالي (7) 72. إسحاق بن إبراهيم (4) 269- (6) 126. أبو إسحاق ابن السيد أبي إبراهيم (6) 345- 346. إسحاق بن إبراهيم بن الحسن (3) 238 275- 276- 344- 348 (4) 4. إسحاق بن إبراهيم بن مصعب (3) 315 320- 327- 335- 339 342. إسحاق بن إبراهيم الموصلي (1) 540. إسحاق بن أحمد بن سامان (4) 428 433- 435- 437- 438. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 إسحاق بن إسماعيل بن إسحاق (3) 345. أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ (3) 490. أبو إسحاق بن التكين (4) 433. إسحاق بن الياس (4) 432. إسحاق بن أنس (3) 334. إسحاق بن أيوب بن عمر بن الخطاب القلب العدوي (3) 387 388- 389- 425- 427 434- 441- (4) 288 289. (المجاهد) إسحاق بن بدر الدين (5) 325. السلطان أبو إسحاق بن أبي بكر (7) 577. إسحاق بن ثابت الفرغاني (3) 374. أبو إسحاق بن جامع (6) 338. السلطان أبو إسحاق بن أبي زكريا (7) 120- 121- 122- 126 128. أبو إسحاق بن أبي زيد (6) 324. إسحاق بن سعيد الجنابي (4) 114 115. إسحاق بن سليمان الإسرائيلي (4) 55. إسحاق بن سليمان بن علي (3) 273 274- 277- 282- 285 290. أبو إسحاق بن شعبان (1) 567. إسحاق بن الصباح الكندي (3) 260 266. إسحاق بن طلحة (3) 15- 163. أبو إسحاق بن عبد الرفيع (6) 475- (7) 537. إسحاق بن عبد الله (1) 398. إسحاق بن عبد المؤمن (6) 320- 324. أبو إسحاق بن علاق (غلان) (6) 515. إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين (6) 252- 310. إسحاق بن عمر بن أيوب بن الخطاب الثعلبي (3) 410. إسحاق بن كنداجق (كنداج) (3) 384 385- 410- 413- 414 415- 416- 427- 428 (4) 23- 288- 391 393- 394- 395- 397. إسحاق بن لؤلؤ (5) 441. إسحاق بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن الوليد بن إبراهيم بن عبد الملك بن مروان إسحاق بن محمد القرشي (4) 175- 176. إسحاق بن محمد بن الأشعث (3) 202 203. إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير اوربة (4) 8- 14- 15- (6) 195. إسحاق بن محمد بن علي (6) 253 326. إسحاق بن محمد بن فروخ (3) 273. إسحاق بن مسعود (3) 31. إسحاق بن مسلم العقيلي (3) 167 203- 219. أبو إسحاق بن معز الدولة (4) 315 591- 593. إسحاق بن المقتدر (3) 540. إسحاق بن منصور (3) 261. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 إسحاق بن المنهال (3) 455- (4) 44 261. إسحاق بن موسي بن علي (3) 267. إسحاق بن موسي بن عيسى (3) 305 306- (4) 10. إسحاق بن الهادي (3) 307- 310. أبو إسحاق بن أبي هلال (6) 561. إسحاق بن يحيي (7) 684. السلطان أبو إسحاق ابن السلطان أبي يحيي (6) 99- 103- 439 538- 543- 549- 553 554- 558- 587- (7) 168- 531- 558- 574. أبو إسحاق بن أبي يحيي الشهيد (إبراهيم بن أبي يحيي) (7) 331- 393 531- 558- 574. إسحاق بن يحيي معاذ (3) 338- (4) 382. إسحاق بن يعقوب (4) 384. أبو إسحاق التسولي (6) 46- 51. أبو إسحاق الحسناوي (7) 707. أبو إسحاق الرويني (1) 819. أبو إسحاق السهيليّ (3) 554. إسحاق الشاربي (3) 393. إسحاق الشيرازي (أبو إسحاق الشيرازي) (3) 580- 584- 587- (5) 7- 9- 16- 18. أبو إسحاق الشيعي (1) 391. أبو إسحاق الصابي الكاتب (2) 6- (4) 328. أبو إسحاق القراريطي (3) 513 514- 516. أبو إسحاق النسفي (1) 391. القاضي أبو إسحاق اليزناسي (7) 477. بنو أسد (1) 162- 271- 765 (2) 20- 70- 291 296- 326- 327- 328 357- 380- 381- 397 458- 463- 467- 482 484- 490- 496- 497 498- 526- 532- 534 612- 614 (3) 15 303- 381- 424- 437 508- 542- 546- 548 646- (4) 11- 287 327- 329- 353- 354 356- 358- 374- 376 432- 621- 625- 631 687- (5) 501- (6) 3 8- 10. أبو أسد (4) 329. أسد مولى الموفق (3) 407. أسد بن أحمد بن أسد (أبو الأشعث) (3) 389. أسد بن أحمد بن سامان (4) 433. أسد بن الحرث بن بديع (4) 165. بنو أسد بن خزيمة بن مدركة (2) 380 420- 450- (3) 288. أسد بن ربيعة (2) 357. أسد بن سامان (3) 389- (4) 432. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 بنو أسد بن عبد العزي (2) 399 406- 410- 424. أسد بن عبد الله بن عمرو (2) 388. أسد بن عبد الله الخراساني (3) 176. أسد بن عبد الله القسري (3) 52 100- 108- 116- 117 118- 119- 121- 126 138. أسد بن عبد الله المهراني (5) 161. أسد بن الفرات شيخ الفتيا الفقيه (1) 314- 569 (4) 248 250- 251- (7) 622. أسد بن موسي (1) 394. بني أسد بن وبرة تنوخ (2) 296. أسد بن يزيد بن حاتم (3) 286. أسد بن يزيد بن مزيد (3) 295. أسد الحربي (3) 296- 297. أسد الدولة بن تاج الدولة ابن جعفر بن حسن الباغاني (4) 265- 266. أسد الدين برتقش (يرنقش) (5) 206 356. أسد الدين جولي (5) 140. الأمراء الاسدية (5) 353. اسديف (3) 165. بني إسرائيل (1) 9- 14- 15 17- 38- 78- 106 107- 168- 176- 206 207- 214- 222- 223 249- 257- 287- 288 405- 412- 440- 441 442- 507- 730- (2) 3- 4- 7- 9- 11 12- 14- 19- 21- 22 30- 31- 45- 46- 48 49- 52- 82- 84- 76 78- 79- 81- 86- 92 93- 94- 95- 96- 97 98- 99- 100- 101 102- 103- 104- 105 106- 107- 109- 110 111- 112- 113- 114 116- 117- 118- 120 121- 123- 124- 125 126- 128- 129- 130 132- 134- 135- 136 140- 144- 168- 169 172- 175- 180- 181 185- 189- 190- 191 192- 193- 196- 198 220- 227- 232- 233 251- 283- 286- 331 340- 341- 355- 356 456- 562- (3) 37- (4) 176- 221- 635- (6) 123- 127- 128- 135 140- (7) 4- 5- 6 101- 720. إسرائيل بن إسحاق (1) 441- (2) 92. بني إسرائيل بن أمون بن عمون بن منشا (2) 167. إسرائيل بن سلمون (2) 110. اسرحدون (2) 79. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 اسسك بن دارا (2) 192. اسطانس بطرك انطاكية (2) 176. اسطقسة (اسطقسيف) (6) 234. اسطوبة بن ايرج (2) 184. اسطيناس الاحزم (2) 270. الأسعد (5) 501- (6) 10. (أبو حسان) أسعد بن أبي يعفر إبراهيم بن محمد بن يعفر (2) 292. (أبو أمامة) أسعد بن زرارة بن عدس (2) 345- 346- 416- 417 418- 420- 423. أسعد بن شهاب (4) 271- 273 274. (أبو كرب) أسعد بن عدي بن صيغي (تبع الآخر) (1) 16- 18- (2) 62- 66- 67. (أبو كرب) أسعد بن كليكرب (مليكيكرب) بن زيد الأقرن (2) 67- 292. أسعد بن وائل (4) 283. أسعد بن يعفر (4) 139- 269 281- 282. اسفار بن شيرويه (3) 458- 459 476- 490- (4) 30 32- 33- 444- 552 554- 555- 556- 557 561- 570- 580. اسفار بن كردويه (3) 536- (4) 606. أسفاقدين بنت فراسياب (2) 188. أسفراين (4) 466- (5) 88. إسفنديار بن فرخزاد أخو رستم (2) 560- 561. إسفنديار بن كيستاسب (2) 61 189- 191- 198. اسفهسلان (اسفهسلار) 557. الأمير الاسفهسلار (5) 332. اسقف عبيدة (2) 332. اسكري (3) 459. اسكندارا بن عجيف (3) 420. الإسكندر الافردوسي (1) 632. الإسكندر بن ارستبلوس (2) 146 152. الإسكندر بن تراوش (2) 221. الإسكندر بن فيلبوس (فيلفوس) المقدوني (إسكندر ذو القرنين) (1) 47 100- 235- 288- 631 709- (2) 19- 81- 87 136- 137- 138- 141 143- 144- 156- 157 179- 190- 192- 194 196- 198- 199- 218 219- 220- 221- 222 223- 224- 225- 227 234- 235- 237- 241 243- 245- 246- 247 248- 249- 253- 254 255- 258- 259- 260 261- 262- 263- 265 280- (7) 732- 733. الإسكندر بن هرقانوس (2) 142. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 الإسكندر خال الإسكندر الأعظم (2) 193. الاسكندرة بنت هرقانوس (2) 143 144- 152- 153- 154 155- 156- 228. إسكندروس (2) 247- 248- 249. إسكندروس بطرك الاسكندرية (2) 176- 177- 247- 248 249- 251- 252- 274. إسكندروس بن الإسكندر (2) 223. إسكندروس بن لاون (3) 479. إسكندروس تلماي بن هرقانوس (2) 228- 245. اسكي مولى بني بوية افتكين. الاسكيد (3) 113. اسكين الحملي (5) 176. (جناح الدولة) اسلار (5) 11- 24 25. أسلم بنو افصي بن عامر بن قمعة (2) 53 376. أسلم بن أحور (3) 154. أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر (2) 289- 302- 395. أسلم بن الحاف (عذرة) (2) 288 295. أسلم بن امرئ القيس بن مالك (2) 342. أسلم بن زرعة الكلابي (3) 8- 11 18- 19- 22- 106 107- 171- 181. أسلم بن سدرة (1) 525. أسلم بن سلام (3) 153. أسلم بن صبيح (3) 150. أسماء زوجة فهم بن محرز (3) 127. أسماء بنت أبي بكر (1) 138- (2) 421- 422- (3) 50- 51. أسماء بنت خارجة (3) 186. أسماء بنت شهاب (4) 271- 272 273. أسماء بنت عميس بن النعمان زوجة جعفر بن أبي طالب (2) 411- 454. أسماء بنت النعمان بن الجون (2) 494. أسماء الصبيحة (4) 131. بني إسماعيل إسماعيل (2) 284 287- 289- 292- 355 356- 374- (3) 260 352- (4) 89- 263. (المصطفى) إسماعيل (4) 363. (أبو الفداء) إسماعيل (7) 351. (أبو الوليد) إسماعيل (4) 219- 221. إسماعيل الامام (4) 258. إسماعيل البخاري (3) 425. إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام (1) 399- 436- 437- (2) 4- 5- 18- 30- 32 36- 40- 41- 42- 43 44- 52- 53- 74 354- 393- 394- 395 396- 401- 470- (3) 60- 161- (4) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 إسماعيل بن إبراهيم (3) 456. إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن (3) 238 (4) 4. إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي خديو مصر (2) 653- (7) 742. إسماعيل بن إبراهيم بن نوح بن شيث بن آدم (7) 5. إسماعيل بن أحمد الساماني (3) 412 432- 438- 439- 442 443- 446- 458- (4) 29- 423- 425- 426 433- 434- 435. إسماعيل بن ارسلان (5) 35- 36. إسماعيل بن ارسلان جق (4) 360 361. (أبو علي) إسماعيل بن استاذ هرمز (3) 543- 544. (أبو علي) إسماعيل بن إسحاق القاضي (1) 26- 568- (5) 389 390- 611. (عماد الدين) إسماعيل ابن الأمير المؤيد. إسماعيل بن ايكيك (6) 303. إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة (3) 239. إسماعيل بن بامك (3) 390. (أبو الصقر) إسماعيل بن بلبل (3) 427 430. (شمس الملوك) إسماعيل بن بوري (5) 181- 182- 231- 232 270- 272. إسماعيل بن الثوري (6) 179. إسماعيل بن جامع بن عبد المطلب (2) 386. إسماعيل بن جعفر الصادق (1) 28 29- 251- 252- (3) 437- 450- 451- (4) 13- 36- 108- 144 (5) 32- (7) 13. إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص (6) 377. إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري (3) 253- 254. إسماعيل بن خزر (7) 35- 38. إسماعيل بن أبي الخير (4) 682. إسماعيل بن الدانشمند (5) 212. (الظاهر) إسماعيل بن ذي النون إسماعيل بن عبد الرحمن. إسماعيل بن زكريا (5) 625. إسماعيل بن زياد (6) 146- 150. إسماعيل بن سبكتكين (4) 467 474- 475- 476. (صدر الدين) إسماعيل بن أبي سعيد شيخ الشيوخ (4) 369- (5) 352. إسماعيل بن سفيان (4) 249. إسماعيل بن صالح بن علي (4) 380. إسماعيل بن صبيح (3) 288. إسماعيل بن طغتيكن (5) 388. إسماعيل بن عباد (الصاحب بن عباد) 604- 611- 617- (6) 240. (الأشرف) إسماعيل بن الأفضل عباس (5) 582. إسماعيل بن عبد الحق (6) 217. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن عبد الحميد (4) 92- 93- 94. الظاهر إسماعيل بن عبد الرحمن بن سليمان بن ذي النون (4) 204- 229. إسماعيل بن عبد الرفيع (6) 260. إسماعيل بن عبد الله بن جعفر (3) 240. إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر (4) 237- (6) 144- 156. إسماعيل بن عبد الله القسري (3) 131 143- 144- 174- 221. إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم (3) 174- 206. أبو نور إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن (6) 285- 286. إسماعيل بن عبيد الله بن الحجاب (4) 238. إسماعيل بن عقبة (3) 109. إسماعيل بن علي (3) 223- 245. إسماعيل بن عمر (3) 43. إسماعيل بن عمر بن عبد الله المرادي (6) 156. (أبو النجم) إسماعيل بن عمران (3) 153. إسماعيل بن عيسى بن موسي (3) 270. أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر (7) 591. مجد الدين إسماعيل بن كسيرات (5) 456. إسماعيل بن أبي كلداسن (6) 428. الصالح إسماعيل بن لؤلؤ (3) 664 665- (5) 441. إسماعيل بن متنيا بن إسماعيل (2) 124. الملك الصالح إسماعيل بن العادل نور الدين محمود (5) 192- 298 300- 301- 302- 303 304- 325- 339- 340 341- 343- 352- 353 408- 409- 410- 411 413- 414- 415- 418 424- 432- 433- 442. إسماعيل بن المعتضد (7) 73. إسماعيل بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق (3) 304- (4) 145 166. (الصالح) إسماعيل ابن الملك الناصر (5) 508- 509. إسماعيل بن نصر (4) 218- 450. إسماعيل بن نغزلة الذمّي (4) 203. إسماعيل بن نوح المنتصر. إسماعيل بن هبار (2) 389. إسماعيل بن الوانشمند (5) 189- 191. إسماعيل بن وهشودان (4) 671. (قطب الدين) إسماعيل بن ياقوت (ياقوتي) بن داود (3) 608- (5) 19 22- 42- 204. إسماعيل بن يعقوب بن قيطون (6) 42 350- 351. إسماعيل ابن السلطان أبو الحجاج يوسف (7) 441- 495- 497. إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسي الجون (4) 13- 122- 123 124. إسماعيل بن يوسف بن نصر (4) 215. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 إسماعيل خازن دار نور الدين محمود (5) 307. ركن الدين إسماعيل الصالح (5) 614. أبو إسماعيل الطغرائي (3) 617- (5) 60. إسماعيل القائم (7) 67. إسماعيل المنصور المنصور بن القائم أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي. أبو يعقوب إسماعيل النويحي (3) 486. الإسماعيلية (1) 251- (2) 20- (4) 13- 104- 107- 118 121- 122- (5) 32 58- 104- 116- 117 139- 149- 152- 158 164- 198- 240- 341 450- 457- 463- 598. أسمرديوس المجوسي (2) 196. أسوار (2) 532- (5) 269- 273. أبي الأسوار صاحب جنزة (4) 673. الأسود (2) 53- 483- 484 491. الأسود بن أبي البختري (2) 618. الأسود بن بلال المحاربي (3) 168. الأسود بن ربيعة بن مالك (2) 552. الأسود بن رزق (رزن) بن يعمر (2) 457. الأسود بن سريع السعدي (2) 609. الأسود بن عبد يغوث بن وهب خال النبي (صلى الله عليه وسلم) (2) 295- 412 413. الأسود بن غفار (2) 27- 28. الأسود بن قيس المرادي (2) 632. الأسود بن كلثوم العدوي (2) 578. ابن الأسود بن مسعود (2) 465- 470 (أبو زمعة) الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى (2) 409- 412 413. الأسود بن المنذر (2) 316- 317 321- 322. الأسود بن نوفل بن خويلد ابن أخي خديجة (2) 454. الأسود بن يزيد (2) 589. الأسود بن يعفر (2) 322. أبو الأسود الدؤلي (1) 754- (2) 608- 638- 644- 647. الأسود العنسيّ عبهلة بن كعب ذو الخمار. أسيد بن حضر بن سماك بن عتيك بن رافع (2) 419. أسيد بن حضير الكتائب (2) 346 417- 446- 488. (أبو ثابت) أسيد بن ظهير الأنصاري (2) 434. أسيد بن عبد الله الخزاعي (أسد بن عبد الله الخزاعي) (3) 149- 153 253. بنو أسيد بن عمير (2) 375. أسيد بن المنشمر (المتشمس) (2) 579. أبو أسيد الساعدي (2) 593- 597. ابن أسيد الغفاريّ (2) 562. اسيل من ملك بن اوريغ (6) 118 183. بني أسين بن زاكيا (7) 7. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 أشاد بن اشمون (2) 85. اشبان (2) 11- 12- 47. اشبح (2) 344- (3) 96. اشبق بن إبراهيم (2) 43. اشبوشت بن داود (2) 340. الاشبيليون (2) 292. اشتانيس آخر ملوك الماريس (2) 120. ابن الأشتر (3) 47. الأشتر مالك بن الحرث بن يغوث. البرنس الأشتر (صنكل) (5) 447. اشتريك بن طورديك (2) 282. أشجع بني أشجع (2) 397 645- (3) 179- 338- (6) 22. أشجع بن ريث (ذيب) بن غطفان (2) 362. أشدربال ملك قرطاجنة (2) 224 234. بني الأشرس (3) 339- 340. اشرس بن عبد الله السلمي (3) 108 109- 110- 111- 175. اشرش بن كندة (2) 306. الاشروسية (3) 354- 366. الأشرف بن دمرواش (5) 624. أشرف من بني شيبان (3) 191. الأشرف بن الصالح (3) 665. (السلطان) الأشرف بن العادل بن أيوب موسي بن العادل بن أيوب. الأشرف بن الناصر قلاوون (5) 487 502- 503 (6) 11. الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلويّ السمرقندي (5) 77. الاشرفية (5) 443. الاشعب بن عبد الله التميمي (3) 108. ابن الأشعث عبد الرحمن بن الأشعث. الأشعث (2) 329- 548. الأشعث بن قيس بن معديكرب (1) 172- (2) 306- 476 492- 494- 526- 527 532- 547- 557- 582 591- 602- 625- 626 627- 633- 634- 639 641- 648. الأشعث بن ميناس (2) 542. الأشعر (2) 36. الأشعر بن أود (2) 288. الأشعري (أبو الحسن) (2) 170. الأشعريّة (1) 286. الأشعريون (بنو أشعر) (2) 286 288- 303- 305- 614. اشعيا النبي (2) 120. بني اشقيلولة ابن اشقيلولة اشقيلولة (4) 114- 215- 217- 218 (6) 393- (7) 118- 260 261- 267- 268- 486. أشك (2) 199. أشك أشك بن دارا بن أشكان الأول (2) 198. أشك بن أشكان الأكبر (2) 198. أشك بن دارا (2) 198- 314. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 أشكان (5) 4. أشكان بن دارا الأكبر (2) 197. بني أشكان بن غومر (2) 218. الاشكانية (2) 181- 197- 198 199- 201. اشكانيش بن اناش (2) 232. اشكر (5) 195- 605. اشكول من ممديل (6) 162. أشلاء قفص (2) 286. اشمس الاتابك (5) 534- 535 539- 541- 562- 563. اشمون بن قبط (2) 85. اشمون بن مصر (2) 84. الاشمونيين (الاشموميين) (2) 381 (4) 94- 389. الاشميين (1) 320. أبو جعفر أشناس مولى المعتصم (3) 320- 328- 329- 330 331- 338- 355- 366 (4) 381. اشهب (1) 567- 568. ابن الأشهب (7) 89. اشهب بن عبد العزيز المالكي (7) 601. اشوذ بن سام (فارس بن طيراش بن اشوذ) (2) 8- 9- 82- 125 181. اشور بن دزان (2) 43. اشور بن سام (4) 548. أشير (شيرو- بشير) (2) 174- (6) 374- 375. اشيوع بن فنخاص بن ألعازر بن هارون (2) 135. الأصابعة (نسبة الي رجل ذي اصبع زائدة) (6) 111. الأصبغ بن دؤالة الكلبي (3) 141. الأصبغ بن أبي سفيان (بن سفيان) بن عاصم بن عبد العزيز (3) 244. الأصبغ بن سلمة قاضي النصارى (4) 229. الأصبغ بن عبد الله (4) 159- 160. أصبغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق (4) 183. اصبغا عبد الله دوادار (5) 524. الأصبهاني (الأصفهانيّ) أبو الفرج (2) 28- 70- 185- 287 341- 649- (4) 185. الاصبهبذ صاحب طبرستان وملك بلخ (2) 188- 561- 582- (3) 66- 77- 91- 92- 93 157- 235- (4) 549 630- 631- 663. نصر الدين اصبهبذ صاحب الجبل (5) 162. اصبهبذ بن دوالة (3) 504- (4) 666. اصبهبذ صباوو (5) 48- 49- 217. اصطفانيوس بن أوغسطس قيصر (2) 270. اصطيخور (3) 383- 384- 424 (4) 23. أبو الأصغر (4) 407. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 بني الأصغر (2) 48- 251. الأصغر بن أبي الحسن الثعلبي (4) 115. الاصمعي راوية العرب عبد الملك بن علي بن قريب. اصناك أب صنهاجة (6) 122. ابن اصناك (أبو محمد) (6) 367. ابن أبي اصيبعة (2) 270. الاصغير الثعلبي (4) 128. أضالية (غثيلية بنت عمري) (2) 118. ابن الاطامي (6) 340. اطحل سفيان الثوري سفيان بن سعيد بن مسروق. الأطروش بن الحسن بن علي القائم بن علي بن عمر (4) 143. الأطروش العلويّ الحسن بن علي بن الحسين. اطس (5) 577. اطغانش (2) 281. اطغير (2) 31- 86. اطغير بن رجيب (2) 45. اطلمش الارغوني (5) 533. اعاع ملك العمالقة (2) 109. الاعراب (3) 365- 404- 527 565 (4) 9- 10. الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة (2) 377. أبو سعد الاعز سابور بن المظفر سابور بن المظفر. أبو الاعز بن سعيد بن حمدان (3) 397 508. الأعزل بن موسي (6) 178. شمس الدين الأعسر (5) 473. بنو الأصغر بن تغلب (6) 94. الاعشي (1) 437- 803- (2) 57- 202- 328- 329 334- 362. اعشي همدان (3) 65. بني اعصر (3) 55. الأعصم ملك القرامطة أبو علي الحسن بن أحمد. أعظم ملك (5) 141. الإعلان (5) 5. الأعمش (1) 390. الأعور بن قطنة (2) 533. أبو الأعور السلمي (2) 519- 543 599- 602- 626- 627 629- 637- 641- (3) 15- (4) 238. الاعياص (6) 362- (7) 447. أعين مولى حيان (3) 145- 194. أعين بن ضبيعة (2) 644. اغاثوا بطرك اليعاقبة (2) 288. اغاليوس أول القياصرة (2) 229 236. اغدوي بن يكعتين الأكبر (7) 97. الأغر (3) 597- 601- 602. أبو الأغر السلمي (3) 478- (4) 387- 399. أبو المحاسن الأغر الدهستاني عبد الجليل الدهستاني. الأغر بن علي بن أبي الغارات (4) 276- 281. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 اغرديانوس قيصر (2) 253. اغرباس بن ارستبلوس (2) 157 158- 159- 160- 238 239. اغرتمش التركي (3) 391- 392 395- 398- 442- (4) 24- 434. اغريبوس (2) 243. اغريقش بن يونان (2) 219- 221. الاغريق الاغريقيون (2) 218 219. اغريوس اسقف يزناروا. اغصاوه (6) 281. اغلان بلاط (5) 610. بني الأغلب (الاغالبة) (1) 32- 33 218- 235- 332- 361 365- 369- 374- 430 464- (2) 20- (3) 351 454- 455- (4) 8- 12 16- 20- 45- 170 233- (6) 139- 149 173- 195- 196- 203 231- 606- (7) 13 596. الأغلب مولى مجاهد (4) 208. ابن الأغلب (4) 170. الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب (4) 249- 252- 253- 256. الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة بن سوادة التميمي (2) 377- (4) 242- 243- (7) 596. الأغلب بن سود التميمي (سوادة) (6) 147- (7) 16. أبو الأغلب بن أبي العباس (4) 257. الأغلب بن عبد الله بن الأغلب (غلبون) (4) 249. أغلبك الكوهرائيني (3) 629- 630. اغلمش (3) 658- 659. اغناطيوس بطرك انطاكية (2) 242. اغنياس (2) 233. الاغواط من زناتة (7) 32- 62. افتخار الدولة (5) 24- 26- 211. افتقلاص السلجوقي (5) 532. تاج الدولة افتكين (4) 91. افتكين مولى بني بوية (5) 500- (6) 9. نصير الدولة أفتكين (الفتكين) (3) 531- 532- 533- 542 (4) 62- 63- 64- 80 81- 82- 114- 316 317- 592- 616- (5) 34. أفد بن عبد الله بن عبد مناف (2) 411. افرائيم بن يوسف (2) 46- 128. أفراسياب بني أفراسياب (2) 102 184- 185- (7) 720 732. أفراسياب بن أشك بن رستم (2) 184. أفراسياب (فراسياب) (2) 187 188- 191. بني أفرائيم (1) 441- (2) 102 103- 105. الافرنج (1) 38- 44- 59- 68 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 91- 92- 104- 106 186- 204- 206- 292 312- 313- 315- 317 321- 338- 443- 444 446- 463- 481- 486 633- 730- 752- (2) 11- 12- 85- 218 223- 225- 234- 236 241- 245- 249- 277 278- 279- 280- 282 (3) 317- (4) 44- 49 81- 82- 83- 84- 85 86- 93- 94- 146 206- 208- 209- 216 222- 265- (4) 95 97- 98- 99- 122 148- 149- 155- 158 159- 160- 162- 163 164- 166- 174- 179 180- 181- 182- 184 226- 231- 232- 233 234- 235- 236- 240 258- 364- 365- 369 390- (5) 5- 24- 25 26- 31- 39- 40- 44 45- 46- 47- 48- 50 51- 52- 61- 63- 64 66- 67- 151- 173 174- 175- 176- 177 178- 179- 180- 181 182- 183- 184- 2185 186- 188- 189- 190 191- 192- 197- 204 210- 211- 212- 213 214- 215- 216- 217 218- 219- 221- 222 223- 224- 225- 226 227- 228- 229- 230 231- 232- 233- 234 235- 236- 237- 238 239- 240- 241- 242 243- 244- 245- 246 249- 250- 251- 252 253- 254- 255- 265 266- 267- 269- 270 272- 273- 274- 275 276- 277- 278- 281 282- 284- 285- 286 287- 289- 290- 291 292- 293- 294- 295 296- 297- 299- 300 301- 305- 307- 318 327- 328- 329- 330 331- 332- 333- 334 335- 336- 338- 340 342- 343- 344- 346 348- 351- 352- 353 354- 357- 358- 359 360- 361- 362- 363 364- 365- 366- 367 368- 369- 370- 371 372- 373- 374- 375 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 376- 377- 380- 381 382- 384- 387- 388 395- 397- 399- 400 401- 405- 406- 407 408- 412- 413- 414 415- 416- 417- 418 423- 431- 433- 438 442- 444- 445- 446 449- 451- 457- 458 460- 462- 463- 465 477- 483- 500- 518 519- 577- 604- 614 (6) 9) 123- 140- 141 152- 213- 424- 425 426- 428- 429- 578 579- 591- 604- 614 (7) 10- 11- 12- 433 691- 692- 705- 723 732. الافرنسيس (الفرنسيس) (5) 376 246- 247. افروال بن سيامك (2) 182. أفريدون (2) 7- 99- 183 184- 191- 220- 221. أفريدون بن فرتبريز (5) 159. أفريقش بن ابرهة (2) 58- 65. أفريقش بن شمر (2) 66. أفريقش بن ضبيع (6) 16. أفريقش بن قيس بن صيغي (1) 16 (2) 59- 67- 102- 292- (6) 117- 122 123- 127- 140- 195. الافشين مولى المعتصم (3) 107 323- 324- 325- 326 327- 328- 329- 330 331- 334- 335- 336 338- 362- 482- (4) 550. افص (2) 305. بنو أفصى بن حارثة بن عمرو (2) 302. افصي بن عامر بن قمعة (2) 302 374. الأفضل بن بدر الجمالي (الأفضل بن عبد الله بدر الجمالي) (4) 81- 82 83- 84- 85- 86- 87 89- 130- (5) 26- 47 211- 212- 215- 216 217- 219- 222- 224 229. الملك الأفضل علي بن صلاح الدين بن شميشاط. الأفضل بن العادل (5) 258- 425 438. الأفضل بن المؤيد صاحب حماة (5) 491- 502- 507- (6) 12. أفضل الدين الخونجي (1) 647. بني الأفطس (2) 329- (6) 314. ابن الأفطس أبو محمد عبد الله بن مسلمة التجيبي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 افظر بن انطيخوس (2) 139- 140. بني الأفعى (2) 304- 493. افعي نجران (2) 356. افكزاز من السودان (6) 266. افكل بن عمرو بن مالك (2) 305. أفلاطون (1) 616- 632- 639 709- 710- (2) 197 222. افلح بن عبد الوهاب بن رستم (4) 253. افلوديس قيصر (2) 176- 239. افنين بن نير بن افيل (2) 109. افيا بن رحبعم (2) 116. افيثار بن احيلح (2) 110. افيداع (2) 41. افيلو الحكيم (2) 158. افيمامك (2) 11. افيند (2) 110. اقاويدوش قيصر (2) 247. اقباش التركي (4) 133. الاقباط القبط. إقبال الخاتوني (5) 411- 414. إقبال مولى ابن البريدي (3) 501 626- 627- 629- 631 (5) 72- 73. اقتفان الاحمدي (5) 520- 521. اقتمر الالقني (5) 526. اقتمر الخليلي (5) 528. اقتمر الصاحبي الحلي (الحنبلي) (5) 524- 526- 529- 530. اقتمر العثماني (5) 533. اقرش (5) 134. الأقرع بن حابس (2) 466- 470 493- 500- 511- 579. اقرير بن قاريوس (2) 249. اقريطش (3) 375. الاقسيس (5) 25. اقصر (5) 430. سيف الدين اقطاي (5) 490- 491. (فارس الدين) اقطاي الجامدار (5) 418- 420- 421- 431 432- 433- 434- 435 439- (7) 693. علاء الدين اقطوان الساقي (5) 453. 454. اقطونيس (انطونيش قسطس) (2) 244. اقفاقس بن انطيوخس (2) 226. اقفسخ (2) 179. اقليمنطس تلميذ بطرس أحد الحواريين (1) 290- (2) 174. اقليوس (2) 196. الأمير اقناس (اقباش) (5) 316 398. جمال الدين اقوش الأشرف (5) 484 485- 487- 488- 454 455. جمال الدين اقوش الأفرم (5) 471 473- 476- 479- 484 485- 488- 490- 499 502- (6) 12. شمس الدين اقوش البرلي (5) 440 443. اقوش الموصلي (5) 467- 470. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 اقيال الخادم (4) 372. اكتبيان (2) 234. أكثم بن صيفي (2) 375. الأكراد (1) 88- 152- 181 334- (2) 561- 567 568- 577- (3) 31 64- 81- 151- 200 253- 254- 334- 365 368- 398- 399- 410 411- 423- 436- 444 445- 480- 481- 483 484- 509- 513- 514 543- 546- 550- 551 552- 555- 562- 564 565- 578- 603- 612 618- 646- 647- 649 (4) 24- 290- 316 319- 321- 325- 326 330- 331- 332- 334 335- 354- 365- 366 407- 408- 410- 411 412- 416- 417- 451 480- 497- 498- 570 572- 600- 601- 602 604- 618- 619- 624 629- 630- 637- 645 650- 655- 656- 665 667- 669- 671- 672 673- 684- 685- 686 687- 689- 690- 691 692- 693- 694- 696- (5) 6- 8- 10- 36 40- 43- 53- 54- 61 89- 91- 97- 134 200- 205- 216- 249 250- 270- 271- 272 309- 349- 372- 385 386- 389- 390- 424 436- 443- 496- 575 580- 602- (6) 4 493- (7) 274. الأكراد الجوزقان (5) 168- 594. الأكراد الحميدية (3) 537. الأكراد الداودية (5) 306- 327. الأكراد الفراسيلية (5) 632. الأكراد الهدبانية (3) 558- (4) 289. الأكراد الهكارية (5) 161- 309. 355. الأكراد اليارقية (5) 632. اكريكش (1) 207. اكسر السلطان (6) 40. اكطاي (5) 138. ابن الاكفاني (1) 30- (3) 547. اكليمس بطرك رومة (2) 179. ابن اكماز (ابن الكمازير) الهنتاتي (6) 389- 461- (7) 133- 134. أكمل الدين ابن شيخ الحنفية (1) 426. اكنجي (5) 23- 24- 76- 106. اكوزة (اكورة) من لواته (6) 119 153. أكيدر بن عبد الملك بن السكون (2) 267- 297- 468- 512. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 الاق الشعبانيّ (5) 534- 535. الاكيوس ارفيون (2) 248. الان محمود (5) 629. الاهو ليرون نيروش (2) 156. آلب أرسلان بن داود (2) 276- 277 (3) 578- 579- 581 582- 583- 589- 591 597- (4) 129- 130 351- 499- 505- 508 514- 651- (5) 6- 15 16- 22- 25- 26- 29 94- 169- 173- 178 182- 188- 204- 252 253. ألب ارسلان بن السبع الأحمر (3) 605. ألب أرسلان ابن السلطان محمود الملقب الخفاجي (5) 279- 280 292. ألب غازي (4) 532- 533 534- 534- 535. فارس الدين البكي (5) 390- 474 475- 476. البكي بن برسق (3) 599- 602 (5) 30. البكي الظاهري (5) 619. ألبي بن ارسلان قاش (تاش) (5) 174- 175. ألبي بن تمرتاش (5) 256. التكين (التكير) (4) 514- 515 (5) 6. ألديك صاحب الأندلس (2) 280. ألزاعا بن مدين بن إبراهيم (2) 43 49. ألظيرو بن كلوبطره (2) 143. العازر بن خونيا (2) 226- 227. العازر بن عناني (2) 159- 160 162- 163. العازر بن هارون (العيزار) (2) 98 102- 106. العازر الكوهن (2) 138- 147. ألغايش (2) 227. ألغنش (ألفس) (4) 204- 205 214- 215- 219- 221 222- 230- 231- (6) 337. ألفنس بن شطرنش بن أيوب (2) 232. ألفنس السادس (7) 271. ألفنس غالس (7) 433. ألفنس بيرس (بيرش- تبرس) (7) 316- 329. الألفي نائب صفد (5) 471. ألكسندروس (الفردروس) (4) 343. الكيا الهرّاسي مدرّس النظامية (3) 603 609. الماريس (2) 120. الألمان (5) 185- 186- 376 387- 388. بني الياس (4) 587. الياس بك (5) 635. الياس بن إسحاق (4) 442. الياس بن أسد بن سامان (3) 389- (4) 432. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 الياس بن الياس (4) 458. الياس بن بغا (2) 130. الياس بن حبيب بن عبد الرحمن بن حبيب (4) 240- 241- (6) 146 150. الياس بن أبي القاسم سمكو بن واسول بن مصلان (6) 172. الياس بن سين (2) 129. الياس بن شوياق (2) 117. الياس بن صالح بن طريف (6) 277. الياس بن أبي علي بن الياس (4) 586. الياس بن منصور (4) 388. الياس مضر (1) 20- (2) 362- (6) 125. ابن اليافا (2) 128. الياقيم بن يوشا (2) 122- 123. اليانوس بن قسطنطين (2) 205. ابن التين (1) 560. أليسع (2) 130- 131- (3) 454 455- (4) 443. أليسع بن أخطوب (2) 129. أليسع بن الياس (4) 458. اليسع بن شوبوات (2) 117. أليسع بن أبي علي بن الياس (4) 586 587. أليسع النبي (2) 119. (أبو منصور) اليسع بن أبي القاسم سمكو بن واسول بن مصلان (6) 173. أليسع بن المنتصر (6) 173. اليشا (2) 12. اليشار (4) 483. أليشع من آل مدرار (1) 28- (3) 453- (4) 42- 44. اليفاز بن عيصو (2) 47- 233. أليون ابن اليون (3) 168- 290 319- (5) 210- 346 368- 395. أليون بن بسيل (2) 274. أماجور (ماجور) بن اولغ بن طرخان (3) 396- 421- 422- 423 426. امادين من بطون المصامدة (6) 299. اماش (داموس) (2) 232- 233. الامام بن جعفر الصادق (3) 352. الامام الشافعيّ (4) 99- (5) 244 246. الامام المعصوم (1) 286. امام الدين بن سعد الدين القزويني (5) 476. بني امامة (6) 125. امامة بنت أبي العاص بن ربيعة. الإمامية (4) 3. امانيق بطرك الاسكندرية (2) 243. أمة جاسم (2) 8. امة الكريم بنت عبد الله (3) 246. امة الواحد (امة الواحدة) (6) 513. امتاي الكوهن (2) 164. الأمجد بهرام بن فرخ شاه. الأمجد حسام الدين (5) 420. الأمجد بن الناصر داود (5) 442. امراقيل نمرود. امرغو (2) 242. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 امرؤ القيس (1) 60- 68- 289 306- 381- (4) 283 284- (5) 223- (6) 265) (7) 620. امرؤ القيس بن حجر (1) 803- (2) 296- 322- 327- 329. امرؤ القيس بن حرام (2) 296. بنو امرؤ القيس بن زيد مناة (2) 376 (3) 190. امرؤ القيس بن عدي (2) 206. امرؤ القيس بن عمرو (2) 213 321- 322. امرؤ القيس بن النعمان الأكبر (2) 321 322. امصياهو بن شريال (اوصيا ملك يهوذا) (2) 119- 131. املقا (2) 234. بني الاملوك (2) 290. الاملوك بن ذي المنار مالك بن ابرهة. أمهم بن عدنان (2) 355. اموص النبي (2) 120. امون بن داود (2) 111. امون بن سنجاريف (2) 122. امون بن منشا (منسي) (2) 167. بني أمية (الامويون) (1) 25- 28 191- 195- 196- 197 205- 218- 222- 227 230- 235- 257- 258 260- 263- 265- 270 271- 274- 277- 284 296- 298- 304- 312- 314- 315- 320- 324 329- 351- 359- 361 365- 369- 371- 374 418- 419- 463- 471 504- 528- 798- 804 (2) 19- 20- 271 360- 381- 409- 420 596- 597- 600- 603 604- 607- 621- 643 651- 652- (3) 3- 4 5- 33- 69- 133 145- 146- 149- 150 157- 160- 162- 165 166- 168- 178- 214 216- 217- 294- 302 316- 345- 351- (4) 3- 4- 7- 17- 47 49- 57- 72- 142 146- 151- 153- 173 185- 189- 192- 193 194- 201- 232- 240 287- (5) 388- 427 475- (6) 2- 5- 23 104- 145- 149- 150 160- 206- 207- 277 278- 425- (7) 12 13- 16- 33- 36 102- 249- 285- 598 618- 721- 723. بنو أمية الأصغر (2) 390. أمية بن إسحاق (4) 177- 179. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة (2) 388 429- 437. أمية بن خلف بن مصعب من بني مذجح (2) 387- 413- 421 424- 429. أمية بن زيد بن قيس بن عامر (2) 342 346- 418- 420. أمية بن أبي الصلت الشقيّ (1) 128 642- (2) 407. أمية بن عائذ بن عبد الله (2) 388. أمية بن عبد الرحمن (4) 161. بني أمية بن عبد شمس (2) 292 390. أمية بن عبد الغفار (7) 504. أمية بن عبد الله المغافر بن أبي عبيدة (4) 171- 172- 176. أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد (3) 52- 58- 59- 172 173. أمية بن عمر (3) 43. أمية بن معاوية (3) 207. أبو أمية الثعلبي (التغلبي) (3) 220. أمير بن أحمد اليشكري (2) 577 578- 579. الأمير بن الرقعة (4) 96. الأمير بن قوام الدولة (4) 96. أمير بن قيس (3) 70. الأمير بن مضيال (مصّال) (4) 91 92- 93. أمير آخر (3) 659. شرف الدين أمير أميران (5) 349. نصير الدين أمير أميران (5) 287 290- 306. أميران بن قيصر صاحب الطالقان (5) 120- 121. (الصالح المنصور) أمير حاج بن مغلطاي (5) 533- 537- 539 547- 554- 558- 559. أمير حسين (5) 510. أمير وان (4) 538. أمير شكار سونج المولي. أمير شيخ الخاجكي (أبو إسحاق) (5) 570- 629. أمير علم (3) 656. أمير علي المنصور ابن السلطان (5) 524 525- 528- 529- 530. ابن اميركان (4) 556. أمير ملك (4) 547- (5) 124 125- 138- 141. أميم بن إبراهيم (2) 43. أميم بن لاوذ بن ارم (2) 9- 18 22- 31- 181. الأمين محمد بن زبيدة (محمد بن هارون الرشيد) . أمين بن أحمد اليشكري (2) 13. (تاج رؤساء الرئاسة) أمين الدولة بن موصلايا (أبو سعد) (3) 600 603- 606. أمين الدين أبو بكر (5) 123- 124 322- 323. أمين الملك (5) 141- 142. امينة بنت خلف (2) 454. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 اناجور (اماجور) (3) 354- (4) 384- 385- 386- 387. أبو القاسم انوجور (4) 405. اناش من عقب بريامش (2) 232. ابن الانباري (1) 758- (3) 629 (4) 373- 413. الانبردور (5) 442. انبقا الجوهري (5) 550- 552. انبقا الصفدي (5) 554. انبك مطيش (5) 390. انبيا داف بن طالوت (2) 109. انبيل بن املقا (2) 234- 235. انتصار بن يحيي المصمودي (زين الدولة) (3) 586- (4) 80. بنو انتناش (2) 220. انتيفت من هسكورة (6) 271- 272. أنج قائد الأمير نوح بن منصور (4) 509. إنجاح الملك (5) 509. الإنجاز (الابخاز) (4) 674. انجفة من صنهاجة (6) 202. انجكداي (5) 601. انجي بن اردنو (5) 611. اندارة (انداوة) (6) 119- 183. اندبال بن جيبال (4) 477- 479. اندراسكون بطرك اليعاقبة في اسكندرية (2) 264. اندراوس (2) 172- 173- 174. الاندرزغر (2) 509. اندريانوس (طريانوس قيصر) (2) 242- 243. الاندلسي ابن الاندلسي (6) 207 394. انذوقس (اندرونقش) (3) 446. الأمير انز (انسز) خوارزم شاه خراسان (3) 596- 615- (4) 119- (5) 7- 8- 14- 17- 19 21- 23- 24- 25- 27 32- 57- 107- 108. معين الدين انز مملوك طغتكين (5) 182 183- 184- 185- 186 272- 274- 276- 277 281- 283. مجير الدين انز بن محمد بن بوري بن طغركين (5) 281- 285. انز بن نظام الملك (5) 106. انز الأصبهاني (5) 439. انس والد برقوق (5) 538- 539. أبو المعالي أنس (7) 649. انس بن أبي أناس بن ربين (3) 11. أبو الحسير (الجيش) أنس بن رافع (2) 416. انس بن عمر الازدي (3) 124. انس بن مالك (أبو حمزة) (1) 270 388- 398- 401- 728 733- 755- 823- 824 (2) 502- 549- 552 596- (3) 11- 51. انس بن هلال (2) 523. انسطانيوس (انشطانيوس) (2) 263 264. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 انشاه أخو اولاغ شاه (5) 138. الأنصار (1) 444- (2) 50. نصير الدولة أنصار بن يحيي (5) 7. انطرك (2) 281. انطريس بن فلديغيش (2) 224. انطريطس (2) 234. انطريوس (2) 229. انطقنوس بن ارستبلوس (2) 142 146- 148- 150- 151 152. انطونيش بن اندريابونس (انطونيوس) (2) 243- 245. انطوينوس الأصغر (اوراليانوس اورالش) (2) 243- 244. انطونيوس (انطيوس) زوج كلا بطرة (2) 150- 225- 237. انطونيوس البطرك (2) 243. انطيانوس (2) 151- 153- 154. انطيخوس (5) 447. انطيخوس افظز (دمتريوس) (2) 139 140- 141- 142- 143 198- 227. انطيفس بن هيردوس (2) 158- 169. انطيوخوس (2) 138- 226- 227. انظفتر أبو هيردوس (انتيباتر) (2) 144 145- 146- 147- 148 149- 150- 156- 157. الانقلوس ابن أخت قيطش (2) 12. أنكر (5) 427- 584. انكلاي بن الخبيث (ابكلاي) (3) 398- 403- 405- 406 407- 409- (4) 25- 26. انكيثاغورس (2) 222. أنمار (2) 36- 286- 356 357- 614. أنمار بن أراش (2) 301. أنمار بن نزار بن معد (2) 44- 301. انوجور (4) 298. أنور بن أبي بكر اللمتوني (4) 209 (6) 325. انوريش (2) 256- 257. انوش (2) 182. بني انوشتكين (5) 106. انوشتكين الباغي (4) 503. انوشتكين الدريدي (البربري) (4) 347. انوشتكين غرشة (5) 106. انوشتكين الوزيري (الزريري) (3) 511- (4) 75- 76. انوشجان (2) 508. انوشروان (1) 49- 51- 471- (2) 208- 211- 316- 317 322- 323- 326- 328 (3) 345- (4) 637. (شرف الدين) انوشروان بن خالد (5) 57- 65- 66- 71- 74 264. انوشروان بن قباد بن فيروز (2) 209. انوشروان بن منوجهر بن قابوس (3) 560- (4) 665. انوغة (6) 203. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 انوغري التركي (شملة) (5) 82. انوق بن حمدان (4) 283. انوك بن الملك الناصر المنصور بن الناصر. انّوت (2) 240. ابن انيال (5) 571. انيال الاتابك (5) 533- 534 535- 540- 541- 557 558- 566- 569- 580. انيال خان (5) 587. انيال الصغير (5) 566. انيال الطويل (4) 70. انيال اليوسفي (5) 548- 551 556- 561. انيثاون قائد كلوبطرة (2) 154. انيداع بن مدين بن إبراهيم (2) 49. أنيس بن عمرو الاسلمي (3) 26. انيسة بنت الحرث بن عبد العزي (2) 367. انيسة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) 347. انيش (4) 177. اهاص بن عصفراهن (6) 164. اهروشيوش (هروشيوش) (2) 12 14- 48- 81- 83 101- 103- 104- 105 120- 123- 124- 218 220- 221- 224- 225 226- 232- 233- 234 235- 236- 238- 239 240- 241- 242- 243 244- 245- 246- 247- 248- 249- 250- 253 254- 256- 258- 259 261- 264- 265- 283 290. اهليقيا بنت عنا (2) 47. ابن أبي الأهوازي (4) 306. أهودوزاد زاد بيهس (2) 535. اوباست بن تيطاسن بن غرسن (6) 196. اوبل مرود (2) 82. اوبولي بنت تيكي (5) 596. اوترخان (5) 165- 166- 167 593. اوتكين نوي (5) 596. الأوحد بن تميم (4) 95. الأوحد نجم الدين أيوب أيوب بن العادل بن أيوب. أوحد الدين بن ياسين (5) 539. بني أود (3) 161. اورات (5) 595. اورب بن برنس (6) 192. اوربة (4) 15- 17- 18- 20 (6) 116- 133- 136 142- 157- 165- 192 193- 194- 195- 283 (7) 13- 33- 253- 310. اورخان بن عثمان جق (5) 623- 636. قبائل اورس (7) 727. اورليان بن بلنسيان (2) 248. اورليانوس (اورالش- انطونيوس الأصغر) (2) 243- 246 247. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 اورغ بن علي بن هشام (6) 154. أوريا بن شعيا النبي (2) 123. اوريغ من هوارة (6) 183- 270. اوريغ بن برنس (6) 117- 119. اوريغة (6) 117- 118. الأوزاعي (2) 291. الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو. اوزال (2) 11. الأوس (1) 18- (2) 19- 54 63- 66- 287- 289 300- 302- 340- 341 342- 343- 344- 345 346- 347- 348- 349 350- 400- 417- 418 419- 424- 430- 433 434- 435- 443- 488 (6) 3- 16- (4) 136. أوس بن ثابت (2) 423. أوس بن حمير بن سبإ (2) 290. أوس بن قلام العمليقي (2) 313 321- 322. أوس بن قيظي (2) 424. أوس بن مزينة (2) 378. اوسابيوس القيسراني (2) 268. اوسانيوس بطرك القسطنطينية (2) 177 178- 252. بني اوسلة (2) 300. اوسمان بهلوان (5) 164. اوسير بن ليون (5) 493. اوشهنك بن عابر بن شالخ (2) 182. اوشهنك بيشداد (2) 182. اوشيح بن ارفخشذ بن سام بن نوح (2) 36. اوشين بن ليون (اوشي بن ليون) (5) 636- 482. بني أوطاس (7) 228. اوطيطة (أوطيعة) (6) 119- 183. أرغلي بن يلبكي (5) 58. اوغسطس (2) 226- 227. اوغسطس بن مونوجس (2) 229. اوغسطس بولس (2) 225. اوغسطس قيصر أول ملوك القياصرة (كينانوس) (1) 289- (2) 150- 151- 153- 154 156- 157- 158- 171 237- 270. اوغلي (5) 430. اوغمرت (غمرت) (7) 67. أوفى بن حسين (2) 14. اوق (3) 277. اوقليدوس (1) 515- 632- 639. ابن اوقيان (6) 464. اوكتة بن ورصطف بن يحيي (6) 120 170. اوكداي (اوكتاي) بن جنكزخان (5) 596- 598- 599- 613 (7) 739. اولاغ شاه (قطب الدين) (5) 130 133- 137- 138. اولاكو من أمراء المغل (5) 202 617- 633. أوليان بن بلنسيان (وليوش) (2) 247. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 اومانيوس (2) 177- 178. اومار بن اليغاز (2) 47. اوماش (6) 422- (7) 208. الاومر بن عدي بن جبلة (2) 308. ابن اومغار (6) 468. اوميروس (1) 805. بني أويس (5) 625- 629. أويس ابن الشيخ حسن (5) 624 629. أويس بن حنظلة (2) 377. آل أويس بن أبي سرح (3) 240. اويل مروماخ (2) 125. ركن الدين اياجي بن قرقش (5) 458 606. اياد (1) 162- 525- 765- (2) 18- 44- 61- 63 205- 206- 284- 285 310- 319- 326- 328 356- 357- 362- 368 396- 512- 513- 542 545- (4) 287. اياد بن إبراهيم (3) 252. اياد بن نزار (2) 396- 546. الأمير أياز (3) 396- 546. الأمير أياز (3) 596- 599- 600 601- 602- 605- 607 608- 609- 610- (4) 359- (5) 6- 29- 30 31- 33- 34- 38- 40 41- 42- 43- 50- 217. أياز بن ألب ارسلان (4) 514. أياز بن أبي الغازي (5) 50- 51- 52- 177- 223- 225 251- 252. سيف الدين أياز كوش (5) 389 390. اياس (5) 258. اياس بن ألب ارسلان (3) 580 583- 584. اياس بن عبد الله بن أليل (2) 366. اياس بن عبد الله بن عمرو (3) 74 80. اياس بن قبيصة الطائي (2) 213 214- 305- 306- 318 319- 320- 321- 324 325- 509- 512- (5) 501- (6) 10. اياس بن معاذ (2) 416. اياس بن معاوية بن قرة (3) 174 177. اياس الحاجب (5) 512. اياس الناصر (5) 511. اياكي بن برسق (5) 50. أيان بن تيطاسن بن غرسن (6) 196. ايبقا (5) 561. ايبقا الجلب (5) 561. ايبقا الجوهري ابغا الجوهري. ايبقا دوادار (5) 570. ايبقا الصغير (5) 553. العزايبك (5) 419- 431- 432 433- 435- 485- 500 532- 538- 541- 577. قطب الدين ايبك (4) 525- 528 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 529- 531- 535- 536 537- 545- 546- 548 (5) 197. ايبك الأسمر (5) 413. عز الدين ايبك الافرم الصالحي أمير جندار (5) 160- 161- 409 433- 434- 435- 453 455- 456- 457- 461 468- 469. ايبك البدري (5) 521- 522 528- 529- 530- 531. ايبك بن المعز (5) 439. عز الدين ايبك التركماني (5) 418 420- 421- 431- (7) 693- 695- 696. ايبك الجامدار (5) 473. ايبك خان (5) 609. عز الدين ايبك خزندار (الخازندار) (5) 464- 469- 473. عز الدين ايبك الحموي (5) 469 471. عز الدين ايبك الحميدي (5) 465. ايبك الدوادار (3) 662- 666- (5) 614. ايبك الغزي (5) 531. فخر الدين ايبك الموصلي (5) 469. عز الدين ايبك مولى الأشرف (5) 319 432- 435. ايبك اليوسفي (5) 532. ابتاخ اتياخ (3) 324- 327 328- 329- 331- 334- 335- 337- 338- 341 342- 348- 358- (4) 381- 382- (5) 85. اتياق (5) 87- 88- 91- 95 96. اتيامار بن هارون (2) 104. علاء الدين اتيامش أخو يزدن (تيامش) (3) 650- 651- 652. اتيش (5) 142- 143. اتيكين الحلبي صاحب بصري (5) 173. اتيكين السليماني (3) 579- 583. أيتمش (5) 550- 551- 567. الأمير سيف الدين أيتمش بن عبد الله الاستدمري البخاشي الجرجاني (5) 566- (7) 699- 714. شمس الدين أيتمش (5) 163. سيف الدين أيتمش المحمدي (5) 494. آيدغدي (5) 491. آيدغدي البابلي (5) 483. آيدغدي التركماني (شملة) (3) 638 639- 642- 643- 645 647- 651- 652- 654. آيدغدي الحراني (5) 455. آيدغدي الخوارزمي (5) 483. علاء الدين آيدغدي الشهرزوريّ (5) 472- 482- 483. علاء الدين آيدغدي العزيزي (5) 434 445. شمس الدين ايدغمش (3) 656 657- 658- (5) 102 103- 155- 496- 508. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 ايدغمش ارسلان (5) 200. ايدغمش الفخري (5) 509. ايدغمش الناصري (5) 509. ايدكار بن عبد الله العمري (سيف الدولة) (7) 699. ايدكاز (ايكان) (5) 550- 551 573. ايدكز الشرفي (4) 543. علاء الدين ايدكز الفخري (5) 454. ايدكين مملوك شهاب الدين (4) 545 546. علاء الدين ايدكين البندقداري (5) 439- 440- 443. ايدكين الفخري (5) 455. ايدمر (5) 529. بدر الدين ايدمر (5) 443. عز الدين ايدمر (5) 443. ايدمر الحجازي (5) 510. عز الدين ايدمر الحلي (5) 439 445- 447- 506. ايدمر الدوادار (5) 517. عز الدين ايدمر السيفي (5) 461. ايدمر الشمسي (5) 531. عز الدين ايدمر الظاهري (5) 443 454- 455. ايدمر القرّي (5) 525. ايدمر القنائي (5) 531. ايدمر الكرخي (5) 490. ايدمر الكوكبي (5) 495. إيران (2) 9. إيران بن اشور (4) 548. إيران بن أفريدون (2) . إيران شاه بن قاروت بك (5) 25. ايرج بن أفريدون (2) 184. ايرياطش بن فلوماطر (2) 224- 225. ايزم بن عبد الله (6) 356. ايزمن (6) 278. ايشا (2) 109. الايشاءيين (2) 220. إيشاع زوج زكريا بن يوحنا (2) 168 169- 171. ايشاى (2) 218. ايشلوم بن داود (2) 111. ايشوع يسوع المسيح. الايطاليين (2) 218. الأمير ايفان طائسي (بفان طابش) (5) 144- 147. ايفانش بن فلوباذي (2) 224. أيقه (2) 283. ايكجي بهلوان (5) 139. ايل بهادر (5) 607. ايلان أب هيلانة (6) 122. ايلانة هيلانة. ايلة (2) 282. ايلدكز صاحب كنجة وأرانية (الاتابك شمس الدين) (3) 636- 642 643- 644- 645- 647 653- (5) 85- 86- 87 92- 93- 95- 97- 99 112- 149- 150- 288 295. ايلغازي بن ارتق (أبو الغازي بن ارتق) (4) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 83- 121- 359- 360 364- 368- (5) 26 28- 29- 31- 37- 38 39- 40- 41- 46- 48 50- 51- 59- 171 174- 175- 177- 178 179- 204- 211- 225 226- 227- 228- 248 249- 250- 251- 252 253- 254- 255. ايلك خان (4) 466- 468- 469 473- 474- 475- 476 478- 479- 480- 483 484- 492- 509- 510 511- 512- (5) 160. ايلون من سبط زبولون (2) 105. إيليا النبي (2) 117- 118- 129 130- 171- 172. إيليا بطرك المقدس (2) 259- 260. إيليا بن اعشا (2) 128. ايليت (7) 85. ايمازتمر (5) 561- 562- 566 569. أيمن الأسود (4) 388. أيمن ابن أم أيمن (2) 465. ايموري (2) 12. ايمين (2) 86. اينانج (صاحب الري) ابن البهلوان (3) 642- 644- 645- 653 655- (5) 101. اينانج تيفو (3) 580- (5) 86- 87- 92- 93- 97- 98 128- 132- 139- 140. اينانج خان (5) 587- 591. الأيهم بن جبلة بن الحرث (2) 333 335. ايهوذ بن كار من سبط أفرائيم (2) 103. ايواني أمير الكرج (5) 150- 156. الايوانية (5) 103. أيوب عليه السلام من بني عيصو (2) 46- (3) 77. بني أيوب (2) 22- 101- 213 (3) 650- 655- 663 664- (4) 140- 276 277- 279- (5) 147 197- 198- 208- 209 230- 246- 292- 324 326- 336- 388- 396 402- 407- 409- 410 411- 419- 420- 421 423- 425- 427- 431 432- 433- 437- 439 442- 444- 489- 490 500- 501- 543- 577 693- 725- (6) 11- (7) 361- 666- 691. عماد الدين أيوب (5) 465. أبو أيوب الأنصاري (2) 270- 273 348- 423- 596- 610 639- 640- 648- (3) 12- 230. أيوب بن يزيد (3) 81. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي (3) 365- (4) 287. أيوب بن حبيب اللخمي (4) 148 149. أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي (3) 356. أيوب بن حيان (الغلام) (3) 411. أيوب بن أبي سمير (3) 289. (نجم الدين) أيوب بن شادي بن مروان (5) 268- 281- 287 289- 327. أيوب بن شرحبيل بن أكرم بن ابرهة بن الصباح (4) 379. الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب (5) 207- 208. الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل (3) 625- 649- (4) 101- 393- (5) 69 169- 292- 294- 296 298- 314- 324- 327- 334- 335- 336- 392 394- 408- 410- 412 413- 414- 415- 416 417- 429- 431- 432 439- 454- 615- (5) 279- (7) 691- 692. أيوب بن المعز (4) 266. (أبو يزيد) أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار (4) 51- 105- (6) 117- 124- (7) 3- 14 15- 17- 18- 19- 20 21- 22- 35. المنصور أيوب بن المظفر يوسف (5) 579- 580. أيوب الزويلي (4) 50. أيوب الصديق (1) 290- (2) 174. أبو أيوب المالكي (2) 543. الايوبية (5) 101. ايوفير (2) 11. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 حرف الباء (ب) بابا ملك الارمانيين أنباط الشام (2) 200 بني بابان (بابان) (6) 535- 539. بني بابك (3) 327. بابك بن ساسان الأصغر (2) 200. بابك الخرمي (3) 318- 319 322- 323- 324- 325 326- 327- 331- 334 335. أم بابك (3) 326. بابكيال (باك باك) (3) 365- 366 368- 371- 373- 376 379- 380- (4) 383. بابليون (2) 54. بني بابير (7) 148- 149. باتي بن سعيد (4) 663. بني باجدي (6) 307. الباجربقي (1) 426. الباجويين (1) 74. ابن الباجي بني الباجي (7) 253 507. باحال بنت واطاس بن محمد بن مجدل (6) 126. باد (أبو شجاع) (3) 537- 538 545. باد الارمني (5) 271. باد الكردي (4) 605- 606. بني باداسن (6) 367- 368- 370. باذان عامل كسرى (4) 267. بني باوح (6) 27. نجم الدين البادر (5) 433. السعيد بادس (باس) من موالي الأفضل (4) 89. بادغ (فادغ) من بني علي (6) 214. بني باديس باديس (5) 233- (6) 153- 179- 211- 217 220- 224- 232- 234 253- 466- 613- (7) 44- 45- 67. باديس بن بكلين (6) 202- 227 228- (7) 205. المظفر باديس بن حبوس (4) 191 196- 199- 200- 203 205- 239- 240. باديس بن زيري الصنهاجي أخو بكلين (4) 127. باديس بن ماكسن بن زيري (4) 203. باديس بن المنصور بن بكلين (1) 361 (6) 23- 162- 169 208- 209- 210- 238 (7) 53- 54- 55- 56 59- 60. باذام (باذان) نائب كسرى باليمن (2) 76- 452- 481- 571. باذان ملك مروالروذ (3) 77. بني بازاز (بني فازان) (6) 140. بارخشان صاحب الديلم (4) 549. الوزير البارزي (2) 369- (4) 67. بارس الكبير (فارس) (3) 443. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 بارسطعان (بارسطغان- بادسطفان) (4) 639- 641- 642. بارق ملك أورشليم (2) 102- (5) 20. بارق بن بقراخان (4) 565. بارق بن أبي نوعم من سبط انفطالي البيدوق (2) 103. بارقطاش (5) 23- 106. شمس الخواص بارقياس (5) 178. باروح النبي (2) 123- (4) 299. باروق التركي (6) 9. باريدى (3) 479. ابن بازران (5) 382. البازداد (البازدان) (5) 93. البازر (2) 209. بازمار (مازيار) الخادم (بازمان) (بازيار) (3) 413- 420- 422 423- 430- (4) 392. بازمار (مازيار) مولى الفتح بن خاقان (3) 431- 440- 443- (4) 394- 396. باس الري ملك الهند (4) 506. باسل (2) 9. بني باسل بن ضبة بن اد (2) 379. بني أبي باسل بن أبي الضحاك بن أبي نزول (6) 176. الباسلاني (أبو الفضل) سعد الباسلاني. باسمت بنت إسماعيل (2) 47. باسوار بن ملك بن مسافر بن سلار (4) 570. الباسيان (3) 71. باصعكي (3) 558. الباطنية (1) 452- (4) 120 135- 667- (5) 32 33- 34- 80- 104 128- 130- 152. باطيس البطريق (3) 330. باطيط (4) 55. باغر (3) 358. باغي ارسلان بن محمد (5) 191 297. باغي سيان (باغسيان) (3) 578 595- (4) 82- (5) 24 27- 188- 210- 261. باغيسيان بن محمد بن ابه التركماني (5) 171- 172- 173. باغي يسار (5) 18- 20. باقح بن رصليا (2) 131. باكناك (1) 230. ابن باكيش (5) 551- 555 557- 559. بالبان (3) 505. البالقي (1) 813. بأمان بن داود (2) 111. جمال الدين بامو الحموي (5) 443. باميان بن بهاء الدين (5) 121. بان بولي من يصلاسن (6) 161. بانجين الديلميّ (4) 567. بانويه قهرمان باذان (2) 452- 453. باهلة (2) 362. باهوت صاحت مسلحة كسرى (2) 405. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 (المنتصر باللَّه) باهي (6) 174. باوداسيوس (2) 179. بني باورار (7) 137. ببارح (2) 11. البتاني (1) 643. البتر بنو مادغيس الأبتر (6) 117 118- 124- 125- 128 138- 143- 149- 152 155- 168- 182- 185 192- (7) 3- 12. بتويل بن ناحور بن آزر (2) 43. (الخاتون) بثالون (5) 607. بثر بن رعويل (2) 49. بثويل بن ناحور (2) 50. بثينة بنت حبابا صاحبة جميل بثينة (2) 296- (7) 712. بثينة بنت معاذ (2) 420. البجاة (4) 389- (7) 718. البجاوة (6) 265. بجاية (6) 192. بني بجدل (2) 297. بجكم (يحكم) (4) 565- 566 567- 568- 569- 570. بجير (4) 478. بجير بن دلجة (2) 619. بجير بن زهير بن أبي سلمي (2) 378. بجير بن زياد (3) 59. بجير بن ورقاء الصريمي (3) 47- 48 52- 53- 58- 59. بجيل عياض (2) 369. ابن بجيل (6) 222. بجيلة (1) 36- 163- 313- (2) 286- 301- 302- 356 493- 523- 532- 534 630- 631- 614- (3) 97- (6) 3. بحتر بن ثعل (2) 303. البحتري (1) 790- 801- 804 (3) 154. البحتري بن مجاهد مولى بني شيبان (3) 121. أبو البحتري الطائي (3) 63- 64. بني بحر أبو بحر (3) 22- (4) 280. أبو بحر بن العاص (1) 526. بحرة بن البرانس (4) 155. بني بحرو (6) 169. بحماس الطازي (5) 521- 522. بخاخدراسف (2) 191. البخاري (2) 2- 5- 21- 22 264- 265- 287. البختري بن أبي درهم (3) 107 108. بختمرس (2) 126. البخرجان (2) 558. بخت نصّر (1) 288- 442- (2) 19- 48- 50- 79- 80 85- 86- 87- 89 120- 122- 123- 124 125- 126- 134- 135 136- 167- 169- 188 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 189- 196- 201- 220 222- 242- 265- 283 284- 286- 291- 308 355- 356- (6) 127- (7) 4- 732- 733. بخت نصّر بن برزاد بن سنجاريف بن النمروذ (2) 80- 123. بخت نصّر الثاني (2) 196. بختي من ولد يعلي بن محمد أو يحيي (7) 60. بختيار (6) 9. أبو منصور بختيار بن علي (4) 601 607- 614- 618- 632 638- 640- 642- 676. عز الدولة بختيار بن معز الدولة (3) 528- 529- 530- 531 532- 533- 534- 535 556- (4) 58- 62 126- 127- 307- 308 312- 313- 314- 315 585- 586- 589- 590 591- 592- 593- 596 597- 662- (5) 83 500. بختيار بن مؤيد الدولة (4) 685. امرؤ القيس البدء بن عمرو الثالث (2) 321. بدر (4) 426. بدر الاعجمي (3) 448. بدر غلام الطائي (3) 429- 430. بدر مولى ابن طولون (4) 109. بدر مولى قرغويه (4) 306. بدر مولى المعتضد (3) 439- 440 441- 442- (4) 398. بدر بن اغمات بن المعتز (بدر بن لقمان) (6) 209. بدر بن جق (أبو طغج) (4) 397. (أبو النجم) بدر بن حسنوية (3) 534 543- 544- 546- (4) 601- 605- 609- 610 611- 618- 619- 621 622- 623- 624- 679 681- 685- 686- 687 688- 689- 690. بدر بن ربيعة (5) 500- (6) 9. بدر بن سالم (6) 155. بدر بن سرحان (6) 21. بدر بن سلام (5) 535- 536- 540. بدر بن ظاهر بن هلال بن بدر بن حسنوية (4) 693. بدر بن عائشة (6) 254- 326 327. بدر بن عبد الله الاخشيدي (بدير) (3) 501- 507- (4) 154 155- 176- 298- 403 405. بدر بن عبد الله الحمامي مولى ابن طولون (3) 443- 461- 462- 481 482- 483- 493- (4) 109- 396- 398- 400. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 بدر بن عدي (2) 362. بدر بن لقمان بن المعتز (6) 228- (7) 205. بدر بن مهلهل (3) 564- 568 575- 578- (4) 340 657- 696. بدر بن يعلى (6) 208. بدر الجبالي (بدر الجمالي) أمير الجيوش (4) 67- 78- 79- 80- 81 82- (5) 7- 8- 169. بدر الجواشيني (3) 510. بدر الخرشي (الحريشيّ) (بدر بن الحرسي) (3) 501- 519- (4) 568. بدر الشرابي (3) 483. بدر الصوابي (الصوافي) (5) 417 419- 421- 432. بدر الكبير (4) 437- 438. بدر الدين صاحب الموصل (5) 134. بدر الدين بن جماعة (5) 474- 476 480. بدر الدين بن فضل الله (5) 475 539- 562. بدر الدين بن موسى بن رحو (7) 498. بني بدران (5) 362. أبو النجم بدران (5) 12- 48. بدران بن صدقة (3) 609- (4) 363- 365- (5) 42- 49. بدران بن علي (4) 325. بدران بن محمد (6) 307. بدران بن المقلد (4) 326- 330 332- 346- 410. بدران بن مهلهل (4) 696. البدرانة (6) 109. بدرونة (4) 334. بدعات بن ذي عيل (2) 32. بدعيل بن بدعات (2) 34. بدلان الناصري (بدلار) (5) 534 550- 552- 554- 557 570. بدوان الأول (بغدوين) (4) 84 85- 86. بدولي كنجاب (5) 469. بدوي بن يعلى (يدوي- يدّو) بن محمد اليغرني (7) 24- 25- 27 28- 39- 40- 41- 42 47- 60. بدير (أبي مريم) (3) 196. ابن بديع رئيس حلب (5) 67 175- 178- 266. بديع ذو عيل (2) 34. بديع الزمان الهمذاني أحمد بن الحسين (1) 796. آل بديل (1) 421- (2) 9. أبو بديل (1) 420- (2) 30. بديل بن ورقاء الخزاعي (2) 457 459. بذلك (5) 607- 611. بر بن قيس بن عيلان (6) 117 124- 125- 127. البراء بن عازب (2) 434- 447 560. البراء بن قبيصة (3) 201. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 البراء بن مالك (2) 507- 551 552. البراء بن معرور (أبو بشر) (2) 347 418. برابرة الشام (2) 9. برابرة المغرب (1) 112. البراجم (2) 377. البرادعي (1) 732. الأمير برار صاحب الرها (3) 594 641. براز أحدى بطون الأثبج (6) 65. براز بن محمد المستوفي (6) 312- 314. البراض بن قيس بن دافع الكناني (2) 382. براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي (5) 599- 600- 601 608- 616. أبو إسحاق براق بن محمد المصمودي (6) 253. براق الحاجب (5) 143- 150 154. برام هرمز (3) 388. برامق برابق (5) 422- 436 437. البرامكة (1) 20- 21- 42 166- 169- 170- 224 230- 304- 350- 813 834- (3) 213- 338- (4) 9. البرانس (6) 117- 124- 128- 142- 144- 182- 185 190- 192- 193- 195 201- 278- 284- 612 (7) 3- 8. برباريوس بن تاوداسيوس (2) 255. بدر الدين بربدك (5) 438. البربر (البرابرة) (1) 9- 10- 16 30- 31- 32- 38- 40 42- 44- 60- 63- 70 72- 73- 75- 110 111- 151- 152- 183 195- 197- 202- 204 206- 207- 235- 278 285- 313- 321- 331 335- 338- 361- 365 374- 412- 446- 447 455- 459- 463- 464 481- 507- 528- 533 721- 740- 752- 770 776- 780- (2) 4- 8 9- 12- 17- 21- 23 43- 59- 66- 85 102- 122- 173- 235 254- 260- 281- 367 575- (3) 13- 173 177- 213- 255- 264 271- 351- 450- 486 (4) 8- 12- 14- 15 16- 17- 18- 20- 21 37- 42- 46- 48- 49 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 50- 51- 53- 55- 59 104- 105- 146- 147 150- 152- 144- 155 156- 157- 169- 174 178- 185- 186- 187 189- 190- 191- 192 193- 194- 195- 197 198- 203- 206- 232 233- 234- 235- 236 237- 238- 239- 240 241- 242- 243- 244 247- 248- 253- 265 (5) 231- 233- 234 428- 636- (6) 4- 6 16- 20- 21- 42- 43 48- 88- 89- 114 116- 117- 119- 120 122- 123- 124- 125 126- 129- 131- 133 134- 135- 137- 139 141- 142- 143- 144 145- 146- 147- 148 149- 151- 152- 153 156- 157- 158- 159 161- 162- 163- 164 166- 176- 180- 182 186- 190- 191- 192 194- 195- 200- 201 202- 203- 204- 206 210- 231- 232- 238- 239- 241- 247- 254 262- 263- 264- 266 275- 277- 280- 282 283- 285- 295- 297 304- 306- 378- 384 389- 415- 425- 543 560- 603- 604- 611 (7) 2- 3- 4- 5- 6 7- 8- 10- 11- 12 13- 14- 15- 16- 17 18- 20- 21- 27- 29 31- 34- 36- 37- 42 43- 52- 54- 61- 67 69- 70- 71- 72- 76 113- 158- 202- 208 242- 248- 250- 253 256- 268- 334- 363 375- 432- 559- 561 598- 638- 639- 649 718- 719- 720- 721 742. بربر بن تملا بن مارب بن قاران بن عمر (6) 123. بربر بن كسلاجيم بن مسراييم بن حام (6) 123. بربر سحو بن ابزج بن جمواح بن ويل (برنس بن سفجو بن ابزج بن جناح بن واليل) (6) 124. بربطانوس (2) 244. البرتغال (4) 226. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 البرتقال صاحب لشبونة (اشبونة) (7) 346. مجاهد الدين برتقش (5) 311- 312 389- 391. برتقش بازدار (3) 626- 627 629- 631- (5) 73. برتقش الزكوي شحنة بغداد (3) 619 621- 622- 623- 627 629- (4) 368- 370 372- (5) 63- 64- 65 70- 72- 73. برتولوماوس (2) 172- 173. برج اغلا (5) 430. برجان (1) 59- (2) 12- 89 277. برجم بنو برجم التركمان (1) 812 (3) 659. ابن برجم التركماني (3) 658. البرجمان الهجيمي (2) 577. برجوان الخادم (4) 68- 69- 72. برجوان الصقلي (7) 54- 55. برخيا بن معد بن عدنان (2) 284 286. بني برد (1) 351. برد الأتابك (5) 144. بردبيك بن جاني بيك (5) 608 608- 624. ابن بردعان (5) 571. أبو بردة بن أبي موسي (3) 15- 173. أبو بردة بن نيار (1) 155- (2) 295. بردن بن قماج (4) 376. القمص بردويل (2) 278- (4) 265- (5) 25- 40- 48 49- 52- 210- 215 216- 217- 220- 232 249. بردويل بن سير (4) 232. بني برزال احدى بطون دمر (4) 53 186- (7) 7- 10- 18 21- 68- 71- 72. أبو برزة الاسلمي (2) 460- 577 (3) 17. برزقان (زبرقان) (2) 508. البرزيكاني (اليزر) (غانم البرزيكاني) (4) 600- 684. البرزينية (البرزية) (5) 91. بني برسق: ابن برسق (3) 599 601- 615- 616- 627 (5) 12- 20- 27- 28 33- 37- 47- 50- 51 52- 57- 58- 626. برسق بن برسق (3) 604- 629 630- 633- (4) 373- (5) 36- 72- 73- 74 177- 178- 204- 226 252. برسق بن جاوي (5) 48. برسق الكركوي (يرنقش الزكوي) (3) 619. البرسقي: قسيم الدولة آقسنقر البرسقي (3) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 612- 617- 620- 622 (4) 364- 365- 366 367- 368- 369- 683 (5) 50- 51- 55- 54 60- 63- 66- 189 226- 229- 255- 263 265. برسيّ الحكيم (فهر برشي) (مهر مرسة) (2) 206. برطارس البطرك (2) 257- 258. برطاس (5) 427- 584. برعوارد هزير الملوك مولى الآمر (4) 88 89. شرف الدين برغش (5) 245. الأمير برغش العادل مولى الآمر (3) 598- (4) 88- 89 365- 516- (5) 29. برغواطة (6) 244- 275- 276 277- 278- 279- 280 281- 282- 299- 310 311- (7) 26- 28- 38 50- 61. البرغواطي الحاجب مولى القاسم بن المعتصم (4) 197. برغوث بن عبد الحميد (5) 77. برق (5) 77. برقاش (2) 232. برقد (5) 595. أبو سعيد الملك الظاهر برقوق (3) 666 (4) 135- 136- (5) 523- 526- 531- 532- 533 534- 535- 536- 537 538- 539- 543- 545 548- 557- (7) 196 482- 649- 662- 669 673- 678- 695- 697 698- 699- 700- 701 705- 708- 709- 710 713- 714- 726- 727 728- 730. البرقي (6) 385. البرك بن عبد الله التميمي الصريمي (2) 376- 645- 647. بركات بن حسون بن البواق (7) 355. ابن أبي البركات (7) 280. أبو بركات بن أبي الدنيا (6) 615. بركات بن كعب (6) 99. أبو البركات التلفيقي (1) 720- 802. بركة بن دوشي خان بن جنكزخان (5) 596- 604- 605- 607 613- (7) 724- 725. بركة ابن الملك الظاهر السعيد (5) 444 453. بركة بن طوي (5) 598. بركة بن عبد الله الجوباني (الجولاني) اليلبغاوي (5) 523- 526 531- 532- 533- 534 535- 536- 538- 541 543- (7) 695- 702. بركة بن محمد بن جهير (4) 413. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 بركة بن مقلد (3) 588. بركة بن مناكيل (فرعون الأعرج) (2) 87. بركة بن ناظو بن دوشي خان (5) 613 616- 617. حسام الدين بركة خان (5) 141 415. بنت بركة خان (5) 453. بركيارق بن ملك شاه (3) 592 593- 594- 595- 596 597- 598- 599- 600 601- 602- 603- 604 605- 606- 607- 608 614- 616- 639- (4) 83- 120- 345- 359 360- 363- 367- 516 (5) 17- 18- 19- 20 22- 25- 26- 27- 28 29- 30- 31- 32- 33 34- 35- 36- 37- 38 39- 40- 41- 42- 45 59- 76- 87- 106 170- 171- 172- 212 213- 219- 249- 251 261- 262. برما بن طيطش (تاوداس- قارون برسطوس) (2) 241. برماش بن بنقش (2) 104. بني برمك (3) 223- (6) 9. امرأة برمك (3) 75. البرمكي (3) 298. برمندار (برمند) (5) 497. برمندان (6) 266. برمومة بن شبابة (2) 211. برنابا (2) 174. بنو برنال (7) 7. برهان الحصري السخاوي (5) 454. برهان الصغا قصي المالكي (7) 528. برهان الدين امام ازبك (5) 494. برهان الدين الخوارزمي (5) 602. برهان الدين السنجاري (5) 455. البرهانس (الانبذور) (4) 229- 230. البرهميين (4) 489. (أبو عامر) برهوم ابن عم أبو حمو موسى بن عثمان (7) 138. (علاء الدين) البرواناة (5) 451 452- 616. (معين الدين سليمان) البرواناة (5) 632 633. بروس بن ليون (5) 481. بني بروكس (6) 318. بروكس (يدوكس) بن أبي علي الصنهاجي (6) 225- 226. برويان بن واشنق بن يزار (6) 242. بروكلمان (6) 301. بريامش بن ألفنش (2) 232. البريتاني (البرنياني) (6) 369. بريد بن كعب (6) 99. بريدة بن الحصين (3) 17. بنو البريدي البريدي ابن البريدي (3) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 485- 486- 496- 498 499- 500- 501- 502 505- 506- 507- 508 510- 511- 512- 514 515- 516- 517- 526 (4) 295- 404- 568 569- 570- 584- (5) 555- (7) 289. بزاوق قائد بهمن ملك الفرس (2) 124. بزرجمهر (1) 52- 419- (2) 533- (3) 126. بزرنج (3) 277. بزرهون (1) 834. بنو بزري (3) 116. بزمند بن ارذون (4) 228- 229. البساسيري من مماليك بني بوية (1) 28 (3) 561- 562- 563 564- 565- 566- 567 569- 570- 571- 572 573- 574- 575- 576 579- 584- (4) 77 336- 337- 338- 339 340- 356- 357- 358 641- 642- 644- 650 651- 653- 654- 655 656- 657- 658- (5) 188. بسام بن إبراهيم بن بسام (3) 154 160- 209- 224- 226 234- 251- 260. بسباسة بنت ابرهة (2) 71. بسبس بن عمرو الجهنيّ (2) 427 428. البستان النجمي (3) 472. بسر بن ارطأة (2) 641- 647- (3) 6- 11- 12- 22. بسر الخادم (3) 479- 551. أبو البسط (3) 313. بسطام (2) 211- 212. (ابن بسطام الازدي (3) 206. بسطام البهسي (3) 206. بسطام خال أبرويز (2) 262. بسطام بن عمر (3) 261. بسطام بن قيس بن شيبان (1) 172 673- 674. بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ (3) 63- 64- 187. بسيل ملك الروم (4) 66- 69 333- 334. أم بسيل (2) 273. بسيل بن ارمانوس (2) 275- (4) 317- 318. بسيل الصقلبي (2) 274. بشار بن برد (1) 798- 801 802- (7) 651. الأمير بشارة (5) 392. بشارة الاخشيدي بن قرارة (4) 69. بشتك (5) 507. بشتمر (5) 134. بشر أبو بشر (3) 222- 288. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 بشر بن أبي ادهم (2) 527. بشر بن أرطاة (2) 386- (3) 168. بشر بن البراء بن معرور (2) 454. بشر بن جرموز الضّبي (3) 145 146. بشر بن جعفر السعدي (3) 147. بشر بن الحرث بن جبلة (2) 292 333. بشر بن داود (3) 317- 318 319. بشر بن سميط القابسي (3) 34. بشر بن شريح القيسي (2) 595. بشر بن صفوان الكلبي (3) 175- (4) 237- 238- 379. بشر بن عبد الله الهلالي (2) 526. بشر بن عبد الله بن أسيد (3) 46. بشر بن عتاب (3) 188. بشر بن غالب الاسدي (3) 194. بشر بن مروان (1) 398- (3) 45 52- 53- 54- 172 189. بشر بن المنذر بن الجارود (3) 64 261. بشر بن الوليد (3) 140. بشر الافشين (بشير الافشين) (3) 479 482. بشر الحريسي (3) 345. بشر الخادم خادم القائم (4) 50. بشر الصقلي (7) 19. ابن بشرين (1) 779. ابن بشكال (ابن شيكال) (4) 11. البشكنس (2) 282- (4) 155 157- 164- 165- 169 206- 226- 227- 229 (6) 425. ابن بشكوال (4) 201. بشليقش (2) 282. بني بشير (3) 197. ابن بشير (1) 569- 728. بشير القائد (6) 551- 552- 560 561. بشير بن الحرث (2) 34. بشير بن حيان النهدي (3) 88. بشير بن الخصاصية (2) 520- 523 526- 557. بشير بن سعد بن ثعلبة (2) 350. بشير بن سعد بن النعمان (2) 488 512. بشير بن عبد المنذر (2) 432. بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري (2) 566- 627. بشير بن الليث (3) 288. بشير بن نهيك (1) 400. بشير الجحدري (3) 109. بشير الخادم (5) 306- 308. بشير كير (شير كير) (5) 62. البصري (4) 215. بصكي (نصكي) بنت زحيك بن مادغيس العرجاء (6) 182 201. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 بصير بن جبار بن مهنا (5) 503. بطا الدوادار (5) 570- 572. الأمير بطا الطولوتمري (7) 701. البطارقة (3) 247. ابن بطال (1) 560. بني بطال (6) 274. البطالسة (2) 228- 237. بطالسة من ورتناجة (6) 134- 170. ابن البطحاوي (1) 30- (3) 450 547. بطرة (7) 330. بطرة بن ادفونش (4) 221- 222 (7) 402. بطرة بن شانجة (4) 231. بطرة بن القنط (7) 399. بطرة بن الهنشة (4) 231- (7) 432 433- 549. بطرس الأعور (5) 463. بطرس الرسول أحد الحواريين (1) 289 290- 291- (2) 172 173- 174- 175- 238 239- 249- 254- 255. بطرك بطرك الاسكندرية (2) 258 261. ابن بطريق (2) 242- 244 245- 246- 247- 248 249- 251- 254- 255 258- 260- 262- 264 543. البطريق (4) 216. بطريوس (2) 229. بطلقمر العلائي (5) 528. بطليموس (1) 58- 62- 68 71- 139- 140- 142 642- 714- 715- 716 (2) 138- 198- 223 235- 242- 243- 290 (6) 128. بطلميوس أخو الإسكندر (فلا فاذامذ ارنداوس- لوغس) (2) 226. بطليموس ارغادي (2) 228. بطليموس الارنبا (رغادي- راكب الانبر) (2) 227- 258. بطليموس تلماي (2) 227. بطليموس بن الإسكندروس (غالب أثور- فيلادلفوس) (2) 226. بطليموس بن لاوي (2) 224. بطليموس الصائع (سانيطر) (2) 227 228. بطليموس كلاباطر (2) 227. بطليموس المخلص (مقروطون- شعري ملك) (2) 228. بطليموس المظفر (الغالب) (2) 227. بطليموس يوناشيش (2) 228. البطليوسي (1) 817- 818. بطور (2) 44. ابن بطوطة (1) 227. بطوية (6) 203- 274- 275 284- (7) 225- 633. البطيسي (6) 615. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 البطين من نمير (6) 107. لبعاجين (1) 660. بنو بعجة (2) 305. بعشا بن أحيا (2) 128. بعير (نعير) بن جابر بن مهنا (6) 13- 14 بعيلاس قائد طبريانوس قيصر (2) 158. بغا (1) 33- 230- (3) 362 363- 366- 368- (5) 506. بغا الشرابي (3) 342- 343 350- 366. بغا الشمسي (5) 523. بغا الصغير (3) 354- 355- 356 358- 357. بغا الكبير (3) 323- 324- 331 335- 336- 338- 339 344- 345- 347- 348 350- 353- 354- 375 376. بغان (5) 164. بغدك (3) 377. بغدوين ملك القدس (5) 52- 174 176- 177- 214- 215 216- 217- 218- 221 222- 224- 225- 226 227- 228- 252- 274. بغراج (فهواج) (3) 390. بغراجق (4) 431- 473- 474. السلطان بغرية من ولد أبي علي وأبو تاشفين بن حمو (7) 460. بفتوحيم (2) 12. بقاطابستي اتابكين (بقطابستي) (5) 140- 141- 144- 153. بقاطرابلسي (5) 591. سيف الدين بقراق البلخي (5) 141. بقحيا بن مناخيم (2) 131. بقراتكين (5) 91. بقراخان (4) 31- 32- 463 464- 468- 470- 472 473- 492- 509- 510 514- 520- 553- (5) 585. بقراخان بن داود (5) 91. بقراط (2) 197. بقراط الدن (1) 632. بقراطين أسواط (اشوط) (3) 344. الخان الأعظم بقرا قدوم بن جنكزخان (5) 152. بقرونشوش (هرقليانوس) (2) 243. بهاء الدين بقري (5) 440- 443. بقرى بن برقش (5) 543. نظام الملك البقش (النقش) (5) 256 257. البقش السلامي (3) 628- 629 633- 634- 639- (5) 71- 74- 75. البقش الكبير (3) 631- (5) 73. البقش كون البقش كون خر (التقشكنجر) (3) 637- 636 638- (4) 375- (5) 80 81- 82. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 بقلاديانوش (2) 248. بقوز (6) 28. بقي بن مخلد المحدث الاندلسي (7) 684. ابن بقية قائد إدريس بن حمو صاحب صنهاجة (4) 313- 314- (6) 240- 295. بقية بن رميثة (5) 496. بني بقيلة ابن بقيلة (2) 317 320- 528. الأمير بك آي (بك آية) المحمدي شحنة بغداد (3) 630- 631- (4) 373- (5) 72- 73- 272. بك ارسلان بن بلنكري ابن خاص بك خالصة صاحب خلخال (3) 636 (5) 80- 81- 82. بكا الاشرفي (5) 558- 559- 561. بني البكاء (2) 471. ابن بكار (4) 38. بكار بن إبراهيم (6) 246. (القاضي أبو بكرة) بكار بن قتيبة (4) 388- 392. بكار بن مسلم العقيلي (3) 219 228- 249. بكازرون (4) 676. بكباش الفخري بدر الدين بكتاش الفخري السلحدار (5) 456 470- 471- 473- 482 493. حسام الدين بكتاش (5) 158. بكتاش بن تتش (بكباش بن تتش) (4) 84- 460- (5) 49- 217. بكترزون (بكتوزون) بن نوح (4) 475 476- 463- 466- 467 468- 510- 583. بكتمر (مكتمر) (3) 425- (5) 205- 309- 401- 472 475- 619- 620. بكتمر أمير جندار (5) 473. بكتمر الحاجب (5) 490. بكتمر الحلبي (5) 474. سيف الدين بكتمر الجوكندار (5) 484. 486- 506 . بكتمر الساقي (5) 488- 491 494. سيف الدين بكتمر السلحدار (5) 306 350- 378- 467- 470 471- 474- 476- 485 486. بكتمر الشريف (5) 536. بكتمر المحمدي (5) 523. سيف الدين بكتمر المؤمني (5) 516. بكتمر النظامي (بقتمر) (5) 521. بدر الدين بكتوت الجوكندار (5) 439 488. بدر الدين بكتوت (بكلتوت) القرماني (5) 491- 594. بكتيك (تكينك) (3) 509- 510. بكجور مولى سيف الدولة (4) 65 66- 314- 318- 319 322. بكدار بن هولاكو (أحمد) (5) 459. بكر بني بكر (2) 204- 319 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 326- 327- 381- 397 398- 491- 614- 617 645- (3) 153- 183 410. السلطان أبي بكر (6) 161- 495 500- 514- 522- 566 567- (7) 161- 361. القاضي أبو بكر الابهري المالكي محمد بن عبد الله بن محمد. أبو بكر الأبيض (1) 818. أبو بكر الإسكاف (1) 389. القاضي أبو بكر الباقلاني (1) 29 243- 589- (3) 547. أبو بكر البزاز (1) 388- 400 401. أبو بكر بن إبراهيم المسوفي (6) 251. أبو بكر بن إبراهيم بن عبد القوي (7) 90- 293. أبو بكر بن إبراهيم بن محمد (7) 210. أبو بكر بن الياس البرسقي (3) 621. بكر بن أليسع (4) 458. أبو بكر بن باجة الحكيم (ابن الصائغ) (1) 818- (6) 251. أبو بكر بن بشر الجزري (5) 267 272. أبو بكر بن بشرون (1) 697- 704 706. أبو بكر بن بهثر الجزري (5) 182. أبو بكر بن بهلول (6) 512- 513. أبو بكر بن ثابت (6) 559- 568 581. أبو بكر بن أبي جابر (6) 213- 217. أبو بكر بن حبوس بن زيري (7) 41. أبو بكر بن حبيس (6) 312. أبو بكر بن الحسن بن خلدون (6) 444. أبو بكر بن حمامة بن محمد (7) 221 425. أبو بكر بن أبي حميرة (1) 526. أبو بكر بن أبي خثيمة (1) 389. أبو بكر بن خطاب (4) 212- (7) 105. أبو بكر بن أبي الخطاب (6) 490. أبو بكر بن خفاجة (1) 791. أبو بكر بن خلدون (6) 455. أبو بكر بن خليل السكونيّ (6) 407. أبو بكر بن دوشي (5) 494. أبو بكر بن ذكوان (4) 194. أبو بكر بن الرامة (5) 284. أبو بكر بن رحو بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق (7) 459. الشيخ بكر بن زغلي شيخ بني يزيد بن زغبة (5) 483- (6) 56- 68. أبو بكر بن زهير (1) 817- 818 819- 820. أبو بكر بن ساهويه (4) 607. أبو بكر بن سليمان (7) 590. أبو بكر بن سيّد الناس (6) 437. أبو بكر بن شريح (6) 394. الوزير أبو بكر بن الصائغ (1) 633. أبو بكر بن الصابوني (1) 822. أبو بكر بن صاحب الرد (6) 393. أبو بكر بن عبد الحق بن تاغزونت بنت أبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 بكر بن حفص من بني تنالفت (7) 224. أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر (6) 469- 470. بكر بن عبد العزيز (3) 435- 436 (4) 424. أبو بكر بن عبد العزيز بن السكاك (4) 205- (6) 260. بكر بن عبد الله الليثي (2) 526- 559. أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة (3) 243- 244. بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة (2) 395 457. القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكي (1) 271- 286- 578- 742 (6) 96- 313. أبو بكر بن عريف (6) 64- 65 73- (7) 173- 174 175- 179- 180- 181 435- 638. أبو بكر بن العزيز (6) 248. أبو بكر بن العلاء بن الحضرميّ (2) 357. أبو بكر بن علي (3) 30. بكر بن علي بن يوسف (6) 305. أبو بكر بن عمر أمير لمتونة (6) 241 279. أبو بكر بن عمر بن حزم (3) 173. أبو بكر بن عمر بن تلاكاكين (6) 243 244- 245. أبو بكر بن عياش (1) 391- (6) 396. أبو بكر بن عيسى بن عريف (6) 71 72. أبو بكر بن عيسى القيسي (6) 146. أبو بكر بن غازي الثائر (4) 222 223. الوزير أبو بكر بن غازي بن السكاء (الكاس) (6) 42- (7) 93 94- 176- 177- 178 431- 435- 438- 439 444- 445- 446- 447 448- 451- 453- 454 455- 456- 463- 465 501- 524- 579- 580 581- 589- 632- 633. أبو بكر بن الغازي بن يحيي بن الكاس (7) 431. أبو بكر بن أبي الفتوح (6) 229 230. أبو بكر بن فورك (3) 575. أبو بكر بن قزمان (1) 825- 826 827. أبو بكر بن قماج (5) 83. أبو بكر بن أبي قيس (3) 48. بكر بن كامل بن جامع (6) 221. أبو بكر بن ماخوخ (6) 307- (7) 74. أبو بكر بن مازرو (مزروال) (6) 306. بكر بن مالك الفرغاني (أبو سعيد) (4) 455- 456- 457- 579 580. بكر بن محمد بن أليسع (الياس) (3) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 475- 476- (4) 32 33- 444- 554. أبو بكر بن محمد بن ثابت (6) 611 616- 617. أبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي (3) 197. أبو بكر بن محمد بن أبي عصيدة (6) 464. أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم (3) 86- 96- 174. أبو بكر بن محمد السرخسي (5) 122. أبو بكر بن محمد اللمتوني (6) 304. بكر بن مخنف (3) 186. أبو بكر بن مرتين (1) 827. أبو بكر بن مرزوق (ابن مرزوق) (7) 527- 528- 529- 530. أبو بكر بن مزدلي (6) 307. أبو بكر بن المستعصم (3) 662. أبو بكر بن مسعود (6) 47. بكر بن معاوية (2) 23. بكر بن المعتمر (3) 289. أبو بكر بن معروف (7) 218. أبو بكر بن مقاتل (3) 500. أبو بكر بن أبي موسي الأشعري (3) 173- 174. أبو بكر بن موسي بن سليمان (7) 69. أبو بكر بن موسي بن عيسى (6) 439 (7) 61- 64. أبو بكر بن النوار (7) 321. بكر بن هوازن (2) 367. بكر بن وائل (1) 268- (2) 214 319- 322- 326- 357 358- 359- 405- 433 504- 505- 509- 586 611- 612- 616- 619 643- (3) 113- 154 182- 184- 209- 210 (4) 116- (5) 248- (6) 3. أبو بكر بن ولحف (بن نجي) (6) 309. أبو بكر بن ياقوت (3) 491. أبو بكر بن يعزي التينمللي (6) 343. أبو بكر بن يكنى البرزالي الاباضي (7) 7. أبو بكر بن يملول (6) 599. أبو بكر الرازيّ (1) 651. أبو بكر الزبيدي (1) 757- (4) 198 أبو بكر الشاسي (5) 18- 26- 212 أبو بكر الشاعر (2) 380. أبو بكر الشاي (3) 587. أبو بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة أبو بكر الصيرفي (1) 340. (القاضي) أبو بكر الطرطوشي (1) 52 (6) 250. أبو بكر العقيلي (3) 156. أبو بكر الكرماني (5) 108. أبو بكر المظفر (4) 202. بكر المعتضد (3) 665. بكراج (5) 33. بكرة أبو بكرة (2) 465- 549 (3) 6- 7- 9- 97. البكري (1) 48- 433- (3) 210 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 (4) 250- 284- (6) 72 123- 125- 126- 185 276. بكساس بن سيد الناس (4) 189- (7) 25- 23. بكشوار بن ملك بن مسافر (بلسواز) (3) 509. بكنون (كنكور) (4) 636. بكواسيل (5) 225. بكية الخصّي (4) 184. ابن بكير (1) 558- (2) 527. بكير بن عبد العزيز (3) 370. بكير بن عبد الله الليثي (2) 536 561- 562. بكير بن هامان (2) 128- 129 130. بكير بن هارون النخعي (3) 200. بكير بن وشاح التميمي (3) 47- 48 52- 53- 58- 59- 70 172. بكيك (6) 305. البلاذري (5) 89. بلارة ابنة القاسم بن المعز بن باديس (4) 92. بلاط (5) 531- 532. بلاطة ابن عم ميخائيل (4) 251. بلاغ خادم ابن الأغلب (4) 388. بلاك (5) 82. بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم (2) 365 461- 548. بلال بن أبي بردة (3) 120- 175. بلال بن جرير (5) 337. بلال بن حمامة مولى أبي بكر (2) 410 424. بلال بن الزريع (4) 276. بلال بن أبي موسي الأشعري (1) 230. بلال بن هاشم (1) 807. أبو بلال الصابي الشاري (3) 320. البلالية (3) 377- 378- (4) 22. بلتكين التركي قائد العزيز (4) 64- 65. بلتنصر (2) 126- 136. بلج بن بشر العبسيّ (6) 157. بلخ بن بشير (بشر) القشيري (2) 371 385- (4) 149- 150 239. بلخ بن عقبة الازدي (3) 210. بلخس القاضي (2) 239. بلداجي (بلداحي) (5) 52- 53 310. بلداس بن ناحور (2) 50. بلدان بن ناحور (2) 50. بلست من بطون زهاص (6) 161. بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي (2) 49- 98- 99. البلغار (2) 275- 277- (4) 66 318- 322- 333- 334 513- (5) 427- 584- (7) 727. بلغار الاشرفي (5) 436. البلغمي (4) 564. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 بلقاسم بن بانجين (4) 557. بلقيس (2) 59- 113- 304- (4) 286. بلقيس بنت الهدهاد (2) 66. بلقيس (يلقمة) بنت اليشرح بن الحرث بن قيس (2) 57- 59- 60. بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن (2) 65- 67. بلكا (4) 580- 581. بلكاجور (3) 361. بلكانة (تلكانة) من صنهاجة (6) 202. 240. بلكمش (5) 514. آل بكلين (6) 21- 595. بلكين بن زيري (1) 205- 315 (4) 59- 60- 62- 106 318- (6) 137- 179 204- 205- 207- 208 227- 239- 278- 291 292- 458- 585- 613 (7) 26- 38- 39- 49 52- 59- 67- 73 133- 209. بلكين بن محمد بن حماد (6) 229 230- 245- (7) 48. بلناص (2) 79. بلنجر (2) 209- 562. بلنسيان بن قسنطش (2) 254- 282. بلها جارية راحيل (2) 44. البلوص (4) 588. بني البلوطي (4) 267. بلوطيس بن مناكيل (2) 87. بني بلومو (7) 7. يلي بن عمرو بن الحافي (2) 267- 295- 346- 355- 356. بليان ملك غمارة (4) 177- 234 236- (6) 142- 193. سيف الدين بليان الرشيديّ (5) 434 436- 439- 441- 453. بليان (بلبان) مملوك شاه ارمن (5) 207. بليان مولى شاهرين (5) 396. بليان بن قسطنطين (2) 253- 254. بليان بن نيزران (بالبان بن بيرزان) (5) 361- 362. بليان الجوكندار (5) 480. بليان الخصي (بدر الدين) (5) 443. بليان الدوادار (5) 451. بليان الطباحي (5) 457- 458 473- 476. بليانس بطرك الاسكندرية (2) 244. بليانوس (2) 245. بليق (3) 459- 466- 485 487- 488- 489. بليقا الناصري صاحب حلب (3) 666. بلينصر (2) 82. بمبيوس (فمقيوس) (2) 145. البنادقة (1) 59- 60- (2) 277 279- (5) 219- 246 427- 584- 636. بناطوس (2) 212. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 بنانة امرأة الحكم القرظي (2) 444. بني بناوة بن غرسن (6) 196. بناوس (4) 528. بنايوت (نابت) (2) 44. بنجسون بن سياوش (2) 126. بندار (5) 166. بندار بن مشيك (3) 365. بندمر الخوارزمي (5) 493- 523 526- 532- 534- 542 543- 544- 551- 555 558- 563. البندمرية (5) 568. البندوان (2) 533. بندوغار التركي (5) 439. بندي خال أبرويز (2) 262. بدر الدين بنسر الشمسي (5) 434. بنصر بن حام (2) 84- 85. بنقش بن شطونش (2) 103. بنميد (4) 83. بنودار بن دارا (2) 192. بني بن قيس (3) 471- 473 481- 483- 484. بنيامين (1) 288- 290- (2) 45 102- 103- 106- 109 116- 128- 129- 132. بنيامين البطرك (بطرك اليعاقبة) (2) 265- 270. بنيامين بن إسرائيل (2) 79. بنيصر (2) 80. البهاء بنت دهمان (6) 125. بهاء الدولة بن بوية (4) 324- 325 327. (أبو كامل) بهاء الدولة بن دبيس منصور بن دبيس بن علي بن مزيد. بهاء الدولة بن عضد الدولة سرديك بن عضد الدولة. بهاء الدولة الجيوشي (5) 216. أبو الحسن بهاء الدولة (بهاء الدين) الشهرزوري (5) 254- 264. بهاء الدين (5) 110. أبو الفتوح بهاء الدين الأشقر ابن الواعظ (5) 269. بهاء الدين بن بيسان (5) 351. بهاء الدين قراقوش. بهاء الدين التبريزي (6) 410. بهاء الملك (3) 593- (5) 145. سيف الدين بهادر (5) 434- 435 437- 486. بهادر الجمالي (5) 524- 530- 531. بهادر الحلبي (5) 469- 470- 471. بهادر خشنش (2) 215. بهادر رأس نوبة (5) 467- 468. أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي (6) 207- 208- 209- 227 238- (7) 27- 28- 41 42- 45- 54- 59. بهبود بن عبد الواحد (3) 402- 404. البهبوذان من الأساورة (2) 513. بنو بهذلة بن عوف الزبرقان بن عبيد بن مقاعس (1) 395- (2) 376. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 أبو محمد بهر بن عبد الله (4) 249. بهرا (2) 328- 456. بهرا بن عمرو الحافي (2) 295- 514. بهرام صاحب الري (2) 211- 212 213- 256- 267- 318 (4) 121- 122- 127- (5) 171- 228. بهرام الارفي (4) 90- 91. بهرام ابن أخ إبراهيم الأستراباذيّ (5) 180. بهرام بن ارتق (3) 610. أبو سعيد بهرام بن أردشير (3) 537- (4) 605. بهرام بن برسق (5) 178. بهرام بن بهرام (1) 51- 354- (2) 203- 313. بهرام بن بهرام جوبين (2) 212- 512. بهرام بن بهرام بن هرمز (2) 203. مجاهد الدين بهرام بن تكريت (5) 64. بهرام بن سابور (2) 313. بهرام بن الفرخزاد (2) 561. الأمجد بهرام بن فرخ شاه (5) 385 405- 408- 409. بهرام بن لشكرستان (3) 561. بهرام بن هرمز (2) 203- 313. بهرام بن يزدجرد (بهرام جور) (2) 207- 257- 313- 314 322- 511- 538- (3) 490. بهرام الديلميّ (4) 648- 649. بهرام شاه (4) 520- 521- 522 (5) 98- 197. بهرام مرزبان كسرى (2) 262. بهران الكرخي (5) 160. ابن بهردوس (1) 819. مجاهد الدين بهروز (مهروز) (3) 624 634- 635- (4) 370 371- (5) 58- 66- 68 73- 75- 76- 79- 327. بنو بهز بن امرئ القيس (2) 366. بهستون بن وشمكير (4) 662. بهشمياس (2) 136. شمس الدين البهلوان بن ايلدكز محمد بن ايلدكز. عماد الدين بهلوان بن هراست ملك الجبال (5) 162. البهلوانية (5) 114- 154- 156. بني بهلول (6) 349- (7) 471. البهلول بن ايلدكز (3) 644- (5) 149- 151. بهلول بن بشر بن شيبان (3) 205. بهلول بن عبد الرحمن المظفر (4) 247. بهلول بن عبد الواحد المظفري (4) 16 (6) 157. بهلول بن عبيدة الحمي (1) 526. البهلول بن مرزوق (4) 158. بهلولة (7) 225. بهمن ملك الفرس (2) 79- 125 126- 191- 222. بهمن حاذويه ذا الحاجب (2) 509- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 511- 522- 532- 533 557 . بهميال (4) 487. البهنة (4) 94. بهيصيم اليماني (3) 287. بهيم (4) 481- 489- 490. ابن البواق كاتب الناصر (7) 158. بوتار رئيس الكهنة (2) 239. البودشير بن قبط (2) 85. بوذنجر بن الاق قوى (7) 723- 724. بوران (بوزان) (5) 14- 19- 20 21- 85- 86- 169 170- 171. المعظم بوران شاه بن صلاح الدين (5) 324. بوران بنت برويز (2) 214- 215. بوران بنت الحسن بن سهل (1) 26 27- 216- 224. بوران بنت كسرى (2) 319- 521 524. البورد (5) 111. بورس الملك (2) 122. بورسوس (5) 22. بورغيش بن رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص (6) 119. البوري أخو مدين (6) 179. بوري بن طغركين (تاج الملك- تاج الملوك) (5) 179- 180 181- 214- 227- 230 231- 266- 267- 2270 307- 348- 349. البوري بن موسى بن أبي العافية (4) 20. بوزابة صاحب فارس (3) 633 634- 635- 636- (4) 374- (5) 75- 76- 79 80- 81. الأمير يوزان (5) 27- 262. بوشباك بن رجاء بن يوسف (6) 603 604. بوص بن ناحور (2) 50. بني بوصة (7) 149. بني بوعال (فوغال) (6) 170. بوعز (2) 167. بوعز بن سلمون بن نخشون (2) 105. بوعز باهر (5) 164. البوغاني (5) 118- 119. بني بوغش (4) 15. بوقا من مقدمي السلجوقية (4) 493. 672. بولس الرسول (1) 290- (2) 173 174- 175. بولس بطرك اسكندرية (بولس التنسي) (2) 260- 261. بولس بن غايش (2) 236. حسام الدين بولق ارسلان بن أبي الغازي بن ألبى بن تمرتاش (5) 256 257- 313- 389. بولك بن منكوتمر بن طغان (5) 606. البولي (5) 430. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 بوناطر (2) 8. البوني (1) 664- 666- 667 668- 695. البويطي (1) 567. بني بوية (1) 230- 232- 369 709- 803- (2) 20- (3) 459- 490- 507- 521 522- 527- 529- 550 552- 568- 590- (4) 114- 115- 117- 128 143- 329- 339- 357 412- 430- 449- 457 459- 490- 548- 552 560- 561- 568- 571 575- 586- 619- 627 652- 656- 657- 661 685- (5) 98- (6) 94 (7) 721- 723. ابن بوية (4) 127- 563. أبو شجاع بوية بن قناخس (4) 560 561. بياروت (فياورت) (5) 130- 131. البياسي أبو محمد بن أبي حفص. بنو بياضة بن عامر بن زريق (2) 343 422. بيان بن انجي (5) 611. بيان بن حفلان (صقلاب) رئيس بني سكتان (4) 39. بيان العنبري (3) 109. بيانة من بني قلدن بن اوريغ (6) 118- 183. بيبرس الاحمدي (5) 508. بيبرس العلاني (5) 509. بيبرس الملك الظاهر بيبرس المظفر (1) 424- (3) 664- 665 666- (4) 138- (5) 325 415- 418- 441- 448 452- 460- 461- 476 477- 479- 481- 482 484- 485- 491- 495 497- 506- 518- 616 617- 632- 633- (6) 266- (7) 689- 690 693- 724- 734 736. ركن الدين بيبرس البند قداري (5) 421 422- 423- 425- 430 431- 434- 438- 439 440. ركن الدين بيبرس الجاشنكير (4) 134 (5) 470- 473- 486 491. بيبرس الحاجب (5) 498- 580 581. ركن الدين بيبرس الدوادار (5) 460 465- 486- 488- 489 506. السلطان الظاهر بيبقا (5) 537 541- 568. بيبقا الاحمدي (5) 521- 522- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 534. بيبقا الخاصكي (5) 518- 519 541- 542. بيبقا الشمسي (5) 520. بيبقا الطويل (5) 520. بيبقا العلائي الدوادار (5) 521. بيبقا القمري (5) 513- 516 517. بيبقا المنصوري (5) 523. بيبقا الناصري (الناظري) (5) 524 525- 526- 528- 529 530- 531- 532- 533 534- 535- 543. بيبقا النظامي (5) 533. البيبوح (4) 230. بيتر حبرمدين (رعويل) (2) 93 95. بيتمامون (5) 461. ابن بيد بن عمر العدوي (3) 24. بيدا (3) 360- (4) 479. بيدرا (5) 467. بيدلي (2) 192. بيدو (4) 488. بدر الدين بيدو (5) 464. بيدو بن طرخان (5) 457. بيدو بن عمر طرغاي بن هولاكو (5) 618- 619. بيدو القاهر (5) 465- 466 467. بيراقبوري بن برسق (5) 58. بيرد بن مهلائيل (2) 7. بيرونيس قائد الروم (7) 243. بيروز الديلميّ (3) 170. بيزغاش من بطون ولهاصة (6) 119. بيزك (3) 67- 68. ابن بيزون اللخمي (6) 226- 227. البيساني القاضي عبد الرحيم البيساني. بيستون (يستون) بن وشمكير (4) 458. بدر الدين بيسري الشمسي (5) 443 444- 453- 467- 469 470. البيشرانية (2) 181. البيضاوي (1) 577- 591. ابن البيضاوي القاضي (3) 556. البيطبيين (4) 229. بيقاروس القاسمي (بيبقاروس) (5) 503- 511- 512- 513 514- 526- 581- (6) 13- 530. بيقو أخو طغرلبك (بيكو) (3) 56- (4) 499- 501- 502- 507 637- (5) 199- 200 452- 599- 631 632. بيقو الشمسي (5) 513. بيلاطس البنطي (فلاطش النبطي) (2) 173- 238. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 بيلوت بن يوسف (2) 168. بدر الدين بيليك الخازندار (ببليك) (5) 451- 452- 453 469. نور الدين بيليك (ببليك) الايدمري (5) 455. بيحند (سمند) (4) 232- 233- (5) 25- 40. بيهس ابن بيهس (3) 158- 295 337. البيهسية (3) 182. البيهقي (1) 402- (2) 22- 32 53- 79- 181- 185 188- 218- 225- 235 301- 323- 354- 362 (4) 116- 117- 281 283- 284- 285 286. بيوراسب بن رتيكان بن ويدوشتك بن فارس (2) 183. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 حرف التاء (ت) تاتجيز الديلميّ (4) 659. بني تاتكين (7) 96. تاج ابن بنت الأغر القاضي (3) 664. تاج الدولة أخو صمصام الدولة تنش بن ألب ارسلان. تاج الدين (3) 648- (4) 535. تاج الدين بن الأثير (5) 458. تاج الدين الارموي (1) 577. الأمير تاج الدين البسطامي (5) 132. تاج الدين البلخي (5) 157. تاج الدين (4) 535- 537 538- 539- 541- 542 543- 544- 545- 546 547- 548- (5) 121 127- 128. القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز (5) 441. تاج الرؤساء بن الرحلات (بن الموصلايا) أبو نصر (5) 38. تاج العجم (4) 84- (5) 215. تاج الملك (5) 180. أبو الغنائم تاج الملك المرزبان بن خسر وفيروز (3) 592- 593 600- (4) 627- (5) 14 17- 18. ابن تاج الملوك (4) 87- 122- (5) 213. نور الدين تاج الملوك (5) 353. تاجرة تاجرت (6) 265- (7) 77. تاخش بن ناحور (2) 50. تارح بن ناحور (آزر) (2) 36- 37 38- 39. تازير بن طلحة بن علي (6) 197 198. تاسرغينت بنت عبد القوي (7) 218 219. أبو العباس حسام الدولة تاش (4) 461 462- 602- 604- 662 663. تاش فراش (4) 645. تاش الفوارس (4) 635- 637. بني تاشفين تاشفين (6) 27- 157 (7) 335- 366. أبو عمر تاشفين (6) 526- (7) 528. تاشفين بن إسحاق (6) 302- 332. تاشفين بن تيغمر المسوفي (6) 234 247- (7) 102. تاشفين الموسوس ابن السلطان أبي الحسن بن أبي سعيد (7) 146- 386 387- 432- 414- 415. تاشفين بن عبد الواحد (7) 253. تاشفين بن علي بن يوسف (1) 340 (6) 250- 251- 252 258- 306- 307- 308 309- 310- 312- (7) 74- 75- 103- 220. تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي بن غانية (6) 334. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 تاشفين بن ماخوخ (6) 307- 308 (7) 75. تاشفين بن أبي مالك (7) 266. تاشفين بن معطي كبير بني تيربيغين (7) 268- 486. تاشفين بن يعقوب الوطاسي (7) 316. تاشفين اللمتوني (6) 317. تاعزونت (7) 110. تاعزيزت (6) 198. تافر بن الوزان (4) 75. بني تافراكين (6) 514. ابن تافراكين (7) 514- 515. تافراكين بن عمر عامل الموحدين (6) 258. تاليس حكيم ملطية (2) 222. بني تام يام (4) 270- 272 283. تامر بن علي بن تمام بن عمار بن خضر (6) 49. تامسطيون (1) 632. بني تامل بن بوشناك (6) 604. تاوداسيوس الكبير (2) 255- 256. ثاودكيس اسقف القسطنطينية (2) 254. تاودوس (2) 179. تاودوسيوس (2) 246. بني تاوزرت (6) 234. تاوفيلا بطرك اسكندرية (2) 255 257. سيف الدين تاوكج (5) 353. تاوكلا بطرك اسكندرية (2) 245. تاونا بطرك اسكندرية (2) 247. تاينة بن يلاغف بن لوا بن مطماط (6) 162. التبابعة (1) 17- 18- 38 181- 183- 191- 224 437- 447- 462- 517 524- 525- (2) 11 18- 19- 32- 36- 54 56- 57- 58- 60- 61 63- 64- 65- 67- 68 70- 76- 180- 187 201- 210- 261- 283 286- 290- 291- 292 298- 302- 308- 329 331- 407- (4) 267 269- 275- 279- (6) 16- 117- 123- 128 140- 195- (7) 4. تبادلت (7) 38. أولاد تبان (تبار) (6) 32. (أبو كرب) تبان أسعد بن ملكي كرب (حسان تبع) (2) 28- 60 61- 62- 63- 315. تبا نعنت (بنا بعيت عمة حاميم) (6) 288. التبت (3) 71. تبديقا عندمار (2) 282. تبع (2) 28- 62- 218- 285 308- 340- 370- 401 402. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 أبو كرب تبع (2) 284- 344. تبع الأقرن (زيد) (2) 60. تبع بن حسان (2) 65- 66- 315 325- 405. تبع بن عمرو (ذو الإذعار بن ابرهة) (تبع ذو المنار بن الرائش بن قيس بن صيغي) (2) 292. تبع بن كرب (2) 329. تبكم بن منداس بن معز بن اوريغ (6) 164. التتار (1) 101- 194- 218 252- 370- 374- 420 421- 475- 280- 566- (2) 11- 209- 280- (3) 353- 659- 660- 661 662- 664- 665- (4) 104- 123- 132- 133 382- 513- (5) 5- 24 104- 126- 127- 131 132- 133- 134- 135 136- 137- 138- 139 140- 141- 142- 143 146- 147- 148- 152 153- 154- 156- 158 159- 164- 165- 166 167- 196- 198- 199 200- 201- 202- 203 257- 258- 317- 323 324- 325- 405- 410 412- 414- 415- 422- 423- 424- 425- 427 429- 430- 436- 437 438- 439- 440- 441 442- 443- 444- 445 446- 449- 450- 452 453- 456- 457- 458 459- 469- 471- 472 473- 475- 476- 478 479- 480- 481- 482 501- 503- 505- 506 543- 548- 549- 551 573- 584- 585- 586 588- 589- 590- 591 592- 593- 594- 613 614- 615- 616- 617 619- 621- 623- 627 630- 631- 632- 633 635- 636- (6) 11 12- 265- 493- (7) 148- 693- 716- 717 723- 725- 728- 738 739- 740. بني تتش (5) 44- 169- 186 250- 500- (6) 9. علاء الدين تتش (5) 100. تاج الدولة تتش بن ألب ارسلان (3) 536- 585- 586- 589 590- 594- 595- 604 (4) 80- 82- 341 345- 352- 353- (5) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 7- 8- 10- 11- 12 14- 18- 19- 10- 21 22- 26- 37- 44- 45 46- 49- 169- 170 171- 172- 175- 180 188- 190- 211- 214 218- 248- 261- 262 . بني تثليب من انجفة (6) 202. التجاني (6) 112- 113- 258. تجيب احدى بطون كندة (2) 306 329- (6) 65- 317. التجيبي (3) 574. التحام (2) 99. تحكم (بجكم) (4) 291- 292 294- 400- 404. تمليلة (7) 7. تدارق أخو هرقل (2) 515- 516 517. تدان بن منكو تمر بن طغان (5) 604 605- 606. تداهر من شرو بن ملكا ونداد هرمز وشروين. تداوس شقيق هرقل (2) 172- 266 271. تدلار (5) 471- 472. تدمر البدري (5) 510- 511. تدوان (5) 452- 616- 633. تدورة- ملكة الروم (3) 347. تديرو بن دحية بن ولهاص بن تطوفت (6) 119. تدين (6) 120. أبي تراب الاشيري (الاثيري) (3) 15 576. ترباي الحسيني (5) 532. تربي كيزي (5) 599. ترجم من بني حمير (6) 96. الأمير ترشك (3) 638- 642 646- (5) 15. ترشوش (2) 218- ترشيش (2) 12. شرف الدين ترعش (5) 331. ترقو (5) 202. الترك بن أمور بن سويل بن يافث (2) 11- (5) 2. تركش (5) 427. التركمان (1) 86- 93- 94 151- 152- 181- 334 (2) 11- 20- 226 280- (3) 105- 111 114- 176- 580- 586 587- 595- 597- 598 607- 610- 627- 633 638- 646- 652- (4) 80- 98- 138- 341 343- 344- 352- 480 511- 673- (5) 5- 8 10- 15- 19- 28- 39 40- 43- 44- 51- 59 70- 74- 91- 99 103- 134- 151- 155 164- 167- 168- 173- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 175- 179- 180- 182 188- 191- 201- 202 211- 212- 214- 216 230- 231- 232- 249 254- 262- 267- 269 277- 283- 284- 309 330- 333- 345- 346 375- 393- 431- 436 438- 440- 442- 447 457- 458- 473- 474 479- 481- 486- 493 500- 514- 532- 540 541- 548- 551- 560 565- 566- 567- 568 569- 570- 571- 575 594- 620- 624- 628 632- 634- 635- 636 (6) 10- (7) 699- 726. تركان خاتون الجلالية أم خوارزم شاه (خداوند جهان) (3) 592 595- (4) 344- 362- (5) 13- 17- 18- 19- 20 130- 131- 133- 137 143- 162- 587- 588 590. أبو التركي (3) 391. ترماشين (5) 601. الترمذي (أبو عبد الله) (1) 26- 249 389- 393- 415- 559. الترنتاش الحاجب والي هراة (4) 469 482- 483- 486. ترهقة (6) 119. ترهوتة (6) 183- 187. ترورة الساحرة (2) 86. تروس معسول (5) 482. تروميت (6) 272. تريكة (6) 263. تزعال (2) 40. تزيد بن جشم من الخزرج (2) 343 347. تساكر بن حامد بن كسلان (6) 48. تسول (7) 225. تشبب البهراني (3) 105. بني تصكي (6) 270. تصكي العرجاء بنت زحيك بن مادغيس (6) 270. تطلميش (5) 561. قمر الدين تطمش (5) 574. بنو تطوفت بن نغزاوة بن لوا الأكبر بن زحيك (6) 150. تغري (5) 521- 522. التغزغزية (5) 584. بني تغلب (بني ثعلب) (1) 759- (2) 204- 205- 319- 321 322- 326- 327- 358 360- 372- 499- 500 512- 513- 524- 545 581- 614- (3) 212 273- 410- 411- 423 433- 508- 562- (4) 2- 109- 115- 116 287- 288- (6) 15 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 40- 84- 94- 167 203- (7) 116- 134 157- 159- 173- 178 180- 182- 184- 209 294- 296. تغلب بن حلوان (2) 296. أبو تغلب بن حمدان (2) 275- (3) 529- 530- 531- 532 536. بني تغورت (تقورت) (7) 7- 70. تقي الدين بن تيمية (5) 474- 475. نقي الدين بن دقيق العبد (1) 568- (5) 480- 506- (7) 519. تقي الدين بن شاه (96) 255. تقي الدين السبكي (1) 568. تكدار بن موجب بن جفطاي (5) 616. تكدار بن هولاكو (أحمد) (5) 617 633. التكرور (6) 266- 267. علاء الدين تكش (4) 526- 529 (5) 8- 98- 102- 109 110- 111- 112. السلطان شاه تكش (4) 532. تكش بن ارسلان (5) 110. (خوارزم شاه) تكش بن ألب أرسلان بن اتسز بن محمد بن انوشتكين (5) 111- 112- 113- 114 115- 116- 117- 118 119- 131. تكلتمش (5) 628. بنو التكما (2) 370. تكين (5) 172. خوارزم شاه تكين (5) 114. تكين البخاري (تكيد البخاري) (3) 395- 396- 397- 398 (4) 24- 485- 504. تكين بن بهلول (5) 139. تكين البهلوان (5) 591. تكين الخادم (3) 482. تكين الخاصكي (3) 508. تكين خان (4) 492. تكين الخزري (4) 402- 403. تكين الشيرازي (3) 524- (4) 298 273. تلاكاكين (6) 241. تلتاش بن تتش (5) 173- 176. تلغات (2) 79. تلكتمر (5) 550. تلكمش أمير سلاح (5) 575. تلماي ملك مصر (2) 138- 141 147- 227. ابن التلمساني (1) 615. تلمياس (2) 139. تمار تمر (5) 559. تماضر بن [بنت] قيس (6) 124 125. تمام بن تميم التميمي (4) 246- 247. تمام بن عباس (2) 606- 611- (3) 251. تمام بن علقمة (4) 154. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 تمام بن معارك (أبو زاكي) (3) 454 (4) 40- 44- 45. تمام الصلح (3) 308. تمتاع بنت يسعين (2) 47. تمر السلطان تمر سلطان بني جفطاي سلطان التتر (5) 572- 574 575- 601- 602- 609 610- 626- 627- 628 630- 636. تمر بن طرغاي تيمور لنك. تمراز الناصري (5) 471- 547 548- 549- 550- 551 552- 553- 554- 555 557- 561- 564- 566 567- 568- 569- 570. تمرتاش ابن التمرتاش (4) 430 481. تمرتاش بن ارتق (5) 267. حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي بن ارتق (3) 618- (5) 63- 66 67- 179- 253- 254 255- 256- 265- 267 281. تمرتاش الحسيني (5) 533. تمرتاي محمد الدمرداشي (5) 547 548- 554. تمرجين جنكزخان. غيات الدين تمر شاه (5) 591- 592. تمريغ بنت مجدل (6) 125. تمزيت تمصيت (6) 158. تمصولة بن بكار (7) 54- 55. بني تمصيت بن ضري (6) 120. تمقان بن اوكداي (5) 599. تميرك (5) 175- 225. بني تميلة (2) 9. بني تميم (1) 174- 265- 268 (2) 75- 204- 210 214- 285- 308- 319 322- 327- 355- 357 359- 368- 375- 378 379- 397- 398- 406 458- 460- 470- 498 499- 500- 502- 504 505- 507- 526- 586 614- 616- 643- 644 645- (3) 15- 47- 52 57- 62- 69- 77- 87 97- 98- 99- 107 115- 116- 117- 118 139- 146- 147- 153 172- 182- 183- 184 197- 212- 225- 234 254- 266- 303- 404 428- 542- (4) 22- (5) 235- 236- (6) 3- 8 15- (7) 385- 408. ابن تميم صاحب يلزمة (4) 39. تميم بن بكلين (6) 249- 251. تميم بن بلتان (6) 242. تميم بن تيولوثان (6) 241. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 تميم بن الحباب (3) 204. تميم بن حبوس أخو المظفر (6) 240. تميم بن خلوف (7) 29. تميم بن زيد الضبي (3) 84. أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلي (6) 279- (7) 28- 47- 49. تميم بن عبد الرحمن (7) 86. تميم بن عبد مناة بن اد (2) 378. بنو تميم بن مر بن ادّ بن طانجة (2) 375. تميم بن المعز بن باديس (6) 26 212- 213- 217- 221 224- 230- 232- 606. تميم بن معنصر بن العز (7) 48. تميم بن مقبل (2) 371. تميم بن مؤنس بن يحيي (4) 77. تميم بن نصر (3) 145- 156. الأمير تميم اليغرني (6) 280. تنافلت (7) 220. سيف الدين تنكر (تنكر) (5) 95 96- 434- 488- 490 505- 506- 507- 518 560- 615. تنكز الناصري (5) 487. سيف الدين تنم بن عبد الله الحسني الظاهري (7) 714- 715- 716. تنوخ (2) 201- 285- 288 296- 297- 298- 308 312- 328- 512- 542 546- (6) 595. تنوخ بن مالك بن فهم (2) 331. (الخاتون) تنوفالون (5) 607. التهامي (4) 128. توبة بن جبر بن عطاف بن عبد الله (6) 29- 31. التوتناش الحاجب (4) 345- 478 495- 504. قبيلة توجر (6) 603. بني توجين (4) 217- (6) 28 58- 59- 62- 64- 84 134- 164- 165- 190 209- 228- 231- 307 308- 371- 383- 390 406- 422- 428- 450 458- 477- 478- 479 484- (7) 7- 10- 14 60- 67- 74- 75- 78 79- 82- 83- 84- 86 87- 89- 90- 96 103- 105- 106- 111 112- 114- 115- 116 119- 122- 123- 124 125- 126- 129- 131 133- 134- 137- 138 141- 142- 146- 147 154- 156- 158- 164 166- 173- 200- 202 204- 205- 206- 207 210- 211- 215- 217 220- 258- 268- 282 291- 292- 294- 309- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 330- 331- 338- 339 340- 341- 364- 370 371- 373- 637 . تودن (5) 23. تودورة بنت قسطنطين (2) 276. توذر البطريق (2) 541. بهاء الدولة توران بن تهيبة (تروان بن وهب بن وهيبة) (4) 360. شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين (4) 102- 278 280- (5) 333- 334 336- 337- 338- 341 342- 343- 346- 388 417- (7) 692. المعظم تورانشاه بن صلاح الدين (5) 414- 418- 419- 420 421- 423- 424- 431 432. توران شاه بن قاروت بك (5) 19. تورتكين الديلميّ (3) 519. الأمير تورد (5) 23. توروز (4) 126. بني تورغ (يتورغ) (6) 169. توزر (6) 507- 511- 512 513- 555- 596- 599 (7) 79. توزون (3) 509- 510- 511 512- 514- 515- 517 519- 520- 594- 595 (4) 292- 293- 294- 295- 296- 297- 299 404- 565- 570- 571 668. توزون بن أوماكان بن منكوفان بن جفطاي (5) 601. التوسطاش (5) 21. توغرما بن كومر بن يافث (2) 11- (5) 4- 5- 635. توفيل الرومي (1) 419. توقا (بوقا) (4) 330. توقر (5) 633. توقوو (5) 452. توما (2) 172. توماس (2) 173. ابن التومان بن السبط بن اليسع (2) 101. بني تومرت ابن تومرت (4) 102 (7) 96. تومق (5) 16. التونطاق (5) 29. التويزري (1) 202- 409. تيدمر الباسلي (طيدمر) (5) 520. تيدوكسن (نيدوكسن) بن طاع الله (7) 367. بني تيربيغين (7) 376- 475- 486. تيران (5) 261. تيزا (تينزوا) (6) 242. تيسات (7) 7. بنو تيطاسن بن غرسن (6) 196. بني تيغرين (6) 64- (7) 131 138- 141- 146- 157 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 205- 206- 210- 211 212- 216- 218- 220 331- 371 . تيفراض (7) 7. بنو تيغرست (7) 10. ابن تيفلويت (1) 818. بني تيم (2) 291- 598. تيم الادرم بن غالب بن فهر (2) 385. تيم بن علقمة بن عمرو (2) 382. تيم بن مرة بن كعب (2) 387 399. تيم الرباب (2) 646. تيم اللات (2) 288- 509. تيم الله (6) 3- 10. تيم الله بن ثعلبة بن عكابة (2) 360. تيم الله بن ثعلبة بن عمرو (بنو النجار بن عمرو) (2) 343. تيماش بن قماج (3) 648. تين ملّل (6) 251- 271- 299 304- 305- 309- 324 338- 339- 359- 360 364- 381- 422. تيمور لنك تمر بن طرغاي (4) 516 (5) 731- (7) 726- 727 728- 730- 734- 735 736- 737- 738- 739 740. تيولوثان (6) 241. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 حرف الثاء (ث) ابن ثابت (1) 638. بني ثابت (6) 79- 113- 199 613. ثابت بن افرم من بني العجلان (2) 456- 497. ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان (4) 199. ثابت بن سلطان (4) 365. ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الطبيب (3) 516. أبو ثابت بن عثمان بن أبي العلاء (4) 219- 220- (7) 496. ثابت بن عطية (3) 58. (أبو قوام) ثابت بن علي بن مزيد (4) 356. ثابت بن عمار الزكوجي (6) 615. ثابت بن قرة (1) 639. ثابت بن قطنة مولى خزاعة (3) 67 70- 71- 109- 110. ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي (2) 423- 444- 445- 470 497- 502. ثابت بن قيس الهمدانيّ (2) 589. ثابت بن كامل (4) 360. ثابت بن مالك الخزاعي (3) 285. ثابت بن محمد (6) 536- (7) 117 303. آل ثابت بن منديل (7) 436. ثابت بن منديل أمير مغراوة (6) 137 (7) 88- 89- 117 121- 122- 123- 132 289- 290- 292. ثابت بن موسي (3) 266. ثابت بن نعيم الجذامي (3) 139 140- 141- 142. ثابت بن وزيدون (6) 146- 202. أبو ثابت بن يعقوب (7) 431. أبو ثابت البزولي (الجزولي) (5) 483. ثابت الصنهاجي (4) 240. تاوذوسيوس (1) 640. الثريا بنت أمية الأصغر صاحبة عمر بن أبي ربيعة (2) 390. الثعالبي (1) 19- 554- 758 (4) 116. أبو ثعلب بن حمدان صاحب الموصلي (4) 64. ثعلب بن سحير (6) 79. ثعلب بن علي بن بكر بن صغير (6) 84. ثعلب بن عمرو بن العوث (2) 302. ثعلب بن مطاعن بن عبد الكريم (4) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 بني ثعلب بن وائل (4) 287- (6) 3. بني ثعلبة (2) 341- 440- 505 506- (3) 313- 314 338. بنو ثعلبة بن بهيثة بن سليم (2) 365. ثعلبة بن جدعا بن ذهل (2) 303. ثعلبة بن جذيمة (2) 357. ثعلبة بن حارثة بن عامر (2) 394. ثعلبة بن خزامة بن سلامة الجرابي (3) 177. بنو ثعلبة بن دودان (2) 380. بنو ثعلبة بن ذهل بن رومان (2) 303. بنو ثعلبة بن رومان بن جندب (الثعالب) (2) 303. ثعلبة بن سعد (2) 472- 491. ثعلبة بن سلامة الجذامي (4) 150. ثعلبة بن عامر (2) 336. ثعلبة بن عبيد (4) 155. بنو ثعلبة بن عدي بن فزارة (2) 363. ثعلبة بن عمرو بن عوف بن مالك (2) 342. ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن الحرث (2) 332- 333. بنو ثعلبة بن عمرو مزيقياء العنقا (2) 302- 332- 333. ثعلبة بن قوقل بن عوف (2) 343. ثعلبة بن كعب بن الخزرج (2) 418. ثعلبة بن محارب بن عبد الله (4) 18. ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث (4) 178. بنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة (2) 377- 500. ثعلبة العنقا (2) 340. ثقبة بن رميثة (4) 135. ثقيف (1) 162- 268- 765- (2) 26- 71- 362- 367 368- 397- 402- 415 462- 464- 465- 467 469- 470- 490- 608 (6) 3. بني ثم (5) 496. ثمال بن صالح (معز الدولة أبو علوان) (4) 348- 349- 350- 413 (6) 18. ثمامة بن أثال بن النعمان (2) 359 499- 504- 505- 506. ثمامة بن اشاك (3) 185. ثمامة بن عبد الله بن أنس (3) 175. ثمامة بن الوليد (يمامة بن الوليد) (3) 267. ثمل بن بجل رئيس لطانة (4) 39. القادر باللَّه ابن الثمنة (4) 266. ثمود (1) 183- 191- 213 221- 222- 223- 430 447- 507- (2) 9- 18 22- 24- 26- 184 368- 468. ثمود ارم (2) 79. بنو ثمود بن كاثر (جابر) بن ارم (2) 24 27. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 ثوابة بن جوثة (6) 54. ثوابة بن سلامة الجذامي (4) 150. ثوبان (1) 388. بني ثور (6) 22. أبو ثور بن أبي شبل (4) 191. بني ثور بن عبد مناة (2) 378- 379. ثور بن عفير بن الحرث بن مرة (2) 329. ثور بن عفير بن عدي (كندة) (2) 306. بني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة (6) 22. ثوران بن اراشة بن فادان بن عمرو بن عملاق (2) 31. ثوران بن قراد (4) 349. الثوري (1) 390- 398- 601. الثوري بن موسي (4) 48. ثيمال بن اليفاز (2) 47. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 (ج) الجائي اليوسفي (5) 516- 522 523- 524- 525- 527 538. جابان المرزبان صاحب بانقيا وبرسوما (2) 507- 509- 521- 522. بني جابر ابن جابر (1) 779- (6) 37- 42- 43- 48- 43 48- 344- 346- 348 349- 350- 351- (7) 232- 243- 311- 409 429. جابر من عرب جشم (6) 155. جابر بن الأسود بن عوف الزهري (3) 48- 49- 73- 172. جابر بن الأشعث بن يحيي بن النعمان الطائي (4) 380. جابر بن بجير (2) 505- 509. جابر بن جشم (6) 42. جابر بن حيان (1) 26- 217 633- 655- 671- 696 706- 720- 726. جابر بن سمرة بن جنادة (2) 369. جابر بن صخر من بني سلمة (2) 453. جابر بن عامر (6) 43. جابر بن عبد الله (بن رئاب) (1) 270 394- (2) 347- 416 417- 437- (3) 51. جابر بن عون بن جامع (6) 382. جابر بن أبي القاسم علي بن الحسن (4) 265. جابر بن مومة الكلابي (3) 253. جابر بن ناشب (3) 570. جابر بن يوسف بن محمد (7) 97 98- 99- 117- 199 303. جابر الرياحي (4) 406. جابر المزني (2) 602. جابر مناكير (1) 397. الجابي الشمسي (5) 533. الجاثليق (2) 215- 554- 555 (4) 180. جاجة (7) 456. الجاحظ (1) 603- 632- 761 763- (2) 207- (3) 611. جاحق بن الديواني (جاجيق بن الديراني) (3) 514. جار الله من عرب المعقل (7) 352. جار الله بن عبد الله بن دريد (6) 31 32. جاركش الخليلي أميراخور (7) 709. ابن الجارود (3) 56- (4) 246. الجارود بن عمرو بن حنش (2) 357 476- 565. الجارود بن المعلى (2) 504- 505 548. بني الجارودي (4) 116. جارية بن قدامة السعدي (2) 609 639- 644. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 الجازر بن هيدور (7) 342. الجازية بنت سرحان (1) 807- (4) 129. الجازية بنت أبي الفتوح (6) 24 25- 30. الجاسكية (4) 588. جاسم (جاشم) (2) 9- 30 100- 340. الجاشنكير (5) 472- 484- 485 486. الجاشنكيرية (5) 490. جاغان الحسامي (5) 470- 472 473. الجالنوس أمير الفرس (2) 377 521- 522- 528- 531 532- 535. جالوت (1) 288- (2) 12- 100 109- 110- 192- (6) 123- 126- 127- (7) 3- 5. جالوت بن جالود بن بردنال بن قحطان بن فارس (7) 4. جالوت بن هوبال (هربال) بن بالود بن ديال (6) 122- 123- (7) 4. جالوت ملك البربر (2) 573. جالي (6) 266. جالينوس (1) 55- 109- 130 650- (2) 222- 244. جاماسات (جاماست) (2) 208 209. جاماسب العالم (2) 190- 191. جاماسب عم أنوشروان (2) 73. الجامدارية (5) 439. ابن جامع أبو جامع بني جامع الهلاليين أمراء فاس (1) 300- (2) 366- (6) 97- 98 221- 222- 323- 337 338- 606. جامعة بن بطرة بن ادفونش بن ريند (4) 233. الجامكية (5) 47. جانا بن يحيي اب زناتة (6) 122- (7) 3- 4- 6- 9- 65- 73. جانا الخراسان (7) 160. جاناته (خباتة) (6) 274. جانحان (3) 340. أبو بكر جاندار (5) 94. جاني بك بن ازبك (5) 608- 624. جاورصي (5) 452. جاولي (3) 630- (5) 40- 66 179- 216- 220- 221 227. ابن جاولي (ابن عز الدين جاولي) (5) 377- 379. جاولي سقاوو (4) 119- 120 364- (5) 30- 45- 46 48- 49- 52- 53- 54 189- 190- 191- 219 251- 262- 264. جاولي الطغري (5) 76- 80. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 جاوندان بن سهل (3) 322. الجبار بن علقمة بن وائل (2) 292. جبار بن غالب بن كهلال (2) 54. جبار بن مهنا (خيار بن مهنا) (5) 503 514- 517- 526- 534 (6) 13. جبارة (6) 334. جبارة بن إسحاق بن محمد بن علي (6) 253- 260- 302. الجباني (1) 603. الجباية (6) 92. الجبر بن محمد بن خزر (4) 21. جبرا مولى أبي رهم الغفاريّ (2) 87. جبريل عليه السلام (1) 673- (2) 41- 171- 297- 410 443- 480- (3) 419- (7) 263- 711. جبريل بن بختيشوع (1) 24- (3) 280. جبريل بن الحافظ (4) 94. جبريل بن عمر (4) 516. جبريل بن محمد (4) 326. جبريل بن يحيي (3) 256- 260 261. جبريل مرتية (5) 543. الأمير جبقا العادلي (5) 510- 511 512- 514. أبو جبلة من ملوك غسان (2) 62. جبلة بن الأيهم (2) 333- 334 335- (5) 537. جبلة بن الحرث (2) 333. جبلة بن زفر بن قيس الجعفي (3) 63. جبلة بن عتاب الحنظليّ (2) 622. بني جبلة بن عدي بن ربيعة (2) 329. جبلة بن مسروق (2) 642. جبلة بن النعمان (2) 335. أبو جبير (3) 238. جبير بن مطعم بن عدي (1) 303- (2) 5- 290- 312- 313 347- 391- 419- 421 436- 597- 601. الجبيري (1) 337. أبو جبيلة بن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة ملك غسان (2) 336 342- 343- 344. ابن جحاف الأحنف قاضي بلنسية (6) 248. بني جحجبا (2) 420. جحجبا بن عتيك بن لخم (2) 313 321. جحجبا بن كلفة (2) 342- 438. جحجح (3) 509- 510- 512 513- 514- 515- (4) 292- 293- 294. بني جحش (2) 420. بني الجد (7) 507. ابن الجد (أبو عمرو بن الجد) (4) 216 (6) 395. الجد بن قيس (2) 424. جدانة بنو كطوف بن لوا الأصغر (6) 119. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 جداو بن الديرت (7) 7. بني جدعان (2) 411. جدليا بن أحان (2) 124. جديس (2) 9- 18- 22- 27 28- 310- 355- 359 (4) 284. جديع بن سعيد بن قبيصة (3) 52 189. جديع بن علي الكرماني (3) 138. جديعة الكرماني (3) 116- 117. جديلة (2) 357. جديلة بنت تيم الله (5) 501. جذامة جذام (1) 162- 765 (2) 36- 61- 63- 267 269- 284- 305- 306 387- 456- 478- 514 (5) 435- (6) 7- 48 122. بنو جذع بن بكر بن ليث (2) 381. جذع بن عمرو بن المجالد (2) 333. جذيمة (2) 309- 311- 312 322. جذيمة الأبرش (أبو مالك) (2) 30 285- 308- 310- (7) 619. بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة (2) 462. جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس (2) 301- 309. جذيمة الوضّاح (2) 305- 309. بني الجرّاح من طي (4) 70- 114 (6) 9- 10- 11- 25- (5) 500- 501. ابن الجراح أمير طي (4) 127- 128. الجراح بن عبد الله الحكمي (3) 63 88- 95- 100- 105 109- 111- 112- 166 173- 174- 175- 176. الجراح بن عبيد الله (7) 194. آل جراد (6) 10. بني جرار (7) 152- 153. جرار بن مغرج (6) 9. جرار بن ويغرن (6) 376. بني جرار بن يعلي بن تيدوكسن (7) 152- 154. جراس بن أحمد الحاسب (1) 418 419. جراسياق (5) 90. الجرامقة (2) 9- 19- 38- 76 78- 79- 80- 125 181- 197- 201- 209 298. جران عم بطرة (4) 231. جراوة (6) 143- 171- 227 278- 285- (7) 10 11- 12. جراوة بن أبي الحفيظ (السميع) (6) 283. أبو الجرباء (2) 617. الجرباذقان (4) 627. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 جربة من بني صدغيان (6) 161 220. جرتان (5) 430. جرجان بهلوان ازبك (5) 142- 143. جرجان بن لاوذ بن سام (2) 8. الجرجاني (أبو الحسن) (1) 16 391- 393- 396- (2) 5- 26- 31- 59- 64 65- 323- 327- 333 354- 371- (4) 67- (6) 15. الجرجراي (الجرجرائي) (4) 73 76- 348- (5) 233. جرجه بن توذر (5) 515- 516. ابن جرجي (5) 543- 562. جرجي بن مناسل (6) 215. (ابن قطلمش) جرجي بن ميخائيل (2) 276- (5) 234- 235 236- 237- (6) 214 223- 224- 614- (7) 58. جرجير ملك الفرنجة (2) 59- 574 575- (6) 140- 141 195- (7) 10- 11. الملك جرجيس (2) 102- 272 (6) 117. جرجيس بن العميد (1) 291- (2) 104- 107. جرجيس بن مرعش (2) 273. عز الدين جرديك (خرديك) (5) 244- 245- 246- 301- 314 331- 340- 364- 380 384. جرسي بن نيرو (2) 198. جرشم بن عبد يا ليل (2) 293. جرشم بن جلهمة (2) 286. جرشون بن موسي (2) 95. جرك (5) 272. الجركس (2) 277- (5) 430 431- 562- 584. جركس الخليلي (5) 523- 526 533- 535- 537- 539 550- 551. بنو جرم بن زبان بن حلوان بن عمران (2) 296- 306. جرمانة (6) 153. الجرمانيون (الجرمونيون) (2) 221 222. جرمق بن اشور (4) 548. جرموق بن اشوذ بن سام (2) 7- 76. بني جرمون (6) 39. ابن جرمون أمير سفيان (6) 339. جرهم (1) 437- (2) 11- 18 22- 30- 32- 36- 41 44- 53- 61- 62 284- 285- 292- 293 304- 308- 332- 355 393- 394- 395- 396 398- 401- 498. جرهم بن جلهة (2) 355. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 جرهم بن جرشم بن جلهة (2) 284. جرهم بن عبد يا ليل (2) 34. جرهم بن قحطان (2) 34- 292. جرول (جرون) صاحب صقلّيّة (6) 428- 429. بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف (6) 586. جري بن يوسف (6) 198. جريج (1) 402- 406. جريج بن أحمد بن زيادة الله (جرثم) (6) 286. جريج بن مينا (2) 87. جرير (1) 36- 163- 790 798- (2) 71- 377 539- 557- 626- (7) 596. بني جرير بن تميم (3) 181. جرير بن عبد الله البجلي (2) 483 493- 511- 523- 557 560- 591- 602- 625 (3) 14. جرير بن علوان بن محمد بن لقمان (6) 33. جرير بن مسعود (6) 147- 165. جرير بن ميمون القاضي (3) 117. جريس (5) 461. قبيلة جريش (6) 15. (شمس الدين) الجريض (5) 459. بني جرين (جرتن) (6) 120- 170. جزء بن معاوية (2) 551. ابن الجزري (3) 547. جساس بن مرّة بن ذهل (2) 358 360- (3) 376. جستان (خستان) بن شرمزن (شرمول) (سرمدن) (4) 670- 671. بني جسر (2) 335. جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج (2) 304. جشم (2) 58- 291- 369 371- 386- 462- (6) 18- 28- 29- 30- 37 38- 40- 43- 54- 64 133- 256- 257- 271 339- 346- 347- 361 (7) 240- 243- 266 311- 378- 409- 428. بنو جشم بن بكر (2) 355. جشم بن الحرث بن الخزرج (2) 342 343. جشم بن حيوان (4) 283. بنو جشم بن عبد شمس (2) 58. بنو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن (2) 368- 462- (6) 22 37- 38. جشم بن يام من همذان (4) 276 280. الجعادرة (2) 342. الجعاونة (6) 81. بني جعد (6) 203. الجعد بن درهم (3) 165- 345. جعدان (زعدان) بن عبد الله بن أحمد بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 كعب (6) 488. بني جعدة (3) 137- (6) 15. جعدة بنت الأشعث (2) 649. جعدة بن هبيرة (2) 646- (3) 37. الجعديّ (1) 572- 638. جعشم (2) 422. بني جعفر جعفر ابن جعفر (1) 259 408- (2) 267- 284 285- 573- (3) 280 341- 428- (4) 79 136- 279- (6) 5- 6. جعفر مولى بني زياد (4) 281. جعفر مولى المأمون (4) 269. أبو جعفر أخو سحنون (4) 253. جعفر الباعردي (4) 391. أبو جعفر البلدي (3) 648. جعفر بك (3) 578- 580- 591. جعفر بن إبراهيم السجان (3) 404. جعفر بن الأشعث (3) 283. جعفر بن الاطرش (4) 33. أبو جعفر بن إيام (4) 398. أبو جعفر بن بهاء الدولة (4) 215. تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف (4) 265. جعفر بن جاولي (5) 66. جعفر بن أبي جعفر بن داود (4) 446. جعفر بن حبيب (6) 613- (7) 55. جعفر بن الحسن بن بهرام (4) 114. جعفر بن حسن (3) 238. أبو جعفر بن حسن الباغاني (أسد الدولة بن تاج الدولة) (4) 265. جعفر بن الحسن المثنى (3) 123. جعفر بن حنظلة النهرواني (3) 120 121- 232- 240- 246 256. جعفر بن داود القمي (3) 319- (4) 437. جعفر بن دينار الخياط (جعفر الخياط) (3) 320- 324- 325 327- 338- 349- 355 359- 374- 409. جعفر بن رستم (3) 357. جعفر بن الرشيد (3) 271- 272. جعفر بن أبي رمان (6) 229- 230. جعفر بن الزبير (3) 25. أبو جعفر بن الزبير (7) 521- 688. جعفر بن سعد العشيرة (2) 304. جعفر بن أبي سفيان (2) 464. جعفر بن سليمان بن علي (3) 243 245- 246- 253- 266. أبو جعفر بن السيرجان (4) 620. أبو جعفر بن شيرزاد (3) 515- 516 517- 519- 520- 521 524. جعفر بن أبي طالب (2) 391 410- 411- 413- 423 450- 454- 455- 456 (4) 145- (5) 434- (6) 6- 78. جعفر بن أبي العباس الكندي (3) 124. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي (3) 55- 202. القاضي جعفر بن عبد الله بن حجاب (4) 205. جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي (3) 345- 349- 364 375. جعفر بن عبيد الله بن الحسين الأعرج (4) 143. جعفر بن عثمان المصحفي (4) 182- 185. جعفر بن علي (3) 30- (6) 278 292. جعفر بن علي الأندلسي (4) 56- 72. جعفر بن علي بن حمون صاحب المسيلة (4) 104- 105- 106- 186 (6) 204- 205- 207- (7) 38- 72. جعفر بن علي بن يحيي أمير الزاب والمسيلة (7) 21- 25- 26. أبو الفوارس جعفر بن الفرات (4) 406 407. جعفر بن فسانجس (4) 625. جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسي (3) 375- (4) 406. أبو جعفر بن فضلان (3) 578. جعفر بن فلاح الكتابي (4) 58 59- 60- 61- 113 114- 127- 407. جعفر بن فهرجس (3) 334. أبو جعفر بن القادر (6) 18. بنو جعفر بن كلاب (2) 370. جعفر بن محمد أمير صقلّيّة (4) 258. أبو جعفر بن محمد بن أحمد (4) 33. جعفر بن محمد بن الأشعث (3) 273 277. جعفر بن محمد بن حسن (4) 6- 7. جعفر بن محمد بن الحسين (3) 239. جعفر بن محمد بن أبي خالد (3) 308. جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسين (4) 265. جعفر بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس (أخو أبو جعفر المنصور) (4) 4. جعفر بن محمد بن عمار (3) 375. جعفر بن محمد الصوحاني (3) 377 (4) 22. جعفر بن المعتمد (3) 447. جعفر بن المعتمد (3) 431- (4) 385. جعفر بن معدّ (7) 72. جعفر بن منصور الخياط (3) 382. جعفر بن أبي هاشم (4) 129. جعفر بن هاشم بن الحسن بن محمد بن محمد بن أبي الكرام عبد الله (4) 132. جعفر بن ورقاء الشيبانيّ (3) 470 500. جعفر بن يحيي (4) 549- (7) 52 72. جعفر بن يحيي البرمكي (5) 500- (6) 9. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 جعفر بن يحيى بن خالد (1) 20 21- 22- 169- 297 307- 761- (2) 304- (3) 274- 276- 285- 286 (4) 9. جعفر بن يحيى بن عبد الرحمن (3) 377. جعفر التركي (4) 542. أبو جعفر الجمال (3) 496- 503. أبو جعفر الراشد (3) 630- 631 632- 633- 634. جعفر الرشيد (4) 140. أبو جعفر الزناتي (4) 59. أبو جعفر السمناني (3) 552. جعفر الصادق (1) 248- 250 251- 252- 269- 415 416- 420- (3) 238 241- 450- 451- (4) 35- 36- 37- 38 144- 145- (7) 721. أبو جعفر الصهيري (الظهيري) (3) 494- 506- 508. أبو جعفر الصيمري (4) 298- 569 573- 574- 674- 675 جعفر طي (2) 308. أبو جعفر العقيلي (1) 390- 391. أبو جعفر العلويّ (4) 555. أبو جعفر الفياض (3) 502. أبو جعفر الكرخي (3) 511- 515. جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسماعيل (3) 451 (4) 36. أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. جعفر المنصور بن المسترشد (3) 612. أبو جعفر النسفي (3) 449. الجعفري (4) 119. جعفري بك (5) 52- 53. جعلان التركي (3) 366- 378 395- 396- 398- 423. جعوان بن خراج (6) 81. جعونة بن الحرث من بني عامر بن صعصعة (3) 90. جعونة بن يزيد بن زياد (الفجاءة) (2) 375. الجفاني (3) 396. بني جفطاي (7) 725- 726 729- 740. جفطاي (كداي) بن جنكزخان (5) 548- 572- 573- 589 596- 598- 601- 609 613- 630- 636- (7) 724- 739. جفنة- بني جفنة (2) 19- 75 287- 298- 300- 302 317- 323- 331- 334 336. جفنة بن عمرو (2) 332. جفنة بن مزيقياء (2) 309- 334. جفنة بن المنذر بن الحرث الأعرج (2) 334. جفينة النصراني (2) 570. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 (ابن عثمان) جق أمير التركمان (2) 280 (4) 343- (5) 10- 188 190- 424- 635. جقربك (4) 637. نصير الدين جقري (5) 264- 269 271- 277- 278- 279 293. جقري التركي (5) 121. جقري خان (جغراخان) بن حسين تكين (4) 520- (5) 95- 96. جكرمش (3) 596- 597- 608 609- (4) 345- 415- (5) 27- 28- 36- 40- 41 42- 43- 44- 45- 46 47- 48- 49- 174 175- 179- 189- 216 217- 220- 224- 227 248- 249- 250- 251 262. جلك بن نوغينة (5) 606- 607. جلال بن محمد (6) 79. جلال الدولة بن بويه (3) 549 551- 552- 553- 554 555- 556- 557- 559 560- (4) 331- 332 333- 354- 355- 495 496- 624- 626- 629 630- 632- 634- 638 640- 641- 642- 644 682- 691- 692- (5) 156. جلال الدين الإسماعيلي (5) 103. جلال الدين صاحب قلعة ألموت (3) 658- 660. جلال الدين (4) 539- 542 543- 544- 545- 547 (5) 302- 303. جلال الدين بن خوارزم شاه (5) 137 138- 139. جلال الدين (أبي الرضي) بن صدقة وزير الراشد (3) 611- 619 631 (4) 370. جلال الدين (عميد الدولة أبو علي) بن صدقة (3) 611- 619 622- 631- (5) 62 64- 73. جلال الدين بن عمار (5) 169. جلال الدين بن عمر الأشرف (5) 489 579. جلال الدين بن محمد بن تكش (5) 104. جلال الدين الرضي (5) 272. جلال الدين شاه (5) 411. جلال الدين القزويني (1) 761- (5) 474. الجلالقة (1) 104- 184 186- 317- 321- (2) 89- 236- 277- 278 (4) 146- 148- 153 158- 162- 164- 167 169- 170- 174- 179 181- 183- 189- 221 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 222- 226- 227- 228 230- 571- (5) 210 282- (6) 248- 424 425- 527- (7) 12 88- 432- 495- 502 507. جلدك بن طغرل (5) 123- 124. الجلندي (2) 506- (3) 225. بني الجلندي (4) 117. جلندي بن مسعود بن جعفر (3) 209. جلنقر (5) 430. الجلودي (3) 306. ابن أبي جلي (7) 67. الجليجي الثائر (4) 110. جليد ابن تليكشان (6) 161. الجليس بن عبد القوي (4) 98- 99. أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج (6) 27. الجليل بن علي بن محمد الدهشتاني (5) 28. حجاز (جمان) بن حسن بن قتادة (4) 132. حجاز بن مهنا (5) 523- 524. حجاز بن هبة بن حجاز بن منصور (4) 138- 143. جماعة بن مسلم بن حماد بن مسلم (6) 48. جمال الدولة (4) 506. جمال الدين (3) 641- 643- (5) 217. جمال الدين بن أقوش (5) 470. جمال الدين ابن الحاجب المالكي (5) 415. جمال الدين بن رواحة (5) 373. جمال الدين بن سابق الشاوي (5) 129. جمال الدين بن مطروح (5) 416 419- 432. جمال الدين بن موسي بن رحو (7) 308 498. جمال الدين بن نظام الملك (5) 15 90. جمال الدين بن هشام (1) 755. جمال الدين بن يغمور (5) 419 420- 432- 433. جمال الدين القمي (5) 166. جمال الدين المصري عثمان بن عمر بن يونس. القاضي جمال الدين الملطي الشافعيّ (7) 728. جمال الدين الاقفهي المالكي عبد الله بن مقداد بن إسماعيل. جمال الدين البساطي يوسف بن خالد بن نعيم. جمال الملك (4) 84- (5) 215 222. جمان (4) 299. بنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب (2) 387- 399- 411. جمد من ملوك بني وليعة (2) 476. جمشيد (جم) بن نوجهان (2) 183. 184. الجمعيات من بطون حكيم (6) 107 109. ابن الجمقري (5) 89. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 جمهور ذوي منصور (6) 87. جمهور بن مروان العجليّ (جمهور بن مراد العجليّ) (3) 229- 232. جميال ملك الهند (4) 487. جميل بن عبد الله بن معمر العذري (جميل بثينة) (2) 295- (7) 564 712. حنا الصفواني (3) 470- 479 483. بني جناب بن حبل بن عبد الله بن كنانة (2) 296. بني الجنابي (4) 111- 115. جناح الدولة صاحب حمص (4) 83 (5) 211- 214. جنادة بن أمية بن عوف (2) 382. جنادة بن أبي أمية الأزدي (3) 22 23. الجناني الحياتي (4) 25. جنثمر أخو طاز (5) 543- 554 555- 557- 558- 559 562- 563- 567- (7) 701. جنداي دادا (4) 487. جندب بن جنادة (أبو ذر الغفاريّ) (2) 88- 370- 382- 423 440- 445- 576- 587 588- (3) 527- (4) 582. جندب بن زهير الغامدي (العامري) (2) 589- 618. جندب بن عبد الله (2) 581- 646. جندب بن كعب الازدي (2) 589. جندبالي (4) 487. جندراي (4) 487- 491. جندع بن عمرو بن الدبيل بن أرم بن ثمود (2) 24. جندل بطن من حصين (6) 59. جندل بن جعفر بن علي بن حمدون (7) 36. أبو جندل بن سهيل (2) 386- 448. جنشوند (2) 282. الجنصكير القسيس (5) 388. جنطاي (5) 138. جنقر التركي (4) 530 (5) 115 116. جنقصو بن دواتمر بن حلو بن براق (5) 601. جنكزخان (تمرجين) (3) 640 660- (4) 104- (5) 104 127- 132- 136- 137 138- 141- 142- 146 159- 198- 430- 543 573- 586- 587- 588 589- 590- 591- 592 594- 595- 596- 598 599- 600- 601- 608 611- 613- 621- (7) 723- 724- 725- 739. جنكي بن شاهي (4) 486. ابن جني (1) 728- 755. الجنيبي (5) 271. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 الجنيد ابن الجنيد (1) 591- (3) 260- 342. الجنيد بن بشار الأسدي (4) 243. الجنيدي بن عبد الرحمن بن عمر بن الحرث بن خارجة المري (3) 84- 110 111- 112- 113- 114 126- 175- 176. (فخر الدين) جهاركس (5) 385 386- 388- 389- 392 393. جهان بهلوان الكعبي (الكجي) (5) 145- 148- 153- 154. جهان بهلوان أزبك (5) 163. جهان دانكي (5) 76. ركن الدين جهان شاه بن طغرل (5) 160- 161- 162- 163. جهجاه بن مسعود الغفاريّ (2) 445. جهد الملك بن أحمد (6) 99. بنو جهم بن ثقيف (2) 367. أبو جهم بن حذيفة العدوي (2) 387 601- 636. جهم بن ذفر الجعفي (3) 93- 95. جهم بن صفوان (3) 144- 145 345. أبي الجهم بن عطية (3) 157 224- 227. جهم بن قيس بن شرحبيل (2) 454. جهم بن مسعود الناجي (3) 145. أبو جهم العدوي (2) 597. جهور بن محمد بن جهور بن عبد الله بن محمد بن المعمر بن يحيي (4) 193 195- 199- 200- 201 202. ابن جهير بني جهير (3) 577 584- 585- 587- (4) 342- (5) 9- 10- 261. جهينة (1) 52- (2) 288- 295 344- 405- 460- (3) 236- (4) 79- (5) 492 (6) 6- 7. بنو جهينة بن عوف (2) 374. بني جواب (6) 55- 56. ابن الجواد (4) 253. بني أبي الجواد (2) 305. الجواربة بنو جراب بن وشاح (6) 111. الجواري بنو حميد بن جارية بن وشاح (6) 111- 112- 113. جواز بن رياح (6) 48. جواز بن يغرن (6) 261. جوان (7) 329- 330. جواندة الجليقي (جراندة) (6) 321. الجواهري (6) 384. جوبان بن ثدوان (بروان) (5) 479 494- 495- 498- 499 608- 620- 621- 622 633- 634. الجوباني (5) 542- 544- 549 550- 552- 553- 561 562- 563- 565- 566 567. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 جوثة من بطون سويد (6) 61. جوثرة بن مساور (3) 365. الجوجري (5) 435. جوجي خان بن جنكزخان (7) 724. بني أبي الجود بن عبد المدان (4) 286. جودر (4) 185. الجودي بن ربيعة (2) 512. جور بن أشك (2) 198. جور بن نيرو (2) 196. الجور هو معاوية بن حجر آكل المرار (2) 327. جوراسف بن شراشف (2) 188. الجوزقان (4) 689. جوسكين (جوسكر) ابن جوسكين (5) 48- 49- 50- 64- 67 177- 220- 221- 225 228- 254- 255- 265 278- 281- 284- 289. جوش بن عبد العزيز (6) 316. الجون بن كعب الهمدانيّ (3) 187. الجون بن كلاب الخارجي (3) 207. جونة الطخاري (3) 119. جوهر قائد المعز (4) 21- 113 114. ابن جوهر (4) 186. الأستاذ جوهر الخصي (5) 331- 332. جوهر الصقلي الكاتب (1) 224 374- 458- (4) 56 58- 63- 64- 406- 407- (6) 77- 174 204- 291- (7) 24 25- 36- 49- 202. الجوهري (1) 757- (6) 430- (7) 571. جويرية بنت الحارث أم المؤمنين (2) 374- 445- 446. جويلا بنت كوش (2) 11- 14. جوين اخوة الشراعبة ونعير (3) 277 (6) 107. الجويني (5) 459. الجويون بني جوي (2) 40- 47 48. حي بن اخطب (2) 431. ابن الجياب (1) 779. بني جياش (4) 277. جياش بن نجاح (4) 273- 274. جيان (7) 610. جيان بن ضبيان السلمي (3) 21. ابن الجياني (6) 309. الجياهنة (6) 89. جيبال (جميال) (4) 477- 488. جيحون (5) 23. جير الراهب (2) 408. جيرش (كسري الأولى) (2) 81. جيرون (2) 85. جيرون بن سعد بن لقمان بن عاد (2) 22. جيرون بن لاون (2) 273. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 جيش بن خمارويه (4) 397. أبي الجيش بن زياد (4) 279 282. جيش بن الصمصامة (4) 61- 65 68- 69. ابن جيعونة (جيعونة) (4) 387. جيفر بن الجلندي بن عامر بن جلندي صاحب عمال (2) 301- 449 467- 506. جيفونة ملك طخارستان (3) 78 79- 291. الجيل (4) 548- 549- 565 566- 570- 575- 577 580- 582- 686- 689 690- 691- (7) 2- 6 9- 10- 719- 721. جيلان (2) 560- (3) 91. جيملة (6) 196. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 حرف الحاء (ح) بني حاب (حوات) (6) 170. أبو حاتم ابن حاتم (1) 393- 396 398- 415- (7) 101 325- 327. حاتم بن أحمد (4) 271. حاتم بن سعيد (1) 819. حاتم بن شريح (3) 158. حاتم بن الصقر (3) 300. حاتم بن النعمان الباهلي (2) 579- (3) 38. حاتم بن هرثمة بن أعين (4) 380. حاتم بن هرثمة بن النضر (4) 382. أبو حاتم الرازيّ (1) 398. الفقيه أبو حاتم العرفي (7) 266. أبو حاتم الكندي رأس الخوارج (7) 17. ابن الحاج (4) 219. ابن الحاجب (1) 798. الحاجب بن تافركين (6) 610. حاجب بن زرارة من بني تميم (1) 172 (2) 378- 405. الحاجب بن سيد الناس (6) 495. حاجب بن صالح (3) 318. الحاجب (المظفر) بن علي كبير قواد عمران والحسن بن عمران (4) 677. الحاجب المصحفي (7) 25. (الملك الصالح) حاجب بن الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون (المنصور) (7) 699- 700 701. (المظفر) حاجي بن الناصر (5) 510 511- 516. حاجي شركس (5) 608- 609. حاجيف بن الديراني (4) 667. حاجة من بطون المصامدة (6) 299 356- 370. الحارث (6) 354. أبو حارثة بني حارثة (2) 63- 340 346- 434- 441- 477 (6) 8- 10. حارثة بن بدر (3) 7- 183. حارثة بن ثعلبة بن عمرو (2) 342 394- 395. حارثة بن الحارث بن الخزرج (2) 342. بني حارثة بن الخزرج (5) 422. حارثة بن سراقة [من معديكرب] من بني النجار (2) 430. بني حارثة بن سنبس (5) 500- (6) 7. بنو حارثة بن عمرو (2) 302- 332 374. حارثة بن النعمان الباهلي (2) 563 564. الحارس بن العزيز (6) 236. حازم بن شداد بن حزام (6) 151. ابن حازم (3) 47- 48. حازم (خازم) بن خزيمة (3) 147 211- 221- 224- 228 234- 235- 249- 252. الحاسان (5) 427. حاشب بن المطيع (3) 30- 31. حاشد (2) 300. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 حاصاب بن البلي بن يحاص (2) 107. حاطب بن أبي بلتعة (2) 87- 424 449- 458. أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عامر بن لؤيّ (2) 454. الحافظ الاندلسي (1) 422. (أبو عبد الله) الحافظ بن الأبار (6) 418- 419. (أبو العساكر) الحافظ بن عساكر (3) 586. (أبو عبد الله) الحافظ بن النجار (5) 30. الحافظ العلويّ (5) 234- 236. الحافظ لدين الله عبد الحميد ابن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر. الحاق بن قضاعة (2) 295. حاقمة (4) 216. الحاكم (أبو عبد الله) (1) 388 390- 392- 393- 394 396- 398- 399- 402 559- (7) 54- 55- 58 الحاكم عم المستنصر (4) 67- 90 103- 107- 127- 228 327- 328- (6) 5- 11 18. الحاكم العبيدي (6) 22- 23- 25. الحاكم العلويّ (مرتض الدولة) (4) 323- 346. الحاكم المستنصر (4) 105- (6) 204- 205- 276. الحاكم بن المعز (4) 67- 68- 70- 71- 72- 73. الحاكم بأمر الله أحمد خليفة مصر (5) 477- 616 (7) 736. الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار. بنو حالة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك (2) 291. بنو حام (2) 8- 9- 12- 14 21- 100- (6) 123. حام بن نوح (1) 105- 106 107- (2) 81- 84- (6) 123- 126- 264- (7) 5- 719. حامد بطن من يصراصن (6) 161. أبو حامد الأسفراييني (1) 30- (3) 449- 547. حامد بن حجوش (6) 68. حامد بن حمدان الاوربي (4) 19. حامد بن حمدان الهمدانيّ (6) 177 178. حامد بن حميد (6) 5. حامد بن العباس (3) 462- 463 464- 465. أبو حامد الغزالي (5) 16- 17- (6) 302. حامسة الكتامي (4) 400. حاموش بن الاتابك ازبك بن البهلوان (5) 151- 152- 154- 156. (أبو محمد) حاميم بن من الله بن جرير بن عمر (6) 288. الحباب بن رواحة الزهري (4) 151. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 حباب بن المنذر بن الجموح (2) 350 428- 488. حبابة (3) 103. حباس بن مشيغر من رجالات جشم (6) 27. بني حباسة من مغارة (6) 166. حباسة بن يوسف (4) 45- 46. حبال من بني أسد (2) 490. حبان بن قيس بن العرقة (2) 442. الحبر منشا (2) 124. حبش الحبشان الحبشة (1) 107 (2) 4- 8- 14- 66 69- 70- 72- 74- 75 89- 312- 400- (4) 125- 271- 274- 279 (6) 264- 265- (7) 5. حبشي بن التونطاق (3) 598. حبشة بن داهر (3) 84. حبشي بن معز الدولة (3) 529. بنو حبشية (2) 395. حبقون النبي (2) 123- 124. حبش بن كوش بن حام (5) 264. حبكش خان (5) 131. بني الحبلي (2) 559. أبو حبو (4) 223. حبوس بن زيري بن يعلي بن محمد (7) 28- 29. بني حبوس بن ماكسن (6) 238 239. حبي بنت حليل بن حبشية (2) 374 397. ابن حبيب أبو حبيب بني حبيب (1) 438- (2) 23- 43- 49 328- 475- 631- 637. حبيب من بني سليم من بطون رياح (6) 94- 98- 187. حبيب بن إساف (2) 420. (أبو تمام) حبيب بن أوس الشاعر (1) 790- 796- 801- 802 804- (2) 578- (7) 511. حبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير (3) 240. أبو حبيب بن جعفر (4) 42. أبو حازم حبيب بن حبيب المهلبي (4) 243. حبيب بن سلمة (3) 15. حبيب بن سواره (4) 177. حبيب بن سويد الاسدي (3) 228. حبيب بن شهاب (3) 169. حبيب بن عبد حارثة (2) 343. حبيب بن عبد الرحمن الحكمي (3) 196- 198. حبيب بن عبد الرحمن بن حبيب (4) 240- 241- (6) 146 150. حبيب بن عبد الله بن الزبير (3) 50. حبيب بن عبد الملك (4) 154- 155. حبيب بن عبد ياليل بن عمر بن عمير (2) 415. حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع (حبيب بن عبيدة) (3) 176- (4) 238- 239. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 حبيب بن عدي (2) 438. حبيب بن عقبة (2) 385. حبيب بن قابس (6) 146. حبيب بن قرة اليربوعي (2) 578. حبيب بن مالك (6) 187. حبيب بن مرة المري العبسيّ (3) 111 218. حبيب بن مسلمة الفهري (2) 542 543- 546- 547- 562 572- 586- 595- 599 602- 628- 629- 630 641- (3) 168- 169. حبيب بن مظاهر (3) 27. حبيب بن المهلب بن أبي صفرت (3) 57- 59- 60- 65- 67 81- 82- 83- 84- 97. حبيب بن نصر المهلبي (3) 285- (4) 245. حبيب بن يزيد النهشلي (3) 156 157. أم حبيبة (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) (1) 388- (2) 390- 420 451- 457- 600. حبيس بن فرد أرسلان (5) 93. حبيش (5) 501- (6) 10. الحثاث بن زيد (2) 470. الحثاث بن يزيد بن علقمة (2) 378. ابن الحثيثي كاتب السلطان ملك شاه (3) 589- 590- (4) 352 353- (5) 10- 11- 12. ابن الحجاب (4) 239. بني حجاج (4) 172- (6) 344 (7) 504- 505. الحجاج مولى الهادي (3) 269- 276. أبو الحجاج أخو ابن المردنيش (6) 322. الحجاج بن ارطأة (3) 247- 248. الحجاج بن أبي الأشعث (2) 388 402- 436- 585. أبو الحجاج بن اشقيلولة (7) 308. الحجاج بن باب الحميري (3) 182. الحجاج بن حارثة الخثعميّ (3) 63 187. حجاج بن عرفة الأنصاري (2) 643. الحجاج بن علاط (2) 366. الحجاج بن مسلمة (4) 172. (أبو جعفر) الحجاج بن هرمز (3) 538- 545- 546- 547 (4) 324- 325- 327 613- 620- 621- 687. الحجاج بن يوسف الثقفي (1) 40 42- 79- 154- 155 188- 217- 218- 230 303- 323- 313- 336 438- 439- (2) 26 308- 358- 367- 377 (3) 36- 37- 40- 49 51- 53- 54- 55- 56 57- 59- 60- 61- 62 63- 64- 65- 66- 67 68- 69- 72- 73- 77- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 79- 80- 81- 82- 83 86- 96- 103- 172 173- 174- 188- 190 192- 193- 194- 195 196- 197- 198- 199 200- 201- 202 203- (4) 237- 268 283- (5) 249. حجاز بن ابجر النخعي (3) 27- 31. حجاز بن شيخة (4) 138. بني حجاز بن عبيد (6) 68. حجاز بن قتادة (4) 134. الحجازي (1) 166- (4) 171 172- (5) 511. حجاف (6) 603- 604. ابن حجاف خازن الزرع (7) 128. ابن الحجام (6) 315- 317. حجبون الرنداحي (6) 401- (7) 245. حجة الله بن عبيد الله بن الحسين الأصغر بن زين العابدين (3) 454- (4) 137. بني حجر ابن حجر (2) 19- 266 405- (7) 627. حجر أبو وائل (2) 292. حجر آكل المرار الكندي حجر بن عمرو. بنو حجر بن الحرث الأصغر (2) 306 326- 327- 329. حجر بن عدي الكندي (2) 614 639- 640- (3) 7- 13- 15- 16- 17- 32 216- (4) 2- (7) 503. حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة من ملوك كهلان (2) 62- 297- 306 316- 325- 329- 331 380. حجر بن محمد بن قاري (6) 14. حجر بن يزيد (3) 14. حجر حمير (2) 298. حجري (6) 109. حجل بن عبد المطلب (2) 392. ابن أبي حجلة (7) 571. حجوش بن حجاز (6) 68. حجيلة (2) 218. بنو حجين (2) 43. حجين (حجون) بنت أهيب (2) 43. الشيخ حداد (6) 295. حداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود (6) 46- 423. حدد بن إسماعيل (2) 394. الحدر بن باب الأبواب (3) 256. حدويه بن علي بن عيسى بن ماهان (3) 305. ابن حديد (حاجب للأمويين) (1) 299. بني حدير (1) 351. حذافة بن قيس (2) 387. حذو بن ناحور (2) 50. أبو حذيفة حذيفة (2) 415- 501 502- 507- 532- 549- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 557- 558- 559- 571 583- 593- (3) 103. حذيفة بن الأحوص الأشجعي العتبي (3) 175- (4) 149. حذيفة بن اليمان (1) 414- (2) 363- 443- 538- 556 562- 582- 586. حذيفة بن بدر الفزاري (سيد فزارة) (1) 172- 243- (2) 363 377- (7) 602. أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (2) 411- 423- 425 622. أبو حذيفة بن كتبة بن ربيعة (2) 412. حذيفة بن محصن من حمير (2) 495 506- 530. أبو حذيفة بن المغيرة بن عمر بن مخزوم (2) 409. أبو حذيفة مولى سالم (2) 390- (5) 250. الحر (3) 29. الحر بن عبد الرحمن بن عبد الله (2) 367. الحر بن قيس (2) 48- 471. الحر بن يوسف (3) 175. حرا بنت سعد بن عوف (2) 393. حراث من بطون معليت (6) 120. ابن حراش (1) 390. بنو حرام بن حذام (2) 305. بنو حرام بن عوف بن الحرث (2) 343. حرام بن ملحان خال أنس بن مالك (2) 438. أم حرام بنت ملحان (2) 576. الحرّاني (1) 701. حرّاه (2) 44. بنو حرب (2) 369- (4) 136. حرب بن أمية (1) 525- (3) 3. حرب بن عبد الله (3) 253- 256. الحرب (الحر) بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي (4) 148. (أبو حنيفة) حرب بن قيس (3) 231 273- 285. الحرب بن كلاب (2) 370. حرب بن كم بن أحوز (3) 159. حرب بن محمد بن إبراهيم (5) 122. أبو حرب اليماني (المبرقع) (3) 337. حربوشة (5) 141. حربيا (2) 85. الحرة من بطون هيت من سليم (6) 186. حرّة بن سليم (2) 367. الحرة أم فاتك بن منصور (4) 277. بني الحرث- الحرث (2) 302- 327 377- 381- 386- 493 546- (6) 146- (7) 376. ابن الحرث (4) 139. الحرث أبو ليلى (3) 436. الحرث بن أسد المحاسبي (1) 603. الحرث الأعرج الغساني ابن أبي شمر (2) 322- 323- 333- 334 336. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 الحرث بن الأعز الأيادي (2) 205. الحرث بن أمية (2) 419. الحرث بن أوس (2) 432. الحرث بن الأيهم (2) 517. الحرث بن بزيع (4) 162. الحرث بن بشير بن معاذ (2) 431. الحرث بن تميم (2) 375. الحرث بن ثعلبة (ابن مارية) (2) 333. الحرث بن جبلة أمير غسان (2) 260. الحرث بن جعونه العامري (3) 190 191. الحرث بن جهمان (2) 625. الحرث بن حرب بن اويه (2) 347. الحرث بن حاطب بن الحرث (3) 48. الحرث بن حسان (2) 527- 563 619. الحرث بن حصن بن ضمضم (2) 317. الحرث بن خالد بن صخر بن تميم (2) 454. الحرث بن الخزرج بن عمرو (2) 342 343- 420- 422- 424. الحارث بن خزيمة (3) 209. الحرث بن ذي شدد بن عبد شمس (2) 54- 58. الحرث بن ربعي الخزاعي (2) 433. الحرث بن أبي ربيعة (3) 35- 39 186- 188. الحرث بن زمعة (2) 429. الحرث بن زهير (2) 363. الحرث بن سعيد بن سعيد بن سهم (2) الحرث بن سفيان (7) 266. الحرث بن سهيل بن الصامت (2) 424. (أبو علي) الحرث بن سيجور (أبو علي بن سيجور) (4) 472- 473 474- 476. الحرث بن سيما (3) 385- 388 424 (4) 417. الحرث بن شدد بن الملطاط (2) 58. الحرث بن شريح الأزدي (3) 110 115- 116- 118- 119 122- 139- 144- 145 148- 209. الحرث بن أبي شمر الغساني (2) 267 306- 328- 334- 450 471. الحرث بن الصمّة الأنصاري (2) 436 438. الحرث بن أبي ضرار (أبو جويرية أم المؤمنين) (2) 445. الحرث بن ظالم (2) 328. الحرث بن عامر من بني نوفل (2) 421 429. الحرث بن عبد الرحمن بن مخنف (3) 186. بنو الحرث بن عبد العزى (2) 367 408. الحرث بن عبد كلال بن عريب (2) 291- 471. الحرث بن عبد الله (2) 388. الحرث بن عبد الله بن حازم الأزدي (3) 9- 10- 169. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 الحرث بن عبد الله بن الحشرج (3) 121. الحرث بن عبد المطلب (3) 160. بنو الحرث بن عبد مناة (2) 382. الحرث بن عدي بن صيغي (2) 58- 306. الحرث بن عمر الطائي (3) 175. الحرث بن عمرو الكندي (2) 64 66- 315- 316- 321 322- 325- 326- 332. بنو الحرث بن عمرو بن تميم (2) 376. الحرث بن عميرة بن ذي الشعار (3) 57 191. الحرث بن عوف بن أسيد (أبو واقد الليثي) (2) 381- 441. الحرث بن فهر (2) 385- 399 410. الحرث بن قحطان (2) 53. الحرث بن قراد البهراني (2) 288. بنو الحرث بن قطيعة (2) 363. الحرث بن قيس بن صيغي (2) 58 251. الحرث بن قيس بن مياس (2) 65. الحرث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد (1) 172- 811 812- 813- (2) 61 284- 295- 304- 305 473- (4) 286- (6) 3. بني الحرث بن كعب بن عمرو بن علة (6) 78- 79. الحرث بن كعب اليمني (1) 172. الحرث بن كلدة بن عمرو (1) 651 (2) 368. الحرث بن كندة (3) 9. الحرث بن مالك (6) 65. الحرث بن أبي مالك (7) 174. الحرث بن مرة العبديّ (2) 305 639. الحرث بن مسكين (1) 567- 569 570. الحرث بن مضاض الجرهميّ (2) 286 292- 355- 394- 401. بنو الحرث بن معاوية الأصغر (2) 306 492. الحرث بن معاوية الحرثي (3) 171. الحرث بن معاوية الثقفي (3) 198. الحرث بن معقد (3) 70. الحارث بن المنصور (6) 215. الحارث بن هشام بن المغيرة (1) 124 (2) 388- 461- 544 554- (3) 297. الحرث بن همال بن ذي شدد بن الملطاط (2) 58. الحرث بن يربوع (2) 377. الحرث بن يزيد العامري (2) 545. الحرث الرائش ابن ذي شدد (ذي مداثر) (2) 58- 59- 66. الحرث السمرقندي (3) 330- 331. الحرث المقصور (2) 329. حرثة بن عمر التميمي (3) 61. الحرثي الحلتمي أبو الهيجا بن حمدان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 حرزون بن فلفول خزرون بن فلفول. الحرس (2) 34. جرسة من ندرومة (6) 166. بني حرقوص (2) 621. حرقوص بن زهير السعدي (2) 551 595- 615- 637- 640 611. حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان (6) 29- 186- 376 حرملة بن مريطة (2) 507- 550 551- 556. الحرورية (2) 634. الحرومية (4) 588. حريث بن الأمرد (3) 42. الحريث بن راشد (2) 506. الحريث بن سليم (3) 126. الحريث بن عمر (3) 130. حريث بن قطنة مولى خزاعة (3) 67 70- 71. حريث بن مسعود (3) 471. حريث بن يزيد (3) 187. حريث الجميلي (3) 451. الحريري (7) 683. بني حريز بن تميم بن عمر بن وشاح (6) 112. حريز بن علي (6) 79. حريز بن يحيي الصغير بن موسي (6) 82. الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (2) 370- (3) 103 104. الحريش بن محمد الذهلي (3) 234 249. الحريشيّ (الحرشيّ) (3) 288- 300. الحريم الظاهري (3) 540. حزرون بن فحص المغراوي (4) 189. حزقيا بن أحاز (2) 121- 149 167- 233- 234. حزقيل الأصغر (2) 136. حزقيل بن يودي (2) 102. آل حزم (2) 600. ابن حزم (أبو محمد) (1) 252 326- 565- (2) 5- 9 37- 48- 53- 54- 58 59- 67- 70- 73 103- 110- 292- 293 295- 296- 297- 298 300- 302- 360- 369 370- 391- 416- 426 (3) 377- (4) 21- 22 31- 124- 125- 142 145- 172- 287- 346 (5) 501- (6) 10- 11 15- 25- 117- 119 120- 122- 127- 152 153- 168- 174- 183 196- 200- 209- 270 (7) 3- 4- 5- 6- 7 14- 17- 71- 502 503. ابن حزمون (1) 821. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 بني حزن (3) 650. الحساسة بطن من شبانة (6) 61. أبو الخطار (الخطاب) حسام بن ضرار الكلبي (2) 297- (3) 177 (4) 150- 151. حسام الدولة تاش قائد جيوش خراسان (أبو العباس) (4) 602. حسام الدين الجوكنداري (5) 440 615. حسام الدين العنتابي (5) 451. حسام الدين الكردي (5) 279. حسام الدين الغوري قاضي الحنفية (5) 472- 474- 508. بني حسان (2) 61- 276- (3) 457- (4) 353- 354 438- (6) 89- 92 281- 282- 348- 367 369- 370- (7) 279 304. ابن حسان ملك الديلم (4) 29- 30. ابن حسان الطائي (5) 6. أبو حسان (6) 164. حسان أبي ذي معاهد يوسف (ذو نواس زرعة تبع بن تبان) (2) 65. حسان بن أذينة (2) 30. حسان بن أسعد بن قيس (2) 66. حسان بن تبان أسعد (أبو كرب) (2) 63- 302. حسان بن تبع (2) 27- 28- 67 310- 315- 325. حسان بن تميم (3) 260. حسان بن ثابت (1) 267- 789 (2) 87- 334- 335 420- 470- 593- 597 602. حسان بن الجراح (4) 61- 75. حسان بن حنظلة بن جنة الطائي (2) 318. حسان بن زوال (6) 164. حسان بن أبي سعيد الصبيحي (7) 199- 303. حسان بن شبانة (6) 61. حسان بن عتامة بن عبد الرحمن السجيني (4) 379. حسان بن عدي (4) 128. حسان بن عمرو بن تبع (2) 65. حسان بن عمرو بن الجور (2) 327. حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم (2) 55. حسان بن عمرو بن أبي كرب (2) 67. حسان بن الفرج بن الجراح الطائي (3) 550. حسان بن مالك بن بجدل (2) 297. حسان بن محال الخفاجي الكوفي (4) 679. حسان بن مخالد بن مالك بن الأجدع (3) 211- 212. حسان بن مختار (6) 79. حسان بن مرينا (2) 213. حسان بن مغرج بن الجراح الطائي (4) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 70- 76- 328- 365 (5) 500- (6) 9. حسان بن مغرج بن دغفل (4) 347 349. حسان بن نجد الكلبي (3) 42. حسان بن نعمان الغساني (القيساني) (1) 314- (3) 172- (4) 235 236- (6) 143- (7) 11 12. حسان بن هجرس (6) 604. حسان بن وهشوذان (4) 551. حسان تبع ذو المغازي والآثار البعيدة (2) 64. حسان التغلبي (5) 255- 269. حسان صاحب منبج (5) 265- 266. حسان الديلميّ (4) 435. ابن حسان الديلميّ (3) 442. حسان ذو معاهر (2) 292. حسان السروري (3) 261. حسان الصبيحي (7) 451- 458. ابن حسان الطائي (3) 582. حسان المنبجي (5) 279- 285 284. حسان القيل بن عمرو (2) 291. حسان النبطي (حيان النبطي) (3) 120. حسان من أهل الصغانيان (3) 130. حسرة فيروز (4) 33. بني حسل (2) 386- (3) 491. حسل بن عمرو بن عبد ودّ (2) 444. الأمجد حسن (5) 417- 432. حسن من أمراء المغل (5) 602. بنو حسن (1) 408- (3) 237 238- 239- 256- (4) 4- 7- 9- 13- 123 125- 130- 131- 136 279- (5) 399- 495 526- 546- 577- (6) 6- 7- 68- 149- 228 520- 592- 604- (7) 13- 167- 299- 344 369- 384. بنو أبي الحسن الحسن (1) 304- (2) 372- (3) 7- 290- 428. الحسن أخو محمد الأخيضر (4) 124. حلال الدين الحسن حسن صاحب مراغة (5) 163- 164- 194 265- 266- 267. أبو الحسن ملك زناتة (1) 317- 321. الحسن صاحب المهدية (6) 235. بنو الشيخ حسن (2) 20- (5) 570 608. أبو الحسن الأشعري (1) 588- 589 603. الحسن الأعرج (4) 143- 144. الحسن برلق رجا ملك (5) 163. أبو الحسن البريدي (3) 512- 513 517- (4) 292- 293. الحسن البصري (1) 401- 403 603- (2) 93- 580- (3) 98- 99. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 الحسن البطوي (7) 145. حسن إبراهيم بن أبي بكر بن ثابت (6) 474- 476. أبو الحسن بن أبي إسحاق إبراهيم (7) 268. الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن (3) 259- 263- 265. (الأعصم أبو علي) الحسن بن أحمد ملك القرامطة (4) 33- 59- 60 61- 63- 64- 113 114- 116. الحسن بن أحمد (محمد) بن أبي خنزير (3) 454- 457- (4) 43 44- 45- 261- 262. حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي (حسن بن عبد الودود) (7) 27 39- 40- 52. الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا المحتسب (أبو عبد الله) (3) 451. أبو الحسن بن أبي اسامة (4) 85- 88. الحسن بن إسحاق (6) 302. أبو الحسن بن أبي إسحاق إبراهيم (7) 280. أبو الحسن بن اشقيلولة (4) 216- (7) 279- 280. أبو الحسن بن الأطروش (4) 33 444- 553- 555. (جناح الدولة) الحسن بن افتكين (5) 171- 172- 173. الحسن بن الاخشين (3) 360. الحسن بن أيوب بن أحمد [بن عمر بن الخطاب] العدوي [التغلبي] (3) 365. الحسن بن باكيش (الأمير بدر الدين التركماني) (7) 700. (أبو سعيد) الحسن بن بهرام الجنابي (4) 108- 111- 112- 114 115. (ركن الدولة) الحسن بن أبي شجاع بويه بن قناخس (4) 560- 562 566- 569- 570- 571 572. حسن بن ثابت بن حسن بن أبي بكر (6) 199. ابو الحسن بن ثعلب حسن بن ثعلب (ابو الحسن الأصغر بن ثعلب) (4) 116- (5) 234- 236- (6) 15. الحسن بن جابر (7) 99. ابو الحسن بن جحدر الاشبيلي (1) 825. 828. الحسن بن أبي جعفر بن هاشم (6) 25. (ابو الفتوح) الحسن بن جعفر العلويّ (3) 384- 543- 550- (4) 70- 127- 128- 137 328. (أبو علي) الحسن بن جعفر (بن أبي جعفر) استاذ هرمز (3) 545 546. ابو الحسن بن جعفر العلويّ (4) 616. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 (ناصر الدولة أبو عبد الله) الحسن بن جهير (5) 73. حسن بن الحافظ (4) 90- 91- 94. أبو الحسن بن الحباب (الجياب) (7) 440. الحسن بن حبيب (3) 245. الحسن بن حرب الكندي (4) 242. الأمير الحسن (الحسين) بن حرميل الغوري (4) 524- 532- 534 535- 538- 539- 540 541- 544- 545- 546 (5) 117- 119- 120 121- 122- 123- 124 154. حسن بن حسن (4) 6- (6) 140 (7) 444. الحسن بن أبي الحسن البصري (3) 174. (أبو الغنائم) الحسن بن أبي الحسن الكلبي (4) 263. الحسن بن الحسين (3) 332. الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا (ايبقا) بن امليكان (ايكان) (5) 503 573- 623- 624. أبو محمد الحسن بن الحسين بن حمدان (4) 350. الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين (1) 440. ابو الحسن بن أبي حفص عمر (6) 259- 328- 329- 331 333- (7) 103. الحسن بن حمدان (3) 443. الحسن بن خربك (4) 533. الحسن بن الخليل (3) 483. الحسن بن دبيس (3) 548. الحسن بن دمرداش (5) 624- 633 634. الحسن بن دولين (7) 311. الحسن بن دويدة (1) 819. الحسن بن زاكاك (واكاك) (6) 335. ابو الحسن بن زيد الازدي (3) 126. حسن بن زيد شيخ العاصم (6) 344. الحسن بن زيد بن الحسن السبط [الطالبي] العلويّ (3) 236 253- 254- 258- 259 372- 386- 387- 393 414- 423- 424- 425 427- 428- 429- (4) 418- 420- 421- 550 551- (5) 89- (6) 43. الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن (الداعي) (1) 251- (3) 351- 357- 358- (4) 11- 26- 27- 28- 29 30- 142. حسن بن سرحان بن وبرة (1) 807 (6) 21- 24- 25- 30 31. السلطان ابو الحسن ابن السلطان أبي سعيد (4) 219- 220- 222 223- 231- (6) 41 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 63- 70- 81- 85- 87 92- 101- 102- 272 273- 286- 506- 516 520- 522- 523- 525 528- 562- 609- (7) 66- 92- 110- 144 145- 146- 147- 150 151- 152- 153- 155 157- 158- 159- 160 164- 166- 168- 175 177- 200- 203- 212 213- 216- 218- 319 320- 321- 322- 323 324- 327- 328- 332 333- 334- 335- 337 340- 341- 343- 344 346- 347- 349- 351 353- 354- 355- 356 360- 361- 362- 365 371- 374- 376- 378 380- 386- 389- 396 410- 411- 413- 417 442- 448- 449- 465 474- 495- 499- 512 513- 514- 517- 520 529- 534- 536- 537 548- 707. الحسن بن سلامة (4) 270- 283 (6) 51- 53- 589. الحسن بن سليم الحواري (3) 269. الحسن بن سليمان بن يرزيكن (7) 353 368. ابو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد (5) 341. الحسن بن سهل (1) 26- 216- (3) 294- 302- 303- 304 305- 307- 308- 309 310- 311- 312- 313 315- 316- 317- 323 333- 334- 348- 363 (4) 9- 10. ابو محمد الحسن بن سهلان عميد أصحاب الجيوش (3) 548- 549 550- (4) 624- 625. ابو الحسن بن سيجور (4) 429- 463. (ركن الدولة ابو علي) الحسن بن أبي شجاع (3) 490. ابو الحسن بن الشيخ (3) 148. ابو الحسن بن شيخة بن سالم (4) 138. الحسن بن الصباح (4) 13- 118 119- 121- 122. الحسن بن طاهر بن مسلم (4) 13- 63. ابو عبد الله الحسن بن طاهر الوزان (4) 73. ابو الحسن بن طفيل (6) 449. الحسن بن أبي الطلاق (7) 516. الحسن بن ظاهر (4) 137- 429. ابو الحسن بن أبي العافية (7) 227. الحسن بن عامر بن عبد الحق (7) 309 310. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 الحسن بن (عبد الله) العباس (3) 377. ابو الحسن بن عبد الرحيم (4) 339. الحسن بن عبد الله بن طفج (4) 58 406. (ابو الفتح) الحسن بن عبد الله الكيا (4) 647. السيد ابو الحسن بن عبد المؤمن (6) 316- 319- 327- 335. ابو الحسن بن عثمان (ابن موزه) (6) 465. حسن بن عجلان (4) 136. الحسن بن العزيز (6) 236. الحسن بن عضد الدولة (4) 603. أبو الحسن بن عكشان (أبو الحسن بن عيسكان) الحميدي (4) 335. الحسن بن علي (3) 305- (4) 263 264- 265- (5) 234 235- 236- 239- 240 (6) 171- (7) 21. الحسن بن علي البازوري (أبو محمد) (6) 18- 22- 211. الحسن بن علي صاحب المهدية (6) 315. الحسن بن علي كورة (3) 434 440- 441- 442. الحسن بن علي بن إسحاق (أبو علي) (5) 16. (أبو علي) الحسن بن علي بن حسن بن الحسين الكردي (4) 214. الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر (الناصر الأطروش) (1) 251 (3) 351- 352- 2457 458- 464- 475- 476 490- 522- 527- (4) 12- 26- 29- 30- 31 32- 143- 437- 438 439- 440- 441- 443 552- 553- 658. الحسن بن علي بن زيد العابدين (4) 13. أبو الحسن بن علي بن السعود (7) 403. الحسن بن علي بن أبي طالب (2) 42 457- 573- 581- 582 595- 600- 601- 612 613- 614- 621- 624 637- 646- 647- 648 649- (3) 215- 450 527- (4) 2- 3- 5- 6 35- 141- 144- 582. الحسن بن علي بن أبي الحلاق العسكري (7) 90- 135- 317 318- 319- 324. الحسن بن علي بن عبد المطلب (1) 250- 251- 259- 391 398- 402. الحسن بن علي بن عبد المؤمن (أبو المعالي حسن شكر (5) 78. الحسن بن علي بن عيسى (3) 277. الحسن بن علي بن محمد (4) 145. الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية (1) 250. الحسن بن علي بن محمد بن علي بن أبي طالب (4) 551. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 الحسن بن علي بن يحيي بن تميم بن المعز (5) 233- (6) 214- 215 218. أبو القاسم الحسن بن علي الخوارزمي (5) 171- 172. الحسن بن علي الداعي (3) 458. الحسن بن علي المروروذي (4) 428 437. الحسن بن علي النسوي (4) 628. (أبو طالب) الحسن بن عمار أمين الدولة (4) 57- 67- 68- 69 72- 264 (5) 462. الوزير الحسن بن عمر (5) 271- (6) 42- 545- (7) 162 163- 395- 396- 397 399- 400- 401- 403 409- 429- 538- 539 540. أبو الحسن بن عمر (6) 482. الحسن بن عمر الغفاريّ (3) 17. الحسن بن عمر المودودي (الغودودي) (6) 362. الحسن بن عمر النصراني (3) 439. الحسن بن عمران (4) 676- 677. الحسن بن أبي العمرطة الكندي (3) 108- 109. الحسن بن عيسى (4) 178. الحسن بن أبي عيسى بن إدريس (4) 20- 48- (6) 177- (7) 102. أبو الحسن بن الفرات (3) 448 459- 460- 462- 465 466. أبو الحسن بن الفضل (1) 821. الحسن بن الفياض (3) 385- 424. الحسن بن الفيرزان (4) 449- 450 451- 453- 454- 456 457- 575- 576- 578 579- 586- 659- 660 661. الحسن بن القاسم بن إبراهيم بن محمد (6) 290. الحسن بن قاسم بن علي بن عبد الرحمن الداعي الصغير (3) 475- 476 (4) 30 31- 32- 33 34- 143- 32- 33 34- 143- 440- 441 552- 553- 554- 555. أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي (5) 110. حسن بن قاسم (الشريف الماجد) (6) 63. الحسن بن القاسم القاسم العلويّ (3) 458- 464. حسن بن قاسم اللواتي (6) 178 179. حسن بن قتادة (4) 133- (5) 399 577. الحسن بن قحطبة (3) 156- 157 158- 159- 160- 162 220- 228- 256- 265 267. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 حسن بن قرط (5) 556. أبو الحسن بن قطان (7) 257. أبو الحسن بن قطرال (6) 353. أبو الحسن بن كالي (4) 444- 554. أبو الحسن بن كماشة (7) 316. الحسن بن كنون شيخ بني محمد (6) 291- 292- 295- (7) 25- 26- 27- 39. حسن بن الكوراني (5) 560. حسن بن ماكسن (7) 54. حسن بن مالك (4) 460. أبو علي الحسن بن محتاج (4) 449 450- 455. حسن بن محمد (7) 56- (7) 507. أبو البركات الحسن بن محمد (4) 77. الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله (4) 28- 427- 428. أبو الحسن بن محمد بن سيجور الدواني (4) 457- 470. حسن بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أخو أبو جعفر المنصور (7) 4. الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس (الحجّام) (4) 19- (6) 176 177- 289- 290. حسن بن محمد الباغاني (4) 265. حسن بن محمد السبتي (7) 385. الحسن بن محمد الصباح (1) 252. الحسن بن محمد المرغني (4) 532 535- (5) 117- 118 119. الحسن بن محمد المهلبي (3) 521 525- 526- 527- 528 (4) 572- 577. الحسن بن مخلد بن الجراح (3) 349 370- 372- 381- 426. أبو الحسن بن مزيد (4) 623. أبو محمد الحسن بن المستنجد المستضيء بأمر الله (3) 648. الحسن بن مسعود (7) 64. الحسن بن مسعود الكردي (الحسين) (4) 869. الحسن بن المسيب (4) 325- 326 327. الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر (3) 151- 243- (4) 4. أبو الحسن بن المعلم (3) 544- 545 (6) 613. أبو الحسن بن قعلة (3) 515. الحسن بن مكرم (4) 616. (مكين الدولة) أبو علي الحسن بن ملهم (4) 349- 350. أبو الحسن بن المنتصر (7) 57. أبو قيس الحسن بن المنذر (4) 607. أبو غالب الحسن بن منصور (3) 549 550- (4) 623- 625- (6) 79. أبو الحسن بن منقذ صاحب شيزر (ابن منقذ) (5) 175- 176 211- 218- 223- 270. حسن بن أبي منيع (6) 603. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 الحسن بن مهاجر (4) 393. (أبو الزفت) الحسن بن المهدي بن محمد بن عبد الله بن الحسين (3) 270 271. الحسن بن موسى (3) 481. أبو الحسن بن موشك (4) 335- 339. الحسن بن الناصر (7) 466- 469. الحسن بن ناصر الدولة أخو أبو فراس الحمداني (4) 308- 309- 320- 321. أبو الحسن بن نصر بن أحمد (4) 30. حسن بن نميلة (3) 245. الحسن بن هارون (3) 451- 515 519- (4) 39- 40- 41. الحسن بن هزيمة (3) 384. أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء (3) 497. أبو الحسن بن وانودين (6) 480- 481. الحسن بن وهب (3) 338. حسن بن ويرغين (7) 238. أبو الحسن بن ياسين (6) 432- (7) 133. حسن بن يحيى (المتأيد باللَّه) (4) 195- 196- (6) 225. الحسن بن يحيى بن حسون الصنهاجي (7) 457- 458. الحسن بن يحيى بن علي (6) 295. الحسن بن يزيد (3) 547. الحسن بن يزيد السعدي (1) 395. أبو الحسن بن يعلى (6) 259. حسن بن يعقوب (7) 209. أبو الحسن بن يعلو (6) 349. الحسن بن يوسف بن يوسف بن علي بن محمد الورتناجي (7) 403 409- 540. الفقيه أبو الحسن التونسي (7) 297 707. أبو الحسن الحبير ابن الحبير (6) 433 434- 435- 436. أبو الحسن الحمولي (4) 475. حسن الخادم (4) 549. حسن الخازندار (3) 639. أبو الحسن الدامغانيّ قاضي القضاة (3) 603- 604- 606- 611 (5) 37- 38. أبو الحسن الدباج (1) 822. الحسن السبط (4) 11- 26. أبو الحسن الصغير (7) 317- 325. الشيخ حسن الصغير سبط هولاكو (7) 726. الحاج حسن الصوفي (5) 602. أبو الحسن العتبى (4) 459. أبو عبد الله الحسن العريقي (6) 340. الحسن العسكري (4) 35- 145. حسن العطار (6) 24- (7) 6. أبو الحسن القابسي (7) 684. أبو الحسن القرمطي (4) 127. حسن الكشكي (5) 553- 555 566. أبو الحسن اللخمي (7) 517. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 أبو الحسن الماوردي القاضي (1) 294 391- (3) 554- 556 560- (4) 639- 642. حسن المثلث بن حسن المثنى (4) 142. حسن المثنى (4) 141- 142. السلطان أبو الحسن المريني (7) 516 526. حسن المستنصر (4) 195- 196. أبو الحسن المغربي (4) 66- 322. أبو الحسن المقري (1) 826. أبو الحسن المليلي (1) 498. الحسن المنتخب (4) 139- 140. السلطان حسن الناصر ابن الملك الناصر (5) 511- 513- 516- 517 520- 526- (6) 13. حسن الناصري (5) 581. الشيخ حسن النوين (7) 740. الحسن الهرش الهرش (3) 299 301- 302. أبو الحسن الهرغي (6) 225. الحسن الوصيف (3) 267. بنو حسنويه (2) 20- (3) 546- (4) 600- 684. حسنويه بن الحسن (الحسين) الكردي [البرزيكاني] (3) 534- (4) 587- 588- 596- 600 601- 604- 684- 685 686. ابن حسون (7) 477. حسون بن إبراهيم بن عيسى (6) 92- (7) 66. حسون بن حيوان من مشيخه كوميه (7) 98. حسون بن علي الصبحي (7) 426 456- 457. حسون بن محمد بن حسون المكناسي (7) 297. الملك حسي (5) 624- 625- 629. بنو حسين حسين (1) 408- (3) 351- (4) 136- 137 520- (6) 8- 64- 71 87- 89- 107- 109 (7) 13- 165- 167 369- 518. الحسين (3) 278- 288- 307. بنو أبي الحسين ابن أبي الحسين (6) 40- 406- 419- 420 455. أبو الحسين البصري (1) 576. أبو الحسين البصري (1) 576. حسين بك حسين (2) 653- (7) 742. الحسين شاه (4) 520. حسين الخادم (3) 423. الأمير حسين بن أتابك طغتكين (قطلغ تكين) (5) 47- 49- 219. الحسين بن أحمد بن سهل (3) 465 (4) 440. الحسين بن أحمد المارداني [الماذرائي] (4) 398. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 حسين بن أزبك (أزر) (5) 55. الأمير حسين (حسن) بن اروبك (اوربك) (3) 611- 613. الحسين بن الأطروش (4) 551- 552. (سنا الملك) الحسين بن الأفضل (4) 84- 87. الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب (3) 356- 360 361. الحسين بن إسماعيل بن مصعب (3) 344. الحسين بن اليسع (4) 458. حسين بن أوزبك (4) 367. حسين بن أويس (5) 624- 625 626. أبو عبد الله الحسين بن البابلي (4) 78. حسين بن بدران (3) 573. الحسين بن بكر السراني (الشرابي) (4) 680- 681. حسين بن بكير (3) 364- 365. الحسين بن جعفر الناصر (4) 34. الحسين (الحسن) بن جوهر الكاتب (4) 64- 69- 71- 72- 73. أبو الحسين بن حاجب النعمان (3) 540. الحسين بن حرميل (5) 114. الحسين بن حسين الغوري (4) 497 646- (5) 83. الحسين الأفطس بن الحسين بن علي بن زين العابدين (3) 304- 305- (4) 10. الحسين بن الحسين بن مصعب (3) 315. (أبو عبد الله) الحسين بن حمدان (3) 434- 435- 447- 448 449- 455- 456- 459 462- 479- 481- 482 (4) 76- 109- 110 111- 289- 290- 349 399- 427- 592. الحسين بن حمدون (3) 435. الحسين بن خلف المرصدي (4) 60. (أبو عبد الله) الحسين بن دوشتك باد الكردي (3) 537- 538- (4) 319- 320- 321- 407. حسين بن الرنداحي (6) 464. الحسين بن زريق بن مصعب الفضل (3) 302. الحسين بن زيد بن علي الطالبي (3) 243- 382- 425- (4) 31. أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان (سعد بن حمدان) (3) 505 513- 516- 518- 519 532- (4) 294- 295 404- 668. أبو الحسين بن السماك (5) 26. الحسين بن سهل (3) 306. أبو الحسين بن سيد الناس (6) 588 (7) 508. الحسين بن أبي الشوارب (3) 376. الحسين بن شيخ (3) 113. الحسين بن الصباح رئيس الإسماعيلية بالعراق (4) 82. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 الحسين بن صخر (3) 240. الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر (3) 354- 377- 393- 394 425- 426- 428- (4) 420- 429- 459- 460. الحسين بن عاصي (4) 155. حسين بن عبد الرحمن بن أبي طالب (6) 501. الحسين بن عبد الرحمن يعسوب (6) 446. الحسين بن عبد الله (3) 354. حسين بن عبد الله الصفاني (6) 543. الحسين بن عبد الله الكلابي (3) 16. حسين بن أبي عبد الله المهدي الفهري (4) 147. أبو القاسم الحسين بن عبد الواحد (3) 610. الحسين بن عبيد الله بن العباس بن علي (4) 22. الحسين بن عضد الدولة (4) 603. الحسين بن علي (4) 38- 428. (الأستاذ أبو إسماعيل- الحسين بن علي الأصفهانيّ الطغرائي (4) 368 (5) 59. الحسين بن علي البازوري (التازوري) (4) 76- 77. (أبو علي) الحسين بن علي بن إسحاق (حسن الطوسي) . الحسين بن علي بن الياس (4) 595. الحسين بن علي بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن الحسن السبط (3) 269 270- 271- (4) 7- 13 14- 142- 143- (6) 195. الحسين بن علي بن حسن المثنى (3) 351- 352. ابو القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي (3) 550- (4) 327 328. الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي عامل صقلّيّة (4) 55- 56. الحسين بن علي بن حسين بن علي (3) 239. الحسين بن علي بن أبي طالب (2) 370- 374- 388- 574 582- 596- 624- 637 646- 648- (3) 22 23- 24- 25- 26- 27 28- 30- 33- 34 186- 187- 215- 216 450- 451- 527- (4) 2- 3- 5- 35- 141 144. الحسين بن علي بن طاهر بن الحسين (3) 386. الحسين بن علي بن عبد المطلب (1) 250- 251- 259- 264 267- 269- 270- 271 398. الحسين بن علي بن عيسى (3) 296 297- 298. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 الحسين بن علي بن النعمان (ابو عبد الله) (4) 67. الحسين بن علي بن يحيي الارمني (3) 361. الحسين بن علي المروروذي (4) 436 439- 440. الحسين بن علي النوبختيّ (القونجي) (3) 500. حسين بن علي الورديغي (6) 42- (7) 409. حسين بن عمر الرستمي (3) 297. (ابو عبد الله) الحسين بن أبي الغنائم (4) 355. الحسين بن فاطمة (4) 21- 22. (ابو القاسم) الحسين بن فروخ بن حوشب الكوفي. الحسين بن الفياض (4) 417. الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب (3) 468- 469- 485. حسين بن قرمط (4) 108. القاضي ابو حسين بن القصار (1) 568 578. حسين بن محمد بن جعفر الصادق (4) 10. الحسين بن محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي (4) 143. الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي بن زين العابدين (4) 11. (ابو عبد الله) الحسين بن محمد بن زكريا (4) 38. الحسين بن محمد بن علي (4) 143. الحسين بن محمد بن عينونة (3) 482. ابو الحسين بن محمد بن الفرات (3) 447. الحسين بن محمد العميد (3) 491- (4) 561. الحسين بن محمد المارداني (3) 478. ابو الفتح الحسين بن محمود (كشاجم) (4) 116. الحسين بن مخلد (3) 362. الحسين بن مصعب (3) 278. ابو الحسين بن المعلم (3) 540- 541. بني الحسين بن مقله (3) 519- (4) 404. ابو الحسين بن منصور (6) 79. حسين بن عماد الدين منكبرس (5) 55. الحسين بن الموكل (3) 447. ابو الحسين بن ميمون (3) 509- 510. (الصالح ابن بنت تنكز) الحسين ابن الملك الناصر (5) 503- 511 513- 515. ابو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة (3) 539. الحسين بن نصر (4) 480. الحسين (الحسن) بن هارون (3) 486 488- 492. الحسين بن يحيي بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري (3) 264. الحسين بن يزيد (4) 418. الحسين بن اليزيدي (3) 469. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 ابو الحسين بن يوسف (4) 437. ابو الحسين البريدي ابو الحسن البريدي. حسين تكين (4) 479- 480 510- 511- 513- 517 518. ابن الحسين العباسي (4) 341- 352. ابو الحسين الغرباتي (5) 239. الحسين الغوري الحسين بن حسين الغوري. حسين الكردي (5) 424. بني أبي الحسين الكلبي (5) 232- (6) 206. الحسين الكوكبي بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن جعفر (4) 27- 143. حشابة (2) 73. ابن حشار المشرف (7) 230- 231. حشر شوم الهمدانيّ (2) 535- 539. بنو حشمناي (1) 289- 442- (2) 134- 137- 141- 144 146- 149- 152- 155 167- 228- 235. حشمناي بن حونيا من بني نوذاب متيتيا بن يوحنا بن شمعون (2) 138. حشيش (3) 391- 392. حصرون بن فارض (2) 167. الحصري (4) 116. حصن (6) 111- 106- 107. ابن حصين (3) 339. حصين (6) 55- 58- 75- 78- 84- 85- 96- 98 134- 203- 280- (7) 94- 156- 158- 159 172- 173- 176- 177 178- 179- 180- 186 187- 191- 195- 299 376- 561- 707. القاضي ابن أبي الحصين (4) 319. الحصين بن بدر بن امرئ القيس (2) 376. الحصين بن أبي الحر (2) 622. حصين بن زغبة (6) 58. بني حصين بن زيان (6) 64. حصين بن ضرار (2) 379. بنو حصين بن ضمضم بن عدي (2) 296. حصين بن مسلم (3) 87. حصين بن المنذر الرقاشيّ (3) 69 86- 87. حصين بن المنذور (2) 643. الحصين بن نمر السكونيّ (1) 437- (2) 526- (3) 38. حضر موت (2) 18- 22- 32. حضرموت بن قحطان (2) 53. حضرموت بن يقطن (2) 292. ابن الحضرميّ (2) 644. الحضرميّ الاشبيلي المالكي (7) 502. الحضرميّ بن عامر (2) 380. بنو حضور بن عدي بن مالك بن يزيد (2) 291. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 حضور بن قحطان (2) 291. حضورا (أهل الرس) (2) 11- 22 26- 32. حضير الكتائب بن سماك بن عقيل (2) 344. حطان بن منقذ (5) 347. الحطم بن ربيعة (2) 504- 505 506. حطوش بن يعقوب بن جرمون. الخطيئة (جرول بن أوس بن حؤبة) (1) 798- (2) 363- 377 380- 532- 567. ابن الحفار (4) 428. بني حفص (1) 352- (3) 281 (4) 212- (6) 370- 544 586- (7) 640. بني أبي حفص (1) 286- 287 300- 301- 304- 333 361- 422- 423- (3) 274- (6) 98- 102 104- 106- 262- 383 385- 523- 524- 566 588- 595- 606- 614 (7) 105- 133- 206 209- 211- 230- 238 295- 361- 489- 566 577. حفص بن أشتم (3) 92. أبي حفص بن برد (4) 187. السيد أبو حفص بن أبي حفص (6) 34. السلطان أبو حفص بن أبي زكريا (6) 425- 446- 448- 449 453- 454- 455- 456 457- 459- 515- 517 519- 520- 521- 587 596- (7) 124- 130 221- 245- 355- 356 357- 363. حفص بن حميد (4) 249. حفص بن راشد (4) 594. حفص بن سليمان الخلال (3) 128 160. حفص بن صولات (7) 33. السيد أبو حفص بن عبد المؤمن (6) 316- 317- 320- 322 323- (7) 103. أبو حفص بن عطية (6) 310- 316 317. حفص بن عمر (4) 171. حفص بن الوليد (4) 379. أبو حفص البلوطي أمير جزيرة أقريطش (4) 57. حفصة (أم المؤمنين) بنت عمر (2) 387- 420- 544- 583 607. بني حفصون ابن حفصون (4) 171 172- 173- 176- 177. حق (5) 77. حقر بيك أخو طغرلبك (3) 609- (4) 499. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 الحكلية (5) 13. الحكم (4) 106- 113- 178 181- 183- 184- 186 289- 291- 292- 295 (7) 91. ابن الحكم (3) 56- (6) 461. ابن أم الحكم (3) 170. الحكم بن أيوب الثقفي (3) 54- 62 199. الحكم بن سعيد (3) 266. الحكم بن سليمان (3) 285. الحكم بن سوام الكلبي (3) 84. الحكم بن الصلت (3) 124. الحكم بن ضبعان الجذامي (3) 164. الحكم بن أبي العاص بن أمية (2) 413- 565. الحكم (المستنصر باللَّه) بن عبد الرحمن الناصر (من بني أمية) (2) 101 (4) 182- 184- 185 208- (6) 242- (7) 25 36- 72- 102. الحكم بن عبد الملك (3) 222. الحكم بن عبلة (2) 603. الحكم بن عرعرة النميري (7) 602. الحكم بن عمرو التغلبي (2) 567. الحكم بن عمرو الغفاريّ (3) 11 170. الحكم بن عمير التغلبي (2) 552. الحكم بن عوانه الكلبي (3) 108- الحكم بن كيسان (2) 426. الحكم بن المستنصر (7) 65. الحكم بن الناصر (6) 171. الحكم بن نميلة (3) 154. الحكم بن هشام (3) 317- (4) 57 267. الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل (1) 540. الحكم بن هشام بن عبد الواحد (4) 156- 157- 158- 159 160- 161. الحكم بن الوليد (3) 129- 133 140- 141. الحكم بن يوسف مولى بني ضبة (4) 380. الحكم المنتصر (6) 174. بني حكيم (2) 617- (6) 96 107- 108- 109- 531 562- 571- (7) 363. ابن الحكيم (5) 604- (6) 510. حكيم بن جبلة العبديّ (2) 591 595- 596- 603- 610 611- 612. حكيم بن حزام بن خويلد (2) 389 428- 459- 469- 597 101. حكيم بن سلامة (2) 591- 616. حكيم بن طفيل الطائي (3) 34. حكيم بن عامر بن محمد بن عقيل (6) 108. حكيم بن المنذر (2) 357. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 أم حكيم بنت يحيي بن الحكم امرأة هشام (3) 110. ابن حكيم العدوي (3) 253. الحلّاج (1) 624. حلبان (جلبان) (5) 570- 575 628. حلال بن زيري عم باديس (6) 209 238. جلال بن معافى (6) 33. حلقمة بن الخسري (2) 23. ابن حلوا (6) 62. بنو حلوان (2) 202- 288. الحلواني (4) 38- 39. ابن حلية القاضي (ابن حلبة) (4) 341. الحليس بن علقمة بن عمرو (2) 382. حليل بن حبشية بن سلول (2) 374 397. حليمة (2) 408. حليمة بنت الحرث (2) 334. حليمة بنت أبي ذؤيب بن عبد الله (2) 367- 407. حماد (2) 12. حماد عم باديس بن المنصور (1) 361 (6) 229- 238- 250 274- (7) 28- 67. ابن حماد (2) 324- (7) 47. بني حماد (4) 206- (5) 236- (6) 58- 72- 136- 169 179- 192- 217- 227 230- 232- 233- 234 235- 236- 283- 334 398- 586- 595- (7) 58- 60- 82- 102. حماد البربري (3) 286- 287. حماد بن إبراهيم الموصلي (1) 540. حماد بن إسماعيل المصطنع (4) 682- 683 حماد بن بدعيل (2) 34. حماد بن بلكين (6) 162- 192 202- 208- 209- 210 (7) 45- 53- 54- 60 205. حماد بن دبيس (3) 575. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 حماد بن خليفة اللخمي (6) 227 318. حماد بن أبي الخير (4) 363. حماد بن زفر (3) 98. حماد بن زيري (6) 227. حماد بن سلمة (1) 394. حماد بن عامر (3) 115. حماد بن عمر (3) 157. حماد بن معنصر بن المعز (4) 47. حماد بن ورّوا (7) 56- 57. حماد الراوية (2) 285. حماد الكندغوش (3) 305. الحمادية بنو حمدان بن جابر (6) 111. حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس (6) 229- 231. حمامة بن زيري بن يعلي (7) 28. بنو حمامة بن محمد (6) 345- (7) 226- 264. حمامة بن محمد بن ورزين (7) 220 224. حمامة بن مظهر (مظهر) (6) 307- (7) 75- 97. حمامة بن المعز بن عطية (7) 28- 29 46- 47. حمامة بن يصليتن (7) 224. حماموش بن عبد الملك بن حنينة (7) 140. ابن حماية المرادي (3) 211. حمايي بنت كستاسن (2) 191- 192 بنو حمدان (1) 175- 371- (2) 20- 274- 359- (3) 365- 387- 444- 513 515- 516- 519- 521 523- 535- 536- 537 539- 545- (4) 287 290- 293- 294- 302 304- 312- 313- 314 315- 316- 320- 321 322- 323- 346- 347 399- 404- 407- 426 613- (6) 15. ابن حمدان (3) 473- 474 513- 515- 521- 522 (4) 571. حمدان بن إسرائيل (3) 366. بنو حمدان بن جابر (6) 111. آل حمدان بن حمدون بن الحرث بن لقمان بن أسد (4) 287- 288- 289. حمدان بن مقدر بن مجاهد (6) 61. حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان (3) 530- (4) 308- 309 590- 597. الحمداني (6) 95. بني حمدون (4) 104- (6) 202 327. حمدون بن إسرائيل (3) 337. حمدون بن الحرث بن لقمان (3) 365- (4) 287. حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن علم (6) 202. حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان (3) 313. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 حمدويه بن علي بن الفضل السعدي (3) 343. بني حمدين (حميدين) (6) 357 367. الحمر (6) 109. حمران مولى عثمان (2) 512. حمران (حمدان) بن أبان (2) 591 (3) 46- 169. حمران بن زيد (3) 6. حمره من مزاتة (6) 153. بني حمزة (4) 21- (5) 136- (6) 68- 227- 507- 529 557- (7) 158- 167 365. الشريف ابن حمزة (5) 580 أبو حمزة الإسكاف (4) 119. حمزة بن أترك (3) 200- 277 278. حمزة بن إدريس (4) 16- (6) 228. حمزة بن سنان الأسدي (2) 637 640. (كمال الدين) حمزة بن طلحة (3) 632. حمزة بن عبد الله بن الزبير (3) 41 50. حمزة بن عبد الله بن عمر (4) 154. حمزة بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين (3) 243. حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم (1) 398- (2) 347- 391 413- 420- 424- 425 429- 435- 436- 437- (3) 40- (4) 7. حمزة بن علي بن راشد (7) 93- 94 177- 436- 437- 438 581- 589. حمزة بن علي بن عمر بن أبي الليل (6) 479- 480- 481. أبو حمزة بن عمر بن أيمن (3) 125. حمزة بن عمر بن أبي الليل كبير البدو (2) 364- (7) 142- 144. حمزة بن عمرو (6) 487- 488 489- 490- 492- 499 500- 502- 503- 506 507- 514- 520- 521 526- 608. حمزة بن عمر شيخ الكعوب (6) 96 100- 101- 104- 107 108- 469- (7) 331 361- 374. حمزة بن مالك الخزاعي (3) 212 261. حمزة بن محمد بن إبراهيم (6) 501. (عمدة الدين) حمزة بن محمد بن حمزة (5) 139. حمزة بن محمد بن خزر (7) 35- 38 حمزة بن يحيي (3) 261. حمزة الخارجي (3) 287. ابن الحمصي (5) 566. حمل بن مالك (2) 532. أبي الحملات بن عائذ بن ثابت (6) 85 حمنة بنت جحش (2) 420. آل حمو (6) 239. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 أبو حمو الأخير (7) 219. أبو حمو الأوسط (7) 118. أبو حمو الأول (7) 218. حمو بن عبد الحق بن رحو (7) 488 491. حمو بن مليك البرغواطي (6) 211 212- 224- 230. حمو بن يحيى بن ثابت (7) 90- 293. حمو بن يحيى بن العسري (7) 157. حمو بن يحيى العسكري (7) 355 356. بني حمود (1) 421- (4) 20 47- 192- 193- 195 (6) 239- 293- 296- (7) 29- 70- 72. ابن حمود (6) 240. السلطان أبو حمود (6) 59. بني حمود بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس (4) 142. حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر (4) 193. بني حمور (7) 149. حمويه مولى المهدي (3) 288. حمويه بن علي (4) 31- 433 438- 439- 441- 553. حميان بن عقبة بن يزيد (6) 55- 56. أبو حميد (2) 597. بني حميد (6) 56- 68- 69 70- 95- 275- 281 283. بنو حميد بن جارية بن وشاح الجواري. حميد بن جارية أبو الجواري (6) 257. حميد بن حبيب اللخمي (3) 134. حميد بن الحرث (3) 42. حميد ابن أخ يزيد بن المهلب (3) 98. حميد بن حكيم بن قحطبة (3) 227. حميد بن سعيد (4) 683. حميد بن سنان بن عثمان بن غلبون (6) 113. حميد بن صخر (4) 243. حميد بن صعلوك (3) 460. بني حميد بن عامر (6) 68. حميد بن عبد الحميد (3) 310- 311. حميد بن عبد الله (3) 107. حميد بن قحطبة (3) 160- 211 228- 241- 242- 243 246- 252- 253- 261. حميد بن مخلوف الهسكوري (6) 352. حميد بن معيوب (3) 284. حميد بن هشام (3) 312- 313. حميد بن يصل (نصل) (يصلت) المكناسي (6) 177- 178 290- (7) 22- 35- 50. حميد بن يصلتين الكتامي عامل المغرب (4) 54- (6) 154- (7) 44- 50. حميد الطوسي (3) 308. ابو حميد المروروذي (3) 230. ابن حميدي (6) 369- (7) 165 388. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 بني حمير حمير (1) 16- 17 162- 173- 181- 183 191- 431- 507- 766 768- 806- (2) 18 27- 28- 36- 53- 54 55- 57- 59- 61- 62 63- 64- 65- 66- 70 71- 72- 75- 76 102- 187- 286- 289 290- 292- 295- 300 301- 325- 327- 328 332- 395- 400- 452 471- 494- 514- 631 (4) 269- (6) 16- 22 96- 123- 127- 128 139- 195- 201- (7) 4- 5. حمير بن سبإ (العرنجج) (2) 19 53- 290- 292- 300 (6) 4- 123. حمير بن معد بن عدنان (2) 290. حمير بن نعيم الحصري (4) 379. الحميري (7) 618. حميضة (7) 298. حميضة بن النعمان بن حميضة (2) 525. حميضة بن أبي نمي بن أبي سعيد (4) 134. الحنّ (2) 6. حناد بن مياد بن شمد بن شداد (2) 24. أولاد حنّاش (6) 32. حناش بن بعرة بن ونيغن (6) 262. حناطة (2) 69. حناينا البطرك (1) 291- (2) 239. حنة بنت فاقور بن قيل (2) 168 170. حندج بن ربيعة بن عامر (2) 370. حنش بن عبد الله الصغاني (4) 235. حنش بن عون (2) 342. بني حنظلة حنظلة (2) 204- 326 390- 482- 498- 500 504- 617- (4) 239- (6) 185- (7) 621. حنظلة بن بيهس (3) 182. حنظلة بن ثعلبة بن سنان (2) 319. حنظلة بن الحرث اليربوعي (3) 197. حنظلة بن الربيع بن صيغي (2) 375 527- 557- 596- 600. حنظلة بن زياد (3) 5. حنظلة بن أبي سفيان بن حرب (2) 429. حنظلة بن سفيان الكلبي (6) 145. حنظلة بن سنان العجليّ (2) 319. حنظلة بن صفوان (نبي الرس) (2) 26- 53- (3) 177- 379. حنظلة بن صفوان الكلبي (4) 149 150. حنظلة بن عبد الله الغسيل (غسيل الملائكة) (2) 350. حنظلة بن قيس بن هرير (4) 287. بني حنظلة بن مالك (2) 377. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 (5) 100- (6) 409- (7) 735. حنظلة بن المعز (6) 145. حنظلة الكاتب حنظلة بن الربيع. بني الحنفية (4) 3- 652- 656 حنوخ بن مدين بن إبراهيم (2) 43 49. حنيش (6) 84- 85. بنو حنيفة أبي حنيفة (2) 28 210- 375- 416- 476 499- 501- 502- 503 504- (3) 40- 125 137- 138- 184- 212 247- (4) 3- 4- 284 381- (5) 115- 298- (6) 3. بنو حنيفة بن لجيم بن صعب (2) 359. ابو حنيفة النعمان بن ثابت. حنين بن إسحاق (1) 639- 643. حنينان الكوهن (2) 137. حنينة (7) 113. حنينيا (2) 175. حوا زوجة تاشفين (6) 234. الحواري بن عمرو (2) 297- 331. الحواريون (1) 289- 290- (2) 238- (5) 247. حوبة بن قيس (نجوبة بن قيس) (3) 359- 361. حوثرة بن أسد (3) 191. حوثرة بن زيد العنبري (3) 114. حوثرة بن سهيل بن العجلان الباهلي (3) 158- 159- 221- (4) 379. حوثرة بن وداع الاسدي (3) 179. حوراس (2) 126. حورة (حتورة حبورة) (7) 87. حوريا بنت خرطيش (2) 85. ابن حوشب (1) 416- (4) 41. بني حوشب بن يزيد بن رويم (3) 205. حوش بن العزيز (6) 236. ابن حوقل (4) 284- 590- (7) 90. الحوقلي (1) 68. الحوكية (1) 136. حول بن ارم (2) 11. الحولخ (1) 99. الحويرث بن نفيل من بني عبد قصي (2) 460. حويصة بن مسعود (2) 432. حويطب بن عبد العزي (2) 386 548. حويكة (2) 286. حي بن يقظان (1) 520. ابن حيان (1) 394- 395- 398 779- (4) 171- 172 174- 179- 180- 182 183- 226- 227- 232 (7) 504- 505. ابو حيان (1) 7. حيان بن جبلة (3) 332- 333 (4) 550. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 حيان بن خلف بن حسين بن حيان القرمطي (7) 504. حيان بن ضبيان السلمي (3) 179 180. حيان العطار (3) 125. حيان النبطي مولى بني شيبان (3) 87 92- 98- 115. حيدان بن عمرو بن الحافي (2) 294. حيدر بن كاوس (3) 323. حيرا (2) 126. حيص بيص (5) 282. حيوة بن قلاقس (4) 155. حيوة بن الوليد الحصبي (4) 154. حيوس بك (جيوش بك) (3) 612- 613- 616- 617- 618 (4) 366- 367- 368- (5) 51- 52- 54- 55- 59 60- 61- 62- 226 262. حيوش البصري (5) 49. ابن حيون (1) 820. حيون بن إبراهيم (جنون- حبورا حبون) (7) 281. حيون بن إسحاق (6) 190. ابو زكريا حيون بن أبي العلاء القرشي (7) 325. حيي بن اخطب (2) 440 441. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 حرف الخاء (خ) ابو خات (3) 381. الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش (5) 283- 294- 356. خاتون الجلالية (4) 120- (5) 172. خاتون بنت العادل صفية بنت العادل. خاتون زوجة ملك الترك (امرأة خاقان) (2) 314- (3) 18- (5) 32 157. خاتون زوجة القائم بنت أخت طغرلبك (3) 573- 574- 575- 577. خادم الدين بن الرضا (5) 450. خارجة بني خارجة (2) 147- (6) 10- 11. خارجة بن حذافة بن غانم (2) 387. خارجة بن حصن (2) 471. خارجة بن زيد (2) 422- 423. بني خارجة بن سعد بن عبادة (5) 501. خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري (3) 275. الخازر (الحادر) (3) 444. خاص بك بن سلمكري (بلنكري) التركماني (3) 637- 638- 639. خاقان ملك الترك (2) 207- 208 257- 258- 314- 538 563- 564- (3) 77 80- 101- 109- 112 114- 117- 118- 119- 282- 291- 546- 580 (4) 506- (5) 162. ابن خاقان (3) 107- 111. خاقان العجليّ (المفلحي) (3) 442 443- 446- 460- (4) 397. خاقان سيحور (2) 209. بني خالد آل خالد (3) 131- (5) 228. ابن أبي خالد (4) 216. ابو خالد الأجرد (3) 266. خالد بن إبراهيم الدلهي (3) 234. خالد بن إبراهيم الشيبانيّ (ابو داود) (3) 148- 153- 154- 155 224- 225- 233- 252 255- 290. خالد بن إبراهيم المبرازي (7) 456. خالد بن إسحاق (6) 437- 553. خالد بن الاسدي (3) 193. خالد بن إسماعيل بن أيوب بن سلمة (3) 239. خالد بن أسيد بن أبي العيص (2) 429- 493- (3) 246. خالد بن برمك مولى بني بهرا (2) 295 (3) 148- 156- 247 248- 251- 253- 254 255- 279. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 خالد بن البكير بن سعد بن ليث (2) 426- 438. خالد بن حرمون بن جرار بن عرفة (6) 87. خالد بن جرير بن عبد الله (3) 63. خالد بن جعفر بن كلاب (2) 364 370. خالد بن جنادة المصري (2) 298. خالد بن حبيب الزناتي (4) 239- (7) 8. خالد بن أبي حبيب الفهري (خالد بن حبيب الفهري) (4) 238 239- (6) 145- 156. خالد بن حر السلمي (3) 190. خالد بن حمزة بن عمر (1) 810 812- (6) 102- 523 529- 530- 531- 537 538- 610- (7) 354 362- 374- 391- 642. خالد بن حميد الزناتي (6) 145- (7) 16. خالد بن خراش (6) 164. خالد بن خلدون (4) 171. خالد بن ربيعة (2) 479. السلطان ابو البقاء خالد بن زكريا (ابن أبي زكريا) (6) 52- 100- 457 461- 463- 465- 466 467- 469- 470- 471 472- 473- 475- 486 490- 504- 517- 518 519- 553- 556- 558- 588- 589- (7) 91 134- 136- 296. خالد بن زياد الترمذي (3) 139 خالد بن سباع بن يعقوب (6) 568. خالد بن سعيد بن أبي احيحة (2) 390. خالد بن سعيد بن العاص بن أمية (2) 268- 410- 451- 454 469- 475- 481- 482 491- 495- 511- 514 515- 516- 517- 518 581. خالد بن الصلت (3) 248. خالد بن طليق بن عمران بن حصين (3) 267. خالد بن العاص بن هشام (3) 6 169. خالد بن عامر (6) 71- (7) 167 168- 173- 174- 176 177- 179- 180- 181 183- 438- 577- 580. خالد بن عبد الله بن أسيد (3) 46 172. خالد بن عبد الله بن زهير (2) 578 627. خالد بن عبد الله بن خالد (3) 189. خالد بن عبد الله القسري (خالد القسري) (1) 230- 323- (3) 57 76- 82- 97- 98 106- 107- 108- 119 120- 121- 131- 133 165- 173- 174- 175- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 176- 188- 191- 205 206 . خالد بن عبد الملك بن الحرث بن الحكم (3) 123- 176. خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد (3) 43- 44- 52- 54- 56. خالد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي (3) 222. خالد بن عبيد الله الهجريّ (3) 116 118. خالد بن عتاب (3) 198- 199. (ابو إسحاق) خالد بن عثمان (3) 150. خالد بن عرقطة (2) 531- 532 (3) 15. خالد بن عمرو مولى بني عامر (3) 139. خالد بن عيسى بن حماد (6) 357. (ابو المعرة) خالد بن كثير (3) 234. (أبو زيد) خالد بن محمد المارداني (3) 461- 462- 483. خالد بن مخلد بن عامر بن زريق (2) 417. خالد بن مرسل (3) 160. خالد بن مسلمة المخزومي (3) 222. خالد بن ملجم (2) 587- 593 615- (3) 215. خالد بن نهيك بن قيس (3) 195 196. خالد بن هشام بن المغيرة المخزومي (2) 429- (3) 142. خالد بن الوليد بن عقبة (3) 99. خالد بن الوليد [بن المغيرة المخزومي] (1) 303 (2) 267- 268- 269 271- 273- 298- 305 306- 319- 320- 382 388- 430- 434- 447 455- 456- 460- 462 468- 473- 475- 495 496- 497- 498- 500 501- 502- 503- 507 508- 509- 510- 511 512- 513- 514- 515 516- 517- 518- 519 520- 533- 541- 542 543- 544- 546- 547 548- (4) 286- (5) 250 424- 425- 501- 503 (6) 10. خالد بن يزيد (3) 45- 57- 91. خالد بن يزيد بن حاتم (3) 287. خالد بن يزيد بن معاوية (1) 696 697- 698. خالد بن يزيد بن المهلب (3) 93- 98. خالد بن يزيد القيسي (4) 236- (6) 143. خالد الدريوش (1) 201. ابن خالد الدورقي (3) 48. خالد المدريوش (3) 309. خالد المولي (4) 225. خالد اليزيدي (3) 270. خانقاه (7) 689. خانيا (2) 123. الخانية (5) 77- 78- 83- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 107- 123- 126- 585 586 . الخبائر بنو سعادة بن عمرو بن الغوث بن سعد (2) 291. خباب بن الأرت (2) 414- 420 634. خبب (2) 526. الفقيه الخبشاني (الأمير العالم) (4) 102- (5) 334. ابن خبوز بن المثنى بن السكاسك من كندة (6) 117- 182. خبيب بن أسيد (2) 422. خبيب بن عدي (2) 444. الخبيث (3) 391- 392- 395 398- 399- 400- 401 402- 403- 404- 405 407- 408- 409- (4) 25. ختلع التركي (4) 130. بني خثعم (2) 71- 301- 356 475- 493- 614- (3) 97- (6) 3- (7) 621. خجا (5) 547. خجاكت (5) 427. ابن الخجنديّ (3) 643- (5) 91. خداش بن زهير بن عمرو (2) 370. خداه بن جثمان بن طغان بن نوشردين بن بهرام نجرين بن بهرام حسيس (4) 432. خدراس (2) 191. بنو خدرة بن عوف بن الحارث (2) 343. خديج بن سلامة (2) 295. أبو خديجة (6) 268. خديجة بنت الحسن (5) 271- 272. خديجة بنت خويلد (أم المؤمنين) (1) 116- (2) 297- 386 389- 408- 409- 410 415- 622- (4) 5. خديجة بنت داود (أرسلان خاتون) (3) 569. بني خراب من ولد عبد الله بن حسن بن الحسن (4) 132. الخراج من بطون عياض ومالك (6) 32- 81- 82. بني خراسان (6) 217. الخراسانية (5) 75. خراش من بطون حصين (3) 126- (6) 59. خراش بن أمية الخزاعي (2) 448. خربندا ملك التتر خربندا بن ارغو (ابقوا) بن ابغا بن هولاكو (5) 480- 482- 488- 491 495- 496- 498- 499 502- 503- 618- 620 621- 633. خرجان (5) 427- 584. الخرجة من بطون آل سليمان (6) 111. خرخسره (2) 452. خرخسرو بن التيجان بن المرزبان (2) 76. خرخير (4) 507. الخرخيرية (5) 427- 584. خرداد بن سابور (2) 62. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 ابن خردادبه (أبو القاسم خرداذبه) (1) 68- (2) 89. عز الدين خرديك (جرديك) (4) 99 (5) 243. ابن خرز البجاني (1) 822. خرزاد (2) 584. خرسده (5) 90. خرسنكا (5) 97. خرسوس من نسل منوشهر (2) 208. خرشاد بن جيلا (3) 387. خرشد ملك التتر (5) 12. خرطيش بن كلكي (2) 85. الخرمية (4) 561- (5) 249. الخريت بن راشد (2) 577- 617. خريص بن أبي ذياب (6) 114. خريطاي المحمودي (5) 81. خزاعة (1) 162- 437- 765 (2) 32- 53- 285 289- 302- 334- 374 394- 395- 396- 397 445- 457- 459- 460 493- 581- 630- (3) 153- (4) 381- (6) 3 (7) 622. خزاعة بن حارثة (2) 52. خزاعة بن عمرو بن عامر (2) 374. الخزر التركمان (1) 61- 94 96- 98- 99- 106- (2) 9- 11- 12- 81- 209 210- 211- 266- 585 (3) 111- 115- (4) 184- 185- 187- 548- 673 (5) 5- 59- 209- 427 584- 635- (6) 26 171- 179- (7) 14 36- 38- 39- 45- 49 50- 52- 84- 115 719. ابن خزر (6) 206. خزر بن حفص بن صولات (7) 37. الخزر بن الهجيم السلمي (3) 283. خزر بن أبي الفتوح (6) 229. الخزرج (2) 19- 62- 63 66- 101- 287- 289 300- 302- 340- 341 342- 343- 344- 345 346- 348- 350- 416 417- 418- 424- 430 433- 443- 488- 489 (4) 136- (6) 3- 16. ابن خزروت (حذورة) (7) 479. بني خزرون (1) 315- (6) 23 28- 209- 536- 614 (7) 49- 58- 85. خزرون بن خليفة (7) 57- 85. خزرون بن سعيد (7) 56- 57. خزرون بن عبدون (4) 199. خزرون بن فلفول (6) 174- (7) 26- 38- 39- 49- 50 52. خزرون بن محمد الازداجي (6) 192 (7) 25- 43. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 خزرويه مرزبان أبرويز (2) 263. الخزلجية (الخزلخية) (5) 427 584. الخزلقية (2) 11. الخزندار (5) 449. الأمير خزواش (5) 232. ابن خزيمة الأسدي (3) 164. خزيمة بن أيمن (4) 245- 246. خزيمة بن ثابت الأنصاري (1) 155 (2) 606- 611. خزيمة بن جهم بن قيس بن شرحبيل (2) 454. خزيمة بن حازم (خازم) (3) 147 154- 157- 210- 245 283- 286- 288- 290 291- 297- 300- 301 308- 313- 342. خزيمة بن الحرث (2) 369. خزيمة بن فهد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة (2) 287 288. خزيمة بن لؤيّ (2) 386. خستان بن برسموه (4) 670. خستان بن المرزبان (3) 283- (4) 670- 671. خسروشنوم (2) 557- 558. خسرو (2) 187- (5) 455- 460. خسرو الحسين [الحسن] بن مبارز (5) 53. خسرو بن الظاهر (5) 465. خسرو شاه بن بهرام شاه (4) 508- 522- 523- (5) 424 425. ابن خسرو فروخ زاد (2) 216. ابن الخشاب (5) 300. أبو خشة الغفاريّ (2) 581. خشتو ملك الهياطلة (2) 208. الخشفة (6) 55. خشفة بن جندل (6) 59. خشنش (حشيش) (2) 491- (4) 24. خشنشده (فيروز بن مهر خشنش) (2) 214- 216. بني خشين (6) 56. بنو خشين بن النمر (2) 296. بني بو خصرة (6) 197. خصفة التميمي (2) 505. خصفة بن قيس (2) 365. أبو الخصيب (3) 234. الخضر عليه السلام (1) 248- (2) 78- (4) 36- (7) 101. هشام الدين خضر صاحب تبريز (5) 155- 408. الخضر أرسلان شاه (5) 401. خضر بن عامر بن رياح (6) 43- 48 49. الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطاب (3) 425. الخضر بن العنبر (3) 394- 395 (4) 421. خضر بن محمد (7) 149. الظاهر (الظافر) خضر بن مولاهم (5) 376- 385- 392. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 خضر خان بن نصر ايلك (4) 515. خضر الغزي أمير الأكراد (7) 274. الشريف خضر الدين أبي ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين إسماعيل بن خضر الدين ثعلب الجعفري (5) 433- 434- 435. خصيبة (6) 51. الخطا (2) 11- (3) 639- 640 660- (4) 513- 518- 519 520- 526- 528- 529 531- 535- 537- 544 546- (5) 5- 77- 78- 79 83- 86- 98- 107- 108 109- 110- 111- 114 117- 119- 120- 122 123- 124- 125- 126 127- 130- 131- 132 143- 427- 584- 585 586- 588- 596- 599 615- (6) 265. ابن خطاب (4) 215. أبو الخطاب (6) 147- 159. بني خطاب ملوك زويلة (4) 288- (6) 188- 255- 271- 272. أبو الخطاب بن زهر (1) 818- 820 821. الخطاب بن السمح (6) 151. الخطاب بن محرز السلمي (3) 110 115. الخطاب بن مرداس (2) 385. الخطاب بن وجه العلس (3) 294. أبو الخطار (4) 239. الخطام (1) 325. خطرمش (3) 365. ابن خطل هلال بن عبد الله بن عبد مناة. الأمير خطلج (4) 65. خطمة بن جشم بن مالك (2) 342 346- 418. الخطير وزير بركيارق (3) 607. (أبو عبد الله) الخطيب بن المرزوق (6) 610. خفاجة بني خفاجة (3) 380 546- 551- 552- 553 566- 576- 578- 646 650- 654- (4) 128 323- 326- 327- 329 340- 354- 355- 356 357- 365- 621- 625 634- 642- 687. خفاجة بن سفيان (4) 255- 256. خفاجة بن عمرو بن عقيل (6) 15. خفاجة بن عمرو بن كعب (2) 371 375. خفاشة الكتابي (3) 459. الخفاف كبير أهل الردة (2) 366. خفاف المروروذي (3) 227. خفشاخ (1) 99- (5) 5- 427 584. أم الخلائق (6) 436- 437. خلاد بن سويد بن الصامت (2) 444. خلال بن زيري (7) 45. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 الخلج (2) 11- (5) 5- 427 584. الخلجان بن عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر (2) 23- 24. الخلجان بن القسم (1) 525. الخلخ (5) 427. الخلخي (الحلحي) (4) 536. عز الدين خلدك (جلدك) (4) 546. بنو خلدون (2) 292- (7) 503 504- 505- 507. ابن خلدون عبد الرحمن بن خلدون. خلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريب بن معديكرب بن الحرث بن وائل (2) 292- (7) 503 504. الخلدي (5) 534. الخلط بنو عوف بن المنتفق (2) 371 (6) 15- 21- 37- 38 39- 40- 41- 48 339- 343- 346- 349 350- (7) 240- 243 311- 336- 419. خلطوا برأس (خطلبرس) (3) 642 647. بني خلف بني مدافع (5) 78 122- (6) 512- 595 598. ابن خلف (4) 519. خلف بن أحمد بن علي (4) 429 430- 431. خلف بن أحمد السجستاني (4) 620. خلف بن أحمد الليثي (4) 459 476- 477- 478. خلف بن حبيب (3) 82. خلف بن أبي حيدرة (بن أبي حديدة) (6) 230- 585. الخلف بن الخلف (6) 555- 564 565- 581- 602- 603. خلف بن طباب (3) 505. خلف بن أبي الظاهر المرواني (4) 274. خلف بن عبد الله (3) 266. الخلف بن علي بن الخلف (6) 600. خلف بن ملاعب الكلابي (5) 175 218. أبو خلف بن هارون (4) 263. ابن خلف الجزائري (1) 822. أم الخلفاء زوجة أبي زكريا (7) 507. الخلنجي (3) 429. ابن خلكان (4) 94- 106- 144 (5) 287- 327 (7) 598 680. ابن خلوف (6) 198- 199- (7) 136. خلوف بن أبي بكر (7) 41. خلوف بن أبي يداس (7) 29. خلوف المغيلي (7) 519. خليد بن عبد الله الحنفي (3) 11- 17 170. خليد بن المنذر (2) 548- 549. خليد بن يربوع (3) 170. ابن خليفة- خليفة (2) 328 (6) 75. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 خليفة الأصغر (7) 306- 315. خليفة بن بكير (6) 229. خليفة بن خالد بن عرفطة (2) 526. خليفة بن خزرون (7) 57. خليفة بن خياط (6) 164. خليفة بن رقاصة (7) 306. خليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم (6) 102- (7) 362. بني خليفة بن سعد لعلي (6) 59 خليفة بن عبد الله بن مسكين (6) 102. 108- (7) 362. بني خليفة بن عثمان بن موسى بن مفرج (6) 59. خليفة بن مروان (4) 154. خليفة بن النضر بن عروة (6) 75. خليفة بن ورّوا (7) 56- 57. خليفة بن وقاص (7) 315. خليفة بن يزيد بن عمر بن يعقوب (6) 108. ابن الخليل (3) 364. أبي الخليل (1) 392. بني خليل (6) 203. الخليل بن ابان (3) 396- 398 409- (4) 24. الخليل بن أحمد الفراهيدي (1) 754 756- 757. خليل بن إسحاق (4) 50- 55 262- 263- (7) 19. أبي الخيلي بن عمر بن عفير بن حسن بن موسي (6) 92. خليل بن عزام (عوام) (5) 519- 536. خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان (5) 518. الأشرف خليل بن المنصور قلاوون (5) 463- 464- 465- 466 467- 468- 472- (7) 693. خليل بن الصالح (5) 418. خليل بن قوصون (5) 515- 519 521- 522- 523. الحاجب خليل الهكاري (5) 373. ابن خمارتكين خمارتكين (3) 395 575- 577- 633- (4) 130. خمارتكين الطغرائي (4) 358. خمارويه بن أحمد بن طولون (ابو الجيش) (3) 413- 414- 415 416- 420- 421- 429 430- 431- (4) 392 393- 394- 395- 396 397- 398. خماصة (قمصانة) من قلدن (6) 183. الخمامنة (الحماقنة) (6) 75. خميس (6) 75. خميس بن ثعلب بن حماد (ابو منعة) (3) 560- (4) 333- 361. خميس بن عروة (6) 75. خميصة بن أبي نمي (4) 477 480- 495- 496. خندف (2) 362- 397. خندف بن الياس بن مضر (2) 374. الخنساء بنت صخر (6) 94. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 الخنساء بنت عمرو بن الحرث بن الشريد (2) 365- 366. خنشوتد (2) 282. لخنفار بن الحبق بن عمرو بن معد بن عدنان (2) 285. بني خنفر (6) 590. خنيس (2) 387- 602. خنيس بن خالد من خزاعة (2) 460. خنيس بن حذافة السهمي (2) 415 420. خوات بن جبير (2) 441- (3) 239. الوزير خواجه الصاحب (4) 246- (5) 124. خواجه عبد الملك (5) 626. الأمير خواجا نائب جوبان (5) 512. الخوارج (1) 240- 296- 337 564- (2) 20- 376 377- 634- 637- 638 639- 640- 644- 645 650- (3) 5- 21- 41 43- 44- 52- 53- 54 55- 56- 57- 84 120- 135- 143- 173 178- 179- 180- 181 183- 184- 186- 188 189- 190- 191- 194 197- 199- 202- 203 204- 205- 206- 207 209- 210- 211- 212 213- 215- 377- 433 647- (4) 9- 15- 22- 46- 49- 108- 117 151- 237- 240- 243 244- 257- 278- 288 385- 415- 652- (5) 24- 163- (6) 77 138- 144- 145- 151 157- 159- 164- 172 203- 281- 297- (7) 18- 50- 64- 71 101- 600- 735. (جلال الدين) خوارزم شاه (5) 196 197- 198- 407- 409 410- 588- 590- 591 592- 593- 595- 596 (7) 724. علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش محمد بن تكش. بنو خوارزم شاه (2) 20- (3) 79 104- 426- (4) 31 441- 465- 480- 485 526- 529- 535- 540 541- 542- 543- 544 545- 546- 547- 548 (5) 23- 24- 76- 164 198- 429- 437- 543 611. خوارزم شاه بن انس بن محمد (4) 525. (علاء الدين) خوارزم شاه بن عز الدين مسعود (5) 376. الخوارزمي (3) 161. الخوارزمية (5) 104- 116- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 117- 119- 151- 156 165- 166- 167- 324 407- 412- 413- 415 418- 437- 568 . الخوارزميون (5) 113. ابو نصر خواشاذه (3) 538- 539 540- 545- (4) 320 321- 601- 606- 612. أبي خوّال (4) 40- 41- 42. خوجا بن جوبان (5) 622. خوجة (6) 168. خورك بن ايرج (2) 184. ابو خرس (3) 323. ابو خول بن أبي العباس عبد الله بن إبراهيم (4) 259- 260. خولان (2) 305- 478- (4) 272. خولي بن يزيد الاصبحي (3) 34. الخونجي (1) 733- 798. خوي (2) 12- (3) 580. خويلد بن واثلة (2) 72. خيارث (2) 184. خيارتكين الطغرائي (4) 340. خيبر (2) 477- 478- 348- 349. الخيبري (3) 207. ابو خيثمة (2) 434. بني الخير (4) 15. الخير مولى عبد الرحمن (7) 471. ابن أبي الخير (4) 372- 682. الخير بن محمد بن خزر (6) 160 179- 290- (7) 23 34- 35- 36- 38. الخير بن محمد بن الخير بن خزر (7) 59. خيران العامري (4) 205- 206 208. بنو خيران بن عمرو (2) 291. خير زاد (3) 79. الخيزران أم الرشيد (3) 269- 272 273- 280. خيقون ملك عمان (2) 102. الخيمي (5) 53. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 حرف الدال (د) داجية بن مخشميان (2) 246. دادان بن رعما (2) 12. دادويه (2) 482- 483- 491 493. الدار بن هانئ (2) 305. دارا (2) 81- 82- 126- 136 137- 193- 194- 199 222- 223- 259. دارا الأشد (2) 192. دارا انطوس (انوطو) (2) 193- 194. دارا بن ارشيش (دارا الرابع) (2) 197. دارا بن دارا (2) 192. دارا بن قابوس بن وشمكير (4) 464 469. دارا بن كستاسب (2) 196. دارا بن منوجهر بن قابوس (4) 498. دارا بهمن (2) 192. الدار الدّارقطنيّ (1) 390- 391- 393 (2) 200- 332- 394 402. بنو دارم (2) 324. دارم بن الريان (2) 31- 86. دارم بن عقال (2) 328. بنو دارم بن مالك بن حنظلة (2) 470 378. الأمير داروم (دارون) الباروقي (5) 307 352- 353- 358. داريا نوس قيصر (2) 254. أبو داريس الخولانيّ (2) 271. داريوس ملك مادي (2) 136. داريوش دارا. داريوش بن كستاسب (2) 196. داريوش بن فالغ (2) 125. داريوش الماذة بن ماداي (2) 126. داريوش ألياريوس (دارا ابن الأمة) (الناكيش) (2) 196. ابن الداعي (4) 96 الداعي بن الخطيب (7) 572. الداعي بن أبي السعود بن الزريع الداعي الزريعي (4) 272- 276 282. الداعي بن المظفر (4) 282. بني دافلتن (7) 205. دافلتن بن أبي بكر بن القلب (7) 205. دافورا الكاهنة (2) 103- 104. دافيس (2) 246. داقيانوس (2) 261. دال (6) 28. داماش بطرك رومة (2) 254. دامجور (3) 394. الدامغانيّ (5) 7. داميانو (2) 261. دان بن يعقوب (2) 44. دانا من مقدمي السلجوقية (3) 558 (4) 330- 493- 672. دانسطيانوس (2) 241. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 شمس الدين دانشير البرلي (5) 438 439. دانيال النبي (1) 52- 140- (2) 82- 111- 123- 124 126- 136- 137- 196 197- 252- (4) 178. دانيال صاحب الجند الجودي (4) 536. دانيال بن حزقيل دانيال النبي. الدانيالي (3) 468- 469. داهر ملك الهند (2) 538- (3) 76. داهر بن صيصة (3) 76. داهر مؤرخ السريانيين (2) 6. بني داود- داود- ابن داود (2) 141- 167- 168- 241 (5) 498- (7) 525. داود الملك (5) 273. داود والي القلعة بغزنة (4) 539- 637. داود صاحب الكرك (5) 258. داود عليه السلام (1) 241- 257 288- 290- 436- 441 442- (2) 12- 101- 105 111- 113- 114- 116 117- 118- 121- 174 187- 228- 233- 234 237- 340- (3) 10- (4) 80- 83- (5) 7- 26- (6) 127- (7) 4. داود بن إبراهيم بن الحسن (3) 238. (المظفر فخر الدين) داود بن المنصور أحمد (5) 257. داود بن إدريس (4) 16. داود بن إسماعيل بن ياقوتي (5) 31. داود بن ايشا (2) 107- 108. داود بن حاتم (3) 151- 207. داود بن حارثة (4) 42. داود بن حسن المثنى (4) 142. داود بن حمدان (3) 483- 485 (4) 290. (ركن الدولة) داود بن سكمان بن أرتق (5) 67- 252- 257 265- 267- 270- 277. داود بن سليمان بن عبد الملك (3) 90 93. داود بن ضبارة (3) 151- 158. أبو داود بن طهمان (3) 265. داود بن العاضد (4) 104. داود بن العباس (4) 417. داود بن عبيد الله بن يوسف (7) 64. داود بن عطاف داود بن هلال بن عطاف. داود بن علي بن عبد الله بن عباس (1) 23- 564- (3) 122 123- 160- 161- 218 220- 221- 222- 251 252- 265- 269- (4) 268- (7) 118. داود بن علي بن مكن (7) 145. داود بن عمر المسطاسي (6) 276. داود بن عيسى بن موسي بن محمد بن علي (3) 284- 285- 290 298- 304. داود بن القاسم بن عبيد الله بن طاهر (أبو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 علي) (4) 137. داود بن قحدم (3) 188. داود بن المحبي بن المحرم (1) 401. داود بن السلطان محمود (3) 575 578- 584- 591- 598 609- 625- 626- 627 628- 629- 630- 631 632- 633- 634- 641 (4) 372- 373- 374- (5) 68- 69- 70- 71- 72 73- 74- 75- 268 272- 458- 461. داود بن مرداس بن رياح (6) 43 44. داود بن منحور (3) 317. داود بن منصور (4) 510. داود بن موسي (3) 297. داود بن ميكائيل (4) 505. داود بن نصر بن علي (7) 218. داود بن هلال بن عطاف أمير البدو من بني عامر (6) 56- 69- 449 450- (7) 120- 121 124. داود بن يزيد (3) 277- 317. داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة (3) 286- (4) 244- 380. داود بن يزيد بن هبيرة (3) 151 158. (المؤيد هزبر الدين) داود بن المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول- (5) 578- 579- (7) 233. داود بك (4) 493- 499- 501 502- 648. داود حبشي بن ايتاق (5) 106. داود حبشي بن التونطاق (اليوساق (3) 639- (5) 23- 29- 76. أبو داود السجستاني (1) 388- 389 390- 391- 392- 394 396- 400- 401- 414 415- 440- 559. علاء الدين داود شاه (5) 197- 207. أبو داود العلوس (الصعلوك) (3) 388. داود اللثق بن هبولة بن عمرو بن عوف (سبطة بن المنذر بن داود) (2) 332- 333- 336. داود المقسور (5) 487. داود الناصر بن المعظم (5) 407 413- 415- 417- 419 420- 421- 422- 423 424- 432- 433- 455. داوردة بن دوشي خان (5) 596. ابن الداية (4) 382. دبكل من حمير (6) 96. دبّو الساحرة أخت حاميم (6) 288. أبو دبوس (4) 215- (7) 114 237- 239- 240- 251 363- 515. بني أبي دبوس (6) 510. بني دبيس (3) 547- (4) 353 354- 626- 633- 642. دبيس بن صدقة (3) 609- 612 613- 615- 616- 617- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 618- 619- 620- 621 622- 623- 624- 626 629- 631- (4) 364 365- 366- 367- 368 369- 370- 371- 373 631- 656- 657- 658 683- (5) 30- 31- 37 42- 54- 55- 57- 58 59- 60- 61- 63- 64 68- 69- 72- 180 181- 254- 255- 256 262- 263- 267- 268. دبيس بن عفيف الأسدي (3) 536 (4) 603- 611. أبو الأغر نور الدولة (نور الدين) دبيس بن علي بن مزيد الاسدي (3) 549 552- 557- 559- 560 561- 562- 563- 564 566- 567- 569- 570 571- 572- 573- 575 576- 578- 581- 599 (4) 328- 329- 331 336- 337- 338- 340 354- 355- 356- 357 358- 360- 633- 634 644- 650- 652- 694 696- (5) 188. الدجال (1) 388- 403- 405. دجانة بن قنافة بن عدي (2) 298. دجيل (5) 178. ابن الدحامس من الأثبج (6) 236. دحمان بن فلان (6) 186. فلاق دحيا بن يلاغف بن لوا بن مطماط (6) 162. دحية من ولهاصة (6) 119. دحية الغساني (4) 155. دحية الكلبي دحية بن خليفة (2) 266- 450- 453- 478 519. دراس بن فضلة (3) 163. الدراقص (2) 515. درباري (5) 450- 451. درباي من أمراء المغل (5) 616. الدبري صاحب الشام (2) 276. أبو الدرداء (1) 275- (2) 576 588- 602. درع بن محمد (7) 117. بني دركول (دركون) (6) 275. دركون بطلوس (2) 86. درمونه من قواد انكلاي (4) 25. درمويه الزنجي (3) 409. قبائل درن من المصامدة (1) 281. درهم بن الحسن (3) 367- (4) 415. دروط ابن أخ الحاج الملك (5) 522. دري الحروب (4) 87. ابن دريد (1) 758- (2) 309 608. دريد من الأثبج (6) 22- 29- 30 31- 44. دريد بن تاز (6) 46. دريد بن الصمة (2) 368- 462 463- 464. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 دزان (2) 43. دزير وزير الأمين (4) 306. دعار بن حريز (جرير) (6) 471. دعار بن عيسى بن رحاب (6) 71- (7) 162. ابن دعباس (دعباص) عامل ابن طولون (3) 414- (4) 393. ابن دعامس (3) 429. دعبل الشاعر (2) 374. دعار قهرمانة القصر في عهد أبي زيان (7) 128. الدعي بن أبي عمارة (الداعي) (6) 99- 112- 441- 442 443- 444- 445- 446 587- 607- (7) 120 124- 274- 508. الدعي بن هيدور (6) 70. دغانه من مصفاوة (6) 299. دغفل (4) 316. ابن الدغنة (2) 414. (أبو الأغر) دفليس بن عفيف الأسدي دبيس بن عفيف الأسدي. دقاق بن تاج الدولة تتش (4) 82 85- (5) 24- 46- 172 173- 176- 190- 211 213- 214- 217- 281. ابن دقاوس (5) 215. دقلا (2) 11. دقلاديانوس (2) 249- 250 252- 264- 265. دقيانوس (2) 255. ابن دقيق العيد فقيه الشافعية (5) 579. دقيوس (2) 60. دكاله من بطون المصامدة (6) 274 299- 310- 311- 356. دكلا صاحب فارس (3) 643- (5) 91- 92. دكمه من مزاته (6) 153. دكوال من يصلاسن (6) 161. دلاج من بني يحيي (6) 96- 98 107- 509. أبو دلف بن مجد الدولة (4) 491. بنو أبي دلف العجليّ (2) 359- (3) 319- 325- 358- 370. بني دلقادر (5) 634. دلوكه العجوز (2) 31- 86. بني الدلوكية (5) 594. بني دلول (دلوك) (7) 97- 199. دلول من كتامة (6) 285. دلول بن حماد (6) 164. دليقيا بنت ياقوم (2) 85. ابن الدليل (7) 267- 280- 486. أبو دليم بن خطاب (6) 191. ابن دماحس (1) 314. دمترياس بن سلياقوس (ميتريدات) (2) 140- 141. دمتريوس انطيخوس (2) 143. بني دمّر من زنانة (6) 373- (7) 70 202. دمّر بن زواغ (6) 170- 278. دمّر بن ورسيك (7) 7. دمرداش (5) 560- 563- 569. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 دمرداش الاحمدي (5) 543- 552. دمرداش بن جوبان (5) 202- 493 498- 499- 572- 621 622- 633- 634. دمرداش اليوسفي (5) 531- 532 533- 549- 550- 551 562- 567. دمرفاي (تمرفاي) (5) 599. الدمستق بطريك البحر (ارمنوس) (2) 274- (3) 480- 507- (4) 268- 300- 301- 302 305- 311- 312- 313 333. دمطرس (2) 198- 223. ابن دمنه (4) 408. دمون (2) 329. دمياط بن جرام الدلاصي (6) 429. دميانه غلام مازيار (3) 440- 443 (4) 399. دميقراطيس (2) 197- 222. دنبة القمط (4) 230. دنصان (2) 176. دنهاجة من يسودة بن كتم (6) 196. دنوشيوش بطرك الاسكندرية (2) 246. دهدس الحادي عشر من أساقفة الاسكندرية (2) 174. دهشودان بن حسان الديلميّ (3) 425. ابن دهقان (1) 618- 619. دهل وائل بن عمرو (2) 332. دهلك (3) 95. دهم (2) 362. الدهماء (1) 200. بني دهمان من بني علي بن رياح (5) 233- (6) 221- 222 225- 318- 606. دهمان بن عيلان (6) 125. الدهوس (6) 68. الكاهنة دهيا بنت ماتية بن تيغان (ثابتة بن نيعا) (6) 143- (7) 11- 12. دوا (5) 601. دوات بن صولات اللهيص (دواس بن صولات) (4) 45- (6) 160 191- (7) 23. دواتمر (5) 601. دواجن قائد الحسن بن زيد (4) 27. دواداره باجار (5) 506. ابن دواس من قواد كتامه (4) 74. الدواودة الزواودة. دوايت م دونالدسن (2) 379. دوبالي هربابة ملك الهند (4) 506. دوبان (2) 26. دوداتم (دودانم) (2) 218- (5) 518. دوران (5) 85. دورت (5) 430. ابن الدورقي (3) 339. دوزي (4) 266. دوس (2) 276- 286- 298 301- 331- 332. ابن دوس (3) 36. دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران (2) 301- 309- 332. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 دوس ذو ثعلبان (2) 69. بني دوشي خان بن جنكزخان (5) 133 138- 162- 201- 430 458- 493- 494- 498 572- 574- 588- 590 595- 596- 603- 604 605- 607- 611- 624 627- (7) 724- 725 726- 739. دوقاديوس (2) 255. أبو دوقة اللمتوني (6) 304. دوقس البنادقة (2) 279. دوكالة (6) 281. بنو الدول بن حنيفة (2) 359. دولة بن زنكي (5) 246. دولة شاه (5) 205. الأمير دولة ملك (5) 140- 141. بني دولين (7) 311. دوما بن إسماعيل (2) 394. دومريان (ذوسطيالوس) (2) 241. دون بطرة بن شانجة (7) 329. دون الرنك (دون الديك- دون الريك) بن هراندة (6) 417- (7) 88. دوناس (أبو العطاف) (7) 47. دونه بن فاتن (فاض) بن تمصيت بن ضريس (6) 120- 155 164. الدويلتية (4) 684. دي غويه (4) 266. قبائل دياب ذياب ذباب. دياب بن سليم (6) 255. دياب بن غانم (1) 807- 808 813- (6) 22. ابو الديال الناجي (3) 145- 151. أبي الديداء (2) 424. ديدن بن أليثا (2) 234. الديراني (4) 419- 670. الديرت بن جانا (7) 7- 68. بنو ديسان (2) 47. ديسقرس (2) 257. ديسقورس بطرك الاسكندرية (2) 179 180- 257- 259. ديسقوس الجديد (2) 259. ديسم بن إبراهيم الكردي (دسيم) (3) 504- 505- 513- 514 (4) 665- 666- 667 669- 670. (ابو سالم) ديسم بن غانم (4) 600 684- 685. ديشوق (2) 47. ابن ديصان (2) 244. الديصانية من المجوس (3) 547. ديفل من بطول عياض والضحاك (6) 32. ديفل بن زغلي (6) 56. ريقش (2) 281. ديقوس بطرك الاسكندرية (2) 257. ديقوسة من البرانس (6) 192. بنو الديل بن بكرة بن عبد مناة (2) 381- 457. الديلم (1) 194- 369- 475 780- (2) 9- 20- 124- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 136- 181- 210- 261 379- 559- 560- (3) 87- 92- 98- 491 512- 527- 529- 530 532- 536- 537- 538 539- 541- 542- 543 544- 545- 546- 547 548- 549- 550- 552 554- 561- 562- 563 564- 566- 568- 580 645- (4) 9- 11- 12 26- 27- 28- 29- 30 31- 32- 33- 34 118- 125- 306- 320 321- 324- 225- 327 353- 404- 417- 431 441- 442- 443- 445 454- 457- 458- 462 490- 491- 515- 548 549- 550- 551- 552 554- 555- 556- 557 558- 559- 560- 561 562- 565- 568- 569 570- 572- 573- 574 577- 578- 580- 581 585- 586- 587- 589 591- 595- 605- 606 608- 609- 611- 612 613- 614- 615- 616- 618- 619- 621- 625 627- 629- 632- 636 637- 638- 640- 641 648- 649- 650- 652 653- 655- 658- 688 692- 696- (5) 91 200- (6) 4- 75- (7) 129- 156- 174- 175 183- 435- 561- 719 721- 722. ديلم بن حسن بن إبراهيم بن رومي (6) 59- 65. ديما بن إسماعيل (2) 394. بني ديمان (6) 150. ديمتريوس (2) 244. ديمقراطس الحكيم (2) 244. دينار (5) 83. دينار مولى المأمون (4) 11. ابو المهاجر دينار (4) 234. الأمير دينار الغزي (5) 109- 110. دينار الملك (5) 130. ابو دينار بن علي بن أحمد الزواودي (6) 535- (7) 158- 436. بنو دينار بن النجار (2) 343. ديواداد (ديوداد) (3) 415- 441. ديودوس (2) 179. ديوقاريان قيصر (2) 249- 250. ديوم بن بقا بن مودنجة (5) 594. ديونشيس بن الإسكندر بن ايرياطش (2) 225. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 حرف الذال (ذ) أبي ذئب شيخ احياء مهرانة وعسرة من بني جعفر (5) 535- 536- (6) 5- 114. ذا الإذعار (1) 16- 18. ذا تبع ملك حمدان (2) 113. ذاذويه (4) 268. ذا المناقب (5) 47- 219. ذباب (ذياب- الذئاب) دياب (6) 19- 29- 44- 104 113- 114- 187- 257 376- 384- 385- 407 423- 442- 450- 451 483- 499- 503- 536 567- 568- 661- 612 617- (7) 362- 363. ذباب بن ربيعة بن زغب الأكبر (6) 111. ذباب بن سليم (ذياب) (2) 306- (6) 111- 112. بني ذبيان (1) 172- 362- 463 490- 491- 494- (7) 621. ذبيان بن بغيض (2) 363. ذخر بن قيس (3) 194. ذخير الحاجب (4) 507. (ذخيرة الدين ابو العباس) محمد بن القائم باللَّه محمد بن القائم باللَّه. أبو ذر الغفاريّ (جندب بن جنادة) جندب بن جنادة. ابن أبي ذرع (4) 17. ذريح بن عباد (2) 595- 601. ابو المحسن ذكاء الأعور (4) 401 402. ذكاك بن ورفجوم (6) 150. ذكرويه بن مهروية (3) 420- 437 (4) 110- 111- 118 398. ذكوان من بطون سليم (6) 94. بنو ذكوان بن رفاعة بن الحرث (2) 365. ذكوان عبد عبد القيس بن خلدة (خالدة) من [بني زريق] (2) 346 417. ذكوان بن يعبر (5) 571. الذميل (2) 534. الذميل بن لخم (2) 322. ذننة (ذو ننة) عظيم الروم (7) 254 255- 261- 262- 486. بني ذهل (2) 619- (3) 193- (6) 3. ذهل بن الحرث (3) 193. بني ذهل بن مزيقيا (2) 304. ذؤبان (6) 577- 616. ذو أصبح ابرهة بن الصباح (2) 291. ذو الثفنات عبد الله بن وهب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 ذو الحاجب بهمن حاذويه. ذو الحجر عوف بن عامر بن ربيعة. ذو سطيالوس (دومريان) (2) 241. ذو شدد بن الملطاط (2) 54. ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي (2) 430. ذو شناتر (2) 67. بنو ذو شيخان (2) 20- 209. ذو الصرح الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو. ذو عيل بن ذي قيعان (2) 32. ذو القرنين الصعب بن الحرث. ذو القرنين المنذر بن امرئ القيس. الذولنية (4) 600. ذوما (2) 44. ذو نفر الحميري (2) 71. ذو نواس بن تبان أسعد (زرعة- يوسف) (2) 67- 68- 69- 70. ذو النون [بن محمد بن دانشمند] (1) 673- (5) 191- 192 297- 299. ذو وداغ (2) 65. ذؤيب (2) 457. ذو يزن بن عامر بن أسلم بن زيد (2) 292. ذوي حسان من بطون المعقل (6) 62 77- 91- 263- 270 299- (7) 243- 322. ذوي زيّان (6) 75. ذوي عبد الله (عبيد الله) من بطون المعقل (6) 77- 80- 84- 91 263- (7) 248. ذوي منصور من بطون المعقل (6) 62 77- 80- 87- 89- 91 263- (7) 113- 248. ذي أمران (2) 483. ذي تبان شهر (2) 492. ذي الخدين (ذي الجدين) (1) 172 (2) 318. ذي رعين يريم بن زيد الجمهور. الشاعر ذي الرمّة غيلان بن عقبة بن بهس. ذي رياش ماران بن عوف بن حمير. بنو ذي السهمين معاوية بن عامر بن ربيعة. ذي طمرين (5) 333. ذي ظليم (2) 483- 492. ذي ظليم حوشب (2) 483- 492. ذي الكلاع السميقع بن ناكور. ذي المغار (6) 127. ذي نواس (6) 265. بنو ذي النون (2) 329- (6) 185. ابن ذي يزن (1) 224- (2) 63 72- 400- 407. ذي يزن علس بن زيد بن الحرث. بني ذياب بن مالك بن بهنة (5) 366 (6) 94- 95- 100. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 حرف الراء (ر) ابن الرائس (1) 821. رائق الكبير (3) 459. رابح ملك مدين (2) 104. رائق بن الموصل (2) 78. راجح بن صواب (6) 155. راجح بن عثمان بن منصور (6) 32. راجح بن أبي عزيز قتادة سلطان مكة (4) 133- 134- 279. راحل (2) 9- 30. راحيل بنت لابان (2) 44. الرازيّ (ابو العباس) (4) 149- 362. راس عين (ملك الروم) (3) 518. راس نوبة (5) 512. بني راسب (3) 180. راسب بن طهمارست (2) 184. راسف أخت زريافيل (2) 192. راسيس والدة أنظفتر (2) 156. بني راش (6) 30. راشد (5) 241. ابن راشد (1) 629- (7) 438. بني راشد (6) 73- 165- 346 (7) 10- 70- 73- 74 78- 82- 83- 96- 99 103- 105- 142- 155 202- 203- 205- 209 218- 243. راشد بن اياس (3) 31. راشد بن عمر (3) 91. الراشد بن محمد بن ثابت بن منديل (6) 466- 467- 471- 472 (7) 89- 90- 91- 92 131- 136- 159- 220 292- 294- 295- 736. الراشد بن المسترشد (4) 373- 374 (5) 71- 72- 73- 74 75- 272- 273- 505. راشد مولى إدريس (1) 31- (4) 8 15- 247. الراضي باللَّه بن المقتدر (2) 274- (3) 492- 493- 494- 495 496- 497- 498- 499 500- 503- 504- 505 506- 507- 508- (4) 126- 291- 292- 401 403- 563- 566- 568 569- (6) 248- (7) 721. راعوث (1) 290- (2) 174. الرافضة (1) 283- 320- 402 403- 567- 620- 621 (4) 12- 13- 35- 139. ابن رافع ابو رافع (1) 840- (2) 423- (4) 265- 688. رافع بن الحسين بن مقن (3) 555- (4) 329- 332- 361- 641- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 687- (6) 213- 221 222. رافع بن حماد (2) 366- (6) 96 97. رافع بن خديج (2) 434- 603. رافع بن خزيمة (2) 424. رافع بن طراد (4) 71. رافع بن عبد الرزاق (4) 453. رافع بن عمرو الطائي (2) 517. رافع بن كامل (6) 214- 221. رافع بن الليث بن نصر بن سيار (رافع بن نصر بن سيار) (2) 381- (3) 278- 279- 287- 288 289- 290- 291- 370 412- 417- 432- 434 438- 439- (4) 29 423- 424- 425. رافع بن مالك بن العجلان (2) 345 346- 416- 418. رافع بن محمد بن معز (4) 325. رافع بن المعلى من بني حبيب بن عبد حارثة (2) 430. رافع بن معن (بن مكن) رافع بن الحسين بن مقن. رافع بن هرثمة (3) 389- 392 393- 394- 411- 417 428- 431- 433- 442 (4) 29- 421- 423 425- 433- 434. ابن الراهب ابو الراهب (2) 197 229- 244- 245- 246- 248- 249- 252- 254 255- 260- 262- 264. بني راهب (3) 237. الراهبية (3) 213. الراوندية (3) 233- 234- 247. ابن راية (6) 46. الرباب رباب (2) 326- 369 375- 378- 464- 397 498- 499- 504- 505 526- 614- 617- (6) 68- 69- 70. رباب بن جحوش (6) 68. رباب بن حامد بن جموش بن جماز (6) 68. الرباب بنت جندة (جبدة) (6) 125. رباب بنت زفر (3) 47. قبيلة رباح (1) 410- 809- (3) 180- 238- 239. رباح بشير زنج (أسد الزنج) (3) 56. رباح بن حرب بن عاد (2) 23. رباح بن عثمان بن حسان المزني (المرّي) (3) 237- 242- 253- (4) 4. رباح بن عجلة (1) 136. رباح بن مرة بن طسم (2) 27- 28 (3) 237. الربانيون (2) 228. الربب عك بن عدنان. الربجي (الزليخي) (7) 288. ربع بن اياس (3) 31. ابن ربعي (3) 179. ربعي بن الأفكل (2) 545. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 ربعي بن عامر (2) 529- 563. ربعي بن كاس العنبري (2) 622. ربعي بن هشام الحرثي (3) 134. ربيسة (5) 361. بني الربيع (5) 337. السلطان ابو الربيع سليمان بن عبد الله. الربيع بن خيثم الفقيه (2) 379. ربيع بن ربيعة بن مسعود (سطح الكاهن) (2) 63. الربيع بن زياد (3) 6- 170. الربيع بن زياد الحارثي (2) 567 578- 579- 580- (3) 17. الربيع بن زياد المحاربي (3) 12. الربيع بن زياد وزير النعمان (2) 362. الربيع بن ضبع بن نزارة (2) 328. الربيع بن سليمان (4) 18. الربيع بن عمران التميمي (3) 109. ابو الربيع بن الغريغر التينمللي (6) 394 395. ابو منصور الربيع ابن الوزير ابو شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان سنجر (3) 606- 611- 614. الربيع بن يونس (3) 258- 259 263- 264- 265- 268 269. ابو الربيع الكنفيتي (6) 389. ابن ربيعة (1) 790. ربيعة بني عامر (1) 173- 255 765- (2) 18- 19- 42 62- 63- 286- 287- 288- 327- 356- 357 416- 504- 523- 524 525- 526- 545- 546 586- 615- 617- 618 630- 631- 632- 643 648- (3) 4- 5- 15 107- 126- 143- 144 145- 148- 150- 152 154- 197- 201- 206 210- 219- 220- 251 343- 410- 414- 416 421- 422- 431- 441 445- 449- 459- 464 479- 481- 482- 483 484- 496- 497- 498 505- 508- 534- 563 659- (4) 116- 287 288- 289- 290- 291 292- 304- 361- 395 436- 583- 596- 653 684- (5) 228- 499- (6) 2- 5- 6- 10- 16 18- 22- 234. ربيعة بن بجير (2) 513. ربيعة بن حارثة بن ثعلبة (لمّي) 394. ربيعة بن حرام بن عذرة [ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبد بن كثير بن عذرة] (2) 397. ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب (2) 480- (3) 269. ربيعة بن الحرث بن كعب (2) 305- 476. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 ربيعة بن أبي رباح بن قرة (2) 378. ربيعة بن رفيع بن سلمة (2) 375. ربيعة بن عامر (2) 369- 370- (6) 17- 114. (أبو عثمان) ربيعة بن أبي عبد الرحمن (7) 681. بنو ربيعة بن عبد شمس (2) 390. بنو ربيعة المجنون ابن عبد الله بن أبي بكر (2) 370. بنو ربيعة بن علي بن مفرّج بن بدر بن سالم (2) 304- 336. ربيعة بن كعب بن ربيعة بن كعب بن الحرث. ربيعة بن مالك بن زيد مناة (2) 370 377. ربيعة بن المختار (الغنوي) (3) 32. ربيعة بن المكتوم (2) 382. ربيعة بن ناجد (3) 14. ربيعة بن نزار (1) 20- 787- (2) 360- (4) 287- (6) 6. ربيعة بن نصر (1) 135- (2) 312 313. ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر (2) 63. ربيعة بن نصر بن الحرث بن غمارة بن لخم (من ملوك اليمن) (1) 412- (2) 63- 66. ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر (6) 29- 54. رتبونت بن دحية بن دلهاص بن تطوفت (6) 119. رتبيل ملك الترك (2) 80- 566- (3) 53- 61- 64- 66- 72 79- 82- 251- 385 (4) 417. رتيوة من بني يلوك (6) 166. رجاء ملك الفرنجة (4) 55. رجاء بن أيوب (3) 337. رجاء بن جميل (3) 306. رجاء بن حيوة (3) 93- 94. رجاء بن أبي رجاء (1) 400. رجاء بن روح (3) 261. رجاء بن أبي الضحاك (3) 313. رجاء بن أبي قنة (4) 43. أبو الرجاء (أبو الرجال) بن ناصر الدولة (4) 301- 580- 581. رجاء بن يوسف (6) 603. أبو رجاء الورد (6) 225. رجار (4) 266- (5) 233- 234 235- 236- 237- 238 239- (6) 128- 214 215- 222- 223- 224 226- 614- (7) 58. رجار الثاني (ريشار الثاني) (4) 266. رجار بن نيغر بن خميرة (5) 232. رجاف الطائي (3) 180. رجال بن عنفوة (2) 476- 501- 502. رجالة (6) 147- 151. رحب بن ثمال الخفاجي (4) 623. الرجلان الحضرة (6) 109. الرّحا بنت أبي حاويل وأخت مردخاي (2) 126. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 رحاب (5) 536. رحاب بن عيسى بن أبي بكر بن زمام (6) 59. بني رحاب بن محمود (محمد) (2) 366- (6) 111- 380 385- 407. الرحب بن خالد (3) 113. رحبعم (2) 66. رحبعم بن سليمان (2) 116- 128 167. رحم (7) 281. رحمان (6) 51. أولاد رحمة (6) 32. بو رحمة (6) 61- 62. رحمون بن ثابت (7) 89. رحمون بن هارون (7) 179- 446. بني رحّو (7) 487. رحّو بن عبد الحق (رحّو بن عبد الله بن عبد الحق) (4) 217- 220- (7) 308- 484- 486- 489 490- 494. رحّو بن المكدوني (المكدودي) (7) 464- 470. رحّو بن منصور بن يعقوب بن عبد الملك (6) 81- (7) 177- 437 438- 446. رحّو بن موسي (7) 201. رحّو بن يعقوب العطاسي (7) 38 135- 317- 487. الرخامي (6) 500. الرخج (3) 251. ردمانة من أمراء المغل (5) 444. ابن ردمير (6) 251. ردينة زوجة السمهري (7) 604. رذمير بن شانجة (4) 228- 229- 230. رزاح بن ربيعة (2) 296- 397. رزجيك بن واسين بن ورسيك بن جانا (7) 78- 96. رزام بن محمد (3) 546. رزبوك الحاجب (4) 678. رزق ابن السلطان عم محمد بن مسعود (6) 45- 97. رزمهر (2) 208. رزمير بن أردون ملك الجلالقة (4) 176- 179- 180- 227. رزوق بن بوفريطت (توفريطت) (7) 468- 473- 474. بني رزيك (5) 337- 338. رزيكة أم يعقوب (7) 313. بني رزين (6) 185. رستبارد (4) 655. رستم ملك الفرس (1) 14- 190 337- 662- (2) 59 522- 523- 524- 527 528- 529- 530- 531 534- 535- 537- 561 584- (3) 478- 598- (5) 29- (6) 158. ابن رستم (7) 16. بني رستم (4) 26- (6) 160. رستم بن برد (رستم بن أبرد) (3) 445 446. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 رستم بن الحسين بن حوشب بن داود النجار (3) 451- (4) 38. رستم بن دستان (2) 187- 191. رستم بن علي بن شهريار (هربار) بن قارن (قاروت) (5) 96. (مجد الدولة أبو طالب) رستم بن فخر الدولة (4) 617- 622. رستم بن فروخ هرمز (2) 213. رستم بن قارن (3) 431. رستم بن المرزبان (4) 662- 663. رستم شاه (5) 87- 88. رستم الشديد (2) 580. بنو رسكونت من هسكورة (6) 271. أبو رسود (4) 528. رسودان بنت تاماد (5) 159. ابن رسول (5) 498. بني رسول (2) 20- (4) 278 279- 282- (5) 337- 570 بني الرسي (2) 300- (4) 110 139- 142- 281- 282 (5) 578. رسيس أم أنظفتر (2) 157. رسيكم (6) 162. ابن رشد (1) 66- 168- 569 571- 633- 642- 646 649- 657- 711- (7) 535- 599. رشد الدين (5) 475. رشيد من بني عبد المؤمن (4) 214 216- (5) 234- (6) 271. بنو الرشيد (1) 258. الرشيد هارون الرشيد. رشيد بن كامل (6) 222. رشيد بن كاووس (3) 362. رشيد بن نوح (4) 504. الخليفة الرشيد بن المأمون عبد الواحد بن المأمون. أبو رشيد بن محمد بن يوسف (6) 482. رشيد الحبشي (4) 270. ابن رشيق صاحب مرسية (1) 8 539- 570- 762- 779 791- 792- 802- (6) 248- 249- 301. بنو رشيق (2) 371. رشيق الكاتب (4) 52. الرشيق النعيمي (4) 306. رصافة (6) 278. الرسل (6) 171. ابن رصين (4) 203. رضوان (3) 595- (6) 431- 432. رضوان بن تاج الدولة تتش (4) 82 345- (5) 21- 25- 46 49- 50- 171- 172 173- 174- 175- 176 178- 179- 189- 190 204- 215- 217- 218 220- 223- 224- 226 251- 252- 253. رضوان بن دقاق (5) 49. رضوان بن القائم (7) 550. رضوان بن ونحش (ولحيس) (4) 89 91. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 رضوان حاجب أبو الحجاج يوسف ابن السلطان أبي الوليد (4) 220- (7) 348- 401- 402- 404 405- 440- 495- 497 499. القاضي ابن أبي الرضي (5) 557. الرضي (1) 790- (3) 547. الرضي بن سعيد (6) 284. الرضي بن عصام رئيس مجسكة (6) 282- 283- 289. رضين ملك دمشق (2) 121. رعل من بطون سليم (6) 94. رعما (2) 14. رعوة (2) 43. رعويل (بيترجد مدين) (2) 93- 95. رعويل بن عيصو (2) 460. أبو رعبل (أبو زعيل) (7) 54. رعين يريم بن زيد بن سهل (2) 291. أبو رغال (2) 26- 71. رغاي (7) 6. رغصرارة (6) 278. رغيوتة من البرانس (6) 192. رفاعة بن أبي رفاعة (2) 429. رفاعة بن زيد بن التابوت (2) 424. رفاعة بن زيد الضبيبي (2) 478. رفاعة بن سموأل القرظي (2) 444. رفاعة بن شداد (3) 27- 33. رفاعة بن عبد المنذر بن زيد بن أمية (2) 419- 420. رفقا بنت بتويل (2) 44. رفلابس من معليت (6) 120. رفنا بن غومار (2) 218. بني رفيدة (2) 288. رفيع بن مخدج (1) 445. أبو الفضل رفيق (3) 377. رقاب بن سودات بن عامر بن صعصعة (6) 48. رقاش أخت جذيمة الأبرش (2) 310. بني رقاصة (7) 306. ابن الرقام (1) 693. ابن الرقعة (1) 568. الرقيطات (6) 91- 92. ابن الرقيق (1) 224- 416- 778 (4) 54- 257- (6) 154 196- 210- (7) 17 77- 101- 205. ابن أبي الرقيق (6) 139. رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم (2) 412. ركامة (6) 278. ركانة بن عبد يزيد بن هاشم (2) 391. ركبة الدين (5) 156. الركراكة (6) 299- 310- 370. ركلاوة (6) 126. الركن أبو البهلوان (3) 639. أبو ركن المسعودي (5) 81. ركن الدولة بن بويه (أبو علي الحسن بن بويه) (3) 498- 506 507- 521- 525- 528 531- 532- 533- 534 (4) 34- 126- 299 448- 452- 453- 454 455- 456- 457- 458- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 456- 575- 576- 577 578- 579- 580- 582 585- 586- 587- 588 592- 593- 595- 596 659- 660- 661- 662 668- 669- 671- 685 . ركن الدولة بن فخر الدولة (4) 601. ركن الدين بن خوارزم شاه (3) 593 659. ركن الدين الدوادار (3) 662. أبي ركوة من بني أمية (2) 369- (6) 5. سيف الدين أبي ركوش (زكوش) (5) 380- 386. الرماحس بن عبد العزيز الكناني (2) 382- (3) 142. بني رمان (6) 453- 585. رمان الخادم (5) 462. رمحوق (6) 150. رمضان بن الملك الناصر (5) 509. رميثة بن أبي نمي بن أبي سعيد (4) 134- 135- (5) 477 480- 491- 495- 496 546- (7) 298. رميلة (رهيلة) بنت المسيب (4) 325. ابن الرند (الرنك) (4) 230- (6) 321- 329. بني الرند ملوك قفصة (6) 220 221- 225- 323- 502. رنداهرمز (4) 549. رندين بن ليون (5) 482. الرنق بن زيد بن امرئ القيس (2) 343. الرها بن البلندي بن مالك بن دعر (5) 248. رها بن منبه بن حرب بن علة (2) 304. بني رهان (4) 415. أبو رهم الغفاريّ (2) 458. بني ورهل من يصراصن (6) 161. رهند بن القوش (5) 463. رهون (6) 299. أبو رؤبة (3) 99. رؤبة بن العجاج بن رؤبة (2) 376. بني رواحة بن سعد من بني عبس (2) 318. ابن الرواد (3) 323. أبو الرواد (4) 321. بني رواس (2) 370. أبو الرواع الشاكري (3) 180. روبيل بن يعقوب (2) 44. روجار ملك صقلّيّة (1) 58- 62 66- 70- (5) 252. روجيه صاحب انطاكية (5) 252. روجيه ملك صقلّيّة (زخّار) (2) 24 278. روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة (3) 235- 261 262- 266- 273- 285 (4) 244- 245- (6) 148 (7) 596. روح بن زنباع (1) 331- (3) 72 73- (4) 206. روح بن صالح الهمدانيّ (3) 273. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 الرود بن خالد بن حذيفة (2) 365. الرود (3) 77. روزبهان (3) 525- 526. روزبهان بن ونداد خرشيد الديلميّ (4) 580- 581- 675. الروس (1) 59- (2) 89- 277 (3) 518- 582- (4) 300 667- 668- (5) 5 135- 146- 430- 537 589- 606. روس المحمدي (5) 520- 526. روشنك بن دارا (2) 192. روفل بن اسيل (6) 183. الروم (1) 9- 17- 18- 38 59- 60- 93- 104 106- 183- 204- 206 207- 216- 255- 268 289- 313- 315- 330 336- 337- 375- 419 442- 443- 447- 462 476- 481- 507- 513 539- 631- 632- 669 730- 752- 765- 776 (2) 3- 4- 8- 12- 19 30- 32- 48- 61- 64 73- 76- 81- 84- 87 89- 98- 103- 104 120- 125- 134- 139 140- 141- 145- 146 147- 148- 149- 150 151- 153- 156- 158- 159- 161- 162- 163 164- 171- 173- 174 180- 184- 188- 192 193- 194- 198- 199 204- 205- 206- 207 211- 212- 213- 215 218- 219- 220- 221 222- 223- 226- 232 233- 234- 235- 238 239- 242- 243- 245 246- 247- 248- 249 251- 253- 254- 257 260- 262- 264- 265 266- 267- 268- 269 271- 272- 273- 274 275- 276- 277- 278 279- 280- 296- 306 314- 315- 323- 331 333- 336- 341- 358 404- 405- 406- 456 467- 468- 511- 513 514- 515- 516- 517 518- 519- 541- 542 543- 544- 545- 555 558- 571- 572- 573 574- 575- 576- 600 (3) 4- 11- 12- 22 23- 46- 57- 76- 84 88- 89- 90- 94 103- 166- 167- 168 172- 223- 234- 255- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 256- 267- 268- 269 282- 283- 284- 290 319- 320- 327- 328 330- 340- 347- 348 355- 374- 375- 421 422- 441- 445- 446 479- 480- 481- 507 518- 535- 559- 567 580- 582- 588- 589 600- 650- (4) 53 65- 68- 69- 233 234- 235- 236- 250 251- 252- 254- 255 257- 262- 263- 264 266- 300- 301- 305 306- 307- 309- 310 311- 312- 314- 317 318- 319- 322- 323 333- 334- 339- 343 346- 348- 350- 351 353- 357- 377- 382 386- 405- 408- 409 411- 413- 483- 586 599- 655- 656- 673 (5) 5- 6- 10- 12 17- 24- 45- 46- 59 135- 149- 161- 162 163- 164- 165- 167 168- 171- 183- 187 188- 189- 190- 191 192- 194- 195- 196- 198- 199- 200- 201 202- 203- 210- 213 214- 219- 235- 246 247- 249- 258- 259 261- 274- 275- 286 289- 290- 292- 297 298- 320- 362- 375 395- 411- 427- 428 431- 447- 452- 458 460- 462- 463- 481 518- 527- 584- 585 616- 617- 631- 632 634- 635- (6) 136 140- 141- 245- 308 425- 596- (7) 11 105- 225- 226- 228 230- 243- 254- 271 312- 315- 317- 619 626- 719- 720- 728 732- 738. أم رومان رومان الرومان (2) 423 (5) 518- (6) 314- 321. بني رومان بن جندب بن خارجة بن سعد (6) 10. رومان بن أبي الفتوح (6) 229. رومانس (2) 120. الرومانيون (2) 224- 225- 233 281. رومة (2) 248. ورمتيلوس (قرطنوش) (فرطيخوس) (2) 244. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 رومس باني رومة (روملس) (2) 46. روملس (2) 120- 232- 233 234- 251. رومي بن يونان (2) 219. روميل (5) 226. أبي رويحة الخثعميّ (2) 424. رويفع بن ثابت البلوي (2) 469. بني رياح رياح (1) 166- (2) 357- 369- 377- (4) 76- 77- (5) 233 236- (6) 18- 19- 20 21- 24- 26- 27- 28 29- 30- 33- 34- 35 43- 44- 45- 47- 48 49- 51- 53- 54- 55 56- 58- 68- 71- 75 96- 97- 98- 133 187- 211- 213- 214 215- 218- 225- 230 255- 257- 261- 263 316- 318- 320- 323 333- 335- 376- 391 405- 421- 422- 423 444- 494- 569- 572 575- 577- 592- 602 606- (7) 74- 106 107- 120- 142- 158 162- 167- 169- 173 174- 175- 178- 180 181- 183- 224- 225- 243- 311- 343- 373 393- 394- 398- 435 436- 438- 559- 561 577- 579- 580- 589 631- 638. رياح أسلم (2) 377. رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر (6) 43. رياح بن عبد الله بن الأغلب (4) 255. رياح بن عثمان (3) 235. رياح بن هلال بن عامر (2) 362 369. بني الريان (4) 286. ريان بن زغلي (6) 56. الريان بن سلمة (3) 124- 534. الريان بن الوليد بن دومغ (2) 45. ابو صالح ريحان المعري (3) 404. ريحان الخادم خديم نور الدين (5) 300- 339. ريحان الكتامي (4) 19- (6) 176. ريحانة بنت علقمة بن مالك (2) 70 71- 73. ريحانة بنت عمرو بن قريظة (2) 444. ريد افرانس المأسور ملك الفرنج (5) 446- (7) 692. ريداكون (ريدراكون) (5) 449- (6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 426. ابن الريش بن نهار بن عثمان بن عبيد الله (6) 61. ريغ من دحيا (6) 162. ريغ بن خبوز بن المثنى (6) 182. ريعات (5) 4. ريفات بن كومر بن يافث (5) 210. ريغاث (2) 11. بني ريغة (6) 197- 424- (7) 32- 62- 64- 79. وريغني من سليايان (6) 161. الريك ريكسن (7) 289. ريمند بن صنجيل (5) 357- 358. رينوس ملك بابل الملقب قطب الملك (2) 119. رينه (ريند) بن بردويل بن سير (4) 232. ريني والدة قسطنطين (3) 282. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 حرف الزاي (ز) بني زائد بن لوا (6) 153. زائدة (1) 390- (6) 32. زائدة بن قدامة الثقفي (3) 35- 45 193- 194. (أبو السرايا) أبو الزاب الشيبانيّ (6) 25. زابلستان (2) 209. زاتيمة من نغزاوة (6) 119- 150 152- 226. زادان فروخ كاتب الحجاج (11) 303 (2) 215. زادح ملك الكوش (2) 117. زادويه (زاذويه بن ماهان الهمدانيّ) (2) 319- (3) 531. زارح بن يهوذا (2) 167. بني زاكيا (7) 7. زاكيا بن درسيك (7) 7. زامل (5) 444. زامل بن علي بن ربيعة من آل علي (5) 502- (6) 11. زامل بن موسي بن عيسى (5) 503 534- (6) 13. زان بن ساطرون (2) 79. زانا بن جانا (7) 9. زاوي بن بكلين (7) 54. زاوي بن زيري بن مناد (4) 194 203- 206- 208- (6) 209- 210- 228- 238 239- (7) 28- 45. زاوي بن مناد الصنهاجي (4) 189. زاي بن أبق (أوق) الخوارزمي (3) 585. زائر من بطون لواته (6) 6. زائر بن لوا الأصغر (6) 119. الزباء بنت عمرو (نائلة) (2) 305 309- 311- 312- 322 331. بنو زبان بن تغلب بن حلوان (2) 289. الزبرتير قائد الروم (6) 307- 308. الزبرقان بن بدر من بني سعد (2) 470 498- 499- 500- 504 512. زبطرة (3) 330. زبولون بن يعقوب (2) 44. زبيد (أحد بطون مذحج) (2) 475- 492- (5) 499 500- (6) 3- 6- 7- 8 79. زبيد بن الحرث العتقيّ (2) 298. أبو زبيد الشاعر (2) 581. زبيدة أم الأمين (3) 289- 292 296- 300- 301- (5) 27. زبيدة بنت ياقوتي بن داود (5) 17 19. زبيدة خاتون (بنت عم ملك شاه) (3) 592- 596. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 ابن الزبير عبد الله بن الزبير. بنو الزبير زبير (1) 256- (2) 304- 387- (3) 5- 51 (4) 9- (6) 194. ابن الزبير الشاعر (2) 462. الزبير بن بكار (2) 290- 354 402. زبير (زبيد) بن صعب بن سعد العشيرة (2) 304. الزبير بن طلحة بن مظفر (6) 89- (7) 412. الزبير بن عبد الله بن الزبير (3) 50. الزبير بن عمر (6) 251. الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد (1) 256- 260- 267- 269 652- (2) 269- 347 371- 389- 391- 396 410- 412- 415- 420 423- 427- 428- 436 458- 460- 490- 525 554- 555- 568- 570 594- 595- 596- 599 600- 601- 603- 604 605- 606- 607- 608 609- 610- 611- 612 613- 614- 615- 616 617- 618- 621- 625 (3) 215- (4) 6- (6) 48 (7) 602. الزبير بن الماحور (ماخور) (2) 377 (3) 183. الزبير بن محمد بن علي (6) 302. زبير بن معن بن عمرو (2) 303. الزبير بن المهابة (6) 48. الزبير بن ياطا (2) 444. الزبيرية (3) 69. الزجاج (أبو القاسم) (1) 748- 755. زجار روجيه ملك صقلّيّة. بني زحاك (زجاك) (7) 85. بنو زحيك بن مادغيس الأبتر (6) 118 126- 149- 182- 183. زخّار بن زخار (1) 68. زخريا بطرك القدس (2) 263. زدريق (2) 282- 283. زديف (2) 104. زر بن حبيش (1) 389- 390. زر بن عبد الله الفقيعي (2) 552 556. بني زرا بن مروان (6) 235. زرادشت (2) 189- 190- 196 203. بنو زراذون قائد بخت نصّر (2) 123. بني زرارة (7) 123. زرارة بن أعين الكوفي (4) 144. زرارة بن أوفى (بن أبي أوفى) (3) 11- 173. زرافة (3) 350. زربك بن الصالح رزيك بن الصالح (5) 290. أبو زرجونة (6) 148- 151. بني زردال من بني يادين (7) 78 79- 96- 164- 220. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 الزردق (2) 557. الطبيب ابن زرزر اليهودي (7) 732. ابن أبي زرع (6) 241- 242 245. زرعة (2) 68- 292. أبو زرعة بنو زرعة (1) 390 393- 396- 400- 401 (2) 341- (5) 32. زرعة بن البرج الطائي (2) 637. زرعة بن ذي يزن (2) 471. زرعة بن شريك (3) 30. زرعة بن عيسى بن نسطورس (4) 73. بني الزرقاء (4) 218. الزرقاء أخت رباح بن مرة (2) 28. الزرقاء بنت زهير (2) 288- 289. الزرقاني (7) 683. زركش كاويان (1) 662. أبو زركن بن ونزمار (7) 203. زرنزور (6) 187. بني زروال (6) 275. زرياب المغني مولى المهدي (1) 540 (4) 161. زريافيل (2) 167- 189. بنو الزريع الزريعيين (2) 301- (4) 275- 276- 277- 280 281- 282- (5) 337. بني الزريع بن العباس بن المكرم (4) 276. زريق من موالي نجاح (4) 275. بني زريق بن عامر (2) 343- 345 346. زريق بن علي بن صدقة الأزدي (3) 318- 327. بنو زريقف (6) 168. الزط (3) 317- 321- (4) 380. زعازع (6) 186. زعانفة (6) 542. زعدان بن عبد الله بن أحمد بن كعب (6) 488. الزعيم بن عبد الرحمن بن يحيي بن يغمراسن (7) 153- 370. الزعيم بن يحيي 117- 118. أبو كامل زعيم الدولة (4) 335- 336. زغاوة من الملثمين (2) 14- (6) 241- 265. زغب من بطون سليم (6) 44- 94 111- 113- 376- 604. زغب بن مالك بن عوف بن امرئ القيس (6) 95. زغب بن نصر بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم (6) 95. زغبة (1) 165- 166- 814- (2) 363- 369- (4) 76 77- (6) 18- 19- 20 21- 24- 25- 26- 27 28- 29- 34- 51- 54 55- 56- 57- 58- 61 62- 64- 68- 71- 75 76- 77- 102- 104 134- 152- 158- 203 211- 213- 231- 234 256- 263- 316- 320- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 325- 606- (7) 57 58- 60- 63- 74 104- 105- 106- 107 111- 120- 124- 136 158- 159- 160- 162 165- 166- 168- 169 173- 174- 177- 178 179- 180- 181- 195 216- 243- 342- 352 368- 373- 398- 400 434- 435- 436- 437 438- 480- 561- 577 578- 579- 580- 589. بنو زغبة بن مالك (2) 366. زغدان (6) 101. بني زغلان من سدويكش (6) 197. بنو زغلي بن رزق بن سعد (6) 56. زعير (6) 280. أبو زغبل مولى بكلين (6) 207. ابن زفر (3) 87. زفر بن الحرث بن قيس الكلابي (2) 617- 619- (3) 32 33- 38- 41- 44- 47. زفر بن ذهيل بن قيس الفقيه (2) 375. زفر بن عاصم الهلالي (3) 227 256- 261- 266- 282. زكارة (7) 225. زكالة (6) 126. زكاوة (6) 183. زكراز (زكدان) بن أعجمي شيخ بني مادون (7) 210. أبو عزة زكراز (زكران) بن زيان بن ثابت (7) 99- 105- 303. زكرز (6) 92. بنو زكرمار (6) 158. زكرونة القاشاني (3) 352. زكريا النبي (2) 119- 131 170- 243- (5) 360. زكريا (5) 625. (أبو بكر) زكريا (6) 448. الأمير أبو زكريا الأعلى (6) 598. زكريا بن إبراهيم الواثق (3) 666. السلطان أبو يحيي زكريا بن أحمد اللحياني (1) 352- 407- (5) 483 (6) 101- 102- 103 108- 198- 199- 456 463- 465- 467- 471 473- 474- 475- 476 479- 481- 484- 487 496- 499- 532- 537 541- 546- 553- 556 558- 559- 561- 571 605- 610- 614- (7) 355- 361- 363. أبو زكريا بن أبي الأعلام (6) 473. أبو زكريا بن حفص (بن أبي حفص) صاحب افريقية (4) 212 215- 216- (6) 325 335- 336- 340- 347 380- 386- 388- 390 (7) 69- 87- 98- 106 107- 108- 115- 119- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 121- 227- 229- 245 250- 251- 332- 334 484 . أبو زكريا بن أبي حمو (7) 206. أبو زكريا بن الدباغ (6) 487- أبو زكريا بن شعيب (7) 663. زكريا بن شكير البحري (4) 281. ابن زكريا بن الشهيد (6) 339. زكريا بن عبد الملك الازدي (4) 117. السيد أبي زكريا بن عبد المؤمن (6) 320- 322. الأمير أبو زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص (6) 96- 97- 98 341- 393- 394- 395 396- 400- 406- 418 430. زكريا بن محمد اللحياني (6) 100. زكريا ابن المنتصر (6) 576. أبو زكريا ابن السلطان أبو يحيي (7) 536- 537- 556. زكريا بن يحيي (6) 87. زكريا بن يحيي بن سليمان (7) 464. زكريا بن يخلف بن المطغري (7) 125. أبو زكريا بن يعقوب (6) 484. زكريا بن يوحنا المعمدان (2) 168. زكرير (6) 34- 35. زكلاوة (6) 168. قبيلة زكن من حاحة (6) 270- 299 367. زكنة (7) 322. زكوجة (6) 615. زكولة (6) 150. الزكي (3) 547. زكي النقاش (5) 14- 21- 30. زلفة جارية ليا (2) 44. عز الدين زلقندار (5) 340- 355 356. زليخا (2) 45. (خاتون) زليخة أخت ملك شاه (4) 344 344- (5) 12. بنو زمال من لمتونة (6) 241. زمام بن إبراهيم بن عطية (6) 41. الزمخشريّ (1) 19- 556- 602 755- 758- 762- 777 (2) 22- 58. زمران بن إبراهيم (2) 43. زمراوة من هسكورة (6) 271. زمرد خان (5) 276. زمري (2) 128- 129. زمعة بن الأسود بن المطلب (2) 413 414- 429. زمعة بن قيس بن عبد شمس (2) 386. بني زمور من معز بن اوريغ (6) 118 149- 183. زمور بن صالح بن هاشم بن وارد (6) 276- 277- 278. زميل بن سويد بن شيم (3) 113. زنابي (6) 102. زناتة (1) 9- 75- 152- 165 175- 178- 181- 183 195- 199- 205- 208 213- 218- 224- 235- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 260- 286- 300- 361 375- 412- 669- 808 (2) 17- 31- 369 573- (4) 8- 14- 15 19- 20- 44- 47- 49 56- 59- 70- 77 105- 106- 190- 211 217- 218- 219- 220 243- 248- (5) 504 535- (6) 4- 6- 20 21- 23- 24- 26- 28 42- 46- 48- 54- 55 56- 58- 63- 64- 69 75- 76- 78- 80- 92 101- 102- 104- 122 125- 128- 134- 136 141- 142- 145- 146 147- 149- 151- 154 155- 158- 159- 160 164- 168- 174- 179 180- 190- 191- 192 194- 203- 204- 205 206- 207- 208- 209 210- 227- 229- 230 231- 233- 234- 238 239- 244- 245- 246 261- 279- 280- 282 283- 291- 307- 308 360- 371- 375- 376 383- 385- 390- 391 392- 397- 420- 422- 424- 428- 431- 446 458- 471- 477- 479 480- 482- 484- 489 494- 496- 500- 504 506- 507- 511- 550 561- 584- 586- 593 598- 610- 627- (7) 2- 3- 4- 5- 6- 7 9- 10- 11- 12- 14 16- 17- 18- 23- 24 25- 26- 27- 29- 32 33- 35- 36- 37- 38 39- 40- 42- 47- 48 49- 50- 52- 54- 55 56- 57- 59- 60- 63 64- 65- 66- 67- 68 69- 70- 72- 73- 74 75- 77- 79- 80- 82 83- 84- 85- 86- 88 92- 96- 97- 99 101- 102- 103- 104 106- 107- 108- 111 113- 115- 119- 124 129- 131- 133- 138 141- 142- 144- 146 147- 150- 152- 153 155- 157- 158- 160 165- 168- 171- 184 197- 203- 204- 206 207- 212- 218- 220 221- 223- 225- 230- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 231- 238- 243- 248 250- 253- 254- 257 268- 269- 282- 295 298- 303- 319- 321 331- 332- 334- 341 345- 368- 370- 380 381- 398- 411- 412 436- 447- 450- 452 482- 484- 485- 486 487- 488- 490- 491 492- 499- 638- 639 730 . زناتة بن يحيي (6) 120. ابو الزناد (1) 323- (3) 94. الزنج (1) 251- (2) 4- 8 14- (3) 56- 352 378- 379- 382- 383 384- 388- 390- 392 395- 397- 398- 399 400- 401- 402- 403 404- 405- 406- 407 408- 409- 410- 412 420- 423- 424- 425 426- 427- 428- 528 582- (4) 11- 21- 22 23- 24- 25- 26 108- 144- 385- 390 391- 418- 419- 421 422- 584- 594. بني زنجان (6) 153. زنجي بن كوش (6) 264. بني زنداك من مغراوة (7) 10- 18 21- 32- 68- 205. بنو زنكي (2) 20- (5) 230 320- 327- 403- 429. (قسيم الدولة عماد الدين) زنكي بن آقسنقر (3) 612- 613- 620 621- 622- 623- 624 625- 626- 627- 631 632- 633- (4) 366 367- 371- 372- 373 (5) 43- 49- 51- 54 55- 61- 63- 65- 66 67- 68- 69- 72- 73 74- 79- 180- 181 182- 183- 184- 185 221- 225- 226- 261 262- 263- 264- 265 266- 267- 268- 269 270- 271- 272- 274 275- 276- 277- 279 280- 281- 293- 298 302- 304- 327- 328. زنكي بن برسق (3) 599- (4) 532- (5) 27- 30- 31 44- 50- 178- 223. زنكي بن خليفة الشيبانيّ (5) 83. زنكي بن وكلا (3) 644- 645- (5) 93- 97- 100. قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود (5) 397- 398. زنكي بن مسعود (5) 116. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 عماد الدين زنكي بن مودود ابن الاتابك زنكي (5) 294- 307 311- 312- 317- 318 319- 321- 322- 325 352- 353- 367- 368 374- 389- 403- 404 428. زنكي جاندار (5) 80- 82. زهاص من عصفراص (عصفراض) (6) 161. بني زهر (2) 351- (3) 365. ابن زهر الاندلسي (1) 651- 818. بني زهران (2) 309. الزهراوي (1) 637. الزهرة بني زهرة (2) 74- 406 428- 430- 449- 529 (3) 239. زهرة بن جؤبة بن عبد الله (1) 157 (2) 377. زهرة بن حيوة (حيويه) (2) 535 536- 537- (3) 57 196- 197. زهرة بن عبد الله بن قتادة الحيوي (2) 526. بني زهرة بن قريش (2) 381. بني زهرة بن قصي (2) 410. بنو زهرة بن كلاب (2) 388- 397 399. زهرة بن مرة (3) 197. الزهري (2) 42- 88- 446 448. الزهري بن سعيد بن المسيب (1) 14 303- 440- 556. زهكوجة من البرانس (6) 192. زهلة من نغزاوة (6) 119- 150 152. زهير بنو زهير (2) 290- 296- (3) 433- (6) 143. أبو زهير (3) 339. زهير بن الأبرد (3) 42. زهير بن أبي أمية بن المغيرة (2) 413 414- 461. زهير بن التركي (3) 232. زهير بن أبي سلمي (1) 798- 801 803- (2) 364- 378. زهير بن خديجة بن رواحة (2) 363 370. بنو زهير بن جناب بن حنظلة بن صفوان (2) 297. زهير بن الحارث بن أليل بن زهير بن عباد (2) 285. زهير بن عبد شمس (2) 65. زهير بن علي المهاي (5) 435. زهير بن عوف (4) 251. زهير بن قيس البلوي (2) 363- (2) 171- 172- (4) 234 235- (6) 193- 194- (7) 11. زهير بن المسيب الضبي (3) 299 304- 308- 307- (4) 9. (عميد الدولة أبو القاسم) زهير العامري (4) 205. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 زهيلة زهلة. زواعة بن شداد (3) 14. الزواقيل (3) 350. الزواودة (الدواودة) (1) 166 809- (6) 30- 33- 34 44- 45- 47- 48- 51 52- 53- 69- 70- 71 73- 45- 47- 48- 51 52- 53- 69- 70- 71 73- 97- 255- 260 375- 382- 400- 403 405- 422- 423- 424 449- 474- 494- 498 520- 527- 531- 534 535- 541- 542- 546 550- 555- 557- 558 564- 569- 574- 575 576- 577- 586- 589 591- 592- 593- (7) 20- 32- 63- 64- 68 120- 121- 124- 136 150- 162- 167- 169 173- 174- 176- 178 181- 184- 296- 343 355- 361- 373- 379 381- 384- 386- 391 394- 398- 436- 437 559- 562- 577- 578 579- 580- 581- 589 637. زواوة (زواغة) بنو سكمان بن يحيي (سمكان) من بطون ضرسة (4) 14- 15- 252- (6) 55 120- 128- 134- 168 169- 170- 195- 196 200- 210- 278- 280 283- 551- (7) 21 91- 136- 154- 161 343- 375- 381- 685. زواوة بن نعم الخلفاء (6) 185. الزواوية (5) 349. زومر بن طهمارست (2) 184- 183. زويلة (2) 14- (6) 188. زويلة بن خطاب (6) 188. ابن الزيات (1) 796- (3) 341 342- (4) 302. بنو زياد- زياد (2) 20- 303 305- 494- 620- 643 644- 647- (3) 10 11- 13- 14- 15- 16 17- 100- 169- 179 237- 538- (4) 77 270- 273- 276- 279 280- 281. أبو محمد زياد مولى همذان (3) 126. زياد بن إبراهيم (4) 269. زياد بن أبيه (2) 308- 539 559- 578- (3) 6- 7 169- (4) 2. زياد بن الأشهب (2) 371. زياد بن بلال (2) 499. بني زياد بن بيد (4) 110. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 زياد بن تميم القيني (3) 63. زياد بن حراش العجليّ (3) 180. زياد بن الحرث (3) 113. زياد بن حسان (3) 269. زياد بن حنظلة (2) 558- 562 605- 606- 611. زياد بن خصفة (2) 627- 628 639. زياد بن زرارة القشيري (3) 157. زياد بن أبي سفيان (1) 237- (2) 567- (3) 9- (7) 503. زياد بن سمية (2) 647. زياد بن سهل بن الصقلية (4) 249. زياد بن شهراكونه (شهراكويه) (4) 320- 605. زياد بن صالح (الخزاعي الحارثي) (3) 153- 159- 221- 224 225- 226. زياد بن طريف الباهلي (3) 107. زياد بن ظريف (6) 107. زياد بن عامر (6) 22. زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي (7) 687. زياد بن عبد الرحمن بن عبد مدان (4) 286. زياد بن عبد الرحمن القسري (القشيري) (3) 121- 154. زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي (2) 305- (3) 219- 221 236- 252. زياد بن عبد الله العتكيّ (3) 193. زياد بن عبيد الله (3) 222- 224. زياد بن عدي (3) 7- 8. زياد بن عمرو العتكيّ (3) 35- 55 56- 194- 199. زياد بن عيسى (3) 147. زياد بن لبيد البياضي (2) 481 482- 491. زياد بن مالك الضبعي (3) 33. زياد بن محمد بن الفضل (4) 270. زياد بن مسكان (3) 211. زياد بن مصين (معين) الكلبي (3) 134. زياد بن النضر الحارثي (2) 595 626- 634. زياد بن الهبولة (2) 331. زياد الخادم (4) 62. زياد القرشي مولى حيان النبطي (3) 116. زياد الكندي (2) 492. زياد المري مولى أشهب (4) 388. بنو زيادة بن إبراهيم بن رومي (6) 65. زيادة بن تميم بن عمار (6) 49. زيادة بن هبولة بن عمرو (2) 298. زيادة الله (6) 149. زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب (1) 314- (3) 452- 453 454- (4) 248- 249 250- 251- 252- 253 254- 258- (7) 596. أبو مضر زيادة الله بن أبي العباس عبد الله (4) 41- 42- 43- 45 258- 259- 260- 261. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 زيادة الله بن الغريم (4) 60. آل زيان- بني زيان (6) 63- 64 506- 513- 590- 591 (7) 92- 93- 104 110- 128- 130- 132 147- 152- 153- 161 305- 411- 453- 566 586- 587- (7) 117 468. ابن زيان (2) 510. أبو زيان بن أبي تاشفين (7) 479 480- 481. زيان بن ثابت بن محمد (7) 97- 98 117- 199- 201- 224. أبو جميل زيان بن أبي الحملات بن مدافع بن يوسف بن سعد (4) 211 212- 213- 385- 418. أبو زيان بن أبي حمو (7) 482. زيان بن عثمان بن سباع (6) 71- (7) 303- 398. زيان بن عمر الوطاسي (7) 342 459- 460. أبو زيان بن أبي عنان (7) 395. زيان بن أبي عياد بن عبد الحق قائد بني مرين (7) 261- 265. زيان بن محمد بن عبد القوي أمير بني توجين (6) 429- (7) 88- (7) 208- 210- 485- بهاء الدولة زيان بن مردنيش (4) 213 214- 215- (6) 386 388- 392. ابن زيتون (6) 429. زيتون بن محمد بن يغرن (6) 186. زيحوحة (6) 122. زيد بنو زيد (1) 166- (2) 54 318- 382- 506- (3) 11. أبو زيد الأنصاري (2) 302. ابن أبي زيد (1) 206- 569 587- 732- (6) 16 135- 525- 598- 602. بني أبي زيد (6) 431. المولي أبو زيد (7) 383- 386 387- 391- 392- 398. زيد بن إبراهيم (3) 461. أبو زيد بن أحمد (6) 597. زيد بن أرقم (1) 270) (2) 434 446- (3) 30. زيد بن أسلم (2) 42. أبو زيد بن أبي الإعلام (6) 434. أبو زيد بن الإمام (7) 340- 355. أبو زيد بن بكيت (6) 317- 318 323- 350- 351- 353 367. زيد بن ثابت من بني النجار (1) 256 (2) 434- 454- 583 593- 596- 597- 602 603- (3) 124. أبو زيد بن جامع (6) 403- 420 435. زيد بن حارثة (2) 267- 347 410- 420- 431- 433 456- 476. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 زيد بن الحسن بن زيد (3) 243. أبو القاسم زيد بن الحسن الحسني (5) 94. زيد بن الحسين (4) 144. زيد بن حصين الطائي (2) 632 637- 640. زيد بن حماد بن أيوب (2) 316. زيد بن حمير بن سبإ (عريب وائل) (2) 290. زيد بن الخطاب (2) 347- 502. زيد بن الدّثنّة بن بياضة بن عامر (2) 438. أبو زيد بن دوناس اليفرني (4) 189. زيد بن رميثة (2) 618. أبو زيد بن زكريا الكدميوي (6) 346 396. زيد بن زيدان (6) 22. (أبو طلحة) زيد بن سهل (2) 487. زيد بن صوحان العبديّ (2) 589 594- 613- 614- 618 619- (3) 377. أبو زيد بن عبد الله أخو البياسي (6) 338. زيد بن عدي العبادي (2) 213 316- 320- 322- 323 376- 396. زيد بن علي بن الحسين (1) 248 250- 251- (3) 122 123- 216. السيد أبو زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن (6) 254- 255 257- 259- 260- 262 327- 328- 329- 330- 331- 332- 333- 334 340- 385- 614 104. أبو زيد بن عمر بن يعقوب (6) 101. زيد بن عمرو بن نفيل من بني عدي (2) 387- 406- 411- 478. زيد العجاج بن فاضل (6) 22- 107 زيد بن فرحون (6) 516- (7) 344 زيد بن قيس بن عامر (2) 342. زيد بن كهلان (2) 300. زيد بن اللصيت من بني قينقاع (2) 424- 468. بنو زيد بن ليث بن سود بن أسلم (2) 295. زيد بن مالك بن عوف (2) 342. زيد بن المعتز (3) 371 زيد بن محمد بن زيد بن الحسن بن زيد النار (زيد الجنة) (4) 29- 145. أبو زيد بن محمد (أبو زيد محمد) بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن (4) 211- 213- (6) 339. زيد بن مردنيش (4) 211. زيد بن مسعود (6) 423. زيد بن موسي الجون (4) 131. زيد بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق (زيد النار) (3) 304- 305 307- (4) 10- 145. زيد بن الهمال (2) 65. أبو زيد بن يحيي الكدميوي (6) 351. أبو زيد يعلو الكومي (6) 352. أبو زيد بن يغمور (6) 420. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 أبو زيد بن أبي يغرن (7) 29. أبو زيد بن يوجان (6) 331- 335 337- 338- 339- 340 (7) 205. أبو زيد بن يوسف بن عبد المؤمن (6) 373. أبو زيد التوزري (6) 402- 403. زيد الجمهور بن سهل (2) 70 291- 292. زيد الجمهور بن سهل (2) 70 291- 292. أبو زيد الحصرصاني (6) 324. زيد الخيل (زيد الخير) (2) 479. أبو زيد الدبوسي (1) 576- 577 578. زيد الشاك (1) 393. زيد الشهير (4) 35. أبو زيد الطائي (2) 522. أبو زيد العمي (1) 393. أبو زيد الغفاريّ (7) 298. أبو زيد المشمر (6) 338. أبو زيد الذكاري (أبو يزيد) (7) 68 71- 77. زيدان الخصي (7) 35. زيدان بن سبإ (2) 54. ابن الزيداني (3) 481. زيدم بن رعويل (2) 47. بني زيدوي (زلدوي) (6) 196. الزيدية (1) 247- 248- 250 251- 415- (3) 125 144- 250- 352- (4) 3- 9- 11- 12- 13 21- 22- 30- 34- 35 133- 134- 139- 141 142- 269- 279- (5) 90- 578. أبو زيري بن أبي حفص أبو يزيد بن أبي حفص. آل زير- بني زير من بطون عياض والضحاك (6) 20- 32. زيران (4) 49. زيرك التركي (3) 344. آل زيري بني زيري من صنهاجة (6) 205- 206- 227- 228 595- (6) 238- (7) 61. زيري بن جانا (6) 169. زيري بن حماد (7) 132- 133 291- 292- 515- 516. زيري بن خزر (7) 25- 43. زيري بن عزانة (6) 162. زيري بن عطية المغراوي أمير فارس (4) 187- (6) 160- 179 208- 209- 238- 279 291- (7) 25- 27- 28 37- 38- 40- 41- 42 43- 44- 45- 50- 53 54- 59- 60- 102. زيري بن غزانة المتيطي (4) 189. زيري بن مناد أمير صنهاجة (4) 21 50- 51- 53- 54- 55 56- 57- 105- (5) 236- (6) 203- 204- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 206- 231- 239- 292 (7) 22- 36- 50. زيريافيل بن شالهيل بن يوخنبا (2) 135. زعيم (4) 415. زين الدين بن ظاهر (7) 700. زين الدين بن مخلوف النووي (5) 470 471. زين العابدين (1) 448- (4) 21 144. زين العابدين بن شجاع (5) 629 630. زينب بنت إسحاق النفزاوية (6) 244 245- (7) 61. زينب أخت المهدي محمد بن تومرت. زينب جحش أم المؤمنين (2) 420. زينب بنت الحرث امرأة سلام بن مشكم (2) 454. زينب (أم المؤمنين) بنت خزيمة بن الحرث (2) 369- 380. زينب بنت أبي سلمة (2) 389. الزينبي (5) 73- 272. أبو زينون (لاون الصغير) (2) 258. زينون قيصر (2) 227- 258. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 حرف السين (س) السائب بن الأقرع (2) 558- 559 591- 602. سائب بن جابر (1) 540. السائب بن عبد يزيد (2) 391- 429. السائب بن عثمان بن مظعون (2) 411 415- 425. السائب بن مسلك الأشعري (3) 40. السائب بن مظعون (2) 387. سابغ بن محمد بن مرداس (4) 341. ابن سابق سابق (6) 119- 153 170- 182. سابق بن سليم (6) 117- 120. سابق بن سليمان بن حراث بن مولات المطماطي (نسّابة البربر) (6) 124 162- 163- (7) 7. سابق بن محمود (4) 351- 352. سابق الدين القزويني (5) 96- 448. سابور (2) 66- 198- 200 201- 206- 247- 249 253- 254- 313- 332 401- 520- 528- 565. سابور الاشعاني (2) 66. سابور الأكبر (2) 289. (ابو نصر) سابور بن أردشير (2) 202 203- 245- (3) 530 541- 544- 545- (4) 614- 615- 620. سابور بن خرزاد (خرزاد) (2) 63 312. سابور بن سابور (2) 256- 313. سابور بن شهريار (2) 519- (4) 550. سابور بن أبي طاهر (4) 113. سابور بن المرزبان بن مروان (4) 681. (ابو سعد الأغر) سابور بن المظفر (3) 576. سابور بن هرمز (2) 205. سابور ذو الأكتاف (2) 34- 202 206- 248- 249- 298 356. سابور كرمان شاه (2) 206. سابور كسري (2) 254- 255. سابور مهران الاصبهبذ (2) 208. ابو الساج (3) 332- 363- 372 376- 388- 391- 425 429- (4) 418- 419. ساجن بن نمر (2) 34. ابو عيسى سادي (شاذي) بن محمد (4) 687- 688. سارة (امرأة إبراهيم عليه السلام) (1) 436- (2) 39- 40- 41 42- 43- 50. سارة مولاة بني عبد المطلب (2) 461. سارتكين (ساوتكين) (3) 577. الساري (4) 385- 644. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 سارية الكوهن (2) 124. سارية من بطون ونيفن (6) 186. سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر الكناني (1) 137- (2) 381 553- 566- (7) 597. ساريوس بطرك انطاكية (2) 259. بنو ساسان ساسان (1) 361 371- 374- (2) 82 192- 200- 203- 401 (3) 411. ساسان الأصغر بن بابك بن سامان (2) 199. الساسانية (1) 418- (2) 181 199- 202- 216- 244 585. الساسانية الكسروية (2) 179. ساسي بن أبي بكر (6) 56. ساسي بن سليم بن داود شيخ بني يعقوب (6) 72- 73- (7) 181. الساطرون بن استطرون ملك الجرامقة (2) 79- 201- 202- 289 312- 332. ساطلمش (سيورغتمش) (7) 726 733. ابن الساعاتي (1) 577- 578. ساعد بن مخلد وزير الموفق (صاعد بن مخلد) (4) 391- 424. بني ساعدة (2) 422- 427 468- 487. بني ساعدة بن كعب (2) 343- 350. سافاط (2) 118. ساكورة (6) 267. سال (2) 367. سالف (2) 11. بنو سالم (2) 343- (4) 138- (6) 113- 483- (7) 618. سالم بن إبراهيم بن نصر كبير الثعالبة (6) 72- 569- (7) 173 180- 182- 183- 184 186. سالم بن أحوز المازني (3) 138- 144 148- 217. سالم بن ثعلبة القيسي (2) 615. سالم بن جلال (6) 79. السلطان ابو سالم ابن السلطان أبي الحسن (4) 220- (6) 41- 88 269- 365- 525- 550 (7) 165- 166- 167 302- 304- 307- 308 312- 396- 397- 401 402- 403- 404- 411 413- 417- 421- 441 445- 495- 499- 529 530- 539- 546- 557 558- 632- 663. سالم بن راشد (4) 262- 263. سالم بن زياد (3) 171. سالم بن سليم المطماطي (6) 117. سالم بن عبد الرحمن (3) 129. سالم بن عبد الله (3) 106. بني سالم بن عوف (2) 422. سالم بن قاسم (4) 137- 138. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 سالم بن قتيبة الباهلي (3) 240- 253. سالم بن مالك بن بدران (3) 589- (4) 353- (5) 48- 49 215- 220. سالم بن مالك العقيلي (5) 178 253- 279. سالم بن محمد (6) 79. سالم بن ملك بن مروان (5) 11- 12. سالم بن هود (4) 214. سالم بن وهب (6) 113. سالم الرودكاري (5) 569- 570. سالم الكرماني (3) 148- 149. سالم مولى حذيفة بن بدر (مولى أبي حذيفة) (1) 243- (2) 420 502- (4) 206. السالمي (1) 629. ابن سام سام بنو سام (1) 217 (2) 8- 37- 78- 81- (6) 123- 126. فخر الدين سام صاحب حلب (5) 155. سام بن باسل بن اشور بن سام (4) 548. بهاء الدين سام بن باميان (4) 526 536- 537- 538- 539 540. بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود (4) 529- 538- (5) 111 114. سام بن نوح (1) 107- (2) 20 181- (7) 5- 719. ابن سامان (3) 441- 458- 460 461. بني سامان ملوك ما وراء النهر (1) 369 (2) 20- 386- (3) 352 389- 423- 439- 475 499- 545- 546- 557 (4) 29- 425- 428 429- 431- 432- 439 446- 449- 457- 458 468- 470- 476- 482 492- 509- 510- 552 563- 564- 586- 587 594- 602- 604- 663 (5) 429- 585- 601 721- 722. سامة بن لؤيّ بن غالب (3) 389. سامة بن لؤيّ بن الغوث بن طيِّئ (2) 28- 381. بهاء الدين سامي بهاء الدين سام. ساهرمز صاحب خلاط (3) 644. ساوتكين (5) 172. ساوس بن البساسيري (3) 574. بني سبإ السبئيون (2) 11- 12 14- 43- 52- 53- 54 57- 58- 63- 69 113- 286- 289- 301 394- (3) 348- (7) 719. سبأ الأصغر بن كعب (2) 291. (الداعي المنصور أبي حمير) سبأ بن أحمد بن المظفر الصليحي (4) 272- 280. بني سبإ بن عمرو بن الغوث (6) 10. سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (1) 430- (2) 52- 57- 290. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 بنو سبا بن يفطن (2) 34. السباية (2) 52. ابن سبابة (4) 128. السلطان (الحاجب) سباسي تكين (4) 479- 500- 501- 502 511. سباط (5) 532. بني سباع (3) 244- (6) 542 546- 591- (7) 580. سباع بن ثعلب بن علي بن بكر بن صغير (6) 84. سباع بن شبل بن موسي (6) 46 575- 577. سباع بن عبد العزي (2) 436. سباع بن عرفطة الغفاريّ (2) 430 440- 468. سباع بن علي بن يحيي (7) 435. سباع بن النعمان الأزدي (3) 226. سباع بن يحيي بن دريد بن مسعود (6) 46- 47- 51- 52- 53 423- 498- 550- 577 (7) 394- 580- 581. سباع بن يعقوب بن عطية بن رحاب (6) 111. سباه (2) 553. سبا هو بن عبد شمس (2) 58. سباوخش (2) 187- 188. سبته (6) 341- 342. بني السبتي (7) 306. أبو سيرة بن أبي رهم بن عبد العزي (2) 412- 420- 526- 549- 551- 552. سيرة بن عبد الرحمن بن مخنف (3) 198- 200. سيرة بن علي الكلابي (3) 55. سيرة بن عمرو (2) 498. سيرة الجهنيّ (2) 605. سبرترة (7) 7- 68. سبطة بن المنذر بن داود (داود اللثق) (2) 333. سبع بن العزيز (6) 215- 236. سبع بن منغفاد (6) 320- 372. سبق قراخان (عبد الملك) (4) 509 510- 518- (5) 77. سبك مولى المعتضد (3) 461- 469. سبكتكين- ابن سبكتين- بنو سبكتكين (1) 374- (2) 20- (3) 527- 529- 530- 531 532- 546- 559- 563 640- (4) 46- 62 301- 312- 313- 314 454- 470- 508- 520 583- 585- 589- 590 591- 592- 635- 663 669- (5) 23- 122 157- 429- 585. ناصر الدولة سبكتكين (4) 456 464- 465- 466- 471 472- 473- 474- 482 483- 510- 520- 577 578- 582. سبكرد (5) 17. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 السبكري (4) 31. السبكري بن مردي (3) 504- 505 513. سبكرى مولى عمرو (4) 426- 427 428- 436. سبول صاحب خوارزم (5) 494. سبيبة (6) 383. سبيرجنكش (5) 159. (ذو الخمار) سبيع بن الحرث بن مالك (2) 462- 464. السبيع بن محمد (7) 421. السبيع بن موسي بن إبراهيم (7) 424. السبيع محمد بن موسي (7) 467. ابن السبيل (شبل) (3) 224. ست الملك بنت العزيز أخت الحاكم (4) 75- (6) 18. ستا (5) 430. ستردير بن رومي بن بارزت بن بزريات (6) 192. سجاح (2) 498- 500- 501. سجاح المتنبئة بنت أويس بن جوين (2) 377. سجاح بنت الحرث بن سويد من بني عقفان (2) 499. سجم بن كثير بن جماعة بن وشاح (6) 32. سجينية (2) 218. السحاري (السماوي) (6) 75. سماق (3) 321. سحنون (1) 569- 732- (4) 253. السحول بن سوادة بن عمرو (2) 291. سحير من بطون المعقل (6) 79. سحيم بن سليمان بن يعقوب (6) 108 514. سخراب (2) 213. سدد بن زرعة بن سبا (2) 59. سدراتة (4) 14- (6) 42- 43 152- 188- (7) 225. سدراتة بن نيطط بن لوا (6) 153. سدراتي بن وزير صاحب بطليوس (6) 312- 315- 317. سدرجة من ورتناجة (سردجة) (6) 120- 170. سدويكش (6) 47- 161- 196 197- 198- 428- 444 471- 476- 480- 521 534- 535- 538- 541 543- 546- 547- 588 589- (7) 66- 296 356- 391- 392- 560. السدّي (2) 41- 42- 99. سديد الدولة ابن الانباري نجم الدين ايلغازي (5) 72- 254- 267. سديد الدين بن الأنبار (4) 372. سديد الملك (أبو المعالي) (3) 605. سر الدولة (5) 462. بني سرا (6) 169. سراب سلار (3) 630. سراج الدولة بن محمد بن إسماعيل بن عباد (4) 202- 208. سراج الدين الارموي (1) 577. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 سراج الدين البلقيني (1) 568. سراج الدين بن الكويك (5) 497. سراح (2) 369. سراتة (6) 195. ابن سراقة (3) 229. سراقة بن الحرث من بني العجلان (2) 465. سراقة بن عمرو (2) 561- 562 585. سراقة بن مالك (2) 382- 422. سراي (سواي) من مغر (6) 183. سراي تمر المحمدي (5) 528- 558 559- 560. أبو السرايا (4) 139- 145- 268 269. سرايا بن حماد بن مزيد (4) 355. سر تموش بن قبلاي (5) 600. سرجان صاحب أنطاكية (5) 225 227- 253. سرجان بن كيخسر سرخاب بن كيخسر. سرجك (5) 307. سرجهان (5) 55. سرجون بن منصور الرومي (3) 24 28. ابن أبي سرح (1) 206. أبي سرحان بن أبي عامر إبراهيم (7) 139- 140- 211. سرحان بن فاضل (6) 30- 31. السرحانية (6) 30. سرحبوس (2) 243. سرحد (2) 206. سرخاب بن بدر (3) 577- 595 597- 610- (5) 27 28- 170. سرخاب بن كنجر (5) 30. سرخاب بن كيخسرو الديلميّ (3) 599 601- 602- (4) 364 365- (5) 34. سرخاب بن محمد بن عنان (4) 691 693- 694- 695. سرخاب بن وهشوداب (وهشوذان) الديلميّ (4) 32- 441- 442 551- 553. سرخاد بن ناظو بن دوشي خان (5) 605. الأمير سرخو (3) 597. سرد الشيخوني (سردون الشيخوني) (سودون) (5) 528- 530 539. سرداتة بنو نيطط بن لوا الأصغر (6) 119. السرداني ابن أخت صنجيل الأول (5) 176- 221- 462- 463. سرر دغوس (4) 264. سردون جركس (سودون) (5) 530 531. بهاء الدولة أبو الفوارس سرديك بن عضد الدولة (3) 538- 539 540- 541- 542- 543 544- 545- 546- 547 548- 576- 587- (4) 317- 318- 322- 430 431- 606- 610- 612 613- 614- 615- 616- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 617- 618- 619- 620 621- 622- 624- 631 643- 656- 678- 679 686- 687- 688- 690 . السرسو (6) 154- (7) 204 205- 209. سرغتمش (5) 513- 514- 515 516- 525- 526. بني سرغين (رسوغين) (7) 205. سيف الدين سرقنشاه (5) 473. سركورش (2) 196. سرم بن أفريدون (2) 184- 221. سرمز الجاشنكير (5) 620. السرمعون (2) 121. سرنديب (2) 75- 210. سروج (3) 328. سرور بن دريد (6) 31- 32. السرّي (4) 380- 381. السري بن عبد الله بن الحرث بن العباس (3) 241- 252- 253. السري بن محمد بن الحكم (3) 317. السري بن منصور (أبو السرايا) (3) 303- 304- 305- 306 307- (4) 109. سري الخصي (2) 200. سريان بن نبط (2) 9. السريان السريانيون (1) 9- 38 50- 63- 655- 658 689- 730- (2) 3- 6 9- 19- 76- 78- 80 81- 82- 105- 202- 232- 235- 247- 280 (7) 719- 720. سريج بن تاج الملك (5) 181. ابن سريح (1) 759. سريج بن السموأل (2) 330. سرير الدولة عبد أبي الغازي (5) 254. سطط بن أسيل (6) 183. قبيلة سطة (7) 517. سطيانوس (2) 271. سطيح (2) 210. سطيح الكاهن (2) 63- 312 322. سطيح بن مازن بن عنان (1) 135. السطيفي (4) 196. سعاد شقيقة بغا (3) 363. بني سعادة (6) 153. سعادة مولى أبي تاشفين (7) 193. سعادة العالم (6) 51- 52- 53. سعادة الله بن هارون (6) 284. سعاروس من أمراء الترك (5) 634. سعاية بن مثنى العاضد (6) 337. بنو سعد سعد (1) 166- (2) 54 326- 341- 342- 363 386- 397- 407- 482 521- 611- 616- 620 (6) 56- (7) 131. أبو سعد أخو الملك الرحيم (3) 561 562- 563- 566. سعد الايتاخي (3) 347. سعد أخو أبي الحجاج يوسف (4) 225. الشريف سعد والي واسط (3) 659. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 سعد الآيس (الأيسر) (4) 393. أبو الفضل سعد الباسلاني (مجد الملك الباسلاني) (5) 27- 28 39- 45. سعد بك (2) 653. بنو سعد بن اشرش بن شبيب (2) 306. بنو سعد بن بكر (2) 367- 472 540- (3) 15- (6) 3. سعد بن حذيفة بن اليمان (3) 31 180. سعد بن حريث المخزومي (2) 460. سعد بن حنيس (2) 424. سعد بن خثيمة بن الحارث (2) 419 422- 430. سعد بن خولة (2) 415. سعد بن دكلا (الاتابك سعد الدين زنكي) (3) 656- 657- 659- (5) 128- 141. سعد بن الربيع بن عمر بن أبي زهير (2) 418- 420- 422- 423. الاتابك سعد بن زنكي صاحب فارس (5) 128- 129- 144- 153 156- 158. بني سعد بن زيد مناة بن تميم (2) 296 327- 376- 379- 398 445. سعد بن سلامة بن علي (7) 141 216- 339. أبو سعد بن سمحاء اليهودي (3) 588 589. سعد بن عبادة سيد الخزرج (1) 242- (2) 345- 347- 350 418- 419- 422- 423 424- 441- 446- 460 475- 487- 488- 489 (4) 215. السعد بن العباس بن إبراهيم (6) 65. سعد بن عبد الحميد بن جعفر (1) 398. سعد بن عبيد الأنصاري (2) 520. سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو (بنو أبان) (2) 302- 551. سعد بن عمر (2) 603- (3) 43. بنو سعد بن عوف (2) 367. سعد بن غواث الهمدانيّ (3) 15. بني سعد بن فزارة (2) 364. سعد بن قيس (2) 362- 365- (6) 125. سعد بن لاوي (2) 101. بنو سعد بن ليث بن بكر (2) 381. أبو سعد بن ماكولا (3) 551. سعد بن مالك (2) 614. سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد (6) 55- 56. سعد خنفر بن مبارك بن فيصل بن سنان (6) 59. سعد بن مسعود الثقفي (عم المختار) (2) 614- 626- 638. سعد بن معاذ بن النعمان (2) 345 346- 348- 417- 419 420- 425- 427- 429 441- 442- 443- 444 446. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 سعد بن هذيل (2) 380. بنو سعد بن هزال (2) 30. سعد بن ويرغين (7) 238. سعد بن أبي وقاص (1) 14- 154 157- 185- 256- 267 283- 631- (2) 320 388- 410- 411- 425 426- 525- 526- 527 528- 529- 530- 531 532- 534- 535- 536 537- 538- 540- 541 545- 546- 547- 548 549- 550- 551- 556 563- 568- 569- 570 571- 596- 602- 603 626- 636- 650- (4) 6. بنت الاتابك سعد (5) 167. سعد الحاجب (3) 538- (4) 320. أبو سعد الحلواني (5) 26. سعد الخثعميّ (3) 32. أبو سعد الفارسيّ (3) 578. أبو سعد قاض الري (3) 577. أبو سعد النصراني (4) 656. سعد الدولة (4) 65- 66- 316. سعد الدولة بن تتش (3) 617. سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان (3) 538- (4) 322- 408 605. سعد الدولة القواسي (الفراسي) (4) 84- (5) 215. سعد الدولة اليهودي الموصلي (5) 618. الوزير سعد الدين (5) 475. سعد الدين بن معين الدين أنز (5) 306 350. سعد الدين بن علي بن واصمع (6) 265. سعد الدين التفتازاني (1) 633- 749. سعد الدين المستوفي (5) 200. سعد العشيرة (2) 297- 304 492- (3) 95. بني سعد الله (6) 364- 365. أبو المحاسن سعد الملك بن محمد (3) 608- 609- 610- (5) 4- 42- 43. سعد هزيم (2) 295- 514. ابن سعدان وزير صمصام الدولة (3) 536- 559- (4) 320. سعدو نصر بن علي (7) 218. سعدون السرساقي (4) 167- 168. سعدي بن أبي الشوك (3) 564 566- 569- (4) 693 694- 695- 696. سعدي بن محمد بن عنان (4) 690 691. ابو سعدي اليفرني (خليفة اليفرتي) (1) 808- (6) 21- 26- (7) 83. السعدية (4) 22. السعود بن خرباش (7) 230. ابو السعود بن عمران (4) 276. ابن سعيد (1) 70- 819- 820 821- 825- 828- (2) 9- 11- 13- 22- 30- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 34- 37- 38- 53- 54 66- 67- 78- 85 181- 218- 221- 291 296- 298- 301- 303 305- 322- 329- 331 332- 334- 335- 336 341- 344- 364- 366 369- 370- 371- 372 380- 407- (3) 57- (4) 112- 140- 269- 270 276- 278- 279- 284 382- 383- 548- (5) 5- 594- (6) 6- 8 15- 25- 79- 95 264- 265- 266. بنو سعيد (1) 304- (2) 507- (6) 222- 263- 297- 430 (7) 85- 136- 162 307- 398. ابو سعيد صاحب بغداد (5) 494 495- 607- 608. الرئيس ابو سعيد (4) 218- 219. بنى ابى سعيد (7) 32- 85- 90 93- 94- 136- 293 436- 438- 462. السلطان ابو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يغمراسن. سعيد بن أحمد الباهلي (3) 424- (4) 262. سعيد بن أبي احيحة (2) 390. سعيد بن إدريس بن صالح (6) 284. سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي (3) 54- 55- 173. السعيد بن الصالح إسماعيل (5) 442 452. ابو سعيد البرادعي (1) 569. سعيد بن بشر بن يخلف (6) 477. سعيد بن بطريق (2) 229- 259 261. سعيد بن بهلول الشيبانيّ (3) 206. سعيد بن أبي تاشفين (7) 150. ابو سعيد بن جامع (6) 334. سعيد بن جبير (2) 42- (3) 63 82- 83. ابو القاسم سعيد بن الحاجب (3) 537. سعيد بن أبي الحسن (6) 256. سعيد بن الحسين بن يحيي الأنصاري (4) 156. الشيخ ابو سعيد بن أبي حفص (6) 258- 259- 331- 332 333- 339. سعيد بن حمدان (ابو العلاء) (3) 481- 484- 485- (4) 291- 295- (6) 497. بنت سعيد بن حمدان (4) 310. سعيد بن حميد العمدي (3) 356 375- (4) 364- 365- (5) 54. سعيد بن خالد بن سعيد (2) 454 515. سعيد بن خديم الجمحيّ (2) 575. السلطان ابو سعيد بن خربندا ملك التتر (5) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 498- 499- 503- 506 512- 572- 596- 621 622- 623- 624- 629 633 . ابو سعيد بن خربهرا (5) 257. سعيد بن خزرون (6) 28- 54 208- (7) 45- 53- 57. ابو سعيد بن خليفة (7) 60. سعيد بن داود بن هلال (6) 69. سعيد بن دعلج (3) 254- 260 261- 266- 267. سعيد بن روح (3) 136. سعيد بن رياح (6) 43- 78. ابو عثمان سعيد بن زكريا الكدميوي (6) 342- 346. سعيد بن زيد (2) 387- 414 420- 423- 597- 599. سعيد بن الساحور (3) 310- 311. سعيد بن سعيد بن صالح (3) 383. سعيد بن سعيد بن العاص (2) 465. سعيد بن صالح (3) 364- 379 382- 383. سعيد بن صالح الحاجب (4) 23. سعيد بن صالح بن سعيد بن إدريس (6) 284- 285. سعيد بن طاهر المزوغي (6) 615. السعيد بن الظاهر (5) 454- 456. سعيد بن العاص (1) 269- (2) 390- 429- 572- 581 582- 583- 585- 586 589- 590- 591- 2592 594- 597- 601- 607 608- (3) (7) 18- 25 62- 91- 170- (4) 549. سعيد بن عباد (3) 184. سعيد بن عبد الرحيم (3) 555- 556 (4) 632. السعيد بن العزيز بن العادل (5) 424 425- 538- 454- 614. السعيد (محمد) ابن السلطان عبد العزيز المنصوب (4) 222- 223- (7) 178- 635. سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم (3) 100- 102- 174. سعيد بن عبد الله (3) 255. سعيد بن عبد الملك (3) 133- 136 165- 166. السيد ابو سعيد بن عبد المؤمن (6) 316 317- 319- 320- 321 322. سعيد بن عبدون (7) 473. سعيد بن أبي زيان عثمان (7) 418 420. سعيد بن عثمان بن عفان (3) 170. سعيد بن عثمان بن عمر بن مهدي (6) 62. ابو سعيد بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق (7) 135. سعيد بن عمر (7) 219. سعيد بن عمر الحريشيّ (3) 103 106- 111- 112- 204 260. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 سعيد بن قيس الهمدانيّ (2) 557 591- 627- 639. سعيد بن كرفة (6) 47- 48. السعيد بن لؤلؤ (5) 440- 441 443- 449- 453- 615. السعيد بن المأمون علي بن المأمون. سعيد بن مالك بن قادم (3) 299. سعيد بن المجالدي (3) 192. ابو القاسم سعيد بن محمد (4) 320. ابو سعيد بن محمد (5) 53. سعيد بن أبي مريم (1) 23- 414 415. سعيد بن مزيد (4) 176. سعيد بن مسروق (2) 292. سعيد بن مسلم بن قتيبة (3) 283 284- 285. سعيد بن المسيب (1) 323- 391 (2) 169- 388- (3) 75. ابو سعيد بن المنصور (6) 337. سعيد بن منقذ الهمدانيّ (3) 39. سعيد بن موسي العجيسي (7) 389 399- 548. سعيد بن موسي بن علي الكردي (7) 159- 412. سعيد بن نجاح (4) 130- 271 272- 273- 274. السعيد بن نصر بن سامان (السعيد نصر بن سامان) (3) 458- 464. سعيد بن نوفل (4) 392. سعيد بن هشام بن عبد الملك (3) 143 162- 166. سعيد بن هشام المصمودي (6) 277. سعيد بن واسول جد بني مدرار (6) 138. سعيد بن وانودين (6) 342. سعيد بن وهب (2) 439. سعيد بن يربوع (2) 548. سعيد بن يوسف بن أبي الحسن (سعيد بن يوسف بن أبي الحسين) (سعيد بن أبي الحسين) (6) 430- 433 435- 436. ابو سعيد بن يونس (1) 526. ابو سعيد البرادعي (7) 511. ابو سعيد البلوصي (4) 588. ابو سعيد التمرتاشي (4) 480. ابو سعيد الجزار (1) 621. ابو سعيد الجناحي (الجنابي) (3) 437 (4) 12- 37. سعيد الحاجب (3) 313- 424- (4) 383- 605- 606. سعيد الحريشيّ (3) 175- 176. ابو سعيد الخدريّ (1) 267- 270 388- 392- 393- 394 395- 514- (2) 434 603. سعيد حذينة (3) 101- 103 126. ابو سعيد الدرعاني (3) 433. ابو سعيد السرخسي (4) 652. سعيد السعداء (4) 96. ابو سعيد الطائي (3) 548- 549. سعيد الطالقانيّ (4) 437. سعيد العربيّ (7) 142. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 ابو سعيد الفرغاني (4) 425. ابو سعيد القرشي (3) 155. ابو سعيد القرمطي (4) 116. ابو سعيد المتولي (5) 16. ابو سعيد النسري (4) 67. ابو سعيد الهروي (4) 364- (5) 212. سغمنجة من قواد منسا وموسي (6) 267. السفاح ابو العباس. ابو السفاح (3) 326- 361. سفاح بن هبيرة (3) 158. سفارة (6) 119. سفخا (2) 14. سفك ابو البربر (6) 122. سفنا (2) 14. قبيلة سفيان (6) 21- 37- 38 39- 41- 280- 341 344- 346- 347- 348 350- 351- 354- (7) 243- 311. سفيان بن أمية (1) 525. سفيان بن الأبرد الكلبي (3) 62 63- 196- 197- 199 200- 202- 203. ابو سفيان بن حرب بن أمية (1) 116 117- 584- (2) 265 390- 407- 421- 427 428- 431- 433- 434 435- 437- 440- 441 442- 450- 451- 457 458- 459- 460- 466 470- 491- 516- (3) 4- 9- 10- 16- (4) 38. ابو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب (2) 413- 458- 464. سفيان بن حيان العمي (3) 244. ابو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (7) 681. سفيان بن سعيد بن مسروق (2) 379. سفيان بن أبي العالية الخثعميّ (سفيان الخثعميّ) (3) 57- 191 192. سفيان بن عوف الازدي (2) 576- (3) 12- 22- 23. سفيان بن عيينة بن أبي عمران (7) 682. ابو سفيان بن كثير الخزاعي (3) 117. سفيان بن مجاشع بن دارم (2) 326. سفيان بن مخنف الازدي (5) 462. سفيان بن المضاء (4) 248. سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب (3) 160- 223- 244- 252. سفيان بن المهاجر (4) 248. سفيان بن هشام (3) 167. سفيان بن يزيد الازدي (3) 38. سفيوس ابن عم قيصر عامل بلاد الأرمن (2) 149. سقراط (1) 616- (2) 196- 222. سقلاروس الدمستق (2) 275. بنو سقمان (سكمان) (2) 20- (5) 208- 259. قطب الدين سقمان (5) 258. سقمان بن ارتق التركماني (3) 604- (4) 83- 359- 360- 362 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 (5) 24- 25- 26- 36 37- 40- 43- 44 161- 173- 211- 214 216- 220- 224- 248 249- 250- 251- 262. سقمان القطبي صاحب خلاط (3) 605- 608- 618- (5) 38- 40- 42- 47- 50 204- 223- 251- 254. سقمان بن قيماز سقمس بن قايماز الحرامي (3) 642. السكاسك (2) 329- 494- (6) 128. سكانوس (2) 145- 146. بني سكتان (4) 38- 39. سكر من يصلاسن (6) 161. سكر جاه (5) 306. سكرديد بن رومي بن مازرت (6) 142. السكرستان (لشكرستان) (3) 542 543. سكسك (2) 306- (4) 284 285. السكسك بن وائل (2) 54. السكسوي (عمر) (1) 202- 409 (7) 311- 388. سكسيوة (سكسباوة) (6) 299- 370. السكسيوي المستعصي (6) 365. سكم بن محمد بن ورزين (7) 220. (شاه أرمن) سكمان بن إبراهيم بن سكمان (5) 204- 205- 206 208. سكمان بن محمد بن ورزين (7) 220. سكوال من سدويكش (سكرال) (6) 197. (الحاجب) سكوت البرغواطي (6) 246- 247- 295- 296 (7) 48. سكوم من يصراسن (6) 161. السكون (2) 61- 284- 298 306- 329- 520. ابن السكيت (1) 759. الحاجب سكيس (5) 570. بني سكين (6) 198. السلاجقة- بني سلجوق (1) 194 218- 361- 370- 420 470- 475- 780- (4) 471- (5) 129- 187 585- 587- (7) 723. سلار (3) 476. سيف الدين سلار (شمس الدين سلار) (5) 470- 473- 476 477- 484- 486- 487 489- 495- 506- 620. ابن السلار (4) 499- 646- 673 (5) 238. بني سلار (4) 672. السلار بن الحسين (4) 521- 660. سلار بن طغرل (5) 452. سلار بن محمد بن مسافر (4) 666. سلار بن مسافر بن سلار (4) 587. سلاركرد (سلادكرد) (4) 375 376- (5) 82. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 سلامة بنت سعيد بن شهيد (2) 438. سلام (6) 6. أبو مسلم سلام (3) 228. ابن سلام (2) 70- 601. سلام بن التركية (6) 114. (أبو رافع) سلام بن أبي الحقيق (2) 433- 440. سلام بن سليم (3) 221. سلام بن مشكم (2) 431- 440. سلام الترجمان (1) 100. سلامان (2) 475. بنو سلامة أمراء بني يدللتن (1) 166 (3) 493- (7) 125- 206 210- 215. سلامة بن رزق (6) 22. سلامة بن سنان التميمي (3) 191. سلامة بن علي (7) 209- 215. سلامة بن نعيم الخولانيّ (3) 95. سلامة البرقعيدي (4) 309- 312 316. سلامة الرشقي مولى بكجور (4) 319. سلامة الطولوني (3) 489- 508 509- 516- 519. السلان (5) 551. بني سلجوق بن ميكائيل (7) 722. الملك سلجوق شاه ابن السلطان محمد (3) 625- 626- 633- 634 (4) 372- (5) 69- 73 74- 75- 268- 269 272. السلجوقية (2) 11- 20- (3) 521- 522- 557- (4) 82- 86- 118- 120 123- 129- 130- 345 351- 357- 360- 374 376- 410- 501- 502 503- 504- 506- 507 529- 572- 672- 684 683- 696 (5) 5- 7 12- 17- 23- 25- 59 81- 82- 98- 104 106- 108- 111- 128 149- 169- 187- 188 189- 198- 206- 209 210- 211- 212- 216 217- 223- 229- 247 248- 261- 262- 269 272- 273- 277- 288 321- 328- 427- 462 463- 584- 585- 601 631- (6) 4- (7) 725 739. السلحدار (5) 512- 516. سلطان بن ثابت بن حسب بن أبي بكر بن تليلان (6) 199. سلطان بن ثمال الخفاجي (4) 623. سلطان بن الحسن (4) 329. سلطان بن علي بن منقذ الكناني (5) 222- 286. سلطان بن مظفر بن يحيي (1) 809. سلطان بن مهلهل (7) 336. سلطان الدولة بن بهاء الدولة (3) 548- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 549- 550 (4) 624 625- 626- 627- 680 689. سلطان شاه بن رضوان شاه (5) 178 253. السلطان شاه تكش (4) 532. سلطان شاه محمود (4) 525- 526 529- (5) 98- 100 101- 106- 109- 110 111- 118. سلطوس بطرك رومة (2) 177. السلف- السلفات (2) 22- 32. السلفري (السلقدي) (5) 93. سلقنوس (سلقيوس) (2) 223- 224. سلم بن أحوز بن أربد (2) 375. سلم بن زياد بن أبي سفيان (2) 566. سلماس (3) 580. سلمان (2) 507- 549. سلمان بن أرتق سليمان بن أرتق. سلمان بن حسن بن صاف (7) 149 150. سلمان بن حنظلة (2) 476. سلمان بن ربيعة الباهلي (2) 526 535- 537- 539- 542 562- 571- 572- 585 586- 591. سلمان الفارسيّ (2) 216- 424 441. السلمانيين (6) 25. أم سلمة (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) (1) 388- 391- 292- (2) 5- 327- 354- 448 453- 458- 461- 491 611. بني سلمة (2) 433- 436- 441 445- 577. سلمة بن الأكوع (1) 154- 155 (2) 374. سلمة بن جهينة (2) 460. سلمة بن الحرث (2) 326. سلمة بن خالد بن كعب (2) 326. بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد (2) 343. سلمة بن سلامة بن وقش (2) 423 603. أبو سلمة بن عبد الأسد (2) 415 425- 419. أبو سلمة بن عبد الرحمن (3) 170. سلمة بن عبد الله بن عبد الله بن عمر (3) 240. سلمة بن عمر بن عثمان بن مالك بن الطواني (3) 162. سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي (2) 445. سلمة بن عمير (2) 503. سلمة بن قيس الأشجعي (2) 567 568. سلمة بن محمد (3) 161. أبي سلمة بن مرشد (5) 286. سلمة بن هشام بن المغيرة (2) 415 516. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 سلمة بن وقش (2) 503. أبو سلمة الخلال (حفص بن سليمان) (1) 250- (3) 128- 161. سلمون بن نحشون (2) 167. سلمي (2) 457. سلمي (زوج المثنى) (2) 526. سلمي بن القين (2) 550- 551. سلمي بنت مالك بن حذيفة (2) 498. سلمي بنت وائل بن عطية (2) 317. بني سلول (2) 368- 479. سلول بن مرة بن صعصعة بن معاوية (6) 22- 55. سلول (أم عبيد) بن مالك بن سالم (2) 347. سلومث بنت انظفتر (سلومنت) (2) 144- 156. سلياس قائد الروم (2) 164. سلياقوس (2) 137. سليايان من كلدام (6) 161. سليب (3) 568. بني سليب (تثليب) (6) 302. سليح (2) 331- 332- 333 514. بنو سليح (عمرو بن حلوان بن عمران) (2) 296- 297. سليح بن حلوان (2) 311. سليح بن عمرو (2) 288. بني سليط (3) 182. سليط بن عبد الله بن عباس (3) 127 231. سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ (2) 449. سليط بن قيس (2) 520- 521 522. السليطيين (4) 230. السليل بن قيس (2) 499. بني سليم- سليم (1) 165- 188 410- (2) 202- 362 364- 365- 366- 367 369- 397- 430- 439 458- 462- 466- 490 495- 497- 498- 617 (3) 69- 245- 257 275- 338- 352 (4) 115 127- (5) 546- (6) 3 5- 16- 17- 19- 30 40- 45- 48- 59- 77 78- 94- 95- 96- 98 100- 106- 107- 108 109- 112- 114- 135 152- 186- 197- 255 256- 257- 263- 329 335- 374- 382- 383 384- 391- 407- 423 490- 496- 514- 525 536- 549- 556- 567 568- 574- 575- 592 598- 604- 607- (7) 58- 106- 107- 153 156- 158- 162- 200 216- 331- 360- 361 509- 602. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 سليم بن حمزة بن عمر بن أبي الليل (7) 142. سليم بن عبد الواحد بن عسكر (6) 186. سليم بن مخدوع العبديّ (3) 180. سليم بن منصور (1) 173- 768 (2) 364- 365- 367- (4) 112- (6) 27- 94- 98 (7) 215. سليم بن يزيد الكندي (3) 39. بني سليمان (4) 128. أبو الربيع سليمان (4) 212. ابن سليمان كاتب لؤلؤ (4) 390. ركن الدين سليمان (5) 193- 194. شهيد الدولة سليمان (4) 510. الناصر سليمان (5) 498- 502. سليمان أخو انكلاي (4) 26. سليمان الأعسر (2) 121. القاضي سليمان (3) 395. سليمان ابن أخ إدريس الأكبر (4) 20. سليمان بن إبراهيم بن يعقوب (6) 41 73- (7) 485. سليمان بن أحمد بن محمد المستكفي (5) 505. سليمان بن أرتق التركماني (4) 82- (5) 171. سليمان بن الأسود (3) 161. سليمان بن ألب أرسلان (3) ، 58. سليمان بن الياس (4) 458. سليمان بن أيوب سقيق العادل (5) 383. سليمان بن بشير (4) 543. سليمان بن بغا (3) 391- 392. سليمان بن تقي الدين شاهنشاه (5) 388. سليمان بن جامع (3) 377- 391 395- 396- 398- 399 400- 401- 403- 406 407- 409- (4) 22 24- 25- (6) 186 460- 482- 488. سليمان بن أبي جعفر (3) 296. سليمان بن جعفر بن فلاح (4) 64- 68. سليمان بن جندر (5) 307- 353. سليمان بن الحافظ (4) 90. سليمان بن حبيب (3) 151- 207 (6) 113- 483. سليمان بن حروا (عدوا) (6) 244. سليمان بن حريز مولى المهدي (الشمّاخ) (4) 8- 14- 15. أبو القاسم سليمان بن الحسن (3) 468 498- 508- 510. سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر (المستعين) 239- 295. سليمان بن الخادم (4) 402. سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب (7) 688. سليمان بن داود عليه السلام (1) 15 16- 241- 254- 257 288- 290- 322- 436 441- 442- 444- (2) 22- 43- 59- 60- 65 66- 109- 111- 112 113- 114- 116- 118 123- 124- 128- 155- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 156- 167- 168- 174 304- 340- 650- (5) 399- (6) 127- (7) 4. سليمان بن داود أخو أبو جعفر المنصور (3) 578- (4) 4. سليمان بن داود (5) 578، (6) 542 593- (7) 390- 391 394- 396- 397- 401 402- 415- 416- 428 451- 452- 453- 454. بني سليمان بن داود بن حسن المثنى بن حسن السبط (4) 13- 14- 125 142. سليمان بن داود بن العاضد (4) 104. سليمان بن داود بن عيسى (4) 10. سليمان بن داود بن هلال (6) 70. سليمان بن داود بقراخان (5) 107. سليمان بن الدر الخولانيّ (4) 272. بنو سليمان بن ذياب (2) 366. سليمان بن رجاء (3) 261. سليمان بن أبي السري (3) 104. سليمان بن سعد (7) 216. سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر (5) 389- 577. (أبو طاهر) سليمان بن أبي سعيد الجنابي (3) 469. سليمان بن شعيب بن عامر (6) 73. سليمان بن صرد الخزاعي (2) 374- (3) . 7- 27- 35- 48- 216 (4) 2. سليمان بن الصمة (6) 148. سليمان بن طاهر سليمان بن عبد الله بن طاهر. سليمان بن طرف (4) 269- 279. سليمان بن عامر (4) 272. سليمان بن أبي عامر ابن السلطان أبي يعقوب (7) 307. سليمان بن عباد (3) 184. (بدر الدولة) سليمان بن عبد الجبار بن أرتق. (5) 67- 254- 255 265. سليمان بن عبد الرحمن الداخل (4) 155- 156. سليمان بن عبد الله (3) 271- 354 (4) 16- (7) 101. سليمان بن عبد الله البكائي (3) 273 282. سليمان بن عبد الله أخو إدريس الأكبر (6) 177- 178. سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن (7) 33. سليمان بن عبد الله بن طاهر (3) 357 358- 369- (4) 26 27- 550- 551. (السيد أبو الربيع) سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن (6) 254- 302 328- 330- 334- 335 338- 341- 385- (7) 135. (السلطان أبو الربيع) سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب بن يوسف بن عبد الحق المريني (5) 484- (7) 313- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 315- 318- 319- 325 389- 487- 519 . سليمان بن عبد الملك (1) 258 263- 365- (2) 271 273- 367- (3) 72 73- 81- 82- 83- 84 86- 87- 90- 91- 93 94- 95- 96- 125 174- 217- (4) 148 236- 237- 549- (5) 133. سليمان بن عبيد (1) 394. سليمان بن عثمان بن عبد الحق (7) 233. سليمان بن عثمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان (4) 154. (أبو دينار) سليمان بن علي بن أحمد أمير الزواودة (7) 379. سليمان بن أبي علي بن الياس (4) 586 588. سليمان بن علي بن سباع بن يحيي بن مسعود (6) 47- 52- 499 555- 589- 591. سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس (3) 166- 223- 225- 233 236. سليمان بن عمر (4) 170. سليمان بن عمران الأزدي (3) 359 376. (أبو غبشان) سليمان بن عمرو بن لؤيّ (2) 397- 398. سليمان بن غالب بن جبريل (4) 381. سليمان بن أبي الغفاريّ (5) 254 255- 256. (أبو القاسم) سليمان بن فهر (4) 328. سليمان بن قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق (3) 589- (4) 343- 344 352- (5) 10- 11 169- 188- 190- 261 635. (ركن الدين) سليمان بن قليج أرسلان (2) 279- (5) 247- 394. سليمان بن كثير الخزاعي (1) 250- (3) 125- 126- 127- 128 129- 146- 148- 152 153- 222- 231. سليمان بن محمد بن إبراهيم (4) 21. (أبو أيوب) سليمان بن محمد بن هود الجذامي (4) 206. سليمان بن محمد بن وانودين (6) 309. سليمان بن مرحم (ترجم) (5) 103. سليمان بن مشكيان (4) 208. سليمان بن مطعمان بن غيلان (6) 202. سليمان بن المظفر (5) 398. سليمان بن مظفر الدين (6) 13. سليمان بن منسا موسى (7) 410. سليمان بن المنصور (3) 270- 289 294- 299- 300- 301 304. سليمان بن منصور بن أبي مالك بن يعقوب بن عبد الحق (7) 399. سليمان بن مهارش (3) 620- 621 (4) 369. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 (معين الدين) سليمان بن مهذب الدولة على البرنواه (5) 200- 201- 202. (أبو الربيع) سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي (7) 686. سليمان بن موسى الجون (4) 131. سليمان بن موسى الشعراني (3) 384 399- 400- 401- 407 (4) 23- 25. سليمان بن موسي بن نصير (3) 174. سليمان بن ناجي بن عمارة (6) 89- (7) 194- 480. سليمان بن نجاح (1) 553. (أبو حرب) سليمان بن نصير الدولة بن مروان (3) 559- (4) 330 335- 410- 411. سليمان بن هشام بن عبد الملك (2) 360- (3) 135- 136 140- 141- 142- 143 151- 165- 167- 168 206- 207- 209. سليمان بن وانودين (7) 103. سليمان بن ونصار (سليمان بن نصا (7) 415- 416. سليمان بن وهب (3) 338- 342 372- 373- 380- 381 426- 427- 430. سليمان بن يحيي بن معاذ (3) 359. سليمان بن يرزيكن (7) 315. سليمان بن يزيد (3) 135- 267. سليمان بن يقطن (3) 264. سليمان بن يقظان (4) 155. سليمان الخادم (3) 463- (4) 47. سليمان خان (الشيخ حسن الصغير) - (5) 624. سليمان السر دغوس (4) 54- (6) 154. غياث الدين سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه (3) 635- 636 640- 641- 643- 644 (5) 76- 79- 80- 84 85- 89- 90- 91- 92 107- 162- 287- 288 399. سليمان الغودودي (7) 471. سليمان قطلمش (5) 46. ابو الربيع سليمان المستكفي (3) 665 (5) 477. السليماني (1) 391. السليمانيين بني سليمان (4) 125 129- 130- 137- 140 141- 271- 279. سليوس (2) 178. (ابو الحسن) سماء الدولة بن شمس الدولة (4) 627. سماد بن نخيل (6) 261. بني سماط (6) 591. ابن السماك (1) 23. (ابو دجانة) سماك بن خرشة الأنصاري من بني ساعدة (2) 435- 439 561- 602. سمال بن عبد العيسي (3) 180. سمامون (5) 491. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 سمان الخادم (4) 683. ابن السمح (1) 637- 641 643- 697. السمح بن مالك الخولانيّ (3) 174 (7) 617. بني سمر (6) 543. سمرة ابن سمرة (2) 608- (3) 65. سمرة بن جندب الغفاريّ (2) 434- (3) 11- 12. سمرة بن جندب بن هلال (2) 363 (3) 170- 180. سمرة بن سوأة (2) 369. سمرة بن عبد الله الخثعميّ (3) 16. سمساسن من يصلاسن (6) 161. السمط بن الأسود الكندي (2) 541 542. السمط بن مسلم البجلي (3) 205. سمعان الأسود (2) 172- 174. سمعان بن خونيا (الكوهن الأعظم بالقدس) (2) 226- 227. سمعان بن كلوبا (كلاويا) (2) 241 242. سمعان القناني (2) 172. السمعاني (7) 680. سمعون بن سعيد (6) 63. سمعون بن أبي يحيي بن خليفة بن عسكر (7) 75. بني سمكان (بنو يحيي بن ضري) (6) 120- 168- 170- 200. (ابو القاسم) سمكو بن واسول بن مصلان (6) 171- 173. السمنجاني (4) 121. سمند (اسمند) (5) 48- 211 212- 213- 216- 220 230- 284- 285- 289 340- 365- 368- 369 370- 372- 384. سمند ابن البرنس الأشقر (5) 190 444. البرنس سمند بن تيمند (5) 447 451- 457. القمص سمند الصنجلي (5) 301. السمهري (7) 604. بني سمو (6) 559. السموأل بن عاديا (2) 327- 328. السموأل بن عريض بن عاديا بن حيا (2) 328. سمورة (4) 183. سمول ماط (4) 227. السميدع بن لاوذ بن عمليق (2) 30. السميدع بن مرثد بن لاي بن قطور (2) 309. السميدع بن هومر (هوثر) بن مالك (2) 30- 100- 309- 331 393. سمير بن ثعلبة بن الحرث (2) 382. سميرا قائد يافين (2) 103. سميرم (3) 476. ابن السميسرة (4) 302. السميط بن ثابت (3) 135. سميل (5) 174. السميقع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 الغوث بن سعد (ذو الكلاع الأكبر بن النعمان) (2) 55- 291 483- 492- 506- 514 515- 518- 541- 629 631. سناء الملك ابن سناء الملك (1) 825 (5) 217. ابو السنابل بن بعكك بن السبّاق (2) 389. ابو سنان (3) 532. سنان مقدم الإسماعيلية (4) 122- (5) 341- 382. سنان بن انس النخعي (3) 30- 34. سنان بن أبي حارثة المرّي (3) 176. سنان بن عامر (6) 111. سنان بن علوان (فرعون إبراهيم) (2) 39- 183. سنان بن عليان (4) 347. سنان بن مالك بن عبد عمرو (2) 358 626. سنان بن واقد الجهنيّ (2) 446. سنان ذو ألم (2) 32. سنباط بن ليون (5) 481- 482. بني سنبس بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ (5) 501. سنبس بن معاوية بن شبل (2) 303. سنبلاط السامري (2) 137- 141. السنة (5) 100. سنتاي بن بانيفان بن جفطاي (5) 605. سنتف بن منكوفان بن جفطاي بن جنكزخان (5) 616. سنجار بن صرصار (2) 506. سيف الدين سنجار المنصوري (5) 456. سنجاريف بن اثور بن نينوى (سنحاريب ملك الموصل) (2) 78- 79 80- 81- 121- 122 125- 189. بني سنجاسن (7) 7- 62- 63 64- 85. سنجر صاحب خراسان (3) 614. علم الدين سنجر الحلي الصالحي (5) 435- 438- 440- 443 445. علم الدين سنجر الحنفي (5) 454 456. سنجر الخادمان (5) 435. علم الدين سنجر الخياط (5) 461. سنجر الدوادار (5) 457- 458 459- 469- 470- 471 475. علم الدين سنجر الشجاعي (5) 455 463- 464- 465- 467. سنجر العزيزي (5) 435. سنجر الغتمي (5) 435- 437. علم الدين سنجر المجاهد (5) 440. سنجر المقتفوي (3) 652. علاء الدين سنجر المنصور (5) 619. سنجر مولى الناصر (3) 657. السلطان سنجر بن ملك شاه (3) 595 598- 600- 601- 615 616- 622- 624- 625 626- 627- 628- 630- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 636- 637- 639- 640 656- (4) 83- 359- 370 371- 372- 373- 375 515- 516- 517- 518 519- 521- 523- 525 546- (5) 22- 23- 24 27- 29- 30- 31- 32 33- 39- 45- 56- 57 58- 62- 64- 66- 67 68- 69- 70- 76- 77 78- 79- 81- 82- 83 84- 85- 86- 87- 95 96- 106- 107- 108 109- 110- 118- 123 124- 126- 127- 137 181- 268- 269- 287 434- 584- 585. سنجر شاه صاحب الجزيرة (5) 205. معز الدين (قطب الدين) سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود صاحب سنجار (5) 308- 310 313- 314- 355- 376 391- 393- 394- 395 397. سنجرت (5) 427. السنجرية (5) 110. سنجق البخاري (3) 615. السنخم بن مالك الخولانيّ (4) 149. بني سند (1) 570. سنداب ملك سورية (2) 130. بني سندم (6) 308. سندمر بن يعقوب شاه (5) 535 556- 559- (7) 574 575. سندمر قان بن طرمالا بن جنكمر بن قبلاي بن طولي (5) 599. السندي (السدي) (3) 288- 289 291. بني سندي (6) 585- 586. السندي بن شاهك (3) 300- 301. السندي بن يحيي الحريشيّ (الحرشيّ) (3) 297. بني سنس (6) 199. سنشادش (2) 282. سنقر (3) 633- 643- 657- (5) 58- 103. سنقر الارجاني (5) 379. سيف الدين (شمس الدين) سنقر الأشقر (5) 202- 388- 422 424- 434- 436- 437 446- 448- 452- 453 454- 455- 456- 457 458- 459- 460- 464 465- 470- 481- 502 615- (6) 11. شمس الدين سنقر الألفي (5) 453. سنقر البرسقي (3) 610. سنقر التركيتي (5) 453. سنقرجه (5) 36. سنقر الخمارتكين (5) 74. شمس الدين سنقر الرومي (5) 440 441- 444. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 سنقر العزيزي (5) 88- 89. سنقر الفارقيّ (5) 447. سنقر والي همدان (3) 629- 630 642- 646. مظفر الدين سنقر وجه السبع (3) 656. سنكاه بن أحمد ابن أخ شملة (3) 647- 651. ابن سنكي (5) 99. سنمار (2) 313. بنو سنوس إحدى بطون كومية (6) 81 (7) 150. بني سهل (1) 350. ابن سهل الشاعر (1) 796- 822. سهل بن حنيف (2) 439- 596 604- 605- 6111 624- 629- 630- 644 648. سهل بن رافع (2) 295. سهل بن ساباط (3) 326. سهل بن سعد (3) 51. سهل بن سعيد (1) 270. سهل بن سلامة الأنصاري (1) 201 (3) 309- 311- 312. سهل بن صاعد (3) 289. سهل بن عبد الله (1) 147. سهل بن فوكاش (4) 40. أبو الحسن سهل بن مالك (1) 819 820- 821- 828. سهل بن محمد بن سليمان الصعلوك (4) 479. بنو سهل بن نوبخت (1) 42- 230- 304. سهل بن هارون (1) 796. أبو سهل الحمدونيّ (4) 493- 499 635- 636- 645- 646. سهلان (3) 549. سهلة بنت سهيل بن عمرو بن عامر (2) 412. بنو سهم بن عمرو بن هصيص (2) 399. سهم بن غانم الجهنيّ (3) 179. بنو سهيب بن محمد بن كليب (الشبه) (6) 30. سهيل بن بيضاء من بني الحرث بن فهر (2) 412- 415- 426. سهيل بن عدي (2) 546- 551 553- 559- 566- 567. سهيل بن عمرو (2) 430- 447 460- 515- 544- 550. السهيليّ (1) 389- 413- 414 418- (2) 5- 24- 31 39- 43- 49- 52- 53 54- 58- 59- 60- 62 67- 73- 74- 76- 84 87- 182- 188- 194 202- 205- 215- 286 290- 302- 309- 313 321- 340- 344- 355 356- 368- 394- 395 397- 398- 401- 402 (6) 123- 126. سوأته بن عامر (2) 369. سواد بن قارب (1) 128. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 سواد بن مالك التميمي (2) 526 528. سوادة بن عمرو بن الغوث بن سعد (2) 291. سوار بن عبد الله (3) 254. السوار بن همام العبديّ (2) 548 565. سواق (6) 197. بني أبي سود (2) 378. السود بن عبد الله الباهلي (3) 260. السودان (الزنج) (2) 8- 23 85- 223- (4) 77- 78 (5) 333- 339- (6) 21 114- 131- 132- 139 241- 242- 245- 263 264- 265- 266- 267 269- (7) 17- 69- 79 151- 178- 226- 351 366- 719. سودان بن حمران السكونيّ (2) 587 593- 594. سودب (3) 203- 204- 205. سودب بنت زمعة أم المؤمنين (2) 386 423. سودون النائب الطرنطاوي (5) 552 558- 560- 561- 568 570- 628. سودون باق (5) 548- 552 554- 561. سودون الشيخوني سردون الشيخوني. سودون الحاجب المظفر (5) 541- 550. سيف الدين سودي الجمدار (5) 488. سوذان بن همدان (3) 215. سور بن عبابة (6) 261. سورة بن ابجر التميمي (3) 102 108- 111- 112- 113 192- 202. سورس (2) 258. السوريان (4) 548. سوريان بن نبيط (2) 78- 80. سوريانوس قيصر (سويرس) (2) 244. قبائل السوس (6) 353- 355. ركن الدين سوس الجاشنكير (5) 467 468. سوسن خادم ابن الحصاص (3) 448. سوط النسا أم يغمراسن (7) 107. سوط النسا من بني علي أم رحّو بن عبد الحق (7) 224- 241. سوط النساء بنت عبد الحق (7) 485 486- 489- 490- 494 498. سولي بن بلقادر أمير التركمان (سوي بن دلقادر) (5) 541- 565 569. سوما الصوري (2) 154- 155. سوماتة بنو تطوفت من نغزاوة (6) 119 138- 150- 152. سوماي السلاي (5) 556. سونج (4) 83- 541- 544- (5) 26- 120- 182- 183 248- 635. سونج بن تاج الملوك (5) 266. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 سونج المولي (أمير شكار) (4) 541 (5) 122- 120. بني سويد (6) 58- 70- 71 72- 73- 75- 84 522- (7) 107- 129 154- 156- 157- 158 159- 160- 162- 166 168- 174- 175- 177 180- 181- 188- 189 193- 215- 216- 343 368- 373- 376- 377 398- 435- 561- 577 580. سويد بن أوفى (2) 615. سويد بن سرحان الثقفي (3) 200 201- 269. سويد بن سليم (3) 190- 191 194- 196- 197- 198. سويد بن الصامت (2) 416. سويد بن عامر بن مالك (6) 59 61- 62- 64- 65. سويد بن عبد الرحمن السعدي (3) 193- 200. سويد بن عمارة (6) 62. سويد بن عيسى بن عريف (6) 71. سويد بن مقرن (2) 378- 490 495- 557- 560- 561 582. سويقة بن مذكور (6) 373. سويوس بطرك رومة (2) 259. السياح بن محمد بن الأشعث (3) 202. أبو سيارة (2) 362. سيامك بن منشا (2) 182. سياوخش (2) 520- 538. (أبو موسي) سياه جشم بن مالك الديلميّ (4) 555- 620. سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين (2) 560. سيساور بن اركتم بن بغاتمر بن براق (5) 601. سياوشي (3) 559. سيبويه (1) 670- 728- 748 754- 773- 777. ابن سيجور (4) 594- 604. بني سيجور (4) 468- 490. سيجور الدواتي (3) 464- 475- (4) 31- 32- 436- 437 439- 441- 442- 472 478- 553. سيحان بن صوحان (2) 613- 618 619. سيحون ملك العموريين (2) 98. السيد الأيهم (2) 477- 478. السيد بن أنس الأزدي (3) 314 317- 318. السيد ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري (6) 382. السيد الحميري (1) 294. أبو السيد المظفر (4) 363. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 سيداب بن بندار (4) 33. بني سيد الملك (6) 158. سيد الملوك بن يوسف (6) 198. بني سيد الناس (7) 507. ابن سيد الناس (7) 355. سيد الناس بن أمير الناس شيخ بني يلومي (7) 75- 123. سيد الناس بن محمد بن عبد القوي (7) 209- 210. سيده من وريكول (6) 161. ابن سيدة (1) 758. الحرة سيدة بنت أحمد (4) 272 273- 274- 280. سيدة بنت عبد الله الصليحي (4) 276. سيدة بن نجدة (3) 65. السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو (2) 394- 395. سير بن إسحاق (6) 253- 302. سير بن الحاج (6) 309. الأمير سير بن أبي بكر محمد (6) 249 250. السيرن (3) 319. ابن سيرين سيرين (2) 5- 511. أبو محمد سيرين (2) 512. سيرين أخت مارية القبطية (2) 87. سيساو قائد الروم (2) 151. سيف (2) 518- 519. زين الدين سيف (5) 464- 467. سيف بن ذي يزن (2) 73- 74 75- 210- 261. سيف بن ربعي (3) 7. سيف بن عمر الأسدي (1) 7- 14. سيف بن فضل (5) 503- (6) 13. سيف بن محمد بن عيسى العائدي (5) 561. سيف بن مهنا (5) 503. سيف بن النعمان بن عفير بن زرعة (2) 292. سيف بن هاني المرادي (3) 187. سيف الإسلام اليزدوي (1) 577. سيف الدولة بن حمدان (1) 709- (2) 274- 359- (3) 513 514- 515- 516- 531 538- 550- (4) 276 293- 294- 295- 296 300- 301- 302- 303 304- 305- 306- 307 308- 309- 310- 311 327- 405- 571- 581 669- (5) 521- 522- (6) 4. بنت سيف الدولة (4) 317. سيف الدين الآمدي (1) 576. سيف الدين أبو بكر بن السلار (5) 342. سيف الدين بن عثمان (5) 448. سيف الدين الطاخي (5) 465 471- 472. سيكا المفلحي (سبكا المفلحي) (3) 479- 483. سيكة أم أبو يزيد (7) 17. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 سيكرى مولى عمرو بن الليث (3) 445 455- 456. أبو سيل الارمني (5) 48. سيلين من سدويكش (6) 197. سيما الجزري (3) 459- 460- 493. سيما الحمداني (3) 444. سيما الخادم (3) 364. سيما الشرابي (3) 373. سيما الطويل (3) 366- 379- 396- (4) 386- 387. ابن سينا (7) 535. سينتت بن رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص (6) 119. سيور بن يحيي بن عمر الونكاسني (7) 468- 471. السيوطي (7) 723- 734. سيول بن براق بن سنتف بن ماسان بن جفطاي (5) 608- 621. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 حرف الشين (ش) ابن شادي (5) 536. أبو عيسى شادي بن محمد (3) 546. شاذان البلخي (1) 418. الشاذنجان (4) 685- 687- 688. 689- 690- 692- 693 . شارح بن الحاجب (1) 545. شارل (2) 174. شاروخ (2) 37- 38. ابن شاس (1) 570. شاس بن زهير (2) 363. الشاشي (3) 594. ابن الشاطر (4) 353. ابن الشاطي (5) 12. شافع بن سليمة بن مجاهد (6) 61 62. شافع بن صالح بن فالغ (6) 68. بنو شافع بن عامر (6) 68. الشافعية (4) 100- 151- (5) 100- 115. شاقة بن الاحمير (6) 22. بنو شاكر (1) 640. شاكر بن شاكين (4) 336. شاكرين (5) 378. شالخ بن قنين بن أرفخشذ (2) 9 37- 38. بني شامة (3) 313- 314. بني شامة بن لؤيّ بن غالب (4) 117. شامر بوزنتين (2) 129. شانا بن يحيي بن صولات بن ورتناج بن ضري (7) 3. شانجة بن أبرك الملك (4) 229. شانجة بن رذمير (4) 181- 183 227- 228- 229. شانجة ابن الطاغية (7) 269- 270 271- 274- 275- 278 283- 289. الطاغية شانجة بن أدفونش (7) 328 329- 330- 336- 337 338- 344- 345- 346 347- 348- 366- 370 387- 390. شانجة بن غرسية (4) 179- 228 229. شانجة بن القمط (4) 231. شانجة بن هراندة (4) 230- 231. شاه بن مسعود (5) 191. الشاه بن ميكال (3) 364- 381. شاه أرمن بن إبراهيم بن سقمان (5) 95 306. شاه ملك بن علي (4) 505. شاه ملك نائب تيمور لنك (7) 729 733- 737. شاه ولي (5) 629. شاهر بن سقمان القطبي (5) 92. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 بني شاهرين- شاهرين (5) 306 309- 349- 350- 355 396. شاهك الخادم (3) 355- 358. ابن شاهك (4) 35. سعد الدين شاهنشاه (5) 389. المظفر شاهنشاه بن أيوب (5) 489 577- 604. بني شاهين ابن شاهين (3) 525- (4) 593- 596- 674. شاهين بن بسطام (3) 382. (عماد الدين) شاهين شاه بن قطب الدين (5) 319- 344. شاهينة بن جيبال (4) 477. شاو (2) 14. بني شاور (5) 338. شاور السعدي وزير العاضد (3) 649 (4) 91- 95- 96- 97 98- 99- (5) 240 241- 242- 243- 244 246- 290- 291- 328 329- 330- 336. شاول بن قيس بن افيل (طالوت) (2) 107. الظاهر شاوي (5) 417- 420 432. قبائل الشاوية (6) 280. شاويرش بطرك انطاكية (2) 180 260. شب بن منصور (6) 79. الشبانات أولاد علي (6) 89- 91- 92- 348- 354- 369 (7) 243- 304- 322. شبانة ملك الترك (2) 211. بني شبانة من بطون سويد (شبابة) (6) 61- 62. شبانة بن الأحيمر (6) 30. شبانة بن مختار (6) 79. شبت بن ربعي بن حصين (2) 377 499- 613- 627- 628 640- (3) 27- 31- 32 33- 39. شبت بن عمر التميمي (2) 634. شبل (3) 437- 438. شبل بن سالم (3) 407- 409. شبل بن طهمان (3) 153. شبل بن عبد الله (3) 165. شبل بن مسكيانة بن مهلهل (1) 810 812. شبل بن معبد (2) 565. شبل بن ملوك (6) 71. شبل بن منديل بن أحمد (6) 100. شبل بن موسي بن محمد بن مسعود (6) 45- 46- 56- 422 423. ابو علي شبلة بن طهمان الهروي (3) 125. ابن شبيب (4) 205. شبيب بن أبحر (3) 179. شبيب بن الحرث التميمي (3) 100. شبيب بن حماد بن مزيد (4) 355. شبيب بن حميد بن قحطبة (3) 289. شبيب بن ربعي (3) 186. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 شبيب بن رواح (3) 231. شبيب بن شبة (3) 132. شبيب بن شجرة (2) 645- 646. شبيب بن محمد بن كليب (ومنه الشببة) (6) 31. شبيب بن وثاب (4) 411. شبيب بن يريد بن نعيم الشيبانيّ (شبيب الخارجي) (2) 377- 378 536- (3) 57- 190 191- 192- 193- 194 195- 196- 197- 198 199- 200. شبيل (4) 207. شتاتة (6) 183. شتلة (2) 282. شتما بن رعويل (2) 47. بني شجاع (3) 242- 243. ابو كامل شجاع بن أسلم (1) 637. شجاع بن سعيد السعدي (4) 96. (الكامل) شجاع بن شاور السعدي (4) 99- (5) 291. شجاع بن القاسم (3) 356. شجاع بن مروان (4) 678. شجاع بن المظفر اليزدي (5) 625 626- 629. شجاع بن وداع (3) 204. شجاع بن وهب الاسدي (2) 267 334- 335- 450. ابن شجاع الشاعر (1) 833- 834. شجرة بن الأعز (2) 514. ابو شجرة بن عبد العزي (2) 498. شجرة بن عبد الكريم المسطاسي (6) 191. شجرة بن منيا (4) 71. (أم خليل) شجرة الدر (5) 418 419- 421- 431- 434 435- (7) 692. بنو شجع بن عامر بن ليث (2) 381. ابو الشجم (3) 126. شحمة (2) 379. شخار دارا (2) 193. بني شخام بن منشي بن يوسف (2) 104. شخشار بن ارتشخار (2) 193. الشخشي (الفحشي) الحاجب (6) 457- 519. شدات بن عديم (2) 85. الشداخ بن عوف بن كعب (2) 381. ابن شداد (6) 20. شداد بن الأسود الليثي (2) 435. شداد بن أوس (2) 576. شداد بن بداد بن هداد بن شداد بن عاد. (2) 22. شداد بن عاد بن عوص (1) 19. شداد بن عبد الله الضباري (2) 473. شداد بن مداد بن شداد بن عاد (2) 85. شداد بن الملطاط بن عمرو بن ذي هرم بن الصوان (2) 54. شداد بن الهيثم الهلالي (3) 13. ابن شداد السلولي (3) 194. شديد بن عاد بن عوص (1) 19- (2) 22. شديد الدولة الانباري (3) 629- 635. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 الشراة (4) 117- 415- 594. شراحيل بن بسام (3) 161. شراحيل بن السمط (2) 492. شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك (3) 162- 163. شراحيل بن معن بن زائدة (3) 284. الشراعية (6) 107. شرحبيل (2) 500- 501- 502 504- 535- 543- 544 554- (3) 312. شرحبيل بن الأسود بن المنذر (2) 364. شرحبيل بن الحرث (2) 326- 327 358. شرحبيل بن حسنة (2) 266- 495 499- 515- 519. شرحبيل بن دوس الهمدانيّ (3) 35. شرحبيل بن ذي الكلاع (3) 38. شرحبيل بن السمط الكندي (2) 526 536- 626- 628- 642 648. شرحبيل بن غالب (2) 66. شرحبيل يصحب بن مالك (2) 65. شرخاب بن بهيودان (3) 475. شرديال آخر ملوك بابل (2) 120. ابو الفوارس شرزيك بن عضد الدولة (3) 538. شرشال (1) 222. شرطة من صنهاجة (6) 202. بنو شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس (2) 291. ابن شرف الشاعر (1) 195- 285- 779. ابن أبي شرف (1) 285. ابو شرف القيرواني (7) 602. شرف الدولة (شرف الدين) أنوشروان بن خالد (3) 614- 624- 629. ابو علي شرف الدولة (3) 536- 537 538- 539- 540- (4) 68- 677. شرف الدولة بن بوية (4) 320- 328. ابو الغواس شرف الدولة شرذيك بن عضد الدولة (4) 320- 407 462- 603. شرف الدولة بن أبي الطيب قليج ارسلان (5) 47- 158- 219. شرف الدين (5) 306. شرف الدين الأشقر (7) 690. شرف الدين ابو جعفر البلدي (3) 647. رضا الملك شرف الدين بن أمور (5) 138- 141- 148- 149 150- 151. شرف الدين ابن الأمير (5) 475. شرف الدين بن نجش (5) 243. شرف الدين بن فضل الله (5) 506. شرف الدين دوادار (3) 643. شرف الدين الطيبي (1) 556. شرف الدين الغازي (5) 435. شرف الدين الكردي (5) 614. شرف الدين المشطوب الهكاري (5) 332. شرف المعالي ابن الأفضل (4) 84- (5) 215- 217. شرف الملك (5) 154- 156- 157. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 شركب (3) 425- (4) 420. ابو شركب الحمال (3) 426. الشركس (1) 99- (2) 11- 336 (3) 212- (5) 427. الأمير شركير أتابك الملك طغرل (3) 613. شرموشل بن المحلي (4) 411. شروات بن منداس بن مغر بن اوريغ (6) 164. شروان شاه (5) 135- 147 149- 155- 159- 160. شروه (4) 408- 409. أبي قارن شروين (3) 283. شروين بن أبي قارن (سروين) (4) 549. شروين الجيلي (4) 445. شريال ملك الكلدانيين (2) 119. شريب بن كعب (2) 341. شريح (2) 596- (3) 6- 17 18- 31- 60- 169 172- 173. شريح القاضي (1) 158. شريح بن اوفى العنسيّ (2) 615 638- 640. شريح بن الحرث الكندي (2) 554 (3) 15- 173. شريح بن عامر بن سعد بن بكر (2) 540. شريح بن هانئ الحارثي (2) 626 635- 636- (3) 15 178. ابو شريح الخزاعي (2) 581- (3) 26. الشريد (1) 165- (6) 152 376- 604. الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عطية (2) 366- (6) 94. الشريد عمرو بن يقظة بن عطية (2) 366. شريش (4) 147. شريف من بني هلال (5) 461. ابو القاسم الشريف (1) 798. ابو المعالي شريف بن سيف الدولة (4) 307- 309- 310- 311 312- 314- 316- 317 318- 319- 320. الشريف بن هاشم (1) 807- 808 (4) 129- (6) 24. ابو الشريف البدري (3) 16. الشريف الرضي بن أبي احمد الموسوي (1) 30- 796- (4) 37 127- 145- (5) 475. الشريف المرتضى (3) 554. شريفة (6) 75. شريك (2) 510. شريك بن الأعور الحارثي (2) 578 (3) 171- 180. شريك بن جدير الثعلبي (3) 38. شريك بن شداد الحضرميّ (3) 15 16. شريك بن شيخ (3) 224. شريك بن عبد الله النخعي (3) 253. شريك بن عمرو اليشكري (3) 54. الششتري (1) 828. الأشرف شعبان بن حسين ابن الملك الناصر (3) 665- (7) 476- 526 694- 695. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 شعبان بن عمرو (2) 291. (الكامل زين الدين) شعبان بن الملك الناصر (5) 509- 518- 628. شعبان بكا نائب القلعة (5) 560 575. شعبان الكتامي (4) 75. شعبة بنو شعبة من كنانة (1) 390 393- 395- 396- (2) 358- (6) 7. شعبة بن ظهير النهشلي (3) 101. شعبة بن مهلهل (2) 358. شعبة بن هلال (2) 369. الشعبي (1) 601- (2) 42- (3) 54. ابني شعيا (2) 121- 122- 169 172. شعيا بن اوصيا (2) 135. شعيا بن عبد الواحد (6) 171. ابو مدين شعيب (7) 314. بني بو شعيب (6) 169. شعيب بن أبي خالد (1) 391. شعيب بن ذي مهدم (مهرع) (2) 32 283- 291- 355. شعيب بن محمد المعتصم (4) 214. ابو شعيب بن مخلوف (7) 314. شعيب بن ميمون بن داود (وردان) (7) 392- 415- 428. شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين (2) 93. شعيب بن نويب بن احزم بن مدين (شعيب بن عيفا) (شعيب موسى) (2) 49. النبي شعيب بن نويل بن رعويل بن عيا بن مدين (2) 49. شفيع الخادم مولى المنصور (3) 436 (4) 54. شفيع اللؤلؤي (3) 466- 484. شفيع المقتدري (3) 483- 484. شق بن أنمار بن نزار (1) 135. بني شقارة (6) 68. شقاف (شفاف) (6) 393- 394 401. بنو الشقمة (2) 341. شقنا (4) 155. شقنا بن عبد الواحد (4) 154. شقير حسل بن عامر (2) 386. شقيرة (5) 390. شقيقة بنت ربيعة بن وهب بن شيبان (2) 313. شكاركرد (3) 637. شكر بن وهب (شق الكاهن ابو صعب) (2) 312. شكر بني شكر (5) 436- 437 (6) 3. شكر خادم عضد الدولة (4) 68 610. شكر بن الحسن بن جعفر (4) 128. شكر بن عنان (6) 34. شكر بن أبي الفتوح (4) 129- (6) 24- 25. شكرستان الديلميّ (4) 616- 648 666- 678. جلال الدين شكري بن خوارزم شاه (5) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 48- 49- 216- 217 220- 221- 222- 225 246- 247- 327- 636 . شكن (5) 568. ابو شكين غرشة (نوشتكين غرشة) (5) 23. شلامش بن امال بن بكو (شلامش بن انيال بن منجو) (5) 473 474- 619. بدر الدين شلامش بن الظاهر (5) 454 460- 465. شليشار ملك الجزيرة (2) 121. الشماخ الشاعر (سليمان بن حريز مولى المهدي) (1) 32- (2) 366 532. شماخ (6) 95. ابن الشماخ (3) 429. بني الشماس (3) 377. شمالا (2) 220. شمخ (2) 363. شمر بن الاملوك (2) 55- 102. شمر بن الحرث بن ثعلبة (بن جبلة) (2) 333- 335. شمر بن ذي الجوشن (2) 631- (3) 30- 31- 33. شمر بن مالك (2) 60. شمر ذي الجناح (2) 61. شمر مرعش من ياسر ينعم (شمر يرعش بن ياسر ينعم) (2) 60- 66- 67 292. شمرا ذا الجناح (2) 315. شمردل (3) 59. شمس البطريق (2) 541. الشمس بن كلا بطرة (2) 237. شمس الخلافة (4) 85- (5) 237. شمس الخلافة (4) 85- (5) 222. شمس الخواص (5) 52- 177 178- 180- 226- 230 252- 253- 333. المعظّم شمس الدولة بن أيوب (أخ صلاح الدين) (6) 255. شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه (3) 549- (6) 617- 624 626- 627- 689- 690. شمس الدين الأصفهاني (5) 508 594- 596- 598. شمس الدين الباخوري (5) 598 604. شمس الدين البرلي (5) 435. شمس الدين التكريتي (5) 161. شمس الدين الجولي (الصاحب) (5) 617- 618. شمس الدين الطغرائي (5) 134 148. شمس الدين الفارقاني (5) 453. شمس الملك بنت ألب أرسلان (4) 514. شمس الملك بن نظام الملك (شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود) (3) 583- 620- (5) 62. شمس الملك اليتمشي (5) 142. شمسي سيدة بني يزناسن (7) 343. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 الشمسي الاحمدي (5) 515. شمسي الشيخة (6) 169. الشمسي المحمدي نائب دمشق (5) 513. الشمسي الناصري (5) 512. شمسون بن مانوح من سبط دان الجبار (2) 105. ابن الشمشيق الدمستق (2) 275- (4) 311- 317- 599. بني شمعون شمعون (2) 102 141- 163- 164- 173 176- 227. شمعون الثائر (2) 161- 162. شمعون بن كنابا (2) 239. شمعون بن كيافا (2) 175. شمعون بن متيتيا (2) 140. شمعون بن يعقوب (2) 44- (6) 280. شمعون بن يوسف (2) 168. شمعون الحبيس صاحب العمود (2) 257- 258. شمعون الصفا من بني هارون (2) 136 239. شمعون القناني (2) 173. شمكار بن عنات من سبط عاد (2) 103. شملاوش (2) 140. بني شملة (3) 655- (5) 113. شملة التركماني (5) 87- 89- 91 92- 97- 99. شمويل النبي (صموئيل) (1) 211 (2) 101- 106. شمويل بن الكنا بن يوام بن الياهو (2) 107. شنتيلة (4) 177. شنجة (4) 165. شنعا (2) 40. ابن شهاب (2) 354. شهاب ابن العادل (5) 321- 322. شهاب بن المخارق (2) 567. ابن شهاب الزهري (2) 5. الشهاب الصغري (5) 580- 581. شهاب الإسلام (5) 56. شهاب الدولة (4) 692. شهاب الدين بن أرتق (5) 347. شهاب الدين بن أبي الفتح (سام بن الحسين الغوري) شهاب الدين الغوري (4) 508- 522- 523 524- 525- 526- 527 528- 530- 531- 533 534- 535- 536- 537 538- 539- 540- 541 543- 545- 548- (5) 110- 111- 115- 116 117- 118- 119- 120 121- 128- 142- 162. شهاب الدين ابن الطاهر (5) 196. شهاب الدين بن فضل الله (5) 594 595- 596- 598- 604. شهاب الدين ابن محيي الدين (5) 506. شهاب الدين الحارمي (شهاب الدين محمود الحارمي) (5) 295 332- 3411- 343. شهاب الدين الحمادي (4) 122. شهاب الدين القرافي (1) 577. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 شهاب الدين الهروي (5) 129 130- 145. شهر بن باذان (2) 481- 482 483. شهر بن ذي الجوشن (شمر بن ذي الجوش) (2) 370. شهربراز (1) 178. شهربوس بن دلكين (4) 645. الشهرستاني (1) 252- (2) 177 (4) 122. شهرك (2) 565. شهريار مرزبان أبرويز (2) 266 536- 552- 562- (3) 332. شهريار بن باذان (4) 268. شهريار بن شروين (3) 318- 319 (5) 549. شهريار بن شيرين بن شهريار (2) 519. شهريار بن كبار (2) 535. شهريار بن كسري (2) 524. شهريار سجستان (2) 533. شهريران (2) 215. شهودان بن محمد (وهسوذان بن محمد) الروادي (3) 565. بني شهيد (1) 351. أبو يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص (6) 340- 395. شهيد بن عيسى (4) 155. الشواذكان (5) 53. ابن شوار (3) 649. بنو أبي الشوارب (2) 390- (3) 347- 371. الشوامكار (الشوانكار) من الأكراد (5) 25- 53. شوانش (2) 281. الشوانيون (2) 281. بنو شوبال (2) 47. شوخ بن إبراهيم (2) 43. شوذان بن محمد بن مسافر الديلميّ (4) 491. شوره من بطون زناتة (7) 8. شوري بن الحسين (4) 520- 521. شوشان (2) 80. شوطار بن ايرياطش (2) 225. أبو الشوك صاحب بلاد الأكراد (3) 305- 548- 552- 561 (4) 332- 355- 627 634- 640- 644. ابن أبي الشوك الكردي (4) 578 695. أبو الشوك [فارس] بن محمد بن عنان (عناز) (4) 690- 692. أبو الشوك بن مهلهل (4) 688- 689. بني شيبان أبو شيبان (2) 318 322- 360- 405- 416 462- 499- 505- 612 (3) 191- 203- 206 208- 209- 303- 318- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 411- 420- 421- 423 430- 431- 443- 574 (4) 109- 168- 288 340- 365- 399- 592 598- (5) 46- 190 461- (6) 3- (7) 682. شيبان بن أحمد بن طولون (4) 400. شيبان بن خمارويه (4) 399. شيبان بن ذهل بن ثعلبة (2) 360. شيبان بن عبد العزيز الخارجي (3) 150- 151. شيبان بن عبد العزيز اليشكري (1) 338- (3) 207- 225. شيبان الحروري (3) 206- 154. شيبة بني شيبة (2) 435- 461 (3) 51- (4) 7. شيبة بن ربيعة بن عبد شمس (2) 390 412- 413- 415- 421 429. شيبة بن طلحة بن عبد العزي (2) 389. شيبة بن عبد المطلب (2) 400. شيبة بن عثمان (1) 440. شيت (2) 6- 182. بنو الشيخ (2) 360. ابن الشيخ (3) 439- 441- (4) 63. أبو الشيخ بن حركات بن عساكر (6) 44. أبو الشيخ بن عبد الله (3) 89. ابن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان (6) 261. الشيخ الصغير ابن دمرداش بن جوبان (5) 608. بنو شيخة بن يعقوب بن كعب (6) 98 442. الأمير شيخو أتابك العساكر (5) 511 513- 514- 515. شيرزاد ابن شيرزاد (2) 511 512- (3) 491- (4) 562 571- 572- 573- 574. شيرزاده (4) 295- 297- 298. ابن شيركوه (5) 349. أسد الدين شيركوه بن شادي (الملك المنصور) (3) 649- (4) 97 98- 99- 100- (5) 240- 241- 242- 243 244- 245- 246- 287 290- 291- 316- 327 328- 329- 330- 331 332- 356- 385- 386 387- 405- 442. شيركوه بن محمد بن شيركوه (5) 385 390- 392- 396- 407 408- 413. شيركير (شيركين) (5) 56- 68 71. شيرويه ابن شيرويه (2) 452 524- (3) 475. شيرويه بن بسطام خال كسري (2) 521. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 شيرويه قباذ بن أبرويز (2) 214- 264. شيرويه بن كسري (2) 266. شيشاق ملك مصر (2) 114. شيشوط (2) 282. بنو الشيص الشاعر (2) 374. الشيعة (1) 247- 250- 252 265- 283- 286- 298 361- 374- 391- 396 402- 403- 407- 420 430- 343- 458- 464 564- 566- 616- 620- 621- (3) 180- 212 214- 215- 216- 450 (4) 2- 3- 9- 18- 19 20- 100- 144- (5) 100. شيلوش الحكيم (2) 242. شيلون (4) 227. الشيحا بن الحرث بن عبد العزي (أخت النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاعة) (2) 367 466. شيوشيات بن طالوت (يشوشات بن طالوت) (2) 110- 111. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 حرف الصاد (ص) صا بن قبط (2) 85. صا بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح (2) 84- (7) 204. الصابئ (1) 796. صابئ بن لمك بن أخنوخ (2) 6- 7. صابي بن مسرور الكومي (6) 117. البابا الصابي الحراني (2) 6. الصابئة (1) 444. بنو صابر (2) 366. الصابوني القاضي (4) 388- 478. الصاحب بن عباد (4) 464- 602 611- 663. ابن الصاحب (5) 65. صادوق الكوهن (2) 227. القاضي صاعد بن الفضل (4) 544 (5) 122. صاعد بن مخلد (3) 390- 412 427- 430. صاغان خذاه (3) 118. صافي البصري (3) 471. صافي الخرمي (3) 447- 448. صاكوره (5) 497. بنو صالح صالح (1) 70- (2) 68- (3) 254- 255 289- 291- 299- 317 (4) 124- (5) 496- 577 581- (6) 32. صالح خليفة حسان بن النعمان (4) 236. صالح أبي الخليل (1) 392. صالح (عليه السلام) بن عبيل بن اسف بن شالخ بن عبيل بن كاثر بن ثمود (2) 26. صالح بن إبراهيم بن صالح (4) 380. صالح بن أحمد بن حنبل قاضي الثغور (4) 384. الصالح بن الأفضل (5) 414. صالح بن بالغ (6) 56. صالح بن الجراح (4) 75. صالح بن حمو الياباني (7) 196 478. صالح بن أبي حمو (7) 481. صالح بن داود (3) 266. صالح بن رحو الياباني (7) 470. صالح بن سرح (3) 57. الصالح بن رزّيك (زربك) (4) 94 95- 96- 97- (5) 191 290- 292- 328. صالح بن سعيد بن صالح (6) 284 285. صالح بن سليمان الضبي (3) 147. صالح بن شريف (1) 779. صالح بن صالح بن إبراهيم (4) 380. صالح بن صبيح (3) 211. صالح بن طريف (6) 276- 278 280. صالح بن ظريف مولى بني ضبّة (3) 109. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 صالح بن عبد الرحمن مولى تميم (1) 303- (3) 83- 88. صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن (1) 70. صالح بن عبد الله بن موسي بن عبد الله (أبو الكرام بن موسي الجون) (4) 124. صالح بن علي (4) 379. صالح بن علي بن صالح بن عباس (3) 73. صالح بن علي بن عبد الله بن عباس (3) 160- 164- 252- 269 (4) 38. صالح بن علي بن فلسطين (3) 255. صالح بن علي بن يعقوب الصغار (3) 379. صالح بن عمر بن صالح (7) 209. صالح بن عمران من رجال لمتونة (6) 247- 296. صالح بن عمير (3) 269. علاء الدين الصالح بن قلاون (5) 463. الصالح بن الكامل (5) 419. بنو صالح بن كلاب (2) 20. الصالح بن لؤلؤ (5) 423- 616. صالح بن مخراق (3) 185- 188. بني صالح بن مرداس الكلابي أمراء حلب (2) 370- (3) 546- (4) 75- 323- 327- 346 347- 407- 409- (5) 261- 285- (6) 11. صالح بن مسرح التميمي (3) 190- 191- 199- 212. صالح بن مسلم (3) 74- 79- 87. صالح بن معاوية بن عبد الله بن جعفر (3) 243. صالح بن منصور (3) 271- (6) 283- 285. الصالح بن الأشرف موسي بن شيركوه (5) 424- 425. بني صالح بن موسي بن عبد الله الساقي (4) 142. صالح بن نصر (نصير) النفزي (6) 148- 151. صالح بن النضر (النصر) الكناني (صالح المطوعي) (صالح المتطوعي) (3) 367- (4) 415. صالح بن وصيف بن بغا (3) 366 367- 370- 371- 372 373- 374- 380. صالح بن يوسف بن عبد القوي (4) 124- (7) 207- 209. أبو صالح العجمي (5) 303. ابن الصانع (5) 175. الصايم التلمساني (2) 654. ابن الصباح (4) 104- 152. بني صباح (6) 16- 78. صباوة بن خمارتكين (5) 36- 42. (الاصبهيذ) صباوو (5) 26. صبح بن صبيح (2) 285. الصبحة (بنو صبيح بن فاضل بن محمد بن كليب) (6) 30- 31. صبحي بك (2) 653. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 صبرة بن شيحان الأزدي (2) 617 643- 645. صبرة بن عبد الرحمن بن مخنف (3) 98. بني صبيح بطن من يوسد (6) 65- (7) 457. صبيح الخادم المعظمي (5) 418. صبيح بن علاج بن مالك (6) 65. بني الصبيحي (4) 130. صحّار بن فلان العبديّ (2) 563 567- 643. الصخاري بن شبيب (3) 206. بنو صخر (2) 303- (6) 8- 32. ابن صخر (7) 560. صخر بن عمرو بن الحرث بن الشريد (2) 366- (6) 94. صخر بن مسلم بن النعمان العبديّ (3) 110. صخر بن موسي (6) 198- 521 522- (7) 356- 357. صدر الدين (5) 140. (شيخ الشيوخ) صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل (3) 621- 651 653- (5) 306- 308 349- 625. صدر الدين الخجنديّ (3) 655. صدر الدين بن عبد الظاهر (4) 383. القاضي صدر الدين المناوي الشافعيّ (7) 728- 731. صدغيان (6) 543. الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر (2) 293. بني صدقة (6) 169. صدقة بن دبيس (3) 631- 633 634- (5) 73- 74- 75. صدقة بن شجاع (4) 687. صدقة بن علي (3) 318. شدقة بن فارس المازياري (4) 680 681. سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد (بن منصور بن الحسين) الاسدي المسبحي (3) 574 576- 596- 597- 600 601- 603- 604- 606 607- 609- 610- (4) 343- 345- 358- 359 360- 361- 362- 363 364- 365- 372- 373 374- 682- 683- (5) 10- 20- 21- 28- 31 32- 36- 37- 38- 39 40- 42- 43- 47 189- 219- 249- 251 500- 501- (6) 9- 10. صدقة بنت النعمان (2) 320. صدقيا (2) 135- 167. صدقيا هو (متنيا) (2) 123- 124. ابو صديق الناجي (1) 393- 394 395. صدينة (6) 122- 165- (7) 13. صراي بن نوغينة (طراي) (5) 607. صراي بغا بن منكو تمر بن طغان (5) 606- 607. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 صرخة بن إدريس (4) 132. صرد بن عبد الله الازدي (2) 475. صردوس (2) 137. الصردي (1) 63. سيف الدين صرغتمش الناصري (7) 677- 740. ابن الصريح (2) 101. صريخ بن يملول (6) 602. بنو صريم بن مقاعس (2) 376. صصّة بن داهر الهندي (1) 419- (3) 84. صطط من ملوك اوريغ (6) 118. صطفور بن نفور بن مطماط (6) 166. صطفورة من بطون تمصيت (6) 120 165. الصعب بن جثامة بن قيس (2) 381 581. الصعب بن الحرث (ذو القرنين) (2) 54- 66. ابن الصعب بن ذي مداثر بن الملطاط (2) 58. الصعب بن قرين بن الهمال بن المنثلم (2) 65. الصعبة بنت الحضرميّ أم طلحة بن عبد الله (2) 293. صعدنيل (صغدبيل) (3) 345. صعصعة بن حرب العوفيّ (3) 59. صعصعة بن صوحان (2) 589 618- 626- 627- (3) 180. ابو جعفر صعلوك (4) 31- 441. ابو الحسن صعلوك (4) 553- 555. ابن صعلوك (4) 551. صعلوك بن محمد بن مسافر بن الفضل (3) 513- (4) 667. ابو صعنونة (6) 558- 563- 568. بني الصغار (1) 369- (2) 20. صغار بن عيسى (دغار بن عيسى) (7) 398. الصغانيان (3) 74. الصغد (الهياطلة) (2) 61- 64 207- 208- 315- 563 (3) 72- 75- 77- 80 101- 102- 104- 111 112- 117- 121- 584. بني صغمان (صقمات) (7) 7. بني صغير (6) 22. ابن صغير (7) 366. صغير بن عامر بن إبراهيم (مقير بن عامر) (6) 64- 70- 71- 87 88- 594- (7) 156 162- 163- 166- 343 398- 399- 413- 529 بني الصغار (3) 492- (4) 415 431- 432- 433- 471 478- 552- 563. الصفر بن الحسن بن صالح بن جنادة الهمدانيّ (3) 212. الصفر بن بجدة (3) 212. ابو صفرة والد المهلب (2) 565. الصفرية (3) 182- 190- 213 (4) 18- 48- 49- 238- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 243- (6) 147- 155 156- 159- 164- 171 276- (7) 15- 17. صفريتوس (2) 196. صفوا بن أليفاز (2) 47- 233. صفوان (3) 27. صفوان بن أمية بن خلف (2) 387 433- 460- 462- 463 466- 544- (3) 3- 50. صفوان بن بيضاء من بني الحرث بن فهر (2) 430. آل صفوان بن شحمة (2) 379. صفوان بن صفوان (2) 498. صفوان بن المعطل (2) 547. ابن صفوان العقيلي (3) 413- (4) 390. صفورا زوجة موسي (2) 95. صفونا النبي (2) 122. صفي الدين الحلي (1) 837. صفي الدين الهندي (7) 519. صفية عمة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأم الزبير بن العوام (2) 410. صفية (5) 18. صفية عمة السلطان ملك شاه (4) 344 345. صفية بنت الحرث بن أبي طلحة (2) 620. صفية بنت حيي بن اخطب (2) 349 453. صفية خاتون بنت العادل (أم العزيز) (5) 324- 325- 411- 414 415. الصقالبة (1) 104- 106- 107 151- 313- 486- (2) 4- 8- 11- 12- 89 218- 223- (4) 95 180- 184- 186- (5) 4- 5- 210- 636. ابو الصقر بن بليل (3) 418. صقر دمول النائب (5) 490. صقعب بن زهير (3) 28. الصقعب بن سليم (2) 619. ابن الصلابا (5) 613- 614. صلاح بن علي بن محمد (4) 141. صلاح الدين بن عزام (5) 535. صلاح الدين الباغيسياني (5) 183. صلاح الدين النسائي (5) 138. ابن صلاح بن حبوس (6) 160. الصلالحي (5) 510. ابن الصلت (1) 639. ابن أبي الصلت (6) 222. الصلت بن سعيد (4) 245. صلمناع ملك مدين (2) 104. ابن صلوبا (2) 507. صلة بن علاء الدين (4) 539. ابن أبي صليمة (5) 219. الصليحيون بني الصليحي (2) 20 292- (3) 214- (4) 270 274- 276- 279. صليصل بن الاحيمر (صليصل بن الأحمر) من الأثبج (6) 22- 233. ابن صمادح (4) 400- (6) 249. بني صمادح (2) 329. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 صمادح بن باديس بن صمادح (4) 205. الصمة بن عبد الله (2) 371. الصمصام بن حسن (4) 266. ابن صمصام الدولة (3) 547. صمصام الدولة بن بويه (4) 114. صمصام الدولة بن عضد الدولة (2) 275- (3) 536- 537 538- 539- 540- 541 542- 543- 544- (4) 319- 320- 430- 602 603- 604- 605- 606 607- 608- 609- 610 611- 612- 614- 615 616- 617- 618- 619 622- 677- 686. بني الصمغان (صمغار) (5) 449 452- 617- (7) 71. صمقار من أمراء المغل (صمغار) (5) 632- 633. بنو صمقون (2) 47. صناك بن واسفاق بن جريل (6) 203. صناكة (6) 42- 89- 357 367. صنبر بن حواز بن عقيل (6) 43- 44. صنجيل (5) 25- 210- 214 215- 216- 219- 462 463. صندكي زوج أم موسي (6) 270. عماد الدين صندل (3) 650. صندل (6) 285- 286. صندل الأسود (4) 72. صندل الخادم (3) 489- (4) 628 (5) 335. صندل صاحب الشرطة (4) 72. صندل عامل باعانة (6) 210. صندل مولى الحسن بن علي (6) 214. صنعاء بن أوال بن عمير (2) 74. صنكل (البرنس الأشر) (5) 446. صنهاج بن بر بن صوكان بن منصور (صنهاج بن المثنى بن المنصور) (صنهاج بن عاميل بن زعزاع) (6) 201. صنهاجة صنهاكة صناكه (1) 16 75- 110- 175- 181 183- 194- 197- 204 205- 224- 235- 260 285- 361- 362- 430 458- (2) 20- 59 102- (4) 16- 17- 53 54- 56- 77- 105 107- 203- 243- (6) 16- 17- 18- 19- 20 21- 23- 25- 26- 27 29- 30- 43- 55- 58 84- 88- 92- 99 114- 117- 123- 126 127- 131- 133- 134 136- 142- 146- 160- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 162- 169- 174- 182 192- 195- 199- 201 202- 203- 204- 206 207- 210- 213- 217 218- 220- 221- 224 227- 228- 230- 232 233- 234- 235- 238 240- 241- 252- 262 273- 274- 275- 279 283- 289- 298- 299 302- 308- 315- 316 318- 320- (7) 5- 13 14- 20- 21- 24- 31 35- 36- 38- 39- 44 45- 47- 53- 58- 60 62- 67- 69- 74- 77 80- 82- 91- 102 116- 123- 133- 184 205- 206- 207- 209 210- 240- 243- 253 257- 311- 330- 352 357- 372- 382- 383 596- 723. الدولة الصنهاجية (5) 233- 234. صهاربخت بنت يراد قرار بن أنوشروان (2) 216. الصهال (4) 110. الصهب (بنو صهب بن جابر بن فائد بن رافع بن ذباب) (6) 111. صهيب (2) 569. صهيب بن سنان بن مالك (2) 358 411- 420- 603- 610. الصهيري (الصيمري) ابو جعفر محمد بن أحمد بن الصيمري. الصهيل بن حاتم بن شمر (2) 370. صواب بن أبي القاسم السكتاني (4) 43. صورة (6) 109. صوريا أخت داود (2) 112. صوصو (5) 496- 497- (6) 266. صوفة (بنو الغوث بن مرّ بن ادّ) (2) 375- 379- 397- 398. صول ابن صول (2) 209- (3) 99. صولا التركي (3) 92. صولات بن وزمار جد بني خزر (6) 141- 170- (7) 33- 36. صولات اللميطي (7) 23. بني صولان بن لمتونة (6) 241. الصولة (6) 8. صولة بن خالد بن حمزة (6) 103 109- 568- 573- 580. صولة بن يعقوب بن علي (6) 71- (7) 162- 398. الصولي (4) 139- (6) 123. صونج صهر الذر (الدز) (4) 537. صيّ بن كسات (2) 129. ابن صياد (1) 126- 128. صيدون (2) 12. صيغون (صيقوان) (3) 510. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 ابو قيس صيغي بن الاسلت الشاعر (2) 418. صيغي بن حيي بن عمرو (2) 358. صيغي بن رباح (2) 375. صيغي بن أبي رفاعة (5) 388. صيغي بن سبإ الأصغر بن كعب بن زيد (2) 65- 292. صيغي بن شمر (2) 66. صيغي بن عامر بن شحم بن وائل (2) 345. صيغي بن فضيل الشيبانيّ (3) 15- 16. الصيمري محمد بن أحمد. شعوب الصين بني صيني (2) 11- (5) 584. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 حرف الضاد (ض) ضابئ بن الحرث بن ارطأة (2) 377. بني الضباب (2) 370. بني ضبة ضبة (2) 375- 378 379- 499- 618- 619 620- 621- (3) 18 180- 212- 437- (4) 111. ضبة بن محصن العنزي (2) 567. ضبة بن محمد الاسدي (3) 532. ضبرة (صنبرة) (6) 183. ضبعان بن روح (3) 136. ضبعي (2) 397. الضبي صلاوق (2) 39. ابن ضبيان (3) 56. بنو ضبيب (2) 305. بنو ضبيعة (2) 509- (3) 377. ابو ضبيعة (4) 104. ضبيعة بن ربيعة (2) 357. ضبيعة بن زيد (2) 342- 348. الضجاعم (2) 217- 331- 332 333- 512. بنو ضجعم بن سعد بن سليح (2) 296 331. ضجعم بن معد (2) 298. الضحاك (من الأثبج) (2) 39- 74 183- 191- 563- 632 (3) 206- 207- 208- 480- (4) 122- 281- (6) 22- 29- 33- 44- 252. الضحاك بن جندل (5) 182- 231. الضحاك بن سفيان الكلابي (2) 463. الضحاك بن سنان (2) 308. الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام (3) 240. الضحاك بن عدنان (2) 355. الضحاك بن علوان (2) 6- 7- 183. الضحاك بن قيس (2) 629- 637 642- (3) 18- 21 149- 170- (6) 194. الضحاك بن قيس الخارجي (1) 377 (2) 360- (3) 143. الضحاك بن قيس الفهري (3) 24. الضحاك بن قيس بن خالد (2) 385. الضحاك بن قيس الهلالي (2) 643. الضحاك بن مشرف بن أثبج (6) 32. الضحاك البقاعي (5) 287. الضحاك الشيبانيّ (3) 142. أبو القاسم الضحاك الهمدانيّ (4) 139. ضرا (6) 149. ضرار بن الأزور (مالك بن أويس بن خزيمة) (2) 380- 467 496- 500- 510. ضرار بن حصفي العبسيّ- (3) 87. ضرار بن الخطاب بن مرداس (2) 385- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 442- 510- 535- 539 550 . ضرار بن سيان النبطي (3) 87. ضرار بن عبد المطلب (2) 391. ضرار بن عمرو بن مالك (2) 379. الضرغام صاحب الباب (3) 649- (4) 96- 97- 132- (5) 240- 242- 290- 291 328. أبو ضرغامة (3) 303. ضرة بنت قليج أرسلان (5) 345. بنو ضري بن زحيك بن مادغيس الأبتر (6) 120. ضرية (6) 118- 119. أبو ضرية ابن السلطان اللحياني (6) 481- 482- 483- 487 489- 490- 510. أبو الضريس مولى تميم (3) 193- 194. بنو الضليع (2) 478. ضماري (2) 12. ضمام بن ثعلبة (2) 472. بني ضمرة (2) 424. بنو ضمرة بن بكر (2) 381- 382. ضمضم بن عمرو الغفاريّ (2) 427. الضميل بن حاتم (حاكم) بن شمر بن ذي الجوشن (4) 150- 151 152. طواف بن غلاق (3) 181. ضياء الدولة (ألب أرسلان) (الولد المؤيد) (3) 579. ضياء الدولة بن سكوت (6) 247 248. ضياء الدين (5) 157. أبو بكر ضياء الدين (5) 486. أبو سعيد ضياء الدين بن الكفرثوثي (5) 270. الضيزن بن معاوية بن العميد التنوخي (2) 202- 289- 298- 332. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 حرف الطاء (ط) ابن طائع (7) 358. الطائع العباسي (3) 531- 532 534- 536- 537- 539 541- (4) 62- 114 115- 127- 312- 592 602- 607- 608- 610 612- 613- 614- 678. طانجة بن الياس (2) 362- 374 375- 379. طابسين (3) 659. طاتغكين التركي (4) 131. طاجار الدويدار (5) 506- 507. طارق بن زياد الليثي (3) 121- 173 (4) 147- 236- (6) 144 185- 281- 282- 299 313- (7) 271. طارق بن عمر مولى عثمان (3) 48 49- 50- 51- 172. طاز بن منجك (5) 511- 512 513- 515- 517- 526 581- 606. الطازي بن سعيد السعدي (4) 96- 99. (مجير الدين) طاشتكين أمير الحاج وأمير خوزستان (3) 652- 655 656- 657. طاشتمر (3) 385- 388- 434. طاشم بن معدان (2) 31. بني طاع الله (7) 97. طاع الله بن علي (7) 197- 199 303- 482. الطاغية بن ادفونش (4) 202- 204 206- 207- 211- 213 214- 215- 216- 217 218- 219- 220- 221 (6) 247- 248- 249 251- 296- 306- 314 317- 318- 321- 323 335- 336- 340- (7) 29- 118- 119- 125 250- 251- 252- 261 264- 265- 266- 267 268- 270- 271- 275 276- 280- 282- 283 284- 285- 288- 289 316. طاغية برشلونة (4) 209- 212- (6) 332. طافسوس [طافسطوس] طافساس (2) 248. طالب (4) 7. أبو طالب (2) 391- 408- 409 410- 412- 414- 415 429- (3) 4- 270 562- (5) 171- (7) 13. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 أبو طالب بن محمد بن أبي مدين (7) 352. طالب بن مهلهل بن قاسم (6) 100 102- 107- 507- (7) 143. أبو طالب الحبشي (7) 247- 249 301- 325- 327. (الكمال) أبو طالب السميري (3) 615 620. (الكمال) أبو طالب الشهيرمي (5) 57 61. ابن أبي طالب القيرواني (1) 629. الطالبيين (1) 320- 365- (4) 129- 141. الطالقان (3) 351. طالوت بني طالوت (1) 288 398- 441- (2) 101 106- 107- 109- 110 111- 136- 191- 192. أبي طالوت (3) 182- 184. طالوت الفقيه (4) 158. ابن طالوت القرشي (4) 48. بني طامي (7) 542. طانيش بن الياس (2) 248. طانيكوه (5) 125- 585. بنو طاهر (1) 350- 369- (3) 358- 386- 389- 411 423- 426- 428- (4) 27- 417- 420- 421 422- 423- 433- 552 (6) 98- (7) 721. ابن الطاهر (5) 175- 178. طاهر (3) 464- 496- (4) 476. طاهر أخو بختيار (3) 535. ابن أبي طاهر (7) 230- 231. أبو طاهر البثنوي (4) 411. أبو الطاهر القرمطي (3) 656- (4) 112- 113- 114- 116 117- 125- 126- (6) 94. أبو الوفاء طاهر بن إسماعيل (4) 597 598- 601. أبو طاهر بن بقية (3) 530. أبو طاهر بن بهاء الدولة (3) 560. طاهر بن الحسين (1) 200- 378 387- (3) 262- 278 287- 290- 292- 293 295- 297- 298- 299 300- 301- 302- 303 307- 312- 313- 314 315- 317- 319- 320 335- 352- 377- 389 (4) 9- 21- 429. طاهر بن حفص الباذغيسي (4) 421. أبو طاهر بن حمدان (4) 613. طاهر بن حوشب (4) 37. طاهر بن خضر (6) 16. طاهر بن خلف بن أحمد بن الحسين (4) 431- 459. أبو علي طاهر بن سعيد المزدغاني (5) 180. طاهر بن الصمة (4) 594- 595. طاهر بن عبد الله بن طاهر (3) 354 367- 375- (4) 415. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 طاهر بن العلاء (3) 297. طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك (5) 84. طاهر بن الفضل (4) 463. طاهر بن كباب (6) 252- 308. القاضي أبو طاهر بن الكرخي (3) 632. أبو الوفاء طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث (3) 426- 440- 442 445- 446- 455- 456 535- 536- 537. أبو العز طاهر بن محمد اليزدجردي (5) 75. طاهر بن مسلم (4) 63- 136- 143. طاهر بن معرف (7) 218. طاهر بن منصور بن عمرو (4) 426. الطاهر بن الواثق (6) 437. أبو الطاهر بن ياشاد (4) 67. طاهر بن يحيي المحدث بن الحسن بن عبيد الله (4) 21. طاهر المعمر بن محمد (3) 584. أبو طاهر الشافعيّ (5) 13. أبو طاهر الصائغ (5) 218. أبو طاهر القرمطي (3) 464- 469 470- 471- 472- 488 499- 517. طاووس (2) 565. طبارجي (4) 388- 393. طباريش بن ارنشا بن أنطونيش (2) 244. طباريش قيصر (2) 238- 262. ابن طباطبا (6) 25. طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن المثنى (3) 352. طبة الأسدي صاحب عين التمر (4) 592. الطبراني (1) 388- 395- 396 397- 400- 401. أبو الطيب الطبري (3) 556- (4) 642. نجم الدين الطبري (5) 580. أبو عبد الله الطبري (5) 16. الطبري أبو جعفر محمد بن جرير. طبريا نوس قيصر (2) 158- 159 242. طبقة بن عامر بن حيدرة بن عمرو (2) 416. طبنال (5) 498. طحشي بن بكروان (4) 386. الطحاوي (1) 562. طراد (6) 225. طراد بن أحمد (4) 129. طراد بن دبيس الاسدي (3) 550- (4) 354- 625- 626- 633. طراد بن دشير الأسدي (3) 548. طراد بن عيسى بن عبد القوي (6) 61. أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي (3) 579- 581- 582- 584 (4) 351- 353. طراد العباسي (3) 594. طراد بن منصور (4) 650. سيف الدين طراي الجاشنكير (5) 509. طرخان (3) 77- 324. الأمير طرخك (5) 353. طرخون ملك الصغد (3) 70- 71 72- 79. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 طرسون من سدويكش (6) 197. طرطو بن دوشي خان (5) 604. الطرطوسي (1) 195- 196- 342 (6) 249. طرغاي (5) 619. طرغياي من سدويكش (6) 197. بني طرف (4) 271. طرف بن سنان (2) 30. طرفة بن العبد (1) 798- 803. طرفة (طراف) بن عبد الله بن دجاجة (3) 40- 168. طرفة بن عدي بن حاتم الطائي (2) 638- 640. الطرم بن صعلوك (4) 667. طرنطاي المحمود سيف الدين صاحب واسط (حسام الدين) (3) 632 636- 637- (4) 375- (5) 73- 74- 76- 81- 82 199- 273- 455- 458 460- 464- 469- 472 474- 549- 550- 551. بني طرود بن حكيم (6) 107. بني طرود بن فهم بن قيس (2) 362 (6) 22. طريف (6) 108. أبو صبيح طريف من قواد ميسرة الحقير (طريف المضفري ابن صالح) (6) 276- 280. طريف بن مالك النخعي (4) 147. طريف بن معبد بن خراش (6) 59. طريف اليشكري (السبكري) (3) 470- 487- 488- 489 490- 493. طريفه بن حاجز (2) 492- 498. طريفة الكاهنة بنت الخير الحميرية (2) 301- 302. طسم (2) 66- 310- 355 359 (4) 284. طسم بن لاوذ بن سام (2) 8- 9 18- 22- 27- 28. طشال لجدمون (2) 218. طشتمر نائب صفد (5) 506- 507 508- 509- 541. الأمير سيف الدين طشتمر بن عبد الله العلائي الدوادار (5) 524 525- 527- 528- 530 531- 532- 533- (7) 695- 696- 697- 698. طشتمر القاسمي الحاجب (5) 515- 517. طشريك (2) 281. طعيمة بن عدي (2) 391- 421 429. الأمير طغا (5) 41- 202. طغايرك (5) 27- 79- 80- 81 82- 93. طغا تكين (4) 443. طغام (6) 144. أبو ظاهر طغان (4) 315. ابن طغان (4) 584. طغان (3) 549- (4) 471- 481. طغان أرسلان بن أفتكين بن جناح (5) 227- 253. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 طغان التركي (3) 541- 542- (4) 615. أبو حرب طغان حاجب عضد الدولة (3) 535- (4) 594- 598 610. طغان حق (4) 479. طغان خان (4) 483- 484 512- 513. طغان خان بن طقفاج (4) 514. طغان خان بن قراخان (4) 515. طغان شاه (أبو بكر طغان بن المؤيد) (5) 98- 99- 109- 112. طغاي الحسامي (5) 490. ابن طغا يرك (3) 636. طغتكين (5) 172- 463. طغتكين بن أيوب (4) 140. طغتمر النظامي (5) 522- 523. طغتمش (محمود) من أمراء المغل (5) 601- 602- 608- 609 610- 627. بنو طغج ابن طغج (1) 218 374- (2) 20- (3) 352 498- (4) 58- 60 113- 126- 406- (5) 429. أبو المظفر طغج (4) 298- 405. طغج مولى ابن طولون (4) 109. طغج بن جق الفرغاني (3) 438 443- (4) 396- 397 398. طغجي (5) 467- 470- 472. بنو طغتكين (2) 20- (4) 95. طغتكين الاتابك أتابك دمشق (3) 600- (4) 82- 84- 85 86- 121- 365- (5) 44- 47- 211- 213. الطغرائي (1) 696- 721- 723 725- (5) 154. طغراي (5) 507. طغرتكين (طغركين) أتابك دمشق (3) 580- (4) (4) 515- (5) 173- 174- 175- 176 177- 178- 179- 180 181- 213- 217- 219 221- 222- 224- 225 226- 227- 229- 230 250- 251- 252- 254 272- 281- 306- 500 (6) 9. الطغرغر (1) 101- (2) 11- (5) 584. طغرك خان (4) 514. فخر الدين طغركين (5) 327. سيف الإسلام طغركين بن أيوب (5) 300- 340- 346- 347 388. طغركين بن دقاق (5) 158. سيف الدين طغرل (3) 655- (5) 113. فخر الدين طغرل (5) 57. طغرل بن ارسلان (طغرلبك) (3) 653 654- (5) 148. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 طغرل بن برسق (5) 70- 71- 72. طغرل بن قاورت بك (5) 98. الملك طغرل ابن السلطان محمد (3) 613- 614- 618- 621 622- 624- 626- 627 628- 629- 644- (4) 369- 370- 372- 507 (5) 56- 59- 60- 61 62- 63- 64- 68- 69 76- 99- 100- 101 112- 124- 151- 152 268- 402- 409. طغرل بن نيال (5) 14. طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق (ابو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق) (2) 276- (3) 559- 560 561- 562- 563- 564 565- 566- 568- 569 570- 572- 573- 574 575- 577- 578- 579 591- 593- 597- 602 (4) 79- 330- 331 337- 338- 339- 340 342- 357- 358- 361 362- 410- 411- 412 413- 492- 393- 499 500- 501- 502- 504 505- 637- 644- 646 647- 648- 650- 651 653- 654- 655- 656 657- 658- 673- 692- 693- 695- 696- (5) 16- 29- 41- 187 188- 204- 207- 398 (7) 723- 724. بني طغرلتكين (5) 429. طفر لتكين الاتابك (5) 24. مغيت الدين طغرل شاه بن قليج ارسلان (5) 149- 195- 197. طغرلباي (5) 606. الطغرياني (5) 165- 593. طغطاي بن منكوتمر (5) 604- 607 611. طغماج (2) 11 (5) طفيل (4) 138. ابو الطفيل (1) 390- 397- 398. الطفيل بن عمرو (2) 415- 516. الطفيل بن عوف (3) 8. الطفيل بن لقيط النخعي (3) 37. طقتمر الاحمدي (5) 510. طقطمش بن بردي بك (7) 726 727. طغراخان (4) 515. طقرمرد (5) 507- 509. طقفاج خان (4) 514. طقماج (قلج طقماج) (5) 78- 427. طلائع بن رزيك (4) 94. بني أبي الطلاق (7) 468. طلبناش بنت طفاجي بن هند (5) 494. طلحة (2) 406- 435- 490 517- 525- 556- 568 569- 570- 582- 594- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 595- 596- 598- 599 600- 602- 603- 604 605- 606- 607- 608 609- 610- 611- 612 613- 614- 615- 616 618- 625- (3) 49 315- (4) 6. بنو طلحة (1) 256. ابو طلحة الأنصاري (2) 569. طلحة بن إسحاق بن محمد بن علي (6) 326- 332. طلحة بن اياس (2) 344. طلحة بن حسان (7) 458. طلحة بن الزبير (1) 256- 260 267- 269- 270- 388 (3) 343. طلحة بن الزبير الورثناجي (7) 468. طلحة (طليحة) بن زريق الخزاعي (3) 125- 153. طلحة بن سليمان (7) 403. ابو طلحة بن شركب (3) 393 394- 411- 412- 417 (4) 423- 424. طلحة بن طاهر (3) 318. طلحة بن عبد الله (1) 401. طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي (3) 171. طلحة بن عبد الله بن عوف (3) 172. طلحة بن عبيد الله (2) 347- 388 420- 423- 467- 510 620- (7) 680. طلحة بن علي بن علاوة (6) 197 274- (7) 235. طلحة بن محلى البطوي (7) 257 268- 279- 485- 487 490. طلحة بن محمد بن علي بن غانية (4) 210- 211- 526. طلحة بن مظفر (6) 89- 441. طلحة بن ميمون بن دريد (6) 423. طلحة بن يحيي بن إدريس (4) 19 (6) 46- (7) 265. طلحة بن يحيي بن دريد بن مسعود (6) 51. طلحة بن يحيي بن محلى (7) 274 275. طلحة بن يعقوب بن يغمور (6) 81. طلحة الطلحات (2) 374. أم طلحة الطلحات (2) 620. طلحة النوري (7) 429. طلخس بن بلزدان (خلف) (4) 392. طلق بن علي بن قيس (رجال بن عنفوة) (2) 476. طلو خان (5) 198. طليحة بن خويلد بن نوفل الاسدي (1) 128- (2) 381- 384 490- 492- 496- 529 532- 534- 557- 589 604. الاعمي الطليطلي (1) 818- 840. طليق بن علي بن أبي القاسم (5) 191 204. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 الطمّ (2) . الطمّاح الاسدي (2) 327- 329. الطماح بن قيس بن طريف (2) 381. بنو طمّان (2) 220. الأمير طما يدل (3) 608. طمطم الهندي (1) 655. طمقان (5) 616. طنبغا (5) 506. طنبغا الابي بكري (5) 520. طنبغا الصالحي (5) 507- 508. طنبغا الطويل (5) 517- 520 523. طنبغا العلائي (5) 520. طنبغا الماجاري (5) 515. طنبغا المارداني (5) 509. طنبغا المعلم (5) 539- 570. طنبغا اليحياوي (5) 508- 509. 510- 512 . طنبقا الاشرفي (5) 566- 567. طنبقا الحلي (الحلبي) (5) 557 562- 567. الطنبقا الرماح (5) 548- 549. الطنبغا السلطاني (5) 531. طنجاد (2) 282. طنكري (5) 40. طهرون (5) 54. طهمورث بن انو جهان (2) 182 183. بنو طهية بن مالك (2) 378. الطوائف (1) 18- 285- 298 299- 304- 351- 361- 371- 817- (2) 202. طوال بن يافث (2) 281. طوال بن أبي يزيد (6) 177. طوبال بن يافث (2) 218. طوج بن أفريدون (2) 184- 185. طودريق (طورديك) (2) 281- 282. طودس (2) 282. طودشكل (2) 282. طودوشيش الأصغر (2) 257- 261. طودوشيش بن اركاديش بن طووشيش (طودوسيوس بن اركاديوس) (2) 256- 281. طودوشيش بن انطيونش بن لوخيان (2) 256. الطوسي (2) 328. طوطة (ملكة البشكنس) بنت أشير (اسنين) (4) 177- 179 181. بدر الدين طوطو بن ابنايخ خان (5) 162. وطوطي بن ابنايخ (5) 83- 144. طوفل بن دوشي (5) 596. طوق بن الغلس (المغلس) (3) 368 (4) 416. طوق بن مالك الثعلبي (3) 303. طولاع بن قوا بن داود بن سبط يساخر (2) 104. أبو أحمد طولون (4) 382- 383. ابن طولون احمد بن طولون. بني طولون (1) 369- 371- (2) 22- (3) 443- 444 446- (4) 110- 382- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 398- 399- 400- 407 (5) 429. طولي خان بن جنكزخان (5) 141 144- 591- 596- 599 (7) 724- 739. طومان الباروقي (5) 353. سيف الدين طونجي (5) 468. ابن الطوير (4) 104. طويس (1) 540. ابن الطويل مؤرخ دولة العبيديين (4) 99. بنوطي (1) 162- 173- (2) 28 214- 284- 285- 300 304- 305- 308- 318 335- 336- 356- 357 362- 364- 365- 370 375- 380- 405- 431 479- 482- 490- 496 497- 498- 526- 612 629- 631- 639- (3) 153- 179- 437- 440 481- 508- 582- (4) 61- 114- 128- 283 323- 347- 628- (5) 196- 228- 402- 499 500- 501- 503- (6) 7- 8- 9- 10- 11 13- 25. طيِّئ بن أود (2) 303. الطيب بن الواثق (6) 437. طيباريوس قيصر (2) 288- 271. بني الطير (4) 263. طيراش (2) 11- 12- (5) 4- 5. طيراش بن يافث (2) 181- 218 (5) 427. طيرن (2) 61. طيطش من ملوك الروم (1) 443- (2) 124- 134- 162- 163 164- 243- 298. طيطش قيصر (2) 198- 241. طيطش بن يوسف (2) 240. طيطوش (2) 160. الطيف من الأثبج الهلاليين (6) 29. ابن طيغور (4) 199. طيما ناوس بطرك اسكندرية (2) 255 258- 260. طين بن سعيد السعدي (4) 96. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 حرف الظاء (ظ) ظافر بن يوسف (6) 31- 198- (7) 139. الظافر باللَّه العلويّ المصري (5) 238. ظافر السنان مولى الأمير أبي زكريا الأوسط (6) 482- 492- 495 505- 515- 519- (7) 356. ظافر العلج (6) 611. ظافر الكبير مقدم الوالي (6) 486 487- 492- 505- 508 519- (7) 143. ظالم (2) 363. ابو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان (2) 381. ابن ظالم بن موهوب العقيلي (3) 533 (4) 61- 62- 63. بني الظاهر (5) 460. ابو المرتضى الظاهر أخو المنصور ابو إبراهيم (6) 337. السلطان الظاهر (5) 553- 555 558- 559- 610. ابو الوفاء ظاهر بن إسماعيل (4) 315 317. الظاهر بن المنصور أيوب (5) 580- 581. ظاهر بن خلف (4) 620. ابو علي ظاهر بن سعد المزدغاني (4) 121- 122. الظاهر بن صلاح الدين غازي بن صلاح الدين. ظاهر بن محمد (ابو ظاهر بن محمد) (4) 137- 598. ظاهر بن مسلم (4) 136- 137. ظاهر بن معز الدولة (4) 315- 591. الظاهر بن المعظم (5) 442- 443. ظاهر بن هلال بن بدر (4) 689- 690. الظاهر لا عزاز دين الله [ابو الحسن] علي بن الحاكم (4) 75- 123 128- 346- 347. الظاهر بأمر الله ابو نصر محمد بن الناصر الدين الله (3) 661- 660 666- (6) 11. الظاهرية (1) 564- (4) 29- (5) 454- 456- 458- 459. بني الظرب بن حسان (2) 331. ظريف بن حكيم (6) 107. بني ظفار (2) 9- 55- 102. بني ظفر (2) 342. الظلم بن حنظلة (2) 377. ابو القاسم الظهير بن مكرم (ابو القاسم بن مكرم) (3) 556- (4) 642 643- 652. الظهير الهكاري (5) 343- 372. ظهير الدين ابو بكر بن نصر بن العطار (3) 649- 651- 652- (5) 180. ابو منصور ظهير الدين بن قرامرد (قرامرز) (4) 646. الظواهر (2) 385- 386. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 حرف العين (ع) بنو عائد (2) 306. العائد (العابد) (6) 7. أبو دويس عائذ بن عبد الله الخولانيّ (3) 24. عائشة بنت أبي بكر (1) 14- 116 124- 138- 267- 269 438- 601- 657- 662 (2) 345- 379- 400 423- 446- 484- 485 486- 487- 498- 544 569- 600- 606- 607 608- 609- 610- 613 615- 616- 617- 618 620- 621- 622- 625 642- (3) 9- 10- 16 51. عائشة أم عمر (6) 577. عائشة بنت أبي يحيي بن يعقوب (7) 346. بني عابد من بطن راشد (6) 75 166- 168- 503- 580 598- (7) 155. ابن العابد (6) 520. عابد بن علي (4) 588- 589. (أبي الغيث) عابد بن أبي الغيث (عائذ) (6) 20- 21. عابد بن منديل (7) 88. عابد الشيبانيّ (3) 205. ابن عابر عابر (2) 36- 37- 38 53- 80- 289. عابر بن أرم بن ثمود (2) 24. بني عابر بن شالخ بن أرفخشذ (1) 730- (2) 11- 18- 78 (7) 719. عابر بن فالغ (2) 218. عابر بن نوح (2) 8. عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية (2) 431. أم كلثوم عاتكة بنت عبد الله (2) 386. عاتكة بنت عبد المطلب (2) 414. عاتكة بنت يزيد بن معاوية (3) 45. عاد (1) 19- 20- 183- 191 213- 221- 222- 224 430- 447- 507- (2) 18- 22- 26- 23- 32 34- 53- 293- 308 340- 396- (4) 284 285. عاد إرم (2) 81. عاد الأولى (2) 311. عاد بن رقيم بن عابر (2) 24. عاد بن عوص بن أرم (1) 19- (2) 9- 22- 24. عاد بن قحطان (2) 32- 53. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 العادل كتبغا (6) 11- 12. أبو بكر العادل بن أيوب (نور الدين) (3) 633- (4) 95- 96- 97 99- 102- 132- 141 213- (5) 12- 169 193- 194- 195- 196 207- 240- 241- 242 243- 244- 245- 256 258- 309- 310- 311 312- 313- 315- 316 324- 350- 352- 353 354- 355- 356- 360 361- 364- 369- 373 376- 377- 380- 381 382- 383- 384- 385 386- 387- 388- 389 399- 400- 401- 402 403- 406- 409- 429 432- 438- 444- 445 463- 470- 481- 489 500- 577- (6) 9. الأمير عادل ابن السلطان أبي سعيد (5) 625- 626- 629- (7) 673. العادل بن السلار [الوزير] (4) 92 93. نور الدين العادل بن قليج أرسلان (5) 345. أبو بكر العادل بن أيوب (5) 412 413- 417- 418. أبو منصور العادل بن مافنة (3) 556- (4) 628- 634- 639 642- 643- 651. العادل بن المنصور (4) 213- (6) 40- 338- 339- 340 379- 380. عاذا بنت أيلول (2) 47. عازر بن موسي (2) 95. عازريا (2) 126. أبو العاص بن الربيع بن عبد العزي (صهر النبي) (2) 390- 429. العاص بن سعيد بن العاص (2) 429. العاص بن منبه (2) 386- 429. العاص بن هشام بن الحرث بن أسد بن عبد العزي (أبو البختري) (2) 389 412- 413- 414- 429 (3) 237. العاص بن وائل بن هشام (2) 386 412- 413- 421- 423. عاصم المولي (7) 348. عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح (2) 438- 444. عاصم بن جميل اليزدجومي (4) 241 (6) 146- 150- 288. عاصم بن حسنويه (4) 685- 686. عاصم بن الدلف (2) 550. عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي (3) 114- 116- 176. عاصم بن عدي (2) 487- 508. عاصم بن عروة بن مسعود (3) 184. عاصم بن عمر التميمي (2) 387 526- 527- 528- 532- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 (3) 144. عاصم بن عمرو (2) 537- 549 553- 566- 577. عاصم بن عوف البجلي (3) 15. عاصم بن فضالة الليثي (3) 11. العاصم بن مشرف بن أثبج (6) 29 30- 32- 37- 43- (7) 243- 311. عاصم بن أبي النجود (1) 389- 390. عاصم بن النعمان (2) 358. عاصم بن يونس العجليّ (3) 127. عاصم الحبشي (3) 203- 204. العاضد لدين الله العلويّ (من أعقاب الحافظ لدين الله عبد المجيد) (3) 649- 650- (4) 12 95- 96- 98- 99 100- 101- 102- 103 (5) 241- 242- 243 244- 245- 246- 290 291- 294- 328- 330 331- 332- 333- 334 335- 336- 338. أبو العافية (4) 8. بني أبي العافية (4) 184- 185- (6) 171- 176. العاقب عبد المسيح من كندة (2) 477 478. عاقل بن البكير الليثي (2) 430. عالوم (2) 48. عالي بن بيضات بن حاصاب (5) 104- 105. عالي الثائر (2) 181. عالي الكوهن (1) 441- (2) 112. بنو عامر (المعروفون بالحجازيين) (1) 165- 166- 814- (2) 54- 327- 343- 496 497- 498- 502- 579 580- 582- 583- 586 591- 593- 597- 599 617- 619- (3) 47 138- 179- 180- (5) 500- (6) 8- 34- 55 56- 58- 63- 71- 72 73- 75- 77- 84 158- 280- 449- (7) 72- 107- 159- 160 162- 163- 167- 168 174- 175- 176- 177 179- 183- 191- 194 195- 197- 248- 342 368- 398- 399- 401 402- 411- 435- 436 437- 438- 439- 480 482- 561- 577- 578 579- 580- 581- 621. أبو عبيدة عامر (2) 474- 475. ابن عامر الحنفي (3) 182. عامر الشعبي (3) 63. ابن أبي عامر (7) 477. الأمير أبو عامر صاحب الأندلس (6) 208- (7) 279- 280 281- 285- 288. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 أبو عامر الأشعري [عم أبو موسي] (2) 465. عامر بن إبراهيم بن يعقوب (6) 69 70- 73- (7) 180. عامر بن إدريس بن عبد الحق (7) 199- 235- 239- 242 252- 295- 303- 485 489- 490. عامر بن إسماعيل الحارثي (3) 164 165- 245. عامر بن الأكوع (2) 454. بنو عامر بن ثعلبة بن الحرث (2) 382. عامر بن جميل (6) 61. عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر (2) 395. عامر بن خالد (7) 169. عامر بن ربيعة العنزي (2) 370 374- 412- 415- 420 426. بني عامر بن زغبة (6) 56- 62 68- 80- (7) 76. عامر بن زيد بن مرداس (6) 48. عامر بن شهر الهمدانيّ (2) 481 483- 491. عامر بن صالح بن عامر بن عطية (6) 49. عامر بن صراة (3) 209. بنو عامر بن صعصعة (1) 173 768- (2) 369- 397 408- 416- 478- (3) 654- (4) 112- 323- (6) 3- 11- 14- 16- 48- 55 عامر بن ضبابة المزني (3) 207. عامر بن ضبارة (3) 156- 157 158- 159. عامر بن طاهر بن جبار (5) 571. عامر بن الطفيل بن مالك (2) 370 438- 439- 478. عامر بن الظرب بن عمرو (2) 362 402. أبو عامر ابن السلطان أبي العباس (7) 709. عامر بن عبد بن ماساي (7) 163. (أبو ثابت الزعيم) السلطان عامر بن عبد الرحمن بن يحيي بن يغمراسن (3) 440- (6) 69- 272- (7) 91- 93- 128- 131 147- 153- 154- 155 156- 157- 158- 159 160- 161- 162- 167 216- 299- 307- 308 310- 312- 313- 324 330- 348- 373- 376 380- 381- 382- 398 413- 707. أبو عامر بن عبد عمرو بن صيغي بن مالك بن النعمان (2) 348- 435. عامر بن عبد قيس بن ثابت (2) 375 591. عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال (أبو عبيدة الجراح) (2) 385 410- 415- 423- 435- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 460- 478- 487- 488 515- 518- 533- 541 542- 543- 544- 546 547- 548- 554- 575 . عامر بن عبد الله بن حبيب بن جعفر (3) 209. عامر بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح (2) 386. عامر بن عبد الله بن عبد القيس الزاهد من بني تميم (2) 592. عامر بن عبد الله الزوايي (الداعي) (4) 270- 271. بنو عامر بن عبد مناة (2) 382. عامر بن عبو بن ماسي (7) 400. عامر بن عبيدة (3) 177. بني عامر بن عقيل بن كعب (2) 372 (4) 116- (6) 40. عامر بن بو علي بن كثير (6) 490. أبو الهيدام عامر بن عمارة (3) 275 276. عامر بن عمر الثعلبي (3) 197. أبو عامر بن عمرو بن الحرث بن عثمان (7) 680. عامر بن عنزة (2) 287. عامر بن عوف بن عامر بن عقيل (4) 116. عامر بن عوف بن مالك (2) 372- (6) 15- 40. عامر بن أبي الغيث (6) 22. عامر بن فتح الله الصدراتي (7) 326 404. عامر بن فتوح من موالي الاموية (4) 199- (7) 31. عامر بن فهيرة مولى أبي بكر (2) 411 421- 422- 438. عامر بن قشير (3) 109. عامر بن قيس (2) 629. أبو عامر بن كريز (2) 578. عامر بن لؤيّ بن غالب (2) 385 386- 399- 412- 415 442- 449- 549- (6) 141. أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة (2) 370. عامر بن مالك الحماني (الجابي) (3) 108- 111. عامر بن محمد (6) 41- 361 362- 363- 365- (7) 417- 421- 422- 424 426- 427- 429- 430 431- 432- 433- 435 456- 578. عامر بن محمد بن علي (7) 175. عامر بن محمد بن مسكين (6) 558. عامر بن محمد الهنتاني (6) 355- (7) 396- 397. بنو عامر بن مدة بن مالك (2) 342. عامر بن مسعود (3) 171. عامر بن مسمع (3) 55. عامر بن ملك الحماس (3) 78. عامر بن منديل بن عبد الرحمن (7) 485. عامر بن نافع بن الأزرق (4) 250. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 (امرؤ القيس) عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ودّ (2) 296- 297. عامر بن نعيم (2) 23. أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني (2) 381- (3) 61. عامر بن وهب (2) 389- (6) 185. عامر بن يحيي (6) 356- (7) 287. عامر بن أبي يحيي (6) 34. عامر بن يزيد بن مرداس (6) 44. أبو عامر ابن السلطان أبي يعقوب (7) 307. (السلطان أبو ثابت) عامر بن يوسف بن يعقوب (6) 49. بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر (2) 359. عامرة بن فحشي بن خويلد (2) 381. العامري صاحب المرية (6) 239. العامريين (1) 234- 552- (4) 189- 206- 207- 208. عامل بن مهيب (6) 315. عاملة (2) 36- 61- 284 305- 306- 331- 335 (6) 182. عاموص (2) 118. عاموص النبي (2) 119- 130. عاميل بن زعزاع (6) 270. عانة بنت الحرث بن مضاض الجرهميّ (2) 189. عاي من ملوك كنعان (2) 102. بنو عائق بن الشاهد بن علقمة (2) 356. العبابية (4) 684. العباد (2) 201. ابن عباد (1) 40- (4) 191 198- 200- 203- 204 (6) 296- (7) 70- 72 118. بني عباد ملوك اشبيلية (2) 305- (4) 197- 199. عباد بن بشر بن وقش (2) 423 431- 445. عباد بن الحصين بن يزيد الحبطي. (الجفطي) (2) 376- (3) 7 22- 35- 39- 41- 45 55. عباد بن حنيف (2) 424. عباد بن زياد (3) 128- 171. عباد بن صادق (6) 202. عباد بن علقمة المازني (3) 181. عباد بن محمد بن حيان البلخي (4) 380. بني عباد بن نصر الله (6) 318. بنو عبادة عبادة (2) 371- (4) 365. عبادة بن الصامت (2) 346- 417 418- 432- 445- 541 576- 588. بنو عبادة بن عقيل (2) 371- (6) 15. عبادة القزاز (1) 817. بني العباس العباسيون (1) 19 25- 28- 32- 33 166- 169- 170- 175 191- 194- 197- 200 205- 218- 219- 227- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 230- 235- 250- 260 263- 277- 284- 285 296- 299- 304- 305 311- 320- 322- 324 328- 329- 351- 359 361- 365- 369- 371 374- 418- 420- 444 470- 471- 527- 540 567- 709- 798- 804 (2) 20- 359- 369 374- 375- 376- 377 378- 379- 650- (3) 96- 115- 127- 128 146- 178- 214- 217 218- 223- 245- 264 270- 282- 302- 304 305- 306- 310- 312 351- 353- 468- 519 521- 595- 640- 662 665- (4) 2- 3- 4 10- 13- 15- 16- 20 35- 37- 41- 104 114- 116- 117- 125 127- 129- 131- 134 163- 173- 213- 225 240- 267- 268- 274 361- 476- 652- (5) 31- 129- 427- 428 442- 585- (6) 2- 18 104- 136- 145- 149 164- 174- 196- 410- (7) 13- 16- 33- 108 148- 227- 250- 693 721- 725- 734- 735. العباس ابن العباس (1) 116 166- 250- 265- 401 675- (2) 42- 458 459- 464- 554- 613 (3) 4- 215- 262 438- (4) 7- 109 142- 151- (6) 203 228- 611- (7) 13. الأمير عباس صاحب الري (3) 635 636- (4) 374- 543 544- (5) 77- 79- 80 81- 238. ابو عطية العباس (7) 278. السلطان ابو العباس (6) 102- 178 503- 513- 518- 519 545- 550- 551- 553 599. ابو العباس أخو ابو عبد الله الشيعي (4) 42- 43- 44. ابو العباس بن إبراهيم بن الأغلب (6) 185. العباس بن أحمد بن طولون (3) 396 (4) 256- 386- 387 388- 392- 390- 393 430. ابو الفضل العباس بن أحمد بن الفضل الزاهد (5) 30. ابو العباس بن إدريس (7) 648. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 عباس بن إسحاق (3) 417- (4) 424. عباس بن الأسود بن عوف (3) 65. ابو العباس بن أبي الأعلام (6) 431. العباس بن بخارا (3) 297. الأمير العباس بن بختي (6) 247. ابو العباس بن أبي بكر (6) 562. ابو العباس بن البناء المراكشي (1) 145 635- 643- (7) 513 526. ابو العباس بن تافراكين (6) 514. العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث (3) 274- 277- 288. ابو العباس بن حجر (2) 643. ابو الفضل العباس بن الحسن الشيرازي (3) 446- 447- 528- (4) 289- 582- 583- 585 589- 675. السلطان ابو العباس بن أبي حفص (7) 402- 404. ابو العباس بن حمدان (3) 472. بني عباس بن خفير (6) 32. العباس بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق (7) 309- 329- 488 494- 498. السلطان ابو العباس ابن السلطان أبي سالم (1) 300- (6) 152- 199 579- 582- 600- 601 609- 610- 611- (7) 170- 171- 173- 184 185- 187- 188- 189- 190- 192- 193- 194 195- 196- 205- 229 391- 666. العباس بن سعد المزني (3) 124. ابو الفضل العباس بن سليمان الطوسي (3) 273- 277- 529. ابو العباس بن شعيب (1) 797. العباس بن أبي طالب (3) 377. تقي الدين عباس بن العادل (5) 420. العباس بن عبادة بن نصلة (2) 346 417. العباس بن عبد الله بن الحرث بن العباس (3) 239. العباس بن عبد الله بن مالك (3) 291. العباس بن عبد المطلب (2) 391 408- 410- 418- 429 476- 480- 485- 487. العباس بن عبد الملك (3) 129. العباس بن عثمان (3) 242. العباس بن عطية أبي عبد القوي (1) 166. العباس بن عطية أمير بني توجين (6) 328. العباس بن علي [بن أبي طالب] (3) 30. العباس بن عمر بن عثمان الوسناسي (7) 355- 464- 467- 469. عباس بن عمرو (عمر) الغنوي (3) 437- 442- 449- 482. العباس بن عيسى بن موسي (3) 296. عباس بن أبي الفتوح بن يحيي بن تميم بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 المعز بن باديس الصنهاجي (4) 92 93- 94- 95. العباس بن الفضل بن يعقوب (4) 255. عباس بن القاسم بن المعز بن باديس (4) 92. العباس بن المأمون (2) 270- (3) 316- 318- 320- 321 330- 331. الأفضل عباس بن المجاهد (5) 582. العباس بن محمد بن داود بن الحسن المثنى (3) 304. العباس بن محمد بن عبد الحق (7) 234. العباس بن محمد بن عبد القوي (7) 211. العباس بن محمد بن علي (3) 252 254- 255- 256- 258 270- 271- 273. العباس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفري (3) 304. عباس بن شمس الدين محمد بن مسعود (4) 538. عباس بن مرداس بن أبي عامر (2) 365- 463- 466- (6) 94. العباس بن المستعين (3) 355. العباس بن المسيب بن زهير (3) 289. أبو العباس بن المقتدر (3) 457 482- 493. العباس بن المقداد (7) 466- 471. العباس بن منديل بن عبد الرحمن المغراوي (6) 392- (7) 86- 87 106- 107- 108. العباس بن المهلب (3) 101. العباس بن موسي (3) 310. العباس بن موسي بن عامر (7) 182. العباس بن موسي بن عيسى بن موسي (3) 291- 298- 303- (4) 380. أبو العباس بن أبي عمران موسي ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن (4) 213. أبو العباس بن الموفق المعتضد. العباس بن نصر بن علي (7) 218. العباس بن الهادي (3) 297- 310 311. أبو العباس بن أبي هلال (6) 594. العباس بن الهيثم الدينَوَريّ (3) 312. أبو العباس بن واصل (4) 678- 679. العباس بن الوليد بن عبد الملك (3) 89 90- 98- 99- 100 134- 162- 166. أبو العباس بن ياسين (6) 487. العباس بن يحيي (7) 60- 61. العباس بن يغمراسن (7) 140. العباس بن يوسف (6) 198. أبو العباس الابيوري (3) 449. أبو العباس الأصفهانيّ (3) 514. أبو العباس الخصيبي (3) 466- 467. أبو العباس الديلميّ (3) 519. أبو العباس الراضي (3) 486. العباس الخجستاني (3) 393. أبو العباس السفاح (2) 272- 305 326- 389- (3) 160- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 162- 178- 209- 211 218- 220- 221- 222 223- 225- 226- 227 228- 229- 231- 232 234- 240- 248- 251 252- 287- 351- 663 (4) 153- 240- 268 286- 379- (6) 202- (7) 735. أبو العباس الطوسي (3) 234. أبو العباس الغبريني (6) 462. أبو العباس الغساني (6) 418- 419. القاضي أبو العباس الغماري قاضي بجاية (7) 134- 239. أبو العباس القلانسي (1) 603. أبو العباس المخطوم (3) 451- (4) 38. أبو العباس المروزي (3) 146- 156. أبو العباس الملياني (6) 420. أبو العباس الناشيء (2) 218. أبو العباس النوفلي (3) 394. أبو العباس الهمدانيّ (6) 410. العباسة أخت الرشيد (1) 20- 21 (2) 304- (5) 500- (6) 9. العباسية (5) 427. العبد بن أبرهة ذو الإذعار (2) 59. عبد بن الجلندي من الأزد (2) 467 506. عبد بن زمعة (2) 386. القائد عبد بن سعيد بن جانا (7) 155. عبد بن ضخم بن أرم (2) 9. عبد بن ضخم بن لاوذ (2) 9. عبد ابهر بن معديكرب بن شمد بن شداد بن عاد (2) 24. عبد الأسود العجليّ (2) 509. بنو عبد الأشهل بن جشم (2) 342 346- 416- 417- 418 420- 423- 431- 445. عبد الأعلى (3) 228. عبد الاعلي بن جريج (6) 144. عبد الأعلى بن حذيم (حذع) الافريقي الرومي (6) 156. أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح الغافري الاباضي (4) 241- 242. عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر (3) 97 193- 194. أبو عبد الإله (1) 423. المؤيد عبد البديع بن صالح (6) 178 285. ابن عبد البر (1) 587- (2) 290 (6) 264. عبد البر بن فرسان (6) 27. ابن عبد البرص (7) 680. العبد ذو الأشفار (2) 66. بني عبد الجبار (من هدارة) (5) 67 (6) 146- (7) 561. عبد الجبار بن الحرث (4) 240. عبد الجبار بن عبد الرحمن (3) 234 235- 252. عبد الجبار بن علقمة بن وائل (7) 503. عبد الجبار بن أبي نصر (4) 504 505. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 (الفقيه) عبد الجبار بن النعمان المعتزلي (عبد الجبار المعتزلي) (4) 617 (7) 730- 732- 734 735- 737. عبد الجبار الخراساني (4) 60. (أبو المحاسن) عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني (الأغر) (3) 597 598- 599- 600- 602 (4) 359- (5) 28- 29 30- 31- 33- 34- 35. عبد الحجر بن عبد المدان (4) 305. بني عبد الحق آل عبد الحق (4) 217- 231- (6) 224 272- 273- 274- 348 546- (7) 66- 164 224- 264- 277- 286 314- 358- 430- 431 452- 453- 465- 478 484. عبد الحق (المعتصم) (6) 358. ابن عبد الحق (6) 39. عبد الحق بن اصكو (6) 349. عبد الحق بن تافراكين (6) 446. عبد الحق ابن الترجمان (7) 276. عبد الحق بن الحسن بن يوسف الورتناجي (7) 468- 473. عبد الحق بن خراسان (6) 211- 212. عبد الحق بن رحو بن عبد الله (7) 494. عبد الحق بن سبعين (القاضي) (1) 326- 403- 619- (6) 407- 515. عبد الحق بن سليمان (6) 456- 457. عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان (6) 217. عبد الحق بن عثمان بن محمد (6) 482 491- 495- 496- (7) 135- 144- 147- 309 311- 312- 317- 318 319- 325- 326- 331 340- 485- 486- 487 488- 489- 498. عبد الحق بن عمر بن رحو (5) 483. عبد الحق بن أبي محمد البياسي (6) 394. عبد الحق بن محمد بن عبد الحق (7) 231. عبد الحق بن محيو بن أبي بكر (6) 49 (7) 221- 223. عبد الحق بن مكي (6) 607. عبد الحق بن منقفاد (معاد- منقاد) شيخ بني عبد الواد (6) 309- (7) 97. عبد الحق بن ياسين (6) 383. عبد الحق بن يوسف بن سعد الله (6) 365. عبد الحق بن يوسف بن ياسين (6) 390. بني عبد الحكم (1) 567- (4) 185. ابن عبد الحكم (1) 568- (2) 86 87- (6) 145- (7) 8. عبد الحليم ابن السلطان أبي علي أخو السلطان عبد المؤمن (7) 66 167- 417- 418- 420 421- 422- 423- 424- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 450- 475 . عبد الحميد ابن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر (الحافظ لدين الله) (4) 89- 90- 91- 92- 131. عبد الحميد ابن الفقيه أبي زيد اليزناسي (7) 125. عبد الحميد بن جرير بن عبد الله البجلي (3) 203- 204. عبد الحميد بن جعفر (3) 244. عبد الحميد بن ربعي الطائي (أبو غانم) (3) 163- 219. عبد الحميد بن سبيل (4) 171. عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (3) 94- 97- 98 174- 203. عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر (أبو عبد الرحمن العمري) (3) 381- (4) 389. عبد الحميد بن واصل (أبو الواصل) (1) 395. عبد الحميد بن يحيي (1) 304. عبد الحميد الكاتب (1) 307. عبد خير (2) 613. بنو عبد الدار (2) 409- 438 620. عبد الدار بن قصي بن كلاب (2) 388 389- 397- 399. ابن عبد ربه (1) 779. بني عبد الرحمن (7) 161. عبد الرحمن بن أحمد (7) 393. عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (4) 11- 145. عبد الرحمن بن أحمد بن مروان (3) 528. عبد الرحمن بن أحمد بن مكي (6) 616. عبد الرحمن بن أذينة (3) 173- 174. عبد الرحمن بن إسحاق (3) 327 340. عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث (2) 598- (3) 26. عبد الرحمن بن الأشعث (ابن الأشعث) (1) 303- (2) 308- (3) 61- 62- 63- 64- 66 71- 82- 153- 173 195- 196- 197- (7) 16. أبو زيد عبد الرحمن بن الإمام (7) 147. عبد الرحمن بن الانباري (3) 293. عبد الرحمن بن بشر العجليّ (3) 159 160. عبد الرحمن بن بطوسن (6) 357. عبد الرحمن بن أبي بكر (2) 388 486- 502- 570- 620 642- (3) 23- 24. أبو عبد الرحمن بن أبي تاشفين (7) 146. عبد الرحمن بن جيلة (3) 294- 295. عبد الرحمن بن جحدم القرشي عبد الرحمن بن عقبة بن اياس. عبد الرحمن بن جرد الطائي (2) 622. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي (3) 455- 456- (4) 427. عبد الرحمن بن أبي حاتم (1) 390. عبد الرحمن بن حبيب (4) 150 152. عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهري (2) 385- (3) 177 255- 264- (4) 155 238- 239- 240- 244 (6) 145- 146- 148 150- 185. (أبو القاسم) عبد الرحمن بن حبيش (7) 686. عبد الرحمن بن حجام القرشي (3) 171. عبد الرحمن بن الحرث بن هشام (2) 583- 611- 617- 636. عبد الرحمن بن حسان بن ثابت (2) 87. عبد الرحمن بن حسان العنزي (3) 15 16. أبو عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن (6) 70- (7) 283- 286 339- 340- 341- 342 372. عبد الرحمن بن الحسن بن بدر (6) 91 (7) 304. عبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي (3) 376. عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية (2) 621- (4) 160- 161- 162- (7) 254. عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (2) 590- 591- 602- 642 (3) 11. عبد الرحمن بن الخطاب (3) 356. عبد الرحمن بن خلدون (أبو زيد) (2) 100- 240- 402- 403 (3) 29- (4) 64- 105 171- 308- 311- 505 543- 544- 580- 679 (7) 3- 43- 60- 502 515- 524- 562- 565 575- 577- 585- 627 651- 652- 680- 708 718- 719- 721- 724 725- 7266- 727- 728 731- 739- 741- 742. عبد الرحمن بن ربيعة (1) 178- (2) 561- 562- 583- 585. عبد الرحمن بن رستم (4) 242 243- (6) 146- 147 148- 151- 158- 159 172. عبد الرحمن بن رشيق (2) 371. عبد الرحمن بن رماجس (4) 183. عبد الرحمن بن الزبير (2) 444- 574. عبد الرحمن بن أبي يحيي زكريا بن اللحياني (7) 362. عبد الرحمن بن زياد (3) 22- 171. عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي افريقية (4) 241. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 أبو عبد الرحمن بن زيد بن ثعلبة (2) 346. عبد الرحمن بن سعود (3) 23. عبد الرحمن بن سعيد (سعد) بن قيس (3) 31- 32. عبد الرحمن بن سليم الكلبي (3) 62. (جمال الدين) عبد الرحمن بن سليمان بن خير المالكي (7) 652. عبد الرحمن بن سمرة (2) 578 580- (3) 7- 11. عبد الرحمن بن أبي سهل الحزامي (4) 17. عبد الرحمن بن شبت الفزاري (2) 643. عبد الرحمن بن شماسة (2) 89. أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الجليل (7) 555. عبد الرحمن بن شيخة (6) 99- 442. عبد الرحمن بن صبح المخزومي (3) 113. عبد الرحمن بن الضحاك بن قيسر الفهري (3) 96- 105- 106- 175. عبد الرحمن بن أبي طالب (7) 325. عبد الرحمن بن طغرلبك صاحب خلخال (عبد الرحمن طغرلبك) (3) 629- 633- 635- 636 (5) 72- 75- 79- 80. عبد الرحمن بن طلحة (3) 34- 65. عبد الرحمن بن أبي العاص (2) 493. عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب (3) 62- 63 64- 65- 70. عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحضرميّ (3) 62. عبد الرحمن بن عبد العزيز (6) 214. أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم (6) 352. عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة (7) 40. عبد الرحمن بن عبد الله (3) 95- 101. أبو زيد عبد الرحمن بن أبي عبد الله (7) 372. عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي (ابن أم الحكم) عبد الرحمن بن عثمان الثقفي (3) 14- 21 22- 43- 41- 171. عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي (3) 176. عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي (3) 201- (4) 149. عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود (2) 380. عبد الرحمن بن عبد الملك (6) 611 612. عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح (3) 281- 282- 289. عبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري (2) 636. عبد الرحمن بن عبيد الله الغافقي (7) 617. عبد الرحمن بن عبيس (2) 577. عبد الرحمن بن عتاب (2) 597 610- 611- 617- 618 620. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي (7) 680. عبد الرحمن بن عديس البلوي (2) 594- 596- 597- 598 599- 601. عبد الرحمن بن عطاف اليغرني (4) 189- 194- 195. عبد الرحمن بن عقبة بن اياس بن الحرث بن عبد بن أنس بن جحدم الفهري (4) 239- 378- 379. عبد الرحمن بن عقيل (3) 34. عبد الرحمن بن أبي علقمة (2) 575. عبد الرحمن بن علي بن الحسن (عبد الرحمن بن الحسن) (6) 368 369. عبد الرحمن بن علي ابن السلطان ابو علي (7) 571. عبد الرحمن بن علي بن أبي يغلوس (7) 418- 425- 426. ابو عبد الرحمن بن عمر (6) 52 588- (7) 488. عبد الرحمن بن عمر بن هبيرة (3) 160. عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي (ابو عمرو) (7) 681- 687. عبد الرحمن بن أبي عفان (7) 396. عبد الرحمن بن عوف (1) 256 261- (2) 347- 410 415- 420- 423- 436 449- 517- 525- 535 539- 544- 554- 568 569- 570- (4) 6. عبد الرحمن بن عيسى (3) 467 493- 497- 510. عبد الرحمن بن عيينة (2) 445. ابو عبد الرحمن بن غمر (ابن عمر) (6) 472- 473- 474- 475 476- 477- 478- 479 480- 482- 484. عبد الرحمن بن فراشة الاسدي (4) 154. (ابو عبد الله) عبد الرحمن بن قاسم بن جنادة العتقيّ المصري المالكي (7) 684. عبد الرحمن بن القاسم بن محمد (2) 298- (3) 210. عبد الرحمن بن كثير (4) 151. عبد الرحمن بن أبي ليلي الفقيه (3) 63- 64. عبد الرحمن بن محمد (4) 504- (5) 94. ابو زيد عبد الرحمن بن محمد الأكبر (7) 132- 133. عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث (3) 57- 60- 61- 188. عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ (1) 5. (ابو المظفر) عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله (4) 173- (7) 617. عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون (7) 502. عبد الرحمن بن مخلوف (خلوف) (6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 467- 472- 473- 474 476- 477 . عبد الرحمن بن مخنف الازدي (3) 33 39- 52. عبد الرحمن بن مروان الجليقي (4) 164 165- 166- 167- 168. عبد الرحمن بن مسلم (3) 78- 79 87. عبد الرحمن بن مصادي (3) 134. عبد الرحمن بن معاوية (2) 385- (6) 241. عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (3) 166- 351- (4) 152- 153- (7) 13 721. عبد الرحمن بن معيص بن أبي وداعة (2) 386. عبد الرحمن بن مفلح (3) 384 385- 388- 425- (4) 23- 418- 419. عبد الرحمن بن ملجم المرادي (2) 378- 379- 645- 646 647- (3) 178- 179. (ابو المظفر) عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر (4) 187- 188 189. (ابو الحرث) عبد الرحمن بن منقذ (6) 331. (ابو تاشفين) عبد الرحمن بن أبي حمو موسي بن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمراسن بن زيان (5) 504- (6) 53- 62- 63- 72- 73 88- 101- 485- 489 490- 491- 492- 496 498- 499- 500- 506 523- 564- 566- 590 (7) 110- 136- 137 138- 139- 140- 141 142- 145- 146- 147 149- 150- 151- 152 164- 165- 167- 168 179- 181- 182- 184 185- 186- 187- 188 189- 190- 191- 192 193- 194- 195- 196 212- 216- 218- 331 335- 338- 339- 340 343- 352- 412- 460 478- 480- 481- 488 489- 526- 556. (ابو سعيد) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري البصري (7) 683. عبد الرحمن بن أبي المولي (3) 238. عبد الرحمن بن أبي ناس (7) 85 86. عبد الرحمن بن ناصر (3) 499. عبد الرحمن بن الناصر بن منصور (1) 234. عبد الرحمن بن نعيم القشيري (القرشي) (3) 95- 96- 98- 101 108- 116- 174. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار (4) 192. عبد الرحمن (الأوسط) بن هشام بن عبد الرحمن الداخل (4) 163. عبد الرحمن بن يحيي بن عبد الرحمن بن يدر (6) 370. عبد الرحمن بن يحيي بن يغمراسن (7) 153- 397. عبد الرحمن بن يدر (7) 322. عبد الرحمن بن يزيد (3) 152. عبد الرحمن بن يعقوب (ابو القاسم) (6) 38- 39- 190- 350 401- 475. عبد الرحمن بن يعقوب بن حلوب (6) 461. عبد الرحمن بن يعقوب بن مخلوف (6) 471. عبد الرحمن بن يغمراسن (7) 153. عبد الرحمن بن يغلوسن ابن السلطان أبي علي (7) 187. عبد الرحمن بن أبي يغلوسن (4) 221 222- 223- (6) 39 42- 273- 364- (7) 443- 446- 447- 448 449- 450- 451- 455 456- 457- 458- 459 461- 463- 475- 500 501- 524- 633- 634 635- 636- 637. عبد الرحمن بن يوسف الفهري (3) 351. عبد الرحمن الداخل (1) 284- 361- (2) 278- 389- (3) 499- (4) 151- 153 156- 171- 178- 227 (6) 164- 165- 171- (7) 110- 504. عبد الرحمن السبيعي (3) 11. ابن عبد الرحمن السلمي (3) 176. عبد الرحمن طغايرك (4) 374. عبد الرحمن الطويل (5) 471. ابو عبد الرحمن العمري (3) 381. عبد الرحمن القسري (3) 104. عبد الرحمن المطوعي (3) 315. القاضي عبد الرحمن المغيلي (7) 230 231. عبد الرحمان الناصر (1) 226- 277 314- (4) 20- 21- (6) 138- 162- 171- 242 289- (7) 23. عبد الرحمن الوسناسي (7) 532. القاضي عبد الرحيم البيساني (1) 796 (4) 99- 103- (5) 205 331- 391- (7) 706. عبد الرحيم بن إسماعيل صدر الدين شيخ الشيوخ. عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس (6) 336. ابو الفتوح عبد الرحيم بن ورام (3) 570 571- 575. ابو الحسن عبد الرحيم زعيم الملك (3) 576. عبد الرزاق (5) 56. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 ابو الفتح عبد الرزاق بن أحمد المتميدي (4) 506. عبد الرزاق بن حسنوية (3) 534- (4) 685- 686. عبد الرزاق بن عبد الحميد الثعلبي (3) 282. عبد الرزاق بن همام (1) 339. عبد الرزاق الخارجي (4) 18. عبد الرشيد أخو السلطان محمود (4) 506- 507- 508. ابن عبد السلام (1) 571. بني عبد السلام (6) 32. (ابو سعيد) عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي (7) 681. عبد السلام بن عثمان بن إدريس (7) 363. عبد السلام بن مفرّج الربعي (4) 250. عبد السلام الأوربي (7) 233. عبد السلام البرنسي (6) 166. عبد السلام الكوفي (الكومي) (1) 299 (6) 317- 319. عبد السميع بن جرثم بن إدريس (6) 286. بني عبد شمس بن عبد مناف (2) 54 290- 291- 389- 390 399- 526- (3) 4. عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين (2) 54. عبد شمس بن يشجب (عابر) (سبأ) (2) 53. بني عبد الصمد (3) 488- (6) 169- 598- (7) 343. عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس (3) 161- 228- 229 245- 248- 253- 254 261- 264- 274- 275. عبد الصمد بن محمد بن خزرون (7) 85. عبد الصمد بن موسي بن محمد بن إبراهيم الامام (3) 349. عبد الصمد بن يلولان (6) 343. عبد الصمد الكاتب (4) 101- 737. عبد ضحم بن أرم (2) 22- 24. عبد ضحم بن عاد (2) 30. عبد العزي بن خطل من بني تميم (2) 460. بنو عبد العزي بن عبد شمس (2) 390. (أبي لهب) عبد العزي بن عبد المطلب (2) 391- 413- 414 416- 427. عبد العزي بن قصي بن كلاب (2) 388- 389- 397. سيف الدين عبد العزيز (5) 206. أقطمر عبد العزيز (5) 520. بني عبد العزيز (6) 190. الشاعر عبد العزيز شاعر السلطان يعقوب بن عبد الحق (7) 263- 264 305. عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع (3) 244. عبد العزيز بن أحمد (6) 99. عبد العزيز بن أرطاة (3) 174. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 عبد العزيز ابن السلطان أبي إسحاق (6) 437. عبد العزيز بن أو مغار (6) 509. عبد العزيز بن تافراكين (6) 509. عبد العزيز بن جلال الدولة (4) 355. عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك (3) 134- 135- 136- 140 141. السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن (4) 222- 223- (6) 41- 42- 72- 82- 85 363- 561- 567- 570 (7) 93- 175- 176 177- 178- 179- 183 186- 427- 428- 429 435- 438- 443- 444 445- 446- 447- 451 456- 465- 500- 501 524- 578- 579- 582 589- 590- 633. عبد العزيز بن أبي دلف العجليّ (3) 370- 376- 424. عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاني (6) 334- 337- 338. عبد العزيز بن السبع المغافري (4) 244. عبد العزيز بن السعيد (6) 353. عبد العزيز بن شعيب (4) 267. (أبو فارس) عبد العزيز بن أبي العباس بن أبي سالم (7) 194- 196 197- 356- 481- 482 488- 709- 713. عبد العزيز بن عبد الرحمن (3) 211. عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر المنصور بن أبي عامر. عبد العزيز بن عبد الله بن خالد (3) 175. عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة (7) 682. عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن عثمان (3) 210. عبد العزيز بن عبد المطلب (3) 237. عبد العزيز بن عبد الملك (3) 188. عبد العزيز بن عطوش (عصوش) (6) 352. عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز (3) 177. عبد العزيز بن عمر بن عثمان (3) 177. عبد العزيز بن عمر بن مروان (4) 152. عبد العزيز بن عمران (3) 312. عبد العزيز بن عيسى بن داود (6) 435. عبد العزيز بن محمد أخو المهدي (6) 313- 316- 362- 364. عبد العزيز بن محمد بن علي (7) 379. عبد العزيز بن محمد بن الدراوردي (3) 239- 244. عبد العزيز بن مروان (3) 42- 43 72- 73- 101- (4) 236- 379. عبد العزيز بن مصعب (4) 71. عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي (3) 239- 241. عبد العزيز بن مقرن (6) 225. عبد العزيز بن موسي بن نصير (1) 365- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 (2) 385- (4) 148- 236. عبد العزيز بن الوليد (3) 89- 90. عبد العزيز بن يوسف (أبو القاسم) (3) 545- (4) 614. عبد العزيز بن البكري (4) 199. عبد عمرو بن عبد شمس (2) 386. عبد الغفار (4) 155. ابن عبد الغفار المنتزي (6) 504- 506. اقطمر عبد الغني (5) 525- 531. عبد الغني بن كعب (6) 99. عبد القادر بن علي بن شعبان (7) 598. عبد القاهر الجرجاني (1) 732. ابن عبد القسري (3) 120. بني عبد قصي (2) 558. عبد قصي بن قصي بن كلاب (2) 397. الجديس عبد القوي (5) 332. ابن عبد القوي (7) 141- 142. بني عبد القوي (7) 116- 129 157- 211- 212- 215 294- 376. بنو عبد القوي بن العباس بن توجين (1) 166- (6) 383- 390- (7) 87- 106. عبد القوي بن العباس بن عطية الحبو (7) 205- 206- 207- 218 330. عبد القوي بن عطية التوجيني (6) 392 (7) 107- 108- 111 115. عبد القيس (2) 204- 357 449- 476- 494- 504- 505- 506- 507- 586 610- 611- 612- 614 616- 619- 631- 645 (3) 10- 97- 180 181- 183- 184- 377 (4) 22- 116- (6) 3- 15. عبد القيس بن امضي بن دعمي (2) 357. عبد القيس بن أبي الجواد (2) 305. عبد القيس بن ربيعة (1) 268. عبد الكبير بن عبد الرحمن بن زيد. ابن عبد الكريم (6) 394. عبد الكريم بن أحمد (6) 99. عبد الكريم بن ثعلبة الجذامي (6) 292. عبد الكريم بن سليط الحنفي (3) 121. عبد الكريم بن سليمان (6) 234. عبد الكريم بن عبد الواحد (4) 157. عبد الكريم بن أبي العوجاء (3) 254. عبد الكريم بن عيسى بن سليمان بن منصور بن أبي مالك (6) 364- (7) 305- 457. عبد الكريم بن مسلم (3) 87. عبد الكريم بن المطيع الطائع. عبد الكريم بن مغيث (4) 158 160- 161- 163. عبد الكريم بن منديل بن عيسى (6) 198- 476. عبد الكريم بن منقذ (1) 316- (7) 706. عبد الكريم سبق (4) 509. عبد الكريم بن المنتزي (6) 372. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 عبد كلال بن عريب (2) 291. عبد كلال بن متون (مثوب) بن حجر بن ذي رعين (2) 27- 64- 66 325. عبد كهلا بن يثرب بن ذي حرب (2) 63. بني أبي عبدل (7) 69. عبد الله بني عبد الله (2) 74- 445 (6) 62- 161- (7) 465. أبو بكر عبد الله (6) 598. أبو حفص عبد الله (6) 279. أبو القاسم عبد الله أخو المهتدي (3) 373- 374- 379. أبو محمد عبد الله (6) 323. المولي الأمير أبو عبد الله صاحب الأندلس (7) 170- 171- 337 354- 355- 381. (جناح الدولة) عبد الله (4) 201. عبد الله من ولد أزبك القان (5) 608. الموحد عبد الله (5) 414. الشريف أبو عبد الله الادريسي (4) 266. عبد الله الأرقط (4) 143. عبد الله الأشتر (3) 249- 250- (4) 7. أبو عبد الله الايلي (1) 498- (7) 525- 531- 534- 535. أبو عبد الله بن الأبار (6) 386- 388. عبد الله بن اباض المزني (2) 376- (3) 182. الشيخ أبي عبد الله بن إبراهيم (6) 320. أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب (4) 248- 249- 257 258- 259- (6) 159. عبد الله بن إبراهيم بن جامع (6) 334. عبد الله بن إبراهيم بن شارويه (4) 326 327. عبد الله بن إبراهيم المسمعي (3) 481 482- 484- (4) 427. عبد الله بن أبي بن خلف (2) 430. عبد الله بن أبي بن سلول (2) 345 347- 419- 424- 432 434- 439- 440- 445 468- 471. عبد الله بن اجانا (جانا) (7) 371. عبد الله بن أحمد بن حمزة (4) 140. عبد الله بن أحمد بن حنبل (1) 400. عبد الله بن أحمد بن عنان بن منصور (6) 32. عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل الامام (المدّثر) (4) 109. عبد الله بن أحمد الناصر (4) 140. عبد الله بن إدريس (كاتب الخراج لعبيد الله المهدي) 16- (6) 163. عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث (2) 388- 539. عبد الله بن أريقط الدولي (من بني بكر بن عبد مناف) (2) 421- 422 423. عبد الله بن إسحاق (7) 72. عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم (3) 348 375. عبد الله بن إسحاق بن جامع (6) 324. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 عبد الله بن إسحاق بن محمد بن علي (6) 253- 254- 258- 326 332. عبد الله بن أسيد الخزاعي (3) 160 161. عبد الله بن اشقليوله (4) 215- 217. عبد الله بن اشكام (4) 450. عبد الله بن الأصم العامري (2) 595. عبد الله بن الأفطس (4) 158. أبو عبد الله بن اكمازير (7) 297. الأمير أبو عبد الله بن أميرهم (6) 516. عبد الله بن أمية (3) 53. عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة (2) 458 465- 481. عبد الله بن الأمين (3) 301. أبو عبد الله بن الانباري (5) 79. عبد الله بن أنس بن مالك (3) 56. عبد الله بن انعجوب بن يعقوب (6) 351. عبد الله بن أنور بن قيس بن ثعلبة (3) 182. عبد الله بن الأهتم (3) 46- 88. عبد الله بن أوس الطائي (3) 180. عبد الله بن أبي أوفى اليشكري (2) 596- (3) 8. عبد الله بن الأيهم (3) 10. أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب (5) 580. عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي (2) 566- 630. أبو عبد الله بن برزيكن (يرزيكن) (6) 100. عبد الله بن بسام (3) 162- 251. عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو (3) 109- 113. عبد الله بن بغا الصغير (3) 360. أبو عبد الله بن بكار (7) 22- 23 35- 688. عبد الله بن أبي بكر (2) 421- 423 636- (6) 488. عبد الله ابن القاضي أبي بكر بن العربيّ (6) 313. (المظفر أبو محمد) عبد الله بن بلكين بن باديس (4) 203- (6) 240. (أبو محمد) عبد الله بن تاشفين (7) 332. أبو محمد عبد الله بن تافراكين (أبو محمد بن تافراكين) (6) 497- 524 526- 529- 530- 531 532- 537- 538- 539 540- 541- 542- 544 546- 547- 548- 549 552- 553- 555- 556 557- 558- 559- 592 609- 610- (7) 162 168- 170- 332- 340 341- 349- 353- 354 356- 364- 370- 375 391- 392- 393- 394 398- 497- 520- 529 530- 531- 574- 713. عبد الله بن توميان الهرغي (6) 443. عبد الله بن تيما (4) 210. عبد الله بن ثابت (6) 474- 476. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 عبد الله بن الثامر (2) 68- 69. عبد الله بن ثعلبة بن محارب بن محمود (4) 18- 19- (6) 177. (أبو فديك) عبد الله بن ثور (3) 185. عبد الله بن جابر الخراساني (7) 479. عبد الله بن الجارود (عبد ربه الانباري) (3) 54- 55- (4) 245. عبد الله بن جبير (2) 434. عبد الله بن جحش (1) 283- (2) 425- 437. (أبو زمام) عبد الله بن جرمون (6) 350. عبد الله بن أبي جعدة بن هبيرة (3) 34 40. عبد الله بن جعفر (3) 356. عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (2) 454- 456- 581- 624 648- (3) 22- 30. عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة (3) 244. عبد الله بن الجواس (5) 232. عبد الله بن حاتم (3) 293. أبو عبد الله بن أبي الحاج بن الأحمر (6) 548. عبد الله بن الحارثية (السفاح) (1) 250 259- 263- 283- 284 399- (3) 18. عبد الله بن حازم بن خزيمة (3) 286 300. عبد الله بن حازم (خازم) السلمي (2) 578- 579- 586- 643 (3) 6- 7- 8- 18- 45 69- 70- 171- 172. عبد الله بن حباب (3) 204. ابو عبد الله بن الحباك (7) 256. عبد الله بن حبيب الحكمي (3) 62. عبد الله بن الحجاب (6) 144- 145. عبد الله بن حجاج (3) 83- (4) 171- 172- 175. السلطان ابو عبد الله (المخلوع) ابن أبي الحجاج (7) 418- 420 546- 554- 555- 557 558- 559. عبد الله بن أبي حدرد الاسلمي (2) 463. عبد الله بن حذافة السهمي (2) 387 451. عبد الله بن الحرث (3) 14- 16. عبد الله بن الحرث بن الأشتر (3) 31. عبد الله بن الحرث بن جزء (1) 388 392- 396- 400. عبد الله بن الحرث بن نوفل (3) 6- 7 169- 170- 171- 182 183. عبد الله بن أبي الحريش (3) 178. عبد الله بن حسن (1) 70- (3) 237. عبد الله بن حسن صاحب طرابلس (7) 56- 57. ابو عبد الله بن أبي الحسن (6) 97 279. (الرئيس ابو محمد) عبد الله بن أبي الحسن بن اشقيلولة (ابو محمد بن اشقيلولة) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 (7) 159- 258- 260 261- 264- 265- 268. (أبي حمزة) عبد الله بن حسن بن الحسن (3) 210- 238- (5) 496. عبد الله بن الحسن المثنى (3) 105 123- (4) 8. عبد الله بن حسن الهمدانيّ (3) 431. ابو عبد الله بن الحسين (بن أبي الحسين) (6) 403- 430- 468. عبد الله بن الحسين الأنطاكي (3) 168. عبد الله بن الحسين الهمدانيّ (3) 416. عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب (3) 317. عبد الله المنصور بن أبي القاسم الحسين بن فروخ بن حوشب الكوفي (4) 36. عبد الله بن الحشرج (2) 371. ابو عبد الله بن الحصاص (3) 448 449. عبد الله بن حصين [حصن] (3) 10. عبد الله بن أبي الحصين (2) 631. عبد الله بن الحضرميّ (2) 602- 643. (ابو محمد) عبد الله بن أبي حفص (4) 213- (6) 316- 319 327- 329- 330- 331 332- 333- 334- 335 337- 338- 418. ابو عبد الله بن الحكيم من مشايخ رندة (7) 300- 302- 521. عبد الله بن حكيم بن حزام (2) 596 618- 622. عبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي (3) 54- 55. عبد الله بن حماد بن أكبر بن ربيعة بن مالك (2) 293- (7) 57. ابو عبد الله بن حمدان (2) 273. (ابو الهيجاء) عبد الله بن حمدان بن حمدون العدوي الثعلبي (3) 444 445- 446- 459- 470 474- 481- 482- 483 484- (4) 289- 290. عبد الله بن حمزة الغزاري (3) 32. عبد الله بن حملة الخثعميّ (3) 32. عبد الله بن حميد بن قحطبة (3) 295. عبد الله بن حنظلة (2) 351. عبد الله بن حوبة السعدي (3) 15. عبد الله بن حي بن حصين الرقاشيّ (3) 245. ابو عبد الله بن خالد (7) 356. عبد الله بن خالد بن أسيد (2) 594 608- (3) 18- 170 174. عبد الله بن خباب (2) 639. عبد الله بن خراسان (6) 218. عبد الله ابن الخراساني (7) 191. عبد الله بن خرزاذ به (1) 100- (4) 549. عبد الله بن خزر (7) 35. الوزير ابو عبد الله بن الخطيب (1) 622 749- 779- 797- 822 828- 829- (7) 405 546- 548- 549- 554 558- 563- 575- 576- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 581- 588- 590- 596 597- 615- 633- 637 . ابو عبد الله بن خلدون (7) 555. عبد الله بن خلف الخزاعي (2) 620. عبد الله بن خليفة البولاني (2) 629. عبد الله بن خليفة الطائي (3) 14. ابو عبد الله بن خميس التلمساني (7) 521. بني عبد الله بن دارم (2) 378. عبد الله بن داود أخو المنصور (4) 4. عبد الله بن دريد (6) 31. عبد الله بن دواب السلمي (3) 62. (ابو القاسم) عبد الله بن ذخيرة الدين المقتدي بأمر الله. عبد الله بن الربيع بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي (3) 240- 243 244- 253. عبد الله بن أبي ربيعة (بن ربيعة) (2) 388- 413- 570- 602. عبد الله بن رحاب (حاب) بن محمود (6) 450. عبد الله بن رزم الحرشيّ (3) 63. عبد الله بن الرشيد المأمون. ابو عبد الله بن رشيد (7) 524. عبد الله بن رشيد بن كاوس (3) 422. عبد الله بن رقية (2) 618- 619. عبد الله بن رميت العلائي (3) 47. عبد الله بن رواحة بن امرئ القيس (2) 267- 418- 422- 429 431- 441- 456. عبد الله بن الزبعري بن قيس (2) 387. عبد الله بن الزبير (1) 20- 263 264- 267- 271- 323 437- 438- 439- 836 (2) 350- 351- 368 387- 389- 402- 555 574- 582- 583- 600 601- 608- 611- 617 618- 619- 621- 636 (3) 23- 24- 25- 27 30- 41- 46- 51- 58 (4) 3- 235- 378- (6) 141. عبد الله بن زكريا الهزرجي (6) 346 396. ابو عبد الله بن زمرك (7) 452- 637 657. عبد الله بن زمعة بن الأسود (2) 389. عبد الله بن زهير السلولي (3) 38. عبد الله بن زياد بن أبي سفيان (1) 230- 398- (2) 388. عبد الله بن زياد بن ضبيان (عبيد الله) (3) 43- 55. عبد الله بن زيد بن أرقم (5) 446. عبد الله بن سبإ (ابن السوداء) (2) 587 588- 591- 593- 615 215. عبد الله بن سبع الهمدانيّ (3) 27. عبد الله بن أبي سرح (2) 556 570- 573- 574- 575 576- 592- 594- 596 597- 599- 622- 623- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 627- 632- (4) 233 377- 378. عبد الله بن السري بن محمد (3) 317. عبد الله بن سعد (2) 328- 596. عبد الله بن سعد الخرشي (3) 304. عبد الله بن سعد بن أبي سرح (2) 460 (6) 141- (7) 596. ابو غانم عبد الله بن سعيد (4) 110. عبد الله بن السعيد (6) 347- (7) 228. عبد الله بن سعيد بن حمدان (4) 296. عبد الله بن سعيد بن قيس (3) 33. عبد الله بن سعيد بن كلاب (1) 603. عبد الله بن سعيد بن مردنيش الجذامي (4) 210. عبد الله بن سعيد الحريشيّ (3) 290. عبد الله بن سكرديد (عبد الملك بن سكرديد) (6) 146- 202. عبد الله بن سلام (1) 267- 555 (2) 424- 432- 603- 611. عبد الله بن سليم (2) 619. ابو عبد الله بن أبي سليمان (3) 521. 360- 365- 426- (6) 317- 517. عبد الله بن سليمان الربعي (3) 267. عبد الله بن سليمان بن وهب (3) 418. عبد الله بن سمرة (2) 648. عبد الله بن السمط الكندي (6) 185. عبد الله بن سهل بن السكران بن عمرو (2) 415. عبد الله بن سوار العبديّ (3) 8- 169. عبد الله بن السيد بن انس الازدي (3) 334. ابو عبد الله بن سيد الفهري (بن رشيد الفهري) (7) 521. ابو عبد الله بن سيد الناس (7) 143 144. (القاضي ابو شبرمة) عبد الله بن شبرمة (2) 379. عبد الله بن شبيل الاحمسي (2) 571. عبد الله بن شجرة (2) 640. عبد الله بن شداد بن الهادي (3) 64. ابو عبد الله بن شعيب الدكالي (1) 544 (7) 516. عبد الله بن أبي شعيب بن مخلوف (7) 314. ابو عبد الله بن الشهيد (6) 483. عبد الله بن شيخه (6) 98. أبو عبد الله بن شيرازاد (3) 511. عبد الله بن صالح (3) 266- (4) 236. عبد الله بن صالح بن سعيد بن إدريس (6) 284. عبد الله بن صغير (7) 179- 180 181- 182- 439. عبد الله بن صغار السعدي (2) 376 (3) 182. عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف (2) 387- (3) 50- 51. عبد الله بن طارق حليف بني ظفر (2) 438. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 عبد الله بن طاع الله الكومي (6) 332. أبو عبد الله بن طاهر (3) 545. عبد الله بن طاهر بن الحسين (1) 378 (3) 295- 315- 316 317- 318- 321- 331 332- 333- 334- 338 376- 389- (4) 11 57- 159- 248- 267 381- 550- (5) 94. عبد الله بن ظاهر (5) 213- 220. عبد الله بن عامر (2) 592- 594 602- 608- 621- 648 649- (3) 6- 9- 10 12- 65- 215. عبد الله بن عامر التميمي (3) 61. عبد الله بن الحاج عامر بن أبي البركات بن منبا (6) 89. عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي (2) 465. عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس (2) 577- (3) 169. عبد الله بن عامر الحضرميّ (2) 607. عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم (ابن عباس) (1) 20- 24 270- 271- 332- 389 399- 413- 438- 525 600- 804- (2) 4- 5 7- 41- 42- 216 290- 391- 455- 569 573- 582- 600- 604 606- 620- 622- 626- 629- 630- 631- 632 634- 635- 636- 637 638- 643- 644- 645 648- (3) 12- 26- 29 36- 37- 128- 185 (4) 268- (7) 682. أم عبد الله بن عباس (2) 608. عبد الله بن العباس بن الفضل (4) 255. عبد الله بن العباس بن موسي (4) 380. عبد الله بن العباس النسفي (3) 277. (أبو سلمة) عبد الله بن عبد الأسد زوج أم سلمة (2) 388. عبد الله بن عبد الحق (من سوط النساء) (7) 224- 241- 242 297- 485- 494- 500. عبد الله بن عبد الرحمن بن بشير العجليّ (3) 220. عبد الله بن عبد الرزاق (أبو محمد) (4) 462. أبو عبد الله بن عبد الرزاق (7) 332. أبو عبد الله بن عبد السلام (7) 535 536. (أبو محمد) عبد الله بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الأموي الرميحي (4) 214. عبد الله بن عبد الله بن عبيد الله (2) 390. عبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم (3) 114. عبد الله بن عبد الله بن عتبان (2) 556 559- 566- 567. عبد الله بن عبد المطلب (والد النبي صلى الله عليه وسلم) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 (2) 210- 391- 401 407- (4) 5. عبد الله (عبيد الله) بن عبد الملك (3) 63- 73- 90- 171 173- (4) 379. (السيد أبو محمد) عبد الله بن عبد المؤمن بن يوسف (5) 240- (6) 218 222- 225- 316- 318 355. (أبو محمد) عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد (6) 487. عبد الله بن عتبان (2) 546- 558. عبد الله بن عتبة بن غزوان (2) 415. عبد الله بن عتبة بن مسعود (3) 32. عبد الله بن العربيّ (1) 286. عبد الله بن عزيز (4) 461- 462 475. عبد الله بن عسكر بن معروف بن يعقوب (6) 72- 73- (7) 438. عبد الله بن عصام (4) 207. عبد الله بن أبي عصفير (3) 195. عبد الله عطاء بن يعقوب (3) 244. عبد الله بن عقبة الفهري (3) 166. عبد الله بن عقيل (2) 433. عبد الله بن العلاء الكندي (3) 158. عبد الله بن أبي العلاء (7) 490. عبد الله بن علي (3) 164- 165 166- 218- 219- 223 227- 228- 229- 231 233- (4) 5- (6) 34- 600 (7) 538- 548. عبد الله بن علي بن اشقيلولة (4) 215 216. عبد الله بن علي البصري (3) 505 506. عبد الله بن علي بن جعفر الكتامي (ابن شعبان الكتامي) (4) 347. عبد الله بن علي بن خلف (6) 554. عبد الله بن علي بن سعيد (6) 535 538- 539- (7) 369 387- 391- 392- 401 414. عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس (3) 152- 252. عبد الله بن علي بن عيسى (3) 307. عبد الله بن علي المخارق بن غفار (3) 163. (أبو القاسم) عبد الله بن علي بن محمد بن عبيد الله بن يحيي بن خاقان (3) 466. (مهذّب الدولة) عبد الله بن علي بن نصر (4) 678- 679- 680 681. عبد الله بن عمر بن تافراكين (6) 509 (7) 530. عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم (3) 243. عبد الله بن عمر بن الخطاب (ابن عمر) (أبو عبد الرحمن) (1) 24 259- 263- 267- 269- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 270- 271- 388- 401 603- (2) 387- 434 440- 569- 573- 582 587- 593- 652- 603 606- 607- 631- 636 637- (3) 17- 23- 26 49- (7) 682. عبد الله بن عمر بن عبد العزيز (2) 360 (3) 136- 137- 138 139- 143- 144- 151 162- 177- 206- 208. عبد الله بن عمر بن عثمان (3) 184. عبد الله بن غيلان (3) 18- 19 170. عبد الله بن عمر الليثي (3) 103- 184. أبو عبد الله بن أبي عمران (6) 484 485. عبد الله بن عمرو (7) 503. عبد الله بن عمرو بن حرام (2) 347 418. عبد الله بن عمرو بن العاص (2) 625 (3) 5- 169- (4) 188 378. عبد الله بن عمرو بن عثمان (3) 25. عبد الله بن عمير (2) 566. عبد الله بن عنبسة (3) 134. عبد الله بن عوف بن عبد يغوث (2) 388- (3) 179. عبد الله بن عياش (4) 145. عبد الله بن عياض (4) 210. عبد الله بن عيسى (3) 151. عبد الله بن عيسى بن إبراهيم (5) 271. عبد الله بن غانية (6) 328. عبد الله بن فروخ (1) 414- 415 525- 526. عبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي (3) 65. عبد الله بن فضالة الليثي (3) 11. أبو العلاء عبد الله بن الفضل (3) 541. (القائم أبو جعفر) عبد الله بن القادر (7) 722- 723. عبد الله بن قارن (3) 332. أبو محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوريّ (5) 46. عبد الله بن قاسم الفهري (4) 183 200. أبو عبد الله بن القالون (6) 482- 485. عبد الله بن قثم (3) 269- 273. عبد الله بن أبي قحافة (أبو بكر الصديق) (1) 116- 137- 166 239- 247- 255- 261 264- 265- 273- 282 283- 295- 326- 407 439- 440- 444- 614 620- 265- (2) 4- 265 268- 273- 293- 313 323- 329- 347- 350 357- 360- 363- 365 366- 387- 388- 390 391- 410- 411- 414 420- 421- 422- 423 429- 436- 439- 457- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 464- 472- 484- 485 486- 487- 488- 489 490- 491- 492- 493 494- 495- 496- 497 498- 499- 500- 501 503- 504- 506- 507 508- 511- 512- 513 514- 515- 516- 517 519- 520- 523- 542 543- 548- 569- 581 583- 612- 639- (3) 4- 63- 73- 204- (4) 34- 109- 128- (5) 461- (6) 17- 211- (7) 304. عبد الله بن قراد الزيادي (2) 473. عبد الله بن قشير بن مخرمة (3) 173. عبد الله بن قلابة (1) عبد الله بن قيس بن عياد (3) 130. عبد الله بن قيس الفزاري (2) 547 576- 602- 634- (3) 11- 23. عبد الله بن قيس مولى يسار (2) 393. عبد الله بن قيس الحاسبي (2) 498. عبد الله بن قيس الخولانيّ (3) 34. عبد الله بن الكاتب (6) 208. عبد الله بن كامل الشاوي (3) 31 33- 34. أبو عبد الله بن الكجار (6) 459. عبد الله بن كراز الجبليّ (3) 11. عبد الله بن كعب بن عمرو (2) 430. عبد الله بن كعب بن المرادي (2) 632. عبد الله بن كندوز الكمي (7) 98 199- 239- 295- 303 457- 458. عبد الله بن لهيعة (1) 397- 401. عبد الله بن مالك الطائي (3) 32 271- 272- 281- 284 285- 288- 289. (أبو عبد الرحمن) عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي مولى بني حنظلة (7) 681. عبد الله بن المحسن بن الفرات (3) 466. عبد الله بن محصن الحميري (3) 24. الأمير عبد الله ابن الأمير محمد (2) 654 (3) 158- 162- (4) 167 169- 170- 173- 207 (6) 44- 322. أبو عبد الله بن محمد بن إبراهيم الطائي (4) 480. عبد الله بن محمد ابن الامام إبراهيم بن محمد (ابن زينب) (4) 380. عبد الله بن محمد بن الأغلب (4) 253. أبو محمد بن عبد الله بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص (6) 379 380. أبو الحسن عبد الله بن محمد بن حمدويه (4) 670. عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسي (3) 348- 375. عبد الله بن محمد بن الرند (6) 220. عبد الله بن محمد بن صفوان (3) 255. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان (3) 261. عبد الله بن محمد ابن القاضي عبد الله بن أبي عمر (7) 368. عبد الله بن محمد بن العرب (6) 250. عبد الله بن محمد بن علي (3) 356- (4) 265- (6) 253- 326. بنت عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر (3) 241. (أبو جعفر) عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (أبو جعفر المنصور) (1) 22- 24- 150- 250 251- 258- 259- 263 284- 317- 318- 399 439- 632- 639- (2) 389- (3) 151- 162 219- 220- 221- 222 226- 227- (4) 3- 4 5- 7- 9- 26- 36 123- 142- 152- 153 154- 240- 241- 242 243- 244- (6) 146 147- 150- 151- 162 (4) 3- 4- 5- 7- 9 26- 36- 123- 142 152- 153- 154- 240 241- 242- 243- 254 (6) 146- 147- 150 151- 154- 159- (7) 13- 16- 620- 682 735. عبد الله بن محمد بن عمر بن أبي طالب (3) 241. عبد الله بن محمد بن الفضل (4) 270. عبد الله بن محمد بن مردان بن الحكم (4) 151. عبد الله بن محمد بن مسعود (6) 29 376. أبو الأنصار عبد الله بن أبي غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف (6) 278- 279. (أبو العباس) عبد الله بن محمد بن نوح (3) 458- (4) 438. أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي (7) 685. عبد الله بن محمد بن يعقوب (6) 108 109. عبد الله بن محمد الأخيضر (4) 124. عبد الله بن محمد الصليحي (عبد الله الصليحي) (4) 272- 273 280- 281. عبد الله بن محمد الغساني (3) 483. عبد الله بن محمد الفاطمي (6) 171. (أبو القاسم) عبد الله بن محمد الكلواذي (3) 467- 468. الأمير عبد الله بن محمد المرواني (1) 817. عبد الله بن محمد المهدي (4) 26. عبد الله بن محمود السرخسي (3) 356. عبد الله بن مخرمة من بني عامر بن لؤيّ (2) 415. عبد الله بن مخلص (7) 301. (ابو القاسم) عبد الله بن أبي مدين (6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 464- 522- (7) 306 308- 315- 323- 328 522. عبد الله بن مرداويه (3) 319. عبد الله بن مرزوق (3) 543- (4) 616. ابو عبد الله بن مرزوق (7) 413 414- 415- 441- 539 544. عبد الله بن مروان (1) 259- (3) 62 158- 163- 165- 207 (4) 236. عبد الله بن أبي مريم (3) 166. عبد الله بن المستنصر المستعصم (أبو أحمد) . عبد الله بن مسعود (1) 388- 389 390- 395- (2) 380 411- 412- 415- 429 490- 558- 571- 581 583. عبد الله بن مسكين (6) 523. عبد الله بن مسلم الزردالي (الزرد) (7) 388- 411- 434. عبد الله بن مسلم بن عقيل (3) 28 34- 75- 87- (7) 164 165- 166- 168- 169. (أبو محمد ابن الأفطس) عبد الله بن مسلمة التجيبي (3) 306- (4) 91 202- 229- (6) 248. (أبو عبد الرحمن) عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي (7) 684. عبد الله بن المسيب بن زهير الضبي (4) 380. عبد الله بن مطيع بن اياس (2) 351 387- (3) 27. عبد الله بن مظعون بن حبيب (2) 387 415. عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (2) 647- (3) 143- 144- 151- 152 157- 177- (4) 145. عبد الله بن المعتز (المرتضي باللَّه) (3) 447- 448- 289. عبد الله بن المعتمر (2) 526- 536 545- 550. عبد الله بن المعز (4) 114- 266. عبد الله بن معمر اليشكري (3) 91 92. عبد الله بن المفضل المزني (2) 467. أبو عبد الله بن المقتدر (3) 447. عبد الله بن مقداد بن إسماعيل بن عبد الله الاقفهي جمال الدين الاقفهي (7) 741. عبد الله بن مقرّن (2) 490. عبد الله بن المقفع (1) 52- 796. عبد الله بن مقير (6) 71- 72. (أبو القاسم) عبد الله بن المكتفي (3) 520. عبد الله بن أبي ملا (3) 451. عبد الله بن ملويان (6) 304. أبو عبد الله بن أبي مناد بن نوح (7) 71. عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد (3) 240. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن المصلحية (3) 600- (5) 31 (6) 338- 339. عبد الله الظاهر ابن المنصور (5) 498. عبد الله بن المهدي (3) 273. عبد الله بن أبي مهدي (6) 283 402. عبد الله بن موسي بن نصير (4) 147 236- 237. أبو عبد الله بن أبي موسي الهاشمي (3) 517- 519- 520. عبد الله بن الناصر (4) 181- (6) 230. أبو عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان (2) 273- (4) 301. عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدون (4) 69. عبد الله بن نافع بن الحرث (2) 573. أبو محمد عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ المخزومي (7) 682. (مؤيد الملك) عبد الله بن نظام الملك (5) 27- 28- 29- 30- 32 33. عبد الله بن النعمان من بني قيس بن ثعلبة (3) 137. أبو عبد الله بن النعمان (1) 30- (3) 450. عبد الله بن هلال (2) 369- (3) 88 (6) 474- 476- (7) 136. أبو عبد الله بن أبي هلال (6) 560 570. عبد الله بن همام السامولي (3) 74. عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعمر بن المعتمد (3) 441- (4) 289. عبد الله بن وال (3) 27. عبد الله بن ورقاء الرياضي (2) 559. عبد الله بن ورقاء بن جناد السلولي (3) 38. عبد الله بن الوضاح (3) 330. عبد الله بن وهب الراسبي (ذو الثفنات) (2) 637- 638- 640- (3) 178- 213. ابو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي المصري (7) 681- 684. عبد الله بن وهيب (3) 34. عبد الله (ابو عبد الله بن ياسين) صاحب الدولة اللمتونية (6) 270- 483 (7) 51. الفقيه عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي (6) 243- 244- 252- 280. عبد الله بن يحيي (3) 210- 211. السلطان ابو عبد الله بن أبي يحيي بن أبي حفص (6) 335- (7) 556. عبد الله بن يحيي بن خان (خاقان) (3) 355- 342- 426. ابو عبد الله بن يحيي بن قالون (6) 486. عبد الله بن يخلف الكتامي (4) 60 62- (6) 206- 613- (7) 54. ابو عبد الله بن يرزيكن (6) 459 460- 469- 470- (7) 296. عبد الله بن يزيد بن أسد (3) 45. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 عبد الله بن يزيد بن أبي حاتم (4) 245. عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع (3) 164. ابو عبد الله بن يزيد بن معاوية (2) 630 (3) 42- 134- 218. عبد الله بن يزيد بن هرمز (3) 244. عبد الله بن يعفر (4) 274. ابو عبد الله بن يعقوب (6) 483. عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق (7) 236. ابو عبد الله بن أبي علو من مشيخة الموحدين (7) 231. ابو محمد عبد الله بن يغمور (6) 427 483. ابو محمد عبد الله بن يوسف (4) 95. (ابو القاسم) عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي (ابو القاسم بن رضوان) (7) 513- 514- 522- 523 524. ابو عبد الله البريدي (اليزيدي) (3) 467- 478- 487- 492 495- 501- 502- 509 517- 519- (4) 292 567- 568. عبد الله البطال (3) 167. ابو عبد الله البطوي (7) 510. عبد الله البلنسي (4) 157- 158 160. ابو عبد الله البيضاوي (3) 547. عبد الله التريكي (التركي) (6) 565 572- 579- 580- 602. ابو عبد الله الجدلي (3) 36. ابو عبد الله الجهاني (4) 440. ابو محمد عبد الله الحجازي (7) 504. عبد الله الحريشيّ (3) 294. ابن عبد الله الحمامي (3) 456. ابو عبد الله الخوارزمي (1) 637. ابو عبد الله الدامغانيّ قاضي القضاة (3) 584- 594. عبد الله الرخامي (6) 463- 464 465- 466. ابو عبد الله الزبيدي (الزندي) (7) 509. عبد الله السخري (3) 386- (4) 27 28- 417- 418. ابو عبد الله السطي (6) 522. عبد الله السفاح (3) 126. عبد الله السكسيوي (6) 355- 356. ابو عبد الله الشراي (3) 553- (4) 638. ابو عبد الله الشقوري (7) 576- 582. ابو عبد الله الشيعي المشرفي (عبد الله السبعي) (1) 252- 374- 416- (2) 276- (3) 451- 452 453- 454- (4) 12 36- 37- 39- 40- 41 42- 43- 44- 45 104- 258- 259- 260 261- 282- (6) 137 149- 154- 160- 173 595. ابو عبد الله الصهيري (3) 556. ابو عبد الله الصيمري (4) 642. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 عبد الله الطائي (3) 147- 161 163. ابو عبد الله الغازازي (6) 447- 449 450- 454- 457. ابو عبد الله الغزاري (6) 112. ابو عبد الله الكازروني (4) 309. عبد الله الكامل (4) 142. ابو عبد الله الكوسي (7) 688. ابو عبد الله الكوفي (3) 508- 509 510- 511- 514- 515 519- (4) 293- 571. ابو عبد الله اللحياني (6) 341- 372. ابو عبد الله اللوشي (1) 829. الفقيه ابو عبد الله المالكي (7) 624. ابو عبد الله المحبي (6) 455. ابو عبد الله المحتسب (1) 28- (7) 13. عبد الله المخلوع (6) 381. ابو عبد الله المخلوع محمد المخلوع. ابو عبد الله المردوسي (3) 556- (4) 642. عبد الله المرواني (7) 504. ابو عبد الله المري (4) 602. ابو عبد الله المزدوري (7) 297. عبد الله المسكين (4) 156. عبد الله المغربي (6) 280. عبد الله المنصور (3) 259- (4) 141. عبد الله المهاجر بن أبي أمية عبد الله بن أبي أمية. عبد الله المهدي (4) 36. ابو عبد الله المؤمناني (6) 345. ابو عبد الله الموسوي (3) 516. ابو عبد الله النعيمي (4) 669- 670 671. ابو عبد الله النفزاوي (7) 537. عبد الله الهزرجي (6) 431. عبد الله الوزير (4) 383. الحافظ عبد المجيد (6) 215. عبد المجيد ابن عم الآمر (4) 86. الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر باللَّه (4) 89. بني عبد المدان (3) 224- (4) 286. عبد المدان بن جرهم (2) 34- 293. عبد المدان بن الديان (2) 305. عبد المسيح (2) 320. فخر الدين عبد المسيح (5) 293 294- 295- 299. عبد المسيح بن عمرو بن حسان بن نفيلة الغساني (2) 34- 210- 293. بنو عبد المطلب (1) 404- (2) 400 411- 422- 461- 465 646- (3) 4. عبد المطلب بن هاشم (عم النبي صلى الله عليه وسلم) (1) 224- 398- 437 440- (2) 71- 72- 74 75- 391- 400- 401 407- 408- (4) 6- 7. عبد المغيث بن أكيدر بن عبد الملك (2) 306. عبد الملك (6) 81. المقدم عبد الملك (5) 283. عبد الملك بن إبراهيم بن يحيي (4) 201. عبد الملك بن أمية (4) 173. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 عبد الملك بن أيوب بن طيبان (طبيان) النميري (3) 260. عبد الملك بن بشر التغلبي (3) 208. عبد الملك بن بشر بن مروان (3) 100 125- 162. عبد الملك بن أبي الجعد النفزي (4) 241- (6) 146- 150 151- 159. عبد الملك بن جهور بن عبد الملك بن جوهر (4) 174. عبد الملك بن حبيب (1) 569. عبد الملك بن الحرث بن الحكم بن أبي العاص (3) 35- 48- 49. عبد الملك بن حرملة (3) 138. عبد الملك بن حسنوية (4) 685 686. عبد الملك بن حنينة أخت يغمراسن بن زيان (عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم) (7) 113- 114 117- 127- 248- 249 485. عبد الملك بن خلف (4) 200. عبد الملك بن دثار الباهلي (3) 110. عبد الملك بن رحاب بن محمود (6) 112. عبد الملك بن رفاعة (4) 379. عبد الملك (سليمان) بن سعد (1) 303. عبد الملك بن سعيد (3) 146. عبد الملك بن سكرديد الصنهاجي (6) 147. عبد الملك بن شهاب المسمعي (3) 262. عبد الملك بن صالح بن علي [بن عبد الله العباس الهاشمي] (3) 265 269- 273- 276- 277 279- 281- 282- 285 296. عبد الملك بن طيبان النميري (النهيري) (3) 253. عبد الملك بن عبد المكلف (6) 151. عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث (4) 157. عبد الملك بن عثمان بن مكي (6) 468. عبد الملك بن عطية بن هوازن (3) 211. عبد الملك بن علي بن قريب (الاصمعي راوية العرب) (1) 23- 440 804- 806- (2) 362- (7) 598. عبد الملك بن عمر المرواني (4) 152 155. عبد الملك بن قريب (7) 598. عبد الملك بن قطن الفهري (3) 176 177- (4) 149- 150 239- (6) 156. عبد الملك بن قطي بن بهشل بن عمرو (2) 385. عبد الملك بن مالك الخزرجي (ابو الحسن) (3) 287- (4) 15. عبد الملك بن محمد بن الحجاج (3) 133- 134. عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم عبد الملك بن حنينة. عبد الملك بن مروان (1) 188- 260 263- 267- 274- 296- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 303- 314- 323- 324 325- 336- 359- 438 471- 603- (2) 270 273- 308- 367- 390 (3) 32- 35- 36- 37 41- 42- 43- 44- 45 46- 47- 51- 52- 53 55- 56- 58- 60- 61 62- 68- 69- 71- 73 74- 81- 82- 88- 94 96- 139- 173- 185 187- 188- 189- 193 195- 196- 199- 200 203- (4) 235- 236 268- 283- 379- (5) 462- (6) 142- 143 194- (7) 11- 12. عبد الملك بن المستعين (عماد الدولة) (4) 207. عبد الملك بن مسمع (3) 99. عبد الملك بن المعز (المظفر) (7) 45. (ابو مروان) عبد الملك بن مكي رئيس قابس (6) 112- 442 444- 499- 521- 566 567- 568- 607- 608 611- 612- (7) 354 356- 362. عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر (4) 229- 232- (6) 279- (7) 43- 44- 45- 50. عبد الملك بن المهلب (3) 64- 86- 97- 98. عبد الملك بن نوح (4) 456- 457 467- 468- 476- 579. عبد الملك بن هلال (3) 100. عبد الملك بن يزيد الازدي (3) 158 163- 223- 261- (4) 380. عبد الملك بن يعلي (3) 175. عبد الملك بن يغمراسن (7) 88. بنو عبد مناة (2) 618. بنو عبد مناة بن أد بن طاغة (2) 378. بنو عبد مناة بن كنانة (2) 381. بنو عبد مناف عبد مناف (1) 197 270- 360- 365- (2) 369- 381- 390- 407 421- 459- 514- 598 600- 608- 652- (3) 3- 4- 5- (7) 12- 13. عبد مناف بن قصي بن كلاب (2) 388- 389- 397- 399 (7) 681. عبد مناف بن هلال (2) 369- (6) 22- 23. (القاضي) عبد المنعم ابن الامام أبي الحسن (6) 218. بني عبد المهيمن (7) 327- 328 521. (ابو محمد) عبد المهيمن الحضرميّ (7) 512- 513- 514- 515 521- 522. بني عبد المؤمن (1) 286- 420- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 474- (4) 211- 212 230- (6) 37- 102 112- 136- 157- 255 297- 300- 308- 309 310- 311- 312- 313 314- 315- 316- 318 353- 358- 361- 367 372- 374- 381- 382 385- 390- 391- 392 394- 396- 397- 432 451- 502- 508- 509 523- 524- 524- 595 606- 614- (7) 86 87- 89- 97- 98 103- 105- 106- 108 110- 114- 119- 133 206- 220- 221- 225 229- 232- 238- 240 241- 242- 245- 246 248- 250- 256- 257 281- 304- 323- 363 484- 507- 705. عبد المؤمن بن ثابت (7) 89. عبد المؤمن بن شبت بن ربعي (3) 61. عبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين (1) 286- 474- (4) 210- (5) 235- 236- 238- 239 240- 336- (6) 27 137- 166- 167- 168 215- 218- 219- 220 222- 223- 225- 226- 227- 236- 251- 252 253- 256- 262- 296 303- 305- 306- 307 317- 319- 323- 336 341- 455- 544- (7) 74- 75- 155- 172. عبد المؤمن ابن السلطان ابو علي (6) 363- (7) 418- 420 421- 423- 424- 425 426- 427- 429- 475. عبد المؤمن بن الوليد بن يزيد (4) 240. عبد المؤمن بن يحيى بن محمد بن وانودين (6) 371- 372. عبد المؤمن بن يوسف (6) 354. اكتمر عبد النبي (5) 528. عبد النبي بن علي بن مهدي (4) 278 (5) 337. عبد الهادي النجار (7) 742. بنت عبد الواحد (5) 512. بنو عبد الواحد (1) 166- (4) 274 (6) 406- 587- 590. عبد الواحد بن بشر (3) 275. عبد الواحد بن أبي تاشفين (6) 338 523. عبد الواحد بن الجماز (6) 522. (الشيخ ابو محمد) عبد الواحد بن أبي حفص (6) 29- 260- 261 325- 373- 374- 376 377- 437- 440. عبد الواحد بن أبي دبوس (المعتصم) (6) 353. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 عبد الواحد الروطيّ (4) 166. عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحياني (6) 499- 501- 508 513- 523- 526- 566 608- 609- (7) 362 374. عبد الواحد بن زياد (3) 245. عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك (3) 165- 210. عبد الواحد ابن القاضي ابو العباس الغماري (6) 473. ابو مالك عبد الواحد بن عبد الحق (7) 235- 240- 241- 242 243- 244. عبد الواحد بن عبد الله البصري (3) 175. عبد الواحد بن عبد الله القسري (3) 105- 106. عبد الواحد بن أبي عون (3) 244. عبد الواحد الفودودي (7) 312. عبد الواحد المأمون (الرشيد بن المأمون) (6) 38- 40- 41- 42 43- 342- 343- 344 345- 346- 394- 396 397- (7) 99- 106 225- 245- 596. (ابو محمد) عبد الواحد بن محمد بن اكمازير (6) 542- (7) 353. عبد الواحد بن محمد بن عبد بن قاسم بن ورزوق (7) 463- 466. عبد الواحد بن مسعود بن ماسي (7) 467- 469. عبد الواحد بن المقتدر (3) 487. عبد الواحد بن يحيى (6) 87. عبد الواحد بن يزيد (6) 145- 185. عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق (7) 457- 458. عبد الواحد ابن أمير المؤمنين يوسف (4) 212. ابو عبد الواحد المخلوع بن يوسف بن عبد المؤمن (6) 166- 377- 379. بني عبد الواد (1) 205- 301 333- (4) 20- 217 223- (5) 504- (6) 28 41- 58- 59- 62- 64 71- 80- 81- 82- 85 89- 101- 134- 137 151- 190- 307- 308 309- 347- 355- 361 371- 390- 397- 458 461- 466- 471- 477 478- 479- 482- 485 489- 490- 492- 493 496- 497- 505- 510 511- 532- 548- 551 552- 566- 569- 593 594- 610- (7) 10 14- 60- 67- 74- 75 76- 78- 79- 82- 83 84- 87- 91- 92- 93 96- 98- 99- 101 103- 106- 109- 110 113- 114- 115- 117- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 118- 124- 125- 127 132- 138- 143- 144 145- 146- 147- 150 152- 153- 154- 156 159- 160- 161- 162 168- 170- 173- 177 178- 181- 190- 193 196- 197- 199- 200 201- 202- 203- 205 207- 209- 210- 211 212- 213- 215- 216 218- 220- 221- 224 227- 228- 229- 231 238- 239- 242- 243 244- 246- 247- 248 249- 253- 269- 289 292- 294- 295- 303 304- 318- 319- 320 330- 331- 334- 338 339- 340- 341- 351 361- 364- 367- 370 371- 373- 376- 380 381- 386- 388- 398 411- 413- 434- 446 457- 476- 481- 482 488- 518- 520- 527 528- 545- 556- 557 579- 709 . عبد الوارث بن حبيب بن عبد الرحمن (4) 240- 241- (6) 146 150. ابن عبد الودود (4) 186. تاج الدين عبد الوهاب (5) 439. ابو الغنائم عبد الوهاب (4) 682 685- 693. القاضي عبد الوهاب (1) 567- 568. الشريف عبد الوهاب زعيم تدلس (7) 385. عبد الوهاب بن إبراهيم الامام (3) 208 256. عبد الوهاب بن أحمد بن مروان (4) 584. عبد الوهاب بن رستم عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم. عبد الوهاب الشيرازي (5) 16. عبد الوهاب بن صاعد (6) 87. عبد الوهاب بن الصفواني (3) 459 528. عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم (4) 244- 248- (6) 159 185. عبد الوهاب بن علي (3) 329. عبد الوهاب بن قائد الكلاعي (6) 438. عبد الوهاب بن مكي (6) 568 575- 612. عبد الوهاب بن ونداد (4) 600. عبد يا ليل بن جرهم (2) 34- 293. عبد يا ليل بن عمر بن عمير (2) 415 469. عبدان (4) 22. بني أبي عبدة (1) 351. عبده بن رياح العبادي (3) 139. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 عبده بن الزبير (3) 27. عبدة بن الطيب الشاعر (2) 376 532. أولاد عبدوس (6) 32. عبدوس الفهري (3) 319. عبدوس بن محمد بن خالد المروروذي (3) 304. ابن عبدون (4) 202. عبدون ملك بني إسرائيل (2) 232. عبدون بن الموفق (3) 364- 430. عبدون بن هلال من سبط أفرائيم (عكرون بن هليان) (2) 105. عبدون وزير يغمراسن (7) 109. ابن عبدويل (عبدريل) (7) 486. عبدويه بن جبلة (4) 381. الشاعر العبديّ بل (2) 532. العبرانيين (1) 44- (2) 9- 38 39- 93- (7) 719- 720. بني عبس (2) 214- 363- 397 463- 478- 490- 491 494- 556- (6) 3 169- 401 (7) 595- 621. عبس بن بغيض بن ريث (2) 362. عبس بن جابر (2) 363. أبو عبس بن جبر من بني حارثة (2) 431. بنو عبس بن رفاعة (2) 365. عبس بن غطفان (2) 405. أبي عبسة (3) 82. عبق بن عدنان (2) 355. عبكرة (2) 290. العبلات (2) 390. (الأسود العنسيّ) عبهلة بن كعب (ذو الخمار) (2) 482- 491 492- 493- (4) 268. عبو بن جانا (7) 156. عبو بن حسن بن عزيز (7) 218. عبو بن قاسم المرواني (7) 463. عبو بن قاسم المزوار (7) 333- 350. عبو بن أبي محمد بن أبي حفص (6) 339. عبو بن معروف (7) 218. عبو بن يوسف بن محمد (7) 201. عبوديا النبي (2) 117- 118. أبو عبيد الآجري (1) 393- (2) 169- 542. بني عبيد (2) 331- (6) 18. ابن عبيد (4) 655. بني عبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليم (2) 298- 332. عبيد بن أحمد (6) 99. عبيد بن ثعلبة الحنفي (2) 28. عبيد بن الحسن (3) 260. عبيد بن الحليس (3) 197. عبيد بن زيد (2) 342. عبيد بن شرية الجرهميّ (2) 58. عبيد بن عبد الرحمن بن عبد الله (2) 365. عبيد بن كعب الفهري (3) 55- 56. عبيد ابن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم (5) 546. أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير (2) 368- 520. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 عبيد بن نعيم (2) 23. أبو عبيد الثقفي (2) 520- 521 522- 523. أبي عبيداض بن ناصر الدولة بن حمدان (4) 349. بني عبيد الله من بطون خميس (6) 61 62- 75- 174- (7) 76 113- 177. عبيد الله أخو المعتز (3) 369. عبيد الله بن أسد الجهنيّ (3) 33. عبيد الله بن أبي بكرة (3) 59- 181. عبيد الله بن بكلين بن باديس (6) 249. عبيد الله بن البلنسي (4) 162. عبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني (6) 242. عبيد الله بن جحش بن رئاب (2) 380 406. عبيد الله بن جرمون (6) 38. عبيد الله بن جعفر (1) 540. عبيد الله بن الحبحاب مولى بني سلول (3) 176- (4) 149- 238- (6) 156. عبيد الله بن حبيب الهجريّ (3) 113. عبيد الله بن الحر الجعفي (3) 186. أبو عبيد الله بن أبي الحسن (6) 389. عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري (3) 254- 261- 266. عبيد الله بن حميد الطوسي (أبو الأحوص) (3) 378. عبيد الله بن خاقان (3) 349- 380. عبيد الله بن زهير السلمي (3) 38. عبيد الله بن زياد ابن أبيه (2) 616 (3) 18- 19- 22- 25 28- 29- 30- 32- 33 38- 170- 171- 181 (4) 2- 3- 540- 541 186- 187- 216- (5) 120- 121. عبيد الله بن زياد بن ضبيان (3) 45. عبيد الله بن سحير (6) 79. (أبو يحيى) عبيد الله بن سريج (7) 597. عبيد الله بن سليمان بن وهب (3) 431 435- 441. عبيد الله بن سميع التميمي (3) 66. عبيد الله بن صغير (6) 84. عبيد الله بن عباس الكندي (2) 604 605- 647- 649- (3) 124- (4) 268. عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة (3) 63- 64. عبيد الله ابن عبد الله (2) 446. عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (3) 398 427- 429- 431- (4) 422- 424. عبيد الله بن عبد الملك (3) 89. عبيد الله بن أبي عبيد الله [مولى مسلم] (3) 80. عبيد الله بن عثمان (4) 156. عبيد الله بن علي بن أبي طالب (3) 40 41. عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم (3) 185- 210. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 عبيد الله بن عمر بن الخطاب (2) 387 570- 629. عبيد الله بن عمرو (2) 577. عبيد الله بن الكوّاء اليشكري (2) 634 635. عبيد الله ابن بنت أبي ليلى (3) 253. عبيد الله بن الماخور (الماحوز) (3) 183. (أبو الحسن) عبيد الله بن محمد بن حمدويه (4) 601. عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحيّ (3) 241. عبيد الله بن مروان (3) 165. عبيد الله بن مسلم الحنفي (3) 138. عبيد الله بن المسيب (4) 380. عبيد الله بن معمر (2) 565- 577. عبيد الله بن الوضاح (3) 299- 300. عبيد الله بن يحيى (7) 44- 684. عبيد الله بن يحيى بن خاقان (3) 348 350- 423. عبيد الله بن يحيى بن وهب (4) 386. عبيد الله بن يزيد (3) 44. عبيد الله بن يوسف (7) 64. (جلال الدين أبو المظفر) عبيد الله بن يونس (3) 653- (5) 100. عبيد الله المهدي (الشيعي) بن محمد الحبيب بن جعفر المصدق (1) 252- 283- 416- (3) 351- 352- 449- 450 451- 452- 453- 454 455- 457- 459- 463 472- 479- (4) 212 18- 37- 41- 44- 45 46- 47- 48- 49- 89 104- 107- 108- 111 112- 113- 117- 125 126- 145- 178- 258 261- 262- 380- 401 402- (6) 17- 149 171- 173- 176- 177 178- 191- 285- 289 (7) 18- 34- 721. عبيد الله العسكري (3) 183. أبو عبيد الله المولى (7) 161. عبيد الله الهجستاني (4) 437. عبيدة بن الحرث بن المطلب (2) 425 429- 430- 602. أبو عبيدة بن راشد بن سلمة (2) 618. عبيدة بن زهير العمري (3) 365 366. عبيدة بن سعيد بن العاص (2) 429. عبيدة بن سوار الثعلبي (3) 143 207. عبيدة بن عبد الرحمن بن الأغر السلمي (3) 175- 176- (4) 149 238. أبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح (2) 266- 267- 271- 309 (4) 201- (5) 425- (7) 18. عبيدة بن غمير (4) 158. عبيدة بن قيس العقيلي (6) 124. أبو عبيدة بن المثنى (2) 406. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 أبو عبيدة بن مسعود الثقفي (1) 341. عبيدة بن هبيل (2) 296. عبيدة بن هلال (3) 181- 183 202- 203. أبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك (3) 166. العبديدية (2) 20. العبيديين (بنو عبيد الله المهدي بن محمد) (1) 30- 166- 197 204- 205- 218- 224 227- 235- 260- 277 281- 284- 285- 299 314- 315- 320- 321 324- 328- 361- 374 416- 430- 443- 567 570- (2) 292- 304- (3) 214- (4) 8- 12- 13 34- 37- 72- 76 104- 126- 127- 129 131- 137- 142- 145 189- 267- 269- 270 274- 275- 323- 347 627- 628- (5) 44 47- 210- 462- 463 500- (6) 5- 9- 104 137- 151- 191- 203 204- 211- 213- 227 228- 229- 235- 285 337- 383- 606- (7) 13- 357- 361- 721 723. عبيل (2) 22- 24. عبيل بن أرم (2) 9. عبيل بن عوص (2) 9. عبيل بن مهلايل بن عوص بن عمليق (2) 30. عتاب بن أسيد بن أبي العاص (العيص) (2) 390- 463- 466 491- 492- 493- 513. عتاب بن بشر (1) 395. عتاب بن عتاب (3) 359- 379. عتاب بن علقمة اللخمي (4) 152 154. عتاب بن ورقاء الرياحي (2) 377- (3) 44- 57- 58- 59 171- 186- 190- 196 197. العتابي (1) 796- 801. عتبان بن مالك بن كعب (2) 367. عتبة (2) 369- (4) 7. عتبة بن الأخنس (3) 15. (أبو بصير) عتبة بن أسيد بن جارية [الثقفي] (2) 449. عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (2) 390 409- 412- 413- 415 421- 428- 454. عتبة بن أبي سفيان (2) 621- (3) 6- (4) 378. عتبة ابن الحاج السلولي (4) 149. عتبة بن سهيل بن عمرو (2) 554. عتبة بن عبد الله بن مسعود (2) 380. عتبة بن عبيد الله بن يزيد (2) 380. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 عتبة بن غزوان بن جابر (2) 365 420- 425- 426- 429 508- 540- 549- 550 551. عتبة بن غزوان بن مازن (2) 425. عتبة بن فرقد (2) 545- 559 561- 571. عتبة بن أبي لهب (2) 391. عتبة بن مالك بن رياح (6) 187. عتبة بن مسعود (2) 380. عتبة بن أبي وقاص (2) 435. العتبي مؤرخ دولة ابن سبكتكين (4) 13- 137- 602. عتروزة من لواته (6) 119. العتقيّ (2) 298. ابن عتوا (7) 63. عتّون من ملوك افريقية (2) 234. عتيبة بن النهّاس (2) 524- 591 602. بنو العتيك (2) 302. بني عثمان (2) 20- (4) 311 (5) 635- (7) 183. الشيخ عثمان فقيه غانية (6) 266 267. ابن عثمان سلطان التركمان (1) 86- (2) 275- (3) 189- 215- (7) 738. ابن أبي عثمان (6) 353. السلطان أبو عثمان (6) 65. مظفر الدين عثمان (5) 448. (أبو عمرو) عثمان بن أحمد القيجاطي (7) 686. عثمان بن أحمد بن محمد بن يوسف المعافري القرطبي (7) 686. أبو دبوس عثمان بن إدريس (6) 112 (7) 363- 369. عثمان بن إسحاق بن محمد بن الأشعث (3) 99. عثمان بن يزول (7) 278. عثمان بن بشير بن يزيد (2) 377. (القاضي) عثمان بن أبي بكر بن عبد العزيز (4) 204- 205. عثمان بن أبي تاشفين (7) 147- 340. (أبو سعيد) عثمان بن جرار عثمان بن يحيى بن جرار. عثمان بن جلال (6) 79. عثمان بن جمال الملك (5) 15. عثمان بن حنيف (2) 538- 604 606- 608- 609- 610 611- 612. عثمان بن الحويرث بن أسد (2) 389 406. عثمان بن حيان (3) 82- 86- 174. (أبو بكر) عثمان بن خالد بن عثمان (2) 293. عثمان بن خالد الجهنيّ (3) 34. عثمان بن خالد الطويل (1) 603. عثمان بن خضير (3) 244. (سابق الدين) عثمان ابن الداية (5) 366- 385- 410. عثمان ابن السلطان أبي دبوس (6) 100- 451- 452- 460. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 عثمان بن ربيعة بن أهبان من بني جمح (2) 454. عز الدولة عثمان بن الزنجيلي (5) 337 346- 347. عثمان بن سباع بن شبل (6) 46 458- 589. عثمان بن سباع بن يحيى بن دريد (7) 296. عثمان بن سباع بن يحيى بن سباع (6) 477- 499- (7) 136 162. عثمان بن السعدي (3) 74. عثمان بن سعيد بن داود (6) 69. عثمان بن سعيد بن شرحيل الكندي (3) 192. عثمان بن سفيان (3) 158- 163. عثمان بن شبل بن عثمان بن سباع بن يحيى (6) 474. (الملك العزيز) عثمان بن صلاح الدين (5) 256- 356- 384- 385 386- 387- 388- 389 390- 398- 431. عثمان بن طلحة بن عبد العزى (2) 389 455- 461. عثمان بن أبي العاص (2) 470 491- 492- 493- 547 553- 565- 577- (3) 62. عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب (2) 387. عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي (3) 219. عثمان بن عبد الحق (أبو سعيد) (6) 397- (7) 223- 224 225- 490- 491. أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يغمراسن (6) 41- 62- 69- 71 151- 272- 497- (7) 66- 98- 118- 145 152- 153- 154- 157 160- 161- 175- 213 216- 240- 256- 318 319- 320- 321- 325 327- 329- 332- 333 336- 341- 348- 349 368- 370- 371- 376 380- 381- 392- 396 397- 417- 465- 488 491- 494- 495- 496 528- 529- 532- 536 707- 711. عثمان بن عبد شمس (2) 429. بنو أبي عثمان بن عبد الله (2) 390. عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام (3) 26. عثمان بن عبد الله بن ربيعة (2) 367 464. عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير (3) 101- 112- 114- 118. عثمان بن عبد الله بن المغيرة (2) 426. عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن مخرمة (3) 239. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر (3) 162- 251. عثمان بن عطية (7) 211. عثمان بن عفان (1) 255- 256 259- 261- 267- 268 269- 295- 326- 439 614- 836- (2) 74 181- 273- 297- 347 370- 376- 386- 390 410- 411- 412- 415 420- 423- 431- 436 440- 447- 460- 467 514- 517- 525- 556 561- 562- 564- 565 568- 570- 571- 572 573- 574- 576- 577 578- 580- 581- 582 583- 585- 586- 587 588- 589- 590- 591 592- 593- 594- 595 596- 597- 598- 599 600- 601- 603- 604 605- 606- 607- 608 609- 611- 612- 613 615- 616- 617- 622 623- 624- 625- 626 627- 628- 631- 632 636- 639- 642- 643 651- (3) 4- 5- 13 14- 19- 51- 53- 54 133- 182- (4) 6- 233- 278- 377- 378 (5) 462- (6) 136- 141 202- (7) 33- 36 109- 148- 285. عثمان بن أبي عقبة الأنصاري (2) 436. عثمان بن أبي العلاء (بن العلاء) بن عبد الله بن عبد الحق (7) 300 302- 309- 310- 311 312- 313- 315- 316 318- 329- 330- 348 487- 489- 492- 494 495. عثمان بن العلي (4) 219- 220. عثمان بن عمارة (3) 277. عثمان بن عمر (6) 62. (جمال الدين المصري) عثمان بن عمر بن يونس (ابن الحاجب) (7) 510. عثمان بن عيسى اليرنياني (7) 317. أبو القاسم عثمان بن أبي القاسم بن مكي (6) 607. عثمان بن قطن (3) 55- 193 195- 196. عثمان بن كرمان (3) 155. عثمان بن مالك من بني سالم (2) 423. عثمان بن محمد (7) 487. عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير (3) 239- 242- 244. عثمان بن محمد بن عبد الحق (7) 268. (أبو سعيد) عثمان بن محمد بن عثمان (6) 46- 79. (أبو سعيد) عثمان بن محمد الهنتاني (العود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 الرطب) (6) 431. عثمان بن مزينة (2) 378. عثمان بن مسعود (3) 72. عثمان بن مظعون (2) 387- 415. عثمان بن أبي المعلى (العلى) (4) 219. عثمان بن المفضل بن المهلب (3) 100. عثمان بن موسى الجلولي (7) 158. عثمان بن ناصر (6) 590. عثمان بن أبي نسفة الخثعميّ (3) 175 176- (4) 149. عثمان بن نصر (4) 176- (6) 49. عثمان بن نعيم البرجمي (3) 302. عثمان بن نهيك (3) 220- 221 231- 233- 234. عثمان بن الوليد (3) 89- 129 140- 141. عثمان بن ونزمار (7) 398. عثمان بن الياسمين (7) 419. عثمان بن يحيى بن محمد بن جرار (7) 152- 154- 367- 368 370- 371- 442- 443 528. (أبو سعيد) عثمان بن يعقوب (7) 324. عثمان بن أبي يعقوب (7) 318- 319. عثمان بن يغمراسن (6) 69- 70 441- 448- 449- 450 458- 459- (7) 89 115- 116- 117- 120 121- 122- 123- 124 125- 126- 127- 129 130- 132- 138- 139- 140- 149- 150- 151 200- 209- 210- 215 218- 281- 282- 283 288- 289- 290- 291 294- 295- 297- 309 310. عثمان بن يوسف بن سليمان بن علي (6) 542- (7) 99- 173 174- 210- 394- 577 578. عثمان نائب نظام الملك (3) 593. عثمان جق (5) 15- 636. عثمان جمال (3) 591. عثمان العبودي (3) 479- 483. عثمان قراجا (5) 537. عثمان كزل أرسلان (3) 644- 645 653. عثمان النجافي (7) 663. أبي عثمان الهندي (3) 28. العثمانيين (3) 228. ميثنئال بن قناز بن يوفنا (2) 103 193. عجرامة من هسكورة (6) 271. بني عجل (2) 319- 509- (3) 201- (6) 3. بنو عجل بن لجيم بن صعب (2) 359. بنو عجلان- عجلان (5) 572- (6) 162. عجلان بن أبان (3) 397. عجلان بن رميثة (4) 135- (5) 496- 515- 517. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 بنو العجلان بن عبد الله بن كعب (2) 371. العجليّ (1) 390- 396. بني العجليّ (3) 127- (4) 138. العجم (1) 9- 10- 21- 28 32- 33- 38- 42- 44 151- 162- 163- 168 186- 190- 194- 195 230- 235- 243- 259 260- 295- 297- 308 313- 362- 369- 405 419- 426- 429- 432 446- 475- 476- 506 567- 590- 804- (2) 4- 5- 7- 18- 19 20- 61- 76- 187 214- 287- 314- 318 319- 322- 405- 406 449- 511- 512- 513 525- 540- 553- 570 579- 590- 644- (3) 58- 71- 72- 78- 87 92- 93- 109- 154 214- 247- 301- 302 336- 599- 638- 643 658- (4) 5- 6- 34 82- 102- 118- 148 222- 226- 231- 269 336- 377- 407- 432 440- 470- 566- 658 (5) 32- 83- 636- (6) 2- 5- 9- 28- 127 144- (7) 148- 360 410- 622- 649- 718 733- 742. عجم بن قنص (2) 313. عجيسة من البرانس (6) 117- 192 230- (7) 21. عجيسة بن دوناس (7) 47- 48. عجيف مولى المأمون (2) 272. ابن عجيف (4) 396- 397. عجيف بن عنبسة (3) 287- 319 320- 321- 328- 330 331- 342. عدل مولى يحكم (4) 294. عدنان- بني عدنان (2) 4- 5 18- 19- 44- 52 189- 284- 286- 287 288- 289- 290- 295 354- 355- 356- 362 391. عدنان بن أدد (2) 288- 354. عدنان بن أدد بن اليسع بن الهميسع (2) 354. عدنان بن أدد بن يشجب بن أيوب (2) 354. أبو عدنان بن حسنويه مؤيد الدولة (4) 685- 686. عدنان بن الشريف الرضي نقيب العلويين (3) 568- 569. عدوان (2) 368- 402. عدوان بن عبد العزيز بن زروق (6) 198. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 بنو عدوان بن عبد المسيح بن كلب (2) 320. بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان (2) 362- (6) 22. عدوان بن المهدي (6) 471. عدوي بن يكنيجن بن القاسم (7) 205. بني العدوية بن حنظلة (2) 550. ابن عدي بنو عدي (1) 393 396- 400- 415- (2) 58- 296- 306- 317 400- 413- 420- 426 428- 430- 459- 465 (4) 77- (6) 18- 20 22- 231- 585- (7) 58. عدي بن ارطأة الفزاري (3) 94- 97 98- 99- 174. عدي بن أسامة بن غانم بن تغلب (2) 359. عدي بن أوس بن مرسي (2) 317. عدي بن حاتم من طي (2) 471 472- 478- 482- 497 508- 614- 615- 618 627- 628- 629- 639 640- (3) 5- 14- 16 34. عدي بن حارثة بن عمرو (2) 332. بني عدي بن حنيفة (2) 359. عدي بن الخيار من بني نوفل (2) 429. عدي بن أبي الزغباء الجهنيّ (2) 427 428. عدي بن زياد الأيادي (3) 301. عدي بن زيد العبادي (2) 202 213- 316- 317- 318 322- 323. بني عدي (سعيد) بن زيد بن عمرو (2) 411. عدي بن سهيل (2) 527. عدي بن عبد مناة بن اد بن طابخة (2) 378- 379. عدي بن عدي العبادي (2) 320. عدي بن عدي الكندي (3) 190. عدي بن عمرو (2) 343- 374. عدي بن قطيعة (2) 363. عدي بن كعب بن لؤيّ (2) 386 387- 399. بنو عدي بن النجار (2) 343- 344 408- 422. عدي بن نصر بن ربيعة (2) 310. عدي بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي (7) 157- 212- 213. عدي بن هنّو الهسكوري (7) 319. عدي الرباب (2) 578. ابن العديم (4) 140. عديم بن البودشير (2) 85. بنو عذرة عذرة (2) 286- 295 296- 397- 398- 514 526. عرابة بن أوس (2) 434. عرازول (غرزول) (7) 7. العرب (1) 9- 10- 32- 38 39- 40- 41- 42- 44 63- 77- 106- 107- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 110- 112- 135- 151 152- 158- 161- 162 163- 165- 168- 172 173- 181- 182- 183 185- 186- 187- 188 189- 190- 194- 195 196- 197- 198- 203 204- 207- 213- 216 218- 219- 230- 244 245- 255- 256- 258 260- 268- 278- 284 295- 303- 308- 313 319- 330- 331- 333 335- 337- 360- 361 364- 365- 369- 389 410- 411- 412- 418 419- 431- 432- 434 443- 445- 446- 447 448- 462- 463- 470 471- 475- 476- 506 507- 524- 526- 527 538- 540- 554- 555 563- 575- 601- 604 651- 717- 730- 740 742- 748- 749- 751 752- 753- 754- 755 756- 757- 758- 760 763- 764- 765- 766 769- 770- 771- 772 773- 780- 784- 785 787- 788- 795- 796- 797- 798- 799- 803 804- 805- 806- 808 831- (2) 3- 4- 5- 7 8- 9- 16- 17- 18 19- 20- 21- 22- 23 26- 27- 32- 34- 36 37- 44- 45- 47- 48 50- 52- 53- 59- 61 63- 64- 68- 71- 73 74- 75- 76- 85 100- 120- 123- 145 146- 152- 154- 163 173- 183- 189- 190 197- 201- 202- 203 204- 205- 207- 210 213- 214- 216- 222 251- 255- 260- 267 268- 269- 276- 278 283- 284- 285- 286 287- 288- 289- 290 292- 295- 298- 303 304- 305- 306- 308 309- 310- 311- 312 313- 314- 315- 316 317- 318- 319- 320 322- 323- 325- 326 327- 329- 331- 332 333- 334- 340- 344 345- 350- 351- 355 356- 362- 367- 368 369- 370- 371- 374 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 393- 398- 400- 401 404- 405- 406- 407 416- 428- 431- 442 449- 453- 456- 469 470- 476- 484- 489 490- 508- 509- 511 512- 514- 515- 521 523- 525- 526- 527 528- 530- 531- 538 540- 542- 545- 546 549- 553- 557- 563 568- 579- 581- 584 585- 586- 589- 590 600- 604- 612- 622 625- 630- 636- 639 (3) 40- 51- 71- 72 84- 85- 101- 117 119- 121- 132- 149 153- 200- 214- 217 247- 302- 336- 352 361- 377- 390- 426 435- 450- 484- 534 538- 551- 552- 555 559- 560- 568- 571 573- 575- 582- 587 594- 603- 612- 621 654- 663- 664- (4) 8- 15- 17- 18- 22 60- 61- 62- 63- 65 66- 71- 74- 75- 76 77- 80- 83- 108- 114- 115- 128- 129 130- 138- 146- 147 148- 153- 155- 168 186- 192- 197- 204 211- 212- 216- 229 232- 233- 236- 239 241- 247- 262- 267 271- 274- 278- 284 286- 287- 290- 301 306- 309- 318- 320 321- 324- 325- 328 330- 331- 332- 335 336- 338- 340- 342 343- 344- 347- 348 349- 350- 353- 355 358- 365- 366- 377 387- 407- 410- 414 417- 440- 470- 478 480- 511- 549- 606 607- 621- 630- 641 650- 686- 687- (5) 5- 6- 8- 10- 18 36- 40- 54- 58 145- 170- 180- 188 196- 216- 230- 232 233- 234- 235- 236 237- 238- 239- 263 334- 336- 339- 372 388- 389- 402- 403 416- 424- 427- 428 433- 434- 437- 438- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 440- 441- 442- 447 449- 451- 458- 461 465- 466- 483- 486 488- 490- 491- 493 497- 499- 500- 502 511- 514- 519- 523 524- 526- 532- 534 535- 540- 545- 546 547- 551- 555- 563 564- 567- 568- 571 573- 575- 580- 582 584- 585- 622- 625 628- 635- 636- (6) 2- 3- 4- 5- 6- 7 8- 9- 11- 12- 14 15- 16- 18- 19- 20 21- 25- 26- 27- 28 35- 44- 45- 47- 48 49- 53- 54- 55- 58 63- 64- 70- 72- 73 75- 77- 78- 79- 81 85- 87- 91- 92- 94 95- 96- 100- 102 103- 104- 105- 108 112- 114- 116- 117 125- 127- 128- 131 134- 135- 136- 140 141- 142- 144- 145 146- 149- 150- 151 152- 155- 156- 157 158- 164- 167- 169- 172- 182- 186- 187 192- 193- 194- 195 197- 201- 211- 212 213- 215- 217- 218 219- 220- 221- 222 224- 225- 226- 227 229- 230- 231- 232 234- 235- 238- 243 254- 255- 256- 257 260- 261- 262- 263 264- 265- 267- 273 277- 280- 282- 283 310- 313- 314- 315 316- 317- 318- 320 321- 322- 323- 324 325- 329- 340- 341 344- 346- 348- 349 354- 369- 372- 374 375- 376- 378- 382 383- 384- 391- 403 416- 422- 428- 429 442- 445- 446- 448 452- 453- 460- 470 474- 476- 479- 480 481- 483- 486- 488 489- 490- 492- 495 506- 509- 510- 518 519- 521- 523- 525 526- 528- 531- 534 537- 539- 540- 543 547- 550- 551- 552- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 553- 554- 558- 562 564- 566- 567- 568 572- 573- 574- 576 577- 580- 586- 588 589- 590- 591- 592 594- 595- 598- 601 604- 606- 607- 611 612- 614- 616- 617 (7) 2- 4- 5- 6- 9- 10 12- 13- 14- 15- 25 32- 33- 58- 62- 63 64- 70- 74- 76- 80 82- 87- 88- 93 104- 106- 113- 114 129- 136- 137- 138 141- 144- 150- 152 155- 156- 157- 158 159- 160- 162- 163 165- 168- 169- 171 172- 173- 174- 176 177- 178- 182- 183 184- 185- 186- 187 188- 190- 192- 193 195- 196- 197- 202 213- 215- 216- 219 225- 232- 237- 243 248- 249- 250- 253 266- 269- 271- 272 274- 304- 319- 321 357- 360- 361- 363 364- 368- 373- 376- 378- 380- 384- 385 389- 391- 393- 399 400- 410- 422- 423 435- 436- 437- 439 450- 455- 460- 461 463- 466- 471- 474 476- 477- 480- 482 489- 502- 509- 514 531- 557- 559- 560 561- 574- 578- 580 581- 589- 598- 599 601- 602- 603- 611 619- 622- 624- 631 636- 637- 638- 642 647- 649- 716- 717 719- 720- 721- 722 723- 726- 732- 733 742. عرب أبين (2) 54. ابن العربيّ الحاتمي (1) 403- 404 405- 423- 619- 664. عربيط (2) 248. عرة بن حناش (6) 378- 383. العرجاء بنت زحيك (6) 182. عردابين (6) 162. بني بو عروان (بو غروان) (6) 169. عرديانوس قيصر (2) 246. ابن عرس (4) 590. عرسة بنت موسي بن رحو (7) 279. عرفان (2) 12. عرفجة البارقي (2) 506- 507. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 عرفجة بن هرثمة (1) 36- 163 313- (2) 495- 501 540- 545- 549- 551. عرق بن عدنان (2) 355. عرقويه (قرعويه) مولى سيف الدولة (4) 306- 307- 309- 310 311- 312- 314. عرم بن زيري (6) 238. عرنبوس قائد الفرس (2) 147. عروبة بن يوسف الكتامي (6) 137 160- (7) 34. عروبة بن يوسف الملوشي (3) 454- (4) 40- 42- 43- 45 260- 261. عروة من زغبة (6) 55- (7) 63. عروة بن أدينة بن يحيي الشاعر (2) 381- (3) 181. عروة بن أنيف (3) 48. عروة بن البياع (2) 598. عروة بن جرير بن عامر (2) 377. عروة بن الجعد (2) 589. عروة بن حزام (2) 296. عروة بن زبير (3) 51. عروة بن زغبة (6) 75. عروة بن زيد الخيل (2) 522. بني عروة بن سعد بن زيد (2) 397. عروة بن قيس (3) 27. عروة بن محمد (5) 478. عروة بن مسعود بن معتب (2) 367 465- 469- 470. عروة بن المغيرة بن شعبة (3) 54- 193- 198- 200. عروة بن الوليد الصغري (4) 240. عروة الرحال بن عتبة (2) 382. عروس بن هندي (سندي) رئيس بسكرة (6) 231- (7) 58. العريان بن الهيثم (3) 99- 120. عريب بن حميد (6) 138- 172. عريب بن زيد بن كهلان (2) 300 303. عريب بن عبد كلال بن عريب (2) 291. عريب وائل بن حمير بن سبإ (2) 290. بنو عريج بن بكر بن عبد مناف (2) 381. ابن العريض (5) 214. بني عريف (6) 151- (7) 183. عريف بن سعيد (6) 70. عريف بن يحيي (أمير سويد من زغبة) (6) 62- 63- 64- 65 69- 70- 522- (7) 131- 156- 160- 162 168- 173- 174- 175 177- 179- 181- 216 339- 343- 349- 350 352- 356- 368- 373 377- 707. عرينة (2) 608. بني العز (6) 501. عز الدولة بن البرسقي (4) 367. عز الدولة بن بويه (3) 528- (4) 62- 457. عز الدولة بن صدقه (5) 28. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 عز الدولة بن معز الدولة (4) 675. عز الدولة الباروقي (5) 331- 332. عز الدين أتابك صاحب الموصل (5) 350- 352- 407. عز الدين بن البرسقي (5) 255. عز الدين بن عبد السلام الشافعيّ (1) 567- (5) 514. عز الدين بن نجاح الشرابي (3) 657. عز الدين الخلخالي (5) 158. (أبو بكر) عز الدين الديسي (5) 282. عز الدين الرومي (5) 436. عز الدين الصميري (5) 434- 435. عز الدين القزويني (5) 149. عز الدين الكوراني (5) 461. عز الدين المجلي (بن المجلي) (5) 411 414. عز الدين المنصور (5) 460. الأمير عز علي (غزغلي) (3) 604 615- 652- (5) 38 45- 46- 57- 58- 189. عز الملك الأغر (5) 224- 229- (6) 233. عز الملك (أبو عبد الله منصور) بن الحسين بن نظام الملك (3) 593- 596 (4) 85- (5) 17- 20 27- 75. عز الملوك بن أبي كاليجار (4) 643. عزاريا بن فرعون الأعرج (2) 123. بني عزاز (2) 367- (6) 95. عزار الصالحي (5) 619. عزانه (6) 162. العزة من هيث (6) 113- 114. عزّة حبيبة كثير (1) 801. عزرا الامام (1) 290- (2) 174. عزرا الكاهن (2) 136. عزرول (7) 70. بني عزريا الكوهن (2) 129. بني العزفي العزفيين (4) 218- (6) 348- 501- (7) 302 325- 327- 521- 547. سيف الدين عزلو (5) 469- 470. أبو فارس عزوز ابن السلطان (6) 504 518- 519- 571- 572 578- 579- 582. عزوز بن ببورك (6) 351. عزوز المكناسي الشاعر (7) 277. عزوزة بن ماصلت بن لدا (6) 153. ابن عزّون (7) 348. عزونة (6) 522. عزيا بن يورام (2) 167. عزياهو بن امصياهو (2) 119- 120 131- 232. العزير الكوهن (2) 135. العزير النبي 135- 136- 144 196. بني عزيز من توجين (2) 126- (7) 123- 211- 212- 218 371. العزيز (4) 63- 64- 65- 66 67- 68- 72- 103 107- 114- 127- 265 316- 318- 319- 322- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 (6) 17- 234- 235. (أبو منصور) العزيز بن جلال الدولة (4) 632- 633- 640- 641 644- 649. العزيز بن دامال (دافال) . عزيز بن السري (3) 392. العزيز بن صلاح الدين عثمان بن صلاح الدين. عزيز بن عبد الملك بن خطاب (ضياء الدولة) (4) 214. أبو عزيز بن عمير (2) 429. أبو عزيز بن قتادة (4) 131- 138. عزيز بن محمد (6) 34. العزيز بن محمد بن عبد الله البرزالي المستظهر. العزيز بن المعز لدين الله (6) 9. العزيز بن المغيث (5) 438- 442. العزيز بن منصور صاحب بجاية (6) 215- 217. العزيز بن منصور بن جهور (3) 134. العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد (العزيز المنصور- (6) 225 226- 302- (7) 74. العزيز بن الناصر (5) 438. عزيز بن يبروك (6) 274. عزيز بن يعقوب (7) 206- 209. عزيز بن يوسف بن سعد (4) 211 213. أبو سلطان عزيز الداني (7) 261 285- 300. العزيز العادل (3) 655. العزيز العبيدي بن كانون (4) 20. عزيز مصر (2) 45. عزيز الملك (4) 346- 347. العزيزية (5) 431- 432- 434 437- 438- 440- 443. العزيزيون بنو منديل (6) 198. ابن عساكر (2) 22- 129- 167 168. عساكر بن أحمد (6) 99. بني عساكر بن سلطان (6) 45. عساكر بن عبد الواد (6) 490. العسسة (5) 584. ابن العسقلاني (3) 632. أبو العسكر (4) 694. بني عسكر (6) 345- 521- (7) 89- 90- 226- 227 247- 278- 289- 290 293- 319- 339- 355 356- 389- 464- 516. عسكر بن بطنان (6) 152. عسكر بن سقمس بن قماز (5) 87. بني عسكر بن محمد بن ورزين (6) 49 (7) 220- 224- 317. عسكر زنجي (5) 67. العسيرة (4) 279. عش بن أبي العسكر (5) 73- 75. أبو العشائر بن أحمد بن طولون (4) 394. أبو العشائر بن أحمد بن نصر (3) 440. أبو العشائر بن منصور ابن السلطان أبي علي (7) 187- 188. عشقتمر المارداني (5) 518- 523- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 524- 526- 533- 535 . عشقتمر الناصري (5) 541- 542 544. عشقيم النصارى (5) 493. بني عشيرة (6) 236. عصا بن نمروذ (2) 125. ابن عصام (4) 212. بني عصام (6) 282. عصام الخولانيّ (4) 207. عصام صاحب الشرطة (3) 234. عصام بن ماجكس (6) 282. عصرما بن غومر (5) 210. بنو عصص (2) 341. عصفراصن من كلدام (6) 161. عصفور ملك اليمامة (2) 372. ابن عصفور (6) 260- 261- 333. بني عصفور (4) 116- (6) 15. ابن أبي العصفي (3) 192. عصمة (3) 323. عصمة بن أبير التميمي (2) 621. عصمة بن حماد بن سالم (3) 292. عصمة بن عبد الله الأسدي (3) 130 138- 148. عصمة بن عبد الله الضبي (2) 523 559. عصولة بن بكار (4) 72. بنو عصية بن خفاف بن امرئ القيس (2) 365- 366. السلطان أبو عصيدة المستنصر باللَّه. عصيم بن النعمان بن مالك (2) 327. عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه (2) 275- (3) 528- 529 531- 532- 533- 535 536- 537- 547- 585 (4) 58- 62- 64- 119 127- 314- 315- 316 317- 319- 407- 430 458- 460- 576- 577 581- 585- 586- 587 588- 589- 592- 593 594- 595- 596- 597 598- 599- 600- 601 603- 605- 622- 662 676- 685- 686. الشيخ عضد الدين (5) 629. عضد الدين (أبو الفرج) بن دبيس (3) 648- 651- 652. عطا (2) 42. عطا بن حافظ السلمي الخادم (5) 186- 285. عطا بن أبي السائب (3) 59. عطاء بن مقدم (3) 121. ابن عطاء الله (1) 57. عطارد بن حاجب بن زرارة (2) 378 470- 499- 527. بني عطارد بن عوف (2) 377. العطاف (6) 51- 75- 154 203- (7) 29- 156 175- 181- 183- 561. ابن العطاف (5) 101. عطاف بن رومي بن حارث (6) 59. عطاف بن زبيد (5) 346. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 العطاف بن سفيان الازدي (3) 276 (4) 263. العطريف بن عطاء الكندي (3) 274. ابن عطوش عامل أزمور (7) 233 237- 256. ابن عطية- عطية- بني عطية (1) 299- (3) 211- (4) 413 (5) 12- (6) 22- 33 63- 94- (7) 115- 177. الشيخ أبو محمد عطية (6) 305. عطية الأصم (7) 211. عطية بن الأسود الحنفي (3) 184. عطية بن الأسود ليشكري (3) 182. عطية بن أبي الحسن (6) 41. عطية بن دافاين (دافلتن) (6) 209 228- (7) 205. عطية بن دريد (6) 31. عطية بن زيد بن قيس بن عامر (2) 342. عطية بن سليمان بن سباع شيخ أولاد سباع بن يحيي (6) 51- 52- 69 449- 589- (7) 121. عطية بن صالح (4) 349- 350 351- 353. بني عطية بن عبد الله بن خزر (6) 206 (7) 59. عطية بن عمير العيرني (3) 61. عطية بن عيسى بن عبد القوي (6) 61. عطية بن محمد بن عطية (4) 138. عطية بن مناد بن العباس بن دافلتن (عطية الحيو) (7) 205- 206. عطية بن منيف (7) 88. عطية بن مهلهل بن يحيي (7) 350. عطية بن موسي مولى أبي حمو (7) 178- 219- 439- 446. عطية التغلبي (3) 208. عطية الخير شيخ بني توجين (7) 75. عطية الشريف (6) 229. ابن عطية النميري (4) 341. عطير (4) 410. ابن عطيف (3) 156. عطيفة (4) 134- 135. عطيفة بن أبي نمي (5) 477- 480 495- 496. ابن العفاش (4) 311. عفرا صاحبة عروة بن حزام (2) 296. عفرون بن صخر (2) 43. عفلون ملك بني يؤاب (2) 103. عفيرة بنت غفار بن جريس (الشموس) (2) 27. ابن العفيف (1) 619. عفيف الخادم (3) 620- 623- (4) 369- (5) 65- 263. عفيف بن المنذر (2) 505. ابن عقاب (1) 424. بنو عقبة (2) 306- 513- (5) 495- 555- (6) 7. عقبة بن جعفر (3) 284. عقبة بن الحجاج السلولي (6) 156. عقبة بن الحجاج القيسي (3) 176 177- (4) 149- 238 239. عقبة بن حديد النميري (2) 631. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 عقبة بن رباح بن أسعد بن ربيعة (2) 351. عقبة بن سالم الازدي (3) 236 237- 253. عقبة بن عامر (2) 596. عقبة بن عامر الجهنيّ (2) 290- (3) 11- (4) 378. عقبة بن عامر بن قيس (3) 12- 13. عقبة بن عامر بن نابي بن زيد (2) 345- 346- 416. عقبة بن عبد الأعلى (3) 175. عقبة بن أبي عقبة (2) 512. عقبة بن عمرو (2) 557- 602. عقبة بن المغافر الازدي (3) 62. عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هانئ الخزاعي (3) 364- (4) 287. عقبة بن مسلم (3) 260. عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو (2) 390- 411- 413- 430 632- (3) 4. عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو (2) 390- 411- 413- 430 632- (3) 4. عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري (2) 385- 573- 574- (3) 11- 169- 170- 171 (4) 234- 378- (6) 135 141- 142- 193- 194 300- (7) 11- 12- 79 101. عقبة بن هلال (2) 499- 500. عقبة السلامية (3) 136. بني عقفان (2) 500. العقلة (بنو عقيل بن عبيد) (6) 68. عقيب (3) 545. بنو عقيل- عقيل (2) 380- (3) 137- 352- 533- 538 546- 547- 559- 560 564- 571- 620- (4) 7- 79- 115- 316 317- 320- 321- 322 323- 327- 329- 330 331- 332- 333- 336 338- 340- 342- 344 347- 354- 355- 360 361- 369- 410- 413 606- 613- 621- 623 651- 687- 696- (5) 263- 496- (6) 15 40- 94. آل أبي العقيل (3) 86. عقيل بن الأسود (2) 429. عقيل بن شداد (3) 196. عقيل بن أبي طالب (1) 303 429- (3) 3- 30- 305. عقيل بن فارج بن مالك بن العنس (2) 310- (7) 619. بنو عقيل بن كعب (2) 371- 375 (3) 302- (4) 324- (6) 94. عقيل بن مرداس بن رياح (6) 48. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 العقيلي (1) 396- (3) 305. عك (2) 18- 356- 493. عك بن الديث (2) 356. عك بن عدنان بن عبد الله بن أدد (الربب) (2) 332- 355. بنو عكا من الأكراد (3) 659. بني عكابة بن صعب بن علي بن بكر (2) 359- 360. ابن عكاشة (4) 202. عكاشة بن أيوب (6) 145. عكاشة بن ثور بن أصغر الغوث (2) 481- 491- 493. عكاشة بن محصن بن حدثان (2) 380 420- 425- 445- 497. عكاشة الفزاري (6) 185. عكرمة (2) 42. عكرمة السراج (3) 125- 126. عكرمة بن عمار (1) 398- 600. عكرمة بن أبي جهل عمر (2) 388 425- 435- 442- 460 491- 494- 495- 501 504- 506- 507- 514 515- 516- (4) 268. عكرمة بن عيسى مولى العباس (6) 55 56- 62- 138- 172. عكرون بن هليان (2) 105. عكل (2) 381. العلاء مولى الرشيد (3) 289. بني أبي العلاء (4) 219- (7) 369 487. العلاء بن أحمد الازدي (3) 364- 425. أبو العلاء بن جامع (6) 332- 333. العلاء بن الحسن (4) 611- 616 618. أبو العلاء بن حسنويه (4) 685- 686. (أبو سعد) العلاء بن الحسين بن وهب بن موصلايا (3) 542- 543 589. العلاء بن الحضرميّ (2) 293- 449 476- 442- 495- 504 505- 506- 540- 548 549- 565- 576. العلاء بن سعيد بن مروان المهلبي (4) 246- (6) 148. أبو العلاء بن أبي طلحة بن أبي قريش (7) 265- 329. العلاء بن عبد الله بن عبدة (2) 293. أبو العلاء بن الفضل عبد الله بن الفضل) (3) 540- (4) 612- 615. العلاء بن عروة (2) 619. علاء بن محمد (7) 418. علاء بن مغيث اليحصبي (المطري) (4) 154. علاء الدولة (الدين) صاحب يزد (5) 153- 154. علاء الدولة بن كاكويه (كرسافا بن قرامرد بن كاكوية) (3) 558- 602 615- (4) 120- 330 491- 493- 495- 496 497- 498- 499- 622 627- 630- 635- 636- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 637- 645- 646- 690 691- 692- (5) 33. علاء الدين بن الحسين (3) 521 522. علاء الدين ابن الأمير (5) 132. علاء الدين بن رستم (5) 96. علاء الدين بن طالب (5) 374. علاء الدين بن أبي علي الغوري (5) 117- 118. علاء الدين بن فضل الله (5) 506. علاء الدين بن قراسنقر الاحمديلي (5) 103. علاء الدين بن القلانسي (5) 475. المظفر علاء الدين بن لؤلؤ (5) 423 438. علاء الدين تكش (4) 526- 529. علاء الدين تكين (4) 525. علاء الدين الدواداريّ (7) 738. الأفضل علاء الدين ملك الهند (5) 489- 491. علاء الدين (علاء الملك) ملك الإسماعيلية (5) 152- 158. علاء الدين صاحب قلعة الموت (5) 613- 614- 631. علاء الدين صاحب قيدر (5) 132. علاء الدين كاتب سر المكرم (5) 561. العلاق (العلان) (اللان) (2) 13- 366- (5) 427 430- (6) 96- 97 107- 446- 483. العلاقة (4) 69. ابن علال (6) 226- 227- 318. علال بن محمد بن المصمود (7) 363 379- 428- 430. ابن علان (7) 91- 134- 291 330. علان بن محمد (7) 342. ابن علانة الفقيه (3) 132. ابن علانة القاضي (3) 259- 261. علاوة بن سواق (6) 197- 198. العلاونة (6) 113. علباء بن الحرث الكاهلي (2) 327. علباء بن الهيثم (2) 615. علس بن زيد بن الحرث (ذو يزن) (2) 69- 70. علفا (2) 326. ابن علقمة (4) 155. علقمة بن حكيم الفراسي (2) 543 544. علقمة بن حكيم الكندي (2) 602. علقمة بن عبد الله (1) 395- 396. علقمة بن عبده (1) 798- 803. علقمة بن علاثة بن عوف (2) 479 497. علقمة بن عمر الازدي (3) 66. علقمة بن قيس (2) 589. علقمة بن مجزز (2) 543- 544 547. علقمة بن وائل (2) 294- (7) 503. علقمة ذو قيعان بن مرثد (2) 32. علقمة ذو قيفال بن شراحيل بن ذي يزن (2) 70. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 ابن العلقميّ (5) 613- 614. علم الدين الخوالي (5) 487. علم الدين سلحدار (5) 487. ابن علناس (6) 382. أم العلو بنت باديس (7) 57. علوان بن بر بن قيس (6) 125. علوان بن ثمال الخفاجي (4) 623. علوش بن كانون (6) 351. بني العلويّ (7) 721. العلويّ الادريسي (1) 68. العلوية (1) 365- (2) 20- (3) 234- 351- 381- 522 533- (4) 2- 3- 9 26- 407- 653- 657 658- (5) 11- 175 186- 188- 222- 229 238- 261- 284- 291 339. العلويين (1) 166- 374- 416 417- 418- 421- (3) 214- 372- 519- (4) 33- 199- 269- 358 361- 401- 437- 444 445- (5) 14- 26- 94 211- 250- 290- 295 327- 334- 335- 338 (7) 731. أبو العلي أخو المنصور (6) 337 338- 339. بني العلي (4) 220. بني علي (2) 42- 304- (3) 180- 215- 216- 351 (5) 499- 563- (6) 7 79- 96- 101- 107 109- 567- 606- 611 (7) 97- 99- 169 303- 342- 425. الأفضل علي (5) 440. الأمير علي (5) 36- 38- 633. الشيخ علي (5) 625- 626. علاء الدين علي (5) 466- 469. أبو الفتح علي (5) 457. المجاهد سيف الإسلام (والدين) علي (5) 579- 580- 581- 582. علي بن أبان المهلبي (3) 377- 378 382- 383- 384- 385 388- 392- 395- 397 398- 399- 400- 402 403- 405- 406- 409 (4) 22- 23- 24- 25 421- 422. علي بن إبراهيم بن عبو بن ماسي (7) 476. علي بن اجانا (6) 363. علي بن أحمد سيد الزواودة (6) 494 499- 547- (7) 243. علي بن أحمد بن بسطام (3) 479 528- 538- 541- 545. علي بن أحمد بن عبد العزيز (6) 218. علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود (6) 47- 52- 53- 65 589- 591. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 (أبو الحسن) علي بن أحمد بن مقاتل (4) 262- 293- 404- 584. علي بن أحمد بن نصر (4) 33. (أبو القاسم) علي بن أحمد الجرجرائي (4) 75- 615. أبو الحسن علي بن أحمد الكناني (7) 686. سيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري (5) 205- 309 355- 377- 379- 388. علي بن الإخشيد (4) 405- 406. علي بن إدريس بن عبد الحق (4) 19 (7) 460- 498. أبو علي بن اربل (4) 335. علي بن أرتق (5) 250. علي بن أرطاة (3) 94. أبو علي بن أبي جعفر استاذ هرمز (3) 547- (4) 614- 618 619- 620- 687. علي بن أبي إسحاق (4) 211. علي بن إسحاق بن محمد بن علي (6) 253- 326. أبو علي بن إسماعيل (4) 325- 619. السلطان المنصور علي ابن السلطان الأشرف (5) 527- 528- 531 533- 537- 538. أبو علي بن اشرفي (6) 337. علي بن اشقيلولة (4) 215- 216 217. أبو علي بن الأطروش (4) 444- 554. علي بن الاعرابي (3) 440. علي بن الأفطس (4) 10. أبو علي بن الياس (علي بن الياس) (3) 498- (4) 457- 458. علي بن أماجور (اناجور) (3) 396 (4) 386. علي بن أمية بن خلف (2) 429. علي بن الأمين (6) 463. علي بن انوشتكين (3) 604- 605. علي بن أويس (5) 625. علي بن أياز (4) 418. (المنصور) علي ابن المعز أيبك (5) 421 435- 437- 438- 472. أبو علي بن باديس خطيب قسنطينة (1) 422- (7) 731. علي بن بدر (بدر الدين) (6) 348 349- 350- 353- 357 367- 638- (7) 443 498- 499- 500- 571. (المظفر) علاء الدين علي بن بدر الدين (5) 325. علي بن بدر الدين بن محمد بن رحو (4) 221. علي بن بشير بن يزيد (2) 377. علي بن بليق (3) 486- 487 488- 489- 490. (عماد الدولة أبو الحسن علي بن أبي شجاع بويه بن ركن الدولة (3) 485 490- 491- 492- 495 496- 498- 499- 500 502- 503- 507- 521 525- (4) 299- 452- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 456- 463- 560- 562 563- 566- 567- 568 569- 571- 572- 574 575- 576- 577 . علي بن تاكررت (7) 139. أبو علي بن أبي تمام (3) 569. علي بن ثابت بن حسن (6) 199- (7) 89. علي بن ثابت بن محمد (7) 303. أبو علي بن ثمال الخفاجي (4) 327 346. علي بن جابر بن فتاح بن مساعد بن ثابت (6) 31. أبو علي بن جامع (6) 319. علي بن جانا (7) 156. علي بن جرجي (مجلي بن مرجا) (3) 571. أبو القاسم علي بن جعفر (3) 513 514- (4) 667- 677. (المرجي) علي بن جعفر بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر (3) 243. علي بن جعفر (حفص) بن عسكوجه (عسلوجة) (4) 39- 42. علي بن جعفر بن فلاح (4) 68- 70. (أبو القاسم) علي بن جهير (3) 606 608- (5) 41. علي بن حبيب العبديّ (3) 101. علي بن حسان الصبيحي (7) 90- 458. (أبو الحسن) علي بن الحسن (7) 664. أبو القاسم علي بن الحسن (4) 265. علي بن الحسن بن بدر (6) 91- 92 368. علي بن الحسن بن جعفر بن موسي الكاظم (3) 429- (4) 12. علي بن الحسن بن زيد (3) 243. علي بن الحسن بن شبل (4) 416. علي بن الحسن بن أبي الطلاق (7) 293. علي بن حسن بن يعقوب (7) 209 211. علي بن الحسن الطغرائي (5) 22. علي بن الحسن الهمدانيّ (3) 236 238- 302- 313. علي بن حسون بن أبي علي النباطي (7) 632. (أبو القاسم) علي بن الحسين (3) 632. (أبو الحسن) علي بن الحسين المغربي (4) 6- 319- 416. علي بن الحسين بن شبل (3) 367 368. علي بن الحسين بن علي بن عبد الله (2) 380. علي بن الحسين بن مقبل (3) 34 314- 385. (مؤيد الدولة أبو القاسم) علي بن ناصر الدولة الحسين بن مكرم علي بن ناصر الدولة. علي بن الحسين بن محمد بن موسي بن إبراهيم (4) 145. علي بن الحسين المروروذي (4) 423. (أبو حفص) علي بن حقنه (3) 121. (حسام الدين) علي بن حماد نائب خلاط (5) 152- 153- 155 160- 161- 164- 197. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 علي بن حمدان (3) 500. علي بن حمدون (6) 234- 235. علي بن حمدون الاندلسي صاحب المسيلة (4) 48- 51- (7) 20. علي بن حمدون بن سماك (4) 104 105. علي بن حمزة الأصبهاني (2) 181. علي بن حمزه بن محمد بن إبراهيم (6) 501. علي بن حمود (4) 192. علي بن حمود بن ميمون (6) 295. (الوزير) أبو علي بن خديم (7) 45 46. علي بن خراسان (6) 215. علي بن خرشيد (3) 475- 476- (4) 32. علي بن خرشية (خرشيد) (4) 554. أبو علي بن خلاص البلنسي (6) 345 346- 394- 395- 401 465- (7) 245- 252 484. علي بن الخلف (6) 599- 600- (7) 392. علي بن خلف بن طيان (طياب) (3) 485- 497- 503- 513 (4) 293- 294. علي بن داود الازدي (4) 288. علي بن داود الكردي (3) 410 421- 432. (المجاهد) علي بن داود المؤيد (5) 512 513. شمس الدين علي بن الداية (5) 299 300- 301- 339. علي بن دبيس (3) 636- 637- (4) 374- 375- 376- (5) 81- 82. علي بن دنقش (3) 536. علي بن دواس (4) 75. علي بن الدوادار (5) 580. علي بن ذكرويه (4) 109. علي بن راشد بن محمد بن ثابت (6) 568- (7) 92- 93 154- 158- 159- 160 176- 370- 376. علي بن الربيع بن عبيد الله الحارثي (3) 252. علي بن رحو بن عبد الله (7) 308 472- 494- 498. علي بن رزق الرياحي (6) 20. علي بن رزيكة (7) 313. ابو علي بن رستم (3) 491- (4) 562. علي بن رسول (المنصور) التركماني (5) 399- 497- 577- 578. علي بن ركان (6) 230. علي بن الرنداحي (6) 464. علي بن رياح (6) 27. علي بن الزبرتير (4) 211- (6) 253 254- 256- 258- 326 327- 328- 332. علي بن زكدان الونكاسي (علي بن زكداز) (6) 352- 353- 368. علي بن زكريا (7) 459- 472- 478. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 علي بن زياد اليمامي (1) 398. علي بن زيان بن محمد (7) 207 235- 468. علي بن أبي زيان (7) 116. علي بن زيد (3) 381- 424- 425. علي بن زيد بن الحسين بن زيد (4) 144. علي بن زين العابدين بن زيد (4) 143. علي بن سباع بن يحيي (6) 46- 47. علي بن سعد بن جانا (7) 159. علي بن أبي سعيد (علي بن سعيد) (3) 304- 305- 307- (7) 320. السلطان ابو علي ابن السلطان ابو سعيد (6) 63- 88- 92- 323- (7) 66- 145- 146- 200 229- 320- 321- 322 323- 324- 327- 334 335- 336- 633. علي بن سكمان (5) 58- 59. علي بن السلار (4) 87- 92. علي بن سليمان (2) 341- (3) 268. ابو علي بن سيجور (4) 464- 483 485- 509- 510- 586. ابو علي ابن سينا (1) 424- 520. 609- 620- 633- 635 639- 642- 646- 649 651- 653- 709- 712 713- 722- 723- 724 725- 727 . ابو علي بن شادان (3) 591- (5) 16. علي بن أبي شكين (5) 38. علي بن صالح بن دياب بن مبارك (6) 59- 542- 547. (الأفضل) علي بن صلاح الدين بن شميشاط (3) 655- (5) 195 196- 248- 256- 259 311- 312- 313- 324 356- 357- 358- 359 360- 361- 362- 363 376- 380- 382- 383 384- 386- 387- 390 391- 392- 393- 394 402- 403- 462. علي بن أبي طالب (1) 246- 247 248- 250- 251- 265 267- 268- 269- 271 283- 295- 296- 332 339- 388- 390- 391 396- 397- 398- 400 401- 402- 403- 406 418- 440- 505- 614 620- 754- (2) 271 300- 350- 371- 378 279- 390- 391- 410 412- 420- 421- 422 427- 429- 435- 436 437- 439- 442- 443 448- 453- 457- 458 460- 462- 464- 468 471- 472- 475- 478 479- 480- 481- 482 485- 487- 490- 514- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 517- 525- 538- 543 544- 556- 568- 569 570- 575- 581- 587 593- 598- 599- 600 601- 602- 603- 604 605- 606- 607- 608 609- 610- 611- 613 614- 615- 616- 618 619- 620- 621- 622 623- 624- 625- 626 627- 628- 629- 630 632- 633- 634- 635 636- 637- 638- 639 640- 641- 642- 643 644- 645- 646- 647 648- 649- (3) 5- 7 9- 13- 16- 36- 37 54- 63- 94- 162 169- 178- 186- 213 218- 247- 449- 450 551- (4) 2- 3- 5- 6 7- 10- 34- 35- 36 128- 144- 278- 284 378- 382- (6) 202 203- 414- (7) 11 13- 18- 148- 721. الشريف علي بن طراد الزينبي نقيب النقباء (3) 612- 620- 621 630- 632- 634- 635 (4) 354- 355- 364 366- 369- 373- 633. علي بن عامر (7) 431. علي بن عبد الخالق (5) 120. (ابو السعادة) علي بن عبد الرحمن بن جبارة (5) 462. علي بن عبد الرحمن بن الكليب (7) 191. علي بن عبد الرحيم بن عبد قيس (3) 352- 377- (4) 22. (ابو الحسن) علي بن عبد الرزاق (5) 67- 266. ابو علي بن عبد العزيز (6) 344. علي بن عبد العزيز الجرجاني (2) 24 32- 321- 354- 371 (6) 122. علي بن عبد الكريم (6) 364. علي بن عبد الله بن الحسن (7) 665. (ابو الحسن) علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان (سيف الدولة بن حمدان) (4) 307. علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية (ابو العميطة) (3) 294. علي بن عبد الله بن عباس (3) 45- 128. علي بن عبد الله الملاح (7) 140. علي بن عبد الله المغيلي (7) 240. علي بن عثمان (6) 61. علي بن عثمان بن عبد الحق (7) 232. (ابو الحسن) علي ابن السلطان أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي يوسف بن يعقوب بن عبد الحق (5) 504. علي بن عجلان (4) 136 (5) 547- 572. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 ابو علي بن عزوز (6) 343. علي بن العزيز بن المعتز (6) 220. علي بن عسكر (7) 220. علي بن عقيل (3) 156- 158. علي بن علاوة (6) 197. (الظاهر لإعزاز دين الله ابو الحسن) علي بن أبي علي المنصور الحاكم (6) 17. علي بن أبي علي الخلطي (6) 350 351. حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني (4) 542- 544- (5) 121 122- 408- 415- 416 417- (6) 41. (جمال الملك ابو الحسن) علي بن عمار (3) 600- (5) 213- 214 219- 221- (6) 616- 617. فخر الدولة ابو علي (علي) بن عمار صاحب طرابلس (3) 612- 616- (4) 366- (5) 44- 45- 47 49- 60- 176- 213 215- 219- 222- 250 262- 463. علي بن عمر (5) 57- 58- 98 (7) 113- 248- 428 456- 457- 472. علي بن عمر بن إبراهيم (1) 814- (6) 71- 73. علي بن عمر بن ويغلان (7) 451 634. علي بن عمر أمير حاجب (3) 614 615- 616. علي بن عمر البلوي (3) 455- 457 (4) 44- 46. علي بن عمر بن إدريس (4) 17- 18. علي بن عمر بن سيد الناس (6) 485. علي بن عمر الغنوي (4) 111. علي بن عمر الورثناجي (6) 357. (ابو يحيي) علي بن أبي عمران التينمللي (6) 332. علي بن عمران الديلميّ (4) 497 631- 645. (ابو الحسن) علي بن عمرو (6) 429. علي بن عيسى (3) 447- 448 456. علي بن عيسى التميمي (3) 319. علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور (3) 348. علي بن عيسى بن داود بن الجراح (3) 441. علي بن عيسى بن علي (3) 449. علي بن عيسى بن ماهان (3) 259 271- 277- 278- 279 287- 291- 292- 293 459- 460- 462- 463 464- 465- 466- 467 468- 469- 473- 478 479- 493- 497- 510 518. علي بن عيسى بن ميمون (6) 312 313. علي بن أبي الغارات بن مسعود (4) 276. علي بن الغازي بن محمد بن علي (الكافي بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 عبد الله بن محمد بن علي (6) 259- 260- 333- 334. علي بن غالب (7) 182. علي بن غانم (6) 87- 268- (7) 352. علي بن غانية علي بن محمد بن غانية. علي بن الغمر (6) 472. علي بن الفرج ابن رئيس الرؤساء (3) 610. علي بن الفضل (3) 513- (4) 37 41. علي بن أبي الفضل (6) 56. ابو علي بن فضلان (3) 56. علي بن فلاح (4) 71- 72. علي بن فيلو (6) 309. علي بن القاسم (4) 695- (7) 197 482. (ابو المكارم) علي بن أبي القاسم (5) 66- 155- 165. (شرف الملك فخر الدين) علي بن أبي القاسم (بن القاسم الجندي) (5) 144- 145. (القاضي ابو الحسن بهاء الدين) علي بن القاسم الشهرزوريّ (5) 264. علي الأكبر بن قتادة النابغة بن إدريس (4) 132. علي بن قرمط (4) 108. (علاء الدين) علي بن المنصور قلاوون (5) 487. علي بن القم (4) 274. علي بن كالوية (كلونة) (علي بن أبي الزنجي) (4) 566- 567. (ابو الحسن) علي بن كالي (4) 32. ابو علي بن كاليجار (بن أبي كاليجار) (3) 561- 562- 563- 566 569- 577- (4) 655 696. علي بن كانون (6) 38. علي بن كاني (3) 415- 431. علي بن كتامة (4) 577- 578. ابو علي بن كثير (6) 100. علي بن الكرماني (3) 149- 150 153- 154- 155- 209. علي بن كعب (6) 99. زين الدين علي بن كمستكين (5) 293. علي بن الليث (3) 427- 431- (4) 420- 421- 424- 426. أبو علي بن ماكولا (3) 552- 553 (4) 632. [أبو سعد (أبو سعيد) عبد الواحد] علي بن ماكولا (4) 625- 629. بنو علي بن مالك بن امرئ القيس بن بهثة (2) 365. علي بن مالك الخثعميّ (3) 38. علي بن مأمون (4) 480. السعيد علي بن المأمون إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن (المقتدر باللَّه) (5) 445- (6) 38- 41- 98- (7) 108 109- 110- 112- 162 163- 207- 225- 226 227- 228- 229- 230- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 286- 331- 345- 346 347- 348- 349- 395 397 . (إقبال الدولة) علي بن مجاهد (1) 758- (4) 208- (6) 248. أبو علي بن محتاج قائد بني سامان (4) 575- 578- 579- 659 660- 661. علي بن محسن المروروذي (3) 412. علي بن محمد (4) 141- 448- (5) 57- (6) 44- 272- 361. علي بن محمد كبير هنتاتة (7) 305. السلطان أبو علي بن محمد ملك المغرب (4) 221. علي بن محمد بن أجانا (7) 431. علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد (3) 377- (4) 11 21. علي بن محمد بن إدريس (4) 17. علي بن محمد بن ألميت (7) 383 384. علي بن محمد بن تروميت (7) 513 520. علي بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر (3) 306- 377- (4) 10 21. علي بن محمد بن الحسن بن علي بن عيسى (4) 21. علي بن محمد بن الحسين (3) 377. (أبو دبوس) أبو علي ابن السيد أبي عبد الله محمد ابن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن (6) 351- 357- 368. علي ابن القائد محمد بن الحكيم (7) 382. علي بن محمد بن الحنفية (1) 250. علي بن محمد بن الخبر (7) 516. علي بن محمد بن عبد الله بن حسن (3) 238- (4) 7. علي بن محمد بن علي (4) 270- (6) 253- 326- 332. علي بن محمد بن عمر (6) 484. علي بن محمد بن عيسى (3) 298. علي بن محمد بن غانية (6) 28 254- 255- 256- 257 258- 328. علي بن محمد بن مسعود (7) 524. علي بن محمد بن يعقوب (7) 457. علي بن محمد البستي (4) 471. علي بن محمد الخراساني (6) 450. علي بن محمد الخير (الخيريّ) (7) 90 292- 293- 324. علي بن محمد الديباجة (3) 310. علي بن محمد الصليحي (الصبيحي) (علي الصليحي) الداعي (2) 300- (4) 130- 270- 273- 276 282. علي بن محمد المصمودي (6) 512. أبو علي بن محمد المظفر (4) 445. علي بن محمد النوفلي (3) 258. علي بن محمد اليغرني (6) 154. علي بن محمود (4) 193. علي بن محمد بن أبي علي قشوش (7) 40. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 علي بن المدني (1) 398. علي بن مرحا (4) 338. علي بن مروان (5) 372. أبو علي بن مروان الكردي (4) 321 324- 407- 408- 409. علي بن مزني (6) 52- 53. أبو الحسن علي بن مزيد الاسدي (3) 546- (4) 326- 327 353- 354- 687. علي بن مسعود (4) 506. علي بن مسلم بن قريش (3) 539- (4) 344- 345- (5) 18 21- 261. علي بن المسيب أخو أبي الدرداء (4) 324. علي بن مشرف الدولة (3) 594. علي بن المطلب بن عبد الله (3) 244. أبو علي بن المظفر (4) 557. علي بن المعتضد باللَّه المكتفي باللَّه. علي بن المعز (6) 323. علي بن المعلى بن أحمد الدبادي (4) 111. علي بن المعلى بن حمدان الرباديني (الزياديين) (3) 437. علي بن معن العقيلي (4) 696. علي بن مفرج (6) 9. علي بن المقتفي (3) 645. أبو علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني (5) 275. علي (أبو علي) بن مقلة (1) 527- (3) 460- 467- 468- 472- 473- 474- 475- 478 486- 487- 488- 489 492- 493- 494- 495 497- 503- 504- (4) 563- 566. علي بن المنصور (4) 272. علي بن منصور بن سليمان (7) 404. علي بن منصور الملكيشي (5) 577- (6) 522- 589- (7) 107- 464. علي بن منقد بن نصر بن سعيد (5) 286- 287. علي بن المهاجر (3) 137. علي بن المهدي (2) 214. علي بن مهدي بن يرزيجن (7) 415. علي بن مهدي الحميري (4) 277 278. علي بن مهدي الخارجي (4) 140 273- 275- 281- 282 286- (5) 337. علي بن مهدي العسكري (7) 187 188- 461. علي بن المؤذن (1) 834. علي بن مؤيد الدولة (5) 286. علي بن موسي بن أحمد (4) 46. (علي الرضا) علي بن موسي بن جعفر الصادق (1) 200- 252 264- (3) 310- 311 313- 448- (4) 10 11- 35- 144- (5) 137. أبو علي بن أبي موسي بن أبي حفص (6) 384. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 علي بن موسي بن سعيد الغنسي الغرناطي (7) 504. أبو الحسن علي بن موسي بن علي (7) 686. (أبو القاسم) علي بن ميسكي الديلميّ (بن منسلي- منكلي) (4) 669 671. أبو الحسن علي بن الناصر لدين الله (3) 658- 660. علي بن الناصر بن عبد القوي (7) 211 218- 294. أبو القاسم علي بن الناصر النشابادي (الشابادي أو الشاوي) (3) 624 625- 626- 627- (5) 65- 66- 68. علي بن نافع (4) 161. علي بن نجي الواعظ (5) 338. أبو الحسن علي بن نصر [الأمير المختار مهذب الدولة] (4) 677. علي بن نصر بن عمر (7) 215- 218. أبو علي بن النعمان (6) 389. علي بن النعمان بن محمد (4) 67. علي بن نفيل (1) 391. علي بن هارون بن ثابت بن منديل (7) 179- 446. علي بن هشام (3) 294- 307 311- 312- 313- 319. علي بن هطال (4) 643. علي بن هلال (ابن البواب) (1) 527 529- (6) 41. علي بن هنجس (5) 496. علي بن هود (4) 211- 212 213- (6) 40. علي بن الواثق (3) 361. أبو علي بن وانودين (7) 223. علي بن وهشودان بن حسان ملك الديلم (3) 461- 482- (4) 33. (أبو عبد الله) علي بن ياقوت (3) 495. علي بن يحيي (7) 293. علي بن يحيي الارمني (3) 347 348- 355- 375- (4) 381. علي بن يحيي البركشي (7) 297. علي بن يحيي بن تميم بن المعز بن باديس (6) 543. علي بن يحيي بن تميم بن يحيي (4) 92 (6) 213- 214- 217 221- 222. علي بن يحيي بن ثابت (7) 90 117- 118. علي بن يحيي الخارجي (3) 393. علي بن يحيي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن سليمان (4) 21. علي بن بدر الزكندري (6) 91- (7) 304. علي بن يزكاسن (7) 285. علي بن يزيد أمير بني سويد (4) 128. علي بن يعبر (5) 565. علي بن يعطي (3) 269. علي بن يعقوب (1) 72. بنو علي بن يعقوب بن كعب (6) 98. الأمير أبو علي بن يعيش بن يعقوب (7) 135. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 أبو علي بن يغمور (6) 328. علي بن يوسف (7) 376. علي بن يوسف صاحب المغرب (4) 209. علي بن يوسف بن تاشفين (5) 195 (6) 245- 250- 251 253- 272- 301- 303 304- 305- 306- 310 325- 326- 533- (7) 286. علي بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي (7) 371. علي بن يوسف بن عبد الله الدميري (نور الدين ابن الخلال من فقهاء المالكية) (7) 716- 728. علي بن ثقة الدولة يوسف بن عبد الله بن محمد (4) 265. علي بن يوسف بن يزكاسن (7) 283 287. علي أوانا (5) 86. علي بابا (3) 346. علي بك (5) 86- 201- 635. علي تكين (4) 493- 499- 504 511- 513. أبو علي الجبائي المعتزلي (5) 77. علي خشاوند (4) 503. علي ذو الفقار (3) 243. علي زنكي (5) 194. علي زين العابدين (1) 248- 251 (3) 450- (4) 35. علي شاه بن خوارزم شاه (4) 529 530- 541- 546- 547- (5) 102- 115- 116 121- 122- 124- 125. علي العائد (3) 238. علي العجمي (1) 528. أبو علي الغنمي (التميمي) (4) 599. أبو علي الفارسيّ (1) 755- 777 (3) 576- (5) 33. أبو علي الفارض (3) 499. علي القائم (أخو أبو جعفر المنصور) ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (4) 4. أبو علي القالي (1) 763- (4) 180 184. علي الكردي (5) 223. علي الكرماني (5) 157. زين الدين علي كوجك (3) 641 642- 643- (5) 74 85- 86- 271- 272 279- 280- 283- 287 288- 289- 308. الأمير علي المارداني (5) 514- 515 516- 517- 518- 523. علي ماسا (5) 624. (أبو محمد) علي المكتفي (3) 434 436- 441. أبو علي الملياني (6) 420- (7) 87- 88- 256- 257 305- 315. علي المنذر بن محمد (2) 293. علي المنصور (7) 693- 696. (حسام الدين) أبو علي الموصلي (5) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 150- 407- 409 . علي ناصر الدين المشدالي (1) 545. علي الهادي (1) 252- (4) 145. أبو علي الهروي (3) 153. علي الهلالي (1) 388. علي الوسيني (6) 317. بنو عليم (2) 296. عليم بن جناب (2) 297. ابن علية (1) 390. بني العم بن مالك (2) 550. العمائم (6) 113. العماد الأصفهانيّ الكاتب (1) 317، 796- (5) 500- 501- (6) 9- (7) 722. عماد بن نصر الله الكلاعي (6) 227. عماد الدولة بن بويه علي بن بويه. أبو المظفر عماد الدولة (4) 230- 514. عماد الدين القزويني (5) 424. عماد الدين بن قرا أرسلان (5) 258. عماد الدين بن قطب الدين (5) 294 295. الشيخ عماد الدين الكاشي (5) 629. عماد الدين بن نور الدين (5) 316. عماد الملك (4) 543. عماد الملك المساوي (3) 659. عماد الملك بن نظام الملك (5) 22. ابن عمار (4) 79. عمار الأعمى الصغري (6) 138. أبو عمار الأعمى رأس النكارية (عبد الحميد) (7) 18- 19- 20- 21 22. عمار بن زيد (3) 126. عمار بن ياسر (2) 377- 411 415- 558- 570- 587 593- 613- 614- 617 619- 621- 628- 629 630- 631- 632- (3) 215. عمار بن يزيد بن السكن (2) 435. عمار الذهبي (1) 390- 391 395- 396- 398- 399. عمار الورند غزاني (7) 247. عمارة (6) 128. ابن عمارة (2) 371. أبو عمارة من بني وائل (2) 441. عمارة بن حزيم (3) 111- 112 114. عمارة اليمن الشاعر الزبيدي (عمارة بن أبي الحسن مؤرخ اليمن) (4) 101 102- 269- 270- 275 277- 278- 279- (5) 243- 337- 338. عمارة بن حمزة (3) 254- 255 260. عمارة بن سعد بن أبي وقاص (3) 28. عمارة بن شهاب (2) 604. عمارة بن عقبة بن أبي معيط (2) 449 (3) 12- 15. عمارة بن عمرو بن حزم (3) 51. عمارة بن قلان بن مخلف (6) 89. عمارة بن الوليد (3) 28. عمارة بنت سعيد بن أسامة بن أكيل (2) 41. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 العمارنة أولاد عمران (6) 87- 89 (7) 411. عمالق (عماليق) بن اليفاز بن عيصو الثاني (2) 47- 48- 100- 331. لعمالقة العماليق (1) 190- 207 222- 223- 430- 444 447- 462- 507- (2) 9- 18- 24- 28- 30 31- 32- 41- 44- 45 46- 53- 55- 84- 85 86- 97- 98- 102 103- 104- 105- 109 110- 117- 136- 283 308- 309- 310- 311 322- 331- 340- 341 362- 368- 393- 394 396- (6) 122- 123 126- 128- (7) 4- 5 6. عمان بن قحطان (2) 53- (4) 117. عمدالج (5) 53. عمددة غلام ابرهة (2) 71. تميم الدولة ابو الفتوح عمر (4) 357. عمر الأكبر (7) 153. بني عمر (4) 20- 193- (5) 546- (6) 43- 44- 290. عمر من بني هلال (5) 461. ابن عمر (2) 42- (3) 551- (6) 199- (7) 331. عمر بن إبراهيم (6) 70. عمر بن إبراهيم بن هشام (7) 114. عمر بن إبراهيم الواثق (5) 540. (ابو حفص) عمر ابن السيد ابو إبراهيم (6) 348- (7) 230. عمر بن إدريس (4) 16- 17 19- 193- (6) 288 289- 295. عمر بن إسحاق بن محمد بن علي (6) 326. عمر بن أبي إسحاق (6) 437. عمر بن إسماعيل بن محمد (7) 210. حسام الدين عمر بن الأصعن (5) 359. عمر بن أعين (3) 153. عمر بن الأفطس (6) 250. عمر بن اوقاريط شيخ السهاكرة (عمر بن وقاريط) (6) 40- 41 271- 342- 343- 345. المغيث فتح الدين عمر بن العادل نجم الدين أيوب (5) 413- 415- 419 421- 422- 431. (ابو حفص) عمر البلوطي (3) 317 (4) 159. عمر بن بدران (4) 332. عمر بن تافراكين (6) 316- 508 509. عمر بن تامصا (7) 67. عمر بن جابر الحضرميّ (1) 397- 400. ابو عمر بن الجو (6) 344. عمر بن جهم بن قيس بن شرحبيل (2) 454. عمر بن الحجاج الزبيدي (3) 27 31- 33. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 ابو عمر بن حجاج (6) 350. عمر بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية (2) 64. عمر بن حرميل (4) 532. عمر بن حريث (3) 45- 46. (عماد الدين) عمر بن الحسن (5) 121. عمر بن الحسين الغوري (4) 541 542- 544. عمر بن أبي الحسين الغرياني (القرباني) (5) 237- 239- (6) 224. عمر بن حفص (4) 243- 244- (6) 148- 151. عمر بن حفص بن أبي صفوة (صفرة) العتكيّ (هزارمرد) (3) 235 252- (7) 16- 23- 101. عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة (3) 249- 250- 253. عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان (4) 165- 166 167- 168- 170- (7) 505. ابو عمر بن حكم (6) 448. ابو الليل عمر بن حمزة سيد الكعوب (7) 355- 365- 374. عمر بن حمزة النسوي (5) 88- (6) 528- 529- 530. عمر (عمرو بن الحمق) (3) 12- 14. عمر بن خالد الزرقي (3) 173. عمر بن خالد بن حصين الكلابي (3) 70. ابو عمر بن أبي خالد الاشبيلي (6) 395- 401. عمر بن خزر (7) 34. عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) (1) 36- 50- 137- 157 158- 162- 163- 181 190- 206- 237- 243 246- 247- 254- 255 261- 264- 265- 266 275- 276- 277- 282 283- 295- 296- 303 313- 326- 333- 341 406- 407- 439- 440 443- 447- 475- 551 610- 614- 620- 631 744- 836- (2) 175 268- 270- 273- 287 292- 312- 313- 320 335- 347- 349- 360 365- 366- 377- 381 387- 406- 407- 413 414- 420- 423- 436 439- 446- 453- 454 457- 458- 459- 460 461- 464- 485- 486 487- 488- 489- 497 500- 501- 508- 513 514- 516- 517- 518 519- 520- 521- 522 523- 525- 526- 527 529- 533- 535- 536 538- 539- 540- 542- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 543- 544- 545- 546 547- 548- 549- 550 551- 552- 553- 554 555- 556- 557- 558 559- 560- 561- 562 563- 564- 565- 566 567- 568- 569- 571 571- 575- 576- 581 582- 583- 585- 593 594- 595- 596- 597 599- 600- 612- 622 626- 635- 639- 649 (3) 4- 6- 54- 200- (4) 7- 109- (5) 248 477- 478- 518- 537 (6) 17- 132- 141 211- 408- (7) 506 626- 640- 723. عمر بن خلف بن مكي (4) 266. فخر الدين عمر بن الخليلي (5) 486. عمر بن داية (6) 530. عمر بن دير (3) 222. عمر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال (1) 798- 804- (6) 33. عمر بن ربيعة الرقاشيّ (3) 64. عمر بن رحو بن عبد الله (7) 312 316- 464- 472- 494. عمر بن ردينة بن عبد الله بن هلال (6) 33. عمر بن رسول (4) 140- 141. عمر بن الزبير (1) 328- (3) 24- 26- 27. عمر بن زرارة (3) 130. (فروخ شاه) عمر بن زنكي بن مودود (5) 404. عمر بن زهير الضبي (3) 254- 255. عمر بن زيد الحكمي (3) 133. الوزير عمر بن أبي زيد (6) 256 328. عمر بن زين العابدين (4) 30- 551. عمر بن سراقة (2) 549. عمر بن السري (3) 391- (4) 420. عمر بن سعد بن أبي وقاص (2) 547 (3) 15- 30- 34. عمر بن سعيد الأشرف (3) 26- 36 41- 47- 171- (4) 379. عمر بن أبي سعيد (7) 135- 320. عمر بن سلام [مولى آل عمر] (3) 270. عمر ابن السلطان (شقيق إبراهيم) (6) 581. عمر بن سلمة الهجيمي (3) 245. عمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان (3) 152. (ابو علي) عمر بن سيد الناس (6) 610. عمر بن سيما (3) 390. عمر بن شداد (3) 245. ابو حفص عمر بن شعيب البلوطي (4) 267. (المظفر تقي الدين) عمر بن شاه (شاهنشاه) بن نجم الدين أيوب (5) 296 301- 304- 306- 310 311- 336- 342- 344- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 345- 348- 350- 354 356- 357- 359- 360 364- 366- 368- 372 376- 378- 382- 389 401- 408- 489 . عمر بن شيركين (5) 68. عمر بن صالح الصنهاجي (6) 312 (7) 209. عمر بن صبح العدائي (3) 34. عمر بن العابد (6) 581. عمر ابن السلطان أبي العباس (6) 612. ابو عمر بن عبد الباقي (3) 480. ابو عمر بن عبد البر (6) 122- 126 (7) 5- 503. عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام (3) 35- 124- 255. ابو علي عمر بن عبد الرفيع (6) 554. عمر بن عبد العزيز (1) 257- 258 323- 324- 406- (2) 271- 273- (3) 75 76- 82- 84- 86- 90 93- 94- 95- 96- 97 103- 105- 125- 166 173- 174- 203- 204 217- 370- (4) 148 149- 237- 379- 424 (5) 425- (6) 345- (7) 249- 617. عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف (3) 435. عمر بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (عمر بن عبد العزيز العمري) (3) 269 270- 273. عمر بن عبد العزيز بن المنذر (2) 389. الصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز الخليلي دار (5) 469- 470. عمر بن عبد الكريم الرواسي (5) 30. الوزير عمر بن عبد الله (6) 42- 356. أبي عمر بن عبد الله (2) 5. ابو حفص عمر بن عبد الله الصنهاجي (7) 640. عمر بن عبد الله بن علي (7) 66 168- 199- 200- 14 415- 416- 417- 419 420- 421- 422- 428 429- 430- 442- 443 452- 453- 475- 496 497- 500- 524- 525 536- 544- 545- 547 556- 570- 579. عمر بن عبد الله بن عمر (6) 362 363. عمر بن عبد الله بن كندوز (7) 303. عمر بن عبد الله بن المرادي (6) 156. عمر بن عبد الله (عبيد الله) بن معمر (3) 39- 41- 42- 43 185- 189- 195. عمر بن عبد الملك (1) 258- (4) 153. عمر بن عبد المؤمن بن عمر (7) 478. عمر بن عبد الواحد (7) 273. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 عمر بن عبيد (3) 237. عمر بن عبيد الله الأقطع (عمر بن عبد الله الأقطع) (3) 347- 348 355- 375. عمر بن عبيد الله النهدي (3) 40. عمر بن عبيد الله بن الزبير (3) 41. عمر بن عبيد الله بن معمر (3) 39 41- 42- 43- 189. عمر بن عبيد الله المرادي (4) 238. عمر بن عثمان (6) 64. عمر بن عثمان التميمي (3) 267. عمر بن عثمان بن سليمان (7) 571. عمر بن عثمان بن عبد الحق (7) 234. عمر بن عثمان بن عطية كبير بني تيغرين (7) 141- 142- 211- 212 331- 340- 371. عمر بن عثمان الفهري (4) 244- (6) 148. عمر بن عثمان بن يوسف العسكري (7) 278. عمر بن العجوز قائد جند النصارى (7) 390. عمر بن العطاء (3) 144. عمر بن العلاء (3) 261- 266 267. عمر بن علي (1) 251- (6) 274 (7) 532. (الرذيني) عمر بن علي (3) 425- (6) 533. عمر بن علي زين العابدين (3) 457 (4) 12. (عز الدين) عمر بن علي الهكاري (5) 161- 164- 410. عمر بن علي بن أحمد الزواودي (7) 158. (المنصور) عمر بن علي بن رسول (4) 133- (5) 577- 578. ابو حفص عمر بن علي الصناكي (6) 304. عمر بن علي الوطاسي (7) 382- 383. عمر بن عنبسة السلمي (2) 410. عمر بن أبي عون (6) 101. عمر بن غالب (6) 259. عمر بن الغضبان بن القبعثرى (3) 137 144. عمر بن فرح (فرج) (3) 341- 356. عمر بن فهر الكندي (3) 65. عمر بن قتيبة (3) 107. عمر بن قطب الدين (5) 319. عمر بن قيس (6) 124- 125. عمر بن أبي قيس (1) 391. عمر بن قيس الكندي (3) 90. عمر بن كلي القاضي (6) 603- 604. عمر بن الليث (3) 367. عمر بن أبي الليل (6) 99. عمر بن مالك بن جبير بن مطعم (2) 545- 546- 550. عمر بن أبي مالك (7) 272- 278 279. (أبو براء) عمر بن مالك بن جعفر بن كلاب (2) 438. عمر بن محرز بن شهاب التميمي (3) 23 180. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 عمر بن محلى (7) 270. (ابو حفص) عمر بن محمد (ساجة) (4) 202. (ابو يعلى) عمر بن محمد (3) 547. عمر بن محمد بن إبراهيم بن مكي (7) 412. عمر بن محمد بن سعيد بن العاص (3) 137. عمر بن محمد بن القاسم (3) 84. جلال الدين عمر بن محمود خان (5) 88- 89- 90. عمر بن مخنف (3) 33. أبو عمر بن المرابط كاتب ابن الأحمر (7) 262- 264. عمر بن مرحوم (6) 643. عمر بن مرة الجهنيّ (3) 23. عمر بن مروان بن الحكم (4) 152. عمر بن مسعود (7) 176. تاج الدين عمر بن مسعود التركماني (5) 139- 143. عمر بن المسعود بن الخرياس الجشمي (7) 286- 287. عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة (7) 428- 436- 438- 579 581- 589. عمر بن مسعود بن يكمثين (7) 97. عمر بن مسلم بن قتيبة (3) 107- 249. عمر بن المعز بن باديس (6) 212 606. عمر بن معمر (3) 45. أبو جعفر عمر بن مكي الصقلي (7) 719. عمر بن منديل (7) 88. عمر بن مهدي (6) 61- 62. عمر بن مهران (3) 274. عمر بن مهلهل (7) 144. عمر بن موسي (6) 548. عمر بن موسي الجلولي (7) 158. عمر بن موسي بن عبد الله بن معمر (3) 65- 189. عمر بن موسي الفودودي (7) 318. عمر بن ميمون (7) 395. عمر بن بنهان الطائي (4) 594. عمر بن نصر بن علي (7) 218. عمر بن نعيم (2) 23. عمر بن هبيرة الفزاري (3) 90- 103 104- 166- 174- 175 201. (أبو جهل) عمر بن هشام بن المغيرة (2) 388- 412- 413- 414 420- 421- 425- 428 429. عمر بن الواثق إبراهيم (3) 666. عمر بن الوازع الحنفي (3) 137. عمر بن الوضاح (3) 141. عمر بن ويغرن بن منديل (7) 90 293. عمر بن ياسين (7) 312. عمر بن يحيي ابن الوزير (7) 274 286- 287. عمر بن أبي يحيي (7) 332- 354 355. الشيخ أبو حفص عمر بن يحيي (6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 304- 306- 308- 309 310- 311- 315- 318 319- 320- 321- 327 331- 346- 360- 370 371- 421- 592- 609 617- 372 . عمر ابن السلطان أبو يحيي (6) 102 (7) 261- 264- 265- 385. عمر بن يحيي (بن أبي يحيي) بن محلى (7) 261- 264- 265 275. عمر بن يحيي بن محمد الهنتاني (7) 506. عمر بن يحيي بن محمد بن وانودين بن علي (6) 303. عمر بن يخلف الفردودي (7) 321. عمر بن يزيد التميمي (3) 100. عمر بن يزيد الجهنيّ (3) 23. عمر بن يزيد الحكمي (3) 45- 97 98. عمر بن يزيد بن المهلب (3) 100. عمر بن يزيع (3) 261. أبو حفص عمر بن يغمراسن (7) 114 116- 238. الأشرف عمر بن المظفر يوسف (5) 578. عمر الحارث (1) 205. عمر خان (4) 515. عمر الداعي (3) 351. عمر الدن (3) 128. أبو عمر السفياني (3) 141. عمر الصفار (3) 370. عمر الطلعنكي (1) 526. عمر العباس (7) 354. عمر الفرغاني (3) 328- 330 331. أبو عمر المالكي (3) 442- 473. عمر اليشكري (3) 205. بنو عمران- عمران (1) 35- (2) 609- (6) 234- 275- (7) 202- 240. السيد أبو عمران صاحب تلمسان (6) 322. ابن أبي عمران (7) 144- 489. (أبو النجم) عمران بن إسماعيل (3) 125- 127. عمران بن ألحاف (2) 295- 296. عمران بن حبيب (4) 240- 241. عمران بن حصين (2) 374- 549 577- 578- 596- 608 617- (3) 11. عمران بن حطان (2) 360. عمران بن خالد العثري (3) 34. عمران بن الذر الخولانيّ (4) 272. عمران بن شاهين (3) 525- 526 528- 531- 533- (4) 576- 577- 584- 585 592- 674- 675- 676. عمران بن عامر ماء السماء (2) 66. (أبو موسي) عمران بن عبد الله بن الخليفة (6) 351. (أبو موسي) عمران بن عبد المؤمن (6) 326. أبو عمران بن عمران (6) 384. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 عمران بن عمرو (2) 302- 332. عمران بن الفضل الهمدانيّ (4) 271. عمران بن مجالد الربعي (4) 247 248. عمران بن محمد بن سبإ (4) 276. عمران بن المفضل البرجمي (2) 577 622. عمران بن منصور (6) 79. عمران بن موسي (6) 552- (7) 154- (7) 154- 191 479. عمران بن موسي الصنهاجي (6) 220 274. عمران بن موسي العكي (3) 319. أبو عمران بن موسي بن يوسف بن عبد المؤمن (6) 375- (7) 173. أبو عمران بن ياسين الهنتاتي (6) 335 446. عمران بن ياشم بن أمون (أبو مريم) (2) 167- 168. السيد أبو عمران بن يوسف بن عبد المؤمن (6) 335. أبو عمران الفاسي (6) 243- 270. عمران القطان (1) 392. عمران الكاهن (2) 301- 332. عمران المشدالي (7) 534. عمرة بن أسد بن ربيعة بن نزار (6) 22. عمرة بنت النعمان (3) 40. العمرّدة من مروة الانس (2) 329. عمرس بن مكن (7) 117. أبو العمرطة الكندي (3) 14. عمرو ابن عمرو بني عمرو (2) 42 101- 290- 498- 499 504- 505- 543- 544 552- 582- (6) 161. عمرو الأشرف (2) 390. عمرو الأشنب بن ربيعة بن يرام بن حضرموت (2) 32. عمرو بن ابرهة (2) 57. عمرو بن أبي بن خلف (2) 430. عمرو بن الأحوص العجليّ (أبو الأحوص) (4) 242. عمرو بن أحجه (2) 400. عمرو بن أدينة بن الظرب (2) 309. عمرو بن أسعد بن قيس (2) 64. عمرو بن الأسود (2) 482. عمرو بن الأشرف الازدي (2) 619. عمرو بن الاطنابة (2) 344. بنو عمرو بن اعصر بن سعد (2) 362. عمرو بن امرئ القيس (2) 313 321. عمرو بن أمية الضمريّ (2) 348 382- 439- 450- 454 455. عمرو بن الأهتم (2) 376- 470 499. عمرو بن بسطام (4) 287. عمرو بن بكر التميمي السعدي (2) 645 647. عمرو بن تافراكين (6) 304. عمرو بن تبع (2) 67- 325. عمرو بن تميم (2) 205- 326- 617. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 عمرو بن حجاش بن كعب (2) 439. أبو عمرو الجو يحيي بن عبد الملك بن محمد الحافظ. عمرو بن الحرموز (2) 618. عمرو بن جفنة الغساني (2) 340 389. أبو عمرو بن الحاجب (1) 570 577- 728- 733- 755. عمرو بن ألحاف (2) 295. عمرو بن حجر سيد كندة (2) 325 327- 329. عمرو بن حديج (2) 642. عمرو بن حرام (2) 434. عمرو بن الحرث (غبشان) (2) 34 293- 395- 396. عمرو بن حريث (2) 558- 591 592- (3) 13- 15- 52. عمرو بن حزم من بني النجار (2) 473 481- 482- 491- 601. عمرو بن الحسن (6) 580. عمرو بن الحضرميّ (2) 426. عمرو بن حفص (6) 147. عمرو بن حلوان بن عمران (2) 296. عمرو بن الحمق الخزاعي (2) 589 598- 601. عمرو بن حولان بن عمران (2) 331. عمرو بن الخزرج (2) 343. عمرو بن خلدون (2) 293. عمرو بن خلف (4) 430. أبو عمرو بن الزاهر الاشبيلي (1) . عمرو بن سالم (2) 457. عمرو بن سراقة (2) 559. عمرو بن أبي سرح (2) 415. عمرو بن سعد (2) 291. عمرو بن سعد القرظي (2) 443. عمرو بن سعد بن أبي وقاص (1) 230. عمرو بن سعيد بن العاص (2) 454 516. عمرو بن سعيد بن مسروق (2) 379 388. عمرو بن سفيان بن عبد الأسد (2) 606. (أبو الأعور) عمرو بن أبي سفيان بن عبد شمس (2) 365- 429. عمرو بن سلمة (2) 606. عمرو بن سيما (4) 419. عمرو بن شبّة (2) 328. عمرو بن الشريد (2) 366- (6) 94. أبو عمرو بن الصلاح (1) 559. عمرو بن طرف (2) 30. عمرو بن الطلة من بني النجار (2) 61. عمرو بن الظرب بن حسان (2) 309 311. عمرو بن ظلة (2) 344. عمرو بن العاص (1) 296- 237 267- 283- 313- 322 332- 333- (2) 88- 197 242- 265- 268- 269 270- 301- 386- 387 413- 427- 449- 455 467- 495- 501- 504 514- 515- 517- 518 554- 555- 556- 569- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 570- 571- 573- 576 592- 597- 623- 625 626- 627- 628- 629 631- 632- 633- 634 635- 636- 637- 641 642- 643- 645- 647 649- (3) 8- 9- 12 169- 170- 178- (4) 377- 378- (5) 491- (6) 132- 613. عمرو بن عامر (2) 302- 395. عمرو بن عبد الجن (2) 311. (أبو الحكم) عمرو بن عبد الله بن أبي عامر (7) 39. عمرو بن عبد الله (6) 144. (أبو عزة) عمرو بن عبد الله بن جمح (2) 437. عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن بقيلة (2) 510. عمرو بن عبد مناف بن هلال (6) 33. عمرو بن عبد ودّ (2) 442- 444. عمرو بن عبسة (2) 365. عمرو بن عتبة بن منقذ (2) 365. عمرو بن عدي (2) 321- 322- (7) 619. عمرو بن عدي بن ربيعة جدّ بني المنذر (2) 201- 203- 285. عمرو بن عدي بن نصر (2) 305 310- 311- 312- 313. بني عمرو بن عقيل (4) 631. عمرو بن عكرمة (2) 516. عمرو بن العلاء بن عمار (2) 376. عمرو بن عمرو بن عبد الله (2) 359. عمرو بن عمرو بن مقرن (2) 537. عمرو بن عملاق (2) 313. بني عمرو بن عوف بن مالك من الأوس (2) 346- 416- 418 420- 424- 434- 438. عمرو بن فهم بن تيم بن أسد (2) 284 285- 308. بنو عمرو بن قعيد بن الحرث (2) 380. عمرو بن قميئة الليثي (2) 435- 436. عمرو بن قيس (2) 362- 396. عمرو بن قيس بن زائدة (2) 386. بني عمرو بن كعب بن سعد بن تيم (2) 410. بنو عمرو بن كلاب (2) 370- (4) 346- (6) 11. عمرو بن كلثوم سيد بني تغلب (1) 798 801- (2) 322- 427. عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب الشاعر (2) 358. عمرو بن الكندي (2) 321. عمرو بن لحي (2) 374- 394 395- 396. عمرو بن لعابة بن عدي (2) 72. عمرو بن الليث بن صفار (3) 393 394- 398- 411- 412 415- 416- 417- 428 429- 430- 431- 432 433- 435- 438- 439 455- 481- (4) 28- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 29- 421- 422- 423 424- 425- 426- 428 429- 434- 440 . (ابو مسلم) عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون (7) 503. عمرو بن محمد العبقري (1) 398. عمرو بن مرة (2) 290. عمرو بن مزيقياء (عمرو بن عامر) (2) 63- 66. عمرو بن مسلم الباهلي (3) 84. عمرو بن مضاض (2) 293. عمرو بن معاوية (2) 492. عمرو بن معديكرب الزبيدي (2) 475- 482- 491- 492 493- 526- 527- 529 532- 534- 557. عمرو بن المغيرة (2) 388. عمرو بن المنذر (2) 316. عمرو بن النعمان (2) 297- 331 344. عمرو بن هند (2) 316- 321 322. عمرو بن يعقوب بن محمد بن الليث عمرو بن يعقوب الصفار (4) 428. أبو عمرو الداني (1) 552- 553. عمرو ذو الإذعار (2) 187. عمرو ذو قيفان (2) 67. عمرو طرا (6) 381. بنو عمرو مزيقيان بن عامر (ماء السماء بن حارثة الفطريف) (2) 301 302- 332. عمرو موثبان (2) 64. عمروس بن يوسف (4) 158- 159. عمرون بن عبد الله الضباب (2) 473. ابن عمرويه (3) 448- 449. عمرويه بن يزيد الازدي (3) 277. العمري (1) 23. عمري بن ناداب من سبط افرايم (2) 129. العمريون (4) 144. عملاق (2) 9. عملاق بن اليفاذ بن عيصور (2) 30. عملوق (2) 27. عمليق بن لاوذ بن سام (2) 8- 9 28- 30- 31- 49 100- 331- 393. العمود (بنو عمرو بن وشاح احلاف سويد) (6) 111- (7) 180. العمور (6) 33. العموريين (2) 99. بني عمون (2) 98- 99- 100 103- 105- 109- 111 112- 123. عمون بن لوط (2) 49. ابو جعفر العميد (4) 364. ابن العميد (2) 105- 106 117- 118- 119- 120 122- 123- 124- 129 130- 131- 135- 171 177- 179- 196- 197 223- 226- 229- 236 237- 238- 239- 241- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 242- 243- 244- 245 246- 247- 248- 249 250- 251- 252- 253 254- 255- 256- 257 258- 259- 261- 263 265- 266- 267- 272 273- (3) 587- (4) 34. (ابو نصر) العميد بن أبي القاسم القشيري (3) 570- 585. العميد بن نصر (5) 25. عميد الجيوش (4) 353. عميد الدولة بن جهير عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير (3) 584 587- 589- 591- 593 597- 598- (5) 7- 9 10- 28- 261. بنت عميد الدولة بن جهير (3) 617. عميد الدولة (الملك) ابو سعيد (سعد) عبد الرحيم (3) 485- 545 555- 561- (4) 640 654. عميد الدولة (الملك) الكندري (الكندي) (3) 569- 570- 572 574- 575- 577- 578 (4) 338- 339- 342 413. عميد العراق ابو نصر (3) 570. عميد الملك ابو القاسم زهير العامري (4) 205. ابن عمير (1) 832. بني عمير (3) 137. عمير بن بلتعة (2) 424. عمير بن أبي تاشفين (7) 480. عمير بن تيمان (3) 62. عمير بن الحباب السلمي (3) 23 37- 38. عمير بن الحمام [الأنصاري] من بني سلمة (2) 430. عمير بن أبي حمو (7) 185- 191 194. عمير بن رباب السهمي (2) 512. عمير بن سعد الأنصاري (2) 547 575. عمير بن ضابئ البرجمي (2) 377 589- 601- (3) 53- 54. عمير بن عبد الله التميمي (2) 608. عمير بن عثمان (2) 429- 577. عمير بن عثمان بن مسعود (2) 578. عمير بن أبي وقاص (2) 411- 430. عمير بن الوليد التميمي (4) 381. عمير بن وهب الجمحيّ (2) 428 462. عميرة (3) 654. ابو عميرة الباذغيسي (3) 319. (أبي سيارة) عميرة بن الأعزل (2) 396. عميرة بن سعد الشيبانيّ (3) 109. عميرة بن قبري (3) 169. عميس بن مسعود (2) 380. عميلة بن الأعزل بن خالد (2) 362. عميناب بن آرام (2) 167. بنو عنا (2) 47. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 عنا بن يسعين (2) 47. عنا ميم (2) 12. بني عنان (7) 155. ابن أبي عنان (6) 520. ابو عنان (المعتمد) 362. عنان بن جابر شيخ مرداس (6) 97 430. بنت السلطان أبي عنان (7) 428. السلطان ابو عنان ابن السلطان أبي الحسن (1) 227- (6) 39- 41 42- 58- 63- 64- 71 85- 87- 89- 198 199- 273- 355- 527 532- 533- 536- 538 539- 541- 542- 545 546- 592- (7) 66 67- 93- 152- 154 156- 157- 158- 160 161- 162- 163- 165 166- 167- 168- 175 201- 213- 216- 304 349- 354- 355- 367 368- 369- 370- 372 373- 374- 376- 377 378- 379- 380- 383 386- 387- 389- 390 395- 398- 400- 401 411- 417- 418- 422 424- 430- 440- 441 462- 474- 477- 493 496- 520- 523- 529- 530- 531- 532- 533 536- 537- 538- 545 548- 550- 557- 648. عنان بن سلام (6) 32. عنان بن محمد (6) 34. الشريف عنان بن مغامس بن رميثة أمير بني حسن (4) 135- 136- (5) 546- 547- 572. عنان بن نصر بن علي (7) 218. عناني الكهنون (2) 159- 160 161. بنو العنبر (2) 375- 494- 592. ابو العنبر (3) 258. عنبر الخادم (4) 627. عنبر الخصي أمير الحرم (6) 522- (7) 226- 352- 353. عنبر بن شالخ (2) 36. عنبر بن أبي العسكر (4) 374. بنو العنبر بن يربوع (2) 377. عنبر الريفي (4) 96. عنبسة بن إسحاق بن عيسى (4) 382. عنبسة بن إسحاق الضبي (3) 346 347. عنبسة بن سعيد بن العاص (3) 53 68- 199. عنبسة بن سحيم الكلبي (4) 149. عنتر بن طراد بن عيسى (6) 61. عنتر بن أبي العسكر (3) 621- 633. عنتر بن علي بن نصر (7) 218. عنتر بن ونزمار (7) 377. عنترة بن شداد العبسيّ (1) 798- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 803- (7) 602. عنترة بن معاوية بن شداد (2) 363. عنز (6) 29. ابن عنز (2) 23. عنز بن وائل (2) 413. بني عنزة (2) 357- (3) 191. عنزة بن أسد بن ربيعة (6) 8- 49. عنسي بن مذجح مولى ابن مخزوم (2) 411. العنقا (ثعلبة بن عمرو بن مزيقياء) (2) 332. عنقا أمير الأمراء (5) 551. عنقا أمير آل مر (5) 562- 568. عواج بن هلال (6) 41- 350. العوام بن سماق الأسعد (5) 258. عوبير بن ارحاب (2) 167. عوثال (2) 11. عوج بن عناق (1) 222- 223 430- (2) 12. عوج بن عوف (2) 98. ابن عود (4) 218. (ابو سعيد) العود الرطب شيخ الموحدين (6) 98. عوديب (2) 104. عوص بن ارم (2) 9- 22- 24. عوص بن ناحور (2) 50. بني عوض (6) 595. بني عوف (1) 570- (2) 54 341- 498- 504- (6) 19- 96- 222- 374 382. عوف الاعرابي (1) 394. عوف بن اثاثة بن عباد (2) 391. عوف بن بهثة (بهنسة) من بني سليم (2) 366- (6) 95- 96. بنو عوف بن ثقيف (2) 367. عوف بن جذيمة (2) 357. عوف بن الحرث بن عفراء (2) 346 416- 417- 429- 430. عوف بن خالد بن ربيعة (2) 379. عوف بن الخزرج (2) 343- 446. عوف بن سعد (2) 100. عوف بن سليم (6) 96- 260 261- 376. عوف بن شحنة بن الحرث (2) 327. عوف بن أبي شمر (2) 333. عوف بن عامر بن ربيعة (ذو الحجر) (2) 370. عوف بن عبد مناة بن اد بن طانجة (2) 378. عوف بن عمرو بن عوف بن مالك (2) 332- 342- 343- 374. بنو عوف بن مالك بن كعب بن سعد (2) 376- 378- 555. عوف بن محمد بن علي بن حصن (6) 109. وفد النبي (2) 120. عوفريا النبي (2) 119. عون بن جعفر بن أبي طالب (2) 454. عون بن عبد الله بن أحمد (6) 101. عون بن مهلهل بن قاسم (6) 100. أبي عون بن يزيد (3) 162- 163- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 164- 165 . عون الدولة والدين بن هبيرة (يحيي بن محمد بن المظفر بن هبيرة) (3) 637- 638- 640- 641 643- 644- 645- 646 647- (4) 376- (5) 82 85- 86- 91- 93. القاضي العويدس (5) 338. عويم بن ساعدة (2) 346- 417 424- 487. عويمر عمران بن الجليس (2) 386. ابن عياد (6) 43. بني عياد (6) 197. (أبو هلال) عياد بن سعيد الهنتاني (6) 421- 422- 423- 428 431- 434- (7) 296 297. أبو عياد بن عبد الحق من أم الفرج (7) 224- 241- 242- 485 486- 490. عياد بن أبي عياد 43. عياد بن أبي عياض العاصي (7) 274 277. (الشيخ أبو هلال) عياد بن محمد الهنتاني (6) 45- 406. أبو عياد بن يحيي بن أبي بكر بن حمامة (7) 228. بني عيار- العيارين (4) 445- (6) 197- (7) 62. عياش بن أبي ربيعة (2) 420. القاضي عياض (1) 560- (6) 307- 311. عياض بن الحرث (3) 23. عياض بن سهيل (2) 546. عياض بن عوف (2) 507. عياض بن غنم الفهري (2) 507 512- 542- 545- 546 547- 572- 575- (5) 248. عياض بن أبي لبنة الكندي (3) 192. عياض بن مسلم (3) 129. عياض بن مشرف بن أثبج (2) 477 (6) 29- 30- 32- 46 47- 78- 192- 198 227- 297- 588. عياض بن هميان بن هشام (3) 61 64. عياض بن وهب الهواري (4) 246- (6) 185. آل عيس (5) 569. الأمير عيسى (3) 654. الفقيه عيسى (5) 298. مجد الدين عيسى (5) 257. عيسى أخو أبو الحسن القرمطي (4) 127. (أبو نوح) عيسى بن إبراهيم (3) 370 372. عيسى بن أحمد (6) 52. عيسى بن أحمد المشطوب (5) 309. (أبو العيش) عيسى بن إدريس (4) (4) 16- 19- 20. عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان (7) 102. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 (الفائز بنصر الله أبو القاسم) عيسى بن الظاهر إسماعيل (4) 94- 95 96. (أبو موسى) عيسى بن الامام (7) 147- 512- 517- 519 520. أبو عيسى بن أبي الأنصاري عيسى بن عبد الله. عيسى بن أومغار (6) 509. عيسى البليدي (1) 826. أبو عيسى بن بدر (4) 688. عيسى بن جعفر (4) 35- 63- 129. عيسى بن جعفر بن المنصور (3) 274 286- 291. عيسى بن حاميم (6) 288. عيسى بن الحسن (1) 836. عيسى بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق (7) 389- 391. عيسى بن حصين (3) 242- 243. عيسى بن أبي حفص (6) 330. عيسى بن حمزة (4) 140- 279. عيسى بن خضير (3) 244. عيسى بن خلاط العقيلي (4) 327- 346. عيسى بن داود (6) 428- 433. عيسى بن رحاب بن يوسف (6) 48. عيسى بن رحو بن عبد الله (7) 308 498. عيسى بن رشيد (5) 234- (6) 222. عيسى بن زرعة السلمي (3) 154. أبو مهدي عيسى بن الزيات (1) 621 622. عيسى بن زيد (4) 143- 144. عيسى بن زيد الشهيد (4) 11- 22. عيسى بن زيد بن علي (1) 250 251- (4) 7. عيسى بن سعيد بن القطاع (7) 42 43. عيسى بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد (7) 158- 403. عيسى بن سليمان بن موسى الجون (4) 132. عيسى بن شبيب الثعلبي (3) 134. عيسى بن الشيخ (عيسى الشيخ) بن السليل الشيبانيّ (3) 343- 376 410- 423- 429- (4) 288- 384. المعظم عيسى بن العادل (4) 138- (5) 392- 398- 400- 401 402- 405- 406- 407 417. عيسى بن عبد القوي بن حمدان (6) 61. عيسى بن عبد الكريم (6) 364- (7) 305. (أبو منصور) عيسى بن أبي الأنصار عبد الله (6) 207- 276 278- 279. عيسى بن عبد الملك (6) 81. عيسى بن عطية (6) 41. عيسى بن عقيل بن معقل الليثي (3) 150. عيسى بن علي (6) 350. عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس (3) 160- 223- 233- 234- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 258- 264- 267- 278 287 . عيسى بن عمر (1) 766. عيسى بن عمر بن أعين (3) 125. عيسى بن عيسى (4) 290. عيسى بن أبي العيش (6) 290- (7) 12. عيسى بن أبي الفتوح بن عنتر (7) 218. عيسى بن فرخ شاه (فرخان شاه) (3) 364- 375. شرف الدين عيسى بن فضل بن عيسى (5) 503- (6) 13. (أبو الأصبع) عيسى بن القاضي (4) 199. عيسى بن كويز بن ربيعة (3) 182. أبو عيسى بن اللحياني (6) 483. عيسى بن لقمان بن محمد صاحب الجمحيّ (3) 260- 261. عيسى بن ماساي (7) 244. عيسى بن ما سرخس (3) 545. (عز الدين) عيسى بن مالك (5) 362. عيسى ابن الأمير أبي مالك (7) 271. عيسى بن ماهان (3) 226- 227 266- 319. عيسى بن محمد (7) 34- 132. عيسى بن محمد أخو المهدي (6) 313 316. عيسى بن محمد بن أبي خالد (3) 307 308- 309- 310- 311 316- 317- 327. عيسى بن محمد بن ربيعة (5) 500- 501- 502- (6) 9- 11. عيسى بن محمد بن سليمان (4) 20. عيسى بن محمد المخزومي (4) 124. عيسى بن محمد النوشري (3) 353. عيسى بن مريم عليه السلام (المسيح) (1) 248- 289- 290- 388 402- 405- 406- 407 443- 616- 650- (2) 68- 69- 70- 144 158- 167- 169- 170 171- 172- 173- 175 176- 177- 178- 179 180- 198- 199- 216 222- 236- 237- 238 239- 246- 251- 252 253- 262- 265- 270 309- 418- 450- 451 587- (3) 162- 419- (5) 247- 419- (6) 326 427- (7) 716. عيسى بن مزروع (7) 144. عيسى بن مسور (4) 152. عيسى بن مصعب (3) 44- 45. عيسى بن معقل العجليّ (3) 127 128. عيسى بن مقرن (6) 255. (المظفر) عيسى بن المنصور بن عبد العزيز الناصر (4) 210. عيسى بن منصور بن موسي الخراساني (4) 381. عيسى بن المهدي (3) 313- (4) 109. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 عيسى بن مهنا بن مانع بن جربلة (5) 442- 444- 456- 458 502- (6) 11. عيسى بن موسي الخراساني (4) 242. عيسى بن موسي السراج (3) 127 227- 229- 230- 231 232- 241- 242- 243 245- 246- 248- 253 254- 258- 259- 261 262- 265- 267- 273 310- 311- 471. عيسى بن موسي بن علي (4) 7. عيسى بن موسي الفودودي (7) 307. عيسى بن ميمون (6) 314. عيسى بن نسب (4) 200. عيسى بن نسطورس وزير العزيز (4) 65- 67- 318. عيسى بن يحيي بن إدريس (6) 51 52- 56- 64- 589. بني عيسى بن يحيي بن وسناف بن عبو بن أبي بكر بن حمامة (7) 485. عيسى بن يزيد الأسود (6) 147 172. عيسى بن يزيد الجلودي (3) 317. عيسى بن يعقوب بن جرمون (6) 39. عيسى بن يوسف (6) 198. عيسى بن يوسف بن اسطفانوس (3) 325- 345. عيسى الجلودي (4) 381. عيسى الحميري (5) 270- 271. عيسى الطيب (3) 487. عيسى الكرخي (3) 427. عيسى كوكز (5) 608. عيسى النوشري (1) 28- (3) 435 436- 440- 444- 446 452- 453- 482- (4) 41- 261- 400. عيسى الهكاري [ضياء الدين الفقيه] (4) 100- (5) 332- 335 342- 343- 355- 357 359- 372- 390. أبو العيش بن إدريس بن عمر (ابن وصالة) (6) 290. بني العيش بن عيسى بن خلاط (5) 39 (6) 178. العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام (2) 30. عيصاب بن إسحاق (2) 249. عيصو- بنو عيصو (2) 45- 48 99- 233. عيصو بن إسحاق (2) 43- 44 47- 233- 234- 251 (7) 6. العيطي (4) 208. عيفا بن مدين (2) 43- 49. عيفين بن مدين (2) 43- 49. عيلام بن سام (2) 82. عيلان (2) 362. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 عيلان بن قصر (6) 125. بني العين (3) 205. عين الدولة بن أبي عقيل (4) 80- (5) 13. عين الدولة الفاروقي (الباروقي) (4) 100- (5) 243- 245. عين الدين المشطوب الهكاري (4) 100. عيينة- أبو عيينة (3) 91- 92. عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري (2) 363- 440- 441- 445 466- 470- 496- 497 498. عيينة بن الشماس (2) 511. عيينة بن موسي بن كعب (3) 163 235- 252. العييني (4) 478. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 حرف الغين (غ) غازان (قازان) بن ارغو بن ابغا (5) 472- 473- 474- 475 476- 479- 480- 482 489- 502- 599- 608 619- 620. أبو الغازي بن ارتق السعيد نجم الدين غازي بن أرتق (3) 596- 598 600- 602- 603- 604 607- 608- 610- 617 618- (5) 257. الغازي بن إسحاق بن محمد بن علي (6) 253- 254- 333. أبو الغازي بن ألبي (5) 256. (سيف الدين) غازي بن أيوب (5) 147 298- 299- 300- 301 302- 303. أبي الغازي بن حسام الدين تمرتاش (5) 267. غازي بن جبريل (5) 388. غازي بن حسان (5) 292. غازي بن زنكي (سيف الدين غازي بن أتابك زنكي) (5) 79- 185 186- 278- 280- 281 282- 283. غازي بن سنجر شاه (5) 314- 315. الظاهر غازي بن صلاح الدين (5) 194- 195- 201- 202 312- 313- 315- 353- 354- 355- 356- 363 366- 367- 376- 384 385- 386- 387- 391 392- 393- 394- 396 398- 402- 406- 407 409- 414- 435- 437 438- 446- 502- 505 552. شهاب الدين غازي بن العادل صاحب حلب (5) 147- 167- 322 398- 401- 404- 410 508. سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود (5) 293- 294- 295 339- 340- 341. الأستاذ الغافقي (7) 327. الغافقي بن حرب العكي (2) 594 596- 603. ابن غالب (4) 95. غالب بن حنظلة (2) 377. غالب بن راجح (4) 134. غالب بن عبد الله الاسدي (2) 532. غالب بن عبد الله الليثي (2) 430. غالب بن فضالة الليثي (3) 170. بني غالب بن فهر (2) 63- 385. بني غالب بن قطيعة (2) 363. غالب بن يحيي (4) 279. أبو غالب الحمصي (5) 387. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 غالب الخصي مولى سيّد الناس بن محمد (7) 210. غالب الخصي مولى محمد بن عبد القوي (7) 123. أبو غالب المغيلي (7) 317. غالب مولى الحكم (4) 186- (6) 291- 292- (7) 25. غالب مولى الناصر (4) 56. غالب مولى المنتصر (4) 228. غالب مولى المهدي (4) 46. غالب الوائلي (2) 550- 551. غالش قيصر غالش بن يولياش (2) 246. أبو غالمسيس (1) 290. غالي الخادم (3) 479. غاليوس قيصر (2) 173- 246. غانم بن أحمد بن علي (4) 684 685. غانم بن حميد الطوسي (3) 348. غانم بن عبد حارثة (2) 343. بني غانم بن عوف (2) 346. بني غانم بن كعب (2) 345. بني غانم بن مالك (2) 345. غانم بن محمد بن إبراهيم (7) 203. غانم بن محمد الطوبس (3) 341. غانم بن مردنيش (6) 327. غانم بن يحيي (4) 140. ابو غانم الطائي (3) 227. غانم اليرزيكاني (اليرزنكاني) (4) 604. ابن غانية (4) 209- (6) 54 96- 112- 132- 607- 614- (7) 86- 104 361. بني غانية (4) 209- 210- (6) 27- 160- (7) 103- 104. ابن غانية الميروفي (6) 44. ابن غانية المسوفي (6) 251- 252 (7) 63- 69. غايش (2) 236. غانيس قيصر (2) 238. غبتر بن أبي العسكر (5) 75. بنو غبرة بن عوف (2) 368. بني غبرين (6) 169- 445- 462. غبشان (عمرو بن الحارث) (2) 397. ابو غبشان بن حليل (المحترش) (2) 374. بنو غبشان بن عبد عمرو بن لوي (2) 395. بنو غبشان بن كنانة (2) 396. الغدافر السكسكي (3) 276. الغدريك بن الريداكون (6) 447. غرابة (7) 67. الغرابلي (5) 356. بنو غربة بن أفلت بن معبد بن عمر بن عنبس بن سلامان (6) 8. غرديار بن بليسان (2) 226. غرديانوس اسقف بيت المقدس (2) 246. بني غرس بن زيد بن عبد الله (2) 378. غرسن بن غرسن (6) 196. غرسن بن كم بن يوسف (6) 195. غرسية بن شانجة (4) 162- 164 179- 181- 183- 184 229. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 غرسية بن فردلند (4) 228. غرم بن بكلين (7) 54. غرمس بن القمط (4) 231. غريان (6) 113- 183. ابن غريب (4) 336. غريب بن حارث (6) 65- 66. غريب بن محمد (4) 325. غريب بن معن (غريب بن محمد بن معن) (4) 329- 332- 631 639. (ابو سنان) غريب بن مكين (3) 553 554. غريبة بنت غريب بن مكن (3) 571. غريسة بن انطون (انطول) (7) 414 415- 416. ابن الغريغر (القريقر) (6) 389. الغريقيين (اليونانيين) (2) 220 221- 222- 224- 225 232- 247- 280- 281. ابن الغريم (4) 45. الغز (1) 96- (2) 11- (3) 563 568- 569- 570- 571 573- 640- (4) 79 82- 100- 101- 119 278- 279- 330- 331 345- 357- 410- 415 469- 471- 492- 493 498- 499- 504- 505 506- 507- 510- 518 522- 525- 538- 539 543- 635- 636- 637- 647- 651- 657- 672 673- 674- 690- 691 692- 693- 694- 695 696- (5) 5- 82- 83 84- 85- 87- 88- 90 91- 94- 95- 96 108- 110- 332- 333 427- 584- 589- (6) 4- (7) 105- 311 720- 723- 725. سيف الدين غزار (5) 474. غزالة زوجة شبيب (3) 198. الغزالي (ابو جامد) (1) 576- 578 590- 610- 613- 614 647- 648- 649- 696 (3) 592- 594- (6) 249 250. غزي الصنهاجي (6) 327. غزية من بني يزيد (2) 368- 375 (5) 77- (6) 99. بنو غزية بن أفلت بن معبد بن عمرو (2) 303. غساسة من نغزاوة (6) 119- 150 152- (7) 426- 633. غسان (1) 162- 444- 765 (2) 36- 63- 269 285- 287- 296- 298 300- 302- 304- 325 328- 332- 333- 334 335- 336- 340- 341 342- 374- 474- 512- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 514- 517- 542- (3) 275- 305- (4) 40 287- (5) 537- (6) 3 120- 598. غسان بن عباد (3) 312- 313 314- 315- 319- 389 (4) 432. غسان بن عباس (3) 319. غسان بن الفرج (3) 308- 310 311. الغسل من بني غاسل بن خراج (6) 181 غسمان بن تيطاسن بن غرش (6) 196. ابو الغشام (3) 571- (4) 361 362. غشول خليفة انبيل (2) 234. بني غضب بن جشم (2) 343. الغضبان بن أبي القبعثري الشيبانيّ (3) 55- 56- 650. غطرما بن عومر بن يافث (2) 218. الغطرين بن عطاء الكندي (3) 277. غطسة (امرأة اليوك) (2) 283- (3) 268. غطفان بني غطفان (1) 765- (2) 305- 344- 362- 363 364- 367- 430- 431 440- 441- 442- 445 453- 490- 496- 497 498- 617- (6) 2- 6 8- 22- (7) 621. بنو غطفان بن سعد (2) 362- (7) 602. غطفان بن عمرو بن لطمان (2) 285. غفار بني غفار (2) 30- 458 460- (3) 243- (5) 280. غفار بن مليل بن حمزه (2) 382. غفير بن سليمة بن مجاهد (6) 61- 62 غلاريس (2) 250. غلامة بن الزغير (3) 42. غلبنوش بن بارايان (2) 280. غلبون بن مرزوق (6) 113. غلينوش (2) 247. الفلس بن غمر ماء بن همدان (2) 304 أبو الفلمش (القلمس) (3) 239 242. غلمش (5) 104. غليالم بن رجار (5) 236- 237 238. غليان بن قيصر (2) 240. بني غليم ابن غليم (2) 9. غليم بن سام (كرزلا عامر) (2) 8 40- 125- 181. غمات (غياته) (6) 195. غمار بن مصمود (غمار بن اصاد بن مصمود غمار بن مسطاف بن مليل بن مصمود (6) 280. غماره (4) 14- 16- (6) 122 142- 152- 195- 247 290- 295- 296- 297 298- 299- 306- 320 (7) 12- 253- 255 300- 302- 341- 390. غماره بن مصطاف (6) 117. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 غمارة بن مصمودة (6) 117. الغمر بن عزرون (أبو الغمر بن عزرون) (6) 312- 313- 314 315- 317. ابن الغمر بن يزيد (3) 132. بني غمرة (6) 19- 75- 228- (7) 10- 14- 68- 243. أبو الغنائم نقيب العلويين (4) 359. أبو الغنائم بن المجلبان (أبو الغنائم المجلبان) (3) 547- 566- 569 571- 577- 584- (4) 338- 362. أبو الغنائم بن مزيد (4) 353. غنصالة قائد الروم (7) 317. بنو غنم بن دودان بن أسد (2) 380. غني (2) 362. غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان (7) 602. بني غواطة (4) 106. الغوث بن سامة (2) 27. بنو الغوث بن مرّ بن ادّ (2) 279. بني الغوث بن مرّة (2) 396- 397. الغور (2) 11- 102- (4) 521 522- 525- (5) 427 584- 599. ركن الدين غورشاه (5) 130- 139 140- 591. غورك (3) 79- 107- 109. الغورية (2) 20- (5) 88- 94 111- 114- 116- 117- 118- 119- 120- 122 125- 128- 154- 586 602- 609. الغوريين (5) 78. غياث بن المستند الأسدي (4) 154. غياث الدنيا والدين (3) 596. غياث الدين ملك الغورية (5) 109 110- 111- 114- 115 116- 117- 118. غياث الدين بن أبي الفتح محمد بن سام بن الحسين الغوري (4) 508- 522 523- 524- 526- 529 530- 532- 533- 534 539- 540- 541- 545 546. غياثة (4) 14- 16. غيث بن سويد (3) 197. أبو الغيث بن أبي نمي الشريف (4) 134- (5) 477- 480 495. الغيد (2) 267. غيلاس (6) 226. غيلان بن حريث (2) 499. غيلان بن خرشة (2) 577. غيلان بن سلمة (2) 465. غيلان بن عبد الله الخزاعي (3) 220. غيلان بن عقبة بن بهس (الشاعر ذي الرمة) (1) 790- 798- (2) 379. غيلان بن مسلمة بن معتب (2) 367. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 حرف الفاء (ف) فائد بن حريز (6) 107- 112. الفائز بن العادل (5) 313- 393 400. (أبو الحسن) فائق (4) 185- 459 462- 463- 464- 465 466- 467- 468- 472 473- 474- 475- 509 510- 602- 663. فاتك مولى المعتضد (3) 444- (4) 400. فاتك مولى يوسف بن أبي الساج (4) 443. فاتك بن جياش (4) 274. الفاتك الحرث بن ظالم بن جذيمة (2) 364. فاتك بن محمد بن بني نجاح (4) 140. فاتك بن محمد بن فاتك (4) 275. فاتك بن المنصور (4) 275- 277. بني فاتن من ضربه (6) 155. فاتن بن تمصيت بن ضريس (6) 120 155- 158- 161- 165. فادغ (مادع) بن كامل بن جامع (6) 606. الفادوسفان (2) 59. الفارابيّ (أبو نصر) (1) 519 633- 646- 709- 712 722- 727. فارح الحاجب مولى ابن سيّد الناس (7) 355- 383. فارح مولى أبو عبد الله (7) 532 533- 647. فارح مولى أبي عنان (6) 533- 534. فارح بن معلوجي (6) 516- 517. فارح بن مهدي (7) 468- 469. فارس (ارشيش بن ارطحشاشت) (2) 48- 137- 197- 600. فارس (بارس) الكبير (4) 435 440- 441. فارس حاجب إسماعيل بن سامان (3) 447- 449. فارس مولى قراتكين (4) 31- 552 553. فارس بن أبي الحسن (7) 386. أبو فارس بن أبي حفص (6) 394 438- 439- 440- 444 445- 495. السلطان أبو فارس (عبد العزيز) بن أبي العباس بن أبي سالم (1) 12- (7) 194- 196- 197- 481 482. فارس بن عبد العزيز (6) 363 364- (7) 431- 432. فارس بن عنان (6) 34. فارس بن أبي الغيث (6) 21- 22. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 فارس بن لاوذ بن سالم (2) 8. (أبو الشوك) فارس بن محمد (4) 693. فارس بن ميمون بن وادرار (6) 355 369- 539- (7) 350 368- 381- 388- 392 393. فارس بن يعقوب (7) 208. فارس بن يغمراسن (7) 114- 243. فارس العبديّ (3) 431. فارس بن يهوذا (2) 167. ابن الفارض (1) 617- 619. فارق بن شهريار (3) 332. فاروش بن انطونيش (2) 248. فاريوس الملك (2) 248. بني فازان (6) 273- 298- 341. الفازازي (7) 508. بني فاصلة (6) 119. بني فاضل (من لواته) (6) 6. الفاضل (1) 617- 545. الفاضل بن كامل (قاضي القضاة ابن كامل (4) 101. فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) فاطمة الزهراء (1) 29- 247- 391 404- 407- (2) 390 457- 458- (3) 5 238- (4) 5- 6- 34 141- 284- 582. بني فاطمة (3) 126- (4) 3. فاطمة أخت الأمير أبي زكريا (6) 407 497. فاطمة بنت أحمد الكردية (4) 308. فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب (4) 5- 6. أبو فاطمة الازدي (3) 109. فاطمة بنت الحسين (3) 105- 106 238. فاطمة بنت الخطاب (أخت عمر بن الخطاب) (2) 411- 413. فاطمة بنت سعد بن باسل (2) 397. فاطمة بنت عبد الملك (3) 94. فاطمة بنت فهم بن محرز (3) 127. فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله (3) 246. (أم البنين) فاطمة بنت محمد الفهري (4) 17. فاطمة بنت أبي يحيي (7) 346. فاطمة بنت يذكر (2) 287. أبو الفتح بن ورام (3) 578. فتح بن يحيى المسالتي (4) 40- 42 259- 260. أبو الفتح الفلاحي (4) 77. الفتح اليشكري (4) 571. فتح الدين بن الرشيد (5) 567. فتح الله بن عامر بن فتح الله (7) 415. فتح الله السدراتي (7) 257- 258 265. فتروسيم (2) 12. فتكين حب (5) 19. بني فتنة (6) 197. أبو الفتوح بن تميم (6) 232. أبو الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس (6) 231. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 فتوح بن الخير (7) 35. الفتوح بن دوناس (7) 47- 48. فتوح بن علي (6) 613- (7) 55. أبو الفتوح بن علي بن فضل الله الطغرائي (5) 96. أبو الفتوح بن عنتر (7) 218. أبو الفتوح بن أبي محفوظ (6) 213. أبو الفتوح بن المنصور (6) 218. أبو الفتوح بن ناصر (4) 189- 190. أبو الفتوح الطوسي (5) 8. سعد الدولة فتيان بن الأغر (5) 462. الفجاءة (جعونة بن يزيد بن زياد) (2) 375. الفجاءة بن عبد يا ليل (2) 498. فحل بن نوح رئيس لطانة (4) 40. ابن الفخار (6) 337. فخر بن نيسابور (5) 84. الفاطميون (1) 369- 408- 409 (4) 9- 22- 34- 104 145- 286- (5) 500- (6) 9- 195- 196- (7) 721. الفاكه بن المغيرة بن عبد الله (أبو قيس) (2) 388. بني فال من غمارة (6) 281. فالج بن عابر (2) 289. فالغ (2) 36- 37- 38- 52 80. فالغ بن ساعور (2) 48. فالغ بن عابر (2) 26- 78. فالغ بن فالغ بن عام (2) 11- 18. أبو فانيوس (2) 229- 244- 245- 246- 247- 248 255- 256- 260. فاهو النبي (2) 128. أبو الفتح (6) 177. فتح خادم الافشين (4) 427. فتح غلام ابن أبي الساج (4) 395. فتح مولى لؤلؤ (4) 346. الفتح بن خاقان (3) 350. أبو الفتح بن دارم (4) 694. أبو الفتح بن دارست (دراست) أبو الفتح بن أحمد بن دارست (3) 576- (5) 80. الفتح السبكري (3) 520. أبو الفتح بن أبي الشوك (3) 544 558- (4) 637- 691 692. أبو الفتح بن العميد (3) 531- 534 (4) 588- 592- 593 595- 596- 597- 600 604- 685. أبو الفتح بن الفرات (3) 503. أبو الفتح بن أبي الليث (3) 587- (5) 9. الفتح بن محمد (4) 202- (6) 334. الفتح بن ميمون الأمير (6) 173. أبو الفتح بن هزارشب (3) 635. فخر الدولة بن جهير (محمد بن محمد بن جهير) (3) 534- 579 581- 584- 585- 587 588- 594- 595- (4) 344- 354- 413- 414- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 415- (5) 6- 9- 11 46- 190- 248- 261. فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه (4) 460- 461- 462- 464 466- 473- 474- 490 596- 600- 601- 602 604- 605- 611- 617 648- 662- 663- 685 686. فخر الدولة طغايرك بن اكفر بن ويزك (3) 614. فخر الدين الاتابك (5) 431. أبو جعفر فخر الدين (5) 497. الامام فخر الدين بن الخطيب (1) 245- 590- 591- 647 649- 653- 660- 576. فخر الدين بن الخليلي (5) 473. (أبو بكر) فخر الدين ابن الدابة (5) 292. فخر الدين بن الزكي (5) 424. فخر الدين بن الشيخ (4) 133. فخر الدين بن شمس الدين كرت (5) 619. فخر الدين بن لقمان (5) 418- 441 446- 448. فخر الدين الحمصي (5) 440. فخر الدين الرازيّ (7) 512. فخر الدين السلاوي (5) 142. (أبو غالب) فخر الملك (3) 548 550- (4) 326- 328 622- 624- 625- 628- 688- 689- 690. (أبو علي) فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس (3) 612- 616- (4) 366- (5) 44. فخر الملك بن نظام الملك (3) 595 (5) 20- 22- 45. أبو الفداء (2) 102- 126- (3) 38- (4) 33- 391- (5) 266- 267- 325- 422 424- (7) 721- 722 723- 724. الفداوية (5) 32- 152. أبو فديك بن ثعلبة (3) 189- 195. ابن الفرات (المحسن بن الفرات) وزير المقتدر (3) 449- 456 469- 485- (4) 261 427. فرات بن حيان التغلبي (2) 433 524- 527- 547. فراج بن مطرف بن عبيد الله (6) 81. الفرار بن عفان (2) 162. بنو فراس (2) 396. بنو فراس بن مالك بن كنانة (2) 382. ابو فراس الحمداني (1) 790- (4) 302- 307. فراسة (4) 549. فراسياب بن فراسياب (4) 518- (5) 584. الفراعنة (2) 9- 30- 46- 84 85- 88- 92- 93- (3) 356- 366- 379- 380. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 الفرافصة بن ظهير العبسيّ (3) 155. فرامرز بن كاكوية (قرامرد- (3) 577. ابو الفرج ابن أخ ابو القائم (3) 574. ابو الفرج الأصفهانيّ (1) 764. (الرئيس ابو سعيد) فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر (7) 285- 300 301- 302- 311- 490. فرج بن خيران رئيس اجانة (4) 39 40. فرج بن رضوان (7) 666. (الناصر زين الدين ابو السادات) فرج ابن الملك الظاهر برقوق (7) 699 714- 715- 727- 728. ابو سعيد فرج بن عبد الله (فرج بن محمد بن عبد الله) (7) 139- 260. الفرج بن عثمان القاشاني كروية بن مهدوية (4) 107. فرج بن علي بن أبي الريش (6) 81. ابو الفرج بن عمران (4) 676- 677. فرج بن عيسى بن عريف (7) 176 580. ابو الفرج بن فسافجس (فسانجس) (3) 553- 556- (4) 638 641- 643. فرج بن مظفر (6) 59. الفرج بن يحيي (قرمط) (4) 12. ابو الفرج البابوني (4) 630. فرج الصقلي (4) 55. سيف الدين فرجي (برجي) (5) 518 520. ابو سليمان فرح (3) 282. الفرح بن عثمان (3) 419. الفرح بن يحيي (3) 420. ابو الفرخان الزينبي (2) 560. فرخزاد بن مسعود بن محمود (4) 508. الفرخذاد بن البندوان (2) 511 519- 520- 521- 584. عز الدين فرخ شاه (5) 344- 346 348- 351. الفردان الأهوازي (2) 535. فردريك بن الطاغية (6) 468. بني فردلند (4) 229. فردلند بن شانجة (4) 229. فردلند بن عبد شلب قومس قشتيلية (4) 181- 182- 183- 227 228. الفرزاد بن بيهس (2) 535. الفرزدق (1) 798- (2) 71. فرزدق بن غالب بن صعصعة (2) 378. الفرس (1) 9- 14- 16- 21 38- 50- 51- 107 169- 170- 183- 185 188- 207- 217- 218 222- 235- 238- 288 302- 304- 318- 320 323- 336- 337- 340 345- 378- 437- 442 445- 447- 462- 471 481- 486- 507- 538 631- 632- 748- 752 765- 776- 805- (2) 3 4- 6- 7- 9- 12- 19- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 24- 31- 55- 60- 61 64- 72- 73- 74- 75 76- 79- 82- 84- 87 102- 120- 124- 125 126- 130- 135- 136 139- 141- 145- 146 148- 150- 151- 152 160- 171- 180- 181 182- 183- 184- 187 188- 189- 190- 191 192- 193- 194- 195 197- 198- 201- 205 206- 207- 213- 214 215- 216- 220- 221 222- 225- 240- 244 246- 247- 248- 249 250- 253- 254- 256 258- 260- 262- 263 264- 265- 266- 270 280- 292- 304- 312 313- 314- 316- 317 319- 321- 322- 323 336- 357- 359- 401 405- 452- 508- 509 511- 513- 522- 523 526- 527- 528- 532 533- 534- 535- 536 537- 538- 540- 548 552- 556- 558- 560 565- 585- (3) 663- (4) 116- 283- 483- 518- 548- 560- (5) 86 90- 149- 151- 427 584- (6) 136- (7) 719 720- 732- 733. فرطنوش (ورمتيلوس) (فرطيخوس) (2) 244. ابن الفرعاني (1) 642. فرعون (2) 45- 46- 89- 92 93- 95- 112- 113 114- (3) 274- (4) 4 (6) 408- 410. فرعون الأعرج (بركة بن مناكيل) (2) 86- 122- 124. فرعون إبراهيم (سنان بن الأشل بن عبيد بن عولج بن عمليق) (2) 31- 85. فرعون ملك القبط (2) 39. فرعون ساناق (قصطرا) (2) 197. فرعون موسي (الوليد بن مصعب) (1) 484- 662- 706- (2) 31- 86. فرعون يوسف (الريان بن الوليد بن فوران) (2) 31. فرغ (بطن من خميس) (6) 75. فرغان (فوغال) (6) 120. الفرغاني (1) 617- (4) 383. بني فرقان (6) 595. ابن فرقان (6) 595- (7) 18. ابن فرقة (4) 90. فرقون بن مرينوس (2) 87. فرلبيب بن لوزنيق (4) 166. بني فرلوسن (فراسن) (6) 169. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 الفرنج (الافرنجة) (3) 600- 618 621- 649- (6) 193 194- 330. الفرنساويين (2) 221. الفرنسيس (2) 277- 279- (5) 418- 419- 431. الفرنسيس سنلويس بن لويس (6) 426- 428. فرنون بن موسي (4) 162. فرني (فريني) (7) 60. فرني بن جانا (7) 6- 68. فرهاد بن ماكان (4) 498. فرهاد بن مرداويج (4) 497- 627 645. أم فروة أخت أبي بكر (2) 494. فروة بن عمرو بن النافرة (2) 306 475. فروة بن مسيك المرادي (2) 34 475- 482- 491- 492 493. فروة بن نوفل الأشجعي (2) 640- (3) 178- 179. فروخ بن إبراهيم (2) 43. فروخ بن ماخد شيراز (2) 215. فروخ زاد بن خسرو (2) 216. فروخ هرمز (أصبهبذ خراسان (2) 215. فرودا شقيق هيرودس (2) 154. فرودا بن انظفتر (2) 144. فروفش قيصر (فروش قيصر) (2) 248. فرويلة بن الادفونش (4) 153- 227. فرويلة بن اردون بن رذمير (4) 179. بني فريغون (4) 482. فزارة بني فزارة (2) 335- 362 363- 364- 367- 397 471- 497- 517- 576 (3) 220- 338- (6) 5 6- 22- 78- 95- 101 586. فزان (2) 364. فسطاط الباجي (6) 393. فسيلو بن أنظفتر (2) 144- 149 150- 151. فضائل بن بديع (5) 67. أبو الفضائل بن سعد الدولة (4) 66 322- 323- 346. أبو الفضائل بن سيف الدولة (2) 275. أبو الفضائل بن الفرات (4) 67. فضالة بن عبد الله الأنصاري (3) 24. فضالة بن عبيد (2) 603- (3) 12. فضالة بن نعيم النهيلي (3) 209. فضالة بن هند بن شريك الاسدي (7) 598. آل فضل (2) 304- (5) 499 500- 502- 503- 523 557- 562- (6) 7- 8 9- 11- 12. الفضل (3) 263- 269- 273 462. الفضل قائد العزيز (4) 64- 316 317. أبو الفضل (3) 477- 508- (5) 57- (7) 365- 376. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 ابن الأمير أبو الفضل صاحب سجستان (3) 615. أم الفضل (2) 608- (3) 320. أبو الفضل بن أحمد (6) 99. الفضل بن أحمد بن سهل (4) 440. أبو الفضل البجائي (التجاني) (6) 483. أبو الفضل البغدادي (6) 18. الفضل ابن السلطان أبي بكر (6) 522 (7) 557. (أبو الفتح) الفضل بن جعفر بن الفرات (3) 469- 493- 499 505- 506. الفضل بن جعفر الهمدانيّ (4) 254. أبو الفضل ابن السلطان أبو الحسن (7) 411. الفضل بن حميد (4) 437. الفضل بن الخليل بن هشام (3) 323. الفضل بن الربيع (3) 280- 281 288- 291- 293- 295 297- 307- 308- 311 316. الفضل بن ربيعة (أبو عمران) بن حازم (خادم) الطائي (2) 304- (4) 365- (5) 500- 501 502- (6) 9- 10. الفضل بن روح (4) 245. أبو الفضل ابن السلطان أبو سالم (6) 41 42- 362- 363- (7) 165- 388- 421- 422 424- 426- 427- 429 431. (أبو العباس) الفضل بن سليمان الطوسي (3) 267. الفضل بن سهل (3) 249- 288 289- 290- 291- 292 293- 294- 303- 306 312- 313- 389. أبو الفتح الفضل بن صالح (3) 260 261- (4) 71. الفضل بن طاهر (4) 432. الفضل بن عامر الشيبانيّ (3) 197. الفضل بن العباس (2) 464- 487 (3) 287. (أبو أحمد) الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي (3) 522. أبو الفضل بن عبد الله بن أبي تاشفين (7) 352. أبو الفضل بن عبد الله بن أبي مدين (7) 351. أبو الفضل بن عبد الواحد التميمي (6) 211. فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني (6) 586- 587. فضل بن علي بن الحسن بن مزني (6) 405- 436- 453. الفضل بن علي بن راضي ابن الداعي محمد بن سبإ بن زريع (4) 281. فضل بن علي بن مفرج (بن جراح) (5) 501. الفضل بن أبي علي (بن علي) (6) 21- 22- 43. أبو الفضل بن العميد (4) 454- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 456- 457- 578- 580 581- 587- 588- 597 671- 672- 685 . أبو الفضل بن عنان (3) 546- (4) 621. فضل بن عيسى (1) 393- (5) 488- 502. فضل بن أبي العين (4) 250. فضل بن فضل (2) 304. فضل بن قارن (3) 348- 355 375. الفضل بن كاووس بن خالد (3) 315. (أبو العباس) الفضل بن محمد (4) 451- 452- 575. أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت (7) 504. الفضل بن محمد بن الصباح الكندي (3) 311. أبو الفضل بن محمد بن أبي مدين (7) 350. فضل بن مخلد بن كيراد (4) 50- 54 55- (7) 18- 22. الفضل بن المخلوع الفضل بن الواثق بن المستنصر. الفضل بن مروان (3) 322- 348 375. أبو الفضل بن مطرح (6) 355. (أبو القاسم) الفضل بن المقتدر المطيع. أبو العباس الفضل بن مكي (6) 495 527- 528- 529- 531 532- (7) 372- 375. فضل بن مهنا (6) 12. الفضل بن موسي (3) 297. الفضل بن موسي بن بغا (3) 427. أبو الفضل بن موسي بن زغلي (6) 57. فضل بن ميمون بن دريد بن مسعود (6) 46. فضل بن ناهض (6) 21. الفضل بن الواثق (6) 437- 607 (7) 508. الفضل بن يحيي البرمكي (1) 22 23- 81- 532- (3) 274- 277- 280- 282 285- 286- (4) 9- 549. الفضل بن يحيي المخلوع (6) 99. الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيي (7) 157- 353- 356- 365 366- 367- 374- 376 386- 392- 523. فضل بن أبي يزيد فضل بن مخلد. الفضل بن يعقوب (4) 252. أبو الفضل بن أبي يوسف (4) 443. الحاج فضل قهرمان (6) 264. أبو الفضل الكرماني (5) 79. أبو الفضل النسوي (3) 449- 547. أبو الفضل الهروستماني (5) 16. (أبو الطيب رشيد الدولة) فضل الله بن يحيي الهمدانيّ (5) 621. أبو ثعلب فضل الله الغضنفر (4) 583. فضلة بن نعيم المنشلي (3) 225. فضلوبواش (3) 641. فضلون الكردي (4) 673. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 فضيل بن حبان المهري (3) 117. الفضيل بن عياض (1) 23. فطارة من ممديل (6) 162. فطواكة (6) 126- 271- 272. بني فقيم (2) 69. فقيموس (2) 243. فكرون بن محمد بن عبد الرحمن (6) 82. الفل من سويد (7) 160. فل مليلة من قلدون بن اوريغ (6) 118. فلاذ اليمياوي (5) 510. فلاسة من يسودة بن كتم (6) 196. فلاستون (3) 562- (4) 650 651- 653- 654. فلح بن بشر القشيري (6) 145. فلديغيش بن بطليموس (2) 224. بني فلسطين (1) 441- (2) 105 106- 109- 110- 111 112- 121- (6) 127. بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام (7) 5. فلشنين (2) 12. بني فلفول بن خزر (6) 207- (7) 35- 38. فلفول بن سعيد بن خزرون أمير مغراوة (4) 72- 107- (6) 23 208- 209- 238- 613 614- (7) 25- 44- 50 53- 54- 55- 60. فلفول بن مسعود الزناتي (6) 210. فلقول بن يأنس مولى الحاكم (6) 238. فلفش بن اولياق بن انطونيش (2) 246. فلوباذي بن فلديغيش (2) 224. فلوديش بن يلاريان بن موكلة (2) 247. فلوديش قيصر بن طباريش (2) 173 238. فلوماطره بن ايفانش (2) 224. فلية (فلمة) من بطون سويد (6) 61. فليلقوس (2) 136. فمقيوس (2) 144- 145- 146 235. فناخسرو بن محمد الدولة (4) 636 637. فنحاء (2) 116. فنحاس خازن الهيكل (2) 164. فنحاص بن العيزر بن هارون (2) 98 99- 102- 129. سيف الدين فنحاص (ميحاص) المنصوري (5) 469- 470 476. فهر بن مالك (2) 385- 398. الفهريون (4) 150. بن تيم اللات بن أسد (2) 296- 300. بني فهم بن عمر بن قيس بن عيلان (6) 107. فهم بن عمرو بن قيس (2) 362. أبو الفوارس بن بهاء الدولة (3) 548 551- 552. فودح بن ايصهر بن فاهث (2) 97. فودينوس (قرطانوس) (2) 246. فور ملك الهند (2) 223. فورح (2) 107. فوس بطرك اسكندرية (2) 265. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 فول ملك بابل والموصل (2) 79 119- 131. فولاد بن خرو الديلميّ (3) 564- (4) 653- 678. فولاد بن ماندان (4) 612. فولاد بن مابدرار (3) 536. فولاذ زماندار (4) 607. (أبو المنصور) فولاستون بن أبي كاليجار (3) 565- 566. فولال بن ورتناج بن ورصطف (6) 120. فولالة (6) 170. بني فولالين (تولالين) (6) 170. ابن خويز منداد (1) 568. أبو جعفر الفياض بن معز الدولة (4) 568. فياض بن مهنا بن عيسى (5) 503- (6) 13. فيثاغورس (2) 196- 222. الغيداق (المقوم بن عبد المطلب) (2) 391. فيد وبن قاشي بن كفود بن اوكداي بن جنكزخان (5) 599- 601. الفيرزان (2) 522- 523- 524 531- 533- 534- 536 556- 557- (4) 453. فيروز أتابك غازان (5) 472. فيروز أصبهبذ (3) 232. فيروز الديلميّ (2) 482- 483 491- 492- 538- (4) 268. فيروز بن فلفول (3) 92. فيروز بن مهرخشنش (2) 216. فيروز بن يزدجرد (2) 207- 208 210- 214- 315- 326. فيروزجوه (1) 227. (أبو طاهر) فيروز شاه بن عضد الدولة (3) 536- (4) 603. فيصل بن زعزاع (6) 101. فيصل السامر (4) 23. فيلادلفس (بطليموس) (2) 198 227. فيلاطوس (2) 177. فيلسنصر بن أويل (2) 125. فيلفوس (2) 222- 223- 228. فيلفوش بن آمنة بن هركلش (2) 221. فيلفوش بن مطريوش (2) 221. فيلقوش قيصر (2) 158- 159 238. فيليبس (2) 172- 173- 193 198- 221- 226. أم الفينان (2) 48. الفينيقيون (6) 274- (7) 90. الفيومي (5) 635. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 حرف القاف (ق) قائد (6) 6. قائد بن أحمد (6) 99. القائد بن حامد بن بكلين (6) 19. القائد بن حماد (6) 210- 228 229- 235. قائد بن عامر (6) 41- 43- 344. قائد بن عمر (6) 344. قائد بن ميمون الصنهاجي (6) 212. بنو قائل (6) 75. (أبو جعفر) القائم بأمر الله بن القادر باللَّه من خلفاء بغداد (3) 554 556- 560- 563- 567 568- 570- 572- 573 575- 576- 577- 581 583- 584- (4) 76 104- 128- 337- 338 340- 342- 351- 358 638- 639- 642- 655 657- (5) 4- 6- 7- (6) 18- 211. القائم المنتظر (4) 89. أبو القاسم القائم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب إفريقية. قائم بن محمد بن مردنيش (6) 323. القائم بالحق قرمط (3) 419 420- 501- (4) 108 107- (5) 32. قائم الدين (5) 143. قابوس (3) 499- (4) 490 511- 631. شمس المعالي قابوس (4) 663- 664. ابو قابوس (3) 445- (4) 426. بني قابوس (4) 665. قابوس بن قابوس بن المنذر (2) 320. قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران (2) 31. قابوس بن المنذر الأكبر (2) 316 317- 321. قابوس بن هند (2) 322. قابوس بن وشمكير (4) 460- 461 469- 601- 602- 662 663- 685. القادر باللَّه (3) 449- 550- 551 552- 554- (4) 127 219- 328- 468- 476 484- 612- 630- 638. القادر بن ذي النون (القادر بن يحيي بن ذي النون) (4) 186- 191 201- 202- 203- 204 205- 206- (6) 240 248- 249. ابو قادم (6) 147. القاضي ابن قادوس (4) 84. قاران بن شهرزاد (4) 27. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب سيد الأخلاق (2) 462- 464- 469. القارة (2) 379- 381- 397. قارة بن مهنا (5) 503. قارع (2) 369. القارغلية (5) 77- 78- 83- 86- 95- 96- 171. قارلة الأكبر (4) 232. قارن بن شهرزاد (3) 358. قارن بن شهريار (4) 550. قارن بن فريانس (2) 508- 509- 535- 586. ابن قاروت صهر السلطان مسعود (3) 635. قاروت بك (3) 573- 583- (5) 6. قاروت بن داود (3) 580. قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوي (2) 107. قارون القصري (5) 552. قاريمان بن أيبك خان (5) 609. قاسط (6) 3. بني القاسم رؤساء بني عبد الواد (1) 166- (6) 231- (7) 29- 96- 97. ابن القاسم (1) 567- 568- 569- 732. ابو القاسم العزقي (الفقيه) (5) 11- (6) 173- (7) 245- 246- 249- 303. القاسم بن إبراهيم (4) 178. قاسم بن أحمد (6) 99- 106. القاسم بن إدريس (1) 166- (4) 16- 20- (6) 289- (7) 96. القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر (3) 243- 294- 295. قاسم بن الأشعث (3) 66. قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح (2) 101- (7) 687. ابو القاسم بن امام الحرمين (5) 29. ابو القاسم بن بختيار (3) 543- 544. ابو القاسم ابن الشيخ أبي بكر بن الحسن بن خلدون (6) 436. القاسم بن أبي بكر بن مسافر (7) 512. قاسم بن ثابت (2) 402. القاسم بن جماز بن قاسم بن مهنى (4) 137. القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن (3) 243. ابو القاسم بن حفص (4) 31- 441. (ابو حفص) القاسم بن حفص (4) 552- 553. الوزير ابو القاسم بن حكيم (4) 225. قاسم بن حمود (4) 192- 193- 194- 196- 197- 198- 205. القاسم بن حمود بن ميمون (6) 295. ابو القاسم بن أبي حيي (ابن أبي حيي) (6) 452- 453- 461- 462- 463- 464- 465- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 477- 500- (7) 136. ابو القاسم بن خلف بن أحمد الشاطبي السرعيني (7) 510. قاسم بن خلف الله (6) 616. القاسم بن ربيعة الثقفي (2) 602. القاسم بن الرشيد المؤتمن (3) 279- 282- 283- 290- 300. ابو القاسم بن رضوان (1) 796. ابو القاسم بن زيتون (1) 544- (7) 512- 516. القاسم بن أبي زيد بن أبي حفص (6) 46- 421- 422- 424. القاسم بن سليم (2) 619. ابو القاسم بن سليمان بن الحسين بن مخلد (3) 506. ابو القاسم بن سيجور (4) 466- 467- 469- 475- 476. القاسم بن سيما (3) 449- 478- (4) 289. ابو القاسم بن أبي شعيب بن مخلوف (7) 314. ابو القاسم بن طاهر (6) 544. قاسم بن طملس (4) 178. القاسم بن عباد (4) 195. القاضي المحدث أبي القاسم بن عبد الرحمن بن حبيش (2) 55. القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود (3) 175. ابو القاسم بن عبد العزيز (6) 477- 486- 492- 493- 501- 502- 505- 508- 510- 511. ابو القاسم بن عبد الله (3) 517- (6) 191. القاسم بن عبيد الله (3) 241- (4) 426. ابو القاسم بن عبيد الله المهدي (1) 28- 283- (3) 463- (4) 41- 42- (6) 242. ابو القاسم بن عبيد الله بن سليمان (3) 441- 442- 446- 452- 455. (المزوار) القاسم بن عتو (7) 279. ابن عتو ابو القاسم بن عتو شيخ الموحدين (6) 498- 503- 512- 514- 520- 521- 528- 529- 598- 609- (7) 332- 354- 356- 357- 375. ابو القاسم بن عزومة (محذومة) (6) 430. القاسم بن علناس أخو الناصر (6) 26- 230. ابو القاسم بن علناس (6) 516. القاسم بن علي بن إسماعيل (3) 358- 424- (4) 27- 143. ابو القاسم بن علي (5) 129. القاسم بن علي بن زين العابدين (4) 27. ابو القاسم بن العميد (3) 532- 533- (4) 592. ابو القاسم بن عياض (4) 692. (ابو دلف) القاسم بن عيسى بن إدريس العجليّ (3) 292- 294. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 ابو القاسم بن فيرة (1) 552. قاسم بن أبي قليبة (4) 131. ابو القاسم بن ماكولا (3) 554- (4) 640. القاسم بن مجاشع (3) 150- 153. ابو القاسم بن المجلبان (3) 566. القاسم بن محمد (3) 106- (4) 39- 131. القاسم بن محمد بن إدريس (1) 166. القاسم بن محمد بن أبي بكر (1) 257. ابو القاسم بن محمد بن شيخ الجماعة (7) 657. القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية (6) 179- 180- 246. القاسم بن محمد الكنون (4) 19- (6) 290. (ابو دلف) القاسم بن محمد الجاواني (4) 695. ابو القاسم بن أبي مدين (7) 326. قاسم بن مرا بن أحمد (6) 106- 107. القاسم بن أبي مرّة (1) 390. قاسم بن مرة بن أحمد (1) 410. أبو القاسم بن مزيد (6) 494. أبو القاسم بن المستضيء (4) 88. قاسم بن مطرف بن ذي النون (4) 183. أبو القاسم بن المغربي (المقري) (4) 67- 81. القاسم بن منصور (3) 258. أبو القاسم بن منصور بن سامان (4) 602. القاسم بن مهان (3) 427. أبو القاسم بن المهدي (7) 34. (أبو فليتة) القاسم بن مهنا (5) 369. القاسم بن مهنا بن حسين بن مهنى بن داود (4) 137. القاسم بن نجيب (3) 118- 119. أبو القاسم بن السعيد نصر بن أحمد (4) 30. أبو القاسم بن نوح (4) 662. أبو القاسم بن واران (وازار) (6) 511. ابن القاسم بن وهب (1) 425. أبو القاسم بن أبي يحيى (6) 588. أبو القاسم بن يعقوب بن عبد السلام (6) 108. الشريف أبو القاسم بن يعلى (بن أبي يعلى) الهاشمي (4) 58- 59. أبو القاسم البرجي (7) 648. أبو القاسم البريدي (أبو القاسم بن البريدي (3) 522- 524- 525- (4) 572- 574- 576- 674. الشريف أبو القاسم التلمساني (7) 403- 405- 428- 441- 444. أبو القاسم الجرجاني (6) 211. أبو القاسم الحكيم السرندي (7) 459. أبو القاسم الحوفي (القاضي) (1) 572- 638. أبو القاسم الرحوي (7) 357- 513- 514. الشريف أبو القاسم الدبوسي العلويّ (5) 16. القاسم الرسىّ (القاسم بن الرسىّ) بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 إبراهيم طباطبا (4) 12- 139- 269. أبو القاسم الروحي (1) 717. أبو القاسم الزنجاني (5) 26. أبو القاسم الساباذي (5) 70- 71. الشريف أبو القاسم السبتي (1) 802. أبو القاسم الشاطبي (1) 553- 797. أبو القاسم الشهرزوري (6) 573. أبو القاسم الشيعي (1) 315. الفقيه أبو القاسم العزفي (6) 297- 348- 401. أبو القاسم القرمادي (6) 446. أبو القاسم القشيري (2) 371- (3) 579- (5) 16. أبو القاسم الكرخي (3) 556- (4) 642. القاسم المختار (4) 139- 140. أبو القاسم المغربي (3) 550- 551- (4) 128- 628. أبو القاسم الورنجومي (4) 38. بني قاضي (7) 205- 215. القاضي بن العربيّ (1) 567. القاضي بن محمد (4) 175. قافلة (4) 226. قانمار (5) 173. قانوس بن شمعون بن يوجان (2) 141. قاهث بن لاوي (2) 92. (أبو منصور) القاهر باللَّه محمد بن المعتضد (1) 494- (2) 274- (3) 457- 473- 486- 487- 488- 489- 490- 491- 493- 494- 508- 511- (4) 126- 290- 403- 562. الأمير قاياز (3) 610. قايماز الحراني (5) 299. الأمير قايماز العميدي (3) 642- 643- 652- (4) 95- 131. قطب الدين قايماز المظفري (3) 648- 651. الأمير قايماز النجمي (5) 358- 364- 370. مجاهد الدين قايماز (5) 302- 303- 304- 305- 307- 308- 309- 310- 311- 312- 316- 348- 352- 378- 385. القبائلي كاتب الناصر (7) 158- 256. ناصر الدين قباجة ملك الهند (4) 548- (5) 142- 143- 145. قباذ (2) 60- 62- 209- 315- 322- 326- 329- 508- 538. قباذ بن أبرويز (2) 264. قباذ بن فيروز (2) 62- 208- 209- 315. قباذ بن نيرون (2) 258- 259- 260. القباع بن أبي ربيعة (3) 183. القبط (1) 9- 15- 17- 38- 50- 177- 447- 481- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 486- 487- 507- 631- 655- (2) 3- 8- 12- 14- 19- 22- 23- 31- 46- 48- 49- 82- 84- 85- 86- 87- 88- 89- 92- 93- 94- 209- 220- 261- 555- (4) 377- 478- (6) 123- 153- (7) 5- 719. قبط بن حام (قوط بن حام) (6) 126- 264. قبط بن لأب (لايق) بن مصر (2) 14- 84. قبط بن مصر (2) 84. ابن قبط بن النبيط (2) 84. قبطقاي (2) 12. القبفار (البطريق) (2) 543. قبلاي بن تلوي خان (5) 598- 599- 600- 601- 605- 613- 615- (7) 724- 739. قبيح الخادم (خادم الافشين) (3) 456. قبيحة أم المعتز (3) 370- 371- 372. بني قبيصة (5) 501- (6) 10. قبيصة من عبس (2) 605. قبيصة بن الأسود من بني نبهان (2) 479. قبيصة بن اياس (2) 405. قبيصة بن حنيفة (3) 16. أبو قبيصة بن ذؤيب الخزاعي (1) 414- (3) 42- 72. قبيصة بن أبي صفرة (أخي المهلب) (4) 243- (6) 147. قبيصة بن ضبعة العبسيّ (3) 14- 15. قبيصة بن المهلب (3) 92. قبيصة بن والق (3) 197. قبيصة بن أبي يعفر (2) 304. قتادة أبو قتادة بني قتادة (1) 392- (2) 42- 433- 445- 500- 540- 611- 640- (4) 131- 495- 496- 546. أبو عزيز قتادة بن أويس بن مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى (قتادة النابغة) (4) 13- 132- 142. قتادة بن النعمان (2) 435. قتال بن أليفاز (2) 47. قتبان (4) 177. قتلغ بن البهلوان (5) 100- 101. ابن قتيبة (1) 763- (2) 62- 64- 73- 334- 344- 371- 622- (4) 7- (6) 122- 127- (7) 611. أبو الليل قتيبة بن حمزة (6) 524- 525- 528- 529- 531- 567- 571- 573- 597- 601. قتيبة بن أبي عون (6) 101. قتيبة بن مسلم الباهلي (2) 582- 585- (3) 17- 55- 65- 66- 69- 72- 74- 75- 77- 78- 79- 81- 83- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 85- 86- 87- 88- 91- 103- 173- 174- 199- 327 . قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس (2) 391- 464- 487- 606- 611- 648- (3) 250- 251- 252- 260. قجماش (5) 556- 559. أبي قحافة (6) 75. قحطان بني قحطان (2) 4- 11- 19- 30- 36- 44- 52- 53- 54- 63- 66- 75- 187- 218- 287- 292- 308- 356- 416- (4) 188- 273- (6) 336- (7) 358. قحطان بن عامر بن شالخ بن ارفخشذ بن سام (2) 52. قحطان بن الهميسع بن أبين بن قيذار بن نبت بن إسماعيل (2) 289. قحطان بن يمن بن قيدار (مهزم) (2) 52. القحطانية (2) 34- (4) 279. بنو قحطبة (1) 21- 350- (3) 290- 299. قحطبة بن شبيب بن خالد بن سعدان (3) 127- 128- 146- 148- 153- 158- 159- 163- 178. بني القداح بن اليهود (3) 547. قدار بن سالف (2) 26. أبو قدامة (1) 396. قدامة بن زياد (3) 342. قدامة بن عفان (2) 411. قدامة بن مظعون (1) 267- (2) 387- 415- 548- 603. قدرخان بن بقراخان (4) 480- 514- 516- 518. القدري (1) 68. قدما (2) 44. قدما بن إسماعيل (2) 394. قدوح (2) 48. قدودا (2) 156- 157. القدوري (1) 30- (3) 499- 547. فخر الدين قرا أرسلان (5) 283- 289- 306. المظفر قرا أرسلان بن أرتق (5) 257. بهاء الدين قرا أرسلان السيفي (5) 473. قرابقا البدري (5) 521. قرابقا الصرغتمش (5) 521- 522. قراتكين (4) 31- 437- 440- 441- 446- 552- 553- 609- 610- 686. الأمير زين الدين قراجا (5) 392- 393. قراجا بن دلقادر (5) 634. قراجا بن طشتمر (5) 606. قراجا بن العادل (5) 514. قراجا الدكرمس (5) 390. قراجا الساقي صاحب فارس (3) 615- 625- 626- (5) 40- 57- 69- 70- 171- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 216- 268- 271- 385 . قراخان (4) 441- 442- 511- 512- 513. قراد مرداش (5) 561- 566- 569- 570. آل قراسنقر- قراسنقر (3) 633- (5) 74- 75- 76- 103- 390- 472- 499- 622- 633- (6) 12. علاء الدين قراسنقر [صاحب مراغة] (5) 418. قراسنقر الاحمديلي (5) 102. شمس الدين قراسنقر الجوكندار المنصوري (5) 459- 464- 467- 469- 470- 471- 473- 476- 477- 478- 482- 486- 487- 488- 489- 491. قراسنقر الخمارتكين (5) 72. قراسنقر الظاهري (5) 465. قرافطة بن الأصبغ بن دؤالة (3) 141. قراقش بن رياح (6) 29- 44- 606. قراقش الغزي (الغنوي) المطغري مولى بني أيوب (6) 96- 112- 252- 255- 256- 257- 328- 333- (7) 361. بهاء الدين قراقوش (3) 650- (4) 100- 101- 103- (5) 332- 333- 334- 336- 342- 356- 374. قراقوش الارمني المعظمي الناصري (مملوك تقي الدين أخو صلاح الدين) (6) 28- 188- 255. قراكسك بن نوغينة (5) 607. قرا محمد أمير التركمان (5) 625- 626. قرامرد (4) 647. القرامطة (1) 320- (2) 20- 369- (3) 419- 420- 431- 437- 438- 441- 443- 446- 450- 464- 469- 470- 471- 472- 482- 484- 489- 493- 501- 505- 512- 517- 524- 525- 526- 528- (4) 13- 36- 59- 60- 61- 107- 109- 110- 111- 112- 113- 114- 115- 116- 117- 118- 124- 125- 126- 298- 398- 407- 574- 584- 607- (5) 32- (6) 9- 17- 40- 79- 94- 211. قراياق (5) 598. قرجان (5) 226. قرخاد ابن السلطان مسعود (4) 507. قردخان (5) 77. قردم الحسيني (5) 534- 539- 548- 549- 550- 570. قردمرد المعلم (5) 561. أبو قره (4) 242- (6) 147- (7) 101. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 بني قرة (2) 369- (4) 70- 71- 72- 107- 234- (6) 21- 22- 23- 29- 30- 34- 37- 38- 261- 376. أبو قره المغيلي (6) 164- 165. قرة بن شريك (3) 173- 174- 175. بني قرة بن هلال بن عامر (6) 5. أبو قرة الصفري (7) 202. أبو قرة اليعقوبي (4) 246. أبو قرة اليغرني (7) 15- 16- 17. قرسين بن بهرام (2) 204. قرشاس (3) 348. قرط بن عمر (5) 534- 536- 540- (7) 699. قرط التركماني (3) 666. قرطانوس (فودينوس) (2) 246. قرطاي (شهاب الدين) (5) 490- 527- 528- 529- 530- 531- 536- 537- 538. قرطاي الطازي (5) 528. قرطاي بن عبد الله المعزي الاشرفي (7) 695. قرطاي المنصوري (5) 533- 534. القرطبي (1) 555- (2) 354. قرظة بن كعب الأنصاري (2) 621. القرظي (2) 42. قرقماش (5) 561. قرقوب (5) 81. قرلي (5) 76. القرم (5) 608. قرماش الجندار (5) 551. بني قرمان (5) 67- 636. القرمطي صاحب الشامة (1) 29- (3) 501- (4) 399. قره بن إياس (1) 388- 401. قره بن عبد منان (6) 33. قره بن هبيرة (2) 497- 498. أبو قره بن أبي يفرن (7) 29. أبو قره المنتزي (7) 23. قرواش (قراوش) بن علي (4) 325. قرواش بن شرف الدولة مسلم (3) 620- (5) 500- (6) 10. قرواش بن المقلد (معتمد الدولة) (3) 546- 547- 550- 551- 552- 557- 559- 560- 561- 562- (4) 326- 327- 328- 329- 330- 331- 332- 333- 334- 335- 336- 337- 344- 354- 355- 364- 410- 411- 493- 497- 621- 624- 628- 629- 630- 631- 633- 634- 637- 641- 644- 651. ابن قرى صاحب بسكرة (7) 184. ابن القرية (2) 358. قريش القرشيون (1) 21- 40- 116- 135- 162- 197- 224- 234- 242- 243- 244- 249- 255- 261- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 265- 268- 270- 286- 303- 391- 392- 404- 408- 409- 437- 438- 525- 610- 765- 804- (2) 5- 19- 44- 63- 71- 72- 74- 75- 76- 213- 266- 287- 291- 296- 313- 345- 347- 348- 349- 350- 355- 374- 379- 381- 382- 385- 386- 387- 389- 391- 393- 396- 397- 398- 399- 400- 401- 402- 404- 406- 407- 408- 419- 421- 423- 424- 425- 426- 427- 428- 429- 431- 432- 433- 434- 435- 438- 441- 442- 444- 447- 449- 452- 454- 455- 456- 457- 459- 461- 462- 466- 470- 479- 487- 488- 490- 499- 570- 581- 583- 586- 587- 589- 590- 592- 603- 613- 618- 636- (3) 3- 4- 5- 9- 10- 19- 23- 24- 42- 44- 45- 52- 97- 120- 130- 132- 200- 207- 210- 214- 215- 239- 338- (4) 35- 117- 125- 188- 189- (5) 635- (6) 3- 123- 146- 150- (7) 33- 249- 548- 621. قريش بن إبراهيم (5) 261. قريش بن بدران (ابو المعالي) (2) 371- (3) 564- 565- 566- 568- 570- 571- 572- 573- 574- 575- 579- (4) 335- 336- 337- 338- 339- 340- 342- 357- 358- 412- 413- 651- 655- 656- 657- (5) 187. قريش بن التونسي (4) 248. قريش بن شبل (3) 297- 298. قريش بن عبد الله العبديّ (3) 113. قريش بن كنانة (1) 20. قريش بن مسلم (4) 369. قريش بن المسيب (4) 336. بني قريظة (2) 38- 61- 101- 340- 341- 344- 348- 349- 441- 442- 443- 444- 446. بني قريع بن عوف بن كعب جعفر انف الناقة (2) 377. قزجان بن قراجا (5) 51- 52. ابن قزل (4) 371. قزل (4) 493- (5) 70- 72. قزل بن ايلدكز (5) 100. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 قزل خان بن أمين الملك (5) 142. قزمان ملك التركمان (5) 265- 493. ابن قزمان أمير التركمان (5) 473. قزونت أو فرونت بن محمد بن ورزين (7) 220. القزويني (7) 611. قس بن ساعدة (4) 286. قسّام داعية العزيز العلويّ (4) 64- 65- 316- 318. قسر (2) 302. قسرة (6) 316. قسطايان من سليايان (6) 161. قسطس القاضي (2) 239. القسطلي (1) 779. قسطنطش (2) 248- 249- 250. قسطنطين (1) 290- 291- 443- (2) 89- 122- 177- 178- 205- 247- 249- 250- 251- 252- 253- 264- 272- 276- 281- (3) 167- 223- 255- 256- 479- (4) 264- 333- 334. قسطنطين بن ارمانوس (2) 275- (4) 317- 318. قسطنطين بن أليون (2) 273- (3) 282. قسطنطين بن الدمستق (4) 300. قسطنطين بن قسطنطين (2) 175- 176- 253. قسطنطين بن قلفط (2) 273. قسطنطين بن لاون لاوى (2) 271- 274. قسطنطين بن هرقل (2) 269- 575. قسطنطين بن هلانة (2) 274. قسطوس بن قسطنطين (2) 252- 253. القسم بن بايحين (3) 477. قسطون (4) 230. قسنطيل البطريق (4) 250- 251. قسنطين بن ليون بن شل (4) 180. قسنطينوس بن قسطنطين (2) 269- 270. قسي بن منبه بن بكر بن هوازن (2) 367- 402. ابن قسي شيخ الصوفية (1) 199- 403. ابن القشاش (6) 516. قشتالة من أنجفة (6) 202. قشتمر (3) 656- 657- (5) 522- 530. جلال الدين قشتمر (5) 145. الناصر قشتمر (5) 165. قشتمر الاشرفي (5) 561- 563- 570. قشتمر المنصوري (5) 503- 513- 517- 523- 524- 528- 581- (6) 13. القشتيني (6) 394. القشقري (3) 104. قشلوط (2) 111. بني قشير (3) 589- (4) 353- (5) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 12- (6) 15. بنو قشير بن كعب (2) 371. القشيري (1) 279- 611- 613. ابن القصاب (3) 654- 655- 656- (5) 113- 114- 128. قصطرا (2) 197. قصي بن كلاب بن مرة (1) 437- (2) 296- 354- 374- 388- 396- 397- 398- 399. قصير بن سعد (2) 309- 311. قصير الخزاعي (3) 71. قضاعة (1) 162- 765- (2) 19- 54- 61- 120- 201- 202- 232- 284- 285- 288- 289- 290- 295- 298- 306- 310- 311- 312- 331- 342- 344- 346- 362- 397- 398- 416- 456- 471- 472- 489- 490- 495- 497- 501- 504- 515- 523- 586- (3) 277- 285- (4) 287- (6) 4- 6- 7- 65- 182. قضاعة بن مالك بن حمير (2) 290- 295- (4) 285- (6) 78. القضبي (1) 558. قط قرا (5) 469. قطام بنت بحتة بن عدي بن عامر (2) 378. القطان (3) 426. قطب الدين (5) 114- 115- 186- 193- 194- 205- 206- 347- 348- 355- 356. قطب الدين الأكبر (5) 86. قطب الدين صاحب ماردين (5) 299- 306- 311. قطب الدين بن سنجر (5) 312- 315- 316. قطب الدين بن نجم الدين (5) 340. قطب الدين الشيرازي (5) 617. قطبة بن قتادة السدوسي (2) 540. القطران بن اكمة (القطرن) (3) 206- 208. القطراني ابن القطراني (7) 113- 232. قطري بن الفجاءة المازني (2) 375- (3) 186- 188- 203. المظفر سيف الدين قطر مولى المعز أيبك (5) 422- 423- 424- 425- 432- 434- 435- 436- 437- 438- 439- 440- 441- 442- 443- 454- 489- 501- 615- (7) 725. قطز بن عطية بن فضل (6) 11. قطقطو بن امال بن بكو (5) 473- 474- 619. سيف الدين قطلبك (5) 476. قطلبك النظامي (5) 557. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 صارم الدين قطلغ آية (5) 67- 265- 266- 347. قطلغ إينانج (5) 112- 113. قطلغ الارمني (شجاع الدين) (5) 206. قطلغ بن البهلوان (5) 112. قطلغ تكين أتابك (3) 596- 631- (4) 373- (5) 27- 50- 51- 52- 128. قطلقتمر (5) 494- 530- 531- 607- 608- 621. قطلمش بنو قطلمش (2) 20- (3) 570- 571- 579- 656- (4) 337- 343- 357- (5) 514- 631- 635. قطلمش بن إسرائيل (5) 187. قطلمش بن بيقو (5) 187- 188. قطلوبغا الاحمدي (5) 517- 518. قطلوبغا بن عبد الله (5) 484- 557- 558- 560- (7) 709. قطلوبغا الفخري (5) 507- 508- 519. قطلوبك المنصوري (سيف الدين) (5) 473. قطلوتكين (4) 547. قطلو شاه (5) 472- 475- 476- 478- 479- 619- 620. قطلوفجا (5) 531. قطلوبك الكبير (5) 474. قطن بن خليفة (1) 390. قطن بن قتيبة بن مسلم (3) 109- 110- 111- 114- 121. قطوبال (2) 11- 12- (5) 4. قطور بن كركر بن عملاق (2) 32. بني قطورة (2) 309- 393. قطورة بنت يقظان (2) 43. قطون (5) 27. قطير بن موسى (3) 263. قطيفة (6) 31. ابو قطيفة الشاعر (2) 390. القعقاع بن أبي علي (4) 145. القعقاع بن عمرو التميمي (2) 507- 508- 511- 513- 518- 533- 534- 535- 538- 539- 546- 550- 557- 558- 559- 591- 596- 602- 613- 614- 615- 616- 617- 619. قفجاق (الخفشاخ) (1) 99- (2) 11- (3) 105- (5) 5- 59- 62- 135- 136- 146- 147- 150- 159- 166- 310- 427- 430- 431- 452- 454- 537- 584- 588- 589- 590- 593- 596- 598- 615- 620. سيف الدين قفجاق (قفجق) نائب حلب (5) 470- 471- 472- 473- 475- 486- 487- 489- 490. قفجاق بن أرسلان شاه (5) 277. ابن قفجق (5) 562. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 قفجق المنصوري (5) 470- 474. قفجي (5) 472. القفص (2) 566- (4) 588. قفص بن معد (2) 285. قلابا أعلى (5) 430. أبو قلابا الجرمي (1) . القلابسي (3) 436. قلابغا (5) 605- 606. القلادروس ترجمان الروم (5) 46- 190. ابن قلاقس شاعر الاسكندرية (4) 276. قلان بن غرسن بن كتم (6) 196. بني قلاوون (3) 666- (7) 647- 698. سيف الدين الصالح المنصور (الناصر) قلاوون الصالحي (3) 665- (5) 418- 434- 436- 445- 447- 449- 450- 451- 453- 454- 455- 456- 459- 460- 461- 463- 464- 472- 481- 489- 491- 502- 605- (6) 11- (7) 693. القلج (5) 584. قلدن بن اوريغ (6) 118- 183. قلديوس قيصر (قلوديس قيصر) (2) 158- 175. قلفط بن مورق (2) 273. القلقشندي (6) 77. القلمس بن عمرو بن همذان بن مالك بن شهاب بن زيد بن وائل بن حمير (4) 286. قلوط الصرغتمشي (5) 530. أبو قليبة بن قاسم بن محمد (4) 131. ابن قلية شيخ الأريس (6) 227. قلية بن بردويل (4) 232. قليج صاحب طريق خراسان (4) 687. عز الدين قليج (5) 243- 331. غرس الدين قليج (5) 245. قليج بن أليون (5) 345- 346- 445- 481. بني قليج أرسلان (2) 280- (3) 570- 661- (4) 357- (5) 135- 210- 214- 345- 364- 375- 384- 402- 423- 451- 452- 489- 589- 599- 631. ركن الدين قليج أرسلان (5) 198- 199- 200- 201- 631- 632- 635. غياث الدين قليج أرسلان (5) 258. قليج أرسلان بن ركن الدين سليمان بن قطلمش (3) 609- 650- (5) 43- 45- 46- 148- 149- 165- 188- 189- 190- 194- 195- 197. قليج ارسلان بن محمد بن قليج أرسلان (5) 297. قليج ارسلان بن مسعود بن قليج ارسلان (5) 191- 192- 193- 292. بني القليص (4) 110. القليص بن ضمضم بن علي بن جناب (4) 108. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 بني القليص بن كلب بن وبرة (4) 398. بنو القليظي بن ضمضم بن عدي بن جناب (3) 437. الأمير علاء الدين قماج المقتول (3) 615- (4) 517- 519- 521- (5) 20- 22- 35- 57- 78- 83. قمارش (4) 196. القماري الكبير (5) 509. قمبوسيوس بن كورش (بخت نصّر الثاني) (2) 196. القمر بن كلابطرة (2) 235. قمر الدين (5) 61- 627. بني قمري (7) 205. بني القمص القمط ابن القمص (5) 25- 174- 179- 211- 215- 217- 218- 219- 227- 252- 282- 289- (7) 433- 484- 497. قمصاته (ممصاته) من قلدن بن أوريغ (7) 118. قمعة بن الياس (2) 362. قمعة بن قضاعة (2) 374. ابن القمقام (3) 48. القمهري (5) 161. قمويل بن ناحور (2) . بني أبي قمي (4) 13. قنبر علي بادك (5) 625. قنبيشاش بن كيرش (2) 193. القندار (5) 302- 303- 307- 308- 309. القندلش (2) 281. القندهار (2) 566. القندهان (4) 445. قندو (5) 611. بني قنسيلة (6) 196. قنص بن معد (2) 308- 313- 356. قنصارة من معليت (6) 120. قنطغرطاي بن هلاكو (5) 202. قنطورا (2) 49. قنقرطاي (5) 617- 618- 633. قنوباي (5) 567. قنوقرسوس الملك (2) 122. بنو قينقاع (2) 30- 341- 348- 432. القهردور- القمندوز (7) 400. قهرمان داره (6) 402. قهرمانه (4) 163. قهرون بن مخنوس (غنوش) (6) 226- 227. القواقل (2) 343- 346. قوام الدولة (أبو الفوارس) (3) 606- (4) 633. قوام الدين الحراوي (5) 154. قوام الدين مؤيد الملك (5) 130. القوتباق حاجب مسعود (3) 559- 560. القوتباق حاجب مسعود (3) 559- 560. قودان بن طقان (5) 459. بني قودر (7) 463. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 الأمير قودر (قودن- قودز) (5) 21- 106. قورح بن عيصو (2) 47. القوروتزكس (5) 5. القوس بن حكيم (6) 48- 514- (7) 363. القوش بطرا (5) 463. قوشناي بن كبك (5) 611. القوص (5) 490. قوصون (5) 506- 507- 508- 509. القوط (الغوط) (1) 204- 313- 337- 463- 504- (2) 12- 14- 84- 105- 120- 218- 247- 248- 253- 254- 256- 257- 278- 280- 281- 282- 283- (4) 146- 147- 148- 226- 232- (5) 210- (6) 140- 313. قوط بن حام (2) 84. قوط بن يافث (6) 126. قوقاش الدمستق (2) 274. قوقاص البطريق (2) 263. قوقاص قيصر (2) 212- 213- 263- 264. قولاد بن مابدان (3) 540. قومس (2) 561. القومس الأحدب (6) 322. قومس بن نفاس (2) 87- 89. بني قوميل بن ناحور (5) 445. قون (5) 595. القوهيار (أخو مازيار) (3) 332- 333- 336- (4) 550. قويل بن ناحور بن آزر (5) 481. قيادوس (أخو قيصر) (2) 314. قيدر من وريكول (6) 161. قيدوشق ساحر الترك (2) 191. قيدونوس قائد انطيخوس (2) 228. قيذار (2) 44. قيذار بن إسماعيل (2) 354- 394. قيرجان بن قراجا (5) 177- 178- 182- 252- 266. قيروش قيصر (2) 160- 162. قيرل طرخان (3) 17. قيس (قبيلة) بني قيس (1) 268- (2) 75- 211- 326- 327- 362- 363- 397- 456- 532- 614- 645- (3) 27- 32- 88- 98- 119- 140- 160- 169- 189- 201- 218- 277- 285- 295- 303- 437- (4) 64- 111- (6) 24. قيس بارق (3) 65. أبو قيس بن الاسلت (2) 345- 346. بني قيس بن ثعلبة (3) 185. بني قيس بن ثعلبة بن بكر (2) 504- 506. قيس بن ثعلبة بن عكابة (2) 360. قيس بن الحرث (2) 326. قيس بن الحصين (2) 473. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 قيس بن الحطيم (2) 343. قيس بن حنظلة (2) 377. قيس بن خالد بن ذي الخدين (2) 318. قيس بن ذريح (1) 801- 816. قيس بن زرارة (2) 527. قيس بن زهير البلوي (6) 142. قيس بن زهير بن جذيمة العبسيّ (2) 363- 371- (7) 602. قيس بن زيد بن عمرو ذي الإذعار (2) 66. قيس بن سعد البجلي (3) 201. قيس بن سعد بن عبادة (2) 350- 604- 605- 606- 623- 624- 629- 630- 639- 640- 648- 650- (4) 378. قيس بن أبي صعصعة (2) 427. قيس بن صيفي (2) 65. قيس بن عاصم (2) 470- 498- 504- 505. قيس بن عاصم بن سنان (2) 376. قيس بن عاصم المنقري (1) 172. قيس بن عباد الشبلي (3) 14. قيس بن عبد الله بن عمرو (2) 371. قيس بن عبد يغوث المرادي (2) 482- 483- (4) 268. قيس بن العبسيّ (3) 275. قيس بن عدي السهمي (2) 409. قيس بن عيلان (6) 125- 127. قيس بن الفاكه بن المغيرة (2) 413- 429. قيس بن مخرمة بن المطلب (2) 391. قيس بن مسعود بن قيس (2) 319. قيس بن معاوية بن جشم (2) 58. قيس بن معديكرب (2) 329. قيس بن مكشوع المرادي (أبو بكر) (2) 475- 491- 492- 493- 533- 534- 631- (4) 268. قيس بن الملوح (2) 371. قيس بن هبيرة السلمي (2) 578. قيس بن حمزة الهمذاني (3) 24. قيس بن الهيثم السلمي (2) 579- 580- 586- (3) 6- 8- 11- 22- 28- 35- 44- 169- 171. قيس بن الوليد (3) 15. أبو قيس بن الوليد بن المغيرة (2) 429. قيس عيلان (2) 372- 526- (3) 97- (4) 284- (6) 166- (7) 4. ابن قيسي (6) 314. القيسية (4) 152. قيصارة قنصارة (6) 170. آل قيصر (2) 75. قيصر صاحب الروم (هرقل ملك الروم) (2) 69- 70- 71- 73- 146- 148- 149- 150- 151- 155- 158- 160- 173- 179- 199- 206- 234- 237- 261- 306- 314- 328- 333- 335- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 381- 389- 450- (5) 584- (7) 720- 732- 733. قيصر اكتيبان (2) 236. قيصر شحنة الحلة (3) 646. قيصر الصقلي (4) 56. قيصر مولى المنصور (4) 54- 55- 57. قيصر بن قيصر (2) 265- 273. قيصر بن مورق (قيصر موريق) (2) 262- 265- 273. قيصر طيطش بن قيصر ماهان (2) 331. قيصر يولش بن غايش (يوليوس قيصر) (2) 225- 233. عز الدين (معز الدين) قيصر شاه بن قليج ارسلان (5) 193- 194- 195. قيصرون (6) 186. قيقتس (2) 228. قيقلان بن نسطورس (2) 515. بنو قيلة (1) 444. قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة (2) 61- 62- 287- 342- 344- 347- 351. قيما (2) 44. القيموس الكوهن (2) 140. قينن بن انوش (2) 7- 37. قيومرث (2) 7. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 حرف الكاف (ك) بني الكائي (6) 274. كاب بن دبرة (4) 108. كابك (5) 27. كاتب بن فهر بن إبراهيم (4) 72. كاثر بن ارم (2) 9. كاد النبي (2) 112. كادو بن يعقوب (2) 44. كازرون (3) 492. بني الكاس (7) 465. كاس بن ناحور (2) 50. كاسد بن حاور (2) 82. كاشم بن معدانوس (2) 86. الكاظم (4) 630. (شهاب الدين) كافل العزيز بن الظاهر (5) 402- 403. كافور الاخشيدي (1) 42- 232- (4) 13- 58- 127- 137- 143- 296- 298- 405- (6) 402. الكافوري (5) 436. كافولي بن حطفاي (5) 375. الكافي بن فخر الدولة (5) 18. الكافي بن نصر بن عبدون (4) 73. كالب (1) 168. كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب (2) 97- 102- 103- 105- 193. ابن كالويه (3) 563. ابو كاليجار بن سلطان الدولة (3) 550- 551- 552- 553- 554- 556- 560- 561- 576- 597- (4) 495- 496- 506. بو كاليجار بن علاء الدولة بن كاكويه (3) 558- (4) 354- 355- 636- 637- 638- 640- 641- 642- 643- 644- 648- 681- 682- 694. كاليجار المرزبان (ابو كاليجار) بن شهفيروز (صمصام الدولة) (3) 536- (4) 603- 616- 626- 628- 629- 632- 633- 634. كامكان وهقان (4) 440. ابن كامل (3) 39. بو كامل من بني سليمة بن مجاهد (6) 61- 62- 66- 318. زين الدين الكامل (5) 510- 512. ابن كامل بن جامع (5) 233. الكامل بن شاور (5) 245- 246- 332. كامل بن طغركين (5) 350. الكامل بن العادل (4) 132- (5) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 197- 198- 256- 258- 312- 313- 319- 322- 330- 331- 390- 391- 399- 400- 401- 405- 406- 407- 408- 409- 410- 411- 412- 445- 489- 577 . كامل بن محمد بن المسيب (3) 565. كامل بن المظفر (ابو صالح) (3) 150. ابو كامل بن المقلد (4) 651. ابو كامل بن منصور (5) 48. الكامل بن الناصر (5) 503. الكاتم (6) 265. كانون بن جرمون السفياني (6) 38- 346- 347- (7) 109. بنو كاهل (2) 380. كاهم بن ناحور (2) 50. الكاهنة ملكة جرارة (4) 236. الكاهنة مقتولة العرب (6) 140. ابن كاور (5) 225. كاوش ابو افشين (3) 119. كاووس بن خالد (3) 315. كايارة (6) 197. كبا من معد بن اوريغ (6) 118. كباب بن أبي الفتوح (6) 229. كبرانيطل (5) 213. كبريري (5) 210- 214. كبسان (2) 43. ابو كبشة مولى النبي (صلى الله عليه وسلم) (2) 347. كبك بن أنجبي (5) 601- 610. كبك بن سيول (5) 622. كبيش بن عجلان (5) 547. كبيش بن منصور (4) 135- 136- 138. كتامة (1) 16- 28- 76- 175- 183- 197- 218- 252- 361- 374- (2) 59- 102- (4) 18- 43- 45- 46- 50- 51- 53- 54- 56- 58- 68- 69- 71- 72- 78- 90- 103- 242- 244- 258- 259- 260- 261- 262- 263- 265- (6) 16- 18- 44- 117- 120- 122- 123- 126- 127- 128- 134- 136- 148- 149- 153- 160- 168- 169- 173- 191- 195- 196- 197- 199- 200- 201- 203- 205- 206- 282- 286- 613- (7) 5- 10- 13- 18- 19- 20- 21- 23- 24- 34- 35- 71- 80- 82- 314- 721. كتبغا (كيبغا) البيبقاوي (5) 424- 425- 438- 466- 467- 468- 469- 470- 552. الأمير كتبغري أتابك طغرل (كبغري- كنتغدي) (3) 613- 614- 618- (5) 59- 61. كتخاتو بن ارغو (5) 618- 619. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 كثومة (6) 450- 451. كثيب بن السائحي (3) 117. ابن كثير (2) 652. بني كثير (3) 57- (6) 22- 24. كثير بن أحمد (3) 461- 482. كثير بن أمية (3) 117. كثير بن حصين العبديّ (3) 241. كثير بن زيد (6) 101. كثير بن شهاب السبيعي (2) 536- (3) 6- 15. كثير (الشاعر صاحب عزة) بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر (1) 790- 801- (2) 374- 382. كثير بن عبد الله السلمي (أبو العاج) (3) 133. كثير بن وسلاس بن شملا له (يحيى بن يحيى داود الموطأ من مالك) (6) 299. كثير بن يزيد بن علي (6) 98. كثيرة أم إدريس (6) 289. كدعون بن يواش (2) 104. ابن كجك (5) 279. الأشرف كجك ابن الملك الناصر (5) 507- 509. كحلان (4) 281. كداله (كذاله) من الملثمين (6) 202- 241- 243- 263. كدموية من بطون المصامدة (6) 299- 359- 365- 370- (7) 305. كدوان (5) 202. ابن أبي كدينة (4) 67. كراسك (5) 51. الكراكلة (4) 480. كرام بن حبان العنزي (3) 15- 16. كرامة بن المنصور (6) 218- 228. كرامة بنت عبد المسيح (2) 510. كراو بن الديرت بن جانا (7) 11. سيف الدين كراي المنصوري (5) 473- 476- 487- 563. أبو كرب (تبّع الأصغر) (1) 8. كرب بن صفوان (2) 377- 398. كربازة الخادم (كروباز) (3) 644. كرباوي بن خراسان التركماني (3) 612- 621- (5) 54. كربوقا (قوام الدولة والدين أبو سعيد) (3) 595- 596- 597- 599- (4) 82- 345- (5) 17- 20- 21- 24- 25- 27- 28- 29- 30- 31- 36- 43- 170- 173- 211- 248- 249- 262. كربيس (5) 491. كرت الخادم (5) 473. الكرج (2) 277- (5) 59- 62- 95- 101- 146- 147- 148- 149- 150- 151- 157- 159- 160- 204- 207- 397- 445- 458- 474- 481- 588- 589- 617. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 كرجان الخادم (5) 89. كرجون بن ونزمار (7) 203. سيف الدين كرجي (5) 468- 470- 472- 473. أسد الدين كرجي (5) 479. الكرد كرد (2) 9- 20- 181- (4) 140- 548- 587- (5) 620. كردامر من بني سليم (2) 181. كردن (5) 15. بني الكردي الحميريين (4) 281. بني كرز (6) - 55- 56. كرز بن جابر بن حسل الفهري (2) 385- 425- 460. كرز بن علقمة بن علال (2) 374. كرساش (2) 12. كرسطه (كرنيطه) بن ورتناج بن ورصطف (6) 120- 170. كرسفينة (6) 168. كرسوس (2) 155. كرشاسب (2) 185. شمس الدين كرشاسف (5) 156. كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكويه (4) 646- 647- 648- 692. كرشاسف بن ضرام بن كاكويه (5) 57. كرضيط بن رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص (6) 119. كرفة من الأثبج الهلاليين (6) 22- 29- 30- 31- 44- 46- 47- 78. أبو طالح كركبر (4) 354. كركجة (3) 655- 656- (5) 113. كركوده (6) 183. كرمان (1) 61- 80- 225. الكرماني بن علي (1) 629- (3) 118- 139- 144- 145- 146- 150- 409. كرماهو (2) 241. كرفس بن مرسية بن شيبن بن مزكة (2) 232. بنت كرمون (5) 453. كروباي بن خراسان التركماني (4) 364- 366. كروم من بني حمير (6) 96. كرويه بن مهدويه الفرج بن عثمان. كريب بن خلدون (6) 322- (7) 505. كريب بن عثمان (7) 503. كريب ذو كراب (2) 32. ابن كريز القشيري (2) 578. كريم بن عفيف الخثعميّ (3) 14- 15. كريم الدين وكيل السلطان (5) 494. ابن كريون يوسف بن كريون. كزل أمير آخر (3) 624- 626- 627- 629- 630- 635- 654. كزلك خان (4) 546- (5) 123- 124. كزناية (6) 150. كزول (6) 122. كزولة (6) 91- 92- 117- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 182- 270- 271- 306- 331- 336- 357- 367- 370 . كسا (2) 336. الكسائي (2) 21. سيف الدين كستاي (3) 547- (5) 490. كسرى بني كسرى (2) 17- 72- 73- 74- 75- 76- 210- 212- 213- 214- 260- 292- 312- 318- 319- 321- 326- 387- 405- 452- 511- 519- 521- 522- 524- 536- 538- 565- (4) 564- (5) 501- 584- (6) 10- (7) 597- 661- 720- 732- 733. كسرى أبرويز (2) 303- 316- 320- 322- 323. كسرى انوشروان (2) 209- 261- 327- 407- (3) 499- (4) 432- (7) 551. كسرى الأول (كيرش) (2) 82- 193. كسرى بن اردوان (2) 198. كسرى بهرام (2) 247. كسرى بن عبيد الله الهاشمي (3) 138. كسرى بن مهر خشنش (2) 216. كسرى عبد المسيح (1) 135- 412. الكسروية (1) 462- (2) 182. الأمير كسكري (5) 226. كسلان بن خليفة بن لطيف (6) 33. كسلوحيم (2) 12. بني كسلوحيم بن مصراييم بن حام (6) 127. كسنا وقائد الروم (2) 147. غياث الدين كسنجر كيخسرو. كسنينا (2) 160. بني كسى (6) 183. كسيلة (3) 170. كسيلة ملك اوربه (4) 82- 234- 235- (6) 136- (7) 11- 12. كسيلة بن ملزم (لزم) (6) 142- 193- 194. كشاته بن فاتن بن تمصيت (6) 120- 162. بني كشطولة (6) 169. الأمير كشفره (5) 51. كشلوخان (5) 415. كشلي خان ملك التتر (5) 126- 127- 132- 570- 586. كطوط من بطون لواته (6) 6. قبيلة كعب بنو كعب (1) 410- (2) 302- 366- 462- 463- 497- (3) 650- (6) 55- 94- 96- 106- 108- 523- 529- 530- 553- 555- 556- 558- (7) 363. أبو سبإ الأصغر كعب (2) 65. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 كعب بن أسد (2) 443. كعب بن الأشرف (2) 431- 432- 433. كعب بن جابر العبسيّ (3) 94. كعب بن الخزرج بن عمرو (2) 342- 343. كعب بن ربيعة بن عامر (2) 370- (3) 137- 184- (6) 14- 15. كعب بن الرحال بن معاوية (الأخيل) (2) 371. كعب بن زهير بن أبي سلمى (2) 378- 467. كعب بن زيد الجمهور (2) 291. بني كعب بن سليم (6) 5- 442. كعب بن سوار الازدي (القاضي) (2) 554- 596- 610. كعب بن سور (2) 617- 618- 620. كعب بن عجرة (2) 295- 603. كعب بن عمرو بن لحي (2) 332- 374. كعب بن قيس (2) 362. كعب بن أبي كعب النخعي (3) 33. كعب بن لؤيّ بن غالب (2) 385- 386- 396. كعب بن مالك الشاعر من بني سلمة (1) 267- (2) 423- 436- 469- 593- 597- 602- 643. كعب بن مانع بن هلسوع بن ذي هجري (كعب الأحبار) (1) 19- 412- 413- 555- (2) 42- 216- 588. كعب بن مروان (4) 168. الكعبي (1) 603. كعتام بن اليفاز (2) 47. الكعوب (بنو كعب بن أحمد بن ترجم من سليم) (6) 45- 96- 97- 98- 100- 106- 112- 114- 257- 488- 490- 518- 520- 521- 523- 525- 531- 572- 599- 601- (7) 32- 143- 153- 184- 331- 360- 364- 370- 392. كفتورع (2) 12. كفتوريم قبطقايين (2) 84. كفرتكين أتابك (4) 365. كفلان من ممديل (6) 162. كفود بن اوكداي (5) 598- 599- 601- 613. بني كلاب (2) 372- 439- 463- (3) 338- 546- 582- (4) 71- 75- 307- 340- 347- (5) 181- 292- 445- 481- 503- 523- (6) 6- 13- 14- 15. كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (2) 370- (4) 323- 346- (6) 11- 14. كلاب بن مرة بن كعب (2) 387- 388- 397. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 كلا فاطر (2) 227. بنو كلال بن ربيعة (2) 370. كلاوة (6) 370. بني كلب (2) 61- 284- 289- 296- 297- 308- 329- 416- 497- 504- 512- 514- 517- (3) 81- 294- 481- (4) 110- (5) 499- (6) 7. كلب بن عوف بن بكر بن عوف (2) 297. كلب بن منيع (6) 33. كلب بن وبرة (2) 298- (3) 437. كلبة بن حنظلة (2) 377. ابن الكلبي هشام بن محمد. بنو أبي الحسن الكلبي (2) 22. الكلبية (بنو محمد بن كرمة) (6) 30. كلثوم (2) 457. أم كلثوم (3) 12. كلثوم بن الحصين بن خالد (2) 382. أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط (2) 449. أم كلثوم بنت علي (2) 606- 646. كلثوم بن عياض بن رصوح (2) 371. كلثوم بن عياض القشيري (3) 131- 140- 177- (6) 145. كلثوم بن عياض المري (4) 150- 239- (6) 156- 16. كلثوم بن مطعم بن امرئ القيس (2) 347. كلثوم بن منداس بن مغر بن اوريغ (6) 146. كلثوم بن الهدم (2) 420- 422. ابن كلداسن (6) 353- 439. كلدام من وريكول (6) 161. الكلدانيين (1) 50- 462- 631- 655- 658- 730- (2) 3- 6- 37- 38- 39- 50- 78- 81- 120- 123- 124- 125- 126- 135- 136- 232. كلده ملك الفرنجة (4) 181. كلدي (امرأة شالوم) (2) 122. الوزير ابن كلس (4) 318. الأمير كلسارغ (4) 508. كلعاد ملك أدوم (2) 118- 130. كلفة بن عوف (2) 342. كلكي بن حربيا (حكيم الملوك) (2) 85. كلمام بن حياني (5) 228- (6) 139- (7) 67. كلمش بن الإسكندر (2) 224. كلواذا (2) 38. كلوبطرة (كالبطرة بنت ديوناشيش (2) 143- 150- 151- 153- 154- 225- 226- 237. كلوتيانو (2) 243. ابن كلوس (كلدين) (6) 543. كلياتكين التركي (3) 360. كليب سيد بني وائل (2) 322- 360- 370- 550- 551- (6) 99. كليب بن أبي البكير الليثي (2) 568. كليب بن جميع الكليبي (4) 246. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 كليب (كريب) بن خلدون الحضرميّ (4) 171- 172. كليب بن ربيعة بن الحرث (2) 358. كليب بن عمر بن الجنيد بن عبد الرحمن (3) 275. بنو كليب بن يربوع (2) 377. ابو كاليجار بن بويه (5) 29. كليكرب بن تبع الأقرن ملكيكرب بن تبع الأقرن. ابن الكماد (1) 643. بني الكمازير (6) 458. ابن كماشة (4) 216. الكمال الشهير (5) 99. كمال الدين شيخ التكية (5) 534. ابو البركات كمال الدين بن سلامة (5) 74- 75. كمال الدين بن العديم (5) 421- 422- 423. كمال الدين بن عضد الدين (3) 648. القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوريّ. ابو المعالي كمال الملك بن عبد الرحيم (3) 560- 563- (4) 644- 651. أمين الدولة كمستكين (4) 91. كمستكين (سعد الدين) (5) 295- 299- 300- 301- 302- 303- 304- 339- 340- 341- 343. كمستكين بن الوانشمند (5) 191- 212- 213. كمستكين الجاندار (4) 362- (5) 17- 19- 20. كمستكين القيصراني (كمستكين القيصري) (3) 575- 603- 647- (4) 359- 360- (5) 248- 249. كمستكين النصيري (5) 37- 38. كمشتكين بن طبلق (5) 188. كمشيقا الاتابك (5) 562- 575. كمشيقا الحموي (كمشيقا بن عبد الله الحموي اليلبغاوي) (5) 521- 556- 557- 559- 561- 563- 565- 566- 568- 570- 628- (7) 701. بني كملان (4) 48- 50- 53- 55- (6) 153- (7) 19- 21. كمودة قيصر (2) 244. بني كمي من بني عبد الواد (6) 92- (7) 303- 482. الكميت (الشاعر) بن زيد بن الأخنس (2) 380. كميل بن زياد (2) 589- (3) 63. كميل النخعي (2) 606. بني كمين (كمي- مكي) بن يمل بن يزكن بن القاسم من بني عبد الواد (7) 97- 98- 150- 159- 197- 199- 200- 239. كنا بن مايع بن مدسة بن عصية (6) 9. (ابو مرثد) كنازة بن حصن الغنوي (2) 420. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 كنانة بني كنانة (1) 162- 267- 437- 754- 765- (2) 32- 71- 72- 75- 211- 289- 326- 327- 328- 379- 395- 396- 397- 398- 441- 457- 458- 462- 476- 490- 491- 494- 500- 587- 614- 630- (3) 97- 495- (5) 416- (6) 2- (7) 595- 621- 624. كنانة بن بشر (2) 642- (3) 215. كنانة بن بشر التجيبي (2) 601. كنانة بن بشر الليثي (2) 593- 594. بنو كنانة بن بكر بن عوف (2) 296- 297. كنانة بن خبورا (2) 424. كنانة بن خزيمة بن مدركة (2) 298- 381. كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق (2) 349- 440- 453. كنجاورسى (5) 271. كنجر (5) 90. كنجك (5) 606. كنخسرو بن كيقباد (5) 324. كند إصطبل عم يغمور (5) 447. كندافلز (كيدافليد) (5) 247. كندة (1) 268- (2) 19- 32- 36- 62- 64- 285- 286- 298- 300- 305- 306- 325- 327- 329- 398- 416- 468- 475- 476- 491- 492- 493- 494- 495- 526- 532- 534- 541- 586- (3) 14- 15- (4) 243- 380- (6) 3- 109- 128- (7) 602. كنداح (3) 412. كندة بن جنادة بن معد (2) 288. كندة بن حجر آكل المرار (2) 404. كندر بن عبد الله بن نصر الصفدي (ابو مالك) (4) 381. كند غدي (كنذعري) (4) 516. كندفري (كمدمري) (5) 25- 212. الكندهري (5) 376- 382- 384- 387- 388. بني كندوز (من بني كمين) (7) 97- 197- 200- 304- 482. كندوز بن عبد الله (7) 199. كندوز بن عثمان (7) 322. كندوز بن كمي (7) 303. الكندوي (5) 16. الكندي (1) 405- 406- (2) 218. الكنز (5) 540. كنز الدولة (5) 339- (6) 6. كنزة أم إدريس الأصغر (4) 16- (7) 102. كنعان بني كنعان الكنعانيين (1) 17- 203- 223- 288- (2) 9- 12- 14- 30- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 31- 39- 40- 43- 44- 45- 46- 47- 49- 50- 59- 66- 84- 85- 92- 97- 98- 99- 100- 102- 103- 111- 112- (6) 122- 123- 127- 409- (7) 5- 719. كنعان (نمروذ) (2) 80. كنعان بن حام بن نوح (2) 9- 12- 31- 84- (6) 127- (7) 3. كنعان بن كوش بن حام (2) 37- 78. كنعان بن نوح (يام) (2) 8. كنفيسة من بطون المصامدة (6) 299- 354- 357- 359- 370. كنن (5) 430. كنون صاحب باغاية (7) 18. كنيش بن عجلان (5) 572. كهلان بني كهلان (1) 162- 173- 768- (2) 11- 18- 36- 54- 66- 75- 300- 301- 332- 333- 356- (4) 273- 323- (6) 16- 118- 183- 186. كهلان المولى (4) 270. كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (2) 290- 300- (6) 2- 4. كهلان بن أبي لوا (كهلان بن أبي لؤيّ) (6) 117- 124- 162- (7) 7. الكهنوتية (1) 442. ابن الكوّاء (2) 589. بني أبي كواية (6) 591. كوبان (1) 157. كوتبانو بطرك الاسكندرية (2) 242. كوجه (5) 101- 102. كوخان ملك الصين- (ملك الترك الأعظم- ملك الخطا) (4) 518- 519- (5) 126- 143- 585. شرف الدين كودباذه الخادم (5) 92. كور (5) 159. كورتكين الديلميّ (3) 510- 511- (4) 292- 404- 565- 570. كورتكين بن خشتان (جستان) (4) 587- 588. كورش (2) 82- 135- 156- 191- 196- 197. كورى من السودان (6) 266. كوزبك (5) 453. كوزحر (كون خر) (5) 81. بني كوزيت (6) 168. كوش بن حام (2) 12- 14- 78- 81- 83. كوش بن كنعان (نمروذ إبراهيم عليه السلام) (2) 52- 80- 84. كوشان الارمني (2) 103- (3) 223. بني كوفي (6) 168. كوكاش (4) 493. كوكبري بن زين الدين كوجك (مظفر الدين صاحب اربل) (3) 658- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 (5) 102- 103- 134- 162- 168- 205- 206- 305- 306- 308- 310- 314- 315- 316- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 324- 348- 349- 354- 355- 358- 372- 377- 378- 394- 403- 404- 407- 588. كوكتاش (كولباش- كوكفاش) من مقدمي السلجوقية (3) 558- 559- (4) 330- 635- 636- 647- 672. الأمير كوكر (3) 598- (4) 536- (5) 29. كوكه (4) 527. كوكو (كاغو) من السودان (6) 266- 267- 269- كوكير من أكابر الديلم (4) 574. كول (3) 558. كومر (2) 11- 12. كومر بن يافث بن نوح (2) 184- (5) 4- 5- 584. الكومي (7) 7. كومية (6) 120- 134- 151- 155- 165- 166- 168- (7) 155. كونان (5) 78. كوندك (5) 458. سيف الدولة كونك الساقي (5) 453. سعد الدولة كوهراس (كوهرايين كوهرابين كوائين) (3) 583- 584- 585- 588- 589- 594- 596- 597- 601- 605- 609- (4) 362- 363- 414- 415- 682- (5) 6- 11- 12- 15- 18- 27- 28- 29- 32- 37- 38- 42. كوهرخان (5) 78. الكوهن بن هارون عليه الصلاة والسلام (2) 328- 341. كوهي بن شيرزيك الأصغر (4) 560. بني الكويك (5) 497. كي أرش (2) 187. كي أوجن بن حينوش بن كيكاوس (2) 188. كي بهمن (2) 189- 191- 199. أم كي خسرو (2) 187. كي خسرو بن سباوخش (2) 188. كي قاسمن (2) 187. كي كينيا بن كيقباذ (2) 188. كي نية (2) 187. كي وافيا (2) 187. الكيانية (1) 288- 462. الكيا الهراسي (5) 33. كياد بن مغر (6) 183. كيبغا العادل الصالحي (5) 474- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 475- 476- 479- 480- 482- 489- 493- 501- 502- 507- 520- 615- 619 . كيثم (الروم) (2) 12- 139- 218- 232- 233- 234- 235- 250- (5) 518. كيجار (4) 329. كيجور التركي (3) 381- 424. كسنجر بن قليج أرسلان (5) 315. غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين بن كيقباد (كنخسرو) (3) 661- (5) 169- 193- 194- 195- 198- 201- 202- 398- 402- 411- 412- 423- 451- 452- 617- 623- 631- 632- 633. كيداد (7) 18. كيدفليد (2) 279. كيراش أسقف بيت المقدس (2) 178. كيرش ملك الفرس بن كيقوس (كسرى الأول) (2) 120- 125- 126- 136- 193. كيرش بن نوطو (2) 193- 196. كيرلوس بطرك الاسكندرية (2) 179- 257. كيزقان (5) 599. كيسان (أبو عمره) (3) 31. كيسان مولى علي (2) 630- (4) 3. كيسان مولى محمد بن الحنفية (1) 248. كيسان بن عبيد بن أحمد بن كعب (6) 100. الكيسانية (1) 248- 250- (4) 3- 34. كيساوس (2) 149- 150. كيستاسب بن كيهراسف (2) 189- 190- 191. كيغلغ التركي (3) 370- 379- 428- 443- 515- (4) 434. كيقاوس بن كنعان (2) 59. كيقباد ملك فارس (2) 61- 64- 185- 187- 191. علاء الدين كيقباذ بن سعد الدين الحاجب صاحب الروم (5) 161- 162- 163- 164- 165- 166- 168- 324- 410- 412- 592- 593. علاء الدين كيقباذ بن غياث الدين كسنجر (5) 195- 196- 197- 198- 199- 200. كيقباذ بن كيكاوس (5) 411. كيقباذ بن هزارسب الديلميّ (لمقا بن هزارسب الديلميّ) (4) 362. كيقوس (2) 126. كيقومن بن هيثوم (5) 445- 446. لغالب باللَّه عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كسنجر (5) 151- 195- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 196- 198- 199- 200- 201- 317- 320- 402- 403- 423- 631- 632- 635 . كيكاوس بن كي كينية بن كيقياذ (1) 18- 186- (2) 187. كيماكية (1) 90- 96- (5) 427- 584. كينانوس قائد الروم (2) 146- 147. الكينية (2) 180- 181- 182- 185- 187- 220- (5) 77. كينية بن كيقباذ (2) 198. كيهراسف بن كي أوجن (2) 188- 189- 190- 191. كيومرث (2) 181- 182. كيومرث بن أميم بن لاوذ (2) 31. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 حرف اللام (ل) لابان بن بتويل (2) 44. لابان بن يعقوب (2) 44. اللات بن ثعلبة (3) 206. اللاتين (5) 176. لاحق من بني يزيد (6) 55- 56- 226. السلطان لاشين (5) 471- 472- 474- 487- 505- 619. لاشين التركماني (5) 454. حسام الدين لاشين الجامدار (5) 455. لاشين الربعي (5) 453. حسام الدين لاشين الرومي (5) 473. حسام الدين لاشين السلحدار (5) 456- 458- 464- 469. حسام الدين لاشين المنصوري (5) 456- 465- 466- 467- 469- 470. اللاص (2) 336. لاطش بن كاشم (2) 86. لاقون بن اصطفانة بن ليون (5) 375. بني لام (4) 138- (6) 8. بنو لام بن ثعلبة (2) 303. بنو لام بن طريق بن عمرو بن ثمامة (2) 303. لاميم (2) 42. اللان العلان (1) 106- (2) 209- (5) 537- 584- 589- 606. لاهز بن قريط بن سريّ (2) 376. لاهز بن قريط التميمي (3) 125- 126- 127- 128- 153- 154. لاوذ بن أرم بن سام (2) 179. لاوذ بن سام (2) 8- 27. لاون (2) 270- 271- (4) 317. لاون الصغير (أبو زينون) (2) 258. لاون قيصر (2) 258. لاون الكبير (2) 257. لاون بن قسطنطين (2) 272. لاون بن قلفط (2) 273. بني لاوي لاوي (2) 97- 111- 120- 135. لاوي بن أليون (2) 274. لاوي بن يعقوب (2) 44. أمين الدولة لاويز مولى بدر الجمالي (4) 81. لب بن ميمون (6) 252- 326. أبو لبابة بن عبد المنذر بن عمرو بن عوف (2) 427- 431- 432- 443. ابن اللبان (1) 568. لبيد بن لعثه بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر (6) 6- 95. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 لبيد بن جرير (2) 513. لبيد بن ربيعة الشاعر (2) 334- 370. لبيد بن أبي نمي (7) 298. أبو اللجاء عامل دمشق من قبل القرامطة (4) 61. بني لجدمون (2) 220. لحي (2) 394- (6) 3. أم لحي (2) 395. بني لحيان (2) 284- 285- 444. لحيان بن هذيل (2) 379. لخس (قبيلة) (6) 92- 270- 367. لخم (1) 162- 765- (2) 36- 61- 269- 284- 287- 300- 303- 305- 306- 310- 313- 317- 387- 456- 514- 630- (6) 3- 120- 225- 261. لخم بن عدي (2) 305. لخيثعة ذو شناتر (2) 65- 67. لزريق (2) 281- (4) 146- 147- 162- 164- 178- 226. لزريق بن قار (4) 160. أم لزريق بن بلاكش (4) 184. لسان الدين الخطيب (6) 245. لشكري (2) 280- (4) 552- 558- 666- (5) 494- 518- 632. لشمك (5) 506. لشوه (6) 183. لشيقش (2) 281. لطانة (4) 40. لطاية بن تيطاسن بن غرسن (6) 196. لطيف (6) 33- 44- 587. لطيف بن سرح بن مشرف (6) 32. اللطين اللاتين (1) 730- (2) 12- 218- 219- 220- 221- 222- 225- 232- 233- 235- 244- 250- 256- 280- (4) 146. لطين بن يونان (2) 219. لعنة من عرب برقة (6) 113. بنو لفّ (2) 8- 30. لفشان بن إبراهيم (2) 355. لفوره (لقورة) من دمّر (7) 7. اللقامنة (بنو لقمان بن خليفة بن لطيف (6) 33. لقمان (2) 222- (7) 692. لقمان بن خليفة بن لطيف (6) 33. لقمان الأكبر بن عامر (2) 57. لقمان بن عاد بن عاديا بن صدا بن عاد (2) 23. لقمان بن المعتز (7) 205. لقمان بن الملطاط (2) 54. لقمان الحكيم (1) 632. لقواط (فخذ من مغراوة) (7) 64. لقوس بن دحية بن ولهاص بن تطوفت (6) 119. لقوط بن يوسف بن علي المغراوي (6) 244- (7) 61. لقيط بن مالك الأزدي (2) 506. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 لقيط بن يعمر الأيادي (2) 205. اللكن (5) 135. بني لمائي (6) 197. لماته (6) 197. اللمانيين اللمان (1) 93- 97- (2) 12- (5) 281- 282. لماية بن فاتن بن تمصيت بن ضريس (6) 120- 147- 155- 158- 160- 161- 164. لمت (6) 122. لمته (6) 159. لمتونة (4) 17- (6) 27- 122- 136- 137- 159- 167- 180- 185- 202- 241- 242- 243- 244- 251- 252- 253- 256- 263- 279- 299- 300- 304- 305- 307- 308- 309- 311- 312- 313- 326- (7) 29- 38- 48- 51- 61- 65- 98- 102- 103- 110- 221. بني لمدية (7) 89- 123. لمطة من الملثمين (6) 92- 117- 122- 123- 241- 270- 271- 310- 357- 367- 370. لمطة بن ينهل (6) 182. ابن اللمطي (6) 334. لمقا بن هزارسب الديلميّ كيقباذ بن هزارسب. لمك بن شرحبيل (2) 650. لمك بن متوشلخ (2) 7. لملم (قوم من السودان) (1) 70. لمى من السودان (6) 266. لمياش (2) 225. لميد (6) 283. لمير بن محيو (7) 224. لميس (6) 142. لهابيم (2) 12. لهانة بنو لهان بن ملك (6) 118- 183. لهب (6) 19. لهراسب (2) 126. لهوب (2) 86. ابن اللهيث (1) 570. لهيعة (4) 40- 42. ابن لهيعة (1) 400- (2) 290. لهينة أو لهيصة (6) 196. شمس الدين لؤلؤ الارمني (5) 411- 412- 414- 415- 416- 420- 421- 423- 432- 433- 435- 437. حسام الدين لؤلؤ الحاجب (5) 350- 351- 361- 374. بدر الدين لؤلؤ مولى نور الدين (5) 316- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 324- 325- 403- 404- 407- 614. لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش (5) 177- 178- 226- 252- 253- 257. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 لؤلؤ الساري نائب الحاكم (4) 346. لؤلؤ الصغير (4) 66. لؤلؤ غلام سيف الدولة (ابو نصر) (4) 323. لؤلؤ غلام ابن طولون (3) 408- 409- 413- 427- 428- 430- 500- (4) 390. لؤلؤ الكبير (4) 66- 319- 322. ابو لؤلؤة مولى المغيرة (2) 558- 568- 569- 570. ابو لؤلؤة الضبي (3) 6. لؤيّ بن غالب بن فهر (2) 385- 397- 398- (5) 167. لؤيّ خذيمة (2) 386. لوا (6) 149- 150- 182. لوا بن مطماط (6) 161. لوا الأصغر بن لوا الأكبر (6) 152- 154. بني لوا الأكبر بن رحيك (6) 118- 119. لواته من لوا (2) 573- (4) 14- 54- 70- 79- 252- 257- (5) 535- (6) 6- 23- 42- 43- 48- 63- 70- 119- 122- 123- 126- 128- 135- 147- 150- 152- 153- 154- 155- 158- 160- 162- 187- 195- 198- (7) 67- 204. لوبليدة (2) 282. لوجيار بن مدكة (2) 236. لوديم (2) 12. لوذان بن عمرو بن عوف بن مالك (2) 342. لوري (2) 283. اللوسن (7) 67. بنو لوط لوط (1) 207- (2) 39- 40- 41- 42- 49- 100- 103- 104. لوط بن هاران (2) 38- 49. بنو لوطان (2) 47. لوطان بن إبراهيم (2) 43. لوطان بن يسعين (2) 47. لوغان من أمراء الترك (5) 444. لوغوس (2) 223. لوقا أحد الحواريين (1) 289- (2) 174- 239. لوقيوس القيرواني (2) 174- 254. لوكس قيصر (بليانوس) (2) 245. لوندا هرمز ونداهرمز جد مزيار (3) 283. لونطيش (2) 270. لوهيا الكاهنة (6) 135. (الفرنسيس) لويس بن لويس (5) 449. بني لوين (7) 148- 149. ليا بنت لابان (2) 44. بني الليث (2) 480- 607- (3) 130- 154- 209- 245- (4) 427. ابو الليث الأصفهانيّ (3) 383. بنو ليث بن بكر (2) 381- 445. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 الليث بن حسن (3) 417. الليث بن سعد (6) 145. الليث بن علي بن الليث (3) 445- 446- 455- 456- (4) 426- 427- 428- 436. الليث بن الفضل (4) 380. ليث بن نصر بن سيار (3) 260. ليشاوش (2) 139- 140. ليكو بن وشكس (4) 34. ابو ليل بن أحمد (6) 446. أبي الليل (2) 364- (3) 319- (6) 33. ابو الليل بن أحمد بن سالم بن عقبة (6) 109. ابو الليل بن حمزة (6) 101- 102- 106- 107- 108- (7) 356- 363- 364- 365- 374- 376- 392- 393. ابو الليل بن أبي موسى (6) 56. ابو الليل بن موسى شيخ بني يزيد (7) 167- 168. ابو ليلى (3) 179- (4) 549. ليلى الاخيلية بنت حذيفة بن سداد (2) 371. ليلى العامرية (2) 371. ليلى بنت أبي خثعمة (2) 413. ليلى بنت أبي خيثمة بن غانم (2) 420. ابن أبي بن شبرمة (3) 212. ابو ليلى بن عمرو بن الجراح (2) 606- 612. ابو ليلى بن فدكي (2) 513. ابو ليلى بن كعب من بني مازن بن النجار (2) 467. ليلى بن النعمان (3) 475- 490- (4) 30- 31- 437- 440- 441- 551- 552- 553- 561. ليليان (4) 146- 147. لينبادة أخت الإسكندر بن تراوش (2) 221. لينبادة بنت دارا أم الإسكندر (2) 224. ليوبة (2) 282. ليولة (2) 282. آين ليون (5) 24- 188- 275. ليون بن شمخلية (2) 258. ليونيوس صاحب الطلسمات (2) 241. اللييس بن طيجليس (2) 244. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 حرف الميم (م) ماء السماء بن حارثة الغطريف (2) 301. ماء السماء بن ممروه (2) 65. ماء السماء بنت عوف وأم المنذر (2) 315- 316- 321- 325. مأجوج (1) 99- 100- 106- (2) 8- 11- 12- (5) 5. مأرب بن قاران بن عمر بن عمليق (2) 9. المأمون (عبد الله) (1) 26- 27- 32- 50- 200- 201- 216- 217- 219- 224- 252- 264- 277- 320- 378- 387- 388- 419- 420- 427- 432- 493- 632- 642- 649- 840- (2) 226- 272- 273- 303- 375- 381- (3) 84- 278- 279- 283- 287- 288- 289- 290- 291- 292- 293- 294- 295- 296- 297- 298- 299- 301- 302- 303- 305- 306- 307- 308- 310- 311- 312- 313- 314- 315- 316- 317- 318- 319- 320- 322- 330- 331- 342- 344- 370- 389- (4) 9- 10- 11- 13- 35- 124- 125- 139- 142- 145- 188- 194- 268- 269- 276- 279- 380- 381- 382- 432- 549- (5) 12- (6) 38- 40- 249. المأمون أخ العادل (4) 213- 214. المأمون من بني عبد المؤمن (4) 249- (6) 43- 49- 271- 380- 385- 394- 395- 509- (7) 681. المأمون بن ذي النون (1) 217- 224- (4) 205. المأمون بن عبد الرحمن (7) 98- 99. مأمون بن محمد (4) 465- 468- 473- 485- 639. المأمون بن المنصور (6) 340- 341- 342- 343. المأمون البطائحي (ابو عبد الله) (4) 86- 87- 88. المأمون عبد الحميد (4) 88. المأمون القاسم (7) 72. مأمون القلحطاوي (5) 561. مأمون المعلم (5) 563. ما انجول بن رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص (6) 119. ما بان النبي (2) 111. بنو ماثان من ولد داود عليه السلام (2) 167. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 ماثان بن افصى (2) 374. ماثان بن العازر بن اليهود بن أخس (2) 167- 168. ماجد بن مقبل (4) 138. بني ماجر من زواغة (6) 120. ماحرسكن (6) 162. ماجكس (6) 282. ابن ماجة (1) 388- 393- 395- 396- 398- 399- 400- 440. ماجور (3) 373. ماجوريه هارون الحال (3) 472. الماحور بن الحرث (بشير بن يزيد) (2) 377. بني ماخر بن تيفون (6) 170. بني ماخوخ (6) 233- 234- (7) 74- 85. بني الماخور (3) 182. ماداي (2) 182. مادغيس الأبتر بن بر بن قيس (6) 125- 126- 138- 149- (7) 3- 4. بني مادون (7) 205- 215- 216. بني مادي بن يافث (2) 126- 181- 218. ماذاي بن يافث (2) 11- (4) 548- (5) 4. مار بطرس بطرك الاسكندرية (2) 248. مار جرجس القسيس (2) 248. ماران (2) 54. بني ماردة (6) 595. بنو مارسة الضحيا عمرو بن عامر (2) 370. ابن مارمة (3) 358. ماروت (1) 631- 657- (2) 80- 82- (6) 276. مارى بن نابت (2) 125. ماري جاطه بن منسا بغا (6) 266- 267- 269- 270. ماريادس بطرس البطارقة (2) 251. مارية (أم إبراهيم زوج النبي صلى الله عليه وسلم) (مارية القبطية) (2) 87- 88- 450. مارية ذات القرطين بنت الهانئ (2) 334. المازري (الامام) (1) 560. بني مازن مازن المازنيين (2) 232- 302- 363. بني مازن بن الأزد (2) 301. بنو مازن بن فزارة (2) 364. بنو مازن بن منصور (2) 365. بنو مازن بن النجار (2) 343. مازيار بن قارن بن وندا هرمز (3) 318- 319- 331- 332- 333- 334- 335- 336- 355- 375- (4) 549- 550. مازيغ بن كنعان (2) 12- (6) 117- 127. ماستة (2) 281. بني ماسي (4) 225. ماش بن أرم بن سام (2) 9- 81. ماشخ (2) 11- 12- (5) 4. بني ماصكان (6) 303. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 بني ماصلت (6) 153. ماضي بن إبراهيم (6) 212. ماضي بن ردان (6) 69. بني ماضي بن رزق بن سعد (6) 56. ماضي بن عبد الله بن علي (6) 34. ماضي بن كعب (6) 99. ماضي بن محمد أخو المعز بن محمد (6) 212- 221. ماضي بن مقرّب بن مرّة (1) 808- (4) 71- (6) 22- 23- 25- 30. ماطوسة من نفوسة (6) 149. ماغانة (باغاية) (6) 146. ماغما بن ناحور (2) 50. ماغوس من امادين (6) 229- 370. ماغوغ بن يافث (2) 11- 12. ماكان بن كالي (3) 458- 464- 475- 476- 477- 490- 491- 499- 506- (4) 30- 31- 32- 33- 34- 143- 442- 443- 444- 445- 447- 448- 457- 490- 551- 552- 553- 554- 555- 556- 557- 561- 563- 565- 567- 569- 575- 658- 659. ابن ماكر بني ماكر (3) 478- (6) 299- 356. ماكرد الديلميّ (3) 497. ماكسن بن بلكين (7) 54. ماكس بن زيري (4) 203- (6) 209- 228- 236- 238- 239- (7) 44. ماكنون بن ضبارة الالجائي (4) 40- 44- 45- 46. ماكور من محديل (6) 162- (7) 85. ابن ماكولا (2) 52- (3) 490- 574. بني ماكير (4) 189. مالف بن سليمة بن مجاهر (6) 61- 62. مالك بني مالك (2) 4- 6- 54- 71- 302- 463- 498- 604- 617- (4) 3- 4- (5) 292- (6) 15- 55- 63- 280- (7) 175- 435. أبو المحاري مالك مولى حميرة (3) 24. مالك بن إبراهيم بن الأشتر (3) 99. مالك بن أبرهة (الا ملوك بن ذي المنار) (2) 60- 76. مالك بن إدريس بن زيد بن يشجب (6) 79. مالك بن أدهم بن محرز الباهلي (3) 156- 157. مالك بن الأشتر النخعي (2) 543- (3) 47. مالك بن أعصر بن سعد (2) 362. مالك بن أفصى (2) 374. مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي (1) 24- 258- 261- 270- 271- 389- 445- 468- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 525- 537- 538- 558- 561- 564- 565- 566- 568- 569- 578- 605- 624- 638- 732- 823- (2) 291- 298- (4) 26- (6) 416- (7) 511- 525- 625- 673- 680- 684. مالك بن أنس بن مالك (3) 238- 240. مالك بن الأوس (2) 342. مالك بن أويس بن خزيمة (2) 380. مالك بن بهرام بن أرتق (5) 228- 249- 254- 255- 279. أبو مالك بن أبي تاشفين (7) 146. مالك بن التيهان بن مالك (2) 346. بني مالك بن ثقيف بن بكر (2) 462- 464. مالك بن الحاف بن قضاعة (2) 56. مالك بن حبيب (2) 591- 616. مالك بن الحرث بن عبيد (2) 347. مالك بن الحرث بن يغوث (الأشتر النخعي) (4) 378. مالك بن حمير بن سبإ (2) 290- (4) 285. مالك بن الدخشم من بني سليم (2) 469. مالك بن دعر بن واين بن عيفا بن مدين (2) 45. (أبي عمرو) مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس (2) 454. مالك بن الريب بن جوط (2) 375. مالك بن زاحلة من بني اراشة (2) 456. مالك بن زافلة (2) 267. مالك بن زغبة (6) 59. مالك بن زهير بن عمرو (2) 284- 285- 289- 296- 308- 363. مالك بن زيد (بن أدد بن زيد كهلان مذحج (2) 70- 73- 300- 301- 304. مالك بن سالم بن مالك بن بدران (5) 253. بنو مالك بن سعد بن زيد مناة (2) 377. مالك بن سعد بن عوف (2) 368. مالك بن سليمان بن كثير (2) 375. مالك بن سنان الخوري (والد أبي سعيد) (2) 435. مالك بن شاهين (3) 316. مالك بن طرا (3) 158. مالك بن طريف بن مالك بن حفصة بن قيس عيلان (6) 48. مالك بن طوق بن مالك بن عتاب (2) 64- 311- 358- (3) 359- (5) 26. مالك بن عباد الحضرميّ (2) 457. مالك بن عبد الله بن جعدة (2) 371. مالك بن عبد الله الخثعميّ (3) 23- 256. مالك بن عبد الله سويّة (3) 23. مالك بن عبد الله الهمدانيّ (3) 196. مالك بن عبقر بن أنمار (2) 302. مالك بن العجلان (2) 62- 336- 342- 343- 344. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 مالك بن عدي بن الحرث بن مرّة (2) 305. مالك بن عقيل (6) 150. مالك بن عمر التميمي (3) 148. مالك بن عمر الهندي (3) 40. مالك بن عمرو (2) 332. مالك بن عمرو بن تميم (2) 375. مالك بن عمرو بن يعفر (2) 64. مالك بن عوف من بني النضير (2) 342- 362- 364- 465- 466- 467- 469- 491. مالك بن فارج بن مالك بن العنس (2) 310- (7) 619. مالك بن فهيم بن تيم بن أسد (2) 284- 285- 296- 308- 309. مالك بن قضاعة (2) 295. مالك بن قيس (2) 509. مالك بن كرد (3) 328- 329. مالك بن كعب الارجي (2) 589- 643. بنو مالك بن كنانة (2) 381- 396- 494. مالك بن كندر بن عبد الله (4) 381. مالك بن مرّة الرهاوي (2) 471. مالك بن مرمل (المرحل) (1) 779- (6) 123- (7) 263. مالك بن مسمع البكري (2) 617- 643- (3) 28- 41- 44- 99. مالك بن المنذر (4) 245. مالك بن المنذر بن الجارود (3) 97- 98. مالك بن مهنا (6) 13. بني مالك بن البخار (2) 343- 422- 434. مالك بن نسير الكندي (3) 33. مالك بن نويرة (2) 380- 382- 495- 498- 499- 500- 501- 504- 513- (7) 602. مالك بن هبيرة السكونيّ (3) 15- 16. مالك بن الهيثم الخزاعي (أبو نصر) (2) 374- (3) 125- 126- 127- 147- 150- 154- 220- 221- 228- 230- 232- 234- 252- 253- 290. مالك بن وهب بن عبد مناف (1) 146- 147- 187- 693- (2) 388- 410- (6) 304. أبو مالك بن يعقوب بن عبد الحق (7) 111- 336- 337- 339- 341- 342- 344- 349. ابن مالك المحاربي (3) 33. المالكية (4) 100. مالوس بن بلوطيس (2) 87. مالي (6) 267- 268- 270. ماليا بن حربيا (2) 85. ماليق بن ندراس (2) 85. ماماي (5) 608- 609. بني مامت (7) 205. مامة أم النعمان بن المنذر (2) 321- 322. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 مامة بنت المهلهل بن سعد بن عوف (2) 393. بني ماند (6) 21. الدوقس ماند بن ميخائيل اليشكري (2) 280. ماندر الراونس بن ميخائيل (5) 460. مانع بن حارثة (6) 110. حسام الدين مانع بن حذيفة بن غصينة بن فضل (5) 501. بني مانو (6) 308. بني ماني (6) 169. ماني بن مصدور بن مريس (6) 166. ماني الثنوي (2) 203- 326. مانية (2) 283. ماهاب (ماهان) البطريق (2) 164- 266- 267- 514- 515- 516- 518. ماهان قيصر (2) 60. ماواس بن معد بن اوريغ (6) 118- 183. ماواق (5) 4. الماوردي (1) 325. ماوطن بن غرسن بن كتم (6) 196. ماوية بنت النعمان (2) 316. بني مايكلات (مانكلات) (6) 169. بنو مباح (صباح) (6) 16. مبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي (6) 41- (7) 419- 429- 432. مبارك التركي (3) 254- 270- 271. مبارك بن حباس (6) 31. مبارك الرواح (3) 270. المبارك بن سعيد بن مسروق (2) 379. (أبو الفتوح) المبارك بن عضد الدين أبي الفرج (3) 657. مبارك بن عائد (عابد) بن عطية (6) 32. مبارك بن كامل بن منقذ (5) 337- 338- 346. مبارك شاه (5) 1- 6- 625. مبارك الطازي (5) 528- 531. مبانش (2) 225. مبدول (عامر) (2) 343. المبرد (1) 763. ابن المبرد (7) 730. مبسام بن إسماعيل (2) 394. ابن المبشر (1) 570. مبشر بن المنذر (2) 430. مبشر بن ناصر الدولة (4) 208- 209. متاي الكوهن (2) 163. مترداث ملك الأرمن (مترداب) (2) 148- 229- 237. بني مترون (يتزون) (6) 169. أبو منصور المتقي أمير الأمراء (2) 274- 359- (3) 508- 509- 510- 511- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 518- 519- 520- 521- (4) 292- 293- 295- 296- 297- 404- 570. أم متمم زوج خالد بن الوليد (2) 502. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 المتميدي وزير السلطان مسعود (4) 504. متنان (6) 203. المتنبي (أبو الطيب) (1) 790- 791- 804- (4) 38- (6) 4- (7) 511. متنيا (صدقيا هو) (2) 123- 126. متوسة من يسودة بن كتم (6) 196. متوشلخ (2) 7. الخليفة المتوكل بن المعتضد (1) 418- (2) 273- 379- 389- 390- (3) 299- 341- 342- 343- 344- 346- 348- 349- 350- 351- 354- 356- 358- 520- (4) 145- 202- 269- 287- 382- 415- 550- (5) 528- 540- 551. المتوكل على الله (6) 259- (7) 728. المتولي (6) 403. متى أحد الحواريين (متى العشار) (1) 289- (2) 170- 172- 173- 239. متى خسرو بن مجد الدولة (3) 558. متيتيا بن يوحنا بن شمعون الكوهن الأعظم (حشمناي) (2) 138- 139- 140- 227. المتين بن حمزة (1) 811. مثان (2) 168. بني مثنى (7) 530. مثنى بن تميم بن المعز (6) 221. المثنى بن حارثة الشيبانيّ (2) 320- 360- 505- 507- 508- 511- 516- 519- 520- 521- 522- 523- 524- 525- 526- 540- 542. المثنى الشاعر (2) 379. المثنى بن الصباح (1) 401. المثنى بن عمران (3) 143- 207. المثنى بن مخرمة العبديّ (2) 643- (3) 35. المثنى بن المسور (6) 182- 183. المثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة (3) 138. مثيوه من غمارة (6) 281. مجاشع بن حريث الأنصاري (3) 234. بني مجاشع بن دارم الأقرع (2) 378. مجاشع بن مسعود السلمي (2) 540- 553- 557- 565- 578- 579- 583- 584- 599- 610- 617- 622. مجاصة (6) 278. مجاعة بن سعيد التميمي (3) 54. مجاعة بن مرارة (2) 502- 503. مجالد بن مسعود (2) 622. مجاهد (1) 553- (2) 42- (5) 498- 579- 580- 581- 582. ابن مجاهد (2) 42- (6) 325. مجاهد بن سويد (6) 65. مجاهد بن مسلم (6) 185. مجاهد بن يوسف بن علي (4) 208. مجاهد العامري (1) 315- 399- 440- 600- (4) 191- 203. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 مجاهد الدين بهروز الشحنة (3) 610- 611- 616- 622- 631- (5) 205. مجاهر (مجاهد) من بطون سويد (6) 61- 62. مجد الدولة بن بويه (4) 495- 647. مجد الدولة بن فخر الدولة (4) 466- 491- 634- 663- 664- 665. مجد الدولة بن قراد (4) 327- 329- 355. ابو علي مجد الدين بن الربيع الشافعيّ مدرّس النظامية (4) 539- 543. مجد الدين بن رستق (5) 378. مجد الدين العلويّ الهروي (5) 110. مجد الدين الهكاري (5) 390. مجد الملك ألب ارسلاني (الباسلاني) (3) 596- 599- 605- (4) 361- (5) 17- 212. مجد الملك النيسابورىّ (5) 157. مجدل بن عمار بن مصمود (6) 126. مجدول بن تاقريس بن فراديس بن ونيق بن مكناس (6) 171. مجدي بن عمرو الجهنيّ (2) 425- 428. مجذوم بن نور الدين (5) 340. مجر (6) 119. مجرة (6) 150. المجروح (3) 421. مجريس (6) 183- 187- 615. مجزأة بن ثور (2) 551- 552. مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابي (3) 218. مجزر المدلجي (مجزر بن الأعور بن جعد) (2) 382. المجسطي (1) 642- (2) 196. بني مجسطة (6) 168. مجسكة (6) 122- 281- 288. المجشر بن مزاحم السلمي (3) 103- 109- 110- 112- 113- 119- 235. بني المجلبان (3) 566. ابن مجلكان (4) 346. المجن (5) 172- 173. المجوس (1) 56- 82- 240- 651- (2) 122- 169- 171. المجوسية (3) 353- (5) 123. مجير بن عصام بن ماجكس (6) 282. مجير الدين (5) 186. بني محارب (2) 367- 375- 440- 477- (6) 6- 95. بنو محارب بن خصفة (2) 365. محارب بن عبود بن ثعلبة (4) 18. محارب بن فهر (2) 385- 399. محارب بن موسى مولى بني يشكر (3) 151. المحارزة (بنو محرز بن حمزة بن عبيد) (6) 68. ابو المحاسن الضبعي (5) 42- 43. محامد (2) 366. المحاميد (بنو محمود بن طوب بن بقية بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 وشاح) (6) 111- 112- 113. ابن محتاج صاحب خراسان (4) 569. ابن المحتسب (أبي زكريا) (6) 436. أبي محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي الشاعر (2) 368- 522- 532. بني محدوج (2) 619. ابن محراة المهلبي (6) 148. محرز (6) 52. محرز بن إبراهيم (3) 127- 151- 156. المحرز بن حارثة العبشمي (2) 622. محرز بن حمدان السعدي (3) 97. محرز بن زياد (5) 234- 236. محرز بن زياد الفارغي أمير بني علي (6) 215- 218- 219. محرز بن زناد (6) 27. محرز بن شهاب التميمي (3) 15- 16. محرز بن فضلة الاسدي (2) 445. ابن محرز التونسي (1) 569. ابن المحرش (2) 595- 611. ابن المحروق (4) 219. المحسن بن الفرات (3) 462- 465- 466. محسن بن القائد (6) 229. محسن الخزري (5) 435. محصن بن فاني الكندي (4) 379. محصن السكاكي (1) 761. المحضر بن جندل بن يعصب بن مدين (2) 49. ابن محفوظ (4) 216- (6) 213. المحكم بن طفيل (2) 502- 503. المحل بن خليفة الطائي (2) 621. ابو محلب (ابو مخلب) (3) 472. محلف الأسود (1) 827. المحلل بن وائل (3) 190- 197- 198. محلم بن سبيع بن مسلمة (2) 359. بني محلى (7) 264. ابن محلى (7) 266- 271. آل محمد بني محمد (3) 302- 310- 321- 381- (4) 8- 11- 19- 20- 38- 39- 258- 671- (6) 153- 161- 222- 290- (7) 85- 224- 486. محمد نائب طرابلس (5) 488. الأفضل محمد (5) 490. ابو بكر محمد (5) 490. شمس الدين محمد (5) 283. الظاهر ابو نصر محمد (5) 149. ابو الغرانيق محمد (4) 254- 256. السلطان ابو الفضل أخو السلطان أبي عنان (6) 205- (7) 387. كنز الدولة محمد (4) 79- 91. نور الدين محمد صاحب الموصل (5) 256- 257- 258. جلال الدين محمد بن آبه القزويني (5) 94- 139. محمد بن إبراهيم الامام (3) 253. محمد بن إبراهيم الايلي (ابو عبد الله) (1) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 409- (7) 122- 126- 128- 299- 512- 519- 685- 732. ابو العباس محمد بن إبراهيم (4) 26- 30. القائد ابو محمد بن إبراهيم (4) 66. صدر الدين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الشافعيّ (قاضي القضاة) (7) 715. محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي (ابو الطباطبا) (3) 303- (4) 268. محمد بن إبراهيم بن الأغلب الافريقي (3) 300- 310. ابو محمد بن إبراهيم بن جامع (6) 254. ابو حميد محمد بن إبراهيم [الحميري] (3) 161. محمد بن إبراهيم بن حجاج (4) 172. محمد بن إبراهيم بن حسن (الحسن) (3) 238- (4) 4. محمد بن إبراهيم بن حسين (6) 357. محمد بن إبراهيم بن الدباغ (محمد بن الدباغ) (6) 456- 457- 469- 501- (7) 508. (ابو الحسن) محمد بن إبراهيم بن سيجور الدواتي (4) 459- 461- 462- 466- 475- 586- 661. محمد بن إبراهيم بن صعلوك (3) 458- (4) 438. محمد بن إبراهيم الطائي (4) 486. محمد بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن الدعي (4) 139. محمد بن إبراهيم الميراي (المبرازي) (7) 478. محمد بن إبراهيم بن محمد بن سليمان (4) 21. محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم (6) 289. محمد بن إبراهيم بن مصعب (بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب) (3) 328- 332- 333- 344- 348- 357- 363. محمد بن اتامشق (3) 396. الشيخ ابو محمد بن أثال (6) 262. بني محمد بن أحمد (6) 107. محمد بن أحمد أمير افريقية (4) 256- 440- 452- 463. محمد بن أحمد الأبكم (7) 469. محمد بن أحمد الاسكافي القراريطي (ابو إسحاق القراريطي) (3) 510- 511. (فخر الدين ابو البدر) محمد بن أحمد بن اسمينا الواسطي (3) 657. (فخر الدولة ابو نصر) محمد بن أحمد بن جهير (فخر الدولة بن جهير) (4) 340- 342. محمد بن أحمد بن خاقان (4) 383. محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش (4) 210. محمد بن أحمد بن عجلان (5) 572. محمد بن أحمد بن علي (7) 385. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 محمد بن أبي أحمد (بن أحمد) بن عيسى بن الشيخ (3) 377- 429- 436. محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد (4) 20. ابو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق (7) 403- 527. ابو عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل (6) 374. محمد بن أحمد بن وشاح (6) 603- 604. ابو عبد الله محمد بن أحمد الزواوي (7) 524. محمد بن أحمد النسائي المنشي (السنوي المنشي) (5) 130- 132- 144. ابو عبد الله محمد بن أحمد الشريف (7) 535. محمد بن أحمد الشيخ (4) 398. محمد بن أحمد الصيمري (ابو جعفر) (1) 30- (2) 51- (3) 449- 516- 517- 524- 525- 726- 547. محمد بن أحمد الطائي (4) 109. (ابو عبد الله) محمد بن أحمد القشتالي (7) 534- 535. محمد بن أحمد المخزومي (4) 384. السلطان ابو عبد الله محمد ابن الأحمر (محمد المخلوع (الفقيه) (4) 215- 219- (6) 392- 393- 395- 396- 400- 422- (7) 118- 260- 300- 301- 347- 405- 440- 442- 443- 446- 447- 448- 462- 463- 464- 467- 469- 470- 471- 479- 484- 485- 486- 487- 488- 490- 492- 493- 495- 497- 500- 501- 507- 521- 534. محمد بن إدريس بن العباس (الشافعيّ الامام) (1) 270- 402- 445- 537- 557- 558- 564- 565- 566- 567- 578- 603- 731- (2) 391- (4) 16- 17- 34- 49- 380- (6) 288- 289- (7) 96- 681- 684. محمد بن إدريس بن عبد الحق (7) 225- 235- 241- 278- 489- 490- 497- 498. محمد بن إدريس المتأيد (4) 196. محمد بن ارباش (3) 573. ابو عبد الله محمد بن الأزرق (6) 53. محمد بن إسحاق (ابن إسحاق) (1) 7- 18- 37- 68- 244- 413- (2) 4- 7- 8- 9- 11- 14- 27- 28- 38- 44- 45- 52- 58- 61- 63- 65- 68- 69- 70- 71- 75- 88- 101- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 167- 168- 173- 202- 290- 312- 313- 315- 334- 344- 345- 347- 348- 393- 394- 395- 396- 397- 400- 402- 446- 450- 451- 470- 478- 504- 547- (4) 49- (5) 4- (6) 190- 258- 326- 332. محمد بن أبي إسحاق بن جامع (ابو محمد) (6) 324- 327- 328- (7) 508. محمد بن إسحاق بن كنداجق (كنداج) (3) 421- 431- 442- 482- 483- (4) 110. محمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث (3) 99. محمد بن إسحاق بن يسار (2) 391. محمد بن أسد (4) 442. ناصر الدين محمد بن اسقلاص (5) 524- 525- 527. محمد بن إسماعيل (البخاري) (1) 26- 37- 154- 326- 392- 394- 396- 398- 401- 404- 415- 440- 464- 559- 560- 561- 562- 585- 601. محمد بن إسماعيل (3) 654- (7) 337- 469. الرئيس محمد بن إسماعيل (4) 221. ابو الوليد محمد بن أبي إسماعيل (5) 60. (ابو طباطبا) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (4) 9. (ابو نصر) محمد بن إسماعيل بن أسد (4) 483. محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (محمد المكتوم) (1) 30- (3) 450- 451- (4) 36. محمد بن إسماعيل ابن الرئيس ابو سعيد (7) 404- 418- 495- 497. محمد بن إسماعيل بن عباد (4) 194- 201. محمد بن إسماعيل بن قريش (4) 197. محمد بن الأشعث الخزاعي (2) 308- 374- (3) 14- 33- 34- 39- 40- 41- 151- 222- 223- 232- 252- 256- 261- 266- (4) 171- 242- (6) 147- 151- 159. ابو محمد بن اشقيلولة (7) 253- 254. محمد بن أصبغ بن محمد أصبغ الازدي (ابو عبد الله) (7) 686. ابو محمد بن اصناك (6) 349. محمد بن أضر (5) 29. (ابو العباس) محمد بن الأغلب بن إبراهيم (4) 253. محمد بن الأفطس (4) 10. (ابو علي) ناصر الدين محمد بن آقبغا آص (7) 528- 531- 534. محمد بن اكمازير (7) 296. محمد بن اكنجي (5) 106. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 (ابو علي) محمد بن الياس (3) 389- (4) 432- 437- 445- 446- 447- 563- 564- 565- 566- 567- 586- 587- 658- 661. شهاب الدين محمد بن الياس بن أبي الغازي بن ارتق (5) 294. (الحافظ أبي عبد الله) محمد بن الانباري (4) 212. محمد بن انوشتكين (3) 639- (5) 106- 107. محمد بن أوس الانباري (3) 357- 367- 369- 391- 426- (4) 26- 235- 415- 419- 550. محمد بن أوس الأنصاري (6) 194. محمد بن أوس البلخي (3) 425. (البهلوان) محمد بن ايلدكز (3) 644- 653- (5) 92- 93- 97- 99- 100- 102- 112- 113- 128. محمد بن اينال (5) 562. شمس الدولة محمد بن أيوب (5) 342. محمد بن باغي (5) 38. محمد بن بثينة بن حامد (6) 108. (ابو عبد الله) محمد بن بحر (7) 511. عز الدين محمد بن بدر الحميدي (5) 320. محمد بن بدر المعتضدي (3) 484- (4) 693. شهاب الدين محمد بن بدران (5) 303. محمد بن بركة خان (5) 453. محمد بن برفح الالهاني (4) 198. محمد بن بشر (3) 533. محمد بن بشير (3) 438- (4) 425- 434- 544. بهاء الدين محمد بن بشير (5) 165. محمد بن بشير الغوري (5) 121. ابو نصر محمد بن بغا (3) 371- 373- 379- 380. محمد بن البغيث بن الحليس (3) 342. محمد بن بقية (3) 529- 530- 533- 534- 535- (4) 589- 590- 593- 596- 597. محمد بن أبي بكر (2) 388- 596- 601- 612- 613- 619- 621- 622- 623- 624- 641- 642- 643- (3) 5- 482- (4) 71- 378- (6) 12- 509- (7) 596. محمد بن أبي بكر بن الحسن بن خلدون (6) 438- 440- 445- 493. محمد بن أبي بكر بن حمامة بن كندوز (7) 200. ابو الحسن محمد ابن الفقيه أبي بكر المحدث ابن سيد الناس اليعمري (7) 120. محمد بن أبي بكر بن علي بن جويلة (5) 466. ابو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عمران (7) 144- 331. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول (5) 83. محمد بن أبي بكر المتوكل (5) 505. محمد بن بكير بن بان (3) 127. محمد بن بهلول (6) 511- 512. شمس الدين (جمال الدين) محمد بن بوري (5) 183- 184- 276. الأمير محمد بن بوقا التركماني (4) 365. شمس الدولة محمد بن تاج الملوك (5) 181- 183. ابو عبد الله محمد بن تافراكين (ابو محمد بن تافراكين) (1) 812- 813- 814- (6) 508- 510- 511- 514- 517- 518- 519- 559- 561- 573- (7) 144. محمد بن تاكيت (4) 168- 169. علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش (بن أبي شنتكين) (3) 615- 634- 639- 640- 655- 659- (4) 530- 531- 533- 534- 535- 539- 540- 542- 543- 544- (5) 57- 75- 77- 78- 79- 85- 91- 97- 98- 100- 101- 102- 104- 111- 112- 115- 116- 117- 118- 120- 121- 122- 123- 124- 125- 126- 127- 128- 129- 130- 131- 132- 133- 144- 154- 163- 288- 324- 585- 586- 587- 588- 589- 592- 595- (7) 724. ابو منصور محمد بن تكين الخزري (4) 401- 403. محمد بن تميم (7) 383. محمد بن أبي تميم (7) 29. محمد بن تومرت المهدي (1) 329- (6) 166- 301- (7) 256- 398- 506. محمد بن تيدوكسن بن طاع الله (7) 371. محمد بن تيغمر (تينعمر) المسوفي (6) 247- (7) 61- 74- 102. محمد بن ثابت بن عمار (6) 537- 615. محمد بن ثابت بن منديل أمير طرابلس (7) 89- 354. محمد بن ثعلبة (6) 177. محمد بن ثقبة (4) 135. (شمس الدين ابو عبد الله) محمد بن جابر بن سلطان القيسي (7) 511- 685- 686. محمد بن جامع (6) 382. محمد بن جبريل الغوري (محمد بن خربك) (5) 114- 115- 117- 118. محمد بن جحوش (6) 68. محمد بن جرير (3) 204. محمد بن جرير الطبري (ابو جعفر) (1) 7- 16- 19- 22- 23- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 24- 25- 37- 216- 268- 327- 328- 337- 413- 420- 554- (2) 4- 8- 9- 14- 21- 23- 24- 26- 27- 28- 30- 31- 37- 38- 39- 41- 42- 43- 48- 55- 58- 59- 60- 63- 64- 67- 68- 72- 75- 76- 81- 88- 93- 99- 100- 101- 102- 103- 104- 106- 109- 110- 118- 121- 123- 124- 125- 129- 130- 135- 168- 170- 171- 182- 183- 184- 185- 187- 188- 191- 192- 198- 199- 202- 210- 213- 214- 216- 223- 262- 265- 271- 284- 309- 310- 311- 312- 313- 314- 316- 320- 321- 323- 325- 354- 355- 365- 397- 399- 401- 416- 425- 472- 478- 479- 488- 555- 590- 604- 605- 622- 650- (3) 29- 178- 241- 282- 360- 377- (4) 22- 112- 136- 284- (6) 122- 123- 124- 195- 201- 202- (7) 101- 360- 597- 619- 721- 733. محمد بن جعفر (2) 556- 612- 613- 624- (3) 160- 456- (4) 273- 427. محمد بن جعفر العامري (3) 315. محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن الحسين بن علي زين العابدين (3) 358. محمد بن جعفر بن أحمد بن عيسى (4) 27. ابو الفرج محمد بن جعفر بن فسانجس (3) 561- (4) 644. ابو هاشم محمد بن جعفر بن محمد (4) 129- 130. محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد بن إسماعيل الامام بن جعفر الصادق (3) 451- 452- (4) 12- 36- 38- 41. محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى (4) 13. محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زيد بن علي بن الحسين (3) 304- 305- 306- (4) 10- 268. محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين (الديباجة) (3) 305. محمد بن جعفر الغريابي (3) 482. محمد بن جق [جيق] التركماني (5) 190. محمد بن الجكجاك (الحكجاك) (6) 541- 549- 559. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 ابو عبد الله محمد بن أبي جلال (6) 572. محمد بن جند (بن حيد) (4) 439- 440. ابو الوليد محمد بن جهور (4) 201. محمد بن حاتم بن الصقر (3) 300. محمد بن حاتم بن هرثمة (3) 343. محمد بن الحاج (6) 248- 250. المنصور محمد بن المظفر حاجي (5) 516- 517- 518. محمد بن حامد بن يزيد (6) 108. محمد بن حبيش (3) 125- 126. محمد بن الحجاج (3) 64. محمد بن أبي الحجاج (4) 225. محمد بن حدرون (4) 539. محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة (2) 596- 622- 623- (4) 378. محمد بن حرب بن أبي الفضل (5) 127. محمد بن حرز بن جزلان (4) 14. محمد بن حزم (1) 395. ابو محمد بن حزم (2) 249. محمد بن حسن كاتب محمد بن عفان (6) 52- 290- (7) 55- 56- 57- 189. محمد بن الحسن (1) 558- (7) 463- 464. محمد بن الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم (3) 429- (4) 12. محمد بن الحسن بن حرميل (5) 154. محمد بن الحسن بن سرحان (6) 24. (ابو عبد الله) محمد بن الحسن بن عبد الله القرشي الزبيدي (7) 509. محمد بن الحسن بن عبد الودود (7) 44. محمد بن الحسن بن قارن (3) 375. محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد (4) 142. (ابو هاشم) محمد بن الحسن بن محمد الأكبر بن موسى الثاني بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون (4) 129- 142. محمد بن الحسن بن مصعب (3) 301. محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر (3) 241. محمد بن حسن بن أبي منيع (6) 603. ابو الحسن محمد بن الحسن الافساسي (4) 128. محمد بن الحسن العسكري (المهدي) (1) 249- 252. محمد بن الحسن اللكنوي (7) 683. (أبو شجاع) محمد بن الحسين (3) 490- 581- 588- 589- (5) 13- 94- 95- (6) 427. (خطيب الملك أبو منصور) محمد بن الحسين (3) 601- (5) 30. محمد بن أبي الحسين (1) 758- (6) 430. محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس (7) 509. محمد بن الحسين بن صالح (3) 314. أبو المؤيد محمد بن أبي إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني (3) 616. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 محمد بن الحسين الاسبيجابي (4) 475. محمد بن الحسين الغوري صاحب غزنة (4) 519- 520- 521. محمد بن حصين (3) 161- 244- 245. محمد بن حفص (3) 318. الشيخ أبو محمد بن أبي حفص البياسي (6) 44- 96- 97- 319- 338- 339- 340- 430- (7) 86. محمد بن الحكم بن أبي عقيل (2) 582- (6) 482. محمد بن الحكيم (6) 101- 496- 501- 504- 506- 512- 514- 524- 591- 592- 597- (7) 327- 341- 440- 546. محمد بن حليق (5) 194. محمد بن حماد البربري (3) 297- 410- 570. محمد بن حمدون بن سماك الاندلسي (4) 39. (نصرة الدين) محمد بن حمزه (5) 143- 144- 157. محمد بن حميد الطاهري (3) 266- 301. محمد بن حميد الطوسي (3) 318- 323- 327. محمد بن الحنفية (1) 248- 249- 250- 270- 297- 298- 398- (2) 368- 606- 629- 632- 647- (3) 25- 31- 33- 34- 36- 37- 216- 217- (4) 3- 141. الحاج محمد بن حواته (7) 151. محمد بن الحواري (4) 251. (كمال الدين) محمد بن الخازن (5) 75. محمد ابن الأمير خالد (6) 521. محمد بن أبي خالد (3) 296- 307. محمد بن خالد الجندي (1) 401- 402. محمد بن خالد بن عبد الله القسري (3) 159- 160- 235- 237- 239- 240- 242- 253- 280. محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ (3) 342- 361. محمد بن خربك (جربك) (4) 530- 532- 533. محمد بن خردان (4) 288. محمد بن خررزاد (حرداد) (3) 411. محمد بن حسن بن خزر (محمد بن خزر) (4) 47- 53- 55- 59- 60- 105- (6) 21- 137- 157- 178- 290- (7) 21- 23- 33- 33- 34- 35- 36- 38- 59- 71- 101. محمد بن خطاب بن يصلتف (6) 188- 255. محمد بن الخطيب (7) 440- 441- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 442- 443- 447- 450- 451- 452- 453- 454- 496- 500- 521 . محمد بن خفاجة (4) 255- 256. محمد بن خلدون (7) 508- 509. أبو عبد الله محمد بن خلف بن سعيد (ابن المرابط) (3) 448- 477- (4) 558- (6) 554- (7) 687. محمد بن خلف الله (6) 600. محمد بن الخير بن محمد بن خزر (محمد بن خزر) (6) 204- (7) 25- 36- 38- 39- 43- 59- 102. محمد المختص بن أبي الخير (4) 363- 682. محمد بن داود (6) 491- (7) 464. محمد بن داود بن الجراح (3) 338- 441- 447- 448- 449- 578. الفقيه أبو محمد ابن الشيخ أبي دبوس صاحب غرناطة (7) 254. محمد بن دبيس (4) 374- (5) 75. محمد بن الدمغة (7) 471. أبو القاسم محمد بن ذي الوزارتين أبي الوليد إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد ابن عمر بن أسلم بن عمر بن عطاف بن نعيم اللخمي (4) 197. (أبو بكر) محمد بن رائق (3) 484- 485- 493- 494- 497- 498- 499- 500- 501- 502- 503- 504- 505- 507- 510- 511- 512- 519- (4) 292- 293- 294- 296- 403- 404- 566- 567- 568- 569- 570- 571. محمد بن راشد (3) 364. محمد بن رافع (6) 553. محمد بن أبي رافع (4) 386. محمد بن رافع بن رفاع (4) 360. محمد بن رافع بن هرثمة (3) 415. محمد بن أبي رتبيل (3) 308. محمد بن رجاء كاتب أحمد بن طولون (3) 377- (4) 22- 388. محمد بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق (7) 494. أبو شجاع محمد بن الرسب أبي منصور (3) 611. محمد بن رستم (3) 357. (أبو عبد الله) محمد بن رشيد الفهري السبتي (5) 234- 237- 239- (6) 222- (7) 533- 688. محمد بن رغبوش (7) 298. أبو عبد الله محمد بن الرميحي (4) 216- (6) 395- 400. محمد بن زبيدة (الأمين) (2) 272- 273- (3) 274- 277- 278- 279- 281- 288- 289- 290- 291- 292- 293- 294- 295- 296- 297- 298- 299- 300- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 301- 302- 303- 307- (4) 9- 35. محمد بن الزبير (7) 414. محمد بن الزرقاء (7) 414. محمد بن زكراز (زكران- زكدان) بن تيدوكس (7) 97- 117- 152- 169- 170- 248- 419- 426- 434- 435. (المستنصر أبو عبد الله) محمد بن أبي زكريا (6) 521- 527- 528- (7) 119- 120- 356- 372- 373- 382- 383. أبو محمد بن أبي زكريا (6) 343. محمد بن الزكزاك (الركراك) (6) 504. الفقيه محمد وكاك بن زلوا اللمطي (6) 243. قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود (5) 313- 315- 319- 389- 391. محمد بن زياد بن أبي سفيان (4) 145. محمد بن زياد بن عبد الله بن زياد بن أبي سفيان (4) 268- 279. محمد بن زيان بن عسكر بن خليفة (6) 75- (7) 112- 182. محمد بن زيد العلويّ (3) 415- 417- 430- 431- 432- 436- 439- 442- 457- (4) 28- 29- 30- 424- 425- 434- 438- 551- (5) 89. أبو محمد بن أبي زيد المالكي (1) 137- 158- 744- (6) 138. محمد بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن (1) 251. محمد بن زيد بن مزيد (3) 284. محمد بن أبي زيد بن يوجان (6) 340. محمد بن زيري (4) 194- 197- 198. محمد بن أبي زيري (7) 72. محمد الباقر بن زين العابدين (1) 248- 251- (3) 124- 216- 450- 451- (4) 35- 143- 144. محمد بن أبي الساج (3) 414- 415- 416- 418- 427- 430- 431- 436- 440- 441- 460- (4) 393- 394- 395- 422. أبو الفتح محمد بن سالم صاحب غزنة (4) 522- 533. محمد بن سالم البيكندي (2) 328. محمد بن سبإ (4) 276. محمد بن سباع أمير بني سعيد من رياح (6) 226. محمد بن السباق (5) 46- 190. محمد بن سبع (4) 480. أبو محمد بن سبعين الصوفي (6) 407. محمد بن سبكتكين (4) 410- 520- 682- (5) 156. محمد بن السبيع (7) 66. أبو بكر محمد بن السرخسي (4) 545. محمد بن السرقوسي (4) 259. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 (أبو عبد الله) محمد بن سعد بن نزال الأنصاري (7) 510- 688. محمد بن سعد بن أبي وقاص (1) 390- (2) 388- (3) 63- 65. محمد بن سعيد (3) 253. محمد ابن الرئيس أبو سعيد (4) 219- (7) 492. أبو صيري شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الدلاصي (7) 736. أبو عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون (7) 686. محمد بن السفاح (3) 253. محمد بن سلال (3) 444- 445- (4) 289. محمد بن سلامة بن علي أمير بني يدللتن (7) 141- 147- 215- 216- 339- 340. محمد بن سليمان بن داود بن حسن المثنى (4) 10- 20- 21- 125- 399- 400- (5) 106- (6) 25- 304- 316- (7) 102- 352. أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي (1) 638- (7) 512- 517. أبو حمزة محمد بن سليمان بن علي (3) 241- 245- 246- 248- 253- 254- 258- 261- 262- 266- 270- 271- 273- 297- 443- 444- 461- 482- (4) 8- 13- 14. محمد بن سليمان الناسك (6) 498. محمد بن سمعان (3) 405. محمد بن سندمر (5) 561- 562. محمد بن سهل بن هاشم (3) 412- (4) 423. محمد بن السيد الازدي (3) 365- (6) 445. محمد بن سيد الناس (محمد بن الحسين بن سيد الناس) (6) 482- 484- 486- 492- 493- 500- 501- 502- 503- 505- 508- 510- 515- 516- 533- 590- 591- (7) 332- 384- 488. محمد بن سيرين (1) 629. الأشرف محمد بن أبي شجاع السمرقندي (4) 518. أبو عبد الله محمد بن شريح بن أحمد بن محمد الاشبيلي (7) 512. محمد بن شكري ابن الفتوح (6) 25. محمد بن أبي شكين غرشه (5) 23- 24- 76. محمد بن شهري (5) 565. أبو عبد الله محمد بن الشواش المزازي (6) 529- (7) 511. ناصر الدين محمد بن شيركوه (ناصر الدين بن شيركوه (5) 206- 302- 305- 307- 309- 340- 344- 352- 355- 356. (شمس الدين) محمد بن الصاحب (5) 459. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 محمد بن صالح (4) 376- (7) 23- 38. محمد بن صالح بن بيهس (3) 294. محمد بن صالح بن شيرزاده (3) 426. محمد بن صالح بن العباس (3) 338. محمد بن صالح بن مرداس (5) 171. محمد بن أبي صعلوك (3) 464. (أبو عبد الله) محمد بن الصغار المراكشي (7) 533- 688. محمد بن صفوان الجمحيّ (3) 175. محمد بن صول (3) 223- 228- 252- 341. محمد بن طالب بن مهلهك (6) 104- 106- 107- 525- 610- (7) 158. محمد بن طالوت (3) 297. محمد بن طاهر صاحب خراسان (3) 353- 357- 358- 359- 362- 363- 364- 376- 386- 387- 390- 391- 393- 394- 411- 412- 415- 417- 424- 425- 446- (4) 13- 26- 27- 417- 418- 420- 421- 423- 550- (6) 504. محمد بن طباطبا (3) 304- (4) 142- 145. محمد بن طراد (6) 225. (الإخشيد أبو بكر) محمد بن طغج (أبو نصر) (3) 507- 508- 519- 520- (4) 49- 295- 296- 298- 383- 403- 404- 405. محمد بن طلحة بن الزبير (1) 267- (2) 600- 601- 617. محمد بن الظاهر (5) 398. محمد بن أبي عامر (4) 106- 185- 186- (7) 25- 26- 41- 50. محمد بن عبادة (3) 433. المنصور محمد بن الأفضل عباس (5) 582. محمد ابن السلطان أبو العباس (7) 476. محمد بن العباس بن تاحضريت (7) 347- 355. أبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس (3) 522- 528- 529- (4) 583- 585- 594. محمد بن أبي العباس (الهاشمي) السفاح (3) 241- 276. محمد بن أبي العباس الطائي (3) 299. محمد بن عبد بن حسين بن يوسف بن فرج بن منبا (6) 89. محمد بن عبد الجبار ابن الأمير محمد (4) 175. أبو عبد الله محمد بن عبد الحق أمير بني توجين (6) 38- 349- 397- (7) 223- 224- 225- 226- 309- 487- 685. محمد بن عبد الحليم (7) 476. محمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن (7) 475. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل (4) 164- 165- 166- 167- 168- 170- (7) 254- 404- 505. محمد بن عبد الرحمن بن سعيد (3) 197. محمد بن شيخة (6) 99. محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر أمير المؤمنين (4) 192. محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (3) 177. محمد بن عبد الرحمن بن يوسف (6) 190. (أبو عبد الله) محمد بن عبد الرزاق (4) 453- 455- 669- (7) 537. (أبو عبد الله) محمد بن عبد السلام (1) 545- (7) 511- 685. (أبو طاهر) محمد بن عبد الصمد (3) 484. السعيد محمد بن عبد العزيز (3) 239- 243- (7) 148- 445. محمد بن عبد العزيز بن الياس (5) 49. محمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن أحمد بن علي بن عمر بن أبي زيد (6) 602- 603. (أبو عبد الله المزوار) محمد بن عبد العزيز الكردي (6) 485- 492- 493- 508. محمد بن عبد العظيم (1) 829. محمد بن عبد القوي أمير بني توجين (6) 84- 137- 428- (7) 114- 116- 131- 133- 206- 207- 208- 209- 210- 213- 215- 218- 244- 258- 269- 294. محمد بن عبد الكريم (6) 258- 259- 333. محمد بن عبد الله (عسكلاجه) (7) 26. محمد ابن الأمير عبد الله (4) 172- 173- (7) 419. محمد بن أبي محمد عبد الله (1) 260. محمد بن عبد الله الأشجعي (3) 176. محمد بن عبد الله بن إسحاق (7) 72- 96. محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد (4) 220. محمد بن عبد الله بن الأغلب (4) 249- 250- 255. محمد بن عبد الله البرزالي (4) 189- 191- 195- 198- (6) 240- (7) 73. محمد بن عبد الله البلعمي (4) 553- 560. محمد بن عبد الله الثقفي (3) 22. محمد بن عبد الله بن ثعلبة بن محارب (4) 19. محمد بن عبد الله بن جودان (3) 113. محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (1) 250- 251- (3) 235- (4) 3- 6- 8- 268- (6) 194. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 محمد بن عبد الله الخزاعي (3) 71. محمد بن عبد الله بن الخطيب (7) 568. محمد بن عبد الله بن السيد بن انس (3) 365. محمد بن أبي عبد الله بن سيد الناس (7) 384. (القاضي كمال الدين ابو الفضل) محمد بن عبد الله الشهرزوريّ (3) 650- (5) 273- 275- 298- 300- 339. محمد بن عبد الله بن طاهر (3) 348- 354- 355- 356- 357- 359- 360- 364- 367- 369- 375- 376- 391- 392- 428- 429. محمد بن عبد الله بن العاضد (4) 104- 108. محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن عبد الله بن عامر المغافري (7) 618. محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (7) 681. (فتح الدين) محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر (5) 466. محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) 5- 20- 29- 39- 116- 117- 118- 119- 124- 126- 129- 130- 131- 137- 138- 140- 154- 155- 161- 167- 169- 170- 171- 177- 200- 201- 204- 223- 237- 238- 239- 242- 243- 244- 246- 247- 253- 254- 255- 261- 265- 266- 267- 268- 272- 273- 278- 282- 283- 295- 303- 326- 375- 379- 389- 390- 391- 392- 393- 394- 395- 397- 398- 401- 402- 404- 405- 406- 407- 412- 413- 414- 415- 436- 438- 439- 440- 443- 444- 476- 520- 525- 526- 527- 538- 550- 551- 554- 557- 563- 565- 566- 573- 581- 584- 600- 605- 509- 610- 612- 620- 621- 625- 627- 651- 657- 662- 669- 673- 675- 744- 747- 748- 754- 762- 767- 768- 769- 804- (2) 4- 5- 6- 17- 24- 26- 36- 42- 48- 52- 53- 74- 76- 87- 88- 93- 134- 189- 210- 214- 216- 251- 266- 267- 286- 289- 290- 291- 293- 297- 298- 301- 305- 306- 316- 319- 335- 345- 346- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 347- 348- 349- 350- 351- 357- 358- 363- 365- 367- 371- 374- 375- 376- 378- 380- 381- 382- 383- 385- 386- 387- 388- 389- 390- 400- 401- 402- 406- 407- 408- 409- 410- 411- 413- 414- 415- 416- 417- 418- 419- 421- 422- 423- 424- 427- 428- 429- 430- 431- 432- 433- 434- 435- 436- 437- 438- 439- 440- 441- 443- 445- 446- 447- 448- 449- 450- 451- 453- 454- 455- 456- 457- 458- 459- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 469- 470- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 477- 478- 479- 480- 481- 483- 484- 485- 486- 489- 490- 491- 492- 493- 495- 496- 497- 498- 500- 501- 502- 504- 511- 514- 517- 521- 523- 525- 528- 529- 530- 544- 554- 568- 569- 570- 576- 581- 582- 583- 586- 587- 588- 590- 594- 595- 596- 598- 601- 604- 608- 612- 613- 616- 625- 628- 629- 631- 636- 639- 640- 646- 649- 651- 654- (3) 51- 57- 95- 124- 214- 257- 298- 419- 449- 450- 451- (4) 3- 4- 5- 6- 7- 10- 12- 31- 34- 109- 120- 124- 128- 247- 267- 268- 509- 582- (5) 129- (6) 49- 94- 97- 116- 193- 235- 265- 276- 407- 408- 409- 411- 416- (7) 45- 503- 592- 602- 650- 664- 666- 672- 678- 711- 720- 735- 736- 742. محمد بن عبد الله بن عبد النور (7) 525. محمد بن عبد الله بن علي (6) 34. محمد بن عبد الله بن عمر بن سعيد بن العاص (3) 243- 244. محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان (الديباجة) (3) 210- 238. محمد بن عبد الله بن أبي عيسى (4) 182. محمد بن عبد الله الغارقي (3) 469. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 (ابو بكر) محمد بن عبد الله بن فرج الفهري (7) 599. محمد بن عبد الله القمي (3) 346. محمد بن عبد الله بن قاسم (4) 193. محمد بن عبد الله الكثيري (3) 261. محمد بن عبد الله الكرخي (3) 397. محمد بن عبد الله الكردي (3) 428- (4) 25. محمد بن عبد الله المهدي (النفس الزكية) (4) 4- 5- 7- 8. (أبو عبد الله) محمد بن عبد الله بن مالك الأندلس الحياني (7) 510- 511. (القاضي أبو بكر الأبهري المالكي) محمد بن عبد الله بن محمد (1) 568- 601- 648- (2) 376- (4) 185. محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (2) 376- (3) 241. محمد بن عبد الله بن مدين (7) 25- 43. محمد بن عبد الله بن مرين (6) 179. محمد بن عبد الله بن مسلم (7) 193. محمد بن عبد الله بن المكتوم بن إسماعيل الامام (4) 398. محمد بن عبد الله بن هود (الهادي) (6) 310. محمد بن عبد الملك بن الزيات (3) 322- 335- 336- 341- 348. محمد بن عبد الملك بن مروان (3) 97- 134- 136- 165. شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم (5) 295- 298- 299- 300- 301- 339- 340- 342- 343- 345- 347- 351. محمد بن عبد المهيمن (7) 327. محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص (6) 528- (7) 591. محمد بن عبدون (6) 191- (7) 532. محمد بن عبدويه الانباري (3) 346- 349. محمد بن عبد (6) 428- (7) 201. محمد بن عبيد الكردي (3) 417. محمد بن عبيد الله (3) 398- 399- (4) 126- 127- 238. محمد بن عبيد الله البلغمي (4) 31- 441- 446- 447- 553- 560. محمد بن عبيد الله بن الحجاب (الحجاب) (4) 149. محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدث بن الحسن بن جعفر (حجة الله بن عبيد الله) (4) 136- 143. محمد بن عبيد الله بن أبي عيسى (7) 34. (القائم أبو القاسم) محمد (الحبيب) بن عبيد الله المهدي صاحب افريقية (1) 416- (4) 48- 50- 51- 70- 111- 112- 113- 115- 262- 263- (7) 18- 19- 20- 21. محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي (4) 420. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 محمد بن عثمان (3) 321- (4) 540. محمد بن عثمان بن داود بن أعراب (7) 636. محمد بن عثمان بن السلعوس (5) 463- 466- 467. أبو زيان محمد ابن السلطان أبو سعيد بن عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن (5) 483- (6) 58- 71- 85- 88- 471- 533- 551- 552- 569- 570- 571- 572- (7) 91- 94- 126- 127- 128- 129- 131- 132- 133- 147- 156- 161- 165- 166- 167- 168- 169- 170- 171- 172- 173- 174- 175- 176- 177- 178- 179- 180- 181- 182- 183- 184- 185- 186- 213- 297- 308- 324- 381- 383- 387- 398- 412- 420- 436- 437- 439- 448- 449- 450- 451- 454- 455- 461- 462- 463- 465- 466- 471- 516- 557- 558- 561- 577- 580- 581- 589- 590- 710. محمد بن عجلان (3) 243- (4) 135- (5) 547. محمد بن عدي (3) 99. محمد بن أبي العرب (7) 53- 62. محمد بن عرنة (7) 639. محمد بن عريف بن يحيى شيخ سويد (6) 64- 65- 72- (7) 174- 175- 179- 180- 181- 183- 479- 581- 637. محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر (5) 410. (الجبار) محمد بن العشير (4) 540. محمد بن عطو (عتو) الجاناتي (7) 273- 279- 280- 281- 283. أبو محمد بن عطوش (6) 327. أبو محمد بن عطية (1) 555. محمد بن عطية الأصم من بني عبد المؤمن (7) 129- 131- 211- 294. (أبو العباس) محمد بن أبي عقال (7) 253. محمد بن العلاء (3) 297- (4) 685. محمد بن أبي العلاء بن أبي طلحة (7) 421. محمد بن علاء الدين (4) 525. محمد ابن أخت علاء الدين (5) 491. محمد بن علاثة (3) 262. محمد بن علان (6) 458. محمد بن أبي العلي (6) 365. محمد بن علي (3) 30- 147- 153- 264- (7) 396. محمد بن أبي علي (4) 536. محمد بن علي بن إبراهيم (6) 560. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 محمد بن علي بن إسحاق بن غانية (4) 209. محمد بن علي بن بشير (4) 542. محمد بن علي بن حبيب (3) 395. محمد بن علي الرضا (1) 252- (3) 320- (4) 35- 652. محمد بن علي بن زكدان (6) 357. محمد بن علي بن سباع (7) 436. محمد بن علي بن صعلوك (4) 554. محمد بن علي بن عبد الله (1) 250- (3) 96- 125- 126- 127- 131- 217- 218- (4) 3- (7) 721- 735. محمد بن علي بن العربيّ (7) 158. محمد بن علي بن عمر (أبو عبد الله) (7) 531. محمد بن علي بن غانية المستوفي (4) 210. محمد بن علي بن الفقيه (7) 326. محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة (5) 495. محمد بن علي بن قشوش (6) 292. محمد بن علي الليث (4) 428- 436. محمد بن علي بن محلى (7) 256- 264- 279. محمد بن علي بن محمد بن حمزة بن إبراهيم بن أحمد اللخمي (6) 501. (أبو بكر) محمد بن علي بن مقاتل (4) 296- 404. (جمال الدين) محمد بن علي بن منصور الأصبهاني (5) 280- 283- 293. محمد بن علي بن موسى بن ماهان (3) 300. (حق الدين) محمد بن علي بن واصمع (6) 265. محمد بن علي بن يحيى (7) 241. محمد بن علي بن يحيى الأرمني (4) 386. محمد بن علي بن يحيى المسوقي (6) 326. محمد بن علي بن يوسف (6) 253. محمد بن علي ابن الحاج يوسف بن سليمان (6) 314. محمد بن علي الزلماط (ازلماط) (6) 350- 367. محمد بن علي العزفي (7) 345. ضياء الدين محمد بن علي الغوري (5) 116. محمد بن علي الكومي (6) 318. (أبو الفرج) محمد بن علي السامري (3) 520. علاء الدين محمد بن أبي علي سروركاه (5) 120. محمد بن علي الصعلوك (4) 443. محمد بن علي المارداني (3) 465. محمد بن علي الهمدانيّ (4) 270. محمد بن عمار بن ياسر (3) 26. محمد بن أبي عمر (أبو عبد الله) (6) 593- (7) 379- 382- 384- 385- 386- 387- 388- 389- 390- 391- 467- 477- 523- 524- 533- 537. محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 حفص (6) 614. محمد بن عمر الشاري (3) 374. ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شيركوه (5) 382- 383- 385- 392- 395- 401- 489. أبو الحسن الشريف محمد بن عمر العلويّ الكوفي (4) 603- 608- 609- 613- 676. محمد بن عمر بن عبد الله (7) 200. محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (3) 122- 123. محمد بن عمر بن محمد بن مسعود (6) 272- 273. محمد بن عمر بن منديل (7) 90- 293- 294. محمد بن عمر الواقدي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني (1) 7- (7) 681. محمد بن عمر بن الوليد بن عقبة (3) 43- 98- 99- 100. محمد بن عمران (4) 276. محمد بن عمران بن إبراهيم (3) 238- 239- 243. محمد ابن السيد أبي عمران بن أبي حفص (6) 393- 487- 488- 489- 494- 496- 497- (7) 331- 332. (أبو الهيجاء) محمد بن عمران بن شاهين (4) 681. محمد بن عمران بن عيلة من بني يرنيان (7) 247- 260- 273. محمد بن عمرو (7) 503. محمد بن عمرو بن العاص (2) 265. محمد بن عمرو بن الليث (3) 417- (4) 454. محمد بن عمرو بن واقد الإسلامي (2) 214. محمد بن عمير (2) 186- (4) 381. (الحاجب) محمد بن عمير بن عطارد التميمي (3) 27- 31- 55- 56- 171. أبو الفتح محمد بن عنان بن واصل (3) 547- 548- (4) 679- 687- 688- 690. محمد بن عنبرجي (5) 624. محمد بن عون (3) 363- 364- (7) 23. محمد بن أبي عون (6) 191- 238. محمد بن عيسى (3) 348- (5) 496- 502- 528- 529- (6) 12- (7) 326. محمد بن عيسى بن أحمد بن محمد (6) 290. (أبو علي) محمد بن عيسى الدامغانيّ (4) 463. محمد بن عيسى بن داود (6) 445. محمد بن عيسى بن مناد (أبو حميدة) (6) 82. محمد بن عيسى بن المنصور (4) 124. محمد بن عيسى بن نهيك (3) 291- 299- 300- 301. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 محمد بن عيسى الهنتاتي (6) 442. محمد بن أبي العيش (6) 290. الكامل (العزيز) محمد بن الظاهر شهاب الدين غازي بن العادل صلاح الدين أبي بكر بن أيوب (3) 663- (5) 156- 240- 242- 291- 325- 328- 423- 614. محمد بن الغازي بن غانية (محمد بن غانية) (6) 258- 261- 376. محمد بن غاغيا (3) 605. محمد بن غانم (4) 604. المهرباط أبو جعفر محمد بن غشام (4) 362. محمد بن الغلاق (6) 482. محمد بن غلبون (7) 518. سيف الدين محمد بن غياث الدين (4) 522. محمد بن الفارسيّ من قواد الخراسانية (4) 245- 246. أبو محمد بن فاطمة (6) 250. (الشاكر للَّه) محمد بن الفتح بن ميمون الأمير (4) 56- (6) 174- (7) 50. (أبو جعفر) محمد بن فخر الملك أبي المظفر بن نظام الملك (5) 56- 57. محمد بن فرج الفرغاني (4) 389. (أبو عبد الله) محمد بن فرج مولى ابن الطلاع (7) 686. (أبو عبد الله) محمد بن فرحون (6) 494- 500- 503- 504- 515- 516. أبو هريرة محمد بن فروج (3) 285. أبو محمد بن فسانجس (4) 609. أبو عبد الله محمد بن فضل (6) 478- 519. أبو الفتح محمد بن الفضل (4) 639. محمد بن الفضل الجرجاني (3) 356- 375. محمد ابن الأمير أبي الفضل ابن السلطاني أبي الحسن الواثق. محمد بن الفضل الداعي (4) 38- 268- 282. محمد بن الفضل بن سليمان (3) 266- 287- 451. محمد بن أبي الفضل بن شرف (1) 819. (شرف الدين) محمد بن أبي الفضل المرسي (7) 686. محمد بن الفضل بن نيسان (3) 425. محمد بن الفضيل (1) 396. (الامام أبو بكر) محمد بن فورك (4) 340. (أبو العباس) ذخير الدين محمد بن القائم باللَّه (3) 569- (5) 6. محمد بن قاري (6) 140. محمد بن القاسم (4) 159- (7) 96. محمد بن القاسم بن إدريس (4) 19- (6) 289- 445. محمد البطاني بن القاسم بن الحسن (4) 31. محمد بن أبي القاسم بن الحكيم الرندي (7) 470. محمد بن القاسم بن حمود (4) 194- 196. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 محمد بن قاسم بن طملس قائد الحكم (6) 291- (7) 25. (أبو جعفر) محمد بن القاسم بن عبد الله (3) 488- 489- 490- 497- 498- 510. محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي زين العابدين بن الحسين (1) 251- (3) 321- (4) 11. محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون (6) 544- 545- 549- 559- 560- 610. محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل (3) 76- 83- 173. محمد بن أبي القاسم بن أبي مدين (7) 524. محمد بن القاسم الرنداحي (7) 277. محمد بن القاسم الشامي (4) 117. محمد بن قالون (محمد بن يحيى بن القالون) (6) 479- 480- 484. محمد بن القاهر (ناصر الدين) (3) 508- (5) 318. محمد بن قتادة (4) 134. محمد بن قتيبة (6) 558. أبو محمد بن قتيبة (7) 3- 4. نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان (5) 295- 301- 302- 303- 305- 307. محمد بن القرشي (5) 562. محمد بن قشتمر (5) 524. محمد بن قطن (3) 154. الناصر محمد بن المنصور قلاوون (1) 352- (3) 665- (4) 134- (5) 466- 467- 468- 469- 470- 473- 474- 475- 476- 477- 482- 483- 484- 485- 487- 490- 491- 493- 494- 495- 496- 497- 498- 499- 504- 505- 506- 512- 517- 523- 540- 547- 548- 580- 607- 619- 620- 621- 622- 624- 633- (7) 299- 349- 350- 351- 373- 374- 376- 377- 476- 689- 693- 694- 706- 707- 708. محمد بن قهرب عامل طرابلس (4) 256- 257- 388. محمد بن الكاتب (3) 254. محمد بن كانون (6) 38- 350. محمد بن الكرام (3) 243. بنو محمد بن كرمة (6) 30- 31. محمد بن كعب (2) 42- (6) 99. محمد بن كعبور (6) 615. محمد بن كمستكين (5) 191. محمد بن كوكتين (6) 140. محمد بن لاجين (5) 357. محمد ابن السلطان اللحياني (ابو ضرية ابن اللحياني) (6) 101. محمد بن الليث (3) 428. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 محمد بن أبي الليل (6) 100- 103- 460. محمد بن ليلى المغراوي (4) 189. محمد بن ماكان (4) 456- 580. محمد بن مالك (3) 23. ابو بكر محمد بن المتوكل الواثق. محمد بن المثنى (3) 115- 148. محمد بن المحروق (7) 336- 491- 492- 494. محمد بن محمد بن إبراهيم ابن الحاج البلقيني (ابو البركات) (7) 534. أبو نصر فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير (فخر الدولة بن جهير) (4) 413. محمد بن محمد الحميري (5) 388. محمد بن محمد بن الحكم اللخمي (4) 218. (ابو البركات) محمد بن محمد بن خميس (5) 46. (ابو المعالي) محمد بن محمد بن زيد بن علي زين العابدين (العلويّ) (4) 9- 515. (ابو عبد الله) محمد بن أبي محمد بن أبي عمرو (7) 378. (ابو عبد الله) محمد بن محمد بن الصباغ (7) 525. محمد بن محمد بن محمد بن بدر القمر (مكين الدين) (3) 657. (المخلوع) محمد بن محمد الفقيه ابن محمد الشيخ بن يوسف بن نصر (7) 311- 327. ابو محمد بن محمد بن أبي مدين (ابو المجد) (7) 378. محمد بن محمد بن منديل الكناني (7) 429. محمد بن محمد بن موسى بن حفص (3) 333. محمد بن محمد الأخيضر بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون (4) 124- 217. محمد بن محمد الجوهري (6) 389- 390. ابو عبد الله محمد بن محمد المزدوري (6) 475. محمد بن محمود بن بقراخان (5) 87- 89. محمد بن محمود بن سبكتكين (4) 494- 495- 502- 503. محمد بن محمود بن ملك شاه (3) 635- 636- 638- 639- 640- 641- 642- 643- (4) 374- 376- (5) 79- 81- 82- 85- 86- 87- 88- 89- 90- 91- 97- 288. محمد بن مخلد (3) 380. محمد بن مردنيش (6) 318- 319- 320- 321- 322- 372- 418. محمد بن مركب (لب) بن موسى (4) 166. محمد بن مروان (1) 400- (3) 40- 44- 46- 62- 63- 89- 96- 173- 190- 191. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 (ابو هريرة) محمد بن مروخ (فروج) (3) 212. محمد بن مزيد (3) 547. محمد بن مسافر (3) 513- 518- (4) 570- 666- 669- 685. محمد بن المستنصر (7) 296. شمس الدين محمد بن مسعود (4) 538. بني محمد بن مسعود (6) 29- 272- 374- 375- 424. محمد بن مسعود الادريسي (7) 459. محمد بن مسعود البلطي شيخ رياح والزواودة (6) 333- 335. محمد بن مسعود بن زمام (6) 44- 45. محمد بن مسعود بن سلطان (6) 97- 260. محمد بن أبي عبد الرحمن مسعود بن ماسي (7) 419- 420- 425. محمد بن مسكين بن عامر (من بني القوس) (6) 101- 108- (7) 143. محمد بن مسلم (3) 78- 378. ابو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي (7) 681. محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش (3) 589- (4) 341- 344- 345- 353- (5) 12- 18- 21- 170. محمد بن مسلمة (1) 269- (2) 349- 431- 432- 468- 556- 587- 593- 596- 597- 598- 599- 603- 610. ابو الرواد محمد بن مسبب أمير بني عقيل (3) 538- (4) 321- 322- 324- 613. محمد بن المشاطر (4) 344. محمد بن مشرف الدولة (3) 594. محمد بن مطرف الجرجاني (3) 476- (4) 444. محمد بن المظفر بن محتاج (4) 436- 445- 446- 447- 448- 564- 565- 567- (5) 416- 458- 629. (ابو عامر) محمد بن المظفر بن المنصور بن أبي عامر (4) 205. (ابو غفير) محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف (6) 277- 278. محمد بن معاذ (3) 375. أبو المنتصر محمد بن المعتز (6) 173. محمد بن المعتضد المعتمد بن عباد. أبو الحسن محمد بن معز الدولة (4) 568. محمد بن معقل (6) 79. محمد بن معن (4) 205. محمد بن مفلح الفاتكي (4) 279. محمد بن مقاتل بن حكيم العكي (الكعبي) (3) 286- (4) 246- 247. السلطان محمد بن ملك شاه (3) 595- 597- 599- 600- 601- 602- 603- 604- 606- 607- 608- 609- 610- 611- 612- 614- 616- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 618- 620- 646- (4) 83- 120- 359- 360- 361- 361- 362- 363- 366- 367- 528- 529- (5) 25- 26- 27- 28- 29- 30- 31- 32- 33- 34- 36- 37- 38- 39- 40- 41- 42- 44- 45- 46- 47- 49- 50- 54- 57- 58- 59- 61- 93- 166- 191- 204- 219- 225- 226- 248- 251- 262- 263- 462- 500- (6) 100. محمد بن أبي مناد (7) 71. محمد بن منديل (محمد بن ثابت بن منديل) (7) 87- 88. محمد بن المنذر بن الزبير (3) 26. (أبو الفتح) محمد بن منصور بن دارس (4) 342. محمد بن منصور بن دؤاد (4) 413. محمد بن منصور (أبي منصور) بن مزنى (6) 488- 493- (7) 509- 532. محمد بن المنصور بن المظفر (7) 694. محمد بن منقذ (5) 25- 50. محمد بن المنكدر (1) 389. محمد بن منكلي (3) 658. محمد بن المهدي (3) 411- 412. محمد بن أبي مهدي الهنتاني (6) 402- 574- (7) 192. محمد بن مهلهل بن قاسم (6) 100. محمد بن مهنا (5) 570- (6) 120. محمد بن مهو بن شيخ الوهبية (محمد بن سمون شيخ الوهبية) (6) 447. محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك (3) 604- 605- (5) 38. (ضياء الملك علاء الدين) محمد بن مودود (5) 145- 157. محمد بن موسى (6) 32. (أبو زيان) محمد بن أبي حمو موسى (7) 185- 186- 187- 191- 193- 195- 196- 197. محمد السبيع بن موسى بن إبراهيم (7) 418- 422- 428. محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله (3) 189- 193- 194- 195. محمد بن موسى بن طولون (3) 420- (4) 396. محمد بن موسى بن النعمان (1) 526. محمد بن المولد (3) 426- 427- (4) 23. محمد بن ميكال (3) 358- (4) 27. محمد بن ميمون بن الملّوح (6) 173- 214- 308- (7) 140. أبو محمد بن نابهشاد (بابشاذ) (4) 681. العزيز محمد ابن الناصر داود (5) 423- 425. أبو فراس محمد بن ناصر الدولة (4) 308. محمد بن نباته (3) 221. (أبو عبد الله) محمد بن النجار (7) 526. محمد بن النجي (5) 24. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 محمد بن نخيل (6) 377. محمد بن نزار (6) 532. أبو عبد الله محمد بن نسيّ (ينيّ) (4) 680. محمد بن نصر (3) 260. محمد بن نصر الحاجب (3) 479- 483- 484. أبو سعيد محمد بن نصر بن محمود (5) 35. عماد الدين محمد بن نظام الملك (5) 133. محمد بن نمير (3) 45. محمد بن النوار (7) 355. عز الدولة الحاجب أبو مناد (أبو مياد) محمد بن نوح (4) 30- 198- (7) 69- 71. عز الدين محمد بن نور الدين الحميدي (5) 403. محمد بن نيال الترجمان محمد بن نيال. محمد بن أبي هاشم (3) 581. محمد بن هاشم (هشام) التجيبي (4) 177- 179. محمد بن هانئ الاندلسي شاعر المعز (4) 60. أبو سهل محمد بن هبة الله (3) 578- 579. القاضي محمد بن هدبة (7) 299. محمد بن هرثمة (3) 432. محمد بن هرمز (4) 428. محمد بن هارون (3) 308- 314- 415- 421- 431- 432- 439- 442- 443- 458- (4) 29- 434- 435. محمد بن هارون التغلبي (4) 385. أبو محمد بن هارون الطائي (7) 511. محمد بن هزارمرد الكردي (4) 24. محمد بن هشام بن عبد الجبار (ابن أمير المؤمنين المهدي) (4) 189- 190- 191- 192- 193- (5) 15- (6) 162. محمد بن هشام المخزومي (3) 176. محمد بن هطال (4) 643. محمد بن أبي هلال (5) 567- (6) 434- 435- 436- 509- 606- (7) 120. أبو عبد الله محمد بن هلال شارح المجسطي (7) 526. محمد بن هود عم المتوكل (بهاء الدولة) (4) 214. محمد بن الهيثم (3) 429. محمد بن الواثق (3) 341- 361- (6) 456. محمد بن واسول المكناسي (4) 56- 57. محمد بن أوصل بن إبراهيم التميمي (3) 385- 388- 423- 424- (4) 4- 418- 419. محمد بن واقد (3) 270. (القاضي أبو عبد الله) محمد بن وانسول (6) 269. أبو محمد بن وانودين (محمد بن وانودين) (6) 316- 325- 344- 345- 346- (7) 225. محمد بن ورزين (ورزير) بن فكوس بن كوماط بن مرين (7) 220. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 (صدر الدين) محمد بن الوزان (5) 115. محمد بن وضاح بن بديع القرطي (أبو عبد الله) (7) 687. محمد بن وطيص (ورصيص) (7) 247. محمد بن الوليد (3) 396. محمد بن أبي الوليد (4) 225- (7) 336- 492. محمد بن وهب (4) 425. (أبو بكر) محمد بن ياقوت (3) 484- 485- 486- 487- 489- 491- 492- 493- 494- 495- (4) 563. محمد بن يحيى (3) 421- (6) 416. محمد بن يحيى بن أبي بكر التينمللي (6) 450. محمد بن يحيى الذهبي (1) 414. محمد بن يحيى بن سريق (أبو جعفر) (4) 292. أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرازاد (3) 505- 506- (4) 403. محمد بن يحيى بن أبي طالب (6) 501. محمد بن يحيى العسكري (العشري) (7) 371. (عماد الدين) محمد بن يحيى العلويّ الحسيني (5) 89. محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى (أبو علي) (3) 456. محمد بن يحيى بن فانو عامل تلمسان (6) 307. محمد بن يحيى بن القالون (6) 473- 479- 480- 484- 487- 488- 490- 491- 493- 494- 500- 505- 515- 519. أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي (7) 536- 537. محمد بن يحيى البكري (7) 686. محمد بن يحيى المجروح (3) 432. السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيى الواثق (5) 483. محمد بن يرزيكن (يوزيكن) الهنتاني (6) 343- 456. محمد بن يزداد (3) 500- 501- 512. محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الملك (4) 268. محمد بن يزيد بن حاتم (3) 297. محمد بن يزيد بن عبد الله بن المدان (3) 222- 252. محمد بن يزيد القرشي (3) 174. محمد بن يزيد مولى قريش (4) 237. أبو محمد بن أبي يزيد (6) 144. محمد بن بشير (6) 578. محمد بن يصل (7) 35. محمد بن يعفر ملك صنعاء (4) 36. محمد بن يعقوب (3) 345- (6) 475- 577. محمد بن يعقوب بن حسان الصيحي (7) 457- 459. محمد بن يعقوب بن عبد الحق (7) 278. محمد بن يغمر المستوفي (6) 233. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 محمد بن يغمراسن (7) 116- 122. محمد بن يغمور الهرغي (6) 260- 334. محمد بن أبي يغلوسن (7) 418. محمد بن يملول (6) 594. محمد بن ينال الترجمان (3) 515- 516- (4) 295. أبو سعيد محمد بن يوسف (3) 322. محمد بن أبي الحجاج يوسف (7) 260- 404- 495. بني محمد بن يوسف الأبكم (6) 198- 478- 484- 485- 539- 546. محمد الأخضر بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون (4) 13- 123- 124. محمد بن يوسف بن الأحمر (أبو عبد الله الفقيه) (4) 217- (7) 250- 251. محمد بن يوسف بن زمرك الصريحي (7) 663. محمد بن يوسف بن عبد الرحمن (أبو الأسود) (4) 155. محمد بن يوسف بن علال (7) 194- 468- 473- 474- 475- 478- 479- 480. محمد بن يوسف بن عنان (7) 131- 136- 137- 138- 139- 141- 155- 212- 385. محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن هود الجذامي 211- 212- (3) 661- (4) 211- 212- 215- (6) 340- 341- 342- 344- 345- 385- 392- 393- 394- 395- 396- (7) 507. السلطان محمد بن يوسف بن نصر (الشيخ ابن الأحمر صاحب الأندلس) (1) 207- 208- 330- 829- (4) 211- 212- 214- 215- 216- 217- 218- 222- 223- 224- 225- 230- (6) 345- (7) 125- 149- 151- 188- 189- 194- 227- 243- 245- 251- 252- 253- 254- 255- 259- 260- 261- 262- 264- 265- 266- 267- 268- 270- 271- 276- 277- 279- 280- 282- 284- 285- 286- 288- 289- 300- 302- 302- 312- 313- 316- 317- 329- 336- 337- 346- 348- 390- 408- 418- 428- 433- 434- 441- 446- 449- 450- 451- 452- 453- 454- 455- 459- 548- 550- 558- 563- 578- 585- 632- 637- 657. محمد بن يوسف بن وانودين (6) 324. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 محمد بن يوسف بن يغمراسن (7) 331. أبو محمد بن يونس (6) 348- 367. محمد الأشقر (7) 140. الحاجب صلاح الدين الباغيسياني (5) 66- 67- 264- 266- 271- 274- 280. محمد البطوي (البطوني) (6) 482- 498- 499- (7) 334- 335. محمد بك بن ارتنا (5) 201- 543- 634- 635. محمد بن باكيش بن جند التركماني (5) 551. محمد بهستون (5) 32. محمد البهلوان (محمد بن ايلدكز) (3) 644- 653. محمد تكش (3) 655. محمد تكين (4) 515. أبو محمد التجاني (6) 95- 111- 255- (7) 57- 58. أبو محمد التميمي (3) 577. محمد التونسي (7) 468. محمد الحجال (3) 501. أبو عبد الله محمد الحافد (6) 610. محمد الحبيب (1) 252. محمد خان (أرسلان خان محمد بن سليمان) (4) 515- 517- (5) 126. محمد الخرصاني (الحرضاني) (6) 341. محمد الخصاصي القائد (4) 225. أبو محمد الدامغانيّ (5) 26- 212. محمد الدنيدن (6) 580- 581. محمد الديباجة بن جعفر الصادق (4) 144. محمد الرئيس (7) 441. أبو محمد الرخامي (7) 296. أبو محمد الزواوي (6) 53. الامام أبو محمد الزيادي (5) 108. محمد السجاد بن طلحة (2) 388. محمد السعيد (6) 545. محمد السفدي (3) 148. أبو محمد السفياني. أبو عبد الله محمد السلوي (7) 533- 534. محمد شاه (1) 227- (5) 544. محمد الشخشي (6) 456. محمد الشيبانيّ (5) 190. محمد الصادق (3) 126. محمد الصباغ (7) 741- 742. صفي الدين محمد الطغرائي (5) 157. محمد العائد (6) 89. أبو عبد الله محمد العربيّ (7) 511. محمد الفازازي (6) 596. محمد القائم (4) 142. أبو عبد الله محمد القاضي (4) 67. أبو محمد القشتالي (7) 229- 233. أبو القاسم محمد القصير (7) 511. محمد القطراني (6) 349- 350. ابن محمد الكتامي (6) 297. أبو عبد الله محمد الكناني (7) 239- 295- 432. محمد الكيرج (3) 83. محمد اللحياني (أبو محمد اللحياني) (6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 402- 403 . أبو محمد المارداني (3) 516. محمد المخلوع (4) 218. محمد المرتضى (4) 139. محمد المرغني (4) 540. محمد المتوكل (3) 665- 666. محمد المجرسي (6) 482. محمد المديوني (6) 482. ابو محمد المرجاني (6) 455. محمد المستعلى (4) 196. ابو عبد الله محمد المغربي (7) 533- 534- 537. محمد المكتوم (1) 251- 252. محمد المهدي (1) 22- 166- 199- 324- 405- (3) 239- 241- 242- 247- 253- 450- (4) 123- 140- 142- 145. محمد (2) 534. الصالح محمود (5) 257- 258- 259. محمود صاحب دمشق (5) 274- 276. ابو محمود قائد المعز (4) 61- 62. محمود استاذ دار قهرمان الدولة (5) 552- 554- 561- 563- 567. محمود بن ارسلان خان (4) 518- 519- (5) 78. محمود بن الافرم (محمود الافرم) (3) 574- 576. محمود بن بوري (5) 272. شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي (5) 302- 340. محمود بن حبيش (4) 69. محمود بن زنكي (نور الدين الشهيد- نور الدين العادل) (3) 587- 589- 620- 649- 650- (4) 101- 343- 353- (5) 86- 185- 186- 191- 192- 276- 280- 281- 282- 283- 284- 285- 286- 287- 289- 290- 291- 292- 293- 294- 296- 297- 298- 299- 309- 327- 328- 329- 330- 331- 332- 333- 334- 335- 336- 339- 340- 347- 363- 364- 410- (6) 255- (7) 723. محمود بن سبكتكين (2) 389- (3) 548- 549- 552- 557- 558- 559- (4) 137- 330- 355- 431- 432- 464- 465- 466- 467- 468- 469- 470- 472- 473- 474- 475- 476- 477- 479- 482- 483- 485- 489- 490- 491- 492- 493- 494- 495- 499- 504- 510- 511- 512- 513- 625- 626- 634- 635- 645- 664- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 665- 672- 683- (5) 585- (7) 721- 722. محمود بن سلمة (2) 453. محمود بن سليمان (5) 22. محمود بن سنجر شاه (5) 314- 315. محمود بن صالح بن مرواس الكلابي (3) 581- 582- 589- (5) 6. محمود بن طراف (6) 257. محمود بن عبد الجبار (4) 161. (ابو القاسم) محمود بن عبد العزيز الحامدي (الحافدي) (3) 644- (5) 92- 389- 391- 394. فخر الدين محمود بن أبي علي (مسعود بن علي) الزعفرانيّ (5) 292. غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين (4) 530- 533- 537- 538- 539- 540- 544- 546- 547- (5) 120- 121- 122- 123- 124- 125. محمود بن الغراء (5) 36. (نور الدين) محمود بن قليج ارسلان بن داود بن سقمان (5) 192- 193- 194- 205- 345- 349. الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان (5) 84- 85- 86- 87- 88- 89- 90- 91- 94- 126- 585. السلطان محمود ابن السلطان محمد بن ملك شاه (3) 610- 611- 613- 614- 615- 616- 617- 618- 619- 620- 621- 623- 624- 625- 626- 627- 631- 633- 635- 636- (5) 54- 55- 56- 57- 58- 59- 99- 107- 262- 263- 264- 268- 288. محمود بن محمد خان (4) 517- (5) 88. ابو المؤيد محمود بن مسعود (4) 368. محمود بن مفرج (6) 9. السلطان محمود بن ملك شاه (ناصر الدولة والدين) (3) 591- 592- 595- 596- 644- (4) 359- 366- 367- 368- 370- 371- 372- (5) 16- 17- 18- 20- 22- 32- 60- 61- 62- 64- 65- 66- 68- 70- 76- 83- 149- 170- 172- 177- 178- 254- 255. المظفر محمود بن منصور (5) 197- 258- 402- 406- 408- 410- 411- 412- 415- 416- 460- 464- 466- 469- 473- 512. محمود بن مودود (5) 437. سيف الدولة (يمين الدولة) محمود بن ناصر الدولة بن سبكتكين (7) 722. محمود بن نزال الربعي (6) 226. محمود بن نصر بن صالح (4) 349- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 350- 351 . محمود بن نوح (4) 510. محمود بن نيان (ينان) (ينال) الترجمان (4) 565. شهاب الدين محمود الحازمي (4) 100- (5) 182- 183- 184. محمود الخوارزمي (5) 131- 587. محمود ريعول (5) 5. نظام الدين محمود الشيبانيّ (5) 475. قطب الدين محمود الشيرازي (5) 459. محمود المدني (5) 92. محمود نورا خان (4) 515. المحموديين (4) 17. محنف بن سليم الازدي مخنف بن سليم الازدي. محنية بن حذاء الزبيدي حليف بني سهم (2) 454. محيي الدولة (4) 644. محيي الدين بن معين الدين انز (5) 276. محيي الدين بن قليج ارسلان (5) 193. محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق (5) 363. محيي الدين بن فضل الله (5) 506. محيي الدين النووي (1) 560- 567. محيا بن سعيد (6) 34. محيحة من مزاتة (6) 153. محيسن بن عمارة (6) 62- 134. محيصة بن مسعود (2) 432. محيو بن أبي بكر بن حمامة (7) 221- 223. أبو محيو السكمي (7) 224. المخادمة (6) 48. المخارق بن غفار الطائي (المغافر) (4) 242- 243- 244- (6) 148. مخاييل الشكري (5) 201. المختار بن أبي عبيد (1) 248- (2) 368- 388- 626- 638- (3) 33- 37- 38- 40- 171- 187- 216- 551- (4) 3. المختار بن عوف الازدي البصري (3) 210. مختار بن القاسم (6) 23. مختار بن محمد (6) 79- 91. مختار الدولة بن نزال (5) 462. المختم (المختص) محمد بن أبي الخير. المخدج (2) 585- 640. مخدم (6) 48. بني مخرمة (2) 305. مخرمة بن نوفل (1) 303- (2) 427- 548. بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب (2) 388- 399- 411- 413- 442- 461- 619. مخشمش بن ولتينوس (2) 249- 250. مخشميان بن لوجيه (2) 245- 249- 250. بني مخشي (4) 158. مخشي بن جهير (2) 468. مخشي بن عمرو (سيد بني ضمرة) بن عبد مناف بن كنانة (2) 424. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 المخضب بن عسكر أمير بني مرين (6) 309- (7) 221- 224. مخلد بن صاعد (3) 417. أبو يزيد مخلد بن كيداد بن سعد الله بن مغيث بن كرمان اليغرني الخارجي صاحب الحمار (4) 46- 49- 50- 51- 52- 53- 104- 105- 263- (6) 138- (7) 17- 596. أبو هاشم مخلد بن محمد بن صالح (3) 208. مخلد بن مرة الازدي (4) 246. مخلد بن يزيد (3) 92- 95. مخلص الرومي (5) 474. مخلوف بن سليمان الوارتيني (7) 472. مخلوف بن عبّو (7) 310. مخلوف بن الكماد (6) 161- 513- 544- 609. مخلوف بن يوسف (6) 272. ابن مخنف (عبد الرحمن) (3) 56- 189- 190- 208. مخنف بن سليم الأزدي (2) 614- 619. مخوس ملك بني وليعة (2) 476. المدائني (1) 323. مداثر بن الملطاط (2) 54. بني مدافع (6) 598. مدافع بن رشيد بن كامل (6) 222- 606. مدافع بن علال القيسي (6) 226. مدان بن إبراهيم (2) 43. ابن مدبر (3) 368. مدثر بن عبد كلال (2) 65. ابن مدرار (1) 30- (3) 449- 455- (4) 37. بني مدرار (1) 28- (4) 47- (6) 77- 174- (7) 26- 50. مدرار بن اليسع (المنتصر) (6) 172- 173. مدرك بن طب الكلبي (3) 99- 100. مدرك بن المهلب (3) 98. مدركة بن الياس (2) 362- 379- 395. مدركة بن قضاعة (2) 374. مدرة (6) 602. مدعور (2) 507. مدغليس (1) 827- 829. مدلان الناصري (5) 533. بني مدلج بن مرّة (2) 382- 425- 493. مدليلا (2) 79. المدمرون (2) 535. بني مدن (7) 205- 206. بني مدونة من مزاته (6) 153. بني مدين (1) 207- (2) 48- 93- 98- 99- 100- 104- 109- (6) 158- 178- 179- 226. الشيخ أبو مدين (1) 409- (6) 166- (7) 110- 413- 527- 579. مدين بن إبراهيم (2) 42- 43- 49. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 مدينة (7) 33. أبو مديني بن فروخ اللهيمي (4) 40- 43. مديون (7) 73. ابن أبي مديون الونكاسي (السكاسني المساكني) (6) 353. بني مديونة (7) 202- 220. مديونة بن فاتن بن تمصيت (6) 120- 134- 147- 155- 165- 168- 225- 307. مذحج (2) 36- 203- 286- 303- 304- 305- 475- 477- 482- 492- 526- 614- 630- (3) 14- 15- (4) 286- (5) 499- 500- 580- (6) 3- 8- 79. بني مذغنان (5) 236. بني مذغنة (5) 235. ابن مذكور صاحب السويقة (6) 262. مذكور من ممديل (6) 162. مذكور بن نزار (4) 650. آل مر من بني ربيعة (5) 228- 562. بني مر بن أدّ بن طانجة (2) 378. بني مرا (2) 336- (6) 99. مرا بن رعويل (2) 47. المرابطون (1) 374- (4) 197- 200- 201- 202- 203- 205- 206- 211- 229- 230- (6) 52- 179- 202- 214- 229- 232- 233- 234- 240- 242- 243- 244- 245- 246- 247- 248- 250- 251- 252- 253- 256- 270- 280- 296- 314- (7) 48- 51- 60- 61- 74- 77- 98- 250- 723. المرابعة (بنو مربع) (6) 55- 56- 57. مراته من ندرومة (6) 166. بني مراد- مراد (2) 28- 304- 475- 492- (5) 499- 500- (6) 7- (6) 3- 79- 275. مراد بك (5) 636. مراد بن ربيعة (2) 304. مرار بن أنس الضبي (3) 222. مرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف (2) 469. المرازبة (3) 80. بني مراسن (6) 246. مراسيان (5) 77. المراعية (بنو مرعي بن حسن بن عوف) (6) 109. مراغة (4) 38. مراما الصقلي (4) 53. مراموش (5) 109. مران (5) 18. ابن مرانة (1) 421. بني مرانة (6) 168. المراونة (1) 369- (6) 31. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 مرايه (6) 60. مربع بن قيظي (2) 424. بني مرة- مرة (2) 54- 290- 303- 362- 381- 397- 491- (3) 135- 338- 339- (7) 58. مرة بن أدد (2) 305. مرة بن حمير بن سبإ (2) 290. مرة بن ذهل بن شيبان (2) 360. أبي مرة بن ذي يزن (2) 69. مرة بن شريك بن مرثد بن الحرث العبسيّ (4) 379. بنو مرة بن صعصعة بن معاوية (2) 368- (6) 55. بنو مرة بن عبيد بن مقاعس (2) 376- (3) 237. مرة بن عدي (2) 363. بنو مرة بن عوف بن سعد (2) 364. مرة بن كعب بن لؤيّ (2) 386- 387. بني مرة بن مالك (2) 345. مرة بن منقذ بن عبد القيس (2) 619- (3) 34. مرة بن هبيرة بن عامر (2) 371. مرتانا قرطست من قواد المرابطين (6) 251. المرتضى (1) 30- (3) 270- 449- 547- 551- 555- (4) 145- 195- 206- 208- 643- (6) 38- 39- 41- 42- 347- 348- 349- 350- 351- 352- 367- 401- 417- 493- (7) 111- 113- 114- 148- 231- 232- 233- 236- 237- 245- 247. المرتضى بن أبي أحمد الموسوي (4) 127. المرتضى المرواني (4) 203. المرتفع من بطون عياض والضحاك (6) 32. مرتيانو بطرك اسكندرية (2) 243. مرتين لبس هو (4) 231. مرثد بن ذي يزن (2) 70. بنو مرثد بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبإ الأصغر (2) 291. مرثد بن سعد بن عنز (2) 23. مرثد بن عبد كلال (2) 67. مرثد بن علس بن ذي جدن (2) 291. مرثد بن أبي الغنوي (2) 438. مرثد ذو مروان بن كريب (2) 32. ابن مرثد الفزاري (3) 103. مرجان الخصي مولى أبو زكريا (مرجان) (4) 270- (6) 464. المرجئة (3) 99. المرخان (5) 70. مردار شاه (2) 522- 523. مرداس ابن مرداس بني مرداس (2) 275- 366- (3) 589- (4) 77- (6) 43- 44- 96- 97- 98- 374- 382- 407- 601- 606. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 أبو بلال مرداس (3) 388. مرداس بن جرير بن تميم (3) 181. مرداس بن رياح (6) 21- 43- 187. مرداش (5) 183- (6) 45. مرداويج (4) 143- 437. مرداويح بن زيار (دينار وزيار) بن باور الجيلي (3) 458- 459- 476- 477- 485- 490- 491- 492- 495- 498- 499- 560- (4) 30- 31- 32- 33- 441- 445- 446- 447- 448- 552- 554- 555- 556- 557- 558- 559- 560- 561- 562- 563- 564- 565- 566- 568- 569- 570- 658. مردة من ندرومة (6) 166. مردخاتون بنت جاولي (5) 183- 184- 274. مردخاي (2) 136- 196. ابن مردنيش (1) 207. بني مردنيش (4) 209- 211- 213- (6) 344- (7) 251. مردنيش ابن مودهشي (6) 317. المرذاذ (2) 11. بني مرزال (7) 43. المرزبان (4) 664- 667- 668- 670. بني المرزبان (3) 552- 558- (4) 673. المرزبان بن بختيار (3) 532- 533- 535- (4) 315. المرزبان بن بركش (تركش) 335- 336. المرزبان بن الحسين بن حرابيل (خراميل) (4) 672. المرزبان بن سفهيعون (شهفيروز) أبو كاليجار (3) 542. المرزبان بن سلطان الدولة (3) 561. المرزبان بن عبد الله بن نصر الأصبهاني (5) 80. المرزبان بن محمد بن مسافر (3) 513- 514- 518. المرزبان بن وهزر (2) 76. ابن مرزوق (7) 101. بني مرزوق (6) 113. بني مرسي (2) 317. مرسينة من نغزاوة (6) 119. مرشد الهراس (5) 34- 286. مرضخة بن قوقل بن عوف (2) 343. مرطا أب هسكورة (6) 122. مرعويه (2) 274. مرعي بن حسن بن عوف (6) 109. مرغم بن صابر بن عسكر بن علي بن مرغم شيخ الجواري (6) 111- 112- 442- 451- (7) 363. مرغم بن مهلهل بن قاسم (6) 100. مرقا (3) 558. مرقاص تلميذ بطرس أحد الحواريين الانجيلي (1) 289- 291. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 مرقص (2) 173- 174- 175- 239. مرقيان قيصر (2) 179. مرقيش بن مقلاوش (2) 85. القاضي ابن مركان (فركان) (6) 533. مركة (2) 120. المركس مقدم الفرنسيس (2) 279. مركيان بن مليكة (2) 257- 258. المركيش صاحب صور (5) 247- 360- 363- 370- 371- 379- 380- 382- 384. مركيوس (2) 246. مرمازو (6) 286. ابن مرمور (يرمور) (6) 307. بني مرنة (6) 153. مرنجيصة (7) 6- 14- 15- 17- 23- 31- 32- 68. مرنيزة بن تطوفت (6) 119. مرنيسة (6) 150- 152- 284. ابن مروان (2) 275- 276- (3) 129- 551- 581- 587. بني مروان المروانيين (1) 234- (2) 20- (3) 38- 42- 99- 545- 588- (4) 151- 153- 175- 184- 407- 414- 415- 605- (5) 9- 11- 204- 256- 261- (6) 145- 595. مروان (كاتب عثمان بن عفان) بن الحكم بن أبي العاص (1) 258- 260- 269- 332- 337- 338- 418- 696- (2) 270- 273- 297- 385- 390- 574- 582- 588- 594- 596- 597- 599- 601- 603- 608- 619- 621- 624- 647- (3) 6- 7- 25- 26- 32- 35- 169- 170- (4) 2- 377- 378. مروان (شمس الدين) (5) 448. مروان بن صالح (4) 236. مروان بن عبد الله بن عبد الملك (3) 135. مروان بن عبد الله بن مروان (4) 209. مروان بن عبد الملك (4) 379. مروان بن غمارة (6) 283. مروان بن محمد بن مروان (2) 271- 360- 364- (3) 114- 115- 139- 140- 142- 144- 149- 150- 156- 158- 162- 163- 164- 165- 167- 168- 176- 178- 206- 207- 208- 211- 217- 218- 220- 221- 235- (4) 38- 150- 239- 379. مروان بن المغيرة (1) 391. مروان بن المهلب (3) 81- 97- 98- 99- 100. مروان بن الوليد (3) 89. مروان بن وهب. ابو مروان الباجي (4) 215- (7) 507. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 ابو مروان التجاني (7) 266. مروان القبطي (4) 306. ابن المرواني (4) 306. ابن المرواني (4) 85. مري ملك الافرنج (5) 243- 244- 328- 330. ابن مري (5) 301. مريم (2) 247. ابو مريم مولى بني الحرث بن كعب (3) 179. مريم زوج هيرودس (2) 153- 154. مريم بنت الاسكندرة (2) 152- 156. مريم أخت موسى وهارون (مريم البتول) (2) 94- 170- 171- 177- 178- 179. مريم بنت موريق (2) 212. مريم بنت موريكش (2) 262- 263- 264. مريم بنت يؤاقيم موثان (2) 168. مريم بنت يوسف (2) 168. بني مرين (1) 12- 205- 227- 300- 304- 312- 333- 375- 409- 470- 529- (2) 364- 380- (4) 17- 217- 218- 219- 221- 224- 230- 231- (5) 482- 483- 504- (6) 28- 37- 38- 39- 41- 43- 49- 58- 62- 63- 64- 69- 70- 71- 80- 82- 84- 85- 88- 91- 101- 136- 157- 190- 198- 199- 220- 268- 271- 272- 273- 274- 297- 309- 337- 345- 346- 347- 348- 349- 350- 351- 353- 354- 355- 357- 360- 361- 362- 363- 364- 368- 376- 390- 397- 401- 417- 432- 457- 458- 459- 461- 462- 464- 465- 466- 472- 477- 479- 482- 491- 493- 495- 529- 532- 533- 534- 535- 537- 538- 539- 540- 545- 546- 558- 578- 594- 615- (7) 10- 14- 60- 65- 68- 73- 75- 76- 78- 82- 83- 84- 90- 91- 92- 93- 97- 105- 106- 108- 109- 110- 113- 114- 115- 119- 121- 122- 123- 124- 126- 128- 129- 130- 131- 132- 134- 135- 144- 145- 146- 147- 148- 152- 155- 156- 158- 159- 160- 162- 163- 164- 166- 167- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 168- 169- 170- 174- 175- 177- 178- 179- 180- 181- 182- 183- 187- 190- 192- 193- 194- 197- 199- 200- 202- 203- 207- 208- 209- 211- 212- 215- 218- 220- 221- 223- 224- 225- 226- 227- 228- 229- 230- 231- 232- 234- 235- 236- 237- 238- 246- 250- 251- 252- 253- 261- 262- 267- 282- 286- 289- 293- 295- 303- 304- 305- 308- 309- 313- 314- 316- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 326- 327- 328- 329- 330- 337- 339- 340- 341- 343- 355- 356- 357- 362- 363- 364- 367- 369- 371- 376- 377- 378- 379- 380- 381- 383- 384- 386- 387- 389- 391- 392- 393- 395- 399- 400- 401- 403- 411- 412- 413- 415- 416- 417- 418- 419- 420- 421- 422- 423- 424- 425- 426- 427- 428- 434- 435- 436- 439- 440- 443- 444- 445- 446- 449- 451- 455- 457- 459- 463- 465- 468- 472- 473- 474- 475- 476- 480- 482- 484- 487- 499- 516- 522- 529- 532- 533- 536- 539- 557- 558- 578- 580- 585- 633- 663- 706- 709- 731 . مرين بن ورتاجن بن ماخوخ (7) 78- 220. مرين بن يعقوب (6) 82. مرينا بن مرينوس (2) 87. مرينة (6) 120. مرينوس بن بركة (2) 87. مزاته (4) 51- 70- (5) 535- (6) 23- 119- 152- 153- (7) 21. القاضي ابن مزاحم (3) 649. مزاحم المولى (7) 237. مزاحم بن خاقان بن عزطوج التركي (3) 353- 376- (4) 382. مزاحم بن محمد بن رائق (3) 507- (4) 404. بني مزان بن يعفر (4) 284. بني مز جلدة (6) 275. مزد ارسلان عثمان (5) 92. المزدغاني (5) 230. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 مزدك الزنديق (2) 208- 322. مزدلي قائد ابن تاشفين (7) 60. الأمير مزدلي بن تبلكان (ملنكان- تيلنكان) (6) 247- 249- 250. بني مزروع (6) 306. مزروع بن خليفة بن يوسف بن بكرة (6) 65. مزروع بن صالح بن ديلم (6) 65. مزطاوة (6) 126. بني مزغنة (6) 203- 204. مزنة بن ديفل بن محيا بن جرى (6) 586. مزنة بنت أسد بن ربيعة بن نزار (6) 125. ابن مزني (6) 527- (7) 185. ابو مزني (7) 156. بني مزني الولاة بالزاب (6) 33- 584. المزني (1) 567. المزني الحافظ (1) 26. بني مزوان (مزوات- مزورات) من انجفة وسدويكش (6) 197- 202. المزوار بن عبد العزيز محمد بن عبد العزيز. مزياته من البرانس (6) 192. بني مزيد (3) 546- 547- (4) 130- 327- 353- 377. مزيد بن حاتم (3) 285. مزيزة (6) 158. مزيقياء (2) 284- 285- 300- 309- 340. بني مزين (7) 32. مزينة (2) 344- 375- 378- 458- 460- 463- 614- (3) 97. مسّا بن إسماعيل (2) 394. بنو مساحق بن الافرم (2) 382. مسار (2) 46. مسّارت (7) 6- 77. مساري (5) 508. مساعد (6) 31. بني مسافر (4) 672. مسافر بن الحسين (4) 294. مسألته (6) 196. مسامح مولى إبراهيم بن يغمراسن (6) 477- (7) 91- 131- 134- 136- 139- 142. المسانية (6) 114. مساور الشيبانيّ الخارجي (3) 376- 410- 421- 423- 424- 427- 433- (4) 288. مساور الشاربي (3) 426. مساور بن عبد الله بن مساور البجلي (3) 365- 366- (4) 287- 288. المسبحي (2) 238- 239- 241- 243- 244- 245- 246- 247- 248- 252- 254- 255- 259- 260- 262- 264- (5) 500- 501. ابن المسبحي (4) 104. المسترشد باللَّه بن المستظهر (3) 611- 612- 613- 615- 617- 619- 620- 621- 622- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 623- 624- 626- 627- 628- 629- 630- 631- (4) 366- 367- 368- 369- 370- 372- 373- 683- (5) 54- 55- 57- 62- 63- 64- 65- 68- 69- 71- 72- 73- 181- 182- 254- 255- 262- 263- 267- 268- 269- 270- 272- 327- 442. المستضيء لنور الله (3) 649- 650- 651- 652- (4) 131- 137- (5) 98- 291- 295- 297. المستضيء العباسي (4) 102- 103- 334- 335. المستضيء العبيدي (4) 129. المستضيء العلويّ (4) 118. المستظهر (العزيز بن محمد بن عبد الله البرزالي) (4) 198- (7) 73. المستظهر باللَّه ابو العباس أحمد بن المقتدي باللَّه العباسي (1) 286- (3) 593- 594- 595- 598- 600- 601- 603- 604- 605- 606- 607- 608- 609- 611- (4) 130- 192- 194- 364- 366- (5) 19- 32- 33- 37- 38- 39- 40- 54- (6) 249- 250. ابو احمد المستعصم عبد الله بن المستنصر آخر خلفاء بني العباس (1) 420- (3) 660- 663- 664- (5) 98- 416- 417- 420- 421- 423- 432- 433- 434- 441- 502- 613- 614- 616- (6) 416- (7) 148- 693- 725- 736. المستعلي بأمر الله خليفة العلويين (5) 173. المستعين بن هود (1) 196- (4) 210- (6) 248- 250- 251- (7) 543. المستعين باللَّه [أحمد بن محمد المعتصم] (2) 275- (3) 353- 354- 355- 356- 357- 358- 359- 360- 361- 363- 364- 370- 373- 374- 375- 510- (4) 20- 124- 125- 144- 189- 190- 191- 192- 193- 194- 206- 269- 383- 550- (7) 29- 70- 72. المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبد الله (2) 301. المستكفي بن المكتفي (3) 351- 352- 519- 520- 521- 522- 523- (4) 113- 126- 192- 194- 296- 297- 517- 568- 571- 572- 573. المستنجد باللَّه العباس يوسف بن المقتفي (3) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 645- 646- 647- 648- 651- 652- (4) 131- 210- 376- (5) 90- 91- 92- 93- 94- 98- 334- (6) 412. المستنصر وزير سيف الدولة (4) 67. ابو جعفر المستنصر (3) 661- 662- 664. المستنصر العباس (ابو العباس أحمد بن الظاهر) (3) 664- (4) 128- 133- 195- 211- 212- 213- 214- (5) 324- 441- (7) 108- 148. المستنصر بن جزور المغراوي (6) 20. المستنصر بن حزرون الزناتي (6) 230- 231. المستنصر بن أبي حفص (6) 56- (7) 295- 298. المستنصر بن أبي زكريا (6) 94- 98- 303. المستنصر (العبيدي) العلويّ صاحب مصر (1) 422- 758- (2) 278- 369- (3) 567- 569- 570- 573- 574- 586- (4) 76- 77- 78- 84- 103- 119- 129- 130- 271- 272- 273- 337- 339- 340- 348- 349- 350- 360- 656- 658- (5) 7- 169- 210- 233- 288- (6) 211. المستنصر سيف الدولة أحمد بن عبد الملك بن عماد الدولة (4) 207. المستنصر باللَّه (يوسف) بن الناصر (6) 18- 19- 25- 27- 257- 337- 338- 376- 378- 379- 402- 405- 406- 407- 417- 418- 419- 429- 430- 431- 432- 434- 435- 437- 439- 447- 452- 454- 460- 465- 469- 475- 481- 509- 560- (7) 88- 133- 207- 238- 239- 245- 246- 323- 385- 507- 508- 604- 618. المستنصر (محمد) بن يحيى بن عبد الواحد (3) 343- 348- (6) 45- 586- 587- 607. السلطان أبو عصيدة بن يحيى الواثق (أبو عبد الله محمد المستنصر باللَّه) (6) 99- 100- 113- 456- 457- 458- 459- 463- 464- 465- 468- 469- 490- 509- 524- (7) 130- 296- 508. المستورد بن عقلة التميمي (3) 179. المستورد بن علقمة بن الغريس (2) 378- (3) 21. بني المسجلان (2) 420. مسد بن عبد شلب قومس غليسية (4) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 228- 229 . مسراته (6) 118- 183- 187- 190. مسرور (3) 140- 288. مسرور البلخي (3) 366- 379- 385- 391- 392- 394- 397- 399- 403- 424- 426- 427- (4) 24- 419- 420- 421. مسرور الخادم (3) 487- (4) 10. مسرور بن العكي (2) 543. مسرور مدبر الدولة (4) 277. مسرور المعلوجي (6) 494. مسروق (2) 42. أبو أحمد مسروق (3) 377. مسروق الأسود (2) 596. مسروق بن أبرهة ملك الحبشة (2) 71- 72- 74- 210. مسروق العكي (2) 493. مسطاس (6) 191. مسطاسة (6) 191- 283. مسطاطة من ازداجة (6) 117. مسطح بن اثاثة (2) 420. مسعر بن سنان (2) 433. مسعر بن مذكي التميمي (2) 629- 632- 633- 638. ابن مسعود (عبد الله) (2) 5- 42. ابن مسعود الأمير (5) 123. الحاج مسعود (7) 289. المؤيد مسعود (5) 389. ركن الدين مسعود (5) 144- 149. مسعود صاحب آمد (5) 196- 201- 202- 323. أبو مسعود الأنصاري (2) 626. أبو مسعود (6) 21. بني مسعود (6) 271- 423. عز الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي (3) 613- 649- (4) 367- (5) 55- 64- 66- 67- 68- 252- 258- 263- 264- 265- 295- 301- 302- 304- 305- 306- 307- 308- 309- 310- 311- 340- 341- 347. مسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني (6) 369- 521- 599- (7) 66. مسعود بن ارتاش (ازناش) (3) 580. مسعود بن أمية (2) 429. مسعود بن أبي تاشفين (7) 147- 340. مسعود بن حارثة (2) 523. مسعود بن حمدان (حميدان) الخلطي (شيخ الخلط) (6) 38- 40- 342- 343. ابن مسعود بن خطاب (6) 273. مسعود بن خيار (6) 394. مسعود بن رحو بن علي بن عيسى (7) 163- 164. مسعود بن رحو بن ماساي (ماسي) (مسعود بن بن ماسي) (7) 189- 395- 396- 399- 400- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 403- 414- 415- 416- 417- 421- 422- 424- 426- 443- 447- 448- 451- 463- 464- 466- 467- 468- 469- 470- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 477- 500- 501- 539- 545- 546- 571- 633- 635- 636- 637- 662 . مسعود بن زمام شيخ الزواودة من رياح (5) 336- (6) 30- 33- 49- 255. المسعود بن أبي زيد بن خالد بن محمد بن عبد القوي (7) 212. مسعود بن سبكتكين (3) 558- (4) 410- 491- 493- 494- 495- 496- 498- 500- 501- 502- 503- 504- 505- 507- 635- 636- 637- 645- 646- 647. مسعود بن سلطان بن زمام بن ورديقي بن داود (6) 29- 44. مسعود بن صاعد (5) 139. المسعود بن صغير (7) 183- 195- 480. مسعود بن أبي عامر إبراهيم (برهوم) بن يغمراسن (6) 477- 478- (7) 136- 137- 139- 331. مسعود بن عبيد الله (7) 64. نظام الملك مسعود بن علي (5) 115. الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفرانيّ (5) 292- 301- 302- 305- 340- 349. مسعود بن عمر بن عمير (2) 415. مسعود بن عمرو (3) 28. مسعود بن عمرو الغفاريّ (2) 465. مسعود بن عيسى بن ملال المساكتي (4) 39. مسعود ابن الأمير فاخر (5) 8- 22. مسعود بن قليج أرسلان (5) 190- 191- 284. مسعود بن كامل (4) 133- 140- (5) 398- 399- 408. مسعود بن كانون شيخ سفيان (6) 38- 39- 350- 351- 352- (7) 241- 266. مسعود بن كلواس (6) 271- 351- 352. مسعود بن كندوس (7) 390. مسعود بن عز الدين كيكاوس (5) 459- 632- 633. مسعود بن ماسي (4) 222- 223- 224- 225. مسعود بن أبي مالك (7) 309. مسعود بن محمد بن الصالح بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق (5) 410. السلطان (الملك) مسعود بن محمد بن ملك شاه (3) 611- 612- 613- 615- 616- 618- 625- 626- 627- 628- 629- 630- 631- 632- 633- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 634- 636- 637- 638- 644- (4) 131- 366- 367- 368- 372- 373- 374- 375- 376- (5) 51- 54- 55- 59- 60- 69- 70- 71- 72- 73- 74- 75- 76- 77- 79- 80- 81- 82- 92- 98- 223- 225- 229- 262- 268- 269- 272- 273- 275- 277- 278- 279- 327. مسعود بن محمود بن سبكتكين (4) 512- 514- 665- 672. مسعود بن مظفر بن محمد الكامل (6) 59. مسعود بن معتب (2) 71. المسعود بن مقير (6) 72- 73. بني المسعود بن المكرم (4) 276- 280. (القاهر عز الدين) مسعود بن مودود (5) 374- 385- 386- 398- 403. مسعود بن نصر بن علي (7) 218. (القاهر) مسعود بن نور الدين (5) 315- 316- 317. مسعود بن وانودين أمير مغراوة (6) 243- (7) 51. مسعود بن أبي يغلوسن (7) 426. مسعود البلط شيخ رياح (6) 96. ابن مسعود البلنسي (2) 225. مسعود جلال الشحنة (3) 636- 637- 638- (4) 376. مسعود خان (4) 515. مسعود القتيل (7) 140. سعد الدين مسعود المكناسي (7) 651. المسعودي (1) 7- 14- 15- 16- 24- 25- 42- 43- 47- 48- 51- 68- 109- 135- 216- 219- 223- 256- 258- 354- 445- (2) 22- 23- 24- 46- 49- 57- 58- 59- 60- 62- 67- 73- 74- 76- 80- 81- 84- 86- 100- 101- 124- 181- 188- 190- 198- 202- 203- 209- 223- 225- 226- 265- 273- 274- 297- 320- 321- 331- 332- 333- 335- 340- 393- (4) 21- 30- 559- (6) 120- 123- 132- 153- 155- 185- 264- (7) 148- 720. مسفو (6) 122. مسفيوة (6) 303. بني مسكن (6) 191- 284. ابن مسكويه (3) 458- 478- 490- (4) 560. مسكيانه بن مهلهل بن قاسم (6) 100. بني مسكين (6) 108. مسلاته (6) 183. مسلم إحدى شعوب رياح (6) 47- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 48- 51- 78- 606 . أبو مسلم صهر نظام الملك (4) 119. مسلم بن أحوز (اخور) المازني (3) 108- 114- 130- 138- 145- 150. مسلم بن جبير (3) 185. مسلم بن جندب الهذلي الشاعر (3) 270. مسلم بن الحجاج (1) 393- 394- 396- 398- 559- 560- 562- (7) 511. أبو مسلم الخراساني (1) 250- 318- 418- (2) 375- 376- (3) 147- 149- 150- 152- 154- 156- 157- 223- 225- 226- 228- 229- 230- 231- 233- 252- 259- (4) 5- 7- 242- (7) 596- 735. مسلم بن خالد الزنجي (3) 262. ابو مسلم بن خلدون (1) 637. مسلم بن الذر (4) 280. مسلم بن زياد (3) 97. مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي (3) 106- 107- 108- 175. مسلم صح الصحيح (2) 88. مسلم بن عبد الرحمن الباهلي (3) 111- 121- 145- 154- 155. مسلم بن عبد العزيز (4) 182. مسلم بن عتبة المزني (3) 24. مسلم بن عقبة بن رياح المري (2) 351- 364- 629. ابن مسلم بن عقبة (3) 239- 242. مسلم بن عقيل بن أبي طالب (3) 27- 28- 29- (6) 44. مسلم بن عمر (3) 187. مسلم بن عمرو الباهلي (3) 28- (7) 602. مسلم بن قتيبة الباهلي (3) 160- 245- 246. (أبو المكارم شرف الدولة) مسلم بن قريش (3) 571- 578- 581- 589- 594- (4) 340- 341- 343- 344- 351- 352- 362- 414- (5) 6- 8- 9- 10- 12- 18- 169- 188- 248- 253- 261- 286- 287- 500- 635- (6) 10. مسلم بن الوليد (1) 801. ابن مسلم الشريف (4) 406. مسلمة (1) 136- (3) 103- 112- 204. ابن مسلمة (4) 171- 175- 176- (7) 327. مسلمة بن أحمد المجريطي (1) 633- 637- 656- 660- 668- 696- 696- 697- 704- 705- 706- 720- 726- (7) 503. مسلمة بن رجاء (3) 261. مسلمة بن عبد الحميد (3) 98. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 مسلمة بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي (3) 100. مسلمة بن أبي عبد الله (3) 119. مسلمة بن عبد الملك (2) 273- (3) 89- 90- 94- 96- 98- 99- 100- 106- 133- 166- 167- 218- 264- (4) 152. مسلمة بن كهيل العبسيّ (3) 123. مسلمة بن محمد (3) 163. مسلمة بن مخلد الأنصاري (1) 267- (5) 602- 623- 642- (3) 13- 171- (4) 234- 278. مسلمة بن المهلب (3) 101. مسلمة بن هشام (3) 129- 168. مسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعد بن مسلمة بن عبد الملك (3) 295. أبو مسلمة الخلال (3) 159. مسمع بن مالك بن مسمع (3) 55. المسور بن السكاسك بن وابل بن حمير (6) 182. المسور بن عاقيل (عاصيل) (6) 182. المسور بن مخرمة بن نوفل (2) 388- 569- 570. المسور بن هانئ (6) 147. المسور الزناتي (4) 243. مسوفه (مسوقة) من الملثمين (6) 27- 202- 241- 244- 252- 263- 307- (7) 51. ابن المسيب (2) 8. بني المسيب (3) 545- (4) 345- 687. المسيب بن بشر الرياحي (3) 101- 102- 104- 107. المسيب بن زهير الضبي (3) 157- 225- 235- 252- 254- 255- 266- 267. المسيب بن شريك الفقيه (2) 375. المسيب بن نجية (2) 614. المسيب بن هبيرة (3) 160. مسير بن إسحاق (6) 261. مسيقة من بني يملول (6) 166. مسيلة بن عامر بن عمرو (2) 304. مسيلمة الكذاب (مسيلمة بن حبيب) مسيلمة بن تمامة بن كثير بن حبيب (1) 128- (2) 359- 476- 479- 484- 490- 495- 499- 501- 502- 503. المشاء بن سهيل (3) 331. المشنتل (7) 67. قبيلة مشداله (6) 168- (7) 685. مشرح ملك بني وليعه (2) 476. مشرف بن أثبج (6) 32- 48. أبو علي مشرف الدولة بن بهاء الدولة (3) 549- 550- 551- 587- 588- 589- (4) 606- 607- 608- 609- 610- 611- 614- 626- 627- 629. مشرف الدولة بن عضد الدولة (4) 686- 690. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 مشروح بن حمير بن سبإ (2) 54- 290. المشفق (3) 654. مشمع بن إسماعيل (2) 44- 394. بني مشهور بن هلال بن عامر (6) 44. مشوى (2) 110. مشير الخادم (5) 349. بني مصاب (6) 28- (7) 76- 78- 79- 82- 83- 96- 164- 220. ابن مصاد صاحب قفصة (6) 194. مصالة بن حبوس (6) 173- 176- 196- 285- 289- (7) 34. وصالة بن غرسن بن كتم (6) 196. المصامدة (2) 277- (4) 15- 78- 80- 234- 236- (5) 7- (6) 28- 39- 92- 133- 142- 166- 167- 229- 244- 245- 251- 271- 272- 273- 274- 275- 276- 279- 280- 281- 298- 299- 300- 301- 303- 304- 305- 306- 354- 360- 361- 364- 365- 370- 371- 372- (7) 5- 61- 108- 160- 225- 227- 232- 243- 253- 266- 273- 305- 314- 368- 378- 379- 396- 456- 723. وصدي من سليايان (6) 161. مصر بن بيصر بن حام (2) 85- 89. مصر بن حام (2) 14. مصر بن أبي دانس (6) 323. مصر بن النبيط (2) 84. مصر بن النمروذ (2) 84. مصراي بن معد بن اوريغ (6) 118. مصرا يلك (4) 514. مصرايم (2) 12- 84. مصروح بن سليمان بن يقظان (4) 156. المصريين (5) 25- 26- 179- 213- 242- 376. مصطاوة من هسكورة (6) 271. بنو المصطلق بن سعد بن عمرو بن لحي (2) 374- 445- 446- 447. المصطنع بن أبي الخير (4) 682. مصعب بن الزبير (1) 323- (2) 389- (3) 34- 39- 40- 41- 43- 44- 46- 47- 54- 56- 58- 89- 183- 184- 185- 186- 187- 188- 212. ابن مصعب الزبيري (2) 290. مصعب بن زريق (3) 212. مصعب بن عبد الرحمن (2) 389- (3) 27. مصعب بن عمر الخزاعي (3) 119. مصعب بن عمرو بن هاشم (2) 389. مصعب بن عمير (2) 415- 417- 418- 420- 423- 427- 434- 435- 436- 437. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 مصعب بن عمير بن عبد شمس (2) 412. مصعب بن عمير بن هاشم (2) 346- 347. مصعب بن عيسى الازدي (الملجوم) (4) 15. ابو المصعب الزهري (7) 684. مصفاوة من امادين (6) 299. مصقلة بن كرب العبديّ (3) 54. مصقلة بن مهلهل الضبي (3) 199. مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ (3) 9. مصقلة المر (3) 201. مصمانة من ندرومة (6) 166. الحاجب المصحفي (4) 106. مصمود بن يونس (6) 122- 161- 275. مصمودة (6) 117- 288. المصمودية (1) 36- 75. مصوصة (7) 96. مضاد (3) 196- 197- 199. المضاد بن وائل اليشكري (3) 190. المضاد بن يزيد (3) 191. المضارب العجليّ (2) 524. المضاض بن جرهم (1) 437- (2) 11. مضاض بن عبد المسيح (2) 34- 293. مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب (2) 393- 394. مضاض بن عمرو بن مضاض (2) 34- 293. ابن المضاضي (4) 688. مضالة بن حبوس كبير مكناسة (4) 18- 19- 47. ابن مضاهم الكلبي (2) 641. مصايل بن ربيع (5) 265. مضر (1) 766- 767- 768- 770- 771- 772- 778- 805- (2) 5- 15- 18- 44- 203- 285- 286- 287- 344- 356- 366- 391- 396- 397- 401- 404- 405- 409- 416- 439- 462- 605- 615- 617- 618- 630- 632- (3) 111- 120- 121- 126- 129- 143- 145- 146- 148- 149- 150- 152- 154- 160- 250- 251- 343- 431- 483- 498- 505- 507- 512- 534- 537- 563- (4) 292- 294- 296- 299- 303- 316- 353- 395- 399- 403- 404- 596- (5) 249- (6) 2- 3- 5- (6) 15- 16- 17- 123- 125- 127- 186- (7) 5- 13- 33- 249- 360. مضر بن دبيس (4) 354- 625. مضر بن دشير (3) 548. مضر بن نزار (2) 356- 357- 362. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 مضر بن النفيس بن مهذب الدولة (نصر بن النفيس) (3) 619. مضرج (مدرج) بن سيّد الناس (7) 75. المضرية (4) 151- 152- 156- 161- 242. المطارفة (بنو مطرف بن خراج) (6) 81. مطاسة (بطالة) (6) 120. بني مطاعن الهواشم (5) 546- 577. مطاعن بن عبد الكريم بن يوسف بن عيسى بن سليمان (4) 132. مطاوع بن الحرث (6) 39. بنو مطر (2) 8- 30. مطر مولى المنصور (3) 260. مطر الخادم (3) 626- 628- 634- 635- (5) 269. مطر بن جامع (3) 398- مطر الوراق (1) 394. مطرف بني مطرف (6) 33- 68. مطرف بن طريف (1) 391. مطرف بن عبد الرحمن (4) 165. مطرف ابن الأمير عبد الله (4) 172- 173. مطرف بن عبد الله بن الشخير (2) 370- 563. مطرف بن علي بن حمدون الفقيه (6) 215- 217- 235. أبي مطرف بن عميرة (6) 347- 397- (7) 227. مطرف بن محمد الجرجاني (4) 446- 556- 560. مطرف بن المغيرة (3) 103- 195- 196- 197. مطرف بن مندف التجيبي (4) 177. مطرف بن موسى بن ذي النون الهواري (4) 169. مطرف بن ناجية (3) 199- 200. بني مطروح (5) 233. مطريوس (4) 178. مطريوش بن هرمس (2) 221. مطعم بن عدي بن نوفل (2) 391- 414- 415. مطغرة (مضغرة) (6) 120- 133- 134- 155- 157- 158- 161- 165- 174- 192- 278- (7) 244. بني المطلب (2) 390- 406- 412- 414. المطلب بن عبد الله بن مالك (3) 297- 310- 311- 313- (4) 380. المطلب بن عبد مناف (2) 389- 391- 400- 420. المطلب بن أبي وداعة (2) 431. مطماطة من بطون تمصيت بن ضريس (6) 120- 134- 154- 155- 158- 160- 161- 162- 164- 165- 278- 283- 373- (7) 66- 67- 77- 205. مطنان بن لاوي (2) 168. المطهّر بن عبد الله (المظهّر) (4) 594- 595- 603- 676. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 بنو مطهّر بن يمل بن يزكين بن القاسم (7) 97- 99- 105. مطو بن ورفجوم بن بيزغاش بن ولهاص (6) 119. ابن مطيع (3) 51. مطيع بن الأسود بن حارثة (2) 317. المطيع للَّه (الفضل) بن المقتدر (3) 520- 522- 524- 525- 531- 532- (4) 59- 114- 126- 127- 406- 572- 573- 574- 592- (7) 723. بنو المظفر مظفر ابن المظفر (2) 20- 436- (3) 84- (4) 273- 282- (5) 507- 610- 624- 625- 629. ابو الحسن المظفر (4) 676. المظفر الازدي (5) 573. مظفر مولى ابن المعتز (4) 57. المظفر صاحب مصر (5) 423- 434. (ابو الفتح) المظفر بن أحمد (4) 601. المظفر بن الأفطس (4) 198. المظفر بن البرزالي (4) 198. مظفر بن ثابت بن مخلف (6) 89. مظفر بن حاج (هاج) (3) 440- 446- 481. (العميد ابو الفتح) المظفر بن الحسين (3) 576- 579. المظفر بن حماد بن إسماعيل (4) 683. ابو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء [الوزير] (3) 473- 484- 485- 588. المظفر بن عبد الله (4) 594. المظفر بن عماد بن أبي الخير (4) 368- 594. المظفر بن عمر بن رسول (4) 134- 141. ابو المظفر بن أبي كاليجار (4) 652. المظفر بن كندر بن عبد الله (4) 381. مظفر بن محمد الكامل (6) 59. المظفر بن المستعين بن هود (1) 196. مظفر بن مشبك (3) 365. المظفر بن المعز بن زيري (7) 44. المظفر بن المنصور بن أبي عامر (4) 187- (5) 197- 258- 402- 406- 460- 464- 466- 469- (6) 160- 162- 171- 192- 238- 240- (7) 43- 44- 46- 51- 53- 60- 72- 102. مظفر بن موسى بن ذي النون الهواري (4) 165. (أبي ثعلب فضل الله الغضنفر) المظفر بن ناصر الدولة (4) 304- 307- 308- 309- 310- 312- 313- 314- 315- 316- 317- 320. (ابو بكر) المظفر بن ياقوت (3) 491- 496- 497- (4) 559- 562. ابو المظفر الجرجاني (3) 606. المظفر ذي السابقين (4) 204. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 مظفر الصقلي (4) 74. بني المظفر اليزدي (5) 574- 627- (7) 726. مظفر الدين موسى (5) 502- (6) 13. مظفر الدين وجه السبع (3) 658. مظهر ملك (5) 141. معاذ بن جبل (2) 423- 466- 471- 482- 491- 554- 575- (3) 144. معاذ بن جرير الطائي (3) 21. معاذ بن جوين الطائي (3) 179- 180. معاذ بن الحرث بن عفراء (2) 346- 417- 422. معاذ بن غرسن بن كتم (6) 196. ابو عون معاذ بن مسلم (3) 260- 261- 266. معاذ الطاهر (2) 483. معاذ الغارياني (3) 212. معارك بن نجاح (4) 273. بني معافى من بني يزيد (6) 55- 56. معافر (2) 305- 471. المعافري الاشبيلي (6) 250. ابو المعالي (3) 579- 601- (4) 65- (5) 33. ابو المعالي بن الحسن (4) 677. ابو المعالي (شرف) بن سيف الدولة (1) 572- (2) 274- (4) 346. ابو المعالي بن محمد بن المطلب (3) 606. ابو المعالي بن الملحي الدمشقيّ (5) 178- 253. معانة بنت جرهم (2) 286- 355. بني معاوية (3) 240. معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري (3) 123- 124- 125. معاوية بن بكر (2) 23- 367- 368. معاوية بن الحرث الكلابي (3) 54. معاوية بن خديج السكونيّ (1) 267- 314- (2) 526- 575- 596- 641- 642- (3) 21- 170- 171- (4) 233- 234- 377- 378- (6) 141. معاوية بن أبي سفيان (1) 19- 254- 257- 258- 260- 263- 264- 267- 271- 296- 314- 322- 327- 332- 359- 406- (2) 58- 270- 273- 308- 350- 365- 371- 376- 378- 386- 389- 390- 466- 467- 477- 500- 515- 541- 543- 547- 554- 566- 567- 572- 575- 576- 581- 587- 588- 589- 590- 591- 592- 593- 594- 595- 597- 599- 602- 604- 605- 624- 625- 626- 627- 628- 630- 631- 632- 633- 634- 635- 636- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 637- 641- 642- 643- 645- 647- 648- 650- 651- (3) 4- 5- 6- 7- 8- 9- 10- 12- 13- 14- 15- 16- 17- 18- 19- 21- 22- 23- 24- 25- 26- 28- 88- 89- 166- 178- 179- 186- 215- 216- 527- (4) 2- 6- 146- 157- 233- 234- 236- 378- 582- (5) 462- 518- (6) 141- 543- (7) 11- 503- 722. معاوية بن سهل بن ساباط (3) 326. معاوية بن شرحبيل بن حصن (2) 327. معاوية بن عامر بن ربيعة (بنو ذي السهمين) (2) 370. معاوية بن عنزة (2) 329. معاوية بن عمرو بن الحرث بن الشريد (2) 343- 344- 366- (6) 94. معاوية بن كلاب (2) 370. معادية بن كندة (2) 306- 481. معاوية بن مالك بن عوف (2) 342. بنو معاوية بن المنتفق (2) 371. معاوية بن هشام (3) 167. معاوية بن يزيد (2) 270- (3) 92. معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير (3) 135- 136- 141. معاوية بن يزيد بن المهلب (3) 100. معبد الاسلمي (2) 605. معبد الجهنيّ (1) 603. معبد بن خزر (4) 54- 55- (7) 22- 35- 38. معبد بن الخليل (3) 254- 261. معبد المغني (1) 540. معبد بن أبي معيط الخزاعي (2) 437. معبد بن وهب (7) 598. ابن المعبراني (4) 681- 682. بني معتب (2) 367- 470. أبو عمر المعتز (6) 220. ابن المعتز (عبد الله) (1) 796- 801- 802- (3) 449. معتز بن زيري عم باديس (6) 209. المعتز باللَّه من أعقاب آل مدرار (المعتز بن محمد بن ساور بن مدرار) (6) 173- (7) 49- 50. المعتز باللَّه بن المتوكل (1) 25- (2) 274- 369- (3) 344- 349- 350- 353- 354- 359- 360- 361- 363- 364- 366- 367- 369- 370- 371- 372- 375- 376- 385- 423- 510- (4) 124- 125- 201- 382- 383- 416- (6) 174. المعتزلة (1) 420- 556- (4) 491- 634. المعتصم بن سعيد بن صالح (6) 283- 285- (7) 396. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 المعتصم بن صمادح (1) 817. المعتصم (أبو إسحاق محمد) بن المأمون بن الرشيد (1) 194- 195- 219- 251- 277- (2) 272- 273- (3) 305- 316- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 324- 326- 328- 329- 330- 331- 332- 333- 334- 335- 336- 337- 338- 342- 344- 351- 353- 354- 358- 376- 611- (4) 11- 21- 30- 143- 144- 381- 382- 550- (7) 109. المعتضد بن عباد (4) 196- 199- 257- 258. (أبو الفتح (أبو بكر) الخليفة) المعتضد بن المستكفي (5) 514. المعتضد (أبو العباس أحمد) بن الموفق (1) 28- 30- 195- (2) 274- 320- 360- (3) 352- 392- 394- 399- 400- 401- 402- 403- 404- 405- 407- 408- 409- 410- 414- 417- 418- 420- 425- 428- 429- 430- 431- 432- 433- 435- 436- 438- 440- 441- 447- 450- 611- (4) 24- 25- 29- 109- 117- 288- 289- 397- 398- 425- 426- 433- 434- (6) 393. أبو بكر المعتضد ابن الملك الناصر (5) 505- 506- 507- 518- (7) 70- 71. بني المعتمد (6) 466. أبو القاسم المعتمد (محمد بن المعتضد) بن عباد (2) 274- (3) 366- 370- 376- 379- 381- 382- 383- 385- 386- 387- 388- 390- 391- 396- 398- 399- 410- 412- 413- 415- 417- 418- 421- 422- 423- 424- 425- 426- 428- 429- 436- 440- 486- (4) 11- 23- 111- 142- 193- 195- 199- 200- 202- 288- 384- 385- 388- 390- 391- 417- 418- 419- 420- 422- 423- (6) 247- 248- 249- (7) 31- 72- 261- 396- 397- 506. معتمد الدولة (4) 327- (5) 172. المعتمر (3) 295. معتوق بن أبي بكر (6) 56. معدّ بني معد (2) 44- 64- 283- 285- 288- 290- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 295- 315- 326- 332- 356- 396- 409- (6) 127- (7) 36- 54- 59. العزيز معدّ (6) 291- 292. معدّ المعز لدين الله. (المستنصر بأمر الله أبو تميم) معد بن الظاهر علي (4) 75- 81- 82. معد بن الياس بن مضر (2) 53. بنو معد بن عدنان (2) 5- 67- 189- 286- 325- 329- 354- 355- (7) 4. معد بن المنصور (4) 264- 265- 266- 276- 220- 221- (6) 218. معدّ المنتصر (6) 17. معدانوس بن دارم (2) 31- 88. المعدل بن علي بن الليث (4) 428- 436. معديكرب بن الحرث (2) 326- 327. معديكرب بن حمير بن سبإ (2) 290. معديكرب بن سيف بن ذي يزن الكلبي (2) 54- 71- 73. ابن معرّف (4) 79. معرّف بن سعيد بن رباب (6) 68- 69- 71. معرّفين يعقوب (6) 72. ابن معروف مقدم المنتفق (3) 646- (4) 376- 377. أبو معروف (7) 273- 278. بني معروف (2) 371- (3) 659- (4) 683- 684- (6) 15. معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر (7) 140- 218. المعري (1) 790- 791. ضياء الدولة المعز (6) 296. المعز بن إسماعيل (7) 36- 40. المعز بن باديس بن المنصور (2) 369- (4) 76- 77- (5) 233- (6) 17- 18- 19- 94- 210- 211- 424- 225- 228- 239- (7) 56- 57- 58- 60- 82. المعز بن بكلين الصنهاجي (6) 19. المعز بن زيري بن عطية (6) 26- 230- (7) 45- 46- 51- 102. المعز بن سيف الإسلام (4) 140. معز الطويل (6) 17. المعز بن محمد الصنهاجي (6) 212- 213- 217- 221- 606. المعز بن مطاع (6) 508. المعز بن المعتمد (6) 248. المعز بن المنصور معدّ بن المنصور. المعز بن يزيد (3) 165. المعز العلويّ (4) 104- 105- 113- 114- 127- 302- 312- 411- (5) 388- 421- (6) 20- 21. (أبو الحسن أحمد) معز الدولة بن بويه (3) 490- 506- 508- 531- 532- 588- (4) 114- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 126- 127- 297- 298- 299- 301- 304- 307- 314- 456- 591- 668- (7) 723. أبو ثمال معز الدولة بن صالح الكلابي (4) 76- 342. معز الدولة بن صمادح (6) 234. الخليفة المعز لدين الله (معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي) العلويّ (1) 374- (3) 534- 614- (4) 12- 55- 56- 58- 59- 60- 61- 62- 63- 67- 68- 137- 406- (6) 174- 196- 204- 205- 206- 613- (7) 24. معزوز بن طالوت (6) 276. معزوزة بن فاتن بن تمصيت (6) 120. أبو معشر البلخي (1) 418- 420. معضاد الخادم (4) 75. معطاي (5) 470. ابن معطي (1) 755. معطي بن أبي تاشفين (7) 487. بني معطي بن جوهر بن علي (7) 97- 199. المعظم صاحب دمشق (5) 196- 322- 323- (6) 425. عرب المعقل بني المعقل (2) 297- 305- 363- 364- 369- (6) 21- 29- 41- 56- 61- 62- 63- 68- 71- 77- 78- 79- 87- 91- 102- 104- 271- 299- 344- 349- 441- (7) 111- 113- 160- 164- 165- 167- 168- 169- 175- 177- 178- 181- 182- 193- 194- 195- 243- 247- 248- 279- 304- 322- 331- 352- 380- 400- 411- 421- 422- 423- 434- 435- 437- 438- 439- 446- 460- 461- 466- 468- 474- 475- 476- 480- 481- 632- 642. معقل بن الأعشى بن النباش (2) 508. معقل بن سنان (2) 363. معقل بن صدقة بن منصور (5) 35. معقل بن قيس الرياحي (2) 377- 378- 626- 639- 640- (3) 178- 179- 180. معقل بن كعب (2) 305. معقل بن كعب بن غليم بن خباب (6) 78. معقل بن مقرن (2) 508. معقل بن يسار بن عبد الله الرياحي (2) 378- 577- 614. معقل السكسيوي (7) 266. معلى (3) 659- (4) 684. معلى بن الأشعث (3) 64. المعلى بن حيدرة (3) 585- 586- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 (4) 80- (5) 7. معلى بن العباس بن بختي (7) 61. ابن معلى بن معراق بن قلينة بن قماص بن سالم (6) 113. ابن المعلم (3) 538. المعلوجي ابن المعلوجي (6) 549- 554- (7) 348- 408- 440. معمّر (6) 230. معمّر بن ثابت (7) 89. ابو المعمّر بن الحسين البساسيري (3) 555. (ابو عبد الله (المعمّر بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن (6) 267. معمر بن رشيد (5) 234. معمر بن عبد الله بن فضلة من بني عدي (2) 454. (أبو عبيدة) معمر بن المثنى (7) 598. معمر الدين (5) 602. معمر السلمي (1) 603. معمر العلويّ (3) 594. بني معن (4) 275- (4) 361. معن بن زائدة الشيبانيّ (3) 152- 159- 220- 233- 251- 253- 254- (4) 275- 280. معن بن زيد بن الأخنس (2) 628. معن بن صالح (4) 205. معن بن عبد العزيز التجيبي (أبو الأحوص) (4) 228- 229- (7) 44. معن بن عبد الله المحاربي (3) 179. معن بن عدي من بني العجلان (2) 469. معن بن مطاع الغزاري (6) 487. معن بن مطاعن (6) 102. معن بن معاطن (2) 364. معن بن نباتة (3) 221. معنصر بن حماد بن معنصر (6) 231- (7) 48. معنصر بن عبد الملك (7) 45. معنصر المغراوي صاحب فاس (6) 245- 246. المعني بن حارثة (2) 360. ابن المعوز صاحب الباب (3) 652. معوز بن عفراء (2) 429- 430. معيص بن عامر (2) 386. معيف بن أبي فاطمة حليف أبي سعيد بن العاص (2) 454. معيقيل بن فضل بن عيسى (5) 503- 534- (6) 13. ابن معين (1) 390- (4) 436. معين الطولوني (3) 482. المعين بن القاسم الجزري (3) 245. معيوب بن يحيى (3) 256- 269- 284. المغاربة (3) 329- 336- 342- 345- 354- 363- 364- 379- 380- (4) 193- 400- (5) 171- (6) 231- (7) 57. مغارة (صفارة) (6) 165. بني مغالة (6) 275. مغانة (نقاعة) (6) 119- 153. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 مغد (مغر) بن اوريغ (6) 118- 183. مغذا الشريف (معد) (4) 684. مغران بن محمد بن أبي الليل (6) 101. بني مغراد (6) 122- (7) 7. مغراو بن يصلتين بن مسر بن زاكيا (7) 32. مغراوة (1) 183- 285- (4) 14- 55- 106- 217- 220- (6) 20- 21- 26- 54- 119- 134- 141- 142- 154- 157- 159- 160- 174- 175- 179- 188- 202- 203- 204- 205- 206- 220- 227- 229- 231- 238- 243- 244- 245- 246- 247- 260- 262- 290- 291- 296- 376- 390- 420- 458- 477- 479- 553- 563- 585- (7) 7- 10- 13- 14- 18- 22- 23- 27- 28- 29- 32- 33- 34- 35- 36- 38- 39- 41- 42- 45- 47- 48- 49- 50- 51- 52- 53- 59- 60- 61- 62- 65- 67- 69- 73- 74- 75- 77- 78- 82- 83- 84- 85- 87- 88- 89- 90- 91- 92- 93- 94- 101- 105- 106- 114- 115- 116- 117- 119- 120- 121- 122- 123- 125- 126- 129- 131- 132- 133- 134- 137- 141- 147- 154- 156- 157- 159- 166- 176- 177- 179- 200- 205- 206- 207- 208- 209- 210- 221- 243- 282- 289- 291- 292- 293- 294- 296- 305- 309- 330- 338- 364- 370- 376- 381. ابن مغرب (2) 369. المغرور بن سويد (2) 505. مغرين من ورتجى (6) 162. المغل (1) 370- (5) 127- 199- 200- 202- 444- 452- 457- 458- 459- 473- 475- 493- 494- 564- 573- 586- 594- 595- 596- 599- 606- 608- 609- 613- 617- 618- 619- 621- 623- 627- 631- 636- (7) 724- 725- 727- 827- 828- 730. علاء الدين مغلطاي ايدغلي (5) 484. مغلطاي الدوادار (5) 512- 513- 514- 515. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 ابن المغني (5) 172. مغوطه من ندرومه (6) 166. المغول (1) 475. المغيث (5) 420- 432- 436- 438- 439- 443. مغيث الدين (غيث الدين) بن قليج أرسلان (5) 193. ابن المغيربي (1) 696. بني المغيرة (3) 200. المغيرة بن الأخنس بن شريف (2) 601. المغيرة بن بشر بن روح (4) 245. المغيرة بن زرارة (2) 527. المغيرة بن زياد بن عمر العتكيّ (3) 97- 98. مغيرة بن شبيرة (4) 181- 185. المغيرة بن شعبة (1) 260- 267- 283- (2) 320- 378- 470- 527- 530- 531- 532- 540- 549- 557- 559- 560- 568- 569- 571- 593- 603- 604- 608- 636- (3) 5- 6- 7- 10- 12- 13- 19- 21- 144- 169- 170- 179- 224- 245. المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل (3) 97. المغيرة بن عبد الله بن مخزوم (2) 401- (3) 77- 80. المغيرة بن عبد الله بن مسعود (4) 379. المغيرة بن عبد الرحمن (6) 23. المغيرة بن المهلب (3) 66- 183- 189- 190. مغيلة (2) 573- (6) 120- 122- 134- 147- 155- 164- 165- (7) 13- 17- 33- 67. مفارك بنت جياش (4) 275. ابو حديد مفتاح بن يوسف بن يزكاسن (7) 232- 233- 247. مفرج بن الجراح (4) 64- 65- 628. المفرج بن دغفل بن الجراح الطائي أمير بني طي (4) 64- 69- 70- (5) 500- (6) 90. مفروق الشيبانيّ (2) 505. مفريق بن مركة (2) 245. المفضل بن أبي البركات (4) 272- 273- 274- 280. المفضل بن المهلب (3) 69- 72- 81- 97- 99- 100. مفلح (3) 366- 370- 372- 374- 376- 383- 387- 424- 426- 466- 469- (4) 23. مفلح الأسود (3) 465. مفلح الخادم (3) 467- (4) 72. مفلح الساجي (3) 480- 481. مفلح بن ياقوت (3) 487. المفوض الى الله (جعفر) (3) 390- (4) 385. ابن مقاتل (3) 519. مقاتل بن حسان بن ثعلبة (2) 376. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 مقاتل بن حكيم بن غزوان العكي (الكعبي) (3) 149- 158- 226- 227- 228. مقاتل بن حيان النبطي (3) 119- 139- 144- 145- 154. مقاتل بن سعيد (7) 56. مقاتل بن عطية بن عبد الله (7) 25- 38- 39- 53- 59. مقاتل بن علي الصفدي (3) 130. مقاتل بن محمد (6) 229. مقاتل بن مسمع (3) 188. بني مقاتل بن منصور (2) 376. مقاتل بن ونزمار (7) 202- 203. مقاتل مولى السلطان (6) 531. مقاريوس اسقف بيت المقدس (2) 175- 250. مقام من ثانية (6) 162. مقبل بن المقلد (4) 338. المقتدر باللَّه (1) 425- (2) 274- 390- (3) 447- 448- 449- 455- 456- 457- 459- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 469- 470- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 477- 481- 482- 483- 484- 485- 486- 494- 646- (4) 35- 46- 47- 112- 125- 126- 136- 205- 206- 289- 290- 291- 401- 402- 426- 427- 436- 437- 438- 443- 444- 551- 554- 556- 558- 559- (5) 17. أم المقتدر (3) 466- 473- 486- 487. المقتدر بن هود (4) 208. (ابو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين محمد أبو العباس) المقتدي بأمر الله (3) 584- 586- 587- 588- 590- 592- 593- 594- 611- (4) 80- 130- 342- (5) 6- 9- 12- 19- 26. المقترب بن ربيعة (الأسود بن ربيعة) (2) 552- 556. المقتفي لأمر الله (محمد بن المستظهر أبو عبد الله) (3) 632- 633- 634- 635- 636- 637- 638- 639- 640- 641- 642- 643- 644- 645- 646- 648- 652- 653- (4) 126- 131- 144- 374- 375- 376- 571- (5) 74- 81- 82- 83- 85- 86- 90- 98- 273- 282- 288- 335- (6) 235. بنو المقداد (1) 256. المقداد بن الأسود (2) 445- 458- 541- 569- 570- 583- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 (3) 215- (6) 65. المقداد بن عمرو (2) 295- 415- 425- 428- 471. مقدام بن ظريف (6) 107. مقدم من الأثبج (6) 30- 32- 37- 43- 222- 225. مقدم بن معافر (1) 817- (6) 5- 6. مقدونيوس (2) 178. المقدويس فروس (2) 120. الأمير مقدي (5) 156- 157. مقرن بن طراد (6) 225. مقرونك (6) 122. المقري (7) 617. المقريزي (7) 717- 727- 728. مقطوس (2) 249. مقعو من بطون حكيم (6) 107- 109. المقعطر الضبي (3) 201. مقلاوش بن مقناوش (2) 85. ابن مقلة (3) 571- (4) 291- 295- 296. بنو المقلد (2) 20- (4) 342- 407- (5) 18. المقلد بن بدرار (4) 326. المقلد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد (المقلد بن مزيد) (3) 552- 553- 328- (4) 354- 355. المقلد بن المسيب (حسام الدولة) (4) 324- 325- 326- 618. المقنع (3) 260- 289- (5) 83. مقنيطوس (2) 253. المقوقس (1) 322- (2) 87- 88- 449- 450- 453- 454- 556- 571- (4) 377- (6) 140. المقوقس قيرس وزير هرقل بطرك الاسكندرية (2) 269. مقيس بن صبابة (2) 460. المكتفي باللَّه (أبو محمد علي) بن المعتضد (2) 274- (3) 435- 439- 440- 442- 443- 444- 445- 446- 452- (4) 41- 42- 109- 110- 289- 398- 399- 400- 401- 426- 434- 435- 436- 570- 571. مكتمر ابن مكتمر (5) 206- 207. ابن أم مكتوم (2) 417- 431- 434- 439- 441- 443. مكثر بن عيسى بن قاسم (مكثر بن قاسم) (4) 131- 132. مكحول (2) 42. مكحول الاشروسي (3) 360. مكحول غلام الزبير (2) 617. أبو مكدولة الجيلي (4) 43. مكرا بن دحية بن ولهاص بن تطوفت (6) 119. الأمير مكرد (5) 19. مكرز بن حفص بن الأحنف (2) 386- 425. الأمير مكرس (5) 21. بني مكرم مكرم (4) 115- 117- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 276- 421- 569- 650- (5) 30. أبو محمد مكرم (3) 502- 503- 542- 544- 562- 599. ابن مكرم (3) 542- 544. مكرم حاما (3) 390- 392- 395- 398. المكرم بن الصليحي بن سعيد بن نجاح (4) 274. مكريل من يصلاسن (6) 161. بني مكسور (مسكور) من نفوسة (6) 149. أبي مكسورة (2) 367. مكسيمانوس بن ديقلاديانوس (2) 249- 251- 253. مكسيموس بطرك الاسندرية (2) 247- 255- 257. مكفول بن تافراكين (7) 558. مكلا بن ريمان بن كلاع (6) 119. مكلاته (6) 119- 128- 150- 197- 341- (7) 21- 132. بني مكن (7) 117. مكن بولالين (6) 120. مكن بن كامل بن جامع الدهماني أمير قابس (6) 212- 224- 606. مكن بن محمد (7) 117. بني مكناسة بن ورصطف بن يحيى- المكناسيين (4) 8- 14- 16- 47- (6) 120- 133- 134- 135- 147- 155- 158- 160- 165- 170- 171- 172- 173- 174- 176- 177- 179- 180- 195- 274- 291- (7) 5- 14- 21- 34- 35- 43- 48- 49- 65- 82- 223- 225- 253. مكنسة بن ورتناج بن ورصطف (6) 120- 170. بني مكود (6) 247. ابن مكي (6) 380- 452. بني مكي رؤساء قابس (6) 113- 154- 529- 565- 566- 581- 606- 607- 609- 613. مكي بن أبي طالب المكيّ (4) 201. مكي بن فرح بن زيادة الله بن أبي الحسن (الحسين) بن محمد بن زيادة الله (6) 606- 607. مكيك (5) 127. بني الملاح (7) 139- 140. الملاحدة (5) 32. ملا الحسين بن أبي القاسم بن مكرم (3) 556. آل ملاعب من نمير (6) 107. ابن ملاعب (4) 341- (5) 14- 169. سيف الدين ملاي (5) 513. ملايان من مزاته (6) 153. ملبد بن حرملة الشيبانيّ (3) 211. الملثان (5) 524. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 ملتكين (تلكين) (5) 145. ملتيلة من مغارة (6) 166. الملثمين (6) 28- 252- (7) 69. ملحان ابن ملحان (2) 515- (3) 143. ملزوزة من ولد فاتن بن تمصيت (6) 155- 164. ملقوس (2) 248. الملك الأعظم (4) 227. الملك الصالح (6) 425. ملك بن أوريغ (6) 118. ملك بن بهرام بن أرتق (5) 39. ملك بن خفاف (6) 113. شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي (5) 292. ملك بن مقرب (6) 561. ملك الدين بن آقسنقر (5) 99. الملك الرحيم بن أبي كاليجار (أبو نصر خسرو فيروز) (3) 561- 562- 564- 565- 566- 567- 568- 569- (4) 336- 337- 356- 357- 649- 650- 653- 654- 656- 657- 696- (5) 325. ملكابك (5) 106. بني ملك شاه (5) 101- 104. ملك شاه بن ألب أرسلان (3) 580- 583- 584- 585- 586- 587- 589- 591- 593- 594- 595- 602- (5) 159- 169- 170- 172- 188- 215- 216- 247- 248- 279- 292. ملك شاه بن بركيارق (3) 607- 608- 609- 610- 614- (5) 34- 35- 42- 251- 261. ملك شاه بن خوارزم شاه تكش (5) 112- 113. قطب الدين ملك شاه بن قليج أرسلان (5) 190- 191- 375. السلطان ملك شاه ابن السلطان محمود (3) 637- 638- 639- 641- 642- 643- 644- 647- 652- (4) 80- 118- 119- 130- 342- 343- 344- 345- 352- 358- 359- 362- 370- 376- 414- 415- 515- 516- 529- (5) 6- 7- 8- 9- 11- 12- 13- 15- 16- 17- 18- 19- 21- 22- 23- 24- 27- 29- 32- 40- 41- 42- 43- 46- 52- 81- 82- 86- 87- 89- 91- 92- 93- 288- 410. ملك صراي اينك (5) 494. الملك العزيز أبو منصور بن جلال الدولة (3) 560. بني الملك الناصر (5) 528- 530. ملكا بنت هاران بن تارح (2) 38- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 39- 50 . ملكان بن سلامة بن وقش (أبو نائلة) (2) 431. ملكان بن فالغ (2) 38- 78. بني ملكان بن كرت (تلكات بن كرت) (6) 202. ملكانة (تكلاته) (6) 203- (7) 382. ملكه بن سعيد الفارقيّ (4) 67. ملكون (2) 234. ملكيا (2) 149. ملكيش (6) 84- 479. ملكيشوع تشبهات بن طالوت (2) 109- 110. ملكيصدق (2) 37. ملكيكرب (2) 60- 65- 67. أبو الملكين (2) 255. الملكية (فرقه) (1) 292. ملموا (2) 241. الملند قائد النصارى (7) 344- 345. ابن ملهم (4) 58. ملواقه (ملوانه- ملواته) (6) 202- 275. بني الملوح بن يعمر (2) 381. ملوسة (6) 196. ملوسن من يصلاسن (6) 161. ملوك بن صغير (مقير) (6) 72- (7) 182. مليانه (6) 254. ابن الملياني (6) 361- 364. مليح الأرمني (3) 479- 480- 481. مليح ابن أخ شملة (3) 647. أبو المليح بن عروة بن مسعود (2) 469. مليح بن علوان (6) 164. بنو مليح بن عمرو (2) 374. مليح بن ليون (5) 296- 297. أبو مليخ بن كدعون (2) 104. مليزة (6) 158. بني مليكش (ملكيش) (6) 168- (7) 116- 134- 137- 159- 182- 294- 296. مليلة (4) 55- (6) 118- 183. مليمان بن عباس (6) 22. المماليك (3) 344- (4) 187- (5) 15- 208- 465- 468- 472- 474- 496- 519- 521. المماليك البحرية (5) 430- 434- 435- 436- 437- 439- 447- 482. المماليك البيبقاوية (5) 527. المماليك الصالحية (5) 431- 435- 437- 454. ممجيس من ورتجى (6) 162. ممدوح بن خفاجة (6) 251. ممدوح بن دحيا (6) 162. مناجي (مناجق) (5) 113- 114. مناحيم شيخ العباد (2) 155. مناحيم وكيل الباب (2) 164. مناخيم بن كاد من سبط زبولون (2) 131. مناد بن رزق الله بن يعقوب (6) 82. مناد بن عبد الله (6) 231. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر (6) 203. مناد بن نصر (7) 215. مناربان قيصر بن قاريوس (2) 249. مناربان بن فاروش (2) 248. أبو المناقب (5) 462. مناكيل بن بلوطيس (2) 87. مناين (2) 174. المنبات (أولاد منبا من عرب المعقل) (6) 87- 89- (7) 111- 113- 188- 247- 248. منبس إحدى بطون هلال بن عامر (6) 107. بني منبسة (4) 280. بنو منبه بن بكر (2) 367. منبه بن الحجاج بن عامر من بني سهم (2) 386- 412- 421- 429. المنتصر (إسماعيل بن نوح) (4) 469- 504- 505- 510- 511. المنتصر بن أبي حمو (7) 184- 185- 189- 190- 191- 192- 193- 199. المنتصر بن خزرون الزناتي (2) 275- (3) 341- 349- 351- 353- 374- 375- (4) 227- (5) 158- (6) 564- 565- 572- 573- 576- 580- 582- 585- 602- 603- (7) 49- 50- 57- 58- 63- 70. المنتصر العبيدي (3) 585. المنتصر ابن السلطان أبو العباس (7) 466- 467- 469- 472- 473- 639. بنو المنتفق بن عامر بن عقيل (2) 371- 372- (4) 361- 369- 376- 377- (5) 63- 263- (6) 15- 40. المنجاب بن راشد الضبي (2) 577- 617- (3) 7. المنجبي (2) 229. منجك بن منكو تمر بن طغان (5) 606. منجك اليوسفي (منجو) (5) 510- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 523- 524- 525- 526- 527- 538- 543- 566. منجونكين صاحب دمشق (2) 275- (4) 66- 68- 322. منحيا (2) 117. منكجور (منجور) (3) 425. مندار بن معز بن أوريغ (6) 158- 159- 162- 164. منداسة (6) 183. مندس (4) 177. المندلب بن إدريس الحنفي (3) 137. مندلة من صنهاجة (6) 202. مندمر الحوراني (5) 516- 517. ابن منديل (6) 390. منديل- بني منديل (4) 217- 6- 390- (7) 87- 92- 108- 179- 252- 487. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 منديل بن أحمد (6) 99. منديل بن حمامة بن تيربيغين (7) 146- 335. أبو زيان منديل بن طريف (7) 260- 261- 266- 267- 271- 274- 277- 278. منديل بن عبد الرحمن (6) 262- 383- 390- (7) 84- 86- 115- 116- 133- 330. منديل بن علي بن علاوة (6) 197. أبو محمد منديل بن محمد الكناني (6) 391- (7) 106- 132- 321- 323- 324- 328- 516. منديل بن نصر بن علي (7) 218. منديل بن ورتطليم (7) 241. منديل المغراوي (7) 206. آل المنذر بني المنذر المناذرة (1) 163- 524- (2) 75- 203- 205- 300- 305- 308- 318- 334- 405- (5) 501- (6) 10. المنذر الأصفر (2) 326. المنذر ملك العرب (2) 260. المنذر الرابع (2) 213. المنذر بن احيحة من بني الجلاح (2) 439. المنذر بن امرئ القيس (ذي القرنين) (2) 316- 326- 327. المنذر بن الجارود (3) 28. بنت المنذر بن الجارود (3) 188. المنذر بن الحرث بن جبلة الأعرج (2) 333- 335. المنذر بن الربيع (2) 389. المنذر بن الزبير (3) 15- 26. المنذر بن ساوي التميمي (4) 116. المنذر بن ساوي بن عبد الله العبديّ (2) 357- 378- 449- 476- 504. منذر بن سعد (6) 179. منذر بن سعيد (6) 138. منذر بن سعيد البلوطي (1) 277- (4) 180- 182. منذر بن سعيد القاضي (6) 152. المنذر بن عائذ بن المنذر (2) 357. المنذر بن عبد الرحمن الأوسط (4) 164. المنذر بن عمرو (عمر) من بني ساعدة (2) 422- 424- 438- 560. المنذر بن ماء السماء (2) 321- 322- 326- 328- 334- 359. المنذر بن محمد بن عبد الرحمن (من أمراء بني أمية) (4) 165- 166- 167- (6) 322. المنذر بن محمد بن عقبة (2) 420. منذر بن مطرف بن يحيى بن عبد الرحمن (4) 206. المنذر بن المنذر بن ماء السماء (2) 316- 317- 322- 323- 335. المنذر بن النعمان بن المنذر (2) 314- 315- 316- 319- 321- 322- 323- 325- 357- 476- 504. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 منذر بن أبي وزير (4) 210. المنذر بن يحيى بن هاشم التجيبي (4) 203. أم المنذر بنت قيس من بني النجار (2) 444. منذوش بن شدات (2) 85. منسا جاطه (7) 410. منسا سليمان بن أبي بكر (6) 268. منسا سليمان بن منسا موسى (7) 352- 366- 410. منساقو بن منسا ولي بن ماري جاطة الأكبر (6) 269. منسا مغا (منسا بغا) (6) 268- 270. آل منسي موسى (7) 151. منسا موسى بن أبي بكر (5) 497- (6) 267- 268- 270- (7) 352. منسا ولي بن ماري جاطة (5) 497- (6) 267. منسبة بن شحيم بن منجاش (2) 297. منشا الكوهن (2) 137. منشى بن آدم (2) 182. منشى بن حزقيا (2) 121- 167. منشى بن يوسف (2) 46- 104- 118. بني منصور (6) 82- (7) 423- 434. منصور من مقدمي السلجوقية (4) 672. ابو يحيى المنصور (7) 144. ابو جعفر المنصور الخليفة (2) 272- 364- (3) 57- 211- 219- 221- 229- 230- 231- 232- 233- 234- 235- 237- 238- 239- 240- 241- 243- 244- 245- 246- 247- 250- 251- 253- 254- 255- 256- 259- 263- 265- 279- 282- 287- (4) 48- 55- 203- 263- 264. منصور بن إبراهيم بن الحاج (6) 533. منصور بن أحمد بن إسماعيل (4) 445- 446. منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدالي (7) 685. منصور بن أحمد المظفر بن علي الصليحي (4) 272. منصور بن إسحاق بن أحمد (ابو صالح) (4) 428- 436- 439. المنصور بن إسماعيل (6) 543. المنصور بن باديس (7) 60. منصور بن بدران (3) 575. المنصور بن بلكين بن زيري (4) 72- (6) 207- 208- 210- 613- (7) 27- 41- 53. منصور بن بويه بن ركن الدولة (4) 580. منصور بن جعفر الخياط (3) 382- 383- 384- 424- (4) 23. ابو منصور بن جلال الدولة (3) 561- 562- 563- (4) 412. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 منصور بن جماز بن شيخة (4) 138. منصور بن جمهور (جهور) بن جعفر بن عمرو [الكلبي] (2) 297- (3) 130- 134- 136- 137- 143- 144- 151- 152- 177- 206- 207- 225- 252. منصور بن الحسن (3) 332. شهاب الدين ابو الفوارس منصور بن الحسين (3) 570- (4) 354- 355- 641- 648- 653. منصور بن الحسين الاسدي (3) 562- 564- (4) 650. منصور بن حماد (5) 495. منصور بن حمزة (6) 101- 102- 103- 553- 554- 555- 556- 557- 560. منصور بن الحاج خلوف الياباني (7) 383- 392- 412. (بهاء الدولة) منصور بن دبيس بن مزيد (3) 571- (4) 338- 357- 358- 359- 633- 636- (5) 6- 10. منصور بن أبي الذئب بن حسن (6) 65. منصور بن زياد (3) 212. منصور بن سامان (4) 429. منصور بن سرحون (2) 264- 269. بني منصور بن سعد (6) 56. منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق (7) 164- 397- 399- 400- 401- 403- 404- 539- 540. المنصور بن سليمان المنتزي (6) 545. منصور بن شاه ولي (5) 629- 630. منصور بن شركب (4) 421- 420. ابو منصور بن صالحان (3) 537- 539- 540- 544- 545- (4) 610- 614. منصور بن صدوقة (3) 613- 617- 619- (4) 367- 368- 683- (5) 54- 55- 57. منصور بن صليحة (5) 213. منصور بن طلحة (3) 354. المنصور بن أبي عامر (1) 40- 42- 195- 232- 299- 552- (2) 305- (4) 17- 20- 70- 72- 104- 105- 106- 153- 185- 186- 191- 192- 204- 205- 206- 208- 228- 232- (6) 21- 28- 44- 49- 162- 172- 174- 192- 194- 203- 207- 238- 207- 238- 278- 279- 292- 295- 336- (7) 26- 27- 28- 38- 39- 40- 42- 43- 44- 45- 46- 49- 50- 52- 53- 59- 65- 70- 221- 224. المنصور بن عبد العزيز (5) 392- (6) 345. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 منصور بن عبد الكريم (6) 364. منصور بن أبي مالك عبد الواحد (7) 164- 272- 275- 279- 280- 286- 287- 305- 353- 367- 369- 372- 493. منصور بن عكرمة بن خصفة (1) 768. ابو منصور بن علاء الدولة بن كالويه (3) 561. المنصور ابن السلطان ابو علي (7) 418. منصور بن عمارة (4) 137. منصور بن عيسى بن الشيخ (3) 376- 423. منصور بن غزغلي (غز علي- غر غرلي) (3) 558- 559- (4) 330- 410- 411. منصور بن فرج (4) 459. منصور بن فضل بن علي (6) 587- 588- 589- 590. منصور بن فضل بن مزني (منصور بن مزني) (6) 51- 153- 453- 454- 470- 471- 472- 480- 481- 484- 589- 590- (7) 64- 354- 360. منصور بن قراتكين (4) 450- 451- 452- 453- 454- 455- 493- 577- 578- 661. (ابو كامل) منصور بن قراد (4) 326- 356- 358- 360. ابو منصور بن قرامرد بن كاكويه (3) 577. ابو منصور بن أبي كاليجار (4) 648. منصور بن كثير (4) 360. منصور بن مالك (7) 152. ابو منصور بن المتقي (3) 511. المنصور بن القائم ابو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي (4) 52- 53- 54- 55- (6) 160- 186- 203- 204- (7) 21- 22- 23- 71. المنصور بن محمد بن عمر (6) 273. المنصور بن محمد بن المظفر صاحب حماة (5) 425- 435- 437- 438- 440- 445- 447- 448- 456- 460- 465- 489- 498. منصور بن مخلوف (6) 539- 546. منصور بن مروان (5) 36. (بهاء الدولة) منصور بن مزيد (3) 587- (4) 343- 414. منصور بن مسعود (6) 39. المنصور بن المظفر بن شاهنشاه (5) 501- (6) 11. المنصور بن المظفر محمود (5) 422. منصور بن المفضل بن أبي البركات (4) 272- 275- 276- 281- 282. المنصور بن المهدي (3) 297- 305- 308- 309- 310- 313- (4) 10. المنصور بن الناصر (5) 506- 521- (6) 26- 37- 40- 179- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 194- 232- 233- 234- 249- 250- 253- 254- 255- 256- (7) 74- 102- 127. منصور بن نبيل (5) 365. (الحاكم بأمر الله) منصور بن العزيز نزار (4) 74. منصور بن نصر بن نصير الدولة (4) 413. منصور بن نظام الدين (4) 415. منصور بن نظام الملك (3) 604- (5) 38. المنصور بن النمر الشاعر (2) 358. (الأمير أبي الحرث) منصور بن نوح بن سامان (4) 457- 458- 459- 466- 467- 468- 469- 475- 510- 586- 587- 661. ابو منصور بن الهيثم (4) 682. منصور بن وهشوذان بن محمد الروادي (4) 673. منصور بن يزيد (3) 267. منصور بن يعقوب بن عبد الملك (6) 81. منصور بن يعيش (6) 39. قاضي القضاة الشيخ ابو منصور بن يوسف (3) 577. منصور البرغواطي (6) 224. منصور التركي (4) 533- (5) 118. منصور الترمذي (4) 249- 250. منصور الحاجب (4) 187. منصور الديلميّ (3) 472- (4) 125. منصور سريحة (6) 558. ابو علي منصور سلام (1) 815- 816. ابو منصور الصباغ (3) 580. منصور الطبندي (4) 250. المنصور العلويّ (4) 126. ابو منصور فلاستون (4) 649. منصور النميري (1) 801. المنصور قلاوون قلاوون. المنصور الملك (5) 206- 331. منصور المليكشي (6) 392. منصور مولى عبد الرحمن (7) 457- 459. ابو منصور الميبذي (5) 35. منطاس أحمد (5) 547- 548- 549- 551- 552- 553- 554- 555- 557- 558- 559- 560- 561- 562- 563- 564- 565- 566- 567- 568- 571- (7) 698- 699- 700- 701- 702- 709. منطاش الثاءر (5) 634. ابن منعم (1) 636. منعم بن ذي الملك دثار بن جذيمة بن منعم (2) 34. منفطاي بن انجي (5) 611. ابن منقذ منقذ (2) 296- (4) 83- (6) 179- 330- 331. بني منقذ (5) 181- 261- 285- 286. ابن منقذ بن كمود (5) 462. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 منقذ بن النعمان (2) 619. بني منقر (2) 470. منقوش بن بكتمر (5) 430. جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين خوارزم شاه (4) 123- (5) 406. الأمير منكبرس شحنة بغداد (3) 611- 613- 615- 616- 633- 647- (4) 361- 366- 367- 374. جلال الدين منكبرس (5) 128- 130- 133- 141- 142- 143- 144- 145- 147- 148- 149- 150- 151- 152- 153- 154- 156- 158- 159- 160- 161- 167- 168- 262- 333. ناصر الدين منكبرس (5) 448. منكبرس بن يوسف (بوربرس) بن ألب أرسلان (5) 44- 55- 57- 58- 75. منكجور (3) 335. منكجور البخاري (3) 395- 396. منكلي (3) 657- 658- (5) 103- 104- 513- 520- 523. منكلي بغا (5) 518- 524- 525- 526- 534- 607. منكلي بيبقا الشمسي (5) 516. منكلي بيبقا (5) 109- 110. منكو تمر بن طغان ملك الشمال (5) 201- 605. منكوتمر عبد الغني (5) 524. منكوتمر بن هولاكو (5) 457- 458- 459- 605- 617- 632. سيف الدين منكوتمر الحسامي (5) 470- 471- 472. منكوفان بن طولي خان (5) 198- 199- 598- 599- 601- 613- 614- 615- 631- 632. (شمس الخواص) منكوريين (4) 100. بني منكوش (7) 75- 205- 206. منكو قبلاي (5) 596. ابن المنمر (1) 638. المنهال بن أبي عيينة بن المهلب (3) 100. المنهال بن قبان (3) 163. منهال بن موسى بن أبي العافية (4) 19- (6) 177. منوجهر (منوشهر) (2) 99- 102- 185- 187- (4) 631- (5) 38- (7) 733. منوجهر أخو فضلون الروادي (3) 605. منوجهر بن قابوس (4) 469- 491- 664- 665. المنور من أعقاب بني سيجور (4) 119. منوشهر الملك ابن منشحر بن فرهس بن وترك (2) 181- 184- 190. منونه (6) 256. منويل (4) 264. منويل الخصّي (2) 571. منيح الخادم (3) 482. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 بني منير (7) 530. منير الخادم (4) 65- 66- 318. منير الدولة الجيوشي (4) 81. بني منيع (6) 66. بني أبي المنيع (6) 595. (أبو الفتيان) منيع بن حسان أمير خفاجة (4) 329- 354- 355- 631- 632. منيع بن شبيب بن وثاب النميري (4) 350. منيع بن العزيز (6) 226. منيعة بنت النميري (منيعة بنت وثاب) (3) 582- (4) 351. بني منيف (7) 92. منيف بن ثابت (7) 89- 91- 293- 294. (أبو مالك) منيف بن شيخه (4) 138. المهاجر بن أبي أمية (2) 491- 493- 494- 501- 507- (4) 268. المهاجر بن زياد (2) 567. أبو المهاجر مولى مسلمة بن مخلد (3) 13- (4) 378- (6) 142- 193- 194- (7) 101. آل مهارش (5) 277. مهارش (3) 574- 575- (4) 625. مهارش بن دشير (3) 548. مهارش بن نجلى (المجلي) (4) 339. مهاوش العقيلي (4) 358. المهايا (المهاية) من عثمان بن خراج (6) 78- 81. المهايا بن عياض (6) 81. المهايا بن مطرف (6) 81. المهتدي باللَّه (الخليفة العباس) (1) 277- (2) 274- (3) 352- 366- 369- 371- 372- 373- 374- 377- 379- 380- 510- (4) 383- 385- 387. المهتدي (عبد الله بن سليمان بن عمران الازدي) (4) 287. مهجع مولى عمر بن الخطاب (2) 430. مهدم بن عدنان (2) 355. بني مهدي (4) 140- 278- (5) 495- (6) 198. المهدي الامام (1) 35- 286- 669- (4) 196- 198- 278- (6) 84- 137- 166- 172- 215- 251- 271- 276- 296- 299- 300- 301- 303- 305- 306- 309- 312- 319- 320- 341- 343- 358- 360- 370- 371- 381- 509- (7) 29- 596- 640- 681- 682. المهدي (الخليفة) (1) 24- 32- 36- 263- 284- 439- (3) 75- 132- 165- 212- 233- 234- 242- 243- 244- 245- 248- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 249- 250- 251- 252- 254- 255- 256- 257- 258- 259- 260- 261- 262- 263- 264- 265- 266- 267- 268- 269- 271- 274- 277- 280- 369- 419- (4) 549. مهدي بن توالي من بني يحفش (6) 245. المهدي بن عبد الجبار (محمد) (4) 206- (7) 55. مهدي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (6) 55. المهدي (محمد) بن عبد الله (النفس الزكية) (7) 13. مهدي بن عساكر (6) 45- 423. مهدي بن علوان (3) 314. مهدي بن عيسى بن عبد القوي بن حمدان (6) 61. مهدي بن أبي كمارة رئيس لهيعة (4) 39- 40. مهدي بن ماسي (7) 466. مهدي بن محسن (3) 412. المهدي بن المنصور (3) 252- (7) 360. مهدي بن يوسف الكرماني صاحب مكناسة (6) 245- 246- 538- (7) 48. (أبو الغنائم نور الدين) المهدي الزيني (4) 129- 130. المهدي المنتظر (3) 437- (4) 12- 14- 21- 26- 36- 37- 38- 208- (5) 234- 336- 428. المهدية (1) 315. مهذب الدولة بن محمد المختص بن أبي الخير (3) 540- 543- 549- (4) 325- 326- 360- 361- 363- 365- 615- 626- 643- 677- 682. (أبو منصور) مهذب الدولة بن مروان (4) 408- 409. المهر بن الفرس (1) 820- 821. مهران الأهوازي (2) 536. مهران بن بهرام الرازيّ (2) 528- 538. مهران الهمدانيّ (2) 523. المهرانية (5) 271- 272. مهر برسي الحكيم (براسيّ الحكيم) (2) 207. مهرستان بن شهرين (3) 333. مهرة بن حيدان بن الحاف بن قضاعة (2) 296- 294- 495- 501- 504- (4) 285- (7) 619. مهرود (3) 193. مهرويه الزاي (3) 286. مهلايل بن افروال (2) 182. مهلايل بن قاين (2) 7. ابن المهلب (1) 560. بني المهلب (1) 42- (2) 375- (3) 69- 81- 99- 100- 103- 202. المهلب بن زياد (3) 113. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 المهلب بن أبي صفرة (1) 230- (3) 39- 40- 41- 43- 44- 45- 46- 52- 54- 56- 57- 59- 60- 61- 62- 65- 67- 70- 153- 171- 172- 173- 184- 185- 186- 188- 190- 196- 202- 201- (4) 18- (7) 600. المهلبي وزير معز الدولة (3) 407- 408- 409- (4) 582- 583- 675. المهلهل (1) 810. بني مهلهل (6) 37- 576- (7) 392- 642. مهلهل بن الحرث (2) 358. مهلهل بن ربيعة بن الحرث (2) 358. مهلهل بن أبي الشوك (3) 564. مهلهل بن صفوان (مهليل) (3) 211- 261- 266. مهلهل بن أبي العسكر (بن أبي العساكر) (3) 619- 634- 635- 641- (4) 368- 374- 376- 683- 691- 692- 693- 694- 695- 696- (5) 75- 79- 86. مهلهل بن قاسم بن أحمد (6) 100- 101- 102- 103- 104- 107- 108- 469- 521- 524- 525- 528- 531- 532- 539- 540- 553- 562- 567- 572- 573- 599- 601- (7) 144- 355- 363- 364- 365- 374- 394- 642. مهلهل بن يحيى بن مقدم (6) 41. مهمومه من الملثمين (6) 243. آل مهنا مهنا (2) 304- 336- (5) 499- 500- 569- 571- (6) 7- 9- (7) 700. مهنا بن تازير بن طلحة (6) 198. المهنى بن حارثة (2) 526- 527. مهنا بن علي أمير زغبة (6) 212. مهنا بن أبي علي (4) 137. مهنا بن عيسى (5) 451- 466- 488- 491- 496- 499- 502- 503- 511- (6) 11. مهنا بن فضل (2) 304. مهنا بن مانع (5) 438- (6) 9- 11. مهنا بن مهنى بن داود بن القاسم (4) 143. مهنى بن نافع بن جديلة بن فضل بن بدر بن ربيعة (5) 500. مهيار الديلميّ (4) 117- (5) 67. مهيب بن نصر بن علي (6) 6- (7) 218- 228. المهير بن سليمان بن هلال (3) 137. بني مؤاب (2) 98- 99- 100- 103- 109- 110- 111- 112- 117- 123- 130. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 المؤتمر (يوزتمر) (4) 594- 595. المؤتمن (3) 489- (4) 88. مؤتمن الخلافة (5) 333. مؤثر الخير بن ذي جدن (2) 327. بني مؤمن (مرمن) (6) 186. مؤنس الخادم (المظفر) (3) 445- 448- 455- 456- 457- 459- 460- 461- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 470- 471- 472- 473- 474- 478- 479- 480- 481- 482- 483- 485- 486- 487- 488- 489- 490- 492- 496- 504- (4) 46- 47- 112- 126- 173- 401- 402- 403- 427- 436. مؤنس الخازن (3) 448. مؤنس بن محمد بن عبيد الفارقيّ (3) 461. مؤنس بن يحيى (4) 77. مؤنس بن يحيى الضيري أمير رياح (6) 19- 211- 221- 606. مؤنس العجليّ (4) 290. مؤنس مولى بني حمدان (4) 315. ابن مؤهل (1) 819. المؤيد (إسماعيل ابن الأمير عماد الدين) (5) 474- 475- 489- 490- 491. المؤيد (أي آبه) (5) 83- 84- 85- 87- 88- 93- 94- 95- 96- 97- 98- 109- 110- 111- 112. المؤيد بن علي بن الناصر (3) 658. المؤيد صاحب حماة (2) 280- (3) 353- 363- 364- (5) 471- 604. المؤيد أبو موسى (6) 341- 342. المؤيد بن منصور (4) 208- 214- 216. المؤيد بن يوسف المظفر بن عمر بن المنصور بن علي بن رسول (5) 498. مؤيد الدولة بن ركن الدولة (4) 685- 686. مؤيد الدولة بن نظام الملك (3) 588- (4) 460- 461. مؤيد الدين ابن العلقميّ (3) 662. مؤيد الدين الشرابي (3) 658. مؤيد الدين (أبو عبد الله محمد بن علي) (ابن القصاب) (3) 654- 655- (5) 112. المؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (4) 440- 552. مؤيد الكتاب (5) 10. مؤيد الملك والدين بن خواجاسجستان (مؤيد الدين خواجاسجستان) (4) 537- 539- 540- 542- 543. ابو علي مؤيد الملك الرخجي (ابو الحسين بن الحسن الرخجي) (3) 550- 552- (4) 328- 624- 625- 626- 627- 628- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 630- 639 . مؤيد الملك بن نظام الملك (3) 584- 585- 595- 596- 597- 598- 599- 605- 609- (4) 119- 343- (5) 7- 16- 20- 22- 25- 39- 106. موآيي بن لوط (2) 49. ابن المواز (1) 567. (سيف الدين) موافق (5) 434. موالات بن معليت (6) 120. الموالي (3) 362- 368- (4) 192- 416- (6) 494- (7) 428- 466. الموبذان (1) 51- 52- 153- 354- 412- (2) 210- (5) 89. ابن موته (6) 232. موثبان بن عمرو بن سعد (2) 292. الموحدون (1) 205- 207- 208- 213- 218- 286- 298- 299- 300- 304- 312- 316- 317- 321- 324- 329- 361- 374- 375- 420- 421- 422- 430- 458- 504- 809- 812- 819- (4) 17- 209- 210- 211- 212- 215- 217- 230- 233- (5) 234- 235- 482- 545- (6) 30- 33- 37- 38- 40- 44- 49- 54- 55- 63- 71- 78- 84- 89- 136- 160- 166- 167- 197- 198- 199- 215- 218- 219- 220- 222- 227- 235- 236- 251- 252- 253- 254- 255- 256- 257- 258- 259- 260- 261- 262- 263- 271- 272- 280- 296- 300- 301- 304- 305- 306- 308- 309- 310- 311- 312- 313- 314- 316- 317- 318- 319- 320- 321- 324- 326- 328- 329- 331- 332- 333- 335- 337- 338- 339- 340- 341- 342- 343- 346- 347- 348- 349- 350- 351- 353- 354- 357- 358- 361- 364- 367- 370- 371- 372- 373- 374- 376- 378- 380- 381- 383- 384- 389- 391- 392- 393- 396- 402- 403- 406- 412- 422- 423- 427- 428- 430- 431- 433- 434- 435- 436- 439- 440- 443- 444- 445- 446- 449- 451- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 452- 454- 455- 456- 457- 458- 459- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 469- 470- 481- 483- 488- 491- 497- 498- 499- 501- 502- 503- 508- 509- 510- 514- 515- 517- 520- 521- 522- 524- 536- 542- 544- 554- 560- 561- 562- 578- 586- 594- 595- 596- 598- 606- 609- 614- 617- (7) 31- 58- 63- 64- 65- 74- 75- 77- 83- 85- 87- 88- 92- 96- 97- 103- 104- 105- 106- 107- 108- 110- 112- 113- 119- 121- 122- 130- 133- 136- 142- 145- 147- 148- 151- 152- 155- 160- 161- 167- 172- 184- 185- 205- 206- 209- 220- 221- 223- 224- 225- 226- 227- 228- 229- 230- 231- 232- 232- 234- 236- 237- 239- 240- 243- 244- 250- 251- 253- 257- 264- 279- 281- 282- 291- 294- 295- 296- 297- 304- 305- 323- 327- 330- 331- 332- 334- 335- 337- 340- 341- 342- 344- 353- 354- 356- 357- 361- 362- 364- 365- 372- 381- 383- 386- 398- 411- 430- 463- 506- 507- 508- 520- 523- 524- 528- 530- 538- 556- 564- 574- 640- 650- 706- 707- 708- 709- 723. زين الدين مودود (5) 90. مودود بن إسماعيل بن ياقوتي (3) 575- 599- 605- (5) 38. مودود بن افتكين (5) 251- 252- 262. الأمير مودود بن انوشتكين (بن أبي شيكين) (5) 45- 47- 48- 49- 50- 51- 77- 219- 220- 223- 224- 225- 226. مودود البصري (3) 66. قطب الدين (عماد الدين) مودود بن زنكي (3) 641- 642- 643- (5) 85- 90- 205- 281- 283- 287- 288- 289- 292- 293- 294. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 مودود بن زيد بن صدقة (5) 204. مودود بن سنجر شاه (5) 314- 315- 328- 348. مودود بن مسعود (4) 502- 503- 504- 505- 506- 507. المورخاء (5) 163. مورق بن مورق (2) 273. مورق بن هرقل (2) 265. موري والد حزقيا النبي (2) 123. موريق ملك الروم (2) 209- 211. موريق البطريق (2) 262. موريكش قيصر (2) 262- 263. بني موسى (3) 451- (4) 35- 165- (6) 55- 56. شرف الدين موسى (5) 208. السيد أبو عمران موسى (4) 214. أبو الهيجاء موسى (5) 271. الأمير موسى الازكشي (5) 517. أبو موسى الأشعري (1) 256- 275- (2) 454- 464- 481- 482- 483- 486- 491- 540- 547- 551- 552- 553- 558- 559- 562- 565- 567- 577- 583- 592- 602- 604- 605- 606- 612- 613- 614- 621- 633- 635- 636- 637- (3) 9- 31. موسى بن إبراهيم (4) 145. موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص (أبو عمران) (6) 379- 487. موسى بن إبراهيم بن عيسى (7) 391- 392. موسى بن إبراهيم الرافعي (أبو المغيث) (3) 346- 349. (الأشرف) موسى بن إبراهيم المنصور (5) 444. موسى بن إبراهيم اليرنياني (6) 534- 535- 538- 539- (7) 66- 347. موسى بن اتامش (3) 396- 397- 410- 427. موسى بن أحمد (6) 494. موسى بن أسود الحنظليّ (3) 113. أبو موسى ابن الامام (7) 340. موسى بن الأمين (3) 291- 301. موسى بن اناشر (4) 387. موسى بن أنس (3) 173. موسى البلخي (3) 394. موسى بن برغوث (7) 173- 184. موسى بن بغا الكبير (3) 354- 358- 360- 361- 363- 364- 365- 370- 372- 373- 374- 375- 376- 379- 380- 382- 384- 385- 390- 391- 412- 423- 424- 425- 426- (4) 23- 27- 385- 418- 419. أبو حمو موسى بن تاشفين (6) 551- 552- 555- 569- 570- 571- 572- 594. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 موسى بن أبي العباس ثابت (4) 381. بني موسى بن ثابر (6) 198. موسى بن حازم (3) 70- 71- 72. موسى بن حريث (4) 38- 39. موسى بن حسن (6) 603. موسى بن حفص (3) 318. أبو موسى بن أبي حفص (6) 323- 327- 335. موسى بن أبي حمو (7) 289. موسى بن خليد (6) 164. موسى بن داود بن علي (3) 162. موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق (7) 241- 485- 486- 487- 490- 494- 495- 498. موسى بن الرحيبة الحميري (3) 95. موسى بن رومي بن عبد السميع بن رومي (6) 286. موسى بن الزبير (6) 89. موسى بن زرارة بن محمد (3) 344- 410- (4) 288- (7) 210. أبو الليل موسى بن زغلي (6) 551. موسى بن زيان الونكاسي (6) 348. موسى بن سبق قراخان (4) 518- (5) 77. موسى بن السبني (7) 306. موسى بن سعيد (6) 312. موسى بن سعيد الصبيحي (7) 310. موسى بن أبي سعيد الصبيحي (7) 199- 303. موسى بن سيد الناس (6) 534- (7) 425. موسى بن صالح الغمري (1) 412- (6) 138- (7) 68. موسى بن طلحة (3) 15. موسى بن طولون (4) 384- 396. الأشرف موسى بن العادل بن أيوب (السلطان) (5) 134- 151- 156- 160- 161- 162- 163- 164- 165- 166- 196- 197- 207- 258- 259- 314- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 393- 394- 399- 401- 402- 403- 404- 405- 406- 407- 408- 409- 410- 411- 412- 416- 420- 455- 460- 521- 524- 526- 527- 528- 529- 537- 538- 542- 548- 557- 592- 593- 608- (6) 13. موسى بن أبي العافية (العالية) (4) 18- 19- 20- 47- 48- 49- 178- (6) 174- 176- 177- 178- 191- 246- 285- 289- 290- (7) 12- 34- 35- 77- 102. موسى بن عامر (6) 44. أبو يحيى موسى بن عبد الرحمن بن ونزمار بن إبراهيم (7) 203. موسى بن عبد الله (4) 4. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 موسى بن عبد الله بن حازم (3) 58- 67- 69. موسى بن عبد الله بن الحسن (3) 236- 238- 241. موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنى (4) 123. السيد أبو موسى بن عبد المؤمن (6) 254. موسى بن عبيد الله بن سليمان بن وهب (4) 385. أبو حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن (5) 46- 483- (6) 69- 471- 477- 478- 484- (7) 91- 122- 123- 125- 126- 127- 128- 129- 131- 132- 133- 134- 135- 136- 137- 138- 139- 140- 141- 149- 150- 151- 161- 162- 163- 164- 165- 166- 167- 168- 169- 170- 171- 172- 173- 174- 175- 176- 178- 179- 180- 182- 183- 184- 185- 186- 187- 188- 189- 190- 191- 192- 193- 194- 211- 212- 213- 299- 308- 313- 318- 319- 320- 324- 330- 331- 335- 385- 562. أبو موسى بن عزوز الهنتاتي (6) 352- 353. موسى بن عساف بن مهنا (6) 14. موسى بن عقبة (3) 349. موسى بن علي (6) 272- 505- (7) 396- 489. موسى بن علي بن حسن (7) 149- 150- 151. موسى بن علي بن زبون (6) 500. موسى بن علي الكردي (6) 489- 490- 491- 492- (7) 136- 137- 140- 141- 142- 143- 145- 148- 164- 331- 338- 340. موسى بن علي بن محمد الهنتاتي (6) 361- (7) 323. موسى بن عمران عليه السلام (1) 14- 15- 16- 168- 176- 177- 251- 287- 288- 440- 441- 551- 655- 658- 662- (2) 7- 27- 30- 31- 46- 49- 55- 60- 82- 93- 95- 94- 96- 99- 100- 105- 106- 113- 216- 237- 341- 463- (4) 36- (7) 101. موسى بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب (2) 90- 96. السلطان موسى ابن السلطان أبي عنان (4) 223- 224- (7) 189- 190- 463- 464- 465- 467- 468- 469- 477. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 موسى بن عياش صاحب مسيلمة (4) 39- 40- 258- 259. موسى بن عيسى (3) 233- 269- 270- 271- 274- 276- (4) 380- (5) 552- (6) 12- (7) 395. موسى بن فرقوق (4) 156. موسى بن أبي الفضل بن زغلي (6) 56- (7) 342. موسى بن أبي الفضل بن أبي عمر (7) 469. أبو عيينة موسى بن كعب الخثعميّ (3) 126- 153- 157- 161- 219- 223- 224- 225- 227- 251- 252- 254- 255- 267- 288- 290. موسى بن ماري جاطة (6) 269. موسى بن ماضي بن مهدي بن عساكر (6) 46. موسى بن محمد (3) 222- (6) 400- 407- (7) 200. موسى بن محمد بن طلحة (3) 195. موسى بن محمد بن عبد القوي (7) 209. موسى بن محمد بن مسعود البلط (6) 45- 56- 586. موسى بن محمد بن ياسين (6) 436. موسى بن محمد بن يحيى (4) 175. الأشرف موسى بن مسعود (5) 419- 422- 497- 577. موسى بن المعتصم بن محمد بن قرة (6) 286. موسى بن مقرن (6) 225. موسى بن مكاد (3) 451- (4) 39. الأشرف موسى بن منصور بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص (5) 424- 425- (6) 593. أبو موسى بن المنصور (6) 340. موسى بن المهدي (3) 258- 259. موسى بن موسى (4) 162- 164. موسى بن الناصر (4) 343. موسى بن نصر بن علي (7) 218. موسى بن نصير (1) 48- 206- 230- (2) 271- (4) 146- 147- 148- 236- 237- 379- (6) 135- 139- 144- 281- 282- 300. موسى بن ورقاء (3) 130. موسى بن ياسين (6) 443- 444. موسى بن أبي يحيى بن محلى (7) 275. موسى بن يحيى بن ونزمار (7) 203. موسى بن يحيى الرياحي (6) 211- 315. موسى بن يحيى الصغربري (6) 19- 22- 43. موسى بن يحيى المرداسي (6) 25. موسى بن يخلف (7) 186- 190- 191- 194. (أبو حمو الأخير) موسى بن يوسف بن عبد الرحمن (6) 58- 64- 71- 72- 73- 87- 88- (7) 93- 161- 162- 164- 203- 213- 216- 397- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 398- 399- 400- 411- 412- 425- 434- 435- 436- 437- 438- 439- 461- 462- 476- 480- 536- 545- 557- 560- 561- 562- 575- 577- 578- 580- 581- 632- 636- 710 . (السيد أبو عمران) موسى بن يوسف بن عبد المؤمن (6) 261- (7) 103. الأشرف موسى بن يوسف أطسز بن المسعود بن الكامل صاحب اليمن (5) 420- 421- 432- 434. موسى التركماني (5) 36- 248. موسى الجون (4) 131. موسى خان (5) 623- 624. موسى السراج (3) 128. موسى الشاربي (3) 379. موسى الكاظم بن جعفر الصادق (1) 251- 252- (3) 450- (4) 35- 144- 145- 652. أم موسى الهاشمية القهرمانة (3) 482- 483. موشك بن حكويه (4) 326. موصل بن أشوذ بن سام (2) 79. الموصل بن جرموق (2) 78. ابن الموصلايا (3) 662- 663. صفي الدين موصوف الخادم (4) 347. الموطئ (4) 133- 134- 283. موفق مولى الحسن بن علي (6) 214. الموفق بن علي بن إسماعيل (3) 544- 658. أبو أحمد الموفق بن الناصر لدين الله المتوكل (3) 369- 381- 383- 384- 390- 391- 396- 397- 398- 401- 402- 403- 404- 405- 406- 407- 408- 410- 412- 413- 416- 417- 418- 420- 421- 423- 424- 426- 427- 428- 430- 431- 441- 544- (4) 11- 23- 24- 25- 26- 28- 207- 208- 384- 385- 386- 390- 391- 393- 419- 420- 422- 424- 620. الموفق الشيخ (4) 98. القاضي موفق الدين الحنبلي (7) 728. موقان (4) 666. الموكل (3) 465. المولات (مولان) (5) 430- 619. مولاهم بن عمر بن أبي الليل (6) 100- 101- 103- 104- 107- 488. مولاهم بن موسى (6) 46. مولاي من أمراء التتر (5) 474- 475. المولد صاحب الموصل (5) 162. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 ابن المولد (محمد) (3) 396. مولويه (4) 31. بني المولى (4) 218. مولى بن عمار (5) 176- 619. موليث من سدويكش (6) 197. مومن مالي ملك السريان (2) 280. موهب بن مرة بن رحيب (2) 26. مياس (6) 107. مياس بن سهل بن سعد (3) 35. ميان بن صالح (قبان بن صالح) (6) 15. مية (صاحبة ذي الرمة) بنت مقاتل بن طلبة (2) 376. ميثائل (2) 126. ميثم بن حراز بن سعد (2) 291. ميخائيل (3) 267- 268- 582- (4) 334. ميخائيل الأنطاكي (6) 535. أبي ميخائيل بطرك اسكندرية (2) 271. ميخاييل بن جرجيس (3) 290- 319. ميخائيل بن راعيل (2) 106. ميخائيل بن روفيل (3) 421. ميخائيل بن نوفيل (نوفل- توفيل) (2) 273- 276- 277- 280- (3) 330. ميخاييل اليشكري (5) 460. ميسرة الحسن (الحقير- الحفيد- الجفير) زعيم مضغرة أو مطفرة (6) 144- 145- 155- 156- 172- 282- (7) 16- 33. ميسرة غلام خديجة (2) 408. ميسرة بن فلان السكونيّ (2) 594. ميسرة بن مسروق العبسيّ (2) 542. ميسرة المظفر (4) 238- 239. ميسور الخصي قائد الشيعة (قائد ابو القاسم بن عبيد الله الشيعي) (4) 20- 48- 49- 50- (6) 160- 178- 191- 285- 289- 290- (7) 19- 20- 23- 35- 38- 77. ميسون (2) 309. ميصائيل بن فرعون الأعرج (2) 123. ميكائيل بن سلجوق (4) 635. ميلاغر (يلاغف) (6) 161. ميلاوش (1) 515- 640. بنو ميمون ميمون (1) 316- (2) 68- 395- 406. ميمون بن احان الكنسيفي (6) 220. ميمون بن بدر اللمتوني (6) 314- 317. ميمون بن بكرون (7) 349. الأمير ميمون بن التقي (6) 173. ميمون بن جبل (6) 202. ميمون بن الحضرميّ (2) 293. ميمون ابن الرستمية (6) 173. ميمون بن زياد الصخري (6) 213- 222. ميمون بن عبد الوهاب (6) 159. ميمون بن عثمان (ميمون بن سعيد بن عثمان) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 (6) 63- 64. ميمون بن علي بن أحمد (6) 538- 542- (7) 386- 394. ميمون بن غانم بن سويد (6) 70. ميمون بن مدرار (6) 172. ميمون بن موسى الهنتاتي (6) 381- 382. ميمون بن أبي زيد (6) 483. ميمون بن وردار (وردان) الجشمي (7) 288. ميمون بن يعقوب بن عريف بن يعقوب بن يوسف (6) 48. ميمون القداح (3) 450. ميمون القصري (5) 388- 390- 392- 395. ميمونة بنت الجراس (4) 266. ميمونة أم المؤمنين بنت الحرث بن حزن (2) 369- 455- 484. مينا (2) 265. ميناس البطريق عظيم الروم (2) 268- 541- (4) 334. ميورقة المنصور (6) 27. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 حرف النون (ن) نائب الكرم (5) 555. نائلة بنت الغرافصة زوج عثمان بن عفان (2) 296- 597- 598- 601- 603- 625. ناباط بن يربعان (2) 114. نابت بن إسماعيل (2) 354- 394- 395- (6) 46- 47. نابتة بن عامر (6) 165. النابغة الذبيانيّ (زياد بن عمرو) (1) 798- 803- (2) 335- 364. ناجرت (تاجرة) (7) 6. ناجي بن أبي علي بن كثير (6) 101. ناجية بني ناجية (2) 494- 506- 617. ناحة بن رعويل (2) 47. ناحور (2) 50. ناحور أخي إبراهيم عليه السلام (2) 277. ناحور بن آزر (2) 125. ناحور بن تارح (2) 38- 445. ابن ناحور بن شاروخ (2) 36- 37- 38. ناحوم النبي (2) 119- 122. ناداب بن يربعم (2) 117. نازوك (3) 466- 471- 472- 473- 474- 484. ابو ناس بن عبد الصمد بن ورجيع بن عبد الصمد (7) 85. بني ناسجة من لمتونة (6) 241. ناسم (الجارية) (4) 382. ناشر بن عمرو (ناشر النعم ياسر النعم) (2) 59- 60. ناشرة بن هلال (2) 369. الناشي (1) 793. ناصح الدولة ابو عبيد الله (ابو عبد الله) الحسن بن جهير (3) 631. بني الناصر (4) 139. الملك الناصر (6) 41- 267. ابو علي الناصر الأطروش الناصر بن إسماعيل بن جعفر بن الأطروش (1) 251- (4) 32- 34. الناصر الحاجب (4) 189. الناصر صاحب الأندلس (4) 19- 49- 56- 170- 171- 175- 176- 178- 179- 180- 181- 182- 192- 227- 230- 684- (6) 177- 178- 179- 191- 282- 283- 285- 286- 288- 290- 291- 372- 373- 374- 376- (7) 19- 34- 35- 36- 38- 58- 77- 102- 223. الناصر ابن السلطان أبي الحسن (7) 92- 155- 156- 158- 159. الناصر بن حسين بن علي الورد ينعي (6) 42. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 الناصر بن علناس بن حماد بن زيري الصنهاجي (6) 12- 13- 26- 211- 212- 217- 229- 230- 231- 232- 233- 248- (7) 74- 508. الناصر ابن السلطان ابو علي (7) 418. الناصر بن عيسى بن قاسم (4) 131. الناصر بن محمد (1) 284. الناصر بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر (5) 489. الناصر ابن العزيز محمد ابن الظاهر غازي بن أيوب (3) 614- 663- (4) 134- (5) 614- 615. ناصر بن المرزبان (4) 670- 671. الناصر (ابو العباس أحمد) بن المستضيء (3) 653- 654- 655- 656- 657- 658- 659- 660- (4) 131- 132- 140- 185- (5) 100- 101- 112- 113- 114- 134- 145- 147- 149- 306- 308- 316- 318- 321- 349- 388- 398- 399- 403- 588- (6) 256- 260- 261. الناصر بن المظفر (5) 423. الناصر بن المعظم (5) 408- 409- 411- 412. الناصر بن المنصور بن أبي عامر (6) 238. الناصر بن المنصور ابن المظفر (5) 405- 406. الناصر بن المنصور (محمد الناصر لدين الله) (6) 331- 332- 333- 334- 335- 336- 337- 338- 430. ناصر بن يحيى (7) 118. الناصر بن يعقوب المنصور (4) 211. الناصر المراني (4) 207. الناصر المنتزي (6) 381. (ابو ثعلب) ناصر الدولة بن حمدان (الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان) (3) 484- 485- 497- 504- 505- 508- 510- 512- 513- 514- 516- 517- 518- 519- 520- 523- 524- 525- 526- 527- 529- 531- 538- (4) 75- 77- 78- 290- 292- 293- 294- 295- 296- 297- 298- 299- 301- 303- 304- 307- 308- 350- 403- 404- 472- 571- 573- 574- 580- 581- 583- 590- 592- 597- 598- 599- 627- 666- 668- 669. ناصر الدين بن تقي الدين عمر محمد بن تقي الدين عمر. ناصر الدين بن كورس (5) 366. ناصر الدين الحسيني (5) 517. ناصر الدين الرماح (7) 715. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 ابو علي ناصر الدين الزواوي (1) 571. ناصر الدين العلويّ (4) 647. الناصر لدين الله هشام بن سليمان بن أمير المؤمنين. ناصرة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم (6) 19- 113. الناصري (5) 557- 560- 563- 564- (7) 698- 699- 700- 701- 702. الناصرية (5) 440. ناصفلي (4) 331- 493- 636. ناظو بن دوشي خان (ناخو) (5) 596- 597- 599- 604- 613. ناعيسان صاحب انطاكية (3) 594. نافث بن فاضل (6) 31. بني النافرة من نغاثة (2) 306. نافس بن إبراهيم (2) 43- 44. نافس بن عمرو (2) 59. نافع (5) 402- (6) 161. نافع الأسود (3) 528. نافع بن الأزرق (3) 182- 183- 184- 203. نافع بن بديل بن ورقاء (2) 438. نافع بن خالد الطائي (3) 11. نافع بن عقبة (3) 253. نافع بن عمرو بن الحرث (2) 291. نافع بن مالك بن أبي عامر الاصبحي (7) 681. نافع مولى ابن وجيه (4) 584- 675. ابن ناقلة (4) 226. نامان النبي (2) 112. ناميرت بنت علناس بن حماد (6) 229. ناوكا من الملتمين (6) 241. نباتة بن حنظلة الكلابي (3) 151- 156- 158- 159- 207. بنت بن أود (2) 303. النبط (1) 9- 38- 207- 447- 462- 507- 652- 655- 658- 730- (2) 3- 9- 38- 76- 78- 80- 81- 105- 181- 183- 184- 189- 197- 222- 247- 288- (4) 548- (7) 720- 732- 733. نبطط من بطون لواته (6) 6. نبعة من مكناسة (6) 170. بني نبة من هوارة (6) 183. بني نبهان (4) 128- 353- 354- (6) 8. نبيط بن اشوذ (اشور) بن سام (2) 80- (4) 548- (7) 720. نبيط بن ماش (قاش) بن ارم (2) 9- 80- (7) 720. نبيل الحاجب (6) 527- 528- 535- (7) 372- 386. نبيل ملك الترك (2) 566. ابن النبية (1) 796. نبيه بن الحجاج بن عامر من بني سهم (2) 386- 412- 421- 429. نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب (2) 402. نجا الخادم (6) 295. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 نجا غلام سيف الدولة (4) 302- 303- 304- 309- 323. ابو النجاء بن حمدون (4) 112. نجاح مولى بني زياد (4) 270- 271- 272. بني نجاح (3) 214- (4) 273- 274- 275- 280. نجاح الخصي (مؤتمن الخلافة) (4) 101- 102. نجاح بن سلمة (3) 349. نجاح بن صلاح بن علي (4) 141. نجاح بن غفير (6) 282. نجاح بن محمد بن منصور بن عبيد بن مبارك (6) 32. بني النجار (2) 420- 423- 427- (6) 543. بنو النجار بن عمرو (تيم الله بن ثعلبة بن عمرو) (2) 343. النجاشي (2) 69- 70- 71- 413- 450- 451- 454- 455- 456- 471- (6) 265. نجح الطولوني (3) 483- (4) 438. نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيار بن مفرج الحنقي (3) 184- 185- 189. نجران بن زيد بن يعرب بن قحطان (2) 54. نجران بن زيدان (2) 54. نجعو (5) 595. النجم الإسرائيلي (1) 619. ابو النجم (3) 147. نجم الدين كبير الصوفية (5) 598- 604. نجم الدين بن الظاهر (المسعود) (5) 455. نجم الدين بن العادل (الأوحد) (5) 396- 396- 406. نجم الدين بن مضيال (4) 101. الظاهر نجم الدين الشعراني (5) 449- 450- 451- 453- 455. نجميا (2) 136. نجى الصقلي الخادم (4) 195- 196. ابن نجيب داعي العلوية (4) 275. ابن نجيب الدولة (4) 87- 88. نجيب الدين الشهرستاني (5) 145. نجية بن أبي المثنى من بني الشريد (2) 498. نحبه من قبائل العرب (6) 222. نحرير الصغير خادم المتوكل (3) 460- 461- 482- 484- (4) 385- 609- 610. ابن النحويّ من مؤرخي الأندلس (1) 797- (6) 201- 203. نخشون بن عميناب (2) 167. النخع (2) 304- 494- 534- 589- 631- (3) 14- 31- (6) 3. النخعي (1) 440. النخيرجان (2) 536. ابن نخيل (6) 334. ندراس (2) 85- 86. ندرومة (6) 165- 166. ندورة (3) 330. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 النذير بن يزيد (3) 239. نردشير (7) 597. نرسى بن بدارة بن فرخزاد (2) 314. نرس ابن خالة كسرى (2) 521. نزار (المستعلي باللَّه) (4) 81- 82. نزار (2) 18- 287- 288- 296- 356- 357- (3) 211- (6) 49. نزار القائم (3) 452. نزار بن المستضيء العلويّ (4) 118. نزار بن المستنصر (4) 119- 130. نزار بن معد (2) 189- 286- 304- 355- (6) 207. العزيز باللَّه نزار بن المعز (4) 62- (6) 206- (7) 39. نزار بن معن بن محيا (6) 33. أبو القاسم نزار بن المهدي (4) 45- 46- 47- 48. النزارية (4) 118. نزال عامل طرابلس (4) 65- 318- 319- (5) 462. نزال بن موسى بن عيسى (5) 523. نزو جبال (4) 487. النسائي (أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد) الكاتب (1) 390- 393- 394- 397- 398- 559- (5) 150- 151- 152- 154- 160- 163- 167. قطب الدين نسأل (بيال) ينال. النساوري (3) 561. نستوان بن سعيد القحطاني (4) 282. نسطاس قيصر (نسطانس) (2) 258- 259- 260. نسطاس بن نسطورس (2) 518. نشطانش الثاني (نوسطيوس) (2) 265. نسطس البطرك (بطرك اسكندرية) (2) 243. نسطورس (نسطوريش) بطرك القسطنطينية (2) 257- 259. النسطورية (1) 292. نسطوريوس البطرك (2) 178- 179. أم عمارة نسيبة بنت كعب بن أبي مازن (2) 436. النسير بن عمرو العجليّ (2) 566- 591. نشبت نصر (2) 80. نشيط الفارسيّ (1) 540. (أبو حمزة) نصر (3) 389- 399. بنو نصر (1) 669- (2) 304- 323- (4) 215- 218- 219. نصر أخو أبو الحجاج يوسف (4) 225. السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد الساماني نصر بن أحمد بن سامان (3) 412- 425- 432- 476- 484- (4) 30- 31- 32- 33- 143- 433- 436- 437- 438- 439- 440- 441- 443- 444- 445- 446- 447- 448- 449- 450- 551- 553- 554- 555- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 556- 557- 559- 560- 563- 564- 565- 575- 576- 660 . نصر بن أحمد الغريفوني (4) 480- 481. نصر بن الأزد (2) 285- 301- 302- 332. نصر بن إسحاق (4) 478. أبو نصر بن بختيار (3) 543- (4) 618- 619- 620. أبو نصر بن جهير (3) 576. نصر بن حام (2) 84. نصر بن حبيب (4) 245. نصر بن حجاج (2) 366. نصر بن حرب بن عبد الله (3) 255. نصر بن الحسن بن الفيرزان (4) 490. نصر بن حمدان (3) 484- (4) 291. نصر بن حمزة الخزاعي (3) 340. نصر بن خزيمة العبسيّ (3) 123- 124- 125. نصر بن راشد (3) 225. بني نصر بن ربيعة (آل نصر) (2) 64- 305- 312- 313- 316- 320. نصر بن زائد بن سليمان (6) 113. نصر بن زهران بن كعب (2) 301. نصر بن سبكتكين (4) 478- 480. نصر بن سعد (2) 407. نصر بن سعيد (3) 364. نصر بن سلطان بن عيسى (7) 215. نصر بن سيار بن رافع (1) 230- (2) 381- 375- 376- (3) 107- 108- 111- 113- 115- 117- 118- 120- 121- 122- 129- 130- 137- 138- 139- 144- 145- 146- 147- 149- 150- 151- 152- 153- 154- 156- 157- 176- 177- 178- 209- 217- 265. نصر بن شبيب (3) 302. نصر بن شبت (3) 315- 316- 317- (5) 220. (شبل الدولة) نصر بن صالح أبو كامل (4) 75- 348. أبو نصر بن الصباغ (3) 584. (أبو عون) نصر بن أبي علي عبد السلام (6) 101. نصر بن عبد الكريم (6) 199. نصر بن عدس (2) 320. نصر (أبو نصر) بن عضد الدولة (3) 536- (4) 606. نصر بن علي أمير بني يزيد بن توجين (7) 140. نصر بن علي بن تميم بن يوسف بن بوزال (7) 218. نصر بن علي بن منقذ الكناني (3) 590- (4) 353- (5) 12. نصر بن علي بن نصر بن مهيب (7) 218- 219. نصر بن علي بن نصير بن منقذ (5) 285. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 نصر بن عمر (3) 570. نصر بن عمر بن عثمان بن عطية (7) 156- 157- 212- 213. نصر بن عيسى (3) 570- 571- (4) 338. أبو نصر بن أبي كاليجار (3) 597- (5) 29. أبو نصر بن ماكولا (4) 560. نصر بن مالك بن صالح (3) 261. أبو نصر بن المحسن بن الفرات (3) 466. أبو الجيوش نصر بن محمد السلطان 218- 219- 423- 437- (7) 316- 300- 336. نصر بن محمود (4) 351. أبو نصر بن مروان (نصر بن مروان) (4) 408- 409- 414- 681- (5) 5. بنو نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن (2) 368- 462- (4) 381. نصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي (5) 47. نصر بن مهيب (7) 218. (أبو فراس) نصر بن ناصر بن مكي المدائني (3) 657. (شمس الدولة) نصر بن نصر ايلك (4) 514- 515. نصر بن نصير الدولة (4) 413- 415. نصر بن النفيس (4) 683. أبو نصر بن أبي نور (7) 31. نصر بن هارون النصراني (4) 603. أبو نصر بن الهيثم (4) 682. نصر الحاجب (3) 461- 465- 466- 467- 471. نصر خان بن أرسلان خان (4) 517- 518. نصر السبكي (3) 480. أبو نصر الصباغ (5) 16. أبو نصر الطبري (3) 464- (4) 443. أبو نصر العتبي (7) 722. نصر القشوري (القسروي القسوري) (3) 434- (4) 289. أبو نصر الكندي (3) 568- (4) 657. أبو نصر المصارع (4) 362. نصر النميلي (4) 300. أبو ألوفا نصر الهوريني (2) 266- 402- 652. نصر الدين بن صلاح الدين (5) 420- 432. النصرانية (5) 149. نصرة الدين بن أبر (5) 130. نصرة الدين بن أبي بكر (5) 129. نصرة الدين بن حرميل (5) 154. ابن نصري (5) 289. نصل بن حميد (6) 171. نصورة (نصوة نصرة) (6) 186. نصيب الشاعر (1) 798. نصير (3) 405- 406- (5) 79. أبو حمزة نصير (4) 24. (أبو موسى) نصير (2) 512. نصير مولى الفضل (6) 607. نصر مولى الواثق بن المستنصر (6) 442. ابن نصير أمير العرب (5) 562. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 نصير بن عباس بن أبي الفتوح (4) 93- 94- 95. نصير الدولة بن مروان (3) 561- 565- 576- (4) 115- 328- 330- 331- 332- 335- 342- 409- 410- 411- 412- 413- 644. نصير الدين حقر (3) 628. نصير الدين بن ناصر بن مهدي العلويّ (3) 656. نصير الدين الطوسي (1) 650- 749. نصير الوصيف (3) 269. نصيل بن حميد المكناسي (4) 189. ابن النضر (4) 96. النضر بن أنس بن مالك (2) 435- 436- (3) 98. النضر بن الحرث بن علقمة (2) 389. النضر بن الحرث بن كلدة من بني عبد الدار (2) 413- 421. النضر بن سعيد الحريش (3) 143- 177- 206. بنو النضر بن شميل (2) 375. النضر بن صبيح المزني (3) 155. النضر بن عروة (6) 73- 75. النضر بن القعقاع بن شور الذهلي (3) 193. بنو النضر بن كنانة بن فهر بن مالك (2) 381- 385- 476. النضر بن نعيم الضبي (3) 150. بنو النضير (2) 30- 341- 344- 348- 431- 439- 440- 441- 443. النضيرة بنت الساطرون (2) 202. نطاوس (2) 162. نطيل (2) 247. نظام الدولة والدين أبو نصر أحمد بن نظام الملك (3) 620- 621- (4) 369- (5) 148. أبو بكر نظام الدين [صاحب خرت برت] (5) 258- 259. نظام الدين بن أرسلان (5) 195. نظام الدين بن نصير الدولة (4) 413. نظام الملك بن مؤيد الملك (3) 578- 579- 582- 583- 584- 587- 590- 591- 595- (4) 119- 130- 342- 364- 414- (5) 6- 9- 12- 14- 15- 16- 17- 18- 22- 43- 131- 133- 143- 148. النظامية (5) 29. نظر الخادم (4) 131- 374. بنو نظرون (2) 341. نظير الدين الطوسي (5) 594. بنو نعجة من البرانس (2) 369- (6) 192. ابن نعشان (5) 410. نعشان بن إبراهيم (6) 126. ابن النعمان (6) 382. أبو نعمان (3) 458. بني النعمان- آل النعمان (1) 172- (2) 19- 54- 210- 211- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 318- 319- 334- 360- (6) 91- 406- 431. أبو عبد الله النعمان (3) 547. النعمان بن إبراهيم (3) 99. النعمان بن الأسود بن المنذر (2) 316- 322. النعمان بن امرئ القيس (2) 313- 315- 321- 325. النعمان بن بشير الأنصاري (1) 267- (2) 541- 603- 625- (3) 21- 22- 25- 27- 28- 29- 134- 171- (4) 38. (أبو حنيفة) النعمان بن ثابت (1) 270- 445- 561- 562- 564- 565- 566- 569- 578. أبو كرب النعمان بن الحرث (2) 335. النعمان بن الحرث بن جبلة (2) 335. النعمان بن الحرث بن جفنة (2) 333. النعمان بن الحرث بن أبي شمر (2) 334. النعمان بن حمير بن سبإ (6) 122. النعمان بن زرعة (2) 319. النعمان بن شقيقة (2) 322- 323. نعمان بن عبد الحق الهنتاتي (6) 220. النعمان بن عمر (2) 297. النعمان بن عمرو بن المنذر (2) 331- 335. النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن ذي يزن (2) 73. النعمان بن محمد بن منصور (4) 67. النعمان بن مقرن بن عامر المزني (2) 378- 490- 527- 528- 551- 552- 556- 557- 558- 559. النعمان بن المنذر (2) 344- 364- 376- 507- 538- (5) 501- (6) 10- (7) 597. النعمان بن المنذر بن الحرث (2) 333- 334. النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة (2) 17- 63- 73- 213- 214- 303- 312- 313- 314- 316- 317- 322- 323. النعمان ذي رعين (2) 471. نعنع النعناع (5) 523- 526- 531. نعير (6) 107. بني نعيف (2) 340- 341. ابو نعيم (1) 572. نعيم بن حازم (خازم) (3) 288- 294. نعيم بن زيد (2) 470. نعيم بن عبد كلال (2) 471. نعيم بن عليم (3) 197. النعيم بن كنون (7) 55- 56. نعيم بن مسعود (2) 550. نعيم بن مسعود بن أنيق بن ثعلبة (2) 363. نعيم بن مسعود بن عامر (2) 442. نعيم بن مقرن (2) 550- 551- 556- 557- 558- 559- 560- 561. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 نعيم بن هبيرة (3) 31. نعيم بن هزال بن هذيل بن عبيل بن صدا بن عاد (2) 23. نغاث (6) 48- 376. بنو نغاثة (2) 30. نغاسة من البرانس (6) 192. بني نغال من هسكورة (6) 271- 272. نغالة من السودان (6) 266. نغتالي بن يعقوب (2) 446. نغدويه بن بسطام (خال كسري) (2) 211- 212- 521. نغزاوة من لوا (من البتر) (2) 277- (6) 119- 132- 146- 147- 148- 150- 151- 152- 192- 220- 257- (7) 55- 56. نغزة (4) 14- 42- 51- 260- (6) 122- 126- 138- 195- 205- 283- 543. النفس الزكية (4) 268. نفطاي (2) 101. نفطه (7) 79. نفوس (6) 182. نفوسة (2) 573- (4) 257- 388- (6) 118- 134- 140- 149- 185- 187- 188- 192- 373- 375- 376- 563- 613. نفيس (6) 311. ابن نفيس ابو نفيس (3) 473- 475. نفيس الخادم (4) 384. النفيس بن مهذب الدولة (4) 363- 682- 683. السيدة نفيسة (4) 97- (5) 242. نفيسة بنت عبد الله بن العباس بن علي بن عبد المطلب (3) 294. نفيلة بن عبد المدان (2) 34- 293. نقاس بن مرينوس (2) 87. نقاس بن نقراس (2) 86. نقجوان (3) 579. نقراوش (2) 31- 86. نقشان من البربر (6) 120. نقفور الدمستق (2) 274- (3) 283- 284- 290- (4) 333- 599- (5) 447. نقفور بن استيراق (2) 272- 273. النقيب بن الافساسي (4) 128. النكارية (4) 59- 105- (7) 22. النكازة (6) 447. نكبرذ (5) 15- 16. نكرة (1) 52. نكوم بن عسكر (7) 220. بني نمارة (2) 322. نمارة بن قيس (2) 285. نمارة بن لخم (2) 285- 308. النماردة من بني حام (2) . نمالة (7) 6- 68. بنو النمر النمر (2) 296- 499- 512- 513- 523- 524- 545- (6) 3. سيف الدين نمر (5) 490. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 النمر بن زيد مناة (2) 326. النمر بن قاسط (2) 321- 325- 326- 358. نمر بن يشرح (2) 34. ابن النمر الطرابلسي (1) 572. نمر الأزج بن عمرو (2) 32. نمرة (1) 439. نمروذ امراقيل (2) 40. النمروذ (2) 78. نمروذ ارم (2) 81. نمروذ الجبار (2) 81. نمروذ الجسيم (2) 81. نمروذ الخليل (2) 81- 183. النمروذ بن كنعان بن سنجاريف بن النمروذ الأكبر (2) 37- 38- 82- 84. النمروذ بن كنعان بن كوش بن حام (7) 719. النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام (2) 6- 11- 14- 18- 38- 81- 125. بني نمي (5) 495- (6) 109. بنو أبي نمي (7) 291. بنو نمي بن سعد بن علي بن قتادة (4) 142. أبي نمي بن أبي سعيد بن قتادة (أمير مكة) (4) 134- (5) 448- 477- (7) 298. بني نمير (3) 295- 339- 538- 571- (4) 294- 301- 320- 323- 338- 357- 409- 606- (5) 49- 51- (6) 14. بني أبي نمير (4) 131. نمير بربرة (4) 374. بني نمير بن حكيم (6) 107. نمير بن عامر (2) 369. النميري (3) 154. نميلة بن عبد الله الليثي (2) 445- 453- 460. نميلة بن مرّة العبسيّ (3) 245. نهار بن توسعة بن تيم الله (3) 113. نهار بن حصن السعدي (3) 249. بني نهد (4) 283. نهد بن حلوان (2) 288- 295- 311. نهراص من عصفراص (6) 161. بني نهشل بن دارم بن حازم (2) 378. بني نهلال (تيلان- تليلان) (6) 474. نهو جو (4) 487. نهيك بن هلال (2) 369. النوائل بنو نائل بن عامر بن جابر (6) 111. نوابة (2) 14. نوابة بن سلامة (3) 177. ابو نواس (1) 25- 217- 790- 801- (2) 183. نواسة شاه (4) 481. نوال من بطون حكيم (6) 107. بني نوال بن حسن (6) 65. نوب بن قوط بن مصر بن حام (6) 264. بنو نوبخت (1) 169. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 نوبخت بن عبد الله بن بكار (7) 25- 43. النوبة (6) 264- 265- (7) 5. نوبة بن كوش بن كنعان بن حام (6) 264. نوح عليه السلام (1) 29- 105- 213- 515- 516- 832- (2) 6- 8- 18- 21- 24- 36- 37- 38- 78- 90- 182- 184- 216- 237- (3) 259- 419- (6) 276- (7) 5- 719. نوح بن أسد عامل بخارى (3) 335- 389- (4) 382- 432. الأمير نوح بن سامان (4) 575- 577- 578- 579- 602- 604- 660- 661- 669. نوح بن شيبان بن مالك بن مسمع (3) 97. نوح بن لامك (2) 7. نوح بن منصور بن نوح (4) 429- 459- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 470- 472- 473- 474- 475- 483- 485- 490- 509- 510. الأمير نوح ابن السعيد نصر (الحميد) (4) 449- 450- 451- 452- 453- 454- 455- 456- 468. نوح الدمري (7) 70. نوحي (قبيلة) (3) 660. ابو نور بن أبي قرة اليغرني (4) 189- (7) 31. ابو نور بن ماسي (5) 624. نور الدين بن رسول (4) 282. نور الدين صاحب كيفا (5) 351- 352. النورة (البؤرة) من سدويكش (6) 197. الأمراء النورية (5) 340. نوغيثة (نوغاي) بن تتر بن مغل بن دوشي خان (5) 605- 606- 616. بنو نوفل (2) 390. نوفل بن الحرث بن عبد المطلب (2) 329. نوفل بن خويلد بن أسد (2) 329. نوفل بن عبد الله بن المغيرة (2) 426- 444. نوفل بن عبد مناف (2) 389- 391. نوفل بن الفرات (نوفر) (3) 253. نوفل بن مساحق (3) 31- 173. نوفل بن معاوية الدؤلي (2) 457. نوفل بن ميخائيل ملك الروح (3) 289- 293- 320- 327- 330. نوفلس بن نوفلس بن نوفيل (4) 163. نوفير بن يقطن (2) 11. نوفيل بن ميخائيل (2) 273. نونة (7) 154. النووي (5) 437- 461. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 نيار بن مكرز (2) 597. نيدوكسن بن طاع الله (7) 152. نير زوجة شمرام (2) 81. نيرار بن عبد الواحد الدهستاني (5) 30. نيران شاه بن بدران شاه بن قارت بك (5) 32. نيرو بن سابور (2) 198. نيروز الاتابك (5) 618- 619. نيرون خامس القياصرة (نيروش) (1) 291- (2) 158- 159- 175- 239- 240- 241- 242- 243- 244- 245- 248- 250- 256. نيزك (3) 70- 77- 78- 230- 413. نيزك طرخان (2) 584. نيقالوس الكاتب (2) 157- 158. نيقانور (2) 139- 140- 162. بني نيكاس (6) 307. نينوى بن أثور (2) 78. نيونة بن قرّة (6) 22. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 حرف الهاء (هـ) هائل بن حماد بن نصر (6) 113. هاجر (امرأة إبراهيم عليه السلام) (1) 436- 437- (2) 18- 39- 41- 42- 43- 44- 88- 393- 394. هاجر القبطية (2) 40. الهادي (موسى) بن المهدي (1) 32- 284- (3) 261- 262- 264- 265- 266- 268- 271- 272- 273- 277- 280- 283- (4) 8- 549- (6) 195- (7) 33. ابنة الهادي (3) 295. الهادي بن الناصر يحيى بن أحمد الناصر. هاران بن تارح (2) 38- 39. هاروت (1) 361- 657- (2) 82- (6) 276. هارون عليه السلام (1) 168- 251- 288- 293- 441- (2) 93- 94- 95- 96- 98- 99- 106- 138- 170- 196- 227- (4) 36. ابن هارون (1) 571. هارون الرشيد (1) 20- 21- 22- 23- 24- 25- 26- 32- 169- 222- 227- 260- 263- 284- 297- 307- 327- 420- 421- 431- 432- 471- 744- 754- 764- 804- (2) 272- 273- 358- 381- (3) 168- 213- 243- 262- 264- 265- 266- 268- 269- 271- 272- 273- 274- 276- 277- 278- 279- 280- 281- 282- 283- 284- 285- 286- 287- 288- 289- 291- 296- 298- 316- 338- (4) 8- 9- 14- 16- 35- 144- 244- 246- 247- 248- 380- (5) 428- 500- (6) 9- 148- 157. هارون ابن شيخ مطغرة (7) 244. هارون بن رومي (6) 286. هارون بن سعيد العجليّ (1) 415- 416. أبو هارون العبديّ (1) 394. ابن هاشم (1) 728. بني هاشم الهاشميين (1) 172- 197- 201- 320- 365- 395- 744- (2) 390- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 399- 405- 412- 414- 462- (3) 3- 4- 150- 165- 215- 230- 235- 236- 243- 259- 261- 274- 281- 299- 303- 308- 310- 316- 342- 349- 353- 359- 362- 371- 375- 378- (4) 5- 6- 7- 35- 109- (6) 149- (7) 12- 13. بني أبي هاشم (4) 142. هاشم بن سعيد بن خالد (3) 269. هاشم بن عبد الرحمن (4) 164- 165. هاشم بن عبد المطلب (2) 400. هاشم بن عبد الملك (3) 351. هاشم بن عبد مناف (2) 389- 391. هاشم بن عتبة المرقال (2) 626. هاشم بن عتبة بن أبي وقاص (2) 388- 518- 533- 538- 539- 621- 629- 631. (أبو ولف) هاشم بن محمد الخزاعي (3) 483. أبو هاشم بن محمد بن الحنفية (1) 250- (4) 3- 145- (7) 735. هاصد بن كوش (2) 38. هالي زوج زوج مطنان (2) 168. هامان (2) 174- (6) 410. هامان العمليقي (2) 196. هامان وزير احشويرش (1) 290- (2) 136- (4) 4. هامس قائد الرومانيين (2) 225. ابن هانئ شاعر الأندلس (1) 796- 804- (4) 105. هانئ بن بكور الضريسي (6) 124- (7) 11. هانئ بن عروة (3) 29- 32. هانئ بن أبي علي (4) 137. هانئ بن قبيصة (2) 320- (3) 193- 303. هاني بن مسعود الشيبانيّ (2) 214- 318- 319- 360. هانئ بن هانئ (3) 108- 109. هاني بن يصدور (7) 7. أم هانئ بنت أبي طالب (2) 461- 646- (3) 37. هاءوا (2) 48. أبو هبار (3) 236. هبار بن الأسود بن المطلب (2) 389. هبار بن سفيان (2) 516. أبو السيد هبة الله بن جعفر (3) 571- (4) 338. أبو الفضل هبة الله بن علي (3) 652. أبو نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك (5) 316- 398. أبو القاسم هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان (4) 303- 313- 581. هبرة من بطون سويد (6) 65. هبري (5) 388. الهبط (7) 311. هبيب بن بهنسة بن سليم (6) 95. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 ابن هبيرة يزيد بن هبيرة. هبيرة بن شمرخ الكتابي [مشمرج الكلابي] (3) 85. هبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ (2) 462- 632- (6) 274. هتورة (6) 145. هجرس بن علي (6) 51. هجرس بن غانم بن هلال (6) 70. هجرس بن مرغم (6) 483. بنو الهجيج بن عمرو بن تميم (2) 375. هجيش بن جماز (6) 68. بنو الهجيم (2) 499. الهجيم السلمي (3) 283. هداج بن عبيد (6) 459. هداد بن بداد (2) 48. هداد بن الملطاط (2) 54. هداد ملك أدوم (2) 114- 130. هداغة (6) 119. هدبة بن فياض القضاعي (3) 16- 204. هدد بن بدد بن الخلجان (2) 23- 24. هدد بن زنكي (5) 58. الهدرجان بن مسلمة (2) 288. هدرماوت (حضرموت) (2) 11. هدرور ملك الأرمن (2) 114. الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الإذعار (2) 59- 66. هدويل ملك الفرنج (5) 173. هذرسيدان (4) 33. هذي بن سعدي (4) 687. هذيل (1) 162- 268- 765- (2) 61- 72- 284- 368- 379- 397- 443- 480- 500- 619- (3) 68- (5) 499- (6) 3. هذيل بن خلف بن رزين (مؤيد الدولة) (4) 200. الهذيل بن زفر بن الحرث الكلابي (3) 44- 45- 47- 99. الهذيل بن عمران (2) 499- 513- (3) 55- 56. أبو الهذيل العلاف (1) 603. الهذيل بن هاشم (4) 183. الهراج بن عبيد بن أحمد بن كعب (6) 81- 99- 100. الهراج بن مهدي بن محمد (6) 82. هراديوس بطرك انطاكية (2) 238. هراغة (6) 183. هراندة بن ادفونش (7) 328. هراندة بن ألفنش (4) 230- 231. هراندة بن مشانجة (7) 301- 328- 329. الهربذ صاحب بيت النار (2) 548- 558- 565. هرثمة ملك العرب (2) 145. ابن هرثمة (4) 392. هرثمة بن أعين (3) 272- 273- 277- 279- 284- 285- 286- 287- 288- 290- 291- 296- 298- 300- 301- 302- 303- 304- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 305- 306- 307- (4) 9- 10- 246- 247- 380. هرثمة بن عرفجة (2) 561. هرثمة بن النضر الجبليّ (4) 381. هردت أحد ملوك الهند (4) 486. هردوس بن منطرون بن رومي بن يونان (2) 221. هرزجة (هزرجة) (6) 271. هرغة قبيلة الامام المهدي (6) 299- 301- 303- 304- 359- 370. الهرغية (1) 36. هرقانوس (يوحنان) (2) 228. هرقانوس بن الإسكندر (2) 139- 140- 141- 142- 143- 144- 145- 146- 147- 148- 149- 150- 153- 158. هرقل (1) 116- 117- 198- 291- 471- 584- (2) 88- 209- 211- 265- 266- 267- 269- 270- 273- 282- 455- 478- 515- 516- 517- 518- 519- 538- 541- 542- 545- 546- 571- 574- (3) 283- 284- 422- (4) 287- (6) 140. هرقل بن قيصر (2) 265- 273. هرقل الجبار بن ملكان بن سلقوس بن اغريقش (2) 221. هرقل بن نوسطيونس (2) 265. (هرقل البطريق) هرقل بن هرقل بن انطونيش (2) 264- 265- 267. بني هرقلة (3) 284- 320. هرقليانوس (بقرونشوش) (2) 245. هرم بن حيان العبسيّ (2) 577. هرم بن حيان اليشكري (2) 577- 583- 596. هرم بن سنان بن غيظ بن مرة (2) 364. هرم بن قطبة (2) 364. هرمايوس بن شمعون (2) 137. هرمز (2) 212- 508- 519- 532- 538- (4) 430- 431. ابن هرمز (3) 105- 106. هرمز بن أنوشروان (2) 211- 262- 316. هرمز بن سابور (2) 203- 313. هرمز بن قرسين (2) 204. هرمز بن يزدجرد بن بهرام جور (2) 207. هرمز إفريد الحكيم (1) 419. الهرمزان (1) 303- (2) 528- 535- 536- 550- 551- 552- 553- 563- 570. هرمس (1) 52- (2) 7. هرمس بن هردوس (2) 221- 223. هرمس المصري (2) 85. ابن هرمة (1) 801. هرنة (هرغة) (6) 271. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 هرنجة من المصامدة (6) 251. هروس (5) 114. هروشيوش مؤرخ الروم (2) 193- 194- 253- 258- (5) 210- 518. هارون بن بهرام (3) 476- (4) 33- 444- 555. هارون بن التوتناش (4) 499. هارون بن حميد الأيادي (3) 245. هارون بن خمارويه (3) 413- 439- 443- (4) 397- 398- 399. هارون بن سليمان (3) 420. هارون بن سيما (3) 421- 431- (4) 288- 289. هارون بن شمس العجليّ (3) 245. هارون بن الطبني (هارون الطبني) عامل باغاية (3) 453- (4) 42- 260. هارون بن عبد الله البجلي (البلخي) (3) 411- 426- (4) 288. هارون بن غريب الحال (3) 466- 469- 471- 473- 476- 477- 485- 486- 487- 494- (4) 112- 113- 556- 558. (بقراخان) هارون بن قدرخان (بن طقفاج) (4) 514- 515. هارون بن محمد (3) 413. هارون بن المسيب (3) 306- 308. أبو جعفر هارون بن المعتصم محمد (3) 340. هارون بن المهدي (3) 268- 280. هارون بن موسى بن خليفة (6) 157. هارون بن الموفق (3) 429- (4) 25. هارون بن نوح (4) 504. هارون بن يونس (4) 40. هارون الشاربي (الشاري الساري) (3) 420- 430- 431- 433- 434- 435- 438- 513- (4) 288- 665. آل هارون المغمر (4) 287. الهروي (1) 619- 621. أبو هريرة (1) 303- 388- 389- 400- 572- 586- 596- 601- (4) 188- 478. أبو هريرة الدوسيّ (2) 562. هزارشب بن تنكير (شكر) بن عياض الكردي (3) 562- 563- 564- 569- 571- 573- 574- 576- 577- 578- (4) 338- 339- 357- 358- 650- 651- 653- 658. هزارشب بن عوض (3) 581. هزارمرد (4) 243. هزال (2) 23. بنو هزان (2) 8. هزرجة (هزوجة) (6) 304- 351- 370. هزرسندان (هروسندان) (4) 555. ابن هزرع (7) 334. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 هزميرة من بطون المصامدة (6) 299- 370. هزيلة بنت بكر (2) 23- 27. هزيم (6) 7. هزيمة بن أعين (3) 212. هستيوه (6) 196. هسكورة (الهساكرة) (6) 117- 122- 126- 182- 270- 271- 272- 273- 304- 311- 338- 339- 340- 342- 351- 354- (7) 279- 310- 459. هشام ابن هشام (2) 8- 58- 63- 290- 302- 335- (3) 217- (4) 217. هشام مولى المستعين (4) 206. ابن هشام الثائر بالجزيرة الخضراء (7) 253- 663. هشام بن إسماعيل المخزومي (3) 73- 75- 173. هشام بن أبي حذيفة (2) 388- 437. هشام بن حكيم (2) 389. هشام بن ساحق بن عامر (3) 97. هشام بن سعيد (3) 266. هشام بن سليمان بن أمير المؤمنين (الناصر لدين الله) (4) 187- 190- (5) 140. هشام بن صبابة الليثي (2) 445. هشام بن العاص (2) 386- 415- 516. هشام بن عامر (2) 549- 596- 609. هشام (محمد) بن عبد الجبار (1) 234. هشام بن عبد ربه الفهري (4) 153. هشام بن عبد الرحمن الداخل (4) 156- 171. هشام بن عبد القادر بن ابان بن عبد الله (4) 157. هشام بن عبد الملك (1) 258- 463- (2) 271- 272- 297- 367- (3) 84- 94- 101- 105- 106- 108- 111- 112- 114- 116- 118- 119- 120- 121- 123- 125- 126- 129- 131- 133- 205- 206- 263- (4) 3- 144- 149- 156- 157- 238- 239- 379- (6) 144- 145- 156- 185- 276- (7) 620. هشام بن عمر الثعلبي (3) 164- 249- 250- 253- 254. هشام بن عمرو بن الحرث من بني حسل بن عامر بن لؤيّ (2) 414. هشام بن عميرة بن الوليد (3) 244. هشام بن فرخسرو (3) 278. هشام بن كليب (4) 180. هشام بن محمد (4) 173. ابو المنذر هشام بن محمد (ابن الكلبي) (1) 7- 16- (2) 9- 11- 14- 24- 27- 31- 55- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 58- 59- 60- 67- 69- 70- 73- 102- 125- 182- 183- 184- 189- 191- 192- 200- 202- 203- 206- 211- 214- 284- 290- 295- 297- 309- 312- 313- 315- 316- 320- 325- 326- 332- 354- 355- 478- (6) 34- 43- 54- 78- 95- 113- 117- 123- 139- 195- 201- 202. هشام بن محمد بن السائب (2) 297. هشام بن مضاد (3) 136. هشام بن هبيرة (3) 173. هشام المؤيد بن الحكم المستنصر خليفة قرطبة (1) 40- 234- 757- (4) 106- 178- 185- 186- 187- 189- 190- 191- 201- (6) 238- (7) 25- 41- 43- 45- 49- 50- 72- 664- 709. هصيص بن كعب بن لؤيّ (2) 386. هكارة (6) 185. الهكارية (4) 673- (5) 205- 271. بني هلال هلال الهلاليين (1) 188- 463- (2) 363- 369- 370- 645- (3) 152- 212- 338- (5) 148- 234- 546- (6) 5- 6- 14- 16- 17- 18- 19- 21- 24- 29- 34- 78- 79- 136- 187- 211- 255- 256- 329- 374- 382- 383- 403- 422- 423- 485- 533- 534- 560- 585- 606- 614- (7) 58- 67- 180- 602. ابو هلال صاحب بجاية (7) 133. هلال بن ابزيا (6) 165. هلال بن أحوز التميمي (أهوز) (2) 375- (3) 100. هلال بن أمية بن واقف (2) 469. هلال بن بدر بن حسنوية (3) 461- 466- (4) 402- 622- 623- 624- 688- 689- 689- 690- (6) 357. هلال بن حسن (6) 65. هلال بن حميد (6) 341. هلال بن حميدان بن مقدم (6) 40. هلال بن رياح (6) 54. بني هلال بن عامر (1) 810- (2) 357- 369- (4) 70- 129- (5) 336- (6) 14- 15- 22- 29- 43- 54- 107- 112- 114- 453- 586- (7) 82. هلال بن عبد الله الحضرميّ (3) 292. هلال بن عبد الله بن عبد مناة (ابن خطل) (2) 385. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 هلال بن عقبة (2) 513. هلال بن علقمة (2) 535. هلال بن عليّة (3) 178. هلال بن عمر (1) 391. أبو هلال بن محمود بن قائد (6) 101. هلال بن مخلوف (6) 272. هلال بن مردنيش (6) 322. هلال بن المكتفي (3) 442. هلال بن وكيع (2) 617. هلال القطاني (القطلاني) (7) 139. هلال المولى (7) 141- 148- 149- 150- 151- 383- 384. الهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة (3) 65. همام الهمام (2) 360- (4) 644. فخر الدين همام (4) 97. أبو اللقاء همام (3) 561. ناصر الدين همام (4) 97. همام بن مريح (مرمح) (6) 61- 62. بني همدان (2) 28- 70- 292- 300- 301- 305- 471- 475- 632- 648- (3) 14- 15- 61- 62- (6) 3- (7) 691. همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة (2) 300. بني همدان بن يافث (2) 11. همدان بن يعفر بن السكسك بن وائل (2) 359. الهمرج بن زين العابدين بن عبد الله العقيقي بن الحسين (4) 143. الهمرجان (2) 319. ابن همشك صهر ابن مردنيش (6) 319. همغري أخو طغرك (3) 559. هميان بن عدي السعدي (3) 60- 61. الهميسع (2) 5. الهميسع بن حمير بن سبإ (2) 290. بني الهميسع بن حمير أبين بن زهير بن الغوث (2) 54- 55. الهميسع بن يمن بن قيدار (2) 52. هناطة بن ورتناج بن ورصطف (6) 120- 170. هنان بن جابر بن جامع (6) 97. هنتاتة (6) 251- 271- 272- 273- 299- 303- 304- 306- 309- 324- 338- 339- 346- 359- 360- 364- 365- 367- 370- 381- 383- 406- (7) 103- 379- 452- 506- 523. هند بنت الحرث بن عمرو (2) 316- 321- 326- 328- 437. (أبو هاله) هند بن زرارة (2) 375. هند بنت زيد مناة بن زيد الله (2) 315. هند بنت عتبة (أم معاوية) (2) 390. هند بن عمرو الجعلي (2) 547- 560- 614. هند بنت المهلب (3) 81- 100. هند بنت المهلهل (2) 358. هند بنت النعمان (2) 320. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 هند بن أبي هالة (2) 622. هندو بن زنكي (5) 58. هندوخان بن ملك شاه (4) 529- 530- 531- (5) 113- 115- 116- 117. هندي بن سعد (3) 546. هنزولة (6) 119. هنشبة بن يملول (6) 166. الهنشة بن بطرة (4) 231. الهنشة بن هراندة (7) 329- 387- 402. هنغري ابن هنغري (5) 344- 359. هنوا (6) 272. الهنود (1) 706- 730- (4) 480- 487- 489- 490. بني هني بن عمرو بن الغوث بن طي (2) 303. الهنيد بن عوض (2) 478. هنين (7) 435. هوار بن اوريغ بن برنس (6) 118- 182- 183. هوارة (1) 77- (2) 277- 573- (4) 17- 48- 53- 55- 204- 243- 248- 257- (5) 535 (6) 5- 6- 101- 114- 117- 118- 119- 122- 123- 128- 134- 135- 136- 145- 146- 147- 149- 151- 153- 158- 159- 164- 182- 183- 185- 187- 188- 190- 192- 205- 212- 262- 270- 310- 380- 428- 507- 543- 563- 615- (7) 15- 19- 20- 144- 181- 225. هوازن (2) 367- 368- 402- 407- 462- 463- 464- 465- 466- 490- 491- 495- 496- 497- 498- 525- (3) 4- (4) 277- (6) 3- (7) 621. هوازن بن منصور (2) 365- 367. الهواشر (5) 436. الهواشم (4) 13- 129- 130- 131- 132- 140. هوبيل بن مرّة (2) 26. الهوثين (1) 423. هود عليه السلام (1) 525- (2) 23- 26. ابن هود بني هود (1) 207- 208- (2) 20- (4) 191- 205- 207- 216- 230- (6) 248- (7) 108- 227- 250- 251- 253- 260. هود بن عامر بن شالخ بن ارفخشذ (2) 23- 24. هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد (2) 23. هود بن عبد الله بن موسى بن سالم (4) 206. هود بن قيس (2) 441. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 هود بن علي الحنفي ملك اليمامة (2) 210- 359- 377- 449- (4) 284. هوشيع النبي (2) 120. أبو الهول (أبو الهون) بن حمزة بن عمر (6) 102- 519- 520- (7) 362. أبو الهول بن يعقوب بن عبد السلام (6) 108- 525. بني هولاكو (2) 20- (5) 493- 494- 503- 506- 573- 599- 602- 607- 610- 613- 622- 623- 624- 629- 631- (7) 726. هولاكو (5) 198- 200- 201- 325- 423- 424- 425- 437- 438- 439- 441- 444- 445- 446- 466- 481- 489- 596- 598- 599- 601- 604- 605- 616- 624- 631- 632- (7) 736- 739. هولاكو بن طوي خان بن جنكزخان (5) 257- (7) 693- 724- 725. هولاكو بن طوي خان بن دوشي خان (1) 369- 420- (3) 662- 663- (4) 104- 123- (5) 98- 613- 614- 615. ابن هومر بن عمليق (2) 30. بنو الهون بن خزيمة بن مدركة (2) 381- 437. هويشيع بن إيليا من سبط كاد (2) 132. أبو هياج بن مالك (2) 550. الهياطلة الصغد (2) 11- 207- 208- 209- 210- 258- (3) 71- (5) 5. هيب الهيب (2) 362- 364- 367- (6) 5. هيث (6) 261. ابن الهيثم (1) 641. الهيثم بن التيهان (2) 346. أبو الهيثم (مالك) بن (التيهان) (2) 417- 419- 606- 611. الهيثم بن شعبة بن ظهير (3) 221- 234- 249- 297- 323. الهيثم بن شهاب (2) 614. الهيثم بن عبد الله بن المعتمد العدوي (4) 288. الهيثم بن عبد الله بن المعمر (العمر) الثعلبي العدوي (3) 387. الهيثم بن عبيد الله الكناني (3) 176- (4) 149. الهيثم بن معاوية العكي (3) 233- 252- 253. الهيثم الشيبانيّ (3) 109. الهيثم العجليّ (3) 356- 428. هيثوم بن قسطنطين (5) 445- 446- 447- 481. هيثوم الأعور بن ليون (5) 482- 492. أبو الهيجاء صاحب أربل (3) 612- (4) 366- (5) 204- 251. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 أبو الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة (3) 481- (4) 125. نجم الدين أبو الهيجاء بن خشترين الكردي (5) 438. أبو الهيجاء بن ربيب الدولة (4) 673. حسام الدين أبو الهيجاء السمين [الأمير] (3) 655- 656- (5) 305- 306- 339- 349- 350- 372- 377- 381- 386. أبو الهيجاء بن موشك (برشك) الكردي الهدباوي (5) 21- 45- 48- 50- 54- 65- 189- 223. بنو هيرودوس (1) 289- (2) 134- 174- 238. هيرودوس ملك اليهود (1) 289- 242- (2) 169- 170- 171- 172. هيرودوس بن ارستبلوس (2) 157. هيرودوس بن انظفتر (2) 144- 149- 150- 151- 152- 153- 154- 155- 158- 167- 236. هيزونة (هنزونة) (6) 183. هيصم بن جابر الضبعي (3) 182- 419. هيف (6) 27. بني هيكل بن ملاعب (6) 107. هيلانة (قبيلة من المصامدة) 299- 305- 311- 356. هيلانة أم قسطنطين (1) 443- (2) 175- 177- 239- 249- 252- 253. هيلانة بنت مخشميان قيصر (2) 250. هيوارة من بني يملول (6) 166- 183. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 حرف الواو (و) ابو وائل (1) 390- 440. وائل 9 بطن من الأوس) (2) 56- 345- 346- 418- 509- (3) 153- (4) 279- 283. وائل بن حجر بن سعيد (سعد) بن مسروق بن وائل الحضرميّ (2) 292- 293- 295- 476- 477- 557- (3) 15- (4) 172- (7) 502. بنو وائل بن حكيم (6) 107. وائل بن زيد بن قيس بن عامر (2) 322. وائل بن قاسط بن هنب (2) 358. الواثق (محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبو الحسن (4) 224- (7) 467- 468- 469- 473- 475. أبو بكر الواثق (محمد بن المتوكل) (4) 214- 215. أبو بكر الواثق بن هود (4) 212- 214- 215. الواثق باللَّه بن المعتصم (أبو جعفر هارون بن المعتصم) (1) 100- 194- (2) 273- (3) 337- 338- 340- 342- 344- 358- 371- 611- (4) 381. الواثق باللَّه (المعتمد على الله) (يحيى بن المستنصر المخلوع) (6) 352- 353- 357- 419- 433- 434- 435- 436- 437- 442- 443- 455- 456- 607- (7) 120- 239- 295. الواثقي (4) 112. واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حمير (2) 58- 290. واثلة بن الأسقع بن عبد العزى (2) 381. واجن الأشروسي (3) 339. واجوس (2) 245. وادفل بن عبو بن حماد (7) 173. بني وارث (6) 202. بني وارثين (وارتين) (6) 270- 274. وارد يرن بن ورسيك (7) 7. بني وارزكيت (6) 278. وارقيس (3) 167. واركسن (وارمسكن) (6) 197. واركلان (6) 122. بني واركلة (6) 424- (7) 18- 68- 69. واركلى (7) 438. بني واركوا من زناتة (7) 14- 15- 17- 23- 31. واريغن بن واشروجن (7) 6. بني وازكلدن (6) 403. بني واسن (6) 283. بني واسكيت (6) 305. بني واسول بن مصلان بن أبي نزول (4) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 56- (6) 171. بني واسى (4) 49. بني واسين (7) 6- 7- 10- 14- 19- 78- 79- 80- 82- 83- 84- 250- 341. بني واسين بن ورسيك بن جانا (7) 7. بني واسين بن يصلتن (7) 77. واشروجن (7) 6. ابن واصل (3) 390- 391- 426- (4) 687. بني واصل (3) 546. ابن أبي واصل (1) 403- 404- 405- 406. واصل العنبري (3) 72. واصل بن عطاء الغزالي (1) 248- 603- (3) 216. واصل بن ياس (6) 275. الواصلية (6) 159. بني واصمع (6) 265. واضح (6) 179. واضح العامري (4) 191. واضح المولى (7) 43. واضح المسكين مولى صالح بن المنصور (4) 8- 14- 187. ابن واطاس (6) 502. بني واطاس (6) 533- 595- (7) 78- 286- 287- 532. بني واطيل من زواغة (6) 120- 134. بني واطيل بن زحيك بن زواغ (6) 170. ابن أبي واطيل (1) 407. واغمرت (7) 7- 8. واقد بن عبد الله بن زيد مناة (2) 426. الواقدي (محمد بن عمر) (1) 4- 198- 554- (2) 393- 401- 440- 453- 519- (3) 170- (7) 681. واقف بطن من الأوس (2) 346- 418. واقف بن امرئ القيس بن مالك (2) 342. واكريكيش (6) 127. بني واكين (7) 69. والغة من بني يملول (6) 166. والنطوس بن واليس (2) 255. واليش (واليس والياش) (2) 254- 255- 256. واليطانش فلنسيان (2) 256. واليطينوس قيصر (2) 254- 255. بني أبي واليل أصحاب معرّة من زناتة (6) 228. وامن ملك الترك (2) 184. بني وانتن بن ورسيك بن جانا (7) 77. ابن وانثبق بن بيزا (6) 242. وانجذ بن رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص (6) 119. ابن أبي وانس (6) 314. وانشريش (7) 412. الوانشمند (5) 188- 631. بني وانودين (6) 243- 244. وانودين بن خزرون بن فلفول (7) 46- 50- 51. وانودين المغراوي (6) 246. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 وبار بن أميم لاوذ بن سام (2) 32- 309. وبدوا (وندوا) (3) 329. وبر بن يحنس (2) 483- 493. وبرة بن تغلب (2) 296. وتريكة من الملثمين (6) 241. وتنطق من لمتونة (6) 241. بني وتيد بن دمّر (7) 7. بني وثاب النميريين (4) 341- 411. وثاب بن محمد بن مرداس (4) 341. الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس (5) 171. بني وجديجن (6) 154- (7) 7- 8- 10- 14- 66- 67- 204. وجه السبع (مظفر الدين) (5) 103- 145. وحشي مولى جبير بن مطعم بن عدي (2) 436. وحشي مولى طعيمة بن بدر (2) 391. ابن وحشية (1) 695. بنو الوحيد بن كعب بن عامر (2) 370. ود بن يزيد بن ثعلبة بن الخزرج (2) 418. وداع بن حميد الازدي (3) 99- 100. وداعة بن عمرو (2) 332. ودي بن جماز (4) 138. بني وديد (6) 275. بني وديعة (3) 318. بني ورا (6) 347- 431- 434- (7) 243. وراغ بن محمد بن ورزين (7) 220. بني وراق (رواد) (7) 32. بني ورام (3) 578. ورام بن أبي فراس بن ورام (4) 362. ورام بن محمد (4) 687. وربر من مكناسة (6) 120. وربهامة (وزمانة) (6) 186. بني ورتاتين (زناتين) من دمّر (7) 7- 70. بني ورتاجن (6) 603- (7) 73- 77- 79- 90- 129- 224- 290- 293- 307- 456- 465- 516- 634. ورتاجن بن ماخوخ (7) 78. ورتاكط (6) 183. بني ورتانطق بن منصور بن وصالة (6) 242. بني ورتجين بن تليكشان (ورنجين ورتجن) (6) 122- 161- 162. ورترين بن دحية بن ولهاص بن تطوفت (6) 119. ورتزر (6) 275. ورتزمين (ورتزمير) (7) 32- 85- 115. ورتطغير (7) 76. ورتطليم بنت عبد الحق (7) 224. ورتكا (راكن بن ورتنطق) (6) 241. ورتناج بن ورصطف بن يحيى (6) 120. ورتناجة (6) 170. بني ورتندي (6) 283. بني ورتنيص (7) 8. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 ورتنيص بن جانا (7) 66- 67. ورثيفة من مكناسة (6) 120. ورجيع (7) 85. ورجين (6) 183. ابو الورد (3) 219- (4) 304. بني الورد (6) 226- 318. ورد بن حفص (4) 594. ورد بن زياد (4) 594. الورد بن عبد الله بن حبيب السعدي التميمي (3) 100. ابو الورد بن الكوثر بن زفر بن الحرث (3) 141. ورد بن مجالد بن علقمة (2) 378. ورد بن منير البطريق (2) 275- (4) 317- 318- 599. ورد الرومي (4) 315. وردان (2) 646. وردان خذاه (3) 77. وردغروس (6) 119. وردن من نغزاوة (6) 119. بني وردنوس (وريدوس) (6) 170. ابن الوردي (4) 559. ورديس بن لاون (2) 275- (4) 317- 599. ورديقة (6) 42. ورسقلاسن (6) 161. ورسيف من نغزاوة (6) 119- 150. بني ورسيفان (6) 231- 307- 371- 420- (7) 7- 74- 85. بني ورسيفين (6) 308- (7) 115. بني ورسيك (ورشيل) بن الديرت بن جانا (7) 6- 7- 70. ورسين من يسودة بن كتم (6) 196. بني ورصطف (من قلدن) ابن يحيى (6) 170- 180- 183- (7) 96. قبيلة ورغروسة (7) 53. بني ورغة (6) 154- 183- (7) 70. ورفجومة (وربجومة) بن نيرغاس بن ولهاص (4) 242- 244- (6) 146- 148- 150- 151- 159- (7) 16- 20. بني ورفل من ملك بن اوريغ (6) 118. بني ورفلاس (6) 170. ورقاء بن سمي البجلي (3) 15. ورقاء بن عازب الاسدي (الازدي) (3) 32- 38. ابن ورقاء الشيبانيّ (3) 507. ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي (2) 406. ورقطنة (ورنيقة) (6) 170. ورقلة (وركلة) (6) 187- (7) 6. وركول (6) 119. ورماس (ورماكسن) بن لوا (6) 161. ورمجوسة (رفجومة) (6) 119. بني ورميغان (7) 32. ورندين بن داحية بن ولهاصة (6) 150. ورنشيط (6) 161. بني ورنيد (7) 10- 202. بني ورنيدين بن وانتن (7) 70- 71. بني ورنيسن بن وانتن بن دارديرن بن دمّر (7) 7. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 ورنيفن (ونيفن) (6) 183. بني وروا (فخذ من مغراوة) (7) 62- 64. وروا بن سعيد (7) 55- 56. بني ورياغل (ورياكل) (6) 150- 167- 235- 274- 284- 302- (7) 383. وريكة (6) 244- 299- 359- 365- 370. وريكول بن تليكشان (6) 161. وريكول بن لوا (6) 161. وريمت (ورنمت) (7) 77. وزداج (6) 191. بنو وزروكال من غمارة (6) 281. وزلجة (6) 168. وزمار كبير بني توجين (6) 137. بني الوزير (7) 507- 532. الوزيري (4) 348- 349. ورسطيف من قلدن بن اوريغ (6) 118. وسناف بن محيو (7) 223- 486. بني وسيل (7) 205. وسيلة أخت الملك الصالح (5) 341. بني وشاح (6) 603- (7) 79. وشاح بن بكير بن وشاح (3) 121. وشاح بن عامر (6) 111- 112- 113. وشاح بن عطوة بن عطية (6) 32. وشاح بن هلال (6) 41. وشكين (4) 33. وشمكير بن وزيار (زيار) (3) 491- 492- 499- 502- 503- 504- 505- 507- 513- 552- 658- 659- 660- 661- 662- 665- 666- 667- (4) 437- 447- 448- 451- 453- 454- 455- 456- 457- 458- 552- 559- 561- 562- 563- 565- 569- 575- 576- 578- 579- 582- 586. وشمكين من زواغة (6) 120. وصالة بن حبوس بن منازل (6) 171. وصيف [التركي] (1) 33- 230- (3) 355- 356- 362- 363- 366- 368- 370- 374- 375- 376- 440- (4) 427. وصيف الصغير (3) 350. وصيف الكبير (3) 350- 353. وصيف بن سوارتكين (3) 448- 481- (4) 111. وصيف بن فرح (3) 341. وصيف البكتمري (3) 460- 461- 463- 479- 482. وصيف القسوري (4) 289. الوضاح (3) 300. ابن وضاح (7) 105. بني وطاط (وطاطا) (6) 134- (7) 65. وعلة بن مجدوح الأهلي (2) 614. أبو الوفاء (5) 180. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 وفا ملك الحسن (5) 143. أبو الوفاء خليفة بهرام بدمشق (4) 122. أبو الوفاء بن عقيل (5) 26- 212. بني وقاصة (7) 315. وقتات المهدوي (5) 236. الفقيه وكاك بن زيرك (وكاك بن زولو) (6) 270. وكيع بن الجراح (1) 396. وكيع بن زفر (3) 47- 87- 88. وكيع بن مالك (2) 498- 499- 504. الولادة (بنو ولادة بن محمد) (6) 68. ولخص من حاحة (6) 299. ولطوسيح (2) 43. ولكين (4) 630- 631- 634. بني ولّلوا (7) 96. ولهاصة (6) 119- 138- 150- 151- 152- 165- 168- 428. الشيخ ولي (أمير ربيعة) (5) 573- 574- 602- 610- (6) 16. الوليد (2) 413- 515- 637- (3) 4- 79- 82- 83- 85- 86- 94- 211- 217. أبو الوليد الباجي (1) 567. الوليد بن الحجاج (3) 80. الوليد بن الحكم (4) 162. الوليد بن دومغ (دومع) (2) 31- 85- 86. القاضي أبو الوليد بن رشد (6) 330. الوليد بن رفاعة (4) 379. الوليد بن سعد مولى بني هاشم (3) 161. السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد (7) 189- 336- 344- 488. الوليد بن طريف بن عامر (2) 358- (3) 212. الوليد بن العاص (2) 437. الوليد بن عبد الرحمن (3) 131- 132. الوليد بن عبد الملك (1) 439- 443- 513- (2) 271- 273- 283- 367- 585- (3) 43- 68- 72- 73- 74- 76- 79- 82- 89- (4) 147- 236- 379- (5) 462- (6) 139- 283- (7) 618. وليد بن عتبة بن أبي سفيان (3) 19- 24- 25- 26- 170- 171. الوليد بن عثمان (2) 608. الوليد بن عقبة (1) 269- (2) 390- 429- 515- 518- 546- 547- 571- 572- 581- 589- 607- 627- 629. الوليد بن عقبة بن أبي معيط (2) 446- 449. الوليد بن القعقاع العبسيّ (3) 111. الوليد بن مصعب بن أبي أهون بن البهلوان (2) 31- 86. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم (3) 141- 142- 163. وليد بن مغيث القاضي (4) 183. الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم (2) 388- 412- 423- (4) 379. الوليد بن نجيب الكلبي (3) 63. الوليد بن هشام (3) 168- (6) 23. الوليد بن هشام (3) 168- (6) 23. الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الداخل (أبو ركوة) (4) 70- 71. الوليد بن هشام المعيطي (3) 90. الوليد بن الوليد (2) 429. الوليد بن يزيد (2) 367- (3) 101- 129- 168- 177- (4) 239- (7) 598. أبو الوليد القروالي (3) 353. أبو الوليد الوقشى (1) 526. بني وليعة (2) 476. وليعة بن مدثر (2) 63- 65. بني وماثو (ومانو) (6) 134- 233- (7) 67- 73- 74- 75- 82- 83- 85- 96- 97- 265. بني وماتي (7) 7. ونّا (6) 239. ونداد بن أحمد بن علي (4) 600- 684- 685. وندان بن ايرج (2) 184. بني ونزمار (وترمار وتزمان) (7) 85. ونزمار (وزمار) كبير بني توجين (6) 137. ونزمار (وزمار) بن إبراهيم زعيم بني راشد (6) 137- (7) 203. ونزمار (وزمار) بن صقلاب (6) 141. ونزمار (وزمار وترمار) بن عريف (6) 63- 64- 70- 73- (7) 154- 157- 158- 168- 169- 170- 175- 176- 177- 179- 180- 188- 189- 190- 202- 216- 343- 368- 376- 377- 381- 412- 426- 435- 436- 437- 450- 454- 455- 461- 465- 471- 473- 579- 580- 581- 631- 634- 636- 637. ونزمار بن عمران (7) 203. ونزمار بن معروف (وترمار) (7) 218. ونزمار (وزمار) بن مولات (6) 136. بني ونكاسن (6) 534- (7) 169- 311- 419- 425- 426- 459- 468- 533. بني ونكاسن بن فكوس (7) 220. ونور بن هربيل بن حديلان (6) 122. ونيفن (ونيقش) (6) 186- 187- (7) 154. أبو الوهاب (1) 445. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 ابن وهب (1) 558. وهب مؤدب الأساورة (2) 215. وهب بن حماد من مزيد (4) 355. وهب بن عبد الله النسائي (3) 278. وهب بن منبه (1) 412- 413- 555- (2) 8- 102- 136- 171. الوهبية (6) 447. وهرز عامل اليمن (وهزر الديلميّ) (2) 73- 74- 75- 76- 210. وهشوذان (4) 330- 410- 493- 666- 667- 669- 670- 671. ابن وهشوذان (4) 637. وهشوذان بن حسان [جستان الديلميّ] (3) 513- 558- (4) 26. وهشوذان بن غلاك (4) 673- 674. وهيب بن عبد الرحمن الازدي (3) 81. بني ويجفش (7) 7- 10. بني ويغلان (6) 357- (7) 456. ويغلان بن علناس (أخ الناصر) (6) 229- 232. ويفرن بن مسعود بن يكمثين (7) 97. ويمتدين (4) 85. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 حرف الياء (ي) يأجوج (1) 99- 100- 102- 106- (2) 8- 11- 12- (5) 5. يأنس (3) 517. يأنس الحافظي أمير الجيوش (4) 90. يأنس الصقلي (4) 69- (6) 613- (7) 55. يأنس العزيزي صاحب الشرطة (4) 72. يأنس المؤنسي (4) 294- 296- 404. يائير بن كلعاد من سبط منشى (2) 104. بني يادين بن محمد (6) 28- 29- 54- 59- 134- 136- (7) 75- 78- 79- 83- 96- 106- 202- 204- 207- 220- 221- 248. يارجوج (ياركوج) التركي (3) 376- 379- 383- 424- (4) 23- 383- 384. يارخنكين (4) 69. اليارونية (5) 137. اليازوري (6) 94. ياسر بن بلال (4) 276- (5) 337. ياسر بن الحرث بن عمرو بن يعفر (2) 63. ياسر بن ذا الإذعار (1) 16. ياسر الفتى (4) 181. ياسين العجليّ (1) 396. يافث بني يافث (1) 107- (2) 8- 9- 11- 12- 14- 218- 220- (5) 4- 5- 584. يافث بن نوح (5) 210- 427- 635- (6) 424- (7) 719. الياقم الكوهن (2) 197. ياقوت ابن ياقوت (3) 470- 473- 484- 495- 496- 573- (4) 562- 563- 565- (6) 257- 258. سنان الدين ياقوت (5) 199- 631. ياقوت الحموي (4) 122- (6) 274- (7) 90- 209- 621- 721- 722. ياقوت مولى الناصر وأمير الحاج (3) 657- (4) 447. ياقوني (3) 571- 592. ياقوتي بن أرتق (5) 17- 26- 42- 43- 44- 211- 248- 249- 250- 262. ياقوتي بن تنكير (4) 338. ياقيس بن إسماعيل (2) 394. ياقين ملك كنعان (2) 103. بنو يام بن أصغر بن مانع بن مالك (2) 300. بني يامدس (يالدس) (7) 75- 76. بنو يامين (1) 441. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 يامين بن عمير بن جحاش النضيري (2) 439- 467. يانش بن شيث بن آدم (2) 7. اليانشتي (اليانشي) (6) 344. ياهو بن منشا (2) 130- 131. ياهو عشا (2) 118. ياوان (2) 11. بني ياورار (6) 534- 535- 538- 546. ياور شاه (ركن الدولة) (5) 129. يبساطن بن يصلتين (6) 171. بني يبقى (6) 69. يبقى بن علي أمير زغبة (6) 217. يبوسا (2) 12. اليتامى أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف (6) 33. غياث الدين يترشاه صاحب كرمان (5) 130- 139- 140- 141- 143- 144- 145- 147- 148- 149- 150- 153- 154- 163. يتغمش (4) 123. بني يتين (يتيسن) (6) 202. يثرب بن ابائلة بن مهلهل بن عبيل (2) 24. يثرب بن فانية بن مهلهل بن ارم (2) 340. يثرب بن قائد بن عبيل (2) 340. يثرب بن مهلائيل بن عوص بن عمليق (1) 444- (2) 24. يحكم الرائقي (3) 499- 501- 502- 503- 504- 505- 506- 508- 509- 510. يحمد من يصلاسن (6) 161. يحناك (1) 101. ابن يحيى صاحب مليلة (4) 202. بنو يحيى (1) 811- (6) 96. بنو يحيى الارمني (4) 382. يحيى (أخو انكلاي) (4) 26. يحيى (أخو السفاح وزير آل محمد) (3) 222. يحيى عم المهدي (4) 14- 19. (المأمون ابو الحسن) يحيى (4) 204. ابن يحيى سلطان تونس (1) 836. ابو يحيى بن إبراهيم (6) 65. يحيى بن إبراهيم بن أبي العيش (4) 20. يحيى بن إبراهيم الكندالي (6) 242- 243- 252. يحيى ابن الشيخ إبراهيم الهزرجي (6) 332. ابو يحيى بن أحمد (6) 589. يحيى بن أحمد بن إسماعيل (4) 445- 446- 447. يحيى بن أحمد بن سامان (4) 433. يحيى بن أحمد بن علي النسابي (5) 595. ابو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ بني محمد بن مسعود (6) 51- 52. يحيى (الهادي) بن أحمد (الناصر) (4) 140. يحيى بن إدريس (4) 195- (6) 176. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 يحيى بن إدريس بن إدريس بن عمرو (4) 47. يحيى بن إدريس بن عمر (4) 14- 16- 18- (6) 289- (7) 34. يحيى بن أرقم بن محمد بن مردنيش (6) 344. يحيى بن إسحاق المرواني (4) 176. يحيى بن أبي إسحاق (4) 211. الأمير أبو زكريا (السلطان) ابن السلطان أبي إسحاق من آل أبي حفص (6) 45- 69- 97- 99- 112- 220- 262- 263- 437- 440- 443- 444- 449- 450- 452- 453- 454- 458- 459- 461- 464- 465- 466- 469- 475- 486- 493- 497- 498- 504- 505- 510- 515- 516- 544- 550- 552- 565- 586- 588- 607- 614- (7) 120- 124- 130- 133- 144- 199- 383. يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي (6) 253- 254- 257- 258- 307- 326- 332. يحيى بن أسد (3) 389- (4) 432. (القادر) يحيى بن إسماعيل بن المأمون (4) 204. يحيى بن الأشعث (3) 287. يحيى بن الاطاس التينمللي (6) 379. يحيى بن أبي الأعلام (6) 461. يحيى بن أكثم (1) 25- 26- 277- (2) 272- 375- (3) 320- 345- 348- 349. يحيى بن بقي (1) 818- 840. الأمير أبو يحيى بن أبي بكر (6) 557- (7) 590- 591. يحيى بن أبي بكر الصحراوي (6) 309- 311. يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين (6) 250- 428. ابو يحيى بن بكيث (يكيت) (6) 304- 370. يحيى بن بكير (7) 684. يحيى بن تميم بن المعز بن الرند صاحب قفصة (5) 240- (6) 213- 220. يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس (3) 161- 162- 251- 254- 366- 426. يحيى بن جلال الدين (5) 620. يحيى بن حارث (6) 157. يحيى بن الحسن بن علي (5) 236. ابو يحيى بن أبي الحسين بن أبي عمران (6) 335. يحيى بن الحسين بن القاسم الرسىّ (3) 352- (4) 12- 139- 269. يحيى بن حصين بن صالح مولى عمرو بن العاص (3) 122. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 (ابو زكريا) يحيى بن أبي حفص (1) 208- 333- 362- 809- (6) 332. ابو يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص (7) 245- 246. يحيى بن الحكم (2) 621. يحيى بن حكم بن هشام بن خالد بن ابان بن خالد بن عبد الله بن عبد الملك بن الحرث بن مروان (4) 175. نظام الدين يحيى بن الحليم نور الدين عبد الرحمن الصيادي (5) 596. يحيى بن حماد (4) 208. يحيى بن حمزة بن شعيب بن محمد بن أبي مدين (7) 378. يحيى بن خاقان الخراساني (3) 348. يحيى بن خالد بن أبي إسحاق (6) 470- 471- 588. يحيى بن خالد بن برمك (1) 21- 22- 222- 327- 431- 432- (3) 265- 266- 269- 271- 272- 273- 280- 281- 286- (4) 35. يحيى بن خلدون (6) 394- (7) 186. يحيى بن داود (7) 118- 381- 382- 398. يحيى بن داود بن سليمان (6) 533. يحيى بن داود بن مكن (فكن) (7) 161- 167- 371. بنو يحيى بن دريد (6) 424. يحيى بن ذكرويه (4) 109. يحيى بن ذي النون (1) 840. يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي (6) 539- 540- (7) 157- 158- 376- 392- 393- 394- 415- 416- 417- 419- 421- 422- 423- 475. يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان) (2) 168- 169- 171- 172- 198- 237- 543. (ابو زكريا) يحيى بن زكريا (3) 419- (6) 462- 470- 540. يحيى بن أبي زكريا (4) 212. ابو يحيى بن زكريا (6) 395- 398. ابو يحيى بن أبي زكريا (7) 245. يحيى بن زياد بن حيان النبطي (3) 130- 245. يحيى بن زيد (3) 125- 152- 260- 265- 352. يحيى بن زيد بن زين العابدين (2) 375. يحيى بن زيد الشهيد (4) 11. يحيى بن زيد بن علي (1) 250- 251- (4) 3. يحيى بن سامان (4) 559. يحيى بن سباع (6) 46. يحيى بن سعد الله (6) 364. يحيى بن سعيد (1) 415- (3) 43- 45- (7) 680. يحيى بن سعيد بن بسيط بن شكر (6) 34. (ابو زكريا) يحيى بن سعيد السوسي (3) 516. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 يحيى بن سلمى (سلمة) الكلبي (3) 175- (4) 149. يحيى بن سليمان (6) 356- 521- (7) 356- 357. يحيى بن سليمان الأمير (3) 387- 388- 425. يحيى بن سليمان العسكري (7) 339. يحيى بن سليمان الكاتب (4) 109. يحيى بن شاه ولي (5) 629- 630. يحيى بن شعيب (7) 529. (تاج الدين) يحيى ابن الشهرزوريّ (5) 279. ابو يحيى بن الشهيد (6) 401. يحيى بن الصائغ اليهودي (4) 225. (ابو زكريا) يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاني (6) 383- 428- (7) 239- 295. يحيى بن أبي محمد صالح (6) 551. يحيى بن صالح بن عمر بن صالح (7) 209. ابو يحيى بن أبي الصبر (7) 313. بنو يحيى بن ضري (6) 120. يحيى بن ضريس (6) 200. يحيى بن طالب بن مهلهل (6) 107- 572. يحيى بن أبي طالب (7) 301- 325. ابو يحيى بن أبي طالب العزفي (7) 488. يحيى بن طلحة بن محلى (6) 326- 327- (7) 337- 465. يحيى بن أبي طلحة (6) 254. يحيى بن عامر (7) 446. ابو يحيى بن عامر (6) 364. يحيى بن عبد الحق (7) 278. السلطان أبو يحيى بن عبد الحق (ابو يحيى بن يعقوب بن عبد الحق) (1) 423- 812- (6) 198- 324- 325- 329- 330- 333- 346- 347- 348- 349- 417- 472- (7) 90- 91- 101- 121- 125- 134- 136- 138- 142- 143- 144- 145- 148- 153- 207- 211- 226- 227- 228- 229- 230- 231- 232- 233- 234- 239- 246- 247- 252- 281- 286- 289- 290- 294- 296- 307- 308- 309- 330- 331- 332- 333- 334- 335- 338- 340- 341- 343- 352- 353- 354- 355- 381- 484- 490- 496- 531- 547- 556. يحيى بن عبد الرحمن بن عطاف (7) 29. يحيى بن عبد العزيز بن حماد (5) 233- 235- 236- (6) 215- 217- 218- 235- 236- 252- 308- 315- 316. يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب الباديسي (7) 732. يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي (7) 681. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 يحيى بن عبد الله بن الحسن (3) 270- 274. يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن (1) 22- (4) 8. يحيى بن عبد الله بن حسن المثنى (4) 549. يحيى بن عبد الله بن خالد (4) 161. يحيى بن عبد الله العلويّ (3) 280. ابو يحيى بن عبد الله بن أبي العلاء (7) 316. يحيى بن عبد الله بن عمر (6) 356. يحيى بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الامام (أبو القاسم الشيخ) (4) 108. يحيى بن عبد الله بن وانودين (7) 236. يحيى بن عبد الله بن يحيى بن إسماعيل (3) 437. يحيى بن عبد الملك بن محمد الحافظ (أبو عمرو بن الجد) (4) 216- (6) 393. أبو الحسن يحيى بن عبد الملك الغافقي (6) 433. يحيى بن عبد الملك بن مكي (6) 581- 612- 613. أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص (5) 483- 545- (6) 45- 387- 437- (7) 106- 238- 295- 296- 306- 361- 506- 507. يحيى بن عبيد الله المكتوم (3) 450. أبو يحيى بن العربيّ (7) 315. يحيى بن المعز (6) 81. يحيى بن العزفي (7) 326. يحيى بن عطوش (6) 345- 346- (7) 109. يحيى بن عطية (7) 131- 211. أبو يحيى بن أبي العلاء بن جامع (6) 382. يحيى بن علاق (6) 107. يحيى بن علال بن محمود (7) 469. يحيى بن علي (6) 278- 279- 598- 599- (7) 26- 36- 118. يحيى بن علي الاندلسي (4) 72- (6) 23. يحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة (4) 104- 105- 106- 107- (6) 205- 207- 613- (7) 55- 58. (المعتلي) يحيى بن علي بن حمود (4) 192- 193- 194- 197- (6) 295- 296- (7) 72. يحيى بن علي بن سباع (6) 470- 499- 547- (7) 68- 150- 176- 177- 437- 580- 581- 590. يحيى بن علي بن علامة (6) 197- 205. يحيى بن علي بن غانية المسوقي (ابن غانية- يحيى بن غانية) (4) 210- (5) 336- (6) 29- 32- 37- 45- 224- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 253- 254- 256- 257- 258- 259- 260- 261- 261- 309- 311- 313- 314- 325- 326- 327- 329- 331- 332- 333- 334- 335- 372- 373- 374- 375- 376- 378- 380- 382- 430- 509- (7) 86- 98- 99. يحيى بن علي بن ماهان (3) 299. أبو زكريا يحيى بن علي بن يعقوب (6) 475. يحيى بن علي بن يوسف (6) 253. يحيى بن عمر (7) 403. يحيى بن عمر بن تلاكاكين (6) 242- 243- 244. يحيى بن عمر بن رحو (4) 220- 221- (7) 491- 492- 494- 495- 496- 497- 499. يحيى بن عمر بن صالح (7) 209. يحيى بن عمر بن عبد المؤمن (6) 534. يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد (3) 356- 357- (4) 144. يحيى بن عمران (3) 319. أبو يحيى بن أبي عمران التينمللي (6) 379. أبو يحيى بن عيسى بن الحسن (7) 391. يحيى بن فوناس (6) 185. يحيى بن القاسم بن إدريس (الصرام) (4) 18. يحيى بن قرمط (4) 108. أبو يحيى بن اللحياتي (أبو يحيى اللحياني) (6) 459- (7) 509. يحيى بن محمد (4) 17- 21. يحيى بن محمد الأزرق (3) 377- 378- (4) 22. يحيى بن محمد بن إبراهيم التجيبي (6) 292. يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول (6) 599- 600- 613. يحيى بن محمد البحراني (3) 378- 382- 383- 384- (4) 23. يحيى بن محمد التجيبي (4) 183. يحيى بن محمد بن حشيش (1) 526. أبو يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد (6) 372. يحيى بن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد (6) 503. يحيى بن محمد بن المنث الحضرميّ (يعلى بن محمد) (6) 516. يحيى بن محمد بن هاشم التجيبي (6) 292- (7) 25. يحيى (الموطي) بن محمد بن يحيى العوام (1) 35. يحيى بن محمد بن يملول أمير توزر (7) 354. يحيى بن محمد اليفرتي (7) 67. يحيى بن مخلف (6) 570. أبو يحيى بن أبي مدين (7) 443- 444- 583. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 يحيى بن مزاحم (6) 346. يحيى بن المستنصر (7) 508. يحيى بن مسعود بن ماسي (7) 467. أبو يحيى بن مطروح (5) 233- 234- 235- 236- 237- 239- (6) 223- 614- (7) 58. يحيى بن معاذ (3) 288- 289- 312- 315- 317- 327. يحيى بن معتوق الهمدانيّ (3) 45. يحيى بن معين (1) 392- 393- 396- 398- 400- 401- 402- 415. يحيى بن مكن (7) 117- 118. يحيى بن مكي (7) 114. أبو زكريا يحيى بن مليلة (7) 316. أبو يحيى الكبير بن مناد (6) 82. يحيى بن أبي منديل كبير بني عسكر (7) 247- 276. المظفر يحيى بن المنذر (4) 206- 233. يحيى بن المهدي (3) 437- (4) 111. يحيى بن موسى بن محمد بن مسعود السنوسي (4) 134- 141- 142- 143- 144- 147- 148- 150- (6) 46- 496- 497- (7) 331- 332. يحيى بن ميمون بن مصمود (6) 539- 542- 545- (7) 392- 428- 429- 430. يحيى بن الناصر (6) 38- 40- 41- 42- 43- 339- 340- 341- 342- 343- 344. يحيى بن ناكصتن (6) 307. يحيى بن نخيل (6) 378. يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ (3) 116- 148- 150- 154. يحيى بن هاشم (4) 106. يحيى بن هذيل (7) 439. يحيى بن هلال بن حمدان (6) 40- 343. يحيى بن واطاس (6) 230- 595. يحيى بن وانودين (6) 350- 353- 357- 368. يحيى بن وقاريط (6) 344. يحيى بن يحيى (4) 17- 18. يحيى بن يحيى الشهيد أبي إسحاق بن أبي حفص (6) 388. يحيى بن يحيى بن كثير الليثي (أبو محمد) (1) 569- (4) 158- (7) 680- 684- 687. يحيى بن يزيد (4) 21. يحيى بن يعمر (3) 68. يحيى بن يغمراسن (6) 353- 357- (7) 113. يحيى بن يغمور (6) 304- 306- 609- 315- 316- 317- 379. يحيى بن يملول صاحب توزر (6) 520- 555- 557- 563- 564- 569- 570- 571- 572- 573- 574- 576- 580- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 591- 594- 595- 600- 601- 602- (7) 184- 185- 392- 639- 647. يحيى بن يوسف (4) 209. يحيى بن يوسف بن عمر (3) 130. أبو يحيى الجرافي (3) 220. يحيى الجرمقاني (3) 322. يحيى حازم (7) 266. يحيى بن سعيد الحريشيّ (الحرسي) (3) 261- 266- 267- 286- (4) 549. يحيى الخزرجي (1) 821. يحيى الرنداحي (7) 326. يحيى الزابي (7) 172. يحيى الطولوني (3) 484. يحيى العزال (4) 163. يحيى الفرقي (7) 547. أبو علي يحيى الفاطمي (4) 126. يحيى الفرقاجي (7) 390. يحيى القطان (1) 390. أبو يحيى القطراني (7) 247. يحيى المساكتي (4) 39. يحيى الميورقي (الميروقي) (6) 44- 375. أبو يحيى الهزرجي (6) 337. يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن كبير بني ونكاسن (7) 378- 384- 533. يحياتن بن محيو (7) 223. يحينة بن رؤبة صاحب أيلة (2) 468. يخابر بن مذحج (2) 304. يخلف بن الحسين (6) 316. يخلف بن عمران الفودودي (أبو زيد) (7) 308. ابن يخنيا (2) 167. يخنيو بن الياقيم (2) 123. أبو يداس بن دوناس (7) 28- 29- 39- 41. بني يدر (6) 91- 367- 368. بنو يدللتن من بني توجين (1) 166- (7) 123- 131- 141- 147- 205- 206- 209- 210- 215- 216- 339- 340. يدو بن يعلى (4) 56. بنو يدوم (2) 31. يذكر بن عنزة (2) 288. بني يراثن (6) 169. يربعام بن يوآس (2) 131. يربعم بن نباط (2) 114- 116- 117- 122- 128. بنو يربوع (2) 210- (3) 181- 182- (4) 284. يرديس بن دركون (2) 86. يرزيكن ابن الولاة تاميمونت (7) 288. يرشور (يرشيرش) (2) 193. يرقأ (4) 636. يرميا (أرميا) (2) 135. يرميا بن خلقيا (2) 189. بني يرنا (7) 85. يرنيات بن يصلتن (7) 7. بني يرنيان من مغراوة (6) 92- 283- (7) 7- 10- 14- 32- 65- 223. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 يرهاض من عصفراصن (6) 161. بين يروم (2) 49. بني أبو يرون (يزول) (6) 171. يريم بن زيد الجمهور (ذي رعين) (2) 63- 64- 65- 291- 298. يزدجرد (1) 203- 420- 670- (2) 181- 257- 320- 524- 527- 528- 531- 537- 538- 539- 551- 552- 558- 563- 564- 583- 584- 585- (3) 79. يزدجرد الأثيم (2) 206- 313- 314. ابن يزدجرد (3) 110. يزدجرد بن بهرام جور (2) 207- 256. يزدجرد بن شهريار بن أبرويز (2) 216- (3) 490- (4) 560. يزدران (6) 122. يزدن بن قماج (3) 646- 648- 650. يزغري (3) 110. بني يزناسن (يرناثن) (6) 81- 150- 168- 247- 275- (7) 77- 112- 205- 212- 217- 218- 219- 228- 283- 286- 320- 343. بني يزيد (2) 341- 369- (4) 621- (6) 55- 111- 203- 551- (7) 248. اليزيد (3) 269. أبو يزيد (5) 570- 571- 636- (6) 153- 174- 191- 192- 193- 203- (7) 31. يزيد بن أسد البجلي (3) 15. (أبو الأعور) يزيد بن أبي أسد القسري (بن أسد القسري) (2) 599- 627- (3) 251- 252. يزيد بن أسيد (أسد) السلمي (3) 237- 251- 252- 253- 254- 256- 268. (أبو خالد) يزيد بن الياس العبديّ (4) 15. يزيد بن أنس الاسدي (3) 31- 32. أبو يزيد بن أويس (5) 625- 626. أبو يزيد البسطامي (1) 624. يزيد بن البدر بن البطال (3) 268. يزيد بن ثمرة الرهاوي (3) 11. يزيد بن ثور بن أبي قرة اليفرني (4) 199. يزيد بن جرير بن مزيد بن خالد القسري (3) 298. يزيد بن حاتم (المهلبي) بن قبيصة بن المهلب (3) 211- 253- 273- (4) 244- (6) 148- 151- 185- (7) 16- 17. يزيد بن الحرث (3) 27. يزيد بن الحارث بن الخزرج (2) 430. يزيد بن الحرث بن دويم الشيبانيّ (3) 186- 187. يزيد بن الحرث الصدائي (2) 526. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 يزيد بن الحرث الكناني (2) 623- 625. يزيد بن الحرث بن معاوية بن الحرث (2) 328. يزيد بن الحصين (2) 633. أبو يزيد بن أبي حفص (أبو زيري بن أبي حفص) (6) 224. يزيد بن حماد السكونيّ (2) 319. يزيد بن خالد (3) 131- (6) 125. يزيد بن خالد بن عبد الله القسري (3) 136- 137- 141. يزيد بن خالد بن يزيد (3) 134- 136. يزيد بن خلف العبسيّ (6) 194. يزيد بن رويم (3) 27. يزيد بن زائدة الشيبانيّ (3) 286. بني يزيد بن زغبة (6) 32- 51- 55. يزيد بن زمعة بن الأسود (2) 465. يزيد بن أبي زياد (1) 395- 396- (3) 200- 202. يزيد بن زريع (1) 393. يزيد بن سعد الباهلي (3) 110. يزيد بن سعد بن لقمان بن عاد (2) 22. يزيد بن أبي سفيان (3) 4- 10- 12- 13- 19- 22- 23- 24. يزيد بن سكوم أمير ولهاصة (6) 146- 150. يزيد بن سليمان (3) 136. يزيد بن سمرة (3) 23. يزيد بن شراحيل الأنصاري (3) 34. يزيد بن شقيق السلمي (3) 152. يزيد بن عبد الله بن دينار (4) 382. يزيد بن عبد الله بن المنصور الحميري (3) 478. يزيد بن عبد المدان (2) 305- 473. يزيد بن عبد الملك (1) 323- (2) 364- (3) 57- 94- 96- 97- 98- 99- 100- 104- 105- 106- 126- 175- (4) 237- 379. يزيد بن العقار (3) 141. يزيد بن عمر الخشن (3) 60. يزيد بن عمر بن هبيرة (ابن هبيرة) (1) 230- 323- (2) 364- (3) 57- 103- 105- 106- 108- 140- 142- 143- 144- 151- 152- 156- 157- 158- 159- 160- 162- 177- 178- 207- 220- 238- 247- 297- 304- 310- 362- 471- (4) 4- 5- (5) 288. يزيد بن عمر بن يعقوب (6) 108. يزيد بن عمرو (2) 407. يزيد بن عنبسة السكسكي (3) 133- 134. بني يزيد بن عبس بن زغبة (6) 55- 56- 58- 62- 64- 68. يزيد بن قبيصة بن المهلب (6) 148. أبو عون يزيد بن قحطبة (3) 251- 252. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 يزيد بن قطن بن زياد (2) 305. يزيد بن قيس (2) 591- 592- 614- 618- 628- 635. يزيد بن قيس الارجي (2) 627. يزيد بن قيس الهمدانيّ (2) 560. يزيد بن أبي كبشة (3) 83- 84- 90. يزيد بن مالك الباهلي (3) 179. يزيد بن المحجل (2) 473. يزيد بن مخلد الهبيري (3) 284. أبو يزيد بن مخلد المغربي (3) 213- 284. يزيد بن مزيد الشيبانيّ (3) 212- 213- 268- 271- 273- 282- 286- 303- (4) 681. يزيد بن مسلم (4) 149. يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف (3) 65- 83- 86- 174- (4) 237- (6) 144. يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (يزيد بن أبي سفيان) (1) 263- 265- 267- 269- 270- 271- 437- (2) 266- 268- 271- 350- 351- 364- 390- 515- 518- 519- 543- 544- 547- 554- 575- 647- (3) 29- 30- 151- 216- (4) 2- 143- 234- 378- (6) 142- 193- 194. يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر (3) 243. يزيد بن المعقل (3) 187. يزيد بن المفضل (3) 113. يزيد بن منصور (3) 254- 261- 262. يزيد بن المهلب (2) 582- (3) 64- 65- 66- 67- 69- 70- 71- 81- 82- 86- 88- 91- 92- 93- 94- 96- 98- 99- 101- 119- 173- 174- (4) 549. بنت يزيد بن المهلب (3) 114. يزيد بن هانئ (2) 632- 633. يزيد بن هذيل (3) 71. يزيد بن هشام (3) 294. يزيد بن ورقاء (3) 45. يزيد بن الوليد (2) 297- (3) 133- 137- 139- 140. يزيد بن الوليد بن الحجاج (3) 80. يزيد بن يزيد (3) 95. يزيد بن أبي يزيد (7) 18. يزيد الرقاشيّ (1) 393. ابن يزيد السلمي (3) 23. يزيد الناقص (2) 585. أبو يزيد النكاري (6) 185- 186. بني يزين (ترين) (6) 170. يساخر بن يعقوب (2) 44- 129. ابن يسار (3) 75. يسار العباس بن محمد بن الحسن (6) 301. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 يستاسب (2) 61- 125- 129. يستاسن (1) 16- 18. بني يستيثن (6) 196. بني يسعين (2) 47. يسوده بن كتم بن يوسف (6) 195. الأمير يشبل الشعبانيّ (7) 728. يشجب بن يعرب (يمن) (2) 53. يشرح بن جذيمة بن منعم (2) 34. يشرح ذو الملك بن ودب بن ذي حماد بن عاد (2) 34. يششيان بن لوجيه (2) 240- 241. يشطيانش قيصر (يشطنيانس يشطيان) (2) 259- 260- 261. بني يشكر يشكر (2) 322- (3) 203- 245- (5) 159. يشكر بن بكر بن وائل (2) 359. اليشكري (3) 477- 488. يشمك (5) 34. يشوشات بن طالوت (2) 110. يشوع بن شارخ (1) 290- (2) 174. يشوع بن شيداح (2) 112. يشوع بن أبي صادوق (2) 196. بنو يصد (2) 47. بني يصدرين (7) 7- 71. يصراصن من عصفراصن (6) 161. يصلتن (يصلتين يصلاتن) (6) 120- 150- 161- 170- 284- 309- 313- (7) 65. يصلتين بن حبوس (6) 171. بني يصلتن بن مسرا بن زاكيا (7) 7. يصول (2) 14. يطور بن إسماعيل (2) 394. بني يطوفت من زنانة (6) 228- (7) 5- 7- 71. يطوفت بن بكلين (7) 44- 53- 54. يطوفت بن المنصور (6) 207- 208- 209- 227- 238. بني يعبر (5) 571. يعبر بن جماز بن مهنا (يعبر بن جبار) (5) 524- 526- 534- 557- 562- 563- 565- 566- 569- 571. يعتروس (2) 140. بني يعرب (4) 14- 19- 56. بنو يعرب بن قحطان (2) 22- 24- 32- 34- 53- 293- (4) 117- 285- (6) 126- (7) 358. يعرب بن يشجب (2) 52. يعشا بن أحيا ملك السامرة (2) 117. بنو يعفر ابن يعفر (2) 61- 291- 315- (3) 441- (4) 38- 110- 281. يعفر بن الزبرتير (4) 211. يعفر بن السكسك (2) 54. يعفر بن عبد الرحمن بن كريب (2) 291. أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي (2) 316- 321. بنو يعفر بن مالك بن الحرث بن مرّة (2) 305. يعفور الدمستق (نقفور) (4) 305- 310- 311- 317. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 يعقوب عليه السلام (4) 5. يعقوب بني يعقوب (2) 41- 42- 44- 45- 46- 169- 180- 233- 238- 251- 269- (6) 9- 56- 69- 70- 71- 73- 449- 475- (7) 181- 315- 406- 561. يعقوب بن أحمد بن سامان (4) 433. يعقوب بن إدريس (6) 590. يعقوب بن أرتق (5) 170- 251. يعقوب بن إسحاق (الكندي) (1) 109- 406- 418- 420- (2) 43- 92- 97- 167- (3) 663- (4) 52- 262. يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرميّ البصري (7) 510. يعقوب بن أصناد (اصناك) بن ورا (7) 310- 311. يعقوب بن أنق (يوسف بن أنق) (5) 20. أبو يعقوب البادسي (1) 407- 408- (6) 152. يعقوب البرادعي (2) 259. يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن عمر السلمي (6) 463. يعقوب تكين (5) 13. يعقوب جنديسابور (3) 394. يعقوب بن جابر (7) 109. يعقوب بن جرمون (6) 38- 42. يعقوب الحلبي غلام ابن تاشفين (5) 379. يعقوب الحواري (4) 228. (أبو حاتم) يعقوب بن حبيب الاباضي (4) 243- 244. (أبو حاتم) يعقوب بن حبيب (لبيب) بن مرين بن تطوفت (6) 147- 148- 164- 165. يعقوب بن حسان (7) 458. (أبو عبد الرحمن) يعقوب ابن السلطان أبي الحسن (6) 169- 324- (7) 386. يعقوب بن حلفا (2) 172. يعقوب بن خلوف (7) 91. يعقوب بن داود (3) 259- 262- 264- 265. يعقوب بن داود بن عطاف (6) 68. يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن (7) 89. يعقوب بن زيدي (2) 172- 173. بني يعقوب بن سباع (6) 84. يعقوب بن سحيم (6) 531. يعقوب بن سفيان (1) 390. يعقوب (أبو يعقوب) شاه (5) 521- 556. يعقوب بن أبي شيبة (1) 398. بني يعقوب بن عامر (6) 68- (7) 129. يعقوب بن العباس بن ميمون بن عريف (6) 70. أبو يوسف بن عبد الحق سلطان بني مرين (1) 333- (4) 217- 218- 230- (6) 38- 41- 43- 46- 87- 91- 137- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 157- 350- 351- 352- 353- 357- 417- 424- (7) 87- 88- 92- 111- 113- 114- 116- 117- 118- 119- 122- 124- 149- 199- 207- 208- 224- 227- 229- 233- 234- 235- 236- 237- 238- 239- 240- 242- 243- 244- 246- 247- 248- 249- 251- 252- 254- 256- 260- 261- 264- 265- 271- 280- 281- 282- 286- 295- 303- 305- 306- 314- 315- 323- 358- 384- 486- 487- 489- 490- 529. أم يعقوب بن عبد الحق (6) 274. بني يعقوب بن عبد السلام بن يعقوب (6) 108. يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق (7) 231- 234- 235- 485- 489- 490. يعقوب بن عبد الله بن كثير بن حرقوص (6) 107. يعقوب بن عبد الملك (6) 81. السيد أبو يعقوب بن عبد المؤمن (6) 317- 318- 319- 320- 321- 324- 325- (7) 66- 289- 295- 312- 313- 323- 324. يعقوب بن علوان (6) 350. يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح (5) 546- (6) 47- 70- 71- 73- 527- 531- 535- 540- 541- 542- 547- 550- 564- 569- 570- 571- 572- 574- 575- 576- 577- 592- 593- (7) 156- 162- 173- 174- 355- 366- 373- 381- 384- 393- 394- 396- 398- 559- 560- 561- 579- 580- 581- 638. يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى (6) 39. أبو عبد الرحمن يعقوب بن عمر (6) 463- 464- 465- 470- 502- 590- (7) 142- 330. (أبو يوسف) يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن (6) 256. يعقوب بن عمر بن هانئ العبسيّ (3) 134. يعقوب بن عنان (7) 218. يعقوب بن الفرس (6) 100. يعقوب بن الفضل (3) 269. يعقوب بن قيطون شيخ بني جابر (6) 39. يعقوب الكتامي (3) 463- (4) 47- 402. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 يعقوب بن كانون بن جرمون (يعقوب بن جرمون) (6) 348- 349- 350. يعقوب بن كانون السفياني (6) 39. ابن يعقوب بن كعب (6) 97- 98. يعقوب بن كلس (يعقوب بن يوسف بن كلس) (4) 62- 63- 64- 65- 67. يعقوب بن الليث الصغار (يعقوب الصغار) (3) 367- 368- 376- 385- 386- 387- 388- 389- 390- 392- 393- 394- 395- 397- 411- 416- 424- 425- 426- 427- (4) 24- 27- 28- 415- 416- 417- 418- 420- 421- 422. يعقوب الملاذي (الملاري) (6) 474. (أبو يوسف) يعقوب بن محمد البريدي (3) 478- 485- 535. يعقوب بن محمد بن قيطون (6) 42- 349. (أبو عبد الرحمن) يعقوب بن مخلوف (6) 472. يعقوب بن معروف (6) 56- 68. يعقوب بن المنصور (7) 250. يعقوب بن موسى (6) 154- (7) 200- 201. يعقوب بن موسى بن سيد الناس (7) 457- 459. يعقوب بن موسى بن العطاف من زغبة (7) 88. يعقوب بن نصر بن عروة (6) 65. يعقوب بن هبا بن هراج (6) 82. يعقوب بن هارون الخبري (7) 252. أبو يعقوب بن يزدوتن (6) 468- 470. يعقوب بن يغمور (6) 81. يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي (6) 384. يعقوب بن يوسف الخطيب. يعقوب بن يوسف القسري (6) 253. يعقوب بن يوسف النجار (2) 168- 169- 170- 172- 174- 175- 239. يعقوب (المنصور) بن يوسف بن عبد (المؤمن) (4) 211- 229- 230- (6) 32- 325- 377- 602- (7) 87- 125- 129- 256- 706. أبو يعقوب (المنصور) بن يوسف بن عبد المؤمن (1) 145- 316- 317- (6) 326- 327- 328- 330- 331- 332- 333- (7) 230- 241- 243- 246- 254- 258- 259- 266- 267- 268- 269- 271- 272- 273- 274- 276- 277- 280. يعقوب بن يوسف بن حيون (6) 190. اليعقوبية (فرقة) (1) 292. يعلام بن عيصو (2) 47. ابن يعلو (7) 235. بني يعلى (7) 60- 61- 67- 82. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 يعلى بن أمية (2) 481- 491- 520- 607. يعلى بن زيري (7) 102. يعلى العامري (4) 207. يعلى بن أبي عياد بن عبد الحق (7) 274- 487. يعلى بن أبي الفتوح الازداجي (6) 286. أبو يعلى الموصلي (1) 388- 400. يعلى بن محمد بن خزر (7) 23. يعلى بن محمد بن الخير (6) 247- (7) 59- 60. يعلى بن محمد بن صالح (يعلى بن محمد صالح) (7) 14- 15. يعلى بن محمد اليفرني (4) 54- 56- (6) 139- 164- 191- 204- 206- 233- 279- (7) 24- 35- 36- 37- 102- 202- 211. يعلى بن منبه (1) 256- (2) 602- 604- 608. يعلى بن المنتصر (6) 323. (أبو حفص) يعمر بن سركب (شركب) (3) 392- 393- 420- 421. يعمر بن شداد (2) 24. يعمر العدوانيّ (3) 68. يعمر بن عوف بن كعب (2) 398. يعهب بن بهثة (2) 366. يعوش بن عيصو (2) 47. يعيش مولى الحسن (4) 265. يعيش بن رحو بن ماسي (6) 87- (7) 467. يعيش بن طلحة (6) 79. يعيش بن علي بن أبي زيان بن أبي يعقوب (7) 400. يعيش بن علي بن فارس الياباني (7) 467- 468- 470- 471. بني يعيش بن عيسى بن خلاط (5) 249. يعيش بن ماسي (7) 474. يعيش بن محمد بن يعيش (4) 204. (أبو البقاء) يعيش بن يعقوب بن عبد الحق (4) 135- (7) 200- 304- 309- 312- 319- 320. يغرين من ورماس (6) 161. يغلو قائد الموحدين (6) 42. يغمر أمير الغز (3) 558- (4) 493. بني يغمراسن (4) 218- (6) 70- 80- (7) 123- 125- 127- 132- 133- 150- 178- 201- 282. يغمراسن بن تاشفين (7) 231. يغمراسن بن حمامة (7) 113- 248- 249. يغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد (آل يغمراسن بن زيان) (1) 166- 333- (6) 46- 56- 61- 62- 68- 89- 101- 137- 157- 346- 390- 391- 392- 400- 420- 424- 435- 441- 471- 492- 502- 503- 591- 608- (7) 87- 88- 89- 92- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 93- 94- 96- 98- 99- 104- 105- 106- 107- 108- 109- 111- 112- 113- 114- 115- 116- 117- 118- 119- 120- 121- 122- 138- 140- 147- 148- 153- 155- 166- 199- 202- 207- 208- 209- 211- 227- 228- 229- 230- 231- 233- 234- 235- 237- 238- 239- 240- 242- 243- 244- 247- 248- 251- 253- 257- 261- 265- 268- 269- 281- 292- 295- 303- 328- 330- 331- 332- 361- 413- 485- 512- 518- 527- 710 . يغمراسن بن سلامة (7) 215. يغمراسن بن أبي سمحة (6) 191. يغمراسن بن محمد السالفي (التنالقني) (7) 471- 473. جمال الدين يغمور (5) 416. ناصر الدين يغمور (5) 415. ابن يغمور (7) 74. بني يغمور (7) 632. يغمور بن عبد الملك (6) 81. يغمور بن عبيد الله (7) 178. يغمور بن موسى بن بوزير بن زكرير (6) 35. يفتاح من سبط منشى (2) 105. بنو يفرن (1) 260- 412- (3) 213- (4) 106- 186- (6) 21- 134- 135- 147- 151- 160- 164- 165- 175- 203- 227- 244- 245- 246- 278- 279- 291- 563- (7) 7- 10- 12- 13- 14- 15- 16- 17- 22- 23- 24- 25- 28- 29- 31- 33- 34- 35- 39- 41- 42- 43- 47- 48- 49- 52- 60- 63- 65- 66- 67- 69- 73- 74- 77- 82- 92- 101- 202. يفرن بن حناش (6) 186. بني يفرن بن مرّة بن ورسيك بن جانا (7) 14. بني يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك (7) 14. يقز بن ايلحي بهلوان (5) 143. يقشان بن إبراهيم (2) 43- (6) 120. يقطن (قحطان العرب) (2) 9- 11- 52. يقطن بن شالخ بن ارفخشذ (2) 393. يقطن بن قحطان (2) 32. يقطين ابن يقطين (3) 308- (4) 246. يقظان من بطون خميس (6) 75. يقظة بن مرة بن كعب (2) 387- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 388. يكسك مولى بحكم (4) 570. يكسوم بن أبرهة (2) 72. بني يكم (6) 297. بني يكمثين بن القاسم (7) 97. يكمثين بن مسعود بن يكمثين (7) 97. يكموس المزاتي (7) 22. أبو يكن بن محصن بن العابد (6) 232. بني يكناس (7) 75. ابن أبي يكنى (6) 233. أبو يكنى المخضب بن عسكر (7) 220. يكنيا بن يوشيا بن آمون (2) 167. يكوشة (منكوشة) (7) 212. يلاش بن كسرى (2) 198. يلاش بن نيرون (2) 258. يلاغف بن لوا بن مطماط (6) 162. يلاق بن هرقل الجبار (2) 221. يلاقش سيلقس (انطيخوس) (2) 198. الأمة اليلاقية (2) 221. يلانة بن يزمند (4) 229. يلاوش (2) 199. يلاوش بن فيروز (2) 208. يلاوش بن يزدجرد (2) 315. يلباز بن علناس (أخو الناصر) (6) 230- 232. يلبغا الخاصكي (يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري) (7) 423- 476- 525- 574- 694- 728. يلبغا السالمي (5) 556- 557- 558. يلبغا المصري (7) 696- 697. اليلبغاوية (7) 695- 696- 697- 698- 700. يلتنغير بن بيمند (4) 232. بني يلنث (يليث) (يلتث) (7) 32- 85- 115. بني يلول (6) 166. بني يلوما (7) 202. بني يلومان (6) 21. بني يلومو (7) 60. بني يلومي (6) 134- 165- 308- (7) 67- 73- 74- 82- 83- 96- 215- 220- 221. بني يلومين (6) 190- (7) 67. يليان ملك غمارة (6) 281- 282. يليان بن غطسة (2) 283. يليصن (يليص) بن لوا (6) 161. الأمير اليليلي (التليلي) (7) 299. اليمامة بنت مرّة (2) 27- 28. اليماميون (2) 36. اليمانية اليمنية (2) 52- (3) 136- 148- 149- (4) 150- 151- 152- 161- 189. يمقا التركي (4) 387. يمك (2) 11- (5) 5- 130- 131- 427- 584. بني يملول (6) 595. يملول بن أحمد (6) 597. يملول مقدم توزر (7) 79. يمن (2) 617. يمن الخادم (5) 301- 340. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 اليمن (قبيلة) (6) 152- 154- (7) 249. أبو اليمن (3) 463. أم اليمن بنت محلى من بطوية (7) 224- 264. يمناك (5) 427- 584. ينابوت بن إسماعيل (2) 394. اليناشتي (4) 214. ينال أخو طغرل (3) 559- 577. ينال بن أنوشتكين (بن أبي شكين) (3) 596- 601- 602- 604- 605- 609- (4) 330- 338- 340- 357- (5) 27- 28- 34- 35- 36- 37- 38- 42- 143- 200. ينال تكين (4) 514. (قطب الدين) ينال (نيال) بن حسان المنجبي (5) 243- 245- 292- 303- 305- 331- 332- 341- 349. ينال خان (5) 132. ينال كوشه (3) 520- 521- 523- 524- (4) 571- 572. ابن ينقر بن خبرة (4) 266. بني ينهل (6) 182. بني يهدل (2) 341. يهلال بن حمدان بن مقدم (6) 339. اليهوج (الببوج) صاحب ليون (6) 336. اليهود (2) 12- 21- 23- 48- 62- 63- 67- 75- 79- 101- 120- 124- 132- 134- 137- 138- 139- 140- 141- 142- 143- 144- 145- 146- 147- 148- 149- 150- 151- 152- 153- 155- 158- 159- 160- 161- 163- 164- 169- 172- 173- 175- 189- 192- 196- 198- 210- 216- 224- 225- 226- 227- 228- 235- 236- 238- 239- 240- 241- 242- 243- 252- 262- 263- 264- 315- 341- 342- 344- 348- 349- 367- 407- 417- 423- (4) 67- 203- 627- 639- (6) 355- 421- (7) 28- 274- 306- 315. يهود يادع (2) 118- 119. بني يهوذا يهوذا (1) 168- 288- 290- (2) 102- 105- 109- 110- 111- 116- 117- 118- 121- 122- 128- 132- 135- 174- 234- 340. يهوذا الاسخريوطي (2) 172- 173. يهوذا بن متيتيا (2) 139- 140. يهوذا بن يعقوب (2) 44- 167. يهوذا بن يوسف (2) 168- 241. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 يهورام (يورام) (2) 117- 118. يهوشاظ بن اسا (2) 117. يهوشافاض بن منشى بن يوسف (2) 118- 130- 168. يهوشيع بنت يهورام (2) 118. يهوناتان بن طالوت (2) 109- 110. يؤاب وزير داود (2) 111. يؤاب ملك القدس (2) 132. يؤاب بن عزياهو (2) 120. يؤاب بن نيثرا (2) 112. يؤاثير بن كلعاد (2) 232. يؤاش بن احزياهو (2) 118- 119. يؤاش بن يوشيا (يوآص) (يهوياحاز) (2) 122- 131. يوآص بن ياهو (2) 131. يؤاقيم بن ماثان (2) 168. يؤال (2) 107- 109. يوآم بن أحاب (2) 130- 131. يوآم بن عزياهو (2) 120. يوثام بن عزيا بن يوشافاط (2) 167. يوحانذ بنت لاوي (2) 92. يوحنا (2) 187- 240. يوحنا الانجيلي (يوحنا الحواري) (2) 241. يوحنا بطرك اسكندرية (2) 259- 261. يوحنا بطرك انطاكية (2) 179. يوحنا بطرك اليعاقبة (2) 270. يوحنا بن رؤبة بن نفاثة صاحب ايلة (2) 267. يوحنا بن زبدي (زيدي) (1) 289- 290- (2) 171- 172- 239. يوحنا بن زكريا (يوحنا المعمدان) (2) 158- 169- 172- 173- 238. يوحنا بن هرقانوس (2) 228. يوحنا الحسن (2) 259. يوحنا الرحوم (2) 263. يوحنا فم الذهب (2) 229- 255- 256. يوحنان الثائر (2) 161- 162- 164. يوخنانيا بن يوشيا (2) 167. يودب بن زيدح (2) 48. يورام بن أجاب ملك السامرة (2) 118. يورام بن يوشافاط بن آسا (2) 167. يوسانوس (2) 205- 206. يوستبيانوس (2) 281. بني يوسف (2) 126- (6) 604. بني بو يوسف (6) 169. يوسف شقيق هيرودوس (2) 151. يوسف صاحب قابس (5) 235. يوسف صاحب لاردة (4) 206. يوسف بن الآبار (6) 575. يوسف بن إبراهيم (3) 212. يوسف بن أبق التركماني (3) 595. يوسف بن أحمد البطروجي (6) 312- 313- 314. يوسف بن ارتق الخوارزمي التركماني (5) 170- 172. يوسف بن إسحاق (6) 327. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 يوسف بن الأسعد (5) 506. يوسف بن الأمير الهمدانيّ (6) 465. يوسف بن انظفتر (2) 142. صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب (1) 316- 346- 443- 549- 567- (3) 618- 625- 649- 650- (4) 12- 86- 87- 98- 99- 100- 101- 102- 103- 104- 122- 131- 137- 276- (5) 192- 193- 205- 206- 240- 241- 243- 244- 245- 246- 254- 258- 291- 292- 293- 295- 296- 297- 298- 299- 300- 301- 302- 303- 304- 305- 306- 307- 308- 309- 310- 311- 313- 324- 328- 329- 330- 331- 332- 333- 334- 345- 346- 347- 348- 349- 350- 351- 352- 353- 354- 355- 356- 357- 358- 359- 360- 361- 362- 363- 364- 365- 366- 367- 368- 369- 370- 371- 372- 373- 374- 375- 376- 377- 379- 380- 381- 382- 383- 384- 386- 387- 388- 389- 390- 391- 392- 401- 405- 408- 410- 429- (6) 255- 256- 330- 331- 407- 425- (7) 652- 667- 691- 700- 706. يوسف البرم (البر) (3) 251- 289. يوسف بن بدر (6) 307. يوسف بن برسق (5) 48- 252. يوسف بن بقراخان (4) 512. (مؤيد الدولة) يوسف بن بويه بن ركن الدولة (4) 601- 602- 604- 662- 663. يوسف بن تاشفين ملك لمتونة (1) 284- 285- 346- (4) 197- 200- 202- 203- 205- 230- (6) 137- 179- 229- 233- 234- 240- 245- 246- 247- 248- 249- 250- 253- 296- (7) 48- 60- 61- 74- 102- 118- 261- 486- 506. يوسف بن تكفا (7) 96. يوسف بن جامع (6) 97. يوسف بن الحجاج (1) 639. يوسف بن حسن (6) 607- (7) 131. يوسف بن حسن بن عزيز (7) 137- 138. يوسف بن حسن بن يعقوب (7) 209- 211. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 أبو يوسف ابن السيد أبي حفص (6) 328- 329. يوسف بن حماد (6) 229- (7) 29. يوسف بن حمو بن سواق (6) 197- 198. يوسف بن حيون الهواري (7) 131- 134. يوسف بن خالد بن نعيم بن محمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي (جمال الدين البساطي) (7) 741. يوسف بن خلوف (6) 230. أبو يوسف الدهماني (6) 106. يوسف بن رافع (3) 441. يوسف بن رحو بن عبد الله (يوسف بن أبي حمو) (يوسف ابن الزابية) (7) 186- 187- 196- 197- 481- 482- 494. يوسف بن أبي زركن (7) 203. يوسف بن زيان بن محمد (7) 211. يوسف بن زيد (6) 48- (7) 74. يوسف بن زيري (4) 105. زين الدين يوسف بن زين الدين (5) 205- 355- 374- 377. يوسف بن أبي الساج (3) 429- 436- 460- 461- 462- 463- 464- 467- 470- 471- 481- 482- 483- 484- 504- 513- (4) 112- 288- 443- 665. يوسف بن سبكتكين (4) 495. يوسف بن سعد الله (6) 365. يوسف بن سليمان بن عثمان بن أبي العلاء (7) 449. يوسف بن سليمان بن علي بن سباع (6) 47- 313- 314- 316- 318- 372. يوسف بن سليمان بن عيسى النحويّ الشنتمري (7) 511. (فخر الدين) يوسف ابن الشيخ (فخر الدين ابن الشيخ) (5) 416- 417. يوسف بن صالح بن سعيد (6) 284. يوسف بن عامر بن عثمان (6) 491- (7) 55. يوسف بن عبد الحميد بن الأمير (4) 94. يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة (2) 385. يوسف بن عبد الرحمن الفهري (2) 389- (3) 177- (4) 151- 152. يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن (7) 153- 161- 162- 370- 397. يوسف بن عبد القوي (7) 207- 209. بني يوسف بن عبد الله (7) 64. يوسف بن عبد الله بن ثعلبة بن محارب (4) 19. (أبو الفتوح) ثقة الدولة) يوسف بن عبد الله بن محمد (4) 265. يوسف بن عبد الملك بن حجاج بن يوسف بن حجاج (6) 604. يوسف بن عبد المؤمن بن علي (1) 306- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 (4) 210- 211- (6) 27- 215- 220- 224- 253- 319- 371- 372- 509- (7) 103- 109. يوسف بن عبيد الله (7) 64. يوسف بن علال (7) 474. يوسف بن علي التينمللي (6) 344. يوسف بن علي بن عبد الرحمن (6) 244- 246. زين الدين يوسف بن علي كجك (5) 308- 309. يوسف بن علي بن غانم أمير المعقل (6) 61- 87- 338- 339- (7) 187- 188- 196- 460- 461- 468- 471- 474- 481- 482- 709. يوسف بن علي بن يوسف (6) 343. يوسف بن عمر (4) 3- (6) 298- (7) 216. المظفر يوسف بن عمر (5) 578. يوسف بن عمر الثقفي (1) 323- (3) 57- 120- 124- 125- 127- 129- 130- 131- 133- 137- 138- 141- 175- 176- 177- 216. يوسف بن عمر بن شرمة (3) 177. يوسف بن عمر بن عثمان (7) 181. يوسف بن عمر بن محمد (2) 367. يوسف بن عمران (3) 122- 123. يوسف بن عمرو (2) 582. يوسف بن عنان (7) 218. يوسف بن أبي عياد (6) 272- (7) 310. يوسف بن عيسى بن السعود الجشمي (7) 310- 318. يوسف بن فرج العزفي (يوسف بن العزفي) (7) 247. الحاجب يوسف بن فيروز (5) 181- 182- 183. يوسف بن قاوس (6) 335. يوسف بن كريون (ابن كريون) (1) 290- (2) 48- 134- 136- 138- 141- 142- 145- 147- 149- 150- 153- 155- 156- 160- 161- 162- 163- 164- 233- 234- 240. يوسف بن كنون (6) 272. يوسف مولى رشيد (5) 234. أبو يوسف بن محارب الازدي (6) 178. يوسف بن محمد الأخيضر (4) 124. يوسف بن أبي محمد (6) 208. يوسف بن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمدانيّ (6) 401- (7) 245. يوسف بن محمد بن أبي عياد (7) 310. (الناصر) يوسف ابن العزيز محمد ابن الظاهر غازي بن صلاح الدين (الناصر بن الظاهر غازي) (3) 324- 325- (5) 324- 325- 411- 414- 415- 417- 420- 421- 422- 423- 434- 435- 436- 437- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 438- 439- 441- 442- 444- 489 . يوسف بن (أبي سعيد) محمد بن يوسف المروروذي (3) 348. يوسف بن محمد بن يوسف (3) 177- 344- (4) 40. يوسف بن محمود بن سبكتكين (4) 503. يوسف بن مخلوف التينمللي (6) 309- 311- 312. يوسف بن مزنى (أمير بسكرة) (يوسف بن منصور بن مزنى) (6) 52- 53- 507- 510- 512- 520- 534- 542- 570- 571- 572- 577- 591- 592- 593- 594- 599- (7) 69- 355- 366- 381- 384- 393- 394- 580. يوسف بن مسعود البلنسي (7) 470. (شهاب الدين) يوسف بن مسعود بن سابق الدين (5) 410. يوسف اتسز (اطسز) بن المسعود بن الكامل (5) 419- 432- 497- 577. يوسف بن معبد (3) 412. يوسف بن مهدي (6) 61. يوسف بن موسى (7) 397. يوسف بن الناصر (المستنصر بن الناصر) (6) 230- 334. يوسف بن نحية (4) 156. يوسف بن نوح (4) 510. يوسف بن هالي بن مطنان (2) 166. يوسف بن وازرك (6) 350. يوسف (يونس) بن وانودين (6) 304- 307- 309- 370- 509- (7) 74. يوسف بن وجيه (3) 519- 526- (4) 584. (أبو الحجاج) يوسف ابن السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد (4) 250- 225- (7) 345- 347- 348- 349- 387- 401- 404- 440- 495- 523. يوسف بن يزكاسن (7) 233- 247. يوسف بن يعقوب عليه السلام (1) 15- 160- 171- 172- 625- (2) 44- 45- 46- 47- 86- 92- 94- 101- 154- 155- 179- 231. يوسف بن يعقوب خطيب مريم (2) 168- 170- 171- 172- 241. يوسف بن يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين (1) 409- (4) 231- (5) 482- 483- (6) 39- 62- 69- 87- 91- 92- 272- 361- 364- 457- 458- 459- 464- 465- 466- 467- 477- (7) 64- 65- 89- 91- 118- 121- 123- 124- 125- 126- 127- 128- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 129- 130- 131- 132- 134- 149- 150- 199- 200- 210- 211- 215- 216- 264- 282- 283- 294- 295- 297- 303- 305- 306- 323- 324- 328- 333- 487- 490- 498- 516- 518- 519- 706- 707 . يوسف بن يعقوب بن علي الصبيحي (7) 472. يوسف بن يغمراسن (6) 477- (7) 212. يوسف بن أبي يوسف (3) 274. يوسف حاروس (3) 626. يوسف الحكم (3) 125. يوسف الخوارزمي (3) 583- 597. أبو يوسف السكاكي (1) 732. يوسف العبسيّ (4) 156. (حجة الدين) يوسف العندلاوي المغربي (5) 185. يوسف الغساني (4) 42. يوسف الكوراني شيخ المصامدة (6) 34. يوسف المؤتمن (4) 106. يوسف النجار يوسف بن يعقوب خطيب مريم. يوسف الوراق (6) 117- (7) 3- 17. يوسيطانس قيصر (2) 180. يوشا بن يوسف (2) 168. يوشافاط بن آسا (2) 167. يوشانوس (2) 254. يوشطونش قيصر (2) 261. يوشع الكوهن (2) 164. يوشع بن نون عليه السلام (1) 168- 287- 290- 441- (2) 30- 31- 48- 59- 97- 99- 100- 101- 102- 105- 120- 174- 185- 193- 331- (6) 123. يوشيا بن آمون (2) 122- 167. يوطنان من مصفاوة (6) 299. يوطيانوس بن قسنطينوس (2) 270. يولغ شاه (5) 590. يوليناريوس بطرك اسكندرية (2) 261. يوليوس قيصر (يوليانس) (2) 147- 148- 229- 236- 237- 240- 244- 253- 254. يوناثال بن متيتيا (2) 140. بني يوناداب (يوناذاب) (2) 128- 227. آل يونال (2) 226. يونالوس أسقف بيت المقدس (2) 179. يونان النبي (2) 119. بني يونان اليونانيين (ياوان) (1) 93- 104- 183- 207- 235- 288- 289- 442- 445- 486- 507- 515- 631- 632- 639- 640- 641- 642- 646- 652- 752- (2) 3- 4- 11- 12- 19- 48- 76- 84- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 101- 118- 136- 137- 140- 141- 143- 149- 214- 216- 217- 218- 219- 220- 221- 223- 225- 226- 227- 230- 231- 233- 235- 241- 242- 278- 288- 336- (5) 210- 447- (6) 136- (7) 720. يونان بن علجان بن يافث (2) 218- 232. يونس من ورماس (6) 161. الأمير يونس (5) 536. ابن يونس (1) 569- 570- 728. يونس بن أبي إسحاق (1) 398. يونس بن الياس بن صالح (6) 277. الحاج يونس ترجمان التكروري (6) 267- 268. يونس ابن الشيخ أبي حفص (6) 258- 259- 393. يونس الدوادار (5) 548- 549- 550- 551. يونس الرمام (5) 521. يونس الشميصاني بطرك انطاكية (2) 176- 247. يونس بن عبد ربه (3) 154. يونس بن عبد العزيز (4) 177. (أبو الوليد) يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصغار (7) 686. يونس بن فروة (3) 233. يونس المؤنسي (3) 484. يونس بن متى النبي (2) 79- 120. يونس بن محمد بن مغيث (7) 686. الجواد يونس بن مودود بن العادل (5) 324- 412. يونس النوروي (5) 539. اليونشاش (4) 361. يونيوس (2) 245. يويل النبي (2) 120. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 القسم الثاني: فهرس الأماكن الجغرافيّة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 555 حرف الألف (أ) آباذ (4) 685. آجر (4) 548. آخر (3) 606- 635- (5) 30- 43- 45- 148- 214. آزر (5) 445. آزغر (6) 281. آسغى (6) 88. آسيا (2) 194. آش (7) 491. آكال (6) 284. آكرسلوين (6) 273. أم العلو (6) 315. آمد (1) 82- 87- (2) 211- 256- 260- 268- 360- 547- 577- (3) 91- 108- 109- 116- 130- 190- 226- 285- 332- 347- 357- 358- 372- 410- 427- 433- 436- 438- 439- 441- 458- 475- 476- 480- 505- 536- 537- 581- 587- 588- 589- (4) 26- 27- 28- 30- 33- 119- 288- 303- 306- 313- 319- 321- 342- 343- 351- 398- 407- 408- 409- 413- 414- 418- 425- 434- 439- 441- 444- 450- 485- 498- 663- (5) 10- 11- 43- 46- 102- 122- 166- 167- 169- 189- 190- 196- 198- 248- 249- 258- 261- 262- 267- 270- 277- 278- 305- 307- 314- 318- 320- 321- 323- 324- 345- 349- 351- 352- 394- 403- 404- 410- 414- 490- 592- 593- 594- 596. آمل (1) 89- (2) 566- 567- (4) 464- 465- 469- 472- 473- 500- 550- 551- 553- 555. آني (2) 276- 580- (5) 95- 151- 204- 631. آني (3) 605. آوة (3) 599- 602- 613- 655- (4) 491- 634- (5) 56. أياصوفيا (2) 289- (7) 726. اباستان (2) 188. الاباضية (3) 225. اباكري (5) 168. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 557 بجرد (3) 188. أبدة (1) 84- (4) 211- 213- 221- (7) 254- 271- 433. الابرتي (2) 490- 491- 494. أبرق الحنان (2) 364. ابروزنجان (4) 647. ابضعة (2) 492. الأبطح (2) 607- (3) 26- 50. ابكجان (6) 195. ابلستين (ابلسين) (5) 193- 605- 617- 633- 634. الأبلق (2) 328. الأبلّة (مرج الهند) (1) 61- 79- (2) 189- 286- 358- 507- 508- 525- 540- (3) 378- 382- 384- 410- 423- 437- 528- 553- 554- (4) 22- 26- 112- 584- 660- 675- 678- 693- (5) 35- (7) 718. ابليش (5) 202. ابنّة (5) 232. أبنى (2) 364- 490. أبّه (6) 97. أبهر (2) 560- (3) 434- 457- 461- 463- 476- 482- 483- 618- 659- (4) 32- 33- 443- 444- 449- 491- 555- 575- 635- 659- (5) 62- 129. الأبواء (2) 424. الأبواب (1) 94- (3) 200- 607- (5) 602- 610. أبي سليط (7) 111- 233- 247. أبين (2) 494- (3) 153. أبيورد (2) 579- (4) 425- 465- 469- 480- 511- 526- 531- (5) 87- 88- 89- 91- 110- 112- 116- 117- 139- 143. الاتحاد السوفياتي (7) 722. الاثارب (5) 227- 228. اثلج (انلج- الح- البنج) (6) 335. اثور (2) 44. اثينه (اثينوس) (2) 150- 197- 222- 243. أجأ وسلمى (2) 303- 356- 380- 497- (5) 501. إجانة (4) 260. اجدابية (1) 77- (2) 366- (5) 239- (6) 19- 95- 206. أجدة انتاش (2) 220. أجرة (4) 524. الأجم (6) 108- 109. اجنادين (2) 517- 543. أجي (3) 601. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 558 أجير (4) 527. أحد (2) 348- 387- 389- 391- 434- 435- 437- 438- 440- 441. الإحساء المؤمنية (1) 79- (2) 357- (4) 22- 60- 63- 64- 112- 114- 115- 116- 125. الأحقاف (1) 60- 61- 72- 105. الاحمدية (4) 285. أخرون (احرون) (3) 74- 104. اخشاد (3) 80. اخصرى (5) 297. أخطب (1) 79. أخميم (2) 80- 177- 229- 257- (5) 433- 434- 486. اخيكت (3) 75. ادبار (3) 430. أردبيل (5) 133. ادرنت (4) 262. أدوم (أروم- ايذوم) (2) 98- 103- 111- 114- 117- 130- 131- 141- 143- 251. أذربيجان (1) 16- 61- 62- 88- 64- 95- 226- 424- (2) 61- 121- 188- 190- 200- 208- 209- 211- 212- 262- 276- 314- 538- 559- 560- 561- 562- 571- 583- 591- 602- 625- (3) 31- 40- 82- 89- 96- 111- 112- 114- 140- 175- 191- 193- 213- 219- 228- 232- 252- 254- 261- 266- 279- 282- 285- 286- 317- 318- 319- 322- 326- 335- 342- 343- 348- 355- 375- 416- 431- 435- 436- 441- 444- 457- 460- 461- 463- 464- 470- 481- 483- 484- 504- 505- 509- 513- 514- 518- 558- 559- 565- 579- 601- 604- 605- 606- 608- 613- 616- 618- 625- 627- 628- 629- 631- 633- 634- 635- 636- 644- 645- 653- 657- 658- 660- (4) 38- 112- 123- 289- 330- 332- 345- 367- 369- 373- 374- 395- 410- 453- 493- 556- 570- 600- 635- 636- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 559 637- 665- 666- 667- 668- 669- 670- 671- 672- 673- 674- 685- (5) 5- 6- 19- 20- 31- 33- 36- 37- 38- 39- 41- 55- 57- 59- 60- 61- 62- 68- 70- 71- 72- 73- 74- 75- 76- 80- 92- 93- 95- 99- 101- 102- 103- 104- 128- 129- 133- 134- 135- 140- 141- 144- 146- 147- 148- 149- 151- 152- 155- 156- 158- 160- 161- 163- 164- 166- 168- 170- 196- 197- 198- 200- 204- 206- 261- 272- 273- 295- 306- 308- 309- 321- 323- 324- 325- 349- 355- 384- 405- 407- 409- 410- 412- 423- 457- 548- 573- 574- 588- 591- 592- 593- 594- 602- 607- 608- 614- 615- 622- 631- 632- (7) 148- 725- 726- 727. اذرح (2) 267- 468- 634- 635. أذرعات (2) 213- (4) 61- 110- (5) 179- 227. اذنه (1) 86- (3) 422- (4) 234- 300- 305- 392- (5) 275- 297- 451- 482- 493- 516. ارّان ارزن (2) 572- (3) 604- 605- 606- 641- 642- 644- (5) 27- 38- 39- 59- 61- 76- 80- 81- 86- 87- 92- 95- 104- 128- 134- 135- 146- 147- 148- 149- 155- 156- 159- 164- 165- 204- 405- 589- 592- 593- 594- 596- 598- 603. ارانية (3) 636- 653- 657- 658- 659- 660- (5) 85- 99. اربد (4) 339. الاربس (الاربص) (3) 453- 454- (4) 42- 43- 49- 243- 249- 260- (6) 26- 186- 230- 259- 318- 333- (7) 19- 20. اربق (4) 65. اربل (3) 365- 382- 398- 595- 612- 656- 658- 662- 663- (4) 133- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 560 366- (5) 20- 45- 48- 50- 54- 65- 102- 103- 134- 141- 145- 147- 162- 168- 170- 189- 196- 204- 205- 223- 251- 293- 297- 303- 308- 309- 310- 311- 314- 315- 316- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 324- 348- 349- 355- 357- 372- 374- 377- 378- 382- 394- 403- 404- 407- 423- 437- 588- 594- 613- 614. أربوله (4) 205. اربونه (ندرومة) (1) 84- (4) 147- 148- 149- 157- 232- (7) 99. ارتاج (5) 281- 289. ارتجيس (5) 168. ارجاء (5) 142. أرجان (1) 80- (2) 209- 565- (3) 185- 491- 492- 495- 502- 525- 539- 540- 542- 543- 544- 550- 562- 564- 566- 569- 657- (4) 119- 562- 568- 574- 608- 611- 612- 618- 619- 624- 650- 653- (5) 93- 164- (6) 356. ارجونه (4) 214- 215- (6) 385- 393- 395- (7) 250- 259. ارجيش (3) 537- (4) 319- (5) 149- 158- 207- 396- 397- 594- 631. أردستان (2) 572. أردشيرخره (جور) (2) 553- 577- 583. أردبيل (1) 94- (3) 111- 112- 322- 323- 335- 461- 504- 514- 605- 618- 627- (4) 666- 667- 669- 670- 671- (5) 61- 76- 588- 625. الأردن (1) 14- 79- 94- 226- 288- 303- (2) 39- 98- 99- 140- 143- 172- 239- 241- 332- 450- 484- 515- 518- 519- 543- 547- 575- 602- (3) 89- 275- 337- 410- 480- (4) 110- 150- (4) 348- 384- (5) 50- 177- 215- 225- 348- 353- 364- 374- 386- 395- 399- 621- (7) 700. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 اردولية (3) 89. اردون (4) 179. ارزكند (بافكند) (4) 468. ارزن الروم (أردن) (2) 278- 547- (3) 344- 484- 535- 565- (4) 288- 315- 332- 409- 598- 673- (5) 149- 151- 159- 160- 161- 162- 163- 167- 194- 195- 196- 197- 199- 201- 204- 205- 207- 227- 253- 323- 396- 410- 424- 481- 631- 632. ارزنكان (ارزنكاي- ارزنجان) (5) 197- 201- 202- 410- 633- (7) 727. ارسوف (5) 214- 215- 380- 444- 447. ارشدونه (7) 259. ارشكول (ارشكوك) (4) 20- 178- (6) 166- 178- (7) 34- 35- 104. ارض بني حسن بلاد بني حسن. ارض حمزه بلاد حمزة. ارض السراة (1) 250. ارض السرير (1) 96. ارض المشيل (7) 63. ارغون (4) 230- (6) 385- 388- 439. ارقيش (5) 38. أرك (حصن الارك) (5) 250- (6) 329- 330. اركش (4) 199- (6) 253- (7) 70- 71- 122- 282. الاركه (4) 211- (2) 221. مدينة إرم (2) 22. ارمايل (3) 76. ارمنت (1) 74- (3) 346. ارمندية (1) 97. ارميناقس (2) 572. ارمينية (1) 62- 88- 94- 95- 226- (2) 20- 50- 200- 209- 220- 221- 224- 225- 240- 243- 245- 264- 266- 272- 276- 277- 314- 545- 547- 562- 571- 572- 585- (3) 31- 40- 41- 46- 89- 96- 103- 105- 111- 112- 114- 115- 139- 140- 162- 166- 167- 168- 169- 172- 173- 175- 176- 185- 212- 219- 228- 247- 252- 256- 266- 273- 276- 280- 282- 283- 286- 303- 317- 318- 326- 328- 335- 343- 344- 348- 355- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 562 364- 375- 376- 390- 423- 429- 459- 460- 481- 504- 514- 537- 558- 565- 577- 595- 605- 606- 635- 660- 661- (4) 38- 123- 290- 303- 304- 311- 319- 330- 410- 411- 491- 635- 665- 666- 667- 669- 670- 671- 673- 691- (5) 39- 50- 148- 149- 151- 152- 198- 204- 206- 209- 231- 248- 322- 401- 405- 406- 407- 445- 481- 631- 636- (7) 725- 727. ارياسي (5) 13. أريحا (1) 177- (2) 30- 48- 98- 99- 100- 101- 102- 105- 123- 129- 153- 185- (7) 6. ارين (3) 84. اريوله (4) 176- 212. ازغار (ازغاو) (6) 28- 44- 49- 133- (7) 224- 225- 243- 304. ازكار (1) 73. الازلم (2) 306. ازمور (ازمورة) (4) 16- (6) 38- 41- 129- 133- 274- 275- 276- 345- 346- 347- 351- 352- (7) 90- 235- 237- 293- 451- 456- 457- 458- 459- 524. ازمول (4) 42. أزور (ازدرد) (3) 111- (7) 271. الأساد (2) 612. اساديانج (4) 417. أسانيد (1) 389. اساون (5) 128. اسبانيا (2) 233- (6) 313. اسبو (6) 156. اسبورد (4) 380. أسبيجاب (4) 513- (5) 586. استجة (1) 84- (4) 176- 195- 198- (6) 314- 324- (7) 254- 261- 274. أستراباذ (اساداباذ) (1) 80- 89- (3) 415- 431- 458- 475- 558- 617- 626- (4) 30- 32- 441- 442- 444- 453- 462- 500- 552- 553- 601- 604- 636- 663- 688- 690- 691- (5) 27- 33- 34- 60. استرد (5) 39. استه (3) 369- 346. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 563 اسحان (5) 127. إسحاق اباذ (4) 635- 659. اسحمة (5) 589. اسر (1) 82. إسرائيل (1) 15. اسرشي (4) 527. اسروشنة (4) 511. اسطبونه (اسطبة) (7) 329. إسطنبول (5) 635. اسعرد (5) 168- 278- 594- 615. اسغا (اسغى) (3) 475- (6) 39- 129- 133- 276- 298. اسغراين (اسغرار) (1) 80- (2) 578- (3) 598- (4) 447- 455- 490- 533- 544- 567- 579- 661- (5) 29- 84- 94- 122- 143. اسفيدروز أسفيجاب (4) 439- 455. اسكند (شكند) (3) 423- (4) 396. اسكندرونة (1) 86- (2) 144- 152. الاسكندرية (1) 28- 32- 47- 59- 62- 71- 78- 256- 291- 316- 352- 374- 435- 570- (2) 12- 23- 26- 85- 88- 124- 212- 220- 222- 223- 224- 225- 226- 227- 228- 229- 234- 237- 239- 241- 242- 243- 244- 245- 246- 247- 248- 249- 250- 251- 252- 253- 254- 257- 258- 259- 260- 261- 263- 264- 265- 269- 270- 271- 273- 366- 541- 555- 556- 571- 575- (3) 317- 444- 459- 463- 649- (4) 18- 20- 41- 46- 47- 48- 57- 60- 78- 82- 87- 92- 98- 101- 159- 184- 256- 267- 377- 384- 388- 400- 402- 406- (5) 241- 292- 329- 330- 338- 346- 372- 376- 415- 434- 435- 449- 465- 467- 468- 490- 494- 504- 506- 507- 508- 509- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 518- 519- 520- 521- 522- 523- 530- 531- 532- 533- 534- 535- 536- 541- 543- 545- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 564 549- 552- 553- 554- 561- 568- (6) 5- 6- 23- 95- 123- 129- 130- 131- 139- 140- 186- 187- 196- 224- 301- 369- 382- 406- 426- 427- 483- 484- 487- 524- 526- 530- 536- 574- 614- 615- 616- (7) 79- 151- 192- 351- 363- 364- 423- 479- 496- 519- 530- 647- 671- 677- 689- 697- 698- 699- 700- 701- 708- 709- 718- 723- 730. اسكوتلندا (اسكوسنا) (5) 449. اسكوسيا (6) 426. الإسماعيلية (5) 56- 130- 442. أسمرا (6) 19. اسنا (1) 74- (4) 389. أسوان (1) 71- (2) 84- 89- (3) 346- 381- (4) 79- 91- 389- (5) 339- 461- 486- 540- 556- (6) 6- (7) 652. اسويا (4) 119. اسيجه (7) 73. الأسير (5) 44. أسيوط (1) 74. اشبونة لشبونه. اشبيلية (1) 40- 84- 146- 286- 540- 818- 821- 822- 826- 827- 828- (2) 281- 282- 293- 305- (4) 146- 150- 152- 153- 154- 155- 163- 164- 166- 170- 171- 172- 174- 175- 176- 191- 194- 195- 197- 198- 201- 213- 214- 215- 216- 226- 230- (6) 41- 248- 251- 253- 313- 314- 315- 316- 317- 319- 320- 321- 322- 324- 325- 326- 329- 330- 335- 336- 337- 338- 339- 340- 341- 342- 344- 345- 346- 347- 377- 382- 392- 393- 394- 395- 396- 407- 432- 436- 437- (7) 31- 72- 118- 251- 253- 255- 258- 259- 272- 273- 274- 284- 300- 347- 420- 433- 469- 475- 484- 497- 502- 503- 504- 505- 506- 507- 508- 509- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 565 530- 549- 550- 570- 571- 599- 608- 609 . اشدونه (4) 163. اشر (3) 315. اشروسنة (3) 334- 335- 336- 389. الاشروسية (3) 360. الأشعر (2) 481. الاشمون (2) 83. اشمون طناح (5) 400. اشنه (1) 90. اشور (2) 130. اشيا (2) 248- 249. اشياش (2) 196. اشبت (2) 147. اشيح (4) 272- 273- 280- 282. أشير (1) 361- (4) 14- 56- (6) 72- 203- 204- 205- 206- 207- 208- 209- 210- 227- 228- 229- 230- 231- 234- 238- 327- (7) 45- 53- 54- 58- 60- 74. أشير (1) 76. أصبهان (أصفهان) جي (1) 80- 88- 89- 288- 369- 374- 470- 709- 834- (2) 20- 79- 132- 183- 188- 198- 200- 206- 378- 556- 559- 563- 567- 584- 591- 602- 635- (3) 45- 82- 127- 144- 151- 156- 157- 158- 83- 185- 186- 201- 232- 266- 292- 319- 350- 370- 372- 390- 393- 398- 416- 417- 418- 456- 461- 462- 476- 477- 481- 482- 484- 485- 491- 492- 493- 498- 499- 502- 506- 507- 521- 525- 537- 558- 561- 562- 563- 564- 580- 581- 588- 589- 590- 591- 592- 593- 595- 596- 597- 598- 599- 602- 604- 605- 606- 607- 608- 610- 611- 615- 616- 624- 627- 628- 631- 634- 636- 640- 641- 643- 644- 645- 653- 654- 655- 656- 657- 659- 662- (4) 24- 118- 119- 120- 121- 330- 342- 352- 359- 364- 414- 415- 421- 422- 423- 424- 445- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 566 455- 456- 457- 491- 492- 495- 496- 499- 503- 506- 529- 551- 557- 558- 559- 561- 562- 563- 564- 568- 569- 571- 575- 576- 577- 578- 579- 580- 586- 595- 601- 604- 608- 611- 617- 622- 630- 634- 635- 636- 637- 645- 646- 647- 648- 653- 658- 659- 662- 686- (5) 9- 11- 13- 14- 15- 17- 18- 19- 20- 25- 27- 28- 29- 30- 32- 34- 36- 37- 38- 39- 41- 43- 44- 45- 49- 63- 65- 70- 71- 73- 74- 75- 80- 81- 85- 89- 91- 92- 93- 95- 98- 99- 100- 101- 103- 113- 114- 115- 128- 129- 139- 140- 141- 144- 145- 150- 153- 154- 155- 156- 157- 158- 159- 164- 166- 167- 170- 171- 172- 174- 263- 264- 272- 288- 295- 573- 574- 586- 591- 592- 593- 602- 610- 615- 624- 627- 629- 630- (7) 722- 723- 725- 726. اصطبونة (7) 277- 348- 493. إصطخر (1) 80- (2) 193- 198- 199- 200- 206- 215- 216- 259- 548- 553- 565- 577- 584- 644- (3) 151- 157- 185- 428- 492- 562- 644- (4) 447- 563- 567- 569- 629- 650- 651- 653- (5) 129. اصطفصف (6) 308. اصفون (7) 137. اصهيلة (6) 206. أصيلا (1) 76- (4) 16- 19- 20- (6) 281- (7) 43- 246- 312- 470- 472- 490. اضاخ (3) 339. اطار (6) 186. اطرا بزيده (1) 95. اطرار (5) 587. اطريره (7) 570- 608. اطفيح (اطفج) (4) 97- (5) 241- 291- 329- 471- 486. إعزاز (5) 229- 384. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 567 الأعوص (2) 595- (3) 241. اغريقية (2) 221. اغمات (1) 76- (4) 16- 200- 202- 203- (6) 130- 144- 249- 303- 305- 351- 352- 361- (7) 61- 305- 310. اغوات (7) 256. افامية (قلعة افامية) جاميه (4) 69- 311- (5) 12- 14- 50- 175- 226- 252- 283- 284- 286- 367- 393- 440- 615. افراغة (1) 84- (6) 314. افراك (7) 326. افرنجة (1) 9- (3) 176- (4) 149. افرنسة (1) 97- (5) 210- 245- 378- 379- 382- 416- 442- (6) 424- 578. افريقية (1) 7- 16- 28- 32- 59- 76- 85- 112- 188- 195- 197- 204- 206- 208- 213- 218- 224- 226- 284- 285- 298- 299- 300- 304- 311- 313- 314- 315- 346- 361- 362- 365- 369- 374- 408- 410- 416- 430- 433- 434- 435- 446- 458- 459- 463- 464- 473- 481- 486- 527- 528- 529- 540- 544- 569- 572- 741- 742- 762- 770- 774- 778- 779- 808- 809- 834- 835- 836- (2) 12- 17- 20- 48- 59- 66- 102- 139- 173- 214- 223- 224- 233- 234- 235- 236- 249- 250- 254- 256- 277- 278- 297- 306- 351- 357- 362- 364- 365- 366- 367- 369- 370- 371- 377- 380- 382- 385- 386- 573- 574- 575- 588- (3) 12- 13- 140- 169- 170- 171- 172- 173- 174- 176- 177- 206- 213- 250- 252- 253- 255- 264- 273- 285- 286- 343- 351- 352- 390- 413- 423- 429- 441- 449- 450- 452- 454- 455- 457- 459- 463- 472- 479- 498- (4) 8- 18- 19- 36- 37- 38- 39- 41- 42- 44- 47- 50- 51- 56- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 568 57- 58- 59- 60- 62- 72- 76- 77- 89- 92- 104- 114- 115- 125- 126- 127- 147- 148- 149- 150- 151- 152- 154- 155- 170- 177- 209- 211- 212- 215- 216- 233- 234- 235- 237- 238- 239- 240- 241- 243- 244- 245- 247- 249- 250- 251- 253- 255- 256- 258- 259- 261- 262- 263- 266- 283- 287- 377- 380- 388- 391- 402- (5) 210- 231- 232- 233- 234- 235- 237- 238- 239- 336- 356- 483- 545- 567- (6) 4- 5- 16- 18- 19- 20- 21- 22- 23- 24- 25- 26- 27- 28- 29- 30- 31- 32- 37- 40- 43- 44- 45- 54- 58- 63- 70- 72- 73- 77- 79- 94- 95- 96- 97- 98- 99- 100- 101- 102- 104- 106- 108- 112- 117- 122- 123- 127- 128- 130- 132- 134- 135- 136- 137- 139- 140- 141- 142- 143- 144- 145- 146- 147- 148- 149- 151- 152- 156- 157- 158- 159- 160- 162- 164- 173- 178- 180- 185- 186- 187- 195- 197- 198- 199- 202- 205- 206- 207- 210- 211- 212- 213- 215- 217- 218- 220- 221- 224- 225- 226- 227- 231- 238- 239- 240- 242- 252- 254- 256- 258- 259- 260- 261- 262- 263- 264- 266- 267- 270- 299- 300- 315- 316- 317- 318- 319- 320- 322- 323- 324- 326- 328- 329- 331- 332- 333- 334- 335- 337- 338- 339- 340- 341- 346- 347- 348- 360- 361- 370- 371- 372- 373- 374- 375- 376- 377- 378- 379- 380- 382- 383- 385- 389- 390- 392- 394- 396- 407- 425- 430- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 569 438- 463- 473- 475- 478- 479- 480- 484- 487- 490- 492- 496- 502- 506- 509- 520- 523- 525- 529- 530- 531- 537- 540- 542- 543- 544- 549- 554- 555- 557- 558- 560- 561- 562- 563- 566- 572- 575- 578- 582- 586- 590- 591- 592- 593- 599- 600- 601- 606- 609- 610- 611- 613- 614- 615- (7) 2- 3- 10- 11- 12- 13- 14- 16- 17- 19- 20- 22- 23- 26- 31- 32- 34- 36- 38- 41- 44- 45- 53- 58- 59- 60- 62- 63- 66- 68- 69- 70- 71- 79- 80- 83- 84- 85- 86- 87- 92- 98- 101- 104- 106- 108- 119- 130- 133- 138- 142- 143- 148- 149- 152- 153- 158- 159- 162- 170- 199- 201- 206- 209- 224- 227- 229- 245- 282- 291- 295- 303- 331- 343- 345- 346- 349- 351- 353- 354- 357- 360- 361- 362- 363- 365- 366- 374- 375- 381- 382- 384- 385- 389- 391- 392- 393- 394- 396- 398- 402- 417- 488- 493- 495- 496- 506- 507- 508- 512- 517- 520- 522- 523- 524- 525- 526- 528- 532- 533- 537- 545- 556- 596- 647- 718- 723- 730. افسس (افسيس) (2) 179- 241- 246- 257. أفسوس دقشوسوس (2) 173- (3) 282. افغانستان (7) 722. افلاش (1) 97. اقاسية (5) 631. الأقحوانة (5) 358. اقرنصيصة (1) 92. اقريطش (1) 315- (2) 277- 279- (3) 317- 354- (4) 57- 267- (6) 129- 425. اقزرنة (6) 72. اقشهر (5) 631. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 570 اقصر (2) 278- (3) 346. اقصرا (اقعرا- اقطرا) (3) 579- (5) 191- 192- 193- 194- 195- 615- 631. اقصراي (4) 343. اقسيس (5) 20. اقليبية (قلعة اقليبية) (5) 235- 237. اكره (6) 186. اكشونية (4) 146. ألبة البا (2) 232- (4) 156- 157- 161- 162- 164- 166- 177- 183- 227- 228- 229. البرت (7) 271. ألمانية (2) 222. أليون (4) 165. أم الربيع (7) 229- 234- 240- 310. أم العلو (6) 327. أم القرى (6) 408. اماسا (5) 193- 194. اماسية (5) 169. أمج (2) 422- 444. امرصية (5) 46. أمسلاخت (6) 278. امعيشيا (2) 509. امكيسه (اقليبية) (6) 213. الأنبار (1) 87- 525- (2) 59- 187- 200- 204- 284- 285- 308- 310- 331- 355- 357- 511- 512- 513- 523- 524- 525- 526- 527- (3) 159- 178- 187- 193- 195- 198- 226- 227- 279- 280- 289- 299- 303- 307- 359- 361- 362- 414- 429- 467- 470- 471- 505- 547- 560- 565- 566- 571- 600- 659- (4) 112- 326- 329- 333- 335- 336- 337- 338- 340- 344- 354- 365- 415- 508- 623- 631- 641- 651- 655- 656- 684- (5) 213- 501- (6) 8- 10. انبولية (3) 89. انحاز (5) 151. الانحوانه (5) 277. الأندلس (1) 7- 40- 59- 83- 84- 91- 104- 111- 162- 182- 184- 194- 195- 199- 200- 204- 205- 207- 208- 218- 226- 232- 260- 277- 281- 284- 285- 298- 299- 301- 304- 311- 312- 313- 314- 317- 321- 329- 330- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 571 331- 332- 337- 340- 346- 350- 351- 361- 362- 364- 365- 369- 371- 421- 446- 455- 463- 464- 476- 504- 519- 527- 528- 529- 532- 533- 540- 544- 546- 552- 553- 555- 565- 568- 569- 572- 621- 633- 637- 642- 646- 653- 656- 669- 696- 706- 721- 722- 740- 741- 742- 757- 762- 770- 774- 779- 780- 791- 797- 802- 805- 817- 822- 823- 825- 829- 832- 839- (2) 12- 20- 85- 158- 218- 224- 225- 234- 235- 236- 237- 238- 240- 249- 250- 257- 277- 278- 280- 281- 282- 283- 297- 305- 329- 351- 367- 369- 370- 382- 385- 389- 390- 449- (3) 86- 166- 174- 175- 176- 177- 214- 264- 317- 351- 423- 498- 661- (4) 8- 15- 17- 18- 20- 39- 49- 56- 57- 100- 104- 106- 142- 146- 147- 148- 149- 150- 151- 152- 153- 154- 155- 156- 157- 160- 164- 165- 166- 167- 168- 170- 173- 174- 176- 178- 185- 191- 192- 193- 194- 195- 196- 197- 198- 200- 201- 202- 203- 205- 206- 207- 208- 209- 210- 211- 212- 215- 216- 217- 218- 221- 222- 223- 224- 225- 226- 227- 229- 230- 232- 235- 236- 238- 239- 245- 251- 253- 266- 388- (5) 210- 282- 333- 483- (6) 2- 5- 27- 33- 40- 58- 63- 123- 126- 129- 140- 143- 144- 145- 149- 151- 154- 155- 156- 162- 164- 165- 171- 177- 178- 179- 185- 191- 192- 201- 202- 203- 207- 209- 210- 215- 228- 234- 238- 239- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 572 240- 241- 242- 248- 249- 250- 251- 252- 253- 256- 262- 277- 278- 280- 281- 282- 284- 286- 292- 295- 296- 299- 309- 311- 312- 314- 315- 317- 320- 321- 322- 323- 324- 325- 326- 329- 331- 336- 337- 338- 339- 340- 341- 344- 345- 355- 361- 371- 372- 380- 385- 386- 388- 392- 393- 394- 395- 396- 402- 406- 418- 419- 422- 424- 425- 427- 432- 433- 434- 437- 438- 441- 451- 452- 464- 477- 482- 486- 494- 495- 504- 508- 516- 526- 539- 545- 548- 587- 613- (7) 11- 12- 13- 24- 25- 27- 28- 29- 33- 40- 46- 47- 65- 70- 71- 72- 73- 88- 89- 91- 92- 105- 108- 110- 117- 118- 120- 125- 149- 153- 165- 188- 189- 194- 227- 241- 242- 243- 249- 250- 251- 252- 253- 254- 256- 259- 260- 261- 262- 265- 267- 269- 270- 271- 274- 280- 282- 284- 285- 286- 287- 289- 294- 300- 305- 313- 316- 318- 319- 325- 326- 328- 329- 336- 337- 341- 342- 344- 345- 346- 348- 349- 357- 363- 387- 389- 391- 394- 400- 401- 402- 403- 404- 405- 408- 413- 417- 418- 426- 433- 435- 439- 440- 441- 442- 443- 444- 447- 449- 451- 452- 453- 454- 455- 456- 459- 460- 462- 463- 464- 466- 467- 468- 469- 471- 474- 477- 484- 485- 486- 487- 489- 490- 493- 494- 495- 496- 497- 498- 499- 500- 501- 502- 503- 504- 505- 506- 507- 508- 510- 518- 521- 522- 523- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 573 528- 529- 530- 533- 534- 535- 536- 537- 539- 540- 546- 547- 552- 556- 558- 571- 578- 579- 581- 582- 585- 586- 618- 632- 633- 634- 636- 637- 662- 663- 685- 687- 688- 721- 723- 725- 731 . انديس (4) 219. انزار (5) 132. انصناء (2) 88- 229. انشريس (6) 59. انطاكية (1) 86- (2) 12- 103- 111- 112- 120- 138- 140- 141- 151- 160- 164- 173- 174- 179- 180- 197- 199- 202- 209- 212- 224- 225- 226- 227- 228- 238- 239- 242- 245- 247- 248- 253- 254- 257- 259- 260- 261- 262- 263- 269- 519- 542- 543- 572- (3) 11- 89- 90- 285- 320- 348- 396- 413- 414- 445- 589- 594- 605- (4) 64- 65- 66- 69- 82- 83- 137- 305- 306- 309- 310- 319- 322- 323- 343- 344- 346- 348- 386- 387- 392- 393- (5) 10- 18- 20- 24- 25- 26- 27- 40- 46- 48- 49- 51- 52- 67- 169- 170- 171- 172- 173- 175- 177- 178- 180- 183- 185- 188- 189- 190- 210- 211- 212- 213- 215- 217- 219- 220- 221- 222- 224- 225- 226- 227- 230- 248- 252- 253- 261- 265- 266- 267- 275- 277- 283- 284- 285- 286- 289- 296- 329- 344- 365- 367- 368- 369- 370- 372- 375- 384- 440- 444- 446- 447- 451- 471- 476- 616- 631- 635- 636- (6) 129- 214. انطانية (4) 165- 167. انطواغوا (2) 272. أنفي (انفا) (6) 129- 244- 276- 281- (7) 235- 311- 459. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 574 أنقرة (انقرا- انكورية) (2) 178- 327- (3) 267- 282- 328- 329- (5) 189- 191- 193- 194- 195- 196- 631. انقياس (2) 118. انكاد (7) 160- 163- 207- 243- 380- 381- 400. انكبردة (انكيردة) (1) 92- (4) 254- 255- 262. انكجان (ايكجان) (4) 39- 40- 41- 43- 44- 45- 258- 259- 260. انكلاية (1) 59- 83- 92. انكلترا (5) 210- 375- 376- 378- 379- 380- 381- 382- 383- 384- 449- (7) 433. انكمورية (3) 480. انكوية (1) 97. انهلوارن (4) 489- 490. انوشروان (4) 491. انيشه (4) 211. اهراقية (2) 228. الاهرام المصرية (1) 222- 429- 432- 481. الأهواز (1) 80- 225- (2) 8- 9- 40- 125- 181- 188- 198- 200- 204- 209- 536- 540- 550- 551- 556- 559- 563- 567- (3) 52- 98- 160- 162- 179- 181- 182- 183- 185 186- 188- 189- 198- 199- 207- 223- 240- 245- 251- 254- 261- 266- 273- 296- 297- 302- 304- 305- 343- 355- 356- 360- 368- 375- 379- 380- 383- 384- 388- 390- 391- 392- 394- 395- 397- 398- 399- 424- 425- 426- 427- 435- 462- 465- 467- 470- 477- 478- 485- 486- 487- 489- 492- 493- 495- 496- 497- 498- 499- 500- 501- 502- 503- 506- 507- 508- 516- 519- 521- 524- 525- 526- 527- 530- 531- 532- 533- 534- 536- 541- 542- 544- 545- 549- 550- 552- 554- 556- 562- 563- 564- 566- 569- 574- 576- 578- 581- (4) 4- 22- 23- 24- 25- 145- 355- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 575 418- 419- 420- 421- 422- 427- 559- 565- 568- 569- 570- 573- 574- 575- 580- 582- 584- 591- 592- 596- 603- 607- 608- 611- 612- 614- 615- 616- 619- 621- 626- 628- 632- 633- 634- 638- 639- 643- 644- 649- 650- 651- 653- 654- 655- 658- 678- 679- 690- 696- (5) 33- 44- 272- 615. أوال (4) 281. أوان (4) 509- (5) 37. اوانا (3) 570- 571- 604- (4) 328- 338- 589- 628- 640. اوبس (1) 76. اوجا (5) 142. اوجلة (6) 114- 188. اوراس (6) 146- 150. اوربة (1) 197- 361- (4) 8- 14- 15- (7) 517. أوس (5) 59. اورشث (3) 75. أورشليم (اورشاليم) (2) 45- 102- 110- 111- 114- 173- 238. اوركندا (5) 586. اورنكار (5) 615. اوزكنده (5) 123- 125. أوطاس (2) 463- 464. أوفاز (1) 463. اوق (3) 277- 283. اولاق (5) 607. اوماش (6) 592. أون (2) 23. أونبة (4) 199- (6) 315. اياس (5) 492- 493- 633. ايبورا (يابرة) (6) 321. ايجاباذ (4) 493. ايدج (4) 645- 650. ايدحور (5) 590. ايدخوي (اندخوي) (4) 535- (5) 136. ايدس (5) 594. ايدغمش (5) 101. إيران (2) 181- (9) 718- 726. ايسكون (5) 91. ايسلي (7) 111- 114- 115- 116- 229- 231- 242- 243. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 576 ايغري (6) 91- 273- 370- (7) 388. ايفكان (افكان) (4) 56- (7) 23- 24- 202. الايقور (5) 596. ايكري (6) 164. ايكيلين (ايكليز) (6) 303- (7) 236. ايلاز (5) 588. إيلاق (1) 90. ايلة (1) 60- 78- 91- (2) 30- 84- 89- 92- 100- 116- 160- 188- 267- 284- 295- 297- 305- 306- 355- 468- 596- 605- (3) 36- 48- 378- 501- (5) 333- 334- 348- 350- 352- 370- (7) 518- 717. ايلة العقبة (1) 79. إيليا (2) 242- 267- 268. ايملولين (7) 232. ايميلول (6) 254. ايوان كسرى (1) 61- 429- 430- 431. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 577 حرف الباء (ب) الباب (2) 207- 211- 538- 556- 561- 562- 572- 583- 585- 586- 591- 593- (3) 105. باب الأبواب (2) 179- 336- (4) 669- (5) 39. باب أليون (2) 554. باب البريد (5) 390. باب توما (3) 275. باب الجابية (7) 733. باب الجزيرة (6) 218. باب الجسر (5) 349. باب جيرون (2) 22. باب الجديد (دمرقفو) (5) 603- 607. باب الحفاة (4) 17. باب زويلة (4) 95- (5) 571. باب السلامة (5) 390. باب السلسلة (4) 15. باب السويقة (6) 218. باب الشماسنة (الشماسية) (4) 657- (5) 65. باب العمادي (5) 349. باب العمود (5) 362. باب الفتوح (7) 288. باب الفراديس (3) 133- (4) 61. باب الفردوس (3) 574. باب الفضل بن يحيى (1) 82. باب القرمادين (المفرمادين- الترمادين) (7) 112. باب كندة (5) 349. باب المقصورة (3) 43- 239. باب المندب (1) 60- 72- (4) 269- (7) 717. الباب النوبي (3) 574- 623. بابارولو (باباززلو- باربارولو) (6) 215. بابل (1) 50- 288- 655- 657- 658- (2) 4- 7- 19- 21- 37- 38- 40- 42- 50- 76- 78- 79- 80- 81- 82- 119- 120- 121- 122- 123- 124- 125- 126- 135- 136- 137- 144- 167- 173- 182- 183- 184- 185- 188- 189- 191- 193- 194- 196- 199- 223- 242- 284- 285- 355- 472- 536- (3) 32- 192- 193- 618- (7) 720- 732- 733. البابين (5) 329. باجه (2) 380- (4) 50- 77- 105- 154- 163- 168- 236- 240- 249- 250- (6) 21- 25- 146- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 578 186- 213- 228- 259- 312- 315- 316- 343- 374- 472- 473- 475- 480- 481- 482- 486- 490- 491- 493- 502- 518- 521- (7) 19- 20- 32- 356. باخرز (2) 578. باداورد (باذاورد) (4) 23. بادرايا (3) 643- (5) 145. بادروبا (2) 514- 571. بادرود (3) 384- 385. بادرون (4) 338. بادس (1) 202- (6) 33- 47- 88- 130- 152- 193- 281- 442- 585- (7) 255- 539. بادغيس (باذغيس) (2) 211- 586- (3) 6- 11- 69- 75- 249- 277- 278- 386- (4) 417- 420- 423- 505- 523- 525- 526- (5) 110- 121. بادوريا (3) 430. باديس (1) 83- (2) 654- (7) 403- 404. بادية رياح (1) 410. باربد (3) 262. باردوقا (4) 651. البارعية (5) 351. بارق (2) 319. باروسما (3) 358. باري (4) 488. باريا (1) 88. باريدى (3) 483- 484- 493. باريس (2) 654. بازبدى (4) 330. بازور (5) 215. باساس (5) 274. باشقرد (5) 603. باطوس (1) 93- 94. باغاية (3) 453- (4) 42- 43- 45- 49- 51- 53- 55- 56- 59- 234- 260- (6) 195- 210- 425- (7) 18- 19- 21- 22- 36- 53- 54. باقردى (4) 330. باقوسا (بانقوسا) (5) 557- 566. باكرى (باكرا) (3) 483- (5) 271. باكلبا (5) 45. باكو (5) 603. بالس (2) 245- (3) 218- 413- 415- (4) 341- (5) 49- 176- 186- 204- 219- 223- 224- 285. باميان (5) 529- 536- 537- 538- 539- 540- 541- 542- 544- 545- 547- (5) 110- 114- 118- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 579 121- 122- 128- 130- 141- 586- 611 . بانقيا (2) 507. بانياس (3) 586- (5) 7- 221- 224- 229- 231- 241- 270- 276- 277- 292- 299- 329- 344- 384- 392- 399- 424- 451- 614. باهلة (3) 338. الباهوت (2) 214. ببلغازة (5) 165. البتر (4) 505. البثنة (2) 519. بجاية (1) 76- 195- 205- 427- 435- 451- 545- 570- 571- (3) 369- (4) 21- 39- 208- 209- (5) 233- 235- 236- 483- 546- (6) 26- 27- 45- 47- 52- 53- 55- 69- 97- 99- 101- 108- 112- 130- 131- 132- 134- 155- 166- 167- 169- 195- 197- 198- 199- 200- 203- 215- 217- 218- 220- 225- 231- 232- 233- 234- 235- 236- 248- 249- 251- 252- 254- 255- 258- 263- 302- 308- 317- 319- 320- 322- 323- 326- 327- 329- 331- 333- 334- 340- 341- 379- 380- 381- 382- 383- 390- 398- 406- 419- 420- 421- 423- 428- 431- 434- 435- 436- 438- 439- 440- 441- 443- 444- 445- 448- 449- 450- 452- 453- 454- 458- 459- 461- 462- 463- 464- 466- 467- 469- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 477- 478- 479- 480- 482- 484- 485- 486- 489- 491- 492- 494- 495- 497- 498- 499- 500- 502- 504- 505- 508- 509- 510- 515- 516- 520- 521- 526- 527- 528- 532- 533- 534- 535- 537- 538- 539- 541- 542- 544- 545- 546- 547- 548- 549- 550- 551- 552- 553- 555- 560- 561- 566- 573- 574- 578- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 580 588- 590- 591- 593- 594- 608- 613- (7) 19- 63- 64- 74- 91- 92- 103- 110- 116- 120- 121- 122- 124- 127- 130- 133- 134- 135- 136- 137- 139- 141- 142- 143- 144- 145- 150- 154- 157- 161- 162- 167- 168- 170- 171- 172- 173- 180- 182- 291- 295- 296- 297- 330- 331- 332- 334- 338- 344- 345- 354- 355- 357- 365- 366- 367- 372- 373- 374- 375- 381- 382- 383- 384- 385- 386- 387- 388- 390- 391- 392- 401- 412- 430- 463- 479- 481- 488- 496- 508- 509- 517- 520- 523- 528- 532- 533- 536- 537- 538- 545- 554- 556- 557- 558- 559- 560- 561- 574- 577- 578- 579- 648- 685- 707. بجرانة (2) 505. بجيان (6) 385. بجيلة (3) 159. البحر الأبيض (7) 718. البحر الأحمر (7) 656- 717- 718. البحر الادرياتي (7) 718. البحر الأسود (7) 718. بحر اشمون (5) 405. بحرايجه (7) 718. بحر البنادقة (1) 59. بحر جرجان (1) 61. البحر الجنوبي (1) 73. البحر الحبشي (1) 60- 61- 62. بحر الخزر بحر قزوين (1) 88- 98- (5) 197- (7) 721- 725. البحر الروسي (7) 718. البحر الرومي (1) 59- 60- 62- 69- 70- 71- 76- 77- 78- 83- 84- 85- 86- 91- 92- 93- 98- 188- 312- 313- 317- 457- 459- 506- (2) 232- (3) 317- (4) 16- 146- (5) 210- (6) 129- 274- 578- (7) 719. بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) (2) 82- (7) 283- 284- 347- 484- 718. بحر السودان (2) 221. بحر السوس (6) 265. بحر السويس (1) 17- 60- 78- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 581 (4) 279- 350- (7) 656- 689- 718. البحر الشامي (1) 17- 59- 83- 312- (7) 730- 731. البحر الشرقي (1) 73. البحر الصيني (1) 60- (7) 717. بحر قزوين بحر الخزر. بحر نيطش (1) 59- 83- 88- 93- 95- 98- 99- 101- (2) 277- 336- (5) 135- 589. بحر الهند (1) 17- 60- 63- 71- 72- 74- 75- 78- 106- (4) 279- 280- 285- (7) 717- 718- 719. البحرين (1) 18- 61- 74- 79- 303- 369- 507- (2) 19- 20- 27- 30- 54- 75- 103- 200- 204- 205- 210- 284- 285- 288- 293- 298- 302- 317- 319- 331- 356- 357- 359- 372- 449- 476- 482- 495- 500- 504- 505- 514- 548- 549- 565- 577- 602- (3) 10- 92- 93- 184- 185- 189- 214- 223- 252- 253- 254- 266- 267- 269- 273- 297- 317- 344- 425- 437- 441- 451- 469- 499- 621- (4) 12- 22- 23- 36- 37- 38- 107- 111- 112- 113- 115- 116- 117- 284- 286- 399- 418- (5) 32- 615- (6) 15- 17- 40- 79- 94- 226- (7) 712- 723. البحيرة (2) 582- (5) 535- 536- 540- (6) 6- 95. بحيرة بتاج (5) 160. بحيرة البصرة (1) 62. بحيرة الجرجانية (1) 62. بحيرة خوارزم (1) 81- 96. بحيرة الزيتون (7) 290. بحيرة سهنين (5) 259. بحيرة طبرية (5) 177. بحيرة طرمى (1) 101. بحيرة عثور (1) 101. بحيرة عرعون (1) 96. بحيرة القيوم (1) 77. بحيرة قارون (7) 652. بحيرة قلحة (1) 71. بحيرة قوم لوط (2) 47. بحيرة مرسى (قدس- قطينة) (5) 289. البخاتي (4) 655. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 582 نجاري (1) 62- 90- 535- 606- (3) 18- 58- 60- 69- 70- 71- 75- 77- 79- 92- 109- 110- 111- 114- 122- 225- 226- 260- 288- 335- 389- 412- 433- 439- 443- 464- 476- 557- (4) 29- 33- 252- 330- 425- 428- 429- 433- 434- 435- 436- 437- 438- 439- 440- 441- 442- 443- 444- 445- 446- 447- 448- 449- 450- 452- 453- 458- 459- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 469- 470- 472- 475- 476- 479- 490- 492- 493- 499- 504- 509- 510- 511- 512- 513- 519- 520- 553- 555- 575- 579- 586- 587- 635- 661- 663- (5) 13- 14- 78- 95- 96- 106- 114- 123- 125- 132- 139- 140- 573- 587- 591- 596- 598- 601- 602- 604- 609- (7) 722- 726. بدارة (4) 501. بدر (1) 398- 610- (2) 214- 386- 387- 388- 389- 390- 391- 425- 426- 427- 428- 431- 432- 433- 434- 437- 440- 458- 544- (4) 7- 138- 321- (6) 7- 145. البدقان (1) 88. بدليس (2) 547- (5) 205. بدميل (4) 537. البدندون (3) 422. بدون (3) 89. البذ (حصن البذ) (3) 322- 323- 324- 325. بذخشان (1) 81. البرادق (3) 249. براهما باز (3) 76- 84. البرتغال (4) 226- 227- 232- (6) 165- 255- 314. برج حصين (5) 400. برجالة (1) 840. برجة (7) 536. برد (5) 57. البردان (4) 696. بردرويا (3) 399. البردت (5) 210. بردسي (بردشي) (4) 430. بردشير (4) 496. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 583 بردعة (1) 94- 572- (3) 518- (4) 667- 668- (5) 147- 149. بردود (3) 395. البررفكان (4) 684. البرزند (2) 571. برزية (5) 385. برساور (4) 527. برسنمان (4) 514. برسوما (2) 507. برشك (6) 152- (7) 86- 89- 92- 123- 132- 133- 159- 291- 292- 515. برشلونه (1) 84- 91- (2) 277- (4) 147- 148- 155- 156- 158- 163- 164- 166- 181- 184- 206- 209- 211- 212- 213- 216- 221- 226- 231- 232- (5) 449- (6) 112- 250- 314- 330- 332- 336- 389- 426- 447- 448- 451- 578- (7) 328- 363- 399- 402- 433- 484- 495- 497. برصة (برصا) (2) 128- 129- 131- (5) 631- 636. برطاس (1) 98- 99. برغشت (1) 91- 92. برغلوا (5) 193. برغة (7) 570- 608. برغواطة (6) 133- 207. برغونة (1) 92- 97. برقة انطابلس (1) 59- 77- 226- 435- 458- 459- (2) 14- 17- 24- 44- 84- 89- 173- 175- 239- 362- 364- 366- 369- 573- 574- (3) 170- 319- 354- 396- 452- (4) 42- 45- 46- 58- 60- 69- 70- 71- 72- 77- 107- 235- 236- 254- 256- 388- 389- 401- 406- (5) 536- 540- (6) 5- 6- 19- 22- 23- 24- 28- 94- 95- 96- 104- 111- 113- 114- 123- 126- 130- 131- 132- 133- 135- 140- 143- 145- 153- 155- 185- 186- 187- 188- 194- 241- 251- 256- 262- 298- 373- 450- 483- 543- 585- (7) 12- 55- 58- 361- 730. برقعيد (4) 304- 312- 331. البركة (5) 528- 529. بركة الحاج (5) 551- 552. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 584 بركة الحبش (4) 74- (5) 525. برلوا (5) 631. برماشمير (4) 430. برنات (1) 91. البرنث (4) 193. برنق (برنيق) (6) 114- 131- 298. بروجرد (4) 499- 690- (5) 41. البروقان (3) 78- 107. البروة (2) 272. البرية (3) 624. برية فاران (2) 97. البريدية (3) 396. برير (فربر) (4) 437. بريتانية بريطانية (1) 97- (2) 236- 240- 249- 250. بريعال (4) 153. بريمين (3) 26. بزاخة (2) 496- 497. بزاغه (4) 341- (5) 274. بزوان (5) 144. بسا (3) 566. بسار (5) 472. بست (1) 80- (3) 53- 64- (5) 385- (4) 417- 428- 436- 446- 467- 471- 474- 475- 476- 486- 505- 506- 533- 540- 545- 546- 556- 625- (5) 130- 138- 141. بست الرخج (2) 209. بستان (قسان) (4) 685. بستة (4) 437. بسدورة (بنبدورة) (7) 278. بسرغالس اركبلطرة (4) 222. بسطام (1) 89- (2) 560- (3) 655- (4) 469- 565- 664- (5) 95- 96- 113. بسطة (1) 84- (6) 321. بسكاس (4) 252. بسكاسة (4) 252. بسكرة (1) 76- 451- 473- (4) 16- 54- (6) 34- 47- 52- 53- 229- 230- 259- 262- 329- 378- 405- 424- 453- 454- 507- 512- 514- 527- 550- 569- 570- 571- 572- 575- 577- 585- 586- 587- 588- 589- 590- 591- 593- 599- 601- (7) 21- 35- 36- 54- 58- 63- 68- 156- 178- 184- 185- 354- 366- 373- 374- 376- 377- 393- 394- 532- 533- 560- 561- 562- 569- 577- 580- 581- 589- 590- 631- 639. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 585 بسيط (6) 278. بشت (2) 578. بشخوان (5) 139. البشكنس (4) 149- 179- 181- 183. البصرة (1) 17- 61- 62- 79- 226- 250- 256- 268- 269- 332- 435- 448- 470- 527- 546- 548- 557- 755- (2) 213- 326- 356- 357- 359- 365- 371- 372- 375- 408- 507- 508- 540- 548- 549- 550- 551- 552- 553- 554- 558- 559- 561- 562- 563- 565- 567- 577- 578- 582- 583- 586- 587- 591- 593- 595- 596- 599- 602- 604- 606- 607- 608- 609- 610- 611- 612- 614- 615- 616- 617- 618- 619- 620- 621- 622- 626- 629- 630- 638- 639- 643- 644- 645- 647- 649- (3) 6- 7- 8- 9- 100- 11- 13- 17- 18- 19- 22- 25- 28- 33- 34- 35- 39- 41- 43- 44- 45- 46- 49- 52- 53- 54- 55- 56- 60- 61- 62- 63- 81- 87- 88- 94- 97- 98- 99- 110- 114- 160- 166- 169- 170- 172- 173- 174- 175- 177- 179- 180- 181- 182- 183- 184- 185- 186- 188- 189- 193- 199- 204- 207- 209- 215- 223- 225- 229- 233- 235- 237- 239- 240- 241- 242- 244- 245- 246- 247- 250- 252- 253- 254- 258- 260- 261- 263- 266- 267- 269- 270- 273- 297- 298- 300- 304- 305- 307- 317- 321- 339- 343- 345- 352- 361- 363- 364- 375- 377- 378- 379- 382- 383- 384- 385- 390- 404- 410- 423- 424- 425- 437- 449- 451- 462- 464- 469- 470- 482- 483- 484- 486- 494- 495- 497- 498- 499- 500- 501- 511- 513- 514- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 586 517- 519- 522- 524- 525- 526- 529- 532- 534- 536- 539- 542- 543- 549- 551- 552- 553- 554- 556- 560- 561- 563- 564- 566- 569- 574- 576- 578- 606- 622- 623- 624- 629- 635- 645- 646- 647- 654- 659- (4) 4- 7- 8- 9- 10- 11- 19- 20- 21- 22- 23- 25- 26- 38- 106- 111- 112- 116- 144- 145- 293- 295- 353- 360- 361- 364- 368- 369- 371- 376- 385- 418- 566- 570- 571- 572- 574- 576- 584- 591- 596- 603- 608- 611- 612- 616- 621- 623- 624- 629- 630- 631- 632- 633- 638- 640- 642- 643- 649- 653- 655- 658- 674- 675- 678- 679- 684- 687- 696- (5) 35- 36- 39- 58- 63- 65- 72- 76- 145- 180- 249- 263- 264- 267- 615- (6) 8- 15- 176- 177- 207- 264- 279- 289- 291- (7) 25- 26- 596- 718. بصرى (2) 450- 517- (3) 276- (4) 110- (5) 173- 176- 300- 339- 357- 384- 385- 392- 408- 411- 415. البطاح (2) 500- 501- 504. البطائح (3) 81- 525- 528- 553- 606- 646- 659- (4) 675- 678- 679- (5) 39- (6) 15- 16. بطاوة (قطاوة) (6) 424. بطبيرة (6) 385. البطحاء (1) 62- (4) 178- (6) 59- 61- 62- 383- (7) 73- 93- 103- 104- 115- 154- 158- 166- 169- 175- 176- 188- 189- 190- 191- 208- 210- 291- 294- 335- 435- 436- 437- 462- 533- 578- 579- 580- 637. بطركية هرقل (1) 291. بطرنة (7) 510. البطرون (5) 361. بطليوس (1) 84- (4) 165- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 587 167- 168- 169- 178- 191- 198- 200- 202- 211- 228- (6) 248- 249- 312- 313- 314- 315- 321- 323- 329- 330- 372- (7) 272. بطوية مرادة (6) 89- 152- 167- 307- (7) 224- 233- 234- 264- 448- 461. البطيحة الكبرى (2) 83- (3) 391- 403- 426- 525- 526- 529- 531- 540- 541- 543- 544- 545- 546- 547- 549- 552- 553- 569- 575- 576- 617- 619- (4) 326- 362- 363- 365- 368- 576- 596- 603- 613- 615- 616- 618- 619- 621- 625- 626- 638- 674- 675- 677- 678- 679- 680- 681- 682- 683- 684- (5) 35- 76. بعرا (6) 232. بعرطاف (5) 12. بعلبكّ (1) 79- (2) 127- 128- (4) 76- 109- 122- 347- 398- (5) 173- 180- 181- 183- 184- 186- 274- 276- 281- 285- 287- 294- 298- 300- 301- 327- 340- 342- 343- 384- 385- 392- 405- 408- 411- 413- 415- 420- 424- 432- 440- 442- 449- 561- 568- (7) 728- 738. بعليا (5) 360. بغداد (1) 26- 28- 30- 61- 62- 87- 88- 94- 194- 200- 201- 207- 217- 224- 251- 264- 361- 374- 399- 420- 427- 428- 470- 527- 528- 540- 548- 561- 566- 567- 807- 825- 829- 837- (2) 20- 30- 211- 275- 276- 390- 514- 524- 638- (3) 192- 244- 247- 248- 253- 255- 259- 262- 263- 264- 265- 269- 273- 275- 285- 288- 289- 292- 293- 294- 295- 296- 297- 298- 299- 300- 301- 302- 304- 305- 307- 308- 309- 310- 311- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 588 312- 313- 314- 315- 316- 317- 320- 321- 322- 327- 330- 332- 334- 339- 340- 342- 343- 344- 347- 348- 351- 352- 353- 354- 355- 356- 359- 360- 361- 362- 363- 365- 366- 367- 369- 375- 376- 377- 383- 390- 391- 397- 398- 400- 405- 410- 412- 414- 416- 418- 420- 423- 424- 427- 429- 430- 431- 432- 433- 435- 436- 437- 440- 441- 443- 444- 445- 446- 447- 449- 456- 457- 459- 461- 462- 463- 464- 465- 468- 470- 471- 473- 478- 479- 480- 481- 482- 483- 485- 486- 487- 494- 496- 497- 498- 499- 500- 502- 503- 504- 505- 506- 509- 510- 511- 512- 513- 515- 516- 517- 518- 519- 520- 521- 522- 523- 524- 525- 527- 528- 529- 530- 531- 532- 534- 535- 536- 537- 538- 539- 540- 544- 545- 546- 547- 548- 549- 550- 551- 552- 554- 555- 557- 560- 561- 562- 564- 565- 566- 567- 568- 569- 570- 571- 572- 573- 574- 576- 577- 578- 579- 580- 582- 583- 584- 585- 588- 590- 591- 593- 594- 595- 596- 597- 598- 599- 600- 601- 602- 603- 604- 606- 607- 608- 609- 610- 611- 613- 614- 615- 616- 617- 618- 619- 620- 621- 622- 623- 624- 626- 627- 628- 630- 631- 632- 633- 634- 635- 636- 637- 638- 639- 640- 641- 642- 643- 644- 646- 647- 648- 650- 651- 652- 653- 654- 655- 656- 657- 658- 659- 662- 663- 664- 665- (4) 9- 11- 22- 23- 24- 26- 30- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 589 31- 35- 37- 46- 47- 58- 77- 78- 79- 83- 104- 109- 111- 112- 113- 114- 117- 120- 121- 123- 126- 129- 130- 133- 144- 145- 182- 184- 213- 214- 215- 247- 270- 288- 290- 291- 292- 293- 294- 295- 296- 297- 298- 299- 304- 308- 312- 313- 314- 315- 316- 317- 320- 321- 324- 325- 326- 327- 328- 329- 332- 333- 336- 337- 338- 339- 340- 342- 353- 354- 356- 357- 358- 359- 360- 362- 364- 366- 367- 370- 371- 372- 373- 368- 374- 375- 383- 395- 397- 399- 400- 401- 402- 403- 404- 405- 406- 413- 415- 419- 420- 422- 423- 424- 426- 427- 428- 434- 436- 437- 438- 439- 446- 449- 454- 456- 457- 516- 529- 539- 548- 550- 551- 552- 553- 560- 565- 566- 567- 568- 569- 570- 571- 572- 573- 574- 579- 580- 581- 582- 583- 585- 589- 590- 591- 592- 593- 594- 597- 598- 599- 601- 605- 606- 607- 608- 609- 610- 611- 612- 613- 615- 616- 618- 621- 622- 623- 625- 626- 628- 629- 630- 631- 632- 633- 634- 639- 641- 642- 644- 649- 650- 651- 652- 653- 654- 655- 656- 657- 658- 662- 668- 669- 671- 674- 675- 676- 677- 678- 679- 680- 681- 682- 686- 687- 689- 690- 691- 692- 695- 696- (5) 9- 11- 12- 14- 15- 16- 17- 18- 19- 21- 25- 26- 27- 28- 29- 30- 31- 32- 33- 37- 38- 40- 41- 42- 43- 45- 47- 54- 55- 57- 58- 59- 63- 64- 65- 66- 67- 68- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 590 69- 70- 71- 72- 73- 74- 75- 76- 77- 79- 80- 81- 82- 85- 86- 87- 89- 91- 93- 97- 98- 101- 103- 104- 112- 113- 114- 129- 141- 145- 147- 148- 158- 169- 170- 171- 172- 174- 176- 177- 178- 180- 189- 199- 200- 212- 213- 219- 223- 248- 249- 251- 253- 257- 262- 263- 264- 268- 269- 270- 272- 273- 275- 278- 285- 286- 288- 297- 325- 335- 420- 423- 437- 441- 442- 459- 472- 494- 498- 501- 502- 503- 505- 506- 512- 544- 548- 573- 574- 575- 584- 586- 598- 599- 602- 607- 610- 614- 615- 616- 619- 623- 624- 625- 626- 627- 632- (6) 10- 17- 18- 27- 94- 211- 236- 250- 256- 407- 410- 416- 493- (7) 13- 148- 250- 300- 358- 526- 620- 681- 682- 692- 693- 721- 723- 725- 726- 736- 739. بغراس (حصن بغراس) (5) 275- 368- 369- 447- 471. بغلان (3) 78. بغلة (1) 323- 325. البقاع (5) 276- 286- 342- 485. بقجوان نقجوان (5) 409- 588. بقرا (5) 71. البقعاء (3) 433 (5) 314- 320- 394- 404. البقيع (3) 243- (5) 622. بقيع الغرقد (2) 432. البقيعة (5) 289. بكاس (بكتاش) (4) 460- (5) 458. بكتوت الأزرق (5) 470. بكسور (5) 297. بكياباد (بكتاباد) (4) 495- 545- 546. (إقليم) بكيل (2) 301- (4) 283. بلاد الأرمن (1) 85- 86- 87- (5) 610. بلاد البربر (1) 60- 312. بلاد البنادقة (1) 85- 92. بلاد (أرض) بني حسن (6) 55- 64. بلاد الترك (1) 62- 82. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 591 بلاد الجبل (3) 626- 628- 643- 656- 657- 659- 660- (4) 457- 558- 575- (5) 68- 69- 71- 81- 90- 101- 102- 103- 104- 112- 114- 115- 128- 129- 130- 133- 143- 149- 170- 598. بلاد الجريد (6) 44. بلاد الجزيرة (1) 87- 88. بلاد الجوف (6) 330. بلاد (أرض) حمزه (6) 55- 64- (7) 342. بلاد الروم (1) 86- 288- (2) 20- 61- 193- 194- 205- 206- 209- 210- 260- 261- 266- 270- 272- 279- 542- 661- 662- 663- (4) 119- 287- 302- 303- 339- 343- (5) 166- 315- 318- 345- 384- 394- 398- 402- 403- 410- 411- 412- 423- 442- 445- 449- 451- 452- 457- 459- 462- 471- 481- 482- 492- 493- 494- 498- 499- 506- 514- 537- 548- 549- 565- 573- 575- 589- 592- 593- 599- 602- 605- 610- 614- 615- 616- 617- 619- 621- 622- 623- 624- 628- 631- 632- 633- 634- 635- 636- (7) 723- 740. بلاد زناتة (6) 375. بلاد شروان (3) 660. بلاد صاقس (1) 97. بلاد الغجم (5) 384. بلاد غمارة (7) 25. بلاد الكرج (5) 616. بلاد كوكو (6) 185. بلاد النخيل (7) 2. بلاد نغزاوة (5) 336. بلاد النوبة (2) 212- (5) 337. بلاد الهبط (6) 28- 29- 282. بلاد الهكارية (5) 293- 309. بلاد يأجوج ومأجوج (1) 96- 97. بلاط الوليد (1) 222- 443. بلبلة (6) 385. بلبيس (2) 45- 46- 306- (4) 62- 68- 93- 97- 98- 114- (5) 241- 242- 244- 291- 328- 329- 330- 386- 389- 391- 413- 433- 454- 455- 531- 551. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 بلجى (1) 98. بلخ (1) 62- 81- (2) 187- 188- 190- 191- 200- 210- 563- 564- 578- 579- (3) 6- 17- 59- 67- 69- 72- 74- 75- 78- 107- 111- 115- 116- 117- 118- 119- 120- 121- 130- 151- 154- 155- 177- 225- 278- 287- 385- 392- 393- 394- 438- 560- 580- 584- 591- 598- (4) 29- 150- 380- 416- 417- 418- 420- 423- 425- 434- 446- 462- 463- 467- 468- 472- 473- 474- 475- 476- 478- 480- 492- 494- 500- 501- 511- 513- 514- 516- 518- 525- 528- 529- 539- 541- 542- 544- 663- (5) 6- 16- 22- 23- 33- 56- 77- 83- 88- 95- 108- 114- 118- 120- 121- 136- 141- 590- 615. بلخش (5) 151. بلد (3) 479- 483- 571- (4) 344- 345- 395- (5) 21- 355. بلد أبي نفيس (7) 232. بلد راشد (6) 134. بلرم (1) 85- (6) 401. بلزمة (3) 453- (4) 259- 260. البلستين (البلنشين البلسين) (5) 452- 514- 565. بلسيس (4) 80. بلطه (4) 51. بلغار (1) 98- 99- 101- (4) 300- (5) 136- 493- 573- 589- 596- 603. البلقاء (2) 19- 49- 99- 100- 109- 267- 268- 331- 334- 387- 456- 484- (3) 217- 218- (4) 365- (5) 408- 436- 485- 500. البلقان (3) 326. بلقين (5) 134- 135. بلنجر (2) 211- 562- 585- (3) 105- 111- 166- 167. بلنسية (1) 84- (3) 264- (4) 158- 176- 191- 201- 204- 205- 207- 208- 209- 210- 211- 212- 213- 216- 231- 232- 233- (6) 248- 249- 250- 251- 259- 322- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 593 335- 340- 385- 388- 393- 394- 418- 419- (7) 245- 251- 433- 484- 510. بلّه (5) 205- 309. بلهرا (1) 74- 75. البلوص (4) 566. بلونية (1) 97. بليّ (2) 341- 541. بليرم (4) 251- 252- 255- 256- 257- 258- 263- 264- 265- 266. بليس (5) 371. بليونة (4) 179. بمّ (4) 566- 595. بنبلونة ينبلونة. بنجن كشت (3) 633. البندنجين (3) 642- 646- 652- (4) 691- 693- 694- 695- (5) 288. البندهجين (3) 631. بنزرت (4) 236- (6) 135- 225- 226- 333- 403- 419. بنطو (1) 91- 97. بنها (2) 85. بنورقة (4) 232. بني سعيد (7) 288. بنيامين (2) 303. البنية (7) 255. بنيونش (6) 395- (7) 285. بهاطية (4) 478- 490- 498. البهجان (2) 341. بهرا (2) 471. البهرج (1) 80. بهستان (5) 152. بهلوانه (4) 14. بهلولة (6) 140. بهند (ويهند) (4) 477- 481. بهنسى (5) 192 (7) 652. البوازيج (البواريج) (3) 410- 571- 612- (4) 338- 340- 343- 366- (5) 45- 55- 66- 189. بواط (2) 424- 425. بوان (4) 629. بوردة (بودة) (5) 400- (6) 78- 131- 134. بورغة (6) 275. بورق (6) 255. بوسس (3) 91. البوسفور (7) 718. بوشنج (1) 80- (3) 6- 11- 212- 277- 278- 367- 386- (4) 415- 417- 431- 463- 476- 523- 525- 526- (5) 29- 94- 110. بوشنجان (2) 572. بوصير (3) 164- 165. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 594 بوطه (6) 152. بوطيف (4) 255. بوقان (5) 134. بولاق (1) 71- (5) 517- 567- (7) 652- 699. بولق (3) 89. البونت (4) 200. بونه (1) 76- 435- (2) 369- (4) 236- (5) 236- 237- 239- (6) 21- 45- 95- 131- 151- 195- 215- 232- 236- 259- 333- 398- 400- 402- 489- 492- 494- 495- 497- 522- 527- 528- 529- 534- 535- 538- 539- 542- 546- 553- 582- 588- (7) 54- 121- 136- 144- 295- 332- 345- 353- 356- 367- 373- 374- 386- 391- 392- 507- 558- 560. بويو (توتو- نونو) (7) 323. بئر أريس (2) 588. البئر البيضاء (5) 333. بئر السبع (2) 138. بئر معونة (2) 348- 365- 380- 438. بئر الناقة (2) 268. بياسة (ساسة) (6) 314- (7) 271. بيت حبرين (جبرين) (2) 543- (5) 232. البيت الحرام (1) 436- 439. بيت قوجة (5) 383. بيت لحم (1) 443- (2) 43- 103- 107- 108- 110- 114- 166- 167- 169- 170- 261- (5) 361- (7) 716. بيت المقدس (1) 288- 289- 315- 316- 436- 440- 441- 442- 443- 444- (2) 12- 19- 30- 39- 45- 48- 78- 79- 81- 82- 87- 97- 102- 105- 110- 111- 112- 113- 114- 116- 119- 121- 123- 125- 126- 128- 134- 135- 136- 137- 138- 140- 141- 143- 144- 145- 147- 148- 149- 150- 154- 155- 158- 159- 163- 164- 167- 169- 170- 171- 173- 174- 175- 177- 178- 179- 189- 193- 194- 196- 198- 212- 222- 225- 228- 235- 238- 239- 240- 241- 242- 243- 244- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 595 246- 247- 252- 253- 257- 258- 264- 265- 268- 278- 279- 280- 410- 416- 426- 543- 544- 554- 636- (3) 265- 440- 585- 589- 655- (4) 80- 82- 83- 85- 100- 261- 365- 396- (5) 7- 24- 26- 169- 210- 211- 212- 214- 248- 274- 333- 361- 371- 375- 500- (6) 127- 330- 331- 578- (7) 4- 351- 691- 716- 720. بيت يعقوب (عليه السلام) (5) 344. بيجان (4) 282. بيجور (5) 132. بيرزود (2) 567. البيرة (4) 161- 170- 177- 203- 217- 341- (5) 8- 278- 293- 305- 347- 348- 440- 443- 444- 450- 451- 452- 614- 615- 616- (6) 239- (7) 253- 265- 536- 550- 727. بيروت (1) 79- (4) 85- 323- 346- (5) 181- 182- 221- 222- 231- 292- 348- 360- 361- 364- 370- 376- 377- 378- 379- 383- 384- 387- 442- 465- 681. بيروزكوه (فيروزكوه) (4) 521- 522- 523- 531- 533- 540- 541- 543- 547- (5) 125. بيزاز شاه (4) 692. بيزنطة (7) 596. بيسان (2) 519- 543- (5) 348- 353- 354- 399- 401- 443- 458. البيضاء (4) 563- (5) 70. بيقش (4) 258. بيقو (5) 282. بيكند (سكند) (3) 109- 412- 446. بيكنداد (3) 75. بيلقان (1) 94- 98- 572- (3) 345- 605- (5) 135- 152- 589. بيهق (2) 578- (3) 130- 393- 476- (4) 556- (5) 90- 108. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 596 حرف التاء (ت) تاجرا (تاجرة) (1) 70- (6) 334- 373. تاجورا (6) 111- 267. تاحجموت (جبل تاحجموت) (7) 188- 189- 190- 196. تادارت (تادرت) (7) 200- 304. تادلا (تادلة) (4) 14- (6) 42- 48- 77- 88- 133- 155- 244- 271- 273- 274- 306- 307- 328- (7) 28- 44- 61- 66- 231- 240- 409- 425- 429- 477. تادنست (تيديسي) (6) 89. تارودانت (6) 91- 142- 244- 273- 348- 353- 357- 367- 368- 369- (7) 200- 304- 322- 388. تازورت (تاوزرت) (4) 40- 259. تازوطا (7) 227- 285- 287. تازي (تازا- تازه) (1) 76- (4) 16- 18- 224- (6) 51- 77- 88- 89- 133- 170- 171- 176- 177- 246- 247- 273- 274- 344- 347- 348- (7) 34- 65- 66- 109- 110- 119- 135- 145- 164- 167- 187- 188- 190- 194- 196- 197- 207- 223- 224- 225- 226- 228- 229- 233- 234- 235- 268- 278- 283- 286- 290- 302- 318- 319- 320- 321- 333- 368- 369- 389- 419- 420- 421- 426- 435- 445- 445- 448- 449- 450- 456- 461- 463- 464- 465- 466- 471- 475- 480- 481- 482- 578- 579- 633. تاسالة (تاسالت) (6) 63- 64- 498- (7) 145- 146- 154- 202- 254- 307- 334- 335- 341. تاسبيت (تاسبيت) (6) 78- 80. تاسة (تامة- تاقية) (7) 193- 269. تاسعون (تاشعوت- تاسيفموت) (6) 306. تاسكولت (7) 125. تاش (4) 459- 460- 497. تافرا (6) 132. تافربوست (تاقريوست) (6) 230. تافرطا (تافركا) (7) 238- 241. تافرطست (7) 277. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 597 تافريست (تافرسيت) (6) 274- (7) 111. تافريكت- (تافركنيت- تافركينت) (7) 91- 123- 124- 131- 206- 210- 211- 291- 294. تافيلات (تافيلالت) (6) 63- 87- 89- 133- (7) 434. تاكدنا (تكرتا- تاكرني) (4) 157- 165. تاكرارت (تكرارت) (6) 155- 166- 247- 309- 459- 516- 550- 551- (7) 61- 171- 296. تاكما (بامكا) (7) 304. تالموت (7) 291. تامرا (4) 370. تامرغوست (تامدغرست) (7) 379. تامزردكت (تامزيزدكت) (6) 38- 347- (7) 143- 144- 145- 291- 331- 362. تامستا (تامسنا) (4) 14- 16- (6) 28- 32- 37- 39- 40- 43- 133- 215- 244- 274- 276- 277- 278- 279- 280- 282- 298- 310- 348- 349- (7) 235- 243- 266- 311. تامسكروط (6) 368. تامطريت (7) 304. تامطولت (7) 200. تاملوكاف (6) 277. تامنطيت (6) 78. تامين (4) 423. تاهرت (3) 213- (4) 18- 20- 45- 48- 49- 54- 56- 57- 178- 187- 242- 243- 253- (6) 126- 131- 132- 136- 142- 147- 148- 153- 154- 159- 160- 162- 171- 172- 174- 176- 177- 185- 191- 193- 204- 205- 207- 208- 209- 210- 228- 238- 261- 285- 328- 375- (7) 16- 18- 22- 23- 24- 34- 35- 37- 38- 41- 44- 45- 53- 54- 104- 243. تاورت (7) 322. تاورغي (4) 250. تاوريرت (6) 77- 82- 87- (7) 146- 195- 289- 290- 335- 391- 392- 461- 464- 480- 518. تاوزر (4) 78. تاوغزوت (7) 210. تاولا (1) 76. تاونت (6) 157- (7) 290. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 598 تبالة (1) 74- (2) 302- (4) 283. التبت (1) 18- 81- 82- 90- (2) 191- 209- (3) 291. تبرنده (4) 527. تبرين (1) 88- (3) 494- 514- 565- 577- 605- 608- 618- 625- (4) 330- 410- 667- 673- (5) 59- 68- 102- 103- 134- 146- 148- 149- 150- 151- 152- 153- 154- 155- 158- 164- 165- 268- 319- 588- 592- 593- 596- 598- 607. تبسه (1) 76- (3) 453- (4) 43- 49- (6) 186- 260- 571- 573- (7) 19- 21- 54- 647. تبكياس (6) 281. تبنين (حصن تبنين) (5) 360- 387- 388. تبوك (1) 125- 204- 609- (2) 24- 26- 47- 48- 251- 267- 298- 306- 465- 468- 469- 470- 471- 491- 605- (5) 65. تحيفة (4) 156. تخشيبة (5) 61. تدرش (7) 491. تدلس (تدليس بدليس) (4) 315- 598- (5) 168- 207- 391- (6) 169- 200- 234- 380- 458- 477- 547- 551- 552- (7) 145- 160- 170- 186- 196- 292- 295- 330- 338- 370- 372- 384- 385- 481- 523. تدمر (1) 79- (2) 112- 311- 335- 354- 519- (3) 141- (5) 155- 182- 183- 250- 385- 416- 420. تدمير (3) 264- (6) 321. تدنيس (3) 480. تربة منجك (7) 733. ترجالة (6) 321- 330. ترخان (1) 98. ترسة (4) 168. ترشيش (1) 813- 814. ترغة (4) 16- (6) 289. تركستان (2) 185- (3) 549- 557- 639- 640- 656- 659- 660- (4) 492- 509- 510- 513- 514- 515- 517- 518- 519- (5) 77- 107- 126- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 127- 427- 573- 584- 585- 586- 596- 601- (7) 722- 724- 739. تركية (7) 727. ترمز (1) 62- 81- 82- (3) 58- 70- 71- 116- 142- 154- 155- 219- 226- 557- (4) 463- 467- 475- 506- 511- 514- 515- 516- 539- 544- (5) 8- 22- 23- 77- 86- 121- 122- 132- 155- 587- 589- 590- 615. ترنوخ (5) 142. ترودانت (6) 131. تروى (4) 117. تسابيت (6) 88- 131- 134. تسالة (6) 229- 234- (7) 368. تستر (1) 80- (2) 201- 377- 551- 553- 629- (3) 392- 394- 397- 398- 487- 495- 496- 501- 502- 542- 547- 549- 562- 564- 599- 616- 633- 655- 658- (4) 24- 25- 176- 421- 495- 569- 616- 621- 626- 637- 653- (5) 31- 58- 74- 76- 99- 313- 624- 626- 627- 630- (7) 566. تسترين (تستدين) (4) 177- 178- 179. تستشان (5) 142. تسول (توسول) (4) 16- (6) 170- 171- 176- 177- 246. تطانية (4) 251. تطوان (6) 282- 288- 290. تطيلة (4) 164- 165- 169- 206. تعز (4) 273- 277- 278- 279- (5) 337- 346- 579- 580- 581. التعكر (4) 272- 274- 275- 283. تعمر (4) 282. تغرت (6) 510. التغرغر (1) 82- (5) 83. تغريب (5) 463. تغليس (1) 94- (2) 542- 562- 572- (3) 111- 256- 344- 345- (4) 674- (5) 59- 99- 147- 149- 150- 151- 157- 458- 589. تقرّت (7) 64. تقيوس (4) 49- (7) 17- 18. تكرت (تكرر تكور) (6) 269- 281- (7) 69. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 التكرور (1) 69- 70- 104- (5) 496- 497. تكريت (1) 87- (2) 524- 538- 540- 545- (3) 32- 187- 192- 320- 334- 435- 444- 449- 484- 505- 512- 516- 520- 524- 532- 535- 555- 560- 561- 569- 570- 571- 583- 606- 611- 622- 625- 630- 631- 634- 636- 637- 638- 654- 659- (4) 290- 291- 295- 297- 315- 322- 329- 332- 333- 338- 357- 361- 362- 370- 374- 376- 395- 400- 403- 404- 571- 572- 592- 597- 641- 644- 684- 694- (5) 39- 66- 69- 73- 75- 80- 81- 82- 145- 249- 268- 293- 575- 627. تكسار (نكسار) (5) 193- 194. تكسامان (6) 283. تكلات (تيكلات) (6) 254- (7) 331- 334- 384. تكيباس (تيكيسان تيكياس تكيساس) (6) 289- 290- (7) 302. التل (6) 132. تل أعفر (4) 331- (5) 175- 283- 314- 319- 320- 321- 394- 395- 404. تل حمدون (5) 183- 275- 466- 471- 482. تل الحواص (5) 286. تل خالد (5) 284- 300- 307- 340- 352- 353. تل عفرين (5) 127- 253. تل عكبرا (4) 696. تل الفحول (5) 302- 449. تل كيسان (5) 374. تل موزر (5) 278. تل ناشر (باشر) (5) 48- 49- 192- 196- 204- 220- 221- 224- 228- 281- 284- 285- 307- 345- 353- 384- 402- 403- 416- 442- 444. تل نزار (2) 542. تلاغ (7) 237- 242- 281. تلبوس (5) 396. تلبيس (4) 75- (7) 305. تلة ابن حلوف (6) 31- 32. تلكانه (تلكاتة ملكاتة) (7) 53- 62. تلمسان (1) 76- 166- 333- 361- 409- 430- 451- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 452- 545- 834- (4) 7- 14- 15- 16- 20- 220- 223- 234- 239- 240- (5) 483- 504- (6) 21- 26- 39- 43- 45- 46- 54- 56- 59- 61- 62- 63- 68- 69- 70- 71- 77- 80- 81- 85- 87- 88- 101- 130- 131- 132- 133- 134- 146- 142- 146- 147- 151- 157- 158- 160- 165- 166- 167- 171- 177- 178- 191- 193- 206- 207- 228- 233- 234- 246- 247- 250- 251- 252- 254- 261- 270- 273- 283- 284- 301- 303- 307- 308- 309- 312- 316- 317- 322- 325- 327- 328- 335- 337- 340- 346- 347- 353- 357- 362- 375- 390- 391- 392- 393- 394- 397- 401- 406- 420- 422- 435- 441- 445- 447- 448- 449- 450- 452- 457- 458- 459- 463- 465- 466- 471- 476- 477- 484- 485- 489- 490- 491- 494- 495- 496- 497- 498- 506- 520- 523- 532- 533- 545- 546- 552- 555- 561- 566- 567- 569- 571- 572- 588- 590- 593- 594- 597- 608- 609- 610- 611- (7) 10- 12- 16- 17- 23- 27- 32- 33- 34- 37- 40- 42- 45- 48- 59- 60- 61- 68- 70- 74- 75- 76- 82- 84- 87- 89- 91- 92- 93- 96- 98- 99- 101- 102- 103- 104- 106- 107- 109- 110- 111- 112- 114- 115- 116- 117- 118- 119- 120- 121- 123- 124- 125- 126- 129- 130- 131- 132- 133- 134- 135- 136- 137- 138- 140- 142- 143- 144- 145- 146- 147- 149- 150- 151- 152- 153- 154- 155- 156- 158- 159- 160- 161- 162- 163- 164- 165- 166- 167- 168- 169- 170- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 602 171- 173- 174- 175- 176- 177- 178- 180- 181- 183- 184- 186- 187- 188- 189- 190- 191- 192- 193- 194- 195- 196- 197- 199- 200- 202- 203- 205- 206- 207- 208- 210- 211- 212- 213- 215- 216- 218- 221- 227- 228- 230- 231- 238- 242- 243- 244- 248- 269- 278- 281- 282- 283- 286- 287- 288- 289- 290- 291- 292- 294- 295- 298- 299- 300- 302- 303- 305- 306- 308- 310- 313- 318- 319- 320- 321- 324- 330- 331- 332- 334- 335- 337- 338- 339- 341- 342- 349- 350- 351- 353- 355- 362- 365- 367- 368- 370- 372- 373- 376- 379- 380- 381- 384- 385- 387- 388- 389- 394- 397- 398- 399- 400- 402- 404- 411- 412- 413- 414- 417- 418- 419- 425- 426- 431- 432- 434- 435- 436- 437- 438- 439- 444- 445- 446- 447- 455- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 468- 476- 479- 480- 481- 482- 485- 487- 488- 489- 490- 493- 494- 498- 508- 512- 515- 516- 517- 518- 519- 520- 521- 525- 526- 527- 528- 529- 533- 534- 535- 536- 537- 538- 545- 546- 554- 556- 557- 558- 559- 560- 561- 563- 572- 575- 576- 577- 578- 579- 580- 581- 582- 583- 589- 590- 632- 636- 637- 638- 707- 709- 713- 730 . تليوان (7) 215. تماسين (7) 64. تمرور (5) 493. تمنطيت (6) 80- 88- 131- 134- 158- (7) 76- 322. تمواز (4) 546. تميم (4) 284. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 603 تنس (تنيس) (4) 21- 67- 95- 178- (5) 227- 241- 243- (6) 247- (7) 22- 29- 34- 45- 64- 86- 92- 93- 102- 115- 117- 121- 123- 145- 151- 159- 160- 291- 338- 370- 397. تنومه (6) 47. تهائم اليمن (1) 72- 73. تهامة (2) 17- 30- 65- 67- 73- 284- 287- 288- 327- 334- 355- 356- 357- 362- 368- 370- 379- 463- 492- 493- 495- 514- (4) 269- 270- 271- 277- 278- 282- (6) 14- 104- (7) 717. تهدوه (6) 33. تهسنا (5) 466. تهودة (تهود تهوذا) (4) 235- 243- (6) 193- 574- 585- (7) 12. توات (6) 80- 88- 133- 136- 158- (7) 75- 76- 77. توّج (2) 565. توجين (1) 166. تورك (6) 426. توريز (1) 556- (2) 20- (5) 407- 482- 494- 506- 548- 573- 574- 602- 607- 608- 610- 615- 623- 624- 625- 626- 627- 630- 633- (7) 726. توزر (1) 473- (4) 49- (5) 336- (6) 28- 98- 132- 134- 138- 152- 220- 256- 327- 442- 450- 454- 468- 476- 502- 520- 524- 529- 530- 555- 562- 563- 564- 565- 567- 569- 570- 572- 573- 574- 576- 580- 582- 595- 597- 599- 601- 602- 603- 604- 608- 609- 611- (7) 17- 18- 19- 77- 184- 354- 363- 364- 375- 639- 647. توقات (5) 631. توقت (7) 125. توما (3) 86. تومان (3) 168. تونس (1) 76- 314- 316- 333- 352- 362- 422- 423- 432- 464- 504- 529- 544- 545- 571- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 629- 643- 669- 717- 718- 741- 758- 812- 835- 836- (4) 40- 41- 46- 50- 51- 150- 212- 220- 238- 239- 240- 241- 242- 243- 245- 246- 247- 248- 250- 257- 259- (5) 235- 237- 239- 449- 483- 546- 567- (6) 20- 21- 28- 57- 58- 69- 71- 73- 85- 99- 100- 101- 102- 103- 108- 113- 130- 131- 132- 135- 161- 186- 192- 199- 211- 212- 213- 215- 217- 218- 224- 225- 226- 228- 230- 234- 235- 256- 257- 258- 259- 260- 262- 272- 323- 328- 331- 333- 334- 346- 361- 372- 373- 374- 376- 378- 379- 380- 381- 382- 383- 384- 385- 388- 389- 395- 396- 397- 400- 401- 402- 406- 407- 417- 418- 419- 421- 422- 423- 424- 425- 426- 427- 428- 429- 430- 431- 432- 435- 436- 438- 440- 442- 443- 445- 446- 448- 450- 452- 453- 456- 457- 460- 462- 463- 464- 465- 467- 468- 470- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 479- 480- 481- 482- 483- 484- 485- 486- 487- 488- 489- 490- 491- 493- 494- 495- 496- 497- 498- 499- 500- 505- 508- 510- 513- 515- 517- 518- 519- 521- 522- 523- 525- 526- 528- 529- 531- 532- 534- 537- 538- 539- 540- 541- 542- 544- 546- 547- 549- 552- 553- 554- 557- 559- 572- 573- 574- 576- 577- 579- 580- 581- 582- 586- 587- 588- 589- 590- 592- 595- 599- 608- 609- 610- 612- 614- 615- 616- (7) 19- 21- 22- 31- 86- 88- 89- 90- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 605 91- 98- 105- 108- 110- 119- 121- 122- 124- 126- 127- 130- 132- 143- 144- 147- 153- 154- 155- 156- 157- 162- 168- 170- 185- 192- 199- 207- 208- 213- 238- 245- 246- 274- 291- 295- 296- 297- 299- 328- 332- 340- 345- 348- 349- 353- 354- 355- 356- 357- 358- 361- 362- 363- 364- 365- 366- 369- 370- 371- 372- 374- 375- 376- 383- 385- 391- 392- 393- 396- 398- 412- 417- 430- 457- 466- 476- 488- 489- 493- 496- 497- 502- 508- 509- 510- 511- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 519- 520- 522- 523- 524- 525- 526- 529- 530- 531- 532- 533- 535- 537- 574- 577- 590- 596- 638- 639- 645- 646- 647- 649- 651- 671- 685- 687- 688- 689- 707- 708- 709- 713 . تيجس (7) 52. تيجساس (4) 19- (7) 53. تيجست (6) 209- 228. تيحيسن (4) 260. تيران شاه (تيراز شاه) (4) 694- 695. تيرد (5) 33. تيري (2) 542. التيز (4) 496. تيطاوير (تيطاوين) (قلعة حجر النسر) (4) 16- 20- (6) 207- 281- (7) 313. تيطرا (6) 203- (7) 437- 438- 439. تيطري (6) 58- 391- (7) 107- 174- 175- 177- 178- 183- 192. تيفاش (4) 260. تيفاس (3) 453. تيغانيمين (6) 274. تيفني (7) 269. تيكورارين (6) 78- 80- 87- 88- 131- 134- 136- (7) 76- 77- 178- 186- 322- 439- 446- 632. تيكيسان (4) 16. تيكيشاش (4) 16. تيلمنك (1) 75. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 تيماء (1) 79- (2) 341- 367- 514- (6) 7- 8- 15. تيمرزدكت (6) 489- 491- 492- 498- 500- 501- 505- 508. تيمروغت (تيمزوغت) (7) 94- 158. تيمغزين (5) 158. تين ملّل (6) 306- 319- 457- 508. التيه (2) 46- 183- (5) 424- 437. تيونودين (6) 367- 368. حرف الثاء (ث) الثجة (4) 170. الثعلبية (2) 612. الثغر (4) 362. الثغر الأعلى (4) 206. ثمامة (تامة) (7) 283. ثمر الروم (2) 341. الثني (2) 513. ثنية المرار (2) 426- 447. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 حرف الجيم (ج) الجابية (2) 515- 544- 546- 547. جابية الخولاف (2) 269. جاجه (حاجة خاصة) (6) 39. جاجية (4) 40. الجام (5) 123- 124. الجامدة (4) 576- 577- 674- 675. جامع الأزهر (5) 446. جامع الأقمر (4) 91. جامع بني أمية (5) 475. جامع دولام (4) 93. جامع القيروان (6) 18. الجامعين (4) 354- 356- 357- 679. جان (5) 382. جانس (5) 142. جاني (5) 410. جبا (5) 77. جبال ادرن (6) 79- 270. جبال أرمينية (2) 222. جبال الأكراد (1) 80- 94- (2) 545- 551- (4) 407. جبال ألبون (2) 277. جبال ايدمر (7) 55. جبال البتم (1) 81- 82. جبال البربر (4) 16. جبال بشر (6) 313. جبال بلغار (5) 459. جبال بلنسية (4) 155. جبال بهلولة (7) 232. جبال تازا (6) 180. جبال تكريت (2) 201. جبال حصين (6) 183. جبال درعة (6) 369. جبال زنجان (5) 158. جبال زواوة (7) 91. جبال سيرات (6) 307. جبال شردين (3) 332- 333. جبال شلف (6) 170. جبال صنهاجة (7) 91. جبال (جبل) غمارة (4) 146- 275- 289- (6) 320- (7) 235- 241- 288- 401- 413- 466- 485- 489- 590. جبال الغور (1) 80. جبال غياثة (6) 247- 307- (7) 226. جبال القفص (1) 80. جبال ليس (5) 227. جبال مالقة (4) 165. جبال (جبل) المصامدة (7) 51- 280- 378- 388- 396- 424. جبال متيجة (7) 90- 293. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 جبال نفوسة (5) 240. جبال نكيسة (6) 368- 369- 370. جبال نور (5) 391. جبال هسكورة (7) 310. جباية (1) 362. جبق (4) 341. الجبل (الجيل) (3) 144- (4) 449- 452- 490- 491- 495- 497- 505- 600- 610- 634- 646- 648- 658- 659- 661- 663- 664- 665- (5) 85. جبل آزروا (7) 257. جبل الأبواب (1) 95- 98. الجبل الأحمر (6) 259. جبل الأزد (2) 332. جبل أستراباذ (1) 89. جبل أشير (6) 58- 84. جبل أصبهان (1) 87. جبل الأعاجم (1) 88. جبل افرايم (2) 102- 104. جبل الأكراد (5) 167- 593. جبل اكرول (6) 271. جبل اوتبتيش (6) 164. جبل اوراس (جبال اوراس) (1) 75- 76- 361- (4) 49- 55- 236- 241- (6) 29- 30- 31- 34- 46- 119- 132- 135- 140- 143- 153- 185- 195- 196- 233- 383- 424- 453- 480- 510- 574- 585- (7) 2- 10- 11- 12- 14- 18- 22- 69- 77- 79- 85- 394. جبل ايزو (7) 559. جبل ايكجان (3) 452- 453- (4) 492. جبل البتم (1) 90. جبل البصرة (عصي) (2) 525. جبل بلوط (1) 97- 98. جبل البرنات (جبل الثنايا) (1) 84- 91. جبل تابور (6) 198. جبل تاجورا (6) 260. جبل تازا (6) 133. جبل تاسالة (6) 165. جبل تامززدكت (7) 228. جبل تامسكروط (7) 431. جبل تكيسه (6) 88- 91- 92. جبل تلمسان (1) 409. جبل تيطاوين (تيطاون) (7) 38. جبل تيطري (1) 361- (6) 84- 252- (7) 79- 158- 172- 191- 209- 479- 577- 589. جبل تين ملّل (6) 304- (7) 221- 240- 256. جبل ابن ثابت (بني ثابت) (7) 137- 154. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 609 جبل ثور (2) 421. جبل جبراغون (1) 90. جبل جردي (5) 142. جبل الجنادل (1) 71. جبل جهينة (3) 237. جبل الجودي (4) 536- (5) 320- 404. جبل جور (5) 250- 357. جبل جوشن (5) 307- 352. جبل حاتم (6) 585. جبل حاجز (1) 95. جبل حاميم (6) 288. جبل حسان (2) 97. جبل أبي الحسن (6) 284. جبل حمام (4) 271. جبل ابن حميدي (ابن حمدي) (6) 88- (7) 165- 411. جبل الحناش (7) 54. جبل حيدران (6) 211. جبل الخليل (2) 141- 147- 158- 159- (5) 388. جبل بني خليل (7) 184. جبل دارك (جبل دراك) (6) 65- 154- (7) 67- 205. جبل دانس (3) 314. جبل الدبجرة (4) 281. جبل دبدو (7) 170- 425- 426- 632. جبل (جبال) درن (1) 75- 76- 77- (6) 37- 88- 92- 131- 133- 142- 245- 273- 274- 275- 298- 300- 301- 311- 356- 358- 360- 369- 585- (7) 279- 323. جبل دمّر (6) 187- 260. جبل دنباوند (2) 182- 183. جبل ديرو (دبرو) (6) 132. جبل الذهب (6) 245. جبل راشد (بني راشد) (6) 26- 28- 34- 75- 132- 158- 165- 424- (7) 16- 62- 63- 64- 77- 83- 96- 176- 180- 182- 202- 216- 376- 377- 437- 480. جبل رضوى (1) 79- 249. جبل الرمل (4) 283. جبل الزاب (6) 477- (7) 296. جبل زالغ (6) 270. جبل زرهون (4) 224- (6) 194- (7) 227- 468- 474- 634. جبل زغوان (6) 318. جبل زكنون (زكندر) (6) 369. جبل الزنجار (6) 186. جبل الزور (2) 580. جبل الزيتون (2) 162. جبل زيري (6) 169. جبل السري (1) 89. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 جبل سريف (6) 275. جبل بني سعيد (7) 176- 177. جبل السكسيوي (6) 79- (7) 268. جبل سالات (4) 53- (7) 21- 71- 73. جبل سلات (1) 76. جبل السلسلة (1) 87. جبل السلق (3) 444. جبل السمر (5) 476. جبل السن (4) 291. جبل سنوة (سبوة) (6) 209. جبل سياكوه (1) 98. جبل سياه (1) 95- 96- 98- 99. جبل سيرات (7) 75. جبل الشارات (1) 84. جبل الشراة (1) 79- (2) 47- 48- 97- 100- 141- 144- 151- 251- 296- 302- 309- 332- (4) 70. جبل شركس (2) 336. جبل شعيب (6) 225. جبل شكر (2) 475. جبل شمر (2) 303. جبل شمران (2) 129. جبل شنون (شنوق) (6) 228- 238. جبل شهرزور (1) 88- (7) 148. جبل شهريار (4) 662. جبل الصالحية (7) 729. جبل الصخرة (6) 234. جبل الصفاة (7) 717. جبل الصفيحة (7) 466- 469- 471- 430- 539. جبل صهيون (2) 164- 171. جبل طارق (6) 313- (7) 547. جبل الطور (صور) (1) 78- (5) 44. جبل طيِّئ (2) 28- 284- 468. جبل بني عبد الجبار (7) 143- 171. جبل عجيسة (6) 227. جبل العرج (1) 79. جبل عردة (5) 227. جبل عرعون (1) 96. جبل العروس (7) 617. جبل العلافي (1) 72. جبل علودان (7) 241. جبل عياض (6) 198- 499- (7) 21- 63. جبل غباغب (7) 728. جبل غزوان (2) 379- (6) 17. جبل غمارة (6) 306- (7) 288. جبل الفتح (2) 207- 208- 216- 224- 227- (6) 318- 325- 458- (7) 316- 328- 329- 336- 338- 348- 387- 389- 390- 391- 402- 403- 447- 448- 452- 467- 492- 548- 582- 585- 633- 636- 663. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 611 جبل قارن (3) 464- (4) 443. جبل قازاز (7) 7. جبل قاسيون (2) 130. جبل أبي قبيس (2) 419- (4) 132. جبل قطابة (4) 141- 282. جبل القلعة (6) 32- 192. جبل القمر (1) 61- 69- 70- (2) 85. جبل قوقيا (1) 90- 96- 97- 100- 101- 102. جبل الكاي (7) 396. جبل كتامه (1) 75- 361- (4) 104- (6) 227- (7) 21- 22. جبل كريكرة (6) 62- (7) 62- 67. جبل كزولة (كزول) (6) 79- 159- 162. جبل كسال (6) 34. جبل كسروان (5) 476. جبل كلاوي (6) 369. جبل كوكب (5) 348. جبل كيدرة (6) 191- (7) 125. جبل كيكلون (5) 146- 147. جبل لاعة (4) 38. جبل اللان (2) 562. جبل لكائي (6) 274. جبل اللكام (1) 79- 85- 86- 87- 94. جبل مالطة (1) 85. جبل مدبوله (مديونة) (7) 32. جبل مرصالة (موصاية) (7) 137. جبل مرغار (1) 96. جبل مزك (هرك) (6) 283. جبل المستند (6) 75. جبل مسعود (7) 67. جبل مسلاته (6) 188. جبل مطاوع (6) 199. جبل مطايا (4) 139. جبل مغيلة (7) 468. جبل المقدس (2) 102. جبل المقطم (1) 74- (2) 254- (4) 74. جبل المندب (1) 72. جبل النار (4) 252- 256. جبل نفوسة (4) 60- 244- 388- (5) 336- (6) 255- 261. جبل نقر (1) 77. جبل نيت جون (1) 92. جبل الهراة (3) 108. جبل الهساكرة (7) 472- 478- 513. جبل هنتاتة (6) 341- 342- 362- 592- (7) 66- 160- 175- 379- 396- 397- 424- 427- 473- 520. جبل هوارة (6) 220- (7) 73- 202. جبل الواحات (1) 74. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 612 جبل وجدة (6) 165. جبل بني ورتيك (6) 308. جبل ورغة (درعة) (7) 278. جبل ورنيد (ورنيد بني ورنيد) (7) 194- 219. جبل وريكة (7) 456. جبل وسلات (6) 213. جبل ونشريس (وانشريس) (6) 64- 162- 247- 485- (7) 61- 86- 115- 138- 141- 142- 147- 156- 157- 166- 176- 204- 206- 208- 210- 244- 258- 294- 331- 371. جبل يأجوج ومأجوج (1) 90. جبل يسعين (2) 43- 45. جبل يشتر (4) 170. جبل يلملم (1) 74. جبلة (قلعة جبلة) (3) 600- (4) 652- (5) 31- 81- 82- 85- 86- 170- 213- 214- 219- 272- 365- 366- 367- 375- 386- 405- (6) 89- (7) 478. جبلي أجا وسلمى (6) 8- 10- 11. جبلين (3) 366. جبيرة (6) 314. جبيل (جنبلك) (3) 396- (4) 80- (5) 216- 221- 222- 344- 359- 360- 361. جثولية (1) 97- 98. الجحفة (2) 480- (3) 306. الجحون (2) 395- (3) 51. جدلمان (5) 603. جدة (1) 60- 74- 439- (2) 288- (4) 124- 136- (4) 277- 547- 572. جدي (4) 590. الجديدة (6) 274- (7) 90. جديس (2) 325. جرابية (4) 62. جراوة (4) 20- 48. الجرائدة (5) 493. جرباء (2) 267- 468. جرباذقان (3) 564- (4) 497- 557- 653- (5) 20- 93. جربة (جزيرة جربة) (6) 234- 537- 541- 543- 544- 545- 559- 560- 581- 609- 610- (7) 345- 363- 374- 375. جرة العريض (2) 432. جرجان (1) 89- 225- (2) 200- 208- 560- 562- 582- 585- (3) 91- 92- 93- 95- 139- 148- 156- 157- 158- 174- 180- 261- 266- 267- 268- 269- 274- 277- 288- 290- 294- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 613 300- 306- 313- 332- 357- 358- 387- 390- 393- 397- 411- 415- 425- 427- 431- 432- 439- 443- 458- 464- 475- 476- 490- 525- 558- 560- 598- 599- 606- 614- 625- 655- (4) 11- 27- 28- 29- 30- 31- 32- 33- 299- 419- 420- 423- 424- 434- 435- 440- 441- 442- 443- 444- 445- 446- 447- 448- 449- 451- 453- 454- 456- 457- 460- 461- 464- 465- 466- 468- 469- 474- 476- 480- 490- 493- 496- 498- 503- 505- 511- 549- 550- 551- 552- 553- 554- 555- 557- 559- 560- 561- 564- 565- 567- 574- 575- 576- 578- 579- 582- 601- 602- 604- 630- 635- 645- 646- 647- 653- 658- 659- 660- 661- 662- 663- 664- 665- (5) 24- 29- 30- 39- 57- 68- 87- 88- 90- 91- 95- 96- 102- 113- 122- 129- 139- 140- 591. جرجانية (4) 465- 473- 485. جرجرايا (1) 88- (3) 297- 308- 397- (4) 24- 356. جردقان (4) 645. جرش (1) 74- (2) 465- 475- (4) 269- 286. الجرف (2) 28- 489- 499- (4) 15. جرما (2) 366. جرمانية (1) 98. جردا (2) 234. جرزان (3) 139. جرندة (4) 157. جرى (4) 356- 357- 359. الجريد (1) 362- 433- 473- 474- 529- 836- (4) 240- (5) 356- 546- (6) 28- 99- 102- 104- 106- 108- 131- 132- 187- 256- 257- 259- 328- 333- 424- 468- 502- 513- 514- 518- 529- 536- 554- 559- 560- 562- 564- 565- 566- 570- 571- 576- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 614 587- 591- 594- 597- 598- 601- 602- 603- 604- 609- 617- (7) 56- 62- 66- 157- 184- 186- 187- 354- 363- 374- 375- 376- 393- 394- 639. جريد تورز (1) 76. الجزائر (1) 76- 451- (2) 507- (4) 191- 252- (5) 237- (6) 27- 79- 84- 85- 130- 131- 132- 134- 203- 204- 215- 230- 233- 234- 235- 247- 254- 262- 315- 326- 327- 383- 398- 415- 431- 432- 448- 458- 460- 461- 466- 469- 477- 521- 552- 592- (7) 61- 74- 86- 91- 92- 103- 121- 132- 133- 134- 136- 150- 156- 157- 158- 159- 166- 172- 173- 176- 180- 182- 183- 184- 186- 187- 190- 191- 195- 196- 213- 291- 330- 338- 371- 374- 376- 379- 381- 413- 435- 479- 480- 481- 508- 516- 517- 529- 578- 730. جزائر بني مزغناي (6) 72. الجزائر الخالدات (1) 68- 73. جزائر سيلان (1) 72- 73. جزائر الواقواق (1) 72. جزائر الهند (1) 445. الجزعة (2) 642. الجزيرة (2) 30- 38- 44- 78- 79- 116- 118- 120- 121- 123- 130- 179- 189- 201- 203- 204- 205- 257- 266- 271- 278- 288- 308- 316- 322- 331- 356- 357- 358- 359- 369- 371- 372- 380- 382- 499- 500- 513- 524- 541- 545- 546- 547- 554- 562- 571- 581- 590- 592- 641- (3) 38- 39- 41- 44- 46- 89- 96- 98- 103- 105- 115- 127- 139- 140- 158- 162- 164- 166- 167- 172- 173- 174- 185- 186- 190- 191- 205- 206- 207- 208- 211- 212- 213- 219- 223- 227- 230- 252- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 254- 255- 256- 261- 264- 266- 268- 273- 279- 285- 286- 290- 296- 300- 302- 303- 314- 315- 317- 318- 344- 352- 369- 390- 399- 410- 412- 413- 414- 415- 423- 424- 427- 430- 439- 441- 459- 471- 479- 484- 493- 507- 519- 521- 525- 535- 550- 595- 601- 606- 607- 608- 618- 634- 650- 658- 663- (4) 115- 119- 128- 133- 146- 147- 164- 249- 281- 283- 287- 288- 290- 294- 296- 298- 299- 309- 311- 312- 313- 323- 332- 347- 354- 361- 390- 391- 393- 394- 395- 402- 405- 410- 411- 412- 574- 598- 625- 633- (5) 33- 35- 36- 39- 41- 43- 45- 51- 61- 66- 67- 75- 134- 141- 161- 170- 184- 189- 190- 195- 196- 197- 205- 207- 208- 215- 216- 223- 226- 229- 248- 251- 256- 262- 264- 265- 267- 271- 280- 283- 294- 297- 299- 300- 301- 305- 306- 308- 310- 312- 315- 317- 323- 324- 325- 329- 339- 340- 348- 350- 351- 352- 353- 355- 356- 357- 358- 365- 369- 372- 374- 382- 385- 387- 389- 390- 391- 393- 396- 397- 401- 402- 403- 405- 410- 412- 415- 441- 459- 461- 499- 573- 574- 602- 614- 624- 625- 626. جزيرة ارواو (5) 477. جزيرة أروى (3) 23. جزيرة أعدوش (1) 85. جزيرة اقريطش (1) 59- 83- 85- (4) 159. جزيرة أقور (5) 249. جزيرة الأملس (6) 214. جزيرة الأندلس (الجزيرة الاندلسية) (1) 405- 817- (2) 220- 232- (6) 7- 11- 14- 361- 450- 468- 537- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 616 556- 559- 560- (7) 268- 270- 271- 275- 276- 277- 278- 284- 286- 319- 329- 336- 337- 346- 347- 349- 370- 375- 509- 547. جزيرة انكلترا (1) 97- 100. جزيرة أوال (2) 357- (3) 502- (4) 113- 114. جزيرة أوليك (1) 69. جزيرة برعاقبة (أبو قاعة) (1) 100. جزيرة بلونس (1) 83- 85. جزيرة جربة (جربة) (1) 316- (5) 231- 232- 237- 483- (6) 447- 467- 511- 513- 524- 526- 581- 609- 610- 611. جزيرة جنوة (1) 315. جزيرة الحمامات (6) 214. الجزيرة الخضراء (1) 83- 113- (4) 191- 193- 194- 195- 196- 197- 214- 217- 220- 231- (6) 207- 248- 311- 313- (7) 253- 254- 255- 258- 259- 260- 261- 262- 264- 265- 266- 267- 270- 313- 316- 328- 432. الجزيرة الدبيسية (جزيرة بني دبيس) (4) 354- 355- 358- 633- 648- 681. جزيرة رفق (4) 264. جزيرة سردانية (1) 59- 83- 85- 315. جزيرة سرنديب (1) 72. جزيرة سواكن (1) 72. جزيرة شريك (4) 250. جزيرة شقر (6) 385- 388. جزيرة صقلّيّة (1) 59- 83- 85- (2) 233- (3) 255. جزيرة العرب (الجزيرة العربية) (1) 16- 17- 61- 72- 105- 207- 288- 507- (2) 21- 66- 485- (4) 279- (5) 427- (7) 656. جزيرة ابن عمر (1) 87- (3) 559- 571- 588- 594- 596- (4) 315- 321- 330- 345- 372- 410- 411- 412- 414- 415- 583- 598- 605- (5) 11- 18- 21- 27- 28- 36- 38- 40- 43- 49- 51- 66- 225- 248- 250- 264- 267- 279- 282- 299- 305- 308- 310- 311- 313- 314- 315- 325- 349- 355- 377- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 617 391- 394- 397- 441- 615 . جزيرة الفيل (5) 521. جزيرة قادس (1) 84- 316- (6) 312- 313. جزيرة قبرص (1) 59- 78- 83. جزيرة قدوح (4) 231. جزيرة قرقنّة (5) 237. جزيرة القمر (1) 72. جزيرة قوصرة (5) 235- (6) 214. جزيرة ابن كاوان (3) 209- 225. جزيرة كيوثر (كبوثر) (7) 274. جزيرة مالطة (6) 401. جزيرة مالقة (1) 83. جزيرة مايرقة (1) 83. جزيرة مرية (1) 83. جزيرة منرقة (1) 83. جزيرة المنقب (1) 83. جزيرة الموصل (1) 62. جزيرة مومواغا (5) 617. جزيرة ميورقة (1) 59- (6) 325. جزيرة بني نفيس (5) 35. جزيرة وطيف (7) 275. جزيرة الياقوت (1) 82. جسر الحديد (5) 471. الجعبات (6) 233- (7) 73- 75- 104- 115- 206- 215. الجعرانة (2) 465- 466. الجعفرية (3) 349. جفنه (2) 310. جكة (حلبة) (5) 292. الجلحاء (2) 616- (3) 181. جلق (2) 517. جلولاء (1) 88- 313- (2) 536- 538- 539- 540- 552- 554- 563- 629- (3) 365- 622- (4) 10- 233- 370- (6) 140- 141- 425- (7) 10. جليقية (1) 91- (2) 281- (4) 152- 156- 160- 162- 163- 164- 165- 177- 179- 180- 181- 182- 183- 184- 206- 222- 226- 227- 228- 229- 232- (7) 433. جمد (2) 492. جمع (2) 396. جميد (2) 579. جنابة (2) 565- (4) 567- (5) 35. جنجالة (4) 204. الجند (5) 337. جندار (5) 453. جنديسابور (2) 202- 204- 206- 552- 556- (3) 451- 493- 495- 503- 543- (4) 420- 421- 688- (5) 132. جنزة (3) 565- (4) 673. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 618 جنوة (1) 92- (2) 277- (3) 507- (4) 49- 262- (5) 518- 636- (6) 213- 251- 385- 578- 579. جنين (جانين) (5) 354- 404. جهان (5) 61. جهرم (2) 565- (5) 53. جهينة (3) 306. جواتي (2) 504. جودة (6) 78. جور (2) 28- 565. جوربان (كرزبان) (4) 534. جورجيا (7) 725- 727. جورقان (الجوزقان) (4) 542- 630- 692. الجوزجان (1) 80- 81- 82- 90- 250- 416- (2) 579- (3) 77- 78- 79- 115- 118- 130- 154- 212- 217- 321- 352- 354- 377- (4) 3- 432- 463- 468- 469- 474- 477- 480- 482- 501- 511- 514- (5) 21. جوزم (5) 351. الجوسق (3) 194- 354- 356- 372- 373- 374- 379- 380- (4) 355- (5) 258. جوسين (6) 220. جوشن (4) 302. الجوف (2) 240- (4) 217- 231. الجوكان (5) 442. الجولان (2) 335- (3) 275. جوين (5) 84. جيّان (حيان) (1) 84- (2) 281- (4) 213- 215- 221- 226- (6) 253- 314- 318- 319- 321- 335- 338- 395- (7) 251- 254- 259- 271- 433- 507- 570- 610. جيجل (4) 244- (5) 233- (6) 195- 196- 234. جيحان (3) 256- 265- 267- (5) 482. جيحون (جيحوب) (3) 438- 583- (4) 29- 425- 433- 434- 450- 470- 480- 501- 504- 512- 517- 518- 526- 529- (5) 5- 86- 106- 111- 114- 123- 124- 125- 132- 136- 138- 139- 141- 162- 585- 587- 588- 589- 590- 591- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 619 599. جيرة (2) 507. جيرفت (1) 80- (2) 566- 578- 579- (3) 201- 202- 209- 544- (4) 430- 431- 496- 566- 567- 588- 595- 620- 643. جيرون الخليل- إيليا- (2) 40- 43- 45. الجيزة (3) 463- (4) 47- 78- 91- 97- 102- 406- (5) 291- 329- 333- 400- 471- (6) 155. جيش (4) 294. جيلان (2) 562- 585- (4) 38- 144. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 حرف الحاء (ح) حائط العجوز (2) 229- 237. الحاجر (2) 364. حاحة (حاجة) (6) 352- 353- (7) 200- 281- 304. حارم (5) 242- 291- 301- 329- 384- 424. الحازر (2) 371. إقليم حاشد (2) 301- (4) 283. حال (5) 378. حالي (5) 320. الحامه (6) 186- 220- 328- 520- 521- 536- 581- 582- 595- 603- 604- 612- (7) 77- 79- 374- 375. الحبشة (1) 60- 71- 72- 104- 106- 107- 135- 204- 292- 412- 765- (2) 14- 18- 34- 63- 173- 210- 272- 273- 277- 292- 295- 387- 388- 406- 407- 412- 413- 415- 423- 450- 454- 512- (3) 84- 165- (4) 270- (6) 6- 241- (7) 12. حبونة (3) 117- 118. الجثيثية (4) 104. الحجاجية (3) 395. الحجاز (1) 14- 28- 30- 60- 61- 65- 72- 74- 78- 79- 104- 105- 110- 181- 197- 204- 205- 226- 249- 250- 255- 268- 270- 284- 288- 323- 361- 374- 408- 413- 444- 445- 525- 539- 557- 558- 560- 562- 564- 565- 568- 828- 835- 836- (2) 9- 17- 18- 20- 21- 24- 30- 31- 34- 44- 48- 49- 53- 62- 75- 100- 101- 104- 111- 113- 116- 123- 124- 173- 203- 211- 226- 235- 283- 285- 286- 287- 289- 293- 295- 297- 298- 300- 302- 303- 306- 308- 312- 313- 315- 325- 329- 331- 332- 334- 340- 341- 342- 355- 356- 359- 362- 368- 369- 380- 393- 404- 405- 431- 452- 520- 582- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 621 586- 623- 645- (3) 17- 24- 27- 29- 32- 40- 48- 82- 105- 171- 172- 173- 174- 175- 176- 177- 219- 222- 236- 244- 252- 266- 298- 302- 306- 338- 362- 429- 451- (4) 3- 11- 13- 24- 62- 116- 117- 123- 124- 125- 126- 129- 132- 136- 137- 124- 125- 126- 129- 132- 136- 137- 144- 268- 278- 279- 283- 284- 285- 286- 686- (5) 15- 350- 433- 448- 464- 495- 496- 497- 499- 547- 585- (6) 5- 7- 8- 17- 22- 24- 25- 124- 187- 264- 407- 410- (7) 6- 413- 668- 680- 708- 711- 717- 723- 725- 735. الحجر (1) 79- (2) 9- 24- 28- 44- 288- 359. الحجر الأسود (1) 438- 439- (4) 113- 125- 126- 128. الحجفة (2) 24- 458- 480. الحدث (3) 267- 268- 269- 328- 445- (4) 300. حدوى (5) 591. الحديبيّة (2) 349- 386- 447- 449- 455- 457- 478- 633. الحديثة (1) 88- (3) 134- 299- 365- 366- 411- 416- 430- 431- 432- 470- 508- 524- 574- 576- 621- 659- (4) 288- 298- 315- 339- 369- 395- 597- 684- (5) 441. حرّاء (2) 409- 410. حرار (2) 525. حرارة (2) 369. الحراقة (3) 447. حرّان (1) 87- (2) 38- 39- 43- 44- 45- 50- 103- 189- 286- 355- 546- 547- (3) 38- 39- 140- 141- 158- 162- 163- 164- 165- 190- 209- 219- 226- 227- 228- 231- 262- 302- 396- 397- 512- 571- 584- 589- 595- (4) 270- 282- 283- 292- 293- 294- 303- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 622 309- 310- 312- 338- 341- 344- 345- 350- 351- 352- 357- 387- 403- 411- (5) 8- 12- 18- 20- 40- 67- 81- 169- 170- 171- 195- 197- 198- 205- 207- 208- 216- 217- 223- 228- 248- 249- 255- 261- 265- 278- 287- 299- 305- 306- 308- 309- 310- 311- 312- 313- 314- 316- 320- 323- 324- 339- 348- 349- 350- 355- 356- 358- 372- 377- 378- 382- 385- 389- 390- 391- 393- 394- 396- 401- 402- 403- 404- 408- 410- 411- 412- 414- 423- 472- 615- (6) 14- (7) 726. حرب (6) 113. حربي (حرني) (5) 37. حرّة (2) 477- (4) 279- (5) 33. حرة الرمل (2) 478. حرّة بني سليم (2) 367. حرّة النار (2) 367. حرست (3) 134. حرش (3) 134. حرقان (3) 614. الحرم (1) 439- 440. الحرمين (1) 374- (3) 185- 340- 348- 362- 424- 427- 579- 587- 592- (4) 23- 131- (5) 39- 351- 359. الحرمية (5) 277. حروبان (5) 120. حرورا (2) 634- (3) 167. حرورية (3) 219. الحريشية (3) 309. حريم (4) 340- (5) 393. الحزونة (5) 376. حزوى (2) 378. الحسينية (3) 535- (4) 315- 330- 410- 598. حش كوكب (2) 601. الحصن (3) 105. حصن آش (آشر) (7) 570- 607. حصن الابر (2) 126. حصن الاثارب (5) 222- 266- 267- 275. حصن الأجم (2) 574. حصن ابن أبي الحقيق (القموص) (2) 453. حصن الاربات (5) 254. حصن ارجونة (7) 507. حصن ارون (5) 398. حصن أرك (4) 429. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 623 حصن اركش (1) 200- (7) 273. حصن اسكندرونه (2) 154. حصن إشقيل (5) 90. حصن اصبهبذ (4) 431- 476. حصن اصطبونة (7) 284. حصن الإضرار (5) 345. حصن افامية (5) 218. حصن افلنتين (4) 204. حصن الأكراد (5) 214- 286- 289- 292- 294- 365- 396- 449- 450- 457- 462- 469- 610. حصن الاكمة (5) 176. حصن أكمليم (7) 457. حصن الأقارة (الاماري) (5) 176- 255. حصن اندروس (3) 446. حصن انيشه (6) 386. حصن أوال (4) 429- 432. حصن بانياس (5) 282. حصن بجير (7) 284. حصن البرامكة (3) 626- (5) 268- 269. حصن برزية (5) 367- 368. حصن بركونة (7) 259. حصن بني بشير (7) 259. حصن بطزل (4) 455. حصن بكر (7) 142- 143- 331. حصن بلخ (3) 255. حصن بلمة (7) 254. حصن البيرة (4) 155. حصن تاحجموت (7) 462- 481- 589. حصن تازوطا (7) 224- 286- 288. حصن تاسكرات (6) 174. حصن تافرجا (6) 364. حصن تافركينت (7) 116- 207. حصن تاقيوت (6) 272. حصن تانصاصت (6) 367- 368. حصن تاونت (7) 244. حصن تطليت (5) 278. حصن التعكر (5) 337. حصن تلا (4) 141. حصن التلصص (4) 600. حصن توكال (7) 141- 212. حصن تيسخت (6) 353- 357- 364- 367- 368. حصن الجامة (4) 170- 177. حصن جرج (3) 168. حصن الجعبات (7) 209. حصن جعفر قلعة جعفر. حصن جلدك (5) 284. حصن جلمانية (6) 321. حصن جلولاء (2) 575. حصن جليانة (7) 258. حصن الحجارة (2) 216. حصن حجر النسر (4) 19. حصن الحديد (3) 89. حصن الحرث (2) 543. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 624 حصن الحمراء (7) 251. حصن حموص (هونين) (5) 292. حصن الحنش (4) 179. حصن الحواني (1) 86. حصن خدد (4) 280- 281- 283. حصن خسرو جور (5) 90. حصن خفان (4) 357. حصن الداثر (4) 277. حصن داخون (2) 141. حصن درك (4) 453. حصن دلوكة (4) 302. حصن الدملوة (4) 141- 276- 282. حصن ذي القرنين (5) 278. حصن رام (5) 208. حصن الرزق (5) 278. حصن الرستن (5) 301. حصن رعيان (5) 345- 346. حصن رمسة (5) 174. حصن ريطة (روطة) (4) 165- 166- 179- (7) 259. حصن زالق (2) 580. حصن زردنا (5) 222. حصن زم (3) 116. حصن ونطرة (3) 168. حصن زياد (4) 302- 315. حصن سقوط (7) 273. حصن السلالم (2) 453. حصن سمندان (4) 281. حصن سنان (سمنان) (3) 320- (4) 176. حصن سنتمرية (4) 177. حصن السهلة (7) 570- 607. حصن شبرمة (6) 321. حصن الشرف (4) 277. حصن شريش (6) 280. حصن شقيف (5) 181. حصن شنغيلة (6) 324. حصن الشوبك (الشويك) (5) 295- 335- 348- 358- 448. حصن شونة (4) 168- 169. حصن شيطران (4) 155. حصن صافيتا (5) 296. حصن الصعب بن معاذ (2) 453. حصن صعدة (6) 139. حصن الصقالبة (3) 284. حصن الصمدان (4) 281. حصن صنعاء (4) 280. حصن الطاق (4) 431- 432- 460- 507. حصن طرش (4) 177- (6) 329. حصن الطومار (5) 214. حصن عرقة (5) 296. حصن العريمة (5) 282. حصن علوان (6) 247. حصن علودان (6) 296- (7) 235- 312- 485. حصن غافق (6) 325. حصن غرماج (4) 183. حصن غزية (5) 221. حصن النادة (5) 283. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 625 حصن الفرج (الفرح) (4) 198- (5) 54. حصن القدموس (5) 230. حصن قره (3) 320. حصن قرورية (3) 355. حصن القشتيل (6) 468- 544- 560- 581- 610. حصن القصر (6) 313. حصن قصرانه (4) 495. حصن قطيانة (7) 258. حصن القلعتين (5) 397. حصن القليعة (7) 258. حصن قمارش (4) 217. حصن القناطر (7) 273. حصن قيلا (3) 323. حصن الكأي (6) 178. حصن كسرى (2) 215. حصن كفخ (3) 23. حصن كماح (5) 197. حصن كوكب (5) 398. حصن كيفا (4) 359- 407- (5) 36- 177- 214- 216- 248- 249- 250- 251- 252- 257- 258- 265- 267- 270- 277- 281- 283- 289- 290- 295- 302- 303- 305- 308- 310- 314- 318- 320- 324- 345- 349- 351- 355- 354- 356- 394- (7) 692. حصن لقنت (4) 166. حصن لوقا (4) 310. حصن مأمون (4) 486. حصن ماجد (3) 320. حصن ماداس (7) 22. حصن ماردين (5) 249. حصن قيجة (7) 184. حصن مجدل (5) 360. حصن مجريط (6) 330- (7) 270. حصن المحولي (5) 183. حصن المدور (6) 340. حصن المرأة (2) 508. حصن مرات (7) 206. حصن مرادة (7) 462. حصن مزيلة (4) 210. حصن المسلى (7) 268. حصن المشعر (الشعر) (2) 210- (4) 274. حصن مصدود (4) 280- 281. حصن المعدية (5) 580. حصن ملا (5) 578. حصن مليح الارمني (3) 479. حصن مليلة (7) 244. حصن منث مولن (4) 166. حصن المنتلون (4) 176. حصن منصور (3) 479- (5) 258. حصن المنكب (7) 270. حصن المنيطرة (5) 290. حصن مهدي (3) 385- 501- 502. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 626 حصن ناعم (2) 453. حصن النجير (2) 494. حصن نهدي (3) 385. حصن ابن هبيرة (3) 501. حصن الهفتجان (4) 604. حصن وادي ابن الأحمر (5) 232. حصن وان (5) 396. حصن الوبيد (3) 105. حصن الوطيح (2) 453. حصن ياسنة (5) 278. حصن يسّ (4) 215. حصن يشتر (4) 165- 166. الحصنة (الحضنة المصنة) (6) 34- 46- 132. حصني (4) 356. حصون الاماري (5) 253. حصون الجبال (5) 337. حصون سجستان (5) 278. حصون الهكارية (حصون الأكراد الهكارية) (5) 271- 277. حصيد (2) 513. حصين (7) 436- 438- 479- 561- 577- 580- 581- 589. حضرموت (1) 73- 105- (2) 9- 11- 21- 22- 24- 32- 34- 53- 58- 289- 290- 292- 306- 393- 476- 477- 478- 481- 482- 491- 492- 494- 495- 501- 646- (3) 184- 210- 214- 343- (4) 116- 172- (4) 269- 283- 285- (5) 388- (7) 327- 502- 504- 627. الحضرة (6) 341- 342- 343- 344- 345- 347- 348- 349- 350- 352- 377- 379- 384- 385- 386- 390- 395- 401- 402- 406- 427- 430- 436- 440- 444- 446- 449- 452- 453- 457- 458- 459- 460- 462- 463- 464- 465- 467- 468- 469- 470- 471- 474- 475- 480- 481- 482- 485- 486- 487- 488- 489- 490- 491- 492- 493- 494- 495- 496- 499- 501- 502- 503- 504- 505- 506- 507- 509- 510- 511- 512- 514- 515- 517- 518- 519- 522- 523- 524- 526- 527- 528- 529- 531- 536- 538- 539- 540- 541- 542- 543- 544- 545- 549- 551- 552- 553- 554- 555- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 556- 557- 558- 560- 562- 563- 566- 567- 570- 571- 587- 588- 596- 597- 598- 599- 600- 601- 603- 607- 608- 609- 610- 614- 615- (7) 26- 27- 38- 39- 43- 55- 87- 88- 91- 120- 123- 130- 133- 182- 206- 207- 208- 236- 237- 240- 243- 289- 294- 322- 323- 333- 335- 336- 385- 409- 420- 425- 444- 499- 508- 554- 574- 583- 663. حضرون (2) 110- 111. حضن (2) 355. حضورا (2) 189- 286- 355. حطين (5) 359- 360- 361- 362- 364- 388- 447. حفير (2) 508- 608- 609. حلب (1) 86- (2) 20- 111- 116- 139- 145- 147- 209- 226- 265- 274- 275- 276- 370- 371- 542- (3) 95- 97- 100- 227- 260- 264- 302- 396- 413- 414- 416- 440- 441- 445- 518- 519- 525- 527- 531- 538- 546- 581- 582- 586- 588- 589- 590- 594- 595- 600- 621- 666- (4) 65- 66- 69- 75- 76- 80- 82- 86- 99- 109- 121- 295- 296- 298- 300- 301- 302- 303- 306- 307- 309- 310- 311- 312- 314- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 327- 341- 342- 345- 346- 347- 348- 349- 350- 351- 352- 353- 362- 369- 390- 393- 395- 399- 404- 405- 407- 408- 409- 413- 605- 633- 695- (5) 5- 6- 7- 8- 10- 11- 12- 14- 18- 19- 20- 21- 49- 50- 51- 52- 63- 64- 66- 67- 155- 161- 166- 167- 169- 170- 171- 172- 173- 174- 175- 176- 177- 178- 179- 183- 184- 185- 186- 188- 190- 194- 195- 196- 200- 204- 210- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 217- 218- 220- 222- 223- 224- 226- 227- 228- 229- 245- 248- 251- 252- 253- 254- 255- 261- 262- 263- 264- 265- 266- 269- 273- 274- 275- 279- 280- 281- 282- 283- 284- 285- 287- 289- 292- 296- 298- 299- 300- 301- 302- 303- 304- 306- 307- 311- 313- 315- 320- 324- 325- 329- 339- 340- 341- 342- 345- 346- 348- 352- 353- 354- 356- 363- 366- 367- 369- 372- 375- 383- 384- 385- 386- 387- 390- 392- 393- 395- 398- 402- 403- 410- 411- 413- 414- 415- 416- 417- 419- 422- 424- 425- 432- 437- 438- 439- 440- 441- 442- 443- 444- 445- 449- 454- 456- 457- 459 464- 465- 466- 467- 471- 472- 473- 474- 476- 478- 479- 481- 482- 485- 486- 487- 488- 490- 491- 493- 499- 501- 503- 507- 508- 509- 510- 511- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 518- 523- 524- 526- 533- 534- 535- 541- 548- 549- 550- 551- 552- 553- 554- 556- 557- 558- 559- 561- 562- 565- 566- 568- 569- 570- 571- 574- 575- 593- 614- 615- 619- 620- 627- 628- 632- 634- (6) 10- 11- 13- 14- 15- 18- (7) 714- 727- 730- 738. الحلّة (1) 249- (2) 380- 525- 572- (3) 587- 596- 601- 603- 604- 606- 607- 609- 610- 612- 613- 617- 618- 619- 624- 626- 631- 633- 634- 636- 637- 641- 646- 647- 650- 651- 652- 659- (4) 36- 345- 353- 355- 359- 360- 361- 365- 366- 367- 368- 371- 372- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 629 373- 374- 375- 376- 633- 657- 682- 684- (5) 20- 25- 28- 30- 31- 32- 37- 38- 39- 40- 42- 47- 54- 55- 68- 69- 73- 74- 75- 76- 188- 249- 262- 269- 627- (6) 9- (7) 358. حلوان (2) 537- 538- 539- 550- 556- 559- 591- 602- (3) 86- 144- 158- 159- 200- 213- 230- 294- 295- 296- 314- 355- 375- 471- 473- 485- 506- 547- 548- 564- 566- 567- 572- 599- 600- 607- 611- 629- 636- 641- 642- 645- 659- (4) 74- 337- 449- 468- 558- 570- 575- 621- 648- 656- 657- 659- 687- 690- 692- 693- 694- 695- 696- (5) 26- 31- 40- 85- 87- 212- 248- 251- 288- 391- (7) 602. حلوان العراق (1) 225- (2) 264- (3) 31- 151. حلوان مصر 88- (2) 271. حلوانة (3) 284. حلى (4) 279. حمام أعين (3) 198. حماة (2) 99- 114- 122- 130- 259- 265- 280- 541- (3) 396- 443- 665- (4) 16- 38- 76- 109- 122- 137- 310- 314- 348- 349- 398- 399- (5) 52- 176- 178- 181- 197- 223- 226- 252- 254- 256- 258- 266- 270- 273- 274- 275- 283- 284- 285- 286- 298- 300- 301- 302- 304- 306- 310- 323- 340- 341- 343- 350- 357- 366- 372- 374- 376- 378- 385- 382- 395- 401- 402- 405- 406- 408- 410- 411- 412- 415- 416- 422- 423- 424- 425- 434- 435- 437- 438- 440- 442- 445- 446- 447- 458- 460- 464- 466- 469- 471- 473- 475- 476- 479- 480- 481- 486- 487- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 630 489- 490- 491- 493- 501- 502- 503- 507- 548- 561- 563- 565- 568- 569- 571- 604- 605- 620- (6) 11- 12- 13- (7) 738. حمدين (3) 168. الحمراء (4) 220- 221- (7) 462- 467- 470- 495- 549. حمراء الأسد (2) 437. حمرين (3) 115. حمزة (حمرة) (6) 202- 228- 229- (7) 104. حمص (1) 79- 86- 820- (2) 10- 114- 143- 145- 148- 209- 265- 267- 268- 269- 275- 450- 515- 516- 518- 541- 543- 545- 546- 547- 558- 575- 576- 583- 590- 591- 602- (3) 11- 47- 106- 134- 135- 136- 140- 141- 142- 164- 206- 208- 218- 219- 276- 290- 296- 346- 349- 355- 360- 375- 396- 413- 414- 416- 425- 427- 429- 451- 507- 533- 595- (4) 38- 62- 65- 66- 82- 83- 99- 109- 111- 139- 150- 197- 296- 305- 307- 309- 311- 312- 314- 318- 319- 323- 341- 387- 390- 392- 393- 395- 403- 404- 405- (5) 14- 20- 24- 25- 51- 52- 169- 170- 172- 173- 175- 176- 178- 182- 183- 184- 186- 211- 214- 215- 216- 218- 221- 226- 243- 244- 245- 250- 252- 266- 274- 276- 282- 283- 285- 286- 287- 289- 291- 292- 298- 300- 301- 302- 306- 316- 323- 324- 327- 328- 331- 340- 343- 344- 356- 365- 372- 374- 385- 386- 390- 392- 393- 396- 397- 405- 407- 408- 413- 414- 415- 416- 420- 424- 425- 432- 438- 440- 442- 444- 445- 446- 457- 458- 459- 466- 469- 472- 473- 474- 475- 480- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 631 482- 485- 488- 490- 491- 499- 502- 507- 508- 510- 550- 563- 568- 605- 617- 619- 620- (6) 7- 11- (7) 608- 738. حملين (5) 278- 393- 394. الحمة (6) 44. حمودة (حمود) (4) 249- 260. حموم (5) 471. حمى ضربة (2) 370. الحميدية (5) 293. الحميمة (3) 128- 217. الحميمي (6) 265. حنين (1) 256- (2) 267- 349- 367- 368- 387- 462- 465. الحوأب (2) 498- 608. الحوراء (1) 78- (5) 351. حوران (1) 806- 816- (2) 100- 101- 519- (3) 295- (5) 182- 184- 185- 227- 230- 231- 256- 276- 277- 296- 499- (6) 7. حورس (5) 155. حوشب (5) 293. حوف (5) 6. حومة الموفر (6) 257. حوى (5) 134. حويلا (2) 44. حيّاس (6) 586. حيانة (حيانية) (7) 259. حيدران (5) 20. الحيرة (1) 18- 61- 79- 87- 525- (2) 19- 60- 61- 64- 66- 73- 189- 200- 201- 203- 207- 210- 213- 214- 284- 285- 287- 288- 289- 300- 301- 303- 305- 308- 310- 311- 312- 315- 316- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 325- 326- 327- 331- 334- 351- 374- 376- 405- 504- 507- 509- 510- 511- 513- 514- 519- 521- 522- 523- 525- 526- 527- 528- 540- 550- 570- 642- (3) 99- 100- 121- 124- 125- 131- 136- 144- 180- 193- 205- 218- 227- 310- 601- (5) 27- 501- (6) 10- (7) 571- 597. حيفا (5) 215- 360- 377- 444- 465. حيون 228. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 حرف الخاء (خ) الخابور (1) 87- (2) 202- 309- (3) 366- 484- (4) 294- 344- 411- (5) 12- 36- 46- 67- 168- 190- 216- 225- 251- 265- 294- 299- 305- 307- 311- 315- 316- 324- 339- 348- 349- 353- 389- 397- 398- 594. خابور الحسينية 319. خارد (4) 241. خازر (4) 37. خازرون (1) 89. خاقان (3) 80- (5) 95. الخاقانية (5) 605. الخالص (3) 622- (4) 370- (5) 64. الخالصة (4) 263. خالنجان (4) 456. خانقاه (5) 83. خانقين (2) 539- (3) 192- (4) 692- (5) 69- 401. خانكو (1) 73. خبايا (4) 649. ختان (3) 424. الختل (1) 81- (3) 117- 119- (4) 446- 511. ختن (4) 513- 515- 518. خثعم (4) 283. خجستان (5) 420. خجنده (1) 90- (3) 80- 104- (4) 514. خراجة (4) 264. خراسان (1) 14- 62- 80- 81- 82- 89- 200- 225- 250- 264- 361- 360- 374- 475- 546- 566- 577- 578- 580- 582- 584- 585- 586- (3) 6- 8- 10- 11- 17- 18- 19- 22- 47- 48- 52- 53- 58- 59- 63- 64- 66- 67- 68- 369- 70- 72- 74- 75- 81- 83- 86- 87- 88- 91- 92- 93- 94- 95- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 633 96- 98- 100- 101- 203- 206- 208- 110- 112- 113- 114- 115- 116- 119- 121- 122- 125- 126- 127- 128- 129- 130- 131- 136- 137- 138- 139- 141- 145- 146- 148- 149- 150- 152- 153- 157- 158- 159- 162- 169- 170- 172- 173- 174- 175- 176 177- 178- 183- 209- 211- 212- 217- 218- 221- 223- 224- 225- 226- 227- 228- 230- 231- 232- 233- 234- 235- 236- 238- 249- 250- 251- 252- 253 255- 257- 259- 260- 261- 263- 265- 266- 267- 271- 273- 274- 276- 277- 278- 279- 280- 284- 285- 286- 287- 288- 289- 290- 291- 292- 293- 302- 304- 305- 306- 309- 312- 313- 314- 315- 317- 318- 319- 321- 327- 331- 332- 335- 338- 343- 348- 345- 356- 357- 360- 366- 367- 369- 373- 375- 380- 386- 387- 389- 390- 391- 392- 394- 398- 412- 415- 416- 417- 423- 424- 45- 426- 427- 429- 430- 431- 432- 438- 439- 441- 451- 456- 457- 458- 460- 473- 475- 476- 483- 484- 522- 525- 541- 543- 546- 548- 558- 559- 563- 573- 575- 559- 563- 573- 575- 578- 579- 581- 588- 591- 595- 598- 599- 601- 602- 606- 610- 614- 615- 622- 624- 625- 626- 627- 631- 632- 636- 638- 639- 640- 642- 655- 659- 660- (4) 3- 4- 9- 11- 26- 27- 28- 29- 30- 31- 32- 33- 35- 79- 111- 118- 119- 123- 124- 137- 143- 144- 242- 246- 290- 299- 305- 330- 370- 371- 372- 410- 415- 417- 418- 419- 420- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 634 421- 422- 423- 424- 425- 426- 427- 429- 432- 433- 434- 435- 436- 444- 445- 446- 447- 448- 449- 450- 451- 452- 453- 454- 455- 456- 457- 458- 459- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 469- 470- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 477- 479- 480- 483- 484- 485- 490- 491- 492- 493- 494- 495- 496- 497- 498- 499- 500- 501- 503- 504- 505- 506- 507- 508- 510- 511- 512- 513- 515- 516- 517- 518- 5321- 523- 525- 526- 528- 529- 530- 531- 533- 534- 537- 541- 544- 547- 549- 550- 552- 559- 564- 565- 566- 569- 572- 575- 576- 577- 578- 579- 580- 586- 587- 594- 595- 602- 604- 621- 634- 635- 637- 645- 647- 649- 657- 659- 660- 661- 663- 664- 672- 686- 687- (5) 5- 8- 13- 14- 15- 16- 20- 21- 22- 23- 25- 27- 29- 30- 32- 33- 35- 38- 39- 45- 57- 64- 68- 69- 70- 73- 74- 76- 77- 78- 82- 83- 84- 85- 86- 87- 88- 91- 92- 94- 95- 99- 102- 104- 106- 107- 108- 109- 110- 113- 114- 115- 116- 117- 118- 120- 124- 125- 126- 127- 128- 130- 131- 132- 136- 137- 138- 139- 140- 141- 143- 144- 146- 153- 157- 158- 160- 164- 268- 272- 287- 288- 323- 406- 493- 494- 495- 498- 499- 534- 548- 573- 574- 585- 586- 587- 588- 589- 591- 592- 593- 602- 608- 613- 615- 617- 618- 619- 621- 622- 624- 626- 629- (6) 16- (7) 13- 600- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 635 693- 720- 721- 722- 724- 725- 726- 732- 735- 738 . خراشفة (3) 167. تخربة اللصوص (5) 447. خربتا (2) 625. خربندا (خرشيد) (6) 12. خرت برت (حصن زياد) (4) 315- (5) 46- 158- 166- 178- 190- 195- 197- 228- 253- 255- 258- 259- 411- 518- 593- 631. خرخان (حرفان) (4) 594. خرخير (1) 82. خرزان (2) 572. خرزوزة (7) 116- 117- 119- 208- 261- 269- 282. الخرسة (5) 86. خرشنة (1) 94- (2) 272- (3) 422- (4) 300. خرماباذ (3) 333. خريدة (1) 84- 91. خزاعة (3) 70. الخزر (1) 59- 61- 95- (2) 277- 584- (3) 105- 167- 225- 335. الخزرانية (4) 642. الخزرية (3) 375. الخزلجية (1) 62- 82- 90. مدينة الخضر (2) 79- (4) 422. الخضراء (7) 104- 270- 272. خط الاستواء (1) 58- 60- 61- 64- 65- 66- 67- 68- 70- 71- (4) 285- (6) 369. خط بهاثر (5) 143. خفان (2) 523- 524. خفشاخ (1) 99- 102. خلاط (1) 62- 94- (2) 20- 277- 547- 572- (3) 111- 480- 481- 605- 644- 650- (4) 304- 343 (5) 6- 10- 20- 38- 34- 93- 95- 134- 147- 149- 150- 152- 153- 155- 156- 158- 160- 161- 162- 163- 166- 167- 168- 170- 192- 196- 197- 198- 204- 205- 206- 207- 208- 209- 250- 254- 297- 298- 306- 309- 317- 322- 323- 349- 350- 355- 356- 378- 384- 396- 397- 401- 402- 403- 406- 407- 409- 410- 411- 481- 488- 592- 593- 594- 631. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 636 خلخال (3) 633- 636- (4) 374- (5) 75- 80- 157- 158. خلقدونية (3) 177- 178. الخليج الأخضر خليج عمان (1) 60- (7) 718. خليج الأزرق (5) 400. خليج البنادقة (البندقية) (1) 60- 83- 92- 93- (5) 636- (7) 78. خليج الحبشة (2) 21. خليج الزقاق (1) 59- (4) 147. خليج طنجة (1) 76- 83. خليج العقبة (7) 695- 696- 717. خليج فارس (2) 21- (7) 718. خليج القسطنطينية (1) 59- 83- 93- 94- 95- (2) 220- 221- 232. الخليجة (1) 90. خليص (5) 448. الخليل (2) 233- 263- (5) 361- 383. خم الشعراء (4) 83. خناصر (2) 542. خناصرة (6) 14. الخنافس (2) 513- 523. الخندق (2) 348- 349- 526. خوارزم (1) 61- 62- 90- (2) 200- 207- 579- (3) 69- 77- 79- 80- 92- 104- 146- 354- 389- 394- 412- 428- 433- 557- 558- 580- 593- 639- 655- (4) 330- 423- 425- 433- 440- 441- 450- 455- 462- 465- 468- 469- 473- 485- 486- 492- 493- 494- 495- 499- 500- 503- 504- 505- 506- 510- 515- 525- 526- 529- 530- 531- 532- 533- 534- 535- 540- 542- 544- 546- 587- 639- 647- (5) 5- 13- 17- 23- 24- 25- 57- 76- 77- 79- 86- 98- 99- 101- 102- 106- 107- 108- 109- 110- 111- 112- 113- 114- 115- 116- 117- 118- 121- 124- 125- 128- 130- 131- 132- 133- 136- 137- 138- 139- 162- 164- 173- 180- 288- 323- 406- 430- 493- 573- 585- 586- 587- 588- 589- 590- 591- 602- 603- 609- 621- (7) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 637 724- 725- 726- 730- 739 . خوض (3) 195- 198- 203. الخورنق (2) 313- (7) 597. خوزستان (1) 80- (2) 8- 126- 550- (3) 391- 477- 498- 540- 541- 542- 543- 544- 545- 546- 547- 550- 551- 561- 562- 563- 566- 596- 597- 599- 625- 629- 633- 634- 635- 636- 638- 639- 641- 642- 643- 645- 647- 606- 616- 651- 652- 654- 655- 656- 657- 658- 660- (4) 119- 337- 353- 373- 374- 420- 495- 559- 568- 612- 614- 615- 616- 616- 618- 619- 620- 621- 626- 629- 633- 649- 655- 679- (5) 27- 28- 30- 31- 32- 39- 44- 45- 58- 69- 72- 74- 75- 77- 79- 81- 82- 85- 89- 91- 97- 99- 100- 113- 119- 136- 145- 154- 268- 591- 608- 624- 625. خوص (5) 580. خولنجان (4) 691. خونج (5) 62. خونجان (1) 88. خوى (3) 582- 605- 631- (5) 148- 149- 151- 152- 153- 155- 156- 158- 161- 197- 409. خيالا (4) 486. خيبر (1) 14- 79- (2) 30- 101- 111- 340- 357- 367- 401- 432- 433- 439- 441- 451- 453- 454- 455- 470- 497- 582- 598- (3) 48- (6) 3. الخيزرانة (3) 300. خيمو (4) 509. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 حرف الدال (د) دابق (3) 90- 93- 267- 320- (5) 275. دار بكرد (5) 53. الدار البيضاء (6) 274- (7) 90- 322. دار الجاثليق (3) 45. دار السلام (1) 567. دار العز (4) 272. دارا (3) 134- (4) 306- (5) 249- 281- 320- 325- 404- 415. دارابجرد (1) 80- (2) 192- 199- 553- 566- 577- 648- 649- (4) 629. داران (3) 191- 195. دار بند العرابلي (5) 377. الداروم (2) 484- (5) 361- 383- 384- 486. الدارون (4) 503. داري (5) 308. داريا (3) 285- (5) 184- 276- 305- 349- 475. دارين (2) 504- 505- (3) 544- (4) 116. داغستان (7) 725. الدامغان (3) 477- 558- 598- 599- 655- (4) 31- 458- 474- 493- 552- 555- 557- 565- 575- 586- 600- 635- 659- 661- (5) 22- 29- 30- 84- 95- 96- 113- 152- 153. دامون (6) 265. دانية (1) 84- 758- (2) 278- 390- (4) 191- 205- 208- 209- 212- 230- 232- (6) 248- 251- 454. داوندار (5) 284. داوين (2) 580. دايمرج (4) 373. دبا (2) 495- 506. دباب (6) 440. دبال (4) 694- (5) 64. دباني (4) 592. دبدة (7) 427. دبدو (7) 434- 435. دبلواه (4) 489. دبوسية (4) 469. دبيس (5) 313- 320- 323- 403- 404- 615. دبيل (1) 94- (2) 572- (3) 76- 84- 344- 480- (4) 548. دجرد بروجرد (4) 557. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 دجلة (1) 217- 420- (2) 37- 38- 78- 125- 188- 194- 200- 201- 203- 210- 264- 360- 511- 519- 523- 524- 536- 537- 538- 545- 559- (3) 189- 192- 197- 198- 207- 211- 212- 213- 220- 221- 223- 247- 252- 261- 299- 300- 313- 317- 320- 328- 343- 350- 353- 364- 369- 383- 384- 390- 399- 400- 401- 404- 405- 407- 408- 410- 411- 416- 421- 423- 424- 430- 434- 435- 448- 474- 494- 511- 512- 521- 563- 595- 596- 601- 621- 641- 652- 662- 663- (4) 321- 365- 366- 369- 385- 395- 528- 593- 612- 675- 678- 679- (5) 20- 32- 38- 55- 58- 66- 69- 76- 170- 189- 248- 249- 265- 268- 273- 280- 295- 298- 315- 319- 327- 574- 614- 627- 635- (6) 15- (7) 597- 681- 718. دجيل (2) 551- (3) 183- 199- 378- 571- 603- 613- (4) 359- 360- 696- (5) 37- 268. دحمون (6) 216. الدخكت (4) 631. دراك (7) 174. درب هارون (3) 650- (5) 298. دربساك (قلعة دربساك) (5) 385. دربند الروم (5) 451. دربند (درنبر) شروان (5) 135- 146- 148- 149- 159- 481- 548- 565- 589- 605- 617. الدربندات (5) 167. درج (6) 261- 378. الدردنيل (7) 718. درعة (1) 75- (4) 236- (6) 77- 87- 88- 89- 92- 122- 131- 133- 172- 173- 243- 244- 271- 273- 298- 306- 310- 341- 344- (7) 51- 110- 146- 164- 165- 232- 233- 240- 247- 279- 322- 335- 388- 411- 433- 474- 478. درن (1) 76- (6) 271- 367- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 640 370. درنا (2) 366. درهة (3) 134. الدروب (1) 86- (5) 481. دريغ (6) 131. درين (5) 327. دريندكرخ (5) 113. دست (4) 677- (6) 356. دست فيان (ميسان) (2) 540- 550- (3) 384- 426- 515. دست القفجاق (5) 598- 603- 610. دستان (5) 88. الدسكرة (2) 640- (3) 191- 566- 622- (4) 370- 694- 696- (5) 64. دقوقا (3) 195- 303- 483- 622- 639- (4) 325- 326- 332- 370- 691- 695- (5) 19- 64- 145- 588. دكالة (6) 133- 274- 339- (7) 458- 473. دلاس (دلاص) (1) 74- 77- (5) 50. دله ديسة (3) 284. دلهي (دهلي) (4) 525- 528- 533- 548- (7) 727. دلوك (2) 542. دلوكا (5) 284. دما (4) 594. دمّر (6) 170. دمّر عران (3) 134. دمرلو (5) 631. دمشق (1) 19- 79- 162- 222- 226- 365- 407- 470- (2) 22- 40- 43- 102- 103- 111- 114- 116- 117- 120- 121- 128- 130- 139- 145- 146- 147- 150- 151- 159- 160- 169- 237- 263- 264- 265- 268- 269- 271- 272- 275- 285- 332- 334- 335- 450- 510- 515- 516- 518- 519- 533- 541- 547- 575- 583- 605- 625- 629- (3) 15- 41- 42- 43- 45- 86- 103- 120- 125- 128- 131- 133- 134- 135- 136- 140- 141- 142- 145- 164- 219- 275- 276- 294- 295- 320- 337- 346- 347- 353- 376- 396- 414- 420- 422- 423- 427- 429- 438- 443- 467- 507- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 511- 512- 519- 525- 534- 585- 586- 589- 594- 600- 650- 655- 664- (4) 58- 59- 60- 61- 62- 64- 65- 66- 68- 69- 70- 72- 75- 76- 78- 79- 80- 84- 85- 86- 95- 97- 98- 109- 110- 113- 114- 121- 122- 127- 128- 134- 150- 292- 293- 296- 298- 314- 316- 318- 322- 341- 346- 347- 348- 349- 352- 353- 365- 371- 384- 386- 387- 392- 393- 394- 395- 397- 398- 403- 404- 405- (5) 7- 8- 11- 12- 14- 18- 19- 26- 44- 47- 50- 51- 52- 66- 161- 169- 170- 172- 173- 174- 176- 177- 178- 179- 180- 181- 182- 183- 184- 185- 186- 188- 195- 196- 197- 210- 211- 213- 214- 216- 217- 218- 219- 221- 222- 224- 225- 226- 227- 228- 229- 230- 231- 232- 240- 242- 250- 251- 254- 256- 266- 267- 270- 272- 274- 276- 277- 281- 282- 285- 287- 289- 292- 295- 298- 299- 300- 301- 302- 304- 306- 308- 312- 315- 322- 323- 324- 327- 328- 329- 335- 339- 340- 341- 342- 343- 344- 346- 348- 349- 350- 351- 352- 353- 354- 356- 357- 359- 361- 363- 364- 365- 366- 370- 373- 374- 382- 383- 384- 385- 386- 387- 388- 390- 391- 392- 393- 394- 395- 399- 401- 402- 405- 406- 407- 408- 409- 410- 412- 413- 414- 415- 416- 417- 418- 419- 420- 421- 422- 423- 424- 425- 429- 432- 433- 435- 436- 437- 438- 439- 440- 441- 442- 443- 445- 446- 447- 448- 449- 450- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 451- 452- 453- 454- 456- 458- 459- 462- 463- 464- 465- 467- 469- 470- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 479- 480- 484- 485- 486- 487- 488- 489- 490- 493- 499- 500- 502- 506- 507- 508- 509- 510- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 518- 520- 521- 522- 523- 524- 532- 534- 535- 539- 543- 544- 548- 549- 550- 551- 552- 553- 554- 555- 556- 557- 558- 559- 561- 562- 563- 565- 566- 567- 568- 569- 570- 571- 575- 577- 605- 615- 619- 620- 622- 628- (6) 9- 11- (7) 12- 259- 598- 619- 675- 681- 701- 714- 715- 728- 729- 733- 739. دمقش (4) 257- 258. الدملوة (حصن الدملوة) (5) 578- 580- 581- 582. الدمنة (6) 247- 296- (7) 312. دمون (2) 306- (4) 283. دمياط (1) 71- 78- (2) 12- (3) 347- (4) 78- 79- 95- 100- 101- 382- (5) 245- 246- 318- 333- 334- 348- 372- 399- 400- 401- 403- 405- 406- 416- 417- 418- 431- 434- 437- 446- 471- 533- 554- 560- 568- 577- (6) 78- 134- 425- 426- (7) 692- 695. دميانة (3) 478. دنباوند (2) 560- (3) 157- 203- 278- 286- 318- 332- 457- 461- 482- (4) 33- 624- (5) 62. دنس (5) 320. دنقلة (1) 71- (5) 461- 492- (6) 265. الدنوسية (3) 104- 110. دنيسر (5) 249. دهارير (3) 313. دهستان (2) 209- 582- (3) 602- (4) 462- 501- 505- 604- (5) 30- 91- 95- 96- 97- 109. دهلك (1) 72- (3) 235- (4) 269- 271- 273- 274. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 دهلي (1) 227. الدهناء (4) 131. الدهوس (6) 55- 56. الدور (3) 373- 374- 380. دورق (درق) (2) 551- (4) 650. الدورقة (4) 161. الدوس (الدوسن) قلعة جعبر (5) 95- 121- 279- (6) 33- 585- (7) 64- 175- 176- 177- 209- 436- 437- 581- 638. دوقاط (5) 193- 194. دوقبر قرابلي (5) 310. دومة (2) 500. دومة الجندل (1) 79- (2) 47- 267- 298- 306- 394- 440- 444- 468- 512- 513- 634- 635. دوير (دوين دوبرة) (5) 101- (6) 131. ديار بكر (2) 20- 275- (3) 429- 484- 493- 498- 537- 538- 545- 551- 559- 571- 581- 587- 588- 590- 594- 595- 597- 601- 605- 606- 607- 609- 650- 663- (4) 115- 119- 128- (4) 312- 316- 317- 318- 319- 320- 321- 324- 328- 330- 331- 332- 338- 342- 345- 351- 353- 407- 409- 410- 411- 412- 413- 414- 493- 576- 598- 599- 605- 637- (5) 5- 9- 11- 12- 18- 20- 28- 33- 36- 38- 39- 43- 45- 46- 50- 51- 166- 168- 170- 171- 177- 179- 189- 190- 192- 204- 207- 223- 227- 229- 230- 247- 248- 249- 251- 256- 257- 261- 270- 278- 281- 298- 309- 312- 323- 329- 345- 349- 353- 372- 378- 390- 391- 410- 469- 575- 594- 602- 614- 615- 619- 628- 631- 635- (7) 692- 739- 740. ديار ثمود (1) 79. ديار ربيعة (2) 358- 663- (5) 614. ديار كندة (4) 269. ديار مضر (4) 390. الدياس (الرياس) (7) 144. ديالى (3) 622- 608- (4) 367- (5) 41. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 دير البغل (2) 256. دير الجماجم (3) 203. دير الزعفران (4) 289. دير سمعان (3) 96. دير العاقول (3) 485- 532- (4) 419- 623. دير القصير (2) 256. دير منى (3) 160. الديلم (1) 22- 61- 95- 218- 251- 361- 374- 419- 420- (3) 6- 157- 214- 232- 266- 270- 274- 280- 283- 292- 294- 319- 333- 334- 387- 393- 415- 425- 430- 431- 439- 443- 446- 457- 458- 464- 475- 476- 477- 490- 491- 499- 509- 510- 511- 512- 513- 514- 516- 517- 521- 522- 524- (4) 8- 9- 11- 14- 140- 143- 144- 293- 418- 425- 430- 434- 437- 438- 440- 444- 493- 601- 620- 632- (7) 580. الديماس (7) 126. الدينار (1) 226. الدينور (1) 88- (2) 558- (3) 390- 434- 473- 476- 477- 494- 499- 558- 626- 629- 642- (4) 330- 373- 447- 449- 451- 557- 558- 564- 566- 575- 587- 600- 601- 631- 636- 657- 659- 669- 684- 685- 686- 688- 690- 691- 692- 693- (5) 44- 69- 72- 87- 615. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 645 حرف الذال (ذ) ذات الأبواب (1) 48. ذات الحمام (4) 71. ذات الخيم (2) 507. ذات الصواري (2) 575. ذات عرق (2) 288. ذات المطامير (3) 224. الذرابند (5) 447. ذراع الصابون (7) 283. ذرقنا (7) 656. ذو قرد (2) 445. ذي أمر (2) 431. ذي جبلة (4) 271- 272- 273- 274- 276- 280- 281. ذي حرض (2) 342. ذي الحليفة (2) 427- 449- 458- 472- 493. ذي خشب (2) 490- 595- 597- 599. ذي طوى (2) 460- (3) 26. ذي قار (2) 214- 318- 319- 320- 322- 323- 359- 405- 525- 526- 612- 613- 614. ذي القصة (2) 490- 494- 496. ذي المروة (2) 515- 595. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 حرف الراء (ر) رابغ (5) 350. الرادندبين (4) 695. راور (3) 76. راس البركة (4) 71. راس الجنادل (5) 461. راس الطابية (7) 357. راس طمره (طره) (6) 556. راس العين (2) 358- 547- (3) 471- 484- (4) 115- (5) 278- 299- 306- 313- 314- 320- 350- 391- 393- 394- 404- 414- 569. راس وكيعا (2) 547. راس الماء (5) 245- 357. راغول (4) 469. الرافضة (1) 87. رامسة (3) 75. رامهرمز (1) 80- (2) 551- 553- (3) 52- 56- 188- 189- 398- 417- 427- 491- 495- 506- 529- 536- 542- 562- (4) 24- 361- 574- 603- 608- 616- 619- 650- 653- (5) 36. رامين (3) 18. راهط (3) 46. الرباط (1) 208- (6) 28- 280- (7) 300- 413. رباط اسنة (1) 76. رباط تازى (6) 328. رباط جلولاء (5) 64. رباط السلطان أبو سعيد (1) 430. رباط الفتح (1) 430- (6) 328- (7) 229- 230- 231- 235- 241- 258- 271- 272- 275- 311- 319. رباط ماسة (1) 75- (6) 310. رباط المنستير (7) 357. الرباق (2) 555. الرَّبَذَة (2) 370- 491- 494- 587- 588- 599- 612- 621- (3) 238- (6) 14. الربض (3) 388. ربكان (3) 625. رتبيل (3) 60- 100. رجيس (رحيش) (6) 504- 506. الرجيع (ماء الهذيل) (2) 380- 438- 453. الرحبة (1) 87- (3) 414- 415- 429- 449- 471- 505- 572- 588- 594- 611- 616- 646- (4) 109- 110- 112- 294- 299- 308- 316- 327- 338- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 647 340- 343- 344- 346- 349- 367- 393- 583- 598- 658- (5) 10- 12- 18- 21- 48- 49- 52- 59- 66- 67- 170- 173- 190- 251- 261- 264- 265- 283- 316- 327- 356- 385- 416- 420- 456- 458- 459- 470- 479- 488- 491- 569- 574- 605- 617- 627- (7) 726. رحبة مالك بن طوق على الفرات (2) 358. الرخّج (2) 580- (3) 7- 398- (4) 428- 436- 446- 502- 503. ردمان (2) 400. ردنة (5) 159. رزدنا (5) 228- 254. الرس (2) 32- 53- 286. رستاق (3) 105- 558. رستاق رام (2) 578. رستن (2) 536. رسلان (1) 101. الرسوم (1) 80. رشقباد (4) 696. رشيد (1) 71- 78- (2) 89- (4) 47. الرصافة (2) 513- (3) 129- 131- 142- 212- 229- 250- 251- 261- 313- 362- 363- 395- 418- 438- 568- 573- (4) 657- (7) 620. الرضاب (2) 513. رعيان (رعبان) (5) 48- 51- 403- 446- 481. رغد (3) 535. رغوس (4) 254- 255- 256. رغيش (رغيس) (6) 101- 489. رفح (2) 543. رفسة (رفنيّة) (4) 341- (5) 218. رقادة (3) 454- (4) 43- 44- 45- 50- 260- 261- (6) 173- 285- (7) 19- 53. رقطون (6) 227. الرقم (3) 276. الرقة (1) 62- 87- 378- (2) 272- 546- 547- 626- (3) 208- 219- 247- 254- 277- 284- 288- 289- 296- 302- 303- 307- 312- 313- 315- 316- 317- 361- 396- 412- 413- 415- 416- 427- 429- 431- 439- 441- 443- 467- 471- 472- 497- 516- 519- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 648 571- (4) 65- 66- 109- 112- 261- 292- 293- 295- 296- 299- 308- 316- 318- 319- 322- 338- 342- 344- 346- 351- 357- 385- 387- 390- 391- 393- 394- 395- 399- 404- 405- 411- 414- 571- (5) 10- 12- 49- 51- 55- 215- 248- 249- 275- 278- 280- 287- 292- 294- 299- 303- 304- 305- 307- 311- 313- 320- 324- 339- 341- 348- 349- 353- 389- 404- 414. رقوبل (4) 212. رقوط (4) 212. الرقيم (5) 297- 335. الركان (2) 524. ركراكة (6) 352. ركوان (7) 277. رمادة (4) 70. رمسة (5) 177. رمطة (روطة) (4) 57- 258- 264. الرمكة (7) 318. الرمل (6) 378- 540. الرملة (2) 268- 517- 543- 544- (3) 86- 136- 346- 376- 396- 414- 507- 550- 585- 603- (4) 53- 55- 58- 60- 61- 62- 63- 64- 69- 70- 75- 78- 80- 84- 114- 127- 128- 292- 316- 347- 360- 378- 386- 394- 403- 404- 628- (5) 7- 38- 169- 215- 217- 334- 342- 344- 361- 362- 380- 381- 382- 383- 395- 399- 475- 500- 561- (6) 9- (7) 715. رميلة (5) 226- 227- 523- 529- 533- 538- 553- 567- (7) 700. رنده (1) 113- (4) 152- 157- 170- 195- 196- 199- 217- 218- 221- (6) 249- 313- 314- 315- 322- 324- (7) 31- 71- 253- 258- 267- 286- 316- 319- 357- 390- 404- 418- 419- 420- 442- 445- 446- 497- 505- 547- 570- 608. الرها (1) 87- (2) 180- 243- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 649 249- 260- 265- 266- 275- 276- 477- 541- 546- 547- (3) 38- 219- 505- 512- 518- 589- 594- 595- (4) 83- 86- 292- 293- 300- 312- 334- 341- 351- 353- 403- 409- 411- (5) 5- 12- 14- 18- 20- 25- 26- 40- 46- 48- 49- 50- 51- 67- 128- 169- 170- 171- 179- 190- 195- 198- 204- 205- 208- 211- 214- 215- 216- 217- 220- 223- 225- 227- 228- 248- 249- 251- 252- 254- 255- 261- 262- 265- 269- 278- 281- 299- 300- 305- 308- 310- 311- 313- 324- 339- 340- 348- 349- 355- 356- 358- 372- 377- 378- 382- 385- 389- 391- 394- 396- 401- 402- 406- 408- 410- 411- 412- 414- 575- 615- 628- (7) 726. روئين دزوكان (5) 71. رواحة (1) 77. الروبان (الرويان) (1) 225- (3) 267- 269. الروحاء (2) 427- 437- (5) 457. رومج (3) 61. الرودانية (3) 115. رودس (2) 279- (3) 22- 23- (5) 518- (6) 427. الرودمان (3) 543- 544- (4) 618- 619. الرودان (3) 115. رورين (2) 200. روذالروز (3) 324- (5) 27. روسيا (1) 98- 101. روشنقباذ (3) 566. روض النافرة (الناجزة) (6) 481. روض المصارّة (7) 337. الروضة (2) 507- (4) 88. روطة (4) 207- 230. رومة (1) 48- 59- 92- 289- 290- 291- 292- 313- 633- (2) 48- 61- 120- 122- 140- 141- 146- 148- 150- 152- 155- 156- 158- 159- 162- 164- 173- 174- 175- 177- 221- 224- 225- 229- 232- 233- 234- 235- 236- 237- 238- 239- 240- 241- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 650 242- 245- 246- 247- 250- 251- 252- 253- 254- 255- 256- 257- 258- 260- 261- 273- 275- 280- 281- 282- 315- (4) 146- 166- 174- 177- 181- 232- 265- (5) 5- 210- 232- 376- 399- 451- (6) 140- 425. رومية (1) 405- (2) 139- 146- 147- 151- 154. الرويان (3) 313- 318- (4) 664. الري (1) 89- (2) 198- 207- 211- 539- 559- 560- 561- 563- 583- 584- 591- 635- (3) 45- 63- 65- 66- 137- 144- 151- 156- 157- 171- 186- 201- 226- 230- 232- 234- 240- 245- 266- 274- 278- 283- 285- 286- 290- 291- 292- 319- 332- 338- 343- 357- 358- 372- 377- 382- 387- 390- 414- 415- 424- 425- 427- 428- 429- 431- 432- 434- 435- 442- 443- 446- 457- 460- 461- 462- 463- 464- 476- 477- 482- 483- 484- 485- 491- 492- 498- 499- 503- 504- 508- 525- 532- 534- 558- 559- 564- 565- 567- 573- 577- 578- 579- 580- 584- 592- 594- 595- 596- 598- 599- 601- 603- 604- 605- 606- 614- 615- 616- 624- 625- 626- 627- 635- 636- 637- 640- 644- 653- 654- 655- 656- 657- 662- (4) 22- 26- 27- 28- 29- 30- 32- 33- 119- 123- 128- 142- 299- 330- 331- 337- 340- 371- 374- 375- 410- 418- 419- 423- 424- 425- 428- 434- 435- 436- 439- 443- 444- 446- 447- 448- 450- 451- 452- 453- 454- 455- 456- 457- 458- 462- 474- 490- 491- 492- 493- 495- 496- 497- 499- 500- 503- 505- 529- 549- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 651 551- 552- 554- 555- 556- 557- 558- 559- 560- 561- 562- 563- 565- 568- 569- 571- 575- 577- 578- 579- 580- 586- 587- 588- 592- 593- 595- 596- 601- 604- 608- 611- 612- 617- 622- 624- 631- 634- 635- 636- 637- 645- 646- 647- 648- 656- 658- 659- 660- 661- 663- 664- 665- 668- 669- 671- 672- 685- 686- 691- (5) 6- 8- 17- 25- 27- 28- 29- 30- 36- 37- 38- 39- 56- 57- 58- 61- 66- 67- 68- 69- 70- 77- 79- 80- 81- 85- 86- 92- 93- 97- 98- 99- 100- 101- 102- 103- 104- 112- 113- 114- 115- 128- 130- 134- 139- 149- 152- 153- 157- 170- 171- 188- 262- 288- 295- 586- 591- 592- 627- (7) 739. رياح (4) 162- (6) 437. الريبة (5) 271- 272. الريحان (1) 25- (3) 404. الريدانية (الزيدانية) (5) 532- 544- 558- 568- 575- 628. ريدة (1) 84. ريغ (6) 45- 46- 47- 53- 132- 136- 147- 231- 510- 587- 590- 591- 592- 593- (7) 58- 77- 84. رية (4) 170- 171. ريو (4) 257- 264. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 652 حرف الزاي (ز) الزاب (1) 76- 87- 88- 95- 362- 408- 473- 808- 814- 836- 364- 369- 371- (3) 209- 247- 262- 285- 286- 301- 365- 434- 435- 444- 564- 617- (4) 48- 51- 72- 104- 105- 234- 242- 244- 246- 247- 248- 250- (5) 60- 309- 319- 321- 323- 356- 546- (6) 21- 26- 30- 31- 33- 34- 44- 45- 46- 47- 51- 52- 53- 97- 132- 134- 136- 142- 147- 148- 153- 193- 194- 204- 205- 210- 227- 231- 234- 262- 263- 267- 269- 323- 378- 382- 398- 406- 422- 423- 424- 436- 453- 454- 471- 472- 477- 480- 494- 510- 512- 520- 534- 542- 563- 568- 572- 573- 574- 575- 577- 580- 585- 586- 587- 588- 589- 590- 591- 592- 593- 594- 599- 601- 617- (7) 10- 11- 16- 22- 25- 34- 36- 41- 42- 58- 60- 62- 63- 64- 68- 69- 72- 79- 80- 82- 83- 121- 130- 136- 154- 156- 175- 176- 178- 206- 208- 209- 220- 221- 354- 355- 366- 377- 381- 384- 386- 393- 394- 395- 438- 532- 577- 580- 631- 637- 638- 647. الزاب الأكبر (3) 158. زاب تهودا (6) 31. الزاب الكبير والصغير (1) 88. زابلستان (1) 419- (2) 580- (3) 7- 398- (4) 422. زاغا (2) 17. زاغر (7) 106. زانة (6) 140. الزاهرة (4) 186- (7) 43. الزاوية (2) 616- (4) 270. زاوية العباد (7) 367. الزباء (تميا) (2) 328. زبالة (2) 604- (3) 263. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 653 الزبداني (5) 222. زبطرة (2) 273- (3) 327- 328. زبيد (1) 60- 73- (2) 302- 303- 332- 356- 481- 491- (4) 140- 269- 270- 271- 273- 274- 275- 277- 278- 279- 280- 283- (5) 337- 346- 347- 388- 580. الزبيدية (5) 33. زحلة (7) 728. الزرائب (4) 279. زرفة (7) 104. الزرقاء (2) 359. زرنج (2) 567- 580- (3) 64. زرهون (4) 234. زرود (2) 526. زرون (4) 119. الزعازع (4) 276- 280. الزعفران (4) 581. الزعفرانيّ (5) 271. الزعفرانية (3) 391- (4) 301- 419. زعير (6) 280. زغاوة (1) 70- 73- (7) 289. زغبان (5) 192- 220- 225. زغبة (1) 166- (5) 483- (6) 449. زغوان (6) 227- 404. زفتي (1) 77. زكورة (5) 118. الزلاقة (4) 230- (6) 248- (7) 250- 271. زلزل (7) 118. زلة (6) 188. زليانه (6) 284. زم (3) 75. زمتة (رينه) (7) 217. زمزم (1) 436- 437- 440- (2) 40- 393- 395- 400- 401- (3) 36- 37- (4) 7- 125. زمع (2) 302- 332- 481- 491. زناتة (4) 174- 184- 185- 186- 187- 189- (7) 435. الزنج (1) 60- 72- 106- 107. زنجار (4) 32- 33. زنجان (زنكان) (3) 322- 390- 434- 443- 460- 461- 463- 476- 482- 483- (4) 435- 443- 445- 449- 491- 555- 575- 635- 659- 671- (5) 38- 56- 62- 113- 134- 141- 164- 198- 631. زنزور (6) 111- 113- 568- 575- 612. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 الزهراء (4) 182- 281. زواغة (6) 158- 442. الزواهي (2) 185. زواوة (4) 40- (6) 442- (7) 170- 213- 519. الزوران (الزوزان) (3) 497- 504- 618- (5) 314- 317- 321- 590. زوزن (قلعة زوزن) (4) 578- (5) 61- 122- 123- 124- 127- 130- 136- 271. زوغة (4) 16. الزوكخ (3) 166. زويلة (5) 237- 238- 239- 240- (6) 135- 212- 255- (7) 20. زويلة ابن خطاب (1) 77- (3) 170. الزيتون (7) 322- 333- 334. زيلع (1) 60- 72. الزيدية (3) 238- (4) 140. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 655 حرف السين (س) ساباط (2) 208- 213- 318- 511- 523- 527- 528- 536- (3) 180- 197. السابلة (3) 550. سابهار (3) 273- 277. سابور (1) 80- (2) 553- (3) 64- 201- (4) 536- (5) 44. سابور خرات (4) 497. سابور خواست (4) 623- 647- 655- 688- 690. ساجور (3) 185. ساحل أجم (6) 141. ساحل الزقاق (7) 731. ساحل المرقى (2) 576. سارورا (سابزوار) (5) 89. سارية (3) 332- 333- 358- 386- 415- 427- 431- 475- 476- (4) 26- 27- 28- 32- 33- 418- 442- 449- 550- 551- 553- 555- 582- 660- 661- (5) 89- 91- 102- 122. ساعير (2) 97- 99. بلاساغون (4) 509- 512- 513- 515- 518- 519- (5) 123- 126- 127- 586. الساقية الحمراء (7) 272. ساقية غبولة (7) 236. سالم (1) 84- (4) 185- 194. سالوس (3) 415- 431- 458- (4) 30- 439- 551- 664. سامرية (سرمن رأى) (2) 79- 116- 117- 118- 119- 121- 125- 126- 130- 131- 132- 135- 140- 141- 161- 228- (3) 321- 322- 326- 327- 331- 340- 342- 344- 350- 355- 356- 358- 359- 363- 344- 350- 355- 356- 358- 359- 363- 365- 366- 367- 372- 374- 375- 377- 380- 381- 382- 384- 391- 413- 424- 425- 427- 429- 431- 432- 448- 523- 564- (4) 23- 35- 329- 391- 420- 422- 696- (5) 161- 428. السامرية (2) 129. سامسول (5) 631. سامسون (5) 77- 78. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 656 ساوة (3) 292- 482- 484- 601- 613- 615- 618- 658- 659- (4) 364- 491- 634- 636- 645- (5) 33- 34- 57- 113- 146- 163- 321- 592. سبأ (1) 74- (2) 53- 301- (4) 272- 283- (5) 590. سبتة (1) 83- 313- 435- 451- 779- 798- 822- (4) 16- 19- 20- 106- 178- 190- 194- 195- 196- 197- 214- 218- 219- 222- 223- 224- 256- (6) 27- 40- 130- 157- 207- 246- 247- 248- 249- 254- 260- 279- 281- 282- 289- 291- 293- 295- 296- 297- 298- 307- 309- 311- 312- 313- 315- 316- 317- 320- 325- 326- 327- 333- 339- 340- 341- 342- 344- 345- 346- 347- 348- 349- 374- 385- 389- 393- 394- 395- 396- 401- 448- 465- 497- 501- 539- 540- 542- 545- (7) 25- 26- 28- 36- 38- 39- 42- 48- 49- 50- 52- 189- 245- 246- 248- 249- 252- 266- 267- 272- 273- 274- 275- 277- 285- 300- 301- 302- 309- 311- 312- 313- 315- 316- 325- 326- 327- 343- 344- 345- 346- 347- 349- 369- 390- 392- 401- 402- 418- 420- 433- 444- 448- 449- 454- 463- 464- 467- 469- 470- 471- 472- 475- 477- 484- 488- 493- 494- 497- 507- 521- 522- 526- 529- 532- 540- 547- 548- 558- 582- 633- 637- 666- 687- 688- 731. السبخة (3) 4- 193- 198- 199- (6) 424. سبدان (3) 115- 464- 473- 487. سبرة (3) 400. سبستان (5) 83. سبسطية (2) 129- 161- 228- 543- (5) 354- 360. سبّو (7) 318- 333- 400- 419. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 657 سبيبة (4) 43- 49- 52- 239- 250- 260- (7) 21. سبيطلة (1) 76- 313- (2) 574- (3) 89- (4) 233- (6) 140- 141- 425- (7) 10. سجستان (1) 75- 80- 225- (2) 20- 187- 188- 191- 200- 204- 206- 207- 533- 553- 566- 577- 578- 580- 584- 622- (3) 6- 10- 22- 53- 59- 60- 64- 79- 117- 169- 171- 172- 173- 177- 184- 193- 195- 209- 220- 249- 251- 253- 261- 267- 277- 285- 286- 287- 313- 367- 368- 376- 385- 386- 387- 388- 392- 393- 394- 398- 411- 416- 417- 423- 427- 430- 440- 445- 455- 461- 482- 485- 615- 660- (4) 27- 415- 416- 417- 418- 420- 422- 423- 426- 427- 428- 429- 430- 431- 432- 436- 437- 439- 440- 459- 460- 461- 471- 476- 477- 495- 503- 506- 507- 519- 526- 544- 545- 566- 567- 587- 620- 647- (5) 57- 78- 110- 111- 122- 127- 138- 141- 573- 611- 615- 619- (7) 739. سجلماسة (1) 28- 30- 48- 75- 252- (2) 363- (3) 449- 453- 454- 455- (4) 37- 41- 42- 44- 47- 49- 56- 89- 104- 106- 187- (6) 33- 40- 63- 71- 77- 78- 88- 89- 92- 126- 131- 136- 138- 147- 157- 158- 170- 171- 172- 173- 290- 309- 310- 311- 322- 340- 341- 342- 343- 344- 345- 346- 347- 348- 349- 350- 353- 357- 361- 368- 380- 396- 431- 441- 498- (7) 16- 18- 26- 34- 37- 44- 46- 49- 50- 51- 59- 65- 66- 75- 83- 84- 111- 113- 145- 146- 153- 158- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 167- 187- 220- 232- 233- 234- 246- 247- 248- 249- 252- 279- 322- 323- 324- 334- 335- 336- 377- 378- 396- 420- 421- 422- 423- 424- 425- 450- 461- 474- 475- 476- 534- 731 . سحرب (1) 101. سخنة (5) 250. سد الإسكندر (1) 835. سد الباب الغربي (1) 438. سد مأرب (1) 431- (2) 53- 66. سد يأجوج ومأجوج (1) 58- 81- 102. سدادة (6) 450. السدرة (2) 366- (6) 95. سدنة (4) 174. سدوم (2) 40- 42. سدويكش (1) 316- (6) 449- 458- 474- 534. سر (3) 89. سرادقه (3) 45- 163. سراف (3) 29. سراي (5) 135. سرت (1) 77- (4) 62- 242- 257- (6) 19- 147- 187- 206- 373. سرته (4) 212. السرجان (3) 544. السرجة (4) 269- 279. سرجهان (سرجهار) (4) 674. سرخد (4) 91. سرخس (1) 80- (2) 563- 579- (3) 130- 154- 209- 278- 354- 392- 394- (4) 420- 425- 447- 479- 500- 501- 526- 530- 532- 535- 567- (5) 8- 73- 79- 88- 90- 95- 96- 101- 108- 109- 110- 111- 112- 116- 117- 118- 119- 123- 267. سردار (1) 90. سرداق (5) 589- 603. سردانية (سردينية) (1) 315- (2) 234- (3) 507- (4) 49- 60- 208- 240- 262- (6) 123- 129- 213- 427- 429- 578- 604. السرسو (6) 62- 63- 132- 158- 209- 228- (7) 66- 67- 129- 157. سرغ (2) 554. سرّف (4) 650- (5) 271. سرقسطة (1) 84- 196- 818- (3) 264- (4) 151- 155- 156- 158- 162- 165- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 659 166- 169- 176- 177- 179- 191- 206- 207- 208- 216- 230- 232- (6) 248- 250- 251. سرقوسة (1) 85- (2) 389- (4) 149- 238- 251- 252- 255- 256- 258. سرماج (سرماة) (4) 601- 684- 685- 686- (5) 52- 53. سرمين (2) 542- (5) 175- 218- 565. سرمينية (5) 565. سرنديب (1) 445- (4) 479. السروات (سروان) (2) 355- 356- 368- 379- (4) 271- (5) 146. سروب (5) 231. سروج (1) 87- (2) 276- 547. (4) 300- 344- (5) 12- 39- 51- 67- 171- 173- 214- 215- 224- 225- 248- 249- 251- 252- 254- 278- 292- 299- 307- 311- 391- 393- 394- 401- 406- 414. سرياقوس (5) 491- 538- 541- 549. سريح (6) 46. سريف (4) 39. سطح الجعاب (7) 355. سطيف (4) 40- 42- 259- 260- (6) 27- 195- 210- 218- 316- 379- 550. سطيلة (1) 91. سعيدة (7) 218. سعيور (1) 91. سفالة (1) 60- 72. سفروه (5) 271. سفيدنج (3) 146- 150. سفيرا (2) 117. السقادم (3) 146. شقنبارية (7) 20. سقوما (سقيوما) (6) 139. سقونية (4) 153. السقيفة (2) 489. سقيفة بني ساعدة (2) 350- 487. السكاسك (2) 481- 482- 492- (7) 134. سكاية (4) 260. سكتانة (4) 43. السكسيوي (6) 39- 369. سكند (3) 18. السكون (2) 42- 541. سلا (1) 69- 76- 435- (4) 16- (6) 28- 35- 98- 129- 221- 236- 276- 279- 309- 310- 311- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 315- 317- 318- 319- 322- 324- 339- 346- 348- 349- (7) 24- 42- 47- 61- 65- 229- 230- 231- 232- 234- 235- 236- 241- 249- 266- 271- 280- 442- 457- 459- 472- 473- 475- 489. سلات (سالات) (1) 76- (7) 68. مدينة السلالم (7) 620. سلامان (3) 134. سلجيق (2) 69. سلطانية (4) 157- 162- (5) 620- 622- 625- 626- 627 629- 631. سلع (2) 441- 442. سلعار (5) 593. سلعوس (2) 272. سلف شلف. السلم (2) 369. السلماس (3) 83- 92- 518- (4) 668- 669- (5) 152- 161- 615. سلمنكة (سلمنقة) (1) 91- (4) 153- 227. سلمى (أجا وسلمى) (2) 303- 356- 380- 497. سلمية (1) 86- (2) 245- 541- (3) 290- 451- (4) 38- 109- 341- 398- (5) 274- 275- 300- 340- 385- 406- 408- 410- 415- 438- 459- 466- 474- 501- 563- 565- 566- 571- (6) 11. سلوباشة (4) 219. سلوقية (1) 86- (2) 226- (3) 328- 422. سليمين (2) 113. سمابا (4) 548. سماتة (سمانة سماية) (7) 329. سماجي (سماهي شماخي) (5) 135- 589. سماوة (2) 268- 289- (4) 110- 118- 398- (5) 56. سمرقند (1) 17- 62- 90- (2) 60- 61- 66- 315- 381- (3) 70- 77- 80- 85- 92- 101- 111- 112- 113- 114- 116- 119- 121- 122- 130- 145- 225- 261- 278- 279- 287- 290- 322- 389- 425- 438- 557- (4) 274- 433- 434- 435- 436- 437- 438- 442- 443- 445- 450- 466- 469- 473- 485- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 661 492- 504- 510- 511- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 519- 520- 536- 539- (5) 6- 13- 14- 23- 77- 78- 95- 96- 107- 120- 123- 125- 126- 132- 136- 427- 584- 486- 587- 589- 596- 601- 609- (7) 726- 740. سمنان (3) 157- 558- (4) 493- 556- 575- 635- (5) 30- 628. سمنجان (3) 78. سمندر (3) 167. سمورة (1) 91- (4) 153- 227- 228- 229. سمومة (6) 158. سميرا (2) 303- 496- (6) 8. سميران الطر (4) 556. سميرم (3) 645. سميساط (1) 87- (2) 254- 547- (3) 302- 347- 348- 350- 421- 481- 507- (5) 220- 259- 310- 382- 393- 394- 402- 414- 631. السن (3) 374- (4) 331- 340. سنباط كلا (5) 493. سنت ماذكش (4) 179. سنترية (1) 73. سنجار (2) 78- 79- 298- 303- 332- 358- 580- (3) 38- 366- 415- 433- 471- 479- 483- 484- 524- 527- 530- 571- 572 579- 612- 618- (4) 82- 298- 301- 308- 309- 337- 338- 339- 357- 366- 411- 412- 581- 590- 598- (5) 23 24- 46- 48- 50- 51- 54- 61- 67- 168- 174- 175- 189- 193- 205 211- 223- 225- 251- 256- 269- 280- 283- 293- 295- 300- 302- 304- 305- 306- 307- 310- 311- 312- 313- 314- 315- 316- 319- 320- 321- 324- 325- 348- 349- 350- 352- 353- 367- 372- 374- 376- 382- 385- 391- 393- 394- 397- 398- 403- 404 410- 412- 423- 441- 569- 570- 588- 594- 615. السند (1) 60- 61- 74- 75- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 104- 204- 225- 369- 476- (2) 11- 12- 19- 126- 209- 223- 389- 556- 567- (3) 10- 54- 60- 65- 76- 77- 83- 84- 126- 128- 152- 173- 175- 184- 207- 212- 225- 235- 237- 249- 250- 252- 253- 254- 261- 274- 286- 317- 318- 319- 339- 343- 379- 390- 398- 416- 427- 433- 542- 559- 660- (4) 7- 37- 38- 139- 152- 269- 287- 331- 422- 495- 503- 574- 615- 692- (5) 127- 145- 590- (6) 415- (7) 717- 718- 739. السندية (3) 520- (4) 326- 328- 628. السندسية (3) 560. سنور (4) 18. سنوران (4) 508. سهلة (5) 177. سوا (5) 135. السواد (3) 246- 383- (4) 23. سوار (4) 544. السواك (4) 527. سواكن (1) 60. سوتلي (1) 98. السودان (1) 69- 70- 71- 73- 104- 105- 106- 107- 108- 109- 110- 182- 186- 88- 458- 459- 497- 517- 658- 706- (2) 12- 85- 173- 200- 250- 277- (3) 12- 176- 243- (4) 53- 92- 93- 124- 142- 196- 238- 266- (5) 22- 239- 461- 496- 497- (6) 23- 126- 187- 417- 527- (7) 76- 410- 423- 542. سور الروم (2) 626. سوراء (4) 684. سوران (4) 536- 537. سور سابة (3) 332. سور طمس (3) 332. سورية (2) 130- 226- 228- 238- 243- 450- (3) 89- 90. السوس (1) 75- 80- 408- 409- (2) 17- 204- 552- 553- 556- 573- (3) 64- 176- 305- 392- 418- 478- 487- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 663 493- 495- 501- 502- 503- 506- 517- 541- 544- 546- (4) 24- 25- 56- 234- 236- 238- 569- 621- (5) 396- 403- 404- (6) 39- 43- 77- 78- 88- 91- 92- 122- 123- 126- 129- 131- 133- 142- 144- 156- 166- 193- 219- 230- 240- 244- 245- 270- 271- 298- 299- 301- 304- 306- 310- 331- 348- 349- 350- 353- 354- 355- 357- 364- 367- 368- 369- (7) 2- 11- 42- 51- 64- 66- 76- 79- 86- 115- 199- 200- 240- 243- 258- 266- 267- 268- 272- 279- 281- 303- 304- 311- 322- 341- 357- 388- 401- 410- 431- 434- 456- 472- 490- 634. سوس الأحم (6) 109. السوس الأقصى (1) 204- 459- (4) 16- (6) 79- 263- 273- 279. سوسة (1) 76- (3) 454- (4) 43- 50- 51- 52- 56- 256- (5) 235- 236- 237- 239- (6) 20- 108- 131- 132- 211- 212- 215- 217- 218- 443- 503- 504- 518- 522- 525- 526- 558- 563- 582- (7) 19- 20- 21- 364- 365- 515- 522- 639- 645. سوق إبراهيم (4) 21. سوق بغداد (2) 523. سوق جمار (4) 38. سوق حمزة (4) 54- (6) 210. سوق عكاظ (1) 803- (2) 368. سلاف (3) 183- 186. سون (2) 69. سويد (6) 569- (7) 435- 457- 461- 479- 632. السويدا (2) 335. السويس (1) 17- 18- 72- 74- 78- (5) 435- 486- 497- 556- (6) 132- (7) 718. سويقة ابن مشكوره (1) 77. سيجوم (7) 356- 363- 370. سيحون (4) 514. سيد (سيك) (7) 73- 121- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 سيدان (3) 355. سيدي بلعباس (7) 23. سيدي حمزة (6) 107. سيراة سيرات) (6) 59- 61- 73- (7) 73- 174. سيراف (سيراق) (1) 80- (2) 526- (3) 417- (4) 585. السيرجان (2) 572- 579- 584- (4) 430- 458- 566- 586- 588. السيروان (4) 692- 693- 694- 695. السيزر (4) 549. سيس (5) 445- 447- 451- 453- 457- 459- 466- 471- 472- 473- 474- 481- 482- 492- 493- 516- 526- 569- 619- 621- 634- 633- 636. السيكرة (6) 195. سينا (2) 97- 99. سيواس (5) 161- 188- 191- 192- 193- 194- 195- 197- 199- 201- 202- 207- 212- 297- 299- 410- 474- 499- 514- 547- 548- 549- 551- 615- 617- 631- 632- 633- 634- 636- (7) 727- 728. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 665 حرف الشين (ش) شاحط (4) 283. لاشادباخ (5) 94. الشاذلة (6) 490. الشاذنجان (4) 600. الشاش (1) 90- (3) 77- 80- 81- 107- 112- 121- 130- 224- 389- 557- 381- (4) 443- 509- 515- (5) 5- 127- 586- (7) 721- 739. شاطبة (1) 84- (4) 204- 210- 212- 213- 216- 230- 232- (6) 385- 401- 463- 475. شاغور (4) 461- 473. الشافعية (7) 667. شالة (4) 14- 16- (7) 28- 29- 307- 313- 379- 442. الشام (1) 14- 17- 28- 30- 59- 61- 62- 76- 78- 79- 85- 86- 94- 104- 162- 176- 177- 188- 197- 203- 205- 207- 222- 224- 250- 252- 254- 268- 270- 284- 288- 303- 305- 313- 314- 315- 316- 317- 321- 330- 361- 369- 371- 392- 397- 419- 424- 436- 441- 443- 444- 446- 457- 462- 463- 476- 486- 504- 513- 526- 557- 560- 566- 567- 632- 767- 806- 836- (2) 9- 12- 18- 19- 20- 21- 22- 24- 30- 31- 36- 37- 39- 40- 41- 48- 49- 62- 68- 75- 84- 85- 86- 87- 92- 97- 100- 101- 112- 113- 116- 119- 125- 136- 141- 146- 152- 180- 189- 192- 193- 198- 200- 201- 202- 204- 212- 213- 218- 220- 221- 222- 223- 224- 226- 233- 235- 236- 240- 245- 248- 250- 251- 252- 260- 263- 265- 266- 267- 268- 270- 273- 274- 276- 278- 280- 282- 289- 290- 296- 297- 298- 300- 302- 303- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 667 304- 306- 308- 309- 311- 314- 320- 322- 323- 325- 327- 331- 233- 340- 341 342- 343- 348- 350- 351- 355- 356- 367- 368- 369- 370 374- 385- 389- 390- 394- 399- 400- 401- 404- 405- 407- 408- 427- 433- 439- 444- 449- 450- 455- 456- 471- 483- 484- 489- 494- 495- 497- 511- 513- 514- 515- 516- 517- 518- 519- 520- 533- 541- 542- 543- 544- 545- 546- 547- 554- 562- 571- 572- 575- 576- 581- 586- 587- 588- 591- 592- 593- 594- 596- 599- 602- 603- 604- 605- 606- 607- 621- 624- 625- 626- 627- 629- 630- 631- 632- 633- 634- 635- 637- 638- 639- 641- 642- 648- 649- (3) 4- 5- 11- 12- 16- 22- 24- 32- 33- 35- 37- 38- 40- 43- 44- 45- 48- 49- 50- 51- 58- 62- 63- 64- 68- 76- 81- 88- 91- 98- 99- 105- 115- 116- 124- 125- 130- 133- 136- 137- 140- 141- 142- 151- 156- 157- 158- 159- 162- 164- 168- 170- 171- 178- 179- 186- 196- 198- 199- 205- 206- 210- 211- 213- 216- 219- 220- 223- 227- 228- 230- 238- 240- 241- 244- 247- 248- 250- 252- 264- 276- 279- 280- 284- 286- 294- 296- 300- 302- 316- 317- 318- 319- 322- 338- 351- 352- 360- 376- 390- 396- 413- 414- 415- 416- 422- 423- 427- 429- 430- 431- 437- 438- 439- 443- 465- 466- 485- 493- 498- 499- 503- 505- 507- 508- 510- 511- 514- 525- 533- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 534- 535- 546- 550- 567- 575- 582- 585- 586- 594- 622- 607- 649- 650- 656- 663- (4) 3- 7- 12- 36- 38- 41- 49- 59- 62- 63- 65- 66- 68- 69- 70- 75- 76- 78- 79- 80- 82- 83- 85- 86- 91- 95- 97- 100- 101- 107- 110- 111- 113- 114- 116- 118- 119- 121- 122- 123- 133- 138- 146- 148- 149- 150- 239- 283- 287- 292- 296- 298- 299- 306- 309- 311- 314- 316- 317- 318- 323- 327- 328- 341- 345- 347- 348- 349- 351- 369- 371- 379- 381- 384- 385- 386- 387- 393- 394- 395- 397- 398- 399- 400- 402- 403- 404- 405- 406- 407- 410- 411- 570- 574- 597- 598- 599- 621- 628- 657- 669- (5) 6- 7- 8- 10- 14- 17- 18- 24- 25- 31- 39- 46- 49- 66- 67- 69- 156- 158- 161- 164- 169- 173- 174- 180- 185- 188- 192- 197- 200- 201- 202- 205- 210- 215- 220- 223- 229- 232- 238- 242- 243- 244- 245- 246- 248- 249- 250- 251- 253- 261- 262- 264- 265- 266- 267- 273- 275- 280- 282- 283- 286- 290- 291- 294- 295- 296- 297- 298- 299- 300- 301- 302- 307- 309- 315- 319- 325- 333- 334- 338- 339- 340- 341- 343- 345- 347- 348- 353- 357- 359- 360- 364- 365- 370- 374- 378- 382- 384- 393- 395- 398- 399- 401- 405- 410- 411- 415- 416- 417- 419- 420- 423- 424- 425- 427- 429- 432- 433- 434- 435- 437- 438- 439- 440- 443- 445- 446- 447- 448- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 669 449- 450- 451- 452- 453- 454- 455- 456- 457- 458- 460- 462- 463- 464- 466- 469- 471- 473- 474- 475- 476- 478- 479- 481- 482- 484- 487- 488- 489- 491- 493- 494- 499- 500- 501- 502- 505- 506- 507- 508- 510- 513- 514- 517- 518- 520- 522- 524- 525- 526- 529- 530- 531- 532- 534- 537- 538- 541- 542- 543- 548- 549- 550- 553- 554- 555- 557- 558- 559- 561- 562- 564- 565- 566- 569- 571- 573- 574- 575- 585- 592- 593- 599- 602- 605- 614- 615- 616- 619- 620- 622- 627- 628- 633- (6) 5- 7- 8- 9- 11- 12- 13- 14- 15- 17- 25- 122- 123- 125- 126- 127- 129- 130- 131- 135- 140- 145- 156- 157- 196- 214- 255- 256- 330- 331- 407- 410- 425- 484- 578- (7) 5- 6- 127- 148- 349- 350- 361- 666- 668- 689- 691- 693- 696- 698- 699- 700- 705- 706- 708- 709- 714- 715- 718- 720- 723- 725- 726- 727- 728- 737- 738- 739- 740. الشامجان (1) 80. شاور (5) 129. شاوية (6) 186. شب الباب (1) 78. شبه جزيرة سيناء (أرض التيه) (7) 718. شبور (6) 260. الشحر (1) 61- 72- 73- 74- (2) 22- 32- 53- 58- 295- 514- (4) 116- 117- 269- 284- 285- (5) 578. شحرب (1) 99. شدبونة (شربونة) (7) 92- 377. شدبوية (سدلونة) (7) 209- 376. الشديدية (3) 396. شذونة (شرونه) (2) 382- (4) 154- (6) 63. شرشال (1) 313- 429- (4) 178- (7) 92- 115- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 670 159- 291- 292 . شروان (2) 572- (3) 605- (5) 38- 62- 139- 141- 143- 147- 603. الشريد (4) 355. شريش (1) 83- (4) 150- 152- 194- 198- 199- 211- 215- (6) 312- 313- 315- 393- (7) 71- 72- 253- 255- 258- 272- 274- 275- 276- 283- 284. ششتر (5) 615. شط المرغاب (2) 584. شطنوف (1) 77. شطونية (1) 97. شعب سلمان (5) 141. الشغر (2) 551. شفشاوة (6) 352. الشق (2) 349. شق الأبلة (1) 28- 197- (7) 41. شقبناريّة (6) 148- 259- 318- 333. شقحب (5) 478- 555- 558- 559- 562- 566- (7) 728- 731- 737. شقر (1) 84- (4) 210- 211- 212- 213- (5) 458. شقران (2) 319. شقرنية (4) 227. شقندة (4) 151. الشقة (6) 489. شقوره (1) 84. شقوتية (1) 91. شلطليش (4) 199- 201. شلف (شلب) (1) 84- (4) 15- 199- 216- (6) 179- 204- 209- 228- 231- 312- 313- 314- 315- 327- 329- (7) 24- 32- 34- 45- 56- 61- 62- 63- 64- 65- 73- 78- 84- 85- 86- 90- 92- 93- 104- 115- 123- 131- 134- 136- 141- 142- 150- 151- 154- 158- 160- 179- 180- 193- 217- 219- 292- 324- 339- 370- 376- 438- 439- 446. شلوبانية (7) 118- 265- 270- 492. شلوقة (7) 259. شماسة (3) 321. الشماسية (3) 360- 362- 363- 369- 413- 472- 473- 486- 568- 623- (4) 391- 553. شمشاط (2) 572- (3) 38- (5) 225- 252. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 671 شمورون (2) 79. الشموس (4) 15. شميشاط (5) 51- 195- 347. شنة (1) 82- (5) 149. شنترية (6) 114. شنترين (1) 84- (4) 204- (6) 325. شنت ماكس (4) 227- 228. شنت مرين (4) 231. شنت ياقب (4) 228. شنت مريّة (شنت بريّة) (1) 84- (4) 154- 161- 165- 169- 199- 212- 229- (6) 165- 171- 255- 314. شنوة (شنوءة الشام) (2) 341- 493. شنوران (4) 522. شهبرم (5) 93. شهرازاد (شهرزان) (2) 192- (4) 491. شهرزور (1) 226- (2) 264- 288- 561- (3) 157- 158- 163- 178- 195- 232- 411- 483- 564- 597- 641- 658- (4) 290- 598- 600- 672- 685- 688- 689- 691- 692- 694- 695- 696- (5) 28- 85- 103- 277- 280- 288- 293- 303- 309- 310- 356- 377- 436- 443- 615. شهرستان (3) 602- 634- (5) 34- 84- 94. شهرم (5) 153. الشهيد (3) 356. الشوبك (2) 45- 47- 97- 100. شور (2) 44. شورات (2) 154. شومان (سومان سومرن) (3) 69- 74- 75- 79- 104. شومرون (شمرة) (2) 116- 129. الشويك (5) 369- 385- 405- 407- 408- 417- 419- 443- 455- 456- 466- 487- 488. شيبوبة (4) 15. شيت (2) 193. شيراز (1) 80- (2) 20- 207- 565- (3) 152- 368- 417- 428- 455- 456- 462- 473- 483- 485- 492- 539- 540- 543- 544- 548- 561- 562- 563- 566- 576- 590- 657- (4) 416- 424- 427- 430- 562- 563- 568- 576- 577- 580- 581- 603- 611- 612- 614- 619- 624- 625- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 672 626- 628- 629- 649- 650- 651- 653- 674- 678- (5) 12- 25- 35- 50- 53- 129- 141- 144- 615- 615- 629- 630. الشيرجان (1) 80. شيرزاد (2) 566- (3) 525. شيروان (2) 558- (5) 591. شيزر (شيزر) (1) 366- (2) 275- 297- 541- (3) 414- (4) 66- 83- 93- 323- 353- 394- (5) 176- 181- 218- 222- 223- 261- 270- 273- 275- 284- 285- 286- 287- 298- 337- 344- 346- 366- 375- 385- 410- 456- 457- 458- 571- (6) 331- (7) 706. شيغون (1) 75. شيلو (1) 441. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 حرف الصاد (ص) صا (7) 220- 223- 248- 281- 434. صاب (2) 267. صاحب (5) 66. صارخة (2) 274. صاركوه (5) 590. الصاغان (3) 70. الصاغون (7) 739. صافيتا (5) 292. الصالحية (5) 424- 436- 475- 476- 486- 561- 620. الصامغان (2) 561- (4) 684- 688- 691- 692- 695. صباوو (5) 174. صبرة (2) 573- (6) 140- 150- (7) 56. صبرون (صغروي) (7) 51. الصبينة (5) 438. صحار (2) 506- (4) 594. صحارى برقيق (1) 77. صحارى لوط (7) 718. الصحراء (6) 70- 71- 72- 73. صحراء باديس (6) 262. صحراء تافيلالت (4) 236. صحراء تبوك (1) 79. صحراء تستر (1) 73- 75. صحراء زاغر (6) 391. صحراء كسنوك (5) 634. صحراء المغرب (1) 70- 110. صحراء بني يزيد (6) 56. الصخرة (5) 212. صخرة عباد (عياد) (7) 270. الصخيرات (4) 212. صخيرات اليمام (2) 425- 427- 444. صدرة (6) 44. صدى (1) 80. الصراة (3) 143- 180- 186- 197- 300. صراي (بصراي) (5) 201- 458- 459- 494- 574- 602- 603- 605- 608- 609- 610- 611- 613- 617- 621- 624- 627- 632- (7) 724- 725- 726- 739. صرخد (5) 180- 181- 360- 384- 387- 389- 391- 392- 438- 470- 476- 486- 488- 489. صرصر (3) 185- 187- 191- 298- 299- 304- 307- 308- 311- 313- 362- 427- 560- 603- (4) 359- 364- 367- 371- (5) 37. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 674 صريعين (صريفين) (3) 650- (4) 696- (5) 298. صريف (6) 248. صطفورة (4) 236- 240- 249. صعدة (1) 73- 320- (2) 300- (3) 352- (4) 12- 110- 140- 141- 142- 269- 275- 277- 279- 281- 282. الصعيد (1) 60- 62- 71- 72- 74- 77- 374- (2) 18- 82- 88- 303- (3) 164- 346- 381- 463- (4) 47- 71- 78- 93- 97- 98- 104- 377- 384- 389- 402- (5) 241- 291- 329- 330- 334- 338- 339- 433- 434- 435- 461- 466- 477- 490- 514- 529- 530- 535- 536- 540- 556- (6) 6- 17- 18- 48- 95- 155- (7) 652- 677- 718. صعيد مصر (1) 631- 651- (2) 179- 257- 295- (6) 94. صغانيان (3) 579- 580- (4) 445- 446- 448- 452- 455- 456- 463. الصفد (1) 17- 82- 90- (2) 60- 67- 134- 585- (3) 79- 107- 109- 225- 260- 335- 346- (4) 368- 458- (5) 399- 403- 427- 584. صغروي (6) 162- 165. الصفا (2) 395- 411- (7) 287. الصفا والمروة (2) 40. صفاء اليمن (1) 17- 57- 70- 71- 73- 74. الصفاع (2) 288. صفاقس (1) 315- (4) 262- (5) 235- 236- 238- 239- 240- (6) 99- 131- 154- 187- 206- 210- 211- 212- 213- 215- 217- 218- 222- 224- 230- 259- 318- 333- 443- 526- 581- 610- 611- 612- 617- (7) 58. صفد (5) 79- 363- 364- 365- 369- 370- 384- 414- 442- 444- 445- 446- 471- 475- 476- 484- 485- 490- 506- 508- 509- 510- 511- 512- 514- 517- 531- 551- 556- 557- 558- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 675 562- 578- 603- (7) 738. صفدين (6) 431. الصفراء (2) 268- 389- 427- 430- (4) 132. صفرون (صفيروا) (7) 471. الصفصاف (3) 282- 283- 284- 328- 331. صفورية (سطورية) (5) 358- 360. الصفيحة (4) 225- 224. الصفيف (7) 188. صفين (1) 62- 87- 268- 339- (2) 335- 377- 524- 623- 624- 625- 631- 634- 635- 649- (4) 22- 378. صقلّيّة (1) 68- 314- 315- 316- 643- 650- (2) 20- 222- 224- 234- 277- 278- 575- (3) 176- 422- 455- 457- (4) 40- 44- 46- 55- 57- 60- 81- 100- 146- 235- 237- 238- 240- 250- 251- 252- 253- 254- 255- 256- 257- 258- 259- 261- 262- 263- 264- 265- 266- 267- (5) 24- 210- 232- 233- 234- 235- 236- 237- 239- 240- 245- 333- 338- 365- 366- 449- (6) 112- 123- 128- 129- 140- 143- 161- 185- 214- 215- 218- 222- 223- 224- 236- 258- 318- 328- 401- 420- 425- 427- 428- 429- 447- 451- 468- 535- 544- 578- 609- 614- (7) 11- 369- 547. صلة (4) 258. الصليق (4) 679. الصمان (1) 79. الصميرة (3) 370. صناكة (7) 388. صنعاء (1) 73- 438- (2) 32- 113- 292- 390- 481- 482- 483- 491- 492- 493- 581- 602- (3) 211- 352- 441- 446- 466- (4) 36- 37- 38- 110- 130- 139- 267- 268- 269- 271- 273- 274- 281- 282- 286- (5) 478- 580- (7) 566. صنهاجة (1) 73- 75- 285- 321- 324- 340- 463- 464- (4) 50- 186- (5) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 676 232- 234- 239- 497- (6) 344- 351- 353- 356- 357- 367- 372- 468- 472- 473- 477- 522- 533- 534- 536- 543- 548- 585- 586- 606- 613- 614- (7) 456- 458- 525- 532. صهوة (5) 80. صهيون (1) 442- (2) 111- 113- (5) 632- 366- 367- 384- 448- 456- 457- 458- 459- 460- 486. صور (1) 78- 315- (2) 112- 113- 116- 149- 154- 177- 263- (3) 586- (4) 69- 79- 80- 81- 85- 114- 122- (5) 7- 63- 176- 184- 221- 222- 224- 229- 255- 277- 360- 361- 363- 364- 365- 369- 370- 371- 372- 377- 379- 380- 382- 384- 387- 388- 399- 448- 449- 450- 465- (6) 129- 331. صورا (5) 271. صول (1) 95- (2) 191- 200- 209- 560. صيدا (1) 78- 79- (2) 12- 103- 129- 142- 143- 149- 335- (3) 268- 294- (4) 63- 80- 85- 323- 346- (5) 176- 182- 221- 222- 223- 224- 231- 360- 370- 371- 377- 382- 387- 399- 405- 446- 465. صيرور (6) 64. الصيمرة (1) 88- (2) 558- (3) 473- (4) 692. الصين (1) 17- 60- 71- 72- 73- 75- 82- 104- 106- 364- 457- 486- 506- 567- (2) 4- 11- 12- 32- 61- 64- 67- 184- 209- 223- 280- 315- 540- 563- 564- 584- (3) 58- 75- 85- 224- 225- 247- 255- 353- 549- 557- 659- (4) 484- 509- 512- 513- 518- 519- 525- 528- (5) 5- 17- 78- 83- 126- 127- 131- 512- 573- 584- 585- 586- 587- 595- 601- (7) 12- 717- 722- 739. ضبيعة (3) 361. صنبيل عرمس (5) 227. الضبينة (5) 473- 489- 614. الضبية (3) 401. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 677 حرف الطاء (ط) الطائف (1) 439- 525- (2) 24- 30- 71- 267- 288- 341- 348- 355- 358- 362- 368- 379- 391- 402- 415- 426- 452- 464- 465- 467- 469- 470- 482- 491- 492- 493- 497- 582- 588- 602- 648- (3) 9- 36- 37- 49- 175- 176- 184- 252- 253- 269- 273- 341- 348- (4) 271- 284- (6) 14- 17. الطابية (6) 555. طاشتمر (4) 418. الطاق (1) 80. طاقة (6) 140. الطالعة (2) 281. الطالقان (1) 80- (2) 579- (3) 74- 77- 79- 146- 212- 226- 274- 354- 451- (4) 9- 11- 12- 30- 119- 143- 526- 530- 532- 533- 535- 541- 544- (5) 96- 114- 115- 116- 117- 118- 119- 120- 121- 122- 136- 137- 138- 145- 589- 590. طاوس (2) 548- 549. طبرستان (1) 61- 89- 251- 320- 361- 374- (2) 20- 182- 184- 336- 560- 561- 582- 584- (3) 66- 91- 93- 157- 168- 174- 191- 202- 203- 214- 232- 235- 261- 266- 267- 268- 269- 274- 279- 283- 286- 292- 313- 318- 319- 331- 332- 333- 334- 338- 343- 351- 354- 357- 358- 372- 375- 376- 385- 386- 387- 390- 414- 415- 423- 424- 425- 427- 429- 430- 431- 436- 439- 442- 443- 458- 464- 475- 476- 477- 490- 491- 499- 558- 560- 598- 602- 606- 660- (4) 11- 12- 26- 27- 28- 29- 30- 31- 33- 34- 142- 143- 417- 418- 419- 424- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 425- 434- 435- 437- 438- 439- 443- 444- 445- 448- 454- 455- 457- 460- 461- 490- 495- 496- 498- 503- 505- 546- 548- 549- 550- 551- 552- 553- 554- 555- 556- 557- 559- 561- 562- 566- 575- 576- 578- 579- 582- 604- 635- 636- 645- 647- 658- 659- 660- 661- 662- 663- 664- 665- (5) 29- 34- 39- 88- 123- 132- 133- 137- 588- 591- 615- 635- (7) 721- 724- 726. طبرقة (6) 318. طبرية (1) 79- 323- 325- (2) 160- 161- 238- 263- 269- 519- (3) 136- 142- (4) 56- 58- 63- 64- 68- 110- 114- 316- 348- (5) 50- 176- 179- 182- 215- 225- 227- 228- 231- 251- 290- 296- 344- 348- 357- 358- 359- 364- 373- 384- 386- 401- 405- 416- (6) 226. طبس (4) 121- 505. طبسون (2) 205- 208- 211- 214- 215- 216. الطبسين (2) 563- 566- 578- 582- 586- (3) 151- 386- (4) 417. طبنة (3) 453- (4) 42- 53- 54- 242- 243- 244- 246- 260- (6) 26- 132- 147- 148- 151- 164- 193- 210- 238- (7) 16- 21- 23- 36- 44- 45- 53- 60- 67. طبندة (4) 250. طبنياش (4) 240. طخارستان (2) 207- 209- 563- 579- 580- (3) 8- 11- 58- 74- 77- 78- 92- 112- 116- 117- 118- 145- 146- 151- 154- 277- 385- 394- 580- (4) 417- 418- 452- 480- (5) 6- 22- 83. طرابزون (4) 396. طرابغة (1) 85. طرابلس (1) 77- 78- 86- 315- 352- 435- 473- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 679 (2) 12- 275- 306- 364- 366- (3) 452- 453- 612- 616- (4) 42- 44- 45- 46- 48- 62- 65- 66- 68- 72- 79- 85- 104- 122- 152- 240- 241- 242- 243- 244- 246- 247- 248- 250- 253- 256- 261- 262- 265- 309- 317- 318- 323- 351- 366- 368- 377- 388- 599- (5) 44- 47- 52- 60- 169- 174- 176- 177- 180- 213- 214- 216- 219- 221- 222- 224- 225- 226- 228- 230- 231- 232- 234- 240- 250- 252- 262- 282- 286- 289- 296- 301- 329- 340- 356- 359- 360- 365- 369- 372- 375- 396- 397- 444- 445- 446- 447- 449- 450- 451- 457- 462- 463- 469- 471- 473- 475- 476- 479- 486- 488- 490- 491- 509- 511- 512- 514- 515- 518- 522- 523- 525- 533- 534- 535- 541- 550- 552- 561- 562- 563- 565- 566- 567- 568- 590. طرابلس الغرب (2) 573- 574- (3) 650- (4) 60- 69- 77- 107- (5) 231- 232- 237- 239- 336- 483- (6) 20- 23- 25- 28- 29- 44- 45- 54- 94- 95- 96- 111- 112- 113- 126- 129- 131- 132- 133- 134- 139- 140- 141- 143- 144- 145- 146- 147- 148- 149- 150- 151- 159- 170- 185- 187- 188- 199- 200- 206- 215- 218- 222- 231- 238- 241- 252- 255- 256- 257- 258- 259- 260- 261- 302- 318- 327- 328- 331- 333- 334- 335- 373- 374- 375- 380- 381- 382- 384- 417- 440- 441- 442- 443- 447- 450- 451- 452- 460- 468- 473- 475- 482- 483- 487- 489- 496- 502- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 680 520- 524- 526- 535- 536- 537- 541- 543- 559- 568- 581- 606- 610- 611- 612- 613- 614- 615- 616- 617- (7) 2- 10- 16- 18- 20- 37- 52- 54- 55- 56- 57- 58- 70- 84- 85- 98- 345- 355- 361- 362- 363. طرابنة (4) 258- 262. طراز (4) 509- 513- 515- 518- (5) 77. طرانة (5) 467- 521. طرخ العليا (4) 79. طرخان (3) 119. طرخلوا (5) 631. طرخون (3) 70. طرسا (5) 90. طرسوس (1) 86- (2) 12- 234- 272- 274- 542- 572- (3) 273- 282- 284- 285- 288- 320- 396- 413- 414- 420- 421- 422- 423- 427- 429- 430- 431- 439- 440- 441- 445- 446- 463- 478- 479- 480- 482- 518- (4) 47- 300- 302- 303- 305- 306- 311- 383- 386- 387- 392- 394- 396- 397- 398- 402- 468- (5) 8- 214- 345- 365- 481- 493- 516- 523- (6) 129. طرسوسة (4) 156- 160- 233. طرسونة (4) 160- 169. طرطوس (1) 86- (2) 104- 222- (3) 320- 328- 330- 340- (5) 446- 477. طرطوشة (1) 84- (4) 207- 208- (6) 314. طرقة أوثان (1) 77. طركونة (1) 84- (4) 181- 184. الطرم (3) 509- 513- 514- (4) 499- 646- 666- 667- 669- 670- 671. طرميس (طرمين) (4) 252- 256- 257- 258- 264. طرنايا (3) 297. طره (5) 278- (6) 260. طروبة (2) 232- 233- 234. طرونية (2) 104- 105. طريف (1) 59- 83- (4) 147- 218- 220- 231- (6) 129- 329- 393- 516- (7) 252- 253- 254- 275- 278- 284- 285- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 681 286- 288- 345- 346- 352- 366 . طست (1) 101. طشانة (4) 197. طغان (4) 484- (5) 388. الطغج (4) 25. طفيحة (4) 96. طلان (5) 615. طلبيرة (طليبرة) (1) 84- (4) 216- (6) 315- 317- 324- 330. طلمسة (1) 77. طلميثا (2) 366. طلوسة (طلوشة) (1) 91- (2) 282. طليطلة (1) 84- 217- 840- (2) 281- (4) 146- 151- 152- 153- 154- 155- 156- 158- 159- 161- 162- 164- 165- 168- 173- 177- 178- 183- 190- 191- 202- 204- 205- 206- 207- 216- 226- 229- 230- (6) 185- 240- 248- 313- 314- 324- 330- 339- (7) 270- 271. طمغاج (5) 584. طميس (4) 550. طنجة (1) 59- 83- 227- 313- (2) 278- 281- 283- 574- (3) 176- 271- (4) 14- 16- 19- 146- 147- 158- 193- 194- 195- 223- 234- 236- 238- 239- (6) 28- 122- 123- 126- 129- 130- 133- 141- 143- 144- 145- 147- 156- 240- 245- 246- 247- 281- 282- 288- 289- 291- 293- 295- 296- 298- 309- 311- 349- 394- 401- 465- 475- 545- (7) 23- 36- 43- 44- 113- 117- 245- 246- 248- 252- 253- 260- 266- 267- 268- 271- 275- 278- 285- 286- 289- 300- 311- 312- 313- 326- 390- 402- 403- 420- 448- 449- 451- 457- 462- 470- 471- 474- 547- 633- 731. طنده (3) 173. طهثا (3) 395- 396- 397- 400- 401- (4) 25. طوانه (3) 320- 321. الطواويس (5) 14. طوبران (1) 74. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 682 الطور (2) 94- 95- (5) 395- 398- 399- 400- 435- 444- (7) 689- 716- 718. طور سينا (2) 95- 263- 269. طور عبدين (3) 38- 538- (4) 320- 605- 606. طوس (1) 89- (2) 578- 579- 586- (3) 154- 313- 584- 591- (4) 11- 35- 144- 453- 465- 469- 473- 474- 476- 493- 529- 533- 534- 553- 669- (5) 16- 84- 88- 94- 111- 112- 114- 116- 118- 137- 615. طوسان (3) 151. طوغاج (5) 132- 587- 595. طولقة (6) 47- 51- 494- 585- (7) 393. الطولية (2) 272. طوى (2) 341. طويلع (3) 184. طي (1) 166. الطيب (4) 354- (7) 192. الطيلسان (2) 560- 571. حرف الظاء (ظ) ظفار (1) 73- (2) 66- 67- 76- 292. الظهران (2) 258- 332- 440- 458. ظهور الشمر (2) 507. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 683 حرف العين (ع) العادلية (5) 400- 475- (7) 729. العاروص (2) 228. العاصي (4) 66- (5) 367- 368. عالج (2) 378. العالية (2) 341. عانة (4) 339- 346- 347- 358. عبادان (1) 79- 88- (3) 378- 404- 564- (4) 653- (5) 625. عبادة (6) 186. العباسة (3) 625- 626- (5) 69. عباسة الخالص (5) 69- 268- 269. العباسية (3) 286- (4) 247- 248- 249- 253- 372- (5) 420- 421- 422- 432- 434- 436- 520- 521. عبرة (7) 56. عبقرة (2) 288. العتيق (2) 526- 529- 531- 534- 535- 536- 538. عثرة (4) 269- 271- 277- 279. العجبة (3) 519. عجرود (5) 530. عجلون (5) 398- 424. عجيسة (4) 53- (7) 130. عدن (1) 19- 73- (2) 63- 74- 283- 292- 301- 482- (3) 237- (4) 37- 38- 269- 272- 273- 274- 275- 276- 277- 278- 280- 283- 284- 285- (5) 15- 337- 346- 498- 580- (7) 656- 718. عدن أبين (4) 269. عدن لاعة (4) 269. العدوة (4) 159- 178- (7) 442- 443- 484- 497- 507- 551. عدوة الأندلس (4) 15- 17- 18. عدوة الصحراء (2) 519. عدوة القرويين (4) 15- 17- 18- عدوة الصحراء (2) 519. عدوة القرويين (4) 15- 17- 18- (6) 292. العدوة الكبيرة (2) 366. عدوة النيل (1) 71. العدوتين (1) 316. العدوية (5) 347. عذار (5) 284. عذامس غذامس. العذيب (2) 355- 375- 523- 526- 527- (3) 97. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 684 عر (3) 134. العرائش (7) 490. عرابان (4) 308- 309. العراق (1) 14- 18- 28- 61- 82- 87- 88- 104- 162- 173- 181- 188- 200- 203- 206- 218- 224- 227- 237- 252- 256- 270- 284- 288- 303- 306- 323- 341- 361- 369- 374- 392- 424- 434- 462- 463- 475- 476- 504- 525- 526- 528- 532- 540- 557- 560- 562- 564- 565- 566- 567- 568- 620- 748- 767- 806- (2) 18- 19- 20- 22- 57- 60- 62- 63- 66- 75- 124- 138- 179- 184- 199- 201- 203- 204- 205- 211- 220- 224- 257- 264- 268- 283- 284- 285- 286- 297- 300- 303- 304- 308- 309- 310- 311- 312- 313- 319- 320- 322- 331- 332- 351- 355- 356- 357- 360- 367- 371- 372- 379- 380- 381- 388- 404- 405- 433- 507- 513- 514- 515- 516- 517- 518- 519- 520- 521- 523- 525- 533- 541- 545- 546- 547- 582- 584- 589- 623- 626- 627- 630- 631- 632- 634- 635- 641- 649- (3) 17- 24- 29- 32- 37- 43- 44- 45- 46- 53- 54- 55- 61- 62- 65- 68- 69- 71- 81- 82- 83- 84- 86- 88- 91- 95- 98- 100- 101- 103- 106- 108- 115- 116- 120- 121- 122- 125- 126- 129- 130- 131- 136- 137- 138- 142- 143- 144- 151- 162- 166- 171- 172- 173- 174- 175- 177- 178- 185- 205- 206- 207- 213- 214- 216- 217- 218- 227- 229- 235- 238- 239- 263- 270- 277- 279- 285- 295- 296- 302- 303- 304- 306- 307- 308- 312- 313- 319- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 685 320- 330- 365- 369- 375- 376- 385- 389- 426- 428- 437- 499- 502- 516- 522- 527- 531- 533- 535- 536- 540- 541- 545- 548- 549- 550- 551- 552- 561- 562- 564- 570- 571- 573- 574- 575- 577- 587- 596- 599- 601- 604- 606- 610- 611- 612- 613- 614- 616- 617- 621- 622- 623- 624- 625- 628- 629- 633- 634- 636- 638- 639- 641- 643- 645- 647- 650- 652- 653- 655- 660- 662- 664- (4) 3- 9- 10- 11- 12- 26- 41- 82- 83- 87- 88 104- 107- 111- 112- 113- 115- 116- 118- 122- 125- 126- 127- 128- 129- 130- 131- 132- 133- 137- 146- 161- 180- 185- 237- 246- 268- 277- 279- 283- 292- 297- 301- 304- 307- 308- 315- 320- 324- 326- 328- 331- 335- 336- 339- 340- 343- 344- 345- 351- 353- 355- 364- 365- 366- 367- 368- 369- 370- 371- 372- 376- 377- 381- 382- 384- 394- 396- 398- 410- 432- 452- 459- 529- 549- 564- 566- 567- 568- 572- 577- 581- 587- 593- 594- 596- 597- 602- 608- 609- 610- 611- 612- 617- 619- 621- 622- 624- 625- 626- 628- 631- 634- 648- 649- 650- 675- 687- 690- 695- (5) 23- 25- 26- 31- 32- 36- 39- 49- 56- 57- 59- 60- 61- 63- 64- 65- 68- 69- 72- 75- 81- 85- 86- 87- 92- 99- 106- 108- 113- 124- 129- 130- 131- 132- 133- 134- 139- 140- 141- 143- 144- 150- 153- 156- 157- 158- 160- 162- 163- 164- 188- 198- 201- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 686 211- 248- 261- 264- 267- 268- 269- 294- 298- 308- 323- 347- 407- 422- 424- 427- 437- 442- 445- 459- 462- 472- 481- 488- 490- 493- 494- 495- 499- 500- 501- 502- 503- 543- 545- 573- 574- 587- 588- 590- 591- 592- 596- 599- 604- 607- 608- 613- 616- 620- (6) 2- 5- 7- 8- 9- 10- 11- 12- 15- 16- 17- 144- 265- 301- 416- (7) 148- 357- 712- 721- 723- 725- 727- 735- 738. عراق العجم (1) 427- 446- 457- 556- 633- (5) 104- 198- 613- 615- 621- 622- 624- 627- (7) 723- 726- 739. عراق العرب (5) 615- 622- (7) 723- 725- 739. . العراقين (4) 551- 552- (5) 104- 199- 613- 621. العرايش (1) 76- (4) 16. عربان (5) 349. العرج (2) 368- 422. العرصة (3) 48. عرزرية (2) 274. عرفه (2) 296- 396- 398- 479- 588- (3) 49- 305- (4) 124- 585. عرق الرمل (6) 70. عرق الظبية (2) 430. عرقة (4) 309- (5) 286- 292- 445- 490. عرمان (5) 305. العريش (عريش مصر) (1) 60- 78- (2) 84- 623- (3) 164- 444- 507- (4) 75- 292- 400- 403- (5) 66- 264- 421- 424- 436- 456- (7) 312. العريمة (5) 292- 296. عريه (5) 420. العزة (3) 3- (7) 89. عزسك (3) 167. عساكر (6) 232. عسفان (2) 438- 440- 444- 447- 457. عسقلان (1) 78- 315- (2) 102- 106- 116- 148- 242- 288- (3) 30- 585- (4) 63- 68- 70- 79- 83- 84- 85- 89- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 687 93- 347- 378- (5) 26- 179- 186- 212- 215- 217- 222- 227- 228- 232- 238- 284- 285- 334- 342- 360- 361- 364- 377- 380- 381- 383- 405- 416- 449- 474. العسير (2) 357. العشيرة (عشيرا) (2) 425- (5) 294- 296- 334. العطاف (7) 436. عفرين (7) 609. عفو (7) 240. العقاب (6) 335. العقبة (1) 79- (2) 345- 347- 416- 417- 418- 472- (5) 528- 529- 530- (6) 6- 95- 391- 613. عقبة ايلة (6) 7. عقبة سراباد (5) 129. العقبة الكبيرة والصغيرة (2) 367. عقربا (5) 40. عقرباب (3) 598. عقرقوبا (3) 193- 302- 306- 607. عقرقوما (2) 514. العقيل (3) 183. عك (2) 302- 332- 481- 482- 491- (3) 298. عكا (1) 78- 315- (2) 142- 143- 160- (4) 63- 78- 79- 81- 83- 86- (5) 25- 26- 50- 174- 182- 211- 214- 215- 216- 217- 218- 224- 225- 231- 357- 358- 359- 360- 363- 364- 370- 371- 372- 373- 374- 375- 376- 377- 378- 379- 380- 381- 382- 383- 387- 388- 395- 397- 398- 399- 400- 401- 407- 412- 415- 418- 445- 446- 447- 449- 450- 457- 463- 464- (6) 331. عكاظ (1) 74- (2) 365. عكبرا (3) 360- 425- 483- 504- 511- 524- 535- 537- 554- 564- 570- 571- (4) 297- 573- 581- 597- 608- 639- 640. العكرشة (5) 561. العلايا (1) 86- (5) 200- 616- 631- 632- 636- (6) 129. علودان (7) 313- 489- 490. علوقيا (2) 264. علوه (1) 71. العليقة (5) 450. عمّان (2) 245- 285- 501- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 688 504- 506- 507- (3) 86- 135- 152- (4) 117- 606- 642- 643- (5) 35. عمان (1) 61- 74- 288- 313- 507- (2) 22- 30- 32- 53- 102- 301- 302- 309- 332- 341- 356- 357- 386- 449- 467- 494- 514- 577- (3) 10- 184- 185- 209- 212- 214- 223- 225- 252- 266- 269- 273- 297- 314- 352- 515- 528- 529- 544- 556- 564- 656- (4) 112- 115- 116- 284- 285- 583- 584- 585- 594- 595- 606- 642- 643- 652- 675- (5) 58- 127- (6) 15- 17- (7) 723. العمد (2) 288. عمران (2) 69- 74. العمق (2) 310. عمواس (2) 543. عمّورية (1) 93- 94- 219- (2) 272- 273- 572- (3) 89- 327- 328- 329- 330- 480. العناب (2) 366- (6) 31- 95- 96. عنزة (2) 289. عواقيل (3) 195. العوالي (2) 355- 356- 370. العوجاء (5) 469. عويرين (3) 108. عيذاب (1) 60- 74- (3) 381- (4) 389- (5) 350- (7) 718. عيرلان (5) 596. عيس (غيس) (6) 284. العيق (1) 256. عين أباغ (2) 310- 335- 359. عين التمر (عين النمر) (2) 202- 310- 357- 511- 512- (3) 160- 187- 197- 207- 303- 470- 532- (4) 592- (6) 8. عين جالوت (5) 387- 425- 438- 439- 501- 615- (6) 11. عين الخابور (2) 262. عين زربة (1) 86- (3) 284- 321- 347- 440- (4) 301- 302- 311- (5) 183- 275. عين شمس (المطرية) (2) 54- 85- 88- 89- 554- 555- (4) 60- 61. عين الصفا (7) 228- 286. عينتاب (2) 542- (5) 284- 307- 352- 481- 565. العيون (4) 228. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 689 حرف الغين (غ) الغار (2) 421. غار النيل (2) 519. الغارود (2) 374. غازان (5) 469. غاضرة (2) 380. غافق (1) 84. غالش (2) 250. غانم (4) 685. غانه (1) 69- 70- 73- (3) 620- 654- (4) 124- 142- (5) 39- 63- 249- 255- 278- 324- 441- 496- 616- 618. غانية (6) 266- 267. الغاوية (3) 61. غبولة (7) 235- 265- 286. غجرامة (غجدامة) (6) 305. غدامس (غذامس) (1) 76- 77- (3) 12- 169- (4) 377- (6) 131- 136- 241- 261- 267- 378- (7) 2. غدير الجوزاء (4) 15. غدير خم (2) 480- (4) 30. الغربية (4) 91- (7) 250- 254- 260- 264- 265- 286- 301. غرسيان (4) 468. غرسية (4) 225- 230. غرشستان (4) 483- (5) 96- 106. غرناطة (1) 84- 304- 798- 820- 821- (4) 152- 170- 191- 194- 196- 198- 200- 203- 205- 206- 208- 210- 214- 216- 219- 220- 221- 222- 224- 225- 231- (6) 130- 238- 239- 240- 249- 253- 313- 314- 317- 319- 320- 322- 323- 324- 326- 335- 337- 430- (7) 149- 251- 253- 254- 259- 265- 267- 268- 270- 274- 275- 278- 279- 280- 302- 313- 325- 327- 329- 330- 344- 346- 402- 404- 413- 418- 433- 439- 440- 442- 443- 446- 447- 453- 486- 488- 490- 491- 492- 493- 494- 496- 497- 507- 508- 521- 522- 529- 548- 550- 563- 571- 575- 633- 637- 657- 664- 688. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 690 غريان (6) 113. غريبوا (6) 33. الغريين (2) 510. غزالة (3) 89- 90. غزنة (2) 389- (3) 398- 559- 580- 615- 640- 660- (4) 369- (4) 422- 433- 437- 464- 467- 469- 470- 471- 472- 474- 475- 477- 478- 480- 481- 482- 483- 484- 485- 486- 487- 488- 489- 490- 494- 495- 497- 500- 501- 502- 503- 504- 506- 507- 508- 511- 516- 519- 520- 521- 522- 523- 524- 527- 528- 530- 531- 533- 535- 536- 537- 538- 539- 540- 541- 542- 543- 544- 545- 546- 547- 548- 646- (5) 5- 16- 23- 56- 63- 78- 109- 111- 114- 115- 116- 118- 119- 121- 122- 128- 130- 138- 141- 142- 143- 145- 157- 278- 323- 406- 407- 586- 590- 596- 611- (7) 722. غزنة فرضة الهند (1) 80- (2) 20- 580. غزّه (1) 78- 86- (2) 102- 106- 116- 141- 142- 149- 296- 306- 400- 450- 543- (5) 25- 169- 176- 211- 232- 334- 361- 383- 407- 412- 413- 415- 420- 421- 422- 423- 424- 433- 434- 435- 436- 438- 439- 443- 444- 445- 449- 454- 456- 457- 474- 475- 476- 482- 486- 516- 551- 555- 557- 559- 619- 620- (6) 7- (7) 700- 701- 715- 716- 728- 729- 738. غساسة (6) 77- 89- 133- 281- 283- (7) 332- 333- 389- 633. غشكونية (1) 84- 91- 92. غلس (3) 324. غليانة (7) 259. غليزان (6) 275. غليسية (4) 226- 228. غماره (1) 409- (4) 16- 19- 20- 47- 193- 224- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 691 225- 234- 236- (6) 15- 133- 167- 246- 283- 284- 293- 344- 345- 365- 389- (7) 48- 66- 307- 309- 311- 312- 402- 467- 469- 489- 490- 530- 539. غمدان (2) 113- (4) 285. غمرة (1) 412 (4) 53- (6) 34- 328- (7) 63. غينة (6) 32. غوارة (4) 48. الغور (1) 79- 81- (3) 11- (4) 482- 503- 508- 520- 532- 535- 537- 539- 540- (5) 96- 114- 118- 119- 120- 123- 125- 130- 141- 138- 143- 227- 348- 386- 413- 425- 434- 436- 438. غورة (2) 250. غورك (3) 113. غوطة دمشق (2) 267- (3) 141- 276- (5) 181- 184- 267- 276. الغيران (7) 194- 195- 480. الغيلانية (3) 136. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 692 حرف الفاء (ف) فاراب (3) 122. فاران (1) 60- 78- (2) 40- (7) 717. فارس (1) 14- 17- 18- 34- 61- 79- 80- 89- 106- 135- 198- 203- 204- 206- 216- 217- 224- 225- 254- 255- 268- 341- 355- 369- 374- 375- 419- 476- 545- 631- 662- 748- 771- (2) 9- 19- 20- 30- 31- 34- 59- 60- 63- 64- 73- 75- 125- 126- 179- 181- 182- 184- 185- 187- 192- 193- 196- 197- 198- 199- 200- 204- 205- 206- 207- 209- 213- 215- 216- 220- 221- 222- 223- 226- 236- 243- 245- 249- 257- 258- 260- 262- 264- 308- 312- 214- 315- 316- 318- 319- 320- 323- 357- 371- 404- 406- 451- 507- 508- 511- 513- 519- 520- 521- 523- 524- 526- 529- 531- 533- 534- 536- 538- 548- 549- 550- 551- 553- 556- 563- 564- 565- 566- 577- 578- 580- 583- 584- 644- 647- 648- (3) 7- 9- 39- 41- 43- 44- 45- 61- 98- 152- 156- 158- 168- 169- 185- 187- 188- 198- 201- 209- 222- 223- 244- 245- 252- 254- 255- 261- 262- 266- 273- 294- 298- 302- 304- 343- 344- 348- 353- 355- 360- 367- 368- 375- 376- 382- 385- 388- 390- 391- 394- 397- 398- 416- 417- 423- 424- 425- 428- 430- 435- 437- 440- 441- 442- 445- 446- 455- 456- 461- 462- 467- 473- 481- 482- 484- 485- 486- 487- 489- 492- 495- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 693 498- 499- 500- 502- 507- 521- 525- 532- 533- 534- 536- 537- 539- 540- 541- 542- 543- 544- 545- 549- 550- 551- 562- 563- 576- 583- 590- 606- 615- 627- 633- 634- 635- 636- 644- 645- 655- 656- 657- 659- (4) 4- 24- 111- 112- 116- 117- 118- 120- 145- 223- 224- 361- 374- 416- 417- 418- 419- 420- 421- 422- 424- 426- 427- 428- 430- 435- 436- 447- 454- 455- 457- 459- 462- 496- 537- 551- 552- 562- 563- 566- 567- 568- 569- 571- 575- 576- 577- 585- 586- 587- 592- 593- 595- 603- 606- 608- 609- 610- 611- 612- 614- 615- 619- 626- 627- 628- 629- 633- 641- 646- 648- 650- 653- 656- 658- 659- 678- 686- (5) 19- 25- 32- 39- 53- 69- 70- 75- 76- 79- 81- 89- 91- 93- 97- 100- 104- 113- 127- 128- 129- 139- 141- 143- 144- 149- 153- 158- 164- 268- 407- 431- 493- 573- 574- 592- 615- 622- 624- 626- 627- 629- (6) 12- 16- 122- 146- (7) 718- 720- 721- 723- 725- 726- 739. فارسكوه (7) 693- 700. فارعون (5) 595. الفارياب (2) 579- (5) 136. فازاز (6) 344- (7) 230- 231. فاس (1) 12- 34- 35- 76- 109- 112- 251- 375- 377- 409- 421- 422- 427- 428- 434- 451- 452- 470- 498- 529- 638- 832- 833- 835- 836- (2) 366- (4) 15- 17- 18- 19- 47- 48- 49- 56- 104- 106- 159- 178- 187- 267- (5) 483- (6) 15- 20- 26- 27- 37- 46- 71- 77- 130- 133- 157- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 694 162- 165- 170- 171- 174- 176- 177- 178- 179- 180- 187- 194- 195- 199- 204- 206- 208- 213- 221- 229- 238- 245- 246- 248- 259- 270- 282- 285- 286- 289- 290- 292- 296- 303- 309- 310- 312- 313- 315- 316- 318- 319- 324- 327- 328- 331- 333- 335- 337- 340- 344- 345- 346- 348- 349- 351- 355- 363- 365- 417- 527- 593- (7) 24- 27- 28- 29- 34- 35- 37- 38- 39- 40- 41- 42- 44- 45- 46- 47- 48- 50- 51- 61- 65- 84- 89- 110- 111- 135- 149- 152- 165- 166- 167- 175- 187- 188- 189- 190- 193- 194- 196- 197- 213- 223- 224- 225- 226- 228- 229- 230- 231- 232- 233- 234- 237- 238- 240- 241- 242- 243- 244- 249- 252- 255- 257- 265- 268- 269- 271- 276- 278- 279- 280- 283- 287- 289- 290- 292- 296- 306- 310- 311- 312- 313- 315- 319- 320- 321- 325- 338- 353- 367- 368- 369- 378- 379- 380- 389- 393- 395- 396- 402- 405- 410- 411- 412- 414- 420- 421- 422- 424- 425- 426- 427- 431- 432- 435- 438- 439- 442- 444- 445- 448- 449- 450- 451- 453- 454- 455- 456- 457- 458- 459- 460- 461- 463- 464- 466- 470- 471- 473- 474- 475- 478- 481- 482- 493- 497- 517- 519- 520- 524- 525- 526- 528- 533- 534- 535- 536- 537- 538- 539- 540- 546- 547- 557- 558- 578- 589- 632- 634- 635- 636- 637- 648- 685- 709- 730- 731. فاميه (3) 590. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 695 فج الأخيار (4) 39. فج العرعر (4) 43. فج الفرص (4) 17. فجّة (4) 8. فحص آبه (6) 186. فحص تبسه (6) 574. فحص التيه (1) 78. فحص غمره (6) 28. فحص مرسيه (6) 320. فحل (2) 518- 519- 541. مخلافة (4) 269. فدفد (6) 350. فدك (2) 317- 341- 370- 455- (3) 48. أبي فديك (3) 52- 210. الفرات (2) 38- 64- 99- 116- 122- 149- 151- 179- 193- 201- 211- 245- 257- 260- 284- 308- 309- 311- 322- 507- 521- 522- 523- 524- 527- 538- 539- 540- 542- 550- 566- 626- (3) 33- 39- 85- 98- 106- 140- 159- 188- 194- 205- 244- 264- 299- 303- 353- 361- 414- 415- 416- 429- 470- 474- 478- 479- 493- 505- 519- 520- 521- 534- 574- 576- 589- 637- 659- 664- (4) 25- 110- 112- 114- 294- 296- 299- 309- 311- 323- 324- 325- 329- 330- 331- 354- 356- 357- 394. فرح (5) 271. فرس (5) 150- 151. الفرستيرة (4) 216. فرسيسة (2) 84. فرطانية (4) 231. فرغانة (1) 62- 82- 90- (2) 207- 210- 563- 564- 577- 584- (3) 75- 77- 80- 81- 104- 107- 108- 110- 112- 122- 224- 255- 322- 368- 557- (4) 433- 436- 438- 442- 513- 514- (5) 5- 127- 136- 586- 590- (7) 12- 722- 739. الفرما (1) 78- (2) 229- 237- (5) 241. الفرمار (4) 392. الفرنثيرة (4) 226- 231- (7) 251- 254- 274- 507. فرنسه (2) 277. فروق (5) 73. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 696 فزان (1) 73- (2) 14- 366- (6) 113- 131- 132- 188- 255- 266. فسا (2) 553- (3) 539. الفسطاط (فسطاط مصر) (1) 60- 670- (2) 88- 271- 555- 641- 642- (3) 47- 81- 87- 164- 280- 444- (4) 378- 381- 388- 392- 400- 401- (5) 241- (7) 401- 415- 652. الفلح (3) 137. فلسطين (1) 14- 207- 226- 288- (2) 39- 40- 44- 46- 47- 49- 92- 100- 105- 107- 109- 110- 112- 116- 121- 128- 129- 139- 179- 189- 198- 212- 224- 245- 261- 268- 269- 288- 289- 306- 450- 484- 515- 517- 518- 542- 544- 547- 576- 596- 597- 602- 623- 625- (3) 81- 136- 139- 141- 142- 164- 165- 256- 277- 285- 337- 343- 356- 375- 376- 585- (4) 64- 75- 76- 150- 244- 349- 378- 384- (5) 169- 232- 386- 446- 469- 501- (6) 11- 18- 122- 125- (7) 5- 701- 718. فلك البروج (1) 58. فودل (5) 449. فلونية (1) 100. فنقيه (منبسة) (6) 264. فوتان (6) 273. فوزنه (1) 84. فوريان (7) 388. الفولة (5) 360. فيجيج (6) 136. فيد (2) 612- (3) 79- (5) 314- (6) 8. فيروزكوه (4) 508. فيريوز (3) 76. فيكيك (7) 96- 220- 223- 248- 281. فيلاق (5) 596. فيلقان (5) 147. الفيوم (1) 77- 374- (2) 31- 86- (4) 46- 71- 401- 560- (6) 95- (7) 652- 667- 714. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 697 حرف القاف (ق) قائد (4) 119. قابس (1) 315- 433- 473- (2) 366- (4) 241- 242- 243- 245- (5) 231- 233- 234- 235- 236- 237- 239- 240- 336- (6) 20- 25- 28- 45- 54- 95- 96- 109- 111- 112- 113- 131- 132- 143- 150- 154- 160- 161- 162- 165- 187- 198- 211- 212- 217- 221- 222- 224- 252- 256- 257- 258- 259- 260- 318- 328- 333- 373- 378- 379- 380- 382- 405- 442- 444- 450- 468- 479- 480- 481- 483- 499- 503- 508- 509- 513- 520- 521- 524- 526- 531- 536- 537- 541- 543- 544- 559- 565- 566- 567- 568- 571- 575- 576- 577- 581- 598- 603- 606- 607- 608- 609- 610- 611- 612- 613- 614- 616- 617- (7) 20- 32- 54- 55- 56- 58- 79- 86- 98- 345- 355- 356- 357- 361- 362- 374- 375. قابل (3) 60- (5) 384. قابوس (2) 526. قادس (4) 147- 163. القادسية (1) 14- 61- 79- 87- 88- 157- 198- 337- 662- (2) 191- 320- 366- 368- 377- 472- 523- 524- 526- 527- 528- 529- 531- 535- 536- 537- 539- 548- 550- 557- 564- 589- 592- 629- (3) 33- 34- 39- 123- 125- 143- 194- 263- 305- 378- 381- 391- 424- (4) 10- 22- 24- 114- 607- (6) 94- 146- 158. قارا (5) 445. القاربات (3) 78. قاشاش (5) 181- 184- 185. فاشان (1) 80- 89- (2) 559- (3) 200- 449- 461- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 698 464- 476- 482- 484- 508- 635- 640- 655- 659- (4) 290- 557- (5) 89- 113- 129- 146- 153- 288- 586- 592- 615. القاصية (1) 361- 371- 408- (6) 400. القاطون (3) 322. قاقروان (5) 160. قاليقلا (2) 572- (3) 89- 223- 255- 256- 268- 479. قانون (5) 569. القانية (5) 615. القاهرة (1) 27- 78- 248- 427- 428- 452- 503- 528- 546- 548- (2) 89- (3) 30- 124- 649- 664- 666- (4) 12- 34- 58- 60- 66- 71- 78- 82- 86- 91- 92- 93- 94- 95- 96- 97- 98- 99- 100- 102- 105- 114- 137- 407- (5) 7- 241- 242- 243- 244- 245- 246- 290- 291- 328- 329- 330- 331- 332- 334- 338- 342- 390- 391- 420- 433- 434- 443- 446- 453- 458- 463- 464- 465- 467- 472- 477- 513- 517- 521- 528- 529- 530- 535- 536- 544- 558- 559- 560- 561- 568- 571- 575- 628- (6) 18- 63- 196- 205- 206- 211- 292- 355- 425- 613- (7) 26- 36- 54- 59- 299- 361- 388- 476- 510- 528- 530- 531- 647- 648- 652- 656- 666- 667- 669- 673- 675- 689- 693- 699- 700- 723- 742. قبا (2) 420- 422. قباجة (4) 548. قبار (5) 156. قبحق (7) 739. قبرص (1) 315- (2) 142- 143- 209- 255- 256- 262- 263- 270- 277- 575- 576- (3) 166- 168- 284- (4) 267- (5) 219- 275- 378- 379- 388- 396- 397- 416- 447- 450- 451- 518- 519- (6) 129. قبة الملعب (7) 368. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 699 قبة النصر (5) 524- 525. قبولادة (فنزلاوة) (6) 246. قجارى (5) 602. قحطان (1) 204- 219. القدس (1) 79- 288- 443- 513- (2) 12- 48- 109- 110- 117- 118- 119- 122- 124- 125- 126- 128- 130- 131- 132- 138- 140- 141- 143- 144- 145- 147- 149- 150- 151- 154- 156- 158- 159- 160- 161- 162- 164- 168- 169- 173- 179- 224- 226- 227- 228- 237- 238- 239- 240- 241- 243- 252- 263- 340- (3) 80- 85- 86- (5) 50- 52- 101- 174- 176- 177- 179- 180- 212- 215- 216- 217- 218- 219- 221- 222- 224- 225- 226- 227- 230- 241- 242- 246- 248- 250- 252- 269- 328- 348- 357- 361- 362- 363- 364- 365- 369- 370- 371- 373- 379- 381- 382- 383- 384- 386- 389- 390- 395- 397- 401- 405- 407- 408- 413- 415- 417- 433- 434- 444- 449- 463- 475- 484- 503- 517- 520- 527- 530- 533- 544- 620- (6) 412- (7) 349- 670- 716- 725. القدموس (4) 122- (5) 180- 450. قديد (2) 422- 445- (3) 210- 241. قراباغ (5) 602. قراباق (5) 610. قراتكين (3) 636. قراخان (5) 126. القرافة (القرافة الكبرى) (5) 242- 473- 497. قراقروم (5) 198- 199. قراقش (6) 614. قراقوم (5) 594- 596- 598- 599- 600- 613- 614. قردة (2) 433. قردى (3) 483- 484- 493. قرطاجة (قرطاجنة) (1) 84- 222- 313- 430- 431- (2) 224- 225- 233- 234- 235- 246- 254- 575- (4) 42- 46- 166- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 700 235- (6) 143- 405- 425- 427- 428- 429- (7) 11- 498. قرطبة (1) 84- 222- 365- 427- 548- 570- (2) 101- 234- 281- 282- (3) 317- (4) 18- 19- 21- 47- 105- 106- 146- 148- 149- 150- 151- 152- 153- 154- 155- 156- 157- 158- 159- 160- 161- 164- 166- 167- 168- 170- 171- 176- 177- 182- 185- 187- 189- 190- 191- 192- 193- 194- 195- 198- 199- 200- 201- 202- 204- 205- 208- 210- 213- 214- 215- 216- 221- 226- 227- 229- 230- 267- (6) 138- 151- 152- 174- 178- 191- 205- 207- 238- 239- 251- 253- 276- 292- 295- 311- 314- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 324- 326- 329- 338- 340- 341- 372- 385- 393- 395- 509- (7) 3- 19- 25- 26- 28- 29- 34- 36- 42- 43- 45- 51- 55- 72- 109- 118- 139- 140- 251- 259- 270- 271- 285- 329- 433- 484- 504- 506- 507- 570- 571- 617- 618- 686. قرقرا (4) 284. قرقشونة (1) 84- 91. قرقوب (3) 536- (4) 354- 603. قرقيسيا (1) 87- (2) 309- 389- 541- 546- 550- 591- 602- 626- (3) 41- 46- 47- 142- 207- 219- 413- 427- 429- 449- 471- 477- 507- (4) 49- 294- 309- (5) 37- 305- 325- 349- 415- 422. القرم (5) 606- 608- 609- 610. دقرمدة (7) 321. قرمط (1) 77. قرمونه (2) 293- (4) 172- 177- 191- 195- 196- 198- 214- 231- (6) 249- 313- 314- 319- 326- 393- 394- (7) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 701 71- 72- 73- 153- 273- 274- 329- 504- 505- 507 . قرميس (4) 577- 617- 622- 657- 658- (5) 15. قرميسين (قرقلنين) (4) 558- 610- 686- 687- 688- 691- 692- 693. قرند (5) 409. قرنطه (2) 225. القرو (5) 493. القريتين (5) 44. قزل (4) 635. قزوين (1) 88- 89- 95- (3) 294- 415- 427- 430- 431- 434- 443- 457- 460- 461- 463- 476- 482- 483- 508- 558- 578- 601- 602- 604- 628- 631- 655- 659- (4) 27- 28- 32- 33- 118- 123- 330- 410- 435- 443- 444- 449- 491- 551- 555- 556- 557- 559- 575- 634- 636- 647- 659- 672- (5) 34- 37- 50- 71- 91- 93- 115- 128- 129- 134- 140- 163- 272- 598- 615- 620. القسريلية (4) 230. قسطالية (1) 91. قسطلونة (4) 155. قسطنطينية (بيزنطية) (1) 17- 59- 76- 93- 98- 203- 405- 406- 513- (2) 50- 61- 88- 122- 174- 175- 177- 178- 180- 212- 213- 214- 222- 236- 248- 249- 250- 251- 252- 253- 254- 255- 256- 257- 258- 259- 260- 263- 264- 265- 266- 270- 272- 273- 274- 275- 277- 278- 279- 280- 281- 282- 298- 314- 335- 336- 519- 541- 571- 572- (3) 12- 13- 23- 88- 90- 93- 268- 421- 422- 453- 582- (4) 57- 65- 82- 148- 163- 174- 180- 182- 232- 233- 235- 250- 251- 253- 255- 256- 257- 258- 263- 264- 267- 305- 311- 317- 333- 377- 599- (5) 5- 6- 24- 135- 176- 188- 190- 194- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 702 195- 199- 200- 201- 209- 234- 235- 246- 247- 274- 282- 297- 345- 375- 395- 396- 397- 437- 455- 458- 460- 465- 472- 482- 493- 494- 518- 537- 585- 589- 603- 605- 631- 632- 634- 635- 636- (6) 140- 141- 425- (7) 718. قسطيلية (قسطيلة قصطليه قسطينة) (4) 49- 240- 250- 252- 260- (6) 20- 45- 98- 102- 132- 152- 220- 379- 436- 442- 511- 512- 524- 526- 603- 604- 609- (7) 17- 18- 19- 55- 77- 354- 355- 374. قسنطينة (1) 362- 422- 451- (2) 17- 254- 369- (4) 42- 43- 49- 51- (5) 546- (6) 25- 26- 28- 30- 31- 32- 45- 47- 69- 97- 98- 108- 134- 170- 195- 196- 197- 198- 199- 209- 215- 218- 219- 228- 230- 232- 233- 236- 254- 259- 263- 15- 327- 329- 331- 332- 381- 393- 398- 400- 424- 435- 439- 440- 443- 448- 449- 458- 461- 463- 464- 465- 467- 470- 471- 472- 473- 474- 475- 476- 477- 478- 479- 480- 481- 482- 483- 484- 485- 486- 487- 488- 489- 490- 491- 492- 497- 500- 501- 502- 503- 504- 505- 508- 520- 521- 526- 527- 528- 531- 532- 533- 534- 535- 536- 538- 539- 540- 542- 545- 546- 549- 550- 552- 555- 556- 557- 560- 561- 562- 570- 576- 577- 581- 582- 588- 589- 590- 592- 593- 594- 595- 609- 610- (7) 20- 21- 62- 63- 64- 66- 121- 136- 142- 143- 144- 170- 171- 185- 209- 295- 331- 355- 356- 365- 366- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 703 367- 372- 383- 384- 385- 386- 387- 391- 392- 393- 394- 398- 401- 402- 412- 496- 524- 528- 530- 531- 532- 535- 536- 546- 547- 554- 556- 557- 558- 559- 560- 561- 574- 577- 638- 731 . قشتالة (4) 148- 153- 174- 191- 226- 227- 229- 230- 231- (6) 274- 385- 417- (7) 225- 402- 433- 495- 497- 528- 549- 571. قشته (6) 42. قشتيلية (4) 181. قشمير كشمير. قص (4) 211. القصبات (7) 116- 208- 216- 269- 291. القصبة (4) 210- (6) 258- 352- 434- 456- 524- 525- 526- 539- 555- 563- 565- 602- (7) 138- 415- 428- 459- 460- 469- 470- 473- 515- 522- 523- 528- 559- 560- 663. القصر (4) 329- (5) 451- (6) 281- (7) 119- 238- 295- 312- 395. قصر الأبلق (5) 568. قصر الأجم (7) 213- 357. قصر الأحمر (4) 233. قصر اريولة (4) 164. قصر تازروت (7) 187. قصر الجواز (5) 252. قصر حاتم (4) 256. قصر الدهانين (الدهاس) (6) 214. قصر الدوسن (6) 585. قصر الديماس (6) 214. قصر سابور (4) 694. قصر سعيد (7) 202. قصر الشمع (2) 197. قصر شيرين (3) 574. قصر الطين (6) 210. قصر ابن عبد الكريم (7) 302. قصر عجيسة (7) 104. قصر كتامه (7) 225- 234- 235- 309- 312- 314. قطلوسة (7) 484. قطيري (6) 84. قطيطيا (3) 192. القطيف (2) 357- 504- (3) 437- (4) 111. قطينة (5) 424. قعيدة (7) 126. قعيقعات (2) 393. قفارة (6) 39. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 704 قفجاق (3) 660- (5) 573- 615- 619- 620. القفص (2) 579- (4) 566. قفصة (1) 76- 473- (2) 235- 574- (4) 43- 235- 240- 260- (5) 240- (6) 28- 132- 194- 220- 228- 255- 256- 257- 259- 260- 318- 323- 324- 327- 328- 332- 373- 502- 503- 507- 511- 520- 530- 532- 562- 563- 564- 566- 567- 569- 572- 573- 579- 580- 581- 597- 598- 600- 601- 602- 608- 611- (7) 22- 56- 62- 375- 532- 639. القل (6) 195. قلاع كالومين (5) 122. قلته (2) 289. القلزم (1) 60- 61- 78- (2) 242- 641- (4) 378- (6) 7- 132- (7) 718. قلطاوة (6) 46. قلعات (5) 127. القلعة (1) 195- 205. قلعةآباد (4) 600. قلعة آلدي (6) 286. قلعة أبي ثور (4) 263. قلعة اربل (4) 335. قلعة اردهز (5) 133. قلعة أرك (4) 460. قلعة أسا (4) 487. قلعة أسعرد (4) 408- 409. قلعة أشب (5) 271- 277. قلعة إصطخر (3) 566- (5) 52- 93- 141. قلعة إعزاز (5) 64- 303- 307- 341- 353- 423. قلعة افامية (5) 52. قلعة أكبره (5) 294. قلعة الأكراد (5) 628. قلعة ألموت (ألمرت) (3) 376- 658- 662- (4) 13- 104- 118- 119- 121- 123- 555- 556- 569- (5) 103- 115- 152- 154- 163- 164- 593- 613. قلعة انكورية (5) 212. قلعة الأوتاد (5) 275. قلعة أوند (5) 591. قلعة ايلان (5) 133. قلعة أيوب (1) 84- (4) 177. قلعة البازغية (5) 393. قلعة باميان (5) 341. قلعة بانياس (5) 180- 290. قلعة البردان (3) 566. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 705 قلعة بردشير (3) 561- (4) 649. قلعة البردوان (4) 655. قلعة بسام (بشام) (3) 260- (4) 284- 285. قلعة بغدوين (5) 274- 301- 302. قلعة بقوين (بعرين) (5) 230. قلعة بكاس (5) 367. قلعة بكورا (بلورا) (4) 691. قلعة بلاطنو (4) 263. قلعة البلوط (4) 263. قلعة بهرام (5) 285. قلعة بهندر (4) 650. قلعة بهنكر (4) 528. قلعة بهيم نسقرا (4) 481. قلعة بوجين (5) 17- 18. قلعة بوفلس (5) 366. قلعة بيت السرير (3) 167. القلعة البيضاء (5) 76. قلعة تامزردكت (7) 109. قلعة تاوغزوت (7) 147- 209- 215. قلعة ترجمان (5) 72. قلعة تكر (6) 484. قلعة تكريت (5) 327. قلعة جاربرد (5) 165. قلعة الجبل (7) 22. قلعة الجديدة (5) 321. قلعة الجراحية (4) 336. قلعة جراوة (7) 42. قلعة الجزيرة (5) 205- 309. قلعة جعبر (جعفر) (الدوس) (3) 589- 617- 621- (4) 353- 369- (5) 12- 48- 49- 67- 178- 215- 220- 253- 266- 279- 280- 292- 294- 299- 362- 386- 401. قلعة جناشك (4) 664. قلعة حاجين (5) 156. قلعة (قصر) حارم (5) 267- 285- 289- 290- 303- 307- 329- 340- 343- 352- 353- 463. قلعة حجر النسر (6) 177- 289- 290- 291- (7) 43. قلعة حرة (5) 141. قلعة الحصرمية (4) 124. قلعة حقبيركان (5) 310. قلعة بنو حمّاد (1) 428- 430- 505- (6) 32. قلعة حمرد (5) 267. قلعة حموض (5) 482. قلعة الحميدية (5) 270- 271- 302- 316. قلعة خالنجان (4) 119- 211. قلعة خلخال (5) 62. قلعة دبوسية (4) 504. قلعة دربساك (5) 368- 369- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 706 قلعة درقان (5) 161. قلعة (قلاع) الدروب (5) 275. قلعة دسكرة (5) 94. قلعة دوربلونة (4) 693- 694. قلعة رباح (4) 164. قلعة ربح (5) 9. قلعة الرحبية (5) 271. قلعة رد (3) 436. قلعة رزمان (5) 163. قلعة رغبان (5) 196. قلعة الرمل (4) 119. قلعة رواند (5) 139. قلعة الروضة (4) 393. قلعة الروم (5) 465- (7) 727. قلعة رياح (1) 84- (6) 322- 335. قلعة الزعفرانيّ (5) 299. قلعة الزوزان (5) 309. قلعة زوزن (4) 545. قلعة زونين (5) 156. قلعة زياد (2) 644. قلعة الساج (5) 256. قلعة سرجهان (5) 56- 140- (6) 614. قلعة سرحاب (3) 630. قلعة سرخس (5) 22- 101. قلعة سرماج (4) 600. قلعة سروان (السيروان) (3) 115- 568- (4) 657. قلعة بني سعيد (7) 346. قلعة سعيدة (6) 59. قلعة سكان (5) 160. قلعة ابن سلامة (بني سلامة) (6) 59- 63- (7) 173- 174- 638. قلعة سلوقان (5) 144. قلعة سمكيس (4) 645. قلعة سنان (4) 600- (6) 99- 445- 446- (7) 508. قلعة سندة (4) 602. قلعة سنك سراخ (5) 164. قلعة سهدم (5) 32. قلعة سوس (5) 270. قلعة سيرم (4) 669. قلعة السيروان قلعة سروان. قلعة شاه در (4) 118- 119- 120. قلعة شاهن (5) 164. قلعة الشراة (2) 154. قلعة الشغر (5) 367. قلعة شقبناريّة (6) 227. قلعة الشقيف (5) 231- 348- 360- 370- 371- 399- 414- 446- 485. قلعة شكمين (4) 497. قلعة شلبطرة (6) 335. قلعة شمس (5) 166. قلعة شهران (5) 56. قلعة الشوش (5) 316- 317- 321- 322- 384. قلعة الصقالبة (3) 421. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 707 قلعة الصقر (4) 334- (5) 270- 317- 318- 321- 404. قلعة صنوبا (5) 197. قلعة صور كوه (5) 136. قلعة طبرق (4) 617- (6) 597- 647- (5) 93- 97- 98- 100- 112. قلعة طبس (4) 119. قلعة طبول (4) 493. قلعة طرمين (4) 262. قلعة طغرل (5) 17- 29. قلعة طلع (5) 153. قلعة الطنبور (4) 119. قلعة عرفة (5) 14. قلعة عكا (5) 310. قلعة عليا (5) 160. قلعة العماديّة (5) 271- 277- 293- 317- 318- 319- 321- 322- 403- 404. قلعة غنوش (6) 226. قلعة فازاز (6) 180- 245- 246. قلعة فرح (5) 314- 315. قلعة فرنسيس (5) 115. قلعة فسك (4) 321. قلعة فنك (5) 279- 280- 310. قلعة فيروزاباد (5) 158. قلعة قاشان (4) 515. قلعة قردخان (فردخان فردجان) (4) 496- 497- 637- 645. قلعة قرسينة (قريشة) (6) 225. قلعة قستان (4) 604. قلعة قندلاوة (7) 278. قلعة قندهار (5) 138- 141- 590- 591. قلعة قوطور (5) 154- 155- 156. قلعة قيشانة (4) 264. قلعة كاك (5) 160. قلعة كاليجار (4) 479. قلعة كانج (5) 623. قلعة كتامة (6) 192. قلعة كحلان (2) 292- (4) 281. قلعة الكحنا (5) 196. قلعة الكرات (4) 251. قلعة كرزبان (5) 114. قلعة الكرك (5) 293- 295- 297. قلعة كركر (5) 228. قلعة كركرة (3) 421. قلعة كشكور (4) 647. قلعة كلال (5) 493. قلعة كلجان (4) 694. قلعة كندهة (4) 490. قلعة كنكور (4) 631. قلعة كواشي (3) 526- (4) 605- (5) 319. قلعة كواكير (4) 528. قلعة كوري (كورة) (5) 102- 122. قلعة كوماط (6) 178. قلعة كيدي (4) 503. قلعة كيس (3) 345. قلعة لبخ (قلعة البراهمة) (4) 487. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 708 قلعة لؤلؤ (4) 386. قلعة ماروت (5) 140. قلعة الماهكي (3) 642- 646- 647- 651- (4) 695- (5) 8. قلعة مراد نقين (5) 156. قلعة مصيات (4) 122. قلعة ملاوخان (4) 119. قلعة ملاشي (4) 308. قلعة مليطو (4) 266. قلعة المهاكين (3) 638. قلعة مهدي (6) 246. قلعة ناشر (5) 50. قلعة الناظر (4) 119- 121. قلعة نجم (5) 392- 394. قلعة النجمة (5) 471. قلعة النسور (5) 270. قلعة النقير (5) 493. قلعة هردوجاربرد (5) 156. قلعة هزوران (5) 322. قلعة هقناج (5) 356. قلعة همرد (5) 277. قلعة هوازشاه (4) 695. قلعة هونين (5) 387. قلعة ورد (4) 609- 611. قلعة ورغة (زرعة) (6) 225. قلعة يزدجرد (3) 593. القلمرية (1) 84. قلمية (3) 422. قلنسرية (4) 179. قلنّة (4) 167- 168. قلهات (1) 74. قلهرة (4) 183. قصر المجاز (1) 83- (6) 339- (7) 270- 285. قصر مجاشع (4) 649. قصر مرادة (7) 175- 188- 190. قصر مصمودة (6) 291- 325- 329- (7) 255- 272- 278- 283- 288. قصرا بن هبيرة (1) 87. قصران (4) 482. قصرخان (6) 135. قصريانة (4) 251- 252- 253- 255- 266. القصرين (4) 43. القصة (6) 310. القصير (7) 677. قضاعة (4) 285. القضقاض (2) 478. القطافة (6) 130. قطانية (4) 255- 256- 257. قطاون (1) 83. القطب المتجمد الجنوبي (1) 58- 63- 64- 65- 68. القطب المتجمد الشمالي (1) 58- 63- 64- 65- 68. قطراف (5) 780. قطربُّل (2) 514- (3) 473. قطريبة (4) 183. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 709 القطفة (7) 589. القطقطانية (2) 310- 319- (3) 97- 193. قطلبانة (4) 252. قلوجة (3) 581. قلورية (1) 85- 92- (4) 44- 55- 251- 252- 255- 258- 262- 264- 396- (5) 237. قلونية (4) 229. القليب (2) 386- 430. القليس (2) 71. القليعات (5) 445. قليعة (6) 158- 253. قليعة والد (والن) (6) 70. قليعة (2) 572. قليوب (5) 423- 525. قم (2) 559- (3) 69- 158- 200- 292- 319- 428- 434- 449- 455- 456- 461- 464- 482- 484- 508- 627- 655- 659- (4) 32- 33- 35- 290- 443- 444- 449- 555- 556- 557- 566- 575- 595- 631- 645- (5) 27- 89- 113- 146- 592- 615. قمارش (4) 195- (7) 258- 260- 280- 486. قمامة (2) 226. قمانية (1) 98- 101. القمحية (7) 667. قمقيم (3) 89. قمنات (5) 631. قمودة (3) 453- 454- (4) 43- 261- (6) 220. قمولية (3) 89. القناطير (7) 259. قنته (7) 590. قندابيل (3) 99- 100- 184- 343. قندلاوة (4) 14- (6) 140. القندهار (1) 75. قنسرين (1) 86- 162- 226- (2) 226- 268- 541- 542- 546- 547- 575- 602- (3) 41- 93- 140- 142- 143- 218- 219- 268- 273- 290- 343- 383- 413- 415- 424- 439- 505- 507- (4) 150- 292- 296- 390- 394- 398- 403- 404- 405- (5) 173- 269- (6) 14. القنطرة (2) 526- 529- 531- (4) 469- (6) 322. القنطرة البيضاء (4) 618. قنطرة السيف (1) 84. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 710 قنطرة الوادي (7) 459. قنوج (1) 75- (4) 486- 487- 488. قهندر (5) 94. قوباق (5) 596. قوبان (مويان) (6) 131. القوبس (1) 836. القور (5) 5. قورس (2) 542- (5) 284. قوس (5) 89. قوسان (4) 365. قوسة (4) 256. قوص (1) 74- (3) 665- (4) 91- (5) 284- 290- 434- 461- 466- 507- 539- 552- 554- 556- (6) 6- (7) 656- 677. قوصرة (1) 314- 315- (5) 234- 235. قومانساه (3) 167. قومس (1) 225- (2) 560- 582- (3) 146- 148- 151- 156- 269- 278- 332- 425- (4) 27- 474- 549- 565- (5) 95- 96- 128- 588. قونية (2) 279- 572- 575- (3) 284- 446- 579- (4) 303- 343- (5) 187- 188- 191- 193- 194- 195- 199- 200- 201- 203- 247- 375- 615- 631- 632- 635. قوهستان (قهستان) (1) 80- (2) 578- 585- 586- (3) 17- 18- 91- 92- 99- 234- 277- 386- (4) 119- 417- 429- 431- 452- 460- 461- 463- 468- 476- 530- (5) 116- 117- 125. قيدر (5) 132. القيروان (1) 7- 27- 28- 30- 224- 235- 252- 260- 298- 332- 361- 427- 428- 430- 435- 448- 463- 505- 529- 545- 548- 569- 570- 629- 717- 778- 834- 836- (2) 20- 385- (3) 13- 170- 171- 174- 175- 213- 286- 352- 449- 452- 453- 454- (4) 12- 16- 17- 21- 34- 37- 39- 42- 43- 44- 45- 48- 49- 50- 51- 52- 53- 54- 55- 56- 57- 60- 61- 67- 70- 73- 77- 107- 113- 145- 147- 148- 154- 170- 203- 234- 235- 236- 239- 241- 242- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 711 243- 244- 245- 246- 247- 248- 249- 250- 251- 253- 256- 258- 260- 261- 266- 329- 402- 406- 407- (5) 237- 546- (6) 17- 19- 20- 21- 25- 26- 45- 70- 71- 97- 102- 104- 106- 108- 113- 126- 132- 135- 142- 143- 144- 145- 146- 147- 148- 150- 151- 152- 154- 156- 157- 159- 164- 174- 176- 178- 185- 193- 194- 203- 204- 206- 207- 208- 210- 211- 212- 217- 219- 220- 221- 222- 225- 228- 229- 230- 238- 239- 243- 259- 260- 272- 273- 279- 292- 315- 318- 328- 333- 355- 361- 369- 378- 425- 429- 430- 440- 443- 482- 483- 489- 507- 518- 522- 523- 524- 525- 527- 532- 558- 563- 564- 567- 592- 595- 599- 606- 609- 612- 613- (7) 11- 16- 18- 19- 21- 22- 24- 27- 28- 31- 32- 33- 34- 35- 36- 38- 41- 42- 53- 54- 55- 56- 62- 82- 92- 147- 152- 153- 155- 156- 157- 159- 164- 200- 205- 212- 357- 360- 361- 364- 365- 367- 368- 370- 371- 374- 389- 413- 417- 514- 515- 517- 520- 522- 523- 528- 536- 537- 548- 557- 596. قيس العواصم (5) 213. قيسارية (1) 78- (2) 102- 155- 159- 160- 161- 162- 252- 268- 270- 543- 547- 554- (3) 89- 166- 167- (4) 89- 166- 167- (4) 75- 302- 305- (5) 191- 193- 194- 198- 199- 201- 202- 214- 215- 297- 360- 380- 387- 444- 452- 458- 605- 616- 617- 631- 633- (7) 727. قيسارية (2) 274. القيطون (7) 18- 54- 56. قيمازك (1) 101. قيمون (4) 286- (5) 376. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 712 حرف الكاف (ك) كابل (1) 75- 80- (2) 580- 584- (3) 7- 8- 71- 171- 273- 277- 291- (4) 417- 545- (5) 127. كاتم (1) 70. كازرون (2) 565- (3) 190- (4) 562- (5) 53. كازون (5) 141. كاش (كات) (4) 465. كاشان (3) 75- 80- (5) 127. كاشغر (3) 85- 86- 557- (4) 443- 463- 466- 473- 509- 513- 515- 518- 519- 520- (5) 13- 14- 77- 78- 96- 107- 123- 126- 127- 427- 584- 586- 601- (7) 722- 724- 739. كاظمة (2) 508. كاكوير (كاكوين) (4) 544. كام (6) 257. كامخ (5) 631. كانتا (6) 595. كانفوسا (5) 561- 562- 563. كاوصت (6) 129- 370. كباية (كنباية كبايت) (7) 727. كنجة (3) 626. كبركيت (4) 251- 257- 261- 262- 263. كتامة (1) 16- 28- 76- 218- 252- (3) 454- (4) 12- 36- 37- 38- 39- 40- 41- 42- 43- 168- 297. كتمان (1) 82. الكتيبة (2) 349. كحيل (3) 205- (4) 355- 391- 590- 634. كدارة (6) 69. كدالة (6) 77- 283. الكدر (2) 430. كدميوه (كيدمويه) (1) 75- (6) 304- 352- 365. كدية الصعتر (6) 100. كدية العابد (7) 67. كدية العرايش (العرائس) (7) 265- 401- 403- 415- 419- 420- 425- 450- 634- 635. الكرارة (4) 270. كراع الغميم (2) 447. كربلاء (1) 249- 270- 409- (3) 29- 30- (7) 518- 519. كرت (7) 226. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 713 الكرج (5) 129- 134- 135. كرخ (2) 204- 276- 380- 638- (3) 185- 192- 300- 311- 319- 356- 373- 374- 376- 380- 390- 417- 435- 476- 491- 508- 531- 545- 554- 555- 558- 564- 568- 569- 574- 580- 582- 615- 616- 655- 658- 662- (4) 27- 33- 36- 330- 444- 449- 555- 561- 562- 575- 589- 591- 629- 636- 640- 641- 652- 653- 657- 658- 659- (5) 6- 19- 57- 613- (6) 8. كرخة (3) 370. كرد (5) 6. كردكوه (4) 119- (5) 152. كردون (كوردر) (4) 604. كرزبان (4) 542. كرسيف (6) 176- 247- (7) 65- 166- 168- 169- 170- 223- 228- 238- 636. كرفه (6) 423. الكرك (2) 45- 47- 97- 100- 296- 297- 306- (5) 334- 335- 336- 346- 348- 350- 354- 357- 358- 359- 362- 363- 364- 369- 384- 385- 396- 401- 405- 408- 409- 411- 412- 413- 415- 417- 419- 420- 421- 422- 432- 435- 436- 438- 439- 442- 443- 444- 448- 449- 454- 455- 456- 457- 458- 460- 465- 466- 470- 473- 474- 484- 485- 486- 488- 489- 498- 506- 507- 508- 509- 512- 513- 517- 523- 526- 528- 530- 532- 534- 538- 541- 542- 544- 550- 551- 552- 553- 555- 556- 557- 561- 581- 605- (6) 7- 689- 695- 700. كركرة (3) 348. كركري (5) 155. كركو (كركوا) (5) 448- (7) 17. كركيرة (6) 154. الكرم (5) 141. كرمان (1) 61- 80- 225- (2) 19- 20- 191- 200- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 714 204- 553- 559- 563- 566- 577- 578- 579- 580- 584- 585- 644- (3) 60- 61- 64- 81- 98- 99- 100- 151- 152- 158- 171- 173- 184- 186- 188- 198- 199- 201- 202- 209- 244- 266- 298- 313- 315- 318- 338- 367- 368- 390- 416- 417- 423- 427- 430- 431- 461- 473- 482- 483- 484- 486- 492- 496- 498- 508- 536- 542- 544- 548- 549- 550- 551- 552- 561- 580- 583- 660- (4) 416- 422- 424- 426- 427- 430- 431- 438- 446- 447- 457- 458- 492- 496- 503- 505- 508- 522- 537- 539- 542- 543- 562- 563- 564- 565- 566- 567- 568- 586- 587- 588- 594- 595- 603- 610- 615- 619- 620- 624- 625- 626- 627- 628- 629- 632- 633- 643- 648- 658- 661- 692- (5) 6- 25- 32- 53- 54- 56- 94- 98- 110- 123- 127- 130- 139- 140- 143- 144- 150- 151- 153- 154- 164- 323- 573- 574- 591- 592- 618- 627- 629- 630- (6) 5- 16- (7) 718. كرمس (4) 561. كرمسين (5) 123. كريت (4) 44. كريفلة (6) 280. كزنارية (6) 284. كزواوة (4) 15. كزول (6) 84- 209. كزولة (1) 73. كستاسفي (5) 159. الكسرة (5) 456. الكسرو (5) 468. كسكر (2) 509- 521- 527- 572- (3) 230- 262- 390. الكسوة (5) 296. كسيوم (3) 302- 315- 316- 320- 441- (5) 48- 51- 225- 252. الكش (2) 580- (3) 60- 66- 67- 70- 71- 75- 77- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 715 79- 92- 104- 112- 122- 225- 226- 260- (4) 473- (5) 615. كشماهن (3) 234. كشمير قشمير (1) 75- (4) 479- 486- (5) 163- 198. الكعب (1) 436- 437- 440. كعب الأحبار (1) 19. الكعبة (2) 61- 67- 71- 72- 96- 329- 374- 385- 389- 393- 395- 397- 398- 401- 402- 409- 414- 426- 460- 461- 535- 609- (3) 26- 27- 49- 51- 232- 263- 279- 292- 298- 306- 472- 634- (4) 10- 123- 125- 135- 385- 491- (5) 513- 581- (6) 417- (7) 604. كفر أرمان (5) 356. كفرتوثا (2) 547- (3) 471- (4) 309. كفررقان (5) 314. كفر زمّار (5) 314. كفر زمان (5) 394. كفر شود (5) 284. كفرطاب (3) 590- (4) 76- 311- 349- (5) 52- 64- 158- 226- 229- 252- 274- 286- 357- 393. كفركنا (5) 395. كفرلات (5) 284. كفريموتا (3) 206- 207- 208. الكلا (3) 502. كلات (5) 136. كلاجرد (5) 157. كلار (3) 357. كلاوة (6) 369. الكلبانية (2) 553. طلبيرة (4) 158. كلدامان (7) 111- 207- 234. كلكال (1) 441. كلميتو (كلمتين) (6) 65- 134. كلواذا (3) 527- (4) 582. كلور (5) 142. كليل (5) 52. كمرجة (3) 110. كنارة (3) 205. الكناسة (1) 250. كنانة (3) 159- 338. كنجة (3) 604- 605- 614- 618- 627- 636- (5) 25- 27- 38- 39- 49- 56- 60- 61- 70- 81- 85- 104- 135- 146- 147- 148- 149- 151- 152- 156- 160- 164- 165- 166- 589- 593- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 716 615. كندر (5) 90. كندة (4) 283. كنعان (1) 17. كنعون (1) 441. كنفيسة (6) 304. كنكر (1) 225. كنكرة كورية (5) 631. كنكسون (5) 27. كنكور (4) 557. كنيسة القمامة (القيامة) (1) 443- (2) 252- 268. كنيسة مار يوحنا (2) 271. كنيسة مريم (5) 425. الكهف (5) 450. كهف حفار (2) 482. كواشي (قلعة) (4) 301- 304- 308- 315- 319- 581- 583- 598- (5) 271- 272- 403. كوثا (كوثى) (2) 38- 78- 80- 528- 536- (3) 308. كوج (5) 104. كودا (4) 277. كور الجبل (3) 302. كور دجلة (1) 225- (4) 23- 26. كور صول (3) 101- 119. كور طرستان (5) 89. كورثان (5) 158. كوركين (4) 458. كورة البشارات (6) 324. كورة جيّان (4) 154. كورة حفن (2) 88. كورة رجب (4) 152. كورة قنبانية (6) 324. كورى (5) 160. كوريش (2) 121. الكوس (4) 213. كوسجة (4) 689. كوشالة (2) 161. كوشان (2) 200. الكوفة (1) 61- 62- 87- 226- 250- 256- 268- 269- 396- 428- 435- 447- 448- 470- 527- 528- 546- 548- 557- 755- (2) 61- 79- 201- 242- 250- 284- 297- 312- 320- 326- 355- 360- 368- 371- 375- 390- 500- 523- 538- 539- 541- 549- 550- 551- 552- 554- 556- 557- 558- 559- 560- 563- 564- 571- 581- 582- 583- 585- 586- 587- 589- 591- 592- 593- 594- 595- 596- 600- 602- 604- 605- 606- 611- 612- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 717 613- 614- 615- 617- 618- 619- 621- 625- 626- 629- 630- 634- 639- 640- 642- 645- 648- 649- (3) 5- 6- 7- 10- 11- 12- 13- 14- 16- 17- 18- 19- 21- 25- 27- 28- 29- 30- 31- 32- 35- 36- 37- 39- 40- 41- 43- 44- 45- 46- 47- 49- 52- 53- 54- 56- 57- 60- 62- 63- 68- 82- 83- 88- 94- 97- 98- 99- 100- 113- 114- 116- 120- 121- 122- 123- 124- 126- 127- 128- 132- 137- 139- 142- 143- 144- 147- 151- 158- 159- 160- 161- 162- 169- 170- 171- 172- 173- 174- 175- 177- 178- 179- 186- 187- 188- 189- 190- 191- 192- 193- 194- 195- 196- 197- 198- 200- 202- 203- 204- 205- 206- 207- 208- 218- 220- 222- 227- 229- 237- 238- 240- 245- 246- 247- 248- 250- 251- 252- 253- 254- 255- 258- 260- 262- 266- 267- 269- 281- 297- 303- 304- 305- 306- 308- 310- 311- 317- 343- 352- 356- 358- 363- 381- 390- 396- 397- 401- 419- 424- 425- 429- 431- 438- 443- 451- 462- 464- 469- 470- 477- 484- 487- 488- 494- 501- 512- 546- 547- 550- 551- 574- 575- 576- 600- 610- 617- 637- 646- 659- (4) 2- 3- 4- 9- 10- 11- 12- 23- 35- 107- 108- 109- 112- 114- 115- 130- 133- 144- 145- 312- 325- 327- 328- 329- 330- 340- 354- 359- 368- 376- 393- 398- 404- 559- 607- 621- 623- 631- 679- 684- 687- (5) 82- 249- 615- (6) 8- 15- 16- (7) 503- 518- 596- 681- 735. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 718 كوكان (5) 606. كوكب (قلعة) (5) 363- 364- 365- 369- 370. كوكبر (4) 478- 479. كوكش (3) 537. كوكصو (5) 202. كوكو (1) 70- 104- (5) 497. الكوم الأحمر (5) 471. كوم برّى (5) 516. كوم الريش (4) 78. كومرد (4) 136. كومة (2) 79. كومية (6) 157- (7) 355. كوه رام (4) 527. كوهستان قوهستان. الكيبات (الكبيات) (6) 8. كيدزة الجبل (6) 64. الكيرج (3) 84. كيسوم (5) 220. كيسون (5) 192. كيش (كيس) (5) 127- 130- 140. كيفا (حصن) (4) 321- (5) 40- 44- 67- 169- 192- 341- 403- 404- 414- 417- 418- 431. كيكاوس (1) 18. كيكلون (5) 150. كيلان (نزل) (3) 168- 478- (4) 658- (5) 620. كيمان (5) 530- 531. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 719 حرف اللام (ل) اللاذقية (1) 86- (2) 149- 226- 541- (3) 590- (5) 12- 215- 219- 273- 286- 344- 365- 366- 367- 375- 386- 405- 457. لاردة (1) 84- (4) 166- 193- 206- (6) 314. اللاهون (1) 74- 77. اللان (1) 61- (3) 115- 167- 660. لانية (1) 98. لاهور (لهاور لهاوون لهاوور) (4) 504- 505- 508- 522- 523- 527- 533- 534- 536- 537- 547- 548- (5) 119- 142- 163. اللبان (2) 507. اللبح (4) 200. لبدة (2) 573- (4) 256- 388- (6) 113- 135- 140. لبزو (6) 550. لبلة (1) 84- (4) 146- 154- 176- 388- (6) 312- 313- 314- 315- 316- (7) 274. لبنان (2) 112- (7) 728. اللجم (4) 270. اللحف (3) 642- 646- 655- (4) 375- (5) 80- 81- 85- 113. لحيان (4) 216. لخ (4) 274. اللد (2) 543- (5) 395- (6) 8. لدن (7) 10. لستانه (3) 448. لسى (4) 254. لشبونه (اشبونة) (1) 84- 91- (2) 236- 281- (4) 162- 163- 167- 195- 226- 228- 232- (6) 245- 314- 323- 324- (7) 346. لفتة (1) 84. لقنت (4) 212. اللكز (3) 115- 660. اللكن (4) 668. لكور (4) 48. اللمان (4) 180. لماية (3) 213- (7) 23. لمتونة (1) 69- 73- 146- 195- 197- 199- 207- 218- 285- 286- 374- 375- (4) 18- 203- 209- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 720 210- 229- 230- (5) 233- 336- 497- (6) 77- 137- 233- 246- 247- 249- 262- 306- 533. لمدونة (لمدرية) (7) 204. لمدية (6) 203- 204- 231. لمطة (1) 73- (4) 16- (6) 185- 263- 370. لمفان (4) 471. لميس (4) 234. لهويكة (1) 97. لؤلؤة (2) 272. لواتة (6) 244- (7) 66. لوبية (2) 573. لورقة (6) 721. لوشة (7) 439. الليس (2) 509- 522- 523- (3) 446. الليمانية (4) 231. ليورقة (لورقة) (1) 84- (4) 205. ليون (1) 91- (4) 163- 179- 228- 230- (6) 336. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 721 حرف الميم (م) المآب (المتات المتاب) (7) 354. مأرب (1) 74- 288- (2) 9- 32- 57- 66- 481- 482- 491- 494- (6) 123. ما جرى (5) 603. ماح رود (2) 561. ماحنون (ماحيون باحمون) (7) 207- 209- 219. الماخران (3) 153. الماخورة (3) 350. ماخورية (5) 521. مادر (3) 183. مادونة (مازونة) (6) 164. ماردة (1) 84- (2) 281- (4) 140- 146- 156- 160- 161- 165- 168- 169- 177- 178- 179- 213- 216- (6) 321- 323. ماردين (5) 575- 593- 610- 617- 628- (7) 526. ماري (2) 126. مازار (4) 14. مازر (1) 85- (3) 455- (4) 44- 251- 263- 266. مازرعة (5) 232. مازندان (مازنداران) (3) 580- 614- (5) 78- 87- 88- 91- 95- 96- 102- 114- 122- 130- 133- 140- 143- 164- 586- 588- 590- 591- 593- 602- 610- (7) 721- 724- 726. مازونة (6) 65- 254- (7) 87- 89- 90- 122- 123- 124- 157- 210- 291- 292- 293- 370. ماسبدان (ماسبذان ماسندان) (1) 226- (2) 539- 550- 602- (3) 375- 484- 494- (5) 99. ماسكين (5) 349. ماسة (6) 129- 244- 311. ماشاش (باشاش) (6) 587. ماشية (3) 89. ماكسين (5) 305. مالس (5) 172. مالطة (1) 315- (4) 251- (6) 425. مالقة (1) 68- (2) 242- (4) 150- 152- 166- 170- 171- 194- 195- 196- 203- 217- 218- 219- 221- (6) 130- 239- 240- 249- 269- 285- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 722 286- 295- 313- 315- 317- 319- 323- 324- 396- 447- (7) 118- 245- 253- 254- 258- 259- 260- 261- 264- 265- 266- 268- 270- 271- 274- 277- 280- 284- 301- 311- 316- 442- 449- 454- 470- 486- 488- 490- 493- 499- 505- 507- 522- 608- 663. مالي (1) 69- 70- 104- (5) 496- 497- (6) 527- (7) 69- 76- 351- 352- 366- 410- 423. مامشون (5) 79. مانرحا (5) 271. ماه (2) 591- (3) 224- 464- 484. ماه نهروان (3) 196. ماهان (5) 593. ما وراء النهر (3) 58- 60- 79- 80- 148- 154. مايدشت (مايدشير) (4) 693- 695. المباركة (3) 621- (5) 63- (6) 109- (7) 356. المباركة (3) 621- (5) 63- (6) 109- (7) 356. مبرة (1) 316- (4) 609. المثاغرة (1) 208. المتوكلية (شمكور) (2) 573- (3) 347. متيجة (تيجة) (6) 72- 79- 84- 85- 134- 154- 169- 262- 316- 380- (7) 86- 91- 104- 115- 122- 123- 134- 180- 182- 192- 206- 209- 330- 341- 376. مجالات البادية (1) 79. مجالات البجة (1) 72. مجالات الحلج (1) 80. مجالات رواحة (1) 77. مجالات هيب (1) 77. مجانة (3) 453- (4) 49- 260. المجدل (2) 38- 78. مجريط (6) 314- 324. مجكسة (مجسكة) (6) 282. محراب داود (5) 211. المحفوظة (3) 84. المحمدية (3) 380. محمل رزون (5) 615. المحيط الاطلنطي (6) 274. مخاضة (6) 340. مخاضة الإضرار (5) 344. المختارة (3) 401- 402. مخوس (2) 492. المدائن (1) 203- 337- 470- (2) 199- 200- 208- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 723 209- 211- 212- 213- 214- 215- 216- 262- 264- 266- 508- 521- 522- 523- 524- 525- 529- 531- 534- 536- 537- 538- 539- 550- 554- 560- 626- 629- 638- 640- 648- (3) 31- 180- 245- 362- 547- 612- 613- 631- (4) 9- 10- 366- 367- 571- 592- 614. المدار (2) 524. المدامس (3) 282. المدور (7) 254. مديد (6) 262. مدير لك (4) 153. مديلة (مديلية) (1) 84- (7) 22. مدين (1) 60- 78- (2) 93- (3) 36- (7) 717. مدين رستان (4) 594. مدينة الحضر (2) 201- 202. المدينة الحمراء (6) 19. مدينة سالم (4) 162. مدينة طغرل (5) 148. المدينة المنورة يثرب (1) 14- 18- 74- 125- 137- 138- 154- 155- 268- 269- 392- 407- 408- 436- 439- 443- 444- 445- 562- 568- (2) 5- 19- 24- 30- 61- 62- 63- 66- 67- 101- 117- 128- 214- 266- 267- 287- 295- 300- 302- 303- 306- 315- 319- 332- 335- 336- 340- 341- 343- 344- 346- 347- 348- 349- 351- 355- 357- 363- 364- 366- 370- 380- 381- 382- 389- 400- 401- 405- 415- 416- 417- 418- 419- 421- 422- 423- 424- 425- 426- 427- 428- 430- 431- 432- 434- 439- 440- 441- 443- 444- 445- 446- 447- 448- 449- 452- 454- 455- 456- 457- 458- 462- 463- 466- 467- 469- 480- 482- 487- 489- 490- 491- 494- 495- 496- 497- 499- 507- 514- 515- 516- 518- 519- 520- 522- 525- 543- 546- 547- 548- 552- 554- 558- 559- 570- 573- 581- 582- 587- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 724 588- 591- 593- 594- 595- 596- 597- 601- 603- 604- 605- 606- 607- 608- 609- 610- 611- 612- 616- 620- 621- 622- 623- 624- 630- 640- 648- 649- (3) 11- 15- 26- 27- 30- 31- 35- 36- 47- 48- 49- 51- 53- 71- 72- 73- 82- 83- 86- 96- 105- 106- 109- 112- 122- 137- 141- 153- 156- 158- 170- 171- 172- 173- 174- 175- 177- 184- 186- 210- 211- 221- 234- 236- 237- 239- 240- 241- 242- 243- 246- 250- 253- 254- 257- 261- 267- 269- 270- 273- 276- 293- 298- 300- 301- 305- 306- 311- 320- 321- 338- 339- 381- 400- 402- 409- 429- (4) 3- 4- 6- 7- 10- 12- 13- 26- 30- 31- 35- 36- 37- 62- 63- 115- 123- 124- 125- 127- 128- 130- 133- 136- 137- 138- 142- 145- 283- 289- 652- (5) 293- 388- 433- 449- 499- 622- (6) 6- 7- 8- 14- 17- 25- 94- 136- 141- 172- 194- 265- 408- 413- (7) 33- 351- 357- 541- 619- 624- 681- 687- 695. المدينة النبويّة (5) 346- 369- 448. مدينونة (6) 140. مديونة (4) 14- (6) 81- (7) 47- 83. المذار (2) 508. مذحج (4) 283. المر (2) 507. مرّ الظهران (2) 302- 332- 374. مرات (7) 73- 210- 218. مراتبة (1) 97- (2) 573. مراد (4) 283. مراش (5) 207. مراغة (1) 86- 88- 94- (3) 324- 431- 605- 606- 616- 618- 630- 633- 643- 644- (4) 330- 367- 670- 671- 673- (5) 8- 41- 50- 52- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 725 59- 61- 62- 67- 72- 73- 74- 75- 90- 95- 97- 99- 102- 103- 134- 140- 145- 147- 148- 204- 223- 226- 227- 251- 253- 265- 266- 274- 275- 292- 303- 341- 588- 596- 598- 607- 621 . مراكش (1) 76- 145- 207- 316- 375- 470- 505- 544- (4) 200- 209- 211- 213- 217- 223- (5) 483- 545- (6) 15- 28- 37- 38- 39- 40- 42- 45- 87- 98- 102- 130- 131- 155- 167- 168- 199- 215- 218- 221- 233- 236- 245- 247- 248- 249- 251- 252- 254- 256- 257- 258- 260- 261- 271- 272- 274- 296- 297- 298- 300- 303- 305- 308- 309- 310- 311- 312- 313- 315- 316- 317- 319- 320- 321- 322- 323- 325- 326- 328- 332- 333- 334- 335- 336- 338- 339- 340- 341- 342- 343- 344- 346- 347- 348- 349- 350- 351- 352- 353- 355- 356- 357- 359- 360- 361- 362- 364- 365- 367- 368- 371- 374- 375- 377- 379- 380- 381- 385- 390- 391- 392- 393- 396- 397- 417- 430- 451- 493- 508- 509- 524- 595- (7) 64- 66- 75- 86- 105- 106- 107- 108- 114- 115- 119- 122- 145- 148- 187- 188- 197- 199- 200- 201- 223- 227- 228- 229- 230- 232- 233- 236- 237- 238- 239- 240- 241- 242- 246- 247- 249- 256- 257- 264- 266- 268- 269- 271- 272- 278- 279- 280- 281- 282- 283- 295- 296- 303- 304- 305- 307- 310- 311- 312- 314- 319- 322- 323- 335- 363- 368- 377- 378- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 726 379- 392- 396- 397- 401- 402- 403- 409- 410- 411- 417- 419- 421- 422- 424- 426- 427- 429- 430- 431- 434- 435- 442- 450- 451- 455- 456- 457- 458- 459- 460- 461- 463- 472- 473- 482- 501- 507- 513- 524- 526- 533- 578- 635- 636- 707- 730 . مران (3) 12. المربد (2) 423- 609. مربلة (مربالة) (7) 277. مرثلة (4) 199- (6) 312- 317- (7) 267. المرج (2) 366- (3) 37- 102- 108- (5) 155- 184- 453- 456- 551- 566. مرج الاحزم (3) 219. مرج الأسقف (3) 375. مرج الحجارة (3) 105. مرج الخان (5) 164. مرج دابق (4) 82- 24. مرج دمشق (5) 500. مرج راهط (2) 297- 385- 517- (3) 37- 337- (5) 185- 277- (6) 194. مرج الرصاص (5) 284. مرج الروم (2) 541- 543. مرج الريحان (5) 311. مرج الصفر (شقحب الصفر) (2) 515- 517- 581- (5) 8- 177- 179- 225- 230- 399- 401- 479- 620. مرج عذراء (3) 15. مرج العيون (5) 370- 383. مرج المروج (5) 619. مرج مزاتكن (5) 81. مردي (5) 629. مرزبان (5) 192- 297- 446- 481. مرس تكسامان (6) 285. مرس الجبل (7) 390. مرس الخزر (4) 56. مرس الخزور (6) 448. مرس دانية (6) 388. مرس الدجاج (6) 210- 230- (7) 104. مرس رشيد (4) 402. مرس الرءوس (7) 121- 130. مرس الطور (7) 656. مرس عساسة (7) 287. مرس القل (6) 440- (7) 385. مرس هنين (7) 418- 520. مرسية (1) 84- 821- (3) 264- (4) 176- 191- 199- 204- 205- 208- 209- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 727 210- 211- 212- 213- 214- 215- 216- 248- (6) 318- 321- 322- 324- 328- 335- 337- 338- 339- 340- 385- 388- 393- 394- 395- 407- 433- (7) 105- 250- 329. مرشانة (6) 394. المرصد (5) 547. مرعش (1) 86- (2) 274- 543- (3) 89- 167- 168- 267- 284- 445- 479- (4) 300- (5) 51- 192- 225- 252- 284- 297- 300- 466- 471- 479- 482- 565- 568. المرغاب (2) 540. مرغن (4) 532. مرقان التيبر (2) 560. المرقب (5) 365- 450- 457- 460. مرقيه (5) 24. مرماجنة (3) 453- (4) 49- (6) 151- 185- 186- 194- 445- 448- 610- (7) 19- 54- 120- 142- 331- 508- 532. مرناق (1) 313- (6) 425. مرنجيزة (6) 601. مرند (3) 342- 343. المرو (2) 200- 216- 563- 578- 579- 584- 585- (3) 11- 47- 48- 53- 58- 59- 65- 66- 67- 69- 74- 75- 79- 80- 81- 110- 111- 113- 115- 116- 121- 122- 126- 127- 138- 139- 145- 146- 225- 226- 249- 259- 277- 278- 279- 287- 288- 306- 307- 354- 394- 411- 412- 425- 426- 580- 583- 591- (4) 420- 423- 440- 450- 451- 452- 455- 463- 465- 467- 468- 469- 475- 480- 499- 500- 501- 511- 516- 525- 526- 529- 530- 531- 532- 541- (5) 15- 20- 21- 22- 23- 76- 77- 79- 83- 86- 87- 88- 95- 101- 106- 107- 108- 109- 110- 111- 112- 115- 116- 117- 118- 120- 123- 136- 137- 139- 141- 590- 591. مروالروذ (1) 80- (2) 207- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 728 563- 564- 579- (3) 147- 148- 149- 150- 151- 153- 154- 155- 212- 235- 578- (4) 463- 467- 475- 483- 526- 530- (5) 8- 111- 115- 117. مرو الشاهجان (1) 89- (2) 563- 564- (4) 501- (5) 8- 22- 79- 108. مرواسا (5) 136. المروج (5) 48. مروسية (4) 469. المروة (3) 50. مرياط (4) 285. المرية (1) 84- 817- (2) 247- 278- (4) 51- 56- 195- 196- 200- 205- 209- 214- 216- 221- 230- (5) 483- (6) 58- 59- 72- 130- 134- 231- 234- 239- 249- 286- 292- 308- 317- 321- 322- 361- 362- 395- 473- 533- 610- (7) 86- 89- 91- 115- 123- 131- 137- 138- 142- 151- 157- 158- 159- 160- 166- 172- 173- 176- 177- 180- 185- 186- 187- 206- 207- 209- 210- 211- 212- 266- 291- 294- 328- 329- 339- 343- 370- 371- 376- 381- 382- 396- 491- 494- 496- 499- 507- 523- 532- 534- 554- 559. المريسيع (2) 445. مزاته (4) 47. مزدلفة (2) 396. المزمة (1) 409. مزقة (6) 129. مزناق (6) 140. المزة (3) 133- 134- 141- (5) 475. مزيد (5) 204. مسار (مسبار) (4) 271- 282- (5) 35. مسارة (5) 631. مساكتة (4) 40. مسالة (4) 259. مستغانم (6) 134- (7) 117- 291. مسجد آدم (عليه السلام) (1) 445. المسجد الأقصى (4) 80. مسجد بني أمية (2) 271. المسجد الحرام (1) 443- 445- (3) 36. مسجد دمشق (1) 443. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 729 مسداد (3) 168. مسراته (1) 73- (6) 113- 114- 188- (7) 357. مسفيوة (6) 303. مسكن (2) 514. مسكورة (6) 39. مسكويه (4) 635. مسلاته (6) 111- 113. مسلبابة (3) 453. مسوفة (4) 234- (6) 142- 144- 262- 263. مسون (7) 221. مسيفة (7) 289. المسيلة المحمدية (مسيلة) (1) 76- (4) 14- 39- 41- 48- 51- 53- 56- 104- 105- (5) 352- (6) 26- 45- 46- 54- 132- 192- 202- 204- 205- 207- 210- 227- 228- 230- 231- 499- 535- 555- 588- 613- (7) 18- 20- 22- 25- 36- 45- 54- 58- 60- 67- 68- 71- 72- 102- 169- 209- 436- 577- 580- 581. مسيناه (1) 98. مسينه (4) 254- 264- 311. مسيني (1) 85- (4) 257- 258- 264. مشرح (2) 492. المشقر (3) 621. مشكوره (1) 75. المشهد (3) 656- (4) 35. مشهد زكريا عليه السلام (5) 354. مشهد علي (4) 319- 322- 610- 689- (5) 574- 627. مشهد السيدة نفيسة (5) 242- 291- 328. مصاب (6) 136- (7) 96- 176- 206. مصر (1) 14- 15- 17- 28- 30- 62- 70- 71- 72- 74- 77- 78- 79- 109- 112- 177- 197- 205- 207- 218- 222- 224- 226- 252- 256- 269- 277- 281- 284- 291- 292- 295- 317- 322- 329- 330- 332- 352- 361- 369- 371- 374- 375- 378- 424- 425- 427- 428- 432- 441- 443- 446- 452- 457- 458- 462- 463- 464- 470- 476- 483- 486- 487- 503- 504- 524- 526- 528- 544- 547- 548- 557- 567- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 730 568- 570- 571- 633- 655- 658- 728- 749- 755- 767- 771- 776- 837- (2) 4- 9- 12- 17- 19- 20- 21- 30- 31- 39- 40- 42- 44- 45- 46- 47- 48- 49- 54- 80- 82- 83- 85- 86- 87- 88- 89- 92- 94- 97- 98- 102- 105- 110- 113- 114- 116- 122- 123- 124- 128- 132- 134- 138- 147- 148- 150- 151- 152- 153- 154- 155- 157- 160- 171- 172- 174- 175- 179- 183- 193- 196- 197- 198- 212- 220- 222- 223- 224- 225- 226- 227- 228- 229- 233- 236- 237- 238- 239- 242- 244- 248- 249- 250- 251- 252- 253- 256- 260- 263- 265- 269- 270- 271- 273- 275- 278- 280- 303- 304- 306- 369- 379- 386- 387- 485- 544- 554- 556- 571- 573- 574- 576- 586- 587- 591- 593- 595- 596- 597- 599- 604- 605- 606- 615- 622- 623- 624- 631- 641- 642- 643- 645- 653- (3) 5- 8- 11- 12- 13- 21- 26- 33- 73- 107- 152- 163- 169- 170- 171- 175- 176- 178- 215- 223- 230- 238- 247- 252- 253- 254- 260- 261- 263- 267- 271- 274- 275- 276- 277- 280- 284- 285- 286- 295- 302- 315- 317- 318- 319- 320- 321- 346- 347- 351- 352- 355- 368- 369- 375- 376- 381- 390- 396- 397- 412- 413- 414- 421- 423- 424- 428- 429- 440- 441- 443- 444- 446- 449- 452- 454- 457- 459- 463- 465- 466- 482- 483- 485- 489- 493- 498- 499- 503- 507- 508- 512- 514- 519- 534- 547- 550- 569- 570- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 731 573- 575- 576- 581- 585- 586- 589- 600- 649- 650- 664- 665- 666- (4) 8- 11- 12- 14- 37- 38- 41- 42- 46- 47- 49- 56- 57- 58- 59- 60- 61- 62- 64- 65- 66- 67- 68- 69- 70- 71- 72- 73- 74- 76- 77- 78- 79- 80- 81- 82- 83- 84- 85- 86- 88- 89- 91- 92- 97- 98- 99- 100- 101- 102- 103- 107- 109- 110- 111- 112- 113- 114- 115- 116- 118- 119- 126- 127- 128- 129- 131- 132- 133- 134- 135- 136- 137- 138- 141- 143- 144- 145- 150- 151- 152- 159- 233- 234- 235- 238- 242- 246- 247- 249- 253- 256- 257- 261- 265- 266- 267- 271- 273- 276- 290- 292- 293- 295- 296- 298- 312- 313- 317- 318- 321- 322- 323- 327- 328- 337- 341- 346- 347- 348- 349- 350- 365- 377- 378- 379- 381- 382- 383- 384- 385- 386- 387- 388- 389- 390- 391- 392- 393- 395- 396- 397- 398- 399- 400- 401- 402- 403- 404- 405- 406- 407- 408- 413- 627- 628- 656- 657- 658- 681- (5) 4- 7- 8- 25- 26- 44- 47- 166- 167- 169- 173- 175- 191- 197- 198- 201- 202- 205- 210- 211- 212- 216- 217- 218- 219- 221- 222- 223- 224- 227- 229- 232- 233- 234- 236- 238- 240- 241- 242- 243- 244- 245- 246- 248- 250- 256- 258- 261- 284- 289- 290- 291- 294- 295- 297- 298- 299- 302- 304- 313- 315- 319- 325- 327- 328- 329- 330- 331- 333- 334- 335- 336- 337- 348- 350- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 732 351- 352- 354- 356- 357- 360- 361- 364- 369- 371- 374- 376- 381- 383- 384- 385- 386- 387- 388- 389- 392- 393- 394- 395- 396- 399- 400- 401- 402- 405- 406- 409- 411- 412- 413- 414- 415- 416- 417- 418- 419- 420- 421- 422- 423- 424- 425- 427- 429- 430- 431- 432- 433- 434- 436- 437- 438- 439- 440- 441- 442- 443- 444- 445- 446- 447- 448- 449- 450- 451- 452- 453- 454- 455- 456- 457- 459- 460- 461- 462- 463- 465- 466- 469- 470- 471- 473- 474- 476- 479- 480- 482- 483- 484- 485- 486- 487- 488- 489- 491- 492- 493- 494- 497- 498- 499- 500- 501- 502- 504- 505- 507- 508- 509- 510- 511- 512- 513- 514- 515- 517- 518- 519- 520- 523- 526- 528- 530- 532- 541- 543- 545- 546- 547- 549- 550- 551- 553- 554- 555- 556- 557- 558- 559- 560- 561- 562- 563- 565- 566- 567- 568- 570- 571- 572- 574- 577- 578- 579- 580- 581- 593- 601- 602- 605- 606- 607- 610- 615- 616- 617- 619- 621- 622- 624- 627- 630- 632- 633- 634- (6) 4- 6- 7- 9- 11- 12- 17- 22- 23- 24- 34- 41- 48- 78- 113- 114- 122- 123- 126- 131- 133- 134- 140- 141- 143- 145- 150- 154- 155- 156- 157- 186- 187- 196- 213- 215- 231- 255- 256- 266- 268- 270- 330- 331- 407- 425- 426- 427- 475- 484- 530- 543- 574- 608- 614- (7) 8- 9- 39- 54- 55- 57- 58- 79- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 733 127- 151- 196- 204- 264- 298- 299- 349- 350- 351- 357- 358- 359- 361- 362- 413- 423- 482- 526- 571- 647- 648- 649- 652- 656- 662- 663- 666- 667- 668- 671- 675- 677- 684- 689- 691- 692- 694- 696- 698- 699- 701- 706- 707- 708- 709- 711- 712- 714- 715- 716- 720- 721- 725- 726- 727- 728- 729- 731- 734- 735- 736- 737- 738- 739- 740- 741 . المصلى (5) 276. مصمودة (4) 168. مصيات (مصياب) (1) 86- (4) 122- 123. مصياف (4) 122- (5) 450. المصيصة (1) 86- (2) 180- 272- 274- (3) 89- 284- 285- 320- (4) 305- 386- 392- (5) 275- 297- 345- 451- 471- 481- 493- 516- (6) 129. مضر (1) 38- 135- 162- 173- 183- 191- 197- 204- 219- 244- 255- 265- 268- 270- 360- 730- (3) 5- 567- 478. المضيخ (2) 507- 513. مضيق جبل طارق (7) 718. مضيق شيراز (4) 416. مطارا (4) 361. مطاري (5) 35. مطالة (بطالة) (6) 168. مطامير (3) 374. مطريل (7) 270. المطرية (2) 89. مطماطة (6) 260- 603. مطمورة (3) 282- 285. مطيراباد (4) 355. المطيرة (3) 326. معان (3) 47- 49- 267- 289- 306- 334- 456- (5) 69- (6) 7. المعرة (1) 86- (2) 541- (4) 109- 311- (5) 52- 173- 223- 226- 274- 286- 357- 385- 393- 406- 438- 570- (6) 546. معرة مصرين (2) 542. معرة النعمان (4) 83- 398- (5) 25- 211- 224. معزة (مقرة) (7) 209. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 734 المعزية (قلعة طرمين) (4) 57. معشوق (3) 625. معطلة (1) 89- 90. معلابا (معلتايا) (4) 335. المعلقة (5) 234- 236- 369. معلولة (3) 484. معمر عمر (5) 378. المعمورة (7) 65. الغاربات (3) 115. مغارة الفتل (1) 26. مغايض الفرات (1) 79. مغر (6) 113. مغراوة (1) 260- 285- 374- (3) 213- (4) 19- 178- 184- 185- 186- 187- (6) 383- 390- 421- 450- 466- 471- 473- 477- 484- 536- (7) 324- 436- 446- 462- 581- 589. المغرب (1) 8- 9- 14- 15- 16- 17- 18- 28- 31- 32- 33- 34- 35- 40- 42- 59- 60- 63- 70- 73- 76- 104- 109- 110- 145- 146- 152- 166- 178- 181- 182- 183- 188- 191- 195- 196- 197- 198- 199- 204- 205- 206- 218- 222- 224- 227- 251- 252- 260- 277- 281- 283- 284- 285- 286- 291- 299- 300- 312- 313- 314- 315- 317- 319- 321- 328- 329- 330- 331- 332- 335- 338- 361- 362- 369- 374- 407- 408- 409- 410- 412- 416- 420- 421- 422- 423- 428- 429- 433- 470- 474- 476- 480- 484- 486- 498- 503- 507- 528- 529- 533- 534- 540- 544- 545- 546- 547- 548- 551- 553- 555- 560- 564- 567- 568- 570- 571- 629- 633- 635- 643- 660- 271- 728- 740- 741- 742- 743- 755- 762- 767- 770- 774- 776- 778- 807- 822- 824- 825- 832- 835- 839- (2) 4- 12- 17- 20- 21- 57- 59- 60- 80- 102- 124- 148- 175- 198- 209- 220- 223- 229- 237- 239- 248- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 735 250- 260- 277- 278- 297- 305- 351- 363- 364- 366- 573- (3) 176- 177- 213- 214- 247- 266- 271- 302- 343- 355- 375- 423- 441- 449- 452- 454- 457- 459- 467- 482- 498- 508- 661- (4) 8- 12- 13- 14- 15- 16- 17- 18- 19- 20- 21- 36- 37- 38- 39- 41- 44- 45- 46- 47- 48- 49- 51- 56- 57- 58- 59- 60- 67- 105- 106- 124- 134- 146- 151- 152- 156- 158- 178- 180- 187- 199- 211- 217- 218- 219- 220- 221- 222- 224- 225- 229- 234- 238- 239- 254- 266- 282- 377- 401- 402- 406- (5) 233- 235- 236- 237- 239- 327- 336- 356- 357- 365- 477- 482- 483- 496- 497- 504- 505- 545- 546- (6) 4- 5- 14- 15- 16- 19- 25- 26- 27- 30- 32- 33- 37- 38- 40- 41- 42- 44- 46- 49- 51- 54- 63- 69- 70- 71- 72- 73- 77- 78- 82- 85- 87- 88- 89- 92- 94- 95- 96- 97- 102- 111- 114- 116- 117- 120- 122- 123- 126- 128- 129- 131- 133- 135- 140- 141- 144- 145- 146- 147- 148- 149- 150- 151- 152- 155- 157- 158- 160- 165- 167- 168- 170- 171- 172- 173- 174- 176- 177- 178- 179- 187- 191- 192- 193- 194- 195- 196- 201- 204- 205- 206- 207- 208- 209- 210- 211- 214- 215- 219- 229- 230- 231- 232- 233- 235- 238- 240- 241- 242- 244- 245- 246- 247- 248- 249- 250- 251- 252- 254- 255- 256- 260- 261- 262- 264- 266- 267- 268- 269- 270- 273- 274- 278- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 736 279- 280- 281- 282- 283- 285- 288- 289- 290- 291- 292- 293- 295- 296- 298- 299- 301- 302- 303- 304- 306- 309- 311- 316- 318- 323- 328- 330- 331- 334- 341- 345- 346- 347- 353- 355- 356- 359- 361- 362- 363- 364- 365- 369- 372- 374- 376- 379- 381- 383- 389- 390- 391- 393- 397- 406- 410- 413- 416- 421- 422- 428- 429- 430- 431- 463- 474- 486- 493- 497- 498- 509- 510- 513- 515- 518- 519- 520- 521- 524- 525- 526- 527- 528- 529- 533- 534- 536- 539- 540- 541- 542- 545- 546- 547- 551- 558- 563- 566- 570- 574- 578- 580- 582- 585- 592- 608- 610- (7) 2- 6- 10- 11- 12- 14- 17- 20- 23- 24- 25- 26- 27- 28- 29- 32- 33- 34- 35- 36- 37- 39- 40- 42- 43- 44- 46- 47- 48- 50- 51- 52- 53- 54- 60- 61- 62- 63- 65- 66- 75- 76- 79- 82- 84- 87- 89- 101- 102- 103- 104- 106- 107- 108- 110- 111- 113- 114- 117- 119- 123- 125- 132- 135- 141- 145- 146- 147- 148- 150- 152- 153- 154- 156- 157- 158- 159- 160- 162- 163- 164- 165- 166- 167- 168- 169- 170- 174- 175- 176- 177- 179- 180- 181- 184- 187- 188- 189- 190- 192- 193- 194- 195- 196- 199- 200- 201- 203- 207- 208- 216- 220- 223- 224- 225- 227- 228- 229- 230- 232- 234- 237- 238- 239- 240- 242- 244- 245- 246- 248- 249- 250- 253- 255- 256- 257- 258- 261- 262- 264- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 737 265- 267- 268- 271- 272- 273- 274- 277- 278- 280- 282- 283- 284- 285- 286- 290- 292- 295- 296- 297- 298- 299- 300- 302- 303- 308- 309- 310- 311- 312- 314- 316- 319- 320- 321- 322- 323- 324- 325- 327- 329- 332- 334- 336- 338- 339- 341- 343- 344- 347- 350- 351- 352- 361- 366- 367- 368- 369- 371- 372- 373- 374- 377- 384- 388- 393- 394- 395- 396- 397- 400- 401- 403- 404- 405- 410- 411- 412- 413- 417- 418- 419- 421- 422- 423- 424- 426- 430- 431- 433- 434- 435- 436- 441- 444- 445- 446- 447- 449- 451- 455- 458- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 471- 472- 474- 476- 479- 480- 481- 482- 484- 485- 486- 487- 488- 491- 492- 493- 495- 496- 497- 498- 499- 500- 501- 502- 504- 512- 513- 515- 516- 517- 518- 519- 520- 523- 524- 526- 528- 530- 531- 532- 533- 536- 537- 539- 547- 548- 550- 557- 558- 576- 578- 579- 580- 581- 583- 584- 586- 596- 611- 619- 627- 631- 632- 633- 638- 648- 654- 655- 662- 663- 665- 670- 685- 688- 705- 706- 707- 708- 709- 711- 713- 720- 721- 723- 725- 730- 731- 732- 733- 734- 737- 738 . المغرب الأدنى (6) 63- (7) 34- 263. المغرب الأقصى (1) 31- 423- 463- (2) 369- (3) 351- (4) 2- 8- 13- 14- 105- 142- 147- 178- 184- 185- 247- (6) 28- 37- 62- 63- 77- 79- 87- 88- 102- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 738 130- 131- 135- 137- 142- 155- 156- 165- 174- 176- 177- 178- 193- 194- 196- 199- 200- 204- 207- 232- 263- 275- 280- 281- 282- 298- 371- 383- 457- 468- 532- (7) 3- 13- 14- 16- 23- 24- 33- 37- 38- 42- 49- 50- 52- 59- 60- 65- 74- 75- 77- 80- 82- 92- 101- 102- 113- 155- 156- 157- 187- 203- 229- 243- 281- 303- 353- 367- 373- 484- 493- 516- 631- 711- 718- 723. المغرب الأوسط (7) 212- 216- 217- 220- 221- 227- 229- 248- 281- 297- 309- 330- 334- 339- 349- 351- 354- 355- 367- 368- 370- 373- 374- 376- 381- 382- 387- 398- 437- 439- 445- 446- 481- 485- 508- 545- 556- 574- 577- 581- 589- 632- 718- 723- 730. مغرة (6) 132- 255- (7) 21- 63- 123. المغمس (2) 71. مغيلة (1) 197- 361- (3) 213. المفازة (1) 17- 374- (3) 66- 417- 549. مقدشو (مقاشن) (1) 60- (6) 265. مقدونية (1) 93- 709- (2) 138- 139- 149- 150- 193- 197- 220- 221- 223- 224- 225- 226- 227- 234- 247- 257- 280. مقرشة (4) 149. المقرمدة (6) 346- (7) 233. مقره (6) 46- 53- 588. مقشلاع (5) 107. مقوسة (6) 159. مكامير (3) 168. مكران (1) 61- 74- 80- 225- (2) 200- 553- 567- (3) 54- 76- 274- 343- (4) 495- 496- 505- 536- (5) 99- 127- 143- (7) 718. مكرم (3) 495. مكرمان (5) 130. مكساماد (5) 130. مكناسة (1) 76- 834- (4) 48- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 739 56- 152- 178- 184- 185- 186- 252- (6) 77- 165- 194- 245- 246- 303- 309- 329- 341- 347- 397- 417- (7) 7- 16- 48- 87- 108- 119- 187- 225- 227- 229- 232- 234- 238- 239- 252- 257- 295- 323- 349- 420- 425- 461- 468- 471- 475- 493- 497- 525- 634. مكنة (3) 66. مكة المكرّمة (1) 23- 74- 79- 106- 125- 154- 392- 398- 408- 436- 437- 439- 440- 444- 445- 568- (2) 5- 19- 23- 24- 32- 40- 41- 44- 61- 71- 73- 214- 285- 287- 288- 302- 309- 315- 332- 345- 347- 348- 349- 350- 355- 356- 359- 362- 367- 368- 374- 380- 381- 386- 387- 388- 390- 393- 394- 395- 396- 397- 399- 400- 401- 404- 406- 407- 410- 413- 415- 416- 417- 418- 419- 420- 421- 422- 423- 424- 425- 426- 427- 431- 435- 436- 437- 438- 440- 441- 444- 447- 449- 454- 455- 457- 458- 459- 460- 461- 462- 463- 466- 470- 476- 479- 491- 492- 493- 514- 546- 548- 582- 586- 588- 602- 604- 605- 606- 607- 608- 611- 620- 621- 622- 637- 644- 648- (3) 9- 24- 25- 26- 27- 29- 30- 36- 45- 51- 76- 82- 105- 127- 128- 169- 174- 175- 176- 181- 185- 205- 210- 226- 227- 231- 236- 238- 240- 241- 242- 252- 253- 258- 259- 263- 265- 269- 270- 271- 273- 279- 286- 287- 290- 298- 304- 305- 306- 338- 344- 347- 348- 349- 359- 360- 363- 371- 375- 381- 383- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 740 390- 413- 417- 427- 429- 442- 449- 451- 456- 463- 466- 470- 472- 550- 579- 581- (4) 4- 8- 10- 13- 14- 23- 37- 38- 47- 58- 62- 63- 70- 111- 113- 123- 124- 125- 126- 127- 128- 129- 130- 131- 132- 133- 134- 135- 136- 137- 138- 140- 142- 144- 154- 271- 274- 279- 283- 284- 328- 378- 380- 385- 389- 391- 402- 422- 628- (5) 337- 388- 399- 448- 449- 477- 491- 495- 496- 512- 515- 517- 526- 530- 546- 547- 560- 572- 577- 580- (6) 7- 17- 24- 25- 195- 407- 408- 412- (7) 152- 291- 298- 357- 498- 525- 596- 624- 656- 689- 695- 718. ملازكرد (ملاذجرد) (3) 565- 582- (4) 304- 310- 311- 673- (5) 151- 161- 166- 207- 208- 378- 396- 401- 402- 593. ملاكوا (7) 67. ملالة (6) 167- 235- 302. ملئوا (4) 528. ملت شلوط (4) 161. ملتان (1) 74- (3) 77- (4) 478- 479- 498- 504- 511- 535- 536- 548. ملطية (1) 62- 86- (2) 104- 222- 274- 275- 278- 547- 572- (3) 89- 90- 223- 255- 256- 320- 327- 353- 355- 374- 375- 421- 440- 478- 479- 480- 481- 507- 588- (4) 317- 386- (5) 166- 188- 189- 191- 192- 193- 194- 195- 196- 212- 213- 259- 297- 490- 506- 547- 593- 615- 631- (7) 698. ملقية (4) 181. ملكيش (7) 87. الملكية (5) 74. (مدينة) الملهم (2) 321. ملوسة (4) 40. ملوية (1) 361- (6) 77- 307- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 741 367- (7) 10- 34- 37- 38- 47- 49- 51- 65- 77- 80- 82- 83- 96- 103- 166- 168- 175- 220- 223- 228- 229- 233- 234- 243- 248- 268- 288- 434- 450- 461- 464. مليانة (6) 64- 65- 203- 204- 229- 231- 238- 254- 262- 326- 327- 353- 357- 380- 419- 240- 421- 469- (7) 86- 87- 88- 90- 91- 92- 94- 103- 115- 117- 121- 131- 132- 136- 137- 138- 158- 159- 166- 172- 173- 176- 177- 183- 184- 185- 190- 191- 196- 256- 291- 292- 305- 324- 338- 438- 481- 516- 589- 632. مليلة (4) 152- 196- (6) 171- 176- 177- 247- 585- (7) 12- 102. مليلي (6) 52- (7) 278. مملكة السرير (1) 95. مموقيه (2) 279. المتاب (7) 354. منادر (2) 550- 551- 567. المنارة البيضاء (1) 407. المنارية (5) 268. منازل (2) 444. منال (5) 631. منبج (1) 62- 86- (2) 276- 542- 547- (3) 320- 331- 582- 589- (4) 302- 307- 346- 353- (5) 6- 12- 49- 67- 176- 220- 223- 255- 265- 266- 269- 292- 303- 304- 324- 341- 354- 357- 385- 392- 393- 398- 402- 403- 414. منج طرخان (5) 608- 609. منجالة (1) 84. منداس (منداماس) (6) 59- 307- 371- (7) 66- 67- 74- 156- 157- 206- 215- 216- 435- 637- 638. المندوس (6) 421. المنصورة (1) 430- (2) 389- (3) 76- 84- 400- 401- (4) 25- (5) 333- 400- 405- 417- 418- 431- (7) 126- 292- 294- 299- 339- 353- 368. المنصورية (4) 55- 57- 60- 73. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 742 مدينة منف (2) 86- 87- 88- 89. منفلوط (5) 471. منقشلاع (5) 24. المنكب (7) 275. منى (2) 396- 419- 588- (3) 210- (5) 351. منوجهر (منوشهر) (4) 631- (5) 156. منورقة (6) 252- 253. منوقره (1) 315. منيبار (1) 75. المنيعة (3) 400. المهايا (6) 32. المهجم (1) 73- (4) 279- (6) 7. المهدية (1) 76- 195- 427- 428- 529- (4) 18- 19- 45- 47- 50- 51- 52- 53- 54- 55- 58- 73- 77- 89- 92- 104- 112- 233- 234- 235- 236- 237- 239- 240- (6) 21- 131- 177- 178- 203- 211- 212- 214- 215- 217- 218- 220- 221- 222- 223- 224- 225- 232- 235- 258- 259- 260- 315- 318- 328- 331- 333- 334- 372- 373- 378- 380- 382- 384- 402- 407- 419- 420- 443- 447- 448- 467- 483- 484- 487- 503- 504- 506- 509- 522- 539- 540- 541- 549- 557- 558- 559- 563- 578- 579- 582- 614- (7) 18- 19- 20- 21- 22- 54- 58- 82- 357- 362- 367- 393- 509- 529. مهران (3) 84. مهرجا (3) 355. مهرجان (1) 89. مهرة (2) 506- 507- (4) 285. مهريك (4) 249. مهلهل (6) 237. مهنسا (5) 297. مهوار (5) 122. مؤاب (2) 331- 456. مؤتة (2) 267- 359- 456- (3) 399. المؤتفكة (2) 39- 41. موارس (3) 445. المودن (5) 278. المورس (5) 11. مورور (4) 152- 153- (7) 70- 71- 73. موريا (3) 386. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 743 موزية (1) 84. الموصل (1) 16- 62- 87- 207- 226- 288- 371- 755- (2) 8- 9- 19- 20- 44- 61- 76- 78- 79- 80- 82- 98- 117- 118- 119- 120- 121- 122- 125- 131- 132- 179- 189- 198- 200- 205- 213- 257- 266- 275- 285- 359- 360- 371- 538- 541- 545- 547- 550- 559- 561- 572- 591- 626- (3) 14- 16- 31- 32- 37- 38- 41- 44- 63- 111- 127- 140- 143- 163- 164- 175- 185- 186- 187- 190- 191- 195- 205- 206- 207- 208- 209- 211- 212- 214- 223- 228- 232- 244- 247- 252- 253- 254- 255- 256- 261- 264- 266- 267- 269- 272- 273- 276- 279- 285- 286- 287- 291- 297- 302- 313- 314- 317- 318- 320- 322- 331- 334- 341- 343- 344- 348- 359- 364- 365- 366- 374- 376- 387- 388- 390- 410- 411- 412- 414- 415- 416- 420- 421- 423- 424- 425- 426- 427- 428- 430- 431- 432- 433- 434- 435- 436- 441- 444- 445- 446- 448- 449- 459- 463- 475- 479- 481- 482- 483- 484- 485- 486- 488- 489- 493- 496- 497- 498- 505- 508- 509- 510- 511- 512- 514- 515- 516- 519- 521- 522- 523- 524- 525- 526- 527- 529- 530- 531- 532- 535- 536- 537- 538- 539- 545- 546- 547- 550- 552- 557- 559- 565- 568- 570- 571- 572- 573- 578- 579- 581- 587- 588- 589- 592- 594- 595- 596- 597- 599- 601- 607- 608- 609- 612- 613- 616- 617- 618- 619- 620- 621- 622- 624- 625- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 744 627- 628- 631- 632- 633- 639- 641- 642- 643- 645- 650- 651- 652- 658- 663- 664- 665- (4) 64- 115- 128- 287- 288- 289- 290- 291- 292- 293- 294- 295- 297- 298- 299- 301- 304- 307- 308- 309- 310- 312- 313- 314- 315- 316- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 324- 325- 326- 328- 329- 330- 331- 332- 334- 335- 336- 337- 338- 339- 341- 342- 343- 344- 345- 352- 355- 357- 362- 364- 366- 367- 368- 369- 373- 374- 385- 390- 391- 393- 394- 395- 399- 404- 407- 410- 411- 412- 413- 436- 446- 451- 493- 571- 572- 573- 574- 575- 578- 581- 583- 590- 591- 597- 598- 602- 605- 606- 608- 613- 618- 625- 628- 629- 631- 637- 644- 655- 657- 666- 668- 669- 673- (5) 9- 10- 11- 12- 17- 18- 20- 21- 27- 28- 30- 33- 36- 39- 40- 41- 42- 45- 46- 47- 48- 49- 50- 51- 52- 54- 55- 59- 60- 61- 63- 64- 66- 67- 68- 72- 73- 74- 75- 79- 85- 86- 90- 91- 134- 162- 167- 168- 170- 173- 174- 175- 177- 181- 185- 186- 188- 189- 190- 191- 196- 204- 205- 211- 216- 217- 219- 220- 223- 224- 225- 226- 229- 248- 249- 250- 251- 252- 255- 256- 258- 261- 262- 263- 264- 265- 266- 267- 269- 270- 271- 272- 273- 277- 278- 279- 280- 281- 283- 287- 288- 289- 290- 292- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 745 293- 294- 295- 297- 298- 299- 300- 301- 302- 303- 304- 305- 306- 308- 309- 310- 311- 312- 313- 314- 315- 316- 317- 318- 319- 320- 321- 322- 323- 324- 325- 327- 339- 340- 341- 347- 348- 349- 350- 351- 352- 354- 355- 356- 357- 372- 374- 376- 378- 382- 385- 386- 387- 389- 391- 393- 394- 397- 398- 403- 404- 407- 412- 415- 421- 423- 429- 435- 437- 438- 441- 442- 459- 463- 469- 500- 574- 588- 594- 614- 615- 616- 619- 624- (6) 8- 10- 15- (7) 148. الموفقية (3) 402- 410- (4) 25. موقان (موكان) (2) 562- 571- (3) 323- 504- (4) 38- 670- 671- (5) 151- 155- 158- 159- 160- 161- 164- 165- 588- 591- 593- 608. ميافارقين (1) 94- (2) 275- 547- (3) 480- 484- 527- 535- 537- 561- 587- 618- (4) 115- 300- 301- 303- 304- 305- 306- 307- 310- 312- 314- 315- 317- 319- 320- 321- 332- 342- 407- 408- 409- 413- 414- 581- 598- 599- 644- (5) 10- 11- 167- 204- 205- 206- 207- 208- 248- 254- 255- 256- 378- 382- 391- 392- 394- 396- 401- 406- 407- 410- 414- 423- 437- 593- 594- 614- 615. الميدان (3) 418. ميران (5) 106. الميرة (5) 67. ميس (4) 235. ميسان (2) 216- 550. ميسنى (4) 57. ميطلة (7) 22. الميلان الأخضر (5) 307. ميلانة (6) 64. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 746 ميلة (3) 452- (4) 259- (6) 440- 473- 535- (7) 185- 391- 392. ميمنة (5) 136. مينا (6) 134. مينة الإصبع (4) 389. ميورقة (1) 315- 828- (2) 278- (4) 157- 207- 208- 209- 210- 211- 216- 232- 236- (6) 123- 129- 251- 252- 253- 254- 257- 258- 326- 328- 332- 335- 338- 379- 425- 447- 448- 464- 578- (7) 103. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 747 حرف النون (ن) نابلس (2) 12- 101- 104- 116- 128- 129- 137- 141- 143- 172- 543- (5) 344- 354- 360- 362- 384- 392- 393- 399- 407- 413- 424- 433- 436- 438- 443- 551. ناجزة (1) 91. ناركند (5) 603. الناسان (1) 81. الناصرة (2) 168- 170- 72- 251- 263- (5) 231- 360. (مدينة) الناصرية (5) 538- (6) 232- 235. ناصفلي (4) 635. الناطرون (2) 298. الناعورة (3) 218. نامروا (بليزو) (7) 171. ناهرو (5) 5. نايل (1) 92- (6) 429. النباج (2) 499. نبدورة (7) 318. نبره (4) 226. نبش (3) 166. نبطة (2) 280- 284. نجد (1) 74- 79- 135- 136- (2) 17- 30- 303- 304- 355- 356- 357- 359- 362- 363- 364- 367- 368- 369- 370- 375- 379- 380- 431- 440- 494- 507- (4) 133- 283- 353- 369- (5) 499- (6) 7- 8- 11- 14- 15- 17- 24- 25- 94- 104- 124- (7) 360- 527- 609. نجدل (3) 159. نجران (1) 74- (2) 53- 54- 68- 69- 70- 292- 295- 304- 305- 332- 359- 431- 462- 473- 477- 479- 481- 482- 483- 491- 493- 520- (3) 185- 269- 580- (4) 139- 269- 281- 284- 285- 286. النجف (3) 121- (5) 288. نحيرم (1) 80. النحاس (1) 48. النحسة (3) 618. نخلة (2) 368. النخيلة (2) 626- 629- 634- 638- (3) 45- 98- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 748 178- 179- 207 . ندبين (4) 119. ندرومة (6) 81- 157- 521- (7) 125- 155- 289- 308- 338- 355- 525. نرسي (4) 494. نرماسير (4) 430. نسا (4) 651- 656- (5) 53- 84- 87- 88- 89- 90- 91- 97- 110- 112- 116- 117- 137- 138- 143- 144- 157- 591. نسف (3) 18- 66- 71- 79- 92- 104- 113- 122- (4) 473. نسوية (3) 618. نسيس (5) 360. نصيبين (5) 349- 350- 353- 356- 385- 389- 394- 397- 398- 401- 403- 404- 415- 594- 615. نطاة (2) 349. نطرون (5) 381. نطوش (5) 109. نعران (3) 168. نعماجار (5) 35. نعمان (5) 48- 615. النعمانية (2) 379- (3) 397- 560- 564- 620- 637- 642- 647- (4) 24- 353- 355- 356- 366- 368- 375- 633- 644- (5) 55- 76- 72. النغف (2) 380. نغر (4) 481. نغزاوة (1) 76- (3) 213- (4) 240- 250- (6) 134- 136- 451- 512- 576- 582- 597- 598- 604- 639. نفطة (1) 473- (5) 336- (6) 28- 45- 98- 132- 512- 520- 530- 537- 564- 565- 567- 569- 576- 582- 595- 598- 599- 602- 611- (7) 184- 354- 375- 392- 639. نفوسة (4) 51- (6) 111- 113- 260- (7) 20. نفيس (4) 16- (7) 266. نقاوس (6) 46- 153- 229- 255- 405- 423- 588- (7) 63. النقباء (3) 154. نقجوان (بقجوان) (3) 579- (5) 59- 140- 149- 150- 153- 155- 160. نقره (1) 77. نقشوان (3) 580. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 749 نقموه (6) 33. النقيب (5) 69. النقيبة (5) 69. نكر (1) 225. نكسا (5) 631. نكور (6) 71- 178- 247- 283- 284- 285- 286- 289- (7) 102. النكوسة (5) 61. النمارق (2) 521. نهاوند (1) 88- 225- (2) 378- 536- 539- 552- 556- 557- 558- 559- 560- 582- 584- 629- (3) 157- 158- 292- 370- 473- 477- 484- 591- 601- (4) 449- 451- 556- 558- 575- 600- 601- 623- 659- 686- 690- (5) 22- 33- 44- 99- 615- (7) 597. نهاوة (3) 157. نهر آمد (5) 605. نهر آنه (4) 165. نهر ابره (4) 207. نهر أثل (1) 95- 99- 101. نهر الأردن (5) 420- 433. نهر أرس (3) 112- 580- (4) 666- (5) 150. نهر أبي فطرس (3) 164- 165. النهر الأزرق (5) 197- 411- 452. نهر أبي الأسعد (3) 384. النهر الأسود (5) 346. نهر الأمين (الأمير) (3) 399. نهر أوس (5) 164. نهر باجة (1) 84. نهر باغ (5) 40. نهر بلبة (4) 162. نهر بلخ (جيحون) (1) 61- 62- 80- 81- 82- 86- 89- 90- 96- (2) 188- (3) 87- (4) 486- 492. نهر بيطر (4) 338. نهر البيلقان (3) 112. نهر تاجة (6) 324. نهر تصدق (3) 390. نهر تيري (2) 550- 551- 567. نهر الثرثار (2) 79. نهر الجود (5) 284. نهر جور (3) 509. نهر جي (3) 382- 383- 411. نهر جيحان (1) 93. نهر جيحون (2) 579- (3) 389. نهر خرناب (1) 81. نهر حولايا (3) 195. نهر الخازن (الخازر) (3) 411- 430. نهر أبي الخطيب (الخصيب) (3) 384- 405- 406- 407- 408- 409- (4) 25- 638. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 750 نهر دجلة (1) 61- 62- 79- 87- 88- 93- 94- (3) 159. نهر دوين (2) 567. نهر ديالى (3) 504- 509- 511- 516. نهر أم ربيع (6) 280. نهر أبي رقراق (6) 28- 280. نهر الريان (3) 378. نهر الزاب (2) 185- (3) 163- 365. نهر زاس (راس) (5) 159- 593. نهر الزمان (3) 105. نهر ساسل (3) 77. نهر سدرة (3) 395- 398- (4) 421- 422. نهر السرحان (3) 155. نهر السفياني (3) 409. نهر سلا (6) 280. نهر سلمى (3) 404- 405. نهر سليلي (4) 695. نهر السن (3) 328. نهر سنجل (4) 195. نهر السند (4) 498- 508- (5) 142- 591. نهر السودان (1) 62. نهر سيحان (1) 86- 93. نهر سيحون (1) 419- (4) 503. نهر الشاش (1) 62- 90- (3) 122. نهر شداد (3) 400. نهر شير (أبو شير) (2) 208- 214- 536- (3) 300. نهر شيقر (6) 314. نهر صا (7) 204. نهر صرصر (3) 613- (5) 55. نهر الصلة (4) 356. نهر الطاي (5) 599. نهر الطراز (3) 224. نهر طنا (5) 607. نهر العاصي (5) 224- 275. نهر العباس (3) 383- 384. نهر العلقميّة (4) 132. نهر عياض (3) 151. نهر عيسى (3) 613- (4) 344. نهر الغانج (4) 487. نهر الفرات (1) 61- 62- 87- 88- 93- 94- 244- 337- 419- (7) 148- 739. نهر فرغانة (1) 62. نهر الفضل (4) 356. نهر أبي فطرس (3) 164- 165. نهر القاضي (5) 500. نهر قباقب (1) 93- 94. نهر قرطبة (4) 165. نهر الكر (3) 105- (5) 598. نهر الكرمن (3) 345. نهر كنك (4) 488- 489. نهر كوزول (5) 621. نهر الكوفة (2) 81. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 751 نهر اللامس (3) 340- 347. نهر اللكز (3) 518. نهر ماحون (4) 528. نهرمان (5) 6. نهر المبارك (4) 25. نهر المدّ (4) 522. نهر معقل (3) 95- 382- 383. نهر الملك (3) 571- 613- 621- 648- (4) 338- 368. نهر مهران (3) 76. نهر ميمون (3) 378. نهر نول (5) 613. نهر النيل النيل. نهر نيل السودان (1) 69- 70- 71. نهر هندمند (4) 481. نهر واصل (6) 209- (7) 217. نهر واكد (4) 531. نهر وادي يانة (6) 323. نهرو خشاب (1) 81. نهرودونة (4) 149. نهر يزيد (2) 22. النهروان (1) 88- (2) 211- 379- 537- 539- 638- 645- 646- 649- 650- (3) 178- 179- 204- 212- 298- 305- 306- 313- 360- 361- 499- 569- 575- 577- 622- 636- 637- (4) 10- 340- 360- 370- 375- 566- 610- 629- 686- 690- (5) 38- 47- 64- 74- 77- 81- 82- 273. نهروز (2) 341. نهسنا (5) 192. النوبندجان (2) 565- (3) 484- 540- (4) 562- 563- 612- 629. النوبة (1) 62- 70- 71- (2) 14- 18- 84- 89- 224- 229- 235- 237- 250- 271- 272- 273- 277- 295- 555- 556- (4) 71- 95- 377- (5) 460- 461- 492- 496- (6) 6. النوبهار (3) 75. النوشجان (3) 598. نوشرا (نوشرى) (5) 314- 394. نوطوس (4) 256. نول (1) 75- (6) 77- 91- 129. نون (6) 88. نيتاب نهرها (1) 826. نيسابور (1) 89- (2) 206- 208- 563- 578- 579- 580- 582- (3) 11- 47- 48- 53- 57- 69- 74- 78- 80- 91- 121- 130- 151- 154- 156- 157- 185- 226- 232- 278- 279- 287- 289- 315- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 752 318- 332- 354- 386- 391- 392- 393- 394- 410- 411- 412- 426- 428- 432- 433- 438- 475- 477- 559- 560- 578- 579- 584- 598- 626- (4) 27- 29- 31- 32- 417- 420- 421- 422- 423- 425- 432- 434- 435- 436- 239- 440- 441- 442- 444- 445- 446- 447- 448- 450- 451- 452- 453- 455- 456- 460- 461- 462- 463- 464- 465- 466- 467- 468- 469- 472- 473- 474- 475- 476- 478- 480- 487- 491- 494- 495- 499- 500- 501- 502- 511- 526- 529- 530- 531- 546- 547- 549- 550- 552- 553- 554- 556- 557- 559- 561- 564- 567- 569- 575- 578- 579- 602- 604- 607- 618- 630- 636- 645- 647- 659- 660- 663- 665- (5) 8- 21- 22- 29- 70- 79- 83- 84- 86- 87- 88- 89- 90- 93- 94- 95- 96- 97- 98- 99- 101- 106- 108- 109- 110- 111- 112- 115- 116- 117- 118- 120- 123- 124- 131- 132- 133- 137- 138- 141- 143- 152- 587- 588- 590- 615. نيش (1) 92. نيطش (1) 94. نيق العقاب (2) 458. نيقية (1) 291- (2) 176- 177- 178- 180- 251- 254- 255. النيل (1) 61- 71- 74- (2) 84- 85- 86- 87- 138- 227- 237- 242- (3) 164- 308- 311- 443- 569- 587- (4) 86- 97- 354- 355- 356- 359- 400- 633- (5) 241- 291- 329- 400- 405- 413- 431- 461- 504- 521- (6) 17- 19- 122- 131- 243- 263- 265- 266- 369- 425- (7) 648- 656- 677- 712- 718. نينوى (2) 19- 78- 79- 80- 119- 121- 545- (3) 420- 430- 444- (5) 295. نيونة (1) 91. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 753 حرف الهاء (هـ) هارات (5) 249. الهارونية (3) 622- (4) 370- 694. الهاشمية (3) 222- 234. هاقان (3) 226. هاكري (5) 594. الهباءة (2) 364. الهبط (6) 37- 44- 49- 199- 206- (7) 224- 225- 243. هجر (1) 79- (2) 47- 288- 378- 504- 505- (3) 437- 469- 470- 471- 472- 517- (4) 22- 112- 116- 584- 607. هراة (7) 102. هرغة (6) 167. هرقلة (1) 59- (2) 272- 273. هرقلية (1) 98- (3) 89- 90. هرمز (1) 80- (2) 553- (3) 54- (4) 588- (5) 38- 62- 127. الهرمين (4) 71. هزارسب (3) 79. هزارمرد (4) 315. هزاعة (6) 111. هزرجة (6) 342. هزور (الملايسي) (5) 271. هسكورة (6) 88- 342- 351- 430. هشت (4) 112. الهكارية (قلاع) (3) 618- (4) 602- (5) 61- 317- 321. هكياباد (5) 141. الهلوس (1) 88- 89. همذان (1) 88- 226- (2) 113- 200- 214- 332- 481- 557- 558- 559- 560- 561- 625- 630- 631- (3) 45- 144- 156- 157- 178- 197- 200- 201- 212- 232- 250- 278- 279- 287- 292- 293- 294- 319- 358- 428- 434- 464- 473- 476- 477- 484- 485- 549- 559- 564- 567- 572- 573- 575- 582- 594- 595- 597- 599- 600- 601- 602- 603- 605- 610- 614- 615- 617- 620- 623- 624- 625- 626- 627- 628- 629- 630- 633- 634- 636- 637- 641- 642- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 754 643- 644- 645- 653- 654- 655- 656- 657- 658- 659- 662- (4) 118- 120- 123- 138- 140- 270- 271- 280- 282- 339- 357- 358- 359- 370- 371- 372- 374- 375- 410- 449- 451- 454- 496- 497- 499- 503- 505- 529- 557- 558- 559- 575- 577- 578- 588- 600- 601- 611- 617- 622- 624- 626- 627- 636- 637- 645- 647- 648- 656- 659- 662- 684- 685- 686- 689- 691- 692- (5) 6- 20- 22- 28- 30- 31- 33- 37- 38- 43- 44- 50- 51- 57- 59- 60- 61- 62- 64- 65- 68- 69- 70- 71- 72- 74- 75- 81- 82- 85- 86- 87- 89- 90- 92- 93- 97- 98- 99- 100- 101- 102- 103- 112- 113- 114- 115- 128- 129- 133- 134- 139- 140- 144- 146- 147- 154- 162- 170- 177- 204- 206- 223- 226- 252- 262- 268- 288- 295- 355- 459- 499- 588- 591- 592- 596- 598- 610- 615- 618- 620. هنتاتة (1) 75- (6) 352- (7) 432. لهند (1) 52- 60- 70- 74- 75- 81- 82- 104- 106- 136- 181- 224- 227- 228- 364- 457- 476- 486- 506- 567- 674- (2) 4- 7- 11- 12- 14- 20- 21- 22- 57- 61- 75- 80- 85- 113- 117- 126- 182- 183- 207- 210- 220- 223- 357- 508- 538- 580- (3) 38- 84- 86- 112- 169- 205- 209- 225- 235- 247- 262- 318- 558- 634- 666- (4) 37- 38- 116- 130- 274- 280- 330- 464- 470- 471- 472- 476- 477- 478- 479- 480- 481- 482- 484- 486- 487- 488- 489- 492- 493- 494- 495- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 755 497- 498- 501- 503- 504- 505- 506- 508- 511- 521- 522- 523- 524- 525- 526- 527- 528- 531- 540- 545- 548- 635- (5) 104- 110- 111- 117- 118- 119- 127- 130- 139- 141- 142- 143- 144- 145- 150- 152- 154- 157- 163- 164- 165- 167- 196- 198- 323- 406- 407- 427- 491- 585- 586- 592- 611- 618- (6) 264- 410- 415- (7) 12- 717- 718- 722- 727- 740. الهندوان (3) 192. هندوستان (هندوخان) (4) 521. الهنك (5) 5. هنكيسة (6) 79. هنين (1) 76- (6) 81- 166- (7) 120- 155- 338- 355- 397- 578- 579- 637. هوارة (3) 213- (4) 16- 47- 51- (4) 523- (6) 59- 113- 383- 460- 479- 482- 483- 492- 496- 514- 531- 571- (7) 532. الهون (2) 70. الهوي (2) 516. هيب (1) 77. هيث (1) 87- (2) 310- 541- 545- 626- (3) 471- 521- 571- 594- 659- (4) 296- 338- 340- 359- 360- 624- 684- (5) 18- 39- 171- 616. هيكل زحل (2) 226- 250. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 756 حرف الواو (و) وجر (6) 262. لواحات (6) 132. وادقة (5) 345. وادان (6) 88. وادي آش (1) 829- (4) 217- 218- 219- 220- 221- (6) 321- 369- (7) 253- 254- 260- 268- 279- 280- 404- 405- 441- 486- 488- 495- 499. وادي ابرة (ايرة) (7) 29. وادي أبي الاجراف (7) 369. وادي أعفر (6) 353- 357. وادي ايساي (7) 243. وادي بردة (7) 274. وادي بهت (7) 108- 227- 635. وادي بوحلوا (7) 389. وادي ثلاغ (7) 114- 221- 238. وادي تمل (نهل) (7) 136- 137. وادي التيم (4) 122- (5) 180- 182- 231. وادي جرجان (3) 93. وادي الجنان (7) 142. وادي الحجارة (1) 84- (7) 507. وادي حزن (حروت) (2) 463. وادي حنين (2) 463. وادي دريعة (6) 88. وادي راس (6) 288. وادي أم الربيع (6) 28- 88- 133- 274- 342- 344- 350- 362- (7) 44- 90- 236- 378- 421- 458. وادي الرجوان (6) 262. وادي ردات (ركاب) (7) 43. وادي الرمل (1) 16- 18- (2) 60. وادي الرويحلة (2) 524. وادي زهير (7) 157. وادي الزيتون (7) 368- 435. وادي السباع (2) 618. وادي سبس (6) 145. وادي سبو (7) 226. وادي سليط (4) 164. وادي سنارود (2) 580. وادي سنجيل (سنبيل) (7) 439. وادي سوا (4) 239. وادي سيمير (صغير) (6) 246. وادي شدى (6) 134. وادي شلف (شلب) (6) 65- 122- 134- 137- 145- 159- 164- 262- (7) 84- 204- 205- 381- 436. وادي شلون (4) 207. وادي شنيل (6) 314- 324. وادي صا (6) 80- (7) 115- 193. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 757 وادي صغر (6) 179. وادي الطين (مواطين) (6) 228. وادي العاصي (4) 322. وادي العبيد (7) 240. وادي القرى (1) 256- (2) 24- 288- 362- 364- 367- 368- 455- 599- (3) 48- (6) 8. وادي القصب (5) 556. وادي القطف (القطن) (6) 476- (7) 288. الوادي الكبير (7) 274. وادي لاو (6) 288- 291. وادي لك (كلة) (7) 272- 273. وادي ماسة (6) 91. وادي مجردة (6) 135- 226- (7) 20. وادي محرمان (جوحرمان) (7) 235. وادي مسكيانة (6) 143. وادي المطاحن (6) 177. وادي ملوية (1) 75- (2) 363- (4) 8- 15- (6) 64- 80- 87- 89- 91- 133- 142- 170- 171- 176- 177- 178- 194- 247- (7) 193- 320- 323- 332- 380- 455- 501- 632. وادي منى (7) 44- 658. وادي مينا (6) 72. وادي ميناس (4) 54- (6) 154- 159- (7) 45- 73. وادي النجا (7) 425- 450- 471- 634- 635. وادي نفيس (6) 304. وادي نكور (7) 224. وادي ورا (7) 312. وادي ورغة (6) 281- 284. وادي ورك (7) 156- 373- 436. وادي ياباش (7) 226. وادياش (1) 84. وارصلف (6) 154. وارغون (4) 232. واركش (6) 207. واركل (6) 136. واركلا (واركلى) (6) 45- 46- 47- 78- 88- 132- 231- 268- 269- 270- 382- 590- 592- 593- (7) 63- 64- 178- 179- 590. واسط (1) 62- (2) 262- 497- (3) 65- 68- 83- 88- 94- 98- 99- 120- 143- 156- 160- 162- 173- 198- 205- 206- 207- 208- 219- 220- 221- 245- 247- 248- 297- 356- 363- 364- 383- 384- 388- 391- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 758 395- 398- 399- 400- 401- 411- 418- 423- 426- 430- 440- 442- 449- 456- 462- 464- 465- 470- 471- 483- 484- 486- 487- 492- 494- 495- 497- 498- 499- 501- 502- 503- 504- 505- 506- 507- 508- 509- 510- 511- 512- 513- 514- 515- 516- 517- 519- 520- 522- 524- 526- 528- 531- 532- 533- 534- 536- 537- 541- 542- 543- 548- 549- 551- 552- 553- 554- 555- 560- 562- 563- 567- 569- 570- 573- 574- 576- 577- 578- 596- 597- 601- 603- 607- 612- 619- 620- 621- 623- 627- 632- 633- 636- 637- 638- 641- 645- 647- 648- 650- 652- 659- (4) 9- 10- 23- 24- 25- 62- 112- 292- 293- 294- 295- 297- 326- 337- 339- 354- 355- 356- 358- 359- 360- 362- 363- 364- 365- 366- 368- 372- 375- 376- 383- 384- 404- 418- 419- 420- 427- 443- 566- 568- 569- 570- 571- 572- 574- 584- 585- 591- 592- 596- 608- 611- 615- 616- 618- 625- 626- 629- 631- 632- 633- 634- 638- 640- 641- 642- 644- 650- 651- 656- 657- 675- 677- 678- 679- 682- 683- 684- (5) 28- 29- 32- 33- 35- 38- 39- 60- 61- 63- 65- 73- 74- 75- 76- 81- 82- 89- 249- 263- 264- 272- 273- 472- 625- (6) 15. واشقة (4) 156. واضون (7) 217. الواقصة (4) 110. الواق واق (1) 60- 72- (4) 35- 36. الواقوصة (2) 516- 517. والاتر (والاتن) (6) 267- (7) 76. وانوغة (6) 499. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 759 وجدة (6) 81- 132- 165- 247- (7) 28- 29- 42- 47- 60- 109- 111- 114- 115- 116- 125- 135- 143- 146- 160- 177- 231- 243- 289- 290- 320- 331- 338- 342- 400. الوخش (1) 81- 82. ودّان (وذّان) (1) 73- 76- 77- (2) 366- 424- 425- (3) 169- (4) 377- (6) 113- 131- 132- 257- 261. ودريفن (4) 22. وربجومة (4) 51. ورثان (3) 111- 112. وردان (3) 75. وردكران (3) 115. الورس (5) 172. ورغة (6) 226- 246- 318- (7) 226. وركلان (6) 134. وركية (وريكة) (1) 73- (4) 203. وزداجة (4) 257. وزينة (6) 64. وشتاتة (7) 130. وشمكير (5) 149. وطا حمزة (5) 483- (6) 551. وطاط (6) 89- 178- (7) 166- 223- 228- 412. وعلان (وغلان) (6) 231. وفاق (6) 265. وقادة (4) 41. الولجة (2) 509. ولهاصة (2) 379. وليلى (4) 14- 15- 16- 234- (6) 142- 193- 194- 195. ونشريس (وانشريس) (6) 65- 84- 303- (7) 41- 123- 131- 133- 134- 158- 181- 207- 211- 212- 213- 216- 269- 291- 339- 373- 376- 377. ونفارة (1) 70. وهران (1) 451- 452- (4) 178- (6) 62- 64- 130- 191- 247- 252- 286- 308- 309- 395- 498- 520- 599- (7) 23- 34- 35- 41- 61- 61- 75- 103- 125- 145- 155- 156- 166- 176- 184- 186- 191- 192- 203- 221- 291- 297- 334- 338- 354- 371- 372- 479. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 760 حرف الياء (ي) يابرة (1) 84- (6) 324. يابسة (1) 315- (4) 208- (6) 252- 253. ياردين (ناردين) (4) 484. الياروقية (5) 200. يا زيدي (يا زيدي) (4) 410. الياسرية (3) 361. ياسة (6) 129. يافا (2) 153- 543- (3) 586- (4) 60- 61- 84- 392- (5) 7- 215- 360- 380- 381- 383- 387- 442- 446. يافث (4) 634. الياقونة (7) 144. يتجسث (4) 51. يثرب المدينة المنورة. يدال (6) 314. يرفأ (يرمأ) (4) 635- 636. اليرموك (1) 898- (2) 268- 390- 475- 515- 517- 518- 519- 543- (5) 227. يزد (3) 615- (4) 120- (5) 153- 629- 630. يزدجرد (بروجرد) (3) 607- 608- (4) 497- 627- 645- 646- 647- (5) 76. يزدشير (1) 80. يزوا (نزوى) (4) 594. يستعير (2) 100. يسعون (2) 251. يسعين (2) 40. اليسير (2) 513. يشتر (4) 171- 177. يعقوبا (5) 145. يكزاخول (4) 259. يلزمة (4) 39- 42- (6) 195. اليمامة (1) 61- 72- 79- 135- 136- (2) 27- 28- 32- 53- 204- 210- 305- 310- 321- 326- 356- 357- 359- 370- 372- 375- 390- 449- 468- 484- 490- 495- 499- 500- 501- 502- 504- 506- 507- 526- 583- 611- 622- (3) 40- 123- 137- 138- 172- 182- 184- 185- 222- 242- 252- 260- 261- 266- 267- 269- 273- 297- 317- 339- 344- 363- 383- 420- 425- 437- 499- (4) 13- 23- 37- 38- 111- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 761 116- 123- 124- 142- 284- 418- (6) 8- 15- اليمن (1) 16- 17- 19- 28- 60- 61- 71- 72- 73- 104- 105- 106- 110- 135- 173- 181- 188- 204- 224- 226- 227- 255- 268- 288- 323- 416- 424- 462- 507- 525- 526- 564- 765- (2) 4- 11- 17- 18- 19- 20- 21- 22- 28- 32- 34- 36- 44- 52- 53- 54- 55- 57- 58- 59- 60- 61- 62- 63- 64- 65- 66- 67- 68- 69- 70- 71- 72- 73- 74- 75- 76- 80- 84- 102- 113- 183- 187- 191- 210- 211- 214- 218- 261- 267- 283- 284- 285- 286- 289- 290- 291- 293- 298- 300- 301- 302- 303- 304- 305- 306- 308- 309- 312- 315- 329- 332- 333- 334- 340- 341- 344- 355- 356- 357- 358- 359- 367- 368- 380- 393- 394- 395- 397- 400- 407- 452- 462- 473- 475- 477- 481- 482- 483- 484- 490- 491- 493- 495- 501- 506- 507- 514- 520- 546- 579- 582- 588- 604- 605- 607- 647- 653- (3) 5- 29- 33- 96- 120- 121- 126- 129- 133- 145- 146- 150- 172- 175- 177- 211- 214- 222- 234- 235- 241- 244- 250- 251- 252- 253- 261- 263- 267- 269- 286- 298- 302- 304- 305- 306- 313- 318- 319- 338- 339- 341- 348- 352- 390- 410- 424- 441- 446- 450- 451- 481- 650- (4) 4- 9- 10- 11- 12- 23- 36- 37- 38- 41- 70- 87- 88- 102- 110- 116- 129- 130- 131- 133- 134- 139- 140- 142- 145- 146- 151- 267- 268- 269- 270- 271- 273- 275- 276- 277- 278- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 762 279- 280- 281- 282- 283- 284- 285- 286- 304- 406- 594- (5) 15- 17- 298- 327- 337- 338- 341- 342- 346- 347- 351- 388- 389- 398- 399- 408- 419- 432- 448- 491- 498- 501- 512- 513- 572- 577- 578- 579- 580- 581- 582- 585- (6) 2- 7- 10- 78- 79- 120- 127- 132- 139- 150- 182- 264- 265- 283- 416- 502- (7) 3- 5- 504- 656- 717. ينبع (1) 408- (2) 295- 306- 425- 604- (4) 132- 133- 134- 138- (5) 448- 496- 512- 581- (6) 7- (7) 656- 657- 689. ينبلونة (بنبلونة) (1) 91- (4) 162- 164- 165- 169- 174- 177- 179- 226. ينجبت (4) 42. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 763