الكتاب: نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر المؤلف: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ) المحقق: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي الناشر: مطبعة سفير بالرياض الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ت الرحيلي ابن حجر العسقلاني الكتاب: نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر المؤلف: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ) المحقق: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي الناشر: مطبعة سفير بالرياض الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] هذه الطبعة من أحسن طبعات النزهة، فقد اعتمد الدكتور الرحيلي في تحقيق الكتاب على نسخة خطية نفيسة بخط ابن الأخصاصي وهو أحد تلامذة الحافظ ابن حجر وقد فرغ من نسخها في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وثمانمائة أي قبل وفاة الحافظ بسنة وثلاثة أشهر تقريباً، زد على هذا أن هذه النسخة مقروءة بكاملها على الحافظ ابن حجر وعليها خطه وهذا مما يميز هذه النسخة. فطبعة الشيخ الرحيلي من أجود الطبعات وأمثلها في ضبط نص الكتاب إضافة إلى أن الشيخ وفقه الله حلى كتابه بتعليقات ماتعة نافعة بسم الله الرحمن الرحيم مُقَدِّمةُ التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أَشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه والمهتدين بهدْيه إلى يوم الدين. أمّا بعد: فبعدَ سنواتٍ قضيتُها مع "نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر"، للإمام الحافظ أبي الفضل على بن أحمد ابن حجر العسقلاني، وبعد أن دَرّستُها لطلاّبي أكثر مِن مرّةٍ = قد خَلَصتُ إلى نتيجةٍ لا أَتردد فيها، وهي أن هذه الرسالة أَعظمُ كتابٍ أُلِّف في علوم الحديث، وأَنفعُهُ. ومِن ثمّ فهي جديرةٌ بالعناية، والتحقيق، والتوضيح، والدّرس، والتدريس. وبعد أن اشتغلتُ فيها، وانشغلتُ بها عدداً مِن السنين، رأيتُ أن أُخرجَها للناس، لعل طالبَ علمٍ ينتفع بها، وأَنْشُرَها بصورةٍ تليق بها؛ فلعل الله يَكتب لي بذلك أَجراً، إنه غفورٌ شكور، سبحانه وتعالى. وفيما يلي: - ترجمةٌ موجزةٌ للمؤلف، رحمه الله تعالى. - لمحةٌ عن "النزهة" وميزاتها. -المآخذ على الطبعات السابقة، وأسباب توجُّهي إلى تحقيق النزهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 - وصْف النسخة الخطّيّة الأصل. - عملي ومنهجي في التحقيق. وقد رتبت عملي على الوجه الآتي: - مَتْن "النزهة" مع التحقيق والتعليق عليه. - مَتْن "النزهة" مع وضْعِ العناوين عليه. - الاستدراكات على "النزهة". - فهْرِس المصطلحات الواردة في النزهة. - مَتْن "نخبة الفِكَرِ". - فهرس المصادر والمراجع. - فهرس المحتويات. وأسأل الله تعالى التوفيق والقبول، والتجاوز عن الزلات، إنه هو الغفور الرحيم، لا إله غيره، ولا رب سِواه، ولكن الظالمين بربهم يَعْدلون!. عبد الله بن ضيف الله الرحيلي 5/2/1422هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ترجمة المؤلف1   (1) للتوسع في ترجمته يمكن الرجوع إلى المصادر التالية: 1- رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر، 1/85-88. 2- إنباء الغمر بأنباء العمر، له أيضاً، 1/3، 116. 3- الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، له أيضاً، 3/64، 191. 4- النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي، 15/382-383. 5- دليل الشافي على المنهل الصافي، له أيضاً، 1/64. 6- لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، لابن فهد المكي، ص 326. 7- الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، للسخاوي، ص 3 وما بعدها. 8- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، له أيضاً، 2/36. 9- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، للسيوطي، 1/363. 10- ذيل طبقات الحفاظ، للذهبي، وللسيوطي أيضاً، ص 380. 11- نظم العقيان في أعيان الأعيان، للسيوطي أيضاً، ص 45. 12- طبقات الحفاظ، للسيوطي، ص 552. 13- مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لطاش كبري زاده، 1/236. 14- درة الحجال في أسماء الرجال، للمكناسي، 1/64. 15- اليواقيت والدرر في شرح نخبة الفكر، للمناوي، 1/36-70. 16- كشف الظنون، لحاجي خليفة، 1/7. 17- شذرات الذهب، لابن العماد، 7/270. 18- البدر الطالع، للشوكاني، 1/87. 19- إيضاح المكنون، لإسماعيل باشا، 1/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 نسبه: هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ، نزيل القاهرة، عُرِف بـ"ابن حجر" - وهو لقبٌ لبعض آبائه-. ميلاده: ولد في مصر، وذلك في شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبع مئة 773هـ، على شاطئ نيل مصر القديمة، ومات أبوه وأمّه وهو طفل؛ فنشأ يتيماً. حفظه القرآن الكريم: وحفظ القرآن الكريم، وله تسع سنين، فكان له ذكاءٌ نادر، وحفظ كامل، وسرعةُ بديهة، فحفظ "الحاوي" و"مختصر ابن الحاجب"، وغيرهما. رحلاته: سافر إلى مكة المكرّمة فسمع بها، ثم حُبّب إليه الحديث الشريف فاشتغل بطلبه على يد كبار شيوخه في البلاد الحجازية، والشامية، والمصرية، ولا سيّما الحافظ العراقي، وتفقه على البلقيني، وابن الملقّن، وغيرهما، فأذنوا له بالتدريس والإفتاء.   20- هدية العارفين، له أيضاً، 1/128-130. 21- الرسالة المستطرفة، للكتاني، ص 162. 22- فهرس الفهارس، لعبد الحي الكتاني، 1/321-227. 23- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، 2/20-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأخذ اللغة عن المجد الفيروز آبادي، وقرأ بعض القرآن بالسبع على التنوخي، وجدّ في الفنون حتى بلغ فيها الغاية، ثم تصدى لنشر الحديث الشريف، وعكف عليه مطالعةً، وقراءةً، وتدريساً، وتصنيفاً. مصنّفاته: قد زادت مصنّفاته على مئةٍ وخمسين مصَنَّفاً، وقلّ فنٌّ من فنون الحديث إلا وله فيه مؤلفات، ومن أشهرِ تلك المصنفات: 1- الإصابة في أسماء الصحابة. 2- تهذيب التهذيب. 3- تقريب التهذيب. 4- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة. 5- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. 6- نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَر في مصطلح أهل الأثر. 7- بلوغ المرام من أدلة الأحكام. 8- فتح الباري بشرح صحيح البخاري. 9- تغليق التعليق. 10- والدُّرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة. ولو لم يكن له إلا كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لكفاه فخراً ودلالةً على رفيعِ رُتْبتِه في الحديث وعلومه، وفي مختلف فنون العلم، ودلالةً على جلالة قدره في الفهم والتحقيق والتواضع، والحلم، والورع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وسائر الصفات الحميدة. ولو لم يكن له إلا "نزهة النظر" لكفاه سبقاً وشرفاً في هذا الفن. وفاته: تُوُفِّي ابن حجر بعد عشاء ليلة السبت ثامن ذي الحجة سنة 852هـ، رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير ما يَجزي به عباده الصالحين مِن العلماء العاملين. مكانته في هذا العلم: الإمام الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى، لم يكن في "نزهة النظر" مجرّد ناقل، وإنما كان ناقلاً ناقداً؛ فَيَنْقُل ويَقْبل ويَرُدّ؛ وكان يَرُدّ بالحجة والبرهان، وكم مِن رأيٍ فنّده، وكم مِن قائلٍ بَدَا قوله تحقيقاً فَكَشف ابن حَجر عن أسباب ضعفه. وكان الحافظ مثالاً للأدب والخُلُق الإسلامي في ردّه على العلماء ومناقشته لآرائهم، فكان يوجز في بيان خطأِ المخطئ، ويُعَبِّرُ عن ذلك بعبارةٍ لطيفة، وفي "النزهة" أمثلةٌ عديدة لهذا بإمكان القارئ ملاحظتها. ولم يكن ابن حجر مقلِّداً، وإنما كان إماماً مجتهداً، وكان في اجتهاده إماماً محقِّقاً، فتميزتْ آراؤه بالدقة والابتكار في كثير من الأحيان. ولعلّ "النزهة" مِن أوضح الأمثلة الدالة على صفات الإمام ابن حجر العلمية هذه؛ إذْ جاءت "النزهة": مختصرة، شاملةً، مبتكرةً في طريقة عرْضها لعلوم الحديث وتقسيمات علوم الحديث عند المحدِّثين، كما أنها عُنِي فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المؤلف بالتحقيق والترجيح العلميّ الرصين في مختلف مسائل هذا العلم. وكان ابن حجر واسع الاطّلاع، صاحب باع طويل في المشاركة في مختلف أنواع علوم الحديث، ومن الأدلة على هذا: أنه قَلَّ أن يَذْكر في "النزهة" فَنّاً من فنون علوم الحديث إلا ويَذْكر أنه قد كَتَبَ فيه، وسأُورِد فيما يلي المواضِع مِن "النزهة" التي أشار فيها إلى مؤلفاته؛ لِيَرى القارئ الكريم أن القضية ليست قضية دعوى، وإنما هي حقيقةٌ رائعة تَشْهد لهذا الإمام بأنه حقّاً إمام!. وبذلك يتبين، أيضاً، كم استدرَك الإمام ابن حجر على غيره، وكم ألَّف، وكم عمِلَ على مصنّفات غيره مِن الأئمة. إسهاماته في علوم الحديث مِن خلال إشاراته إليها في "النزهة": سأترك ابنَ حجر يُحَدِّثك-بطريقةٍ غير مباشرةٍ -مِن خلال "النزهة"، وذلك فيما يلي: يتضح مِن "النزهة" أن ابن حجر أَلّف مؤلفاتٍ عديدة، كما حقَّق عدةَ تحقيقات علمية في عددٍ مِن المصطلحات والآراء، وضَمّن "النزهة" الإشارةَ إلى عددٍ مِن ذلك؛ حيث أوضح أنه ألّف: 1 - "نخبة الفِكَر" التي ذَكَر في مقدّمة "نزهة النظر"، أنها تلخيصٌ لـ"علوم الحديث"، لابن الصلاح. 2 - "نزهة النظر شرح نُخْبة الفِكَر"، التي شَرح فيها النخبة. فقال في مقدمة النزهة: "فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِّصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ، فلخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ، سَمّيتها: "نُخْبَةَ الْفِكَرِ في مصطلحِ أهلِ الأثرِ"، على ترتيبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ابتكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضَمَمْتُ إِليهِ مِن شوارِد الفرائدِ، وزوائدِ الفوائدِ. فَرَغِبَ إليَّ، ثانياً، أنْ أضَعَ عَليها شرحاً يَحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويوضِّح ما خَفِيَ على المُبْتَدئ مِن ذلك، فأجبتُهُ إِلى سُؤالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلك المسالِك، فبالغتُ في شَرْحِها، في الإِيضاحِ والتَّوجيهِ، ونَبَّهتُ على خفايا زواياها؛ لأنَّ صاحبَ البيتِ أَدْرَى بِما فيهِ، وظَهَرَ لي أَنَّ إيرادَهُ على صورةِ الْبَسْطِ أَلْيَقُ، ودمْجَها ضِمْن توضيحها أوفقُ، فسلكتُ هذه الطريقةَ القليلةَ السالكِ". 3 - وقال في حديثه عن الحديث المعلَّق: "وقد أوضَحْتُ أمثلةَ ذلك في النُّكَتِ على ابن الصلاح". 4 - وقال في موضعٍ: "وقد صَنَّفَ الخَطيبُ في المدْرَج كتاباً، ولَخَّصْتُهُ، وزدتُ عليهِ قدْرَ ما ذَكَر مرَّتينِ، أَو أكثر، ولله الحمد". 5 - وقال في موضعٍ في حديثه عن مُشْتبه النسبة: "وقد يَسَّر الله تعالى بتوضيحه في كتاب سَمَّيتُه "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه"، وهو مجلدٌ واحدٌ؛ فضبطتُه بالحُروفِ على الطَّريقةِ المرْضِيَّة، وزدتُ عليهِ شيئاً كثيراً ممَّا أَهْمَلَهُ، أَو لَمْ يَقِفْ عليهِ، وللهِ الحمدُ على ذلك". 6 - وقال في موضعٍ في حديثه عن المصنَّفات في التراجم: "ورجالِ السِّتَّةِ: الصَّحيحينِ، وأَبي داودَ، والتِّرمذيِّ، والنَّسائيِّ، وابنِ ماجة، لعبدِ الغنيِّ المقدِسيِّ في كتابِه "الكمال"، ثم هذَّبه المِزِّيُّ في "تهذيبِ الكَمالِ"، وقد لَخّصتُه، وزِدتُ عليهِ أشياءَ كثيرةً وسمَّيْتُه "تهذيب التَّهذيب"، وجاءَ معَ ما اشتَمَلَ عليهِ مِن الزِّياداتِ، قَدْرَ ثلثِ الأصلِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 7 - وقال في موضعٍ في حديثه عن الصحابة: "وقد حَرَّرْتُ ذلك في كتابي في الصَّحابة". 8 - وقال في موضعٍ: "وقد صَنَّفَ الخطيب في روايةِ الآباء عن الأبناء تصنيفاً،.. وبَيَّنَ ذلك وحقَّقَهُ، وخَرّج في كلِّ ترجمةٍ حديثاً مِن مَرْوِيِّهِ، وقد لخّصْتُ كتابَهُ المذكورَ وزِدْتُ عليه تَرَاجِمَ كثيرةً جِدّاً". 9 - وقال في موضعٍ في كلامه عن المُتَّفِقُ والْمُفْتَرِقُ: "وفائدةُ معرفَتِه: خشيةُ أَنْ يُظَنَّ الشخصانِ شَخْصاً واحِداً، وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً حافلاً، وقد لَخَّصتُه وزدتُ عليه شيئاً كثيراً". أرأيتَ كم أسهمَ ابن حجر وكم حَقَّق! على أنّ هذه مجرّد إشارات عابرة، وليست حصراً لأعماله؛ إذْ لم يَذْكر إلا النزر اليسير مِن مؤلفاته الكثيرة التي عَمَر بها المكتبة الحديثية في مختلف فنون هذا العلم!. وقد تركتُ تتَبُّع الْمَواطِن في "النزهة" التي حقَّق فيها تحقيقاتٍ علمية، ووضَّح فيها بعض المصطلحات، أو الآراء. وبإمكان القارئ أن يَلحَظها مِن خلال قراءته لـ"النزهة"؛ لِيَشْعُرَ حقّاً أنه في نزهة!. لَمْحةٌ عن "نزهة النظر" ومميزاتها مميزاتها: لنزهة النظر هذه محاسن -بحيث أصبحت اسماً مطابقاً لِمُسَمَّاهُ-ومنها ما يلي: 1- شمولية هذه الرسالة لمختلَف أنواع علوم الحديث. 2- الطريقة التي اتّبعها المؤلف-رحمه الله-في عرضه لأنواع علوم الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 هذه، حيث أوردها على طريقةِ الاستقراء والتتبع، وهي طريقةٌ عقلية منطقية مبتكَرة في طرْق هذا العلم، و"تحاشي المآخِذ التي وردت على المؤلفين السابقين، بأنهم لم يتبعوا نظاماً معيناً في تصنيف كتبهم وترتيب أنواع الحديث فيها، فجاء هذا الكتاب بطريقة السبر والتقسيم ليلتزم نظاماً دقيقاً، يستوعب كل مجموعة من علوم الحديث في ظل قسم واحد يجمعها في موضع واحد"1. 3- ما اشتملت عليه من تحقيقات علمية رصينة لا توجد في سِواها من مؤلفات هذا الفن، و"تمحيص المسائل المختلف فيها، والقضايا الشائكة، واستخراج زبدة التحقيق فيها، وذلك كثير في هذا الكتاب على إيجازه واختصاره"2. 4- مجيئها مختصرةً. فجمعت بين: الابتكار، والتحقيق، والاختصار. ولهذا فإنني لا أتردد في القول بأنّ "نزهة النظر" هي أَجلُّ كتاب في علوم الحديث وأنفعه. تاريخ تأليف "نزهة النظر": وقد فرغ المؤلف -رحمه الله- من تأليفها سنة 818هـ بطلب جماعة من طلاب الحديث، منهم شمس الدين الزركشي، أَيْ أنّ تأليفها جاء بعْد نُضْجه   1 مقدمة د. عتر، لطبعته للنزهة، ص21. 2 مقدمة د. عتر، لطبعته للنزهة، ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 العلميّ. وكان قد أَلّف أصلها نُخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر، وهو مسافر، في سنة 812هـ1. ولكلٍّ مِن نزهة النظر، وأصلها: نُخبة الفِكَر شروح ومختصرات، وشروح لبعض تلك المختصرات، ونظْمٌ لهما، وشروح للنظم، وهي مؤلفات كثيرةٌ جِدّاً، وهي تدلّ على أهمية هاتين الرسالتين، وعلى مكانتهما عند علماء هذا الفن، وعلى قبولهم لهما إلى هذا الحدّ. ولا داعي للإطالة بذكْر تلك المؤلفات؛ إذْ مِن السهل على مَن أرادها أن يَرجِع إليها في مظانها. طبعات "النزهة": من الطبعات السابقة للنزهة ما يلي: 1- طبعة، بتعليق وشرح صلاح محمد عويضة، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م. 2- طبعة، بتعليق د. نور الدين عتر، بيروت، دار الخير، ط. الثانية، 1414هـ-1992م. 3- النكت على نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، بقلم علي بن حسن الحلبي، دار ابن الجوزي ط2، 1414هـ. 4- طبعة بتحقيق عبد الكريم الفضلي، القاهرة، الدار الثقافية للنشر، الطبعة الأولى، 1418هـ- 1998م. 5- طبعة بتحقيق حَمدي الدِّمرداش، مكة المكرمة، مكتبة نزار مصطفى   1 يُنظر: تسهيل شرح نخبة الفِكَر، لمحمد أنور البدخشاني، ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الباز، الطبعة الأولى، 1421هـ-2000م. وسِواها مِن الطبعات. جزى الله خيراً كلّ من بذل جهداً في تقديم هذا العلم للناس مبتغياً وجهه تعالى. المآخذ على الطبعات السابقة وأسباب توجُّهي إلى تحقيق النزهة: تلك الطبعات وسِواها مما اطّلعتُ عليه ليست طبعاتٍ سليمة؛ إذْ يكثر فيها عدم التدقيق في مقابلة النسخ المخطوطة، وعدم الدقة في قراءة المخطوطة، وإهمال علامات الترقيم، أو التقصير في استخدامها في مواضعها، وكثرة الأخطاء المطبعية. إلا أن أمثل وأجود ما اطّلعتُ عليه مِن طبعات النزهة هو طبعة د. نور الدين عتر، جزاه الله خيراً؛ وذلك لكونها اعتمد فيها مخطوطة الظاهرية، وهي نسخةٌ صحيحةٌ فريدة-وهي النسخة التي اعتمدتُ عليها في هذه الطبعة-. ولقد كنتُ قد عَمِلتُ على تحقيق النزهة وقابلتُها على مخطوطاتٍ متعددة؛ فلمّا رأيت طبعة د. نور الدين عتر توقّفت عن العمل، وسُررتُ بها، وقلتُ: الحمد لله قد كُفِيتُ المهمة، فلمّا قرأتها؛ للتأكد، تبيّن لي أن هذا العمل-على جودته- لا يُغني عن ما أردتُ؛ فلا بدّ مِن المُضيّ في عملي؛ وذلك للأسباب التالية: 1- لبعض الملحوظات على ط. عتر، التي تتمثل في بعض الأخطاء المطبعية، وبعض الأخطاء في ضبط بعض الكلمات القليلة، وقلة العناية بعلامات الترقيم، ولإخراجها في الطباعة على طريقةٍ تختلف عن الطريقة التي أتوخّاها في طبعتي، إضافةً إلى بعض المواضع التي كان ينبغي التعليق عليها، في نظري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 2- لرغبتي في توضيح بعض النقاط في النزهة، أو الإشادة ببعض الآراء المحققة تحقيقاً فريداً لدى الإمام ابن حجر في النزهة، إضافةً إلى بعض المواضع التي رَغِبتُ في استدراكها، والتعليق عليها؛ لبيان الرأي الصائب، مِن وجْهةِ نظري؛ وذلك إعمالاً لمنهج إمامنا الإمام ابن حجر، رحمه الله تعالى، ألا وهو منهج البحث عن الحق بصدقٍ وتجرُّدٍ؛ إذ ليس المهم الأشخاص والأسماء، وإنما أن يَرتفع العمل إلى السماء. لكنني بعد أن وصلتني نسخة الظاهرية عدّلتُ مِن خطتي في مقابلة النسخ الخطّية؛ حيث رجعتُ فحذفتُ كلَّ الحواشي التي وضعتُها لبيان فوارق ثلاث نُسَخٍ مخطوطةٍ محفوظةٍ بمكتبة الملك عبد العزيز، بالمدينة المنورة، كنت قد قابلتُها ببعض، فرأيت -بعد أن انتهيت مِن تلك المقابلة- التوقفَ عن نشْر الكتاب؛ لِمَا ظهر لي مِن سَقَم تلك النسخ، وكثرة الأخطاء الواضحة فيها، الأمر الذي يَقتضي عدم إشغال الناس بها، وبعد الاطّلاع على هذه النسخة المخطوطة تأكّد صواب هذا، ولاسيما أنّ الله قد أغنانا عن هذه النسخ، وأن الحواشي وصلتْ بسبب المقابلة على تلك النسخ إلى نحو 224 حاشية، في فوارق النسخ فقط!. فحذفتُ هذه الحواشي إلا أشياء قليلة أو نادرة أبقيتها. ومِن ثَمَّ اعتمدت على النسخة الأصل التي أغنانا الله بها عن سِواها، وله الحمد والشكر، "ومَنْ قَصَدَ البحرَ استقلَّ السواقيا". ويَعْلم الله أنني كنت أبحث عن تلك الطبعات مؤمِّلاً أن أَجِد فيها ما يُغني عن طباعتها مِن جديد، لكنني لم أَجِد بُغْيَتِي؛ فعند ذلك تأكدتْ عزيمتي، وجزى الله كلّ مَن ساهم في إيصال الخير وهذا العلم إلى الناس، ولستُ متنقِّصاً جُهدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أَحدٍ سبقني في هذا الباب، وإنما هو البحث عن الحقيقة، وما مِن شكٍّ عندي في أن الأصل هو أن الذين سَعوا في إخراج الطبعات السابقة للكتاب قد قصدوا النفع، وبَذلوا الوسْعَ، لكنني أقول: لم أرَ طبعةً يُمْكن الاعتماد عليها تماماً، وإن كانت طبعة د. نور الدين عتر قد قاربت، جزاه الله خيراً. والله هو الموفق. وصف النسخة الْخَطِّيَّة الأصل اعتمَدتُ في التحقيق على النسخة الخطِّيَّة المحفوظة بدار الكتب الظاهرية، برقم 4895، مكتبة الأسد الوطنية، حالياً، وهي النسخة التي اعتمد عليها د. نور الدين عتر في طبعته للنزهة. وقد وَصَفَ د. نور الدين عتر هذه النسخة، في تقديمه لطبعته، فقال: المخطوطة المحفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 4895، وعدد أوراقها 31 ورقة، أسطر صفحاتها 20 سطراً أو 18، بخط نسخ واضح جيد، ثبت عنوان الكتاب على ظهر الورقة الأولى هكذا "كتاب نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكر في مصطلح أهل الأثر". وهكذا ثبت العنوان بهذا اللفظ في كل المخطوطات الصحيحة التي وقفنا عليها من هذا الكتاب، مما يدل على أن ما زُعِمَ محققاً من الطبَعات الموجودة الآن ليس مُحققاً. وقد أُدمج المتن مع الشرح في هذه النسخة لم يُمَيَّزْ عنه بشيء إطلاقاً، وكُتبت على حواشيها تعليقات لبعض العلماء، وهذه النسخة قد كتبتْ في آخر عهد المؤلف، وقُرِئَتْ عليه قراءةَ بحثٍ وأثبت خطه عليها بذلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 مواضع كثيرة تبلغ خمساً وعشرين، بل أثبت خطه مرتين على الصفحة الواحدة في بعض الأحيان. وجاء في آخرها بخط الناسخ نفسه ما يلي: "علق ذلك لنفسه الفقير المذنب العاصي أحمد بن محمد بن الأخصاصي الشافعي، اللهم أحسن إليه ولوالديه ولجميع المسلمين، ووافق الفراغ من نسخها في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وثمانمائة". وبإزاء ذلك في الحاشية بخط المصنف: "بلغ صاحبه قراءة عليَّ، كتبه ابن حجر". وعلى آخر النسخة تحت هذا في الطرف الأيسر من أسفل الصفحة بلاغ قراءة النسخة إلى آخرها على الشيخ عبد القادر الصّفوري سنة 1077هـ، وبجانبه إلى اليمين: "وقف على طلبة العلم مؤرخ بسنة 1246هـ". وابن الأخصاصي المذكور هو الفقيه المحدث شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الدمشقي الشافعي ويعرف بابن الأخصاصي ولد سنة 818هـ بدمشق ونشأ فيها، وقرأ الفقه على العلماء وسمع الحديث على ابن ناصر الدين. قال السخاوي: ارتحل فقرأ على شيخنا شرح النخبة له بَحثاً، وأذن له، وكتب بخطّه أشياء كالبخاري وشرحه لشيخنا. وسمعت من نظمه وفوائده وكان الغالب عليه الخير والانجماع والتواضع والتودد والرغبة في الصالحين مات سنة 889هـ بدمشق. له في الوعظِ "حادي الأسرار" في عشر مجلدات، وشرح أبي شجاع في الفقه1.   1 الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي، مختصراً، 2/194، بيروت، نشر دار مكتبة الحياة، حاشية طبعة د. نور الدين عتر، ص23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وهذا التعريف مهم يدلنا على أمور في غاية الأهمية، منها: 1- أن ابن الأخصاصي كان من أهل العلم وخصوصاً الفقه والحديث، وهذا يجعل نسخه في غاية الإتقان. 2- أنه كان من خواصِّ الحافظ ابن حجر، وأنه كان عمدةً عنده في النسخ حتى نسخ له شرح البخاري، أي فتح الباري. 3- الأهمية البالغة لنسخته من شرح النخبة، حتى ذكرها السخاوي وأنه قرأها على مؤلفها بحثاً، أَيْ: قراءةَ تدقيقٍ وشرحٍ لها، وذلك يوجب تدقيق المصنف لها كلمة كلمة. وهكذا جاءت هذه النسخة أُمّاً في الصحة والثبوت، تغني عن غيرها، وجعلناها الأصل في إثبات نصّ الكتاب، واكتفَيْنا بها عن غيرها من النسخ الصحيحة المتعددة التي وقفنا عليها، وصورنا جملة منها1. عملي ومنهجي في تحقيق الكتاب يتلخص عملي في تحقيق "النزهة" فيما يلي2: 1- اعتمدتُ على النسخة المخطوطة، المحفوظة بالمكتبة الظاهرية بدمشق، مكتبة الأسد الوطنية، حالياً برقم 4895، المقروءة قراءةَ بحثٍ على مؤلفها، المدقَّقة تدقيقاً لا مَزيد عليه.   1 مقدمة نور الدين عتر في تحقيقه لنزهة النظر ... ، ص22-24. 2 انظر، أيضاً، شيئاً مما يتعلق بالمنهج فيما مضى في: المآخذ على طبعات النزهة وسبب توجُّهي لتحقيقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 2- نقلتُ الحواشي المثبتة على الأصل كلها، ما عدا ما لم يَظْهَر لي، أو لم أستطع قراءته بسبب التصوير. ولم تُسْعِفني في قراءة هذه الحواشي طبعة عتر؛ لأنها لم تُذْكر فيها هذه الحواشي أصلاً، على الرغمِ مِن قُرْبه مِن الأصل، وإمكان قراءته بدون تصوير. وهذه الحواشي على نوعين: فبعضها مِن المؤلف-ابن حجر-في أثناء قراءة النسخة عليه، أو نقلاً مِن بعض كتبه، وهذه لم يَفتني إثباتُ شيءٍ منها. والبعض الآخَر حواشٍ توضيحية مِن بعض العلماء الذين قُرئتْ عليهم، وليست كلها في الأهمّيّة بدرجةٍ واحدةٍ، وهذه هي التي وافق أن بعضها لم يظهر في التصوير، وهو قليلٌ جدّاً، نحو أربع حواشٍ. 3- عُنِيتُ بقراءة النسخة قراءةً صحيحة، والتدقيق في ذلك غاية الجهد. 4- التزمتُ بالمحافظة على ما جاء في النسخة الخطيّة مِن ضبط لعددٍ كبيرٍ من الكلمات؛ إذْ لم أتْرك شيئاً مِن ذلك الضبط بالحركات، واعتبرته مِن قبيل أمانة الاعتماد على الأصل، وروايته كما هو. 5- عُنِيتُ بضبط الكلمات التي ينبغي ضبطها، إضافةً إلى الضبط الوارد في المخطوطة الأصل. 6- عُنِيتُ بعلامات الترقيم، وتفقير النص إلى فِقْرات بحسب التقسيمات الكثيرة في الكتاب، وما يقتضيه هذا الأمر لتوضيح المعنى، وتسهيل قراءته وفهمه وحفظه. 7- رَقّمْتُ الأقسام والأنواع المعرَّفة في الكتاب بأرقام متسلسلة لكل فئةٍ مِن هذه المعدودات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 8- عَلَّقتُ على الكتاب في الحواشي، بحسب الحاجة؛ وذلك لأحد الأغراض التالية: - إمّا لإثبات اختلافٍ في اللفظة. - أو بيان خطأٍ. - أو توضيحٍ. - أو تعليقٍ. - أو استدراك. 9- التزمت بإخراج نصّ "النزهة" كما هو بحسب الأصل المعتمد نسخة الظاهرية، ولم أَخْرجْ عن ذلك إلا في موضعٍ أو موضعين تبيَّن لي فيه خطأُ الأصل، ونبَّهْتُ في الحواشي على ما رأيتُه من صوابٍ على خلاف ما جاء في الأصل في المواضع التي ظهر لي فيها ذلك. 10- ولم أُشر إلى فوارق النسخ الخطِّية الأخرى، على الرغم من أني كنت قد قابلت الكتاب على ثلاث نسخ خطية، وأثبتُّ الفوارق فيما بينها، ثم رأيت صرْف النظر عن هذا؛ وذلك لِمَا يأتي: أولاً: لِمَا رأيته من كثرة الخلاف فيما بينها، وكثرة الأخطاء الواضحة التي لا قيمة لها، ولا داعي لإشغال القارئ بها، وتطويل الحواشي بها، وصرْف القارئ أو دارس الكتاب عن نصّ الكتاب الأصلي. ثانياً: لوصول صورة من النسخة الخطية الأصل إليّ، ومعرفة قيمتها العلمية، وتدقيقها على يد المؤلف ابن حجر، رحمه الله. وقراءتها عليه قراءة بحث. 11- أَضفتُ العناوين في مواضعها المناسبة مميزةً بين حاصرتين، هكذا: [] ، مهما كَثُرَتْ؛ لِمَا في هذا من تسهيل وتوضيح. وقد اخترت هذه العناوين مِن بين العناوين الواردة في: "تسهيل شرح نخبة الفكر"، لمحمد أنور البدخشاني، وعناوين طبعة نور الدين عتر، أو عناوين مِن عندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 12- عملتُ فهرساً تفصيليّاً بموضوعات الكتاب، ليساعد الدارس والقاريء على الرجوع للموضوع الذي يريده بيسر. ومِن ذلك فهرسٌ على حروف الهجاء للمصطلحات الواردة في الكتاب. 13- اعتمدتُ في الترجمة للأعلام في الحاشية، على حواشي التراجم للأعلام من طبعة د. نور الدين عتر للنزهة؛ فعنه نقلتُ الترجمة للأعلام، مع الاختصار والتصرف فيها في الأغلب، وقد أخرجْ عن هذا النقل في النادر؛ واعتمدتُ عليها لإيجازها ووفائها بالمقصود؛ ولستُ مع الاتجاه الذي يُعْنى بإثقال الكتاب بحواشي التراجم الطويلة، التي قد تَخرُجُ بالكتاب عن الأصل مِن غَرَضه، وإنما سلكتُ هذا المسلك للإيضاح المختصر. كما أنني نقلت حواشٍ قليلةً عن عتر، وعزوتها إليه. وختاماً: أقول: الله يَعلم كم قضيت مِن السنوات والأوقات بصحبة "نزهة النظر"؛ أَرْجع إليها، وأُراجعها ما بين فترةٍ وأُخرى، وكم قضيت مِن الوقت، وكم بذلتُ مِن الجهد في المقابلة، والتصحيح، والتوضيح؛ حتى أَخرجتُها-بفضل الله أوّلاً وآخراً-بهذه الصورة التي آمل أن تكون في غاية الصحة والوضوح والتحقيق. ولست أَزعم كمال العمل، ولا براءته مِن النقص والخطأ، إذْ لم يَزَل عمل الإنسان يعتريه ذلك، مهما كان التدقيق والاجتهاد، لاسيما في مثل هذه الأعمال العلمية. ولقد كان مِن نتائج هذه الصحبة للنزهة أنني كلما مرّت الأيام ازددتُ قناعةً بهذه الرسالة النفيسة الفريدة، وأيقنتُ أنّ غيرها مِن المؤلفات في علوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الحديث لا يُغْني عنها، وكان هذا هو السبب الأساس في توجُّهي إلى تحقيقها وإخراجها بهذه الصورة. وفي فترةٍ مِن فترات العملِ في النزهة تجدّد عندي رأي، يتلخّص في إخراج الكتاب في صياغةٍ جديدةٍ تختلف عن صياغة المؤلف؛ بحيث تكون صياغةً ميسّرةً سهلة على الدارسين المعاصرين، على وَفْق خطّةٍ عندي؛ وذلك لصعوبةِ أُسلوب الكتاب عليهم؛ لبعدهم عن أساليب العلماء المتقدمين-زمناً وعِلْماً وأُسلوباً-ولكثرة التقسيمات والتعريفات والتَّداخُلات في الكتاب. لكن رأيتُ تأجيل الفكرة، وتعجيل النزهة. ثم إنْ بقي في الأجل فسحةٌ، وأراد الله، جل جلاله، نشرتُها في الصياغة الجديدة في طبعةٍ أُخرى، إلى جانب المحافظة على عبارات المؤلف فيها، رحمه الله تعالى. وقبل أنْ أضع القلم لابدّ أنْ أَشكر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية على تفضّله عليَّ بتصوير المخطوطة، كما أشكر الأخ العزيز المهندس الأستاذ محمد بن ناصر بن محمود على ما يبذله مِن جهودٍ أخوية، كما أشكر الأخ العزيز الأستاذ عبد الله المحمدي على قراءته لتجربة الطبع، كما أشكر ابني معاذاً على مساعدتي في بعض المراجعة. أسأل الله أن يجزيهم جميعاً خير الجزاء. وختاماً: أسأله تعالى أن يتقبل هذا الجهد، وهذه الرسالة في هذه الطبعة، وأن يكتب لها القبول عند عباده، كحالها لَمَّا كانت بخطِّ مؤلفها. والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وسرّاً وجهراً، وصلى الله وسلم على سيّد ولد آدم وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الباب الأول: النص المحقق مدخل مقدمة المؤلف ... بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال الشيخ العلامة الرحلة1 شيخ الإسلام علَم الأعلام شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر، الشافعي، فسح الله في مدته2، وأعاد على المسلمين من بركته: [مقدّمة المؤلف] الحمد لله الذي لم يزل عالماً3 قديراً، حياً قيوماً سَميعاً بَصيراً، وأَشهدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأُكَبِّرُه تَكبيراً، وصلّى اللهُ عَلى سَيدِنا مُحَمَّدٍ الذي أَرْسَلَهُ إِلى النَّاسِ كافةً4 بَشيراً ونَذيراً وعلى آلِ محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.   1 الرحلة: المقصود بها: مَن يُرحَلُ إليه؛ لعلمه. 2 هذا دليلٌ على أنّ هذه النسخة قد كُتِبَت في حياة المؤلف، رحمه الله تعالى. 3 هكذا في الأصل. وفي نسخةٍ: عليماً. وهذا هو الأَوْلى، وهو المطابق للآيات ووزن ما بعدها. 4 قوله: كافة. غير موجود في بعض النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 [ المؤلفون في مصطلح الحديث ومؤلفاتهم ] أَمَّا بَعْدُ: فإِنَّ التَّصانيفَ في اصْطِلاحِ أَهلِ الحَديثِ، قَدْ كَثُرَتْ للأئمةِ في القديمِ والحَديثِ. فمِن أوّلِ مَن صَنَّفَ في ذلك1:   1 أَوّلِيّة علم المصطلح والمؤلفات فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29   = فيما يتعلق بأولية التأليف فيه ينبغي أن يُلاحظ الآتي: 1- عبارة المؤلف هنا فَمِن أول من صَنَّفَ في ذلك ... ، وفي تدريب الراوي 1/52 للسيوطي نقلاً عن المصنف: أول مَن صَنَّفَ ... ، وكأَنّ مِن سقطت خطأً في أثناء النقل والنّسْخ. 2- الأولية هنا إنما هي في التأليف في المصطلح مجموعاً مستقلاً، وقد سَبَق بعضُ الأئمة في الكتابة في علوم الحديث الإمامَ الرامهرمزيَّ، كالإمام مسلم، والإمام الترمذيّ. 3- لا ينبغي أن يُفْهم مِن الوصف بالأوليةِ الأوليةُ الحرفية: بأن نعتقد أنه لم يؤلِّف أحدٌ قبل الرامهرمزي، بل المقصود أنه معدودٌ في المصنفين الأوائل، أو أنه ممن تقدم زمنه بالتصنيف في هذا العلم. وهذا الفهم جارٍ على ما يجب فهمه من إطلاق الوصف بالأولية في أغلب استعمالات الناس. 4- وجود علم المصطلح لم يكن متوقفاً على الكتابة فيه، باعتباره علماً مستقلاً، بل وجوده سابق على هذه المرحلة بكثير، وإنما وُجِدَتْ قواعده الأساسية ببداية النقل والرواية في الإسلام أَيْ: منذ كان القرآن ينزل والرسول صلى الله عليه وسلم حياً ويتلو كتاب الله ويُحَدِّثُ أصحابه. ملحوظات حول ما ذكره من المؤلفات: * الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. من أنفس الكتب في بابه، يُعَدُّ متخصصاً في هذا الموضوع، وقد رجع إليه الدكتور أسد رستم النصراني، وأخرج كتابه مصطلح التاريخ، وهو كتاب قد أشاد بمنهج المحدثين، وبمنهج القاضي عياض وما أورده في هذه الرسالة اللطيفة عن أصول الضبط والنقد. وقد نقل ابن الصلاح في مقدمته كثيراً مما عَرَض له القاضي عياض، وهذه معلوماتٌ لا يستغني عنها طالب العلم بعامة، ولا سيما في كتابة البحوث العلمية تحقيقاً أو دراسة، وطالب الحديث بخاصة. *أما كتاب الميانجي فاسمه أكبرُ مِن واقعه. صحيح أنه صاغ شيئاً مما لا يسع المحدِّث جهله في وريقات إلاّ أن ما يحتاج إليه المحدِّث أكبر من ذلك بكثير. * أما مقدمة ابن الصلاح فكما ذكر ابن حجر، رحمه الله، فقد التزم فيها بالجمع من كتب الخطيب وغيره. وتمتاز بالشمول في تَناوُلِ علوم الحديث، وما ذكره من الملاحظة على الترتيب يضاف إليه أن المؤلف رحمه الله عَرَضَ لعلومِ الحديث على عناوين مرقَّمَة أوصلَها إلى 65 نوعاً، وذكرها سرْداً في أول الكتاب، وقال: وهذه فهرست أنواعهثم تناولها على هذا الترتيب الذي ذكر، وهو أسلوبٌ جيّد يَدُلُّ على جودة الترتيب العامّ لموضوعات الكتاب، ولكنّ ملاحظة الإمام ابن حجر تصْدق على ما هو أخصُّ من العناوين العامّة، حيث جاءت كثيرٌ من القضايا في غير مواضعها، وقد أوردها في صورةِ ملاحظات، وتعقيبات، ونحو ذلك، موضوعةً في مظانّ قد يكون غيرها من المواطِن أولى بها منها. * وسار على هذا السيوطي في تدريب الراوي، وكثيرٌ غيره، ممن كَتَب حول علوم الحديث، أو حول: مقدمة ابن الصلاح، لكن، ملاحظة ابن حجر في مكانها بالنظر إلى التصنيف الذي ابتكره ابن حجر في نزهة النظر، وهي طريقة السبر والتقسيم، الحاصرة لأنواع علوم الحديث، فهذه طريقةٌ عقليةٌ في التأليف منضبطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 1- القاضي أبو محمَّدٍ الرامَهُرْمُزِي1 في كتابه: "المحدِّثُ الفاصل"2، لكنه   1 في الأصل هنا حاشية نصها: نسبة إلى رامهرمز، كورة من كور أهواز. قارئ، ق1ب. والرامهرمزيّ الحسن بن عبد الرحمن بن خلاّد، القاضي، المتوفّى نحو سنة 365هـ، وهو منسوبٌ إلى بلدٍ في خوزستان. 2 اسم كتابه هو: المحدِّث الفاصل بين الراوي والواعي، وقد طُبع بتحقيق د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1404هـ-1984م، وكانت وفاة القاضي الرامهرمزي في سنة 360هـ، وقد جاء إكمال اسم الكتاب في الأصل في الحاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 لم يَستوعب 2- والحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسَابوريُّ1، لكنَّه لم يُهَذِّب، ولم يُرَتّب. 3- وتلاه أَبو نُعَيْم الأصْبهاني فعَمِل على كتابهِ مستخْرَجاً2 وأَبقى أشياءَ للمُتَعَقِّب. 4- ثمَّ جاءَ بعدَهم الخطيبُ أبو بكرٍ البغداديُّ3 فصَنَّفَ في قوانينِ الروايةِ كتاباً سَمَّاهُ: "الكفايةَ"4، وفي آدابِها كتاباً سَمَّاهُ: "الجامعَ لآدابِ الشَّيْخِ والسَّامِع"5، وقَلَّ فَنٌّ مِن فُنونِ الحَديثِ إِلاَّ وقد صَنَّفَ فيه كتاباً مفْرَداً؛   1 هو محمد بن عبد الله بن البيّع الحاكم، 321-405هـ، صاحب المستدرَك على الصحيحين. وكتابه: معرفة علوم الحديث كتابٌ نفيس، ويمتاز بإيراد ما ذكره مِن علوم الحديث بالسند، وبإيراد الأمثلة، وهو معدود في الكتب المصنَّفة قبل استقرار الاصطلاح، وقد طُبِع بتحقيق د. السيد معظم حسين، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، وهي طبعة تَبيّن لي عليها مآخذ كثيرة بمقابلتها ببعض مخطوطات الكتاب، راجعة إلى عدم الدقة في قراءة النسخة، أو سقمها، وسِوى ذلك. 2 أحمد بن عبد الله أبو نعيم، الأصبهانيّ الصوفيّ، 336-430هـ، صاحب التصانيف، ومنها: المستخرج على علوم الحديث للحاكم، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ودلائل النبوّة. 3 الإمام الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، 392-463هـ. 4 كتابه الكفاية في علم الرواية مِن أوسع الكتب في بابه، ويمتاز بأنه كتابُ روايةٍ؛ حيث أوردَ فيه المؤلف معلوماته بالسند. 5 هكذا في الأصل، ولكن الصحيح أن اسم الكتاب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وهو الذي طُبِعَ به، وورد في مخطوطاته، وهو كتاب جامعٌ على اسمه، جَمَعَ بين بَسْطِ المعلومات وإيرادها بالسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فكانَ كما قال الحَافظُ أبو بكرِ بنُ نُقْطَةَ1: كلُّ مَن أَنْصف عَلِم أَنَّ المحدِّثين بعدَ الخَطيبِ عيالٌ على كُتُبِهِ2. ثمَّ جاءَ بعضُ مَنْ تَأَخَّرَ عنِ الخطيبِ، فأَخذ مِن هذا العلمِ بنصيبٍ: 5- فَجَمع القاضي عِياضٌ3 كتاباً لطيفاً سَمَّاهُ: "الإلماع"4. 6- وأبو حفْصٍ المَيَّانِجيُّ5 جُزءاً سَمَّاهُ: "ما لا يسعُ المحدِّثَ جَهْلُهُ"6.   1 هو عبد الغني بن شجاع أبو بكر بن نقطة، 579-629هـ. 2 قال عنه الحافظ ابن نقطة في ترجمته فيالتقييد في رواة السنن والمسانيد: وله مصنفاتٌ في علوم الحديث لم يُسْبق إلى مثلها، ولا شبْهةَ عند كل لبيب أن المتأخرين مِن أصحاب الحديث عيالٌ على أبي بكر الخطيب، 1/169-170، بيروت، دار الحديث، 1407هـ-1986م، وقال عنه أيضاً: ومات عن نيّفٍ وخمسين مصنَّفاً، سِوى ما وُجد في الرقاع غير مفروغٍ منه، وانتهى إليه الحفظ والإتقان، والقيام بعلوم الحديث، 1/171. 3 هو عياض بن موسى بن عياض اليحصبيّ السَّبْتِيّ، 476-544هـ. 4 هو: الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. وقد نشرتْه دار التراث بالقاهرة، والمكتبة العتيقة بتونس، الطبعة الأولى1389هـ- 1970م، بتحقيق السيد أحمد صقر. وهو الذي أَخذَ فكرته ومادته د. أسد رستم في كتابه: مصطلح التاريخ وأشاد فيه بمنهج المحدِّثين أيما إشادة- كما سبق بيانه قبل قليل-. 5 عمر بن عبد المجيد بن الحسن المَيَانِشي والميانجي، نسبةً إلى مَيانِش قرية بإفريقية. نزيل مكّة شيخ الحرم، المتوفى 581هـ. 6 قد تواردَ كلام المتخصصين على أن الأمر بعكس ما يحمله عنوان هذه الرسالة، وأنّ المحدِّث يَسَعُهُ جهْلُ ما في هذه الرسالة التي جاءت في نحو سبع صفحات، وليست كلها في أمورٍ مهمة!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت، وبُسِطَتْ؛ لِيَتَوَفَّر علمها، واخْتُصِرَتْ؛ لِيَتَيَسَّر فهْمها، إِلى أَنْ جاءَ: 7- الحافِظُ الفقيهُ تقيُّ الدِّينِ أبو عمرو عثمان بن الصلاح بن1 عبدِ الرحمنِ الشَّهْرَزُوْرِي نزيلُ دمشقَ2 فجَمَعَ -لَمّا وَلِيَ تدريسَ الحديثِ بالمدرَسَةِ الأشرفيَّةِ- كتابَهُ المَشهورَ3، فهذَّب فُنُونَهُ، وأَملاهُ شيئاً بعدَ شيءٍ؛ فلهذا لم يَحْصُل ترتيبُهُ على الوضع المتناسب4، واعتنى بتصانيف الخطيب المفرَّقة، فجمَعَ شَتاتَ مقاصِدها، وضَمَّ إِليها مِن غَيْرِها نُخَبَ فوائدها، فاجتَمَعَ في كتابِه ما تفرَّقَ في غيرهِ؛ فلهذا عَكَف الناسُ عليهِ، وساروا بسَيْرِهِ، فلا يُحْصَى كم ناظمٍ له ومُخْتَصِرٍ، ومستدرِكٍ عليهِ ومُقْتَصِرٍ، ومعارِضٍ له ومنتَصِرٍ.   1 ابن جاءت في الأصل ملحقةً في الحاشية. 2 وهو مشهور بابن الصلاح، 577-643هـ. 3 واسمه: علوم الحديث، ومقدّمة ابن الصلاح. وقد نُشر في عدة طبعات، منها: ط. المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، بتحقيق نور الدين عتر، ط. الثانية، 1972م. 4 هذا الكلام اشتمل على أدبٍ رفيعٍ عند هذا الإمام الحافظ؛ إذ قَدَّم العذرَ عن الإمام ابن الصلاح قبْل أن يَنتقد عمله، على عكس الحال لدى كثيرٍ مِن الكاتبين في مسائل العِلم اليوم، الذين يَفْرح أحدهم بالزلَّة-أو ما يتوهمه زَلَّةً-عند أحدٍ سبقه إلى الكتابة في الموضوع؛ حتى لَيُخَيَّل للقاريء أنه ليس له هدفٌ أهمَّ مِن التنويه بأخطاء الناس!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 [ سبب تصنيف نزهة النظر ] فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِّصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ، فلخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ، سَمّيتها: "نُخْبَةَ الْفِكَرِ في مصطلحِ أهلِ الأثرِ"، على ترتيبٍ ابتكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضَمَمْتُ إِليهِ مِن شوارِد الفرائدِ، وزوائدِ الفوائدِ. فَرَغِبَ إليَّ، ثانياً، أنْ أضَعَ عَليها شرحاً يَحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويوضِّح ما خَفِيَ على المُبْتَدئ مِن ذلك، فأجبتُهُ إِلى سُؤالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلك المسالِك، فبالغتُ في شَرْحِها، في الإِيضاحِ والتَّوجيهِ، ونَبَّهتُ على خفايا زواياها؛ لأنَّ صاحبَ البيتِ أَدْرَى بِما فيهِ، وظَهَرَ لي أَنَّ إيرادَهُ على صورةِ الْبَسْطِ1 أَلْيَقُ، ودمْجَها ضِمْن توضيحها أوفقُ، فسلكتُ هذه الطريقةَ القليلةَ السالكِ2. فأقولُ طالِِباً مِن اللهِ التَّوفيقَ فيما هُنالِك:   1 البَسْط في اللغة: عكْسُ الاختصار. 2 لصعوبتها بالنظر إلى الطريقة الأخرى، طريقةِ شرْح الكلمة في مقابلها فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 [ الفرق بين الخبر والحديث ] 1- الخبر: عندَ علماءِ هذا الفنِّ مرادِفٌ للحديثِ. 2- وقيلَ: الحديثُ: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، والخَبَرُ: ما جاءَ عن غيِره، ومِن ثَمَّةَ قيلَ لمَن يشتغلُ بالتَّواريخِ وما شَاكَلَهَا: "الإِخْبَارِي"1، ولمن يشتغل بالسنَّة النبوية: "المحدِّث".   1 جاء ضبطُها في الأصل بفتح الهمزةِ وبكسرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 3- وقيل: بينهما عمومٌ وخصوصٌ مُطْلَق1: فكلُّ حديثٍ خبرٌ، مِن غير عكسٍ2، وعَبّر هنا بـ"الخبر" ليكون أشمل3.   1 هذا اصطلاحٌ، المقصود منه هو أن يكون هناك لفظان: أحدهما دالٌّ على معنى الآخرِ كله وزيادة، مثل: إنسان، ومؤمن، فإنسان تشمل المؤمن وغير المؤمن؛ فنقول: بينهما عمومٌ وخصوص مطْلق، وهكذا: حديث وخبر. انظر: حاشية عتر على هذا الموضع. 2 هنا في الأصل حاشيةٌ، ق 2 ب، نصُّها كالتالي: وكذا الأثرُ عند المختصين، وعلى الإطلاقين الأخيرين الأثر مُسَاوٍ للخبر، وقيل اصطلاحٌ رابعٌ وهو: أن الأثر ما جاء عن الصحابي، والحديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر أعمُّ منهما. قاله المصنف. 3 الخبر والحديث: ذَكَر المؤلف رحمه الله ثلاثة تعريفات للخبر، واختار في التعبير عبارة الخبر للعموم فيها، وأما تخصيص الحديث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع عمومه في أصل اللغة، فهو اصطلاح المحدِّثين. ومِن طُرُقِ التخصيص لهذه اللفظة: - استعمال أل العهديّة، فنقول: الحديث. -استعمال التخصيص بالإضافة فنقول: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا حذفت المخصصات اللفظية ولكن بقيت القرائن المخَصِّصَة، أما كلمة حديث وحدها في أصل اللغة فلا تعني حديث الرسول فقط بل هي أشمل. الترجيح بين هذه المصطلحات: - هل هناك راجحٌ من هذه الأقوال في تعريف الخبر؟. - الإجابة أنه مِن الناحية التاريخية لا ترجيح؛ لأن هذه إطلاقات عند فئات من العلماء، وستبقى كما هي، ومن المهم أن نَعْرفها، وأن نراعيها في تفسير كلامهم، ولا داعي للترجيح؛ لأن المسألة مسألة استعمالات واصطلاحات، ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا مسوغ للترجيح في مثل هذه المسالك، ولا مسوغ لإبطال بعض هذه الاستعمالات، دون الآخَر، لأن المسألة مسألةٌ تأريخية، والحديث من حيث الشيوع أشهر استعمالاً، وخبر أَشْيع عند الفقهاء، وكذلك الخبر أشيع استعمالاً عندما يكون الحديث موقوفاً أو مقطوعاً، أما إن كان مرفوعاً فكلمة الحديث أكثر استعمالاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا تعريف المتواتر ... [أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا] فهو باعتبارِ وصوله إلينا: [1- تعريف المتواتر] إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ، أي أسانيدُ كثيرةٌ-لأن طُرُقاً جَمْعُ طَرِيق، و"فَعِيلٌ" في الكثرةِ يُجْمَع على "فُعُلِ" بضمَّتينِ، وفي القلة على "أَفْعُلٍ"- والمراد بالطرق الأسانيد. والإسنادُ: حكايةُ طريقِ المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 [عددُ التواتر] : وتلكَ الكثرةُ أحدُ شروطِ التَّواتُرِ، إِذا وَرَدَتْ- بلا حصرِ عددٍ مُعَيَّنٍ، بل تَكُوْن العادةُ قد أحالتْ تواطؤَهُم على الكذِبِ، وكذا وقوعُهُ1 منهُم اتِّفاقاً مِن غيرِ قصدٍ- فلا مَعْنى لِتعْيينِ العَدَدِ على الصحيح. ومِنْهم مَنْ عَيَّنه في الأربعة.   1 هكذا جاء ضبطها في الأصل، والأَولى أن تكون بفتح العينِ: وقُوعَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقيلَ: في الخمْسةِ. وقيل: في السَّبعةِ. وقيل: في العشرةِ. وقيلَ: في الاثنَيْ عَشَر. وقيل: في الأربعينَ. وقيلَ: في السَّبعينَ. وقيلَ غيرُ ذلك. وتَمَسَّك كلُّ قائلٍ بدليلٍ جاءَ فيه ذكرُ ذلك العدَدِ؛ فأفاد العلمَ. وليسَ بلازمٍ أَنْ يَطَّرِدَ في غَيْرِهِ؛ لاحتمالِ الاختصاص1. فإذا ورد الخبر كذلك، وانْضافَ إليهِ أَنْ يستويَ الأمْرُ فيهِ في الكثرةِ المذكورةِ من ابتدائِه إلى انتهائهِ -والمراد بالاستواءِ: أن لا تنقصَ الكثرةُ المذكورةُ في بعضِ المَواضِعِ، لا أَنْ لا تزيد؛ إذ الزيادة مطلوبةٌ هنا مِن بابِ الأَولى- وأَنْ يكونَ مستندُ انتهائِهِ الأمْرَ المُشَاهَدَ أو المسموعَ، لا ما ثبت بِقَضِيِّةِ العقلِ الصِّرْف، كالواحد نصف الاثنين. [فهذا هو المتواتر] 2.   1 وهناك سببٌ آخر، وهو: أنه إذا أفاد عددٌ ما اليقينَ، فليس في ذلك دلالةٌ على أنّ ما نقص عنه لا يفيد اليقينَ. 2 زيادةٌ مِن عندي؛ ليكون خبراً عن قوله: فإذا ورد. وهو الذي ورد في كلام المصنف فيما بعد، والذي اقتضى هذا هوأنني قَطَعتُ الكلام عن بعضه؛ للتنسيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 [ شروط المتواتر وتعريفه ] : فإِذا جَمَع هذهِ الشروطَ الأربعةَ، وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 1- عددٌ كثير أحالت العادة تواطؤَهم، أو توافُقَهم، على الكذب. 2- رووا ذلك عن مِثْلِهِم من الابتداءِ إلى الانتهاءِ. 3- وكان مُسْتَنَدُ انْتِهائِهم الحِسَّ. 4- وانْضافَ إلى ذلك أَنْ يَصْحبَ خبرَهم إفادةُ العلمِ لِسامِعِهِ. فهذا هو المتواتِرُ. وما تخلَّفتْ إِفَادَةُ العِلْمِ1 عنهُ كانَ مَشْهوراً فقَط، فكلُّ متواترٍ مشهورٌ من غيرِ عكسٍ2.   1 هذه المسألة فيها استدراك وتفصيل. وذلك أنّ العبارة ليست على إطلاقها في أنّ المقياس هو إفادة العلم وعدمه؛ وإنما: درجة العلم، وطريق حصوله، وذلك لأن الحديث الآحاد الثابت يُفيد العلم، مِن غيرشكٍّ، بل والمحتف بالقرائن منه يُفيد اليقين؛ فلفظة العلم هنا كان ينبغي أن تُقَيَّد؛ حتى لا نحتاج إلى هذا الاستدراك، وتقييدها يكون بتحديد المعنى المقصود، وهو: إمّا العلم الضروريّ، لا النظريّ، أي الذي يَحْصل بمجرّد سماع الخبر والوقوف عليه مِن غير بحثٍ ونظر، بخلاف العلم النظري المتوقّف حصوله على البحث. وإمّا العلم اليقينيّ، لا العلم الذي هو الظن الراجح، أو غالب الظن. أو الاثنان: العلم الضروريّ، والعلم اليقيني. ولعله بسبب هذا الإطلاق الموهم نشأتْ تلك الأقوال تُجاه الأخذ بالحديث الآحاد، والله أعلم. 2 انتقد الشيخ طاهر بن صالح الجزائريّ الدمشقيّ هذه العبارة، حيث قال: قال بعض الأفاضل: كل متواتر مشهور، وليس كل مشهور متوتراً، وذلك بعد أن عرّف كلاً منهما بما عرّفه به الجمهور، فهو مما يُنْتَقَدُ، قال بعضهم: ولعله أراد بالمشهور المعنى اللغويُّ، لا الاصطلاحيَّ، توجيه النظر إلى أُصول الأثر، له، 1/112، ثم التمَسَ وجْهاً لقول ابن حجر. قلت: وفي هذا الاعتراض على الحافظ نظر؛ إذ كلامه مستقيمٌ لا إشكال فيه عندي، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 [ هذه الشروط الأربعة تفيد حصول العلم غالبا ً] : وقد يُقالُ: إِنَّ الشُّروطَ الأربعةَ إِذا حَصَلَتْ اسْتَلْزمتْ حصولَ العِلْمِ1، وهُو كذلك في الغالِبِ، لكن، قد يتخلف عن البعض لمانعٍ. وقد وَضَحَ بهذا تعريف المتواتر. وخِلافُهُ2 قد يَرِدُ: أ- بلا حصرٍ، أَيضاً، لكنْ، مع فَقْدِ بعضِ الشروط. ب- أَو مَعَ حصرٍ: 2- بِما فَوْقَ الاثنيْنِ، أي بثلاثةٍ فصاعداً، ما لم تجتمع شروط التواتر. 3- أو بِهما، أي: باثْنَيْنِ فقطْ. 4- أو بواحدٍ. والمرادُ بقولِنا: أَنْ يَرِدَ باثْنَيْنِ: أنْ لا يَرِدَ بأقلَّ منهما، فإن وَرَدَ بأكثرَ في بعضِ المَواضِعِ مِن السَّنَدِ الواحِدِ لا يضر؛ إذ الأقل في هذا يَقْضي على الأكثر. فالأول: 3 [وهو الذي ورد بلا حصر عدد معين هو] المتواتر.   1 أَيْ: القطعيّ-اليقيني- الضروريّ. 2 المقصود بخلافه: ما هو سِواه، لا عكسه. 3 وهو الذي ورد بلا حصر عدد معين. وجاءت العبارة في الأصل: فأول. والصواب: ما أثبتُّ. ويُلاحَظ أنّ هذه الأقسام التي بدأها المؤلف بقوله: الأول ... هي عَوْدٌ على ما ذكره في التقسيم الذي ذكره قبله، وقد رَقّمتُها بأرقامٍ متسلسلةٍ، لِيَسْهل فهمها وتذكّرها؛ فإذا قال المؤلف: الأول فتنظر إلى رقم 1 في ص37؛ لِتَعْرِف ما هو، وإذا قال: الثاني تنظر إلى رقم 2 في هذه الصفحة، وهكذا في الباقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 [حكم المُتواتِرُ] : وهو المُفيدُ للعِلْمِ اليَقينِيِّ1 -فأَخرجَ النظريَّ، على ما يأتي تقريره- بشروطه التي تقدمت. واليَقينُ: هو الاعتقادُ الجازِمُ المُطابِقُ. وهذا هو المعْتَمَدُ أن خبر التواتر يفيد العلم الضروري.   1 قوله: فالأول المتواتر وهو المفيد للعلم اليقيني. كان مِن الأَولى إضافة: الضروري كما ذَكَر هو فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 [ مفهوم العلم الضروري ] وهو: الذي يُضْطر الإِنْسانُ إليهِ بحيثُ لا يُمْكنه دفْعُهُ. وقيلَ: لا يُفيدُ العلمَ إِلاَّ نَظَرِيّاً. وليس بشيءٍ؛ لأنَّ العِلْم بالتَّواتُرِ حاصلٌ لمن ليس لهُ أهليةُ النَّظرِ كالعاميِّ؛ إِذِ النَّظرُ: ترتيبُ أمورٍ معلومةٍ أَو مظنونةٍ يُتَوَصل بها إلى علومٍ أَو ظنونٍ، وليس في العاميِّ أهليةُ ذلك، فلو كان نَظَرِيّاً لَمَا حَصَلَ لهُم1.   1 قوله: لما حصل لهم، هذا تحقيقٌ جميل للمؤلف، ولكن يبدو أنه، مع هذا، قدْ استخدم-رحمه الله-بعض الإطلاقات التي يَخرج بها عن مراعاة هذا التحقيق، ومِن هذا قوله الذي مضى قبل قليل: وما تخلَّفتْ إِفَادَةُ العِلْمِ عنهُ كانَ مَشْهوراً فقط، وكان حقه أن يُقَيِّد هذا العلم بأن يقول: العلم اليقيني الضروري؛ إذِ الحديث المشهور يُفِيد، أيضاً، العلم، لكن، النظري، ثم إنْ احتفت به قرائن مقويّة له رفعته إلى درجة القطع فأصبح يفيد العلم اليقينيَّ النظريَّ. فالعلم يتحدد بتحديد درجته، وبتحديد طُرُق التوصل إليه، فلا يتم تحديد المصطلحات هذه إلا بتحديد درجاتها وطرق التوصل إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 [ الفرق بين العلم الضروري والعلم النظري ] ولاحَ بهذا التقريرِ الفرقُ بين العِلْمِ الضَّرورِيِّ والعِلْمِ النَّظَرِيِّ: 1- إِذِ الضَّرورِيُّ يفيدُ العلمَ بلا استدلالٍ، والنَّظريُّ يُفيدُهُ، لكنْ، مع الاستِدْلالِ على الإِفادةِ. 2- وأنَّ الضروريَّ يَحْصُلُ لكلِّ سامعٍ، والنظريَّ لا يَحْصُلُ إلا لمن فيه أهليةُ النظر. وإنما أُبْهِمَتْ شروط المتواتر في الأَصْلِ1؛ لأنَّهُ على هذهِ الكيفيَّةِ ليسَ من مباحثِ علمِ الإسناد2.   1 يَقصد المؤلفُ بالأصل: نخبة الفِكَر. 2 وإنما هو من مباحث علم الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 [ تعريف علم الإسناد ] : إذْ علمُ الإسنادِ يُبحث فيهِ عن صِحَّةِ الحديثِ أَوْ ضعفه؛ لِيُعْمَلَ به أَو يُتْرَكَ مِن حيثُ: صفاتُ الرِّجالِ وصِيَغُ الأداءِ1، والمتواتر لا يُبْحَث عن رجاله،   1وقوله: صفات الرجال، أَيْ: أحوال الرواة من حيث الثقة وعدمها، ودرجات كلٍّ منهما. وصِيغ الأداء هذه للتعرف على طرق التحمل، وتَبَيُّنِ الاتصال مِن عدمه، ويُنْظر تفصيل هذا الموضوع عند ابن الأثير في جامع الأصول.. 1/ 78-90. وقوله: من غير بحث، أقول: لكن، يُبْحث عنه مِن حيث تحديد شروط التواتر وصفاته، وإنما يوردونه في مصطلح الحديث لهذا الغرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بل يجِبُ العملُ بهِ مِن غيرِ بَحْثٍ1.   1 المتواتر والآحاد: الخبر إما أن تكون له طرقٌ: كثيرة مِن غير حصرِ عددٍ معين، فهذا إذا توافرت فيه بقية شروط التواتر، فهو حديثٌ متواتر وخبَرٌ متواتر. أو يكون الخبر له طرق محصورة بعددٍ لا يَبْلغ التواتر، فهذا آحاد. مسألة إفادة كلٍ من المتواتر والآحاد العلم: وهذه المسألة وهي مدى إفادة الرواية العلم، سواء كانت متواترة أو آحاداً مِن القضايا التي حصل فيها خلاف بين الناس: فمنهم من قال بأن المتواتر يفيد العلم اليقيني الضروري، ومنهم من قال إنه يفيد العلم اليقيني النظريّ. والآحاد: قد قال قوم إنه يُفيد العلم، وقال آخرون بأنه لا يفيد العلم. وللنظر والترجيح في هذه المسألة لابد من تحديد المصطلحات أوّلاً؛ ذلك أنه بالتتبع تَبَيَّنَ أن مردّ الخلاف بين المختلفين، في أكثر الأحيان، إنما هو اختلافُ مصطلحاتهم، لا اختلاف مقاصدهم وآرائهم. فما المصطلحات المستخدمة، وما معناها في هذا الموضوع؟، إليك تفصيل هذا فيما يلي: لدينا: - كلمة: العلم. - وكلمة: اليقين. - وكلمة: الظن. - وكلمة: الضروري. - وكلمة: القطعي. - وكلمة: النظري. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43   = وقد حقق الإمام ابن حجر رحمه الله فيما ذهب إليه في هذه المسألة تحقيقاً رَصِيناً، ورأى في هذه القضية فرقاً بين هذه المصطلحات في بعض الجوانب، ولكنه هو الآخر قد استخدم-أحياناً-بعض العبارات الموهمة التي بسببِ إيهامها وقع الخلاف. فكلمة: علم هي على معناها اللغوي المعهود. وعندما تستخدم في هذا المعنى لا يحصل فيها إيهام، ولكن عندما تستخدم على مصطلحٍ آخر ليس معروفاً، أو ليس ملحوظاً عند بعض الناس، يقع الإيهام ويقع الخلاف. وقد رأيتُ كثيراً ممن تكلموا في هذا الموضوع قالوا: حديث الآحاد لا يفيد العلم، وقال الآخرون: بل يفيد العلم، فلما تتبعتُ الأمر وجدتُ أن: 1- العلم -بالنظر إلى الدلالة القطعية وعدمها-نوعان: فمنه العلم القطعي اليقيني، والنوع الآخر العلم الذي يَثْبت بأغلب الظن. 2- وينقسم العلم -بالنظر إلى طريقة التوصل إليه-إلى نوعين: العلم الضروري، وهو الذي لا يحتاج إلى بحثٍ، ولا إلى تتبعٍ، والعلم النظري الذي يتوقف التوصل إليه على البحث والنظر. وبهذا تكون عندنا الأقسام الآتية: 1- العلم اليقيني القطعي الضروري. 2- العلم اليقيني القطعي النظري. 3- العلم الظني النظري. وإذا استخدمنا هذه المصطلحات الدالة على هذا التحديد فإن المراد عندئذ سيكون واضحاً، وقد يتبين من خلاله أنه لا خلاف بين كثير من المختلفين في هذه الأمور، ولا يَبْعد أن يكون المتواتر درجاتٍ في التمكن من التواتر، كما أن الآحاد الثابت درجاتٌ في التمكن في صفة الثبوت. وفي ضوء ذلك يمكن أن ينقسم الخبر الذي يدلّ على القطع واليقين إلى قسمين: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44   = الأول: ما يفيد العلم اليقيني القطعي الضروري. والثاني: ما يفيد العلم اليقيني القطعي النظري. والمتواترُ إنما ينحصر النظرُ فيه في مدى توافر التواتر، أما النظر في الآحاد فمن ناحيةِ صدقِ رجاله، وبقية شروط الثبوت، وفرقٌ بين النظرين، فالمتواتر لا يَدْخل في علم المصطلح من حيث ضعف الرواية وصحة الأسانيد، وإنما يَدْخل فيه من حيث النظر في توافر صفات التواتر وشروطه، فإنْ عُلِم فيه ذلك عُلِمتْ إفادته العلم اليقيني-القطعي- الضروري. ويظهر لي أن مَن قال إن حديث الآحاد لا يفيد العلم، إنما أراد نفي علمٍ مخصوص؛ وهو العلم القطعي الضروري، لأنه أَطلق العلم عليه خاصة، ولكن، هذا التخصيص فيه نظر؛ لأنا متعبدون شرعاً بكل دليلٍ صحيح يفيد العلم، بغضّ النظر عن كونه علماً يقينياً أو ظنياً، أو كونه ضرورياً أو نظرياً. فلا يُشترط -مِن حيث الثبوت- أيُّ قيد في صحة الدليل ليصحَّ العمل به، ولذلك جاءت الأدلة الشرعية بالتعبد بأغلبية الظن، فالظن هنا هو الراجح، إذ أن كل دليل صحيح فهو يفيد العلم، ثم قد يكون هذا العلم يقينياً أو ظنياً، وقد يكون ضرورياً أو نظرياً. وقال بعضهم بأن الحديث الآحاد يفيد العلم، ومراده العلم النظري، لا الضروري، ثم قد يكون قصْده العلم اليقيني القطعي، أو العلم الظني، ولكن من لا يوافقه على هذا الاصطلاح قد لا يَفْهم مراده؛ فيترتب على ذلك حصول الخلاف بينهما. على أنه يتبين لنا بالنظر والتدقيق أن الحديث الآحاد ليس كله يفيد العلم الظني، وإنما بحسب النظر في رواته ورواياته، وفق أصول المحدثين، تكون النتيجة، وهو مِن هذه الحيثيّة ينقسم إلى قسمين: الأول: خبر الآحاد الصحيح الذي لم تَحْتفّ به قرائن تقوِّيه وترفعه إلى درجة القطع، فهذا يفيد العلم الظني النظري. الثاني: خبر الآحاد الصحيح الذي احتفَّت به قرائن تقوِّيه وترفعه إلى درجة القطع واليقين، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45   = فهذا يفيد العلم اليقيني النظري. حكم حديث الآحاد: من المُسَلَّم به عند جمهور المسلمين أن الحديث إذا صح، قامت به الحجة، دون الالتفات إلى طريق التوصل إلى صحته وثبوته، ودون التفات إلى درجة الثبوت، المهم أن يكون ثابتاً، فالتواتر ليس شرطاً للعمل بالرواية، وإنما الصحة هي الشرط، والتواتر قدرٌ زائد على الصحة، وله فوائد ولا شك، وزيادةُ تمكنٍ في الثبوت، ولكن تلك الزيادة ليست أمراً متوقفاً عليه العمل بالرواية. وبهذا يتبين لنا أن الحديث إذا صح قامت به الحجة، سواء في أمر العقيدة أو في أمر الشريعة، وإنما رَدَّهُ مَنْ رَدَّهُ في العقيدة بسببِ الخلط في دلالة المصطلحات المستخدَمة لدى مَنْ تكلم في مصطلح الحديث؛ فعبَّرَ بنفي دلالة حديثِ الآحاد على العلم؛ فرتَّبوا على ذلك المصيرَ إلى ردِّه في العقيدة احتجاجاً بكون العقيدة يجب أن تكون يقيناً، وقالوا: لا يُبْنى اليقين على الظن. والجواب: هو أن العلمَ المنفيَّ دلالةُ الحديث الآحاد عليه هنا، ليس هو مطْلق العلم، وإنما هو العلم القطعي اليقيني، ونحن نقول: هذا اليقين والقطع ليس شرطاً في ثبوت الرواية للعمل بها، سواءٌ في العقيدة أو في الشريعة. وما قالوه، واحتجوا به: من أن اليقين لا يُبْنى على الظن مبناه على الخطأ في فهم المقصود بقول بعض المحدثين: إن حديث الآحاد لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن، إذ حملوا الظن هنا على مجرد الظن الذي لا يدل عليه دليل، ولا يصل إلى درجةِ الثبوت، وليس ذلك هو المراد، بل لو كان مراداً عند أولئك لكان مردوداً بحكم الواقع ودلالة أدلة الشرع التي جاءت بإيجاب العمل بخبر الواحد إذا صح، دون قيدٍ أو شرط. إنّ من الواجب التسليم بأنّ حديث الآحاد الثابت يدل على العلم، أو يفيد العلم، ولكن المسألة مسألة مصطلحات يجب أن تُدقَّق وتُحرّر. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فائدةٌ: ذَكَرَ ابنُ الصَّلاحِ أَنَّ مِثالَ المُتواتِرِ عَلى التَّفسيرِ المُتَقَدِّمِ يَعِزُّ وجودُه، إِلاَّ أَنْ يُدَّعَى ذلك في حديثِ: "مَنْ كَذَبَ عليَّ" 1. وما ادّعاه من العِزَّةِ ممنوعٌ،   = وأما قولهم: إن العقيدة يقينٌ؛ واليقين لا يُبْنى على الظن، وأنه يشترط في أَيّ دليلٍ يؤخذ به في العقيدة، أن يكون يقيناً قطعياً؛ فجوابه: أن هذه قاعدة في العقيدة؛ فإذا أردنا أن نأخذ بها، فلْنطَبِّقْها أوَّلَ ما نُطَبِّقُها على نفسها؛ لأنها ليست دليلاً في العقيدة فقط، وإنما هي أعمق من ذلك، فهي قاعدةٌ عامة تُحاكَم إليها سائر أدلة العقيدة؛ فإذا أردنا أن نأخذ بها فلنطبقها أولَ ما نطبقها على نفسها، فنقول: هذا كلامٌ في العقيدة؛ فأين الدليل القطعي عليه؟!. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم إِنْ كُنْتُم صَادِقينَ} ، 111: البقرة:2. والجواب: هو أنْ لا دليل، بل الدليل قائم بضدّ ذلك، إذ كل أدلة الاحتجاج بخبر الواحد تردُّ هذه القاعدة، والنبي عليه الصلاة والسلام بَعَث رسله إلى مختلف البلدان واحداً بعد واحدٍ ليُعَلِّمُوهم الإسلام كله: عقيدةً وشريعةً؛ فكيف يصح مثل هذا لو كانت القاعدة المذكورة صحيحة؟! كيف يصح عندئذ أن يتلقى أهل قُطْر، بأكملهم، الدينَ كلَّه، عقيدة وشريعة، عن شخص واحد؟! إنّ هذا مما ينقض هذه القاعدة نقضاً لا مزيد عليه، والحمد لله رب العالمين. التواتر بين أهل الاختصاص وغيرهم: هناك فرق بين أمرين: بين الحكم بالتواتر، وهذا لا يكون إلا لأهل الاختصاص، وبين حصول القطع واليقين لدى السامع عند الاطلاع على التواتر، فهذا يحصل لكل أحد يوقَفُ على طبيعة الخبر وشروطه أو طرقه. 1 قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذب عليَّ متعمداً فليتبوّأْ مقعدَهُ مِن النارِ"، حديثٌ متواتر، قد جاء = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وكذا مَا ادَّعاهُ غَيْرُهُ مِن العَدَمِ؛ لأنَّ ذلكَ نشأَ عن قلةِ اطِّلاعٍ على كثرةِ الطرقِ وأحوالِ الرجالِ وصفاتِهِم المقتضيةِ لإبعادِ العادةِ أن يَتَواطؤا على كذبٍ، أو يَحْصُلَ منهم اتِّفاقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [ الدليل على وجود الحديث المتواتر ] : ومِنْ أحسنِ مَا يُقَرَّرُ بِهِ كونُ المُتواتِرِ مَوجوداً وجودَ كَثْرةٍ في الأَحاديثِ: أَنَّ الكُتَبَ المشهورةَ المُتَدَاوَلَةَ بأَيدي أَهْلِ العِلْمِ شَرْقاً وغَرْباً، المقطوعَ عِنْدَهُم بصحةِ نسبتِها إلى مصنفِيها، إذا اجتمعتْ على إخراجِ حديثٍ، وتعددتْ طُرقُه تعدُّداً تُحيل العادةُ تواطُؤَهم على الكَذِبِ، إِلى آخِرِ الشُّروطِ، أَفادَ العلمَ اليقينيَّ بصحَّتِهِ إِلى قائِلِهِ، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير1.   1 مقدار الأحاديث المتواترة: الحق أن ما ذكروه في الكتب الخاصة بالتواتر ليس كثيراً؛ فقد ذكر الكتاني نحو 311 حديثاً في كتابه: نظم المتناثرمن الحديث المتواتر، وكتاب السيوطي قبله أقل من هذا العدد، ولكن السبب-في رأيي- في هذه القلة هو الشرط الذي بنى عليه كلٌ مِن هؤلاء تحديد المتواتر؛ فالكتاني مثلاً جمع في كتابه ما اجتمعت عنده له عشرة طرق فأكثر من الروايات. وهناك دليل آخر يُسْتدل به على كثرة الحديث المتواتر ذكَره الإمام ابن تيمية، رحمه الله، وهو أن جمهور أحاديث الصحيحين؛ متواتر، أو ثابتٌ قطْعاً؛ لِتَلقِّي الأمة لهما بالقبول ذكر هذا في عددٍ مِن المواضع، منها: مقدمة في أصول التفسير، 66-67؛، ومجموع الفتاوى، 18/17. وبهذا يُعْلم كثرة الحديث المتواتر والحديث الثابت ثبوتاً قطعيّاً. وهناك أمر آخر يُمْكن أن نعرف مِن خلاله كثرة الأحاديث المتواترة، وهو النظر إلى جميع أنواع الحديث المتواتر: المتواتر لفظاً، والمتواتر معنى، والمتواتر تواتراً عملياً، وبحصْر ما يَصْدق عليه التواتر في كُلٍّ مِن هذه الأنواع يصبح العدد كبيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [أقسام الآحاد] [2- تعريف الحديث المشهور ] والثاني -وهُو أَوَّلُ أقسام الآحادِ-: ما لَهُ طرقٌ محصورةٌ بأكثرَ مِن اثْنَيْنِ، وهُو المَشْهورُ عندَ المُحَدِّثينَ1.   1 أَيْ: في اصطلاح المحدثين، لا الشهرة بمعنى الشهرة على الأَلْسُنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 [ الفرق بين المشهور والمستفيض ] : سُمِّيَ بذلك لوُضوحِهِ، وهُوَ المُستفيضُ عَلى رأيِ جماعةٍ مِن أئمةِ الفقهاء، سُمِّيَ بذلك لانتشاره، مِن: فاضَ الماءُ يَفِيض فيضاً، ومِنْهُم مَنْ غَايَرَ بينَ المُسْتَفيضِ والمَشْهورِ، بأَنَّ المُسْتَفيضَ يكونُ في ابتدائه وانْتِهائِهِ سَواءً1، والمَشْهورَ أعمُّ مِنْ ذلكَ. ومنهُمْ مَن غايَرَ على كيفيةٍ أُخْرى، وليسَ مِن مباحث هذا الفن.   1 في الأصل ق2ب، حاشيةٌ نصُّها: قوله: سواءً، بالفتح، خبر يكون، واسمها مستتر، تقديره: هو، راجعٌ إلى المستفيض، كما هو ظاهر، لكن، توهم بعضهم؛ فلذلك أُثبِتَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 [ أقسام المشهور ] : ثمَّ المَشْهورُ يُطلَق: 1- على مَا حُرِّر هُنا. 2- وعلى ما اشْتُهِرَ على الألْسِنةِ؛ فَيَشمل ما لَهُ إسنادٌ واحدٌ فصاعِداً، بل ما لا يوجد له إسنادٌ أصلاً1.   1 الحديث المشهور: القسم الثاني وهو ما حُصِرَ بِما فَوْقَ الاثنيْنِ، أَيْ: بثلاثةٍ فصاعِداً -ما لم يَجْمَعْ شروط المتواتر-. - المشهور يطلق على معنيين: 1- في اصطلاح المحدثين، ما كانت الروايات فيه على العدد المذكور، وهذه شهرة اصطلاحيّة. 2- ومشهور بمعنى الشهرة على ألسنة الناس، وهو بهذا المعنى ليس من شرطه ذلك العدد في رواته، بل يَدْخل فيه حتى ما ليس له إسناد. ويتبين من هذا أن المشهور على المعنى الثاني قد يكون متواتراً، أو آحاداً، أو لا أصل له، وقد كان اهتمام المحدثين بهذا المعنى أَكْبَرَ مِن اهتمامهم بالمشهور بالمعنى الاصطلاحي وذلك للتنبيه على ما يصح، وما لا يصح؛ فقد يشتهر على ألسنة الناس ما يكون مكذوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاهتم العلماء بهذا النوع من المشهور لهذا السبب، ومما أُلف في هذا المقاصد الحسنة فيما اشتهر من الحديث على الألسنة. وينبغي أن يقرأ؛ لما فيه مِنْ الفوائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 [ تعريف العزيز ] : والثَّالِثُ: العَزِيز: وهُو أَنْ لا يَروِيَه أقلُّ مِن اثنين عن اثنين1.   1 الحديث العزيز: والثَّالِثُ: العَزيزُ: وهُو أَنْ لا يَرْويَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عنِ اثْنَيْنِ، وهذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وسُمِّيَ بذلك إِمَّا لقلةِ وجودِهِ، وإِمَّا لكونِهِ عَزَّ، أَيْ قَوِيَ بمَجيئِهِ مِن طريقٍ أُخْرى. ولَيْسَ شَرْطاً للصَّحيحِ، خِلافاً لمَنْ زَعَمَهُ، وهو أَبو عَليٍّ الجُبَّائِي1 مِن المُعْتزلةِ، وإِليهِ يومئُ كلامُ الحاكِمِ أَبي عبد اللهِ في علومِ الحديثِ، حيثُ قال: الصَّحيحُ أنْ يَرْوِيَهُ الصحابيُّ الزائلُ عنهُ اسمُ الجَهالة؛ بأَنْ يكونَ لهُ راويان، ثم يتداوله أَهلُ الحَديثِ إِلى وَقْتِنِا، كالشَّهادَةِ عَلى الشَّهادَةِ.   1 هو محمد بن عبد الوهاب أبو علي المعروف بالجبَّائي، 235-303هـ، أحد أئمة المعتزلة، وإليه تُنسب فرقة الجبَّائية منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 [ دعوى ابن العربي: بأن العزيز من شرط البخاري في صحيحه ] : وصَرَّحَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العربيِّ1 في شَرْحِ البُخَارِيّ بأَنَّ ذلك شرطُ البُخَارِيِّ، وأَجاب عمَّا أُوْرِدَ عليهِ مِن ذلك بجوابٍ فيهِ نظر؛ لأنه قال: فإن قيل: حديثُ: "الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ"2 فَرْدٌ3؛ لم يَرْوِهِ عَنْ عُمر إلا علقمة؟   1 هو محمد بن عبد الله بن محمد الإشبيلي، أبو بكر بن العربي، القاضي، 468-583هـ. 2 الحديث هو: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"، أخرجه البخاري، 54، الإيمان، و2529، العتق، وأخرجه في مواضع أخرى، وأخرجه مسلم أيضاً. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 قال: قلنا: قد خَطَبَ به عُمرُ عَلى المِنْبَرِ بحَضْرةِ الصَّحابَةِ؛ فلولا أَنَّهُمْ يَعْرِفونَهُ لأنكروه. -كذا قال-.   = 3 حديث: "إنما الأعمال بالنيات": 1- إنما يزيل الغرابة المطلقة فيه لو قال الصحابة كلهم أو بعضهم: نعم سمعنا ذلك. 2- هذا الحديث فردٌ صحيح مِن أعلى درجات الصحة؛ لكونه ورد بطريقٍ صحيح مروي في الصحيحين وتلقته الأمة بالقبول. فعدّةُ أمور رفعته، وأصبح الحديث عندنا صحيحاً صحةً قطعية، فعلى الرغم من أنه آحاد، فقد احتفت به قرائن قوّته ورفعته إلى درجة اليقين-هذا بالنظر إلى الرواية للحديث على لفظه-أما معناه فمتواتر، ولمعرفة التواتر المعنوي يُرَاجع تخريجه في الابتهاج في تخريج أحاديث المنهاج، للغماري ص27-41، مع الحواشي. 3- تكثر الأحاديث الضعيفة في رواية الأفراد، ولكن ليس مجرد التفرد ضعفاً في الرواية. فائدة: أعمال الإنسان في هذه الدنيا يحكمها حديثان: الأول: حديث: إنما الأعمال بالنيات. والآخر: حديث عائشة: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ. لأن أعمال الإنسان تتكون من النيات ومن الأعمال الظاهرة. وهذان الحديثان كلٌ منهما ميزانٌ لواحد من هذين القسمين. والحديث الثاني يَدْخل فيه ضبط النية؛ على اعتبار أن النية عملٌ من أعمال القلوب. فهما يُعَدّان قاعدةً أساسية لسعادة الإنسان، وقاعدةً لضبط تصرفات الإنسان وأعماله، وقاعدةً لتمييز المقبول-عند الله تعالى-من أعماله والمردود منها. فإذا أردت أن تعرف المقبول من المردود من عملك فما عليك إلا أن تَزِنَهُ بهذين الحديثين. إن ذلك هو الإعجاز!!. وقد أشار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إلى هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 [ الرد على جواب ابن العربي ] : وتُعُقِّبَ بأنه لا يَلْزم من كونهم سكتوا عنه أن يَكُونوا سَمِعوهُ مِنْ غَيْرِهِ، وبأَنَّ هذا لو سُلِّمَ في عُمَرَ مُنِعَ في تَفَرُّدِ علقمةَ ثمَّ تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْراهيمَ بِه عَنْ عَلْقَمَةَ، ثُمَّ تَفَرُّدِ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ بهِ عن محمدٍ، عَلى ما هُو الصَّحيحُ المُعْروفُ عِنْدَ المُحَدِّثينَ، وقَدْ وردتْ لُهْم متابعاتٌ لا يُعْتَبَرُ بِها1، وكذا لا يَسْلَمُ جوابُه في غيرِ حديثِ عُمرَ. قال ابن رُشَيْدٍ2: ولَقَدْ كانَ يَكْفي القاضِيَ في بُطْلانِ ما ادّعَى أَنَّهُ شرطُ البُخَارِيِّ أولُ حديثٍ مَذكورٍ فيه.   1 أَيْ: لضعْفها -كما في بعض النسخ-أَيْ: لا تُكتَب في باب الشواهد والمتابعات. 2 هو محمد بن عمر بن محمد أبو عبد الله بن رُشَيْد، 657-721هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 [ دعوى لابن حبان ] : وادّعَى ابنُ حِبّان1 نقيضَ دَعْواهُ، فقالَ: إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ لا توجد أصلاً.   1 هو محمد بن حبان بن أحمد البستي، أبو حاتم، 260-354هـ، صاحب الثقات، والمجروحين، وصحيحه: التقاسيم والأنواع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 [ الرد على ابن حبان ] : قلت: إن أراد أَنَّ رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ1 لا يُوجد أَصْلاً فَيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ، وأَمَّا صُورَةُ العَزيزِ الَّتي حَرَّرْناها فمَوْجودَةٌ بأنْ لا يرويَهُ أقلُّ مِن اثْنَيْنِ عَنْ أقلَّ مِنَ اثْنَيْنِ.   1 في بعض النسخ هنا زيادة: إلى أن ينتهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 [ مثال العزيز ] : مثاله: ما رشواه الشَّيْخانِ مِن حديثِ أَنَسٍ، والبخاريُّ مِن حديثِ أبي هريرة أَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ"1 الحديث. ورواه عَنْ أَنَسٍ: قَتادَةُ وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، ورواهُ عَنْ قتادَةَ: شعبةُ وسعيدٌ، ورواهُ عَنْ عبد العزيز: إسماعيل بن عُليَّة وعبدُالوارث، ورواه عن كُلٍّ جماعة.   1 أخرجه البُخَارِيّ عن أبي هريرة، بلفظ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ"، ح 14، الإيمان، وأخرجه برقم 15، عن أنس بلفظ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"، ومسلم برقم 44، الإيمان، عن أنس، بلفظ: "لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ"- وَفِي لفظٍ: "الرَّجُلُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 [ تعريف الغريب ] : والرابع: الغريب: وهُو ما يتفرَّد بِروايَتِهِ شخصٌ واحِدٌ في أيِّ موضعٍ وَقَعَ التفردُ بِهِ مِنَ السَّنَدِ. على ما سنقسم إِليهِ الغَريبُ المُطْلَقُ والغَريبُ النِّسبيُّ1. وكُلُّها أي الأَقْسَامُ الأربعةُ المذكورةُ سِوى الأوَّلِ -وهو المُتواتِرُ- آحادٌ، ويقال لكلٍّ منها خَبَرُ واحدٍ.   1 معنى هذه العبارة غير دقيق. والأصحّ أن يُقال: على ما سنقسم إليه الغريب إلى: غريب مطلقٍ، وإلى غريب نسبيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 [ تعريف الآحاد وأقسامها وحكمها] [تعريفها] : وَخَبَرُ الواحدِ في اللغة: ما يرويه شخصٌ واحدٌ. وفي الاصطلاح: ما لم يَجْمَعْ شروطَ التواتر1.   1 خبر الواحد: ليس المقصود بخبر الواحد هو ما يبدو من ظاهر اللفظ، بحكم دلالة اللغة؛ لأن الإطلاقَ إطلاقٌ اصطلاحي، وليس إطلاقاً لغوياً. فليس المراد بخبر الواحد ما يرويه شخص واحد فقط، وإنما المراد به ما ليس بمتواتر، وهو الآحاد بأقسامه الثلاثة، لأن الاستعمال استعمالٌ اصطلاحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أقسام الآحاد من حيث القبول والرد ... [أقسامها من حيث القبول والردّ] : وفيها، أي الآحاد: أ - المَقْبولُ1: وهو ما يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ الجمهور. ب- وفيها المردود: وهو الذي لم يَرْجَحْ صِدْقُ المُخْبِرِ بِهِ؛ لتوقُّفِ الاستدلالِ بها عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ رواتِها، دُونَ الأوَّلِ، وهو المُتَوَاتِرُ، فكلُّهُ مقبولٌ؛ لإفادته القطعَ بصدْقِ مُخْبِرِهِ، بخلاف غيره من أخبار الآحاد.   1 الحديث من حيث القبول وعدمه: عبّرَ المصنِّف، رحمه الله تعالى، بكلمة: مقبول؛ للدقة؛ لِيَدْخُل فيه الصحيح والحسن. ثم علل التقسيم إلى مقبول ومردود بقوله:؛ لِتَوَقُّفِ الاستدلالِ بها عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ .... وإطلاقه هنا كان ينبغي أن يُقَيَّدَ، إلا إن كان المراد القطع بصدق مخبره بدون بحثٍ أو نظر، فإن أراد هذا -وهو الظاهر- فهو صحيح؛ فالمتواتر مقبولٌ كله ويفيد القطع بصدق مخبره بدون حاجة إلى بحث ونظر بخلاف الآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 [صُورُ القبول والردّ وأساسهما] 1:   1 الخبر على ثلاثة أقسام: فالأول: أن يوجد فيها أصل صفة القبول، وَيَغلب على الظن صدق الخبر، لثبوت صدق ناقله فيؤخذ به. لكننا متعَبَّدون بالعمل بأغلب الظن؛ فلم يُكلَّف العباد بالقطع واليقين في كل شيء، وهذا مِنْ نعم الله؛ ولهذا قامت معظم أدلة الشرع على مجرد الثبوت، دون الثبوت القطعي، فالقطع واليقين شيء زائد على الصحة، ولا شك في أن النفسَ إلى القطع واليقين أَمْيَلُ، وبه أوثق، ولكنه ليس شرطاً، و‘إنما هو أمرٌ زائد على أصل الصحة الذي تقوم به الحجة الشرعية. والإعراض عن الاحتجاج بالظن الغالب، اتّباعٌ لما يضاده من الظن غير الغالب، وليس بهذا نطقت السنة والكتاب، ولا بهذا قالت العقول والفِطَر التي فطرها رب الأرباب. والثاني: أن يوجد فيها أصل صفة الرد، ويَغْلب على الظن كذب الخبر؛ لثبوت كذب ناقله فَيُطْرح. والثالث: أن لا يوجد فيه صفة القبول أو صفة الرد. ومِن حكمة الله أنه ليس مِن شيءٍ مما يحتاجه المرء في دينه لا يثبت الثبوتَ الذي تقوم به الحجة، أَيْ: أن جميع الأدلة الشرعية ثابتة الثبوت الذي تقومُ به الحجة-باختلاف درجات الثبوت-أمّا ما لم يُعْرف صدْقه مِن كذبه مِن الأمور فهذا ليس منه شيء مما يُحْتاج إليه في الدين. قال ابن تيمية رحمه الله: والعلم إما نقل مُصَدَّق عن معصوم، وإما قولٌ عليه دليل معلوم، وما سِوَى ذلك فإما مزيَّف مردود، وإما موقوفٌ لا يُعْلم أنه بهرجٌ ولا منقود، مقدمة في أصول التفسير، في مقدمتها. ويقول: "الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 لكنْ إِنَّما وَجَبَ العَمَلُ بالمَقْبولِ مِنها لأَنَّها إِمَّا: 1- أَنْ يُوْجَدَ فيها أصْلُ صِفَةِ القَبولِ، وهُو ثبوتُ صِدْقِ النَّاقِلِ. 2- أَوْ أصْلُ صِفَةِ الرَّدِّ، وهُو ثبوتُ كَذِبِ النَّاقِلِ. 3- أوْ لاَ. فالأول: يَغْلبُ على الظن صدقُ الخَبَرِ؛ لِثُبوتِ صدقِ ناقِلِهِ؛ فيؤخذُ بِهِ. والثاني: يَغْلبُ على الظن كذبُ الخَبَرِ؛ لثبوتِ كَذِبِ ناقِلِهِ؛ فَيُطْرَح. والثَّالِثُ: إنْ وُجِدَتْ قرينةٌ تُلْحِقه بأحدِ القِسْمَيْنِ الْتَحق، وإلا فَيُتَوَقَّفُ   = إذ العلم إمّا نقلٌ مصدَّقٌ، وإما استدلالٌ مُحَقَّق. والمنقول: إما عن المعصوم، وإما عن غير المعصوم. والمقصود أن جنس المنقول سواء كان عن معصوم أو غير معصوم -وهذا هو الأول- فمنه ما يمكن معرفة الصحيح من الضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك، وهذا القسم الثاني من المنقول -وهو ما لا طريق لنا بالجزم بالصدق منه- عامته مما لا فائدة فيه، والكلام فيه من فضول الكلام. وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته؛ فإن الله تعالى نَصَبَ على الحق فيه دليلاً. فمثال ما لا يفيد، ولا دليل على الصحيح منه، اختلافهم: - في لون كلب أصحاب الكهف. - وفي البعض الذي ضُرِبَ به قتيل موسى من البقرة. - وفي مقدار سفينة نوحٍ، وما كان خشبها؟. - وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل. فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، كاسم صاحب موسى أنه الخضر، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك ... فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة ... ، مُقدّمة في أصول التفسير، بتحقيق د. عدنان زرزور، الكويت - بيروت، دار القرآن الكريم ومؤسسة الرسالة، ط. الثانية، 1392هـ-1972م، ص 55-57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فيه، فإذا تُوُقِّف عَنِ العَمَلِ بهِ صارَ كالمَرْدودِ، لا لثبوتِ صفةِ الرَّدِّ، بل لكَوْنِه لمْ تُوجَدْ فيه صفةٌ توجب القبول، والله أعلم1.   1 فوارق بين المتواتر والآحاد: مِنَ الفوارق بين الآحاد والمتواتر ما يلي: إفادة الحديث المتواتر للعلم القطعي الضروري، أو ثبوت الحديث المتواتر بدرجةِ العلم القطعي الضروري، بمجرد ثبوت كونه متواتراً، فالمتواتر كله على هذه الصفة، بخلاف الآحاد فإن فيها المقبول وفيها المردود؛ لأن ثبوتها متوقف على النظر والبحث، فحكمها إذَنْ مِن حيث القبول والرد متوقف على توافر شروط القبول؛ فما توافرت فيه شروط القبول فهو مقبول، وما تخلف فيه شرط أو أكثر من شروط القبول فهو مردود. ثم المقبول مِنْ أخبار الآحاد من حيث إفادته للعلم ينقسم إلى قسمين: - ما يفيد العلم بأغلبية الظن؛ فهذا يفيد العلم النظري غير القطعي. - ما يفيد العلم القطعي النظري وهو الآحاد الذي احتفت به قرائن حالِيَّة أو مقاليّة تقوّيه وترفعه إلى درجةِ القطع واليقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 [ حكم أخبار الآحاد ] : وقد يَقعُ فيها-أي في أَخْبارِ الآحادِ المُنْقَسِمَة إِلى: مَشْهورٍ، وعَزيزٍ، وغَريبٍ- مَا يُفيدُ العلم النظريَّ بالقَرائِنِ1 عَلى المُختارِ، خِلافاً لِمَنْ أَبى   1 آثار اختلاف المصطلحات: قال المصنِّف: ما يفيد العلم النظريّ، وكان ينبغي إن يُحَدِّدَ أكثر؛ فكان الأَولى أنْ يُقَيِّد العلم باليقينيّ أيضاً؛ حتى لا يَخْتلط بما يُفِيد العلمَ بأغلب الظن مِن أحاديث الآحاد، ولو قَيَّده باليقين لكان أزال الاحتمال والإشكال، وهذا مصداق ما قلناه مِنْ قبل مِنْ أن بعض الخلاف في هذا الموضوع مبناه على المصطلحات التي استعملها المتكلمون فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ذلك1. والخِلافُ في التَّحْقيقِ لفظيٌّ2، لأنَّ مَنْ جَوَّزَ إطلاقَ العلمِ قَيّده بِكونِهِ نَظَريّاً، وهُو الحاصِلُ عن الاسْتِدلالِ، ومَن أَبَى الإطلاقَ خَصَّ لَفْظَ العلمِ بالمتواتر3، وما عَدَاهُ عنده ظنيٌّ، لكنه، لا ينفي أنّ ما احْتَفَّ بالقرائن أرجحُ مما خلا عنها.   1 في الأصل ق4 ب هنا حاشيةٌ، نصُّها: قوله: خلافاً لمن أَبى ذلك: هو شيخ الإسلام النووي في شرح مسلم. 2 الأصل في هذه المسألة أنّ الخلاف -في التحقيق- لفظيٌّ لكنه قد انبنى عليه خلافٌ فعليٌّ عمليٌّ في مسائلَ أصوليةٍ، وذلك كالخلاف في قبول خبر الآحاد في العقيدة، وهي قضيّةٌ ذاتُ شأنٍ مِن حيث المبدأُ على أَيِّ حالٍ. وبناء على هذا فإن هذا الخلاف-في نظري- لا يُخَفِّفُهُ قول الإمام ابن حجر: الخلاف في التحقيق لفظيٌّ. 3 تعليق: مِن أيِّ إطلاقٍ خَصّ لفظ العلم بالمتواتر: هل العلم الضروري أو النظري؟!. كان الأَولى أن يَذْكر المؤلف، رحمه الله، هنا ما هو الذي في مقابل ما يفيد العلم النظري، وهو الذي يفيد العلم الضروري، وهو الذي يفيده المتواتر. فلو قال هنا: ومَن أبى إطلاق العلم قصدَ به العلمَ القطعيَّ الضروريَّ، وهو الذي يختص به المتواتر، لو قال ذلك لكان أوضحَ ولَزال الإشكال، وهذا يدل أن الخلاف الحاصل في الموضوع مبناه على استخدام الألفاظ واستعمال المصطلحات للدلالة على المعاني المقصودة لدى المتكلم، ومعنى ذلك عند السامع والقاريء أيضاً -كما ذكرتُ سابقاً-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 [أنواع الخبر المُحْتَفّ بالقرائن] : والخبرُ المُحْتَفُّ بالقرائن أنواعٌ: أ - مِنْها: مَا أَخْرَجَهُ الشيخانِ في صَحيحَيْهِما، ممَّا لم يبلغ1 التواتر، فإِنَّهُ احتفَّتْ بِهِ قرائنُ، منها: - جَلالتُهُما في هذا الشأن. - وتقدُّمهما في تَمْييزِ الصَّحيحِ على غيرِهما. - وتلقِّي العلماء لكتابيهما بالقَبُولِ، وهذا التلقِّي وحدَهُ أَقوى في إِفادةِ العِلْم مِن مجردِ كثرةِ الطُّرُقِ القاصرةِ عَنِ التواتر.   1 في بعض النسخ: يبلغ حدّ التواتر، وقد ذكَرَ الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في الفتاوى، أنّ جمهور أحاديث الصحيحين مِن قبيل المتواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 [الشرط في تلقّي حديث الصحيحين بالقبول] : إلا أنّ هذا: 1- يختصُّ بما لم ينتقدْه أحدٌ مِنَ الحُفَّاظِ مِمَّا في الكِتابينِ1. 2- وبِما لم يقع التّخالُفُ2 بينَ مَدْلولَيْهِ مِمَّا وَقَعَ في الكِتابينِ، حيثُ لا تَرْجيحَ؛ لاستحالةِ أَنْ يُفيدَ المتناقِضَان العلمَ بصدقهما من غير ترجيحٍ لأحدهما   1 قوله: إلا أن هذا يختص بما لم ينتقدْه أحدٌ من الحفاظ مما في الكتابين: مجموع ما انْتُقِد على الإمامين مِن الأحاديث 210، اتفقا على 32، وانفردا بـ 78، ومسلم بمائة، والحقيقة أن هذه الأحاديث المنتقدة أجاب عنها ابن حجر في كتابه العظيم هدي الساري مقدمة فتح الباري في دراسةٍ مطوَّلةٍ، أجاب فيها عن ذلك على وجْه الإجمال والتفصيل. 2 في بعض النسخ: التجاذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 على الآخرِ1، وما عَدا ذلك فالإِجماعُ حاصلٌ على تسليم صحته. فإِنْ قِيلَ: إِنَّما اتَّفَقوا على وجوبِ العملِ به لا على صحته، منعناه، وسَنَدُ المنعِ: أَنَّهُمْ مُتَّفِقونَ عَلى وُجوبِ العَمَلِ بِكُلِّ مَا صَحَّ، ولوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخانِ؛ فلمْ يَبْقَ للصَّحيحينِ في هذا مزيةٌ، والإِجماعُ حاصلٌ على أنَّ لهُما مَزِيَّةً فيما يَرْجع إِلى نَفْسِ الصِّحَّةِ. ومِمَّن صَرَّحَ بإِفادَةِ مَا خَرّجه الشيخان العلمَ النظريَّ: 1- الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني2. 2- ومِن أَئِمَّةِ الحَديثِ: أَبو عبدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ3. 3- وأبو الفضل بن طاهر4، وغيرهما5. ويُحْتمل أن يقال: المزية   1 النصوص الشرعية والتعارض: قوله: لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما ... ، يقال فيه: وهل مثْل هذا واقعٌ في أحاديث الصحيحين؟! لا يكفي في هذا الأمرِ الافتراضاتُ النظرية التي لا وجود لها. هذا كلام فيه نظرٌ؛ لأن هذا إنما هو في الظاهر فحسْبُ؛ لأنه في الحقيقة غير واقع، فهذا الكلام ليس مسلّماً على الحقيقة، وإنما يصح بأن يُقَيَّد فيقال: في الظاهر. والسبب في المنع هو أن التعارض والتناقض في الحقيقة ليس واقعاً في كلام الله تعالى، ولا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يقع في الظاهر بالنظر إلى فهم الناظر. 2 هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق، الإسفرائينيّ، ت418هـ. 3 هو محمد بن الفتوح الأزديّ، 420-488هـ، مِن كتبه: الجمع بين الصحيحين. 4 هو محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسيّ الشيبانيّ، أبو الفضل، 448-507هـ، عُرف بابن القيسراني، له شروط الأئمة الستة، وغيره. 5 في الأصل هنا حاشيةٌ نصُّها: قال البلقيني في محاسن الاصطلاح إن بعض الحفاظ المتأخرين نقل ذلك عن الأستاذ أبي إسحاق والشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيِّب، وتلميذه أبي إسحاق الشيرازي، والسرخسي من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وكثير، ق5 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 المذكورة كونُ أحاديثهما أصحَّ الصحيح. ب - ومِنها:1 المَشْهورُ إِذا كانَتْ لهُ طرقٌ متباينةٌ سالمةٌ مِن ضَعْفِ الرُّواةِ والعِلَلِ، وممَّن صَرَّحَ بإِفادَتِهِ العلمَ النظريَّ الأستاذُ أَبو مَنْصورٍ البَغْدادِيُّ2، والأسْتاذُ أبو بكر بن فُوْرَك3، وغيرهما. جـ - ومِنها: المسَلْسَلُ بالأئمةِ الحفاظِ المُتْقِنينَ، حيثُ لا يكونُ غَريباً، كالحَديثِ الَّذي يَرْويهِ أحمدُ بنُ حنبل4، مثلاً، ويشاركه فيه غيره عن   1 قوله: منها أَيْ: من الآحاد المحتف بالقرائن المشهور وهو القسم الأكثر طرقاً مِن بين أقسام الآحاد، المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين للحفظ والضبط. ومعلومٌ أن روايات الثقات إذا تعارضت يرجَّح بينها؛ فيؤخذ برواية الأوثق، وتترك رواية الثقة، وتُعَدُّ رواية الثقة شاذة. والأوثق عند المحدثين يَعْنون به زيادةَ التمكن في الثقة، وذلك يكون بالطرق التالية: 1- إما بكثرة العدد من الثقات. 2- أو زيادة التمكن في صفة الثقة. 3- أو بهما معاً. 2 هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي الإسفرائينيّ، البغداديّ الشافعيّ، تلميذ أبي إسحاق الإسفرائينيّ، ت429هـ. 3 هو محمد بن الحسن بن فُوْرَك الأصبهانيّ، أبو بكر، المشهور بابن فُوْرَك، يقال: قاربتْ مؤلفاته المئة. 4 هو إمام أهل السنّة، أحمد بن محمد بن حنبل، الشيبانيّ، أبو عبد الله، 161-241هـ، صاحب المذهب، صنّف المسنَد، وفضائل الصحابة، وهو مِن أذكياء الدنيا، فضائله تَعطّر بها الدهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الشَّافِعِيِّ1 ويُشارِكُهُ فيهِ غيرُهُ عنْ مالِكِ بنِ أنس2، فإنه يفيد العلمَ عند سامعِهِ بالاستدلال مِن جهةِ جَلالةِ رواتِهِ وأنَّ فيهِمْ مِن الصفاتِ اللائقةِ الموجِبةِ للقبولِ مَا يقومُ مَقامَ العَدَدِ الكَثيرِ مِن غَيْرِهِم، ولا يَتَشَكَّكُ مَنْ لَهُ أَدْنَى ممارسةٍ بالعِلْمِ وأَخْبارِ النَّاسِ أَنَّ مالِكاً، مَثلاً، لو شافَهَهُ بخبرٍ3 أنه صادقٌ فيه، فإذا انضاف إليه مَن هُو في تِلْكَ الدَّرَجَةِ ازْدَادَ قُوَّةً4، وبَعُدَ ما يُخْشَى عليه مِن السهو.   1 هو الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ المطّلِبيّ، أبو عبد الله، 150-204هـ، صاحب المذهب شيخ الإمام أحمد، أوّل مَن صنَّف في أصول الفقه بكتابه الرسالة، مِن أذكياء الدنيا. 2 هو إمام دار الهجرة، مِمن سارتْ بفضائله الركبان، 97-179 هـ. 3 في نسخةٍ زيادة: لَعَلِمَ. 4 قوله: فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ... ، أَيْ: زاد العدد في الرواية. مع ملاحظة أنّ المقصود زيادة العدد مِن الأئمة الثقات هؤلاء، أمّا عن غيرهم فقد تتعدد الطرق ولا يصح شيء منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 القرائن إنما تفيد العلم بصدق الحديث عند المختصين ... [القرائن هذه إنما تفيد العلم بصدق الحديث عند المختصين] : وهذه الأنْواعُ الَّتي ذكَرْناها لا يَحْصل العلمُ بصدقِ الخبرِ منها إِلاَّ للعالِمِ بالحديثِ المتبحرِ فيهِ العارفِ بأحوالِ الرواةِ، المطَّلِعِ عَلى العِلَلِ. وكونُ غيرِهِ لا يَحْصلُ لهُ العلمُ بصدْقِ ذلك -لقصوره عن الأوصاف المذكورة التي ذكرناها1- لا يَنفي حصولَ العلمِ للمتبحّر المذكور.   1 في قوله: المذكورة التي ذكرناها. نوعُ تكرارٍ يُغْني عنه إحدى اللفظتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ومحصَّل1 الأنْواعِ الثَّلاَثَةِ الَّتي ذَكَرْناها أنَّ: الأوَّلَ: يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ. والثاني: بِما لَهُ طرقٌ مُتَعَدِّدَةٌ. والثَّالِثُ: بِما رواهُ الأئمَّةُ. ويُمْكن اجْتماعُ الثَّلاثةِ في حديثٍ واحد، ولا يَبْعُدُ حينئذ القطعُ بصدقه2، والله أعلم.   1 في الأصل حاشيةٌ إلحاقيةٌ هنا، ونصُّها: ومحصَّل الأنواع الثلاثة وهي: تقويتُهُ بالقرائنِ وكثْرةِ طُرُقِه، والتسلسل.، ق5 أ. 2 قوله: فلا يبعد حينئذ القطع بصدقه. قلتُ: فيكون مشاركاً للمتواتر مِن هذه الحيثية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 [ أقسام الغريب ] ثمَّ الغَرابَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ: 1- في أَصلِ السَّنَدِ1: أي في الموضعِ الَّذي يَدورُ الإِسنادُ عليهِ ويَرْجِعُ، ولو تَعَدَّدَتِ الطُّرقُ إِليهِ، وهو طَرَفُهُ الذي فيه الصحابي. 2- أَوْ لاَ يَكونُ كَذلكَ، بأَنْ يَكونَ التَّفَرُّدُ في أثنائه، كأَنْ يرويَه عَنِ الصَّحابيِّ2 أكثرُ مِن واحدٍ، ثم ينْفَرِدَ بروايته عن واحدٍ منهم شخصٌ واحد.   1 الغريب في أصل السند يقصد به الغرابة المطلقة. ثمَّ الغَرابَةُ: إِمَّا أَنْ تَكونَ في أَصلِ السند. هذا هو الأول. أو في أثنائه. هذا هو الثاني. والحديث الغريب النسبي يقل إطلاق الفردية عليه. والصحيح أنّ تَفرُّد الصحابي بالحديث يُعدُّ تفرُّداً مطلقاً، شأنه شأن التابعي فمَن بعده. 2 قوله: كأن يرويه عن الصحابي أكثر من واحد، ثم ينفرد بروايته عن واحد منهم شخصٌ واحد. الأَولى أن يقول: كأن يرويه من الصحابة أكثرُ مِن واحد، ثم ينفرد بالرواية عن واحدٍ منهم شخصٌ؛ وذلك لأن هذا القِسْم لم يتفرّدْ به صحابي واحدٌ، وإن كان المثال يَقَع في هذه الصورة؛ بأن يكون التفرّدُ نسبياً، بأن يرويه شخص واحدٌ عن شخص واحدٍ من تلاميذ الصحابي الذين رووا الحديث، لكن، ليس مِنْ لازمِ هذا أن ينفرد به الصحابي؛ ولهذا يزيل هذا الاحتمال أن يقال: كأن يرويَه مِن الصحابة أكثرُ مِن واحدٍ ... إلى آخر العبارة المقترحة آنفاً، أو يقال: كأن يرويَهُ عن صحابيٍ ما أكثر مِن راوٍ، ثم ينفرد به شخصٌ واحدٌ يرويَه عن واحدٍ مِن أولئك الرواة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 [ الفرد المطلق وأمثلته ] : فالأول: الفرد المطْلَق: كَحديثِ النَّهْيِ عَنْ بيعِ الوَلاءِ وعَنْ هِبَتِهِ، تفرَّد بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عنِ ابنِ عمر، وقد يَنْفَرِدُ به راوٍ عن ذلك المنْفَرد، كحديث شُعَبِ الإيمان، تفرَّدَ بهِ أَبو صالحٍ عَنْ أَبي هُريرةَ، وتفرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عَنْ أَبي صالحٍ، وقدْ يَسْتَمِرُّ التفرُّدُ في جميعِ رواته أو أكثرهم. وفي مسند البزَّار1، والمعجم الأوسط، للطبراني2 أمثلةٌ كثيرة لذلك.   1 هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصريّ، أبو بكر البزّار، -292هـ، له المسند، المسمّى بالبحر الزّخّار، طُبِع منه تسعة أجزاء، بتحقيق د. محفوظ الرحمن زين الله، المدينة المنورة، مكتبة العلوم والحكم، 1416هـ-1996م. 2 هو سليمان بن أحمد بن أيوب الطبرانيّ، نسبةً إلى طبريّةً، 260-360هـ، له المعاجم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 [ الغريب النسبي والفرق بينه وبين الفرد ] : والثاني: الفرد النسبيّ: سُمِّيَ بذلك لكونِ التفرُّدِ فيهِ حَصَلَ بالنسبةِ إِلى شخصٍ مُعَيَّنٍ، وإن كان الحديث في نفسه مشهوراً، ويقِلُّ إطلاقُ الفردِيّةِ عليهِ، لأنَّ الغَريبَ والفَرْدَ مترادفان لغةً واصطلاحاً، إلا أن أهلَ الاصطِلاحِ غايَروا بينَهُما من حيثُ كثرةُ الاستِعمالِ وقِلَّتُه، فالفردُ أَكْثَرُ ما يُطْلقونه على الفَرْدِ المُطْلَقِ، والغَريبُ أَكثرُ ما يُطْلقونه عَلى الفَرْدِ النِّسْبيِّ، وهذا مِن حيثُ إِطلاقُ الاسمِ عليهِما، وأما مِن حيثُ استعمالُهم الفعل المشتق فلا يُفَرِّقون، فَيقولونَ في المُطْلَقِ والنِّسْبيِّ تفرَّد بِهِ فُلانٌ، أو أغرب به فلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 [ الفرق بين المنقطع والمرسل ] وقريبٌ مِنْ هذا اختلافُهم في المنقطعِ1 والمرسَل هلْ هُما مُتغايِرانِ أَوْ لاَ؟ فأَكْثَرُ المُحَدِّثين على التَّغايُرِ2، لكنَّهُ عندَ إطلاقِ الاسمِ، وأمَّا عندَ اسْتِعمَالِ الفِعْل المُشْتَقِّ فيستَعْمِلونَ الإِرسالَ فقَطْ، فيقولون: أرسله فلان، سواء كان   1 في الأصل هنا في ق 5 ب حاشية توضيحية لم يتضح بعض كلماتها. 2 فيُطْلِقون المرسَل على الحديث الذي رواه التابعيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يَذْكر الواسطة، والمنقطع ما سقط منه راوٍ فأكثر، قبْل الصحابيّ. أمّا إذا قالوا: أرسله فلانٌ. فيصلح للأمرين كما أوضحه المصنف. عتر: 54، حاشية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ذلك مرسلاً أم مُنْقَطِعاً، ومِن ثَمَّ أَطلق غيرُ واحدٍ مِمَّن لم يلاحِظ مواقعَ استعمالهم على كثيرٍ مِن المُحدِّثينَ أَنَّهُم لا يُغايِرونَ بينَ المُرْسَلِ والمُنْقَطِعِ، وليسَ كذلك؛ لِما حَرَّرناهُ، وقلَّ مَنْ نَبَّه على النُّكتة في ذلك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 [ أقسام الخبر المقبول ] [ الصحيح لذاته ] : وخبرُ الآحادِ: بنقلِ عدلٍ1 تامٍّ الضبطِ، متصلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّل ولا شاذٍّ هو الصحيحُ لِذاته2. وهذا أولُ تقسيمِ المقبول إِلى أربعةِ أنواعٍ؛ لأَنَّهُ إِمَّا أنْ يشتملَ مِن صفاتِ القَبولِ على: 1- أَعْلاها. 2- أوْ لاَ. الأول: الصحيحُ لذاته3.   1 في الأصل هنا حاشية، نصّها: قوله: عدلٌ، المراد: عدل رواية لا شهادة. ق5ب. 2 وبعد أن تحدث عن تقسيم الخبر بالنظر إلى تعدد طرقه. يتحدث هنا عن تقسيم الخبر بوصفه بالصحة أو ضدها. والخبر في ذلك درجات أعلاها الصحيح لذاته، ثم الصحيح لغيره، ثم الحسن لذاته، ثم الحسن لغيره. فبدأ المؤلف أوّل ما بدأ بالصحيح لذاته. 3 مراتب الآحاد: إما أن يشتمل مِن صفات القبول على: أ - أعلاها: الصحيح لذاته. 1 ب- أوْ لا: الصحيح لغيره. 2 الحسن لذاته. 3 الحسن لغيره. 4 وهذه شجرةٌ بهذا التقسيم: الحديث المقبول: إما أن يشتمل على أعلى درجات القبول أو لا يشتمل على أعلاها. وهو الصحيح لذاته الصحيح لغيره الحسن لذاته الحسن لغيره وهو الحسن لذاته إذا هو الضعيف ضعفا تعددت طرقه على محتملا إذا انجبر ضعفه وجه يجبر بعضها بعضا بتعدد طرقه هو ما كان راويه عدلا ضابطا خف ضبطه ولم تتعدد طرقه على وجه يرتقي بها إلى درجة الصحيح لغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والثَّاني: إنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ ذلكَ القُصور ككثرة الطرق، فهو الصحيح أَيضاً1، لكنْ، لا لذاتِهِ. 3- وحيثُ لا جُبْرَانَ فهُو الحسنُ لذاتِهِ. 4- وإِنْ قامَتْ قرينةٌ ترجِّح جانبَ قبول ما يتوقف فيه فهو الحسن، أيضاً، لا لذاتِهِ. وقُدِّمَ الكَلامُ على الصَّحيحِ لذاتِهِ لعلو رتبته.   1 ولكن مع التنبه إلى أن درجة الصحة هنا تقلُّ عنها في الصحيح لذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 [ العدالة ] والمراد بالعدل1: مَنْ لهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُه على مُلازَمة التَّقوى والمُروءةِ2. والمُرادُ بالتَّقوى: اجْتِنابُ الأعمالِ السَّيِّئةِ مِن شِرْك أو فسقٍ أو بدعةٍ.   1 قلتُ: واختلفت أقوال العلماء في تعريف العدالة، ولكن، لا يصرفْك ذلك عن اتفاقهم؛ فاختلاف تعبيرهم عن العدالة، لا يعني اختلافَهُمْ في العدالة، وقُلْ كذلك بالنسبة للمروءة. ومهما قيل في التعريف فالأصل أن كل ذلك يعود إلى مَلَكَةٍ تَحْمِلُ صاحبها على الاستقامة في الأقوال والأفعال. والناس يختلفون في تصوّر المعاني، والسِّرُّ في هذا هو أن أسماء المعاني ليست كأسماء الذوات المحسوسة؛ فيحصل الخلاف في أسماء المعاني ولا يحصل في أسماء الذوات، على حدِّ ما يقول الإمام ابن تيمية، رحمه الله. 2 قوله: والمروءة ذكر جمهور فقهاء الشافعية أنها السائر بسيرة أمثاله في زمانه ومكانه. وقيل: التوقي عن الأدناس. وقيل: أن لا يعمل في السرِّ ما يستحيا منه في العلانية. وفسّرت العدالة بالملكة المانعة عن اقتراف الكبائر والصغائر الخسيسة والرذائل المباحة. والمراد عدل الرواية، لا عدل الشهادة، فلا يختص بالذَّكَرِ الحُرِّ. من حاشية الشيخ سر الحق الذرودة [أو: الذروي، غير واضحة] ، الأصل، ق 6 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 [ أقسام الضبط وتعريفها ] والضبط: أ - ضبطُ صَدْرٍ: وهُو أَنْ يُثْبِت ما سَمِعَهُ بحيثُ يتمكَّنُ من استحضاره متى شاء. ب- وضبطُ كتابٍ: وهُو صِيانَتُهُ لديهِ مُنذُ سمِعَ فيهِ وصحَّحَهُ إِلى أَنْ يُؤَدِّيَ منهُ. وقُيِّدَ بالتام إشارةً إلى الرتبةِ العُليا في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 [ تعريف الحديث المتصل ] : والمُتَّصِلُ: ما سَلِم إسنادُه مِنْ سقوطٍ فيهِ، بحيثُ يكونُ كلٌّ مِنْ رِجاله سمعَ ذلكَ المرويَّ مِن شيخه. والسند تقدَّمَ تعريفُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 [ تعريف الحديث المعلل ] : والمُعَلَّل لُغةً: ما فِيهِ عِلَّةٌ، واصطِلاحاً: ما فيه عِلَّةٌ خَفَيّةٌ قادحةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 [ تعريف الحديث الشاذ ] : والشاذُّ لُغةً: المُنفَرِدُ، واصطِلاحًا: ما يخالِف فيهِ الرَّاوي1 مَنْ هُو أرجحُ منهُ. ولهُ تفسيرٌ آخَرُ سيأتي.   1 قوله: ما يُخالِفُ فيهِ الرَّاوي مَنْ هُو أَرْجَحُ منه: المقصود ليس كل راوٍ حتى يَدْخل الضعيف، وإنما المراد الراوي المقبول الرواية؛ ولهذا كان الأَولى أن يُقَيِّد، رحمه الله، العبارة بهذا القيد حتى لا يَدْخل الضعيف في قوله الراوي. ومعلوم أن مخالفة الراوي الضعيف للثقة لا اعتبار بها. وقد تجَوَّزَ الإمام ابن حجر من هذا القيد لحظاً للشرطين السابقين: العدالة والضبط. ولَعَلَّهُ عَدَلَ إلى التعبير بقوله: أرجح منه، بدلاً من أوثق منه لِيَدْخُلَ ما ترجّح بكثرة العدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تنبيه: [حول القيود في تعريف الصحيح لذاته] : أ - قوله: وخبر الآحاد: كالجنس، 1 وباقي قُيودِهِ كالفصل2.   1 قوله: كالجنس: أَيْ: الذي يشتمل على مجموعةِ أنواعٍ. 2 قوله: الفصل: أَيْ: ما يُمَيَّزُ به أحدُ أنواعِ ذلك الجنس عن بقيةِ أنواعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ب- وقولُهُ: بِنَقْلِ عَدْلٍ: احترازٌ عَمَّا يَنْقُلُهُ غيرُ عَدْلٍ. جـ- وقوله: هُو: يُسمى فَصْلاً1 يتَوَسَّطُ بينَ المُبتَدَإِ والخَبَرِ، يُؤْذِن بأَنَّ ما بَعْدَهُ خبرٌ عَمَّا قبله، وليس بنعتٍ له. د- وقوله: لذاته: يُخرِج ما يُسمى صحيحاً بأمرٍ خارجٍ عنهُ، كما تقدم.   1 أَيْ: ضمير فصْلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 [ تفاوت مراتب الصحيح لتفاوت أوصاف الرواة ] وتتفاوت رُتَبُه، أي الصحيح، بسببِ تفاوُتِ هذه الأوصاف المقتضيةِ للتَّصحيحِ في القُوَّةِ، فإِنَّها لَمّا كانَتْ مُفيدةً لغلبةِ الظنِّ الَّذي عليهِ مدارُ الصِّحَّةِ = اقْتَضَتْ أنْ يكونَ لها درجاتٌ، بعضُها فَوْقَ بعضٍ، بحَسَبِ الأمورِ المقوِّية، وإِذا كانَ كذلك فما تكون رُوَاتُه في الدَّرجةِ العُليا مِن: العدالَةِ، والضَّبْطِ، وسائر الصفات التي توجب الترجيح = كان أصحَّ مما دونَه. فَمِن الرتبة العُلْيا في ذلك: ما أَطلق عليهِ بعضُ الأئمة أنه أصح الأسانيد1.   1 عبارةُ: أصح الأسانيد وردت عند المحدثين على معنيين: 1- وردت على معنى أصح الأسانيد مطلقاً. 2- ووردت على معنى أصح الأسانيد مقيَّدةً، كأن يقال: أصح الأسانيد عن علي، أو أصح أسانيدِ هذا الحديث. والإطلاق الثاني ليس دالاً على المرتبة العليا في الصحة، وإنما الذي يدل على المرتبة الأولى في الصحة هو الإطلاق الأول، وهو أصح الأسانيد مطلقاً. والمعتَمَدُ أن لا يقال أصح الأسانيد مطلقاً، بل يقال: من أصح الأسانيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 [ مراتب أصح الأسانيد وأمثلته ] : أ - كالزُّهْرِي، عن سالمٍ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، عن أَبيهِ. وكمحمَّدٍ بنِ سيرينَ، عن عَبِيدَةَ بن عمرو، عن علي. وكَإِبراهيمَ النَّخَعِيِّ1، عَنْ عَلْقَمَةَ، عن ابنِ مَسعودٍ. ب- ودُونَها في الرُّتبةِ: كرِوايةِ بُرَيْد بنِ عبدِ اللهِ بنِ أَبي بُرْدَةَ، عن جَدِّه، عن أبيه، أبي موسى. وكحماد بن سَلَمَة، عن ثابتٍ، عن أنس. جـ- ودُونَها في الرُّتْبَةِ: كسُهَيل بنِ أَبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة. وكالعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمن، عن أَبيهِ، عن أبي هريرة. فإن الجميع شَمَلَهم اسم "العدالة والضبط"، إلا أن المرتبة الأولى فيهم مِن الصِّفاتِ المرجِّحة ما يقتَضي تقديمَ رِوَايَتِهم على الَّتي تَليها، وفي الَّتي تليها مِن قوّةِ الضَّبْطِ ما يقتَضي تقدِيْمَهَا على الثالثة، وهي -أي الثالثة- مقدَّمةٌ على روايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ به حَسَناً: كمحمَّد بنِ إِسحاقَ، عن عاصمِ بنِ عمر، عن جابر. وعَمْرو بنِ شُعَيب، عنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وقِسْ على هذه المراتب ما يَشبهُها.   1 في حاشية الأصل، ق6أ: قوله: النخعي، بفتح النون، نسبةً إلى النخع، قبيلة من اليمن، إلى آخر الحاشية التوضيحية التي لم يتضح في التصوير بعض كلماتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والمرتبةُ الأُولى هِيَ الَّتي أَطلقَ عليها بعضُ الأئمَّةِ أَنَّها أصحُّ الأسانيدِ. والمعتَمدُ عدمُ الإطلاَقَ لترجمةٍ معيَّنةٍ منها. نعمْ يُسْتَفَاد مِن مجْموع ما أَطْلَق عليه الأئمة ذلك أَرْجَحِيَّتُهُ على ما لم يُطلقوه. ويَلْتحِقُ بهذا التفاضلِ1 ما اتَّفَقَ الشيخانِ على تَخريجِه2 بالنِّسبةِ إِلى ما انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُما، وما انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ بالنِّسبةِ إلى ما انْفَرَدَ بهِ مسلمٌ؛ لاتِّفاقِ العُلماءِ بعدِهِما على تلقِّي كتابيهما بالقبول، واختلافُ بعضهم في أيهما أرجحُ. فما اتَّفقا عليهِ أرجحُ مِنْ هذهِ الحيثيَّةِ مما لم يتفقا عليه.   1 هذا إلحاقٌ بموضوع درجات الصحيح، لا إلحاقاً بالمرتبة الأُولى. 2 في الأصل هنا حاشيةٌ، نصُّها: أَيْ: وقد رواه كل واحدٍ منهم مِن طريقٍ آخر. حاشية، 6 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 [ المفاضلة بين الصحيحين ] وقد صَرَّح الجمهورُ بتقديمِ صحيحِ البُخَارِيّ في الصحة، ولم يُوجَد عنْ أحدٍ التصريحُ بنقيضِهِ1. وأَمّا ما نُقِلَ عَن أبي عليٍّ النَّيْسابوريِّ2، أَنَّهُ قالَ: ما تحتَ أديم   1 هذا الرجحان إنما هو رجحان البُخَارِيّ في الجملة على مسلم في الجملة: وما كان على شرط البُخَارِيّ ومسلم يجب أن يُراعَى في تحديده أن يكون الرواة في السند على ترتيبهم عندهما، بالنسبة للتلاميذ والشيوخ؛ لأنهما قد يَقبلان رواية راوٍ عن شيخه ذاك، الذي جاءت روايته عندهما أو عند أحدهما، ولا يَقْبلان روايته عن شيخٍ آخر. 2 هو الحسين بن علي بن يزيد النيسابوريّ، أبو عليّ، 277-349هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 السماءِ أصحُّ مِن كتابِ مسلمٍ، فلمْ يُصرِّحْ بكونِه أصحَّ مِن صحيحِ البُخَارِيِّ؛ لأَنَّهُ إِنَّما نَفَى وجودَ كتابٍ أَصحَّ مِن كتابٍ مسلمٍ؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّما هُو ما تَقْتَضيهِ صيغةُ "أَفْعَلَ"، من زيادةِ صحةٍ في كتابٍ شاركَ كتابَ مسلمٍ في الصِّحَّةِ، يمتازُ بتلكَ الزِّيادَةِ عليه، ولم يَنْفِ المساواةَ. وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ المَغارِبَةِ أنه فَضّلَ صحيحَ مسلمٍ على صحيحِ البُخَارِيّ فذلكَ فيما يَرْجعُ إِلى حُسْن السياقِ، وجَوْدَةِ الوَضْعِ والتَّرتِيبِ، ولم يُفْصِحْ أحدٌ منهُم بأَنَّ ذلكَ راجعٌ إِلى الأصَحِّيَّة، ولو أَفْصَحوا به لردَّه عليهِمْ شاهدُ الوُجودِ1. فالصفاتُ الَّتي تدورُ عليها الصحةُ في كتابِ البُخَارِيِّ أتمُّ منها في كتابِ   1 شاهدُ الوجود: لقد أَحْسنَ الإمام ابن حجر، رحمه الله تعالى، بهذه الطريقة في الاستدلال؛ وذلك لأنّ أقوى الأدلة لإثبات الشيء حقيقةُ وجودِهِ؛ لأنها تُفنِّد أدلة إنكاره، ولذلك كان مِن حكمة الله تعالى -في باب دعوة الله لنا إلى هُدَاه- أنه دعانا إلى الإيمان به بكلِّ سبيلٍ، ومِن ذلك أنه أَرى بعْضَ عباده عمليةَ الخَلْق والإِحياء. وقد أشهدَ الله تعالى مَن أَشهَدَ مِن عباده، والإشهاد على الإيجاد، من أدلةِ وحججِ الله على العباد. وهذا يَعْني أنّ مِن المنهجية المهمة، في طريقة الوصول إلى الحق، والطريقةِ المثلى للمنافحة عن الحق، وردِّ الشبهات، الاتِّساء بهذا المنهج، سواء في طريقة العرض والإقناع، أو في طريقة المناقشة ورَدِّ الشبهات. وقد قالوا: شاهدُ العِيان يُغْني عن البيان!. وقد تعرَّض الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لهذا في كتابه الاستقامة وفي غيره، وذَكَر كلاماً جميلاً فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مسلمٍ وأَشَدُّ، وشَرْطُهُ فيها أَقوى وأَسَدُّ. أَمَّا رُجْحانه مِن حيثُ الاتصالُ: فلاشْتِراطِهِ أَنْ يكون الراوي قد ثبت له لِقَاءُ مَنْ روى عنهُ، ولو مَرَّةً، واكْتَفى مسلمٌ بمطْلَقِ المُعاصَرَةِ. وأَلزم البخاريَّ بأَنَّهُ يَحتاج أَنْ لا يَقبَل العنعنةَ أَصلاً، وما أَلْزَمَهُ به ليس بلازمٍ؛ لأن الراوي إِذا ثبتَ لهُ اللِّقاءُ مرَّةً لا يجْري في رواياته احتمالُ أن لا يكون سَمِع؛ لأنَّهُ يَلْزم مِن جَرَيَانِهِ أَنْ يكونَ مدلِّساً، والمسألة مفروضة في غير المدلِّس. وأَمَّا رُجْحانُه مِنْ حيثُ العدالةُ1 والضبطُ: فلأنَّ الرجالَ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ مسلمٍ أكثرُ عَدداً مِن الرِّجالِ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِنْ رجالِ البُخَارِيّ، معَ أَنَّ البخاريَّ لم يُكْثِرْ مِن إِخراجِ حَديثِهِمْ، بل غالبُهم مِن شيوخِهِ الذينَ أَخذ عنهُم، ومَارَسَ حَديثَهُم، بخلافِ مسلمٍ في الأمْرَينِ. وأَمَّا رُجحانُه مِن حيثُ عدمُ الشذوذِ والإعلالِ: فلأن ما انْتُقِدَ على البُخَارِيّ مِن الأحاديثِ أقلُّ عدداً مِمَّا انْتَقِدَ على مسلمٍ، هذا مع اتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البخاريَّ كانَ أجلَّ مِنْ مُسْلم في العُلومِ، وأعرفَ بصناعةِ الحَديثِ مِنهُ، وأَنَّ مُسلماً تِلْميذهُ وخِرِّيجُهُ ولم يَزَلْ يستفيدُ منه ويَتَّبع2 آثارَه، حتَّى لقد قالَ الدارقطنيُّ3: لولا البخاريُّ لما راحَ مسلمٌ ولا جاء4.   1 في الأصل ضُبِطتْ بالجرِّ، وكذا الكلمة بعدها، والصواب الرفع. 2 في بعض النسخ المطبوعة: ويتتبعُ. وهو خطأٌ؛ لأن التتبع غير الاتّباع؛ إذ معناها: التعقُّب. 3 هو عليّ بن عمر بن أحمد الدّارَقُطْنِيّ، البغدادي، أبو الحسن، 306-385هـ، يُضرب به المثل في الحفظ والإتقان في الحديث، له مصنفات في الحديث تشهد بإمامته وذكائه، وقد كَتبْتُ فيه أُطروحة للدكتوراه، ونشرتها بعنوان: الإمام أبو الحسن الدَّارَقطْنيّ وآثاره العلمية-وسقط مِن العنوان عبارة: مع دراسة تفصيلية عن كتابه السنن، جدّة، دار الأندلس الخضراء، ط. الأولى، 1421هـ-2000م. 4 ذكرها المؤلف، أيضاً، في هدْي الساري، 11، ولتقرير أصحية صحيح البخاري وتقديمه على صحيح مسلم يُنظر الفصل الثاني مِن هدْي الساري، وتدريب الراوي، للسيوطي، 88-98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 [ مراتب الصحيح بحسب مصدره ] ومِن ثَمَّ، أَيْ: ومِن هذه الحيثيَّةِ -وهي أَرجحيَّةُ شرْط البُخَارِيّ على غيره- قُدِّمَ صحيحُ البُخارِيّ على غيرِه من الكُتُبِ المصنَّفة في الحديثِ. ثم صحيحُ مسلمٍ، لمُشارَكَتِه للبُخَارِيّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تلقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ، أَيضاً، سِوى ما عُلِّل. ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ، مِن حيثُ الأَصَحِّيَّةُ، ما وافقَه شَرْطُهُما؛ لأن المراد به رواتهما معَ باقي شروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهُما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ1، فهُمْ مقدَّمون على غيرِهم في رِواياتِهم، وهذا أصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ2. فإِنْ كانَ الخبرُ على شرطهما معاً كان دونَ ما أخرجه مسلم أو مثلَه3.   1 قوله: بطريق اللزوم، هذا نوعٌ مِن أنواع الدلالة، إذْ أنّ أنواع الدلالة هي: دلالة اللزوم، ودلالة التضمن، ودلالة المطابقة، فكما قُبِلَ صحيحاهما فقد صار مِن لازمِ ذلك تعديل رواتهما، وهذا دليلٌ على أن ما كان على شرطهما يأتي بعد ما أخرجاه. 2 قوله: وهذا أصلٌ لا يُخرَج عنهُ إِلاَّ بدليلٍ، ولكن، هذا إذا جاءت الرواية عنهم بنفس الكيفية التي رَوى لهم بها الشيخان، وهي تتناول النظر إلى أمرين: الأول: مراعاة ذلك الترتيب بين التلاميذ والشيوخ الوارد في الصحيحين، أَيْ: مطابقة الرواية لروايته، بأن يكون التلاميذ هم التلاميذ، والشيوخ هم الشيوخ. الثاني: التدقيق في صفة الرواية عن هذا الراوي في الصحيحين هل جاءت على وجْه الاحتجاج به أم لا؟ إذْ لا يَصْدُقُ شرطُهما إلا على ما رويا له احتجاجاً. 3 أَيْ: في منزلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما فَيُقَدَّمُ شرطُ البُخَارِيّ وحدَه على شرطِ مسلمٍ وحْدَهُ تَبَعاً لأصلِ كلٍّ منهما. فخرج لنا مِن هذا ستةُ أقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصحة. وثَمّ قِسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً، وهذا التفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إلى الحيثية المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 [قد يُقَدَّمَ الأدنَى على ما فَوقَه لأمور خارجية] : أَمَّا لو رَجَحَ قِسْمٌ على ما هو فوقه1 بأمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ؛ إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفُوقِ مَا يَجْعله فائقاً. كما لو كان الحديثُ عندَ مسلمٍ، مثلاً، وهُو مشهورٌ قاصرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ، حَفَّتْه قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ، فإِنَّه يُقَدَّم على الحديثِ الذي يُخرجُه البُخَارِيّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً. وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يخرِّجاه مِن ترجمةٍ وُصِفت بكونِها أصحَّ الأسانيدِ، كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ، فإِنه يُقدَّم على ما انفرَدَ بهِ أَحدُهُما، مثلاً، لا سيَّما إِذا كانَ في إِسنادِهِ مَنْ فيه مقال2.   1 قوله: أَمَّا لو رَجَحَ قِسْمٌ على ما هو فوقه: الصحيحُ درجاتٌ ومراتب، ولكن هذا الترجيح إجماليٌّ؛ فليس مِنْ لازمه تفضيلُ كلِّ درجةٍ على التي بعدها مطلقاً في كلِّ حديثٍ؛ فقد يَرِدُ حديثٌ على شرط مسلم أقوى مِن حديثٍ على شرط البُخَارِيّ، وهذا لا يَنْقض القاعدة العامّة هذه. 2 قوله: مَن فيه مقال: قلت: هذا لا يعني ردَّ الرواية على كل حال؛ فقد تكون الرواية التي فيها مَنْ فيه مقالٌ مقبولةً، وقد تكون مردودة؛ وذلك بحسب نوع الكلام في الراوي ودرجته، وهل جاء مِن طُرُقٍ أُخرى أم لا؟. يُراجع هذا الموضوع في مقدّمة تحقيقي لرسالةِ: مَن تُكُلِّمَ فيه وهو مُوَثَّقٌ أو صالِحُ الحديثِ، للإمام الذهبي، تحت عنوان: "هل يُرَدُّ كل حديثٍ فيه راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 [ الحسن لذاته ] فإنْ خَفَّ الضبطُ، أي قَلَّ -يُقال: خَفَّ القومُ خُفوفاً: قَلُّوا- والمُرادُ معَ بقيَّةِ الشُّروطِ المُتقدِّمَةِ في حدِّ الصَّحيحِ = فهُو الحسنُ لذاتِهِ، لا لشيء خارجٍ، وهو الذي يكون حُسْنُه بسببِ الاعتضاد، نحو حديثُ المستُور إِذا تعَدَّدَتْ طُرُقُه1. وخَرَج باشتراطِ باقي الأوْصافِ الضعيفُ. وهذا القِسمُ مِنَ الْحَسَنِ مشاركٌ للصحيح في الاحتجاج به، وإِنْ كان دُونَهُ، ومشابِهٌ لهُ في انْقِسامِه إِلى مراتبَ بعضُها فوقَ بعض.   1 أَيْ: إذا تعددت طرقه على وجهٍ يَجْبر بعضها بعضاً. وهذا قَيْدٌ مهم؛ لأنه ليس كلُّ تعددٍ في الطرق يَجبر الرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 [ الصحيح لغيره ] وبكثرة طُرُقِه يُصَحَّحُ، وإنما نحكم لهُ بالصِّحَّةِ عندَ تعدُّدِ الطُّرُقِ، لأنَّ للصُّورةِ المجموعة قوّةً تَجْبرُ القدر الذي قَصُرَ به ضبط راوِي الحَسَنِ عن راوي الصحيحِ، ومِن ثَمَّ1 تُطْلَقُ الصحةُ على الإِسنادِ الَّذي يكونُ حسناً لذاتِه - لو تفرَّدَ - إِذا تَعَدَّدَ. وهذا حيثُ ينفردُ الوصف.   1 أَيْ: مِن هذه الحيثية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 [معنى قولهم: "حديث حسنٌ صحيحٌ"] : فإِنْ جُمِعا، أي الصحيحُ والحسنُ، في وصفٍ واحدٍ، كقولِ التِّرمذيِّ وغيرِه: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، فللتَّرَدُّدِ الحاصلِ مِن المُجتهدِ في النَّاقِلِ: هل اجتمعتْ فيهِ شُروطُ الصِّحَّةِ أَو قَصُرَ عَنْها، وهذا حَيْثُ يَحْصل منهُ التَّفرُّدُ بتلكَ الرِّوايةِ. وعُرِفَ بهذا جوابُ مَنِ استشكلَ الجمعَ بينَ الوصفينِ؛ فقالَ: الحَسَنُ قاصرٌ عنِ الصحيحِ؛ ففي الجمعِ بينَ الوَصفَيْنِ إثباتٌ لذلك القصورِ ونَفْيُهُ!. ومُحَصَّل الجواب: أنّ تردُّدَ أئمة الحديث في حالِ ناقلِهِ اقْتَضى للمُجتهدِ أَنْ لا يصفه بأحدِ الوصفين، فيُقال فيهِ: حَسَنٌ باعتبارِ وصْفِهِ عندَ قومٍ، صحيحٌ باعتبارِ وصْفِهِ عند قومٍ، وغايةُ ما فيهِ أَنَّه حُذِف منهُ حرفُ التردُّدِ؛ لأنَّ حقَّهُ أَنْ يقولَ: "حسنٌ أَو صحيحٌ"، وهذا كما حُذِفَ حَرْفَ العَطفِ مِن الذي بعده1.   1 المقصود بالذي بعده هو: ما قيل فيه: حسن صحيح، باعتبار إسنادين؛ فهو بمعنى قولِ: حسن وصحيح، لكن، حُذِف منه حرف العطف الواو. وهذا هو ما عناه المؤلف بقوله، بعد هذا: وإلا إذا لم يحصل .... وقد جاءت هنا في الأصل حاشيةٌ نصُّها: لعله أراد بالذي بعده الغريب، حيث يقول كثيراً: حسنٌ صحيح غريب، والتقدير: وغريب، فحذف حرف العطف، وهو الواو؛ فالضمير في بعده عائدٌ إلى ما ذكر مِن الجمعِ بين الوصفين؛ فتأمّلْ، ق8 أ. قلتُ: والكلام واضحٌ مِن ألفاظِ المؤلف؛ فليس هو في حاجةٍ إلى هذا التكلِّف في التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وعلى هذا فما قيلَ فيهِ: "حسنٌ صحيحٌ" دونَ ما قيلَ فيهِ صحيحٌ؛ لأنَّ الجزمَ أقوى مِن التردد، وهذا حيث التفرد1. وإلا إِذا لم يَحْصُلِ التَّفرُّدُ فإِطلاقُ الوَصفَيْنِ معاً على الحديث يكون باعتبارِ إسنادين: أحدُهما صحيحٌ، والآخر حسنٌ. وعلى هذا فما قيلَ فيهِ: "حَسَنٌ صحيحٌ" فوقَ ما قيلَ فيهِ: "صحيحٌ" فقطْ -إذا كان فرداً- لأن كثرة الطرق تقوِّي.   1 أَيْ: حيث يكون الحديث مروِيّاً بطريقٍ واحدٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 [ الحسن عند الترمذي ] فإن قيل: قد صرَّح التِّرمِذيُّ بأنَّ شَرْطَ الحَسَنِ أَنْ يُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ1؛ فكيفَ يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: "حسنٌ غَريبٌ، لا نعرِفُه إِلاَّ مِن هذا الوجه"؟. فالجواب: أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقاً، وإنما عَرَّفَ نوعاً خاصاً منهُ وَقَعَ في كتابِه، وهُو ما يقولُ فيهِ: "حسنٌ"، مِن غيرِ صفةٍ أُخرى؛ وذلك أَنَّهُ: يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: "حسنٌ". وفي بعضِها: "صحيحٌ". وفي بعضِها: "غريبٌ". وفي بعضِها: "حسنٌ صحيحٌ".   1 أَيْ: يُرْوى مِن أكثرِ مِن طريقٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وفي بعضِها: "حسنٌ غريبٌ". وفي بعضِها: "صحيحٌ غريبٌ". وفي بعضِها: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ". وتعريفُه إنما وقعَ على الأوَّلِ فقطْ، وعبارتُه تُرْشِدُ إِلى ذلك؛ حيثُ قال في آخِرِ كتابِه: وما قُلْنا في كتابِنا: "حديثٌ حَسَنٌ"، فإِنَّما أَرَدْنا به حُسْنَ إسناده عندنا: كُلُّ حديثٍ يُرْوَى، لا يكون راويه متَّهَماً بكَذِبٍ، ويُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ نحوُ ذلك، ولا يكونُ شاذّاً = فهو عندنا حديثٌ حسنٌ 1. فَعُرِفَ بهذا أَنَّهُ إِنَّما عَرَّفَ الَّذي يقولُ فيه: "حسنٌ"، فقطْ، أَمَّا ما يقولُ فيهِ: "حسنٌ صحيحٌ"، أو: "حسنٌ غريبٌ"، أو: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ"، فلم يُعَرِّجْ على تعريفِه، كما لم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقولُ فيهِ: "صحيحٌ"، فقط، أو: "غريبٌ"، فقط، وكأنه ترك ذلك استغناءً، لِشُهْرَتِه2 عندَ أَهلِ الفنِّ. واقْتصرَ على تعريفِ ما يقولُ فيهِ في كتابهِ: "حسنٌ"، فقط؛ إِمَّا لغموضه، وإمّا لأنه اصطلاحٌ جديدٌ؛ ولذلك قَيَّدَه بقوله: عندنا، ولم ينسِبْه إِلى أَهلِ الحديثِ كما فعل الخَطَّابيُّ3. وبهذا التَّقريرِ يندفعُ كثيرٌ مِن الإِيراداتِ التي طالَ البحثُ فيها، ولمْ يُسْفِر وجْهُ توجيهِها، فللهِ الحمد على ما أَلْهَم وعَلَّم.   1 شرح علل الترمذيّ، لابن رجب الحنبلي، 736-795هـ، بتحقيق نور الدين عتر، 1/340. مع اختلافٍ يسيرٍ في العبارة، والمعنى واحد. ثم بعدها فسّر معنى قوله: حديث غريب. 2 في بعض النسخ: بشهرته. 3 حَمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطّاب البُستيّ، الخطّابي، أبو سليمان، 319-388هـ، له معالم السنن، وغريب الحديث، وإصلاح غلط المحدِّثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 زيادة الثقة و أقسامها أقسامها ... [زيادة الثقة وأقسامها] وزيادةُ راويهِما، أَيْ: الصَّحيحِ والحَسنِ، مقبولةٌ1، مَا لمْ تَقَع مُنافِيَةً لروايةِ مَنْ هُو أَوْثَقُ ممَّن لم يَذْكر تلك الزِّيادةِ؛ لأنَّ الزِّيادةَ: 1 - إِمَّا أَنْ تكونَ لا تَنافِيَ بينَها وبينَ روايةِ مَن لم يَذْكُرْها؛ فهذه تُقْبَلُ مُطْلقاً؛ لأنَّها في حُكْمِ الحديثِ المُستقلِّ الذي ينفرِدُ بهِ الثِّقةُ ولا يرويه عن شيخه غيرُه. 2 - وإِمَّا أَنْ تكونَ مُنافِيةً، بحيثُ يَلْزم من قبولها ردُّ الرواية الأخرى؛ فهذه التي يَقَعُ التَّرجيحُ بينها وبينَ مُعارِضها؛ فَيُقْبَلُ الراجحُ ويُرَدُّ المرجُوحُ. واشْتُهِرَ عَنْ جمعٍ مِن العُلماءِ القولُ بقَبولِ الزِّيادةِ مُطْلقاً، مِن غيرِ تفصيلٍ، ولا يَتَأَتَّى ذلك على طريقِ المُحَدِّثينَ الَّذينَ يشتَرِطونَ في الصَّحيحِ أَنْ لا يكونَ شاذّاً، ثمَّ يُفسِّرون الشُّذوذَ بمُخالَفةِ الثِّقةِ مَن هو أوثقُ منهُ. والعَجَبُ مِمَّنْ أَغفل ذلك منهُم، معَ اعْتِرافِه باشْتِراطِ انتفاءِ الشُّذوذِ في حدِّ الحديثِ الصَّحيحِ، وكذا الحسن!.   1 زيادةُ الثقة إذا لم تكن مخالِفَةً لمن هو أوثق منه فهي مقبولة، وكذلك حالةُ المخالفة لمن هو أقل ثقة، أو لِمن هو ضعيف. أما المماثل فمتوقَّفٌ فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 [رأيُ الأئمةِ في قبول الزيادة المنافية لرواية الأوثق] : والمنقولُ عن أئمة الحديث المتقدمين: كعبد الرحمن بن مهدي1، ويحيى   1 هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان البصري، 135-198هـ، إمام مِن أئمة الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 القطانِ1، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ2، وعليّ بن المدِيني3، والبُخَارِيّ4، وأبي زُرْعَة5، وأَبي حاتمٍ6، والنَّسائيِّ7، والدَّارقطنيِّ، وغيرِهم، اعتبارُ التَّرجيحِ فيما يتعلقُ بالزِّيادةِ وغيرها، ولا يُعْرَفُ عن أحدٍ منهُم إطلاقُ قبولِ الزيادةِ. وأَعْجَبُ مِن ذلك إطلاقُ كثيرٍ مِن الشَّافعيَّةِ القولَ بقبولِ زيادةِ الثِّقةِ، معَ أَنَّ نَصَّ الشافعيِّ يدلُّ على غير ذلك، فإنه قال -في أثناء كلامه على ما يَعْتَبَرُ   1 هو يحيى بن سعيد بن فرُّوخ، أبو سعيد القطّان، البصري، 120-198هـ، مِن كبار الأئمة. 2 هو يحيى بن معين بن عون، أبو زكريا، البغدادي، ت233هـ، إمامٌ مِن أئمة الجرح والتعديل، قيل فيه: كأنما خُلِق للحديث. له: التاريخ والعلل ومعرفة الرجال. 3 هو علي بن عبد الله بن جعفر بن المديني البصري، أبو الحسن، الإمام، أعلمُ أهل عصره بالحديث وعلله، ت234هـ، له مؤلفات كثيرة. 4 هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، الجُعْفِيّ، أبو عبد الله، ت256هـ، الإمام الجَهْبَذ في الحديث وعلله، وقدوة المحدِّثين، أوّل مَن أَلّف في الحديث الصحيح مستقلاًّ، وكتابه: الجامع المسنَد الصحيح المختصر مِن أمور رسول صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه هو أصحُّ الكتب بعد كتاب الله تعالى. 5 هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازيّ، أبو زُرعة، وُلِد نحو 200، وتوفي 264هـ، مِن الأئمة المعدودين في الحديث وعلله، وفي الزهد والعبادة. 6 هو محمد بن إدريس الحنظليّ، أبو حاتم الرازيّ، 195-277هـ، إمام في الحديث والعلل. 7 هو أحمد بن شعيب بن علي بن سنان، أبو عبد الرحمن، النسائي، 225-303هـ، مِن أئمة الحديث الكبار، له: السنن الكبرى، والمجتبى، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بهِ حالُ الرَّاوي في الضَّبْطِ ما نَصُّهُ-: ويكونَ إذا شَرِكَ أَحداً مِن الحُفَّاظِ لم يخالِفْه، فإنْ خالَفَهُ فَوُجِد حديثُه أَنقصَ كانَ في ذلك دليلٌ على صحَّةِ مَخْرَجِ حديثِهِ. ومتى خالَفَ ما وَصفتُ أضَرّ ذلك بحديثه، انتهى كلامه، ومُقتَضاهُ أَنَّهُ إِذا خَالَفَ فوُجِد حديثُهُ أَزْيَدَ أَضرَّ ذلك بحديثِه، فدلَّ على أَنَّ زيادةَ العَدْلِ عندَه لا يلزَمُ قَبولُها مُطْلقاً، وإِنَّما تُقبَلُ من الحفاظ، فإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يكونَ حديثُ هذا المُخالِفِ أنقصَ مِن حديثِ مَنْ خَالفه مِنَ الحُفّاظ، وجَعَلَ نقصانَ هذا الرَّاوي مِن الحديثِ دليلاً على صحته؛ لأنه يَدُلُّ على تَحَرِّيهِ، وجَعَلَ ما عَدا ذلك مُضِرّاً بحديثِه؛ فدخلتْ فيهِ الزِّيادةُ؛ فلو كانتْ عندَه مقبولةً مُطْلقاً لم تكنْ مضِرّةً بحديثِ1 صاحبها2.   1 في الأصل أُلحِقت كلمةُ: بحديث إلحاقاً في الحاشية. 2 المخالفة وأثرها في المروي: إذا كثرت المخالفةُ عاد أثرها، كذلك، على الراوي ودلت على طعنٍ في ضبطه؛ ومعنى هذا أن هناك فرقاً بين قولنا: مخالفة الثقات، وبين قولنا: كثرة مخالفة الثقات، إذ الأُولى لا تستلزم الطعن في الراوي، بخلاف العبارة الثانية، أما الرواية فإنها تتأثر بالمخالفة مطلقاً، إذا كانت المخالفة في أمرٍ أساسٍ في الرواية، بخلاف ما لو كان في أمرٍ ثانويّ لا علاقة له بأساس الرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 [ المحفوظ والشاذ ] فإن خولف بأرجحَ منهُ: لِمَزِيد ضبطٍ، أَوْ كثرةِ عددٍ، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالرَّاجِحُ يقالُ لهُ: "المَحْفوظُ". ومقابِلُهُ، وهو المرجوحُ، يُقالُ لهُ: "الشَّاذُّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 مثال ذلك: ما رواه الترمذي1، والنسائيّ، وابنُ ماجَة2، مِن طريقِ ابنِ عُيَيْنَةَ، عن عَمْرو بن دينار، عن عَوْسَجَةَ، عن ابن عباس: "أن رجلاً تُوُفِّيَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، ولم يَدَعْ وارِثاً إِلاَّ مولىً هو أعتقه ... "3، الحديث، وتابَعَ ابنَ عُيَيْنَةَ على وَصْلِهِ ابنُ جُرَيْجٍ وغيرُهُ، وخالفَهُم حمادُ بنُ زيدٍ؛ فرواهُ عَنْ عَمْرو بنِ دينارٍ، عَن عوسجةَ. ولم يَذْكر ابنَ عباسٍ. قال أبو حاتمٍ: "المحفوظُ حديثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ". انتهى. فحمادُ بنُ زيدٍ مِن أَهلِ العدالةِ والضَّبطِ، ومعَ ذلك، رَجَّحَ أبو حاتمٍ روايةَ مَنْ هم أكثرُ عدداً منهُ. وعُرِفَ مِن هذا التقريرِ أَنَّ الشَّاذَّ: ما رواهُ المقْبولُ مُخالِفاً لِمَنْ هُو أَولى مِنهُ، وهذا هُو المُعْتَمَدُ في تعريف الشاذ، بحسَبِ الاصطلاح.   1 هو محمد بن عيسى بن سَوْرَة، الترمذيّ، أبو عيسى، 209-279هـ، أخذَ عن البخاري، إمام حافظ وَرِع، كُفَّ بصره في آخر عمره؛ لكثرة بكائه مِن خشية الله تعالى. 2 هو محمد بن يزيد بن ماجه، القزوينيّ، 209-273هـ، كان إماماً حافظاً، سَمِع منه الكبار، وصنّف التصانيف. 3 أخرجه الترمذي برقم2106، الفرائض، بلفظ: "أَنَّ رَجُلاً مَاتَ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثاً إِلا عَبْداً هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِيرَاثَهُ". قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ: إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً، أَنَّ مِيرَاثَهُ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وأخرجه أبو داود، 2905، الفرائض، بلفظ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثاً، إِلا غُلاماً لَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَهُ أَحَدٌ؟ ". قَالُوا: لا، إِلا غُلاماً لَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ؛ "فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِيرَاثَهُ لَهُ"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 المعروف والمنكر تعريفه ... [المعروف والمنكر] وإنْ وقَعَتِ المخالفة معَ الضَّعْفِ؛ فالرَّاجِحُ يُقالُ لهُ: "المَعْروفُ"، ومقابلُهُ يقال له: "المنكَر"1. مثالُه: ما رواهُ ابنُ أَبي حاتمٍ2 مِن طريقِ حُبَيِّبِ بنِ حَبِيبٍ3 -وهو أَخو حَمزَةَ بنِ حَبِيبٍ الزَّيَّاتِ المقْرئ- عن أَبي إسحاقَ عَن العَيْزَار بنِ حُرَيْثٍ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلم قالَ: "مَن أَقامَ الصَّلاةَ، وآتى الزَّكاةَ، وحَجَّ4، وصامَ، وقَرَى الضيفَ = دَخَلَ الجنَّةَ"5. قالَ أَبو حاتم: هو منكرٌ؛ لأَنَّ غيرَه مِن الثِّقاتِ رواهُ عن أبي إسحاقَ موقوفاً وهو المعروف.   1 اصطلاح المحدثين في المنكر: للمحدِّثين اصطلاح في كلمة منكر؛ فهو عندهم: 1- رواية الضعيف في مقابل الثقة. 2- رواية الضعيف ضعفاً شديداً مما سوى المتروك. 2 هو عبد الرحمن بن أبي حاتم، محمد بن أدريس التميميّ، الحنظليّ الرازيّ، أبو محمد، 240-323هـ، أخذ العلم عن أبيه وعن عمّه أبي زُرعة، وكان إماماً بحراً في العلوم، زاهداً، له مؤلفات، أشهرها كتابه: الجرح والتعديل، والعلل. 3 الضبطُ في الأصل هكذا: حَبِيبِ بن حُبَيّبٍ، والتصويب مِن المشتبه، للذهبي، 215، وغيره. 4 هذا لفظُهُ في الأصل، وفي نسخةٍ: وحج البيت. وعلى هذا الأخير جاء عند الطبراني في الكبير. 5 أخرجه ابن عدي في الكامل، 2/821، والطبراني في الكبير، 12/12692، وذكره ابن أبي حاتم في العلل، 2043، وقال: قال أبو زرعة: هذا حديثٌ منكَرٌ؛ إنما هو عن ابن عباس موقوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 [الفرقُ بين الشّاذ والمنكر] : وعُرِفَ بهذا أَنَّ بينَ الشَّاذِّ والمُنْكَرِ عُموماً وخُصوصاً مِن وجهٍ1؛ لأنَّ بينَهُما اجْتِماعاً في اشْتِراطِ المُخالفَةِ، وافتراقاً في أن الشاذَّ روايةُ2 ثقةٍ، أَوْ صَدُوْقٍ3، والمنكَر روايةُ ضعيفٍ. وقد غَفَلَ مَنْ سَوّى بينَهُما، واللهُ تعالى أعلم.   1 العموم والخصوص مِن وجْه، ويُسمَّى، أيضاً: العموم والخصوص الوجْهيّ، هو: أن يشترك لفظان، أو أكثر، في صفةٍ، ثم يفترق كلُّ واحدٍ بخصلةٍ يختص بها دون غيره، د. عتر. 2 في نسخةٍ: راويه. 3 قوله: أو صدوق، هذا على اصطلاحٍ خاصٍ للإمام ابن حجر في الصدوق. والصدوق عنده حديثه حسن، أَيْ صدوق ضابط ضبطاً خفيفاً. أما في اصطلاح المحدثين فالصدوق بمعنى العدل؛ وهذا وصفٌ لا يفيد إلا تزكية العدالة دون الضبط، وهذا لا يكفي لقبول رواية الراوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المتابعة أقسامها ... [المتابعة] وَما تقدَّم ذِكْره مِن الفَرْدِ النِّسبي، إِنْ وُجِد -بعدَ ظَنِّ كونِه فَرْداً- قد وافَقَهُ غيرُهُ فهو المتابِع بكسر الموحَّدة. والمتابَعَةُ على مراتبَ: - إِنْ حَصَلَتْ للرَّاوي نفْسِهِ فهِي التَّامَّةُ. - وإِنْ حَصَلَتْ لشيخِهِ فَمَنْ فوقَهُ فهِيَ القاصِرةُ. ويُستفاد منها التقويةُ1.   1 قوله: ويستفاد منها التقوية قلت: ولكن، هذا إذا كان المتابِع والمتابَع يَصْلح لذلك؛ لأنه قد استقر في منهج المحدِّثين أن الضعيف ضعفاً شديداً لا ينجبر بتعدد الطرق. قال ابن الصلاح: ومِن ذلك ضعفٌ لا يَزول بمجيئه مِن وجْهٍ آخر؛ لقوّة الضعف، وتقاعُدِ الجابر عن جَبْره ومقاومته، كالضعف الذي ينشأُ مِن كون الراوي متَّهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذّاً. وهذه جمْلةٌ يُدْرَك تفاصيلها بالمباشرة. قال الإمام ابن حجر، في النكت على ابن الصلاح؛ تعليقاً على هذا: أقول: لم يَذْكر للجابر ضابطاً يُعْلم منه ما يَصْلح أن يكون جابراً أو لا، والتحرير فيه أن يقال: إنه يَرْجع إلى الاحتمال في طَرَفَي القبول والردّ؛ فحيث يستوي الاحتمال فيهما فهو الذي يَصْلح لأنْ ينجبر، وحيث يَقوى جانب الردّ فهو الذي لا ينجبر. وأمّا إذا رَجَحَ جانبُ القبول فليس مِن هذا، بل ذاك في الحُسْن الذاتيّ، والله أعلم، النكت.، 1/408-409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 [ أمثلة المتابعة التامة والقاصرة ] : مثال المتابعةِ: ما رواهُ الشَّافعيُّ في "الأمِّ"، عن مالِكٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمر، أَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "الشهرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تَصوموا حتَّى تَروُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْه، فإنْ غُمَّ1 عليكم فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثين"2.   1 جاء الحديث في طبعة د. عتر بلفظ: فإن غمي عليكم، وما أَثبتُّهُ هو الوارد في الأصل ق9ب، وهو كذلك في مسند الشافعي وفي موطأ الإمام مالك. 2 ترتيب مسند الشافعي، نشر وتصحيح: السيد يوسف على الحسني، والسيد عزت العطار، 1370هـ-1951م، ط. مصورة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1/272، وهكذا هو عند مالك في الموطأ، ح643، الصيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فهذا الحديث، بهذا اللفظ، ظن قوم أن الشافعي تفرَّدَ بهِ عن مالِكٍ، فعدَّوْهُ في غرائِبِه؛ لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسنادِ بلفظِ: "فإن غُمَّ علَيْكُم فاقْدُرُوا له"1. لكنْ وجَدْنا للشَّافعيَّ متابِعاً، وهو عبدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ2، كذلك أَخرجَهُ البُخَارِيّ عنهُ، عن مالك3، وهذه متابَعَةٌ تامة. ووَجَدْنا لهُ، أَيضاً، متابَعَةً قاصِرَةً في صحيحِ ابنِ خُزَيمَةَ مِن روايةِ عاصمِ بنِ محمدٍ، عن أبيه -محمد بن زيدٍ- عن جدِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، بلفظِ: "فكملوا ثلاثين"4، وفي صحيح مسلم مِن روايةِ عُبَيْد اللهِ بنِ عُمَر، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ، بلفظِ: "فاقْدُرُوا ثلاثينَ"5. ولا اقْتِصارَ في هذه المُتَابَعَةِ -سواءٌ كانتْ تامَّةً أمْ قاصِرة- على اللَّفْظِ، بل لو جاءت بالمعنى كفى، لكنَّها مختصةٌ بكونِها مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ.   1 تُنْظر الحاشية السابقة. 2 كان عبد الله هذا من المتقنين، وكان يحيى بن معين لا يُقدِّم عليه في مالك أحداً. 3 البخاري، 1906، الصوم. 4 صحيح ابن خزيمة، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي، ط. الأُولى، 1395هـ-1975م، 3/202، وهو فيه: " ... فإنْ غم عليكم فأكملوا ثلاثين". 5 صحيح مسلم، ح1080، الصيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 [ الشاهد ومثاله ] وإنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُرْوَى مِن حديثِ صحابيٍّ آخَرَ يَشْبَهُهُ في اللَّفظِ والمعنى، أَو في المعنى فقطْ = فهُو "الشَّاهِدُ". ومثالُه في الحديثِ الَّذي قدَّمناهُ: ما رواهُ النَّسائيُّ1 مِن روايةِ محمد بن حُنَين، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ فذَكَرَ مثلَ حديثِ عبد اللهِ بنِ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ سَواءٌ، فهذا باللَّفظِ. وأَمَّا بالمَعْنى فهو ما رواهُ البُخَارِيّ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ زيادٍ، عن أَبي هُريرةَ، بلفظِ: "فإن غُمِّيَ عليكم فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شعْبانَ ثلاثين"2. وخَصَّ قومٌ المتابعةَ بما حَصَلَ باللَّفظِ، سواءٌ كانَ مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ أَم لا، والشاهدَ بما حصلَ بالمَعنى كذلك. وقد تُطْلَقُ المتابعةُ على الشاهدِ، وبالعكسِ، والأمرُ فيهِ سهلٌ3.   1 في سننه برقم 2125، الصيام. 2 البخاري، 1909، الصوم، بلفظ: "فإِنْ غُبِّيَ .... ". 3 قوله: والأمر فيه سهلٌ؛ لأن التقوية حاصلةٌ بهما كِلَيْهما، ولا مشاحة في الاصطلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 [ الاعتبار ] واعْلم أَنَّ تَتَبُّعَ الطُرُقِ: مِن الجوامعِ1، والمسانيدِ، والأَجْزَاءِ، لذلك الحديثِ الذي يُظَنُّ أَنَّه فَرْدٌ؛ ليُعْلَمَ: هل لهُ متابِعٌ أَم لا؟ هُو "الاعتبارُ". وقولُ ابن الصلاح: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد قد يُوهِم أن   1 الجوامع جَمْع جامعٍ، وهو اسمٌ يُطلق على كتاب الحديث المرتّبة فيه الأحاديث على الأبواب، ويَشمل كل الأبواب، غير مقتصرٍ على بعضها، كصحيح البخاري وصحيح مسلمٍ المسنَد الصحيح المختصر مِن السنن، بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف كتاب السنن، مثلاً الذي يُقتَصرُ فيه على أحاديث الأحكام، غالباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الاعتبارَ قَسِيمٌ لهُما1، وليسَ كذلك، بل هُو هيئةُ التوصُّلِ إِليهِما. وجَميعُ ما تقدَّمَ مِن أقسام المقبولِ تَحْصُلُ فائدةُ تقسيمِهِ باعتبارِ مراتبه عند المعارضة2، والله أعلم.   1 أي: يُوهِم أنه قسمٌ مقابلٌ للمتابعات والشواهد، متمم لهما. 2 في قوله: وجميع ما تقدم من أقسام المقبول ... إلخ، قلتُ: لكن، ينبغي التنبُّهُ هنا إلى أنَّ مجرد حصول المعارضة في الظاهر ليس مسوِّغاً لأخذِ الأقوى وردِّ القوي؛ لأن الحديث إما أن يَثبتَ؛ فيجب الأخذ به، أو لا يَثبتَ؛ فيجب عدمُ الاحتجاج بمفرده، وفَهْم الأدلةِ والجمْع بينها بابٌ آخر، وهو مِن الأهمية بمكانٍ. والقاعدة الثابتة في هذا الباب هي: أنّ التعارض الحقيقيّ لا يَقع بين الآيات والآيات، ولا بين الأحاديث الثابتة والآيات، ولا بين الأحاديث والأحاديث الثابتة بحالٍ، وهذه قاعدة كان ينبغي أن يُشير إليها المؤلف -رحمه الله- هنا، وأن يؤكِّد عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المُحْكَم تعريفه ... [المُحْكَم] ثمَّ المقبولُ: ينقسِمُ، أَيضاً، إلى معمولٍ بهِ وغيرِ معمولٍ بهِ؛ لأنَّهُ إنْ سَلِم مِنَ المُعارَضَةِ، أَيْ: لم يأتِ خَبَرٌ يُضَادُّهُ، فهُوَ "المُحْكم"، وأَمثلتُه كثيرةٌ. وإنْ عُورِضَ فلا يَخْلو: إما أنْ يكونَ مُعارِضُه مقبولاً مثلَه، أَو يكونَ مَردوداً. فالثَّاني لا أثر له لأن القوي لا يؤثر فيه مخالفةُ الضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 مختلف الحديث، وطُرق دفَعِ التعارض بين الحديثين المتعارضين في الظاهر تعريفه ومثاله ... [مختلف الحديث، وطُرق دفَعِ التعارض بين الحديثين المتعارضين في الظاهر] وإن كانت المعارضة بمثله؛ فلا يَخْلو: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بين مدلولَيْهِما بغيرِ تعسُّفٍ، أو لا، فإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فهو النَّوعُ المسمَّى: مختَلِفَ الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ومَثَّلَ لهُ ابنُ الصَّلاحِ بحديثِ: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ"1، مع حديثِ: "فِرَّ مِنَ المَجْذُوم فِرارَكَ مِنَ الأسَدِ"2 وكلاهُما في الصَّحيحِ وظاهِرُهما التَّعارُضُ. ووجْه الجمعِ بينَهُما: أَنَّ هذهِ الأمراضَ لا تُعْدِي بطبعها3، لكنّ الله سبحانه وتعالى جعلَ مخالَطَةَ المريضِ بها للصَّحيحِ سبباً لإعدائِهِ مَرَضَه، ثمَّ قد يتخلَّفُ ذلك عن سبَبِه4 كما في غيرِهِ من الأسبابِ. كذا جَمَعَ بينهما ابن   1 أخرجه البخاري، عن عددٍ مِن الصحابة، في كتاب الطب في عدة مواضع، هي: الأحاديث: 5753، 5756، 5757، 5772، 5776. وقال في موضعٍ مِن كتاب الطب: بَاب الْجُذَامِ وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ"، فجمع بينهما. وأخرجه مسلم، 2220، السلام، و2222، و2224، 2223، 2225. 2 تُنْظَر الحاشية السابقة، وأخرجه أحمد، 9720، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ". وأخرج البخاري في صحيحه، 5771، الطب، بلفظ: لا يُورَدْ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ، و5775، الطب، بلفظ: لا تُورِدوا المُمْرِضَ على المُصِحِّ، وبهذا اللفظ أخرجه مسلم، 2221، السلام. 3 تعليق على الجمع بين الحديثين: هذا الجمع ليس هو الذي يقتضيه المنهج؛ ولهذا نقول: بل الصحيح هو أن المنفي في الحديث هو ما كان سائداً في الجاهلية مِن تخيُّلِ طبيعةِ انتقالِ العدوى بغير سببٍ صحيحٍ: مِن أسباب انتقال الأمراض المعدية التي يثبتها الشرع والعقل. 4 قوله: ثم قد يتخلف ذلك عن سببه: وهذا صحيح، وذلك لأسبابٍ أخرى أقوى، أو موانع، وليس إبطالاً لإثبات الأسباب الحاصلة شرعاً وواقعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الصلاح، تَبَعاً لغيره1. والأَولى في الجمع أنْ يُقال: إنَّ نَفْيَه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للعَْدوى باقٍ على عُمومه2، وقد صحَّ قولُهُ صلى الله عليه وسلَّمَ: "لا يُعْدِي شيءٌ شَيئاً"3، وقولُهُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ لِمَن عارَضَهُ بأَنَّ البعيرَ الأجربَ يكونُ في الإِبلِ الصَّحيحةِ فيخالِطها فتَجْربُ، حيثُ رَدَّ عليهِ بقولِه: "فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ؟! "4. يعني أَنَّ الله سبحانه وتعالى ابتدأ بذلك في الثاني   1 قد ذَكر الحافظ ابن حجر، رحمه الله، في فتح الباري بشرح صحيح البخاري أقوال الأئمة في تفسير هذا الحديث بالتفصيل في 10/159-163، ولم يُرجِّح بين أقوالهم المتعددة، سِوى أنه رَدّ فكرة الترجيح بينه وبين حديث: "وفِرّ مِن المجذوم كما تفرُّ مِن الأسد، ولا يوردنّ ممرِضٌ على مُصِحّ"، وقال: طريق الترجيح لا يُصار إليه إلا مع تعذُّر الجمع، وهو ممكِنٌ، 10/159. وأقواله الآتية في تفسير هذا الحديث لم تَخرج عن تلك الأقوال التي نقلها في الفتح. 2 وقوله: والأَولى " ... لا يُعْدي شيءٌ شيئاً". يقال فيه: بل هذا الجمع لا يصح أن يُفسَّر به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلاً أن يكون هو الأَولى. والمعنى الظاهر في حديثٍ، لا يصح أن يُتْرَك إلا لحديثٍ آخر. 3 أخرجه الترمذي، 2143، القَدَر، وأحمد، 4186. 4 لفظه عند أحمد: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئا"ً؛ فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ النُّقْبَةُ مِنَ الْجَرَبِ تَكُونُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ أَوْ بِذَنَبِهِ فِي الإِبِلِ الْعَظِيمَةِ؛ فَتَجْرَبُ كُلُّهَا!. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَمَا أَجْرَبَ الأَوَّلَ؟!. "لا عَدْوَى وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ، خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ فَكَتَبَ حَيَاتَهَا وَمُصِيبَاتِهَا وَرِزْقَهَا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كما ابتدأه1 في الأول2. وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمِن بابِ سدِّ الذَّرائعِ، لئلاَّ يَتَّفِقَ للشَّخْصِ الذي يخالِطه شيءٌ من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً، لا بالعَدْوى المَنْفِيَّة3؛ فَيَظُنّ أَنَّ ذلك بسببِ مُخالطتِه4؛ فَيَعْتَقِدَ صحةَ العدْوى؛ فيقعَ في الحرجِ5؛ فأَمر بتجنُّبِه حَسْماً للمادَّةِ. والله أعلم.   1 في نسخةٍ: ابتدأ. 2 البخاري، 5717، و5771، و5775، الطب، ومسلم، 2220، السلام. 3 وقوله: من ذلك بتقدير الله ابتداء، لا بالعدوى المنفية. هذا ليس بسديد. ويُقال فيه: ومَن قال: إنَّ تقدير الله تعالى منافٍ للعدوى أو أنّ العدوى منافية لقدَرِ الله؟!. 4 قوله: فيظن أن ذلك بسبب مخالطته. هذا هو الواقع أنه بسبب المخالطة، وهو في الوقت نفسه بقدر الله، فلماذا إقامة هذا التعارض بينهما؟! وبأيّ دليل؟!. 5 وقوله: فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج. هذا، أيضاً، ليس بسديد. ويقال فيه: ومَن قال إن اعتقاد صحة العدوى، التي أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه حرج؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 [الكتب المؤلفة في مختَلِف الحديث] : وقد صَنَّفَ في هذا النوع الشافعيُّ كتابَ "اختِلافِ الحديثِ"1، لكنَّهُ لم يَقْصِدِ استيعابه، وصَنَّفَ فيه بعده ابنُ قُتَيْبَةَ2،   1 وهو كتابٌ نفيسٌ، يَدلُّ على فقْه هذا الإمام، رحمه الله تعالى. وقد طُبِع الكتاب طبعةً سيئةً، يَكْثر فيها الأخطاء المطبعية، تحقيق عامر أحمد حيدر، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، 1405هـ/1985هـ. 2 عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو محمد، 213-276هـ، له كتاب: تأويل مُخْتَلِف الحديث، بيروت، المكتب الإسلامي، بتحقيق محمد محيي الدين الأصفر. وهو كتابٌ مفيدٌ، وعليه بعض المؤاخذات في عددٍ مِن أجوبته عن بعض الاستشكالات في دلالة الأحاديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 والطّحاوِيُّ1، وَغَيْرُهما. وإِنْ لم يُمْكن الجمعُ فلا يخْلو: إِمَّا أَنْ يُعْرَف التَّاريخُ، أوْ لاَ، فإنْ عُرِفَ وثَبَتَ المُتَأَخِّرُ -بهِ2، أَو بأَصرحَ منه- فهو الناسخ، والآخَرُ المنسوخ3.   1 هو أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، 239-321هـ، له مِن المؤلفات في هذا الباب: شرح معاني الآثار، وشرح مشكل الآثار، وقد طُبِع هذا الأخير في 16 مجلداً، بالفهارس، بتحقيق شعيب الأرناوُوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط. الأُولى، 1415هـ-1994م. على أنّ هناك اختلافاً بين هذه التسمية للكتاب، وبين التسمية الواردة في مخطوطاته. 2 أَيْ: بالتاريخ. 3 في قوله: فإن عُرِف، وثبت المتأخر، به، أو بأصرح منه، فهو الناسخ، والآخِر المنسوخ، أقول: ليس مجرد التقدم والتأخر نسخاً، بل إنما يكون نسخاً إذا كان النسخ مُراداً بورود دليلِ الشرع على إرادة النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 النَّسْخ وعلاماته تعريفه وبما يعرف ... [النَّسْخ وعلاماته] والنَّسْخُ: رَفْعُ تَعَلُّقِ حُكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخرٍ عنه. والناسخ: ما دل على الرفع المذكور. وتسميته ناسخاً مجاز؛ لأنَّ النَّاسخَ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى. ويُعْرَفُ النسخُ بأُمورٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 1- أصْرَحُها ما ورَدَ في النَّصِّ، كحديثِ بُرَيْدَة في صحيحِ مسلمٍ: "كنتُ نَهيتُكم عن زِيارةِ القبورِ، فَزُورُوها فإنها تُذَكِّرُ الآخرة"1. 2- ومِنها ما يَجْزِمُ الصَّحابيُّ بأَنَّه متَأَخِّرٌ2، كقولِ جابرٍ: "كانَ آخرُ الأَمْرين مِن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ تركَ الوضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ "3، أَخرَجَهُ أَصحابُ السُّننِ. 3- ومِنْها ما يُعْرَفُ بالتَّاريخِ، وهُو كَثيرٌ. - وليسَ مِنْها مَا يَرويهِ الصَّحابيُّ المُتأَخِّرُ الإسلام معارِضاً لمتقدمٍ عنه؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ سَمِعه مِن صحابيٍّ آخَرَ أقْدَمَ من المتقدم المذكور، أو مِثْلِه فأَرْسَلَهُ، لكنْ إِنْ وَقَعَ التَّصريحُ بسماعِه لهُ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيتَّجِهُ أَنْ يكونَ ناسِخاً، بشرطِ أنْ يكونَ لم يتحملْ عن4 النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قبل إسلامه.   1 مسلم، 1977، الأضاحي، و977، الجنائز. وليس عند مسلمٍ: فإنها تُذَكِّرُ الآخرة، واللفظ عنده: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ... "، الحديث. وفي لفظٍ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ .... ". 2 قوله: ومنها ما يجزم الصحابي بأنه متأخر ... ، هذا ليس على إطلاقه، ولكن، مِن شرط ذلك، في باب النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون هذا مِن الصحابي على وجهٍ يريد به بيان النسخ. وقد يحصل مجرد الإخبار بالمتقدم والمتأخر ولا نسخ. وقد يُخْبِرُ الصحابي بالنسخ، لكن على رأيه، اجتهاداً، لا نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب التفريق بين الأمرين. 3 أبو داود، 192، الطهارة، والنسائي، 185، الطهارة، وانظر الترمذي، 80، الطهارة. 4 في بعض النسخ: يتحمل من، والصحيح ما أثبتُّه، كما في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأَمَّا الإِجماعُ فليسَ بناسخٍ، بل يَدُلّ على ذلك1. وإن لم يُعْرَف التاريخُ فلا يخلو: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ ترجيحُ أَحدِهِما على الآخَرِ، بوجهٍ مِن وجوهِ التَّرجيحِ المُتعلِّقَةِ بالمتْنِ، أَو بالإِسنادِ، أوْ لاَ. فإنْ أَمكن الترجيحُ تَعَيَّن المصيرُ إِليهِ، وإِلاَّ فلا. فصارَ ما ظاهِرُهُ التَّعارُضُ واقِعاً على هذا التَّرتيبِ: 1- الجَمْعُ إِنْ أَمكَنَ. 2- فاعْتبارُ النَّاسِخِ والمَنْسوخِ. 3- فالتَّرْجيحُ إنْ تَعَيّن. 4- ثمَّ التوقُّفُ عنِ العَمَلِ بأَحَدِ الحديثين2. والتَّعبيرُ بالتوقُّفِ أَولى مِن التَّعبيرِ بالتَّساقُطِ؛ لأَنَّ خفاءَ ترجيحِ أحدِهما على الآخَرِ إِنَّما هُو بالنسبة لِلمُعْتَبِرِ في الحالةِ الرَّاهنةِ، معَ احتمالِ أَنْ يَظْهر لغيرِهِ ما خَفِيَ عليهِ. واللهُ أعلمُ.   1 أورد ابن رجب عدداً مِن الأحاديث اتفق العلماء على عدم العمل بها، انظرها في شرحه لعلل الترمذيّ، 1/9، فما بعدها. وهذا ليس دليلاً على ترك العمل بالحديث الثابت عنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وإنما هو عملٌ بما أدى إليه الدليل بعد النظر في الأدلة الواردة في الباب. 2 مراده: التوقف عن العمل بأيٍّ مِن الحديثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المردود وأقسامه موجب الرد ... [المردود وأقسامه] ثم المردود1: ومُوجِبُ الردِّ: إِمَّا أَنْ يكونَ لسقطٍ مِن إسنادٍ، أو طعنٍ في راوٍ، 2 على اختلافِ وُجوهِ الطَّعْنِ 1، أعمُّ مِن أَنْ يكونَ لأمرٍ يرجِعُ إِلى ديانةِ الراوي، أو إلى ضبطه.   1 بعد أن انتهى المصنّف، رحمه الله تعالى، من المقبول، وترتيب درجاته، انتقل هنا إلى المردود. 2 هذا يضاف إليه: أو إلى طعنٍ فيهما معاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 [ المردود للسقط ] فالسَّقْطُ إِمَّا أَنْ يَكونَ: 1- مِن مَبادئ السَّنَدِ مِن تَصَرُّفِ مُصَنِّفٍ. 2- أو مِن آخِرِهِ، أي الإِسنادِ، بعدَ التَّابعيِّ. 3- أو غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 [المُعَلَّق] فالأول1: المُعَلَّق، سواءٌ كان الساقطُ واحداً، أم أكثر.   1 انظرْه، هو وما بعْده، بحسبِ الترقيم الذي مَرَّ آنفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 [ الفرق بين المعلق والمعضل ] : وَبَيْنَهُ وبين المُعْضَل، الآتي ذكْره، عمُومٌ وخصوصٌ مِن وجهٍ: فَمِن حيث تعريفُ المُعْضَل بأنه: سقط منهُ اثنانِ فصاعِداً؛ يجتَمِعُ معَ بعضِ صورِ المُعَلَّق، ومِن حيثُ تَقْييدُ المُعَلَّق بأَنَّه مِن تَصرُّف مصنِّفٍ مِن مبادئِ السَّنَدِ يَفْترقُ منهُ؛ إذ هو أعمُّ من ذلك. ومِن صُوَرِ المُعَلَّق: أَنْ يُحْذَفَ جميعُ السَّندِ ويُقالَ مثلاً: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومنها: أن يَحْذِفَ إلا الصحابي، أو إلا التابعي والصحابي معاً. ومنها: أَنْ يَحْذِفَ مَنْ حَدَّثَه، ويُضِيفَه إلى مَن هو فَوْقه. فإِنْ كانَ مَنْ فوقَه شيخاً لذلك المصنِّف فقد اخْتُلِفَ فِيْهِ: هل يُسَمّى تعليقاً، أَوْ لاَ؟، والصَّحيحُ في هذا: التفصيلُ1؛ فإِنْ عُرِفَ بالنص أو الاستقراء أنَّ فاعلَ ذلك مُدَلِّسٌ قُضِيَ بهِ، وإِلاَّ فتعليقٌ. وإِنَّما ذُكِرَ التَّعليقُ في قِسْمِ المردودِ للجَهْلِ بحالِ المحذوفِ2.   1 لأن الصورة مترددة بين التعليق والتدليس. وتُراجَع: رسالة ابن حجر: تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس. 2 فائدة: رَدُّ روايةِ المجهول ليس لطعنٍ في عدالته، أو ضبطه، أو في ثقته، ولكن لعدم ثبوت ثقته، إِذْ ثبوت الثقة شرطٌ لقبول روايته. وكذلك المعلَّق مردود لعدم المعرفة بحال مَن حُذف مِن رواته. فمعنى ذلك أن حكم المعلَّق الرد حتى يتبين وصله بسندٍ صحيحٍ، وتتوافر بقية الشروط، وهذا الحكم خاصٌّ بما لم يَرِد من المعلق في كتابٍ اشتُرِطتْ صحته، كالصحيحين، لأنّ ذلك له حكمٌ خاصٌّ. ويراجع هدي الساري، الفصل الرابع منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 [قد يكون المعلقُ صحيحاً] : وقد يُحْكَمُ بصحَّتِهِ إنْ عُرِفَ، بأَنْ يجيءَ مُسَمّىً مِن وجهٍ آخَرَ. فإِنْ قالَ: جميعُ مَن أَحْذِفُهُ ثِقَاتٌ، جاءتْ مَسْأَلَةُ التَّعديلِ على الإِبهامِ1، والجمهور: لا يُقْبَلُ حتى يُسَمَّى2.   1 وهو أن يقول: حدثني الثقة، أو مَن أثق به. 2 والحق أنه يُقْبل في حق مَنْ يُقَلِّدُهُ. أما مطلقاً فالصحيح أنه لا يقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لكنْ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ هنا: إِنْ وَقَعَ الحَذْفُ في كتابٍ اُلْتُزِمَتْ صِحَّتُه، كالبُخَارِيّ، فما أتَى فيه بالجَزْمِ دلَّ على أَنَّه ثَبتَ إسنادُه عِندَه، وإِنَّما حُذِفَ لغرضٍ مِنَ الأَغْراضِ، ومَا أَتى فيهِ بغيرِ الجَزْمِ ففيهِ مقالٌ1، وقد أوضَحْتُ أمثلةَ ذلك في النُّكَتِ على ابن الصلاح2.   1 قوله: ومَا أَتى فيهِ بغيرِ الجَزْمِ ففيهِ مقالٌ، قلتُ: الصواب أن هذا ليس كذلك على كل حال، على ما أَوضحه هو، رحمه الله تعالى، في هدْي الساري ... ، وفي النكت على ابن الصلاح، 2/323-332؛ لأن هذه الصيغة لا تكون تضعيفاً، وإنما ليس فيها الجزمُ بالرواية المقتضي الصحةَ. فما أتى بصيغة التمريض فالصحيح أنه بمجردها لا يكون تضعيفاً، وإنما ليس فيها الجزم بالرواية، فالمعلق بغيرِ جزمٍ عند البُخَارِيّ: منه الصحيح ومنه الحسن، ومنه الضعيف، ومن الضعيف ما ضعفه البُخَارِيّ نفسه كحديث سلمة بن الأكوع: مرفوعاً قال: يَزُرُّه ولو بشوكةٍ. قال أبو عبد الله: في إسناده نظرٌ، ثم الصحيح منه ما هو على شرط البُخَارِيّ، ومنه ما ليس على شرط البُخَارِيّ. 2 ذَكَر ذلك ضِمْن كلامه في النوع الحادي عشر: المعضل، 2/575-613. وقد أوضحَ فيه أوْجُهَ تعليقات البخاري في: 599-600. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 [المُرْسَل ومثاله] والثَّاني: وهو ما سَقَطَ مِن آخِرِهِ مَنْ بَعد التابعي1، هو "المرسل".   1 أَيْ: مِن جهة النبي صلى الله عليه وسلم. والإرسال: روايةُ الحديث بصيغة الإرسال. والمرسِل: الذي فَعَلَ الإرسال، بأن روى الحديث مرسلاً. والمرسَل: الحديث الذي حصل فيه الإرسال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وصورتُهُ: أَنْ يقولَ التابعيُّ -سواءٌ كانَ كبيراً أم صغيراً1-: قالَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كذا، أو فعَلَ كذا، أو فُعِلَ بحضرته كذا، ونحو ذلك. وإنما ذُكِرَ في قِسْم المردود للجهل بحالِ المحذوفِ؛ لأَنَّه يُحتمل أَنْ يكونَ صحابيّاً، ويُحتمل أَنْ يكونَ تابعيّاً. وعلى الثَّاني يُحتمل أَنْ يكونَ ضَعيفاً، ويُحتمل أَنْ يكونَ ثقةً، وعلى الثَّاني2 يُحتمل أَنْ يكونَ حَمَل عن صحابيٍّ، ويُحتمل أَنْ يكونَ حَمَل عن تابعيٍّ آخَرَ، وعلى الثَّاني فيعودُ الاحتمالُ السابقُ، ويَتعدد. أَمَّا بالتَّجويزِ العقليِّ فإِلى ما لا نهايةَ لهُ، وأَمَّا بالاستقراءِ فإِلى ستةٍ أَو سبعةٍ، وهو أكثرُ ما وُجِدَ مِن روايةِ بعضِ التابعين عن بعض.   1 التابعي الكبير هو الذي يروي عن كبار الصحابة، وهذا يكون أغلب رواياته عن الصحابة. أمّا التابعي الصغير فهو الذي يروي عن صغار الصحابة، وهم الذين تأخرت وفاتهم، وهذا يكون أغلب رواياته عن التابعين. 2 أَيْ: على احتمالِ أن يكون ثقةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 [ حكم المرسل ] : فإنْ عُرِفَ مِن عادةِ التَّابعيِّ أَنَّه لا يُرْسِل إلا عن ثقةٍ، فذهب جمهور المحُدِّثينَ إِلى التوقُّفِ؛ لبقاءِ الاحتمالِ، وهُو أحَدُ قَوْلَي أَحمدَ، وثانيهِما- وهُو قولُ المالكيِّين والكوفيِّينَ-: يُقْبَلُ مطلقاً، وقال الشافعي: يُقْبَلُ إِنِ اعْتَضَد بمجيئِهِ مِن وجهٍ آخرَ يُبايِنُ الطريقَ الأُولى1، مسنَداً أو مرسَلاً، لِيَرْجَحَ   1 يُبَايِنُ الطريق الأُولى، أَيْ: يَسْتَقِلُّ عنها؛ فلا يَعْتَمِدُ عليها في بعض السند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 احتمالُ كونِ المحذوفِ ثقةً في نفسِ الأمرِ. ونَقل أَبو بكرٍ الرَّازيُّ1 مِن الحنفيَّةِ، وأبو الوليدِ الباجِيُّ2 مِن المالِكيَّةِ: أَنَّ الرَّاويَ إِذا كانَ يُرْسِل عنِ الثِّقاتِ وغيرِهم لا يُقْبَلُ مُرْسَلُه اتّفاقاً.   1 هو أحمد بن علي، الجصّاص، 305-370هـ، له مؤلفات كثيرة، مِن أهمها: أحكام القرآن. 2 هو سليمان بن خلف الباجي، الأندلسي المالكي المذهب، 403-474هـ، له مؤلفات، منها: شرح الموطأ، والتعديل والتجريح لمن خَرَّج له البخاري في الجامع الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والقِسْمُ الثَّالِثُ مِن أَقسامِ السَّقْطِ مِن الإِسنادِ: [ المعضل ] إِنْ كانَ باثنَيْنِ فصاعِداً، مَعَ التَّوالي، فهو "المُعْضَل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 [ المنقطع ] وإلا، فإنْ كان الساقط1 باثنين2 غير متواليين، في موضعين مثلاً، فهُو المُنْقَطِعُ، وكذا إِنْ سَقَط واحدٌ، فقط، أو أكثر من اثنين، لكن، 3 يُشْتَرَطُ4 عدم التوالي.   1 في نسخةٍ: السقط. 2 في حاشية الأصل هنا: فائدةٌ: مثاله: قول الحسن البصري: حدثنا ابن عباس على منبر البصرة. فإنه لم يسمع مِن ابن عباس. وكذلك قول: ثابت البناني. ولم أهتدِ إلى تحديد موضع هذه الحاشية مِن هذه الصفحة بالضبط، لكنها في ق 12أ. 3 في نسخةٍ: لكنه. 4 في نسخةٍ: بشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 [ أقسام السقط ] ثمَّ إِنَّ السَّقْط مِن الإِسنادِ قدْ: 1- يكونُ واضحاً يَحْصل الاشتراك في معرفَتِه، ككَوْنِ الرَّاوي، مثلاً، لم يعاصِرْ مَنْ رَوى عنهُ. 2- أَوْ يكونُ خَفِيّاً فلا يُدْرِكه إِلاَّ الأئمَّةُ الْحُذّاقُ المطَّلِعون على طرقِ الحديث وعِلل الأسانيدِ. فالأَوَّلُ: وهُو الواضحُ، يُدْرَكُ بعَدمِ التَّلاقي بينَ الرَّاوِي وشيخِه، بكونِه لمْ يُدْرِكْ عَصْرَه، أو أدركه لكن1، لم يجْتَمِعا، وليستْ لهُ منهُ إجازةٌ، ولا وِجَادة. ومِنْ ثَم، احْتِيْجَ إِلى التَّاريخِ؛ لِتَضَمُّنِهِ تحريرَ مواليدِ الرواةِ ووفِيّاتِهم، وأوقاتِ طَلَبِهِم وارْتِحالِهم. وقد افْتَضَح أقوامٌ ادَّعَوْا الرِّوايةَ عن شيوخٍ ظهرَ بالتاريخ كذِبُ دعواهم2   1 في نسخةٍ: لكنهما. 2 قال سفيان الثوري: لَمّا استعمل الرواةُ الكذبَ استعملنا لهم التأريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 [المُدَلَّس] والقِسْم الثَّانِي: وهو الخَفِيُّ: المُدَلَّس -بفتحِ اللاَّمِ- سُمِّيَ بذلك لكونِ الرَّاوي لم يُسَمِّ مَنْ حَدَّثَهُ، وأَوْهَمَ سماعَه للحَديثِ ممَّنْ لم يحدِّثْه بهِ. واشتقاقُه مِن الدَّلَسِ بالتَّحريكِ، وهو اختلاطُ الظلام1، سُمِّيَ بذلك لاشتراكهما في الخَفَاءِ.   1 في نسخةٍ: اختلاط الظلام بالنور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ويَرِدُ المُدَلَّسُ بصيغةٍ مِن صِيَغ الأداءِ تَحْتَمِلُ وقوع اللُّقيّ بين المُدلِّس ومَنْ أَسنَد عنه، كـ "عن"، وَكذا "قَاَلَ". ومتى وقَعَ بصيغةٍ صريحةٍ لا تَجَوُّزَ فيها كان كَذِباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 [حكم رواية المُدَلِّس] : وحُكم مَنْ ثبتَ عنهُ التَّدليسُ-إِذا كانَ عَدْلاً-: أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إِلاَّ ما صَرَّح فيه بالتحديث، على الأصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 [المُرْسَل الخفيّ] وكَذا المرسَلُ الخَفِيُّ، إِذا صَدَرَ مِنْ معاصرٍ1 لَمْ يَلْقَ مَنْ حدَّث عنهُ، بل بينَه وبينه واسطةٌ.   1 أَيْ: في أَيِّ موضعٍ مِن السند؛ ف المرسل الخفي ّ لا يُشترطُ له موضعٌ في السند؛ بخلاف المرسل الظاهر الذي هو قول التابعيّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّ هذا هو موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 [الفرق بين المُدَلَّس والمُرْسَل الخفي] والفَرْقُ بينَ المُدَلَّس والمُرْسَل الخفيِّ دقيقٌ، حَصَل تحريرُه بما ذُكِر هنا: وهو أَنَّ التَّدليسَ يَختص بمن روى عمّن عُرِفَ لقاؤه إياه. فأَمَّا إِن عاصَرَهُ، ولم يُعْرَفْ أَنَّه لقِيَهُ، فَهُو المُرْسَل الخَفِيُّ. ومَنْ أَدْخَلَ في تعريفِ التَّدليسِ المعاصَرَةَ ولو بغيرِ لُقِيٍّ، لَزِمَهُ دخولُ المرسَل الخفيِّ في تعريفِهِ. والصَّوابُ التَّفرقةُ بينَهُما. ويَدل على أَنَّ اعتبارَ اللُّقِيّ في التَّدليسِ -دونَ المعاصرةِ وحْدَها- لابُدَّ منهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 إِطباقُ أَهلِ العلمِ بالحديثِ على أَنَّ روايةَ المُخَضْرَمين، كأَبي عُثمانَ النَّهْدِي1، وقيسِ بنِ أَبي حازِمٍ2، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ مِن قَبِيلِ الإِرسالِ، لا مِن قَبيلِ التدليس، ولو كان مجرَّدُ المُعاصرةِ يُكْتَفى بهِ في التَّدليسِ لكانَ هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلَّمَ قطعاً، ولكنْ لمْ يُعرَف: هل لَقُوهُ أم لا.   1 هو عبد الرحمن بن مُلٍّ بن عمرو، مخضرم، شهد اليرموك والقادسية وغيرهما، ت95هـ عن مئة وثلاثين سنة. 2 هو قيس بن أبي حازم البَجَلي، أبو عبد الله الكوفيّ، مخضرم، روى عن العشرة المبشرة بالجنة إلا عبد الرحمن بن عوف، ت90هـ، وقد جاوز المئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 [ القائلون باشتراط اللقاء في التدليس ] : وممَّن قالَ باشتراطِ اللِّقاءِ في التَّدليسِ الإمامُ الشافعيُّ، وأَبو بكرٍ البزَّارُ، وكلامُ الخطيبِ في الكِفايةِ يقتَضيهِ، وهُو المُعْتَمَدُ. ويُعْرَفُ عدمُ المُلاقاةِ بإِخباره عنْ نفسِهِ بذلك، أَو بجزْم إمامٍ مُطَّلِعٍ. ولا يَكْفي أَنْ يَقَعَ في بعض الطرق زيادةُ راوٍ1 بينَهُما؛ لاحتمال أَنْ يكونَ مِن المزيدِ، ولا يُحْكم في هذه الصورة بحكمٍ كليٍّ، أيْ: جازمٍ2؛ لِتَعارُضِ احتمالِ الاتصال والانقطاع.   1 في نسخةٍ: أو أكثر. 2 لفظة: أَيْ: جازمٍ مِن حاشية الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 [ المؤلفات في معرفة المرسل والمزيد في متصل الأسانيد ] : وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتابَ "التَّفصيلِ لِمُبْهَمِ المراسيل"، وكتابَ "المَزيد في مُتَّصِل الأسانيد". وانتهت هنا أقسامُ حكمُ الساقطِ من الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الطعن في الراوي وأسبابه أسباب الطعن في الراوي ... [الطعن في الراوي وأسبابه] ثم الطَّعْنُ يكون بِعَشَرَةِ أشياء بعضُها أشدُّ في القَدْحِ مِن بعضٍ: خمسةٌ منها تتعلَّقُ بالعدالَةِ، وخمسةٌ تتعلَّقُ بالضَّبْطِ. ولم يَحْصل الاعتناءُ بتمييزِ أَحدِ القِسمينِ مِن الآخَرِ؛ لمصلحةٍ اقتضتْ ذلك، وهي ترتيبُها على الأشدِّ فالأشدِّ في موجبِ الردِّ على سَبيلِ التّدلِّي؛ لأنَّ الطَّعْنَ إِمَّا أَنْ يكونَ: 1- لِكَذِبِ الرَّاوِي في الحديثِ النبوي: بأن يروي عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْه، متعمِّداً لذلك. 2- أو تُهمتِهِ بذلكَ: بأَنْ لا يُرْوَى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكونَ مُخالِفاً للقواعِدِ المعلومةِ، وكذا مَن عُرِفَ بالكذبِ في كلامه، وإنْ لم يَظهر منهُ وقوعُ ذلك في الحَديثِ النبويّ، وهذا دُونَ الأولِ1.   1 التهمة بالكذب: التهمة بالكذب سببها أمران: 1- إما رواية الراوي للحديث بحيث يكون مداره عليه مع مخالفة الحديث للقواعد الكليّة العامّة، أو تفرُّده بحديثٍ باطلٍ. 2- وإما أن يُعْرَفَ منه الكذب في كلامه -ولم يظهر منه ذلك في الحديث النبوي-. فالتهمة بالكذب-عندهم-بدليلٍ، ولذلك تُطْلق التهمةُ بالكذبِ على مَن حصل منه أحد الأمرين السابقين، بحيث لو قال أحدهم في شخصٍ خارجٍ عن هاتين الصورتين بأنه عنده متهمٌ بالكذب، لَقِيل له: وأين الدليل؟. أما التهمة بغير دليلٍ فلا يَبْنون عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 3- أَو فُحْشِ غَلَطِهِ، أي: كَثْرَتِه. 4- أَو غفلتهِِ عن الإِتقان. 5- أو فسقِهِ: أي: بالفعل أو القول، مما لم يَبْلُغ الكفر. وبينه وبين الأوَّلِ عموم، وإِنَّما أُفْرِدَ الأوَّلُ لكونِ القدْحِ بهِ أشدَّ في هذا الفن، وأما الفسق بالمعتقد فسيأتي بيانه. 6- أو وَهْمِهِ: بأَنْ يَرْوِي على سبيلِ التوهمِ. 7- أَو مخالفتِهِ، أي للثقات. 8- أو جهالتِهِ: بأن لا يُعْرَفَ فيه تعديلٌ ولا تَجْرِيحٌ مُعَيَّنٌ. 9- أَو بدعتِهِ: وهي اعتقادُ ما أُحْدِثَ على خِلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، لا بمعاندةٍ، بل بنوعِ شُبْهَةٍ. 10- أَو سوءِ حفظِهِ: وهي عبارةٌ عمن يكون1 غلطُهُ أقلَّ من إصابته2.   1 هذا هو الصواب، كما في الأصل، وفي بعض النسخ التي اطّلعتُ عليها: عن أن لا يكون غلطه أقل .... وهذا غلطٌ واضحٌ وعكسٌ للمقصود مِن العبارة!. 2 هنا في الأصل حاشيةٌ، نصُّها: وكذا إذا استويا، ق 13، أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 [1- الموضوع ] فالقسمُ الأوَّلُ: -وهُو الطَّعْنُ بكَذِبِ الرَّاوي في الحَديثِ النبويِّ- هو المَوضوعُ. والحُكْمُ عليهِ بالوَضْعِ إنما هو بطريقِ الظنِّ الغالبِ، لا بالقطْع1؛ إذ قد   1 قلتُ: هذا ليس دائماً؛ إذ قد يقوم الدليل القطعيّ على ذلك. ثم إنّ القطْع ليس شرطاً للحكم، وإنما العبرة بقيام الدليل أو الأدلة، ولا عبرة بالاحتمالات والظنون بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يَصْدق الكَذوبُ1، لكنَّ، لأهلِ العلمِ بالحديثِ ملَكَةٌ قويّةٌ يُمَيِّزون بها ذلك2، وإِنَّما يَقوم بذلك منهُم مَن يكونُ اطِّلاعه تامّاً، وذِهْنه ثاقِباً، وفهْمه قويّاً، ومعرِفتُهُ بالقرائنِ الدَّالَّةِ على ذلك متمكِّنة. وقد يُعْرَف الوضع بإقرار واضعِهِ، قال ابن دقيق العيد3: لكن لا يُقْطَع   1 قلتُ: ومع ذلك لا ينفعنا صِدْقُهُ في هذا، بحسب منهج المحدثين، فرواياته مردودة مطلقاً. والاحتمالات الضعيفة هنا لا يُلْتَفَتُ لها، بحسب منهج المحدِّثين. وما يقوله بعضهم: الحكم على الحديث بالصحةِ لا يعني أنه كذلك قطعاً، والحكم على الحديث بالضعف لا يَعني أنه كذلك قطعاً = هو مِن قبيل الكلام العقليّ الافتراضي، ولا يَصِح أن يكون له أَيُّ أثرٍ في الحكم بقبول الحديث أو ردّه، وإنما العمدة في ذلك منهج المحدِّثين. 2 لكن، مِن محاسن منهجهم، رحمهم الله تعالى، أنهم ردُّوا الحديث مِن طريق الكذّاب على كل حال، ولم ينشغلوا بتمييز الصدق مِن الكذب في روايات الكذّاب مِن طريقه هو، وإنما اعتبروا مجرّد وجود الكذّاب في سند الحديث حُكماً على الحديث بالوضع. ثم يُحققون في مدى ثبوت أصل الحديث مِن الطرق الأخرى، فعند ذلك قد يَصحُّ مِن طريقٍ أو طرق، وقد لا يَصحّ. 3 هو محمد بن وهب القشيري، أبو الفتح، تقي الدين ابن دقيق العيد، 625-702هـ، نشأ على حالٍ واحدةٍ: مِن الصمت، والاشتغال بالعلم، والتحرز في أقواله وأفعاله، له عدة مؤلفات، منها: اختصاره لعلوم الحديث: الاقتراح في تحقيق فن الاصطلاح، والعمدة شرح عمدة الأحكام، وهو شاهدٌ بعلمه وفضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بذلك، لاحتمالِ أَنْ يكونَ كَذَب في ذلك الإقرار"، انتهى. وفَهِم منه بعضُهم أنه لا يُعمل بذلك الإِقرارِ أَصلاً، وليسَ ذلكَ مُرادَه، وإِنَّما نَفْيُ القطعِ بذلك، ولا يلزَمُ مِن نَفْيِ القَطْعِ نَفْيَ الحكْمِ؛ لأنَّ الحُكْمَ يقعُ بالظَّنِّ الغالِبِ، وهُو هُنا كذلك1، ولولا ذلك لَما ساغَ قَتْلُ الْمُقِرِّ بالقتلِ، ولا رَجْمُ المعترفِ بالزِّنى؛ لاحتمالِ أَنْ يكونا كاذبيْنِ فيما اعْتَرَفا به2. ومِن القَرائنِ، الَّتي يُدرَكُ بها الوضعُ، ما يُؤخذُ مِن حالِ الرَّاوي. كما وقع للمأمون بنِ أَحمدَ3 أَنَّه ذُكِرَ بحضرَتِه الخلافُ في كون الحَسَن4 سَمِعَ مِن أَبي هُريرةَ أَوْ لاَ، فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَنَّهُ قالَ: سَمِعَ الحسنُ مِن أَبي هريرة.   1 قلتُ: بل هذا ليس كذلك على كل حال، وإنما قد يقع هنا الظن الغالب، وقد لا يقع؛ إذ هو بحسب القرائن واختلاف الأحوال، وهذا أيضاً مِن محاسن منهجهم أنهم تنبهوا لهذا الأمر، واستخدموا العقل في موضعه. 2 هذا صحيح، ولكن مع ملاحظة الفارق بين الأمرين في وجْه الشبه الذي يوجب التفريق في الحكم؛ إذْ أنّ الاعتراف باختلاق الحديث مقتضاه الطعن في الدين وتحريفه، ولا يَعْلم الكذّاب يقيناً أنّ ذلك يُهْدر دمه، بخلاف الاعتراف بموجبٍ مِن موجبات الحدود على المعترف. 3 هو مأمون بن أحمد الهروي، السُّلَمِي، دجّال مِن الدجاجلة، وضع أحاديث كثيرة ظاهرة السقوط. 4 هو الحسن بن يسار البصري، 21-110هـ، رضع مِن أُمّ سلمة أم المؤمنين، كان مِن سادات التابعين وكبرائهم، جمع كل فنٍّ: مِن علمٍ، وزهدٍ، وورعٍ، وعبادةٍ، مع غاية الفصاحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وكما وَقَع لغياث بن إبراهيم1، حيث دخَلَ على المَهْدي2 فوجَدَهُ يلعبُ بالحَمَام؛ فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، أنه قال: "لا سَبَق إِلاَّ في نَصْلٍ أَو خُفٍّ أَو حافرٍ أَو جَناحٍ"، فزادَ في الحديثِ: "أَو جَناحٍ"؛ فَعَرف المهديُّ أَنَّه كذَب لأجلِهِ فأَمر بذَبْحِ الحَمَامِ3. ومِنها ما يُؤخَذُ مِن حالِ المروي، كأنْ يكون مناقضاً لنصِّ القرآن، أَو السُّنَّةِ المُتواتِرَةِ، أَو الإِجماعِ القطعيِّ، أَو صريحِ العَقْلِ، حيثُ لا يَقْبلُ شيءٌ مِن ذلك التأويلَ.   1 هو غياث بن إبراهيم، النخعي، أبو عبد الرحمن، تركوه، قال أبو داود: كذاب. 2 هو محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي، الخليفة العباسي، الملقب بالمهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور، 127-169هـ. 3 الحديث عند أبي داود، 2574، الجهاد، والترمذيّ، 1700، الجهاد، وقال: حديث حسن. والنسائي، 3585، و3586، الخيل، وغيرهم. وخَبَرُ غياثٍ مع المهديّ مذكور في تاريخ بغداد 12/324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 [ طرق الوضع ] ثم المروي: 1- تارةً يخترعه الواضع. 2- وتارةً يأخذ كلامِ غيرِهِ: كبعضِ السَّلفِ الصَّالحِ، أَو قُدماءِ الحُكماءِ، أَو الإِسرائيليَّاتِ. 3- أَو يأْخُذُ حَديثاً ضعيفَ الإسنادِ فيركِّبَ له إسناداً صحيحاً لِيَرُوْجَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 [ دوافع الوضع ] والحامِلُ للواضِعِ على الوَضْعِ: 1- إِمَّا عدمُ الدِّينِ كالزَّنادقةِ. 2- أَو غلبةُ الجَهلِ كبعضِ المتعبِّدين. 3- أَو فَرْط العَصبيَّةِ، كبعضِ المقلِّدين. 4- أَو اتِّباع هوى بعضِ الرؤساءِ. 5- أو الإغرابُ لقصْدِ الاشتهارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 [حكمُ الوضعِ] : وكلُّ ذلك حرامٌ بإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بهِ، إِلاَّ أَنَّ بعضَ الكِرَّامية1، وبعضَ المُتصوِّفةِ نُقِلَ عنهم إباحةُ الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأٌ مِن فاعلِهِ، نشأَ عَن جهلٍ، لأنَّ التَّرغيبَ والتَّرهيبَ مِن جُمْلة الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، واتَّفقوا على أَنَّ تعمُّدَ الكذبِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن الكَبائِرِ2، وبالَغَ3 أبو محمد   1 هكذا ضُبطتْ في الأصل، بكسر الكاف، والصواب: بفتحها. والكرَّامية، هم أتباع محمد بن كرّام القائل بالتجسيم والتشبيه لله تعالى بخلقه، وهم-ومَن نُقِل عنه هذا القول- ممن لا يُعْتَدُّ بهم؛ فلا يؤخذ عنهم شيءٌ مِن منهج المحدِّثين في هذا الباب. 2 بل منه ما هو مخرجٌ مِن الملّة، وذلك بحسب الدافع له. 3 لماذا بالغ؟! لا شكّ عندي في كفر صاحب أنواعٍ مِن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومِن ذلك الكذب الذي يَحْصل مِن صاحبه بدافع الرغبة في الطعن في الدِّين، وكذلك الكذب الذي يحصل مِن صاحبه بدافع الرغبة في تحريف الدين، كالكذب لابتداع بدعةٍ؛ فإنّ هذين النوعين مِن الكذب يجتمع فيهما الكذب والطعن في الدين، والتشريع مِن دون الله، ومعلومٌ أن الإقدام على وضْعِ تشريعٍ بديل عن شرع الله كفرٌ، بخلاف مجرد الكذب الذي هو هفوة، وإنْ كان الكذب على رسول الله كذباً عليه وعلى الله؛ فهو هفوةٌ كبيرة خطيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الجُوَيْنِيُّ1 فكَفَّرَ مَن تعمَّدَ الكذبَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.   1 عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف، أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين، ت438هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 [حكمُ رواية الموضوع] : واتَّفَقوا على تَحْريمِ روايةِ الموضوعِ إِلاَّ مقروناً ببيانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلَّمَ: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بحديثٍ يُرَى أَنَّهُ كذِبٌ فهو أحدُ الكاذِبَين"، أخرجه مسلم1.   1 مسلم، مقدمة صحيحه -وكان حقه أن يبين المصنف، رحمه الله، أنّ مسلماً أخرجه في المقدمة، لا في أصل الصحيح- وابن ماجه، 41، المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 [2- المتروك ] وَالقسمُ الثَّاني مِن أَقسامِ المَردودِ: -وهو ما يكون بسببِ تُهمة الراوي بالكذب- هو المتروك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 [3، 4، 5- المُنْكَر] 1 والثَّالِثُ: المُنْكَر2 -على رأيِ مَنْ لا يَشترط في المنكَرِ قَيْدَ المخالفة-   1 ذَكَرْتُ هذه الأرقام محافظةً على التطابق في عدِّ المؤلف لهذه الأنواع في أوّل ذِكْره لأسباب الطعن في الراوي، ليتطابق ذلك مع قوله في الحديث عنها: فالأول، والثاني،..إلى آخره. وهذا الترقيم قاعدةٌ سِرْتُ عليها في إخراج النصِّ المحقَّق، كما ترى؛ تسهيلاً للفهم وضبْطِ المعدودات والتقسيمات. 2 الحديث المنكر : -في إطلاق بعض الأئمة المتقدمين- هو: الحديث الذي تفرد به الراوي الضعيف، وأما منكر الحديث فمعناها: مردودُهُ، وهو طعنٌ في الراوي، وهو في الأصل ناشئ عن مخالفته للثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وكذا الرَّابِعُ، والخَامِسُ، فَمَنْ فَحُشَ غلَطُهُ، أَو كَثُرَتْ غَفْلَتُهُ، أو ظَهَرَ فِسْقُهُ، فحديثه منكَرٌ1.   1 قال د. نور الدين عتر معلقاً على هذا بقوله: هذا مسلك جديد في استعمال مصطلح منكر، غير السابق ... ، فللمنكر استعمالان: الأول: السابق، وهو ما رواه الضعيف مخالفاً لِمَنْ هو أقوى منه. الثاني: المنكر: ما تفرد به راويه، خالف أو لم يخالف، ولو كان ثقة، وعليه كثير من المتقدمين، فتنبه لذلك. قلتُ: هذا خلطٌ بين إطلاق: منكر الحديث وبين إطلاق: له مناكير؛ أَيْ: أحاديث تفرد بها، وهُما ليسا بمعنىً واحدٍ؛ إذ: منكرُ الحديث تضعيفٌ للراوي، أما له مناكير فليس تضعيفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [6- الوهم ] ثمَّ الوَهَمُ: -وهُو القِسْم السَّادسُ، وإِنَّما أُفْصِحَ بهِ لِطولِ الفَصْلِ- إِنِ اطُّلِعَ عَليهِ، أي الوَهَمِ، بِالقَرائِنِ الدَّالَّةِ على وهَم راويهِ -مِن وصْلِ مرسلٍ أَو منقطعٍ أَو إِدخالِ حديثٍ في حديثٍ، أَو نحوِ ذلك مِن الأشياءِ القادحة، وتَحْصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجَمْع الطرق- فهذا هو المعلَّل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [المعلَّل] وهو مِن أَغْمضِ أنواعِ علومِ الحديثِ وأدقِّها، ولا يقومُ بهِ إلاَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تعالى فهْماً ثاقِباً، وحِفْظاً واسِعاً، ومعرِفةً تامَّةً بمراتِبِ الرُّواةِ، وملَكَةً قويَّةً بالأسانيدِ والمُتونِ؛ ولهذا لم يَتكلم فيهِ إِلاَّ القليلُ مِن أَهلِ هذا الشأْنِ: كعليِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ابن المَدينيِّ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ، والبُخَارِيّ، ويَعقوبَ بنِ شَيْبةَ1، وأَبي حاتمٍ، وأَبي زُرْعَةَ، والدَّارَقُطنيُّ. وقد تَقْصُرُ عبارةُ المعلِّلِ عن إقامةِ الحجةِ على دَعْواهُ، كالصَّيْرَفيِّ في نَقْد الدِّينارِ والدِّرهَمِ2.   1 هو يعقوب بن الصلت، أبو يوسف البصري، نزيل بغداد، 189-262هـ، مِن كبار علماء الحديث. 2 العلل: الصحيح أن علم العلل علمٌ له أصوله، وليس إلهاماً، أو آراءَ ليس عليها أدلة، ولا عِلْماً إلهامياً، أو عِلْماً يقوم على الظن والحدس، كما يمكن أن يَفْهمه بعض الناس مِن خلال ما ورد عن عدد من الأئمة من أقوالٍ بشأن العلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 [7- المخالفة ] ثم المخالفة، وهي القسم السابع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 [أ- المُدْرج] إن كانت واقعةً بسببِ: 1- تَغَيّرِ السياقِ، أَيْ: سياقِ الإسنادِ، فالواقعُ فيهِ ذلك التغيير هو مُدْرَجُ الإسناد1.   1 المدرج : هذا النوع مِن علوم الحديث مما يشهد شهادةً واضحة للمحدثين بشدة حرصهم على تمييز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمحيصه مِن كل ما سواه بكل سبيل. وهو مِن المهمات التي ينبغي أن يُعْنى بها مَنْ يتطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإدراج يُصَيِّرُ ما ليس حديثاً حديثاً، وكشْف الإدراج يُخَلِّص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 [ أقسام المدرج باعتبار الإسناد ] : وهو أقسامٌ: الأوَّلُ: أَنْ يرويَ جماعةٌ الحديثَ بأَسانيدَ مُختلفةٍ، فيرويهِ عنهُم راوٍ فيَجمع الكُلَّ على إسنادٍ واحدٍ مِنْ تلكَ الأسانيدِ ولا يُبَيِّن الاختلافَ. الثَّاني: أَنْ يكونَ المتنُ عندَ راوٍ إِلاَّ طَرفاً منهُ فإِنَّه عندَه بإسنادٍ آخَرَ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تامّاً بالإِسنادِ الأوَّلِ. ومنهُ أَنْ يسمعَ الحديثَ مِن شيخه إلا طرفاً منه فيسمَعَهُ عَن شيخِهِ بواسطةٍ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تماماً بحذْفِ الواسِطةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ عندَ الرَّاوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفينِ، فيرويهِما راوٍ عنهُ مُقتَصِراً على أحدِ الإسنادين، أو يروي أحدَ الحديثين بإِسنادِهِ الخاصِّ بهِ، لكنْ، يَزيدُ فيهِ مِن المتن الآخَرِ ما ليس في الأول. الرابع: أن يسوقَ الإسناد فَيَعْرِض له عارض، فيقولَ كلاماً مِنْ قِبَل نفسِهِ، فَيَظن بعضُ مَن سَمِعه أَنَّ ذلكَ الكلامَ هُو متنُ ذلكَ الإسنادِ؛ فيَرويهِ عنهُ كذلك. هذهِ أَقسامُ مُدْرَج الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 [ أقسام المدرج باعتبار المتن ] : وأَمَّا مُدْرَج المَتْنِ: فهُو أَنْ يَقَعَ في المتنِ كلامٌ ليسَ منهُ. فتارةً يكونُ في أوّله، وتارةً في أثنائه، وتارةً في آخِرِهِ، وهو الأكثرُ؛ لأنَّهُ يقعُ بعطفِ جملةٍ على جُملةٍ، أو بدمْجِ موقوفٍ مِن كلامِ الصَّحابةِ، أَو مَنْ بَعْدَهم، بمرفوعٍ مِن كلامِ النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، مِن غيرِ فصلٍ، فهذا هُو مُدرج المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 [ما يُعرفُ به الإدراج] : ويُدْرَكُ الإِدراجُ بِوُرُوْدِ روايةٍ مُفَصِّلَةٍ للقَدْرِ المُدْرَج فيهِ. أَو بالتَّنصيصِ على ذلك مِن الرَّاوي، أَو مِنْ بعضِ الأئمَّةِ المُطَّلعينَ، أو باستحالةِ كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 [ المؤلفات في المدرج ] : وقد صَنَّفَ الخَطيبُ في المدْرَج كتاباً، ولَخَّصْتُهُ، وزدتُ عليهِ قدْرَ ما ذَكَر مرَّتينِ، أَو أكثر، ولله الحمد1.   1 اسم كتاب الخطيب هو: الفصل للوصل المُدرج في النقل، وكتاب ابن حجر هو: تقريب الْمَنْهَج بترتيب المُدْرَج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 [ب- المقلوب ] 2- أَوْ إِنْ كانَتِ المخالفةُ بتقديمٍ أَو تأخيرٍ أي في الأسماء كمُرَّةَ بن كَعْبٍ، وكَعْبٍ بن مُرَّة؛ لأنَّ اسمَ أَحدِهِما اسمُ أَبي الآخَرِ، فهذا هو المقلوب، وللخطيب فيه كتابُ: "رافع الارتياب"1. وقد يقع القلب في المتن، أيضاً، كحديث أبي هريرة عند مسلمٍ في السبعة الذين يظلهم الله في عرشِهِ، ففيه: "ورجل تصدَّقَ بصدقةٍ أَخْفاها حتَّى لا تَعْلَمَ يمينُهُ ما تُنفِق شِمالُهُ"2. فهذا ممَّا انْقَلَبَ على أَحدِ الرُّواةِ، وإِنَّما هو: "حتَّى لا تَعلم شماله ما تنفق   1 وهو: رافعِ الارْتِيابِ في المقلوب من الأسماء والأنساب. 2 مسلم، 1031، الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يمينه"1 كما في الصحيحين.   1 الحديث عند البخاري في مواضع، منها: 1423، الزكاة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"، وأخرجه غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 [جـ- المزيد في الأسانيد ] 3- أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بزيادةِ راوٍ في أَثناءِ الإِسنادِ، ومَن لم يَزِدْها أَتقنُ ممَّن زادَها، فهذا هُو المَزيدُ في مُتَّصِلِ الأَسانِيدِ. وشرْطه أَنْ يقعَ التَّصريحُ بالسَّماعِ في موضعِ الزِّيادةِ، وإِلاَّ فمتى كانَ مُعَنْعَناً، مثلاً، تَرجَّحتِ الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 [د- المضطرب ] 4- أو كانت المخالفة بإبداله، أَيْ: الراوي، ولا مرجِّحَ لإحدى الروايتين على الأخرى، فهذا هو المُضْطَرِبُ. وهو يقعُ في الإِسنادِ غالباً. وقد يقعُ في المتْن. لكنْ قَلَّ أنْ يُحْكَمَ المحدِّث على الحديث باضطرابٍ بالنسبة إلى اختلافٍ في المَتْنِ دونَ الإِسنادِ. وقد يَقَعُ الإِبدالُ عَمْداً لمَن يُرادُ اختبارُ حفْظِهِ، امتحاناً مِن فاعله، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَقَع للبُخَارِيّ1، والعُقَيْلي2، وغيرِهِما. وشرْطه أَنْ لا يستمر عليه، بل ينتهي بانْتهاءِ الحاجةِ، فلو وَقَعَ الإِبدالُ عَمْداً، لا لمصلحةٍ، بل للإِغرابِ، مثلاً، فهو مِن أَقسامِ الموضوعِ، ولو وَقَعَ غَلَطاً فهُو من المقلوب، أو المُعَلَّلِ.   1 وكان امتحانه من قِبَلِ أهل بغداد لَمَّا قَدِمَ إليها، فقلبُوا له مائة حديث، قسَّموها على عشرة أشخاص، لكل واحد منهم عشرة أحاديث، يسأَلُ عنها البخاري، بعد جَعْلِ إسناد كلِّ حديثٍ منها لمتنِ حديثٍ آخرَ من تلك الأحاديث. ينظر: تاريخ بغداد 2/20-21 وطبقات الشافعية 2/218. ويحتاج سندها إلى دراسة. 2 هو محمد بن عمرو بن موسى، الحافظ المتقن الكبير، محدث الحرمين: ت322هـ، من كتبه: الضعفاء. وقصة امتحانه -كما ذَكَر مَسْلَمَةُ بن قاسم- أنه كان كثيراً ما يقول لمن يتلقى عنه: اقرأ من كتابِك، ولا يُخرج أصله، فتكلمنا في ذلك، وقلنا إما أن يكون من أحفظ الناس أو من أكذب الناس، فاتفقنا على أن نكتب له أحاديث من روايته ونزيد فيها وننقص، فأتيناه لنمتحنه، فقرأتُها عليه فلما أتيت بالزيادة والنقص فطن لذلك، فأخذ مني الكتاب وأخذ القلم فأصلحها من حفظه، فانصرفنا مِن عنده وقد طابت نفوسنا، وعلمنا أنه من أحفظ الناس، حاشية نور الدين عتر على النزهة، ص93، حاشية رقم "2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [ه ـ- المُصَحَّف] 5- أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بتَغْييرِ حرْفٍ، أَو حروفٍ، مَعَ بقاءِ صورةِ الخَطِّ في السِّياقِ: فإنْ كانَ ذلك بالنِّسبةِ إِلى النَقْطِ فَالمُصَحَّفُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَإِنْ كانَ بالنِّسبةِ إلى الشَّكْلِ فالمُحَرَّفُ. ومعرفةُ هذا النَّوعِ مهمةٌ. وقد صَنَّفَ فيهِ العَسْكَريُّ1، والدارقطنيّ، وغيرُهما. وأكثرُ ما يقعُ في المُتونِ، وقد يقعُ في الأسماءِ الَّتي في الأسانيدِ. ولا يَجُوزُ تعمُّد تغييرِ صورةِ المتنِ مُطلقاً، ولا الاختصارُ منه بالنقص، ولا إبدالُ اللفظ المرادِفِ باللفظِ المرادِفِ لهُ، إِلاَّ لعالمٍ بمَدْلولاتِ الألْفاظِ، وبِما يحيل المعاني، على الصحيح في المسألتين.   1 هو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكريّ، 292-382هـ، له تصانيف حسنة في اللغة والأدب والأمثال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 [ اختصار الحديث ] أَمَّا اخْتِصارُ الحَديثِ: فالأكْثَرونَ على جَوازِهِ، بشرطِ أَنْ يكونَ الَّذي يَخْتَصِرُهُ عالِماً؛ لأنَّ العالِمَ لا يَنْقُص مِن الحديثِ إِلاَّ ما لا تَعَلُّقَ لهُ بما يُبْقيه منهُ، بحيثُ لا تختِلفُ الدِّلالةُ، ولا يختلُّ البَيانُ، حتَّى يكونَ المَذكورُ والمَحذوفُ بمنزِلَةِ خَبَرَيْنِ، أَو يَدُلُّ ما ذَكَرَهُ على ما حَذَفَهُ، بخِلافِ الجاهِلِ فإِنَّهُ قد يُنْقِص ما لَهُ تَعَلُّقٌ، كترك الاستثناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 [ الرواية بالمعنى ] وأما الرواية بالمعنى1: فالخِلافُ فيها شهيرٌ: 1- والأكثرُ على الجَوازِ أَيضاً، ومِن أَقوى حُججهِم الإِجماعُ على جوازِ   1 في الأصل هنا حاشيةٌ، نصُّها: مطلب: جواز الرواية بالمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 شرحِ الشَّريعةِ للعَجَمِ بلسانِهِم للعارِفِ بهِ، فإِذا جازَ الإِبدالُ بلغةٍ أُخرى فجوازُهُ باللُّغةِ العربيَّةِ أَولى. 2- وقيل: إنما تجوز1 في المفردات دون المركَّبات. 3- وقيل: إنما تجوز لمَن يَسْتَحْضِرُ اللفظَ؛ ليتَمَكَّنَ مِن التَّصرُّفِ فيه. 4- وقيل: إنما تجوز لمَن كانَ يحفَظُ الحَديثَ فنَسِيَ لفظَهُ وبقيَ معناهُ مُرْتَسماً في ذِهنِه، فلهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بالمعنى لمصلحةِ تحصيل الحكم منه، بخلافِ مَن كانَ مُسْتَحْضِراً لِلَفْظِهِ. وجَميعُ ما تقدَّمَ يتعلَّقُ بالجَوازِ وعَدَمِه، ولا شكَّ أَنَّ الأوْلى إيراد الحديث بألفاظه، دون التصرف فيه. 5- قال القاضي عياض: ينبغي سَدُّ بابِ الرواية بالمَعْنَى؛ لئلاَّ يَتَسلَّطَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ، ممَّن يَظُنّ أَنّهُ يُحْسِن، كما وقَعَ لكثيرٍ مِن الرُوَاةِ، قديماً وحديثاً2. والله الموفق.   1 في نسخةٍ: يجوز. وهكذا جاءت اللفظة في الأسطر بعدها. 2 ذكر هذا في شرحه لصحيح مسلم: الإكمال لشرح كتاب مسلم بن الحجاج في الصحيح. وقد عقد باباً في كتاب الإلماع بعنوان: باب تحري الرواية والمجيء باللفظ ومَن رَخَّصَ للعلماء في المعنى ومَن مَنَعَ، ص174-182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 [ غريب الحديث ] فإنْ خَفِي المَعْنَى، بأَنْ كانَ اللَّفْظُ مستعمَلاً بِقِلَّةٍ، احْتيجَ إِلى الكتبِ المصنَّفةِ في شرْح الغريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 1- ككتاب أبي عبيد القاسِمِ بنِ سلامٍ1، وهو غيرُ مرتَّبٍ، وقد رتَّبه الشيخ موفق الدين بن قُدَامَة2 على الحُروفِ. 2- وأجمعُ منهُ كتابُ أَبي عُبيدٍ الهَرَوِيِّ3، وقد اعتَنَى بهِ الحافظُ أَبو موسى المَدينِيُّ4، فَنَقَّب عليهِ واسْتَدْرَكَ. 3- وللزَّمَخْشَرِيِّ5 كتابٌ اسمه "الفائق" حَسَنُ الترتيب.   1 هو القاسم بن سلام بن عبد الله البغدادي، أبو عبيد، 157-224هـ، كان عالماً بالحديث، وعارفاً بالفقه والمذاهب، رأساً في اللغة، إماماً في القراءات، له كتاب الأموال، وفضائل القرآن، وغريب الحديث، وهو هامّ جداً، قال فيه: هو كان خلاصة عمري. 2 هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قُدَامَة المَقْدِسِي ثم الدمشقي، موفق الدين، 541-620هـ، برع في علوم زمانه، وصار المرجعَ في الفقه الحنبلي، له مؤلفات كثيرةٌ، منها: المغني، والمقنع، وروضة الناظر، وغيرها. 3 هو أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، أبو عبيد الهروي، نسبته إلى هراة، من مُدن خراسان، إمام لغوي بارع وأديبٌ، ت401هـ، له كتبٌ، منها: كتاب الغريبين أي: غريب القرآن وغريب الحديث، وهو أول من جمع بينهما. 4 محمد بن أبي بكر بن عمر الأصفهاني، أبو موسى المديني، 501-581هـ، وكان شيخ زمانه إسناداً وحفظاً وإتقاناً، شديد التواضع، له تصانيف أربى فيها على المتقدمين، منها: لطائف المعارف، غَنِيٌّ بالفوائد الحديثية. وله أيضاً كتاب: إضاعة العمر والأيام في اصطناع المعروف إلى اللئام. 5 هو محمود بن عمر بن محمد الخُوَارِزْمي الزَّمَخْشَرِي، جار الله، 467-538هـ، علامةٌ معتزليٌّ جَلْدٌ، ومحدثٌ ومفسرٌ ولغويٌ وأديبٌ، له: الكشاف، والفائق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 4- ثمَّ جَمَعَ الجميعَ ابنُ الأثيرِ1، في "النِّهايةِ"، وكتابُهُ أسهلُ الكُتُبِ تناوُلاً، مع إعْوَازٍ قليلٍ فيهِ. وإِنْ كانَ اللَّفْظُ مستعمَلاً بكثرةٍ، لكنَّ، في مَدلُولِهِ دِقَّةٌ، احْتِيجَ إلى الكُتُبِ المصنَّفة في شَرْحِ معاني الأخْبارِ، وبيانِ المُشْكِلِ منها2.   1 هو مبارك بن محمد الجَزَرِي، مجد الدين أبو السعادات، الشهير بابن الأثير، محدثٌ كبيرٌ ولغويٌ بارعٌ وأصوليٌّ، ت606هـ، له: جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهاية في غريب الحديث. 2 مِن الكتب المصنفة في مشكل الحديث: 1- مجمع البحار في معاني الأحاديث والآثار، لملك المحدِّثين محمد طاهر الصديقي الهندي، المتوفى سنة 986هـ-1578م، الهند، حيدر آباد الدكن، دائرة المعارف العثمانية، 1391هـ-1971م. 2- مشكل الحديث وبيانه، لابن فُوْرَك. 3- اختلاف الحديث، للإمام الشافعي. 4- الرسالة، للإمام الشافعي، وفيه من هذا كثير، وكذلك كتاب الأم، له، فقد كان الشافعي رحمه الله شديد العناية بهذا النوع. والمصنفات في توضيح الأحاديث ومعانيها، أنواع: 1- فمنها ما كان مؤلفاً في غريب الألفاظ. 2- ومنها ما كان مؤلفاً في مختلف الحديث. 3- ومنها ما كان مؤلفاً في ما يسمى بمشكل الآثار. 4- ومنها ما كان مؤلفاً في شرح الحديث، واستنباط الأحكام منه. ولكلٍ منها أمثلةٌ كثيرة وكتبٌ لا يَستغني عن الاطلاع عليها طالب العلم. ومما كُتِب في مشكل الحديث: 1- مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها، للقصيمي. 2- وقد كَتبتُ حول هذا الموضوع بعض الكتابات، منها: مدخل لدراسة مشكل الآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقد أَكْثَرَ الأَئِمَّةُ من التَّصانيفِ في ذلك كالطَّحاويِّ والخَطَّابيِّ وابنِ عبدِ البر1 وغيرهم.   1 هو يوسف بن عبد الله أبو عمر ابن عبد البَرّ النَّمرِي القرطبي، حافظ المغرب وفقيهه، ولغويُّهُ، ت463هـ، له تصانيف كثيرة متقنةٌ، أشهرها: التمهيد، شرح الموطأ، وجامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، والاستذكار لمذاهب علماء الأمصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 [8- الجهالة وسببها ] ثمَّ الجَهالةُ بالرَّاوِي: -وهِيَ السَّببُ الثَّامِنُ في الطعنِ- وسبَبُها أمران: أَحَدُهُما: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تكثُر نُعُوتُه: مِن اسمٍ، أو كُنيةٍ، أَو لَقَبٍ، أَو صِفةٍ، أَو حِرْفَةٍ، أَو نَسَبٍ، فَيُشْتَهَرُ بشيءٍ مِنها، فُيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِر بِهِ، لغرضٍ مِن الأغْراضِ فَيُظَنُّ أَنَّه آخَرُ، فَيَحْصُل الجهْلُ بحالِهِ1. وصنَّفُوا فِيهِ أي في هذا النَّوعِ "المُوضِح لأوهامِ الجمْعِ والتَّفريقِ"، أَجادَ فيهِ الخطيبُ2، وسبقه إليه عبد الغني هو ابن سعيد المصري، وهو الأزدي، أيضاً، ثم الصوْريّ3.   1 قوله: فيحصل الجهل بحاله قلتُ: وربما يحصل الجهل بعينه. 2 الموضح لأوهام الجمع والتفريق، نُشِر بتحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار الفكر الإسلامي، ط. الثانية، 1405هـ-1985م. 3 هو عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد الأزدي المصري، 332-409هـ، محدث مصر وحافظها، نقادة دقيق، من كتبه: المؤتلف والمختلف، وجزء فيه أوهام الحاكم في المدخل إلى الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 [ الوحدان ] ومِن أَمثلتِهِ: محمَّدُ بنُ السَّائِبِ بنِ بِشْرِ الكلْبي1، نَسَبَهُ بعضُهم إِلى جَدِّهِ، فقالَ: محمَّدُ بنُ بِشرٍ، وسَمَّاهُ بعضُهم حمادَ بنَ السَّائبِ، وكناه بعضُهم: أبا النضر، وبعضُهم: أَبا سعيدٍ، وبعضُهم: أَبا هِشامٍ؛ فصارَ يُظَنُّ أَنَّهُ جماعةٌ، وهو واحِدٌ، ومَن لا يَعْرِفُ حقيقةَ الأمرِ فيهِ لا يعرِفُ شيئاً مِن ذلك2. وَالأمرُ الثَّاني: أَنَّ الرَّاويَ قد يكونُ مُقِلاًّ مِن الحديثِ؛ فلا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ. وَقد صَنَّفوا فِيهِ الوُحْدان، وهو مَن لم يروِ عنهُ إِلاَّ واحِدٌ، ولو سُمِّيَ. فَمِمَّنْ جَمَعَهُ: مسلمٌ3، والحسن بن سفيان4، وغيرهما.   1 هو محمد بن السائب بن بِشْرِ الكلْبِي، أبو النضر الكوفي، عالم بالتفسير والأخبار، متهم بالكذب، وكان غالياً في الرفض، سبئيّاً، ت146هـ. 2 ومن الأسباب التي دعت إلى تسيمته بكل هذه الأسماء ضعف صاحبها وأنه متروك متهم بالكذب، تُنْظَر ترجمته في التهذيب، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1416هـ-1996م، 3/569-570. 3 هو: مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري، الحافظ الإمام الفقيه، من خاصّة تلاميذ البخاري، صاحب الجامع المسنَد الصحيح ... ، ت261هـ. 4 هو الحسن بن سفيان بن عامر أبو العباس الشيباني، النسوي، الحافظ الكبير اليقظ محدث خراسان في عصره، ت303هـ، له: المسند الكبير، والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 [المُبْهَم] أوْ لاَ يُسَمَّى الرَّاوِي، اختِصَاراً مِن الرَّاوي عنهُ. كقولِه: أَخْبَرَني فلانٌ، أَو شيخٌ، أَو رجلٌ، أَو بعضُهم، أَو ابنُ فلانٍ. ويُستدل على معرفَةِ اسمِ المُبْهَم بوُرودِه مِن طريقٍ أخرى مسمَّىً. وصَنَّفوا فيه: المُبْهَمات. ولا يُقْبَلُ حديثُ المُبْهَم، ما لم يُسَمَّ، لأن شرط قبول الخبر عدالة رواته، ومَنْ أُبْهِمَ اسْمُه لا يُعرفُ عَيْنهُ؛ فكيف عدالته1. وكذا لا يُقْبَل خبره وَلَو أُبْهِمَ بلفظِ التَّعْديلِ، كأَنْ يقولَ الرَّاوي عنهُ: أَخْبَرَني الثِّقُة؛ لأنَّهُ قد يكونُ ثقةً عندَه مجروحاً عندَ غيرِه. وهذا عَلى الأصَحِّ في المسألة، ولهذه النكتة لم يُقْبَلِ المُرْسَلُ، ولو أَرسَلَهُ العدلُ جازِماً بهِ؛ لهذا الاحتمالِ بعينِه. وقيلَ: يُقْبَل تمسُّكاً بالظَّاهِرِ؛ إِذ الجَرْحُ على خلافِ الأصل، وقيل: إن كان القائل عالماً أجزأه ذلك في حق مَن يوافِقُهُ في مَذْهَبِهِ، وهذا ليسَ مِن مباحث علوم الحديث، والله تعالى الموفق.   1 المبهم و مجهول العين حكمهما واحد بالنظر إلى عدم معرفة عين الشخص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 [ مجهول العين ] فإن سُمِّيَ الرَّاوي، وانْفَرَدَ راوٍ واحدٌ بالرِّوايةِ عنه، فهو مجهول العين، كالمبهم، إلا أن يوثقه غير مَن ينفرد به عنه على الأصح، وكذا مَن ينفرد عنه إذا كان متأهلاً لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 [مجهول الحال] أَوْ إنْ روى عنهُ اثنانِ فصاعِداً، ولم يُوَثَّقْ1 فهو مَجْهولُ الحالِ، وهُو المَسْتورُ. وقد قَبِلَ رِوَايَتَهُ جَمَاعَةٌ بغيرِ قيدٍ، وردَّها الجمهورُ. والتحقيقُ أَنَّ روايةَ المستورِ، ونحوِهِ، ممَّا فيهِ الاحتِمالُ؛ لا يُطْلَقُ القولُ بردِّها، ولا بِقَبولِها، بل يقال: هي موقوفةٌ إِلى اسْتِبانَةِ حالِه، كما جَزَمَ بهِ إِمامُ الحَرمينِ، ونحوُهُ قولُ ابنِ الصَّلاحِ فيمَن جُرِحَ بجَرْحٍ غيرِ مُفَسَّر.   1 ليس المراد أنه لم يَرِد فيه توثيق، وإنما المراد أنه لم يَرِد فيه جرحٌ أو تعديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 [9- البدعة ورواية المبتدع ] ثمَّ البِدْعَةُ1: وهي السَّببُ التَّاسعُ مِن أَسبابِ الطعن في الراوي: وهي   1 البدعة: المبتدع ولو كان غالياً، طالماً أنه لا يكفر ببدعته، فإن روايته مقبولة إذا كان من أهل الصدق والضبط، فلنا روايته وعليه بدعته، سواء وافقت روايتُهُ بدعَتَهُ أو لم تؤيدها، ويُرَاجَع مناقشات المعلِّمي في التنكيل فقد ناقش ابن حجر في كلامه في حكم المبتدع، وقال: إذا كان الراوي ليس من أهل الثقة، إذا روى في موضوع بدعته، فمعناه أنه غير ثقة في غيرها، ينظر: حكم رواية المبتدع في التنكيل، بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الباكستان، فيصل آباد، حديث أكادمي نشاط آباد، 1401هـ-1981م: 1/42-52. إِذَن، ففي رواية المبتدع يُسأل: هل هو صادق الرواية أم لا؟. فالمبتدع الغالي: الصحيح فيه هو: إن كان ثقة أن تقبل روايته، وهذا بخلاف ما ذهب إليه جمال الدين القاسمي في كتابه: الجرح والتعديل مِن أن كل جرْحٍ بالبدعة فإنه لا يُقْبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 إِمَّا أَنْ تَكونَ بمكَفِّرٍ: 1- كأَنْ يَعتقد ما يَسْتلزم الكفرَ. 2- أو بمُفَسِّقٍ. فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صاحِبَهَا الجمهورُ. وقيلَ: يُقبل مُطلقاً. وقيلَ: إِنْ كانَ لا يَعْتقد حِلَّ الكَذِبِ لنُصرَةِ مقالَتِه قُبِلَ. والتحقيقُ أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكَفَّرٍ ببدعةٍ1؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتدعةٌ، وقد تُبالغ فتكفِّر مخالفها، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطوائفِ. فالمعتمد أن الذي تُرَدُّ روايته مَن أَنكر أَمراً مُتواتِراً مِن الشَّرعِ معلوماً مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ، فأَمَّا مَن لم يَكُنْ بهذهِ الصِّفَةِ وانْضَمَّ إِلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يَرويهِ، مَعَ وَرَعِهِ وتقواه، فلا مانع مِن قبوله. والثاني: وهو مَنْ لا تَقْتَضي بدعتُهُ التكفيرَ أصلاً، وقد اختُلِف، أَيضاً، في قَبولِهِ وَرَدِّهِ: فقيلَ: يُرَدُّ مُطلَقاً. وهُو بَعيدٌ، وأَكثرُ مَا عُلِّلَ بهِ أَنَّ في الرِّوايةِ عنهُ تَرْويجاً لأمرِهِ وتَنْويهاً بذكره، وعلى هذا فيَنْبَغي أَنْ لا يُرْوَى عنْ مبتدعٍ شيءٌ يُشاركه فيهِ غيرُ مبتدعٍ. وقيلَ: يُقْبَل مُطْلقاً، إِلاَّ إن اعتقد حلَّ الكذب، كما تقدم.   1 في نسخةٍ: بعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقيلَ: يُقْبَلُ مَن لَمْ يكنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ؛ لأنَّ تزيينَ بِدعَتِه قد يَحْمِلُهُ على تحريفِ الرواياتِ وتَسويَتِها على ما يَقْتضيه مذهبُهُ، وهذا في الأصَحِّ. وأغربَ ابنُ حِبَّانَ؛ فادَّعى الاتفاقَ على قبولِ غيرِ الدَّاعيةِ، مِن غيرِ تفصيلٍ. نعمْ، الأكثرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ، إلا أنْ يَروي ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ، على المذهَبِ المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ الحافِظُ أَبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوزَجاني1، شيخُ أَبي داودَ والنَّسائِيِّ، في كتابِه "معرفة الرِّجال"، فقالَ في وصْف الرُّواةِ: ومِنهُم زائغٌ عن الحَقِّ -أَيْ عنِ السُّنَّةِ- صادقُ اللَّهجَةِ؛ فليسَ فيهِ حيلةٌ إِلاَّ أَنْ يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكَراً، إذا لم يُقَوِّ به بدعته انتهى. وما قاله مُتَّجِهٌ؛ لأنَّ العلةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ واردةٌ فيما إذا كان ظاهرُ المرويِّ يوافِق مذهبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً، والله أعلم2.   1 هو إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني، من الحفاظ المصنفين، ت259هـ، وهو منحرف عن علي رضي الله عنه، كتبه تدل على وفرة علمه، له: الجرح والتعديل، والضعفاء. 2 تعليق على رواية المبتدع: الصواب أن ينظر في هذا المبتدع إذا كان ليس ممن يكفر ببدعته إجماعاً، وكان من أهل الصدق والضبط، فإن روايته مقبولة مطلقاً، سواء كان غالياً أو غير غالٍ، داعيةً إلى بدعته أم غير داعية، أيدتْ روايتُه بدعَتَه أم لم تؤيدها؛ لأن الراوي إما أن يكون ثقةً أو غير ثقة، فإن كان غير ثقة رُدَّتْ روايته مطلقاً، وإن كان ثقة قُبِلتْ روايته مطلقاً، إلا أن يتبين خطؤه فيها. أما أن يكون الراوي ثقةً في مجال، أو روايةٍ، غير ثقةٍ في مجالٍ، أو في روايةٍ، فهذا لا يستقيم على أصول منهج المحدثين، ولا يستقيم في حكم العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 [10- سوء الحفظ والشاذ والمختلط ] ثمَّ سوءُ الحِفْظ: وهو السببُ العاشِرُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ، والمُرادُ بهِ: مَنْ لم يَرْجَحْ جانبُ إِصابتِه على جانِبِ خَطَئهِ، وهو على قِسْمَين: 1- إِنْ كانَ لازِماً للرَّاوي في جَميعِ حالاتِه فهُو الشاذُّ، على رأيِ بعضِ أَهلِ الحديث. 2- أَوْ إن كانَ سوءُ الحفظِ طارِئاً على الرَّاوي؛ إِمَّا لِكِبَره، أَو لذَهابِ بصرِه، أَوْ لاحتِراقِ كُتُبِه أَو عدَمِها، بأَنْ كانَ يعْتَمِدُها فَرَجَعَ إِلى حفظِهِ فساءَ فهذا هو المُخْتَلِطُ. والحُكْمُ فيهِ أَنَّ ما حَدَّث بهِ قَبْل الاختلاطِ إِذا تَمَيَّز قُبِل1، وإِذا لم يَتَمَيَّزْ تُوُقِّفَ فيهِ، وكذا مِن اشتَبَهَ الأمرُ فيهِ، وإنما يُعرف ذلك باعتبارِ الآخذين عنه2.   1 قوله: قُبِلَ مُرَادُهُ أَيْ: إذا كان من أهل الثقة. 2 ومعرفةِ تاريخِ أخْذِهم عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 [ الحسن لغيره ] ومتى تُوبعَ السيءُ الحفظ بمُعْتَبَرٍ1: كأَنْ يكونَ فَوْقَهُ، أو مِثلَهُ، لا دونه،   1 جَبْرُ الرواية بتعدد الطرق: شَرْطها في المتابَعِ، بالفتح، أن يكون ضعفه محتمَلاً، بحيث يمكن جبره بتعدد الطرق؛ وذلك إذا لم يكن الطعن منصباً على العدالة، كسوء الحفظ، والاختلاط الذي لم يتميز، والمستور، والمرسَل، والمدلَّس. وشَرْطها في المتابِعِ، بكسر الباء، أن يكون المتابِعُ معتَبَراً في المتابعة، أو معتَبَراً به في هذا الباب، وذلك بأن يكون -في درجة الثقة- أعلى من المتابَع، أو مثلَهُ، لا دُونَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وكذا المختلِط الذي لم يتميز، والمستور، والإِسنادُ المُرْسَلُ، وكذا المدلَّس إِذا لم يُعْرف المحذوفُ منهُ = صارَ حديثُهم حَسناً، لا لذاتِهِ، بل وصْفُهُ بذلك باعتبارِ المَجْموعِ، مِن المتابِع والمتابَع؛ لأن1 كلَّ واحدٍ منهم احتمالُ أن تكون روايته صواباً، أو غير صوابٍ، على حدٍّ سواءٍ، فإِذا جاءَتْ مِنَ المُعْتَبَرِين روايةٌ موافِقةٌ لأحدِهِم رَجَحَ أحدُ الجانِبينِ من الاحتمالين المذكورين، وَدَلَّ ذلك على أَنَّ الحديثَ محفوظٌ؛ فارْتَقى مِن درَجَةِ التوقف إلى درجة القبول. ومعَ ارْتِقائِهِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ فهُو مُنحَطٌّ عنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ لذاتِه، ورُبَّما تَوقَّف بعضُهم عنْ إِطلاقِ اسمِ الحَسَنِ عليهِ. وقد انْقَضى ما يتعلق بالمتن من حيثُ القبولُ والردُّ. ثمَّ الإِسْنادُ: وهُو الطَّريقُ الموصِلةُ إِلى المتنِ2. والمتنُ: هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام.   1 في نسخةٍ: لأن مع. 2 مباحث علم الحديث تنقسم في أصلها العام إلى قسمين: قِسْم يتعلق بمتن الحديث، وقِسْم يتعلق بسنده. وهنا قد انتهى الكلام على المباحث المتعلقة بالمتن. وسيشرع المؤلف هنا في المباحث المتعلقة بالسند، وإن كان قد دخل في ما مضى أبحاثٌ متصلة بالسند، ولكن استلزمها الحديث عن المتن. فائدة: قاعدة في التمييز بين ما يتعلق بالمتن أو بالسند: إذا أردت أن تنظر في مصطلحٍ ما، أو نوعٍ مِن أنواع علوم الحديث؛ لتعرف هل هو متعلق بالسند أو بالمتن فعليك النظر في المصطلح: هل هو وصْفٌ للمتن، أو للسند؛ فما كان وصفاً له منهما فهو مِن علومه فالمرفوع والمقطوع وصفان للمتن في الاصطلاح العام، وقد خرج عن ذلك بعضهم فوصَفَ المنقطع الذي لم يتصل سنده بالمقطوع، كالشافعي، والدارقطني، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المرفوع تصريحاً أو حكماً تعريفه ... [المرفوع تصريحاً أو حكماً] وهُو: 1 إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلم1 ويقتضي لفظُهُ-: أ- إما تصريحاً. ب- أَوْ حُكْماً-أَنَّ المنقولَ بذلك الإسنادِ مِن قوله صلى الله عليه وسلَّمَ، أَوْ مِن فِعْله، أو مِن تَقريرِهِ. مثالُ المَرفوعِ مِن القولِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصحابي: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ كذا، أَو: حدَّثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بكذا، أو يقول، هو أو غيرُه: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كذا، أَو: عنْ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال كذا، ونحو ذلك. ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصَّحابيُّ: رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَعَل كذا، أَو يقولَ، هُو أَو غيرُه: كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يفعَلُّ كذا. ومِثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ تَصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ: فعلتُ بحضرَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كذا، أَو يقولَ، هو أَو غيرُه: فَعَل فلان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، ولا يَذْكر إنكاره لذلك.   1 المرفوع: المرفوع قسمان: مرفوع تصريحاً، وهو: ما عزاه الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم صراحةً، والقسم الثاني: مرفوع حكماً، لا تصريحاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ومثال المرفوع مِن القول، حكماً لا تصريحاً: أَنْ1 يقولَ الصَّحابيُّ الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإِسرائيليَّاتِ- ما لا مجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، ولا لهُ تعلُّقٌ ببيانِ لغةٍ أَو شرحِ غريبٍ، كالإِخبار عن الأمور الماضية: مِن بَدْءِ الخلق، وأَخبارِ الأنبياء، أَو الآتيةِ2: كالملاحمِ، والفِتَنِ، وأَحوالِ يومِ القيامةِ، وكذا الإخبارِ3 عمَّا يَحْصل بفِعْلِهِ ثوابٌ مخصوصٌ، أو عقابٌ مخصوص4.   1 في الأصل ما والصواب ما أثبتُّ. والله أعلم. 2 أَيْ: الإخبار عن الأمور الآتية. 3 صوابه: الإخبار. بكسر الهمزة، وليس بالفتح كما في بعض النسخ. 4 وقول الصحابي، أو الموقوف على الصحابي، إنما يأخذ حكم الرفع بشرطين: الأول: أن يكون هذا الصحابي لا يأخذ عن الإسرائيليات. الثاني: أن يكون الكلام مما لا مجال للاجتهاد فيه. وقد تكلم الشيخ أبو عمرو على قول الصحابي: كنَّا نفعل، أو نقول كذا، إن لم يُضِفْه إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم: فقال أبو بكر البَرْقاني عن شيخه أبي بكر الإسماعيلي: إنه من قَبِيل الموقوف، وحكم النَّيْسابوري برفعه، لأنه يدل على التقرير، ورجَّحه ابنُ الصلاح. قال: ومن هذا القَبيل قولُ الصحابيّ: كنَّا لا نَرى بأساً بكذا، أو كانوا يفعلون أو يقولون، أو يقال كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم-: إنه من قبيل المرفوع. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132   = وقولُ الصحابي أُمِرنا بكذا، أو نُهينا عن كذا: مرفوع مسنَد عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وخالف في ذلك فريق، منهم أبو بكر الإسماعيلي، وكذا الكلام على قوله من السّنة كذا، وقول أنَسٍ أُمِرَ بلال أن يَشْفَع الأذانَ ويُوتر الإقامةَ. قال: وما قيل من أن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، فإنما ذلك فيما كان سَببَ نُزولٍ، أو نحوَ ذلك. أما إذا قال الراوي عن الصحابي: يَرفعُ الحديثَ أو يَنْميه أو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عند أهل الحديث من قبيل المرفوع الصريح في الرفع. والله أعلم، الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص46-47. وعلق الشيخ أحمد شاكر على أن قول الصحابي: أُمِرنا بكذا أو نُهينا عن كذا يُعَدُّ مرفوعاً؛ فقال: وهو الصحيح، وأقوى منه قول الصحابي أُحل لنا كذا، أو حُرِّم علينا كذا، فإنه ظاهر في الرفع حكماً، لا يحتمل غيره، انظر شرحنا على مسند أحمد، في الحديث 5723، وانظر أيضاً الكفاية للخطيب ص 420-422. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص47، حاشية 1. وعلق، أيضاً، على القول بأن تفسير الصحابي في حكم المرفوع؛ فقال: أما إطلاق بعضهم أن تفسير الصحابة له حكم المرفوع، وأن ما يقوله الصحابي، مما لا مجال فيه للرأي مرفوع حكماً كذلك: فإنه إطلاقٌ غير جيد، لأن الصحابة اجتهدوا كثيراً في تفسير القرآن، فاختلفوا، وأفتوا بما يرونه من عمومات الشريعة تطبيقاً على الفروع والمسائل، ويظن كثير من الناس أن هذا مما لا مجال للرأي فيه. وأما ما يحكيه بعض الصحابة من أخبار الأمم السابقة، فإنه لا يعطى حكم المرفوع أيضاً، لأن كثيراً منهم، رضي الله عنهم، كان يروى الإسرائيليات عن أهل الكتاب، على سبيل الذكرى والموعظة، لا بمعنى أنهم يعتقدون صحتها، أو يستجيزون نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاشا وكلا. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص47، حاشية 2. وهذا تحقيق نفيس. وقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى: 13/340: وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبُخَارِيّ يُدْخله في المسند، وغيره لا يُدْخله في المسند، وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره؛ بخلاف ما إذا ذكر سبباً نزلت عقبه، فإنهم كلهم يُدخِلون مثل هذا في المسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وإِنَّما كانَ لهُ حُكْمُ المَرفوعِ؛ لأنَّ إِخْبَارَهُ بذلك يقتضي مُخْبِراً له، وما لا مَجالَ للاجتِهادِ فيهِ يَقتَضي موقِّفاً للقائلِ بهِ، ولا مُوَقِّفَ للصَّحابَةِ إِلاَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أَو بعضُ مَنْ يُخْبِرُ عَن الكُتبِ القديمةِ1؛ فلهذا وَقَعَ الاحْتِرازُ عنِ القسمِ الثَّاني. فإذا كانَ كذلك، فلهُ حُكمُ ما لو قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهُو مرفوعٌ سواءٌ كانَ ممَّا سمِعَهُ منهُ، أو عنه بواسطة. ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ حُكماً: أَنْ يَفْعل ما لا مَجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، فَيُنَزَّلُ على أَنَّ ذلك عندَه عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، كما قال الشافعي في صلاة عَلِيٍّ في الكُسوفِ في كلِّ ركعةٍ أكثرَ مِن رُكوعَيْنِ. ومثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ حُكْماً: أَنْ يُخْبِرَ الصحابيُّ أَنَّهُم كانُوا يفْعَلونَ في زمانِ النبي صلى الله عليه وسلَّمَ كذا، فإِنَّهُ يكونُ لهُ حُكْم الرَّفعِ مِن جهةِ أنَّ الظاهر اطِّلاعُهُ صلى الله عليه وسلَّمَ على ذلك؛ لِتَوَفُّرِ دَواعِيهِم على سُؤالِهِ عن أمور دينهم، ولأن ذلك الزمانَ زمانُ نزولِ الوحي؛ فلا يقع من الصحابة فِعْل شيءٍ ويستمرُّونَ عليهِ إِلاَّ وهُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 غيرُ ممنوعِ الفعل. وقد استدل جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما على جوازِ العَزْل بأَنَّهُم كانوا يفعَلونَه والقرآنُ يَنْزل، ولو كانَ ممَّا يُنْهَى عنه لَنَهَى عنه القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 [ الألفاظ الدالة على الرفع حكما ً] : 1- ويَلتحق بقوله "حُكْماً" ما وردَ بصيغةِ الكنايةِ في موضعِ الصِّيَغِ الصَّريحةِ بالنِّسبةِ إِليه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كقولِ التَّابعيِّ عنِ الصَّحابيِّ: يَرْفع الحَديثَ، أو يَرْويه، أو يَنْمِيه، أَو روايةً، أَو يَبْلُغُ1 بهِ، أَو رواهُ. 2- وقد يَقْتَصِرونَ على القول مع حَذْفِ القائلِ. ويُرِيْدُونَ بهِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كقولِ ابنِ سيرينَ عنْ أَبي هُريرةَ قالَ: قالَ: "تُقاتِلونَ قَوْماً ... "، الحديث2، وفي كلامِ الخطيب أنه اصطلاحٌ خاصٌّ بأهل البصرة.   1 ضَبَطها في طبعة د. عتر بفتح اللام، وهو خطأ. 2 البخاري، 3591، المناقب، ولفظه: عن قَيْس، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فَقَالَ: صَحِبْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ سِنِينَ، لَمْ أَكُنْ فِي سِنِيَّ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ أَعِيَ الْحَدِيثَ مِنِّي فِيهِنَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ- وَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ-: "بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 [قول الصحابيّ: "مِن السُّنَّةِ كذا"] : 3- ومِن الصِّيَغِ المحتَملَةِ قولُ الصَّحابيِّ: مِن السُّنَّة كذا: أ- فالأكثر أَنَّ ذلك مرفوعٌ، ونَقل ابنُ عبدِ البرِّ فيهِ الاتِّفاقَ، قالَ: وإِذا قالَها غيرُ الصَّحابيِّ فكذلك، ما لم يُضِفْها إِلى صاحِبِها، كسُنَّةِ العُمَرَيْن، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 نقْل الاتِّفاقِ نظرٌ؛ فعَنِ الشَّافعيِّ في أَصلِ المسألة قولان. ب-وذَهَبَ إِلى أَنَّهُ غيرُ مرفوعٍ أَبو بكرٍ الصَّيرفيُّ1 مِن الشَّافعيَّةِ، وأَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفية، وابن حزم2 مِن أَهلِ الظَّاهِرِ، واحتَجُّوا بأَنَّ السُّنَّةَ تتردَّدُ بين النبي صلى الله عليه وسلَّمَ وبينَ غيرِه. وأُجِيبوا: بأَنَّ احْتِمالَ إرادةِ غيرِ النبي صلى الله عليه وسلم بعيدٌ، وقد روى البُخَارِيّ في صحيحِه في حديثِ ابنِ شِهابٍ عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ في قصَّتِه معَ الْحَجَّاج حينَ قالَ لهُ: إِنْ كُنْتَ تُريدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بالصلاة قالَ ابنُ شِهابٍ: فقلتُ لسالمٍ: أَفَعَلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّمَ؟ فقالَ: وهل يَعْنون بذلك إِلاَّ سُنَّتَهُ؟!، فَنَقَلَ سالمٌ -وهو أحدُ الفُقهاءِ السَّبعَةِ3 مِن أهل المدينة، وأحدُ الحفَّاظِ مِن التَّابعينَ- عنِ الصَّحابةِ أَنَّهم إِذا أَطلقوا السُّنَّة لا يُريدونَ بذلك إِلاَّ سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وأما قول بعضهم: إنْ كانَ مرفوعاً فَلِمَ لا يقولونَ فيهِ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.   1 هو محمد بن عبد الله الصيرفي أبو بكر، الفقيه الشافعي، أحد المتكلمين المشهورين بالنظر في زمانه، ت330هـ، وله تصانيف، منها: شرح رسالة الشافعي وغيره في الأصول والفروع. 2 هو علي بن أحمد بن سعيد الشهير بابن حزم، المحدث الحافظ، 384-456هـ، إمامٌ من أئمة المذهب الظاهري، قد ناصر المذهب بتآليفه فيه، منها: المحلى في الفقه، والإحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه، وله: الفِصَل في المِللِ والأهواءِ والنحل. 3 وهم: خارجة بن زيد، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فجوابُهُ: إِنَّهُم تَرَكوا الجَزْمَ بذلك تورُّعاً واحتِياطاً1، ومِن هذا قولُ أَبي قِلابة2 عن أَنسٍ: مِن السُّنَّة إِذا تزوجَ البكرَ على الثَّيِّبِ أقام عندها سبعاً أخرجاه في الصحيح3. قال أبو قِلابة: لو شئتُ لقلتُ: إِنَّ أَنساً رفَعَهُ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. أَيْ: لو قلتُ لمْ أَكذبْ؛ لأَنَّ قولَه: "مِن السُّنَّةِ" هذا معناه، لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابة أَولى.   1 ليس هذا هو الظاهر؛ إذْ لو كان الاحتياط في نسبةِ ألفاظٍ معيّنةٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكان مقبولاً، أمّا في نسبة الفعل فأيُّ تورّعٍ وأيّ احتياطٍ في هذا! يكفي أنه نسب الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظٍ كان؛ فإنّ معناه عنده هو نسبته وعزوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!!. بل الجواب الصحيح هو: أنهم عبَّروا عن المعنى بلفظٍ آخر واصطلاحٍ آخر يؤدّي معناه، وقد استخدموا تلك الألفاظ المؤدّية للمعنى، وأطلقوها على الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم جزماً، كما هو واضحٌ، مثلاً، مِن روايةِ سالمٍ هذه، التي صَرّح فيها جازماً، لمن سأله، بأن المقصود سنّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو تنويع وتفنن في الرواية، ليس إلا. 2 هو عبد الله بن زيد الجَرْمي، البصْري، ثقة فاضل، كثير الإرسال، هرب من تولي منصب القضاء، ت104هـ، حديثه في الكتب الستة. 3 في نسخةٍ: الصحيحين. والحديث أخرجه البخاري برقم 5214، النكاح، قال: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَخَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثاً، ثُمَّ قَسَمَ"، قَالَ أَبُو قِلابَةَ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَساً رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ وَخَالِدٍ. قَالَ خَالِدٌ: وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ: رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وهو عند مسلم برقم 1461، الرضاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 [قولُ الصَّحابيِّ: "أُمِرنا بكَذا أَو نُهِينا عنْ كذا"] : 4- ومِنْ ذلك قولُ الصَّحابيِّ: "أُمِرنا بكَذا"، أَو "نُهِينا عنْ كذا"، فالخِلافُ فيهِ كالخلافِ في الَّذي قَبْلَهُ؛ لأنَّ مُطْلَق ذلك ينصَرِفُ بظاهِرِه إِلى مَنْ لهُ الأمرُ والنَّهْيُ، وهُو الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم. وخالف في ذلك طائفةٌ تَمَسّكوا باحتمالِ أَنْ يَكونَ المرادُ غيرُهُ، كأَمرِ القرآن، أو الإجماع، أو بعض الخلفاء، أَو الاستِنْباطِ؟ وأُجيبوا: بأَنَّ الأصلَ هو الأوَّلُ، وما عداهُ محتَمِلٌ، لكنَّهُ بالنسبةِ إليهِ مرجوحٌ، وأيضاً، فَمَن كان في طاعةِ رئيسٍ إِذا قالَ: أُمِرْتُ، لا يُفْهَمُ عنهُ أَنَّ آمِرَه إِلاَّ رئيسُهُ. وأَمَّا قولُ مَن قالَ: يُحْتمل أنْ يُظَنَّ ما ليسَ بأَمْرٍ أَمْراً1، فلا اختصاصَ لهُ بهذهِ المسأَلَةِ، بل هُو مذكورٌ فيما لو صَرَّح؛ فقالَ: أَمرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّمَ بكذا، وهو احتمالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الصَّحابيَّ عدْلٌ عارفٌ باللِّسانِ؛ فلا يُطْلِقُ ذلك إِلاَّ بعد التحقيق.   1 في نسخةٍ: بآمر آمراً. وهو خطأٌ قطعاً؛ لأن الاعتراض بهذا المعنى قد سبق في الفقرة السابقة، وهذا الاعتراض في هذه الفقرة اعتراضٌ جديد، لا علاقة له بتحديد الآمر، وإنما بفهْم الأمر ذاته. ولهذا كان جواب المؤلف -رحمه الله تعالى- هو قوله: فلا اخْتِصاصَ لهُ بهذهِ المسأَلَةِ، بل هُو مذكورٌ فيما لو صَرَّح فقالَ: أَمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 [ قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" ] : 5- ومِن ذلك قولُه: كنَّا نفعَلُ كذا، فلهُ حكم الرفع، أيضاً، كما تقدم. 6- ومِن ذلك أن يَحْكم الصحابيُّ على فعلٍ مِن الأفعالِ بأَنَّه طاعةٌ للهِ، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لرسوله، أَو معصيةٌ1، كقولِ عمارٍ: "مَن صامَ اليومَ الَّذي يُشَكُّ فيهِ فقدْ عَصى أَبا القاسِمِ صلى الله عليه وسلم". فهذا حُكْمُهُ2 الرفعُ، أَيضاً؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذلك ممَّا تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم3.   1 هذا ليس على إطلاقه، وإنما يأخذ حكم الرفع إذا كان كلاماً لا مجال للرأي فيه؛ لأن الصحابة قد تكلّموا في مثل هذا بالاستنباط؛ فشرْطه ليأخذ حكم الرفع أن لا يكون الصحابيّ قاله استنباطاً واجتهاداً. 2 في نسخةٍ: فلهذا حَكَمَ. 3 قوله: لأن الظاهر أن ذلك مما تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قلتُ: ليس هذا هو الظاهر دائماً، وإنما هو الظاهر إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، وكان الصحابي ليس ممن يأخذ عن الإسرائيليات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 [ الموقوف ] 2 أو ينتهي غايةُ الإِسنادِ إلى الصَّحابِيِّ كَذلكَ1، أَيْ: مِثْلُ ما تقدَّمَ في كونِ اللَّفْظِ يَقْتَضي التصريحَ بأنّ المنقولَ2 هُو مِن قولِ الصَّحابيِّ، أَو مِن فِعْلِهِ، أَو مِن تقريرِهِ3، ولا يَجِيءُ فيهِ جميعُ ما تَقدمَ4، بل   1 أَيْ: مِن قوله أو فعله أو تقريره، تصريحاً أو حكماً، أَيْ: كما مضى في تعريف المرفوع. 2 في نسخةٍ: المقول، والصواب: المنقول، كما مضى في المرفوع؛ ولأن المنقول ليس كله قولاً، بل منه ما هو فعلٌ. 3 قوله: أو مِن تقريره، هذه فيها خلاف، والذي يترجح أنه لا يَتناوله اسم الموقوف؛ لأنّ هناك فرقاً بين النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنظر إلى مَن سِواه. 4 أَيْ: في المرفوع. أَيْ: ليس كل ما قلناه في المرفوع يجيء هنا. لماذا؟. الجواب: لأن التشبيه لا يُشترط فيه المساواة مِن كل وجهٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 معظمُهُ، والتَّشبيهُ1 لا تُشترط فيهِ المُساواةُ مِنْ كلِّ جهةٍ. ولَمَّا2 كان هذا المختصَر شاملاً لجميعِ أنواعِ علومِ الحَديثِ3 اسْتطردْتُ منهُ إِلى تَعريفِ الصَّحابيِّ ما4 هو؛ فقلت:   1 أَيْ الحاصل بقوله: كذلك. 2 في نسخةٍ: ولما أن. 3 انظر ما مضى في مقدمة التحقيق مِن ميزات نزهة النظر. 4 في نسخةٍ: من. وما أثبتُّه هو الذي في الأصل. وقد كُتِبَ في الحاشية في الأصل هنا: مطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 تعريف الصحابي تعريفه ... [تعريف الصحابي] وهو مَن لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تَخَلَّلتْ رِدَّةٌ في الأصح1. والمرادُ باللِّقاءِ: ما هُو أعمُّ: مِن المُجالَسَةِ، والمُماشاةِ، ووصولِ أَحدِهِما إِلى الآخَرِ، وإِنْ لم يكالِمْهُ، ويَدْخُل فيهِ رؤيةُ أحدِهما الآخَرَ، سواءٌ كانَ ذلك بنفْسِهِ أم بغيرِهِ. والتعبير باللُّقيِّ أَولى مِن قولِ بعضِهم: الصحابيُّ مَنْ رأَى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه   1 تعريف الصحابي، هو: مَنْ لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام ... ، هذا التعريف هو الذي عليه البُخَارِيّ كما ذكر في فضائل الصحابة مِن صحيحه. وبعضهم اعتبر الصحبة بطول المجالسة، ولكن هذا ليس الذي عليه الجمهور. فالصواب هو الاكتفاء بتوافر هذين العنصرين الأساسيين في صحة الصحبة: 1- أن يَلْقى النبيَّ صلى الله عليه وسلم. 2- أن يكون لُقُيُّهُ وهو مؤمن به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 يُخْرِج1 ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ونحوَه مِن العُمْيان، وهُمْ صحابةٌ بلا تردُّدٍ.   1 في نسخةٍ: يخرج حينئذٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 [ شرح التعريف ] : و"اللُّقِيُّ" في هذا التعريف كالجنس. 1- وقولي: "مؤمناً به" كالفصْلِ، يُخْرِجُ مَنْ حصَل لهُ اللِّقاءُ المذكورُ، لكنْ، في حالِ كونِه كافراً. 2- وقَوْلي: "بهِ". فصْلٌ ثانٍ يُخْرجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤمِناً، لكنْ، بغيره من الأنبياء. لكنْ، هل يُخْرِج مَنْ لَقِيَهُ مُؤمِناً بأَنَّهُ سيبعث ولم يُدْرِك البعثة؟. فيه نَظَرٌ2. 3- وقَوْلي: "وماتَ على الإِسلامِ"، فصْلٌ ثالثٌ يُخْرِجُ مَن ارتدَّ، بعد أن لقيه مؤمناً، وماتَ على الرِّدَّةِ، كعُبَيْدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ، وابن خَطَلٍ. 4- وقَوْلي: "ولو تخلَّلت رِدَّةٌ"، أي: بينَ لُقِيِّهِ لهُ مُؤمِناً بهِ، وبينَ موتِه على الإِسلامِ، فإِنَّ اسمَ الصُحْبَةِ باقٍ لهُ، سواءٌ رجع إِلى الإسلامِ في حياتِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم، أم بعده، سواءٌ لقيه ثانياً أَمْ لا. 5- وقَوْلي: "في الأصحِّ" إشارةٌ إِلى الخِلافِ في المسأَلةِ، ويدلُّ على رُجْحانِ الأوَّلِ قصةُ الأشعثِ بنِ قيسٍ؛ فإِنَّه كانَ ممَّنِ ارتدَّ، وأُتِيَ بهِ إِلى أَبي بكرٍ الصديق أسيراً؛ فعاد إلى الإسلام فقَبِلَ منه وزَوَّجه أُخْتَهُ، ولم يتخلَّفْ أحدٌ عنْ ذكْرِه في الصَّحابةِ، ولا عنْ تخريجِ أحاديثِهِ في المسانيد وغيرها.   1 قوله: فيه نظر؛ وذلك لأن التعريف لا ينطبق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 تنبيهان: لا خَفاءَ برجحانِ1 رتبةِ مَنْ لازَمَه صلَّى الله عليه وسلَّمَ وقاتَلَ معَهُ أَو قُتِلَ تحتَ رايتِه على مَنْ لم يلازمْه، أَو لم يَحْضر معه مَشْهَداً، وعلى مَن كلَّمَهُ يَسيراً، أَو ماشاهُ قَليلاً، أَو رآه على بُعْدٍ، أو في حال الطفولية2، وإن كان شرفُ الصحبةِ حاصلاً للجميع. ومَنْ ليسَ لهُ مِنهُم سماعٌ منهُ فحديثُهُ مرسَلٌ3 مِن حيثُ الروايةُ، وهُم معَ ذلك معدودون في الصَّحابةِ؛ لما نالوهُ مِن شرفِ الرُّؤيةِ4. ثانيهما 5: يُعْرَفُ كَوْنُه صحابياً. 1- بالتواتر.   1 في نسخةٍ: لا خفاء في رجحان. وهي أَولى مِن الباء. والمثبت هو الذي في الأصل. 2 هكذا في الأصل. ولا يَبْدو داعٍ لهذه النسبة. ثم إنه -كما علّق د. عتر- المقصود بهذا: الطفولة في حالِ التمييز. 3 في الأصل هنا حاشية: مطلب: ما يُعرف به الصحابي، ق19ب. 4 مرسل الصحابي فَعَلَه صنفان من الصحابة: الأول: الصحابة الصغار الأسنان، الذين لم يتمكنوا من السماع مِن النبي صلى الله عليه وسلم لصغر سنهم. والثاني: مَنْ لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ولكن، لم يَسْمع منه حديثاً. فهذان الصنفان إذا حدَّث أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث؛ فإن حديثه يكون مرسلاً عندئذ-وإن جاء في صورةِ المرفوع-. ولا يَعْرف هذا إلا مَنْ عَرف حال هؤلاء. 5 في حاشية الأصل هنا: مطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 2- أَو الاستفاضَةِ أَو الشُّهْرةِ. 3- أَو بإخبارِ بعضِ الصحابةِ. 4- أَو بعضِ ثقاتِ التَّابِعينَ1. 5- أَو بإِخباره عن نفسه بأنه صحابي، إذا كانت دعواهُ ذلكَ تدخُلُ تحتَ الإِمكانِ2. وقد اسْتَشْكل هذا الأخيرَ جماعةٌ مِن حيثُ إِنَّ دعواهُ ذلك نظيرُ دَعْوى مَن قالَ: أَنا عدْلٌ، ويَحْتاج إلى تأمُّلٍ3.   1 في الأصل هنا حاشية، هي: قوله: أو بعض ثقات التابعين، هذا مبني على قبول التزكية مِن واحد، وهو الراجح، ق19ب. وقد جاءت هذه العبارة في طبعة نور الدين عتر: الثقات التابعين. وهو مخالفٌ لما في الأصل. 2 هنا في الأصل حاشية في ق19ب، لم تظهر في التصوير، تتعلّقُ -فيما يبدو-بشهادة التابعي الثقة على تأييد دعوى مَن ادّعى الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم. 3 قلتُ: الفرق بينهما أنّ الأَول تزكيةٌ، وأما الثاني فروايةٌ، وإنْ كان مِن لازِمها الحكم له بالعدالة، وقد قام الإجماع على قبول روايات الصحابة، ومنها ما ثبت مِن فضائلهم مِن رواياتهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودوّنها الأئمة في كتب الحديث، على حَدِّ ما قاله عبد الرحمن المعلِّمي في التنكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 التابعي تعريفه ... [التابعي] 3 أَوْ تنتَهي غايةُ الإِسنادِ إِلى التَّابِعيَ. وهو مَن لَقِيَ الصَّحابِيَّ كذلكَ. وهذا متعلِّقٌ باللُّقِيِّ وما ذُكِر معهُ، إِلاَّ قيدُ الإِيمانِ بهِ، فذلك خاصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هُو المُختارُ، خلافاً لِمَن اشْتَرَطَ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 التابعي طولَ الملازمة، أو صحةَ السماعِ أو التمييز1.   1 قلتُ: الظاهر أنّ التمييز يختلف عن اشتراط طول الملازمة، وصحة السماع؛ لأن لاشتراطه وجهاً معقولاً، ويدل عليه قياسُهُ على اشتراطه في الصحابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 المُخَضْرَمون تعريفه ... [المُخَضْرَمون] وبَقِيَ1 بين الصحابةِ والتابعين طبقةٌ أُخرى، اخْتُلِفَ في إِلحاقِهِم بأيِّ القِسمين، وهُم: المُخَضْرَمون الذين أدركوا الجَاهِليَّةَ والإِسلامَ، ولم يَرَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فعدَّهم ابنُ عبدِ البرِّ في الصَّحابةِ، وادَّعى عياضٌ، وغيرُهُ، أنَّ ابنَ عبدِ البرِّ يقولُ: إِنَّهُم صحابةٌ، وفيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّهُ أَفصح في خطبةِ كتابِهِ بأَنَّهُ إِنَّما أَورَدَهُم لِيَكونَ كتابُه جامِعاً مستوعِباً لأهل القَرْن الأول. والصحيح أنهم معدودون في كبار التابعين، سواءٌ عُرِف أَنَّ الواحِدَ منهُم كانَ مُسلماً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كالنجاشي أم لا، لكنْ، إنْ ثبتَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسْراءِ كُشِفَ لهُ عن جَميعِ مَنْ في الأرْضِ فرَآهُمْ؛ فيَنْبَغِي أنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مُؤمِناً بهِ في حياتِه إِذْ ذاكَ، وإنْ لمْ يُلاقِهِ، في الصَّحابةِ، لحُصولِ الرؤية في حياته صلى الله عليه وسلم2.   1 في حاشية الأصل هنا: مطلب. 2 قلتُ: هذا فيه نظر؛ لكون الرواية ليست صحيحة -والله أعلم- وعلى فرض صحتها فليست كافيةً لِعَدّهم في الصحابة؛ لأنهم لم يَروا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَلقوه، وَفق تعريف الصحابي. وأيضاً ليست رؤية النبي افتراضاً، وإنما رؤيةُ لُقْيا ومُجَالسة .... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع ... [تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع] فالقِسم الأوَّلُ ممَّا تقدَّمَ ذِكْرُهُ، مِن الأقسامِ الثلاثةِ -وهو ما تنتهي إليه غايةُ الإِسنادِ- هُو المَرْفوعُ، سواءٌ كانَ ذلك الانتهاء بإسنادٍ متصل أم لا. والثاني المَوْقوفُ -وهو: ما انْتَهَى إلى الصَّحابيِّ-. والثَّالِثُ: المقطوع، وهو ما انتهى إلى التابعي. ومَنْ دون التابعي مِن أَتْباع التابعين، فَمَنْ بعدهم، فيهِ، أَيْ: في التَّسميةِ مثلُهُ، أَي: مثلُ ما ينتَهي إِلى التَّابعيِّ في تسميةِ جميعِ ذلك مَقطوعاً، وإِنْ شئتَ قلتَ: موقوفٌ على فلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 [الفرقُ بين المقطوع والمنقطع] فحصَلَت التفرقةُ في الاصطِلاحِ بين المَقطوعِ والمُنْقَطِعِ؛ فالمُنْقَطِعُ مِن مباحِثِ الإِسنادِ -كما تقدَّمَ- والمَقْطوعُ مِن مباحِثِ المَتْنِ، كما ترى، وقد أَطلقَ بعضُهم هذا في موضعِ هذا، وبالعكس، تجوُّزاً عن الاصطلاح. ويقال للأخيرين، أي الموقوف والمقطوع: الأثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 [ المسند ] والمُسْنَدُ1 في قولِ أَهلِ الحَديث: "هذا حديثٌ مسندٌ" هو: مرفوعُ صحابيٍ بسندٍ ظاهرُهُ الاتِّصالُ.   1 اصطلاحات المسند: يُطْلَق المسنَد على المعاني التالية: 1- الحديث المرفوع المتصل السند. 2- وقيل: الحديث المرفوع مطلقاً، بغضِّ النظر عن السند. 3- الحديث المسنَد أَيْ: المتصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فَقَوْلي: "مرفوعُ" كالجِنس. وَقَوْلي: "صحابيٍ" كالفصلِ، يَخْرج به ما رَفَعَهُ التابعيُّ؛ فإِنَّه مرسَلٌ، أَو مَنْ دونَه؛ فإِنَّه معضَلٌ، أو معلَّقٌ. وَقَوْلي: "ظاهرُهُ الاتصال"، يَخْرج به ما ظاهرُهُ الانقطاعُ، ويَدْخل ما فيه الاحتمالُ، وما يوجَدُ فيه حقيقةُ الاتصالِ، مِن بابِ الأَولى. ويُفْهَم مِن التَّقييدِ بالظُّهورِ أنَّ الانقطاعَ الخفيَّ، كعنعَنَةِ المدلِّس، والمعاصِرِ الذي لم يَثْبُتْ لُقِيُّه = لا يُخْرِجُ الحديثَ عن كونِه مسنَداً؛ لإِطباقِ الأئمَّةِ الَّذينَ خَرَّجُوا المسانيد على ذلك. وهذا التَّعريفُ موافِقٌ لقَولِ الحاكمِ: الْمُسْنَد: "ما رواهُ المحدِّث عن شيخٍ يَظْهر سماعُهُ منهُ، وكذا شيخه عن شيخه، متصِلاً إِلى صحابيٍ إِلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم". وأمَّا الخَطيبُ فقالَ: المسنَدُ: المُتَّصلُ. فعلى هذا: الموقوفُ إِذا جاءَ بسندٍ متصلٍ يسمَّى عندَه مسنَداً، لكنْ، قال: إنَّ ذلك قد يأْتي، لكنْ، بِقِلَّةٍ. وأَبْعَدَ ابنُ عبدِ البرِّ حيثُ قالَ: المسنَدُ: المرفوعُ، ولم يَتعرض للإِسنادِ، فإِنَّهُ يَصْدق على المرسَل والمعضَل والمُنقطِعِ، إِذا كان المتن مرفوعاً، ولا قائل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 العالي تعريفه ... [العالي] فإنْ قلَّ عَدَدُهُ، أَيْ: عددُ رجالِ السندِ، فإِمَّا: 1- أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم بذلك العدد القليل بالنسبة إلى سندٍ آخَرَ، يَرِدُ به ذلك الحديثُ بعَيْنِهِ بعددٍ كثيرٍ. 2- أَوْ ينتهيَ إِلى إمامٍ مِنْ أَئمَّةِ الحَديثِ ذي صفةٍ عَلِيَّةٍ: كالحفظِ، والفقهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والضبطِ، والتصنيفِ، وغيرِ ذلك مِن الصِّفاتِ المُقتَضِيَةِ للتَّرجيحِ، كشعبةَ ومالكٍ، والثوريِّ1، والشافعيِّ، والبُخَارِيّ، ومسلمٍ، ونحوِهِمْ.   1 هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، الكوفي، 97-161هـ، وهو إمام في الفقه والحديث والزهد والورع، روى له الستة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 [ العلو المطلق ] فالأوَّلُ: -وهُو ما ينتَهي إِلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ-: العلوُّ المطْلَق، فإِن اتَّفَقَ أَنْ يكونَ سندُهُ صحيحاً كانَ الغايةَ القُصْوى، وإِلاَّ فصورةُ العلوِّ فيهِ موجودةٌ، ما لم يكُنْ موضوعاً؛ فهو كالعدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 [ العلو النسبي ] والثَّانِي: العلوُّ النِّسْبِيُّ، وهُو ما يَقِلُّ العَدد فيه إلى ذلك الإمام، ولو كان العدد مِن ذلك الإِمامِ إِلى مُنتهاهُ كَثيراً. وقد عَظُمَتْ رغبةُ المُتأَخِّرينَ فيهِ، حتَّى غَلب ذلك على كثيرٍ منهُم، بحيثُ أَهملوا الاشتِغالَ بما هُو أَهمُّ منهُ. وإِنَّما كانَ العلوُّ مَرغوباً فيهِ لكونِه أَقربَ إِلى الصحةِ وقلةِ الخطأِ؛ لأنَّهُ ما مِن راوٍ مِن رجالِ الإِسنادِ إِلاَّ والخطأُ جائزٌ عليهِ، فكلَّما كَثُرَت الوسائطُ وطالَ السندُ كَثُرَت مظانُّ التجويز، وكلَّما قلَّتْ قلَّتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 [قد يترجح النزولُ على العُلوِّ] : فإِنْ كانَ في النُّزولِ مَزِيَّةٌ ليستْ في العلوِّ: كأنْ تكونَ رجاله أوثقَ منهُ، أَو أحفظَ، أَو أفقَهَ، أَو الاتصالُ فيه أظهَرُ، فلا تردُّدَ1 أَنَّ النزولَ، حينئذٍ، أَولى. وأَمَّا مَن رجَّح النُّزولَ مُطلقاً واحتجَّ بأنَّ كَثرةَ البحثِ تقتَضي المشقةَ؛ فَيَعْظُمُ الأجْرُ، فذلك ترجيحٌ بأمرٍ أَجنبيٍّ عما يتعلق بالتصحيح والتضعيف.   1 في نسخةٍ: فلا تردد في. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 [أقسام العلوّ النسبيِّ ومعنى الموافقة والبدل والمساواة والمصافحة] : 1- وفيه، -أَيْ: العلوِّ النسبيِّ-: الموافَقَةُ 1، وهي: الوُصولُ إلى شيخِ أحدِ المصنِّفين مِن غيرِ طريقِهِ، أَي: الطَّريقِ التي تصل إلى ذلك المُصَنِّفِ المعَيَّنِ. مثالُه: روى البُخَارِيّ عن قُتيبةَ2 عن مالكٍ حديثاً، فلو رَوَيْناهُ مِن طريقِهِ كانَ بينَنا وبين قتيبةَ ثمانيةٌ، ولو رَوْينا ذلك الحديثَ، بعَيْنِهِ، مِن طريقِ أبي العباس السَرَّاج3، عن قُتيبةَ، مثلاً، لكانَ بينَنا وبينَ قتيبةَ فيه سبعةٌ؛ فقد حَصَلَ لنا الموافقةُ معَ البُخَارِيّ في شيخِهِ بعَيْنِهِ مع عُلُوِّ الإسناد إليه. 2- وفيه، -أَيْ: العلوِّ النسبيِّ-: البَدَلُ: وهو الوُصولُ إِلى شيخِ شيخِهِ كذلك، كأنْ يَقَعَ لنا ذلك الإسنادُ، بعَيْنِهِ، مِن طريقٍ أُخرى إِلى القَعْنَبِي عن مالكٍ؛ فيكونُ القعنبيُّ بَدَلاً فيهِ مِن قتيبةَ. وأكثرُ ما يَعْتبرون الموافقةَ والبدَلَ إِذا قارَنَا العلوَّ، وإِلاَّ فاسمُ الموافقةِ والبدَلِ واقعٌ بدونه.   1 في الأصل هنا حاشيةٌ، نصها: تفريعه على العلو النسبي غير ظاهر، وإنما هو مفرّع على القسم الثالث، الذي ذكره في التقريب، فراجعْه، ق20ب. 2 هو: قتيبة بن سعيد، ثقة ثبت، ت240هـ. 3 هو: محمد بن إسحاق بن إبراهيم السرَّاج، شيخ خراسان، ثقةٌ حافظٌ، 216-313هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 3- وفيهِ، -أَيْ: العلوِّ النسبيِّ-: المساواةُ: وهي استواءُ عددِ الإِِسنادِِ مِن الرَّاوي إِلى آخِرِهِ، أَي: الإِسنادِ مَعَ إسنادِ أحدِ المصنِّفِين. كأَنْ يَرْوِي النسائيُّ، مَثلاً، حَديثاً يقعُ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيهِ أحدَ عشرَ نفساً، فيقعُ لنا ذلك الحديثُ، بعَيْنِهِ، بإسنادٍ آخرَ إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَقَع بيننا وبينَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحدَ عشرَ نفساً؛ فَنُساوي النسائيَّ، مِن حيثُ العددُ، معَ قطْع النظرِ عن ملاحظةِ ذلك الإِسنادِ الخاصِّ. 4- وفيه، -أَيْ: العلوِّ النسبيِّ أَيضاً-: الْمُصَافَحَةُ: وهي: الاستواءُ مَعَ تلميذِ ذلكَ المصنِّف، على الوجه المَشروحِ أوَّلاً، وسُمِّيت مُصافحةً لأنَّ العادةَ جَرَت، في الغالبِ، بالمُصافحةِ بينَ مَن تَلاقَيَا، ونحنُ في هذهِ الصُّورةِ كأَنَّا لَقِيْنَا النسائيَّ؛ فكأَنَّا صافحناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 النزول تعريفه ... [النزول] ويُقابِل العلوَّ، بأَقْسَامِهِ المَذكورةِ، النزولُ؛ فيكونُ كلُّ قِسْمٍ مِن أَقسامِ العلوِّ يُقابِله قِسْمٌ مِن أَقسام النُّزولِ، خِلافاً لِمَن زعمَ أَنَّ العلوَّ قد يقع غيرَ تابعٍ لنزولٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 [رواية الأقران والمدبَّج] فإنْ تَشارَكَ الرَّاوِي ومَنْ رَوى عَنْهُ، في أمرٍ مِن الأمورِ المتعلِّقَةِ بالرِّوايةِ: مثلَ السِّنِّ، واللقيّ، والأَخْذِ عن المشايخِ = فهُو النُّوعُ الَّذي يُقال لهُ: روايةُ الأَقْران؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ راوياً عن قَرِينِهِ. وإنْ رَوى كلٌّ مِنْهُما، أَي: القَرِينين1، عن الآخر فهو المُدبَّج. وهو   1 الأقران هم الرواة المتقاربون في السن والإسناد، واكتفى بعضهم بالتقارب في الإسناد، وهو الاشتراك في الأخذ عن المشايخ. ورواية القرين عن القرين قسمان: الأول: المدبج، وهو أن يرويّ كل منهما عن الآخر. الثاني: غير المدبج، وهو أن يرويَ أحد القرينين عن الآخر، ولا يروي الآخر عنه. وفائدة هذا النوع الصيانة عن الخطأ. حاشية عتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أَخصُّ مِن الأوَّلِ؛ فكلُّ مُدَبَّجٍ أَقرانٌ، وليسَ كلُّ أَقرانٍ مُدَبَّجاً. وقد صَنَّفَ الدَّارقطنيُّ في ذلك، وصَنَّفَ أَبو الشيخِ الأصبهانيُّ1 في الَّذي قبلَه. وإِذا روى الشَّيخُ عن تلميذِهِ صدَقَ أنَّ كلاًّ منهما يَرْوِي عن الآخر؛ فهل يُسَمَّى مُدَبَّجاً؟ فيهِ بحثٌ، والظَّاهرُ: لا؛ لأنَّهُ مِن روايةِ الأكابِرِ عَنِ الأصاغِرِ، والتَّدبيجُ مأْخوذٌ مِن دِيباجَتَيْ الوجهِ؛ فَيَقْتَضِي أَن يكونَ ذلك مُستوِياً مِن الجانبَيْنِ؛ فلا يجيءُ فيهِ هذا.   1 هو: عبد الله بن محمد بن جعفر الأنصاري الأصبهاني، المفسر، والمحدث الحافظ، وكان مع سعة علمه صالحاً خيراً قانتاً لله ويكثر في كتبه من الغرائب، ت369هـ، له: العظمة، وطبقات المحدثين بأصبهان وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 رواية الأكابر عن الأصاغر تعريفه ... [رواية الأكابر عن الأصاغر] وإن روى الراوي عمن هو دونه في السنِّ، أَو في اللُّقِيِّ، أَو في المِقْدار = فهذا النَّوعُ هو روايةُ الأكابِرُ عَنِ الأصاغر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 [ الآباء عن الأبناء ] ومِنْهُ، أَيْ: مِن جُمْلةِ هذا النوعِ -وهو أَخَصُّ مِن مُطْلقِهِ- روايةُ الآباءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عَنِ الأبْناءِ، والصحابةِ عنِ التَّابعينَ والشيخِ عن تلميذِهِ، ونحوِ ذلك. وفي عَكْسِهِ كثرةٌ؛ لأنَّهُ هو الجادّةُ المسْلوكةُ الغالبةُ. ومِنْه مَن رَوى عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وفائدةُ معرفةِ ذلك التمييزُ بينَ مراتِبِهِم، وتنزيلُ الناسِ منازِلَهم. وقد صَنَّفَ الخطيب في روايةِ الآباءِ عنِ الأبناءِ تصنيفاً، وأَفرد جُزءاً لطيفاً في روايةِ الصَّحابةِ عن التَّابِعينَ. وجَمَع الحافظُ صلاح الدين العَلائيُّ1، مِن المتأَخِّرينَ، مُجلَّداً كبيراً في معرفةِ مَن رَوى عن أَبيهِ، عن جدِّهِ، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ وقسَّمه أَقساماً: فَمِنْه ما يعودُ الضَّميرُ في قولِه عن جدِّهِ على الرَّاوي. ومنهُ ما يعودُ الضَّميرُ فيهِ على أَبيهِ. وبَيَّنَ ذلك وحقَّقَهُ، وخَرّج في كلِّ ترجمةٍ حديثاً مِن مَرْوِيِّهِ، وقد لخّصْتُ كتابَهُ المذكورَ وزِدْتُ عليهِ تَرَاجِمَ كثيرةً جِدّاً. وأَكثرُ ما وقعَ فيه ما تسلسلتْ فيه الرواية عن الآباء بأربعةَ عشرَ أباً.   1 هو: خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي صلاح الدين أبو سعيد، 694-761هـ، وكان حافظاً ثبتاً ثقةً، عارفاً بأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهاً متكلماً أديباً، من كتبه: جامع التحصيل لأحكام المراسيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 [ السابق واللاحق ] وإن اشْتَرَكَ اثْنَانِ عَنْ شيخٍ وتَقدَّم موتُ أحدِهما على الآخَرِ؛ فهُوَ السَّابِقُ واللاَّحِقُ. وأكثرُ ما وَقَفْنا عليهِ مِن ذلك ما بينَ الرَّاوْيَيْنِ فيه في الوفاة مائة وخَمْسونَ سنةً، وذلك أَنَّ الحافظَ السِّلَفِيَّ1 سَمِع منهُ أَبو عليٍّ البَرَدَاني2-أحدُ مشايخِهِ- حَديثاً، ورواه عنه، ومات على رأس الخمسمائة، ثمَّ كانَ آخِرَ3 أصحابِ السِّلَفِيّ بالسماعِ سِبْطُهُ أبو القاسمِ عبدَ الرحمنِ بن مَكِّيٍّ، وكانتْ وفاتُهُ سنةَ خمسين وستمائة. ومِن قديمِ ذلك أَنَّ البُخَارِيّ حدَّث عن تلميذه أبي العباس السَّرَّاج أشياء4، في التَّاريخِ وغيرِه، وماتَ سنةَ ستٍّ وخمسينَ ومائتين، وآخِرُ مَن حَدَّث عن السَّرَّاج، بالسَّماعِ، أَبو الحسين الْخَفَّاف5، وماتَ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ وثلاثِ مئةٍ. وغالِبُ ما يقعُ مِن ذلك أَنَّ المسموعَ منه قد يتأخر بعد6 أحدِ الراويين   1 هو: أحمد بن محمد بن أحمد سِلَفَه، الأصفهاني، أبو طاهر السِّلَفِي، إمام حافظ فقيه مُعَمَّر، 472-576هـ، شاع حديثه وكلامه مع القبول، وقد جاوز المائة، له مؤلفات كثيرة. 2 هو: أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البَرَداني، 426-498هـ، كان أحد المبرزين في الحديث، فقيهاً حنبلياً. 3 في نسخةٍ: آخرُ. وضَبَطَ سبطُهُ، بعدها، بفتح الطاء. 4 في نسخةٍ: شيئاً. وهو خطأٌ. 5 هو: أحمد بن محمد النيسابوري، الخفّاف، نسبة إلى الخُفّ، لأنه كان يصنع الخِفاف أو يبيعها، اشتهر بالزهد والورع، ت393هـ. 6 في نسخةٍ: بعد موت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 عنهُ زماناً؛ حتَّى يسمَعَ منهُ بعضُ الأحداثِ، ويعيش بعد السماع، دَهْراً طويلاً؛ فَيَحْصل مِن مجموعِ ذلك نحوُ هذه المدة. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 [الرواية عن مُتَّفِقي الاسم] وإنْ رَوى الرَّاوي عَنِ اثْنَيْنِ مُتَّفِقِي الاسْمِ، أَو معَ اسمِ الأبِ، أَو معَ اسمِ الجدِّ، أو مع النسبة، ولم يتميزا بما يَخُصُّ كلاً منهما = فإنْ كانا ثقتين لم يَضُرَّ. ومِن ذلك ما وقع في البُخَارِيّ في روايتِه عن أَحمدَ، غيرَ منسوبٍ، عن ابنِ وَهْبٍ؛ فإِنَّهُ إِمَّا أَحمدُ بنُ صالحٍ، أَو أَحمدُ بنُ عيسى. أَو عن محمدٍ، غيرَ منسوبٍ، عن أَهلِ العراقِ؛ فإِنَّهُ إِمَّا محمَّدُ بنُ سَلاَمٍ، أَو محمَّدُ بنُ يَحْيى الذُّهْلِي. وقدِ استوعبتُ ذلك في مقدِّمةِ شرحِ البُخَارِيّ. ومَن أراد لذلك ضابطاً كُلِّياً يمتاز1 أَحدُهما عنِ الآخَرِ فباختصاصِهِ، أَي الشيخِ المرويِّ عنه، بأَحَدِهِما يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ، ومتى لم يتَبَيَّنْ ذلك، أَو كانَ مختَصّاً بهما معاً، فإِشكاله شديدٌ؛ فَيُرْجَع فيه إلى القرائنِ والنظرِ2 الغالب.   1 في نسخةٍ: يمتاز به. 2 في نسخةٍ: والظن. وأشار في حاشية الأصل إلى أن هذا خلاف نسخةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 [ إنكار الراوي لحديثه ] وإنْ رَوى عن شيخٍ حَديثاً فَجَحَد الشيخُ مَرْوِيَّهُ: فإنْ كانَ جزْماً: كأَنْ يقولَ: كذِبٌ عليَّ، أَو: ما رويتُ هذا، أَو نحوَ ذلك، فإنْ وَقَع منه ذلك رُدَّ ذلك الخبرُ1 لِكَذِب واحدٍ منهما، لا بعينه،   1 في حاشية الأصل: قوله: ذلك الخبر إنما قال الخبر ولم يقل الحديث أدباً؛ ولأنه لم يَثْبُت كونُه حديثاً؛ ولهذا قال فيما بعده: قُبِل ذلك الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ولا يكونُ ذلك قادِحاً في واحدٍ منهُما؛ للتَّعارُضِ. أَوْ كانَ جحْدُه احْتِمالاً، كأنْ يقولَ: ما أَذكر هذا1، أو لا أعرفه = قُبِلَ ذلك الحديثُ في الأصَحِّ؛ لأَنَّ ذلك يُحْمَل على نِسيانِ الشَّيخِ. وقيلَ: لا يُقْبل؛ لأنَّ الفرعَ تبعٌ للأَصل في إِثباتِ الحَديثِ، بحيث إذا أَثْبَتَ2 الأصلُ الحديثَ ثَبتَتْ روايةُ الفرع، وكذلك3 ينْبَغي أَنْ يكونَ فرعاً عليهِ، وتَبَعاً لهُ -في التحقيق-في النفي4. وهذا مُتَعَقَّبٌ فإن5 عدالَةَ الفرعِ تقتَضي صِدْقَهُ، وعدمُ عِلْمِ الأصلِ لا يُنافيهِ، فالمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النَّافي. وأَمَّا قياسُ ذلك بالشَّهادةِ ففاسدٌ؛ لأنَّ شهادةَ الفرعِ لا تُسْمَع معَ القُدرةِ على شَهادةِ الأَصلِ، بخلاف الرواية؛ فافترقا. وفيه، أي: في هذا النَّوعِ، صَنَّفَ الدَّارقطني كتابَ: "مَنْ حَدَّث ونَسِيَ"، وفيه ما يدلُّ على تَقْوِيَةِ المذهب الصَّحيحِ؛ لكونِ كثيرٍ مِنهُم حدَّثوا بأَحاديثَ6 فلما عُرِضَتْ عليهم لم يتذكروها، لكنَّهُم؛ لاعْتِمادِهم على الرُّواةِ عنهُم، صارُوا يَرْوونها عنِ الَّذينَ رَوَوْها عنهُم، عن أَنْفُسِهِم، كحَديثِ   1 في الأصل هنا حاشيةٌ في: ق 22- أ، توضيحية، لم تظهر في التصوير. 2 في نسخةٍ: ثَبَتَ. وهو خطاٌ. 3 في نسخةٍ: فكذلك. 4 جاءت كلمة في النفي في الأصل ملحقةً في الحاشية، في ق 22 ب. 5 في نسخةٍ: بأن. 6 في نسخةٍ: بأحاديث أولاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 سُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ مرفوعاً في قِصَّةِ الشَّاهِدِ واليَمينِ، قالَ عبدُ العزيزِ بنُ محمَّدٍ الدَّراوَرْدِي: حدَّثني بهِ ربيعةُ بنُ أَبي عبدِ الرحمنِ1 عن سهيل، فلقيتُ سُهيلاً فسأَلتُه عنهُ فلم يَعْرِفْهُ، فقلتُ: إنَّ ربيعةَ حدَّثني عنكَ بكذا، فكانَ سُهَيْلٌ بعد ذلك يقول: حدثني ربيعةُ عَنِّي أَنِّي حدَّثتُه عن أَبِي بهِ. ونظائرُهُ كثيرة.   1 هو المعروف بربيعة الرأي، واسم أبيه فَرّوخ، لقّب ربيعة بالرأي لإمعانه فيه، ثقة فقيه، ت136هـ، روى له الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 [المُسَلْسَل] وإن اتفق الرَّواةُ في إسنادٍ مِن الأسانيدِ في صِيِغِ الأداء: كسمعت فلاناً، قالَ: سمعتُ فُلاناً، أَوْ: حدَّثنا فُلانٌ، قال: حدثنا فلان، وغير ذلك من الصِّيَغِ، أَوْ غَيْرِها مِن الحالاتِ القولية، كسمعت فلاناً يقول: "أشهد بالله1 لقد حدثني فلان ... "، إلى آخره، أَو الفِعليَّةِ كقولِه: "دَخَلْنا على فُلانٍ فأَطْعَمَنا تمراً ... " إلى آخره، أو القولية والفعلية معاً كقوله: "حدثني فلان وهو آخذ بلحيته قال: آمنتُ بالقَدَر ... "، إلى آخره = فهو المسَلْسَلُ2. وهو مِن صفات الإِسنادِ، وقد يقعُ التَّسلسُلُ في مُعْظم الإِسنادِ، كحديث   1 في نسخةٍ: أشهد الله. وما أثبتُّه هو الصحيح. 2 المسلسل : يكثر الضعف في المسلسلات، ولكن صَحَّتْ أحاديث مسلسلة، ومنها ما هو في الصحيحين. ولهذا التسلسل دلالةٌ خاصة في التوثيق، حينما يكون الحديث ثابتاً، وبه تمتاز السنّة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 المسلسَل بالأوَّلية، فإِنَّ السَّلْسَلَةَ تنْتَهي فيهِ إِلى سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ فقط، ومَنْ رواهُ مُسلْسَلاً إلى منتهاه فقد وَهِمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 صيغ الأداء و مراتبها مراتبها ... [صيغ الأداء ومراتبها] وصِيغ الأداء المشار إليه على ثمانية1 مراتِبَ: الأولى: سمعتُ وحَدَّثَني. ثمَّ أخْبَرَني وقرأتُ عليهِ وهي المرتبةُ الثَّانيةُ. ثمَّ قُرِئ عَلَيْهِ وأَنا أَسْمَعُ وهي الثالثةُ. ثمَّ أَنْبَأَني وهي الرَّابعةُ. ثمَّ ناوَلَني وهي الخامسةُ. ثمَّ شافَهَني أَيْ بالإِجازةِ وهي السَّادسةُ. ثمَّ كَتَبَ إليَّ أَيْ بالإجازة وهي السابعة. ثم "عن"، ونحوها: مِن الصِّيَغ المحتَمِلَةِ للسَّماعِ والإِجازةِ، ولِعدمِ السَّماعِ أَيضاً، وهذا مثل: قال وذَكر ورَوَى.   1 يراجع في صيغ الأداء: الإلماع..، للقاضي عياض، وجامع الأصول..، لابن الأثير، 1/ 78-90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 [محل استعمال تلك الصِيَغِ] واللفظان الأَوَّلان مِن صِيَغ الأداءِ، وهُما: سمعتُ وحدَّثني صالِحانِ لِمَنْ سَمِع وَحْدَهُ مِن لَفْظِ الشَّيْخِ. وتخصيصُ التحديث بما سُمِع من لفظ الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 هو الشَّائعُ بينَ أَهلِ الحَديثِ اصطِلاحاً، ولا فرقَ بينَ التَّحديثِ والإِخبارِ مِن حيثُ اللُّغةُ، وفي ادِّعاءِ الفرقِ بينَهما تكلُّفٌ شديدٌ، لكنْ، لما تقرَّر الاصطلاحُ صارَ ذلك حقيقةً عُرفِيةً فَتُقَدَّمُ على الحقيقةِ اللُّغويةِ، معَ أَنَّ هذا الاصطلاحَ إِنَّما شاعَ عندَ المَشارِقة ومَنْ تَبِعَهُم، وأَمَّا غالب المغاربة فلم يستعملوا هذا الاصطلاح، بل الإخبارُ والتحديثُ عندَهُم بمعنىً واحدٍ. فإنْ جَمع، الرَّاوي أَيْ: أَتى بصيغةِ الجَمْعِ في الصِّيغةِ الأولى، كأنْ يقولَ: حدَّثَنا فلانٌ، أَو: سَمِعْنا فلاناً يقولُ = فهُو دليلٌ على أَنَّه سَمِعَ منهُ مَعَ غَيْرِهِ، وقد تكونُ النُّونُ للعظمة، لكن، بِقِلِّةٍ. وأَوَّلُها، أَيْ: المراتِبِ1 أَصْرَحُها، أَيْ: أصرحُ صِيِغِ الأَداءِ في سماع قائلها؛ لأنها لا تحتمل الواسطة، لكن، 2 "حدثني" قد تُطلق في الإِجازةِ تدليساً. وأرفَعُها مِقداراً ما يقعُ في الإِمْلاءِ؛ لِمَا فيهِ مِن التثبُّتِ والتحفُّظِ. والثالث: وهو أخبرني، والرابع: وهو قرأت = لمن قرأ بنفسه على الشيخ، فإن جَمَع كأنْ يقولَ: أخبرنا، أو: قرأنا عليه، فهو كالخامس، وهو: قُرِئَ عليهِ وأَنا أَسمعُ. وَعُرِفَ مِن هذا أَنَّ التعبيرَ "بِقَرَأْتُ" لِمَن قرأَ خيرٌ مِن التَّعبيرِ بالإِخبارِ؛ لأنَّهُ أَفصحُ بصورةِ الحالِ. تنبيهٌ: القراءةُ على الشَّيخِ أَحَدُ وجوهِ التحمُّلِ عندَ الجُمهورِ، وأَبْعَدَ مَنْ أبى ذلك   1 في نسخةٍ: أَيْ: صيغ المراتب. 2 في نسخةٍ: لأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 مِن أَهلِ العِراقِ، وقد اشتدَّ إنكارُ الإِمامِ مالكٍ، وغيرِهِ مِن المدنيِّينَ، عليهِم في ذلك، حتى بالغَ بعضُهُم فرجَّحها على السَّماعِ مِن لفظِ الشَّيخِ، وذهَبَ جَمْعٌ جَمٌّ، منهُم البُخَارِيّ -وحكاهُ في أَوائلِ صحيحِهِ عن جماعةٍ مِن الأئمَّةِ- إِلى أَنَّ السماعَ مِن لفظِ الشيخِ والقراءةَ عليهِ -يعني في الصِّحَّةِ والقُوَّةِ- سواءً، واللهُ أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 [مفهوم الإنباءِ لغةً واصطلاحاً] والإنباءُ مِن حيثُ اللغةُ1 واصطلاحُ المتقدِّمينَ بمعْنَى الإخبارِ، إِلاَّ في عُرْف المُتَأَخِّرينَ فهُو للإِجازَةِ كـ"عن"، لأنها في عرف المتأخرين للإجازة.   1 ضُبِطتْ في الأصل بالكسر، وهو خطأ. مع أنه ضَبط اصطلاح بعدها بالرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 [ المعنعن وحكمه ] وعَنْعَنَةُ المعاصِرِ محمولةٌ عَلى السَّماعِ1، بخلافِ غيرِ المُعاصِرِ فإِنَّها تكونُ مرسَلةً أَو مُنقطِعَةً، فشرْطُ حملها على السماع ثبوت المعاصَرَةِ، إلا مِن   1 العنعنة: بعد أن أنهى المؤلف صِيَغَ الأداء التي تُعَدُّ أصلاً في الاتصال، جاء بالأداة التي ليست أصلاً في الاتصال، وهي العنعنة. وحكمها: إذا كانت عنعنةَ معاصرٍ فحكمها الاتصال، ما لم يكن مدلِّساً؛ فَشَرْطُ حمْلِ العنعنة على الاتصال؛ إِذَنْ، شرطان: 1- المعاصرة. 2- عدم التدليس. وقد كَتَب المعلمي في التنكيل تحقيقاً عِلْميّاً في هذا الموضوع، بعنوان: مباحث في الاتصال والانقطاع، في: 1/78-83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المَدّلِّس1 فإنها ليست محمولةً على السماع. وقيلَ: يُشْترط في حملِ عنعنةِ المعاصِرِ على السماع ثبوتُ لقائهما، أَيْ: الشيخ والراوي عنه، ولو مرةً واحدةً؛ لِيَحْصل الأمنُ مِن باقي مَعُنْعَنِهِ2 عن كونِهِ من المرسَل الخفيِّ، وهُو المُخْتارُ، تبعاً لعليِّ بنِ المَدينيِّ، والبُخَارِيّ، وغيرهما من النُّقَّاد.   1 في نسخةٍ: مدلس. 2 في نسخةٍ: في باقي العنعنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 [ أحكام طرق التحمل والأداء ] وأَطْلَقُوا المشافهةَ في الإِجازَةِ المتلفَّظ بِها تجوُّزاً، وَكذا الْمُكاتَبَةُ في الإِجازَةِ المكتوبُ بِها: وهُو موجودٌ في عبارةِ كثيرٍ مِن المُتأَخِّرينَ، بخلافِ المتقدمين؛ فإنهم إنما يطلقونها فيما كَتب بهِ الشَّيخُ مِن الحديثِ إِلى الطَّالبِ، سواءٌ أَذِن لهُ في رِوايتِه أَم لا، لا فيما إذا كَتَب إليه بالإجازة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 [ شرط الرواية بالمناولة ] واشْتَرَطُوا في صِحَّةِ الرِّوايةِ بالمُناوَلَةِ اقترانَها بالإِذْنِ بالرِّوايةِ، وهِيَ إذا حَصَل هذا الشَّرطُ أرفعُ أنواعِ الإِجازَةِ؛ لِما فيها مِن التَّعيينِ والتَّشخيصِ. وصُوْرَتُها: أَنْ يَدفع الشيخُ أصلَهُ، أَو ما قامَ مقامَهُ للطَّالِبِ، أَو: يُحْضِرُ1 الطالبُ الأصلَ للشيخ، ويقول له في الصورتين: هذا روايتي عن   1 هكذا ضُبطتْ في الأصل بالرفع، والأولى ضَبطُها بالفتح عطفاً على ما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فلان فارْوِهِ عَنِّي، وشرْطه، أَيضاً، أَنْ يُمَكِّنَهُ منهُ: إِمَّا بالتَّمليكِ، وإِمَّا بالعاريَّةِ؛ لِيَنْقُلَ منهُ ويقابلَ عليهِ، وإِلاَّ إنْ ناولَهُ واستردَّ في الحال فلا يتبين لها زيادةُ1 مزيةٍ على الإِجازةِ المعَيَّنة، وهيَ: أن يُجِيزه الشيخُ بروايةِ كتابٍ معَيَّنٍ ويُعَيِّن لهُ كيفيَّةَ روايتِهِ لهُ. وإِذا خَلَت المُناولَةُ عن الإِذنِ لم يُعْتَبَرْ بها عندَ الجُمهورِ، وجَنَح مَن اعْتَبَرَها إِلى أنَّ مُناولَتَهُ إِيَّاهُ تقومُ مقامَ إرسالِهِ إليهِ بالكتابِ مِن بلدٍ إلى بلد. وقد ذهب إلى صحةِ الرواية بالكتابة المجرَّدةِ جماعةٌ مِن الأئمة، ولو لم يُقْرَنْ2 ذلك بالإِذنِ بالرِّوايةِ، كأَنَّهُم اكْتَفَوْا في ذلك بالقرينةِ، ولمْ يَظْهر لي فرقٌ قويٌّ بينَ مناولةِ الشيخ مِن يده للطالب، وبينَ إِرسالِهِ إِليهِ بالكتابِ مِن موضعٍ إِلى آخَرَ، إِذا خَلا كلٌّ منهُما عن الإِذنِ.   1 في نسخةٍ: تُتَبين أَرْفَعِيَّتُهُ لكن زيادة. 2 في نسخةٍ: يقترن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 [شرط الوِجَادة والوصيّة بالكتاب والإعلام] وكَذا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الوِجَادة: وهي: أَنْ يَجِدَ بخطٍّ يَعْرِفُ كاتِبَهُ1 فيقولُ: وجَدْتُ بخطِّ فلانٍ، ولا يَسُوغُ فيهِ إِطلاقُ أَخْبَرَني بمجرَّدِ ذلك، إِلاَّ إِنْ كانَ لهُ مِنه إذْنٌ بالرواية عنه،   1 كاتِبَهُ، هذا هو الصواب، كما في بعض النسخ، ولأنه ضَبطَ في الأصل كلمةَ يَعرِف بفتح الياء وكسْر الراء، وقد جاءت في طبعة د. عتر بضم الباء، وهو غلطٌ، ولم تُضْبط بالشكل في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وأَطْلَقَ قومٌ ذلك فَغُلِّطوا1. وكذا الوصية بالكتاب: وهو2: أن يوصي عندَ موتِه، أَو سفرِهِ، لشخصٍ مُعَيَّنٍ، بأَصلِه، أَو بأُصولِهِ، فقد قالَ قومٌ مِن الأئمَّةِ المتقدمين: يجوز له أَنْ يروِيَ تلكَ الأصولَ عنهُ بمجرَّدِ هذه3 الوصيَّةِ، وأَبَى ذلك الجُمهورُ، إِلاَّ إنْ كانَ له منه إجازةٌ. وكذا اشترطوا4 الإذن بالرواية في الإِعْلامِ: وهُو: أَنْ يُعْلِمَ الشيخُ أحدَ الطَّلبةِ بأَنَّني أَروي الكِتابَ الفُلانيَّ عن فُلانٍ، فإِنْ كانَ لهُ منهُ إجازةٌ اعْتُبِرَ، وإِلاَّ فلا عِبْرَةَ بذلك. كالإِجَازَةِ العَامَّةِ في الْمُجَازِ لهُ، لا في المُجازِ بهِ، كأَنْ يقولَ: أجزت لجَميعِ المُسلمينَ، أَو لِمَن أَدرك حَياتِي، أَو لأهل الإقليم الفلاني، أو لأهل البلد5 الفُلانيَّةِ، وهُو أَقربُ إِلى الصِّحَّةِ؛ لقُرْبِ الانحصارِ. وكذا6 الإِجازةُ للمَجْهُولِ، كأَنْ يَكونَ مُبْهَماً أَوْ مُهْمَلاً. وكذا الإِجازةُ للمَعْدومِ كأنْ يقولَ: أجَزْتُ لِمَنْ سَيولَدُ لفلان، وقد قيل: إنْ عَطَفَه على موجودٍ صحّ، وكأنْ يقول: أجزت لك ولِمَن سيولد لك، وقد   1 في نسخةٍ: فَغَلِطُوا. 2 في نسخةٍ: وهي. 3 سقطت من بعض النسخ. 4 في نسخةٍ: شرطوا. 5 في نسخةٍ: البلدة. 6 في نسخةٍ: وكذلك. وهكذا جعل الباقي الآتي كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقد قيل: الأقرب عدمُ الصحة، أيضاً، وكذلك الإِجازةُ لموجودٍ، أَو معدومٍ، عُلِّقَتْ بشرطِ مشيئةِ الغيرِ، كأنْ يقولَ: أجزتُ لكَ إِنْ شاءَ فلانٌ، أَو أجزتُ لِمَن شاءَ فُلانٌ، لا أَنْ يقولَ: أَجزْتُ لك إِنْ شئْتَ. وهذا في1 الأصح في جميع ذلكَ. وقد جَوَّز الرِّوايةَ بجَميعِ ذلك -سِوى المَجْهولِ، ما لم يَتَبَيَّنِ المُرادُ منهُ- الخطيبُ، وحَكاهُ عن جماعةٍ مِن مشايخِهِ، واستعمَلَ الإجازةَ للمَعدومِ مِن القُدماءِ أَبو بكرِ بنُ أَبي داود2، وأبو عبدِ اللهِ بنُ مَنْدَه3، واستَعْمَلَ المعلَّقةَ منهُم، أَيضاً، أَبو بكرِ بنُ أَبي خَيْثَمَة4، ورَوى بالإجازة العامَّةِ جَمْعٌ كَثيرٌ جَمَعَهُمْ بعضُ الحُفّاظ في كتَاب، ورتَّبهم على حروف المعجم لكثرتهم5.   1 في نسخةٍ: على. 2 هو: عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن أبي داود، المتوفى سنة 316هـ، كما في طبقات الحفاظ، 1/326، وقد كنت ذكرتُ في الطبعة الأولى من هذا الكتاب أنه: محمد بن داود بن سليمان، اشتهر بابن داود المحدث، حافظ، وشيخ الصوفية، ت342هـ، ولكن هذا خطأٌ أوقعني فيه نقلُ حواشي التراجم عن نور الدين عتر. 3 هو: محمد بن إسحاق بن محمد المشهور بابن منده، وكذا اشتهر جده محمد بن يحيى بذلك، 316-395هـ، ورحل في الآفاق، وسمع وكتب عن ألف وسبعمائة شيخ، ووصف بمحدث العصر، له مؤلفات كثيرة. 4 هو: أحمد بن أبي خيثمة، زهير بن حرب أبو بكر، الحافظ الحجة الإمام 185-279هـ، وأخذ عن الأئمة: أحمد بن حنبل وابن معين وغيرهما، وكان عَلَماً في التاريخ ومعرفة أيام الناس، له كتاب: التاريخ في تاريخ رواة الحديث، قالوا: لا يعرف كتاب أغزر فوائد من كتابه هذا في التاريخ. 5 قال الحافظ العراقي بعد أن ذَكرَ عدداً مِن المجيزين للرواية بالإجازة العامّة: وخلائق كثيرون جمعهم الحافظ أبو جعفر محمد بن الحسين بن أبي البدر، الكاتب، البغدادي، في جزءٍ كبير رتّب أسماءهم على حروف المعجم لكثرتهم ... ، التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، للعراقيّ، 154-155، وقال البلقيني: وقد جمع أبو جعفر البغدادي كتاباً فيه ذِكْر مَن جَوَّزها وكتب بها، محاسن الاصطلاح، 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وكلُّ ذلك، كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ: توسُّعٌ غيرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ الإِجازةَ الخاصَّةَ المُعَيَّنَةَ مُخْتَلَفٌ في صحَّتِها اختِلافاً قويّاً عندَ القُدماءِ، وإِنْ كان العمل استقرَّ على اعْتبارِها عندَ المتأَخِّرينَ، فهِيَ دونَ السماع بالاتِّفاقِ، فكيفَ إِذا حَصَل فيها الاسترسالُ المَذكورُ! فإِنَّها تَزدادُ ضَعفاً، لكنَّها، في الجُملةِ، خيرٌ مِن إِيرادِ الحَديثِ مُعْضَلاً1. واللهُ تعالى أَعلمُ. وإلى هُنا انْتَهى الكلامُ في أَقسامِ صِيَغِ الأداءِ.   1 قلتُ: مما ينبغي أن يلاحَظ أن الرواية بالإجازة، بأنواعها، قد روى بها بعض الناس، على الخلاف في الحاصل في حكم الجواز، لكن، لم تكن هي الأصل في نقْل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اعلمْ أنها لم يتوقف عليها شيء مِن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما النقل بها أَمْرٌ ثانويٌّ، ثمّ هي لم ينتشر الأخذ بها إلا في المتأخرين، بعد انتهاء عصر التدوين، وبعد أن أَصبح الاعتماد على الكتب أَمراً ظاهراً، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 [المُتَّفِقُ والمُفْتَرِقُ] ثمَّ الرُّواةُ: 1- إِنِ اتفقتْ أَسماؤهم وأَسْماءُ آبائِهِمْ فَصاعِداً، واختلفتْ أَشْخَاصُهُمْ، سواءٌ اتَّفَقَ في ذلك اثنان منهم أو أكثر، وكذلك إذا اتفق اثْنانِ فصاعِداً في الكُنيةِ والنِّسبةِ = فهُو النَّوعُ الذي يُقالُ لهُ: المُتَّفِقُ والْمُفْتَرِقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وفائدةُ معرفَتِه: خشيةُ أَنْ يُظَنَّ الشخصانِ شَخْصاً واحِداً، وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً حافِلاً، وقد لَخَّصتُه وزدتُ عليه شيئاً كثيراً. وهذا عَكسُ ما تقدَّمَ مِن النَّوعِ المسمَّى بالمُهْمَلِ؛ لأنَّهُ يُخشى منهُ أَن يُظَنَّ الواحِدُ اثنَيْنِ، وهذا يُخشى منهُ أَنْ يُظَنَّ الاثنانِ واحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 [المُؤتَلِفُ والمُخْتَلِفُ] 2- وإِنِ اتَّفَقَتِ الأَسْماءُ خَطّاً واخْتَلَفَتْ نُطْقاً سواءٌ كان مرجع الاختلاف النَّقْط أم الشَّكْل فهُو الْمُؤْتَلِفُ والْمُخْتَلِفُ. ومعرِفَتُه مِن مهمَّات هذا الفنِّ حتَّى قالَ عليُّ بنُ المَدينيِّ: أشدُّ التَّصحيفِ ما يقعُ في الأسماءِ. ووجَّهَهُ بعضُهم بأنه شيء لا يَدْخله القياسُ، ولا قَبْله شيءٌ يَدُلُّ عليهِ، ولا بَعْدَهُ، وقد صَنَّفَ فيهِ أَبو أَحمدَ العسكريُّ، لكنَّه، أضافه إلى كتابِ التَّصحيفِ له، ثمَّ أَفرَدَهُ بالتَّأْليفِ عبدُ الغنيِّ بن سعيد فَجَمع فيه كتابين: كتاب1 في مُشْتَبَهِ الأسماء، وكتاب2 في مُشْتَبَهِ النِّسبةِ، وجَمَع شيخُهُ الدَّارقطنيُّ في ذلك كتاباً حافلاً ثم جَمَع الخَطيبُ ذَيلاً. ثمَّ جَمَع الجميعَ أَبو نَصْرِ بنُ ماكُولا3 في كتابِه "الإِكمالِ"،   1 في نسخةٍ: كتاباً. 2 في نسخةٍ: كتاباً. 3 هو: علي بن هبة الله المعروف بابن ماكولا، سمع الحديث الكثير، وكان نحوياً وشاعراً مجيداً وأميراً، قتل سنة 485هـ، من كتبه: الإكمال في رفع الارتياب عن المتشابه من الأسماء والكنى والأنساب، مرجع هامٌ في بابه، خُلِّد به مؤلفه وشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 واسْتَدْرَكَ عليهِم في كتابٍ آخرَ جَمَع فيهِ أَوهامَهُمْ وبَيَّنها، وكتابُه مِنْ أجمعِ ما جُمِعَ في ذلك، وهُو عمدُة كلِّ محدِّثٍ بعدَه. وقد استَدْرَكَ عليهِ أَبو بكرٍ بنُ نقطةَ ما فاتَه، أو تَجدَّد بعدَه في مجلدٍ ضَخْمٍ، ثمَّ ذَيّل عليهِ منصورُ بنُ سَليم1 -بفتحِ السَّينِ- في مجلدٍ لطيفٍ، وكذلك، أَبو حامد بن الصَّابونيِّ2، وجَمَع الذهبيُّ3 في ذلكَ كِتاباً مختصَراً جِدّاً اعتَمَدَ فيهِ على الضَّبْطِ بالقَلَمِ؛ فَكَثُرَ فيهِ الغَلَطُ والتَّصحيفُ الْمُبَايِنُ لموضوعِ الكِتابِ. وقد يَسَّر4 الله تعالى بتوضيحه في كتاب سَمَّيتُه "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه"، وهو مجلدٌ واحدٌ؛ فضبطتُه بالحُروفِ على الطَّريقةِ المرْضِيَّة، وزدتُ عليهِ شيئاً كثيراً ممَّا أَهْمَلَهُ، أَو لَمْ يَقِفْ عليهِ، وللهِ الحمدُ على ذلك.   1 هو: منصور بن سَليم الهَمَذاني، حافظ مؤرخ، ت763هـ، من كتبه: الذيل على تذييل ابن نقطة على الإكمال. 2 هو: محمد بن علي بن محمود جمال الدين أبو حامد ابن الصابوني، 604-680هـ، وكتب الحديث ببلاد الشام ومصر والحجاز، وهو محدث مشهور حافظ، له مجلد في المؤتلف والمختلف ذيل على ابن نقطة. 3 هو: محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله شمس الدين الذهبي، الدمشقي، 673-748هـ، ورحل إلى مختلف البلدان، وأخذ من أزيد من ألف ومائتي نفس بالسماع والإجازة، فهو محدث الشام ومفيده، مؤلفاته كثيرة جداً، وكلها قيمة، منها: سير أعلام النبلاء، وميزان الاعتدال، والمغني في الضعفاء، والمشتبه في أسماء الرجال وغيرها. 4 في نسخةٍ: يسرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 [المتشابه من الرُّواة] 3- وإن اتفقت الأسماء: خَطّاً ونُطْقاً، واختلف الآباء نُطْقاً، مع اختلافهما1 خَطّاً: كمحمَّدِ بنِ عَقيل -بفتحِ العينِ- ومحمَّدِ بن عُقَيْل -بضمها-: الأول نيسابوريٌّ، والثاني فِرْيابيّ، وهما مشهوران وطبقتُهُما متقاربة. أو بالعكس: كأنْ تختلف الأسماء: نُطْقاً، وتَأْتَلِف خَطّاً، وتتَّفقَ الآباءُ: خَطّاً ونُطْقاً: كشُرَيْح بنِ النُّعمانِ، وسُرَيْج بنِ النُّعمانِ، الأوَّلُ بالشِّينِ المُعجمةِ والحاءِ المُهملةِ وهو تابعيٌّ يروي عن علي رضي الله عنهُ، والثَّاني بالسِّينِ المُهمَلَةِ والجيمِ وهُو مِن شُيوخِ البُخَارِيّ = فهُو النَّوعُ الَّذي يُقالُ لهُ: المُتشابِهُ. وكَذا إنْ وَقَعَ ذلك الاتِّفَاقُ في الاسمِ واسمِ الأبِ، والاختلافُ في النِّسبَةِ، وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً جَليلاً سَمَّاهُ "تَلخيصَ المتشابه" ثم ذيّل2 عليهِ أَيضاً بما فاته أَوَّلاً وهُو كثيرُ الفائدةِ. ويَتَرَكَّبُ مِنْهُ ومِمَّا قَبْلَهُ أَنْواعٌ: مِنها: أَنْ يَحْصل الاتِّفاقُ أو الاشتِباهُ في الاسمِ واسمِ الأبِ، مثلاً، إلاَّ في حرفٍ أَو حَرْفَيْنِ، فأكثرَ، مِن أَحدِهِما، أو مِنهُما. وهُو على قسمين: أ- إما بأن3 يكونَ الاخْتِلافُ بالتَّغييرِ، معَ أَنَّ عدَدَ الحُروفِ ثابتةٌ4   1 قال في حاشية الأصل هنا: صوابه: مع ائتلافهما، ق 25 -ب. 2 في نسخةٍ: ذيل هو. 3 في نسخة: أنز 4 كذا في الأصل، والصواب أن يقال: ثابتٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 في الجهتين. ب- أو يكون الاختلاف بالتغيير مع نقصانِ بعضِ الأسماءِ عن بعضٍ. فَمِن أَمثِلَةِ الأول: محمد بن سِنان -بكسر المُهمَلَةِ ونونينِ بينَهُما أَلِفٌ- وهُمْ جماعةٌ، منهُم العَوَقِيّ -بفتح العين والواو ثم القافِ- شيخُ البُخَارِيّ، ومحمَّدُ بنُ سَيَّار -بفتحِ المهملة وتشديد الياء التحتانية وبعد الألف راء- وهُمْ أيضاً جماعةٌ، منهم: اليماني1 شيخُ عُمرَ بنِ يونُسَ. ومنها: محمَّدُ بنُ حُنَين -بضم المُهمَلَةِ ونونينِ الأولى مفتوحةٌ بينَهما ياءٌ تحتانيَّةٌ- تابعيٌّ يَروي عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه، ومحمَّدُ بنُ جُبَيْر -بالجيم بعدها موحدة وآخره راء- وهو محمد بن جُبَيْر من مُطْعِم، تابعيٌّ مشهورٌ، أَيضاً. ومِن ذلك: مُعَرِّف بنُ واصِلٍ كوفِيٌّ مشهورٌ، ومُطَرِّفُ بنُ واصِلٍ -بالطَّاءِ بدلَ العينِ- شيخٌ آخرُ يروي عنهُ أَبو حُذيفَةَ النَّهْدِي. ومنهُ، أَيضاً: أَحمدُ بنُ الحسين صاحب إبراهيم بن سعد2، وآخرون، وأَحْيَدُ بنُ الحُسينِ، مثلُهُ، لكِنْ، بدلَ الميمِ ياءٌ تحتانيَّةٌ، وهو شيخٌ بخاريٌّ يروي عنهُ عبد الله بن محمد3 البِيكَنْدِي. ومِن ذلك، أَيضاً: حفْصُ بنُ مَيْسَرَةَ، شيخٌ مشهور من طبقة مالك، وجَعْفَرُ بنُ مَيْسَرَةَ شيخٌ لعُبَيْدِ اللهِ بنِ موسى الكوفي، الأول بالحاء المهملة   1 في نسخةٍ: اليمامي. 2 في نسخةٍ: سعيد. 3 في نسخةٍ: محمد بن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والفاءِ بعدها صاد مهملة، والثاني بالجيم والعين المُهْمَلَةِ بعدَها فاءٌ ثمَّ راءٌ. ومِن أَمثلَةِ الثاني: عبد الله بن زيد، وهُم جماعةٌ: منهُم في الصَّحابةِ: - صاحِبُ الأذانِ، واسمُ جدِّهِ عبدُ ربِّهِ. - وراوِي حديثِ الوُضوءِ، واسمُ جده عاصم. وهما أَنصاريَّانِ. وعبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ، بزيادةِ ياءٍ في أَوَّلِ اسمِ الأبِ والزَّايُ مكسورةٌ، وهُم أيضاً جَماعةٌ: منهُم في الصَّحابةِ: - الخَطْمِي يُكْنَى أبا موسى وحديثه في الصحيحين. - والقارئ، له ذكْرٌ في حديث عائشة. وقد زعَمَ بعضُهم أَنَّه الخطْمِيُّ. وفيهِ نظرٌ. ومنها: عبد الله بن يحيى، وهم جماعةٌ، وعبد اللهِ بنُ نُجَيّ -بضمِّ النُّونِ وفتحِ الجيمِ وتشديدِ الياءِ- تابعيٌّ معروفٌ يَرْوِي عن عليٍّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 [ المتشابه والمقلوب ] 4- أَوْ يَحْصُلُ الاتفاقُ في الخَطِّ والنُّطْقِ، لكنْ، يحصل الاختلاف أو الاشتباه بالتقديم والتَّأْخيرِ: إِمَّا في الاسمينَ جُملةً، أَو نَحْوَ ذلكَ، كأَنْ يقَعَ التقديمُ والتأخيرُ في الاسمِ الواحِدِ في بعضِ حُروفِهِ بالنِّسبةِ إِلى ما يشتَبِهُ بهِ. مثالُ الأوَّلِ: الأسودُ بنُ يزيدَ، ويزيدُ بنُ الأسوَدِ وهُو ظاهِرٌ، ومنهُ عبدُ الله ابن يزيد ويزيد بن عبد الله. ومثالُ الثَّانِي: أَيُّوبُ بنُ سَيّار، وأَيُّوبُ بنُ يَسار، الأوَّلُ مدَنيُّ مشهورٌ ليسَ بالقويِّ، والآخَرُ مجهول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 خاتِمَةٌ ومِن المهم عند المحدثين معرفةُ طبقاتِ الرواة. [ طبقات الرواة ] وفائدته: الأمْنُ مِن تَداخُلِ المُشتَبِهينَ. وإِمكانُ الاطِّلاعِ على تبيين المدلِّسين1. والوقوفُ على حَقيقةِ المُرادِ مِن العَنْعَنَةِ. والطَّبَقَةُ في اصْطِلاحِهِم: عبارةٌ عنْ جماعةٍ اشْتَركوا في السِّنِّ ولقاءِ المشايخِ. وقد يكونُ الشَّخصُ الواحِدُ مِن طبَقَتَيْنِ باعْتِبارينِ، كأَنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه، فإنه من حيثُ ثبوتُ صحبتِهِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُعَدُّ في طبقةِ العشرةِ، مثلاً، ومِن حيثُ صِغَرُ السِّنِّ يُعَدُّ في طبقةٍ2 بعدَهُم، فمَنْ نَظَرَ إِلى الصَّحابةِ باعْتِبارِ الصُّحبَةِ جَعَلَ الجميعَ طبقةً واحِدَةً، كما صَنَعَ ابنُ حِبّان، وغيرُه، ومَنْ نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ قدرٍ زائدٍ، كالسَّبْقِ إِلى الإِسلامِ، أَو شهودِ المَشاهِدِ الفاضِلَةِ، جعَلهم طبقاتٍ، وإِلى ذلك جَنَح صاحِبُ الطَّبقاتِ أَبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ سعدٍ البَغداديُّ3، وكتابُه أجمعُ ما جُمِعَ في ذلك. وكذلك مَن جاءَ بعدَ الصَّحابةِ، وهُم التَّابعونَ: مَن نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ الأخذِ عن بعضِ الصحابةِ = فقد جعَل الجميعَ طبقةً واحِدَةً، كما صَنَعَ ابنُ حبان، أيضاً، ومَن نَظر إِليهِم باعتبارِ اللِّقاءِ قسَّمهم، كما فعَلَ محمَّدُ بنُ سعدٍ، ولكلٍ منهُما وجْهٌ.   1 في نسخةٍ: التدليس. 2 في نسخةٍ: طبقةِ مَن. وهو خطأ. 3 هو: محمد بن سعد بن مَنيع الهاشمي مولى بني هاشم، كاتب الواقدي، محدثٌ عالم بالأخبار، صدوق فاضل ت262هـ، روى له أبو داود، أشهر كتبه: الطبقات الكبرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 التاريخ أهمية معرفة مواليد ووفيات الرواة ... [التاريخ] ومِن المهم، أيضاً، معرفة مواليدهم، ووفياتهم1. لأنَّ بمعرفتِها يَحْصل الأمْنُ مِنْ دَعوى المدِّعي لِلِقاءِ بعضِهِم، وهو في نفس الأمر ليس كذلك.   1 ذكْر تاريخ الولادة والوفاة مفيد في التمييز بين الأسماء المتفقة أحياناً ومفيد في معرفة الأقران والمتقدم والمتأخر، ومفيد في معرفة العصر الذي عاش فيه الشيخ، ومفيد في معرفة مكان ترجمته في الكتب المؤلفة على التواريخ لو أراد الإنسان ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أوطان الرواة فائدة معرفة أوطان الرواة ... [أوطان الرواة] وَمِن المُهمِّ، أَيضاً، معرفةُ بُلْدانهم وأَوطانِهم، وفائدتُهُ الأمنُ مِن تداخل الاسمين إذا اتَّفقا1، لكن، افترقا بالنسب.   1 في نسخةٍ: نطقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 معرفة الثقات والضعفاء أهميته ... [معرفة الثقات والضعفاء] ومِن المُهِمِّ، أَيضاً، معرفةُ أَحْوالِهِمْ: تَعْديلاً وتَجْريحاً، وجَهالةً؛ لأنَّ الرَّاويَ إِمَّا أَنْ تُعرَفَ عدالتُهُ، أو يُعرَفَ فِسْقُهُ، أوْ لا يُعرَف فيه شيءٌ مِن ذلك1.   1الجرح والتعديل: تعريفهما: الجرح: وصْف متى الْتحق بالراوي أو الشاهد رَدَّ روايتهما أو ضعّفها. التعديل: وصْف متى الْتحق بالراوي أو الشاهد حُكم بقبول روايتهما أو قوّاها. حال الرواة وأصنافهم مع الجرح والتعديل: وقد تكلّم أئمة الجرح والتعديل على رواة الحديث، وشمل كلامهم كل رواة الحديث جرحاً وتعديلاً -باستثناء الصحابة رضوان الله عليهم فكلهم عدول- وأَلَّفوا في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170   = ذلك المؤلفات المتعددة، وأرّخوا لحياة كل راوٍ بكل ما عرفوه عن حياته من ولادته إلى وفاته، قياماً منهم بواجب الجرح والتعديل حفاظاً على الشريعة المطهّرة، وأصبحت مؤلفاتهم -رحمهم الله- سجلاً حافلاً بتاريخ الرواة، ووثيقة تاريخية تتحطم عليها الشكوك والأوهام في هذا الباب، وبها يَسْقط التشكيك والنقد المغرِض المُعادي لمنهج علم الرواية وعلم الدراية عند المحدِّثين. وأصبح الرواة بناء على كلام العلماء فيهم جرحاً وتعديلاً -باستثناء الصحابة- على الأصناف الآتية: 1- الثقات، ويُكْتب حديثهم للاحتجاج به. 2- الضعفاء ضعفاً محتملاً غير شديد ويُكْتب حديثهم للاعتبار ليتقوّى في باب الشواهد والمتابعات. 3- الضعفاء ضعفاً شديداً ويكتب حديثهم لبيان ضعفه والتحذير منه. 4- العدول الذين لم يُعْرف مدى ضبطهم، ويكتب حديثهم للاختبار أي اختبار ضبطهم ويُحْكَم لهم بحسب النتيجة. 5- المختلف فيهم جرحاً وتعديلاً، وهؤلاء تُطبّق فيهم قواعد الجرح والتعديل المعتمدة في هذا الشأن. 6- المجهولون الذين لم يَرِد فيهم جرح ولا تعديل وهؤلاء معدودون في الضعفاء لعدم تحقّق أهليتهم للرواية. ينبغي ملاحظةُ دلالةِ ألفاظ الجرح والتعديل: ومن المهم في هذا الموضوع أن ينظر المرء في دلالة لفظة الجرح أو التعديل ليُقدِّر حكمها ودرجتها وهل تُسقِط رواية الراوي أم لا؟ أو هل لفظ التعديل تُقْبَلُ رواية الراوي بمقتضاها أم لا؟. ويأتي هذا عن طريق معرفة موجبات قبول الراوي وموجبات ردّه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171   = فالتعديل، مثلاً، لا يُحْكَمُ بناء عليه بقبول الراوي إلا إذا تناولَ التزكية في العدالة والضبط بقدْرِ ما يكفي للاحتجاج بالراوي، فلو قيل في راوٍ: عدلٌ. فإنه لا يكفي للاحتجاج به؛ لأنه لابد من توافر الضبط أيضاً، فإن قيل: عدلٌ ضابطٌ، قُبلتْ روايته، أو قيل: ثقة، فكذلك؛ لأن الثقة هنا في الغالب تتناول التزكية في العدالة والضبط. أهمية التثبت في تفسير الجرح والتعديل: وينبغي التثبت في فهم دلالة ألفاظ الجرح والتعديل ومراعاة مخارج هذه الألفاظ أي الظروف التي قيلت فيها واصطلاحات كل إمام. وينبغي مراعاة قواعد الأئمة المعتمدة في الجرح والتعديل، والاحتكام إلى قواعدهم فيمن ورد فيه جرح وتعديل. والله الموفق. قواعد في الجرح والتعديل: هذه بعض القواعد المهمّة في باب الجرح والتعديل، تمّ تحديدها مِن خلال طول التعامل مع كتب هذا الفن، فمن القواعد: 1- الجرح والتعديل لا يُقْبَلان إلا من عالمٍ بهما وبأسبابهما. 2- الجرح لا يُقْبَلُ إذا صدر بغير إنصاف. 3- جرح القرين في قرينه لا يُقْبَلُ إذا عارضه قول غيره فيه أو ظهرت قرائن تدلّ على تحامله عليه. 4- الجرح المبهم لا يُقْبَلُ إلا إذا كان من إمام معتبر ولم يعارضه تعديل. 5- الجرح المبهم إنما يُقْبَلُ في حق من خلا عن التعديل، أما من وُثِّق وعُدِّل فلا يُقْبَلُ فيه ذلك. 6- يُراعى عند تعارض الجرح والتعديل في الراوي الواحد مناهج الأئمة ومسالكهم في الجرح والتعديل مِنْ تَشدُّدٍ وتساهلٍ، وتعصّبٍ واعتدالٍ، ونحو ذلك، وكذلك المعاصَرة للراوي وعدمها، ونحو ذلك. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومِن أهم ذلك، بعدَ الاطِّلاعِ، معرفةُ مراتبِ الجَرْحِ والتَّعديلِ. لأنَّهُم قد يَجْرحون1 الشخصَ بما لا يستَلْزِمُ رَدَّ حديثِه كلِّهِ، وقد بَيَّنَّا أسبابَ ذلك فيما مَضى، وحَصَرْناها في عشرةٍ، وتقدَّم شرحُها مُفَصَّلاً. والغرضُ هُنا ذِكْرُ الألفاظِ الدَّالَّةِ في اصطلاحهم على تلك المراتب.   = 7- يجب مراعاة اصطلاحات الأئمة في ألفاظ الجرح والتعديل والفروق بينها، فتُنَزَّل كل عبارة على مراد قائلها، وبدون ذلك لا يمكن فَهْم كلامهم في الجرح والتعديل. 8- قبل اعتماد الجرح والتعديل في الراوي لا بدّ من أمرين: أ - التثبت من نسبتهما لقائلهما. ب- فهْم مراده منهما. 9- مراعاة مخارج ألفاظ الجرح والتعديل وأسبابهما أمرٌ لازم لفهم مراد الجارح والمعدّل واختيار الرأي الصائب في حقّ الراوي. 10- من الخطأ الاكتفاء -في الجرح والتعديل- بقول إمامٍ واحد في الراوي، إن كان تكلّم فيه غيره، إذْ لابد من الرجوع لأقوال كل من تكلّم في الراوي جرحاً وتعديلاً لِيُوازَن بينها فيؤخذ بالمقبول أو الراجح منها. أما إذا لم يوجد إلا قول إمام واحد فيكتفى به. 11- من شرْط تحقيق الإنصاف عدمُ الاقتصار على الأقوال في جرح الراوي فقط أو تعديله فقط، فلا بدّ لمعرفة درجته، من النظر للأمرين معا. والله الموفق الهادي إلى السداد. 1 في نسخةٍ مطبوعة ضبطها: يُجرِّحون؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 [ مراتب الجرح ] وللجرح مراتب1:   1 مراتب ألفاظ الجرح والتعديل: للجرح والتعديل ألفاظ متعددة غير منحصرة، وبحسب دلالة كل لفظ وبحسب اصطلاح قائله تكون درجته في باب الجرح أو التعديل. واختلفت طريقة الأئمة في عدّهم لمراتب الجرح و مراتب التعديل ، والذي يعنينا هنا هو العلْم بأن ألفاظ الجرح والتعديل ليست في مرتبة واحدة، فالتعديل بأوثق الناس أو ثقة ثقة ليس كالتعديل بثقة أو لا بأس به أو صالح. والجرح بأكذب الناس أو كذاب أو دجّال أو يضع الحديث ليس كالجرح بـ ليّن أو سيّء الحفظ أو يخطئ أو كثير الوهم. ولم يستوف المصنف، رحمه الله، مراتب الجرح والتعديل كلها، للاختصار وفيما يلي بيانٌ لها: مراتب الجرح: مرتَّبةً مِن الأسهل إلى الأسوأ: 1- نحو قولهم: فيه مقال. فيه ضعف. ليس بذاك القويّ .... إلى آخره. 2- نحو قولهم: لا يُحتجُّ به، مضطرب الحديث ... إلى آخر ما هنالك. 3- نحو قولهم: رُدَّ حديثه. ضعيفٌ جِدّاً. واهٍ بمرةٍ. 4- نحو قولهم: يسرق الحديث. متَّهَمٌ بالكذب، أو الوضع. ساقط. 5- نحو قولهم: دجّالٌ. كذّاب. وضّاعٌ. يضع. يكذب. 6- ما يدلّ على المبالغة، ك: أكذب الناس. إليه المنتهى في الكذب. ركْن الكذب. وحُكم هذه المراتب أنه: لا يُحتجُّ بأصحابها، لكن، المرتبتان الأُوليان يكتب حديث أصحابهما للاعتبار. وتصنيفُ هذه المراتب أمرٌ اجتهاديٌّ، والعبرة بدلالة اللفظة وحُكْمِ صاحبها. مراتب التعديل: مرتَّبةً مِن الأعلى إلى الأسفل: 1- الصحابة. 2- ما جاء التعديل فيها بالمبالغة نحو: أوثق الناس، إليه المنتهى في التثبت. 3- ما كُرِّرَ فيه لفظُ التوثيق، ك: ثقة ثقة. 4- ما انفرد بصيغةٍ دالةٍ على التوثيق، مثل: حجة. ثقة. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أسوأُها1 الوَصْفُ بما دلَّ على المُبالَغَةِ فيهِ، وأصرح ذلك التعبير بأَفْعَلَ، كأكذب النَّاسِ، وكذا قولُهم: إِليهِ المُنْتَهى في الوضعِ، أو رُكْن الكذبِ، ونحوُ ذلك. ثمَّ: دجَّالٌ، أو وَضّاع، أو كَذَّابٌ؛ لأنَّها وإِنْ كانَ فيها نوعُ مبالغةٍ، لكنها دون التي قبلها. وأَسْهَلُها، أَي: الألفاظِ الدَّالَّةِ على الجَرْح = قولُهم: فلانٌ لَيِّنٌ، أو سَيِّءُ الحفظ، أو: فيه أدنى مقالٍ. وبَيْنَ أسوأِ الجرح وأسهلِهِ مراتبُ لا تخفى.   = 5- ما قيل فيه: ليس به بأس. 6- ما أشعر بالقرب من التجريح مثل: ليس بعيداً عن الصواب. حُكْمُ هذه المراتب: وحُكْمُ هذه المراتب: الاحتجاجُ بالأربع الأُوَلِ، أما الأخرى فلا يحتج بها. تعارُضُ الجرح والتعديل: ليس كل جرح وتعديل في الراوي الواحد متعارضاً دائماً، فإذا كان التعارض حاصلاً بين الجرح والتعديل، فإنَّ الحق أن نَدْرسهما كليهما، ونأخذ بما تَصِلُ إليه الدراسة، فإن ثبتا جميعاً، وليس بينهما تعارض، أخذْنا بهما جميعاً، وإلا أخذْنا بالثابت، وإلا رجّحنا. ولابن حجر اجتهادٌ خاصٌّ في عَدِّ مراتب الجرح والتعديل، فأوصلها إلى ثنتي عشرة مرتبةً، ذكرها في أول تقريب التهذيب. وقد نحوتُ في ذكرها على ما ذكره السخاوي في فتح المغيث، وعلى ما ذكره عتر في تعليقه على النزهة. 1 في نسخةٍ مطبوعة: أسؤوها، وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قولهم: 1 متروكٌ، أو ساقطٌ، أَو فاحشُ الغلطِ، أَو منكرُ الحديثِ، أشدُّ مِن قولهم: ضعيفٌ، أَو ليسَ بالقويِّ، أَو فيهِ مقالٌ.   1 في نسخةٍ: فقولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 [ مراتب التعديل ] ومِن المهمِّ، أَيضاً: معرِفةُ مراتِبِ التَّعديلِ: وأَرْفَعُها الوَصْفُ، أَيضاً، بما دَلَّ على المُبالغةِ فيهِ، وأصْرَحُ ذلك: التعبيرُ بأفعلَ، كأوثقِ النَّاسِ، أَو أثبتِ النَّاس، أَو إِليهِ المُنْتَهى في الثبتِ. ثمَّ ما تَأَكَّدَ بصفةٍ مِن الصِّفاتِ الدَّالَّةِ على التعديل، أو وصفين: كثقةٍ1 ثقةٍ، أو ثبتٍ ثبتٍ، أَوْ ثقةٍ حافظٍ، أَو عدلٍ ضابطٍ، أو نحوُ ذلك. وأَدْناها ما أَشْعَر بالقربِ من أسهل التجريح: كشيخٍ، وَيُرْوَى حديثه، ويُعْتَبَرْ بهِ، ونحوِ ذلك. وبَيْنَ ذلك مراتبُ لا تَخْفَى.   1 في نسخةٍ ضبطها هكذا: كثقةٌ ... إلخ، وكذا ما بعدها!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 [ أحكام الجرح والتعديل ] وهذه أحكامٌ تتعلق بذلك، ذُكِرَتْ1 ها هُنا لتكملةِ الفائدةِ، فأَقولُ: تُقبَل التزكيةُ مِن عارفٍ بأسبابها، لا مِن غير عارفٍ؛ لئلا يُزَكِّيَ بمجردِ ما ظهر له ابتداءً، مِن غير ممارسةٍ واختبارٍ، ولو كانت التزكية صادرةً من مُزَكٍّ   1 في نسخةٍ: ذكرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 واحدٍ، عَلى الأصَحِّ، خلافاً لِمَن شرَط أَنَّها لا تُقبَل إِلاَّ مِن اثْنَيْنِ؛ إِلْحاقاً لها بالشَّهادَةِ، في الأصحِّ، أَيضاً. والفَرْقُ بينَهُما: أَنَّ التزكيةَ تُنَزَّلُ منزلةَ الْحُكْم؛ فلا يُشتَرَط فيها العدد، والشهادةُ تقع مِن الشاهد عندَ الحاكِمِ؛ فافْتَرقا. ولَوْ قيلَ: يُفَصَّلُ بينَ ما إِذا كانتِ التَّزكيةُ في الرَّاوي مُستَنِدَةً مِن المزكِّي إِلى اجْتِهادِهِ، أَو إِلى النَّقْل عنْ غيرِه لكان مُتَّجِهاً؛ فإنه1 إنْ كان الأولَ2، فلا يُشترط العَدَدُ أَصلاً؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ بمنزلةِ الحاكمِ، وإن كان الثانِيَ، فَيَجْرِي3 فيه الخلافُ. وتبيّنَ أنه، أيضاً، لا يُشترط العدد؛ لأنَّ أَصلَ النَّقلِ لا يُشترط فيهِ العددُ؛ فكذا ما تَفرَّع عنه4. والله سبحانه وتعالى أعلم.   1 في نسخةٍ: لأنه يظهر. 2 في نسخةٍ: الأولُ. وهو خطأٌ. 3 في نسخةٍ: فيُجرى. 4 في حاشية الأصل تعليقٌ، نصُّه: وكما تبين في الأول- وهو ما إذا كانت التزكية مستندةً إلى اجتهاده - قال السيوطي: وليس لهذا التفصيل الذي ذكره فائدةٌ إلا نفْي الخلاف في القسم الأول ق27ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 [ليس كل جَرْح جارحٍ يُقْبَل] وينبغي1 أَنْ لا يُقْبل الجَرْحُ والتَّعْديلُ إِلاَّ مِن عدلٍ مُتَيَقِّظٍ؛ فلا يُقْبل جرحُ مَن أَفْرَطَ فيه؛ فَجَرَحَ2 بما لا يقتضي ردَّ حديث المحدِّث، كما لا   1 في نسخةٍ: وكذا لا ينبغي. 2 في نسخةٍ مطبوعة: مجرّحٌ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تُقبل1 تزكيةُ مَن أَخذ بمجرَّدِ الظَّاهِرِ؛ فأَطلق التزكيةَ. وقال الذهبي -وهو مِن أَهْلِ الاستِقراءِ التَّامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ-: لمْ يَجتمع اثْنانِ مِن عُلماءِ هذا الشَّأنِ قطُّ على توثيقِ ضعيفٍ، ولا على تضعيفِ ثقةٍ2 انتهى. ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يُترَكُ حديثُ الرجلِ حتَّى يجتمعَ الجميعُ على تَرْكِهِ. وَلْيَحْذَر المتكلمُ في هذا الفنِّ مِن التَّساهُلِ في الجَرْحِ والتَّعديلِ؛ فإِنَّهُ إنْ عدّلَ بغيرِ تثبتٍ كانَ كالمُثْبِتِ حُكْماً ليسَ بثابتٍ، فَيُخْشَى عليهِ أَنْ يَدْخل في زُمرةِ مَن روى حَديثاً وهُو يُظَن أَنَّهُ كَذِبٌ3، وإِنْ جَرَحَ بغيرِ تحرزٍ أَقدَمَ على الطَّعنِ في مسلمٍ بريءٍ مِن ذلك، ووَسَمه بِمِيْسَمِ سوءٍ يَبْقى عليهِ عارُهُ أَبداً. والآفةُ تَدْخل في هذا تارةً مِن الهَوى والغرضِ الفاسدِ. وكلامُ المتقدِّمينَ سالِمٌ مِن هذا، غالباً. وتارةً مِن المخالفةِ في العَقائدِ، وهُو موجود كثيراً، قديماً وحَديثاً. ولا ينْبَغي إِطلاقُ الجَرْحِ بذلك، فقد قدَّمنا تحقيقَ الحالِ في العملِ بروايةِ المبتدعة.   1 في نسخةٍ: يُقبل. 2 قوله: وقال الذهبي: كلام الذهبي رحمه الله ليس على إطلاقه؛ فقد قَسّمَ المتكلمين على الجرح والتعديل إلى ثلاث فئات: المتشددين، والمعتدلين، والمتساهلين. ويَقْصد بالإجماع هنا اجتماع اثنين من طبقتين مختلفتين من هذه الطبقات الثلاث، وقد ذَكَر هذا في رسالته: ذِكْر مَن يُعْتمد قوله في الجرح والتعديل، وهي مطبوعة. 3 بل قد يكون أشنع من ذلك؛ لأنّ ضرره لا يقتصر على حديثٍ واحدٍ، وإنما يشمل كلَّ ما رواه ذلك الراوي مِن الحديث؛ فيتعدد الضرر بتعدد رواياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 [ تقديم الجرح على التعديل ] والجَرْحُ مقدَّمُ عَلى التَّعْديلِ1، وأَطلقَ ذلك جماعةٌ، ولكنَّ، محلُّهُ إنْ صَدَرَ مُبَيَّناً مِن عارفٍ بأسبابه؛ لأنَّه إِنْ كانَ غيرَ مُفَسَّرٍ لم يَقدح فيمن ثبتت عدالتُهُ، وإنِ صدَرَ مِن غيرِ عارفٍ بالأسبابِ لم يُعتبر به، أيضاً.   1 قوله: والجرح مقدم على التعديل. قلتُ: هذا في الحقيقة ليس بسديد سواء على الإطلاق- كما قال به جماعة، على ما ذكره المصنف رحمه الله- أو على تقييده؛ بأن يكون مبيَّناً مِن عارفٍ بأسبابه-على ما رجحه المصنف-لأنه لا وجه للقول بتقديم الجرح على التعديل مطلقاً؛ إذْ كلٌ منهما كلام في الراوي، وإذا كانا جميعاً كلاماً في الراوي، فمعنى ذلك أن المتعين أن ننظر لهما جميعاً بمنظارٍ واحدٍ؛ فلا يصح أيضاً أن نُرَجِّح بالنوع، لا بالجرح ولا بالتعديل، إذْ لا مُسَوِّغ لذلك. والصواب هو أن ندْرس كلاً من الجرح والتعديل بميزانٍ واحدٍ، نَنْظر فيه إلى أمرين: - مدى ثبوتِ كلٍ منهما. - ومدى حصول التعارض بينهما. وبعد ذلك نأخذ بنتيجة هذه الدراسة وهي على الاحتمالات الآتية: 1- إما أن لا يَثْبت أحدهما؛ فنردّه؛ ونأخذ بالآخر الثابت. 2- أو يَثْبتا، كلاهما؛ فننظر عندئذ في مدى حصول التعارض بينهما. 3- والاحتمال بعد ذلك أن لا يكون بينهما تعارضٌ؛ فنأخذ بهما جميعاً -طالما أنهما ثابتان- أو يَحْصل بينهما تعارضٌ في الظاهر؛ فَنَنْظر في طُرُقِ الجمع بينهما؛ ونأخذ بالنتيجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فإنْ خلا المجروح عن تعديلٍ قُبِلَ الجرحُ فيهِ مُجمَلاً غيرَ مُبَيَّنِ السَّببِ، إذا صدَر مِن عارفٍ على المختار، لأنه إذا لم يكُنْ فيهِ تعديلٌ فهو في حَيِّزِ المَجهولِ، وإعمالُ قولِ المجرِّح أَوْلى مِن إِهمالِه. ومالَ ابنُ الصَّلاحِ في مثلِ هذا إلى التوقُّفِ فيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الأسماء والكنى أهميته ... فصل: [الأسماء والكنى] ومِن المُهِمَّ، في هذا الفنِّ: معرفُةُ كُنى المسمَّيْنَ ممَّن اشْتُهِرَ باسمِهِ ولهُ كُنيةٌ لا يُؤْمَن أن يأتي في بعض الروايات مَكْنِيّاً1؛ لئلاَّ يُظَنَّ أَنّه آخَرُ. وَمعرفةُ أَسْمَاءِ المُكَنَّيْن، وهو عكس الذي قبله. وَمعرِفةُ مَن اسمُهُ كُنْيَتُهُ، وهُمْ قليلٌ. وَمعرِفةُ مَن اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ، وهُمْ كثيرٌ. ومعرفةُ مَنْ كَثَُرتْ كُناه، كابنِ جُرَيْج، لهُ كُنيتانِ: أَبو الوليدِ، وأبو خالدٍ، أَوْ كثُرت نُعُوتُهُ وأَلقابُه. وَمعرِفةُ مَن وافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسمَ أَبيهِ، كأَبي إِسحاقَ إبراهيمَ بنِ إِسحاقَ المَدنيِّ، أَحدِ أَتْباعِ التابعين، وفائدةُ معرِفَتِه نَفْيُ الغَلَطِ عمَّن نَسَبَهُ إِلى أبيه فقال: أَخبرنا   1 في نسخةٍ: مكَنَّياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ابنُ إِسحاقَ؛ فَنُسِبَ إِلى التَّصحيفِ، وأَنَّ الصَّوابَ: أنا1 أَبو إِسحاقَ. أَو بالعَكْسِ: كإِسحاقَ بنِ أَبي إسحاق السَّبِيعي. أَوْ وافقتْ كُنيتُهُ كنيةَ زَوْجَتِهِ، كأَبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ، وأُم أَيُّوبَ، صحابيَّانِ مشهورانِ. أَو وافقَ اسمُ شيخِهِ اسمَ أَبيِه، كالرَّبيعِ بنِ أَنسٍ، عن أَنسٍ، هكذا يأْتي في الرِّوايات فَيُظن أنه يروي عن أبيه، كما وقعَ في الصَّحيحِ عن عامرِ بنِ سعدٍ، عن سعدٍ، وهو أبوهُ، وليسَ أنسٌ -شيخُ الرَّبيعِ-والدَه، بل أَبوهُ بكريٌّ، وشيخُهُ أنصاريٌّ، وهو أنس بنُ مالكٍ الصَّحابيُّ المشهورُ، وليسَ الربيعُ المذكورُ مِن أولاده.   1 هذا رمزٌ لأَخبَرَنا في اصطلاح الْمُحَدِّثين. وكُتِب في الأصل بين السطور: أَيْ أخبرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 [ المنسوبون لغير آبائهم ] وَمعرِفةُ مَنْ نُسِبَ إِلى غَيْرِ أَبيهِ: كالمِقدادِ بنِ الأسودِ نُسِبَ إلى الأسودِ الزُّهْرِيِّ لكونِه تبناه، وإنما هو المقداد1 بن عمرو. أو2 إِلى أُمِّهِ، كابنِ عُلَيّة، هُو إِسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ مِقْسَمٍ، أحدُ الثِّقاتِ، وعُلَيَّةُ اسمُ أُمِّهِ، اشتُهِرَ بها، وكانَ لا يُحِبُّ أَنْ يُقالَ لهُ: ابنُ عُلَيَّة؛ ولهذا كانَ يَقولُ الشَّافِعيُّ: أَخْبَرَنا إِسْماعِيلُ الَّذي يُقالُ لَهُ: ابنُ عُلَيَّة.   1 في نسخةٍ: مقداد. 2 في نسخةٍ: أو نُسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 [ نسب على خلاف ظاهرها ] أَوْ نُسِبَ إِلى غَيْرِ مَا يَسبق إِلى الفهم: كالحَذَّاء، ظاهرُهُ أَنّه منسوبٌ إِلى صِناعتها أو بَيْعِها، وليس كذلك، وإِنما كانَ يجالِسُهم؛ فَنُسِب إليهِم. وكسُليمانَ التَّيميِّ، لم يكنْ مِن بَني التيم، ولكنْ، نَزَل فيهِم. وكَذا مَن نُسِب إِلى جده؛ فلا يُؤْمَن التباسه، كَمَن1 وافق اسْمُهُ واسمُ أبيهِ اسمَ الجد المذكور. وَمعرِفةُ مَن اتَّفَقَ اسمُهُ، واسمُ أَبيهِ، وجَدِّهِ، كالحسن بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب، وقد يَقَعُ أكثرُ مِن ذلك. وهُو مِن فُروعِ المسَلسَل. وقد يتَّفِقُ الاسمُ واسمُ الأبِ مع الاسمِ واسمِ الأبِ فصاعداً2، كأبي اليمن الكِنْدي هُو زيدُ بنُ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسن بن زيد بن الحسن. أو يتفق اسمُ الرَّاوي واسمُ شيخِهِ، وشَيْخِ شَيْخِهِ، فصاعِداً: كعمران عن عمران عن عمران، الأول: يُعْرف بالقَصِيرِ، والثَّاني: أبو رَجاءٍ العُطَارِديّ، والثَّالثُ: ابنُ حُصَين الصحابي، وكسُليمانَ عن سُليمانَ عن سُليمانَ، الأوَّلُ: ابنُ أحمدَ بنِ أيوبَ الطَّبرانيُّ، والثَّاني: ابنُ أَحمدَ الواسطيُّ، والثَّالثُ: ابنُ عبد الرحمنِ الدِّمشقيُّ المعروفُ بابن بنت شُرَحْبيل.   1 في نسخةٍ: بمَن وافقَ اسمُه اسمَه، واسمُ أَبيهِ اسمَ الجد المذكور. وكلُّه له وجْهٌ، والمثبت هو الذي في الأصل. 2 في نسخةٍ: مع اسم الجد واسم أبيه فصاعداً. والمثبت هو الذي في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقد يقعُ ذلك للرَّاوي ولشيخِهِ معاً، كأَبي العلاء الهَمَدَاني العطّار، مشهور1 بالرِّوايةِ عن أَبي عليٍّ الأصبهانيِّ الحدَّادِ، وكلٌّ منهُما اسمُه الحسنُ بنُ أَحمدَ بنِ الحَسنِ بنِ أَحمدَ بن الحسن بن أحمد2 فاتَّفقا في ذلك، وافْتَرقا في الكُنيةِ والنِّسْبَةِ إِلى البلد والصناعة. وصَنَّفَ فيه أبو موسى المديني جزءاً حافلاً. وَمعرفةُ مَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ والرَّاوِي عَنْهُ، وهو نوعٌ لطيفٌ، لم يتعرَّضْ لهُ ابنُ الصَّلاحِ، وفائدتُه رَفْع اللَّبْسِ عمَّن يُظُنُّ أَنَّ فيهِ تَكراراً أو انقلاباً. فَمِن أَمثلتِه: البُخَارِيّ، روى عَن مُسْلمٍ وروى عنهُ مُسلمٌ، فشيخُهُ مسلمُ بن إبراهيم الفَرادِيسي البصري، والراوي عنه مسلم بن الحجَّاج القُشَيري صاحِبُ الصَّحيحِ. وكذا وقعَ ذلك لعَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ، أيضاً: روى عن مُسلمِ بنِ إبراهيمَ، وروى عنهُ مُسلمُ بنُ الحجَّاجِ في صحيحِه حديثاً بهذه التَّرجمةِ بعينها. ومنها: يحيى بنُ أَبي كَثيرٍ: روى عن هِشامٍ، وروى عنه هشام: فشيخُهُ هشامُ بنُ عُروةَ، وهو مِنْ أَقرانِهِ، والرَّاوي عنهُ هِشامٌ بنُ أبي عبدِ اللهِ الدستوائي. ومنها: ابنُ جُريْجٍ روى عن هشامٍ، وروى عنهُ هِشامٌ، فالأعْلى ابنُ عُروةَ، والأدْنى ابنُ يوسف الصنعاني.   1 في نسخةٍ: المشهور. 2 في نسخةٍ: الحسن بن أحمد مرتان فقط. والمثبت هو الذي في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ومنها: الحَكَم بن عُتَيْبةَ يروي1 عن ابن أبي ليلى، وعنه2 ابنُ أبي لَيْلى، فالأعْلى عبدُ الرَّحمنِ، والأدْنى محمد3 بن عبد الرحمن المذكور، وأمثلته كثيرة.   1 في نسخةٍ: روى. 2 في نسخةٍ: وروى عنه. 3 في نسخةٍ: ابن عبد الرحمن، ولم يذكر محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 [ الثقات والضعفاء ] وَمِن المهمِّ، في هذا الفنِّ: مَعْرِفَةِ الأَسْماءِ المجرَّدة، وقد جَمَعَها جماعةٌ مِن الأئمَّةِ. فمنهُم مَنْ جَمَعَها بغيرِ قيدٍ، كابنِ سعدٍ في الطبقات، وابن أبي خَيْثَمَةَ، والبُخَارِيّ في تاريخهما1، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. ومنهم مَنْ أفرد الثقات، كالعِجْلي2، وابنِ حِبَّانَ، وابنِ شاهينَ3. ومنهُم مَنْ أَفْرَدَ المَجْروحينَ، كابنِ عَدِيّ4، وابنِ حِبّانَ، أَيضاً.   1 في نسخةٍ: تاريخيهما. 2 هو: أحمد بن عبد الله العِجْليّ، الإمام الحافظ، سكن طرابلس الغرب أيام محنة القول بخلق القرآن، ت261هـ، من كتبه: الثقات في مجلد، لكنه غير مرتب، فرتبه السبكي وسماه: ترتيب الثقات. 3 هو: عمر بن أحمد بن عثمان، 297-382هـ، شيخ العراق في الإكثار من الرواية، وما كان بالبارع في غوامض صناعة المحدثين، وكتابه: الثقات. 4 هو: عبد الله بن عدي الجرجاني، الإمام الحافظ، 266-365هـ، وكان حافظاً متقناً، لم يكن في زمانه مثله، أشهر كتبه: الكامل في الضعفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ومنهم مَنْ تَقَيَّدَ بكتابٍ مخصوصٍ، كرجالِ البُخَارِيّ، لأبي1 نصرٍ الكلاباذي2، ورجالِ مسلم، لأبي بكرِ بنِ مَنْجَوَيْهِ3، ورجالِهما معاً لأَبي الفضل ابن طاهر، ورجالِ أبي داودَ، لأبي عليٍّ الجِيَانيّ4، وكذا رجالُ التِّرمذي، ورجالُ النِّسائي، لجماعةٍ مِن المَغاربةِ، ورجالِ السِّتَّةِ: الصَّحيحينِ، وأَبي داودَ، والتِّرمذيِّ، والنَّسائيِّ، وابنِ ماجة، لعبدِ الغنيِّ المقدِسيِّ5 في كتابِه "الكمالِ"، ثمَّ هذَّبه المِزِّيُّ6 في "تهذيبِ الكَمالِ"، وقد لَخّصتُه، وزِدتُ عليهِ أشياءَ كثيرةً وسمَّيْتُه "تهذيب التَّهذيب"، وجاءَ معَ ما اشتَمَلَ عليهِ مِن الزِّياداتِ، قَدْرَ ثلثِ الأصلِ.   1 في الأصل: لابن. 2 هو: أحمد بن محمد بن حسين البخاري الكَلاباذي، أبو نصر، 323-398هـ، كان أحفظ أهل بلاد ما وراء النهر في زمانه، له: رجال البخاري وغيره. 3 هو: أحمد بن علي بن محمد أبو بكر، المشهور بابن منجويه، ت428هـ، وله 81 سنة، إمام كبير في علم الحديث، له مؤلفات عديدة. 4 في نسخةٍ: الجَيّانيَّ. هو: الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الأندلسي أبو علي الجِيَّانيّ، نسبته إلى بلدة جيان، 427-498هـ، محدث حافظ، إمام عالم بالرجال، لغوي أديب، له: تقييد المهمل وتمييز المشكل، فيه دراسة رجال الصحيحين، ودفاع عما استشكل عليهما. 5 هو: عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي، الدمشقي، الحنبلي، 541-600هـ، إمام حافظ، متعبد، زاهد، له كتب كثيرة أشهرها: الكمال في أسماء الرجال وهو أول كتاب خاص برجال الستة. 6 هو: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف الملقب بالزكي المِزِّي، أبو الحجاج، الحلبي ثم الدمشقي، 654-742هـ، وانتقل إلى المزة، وطلب العلم واجتهد فصار الحافظ الكبير شيخ المحدثين عمدة الحفاظ، له: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، وتحفة الأشراف بمعرفة الأطراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 [ الأسماء المفردة ] ومِن المُهمِّ، أَيضاً، معرِفةُ الأسماءِ المُفْرَدَةِ. وقد صَنَّفَ فيها الحافظُ أَبو بكرٍ أَحمدُ بنُ هارون البَرْديجي1، فذكر أشياء تَعَقَّبُوا عليه بعضَها: مِن ذلك قولُه: صُغْدِيُّ بنُ سِنانٍ، أحدُ الضعفاء، وهو بضم المُهملةِ، وقد تُبْدَلُ سِيناً مُهملة، وسكونِ الغينِ المُعجمةِ بعدها دالٌ مهمَلة ثمَّ ياءٌ كياءِ النسب، وهو اسمُ عَلَمٍ بلفظِ النَّسبِ، وليسَ هُو فرداً؛ ففي "الجَرحِ والتَّعديلِ"، لابنِ أَبي حاتمٍ: صُغْدِي الكوفيُّ، وثَّقَهُ ابنُ مَعينٍ، وفرَّق بينَه وبينَ الَّذي قبلَه فضعفه، وفي تاريخِ العُقَيْلي: صُغْدِي بنُ عبدِ اللهِ يروي عن قَتادةَ: قال العُقيلي: حَديثُهُ غيرُ محفوظ. انتهى. وأَظنُّهُ هُو الَّذي ذكرَهُ ابنُ أَبي حاتمٍ، وأَمَّا كونُ العُقَيْليِّ ذكرَه في "الضُّعفاءِ" فإِنَّما هُو للحديثِ الذي ذكَرَهُ، وليستِ الآفةُ منهُ، بل هِيَ مِن الرَّاوي عنهُ: عَنْبَسَةُ بنُ عبدِ الرحمن. والله أعلم. ومِن ذلك: سَنْدَر -بالمهملة والنون- بوزن جَعْفَر، وهو مولى زِنْباع الجُذَاميّ، له صحبة ورواية، والمشهور أَنَّه يُكْنَى أَبا عبدِ اللهِ، وهُو اسمُ فردٍ لم يَتَسَمَّ بهِ غيرُهُ، فيما نعلمُ. لكنْ ذَكَر أَبو موسى، في "الذَّيْلِ على معرفةِ   1 هو: أحمد بن هارون بن روح البَرْدِيجي بفتح الباء وكسرها البرذعي، نسبة إلى بَرْدِيج وبرذعة، في آذربيجان، وهو من الحفاظ الأئمة سكن بغداد، ت301هـ، من كتبه: الأسماء المفردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الصَّحابةِ"، لابنِ منده: سَنْدَر أَبو الأسودِ، وروى لهُ حديثاً، وتُعُقِّب عليهِ ذلك، فإِنَّه هُو الذي ذكَرَهُ ابنُ منده، وقد ذَكَرَ الحديثَ المذكورَ محمدُ بن الربيع الجيزيّ، في "تاريخِ الصَّحابةِ الَّذين نَزلوا مِصرَ"، في ترجمةِ سَنْدَرٍ مولى زِنْباع، وقد حَرَّرْتُ ذلك في كتابي في1 الصحابة.   1 في سقطت من بعض النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 [ الألقاب ] وكذا معرفة الكنى المجردة والألقاب1 وهي تارةً تكون بلفظِ الاسم، وتارةً تكون بلفظ الكُنْية، وتقع نسبةً إلى عاهةٍ أو حِرْفَة.   1 لابن حجر كتابٌ في الألقاب بعنوان نزهة الألباب في الألقاب، وقد نُشِر بتحقيق عبد العزيز بن محمد السديري، الرياض، مكتبة الرشد، ط. الأولى، 1409هـ-1989م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 [ الأنساب ] وكذا1 الأنساب وهي تارةً تقع إلى القبائل، وهو في المتقدمين أكثريٌّ، بالنسبة إلى المتأَخِّرينَ، وَتارةً إِلى الأوْطانِ، وهذا في المتأَخِّرينَ أكثريٌّ، بالنِّسبةِ إِلى المتقدِّمين، والنِّسبةُ إِلى الوطنِ أعمُّ مِن أن تكون2 بلاداً   1 في نسخةٍ: وكذا معرفة. 2 في نسخةٍ: يَكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أو ضِياعاً أو سِكَكاً أو مجاوَرَةً، وتقع إِلى الصَّنائعِ، كالخَيَّاطِ، والحِرَفِ كالبزاز. ويقع فيه الاتِّفاقُ والاشتباهُ كالأسماءِ. وقد تَقعُ الأنْسابُ أَلقاباً، كخالِدِ بنِ مَخلَدٍ القَطَوَانيِّ، كانَ كوفيّاً ويُلَقَّبُ القَطَوانيِّ1، وكان يَغضب منها. ومِن المُهمِّ، أَيضاً، معرفةُ أسباب ذلك، أَيْ: الألقاب2.   1 في نسخةٍ: بالقطواني. 2 في نسخةٍ: الألقابِ والنِّسبِ الَّتي باطِنُها على خِلافِ ظاهِرِها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 [ الموالي ] ومعرفة الموالي مِن أعلى أو أسفل، بالرِّق وبالحِلْفِ، أو بالإِسلامِ؛ لأنَّ كلَّ ذلك يُطلَق عليهِ مَوْلَى، ولا يُعرَف تمييزُ ذلك إِلاَّ بالتَّنْصيصِ عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 [ الإخوة ] ومعرفةُ الإخوةِ والأخواتِ: وقد صَنَّفَ فيهِ القُدماءُ، كعليِّ بنِ المديني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 [ آداب الشيخ والطالب ] ومِن المهمِّ، أَيضاً، معرفةُ آدابِ الشَّيْخِ والطَّالِبِ. ويشتركان في تصحيح النية، والتّطهر1 مِن أَعراضِ الدُّنْيا، وتَحسينِ الخُلُقِ. وينفَرِدُ الشَّيخُ بأَنْ يُسْمِع إِذا احْتِيج إِليهِ، ولا يحدِّثَ ببلدٍ فيه أَوْلى منهُ، بل يُرْشِد إِليهِ، ولا يَتْرُك إسماعَ أحدٍ لنيةٍ فاسدةٍ، وأَنْ يتطهرَ ويجلسَ بوقارٍ، ولا   1 في نسخةٍ: والتطهير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 يُحَدِّث قائماً، ولا عَجِلاً، ولا في الطَّريقِ إلا إن اضطُرَّ إلى ذلك، وأن يُمْسِكَ عنِ التَّحديثِ إِذا خَشِيَ التَّغَيُّرَ، أَو النسيان؛ لِمَرَضٍ أو هَرَمٍ. وإِذا اتَّخَذَ مجلسَ الإملاءِ أَنْ يكونَ لهُ مُسْتَمْلٍ يَقِظٍ. وينفرد الطالب بأَنْ يُوَقِّر الشيخَ، ولا يُضْجِرَه، ويُرشدُ غَيْرَهُ لِمَا سَمِعَهُ، ولا يَدَع الاستفادَةَ لحياءٍ أَو تَكَبُّرٍ، ويَكتبُ ما سمِعَهُ تامّاً، ويُعْتَنِي بالتَّقييدِ والضبط، ويُذَاكِر بمحفوظِهِ؛ لِيَرْسَخَ في ذهنه. ومِن المهم: معرِفةُ سِنِّ التحمُّل والأداءِ. والأصحُّ اعتبارُ سِنِّ التحمُّل بالتَّمييزِ، هذا في السَّماعِ، وقد جَرَتْ عادة المحدثين بإحضارهم الأطفالَ مجالسَ الحديث، ويكتبون لهم أنهم حضروا، ولابد في مثلِ ذلك مِن إجازةِ الْمُسْمِع. والأصحُّ في سن الطلب1 بنفسه أن يتأهل لذلك. ويَصِحُّ تحمُّلُ الكافِرِ، أَيضاً، إِذا أَدّاه بعدَ إسلامه، وكذا الفاسق مِن باب الأَوْلى، إِذا أَدَّاهُ بعدَ توبتِه وثبوتِ عدالَتِه. وأَمَّا الأداءُ: فقد تَقدم أَنَّه لا اختصاصَ له بزمنٍ معَيَّنٍ، بل يُقيَّد بالاحتياجِ والتأَهُّلِ لذلك، وهُو مختلِفٌ باخْتِلافِ الأشخاصِ. وقالَ ابنُ خُلاَّدٍ: إِذا بلَغَ الخَمسينَ، ولا يُنْكَر عندَ الأربعينَ، وتُعُقِّبَ بِمَن حدَّث قبلها، كمالكٍ.   1 في نسخةٍ: الطالب وهو غلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 كتابة الحديث صفة كتابة الحديث ... [كتابة الحديث] ومِن المهمِّ: معرفةُ صفةِ كتابةِ الحديثِ: وهو أَنْ يكتُبَهُ مُبَيَّناً مفسَّراً، ويَشْكُلَ الْمُشْكِلَ منهُ ويَنْقُطَهُ، ويكتبَ الساقطَ في الحاشيةِ اليُمنى، ما دامَ في السَّطرِ بقيَّةٌ، وإِلاَّ ففي اليُسرى. وصفةِ عَرْضِه وهُو مُقابَلتُهُ معَ الشَّيخِ المسمِع، أَو معَ ثقةٍ غيرِه، أَو معَ نفسِه شيئاً فشيئاً. وصفةِ سَمَاعِهِ بأن لا يتشاغلُ بما يُخِلُّ به: مِن نَسْخٍ أو حديثٍ أو نُعاسٍ. وصفةِ إسماعه، كذلك، وأن يكون ذلك مِن أصله الذي سَمِع فيه، أَو مِن فرعٍ قُوبِلَ على أَصلِه، فإنْ تعذَّر فَلْيَجْبُرْه بالإِجازةِ لِما خالَفَ، إِنْ خالَفَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الرحلة للحديث صفة الرحلة ... [الرحلة للحديث] وصفةِ الرِّحْلةِ فيهِ، حيثُ يَبْتَدِئُ بحديثِ أَهلِ بلدِهِ، فيستوْعِبُهُ، ثمَّ يرحلُ، فيحصِّل في الرِّحلةِ ما ليس عنده، ويكون اعتناؤه1 بتكثيرِ المَسموعِ أَوْلى مِن اعتنائِهِ بتكثيرِ الشُّيوخِ.   1 في نسخةٍ: اعتناؤه في أسفاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 و صفةِ تصنيفه. وذلك: إما على المسانيد بأن يَجْمع مسندَ كلِّ صحابيٍّ على حِدَةٍ، فإنْ شاءَ رتَّبه على سوابِقِهِم، وإِنْ شاءَ رتَّبه على حُروفِ المُعْجَمِ، وهو أَسهَلُ تناوُلاً. أَوْ تصنيفِه على الأبواب الفِقهيَّةِ، أَو غيرِها، بأَنْ يَجْمع في كلِّ بابٍ ما ورَدَ فيهِ ممَّا يدلُّ على حكمه، إثباتاً أو نفياً، والأَوْلى أن يَقْصُرَ1 على ما صَحَّ أَو حَسُنَ، فإنْ جَمع الجميعَ فَلْيُبَيِّنْ عِلَّةَ الضعيف2.   1 في بعض النسخ: يَقْتَصِرَ. 2 في نسخةٍ: الضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أَوْ تصنيفِه على العِلَلِ، فَيَذْكر المتنَ وطُرُقَهُ، وبيانَ اختلافِ نَقَلَتِه، والأَحسنُ أنْ يُرَتِّبها على الأبوابِ؛ لِيَسْهل تناوُلُها. أَوْ يجمَعُهُ على الأطْرافِ، فَيَذْكُر طرفَ الحديثِ الدَّالَّ على بقيَّتِه، ويجْمَعُ أَسانيدَه، إِمَّا مستوعِباً، وإِمَّا متقيِّداً بكُتُبٍ مخصوصةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 [ أسباب الحديث ] ومِن المهم: معرفةُ سببِ الحديثِ. وقَدْ صَنَّفَ فيهِ بَعْضُ شُيوخِ القَاضي أَبي يَعْلى بنِ الفَرَّاءِ الحنبليِّ1، وهو أبو حفص العُكْبُري2، قد ذَكر الشيخ تقيّ الدِّين ابن دَقيقِ العيدِ أَنَّ بعضَ أَهلِ عصرِه شرعَ في جمع ذلك، وكأنه ما رأى تصنيفَ العُكْبري المذكور. وصَنَّفوا في غالبِ هذهِ الأنْواعِ، على ما أَشَرْنا إِليهِ غالباً، وهي أَيْ: هذه الأنواع المذكورة في هذه ال خاتمة نقْلٌ مَحْضٌ، ظاهرةُ التَّعْريفِ، مستغنيةٌ عنِ التَّمْثيلِ، وحصْرها متعسِّرٌ، فَلْتُراجَع لَها مَبْسوطاتُها؛ لِيَحْصُل الوقوفُ على حقائقها. والله الموفق والهادي، لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أُنيب.   1 هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف أبو يعلى المعروف بابن الفراء، 380-458هـ، برع في حفظ الحديث والفقه الحنبلي، وإليه انتهت رئاسة الحنابلة، من كتبه: الأحكام السلطانية، وأحكام القرآن. 2 هو: أبو حفص العكبري عمر بن إبراهيم بن عبد الله العكبري، فقيه حنبلي، ت387هـ، من كتبه: المقنع، وشرح الخِرَقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 خاتمة ... انتهتْ "نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَر في مصطلح أهل الأثر"، وقد جاء في آخرها بخط الناسخ نفسه ما يلي: "علق ذلك لنفسه الفقير المذنب العاصي أحمد بن محمد بن الأخصاصي الشافعي، اللهم أحسن إليه ولوالديه ولجميع المسلمين، ووافق الفراغ من نسخها في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وثمانمائة". وبإزاء ذلك في الحاشية بخط المصنف: "بلغ صاحبه قراءة عليَّ، كتبه ابن حجر". وعلى آخر النسخة تحت هذا في الطرف الأيسر من أسفل الصفحة بلاغ قراءة النسخة إلى آخرها على الشيخ عبد القادر الصّفوري سنة 1077هـ، وبجانبه إلى اليمين: "وقف على طلبة العلم مؤرخ بسنة 1246هـ". * * * وقد انتهى العمل في تحقيق "نزهة النظر " في مساء يوم الجمعة 2/3/1422هـ الموافق 25/5/2001م، ثم استمرّت المراجعة والنظر فيها على مدى أكثرِ مِن شهرين، أسأل الله تعالى أن يتقبَّل العمل. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الباب الثاني: المتن مدخل مقدمة المؤلف ... بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال الشيخ العلامة الرحلة شيخ الإسلام علَم الأعلام شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر، الشافعي، فسح الله في مدته، وأعاد على المسلمين من بركته: [مقدّمة المؤلف] الحمد لله الذي لم يزل عالماً قديراً، حياً قيوماً سَميعاً بَصيراً، وأَشهدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأُكَبِّرُه تَكبيراً، وصلّى اللهُ عَلى سَيدِنا مُحَمَّدٍ الذي أَرْسَلَهُ إِلى النَّاسِ كافةً بَشيراً ونَذيراً وعلى آلِ محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 [ المؤلفون في مصطلح الحديث ومؤلفاتهم ] أَمَّا بَعْدُ: فإِنَّ التَّصانيفَ في اصْطِلاحِ أَهلِ الحَديثِ، قَدْ كَثُرَتْ للأئمةِ في القديمِ والحَديثِ. فمِن أوّلِ مَن صَنَّفَ في ذلك: 1- القاضي أبو محمَّدٍ الرامَهُرْمُزِي في كتابه: "المحدِّثُ الفاصل"، لكنَّه لم يَستوعب. 2- والحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسَابوريُّ، لكنَّه لم يُهَذِّب، ولم يُرَتّب. 3- وتلاه أَبو نُعَيْم الأصْبهاني فعَمِل على كتابهِ مستخْرَجاً وأبقى أشياءَ للمُتَعَقِّب. 4- ثمَّ جاءَ بعدَهم الخطيبُ أبو بكرٍ البغداديُّ فصَنَّفَ في قوانينِ الروايةِ كتاباً سَمَّاهُ: "الكفايةَ"، وفي آدابِها كتاباً سَمَّاهُ: "الجامعَ لآدابِ الشَّيْخِ والسَّامِع"، وقَلَّ فَنٌّ مِن فُنونِ الحَديثِ إِلاَّ وقد صَنَّفَ فيهِ كتاباً مفْرَداً؛ فكانَ كما قال الحَافظُ أبو بكرِ بنُ نُقْطَةَ: كلُّ مَن أَنْصف عَلِم أَنَّ المحدِّثين بعدَ الخَطيبِ عيالٌ على كُتُبِهِ. ثم جاء بعضُ مَنْ تَأَخَّرَ عنِ الخطيبِ، فأَخذ مِن هذا العلمِ بنصيبٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 5- فَجَمع القاضي عِياضٌ كتاباً لطيفاً سَمَّاهُ: "الإِلْماع". 6- وأبو حفْصٍ المَيَّانِجيُّ جُزءاً سَمَّاهُ: "ما لا يسعُ المحدِّثَ جَهْلُهُ". وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت، وبُسِطَتْ؛ لِيَتَوَفَّر علمها، واخْتُصِرَتْ؛ لِيَتَيَسَّر فهْمها، إِلى أَنْ جاءَ: 7- الحافِظُ الفقيهُ تقيُّ الدِّينِ أبو عمرو عثمان بن الصلاح بن عبدِ الرحمنِ الشَّهْرَزُوْرِي نزيلُ دمشقَ فجَمَعَ -لَمّا وَلِيَ تدريسَ الحديثِ بالمدرَسَةِ الأشرفيَّةِ- كتابَهُ المَشهورَ، فهذَّب فُنُونَهُ، وأَملاهُ شيئاً بعدَ شيءٍ؛ فلهذا لم يَحْصُل ترتيبُهُ على الوضع المتناسب، واعتنى بتصانيف الخطيب المفرَّقة، فجمَعَ شَتاتَ مقاصِدها، وضَمَّ إِليها مِن غَيْرِها نُخَبَ فوائدها، فاجتَمَعَ في كتابِه ما تفرَّقَ في غيرهِ؛ فلهذا عَكَف الناسُ عليهِ، وساروا بسَيْرِهِ، فلا يُحْصَى كم ناظمٍ له ومُخْتَصِرٍ، ومستدرِكٍ عليهِ ومُقْتَصِرٍ، ومعارِضٍ له ومنتَصِرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 [ سبب تصنيف نزهة النظر ] فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِّصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ، فلخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ، سَمّيتها: "نُخْبَةَ الْفِكَرِ في مصطلحِ أهلِ الأثرِ"، على ترتيبٍ ابتكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضَمَمْتُ إِليهِ مِن شوارِد الفرائدِ، وزوائدِ الفوائدِ. فَرَغِبَ إليَّ، ثانياً، أنْ أضَعَ عَليها شرحاً يَحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويوضِّح ما خَفِيَ على المُبْتَدئ مِن ذلك، فأجبتُهُ إِلى سُؤالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلك المسالِك، فبالغتُ في شَرْحِها، في الإِيضاحِ والتَّوجيهِ، ونَبَّهتُ على خفايا زواياها؛ لأنَّ صاحبَ البيتِ أَدْرَى بِما فيهِ، وظَهَرَ لي أَنَّ إيرادَهُ على صورةِ الْبَسْطِ أَلْيَقُ، ودمْجَها ضِمْن توضيحها أوفقُ، فسلكتُ هذه الطريقةَ القليلةَ السالكِ. فأقولُ طالِِباً مِن اللهِ التَّوفيقَ فيما هُنالِك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 [ الفرق بين الخبر والحديث ] 1- الخبر: عندَ علماءِ هذا الفنِّ مرادِفٌ للحديثِ. 2- وقيلَ: الحديثُ: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، والخَبَرُ: ما جاءَ عن غيِره، ومِن ثَمَّةَ قيلَ لمَن يشتغلُ بالتَّواريخِ وما شَاكَلَهَا: "الإِخْبَارِي"، ولمن يشتغلُ بالسنَّة النبويَّةِ: "المحدِّث". 3- وقيل: بيْنهما عمومٌ وخصوصٌ مُطْلَق: فكلُّ حديثٍ خبرٌ، مِن غير عكسٍ، وعَبّر هنا بـ"الخبر" ليكون أشمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا تعريف المتواتر ... [أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا] فهو باعتبارِ وصوله إلينا: [1- تعريف المتواتر] إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ، أي أسانيدُ كثيرةٌ؛ لأن طُرُقاً جَمْعُ طَرِيق -و"فَعِيلٌ" في الكثرةِ يُجْمَع على "فُعُلِ" بضمَّتينِ، وفي القلة على "أَفْعُلٍ"- والمراد بالطرق الأسانيد. والإسنادُ: حكايةُ طريقِ المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 [عددُ التواتر] : وتلكَ الكثرةُ أحدُ شروطِ التَّواتُرِ، إِذا وَرَدَتْ- بلا حصرِ عددٍ مُعَيَّنٍ، بل تَكُوْن العادةُ قد أحالتْ تواطؤَهُم على الكذِبِ، وكذا وقوعُهُ منهُم اتِّفاقاً مِن غيرِ قصدٍ، فلا مَعْنى لِتعْيينِ العَدَدِ على الصَّحيحِ-. ومِنْهم مَنْ عَيَّنه في الأربعةِ. وقيلَ: في الخمْسةِ. وقيل: في السَّبعةِ. وقيل: في العشرة. وقيل: في الاثني عشر. وقيل: في الأربعينَ. وقيلَ: في السَّبعينَ. وقيلَ غيرُ ذلك. وتَمَسَّك كلُّ قائلٍ بدليلٍ جاءَ فيه ذكرُ ذلك العدَدِ؛ فأفاد العلمَ. وليسَ بلازمٍ أَنْ يَطَّرِدَ في غَيْرِهِ؛ لاحتمالِ الاختصاص. فإذا ورد الخبر كذلك، وانْضافَ إليهِ أَنْ يستويَ الأمْرُ فيهِ في الكثرةِ المذكورةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 من ابتدائِه إلى انتهائهِ -والمرادُ بالاستواءِ: أَنْ لا تنقصَ الكثرةُ المذكورةُ في بعضِ المَواضِعِ، لا أَنْ لا تزيد؛ إذ الزيادة مطلوبةٌ هنا مِن بابِ الأَولى- وأَنْ يكونَ مستندُ انتهائِهِ الأمْرَ المُشَاهَدَ أو المسموعَ، لا ما ثبت بِقَضِيِّةِ العقلِ الصِّرْف، كالواحد نصف الاثنين. [فهذا هو المتواتر] 1.   1 زيادة من عندي؛ ليكون خبراً عن قوله: فإذا ورد. وهو الذي ورد في كلام المصنف فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 [ شروط المتواتر وتعريفه ] : فإِذا جَمَع هذهِ الشروطَ الأربعةَ، وهي: 1- عددٌ كثير أحالت العادة تواطؤَهم، أو توافُقَهم، على الكذب. 2- رووا ذلك عن مِثْلِهِم من الابتداءِ إلى الانتهاءِ. 3- وكان مُسْتَنَدُ انْتِهائِهم الحِسَّ. 4- وانْضافَ إلى ذلك أَنْ يَصْحبَ خبرَهم إفادةُ العلمِ لِسامِعِهِ. فهذا هو المتواتِرُ. وما تخلَّفتْ إِفَادَةُ العِلْمِ عنهُ كانَ مَشْهوراً فقَط، فكلُّ متواترٍ مشهورٌ من غيرِ عكسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 [ هذه الشروط الأربعة تفيد حصول العلم غالبا ً] : وقد يُقالُ: إِنَّ الشُّروطَ الأربعةَ إِذا حَصَلَتْ اسْتَلْزمتْ حصولَ العِلْمِ، وهُو كذلك في الغالِبِ، لكن، قد يتخلف عن البعض لمانعٍ. وقد وَضَحَ بهذا تعريف المتواتر. وخِلافُهُ قد يَرِدُ: أ- بلا حصرٍ، أَيضاً، لكنْ، مع فَقْدِ بعضِ الشروط. ب- أَو مَعَ حصرٍ: 2- بِما فَوْقَ الاثنيْنِ، أي بثلاثةٍ فصاعداً، ما لم تجتمع شروط التواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 3- أو بِهما، أي: باثْنَيْنِ فقطْ. 4- أو بواحدٍ. والمرادُ بقولِنا: أَنْ يَرِدَ باثْنَيْنِ: أنْ لا يَرِدَ بأقلَّ منهما، فإن وَرَدَ بأكثرَ في بعضِ المَواضِعِ مِن السَّنَدِ الواحِدِ لا يضر؛ إذ الأقل في هذا يَقْضي على الأكثر. فالأول [وهو الذي ورد بلا حصر عدد معين هو] المتواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 [حكم المُتواتِرُ] : وهو المُفيدُ للعِلْمِ اليَقينِيِّ -فأَخرجَ النظريَّ، على ما يأتي تقريره- بشروطه التي تقدمت. واليَقينُ: هو الاعتقادُ الجازِمُ المُطابِقُ. وهذا هو المعْتَمَدُ أن خبر التواتر يفيد العلم الضروري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 [ مفهوم العلم الضروري ] وهو: الذي يُضْطر الإِنْسانُ إليهِ بحيثُ لا يُمْكنه دفْعُهُ. وقيلَ: لا يُفيدُ العلمَ إِلاَّ نَظَرِيّاً. وليس بشيءٍ؛ لأنَّ العِلْم بالتَّواتُرِ حاصلٌ لمن ليس لهُ أهليةُ النَّظرِ كالعاميِّ؛ إِذِ النَّظرُ: ترتيبُ أمورٍ معلومةٍ أَو مظنونةٍ يُتَوَصل بها إلى علومٍ أَو ظنونٍ، وليس في العاميِّ أهليةُ ذلك، فلو كان نَظَرِيّاً لَمَا حَصَلَ لهُم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 [ الفرق بين العلم الضروري والعلم النظري ] ولاحَ بهذا التقريرِ الفرقُ بين العِلْمِ الضَّرورِيِّ والعِلْمِ النَّظَرِيِّ: 1- إِذِ الضَّرورِيُّ يفيدُ العلمَ بلا استدلالٍ، والنَّظريُّ يُفيدُهُ، لكنْ، مع الاستِدْلالِ على الإِفادةِ. 2- وأنَّ الضروريَّ يَحْصُلُ لكلِّ سامعٍ، والنظريَّ لا يَحْصُلُ إلا لمن فيه أهليةُ النظر. وإنما أُبْهِمَتْ شروط المتواتر في الأَصْلِ؛ لأنَّهُ على هذهِ الكيفيَّةِ ليسَ من مباحثِ علمِ الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 [ تعريف علم الإسناد ] : إذْ علمُ الإسنادِ يُبحث فيهِ عن صِحَّةِ الحديثِ أَوْ ضعفه؛ لِيُعْمَلَ به أَو يُتْرَكَ مِن حيثُ: صفاتُ الرِّجالِ وصِيَغُ الأداءِ، والمُتواتِرُ لا يُبْحَث عَنْ رجالِهِ، بل يجِبُ العملُ بهِ مِن غيرِ بَحْثٍ. فائدةٌ: ذَكَرَ ابنُ الصَّلاحِ أَنَّ مِثالَ المُتواتِرِ عَلى التَّفسيرِ المُتَقَدِّمِ يَعِزُّ وجودُه، إِلاَّ أَنْ يُدَّعَى ذلك في حديثِ: "مَنْ كَذَبَ عليَّ". وما ادَّعَاهُ مِن العِزَّةِ ممنوعٌ، وكذا مَا ادَّعاهُ غَيْرُهُ مِن العَدَمِ؛ لأنَّ ذلكَ نشأَ عن قلةِ اطِّلاعٍ على كثرةِ الطرقِ وأحوالِ الرجالِ وصفاتِهِم المقتضيةِ لإبعادِ العادةِ أن يَتَواطؤا على كذبٍ، أو يَحْصُلَ منهم اتِّفاقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 [أقسام الآحاد] [2- تعريف الحديث المشهور ] والثاني -وهُو أَوَّلُ أقسام الآحادِ-: ما لَهُ طرقٌ محصورةٌ بأكثرَ مِن اثْنَيْنِ، وهُو المَشْهورُ عندَ المُحَدِّثينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 [ الفرق بين المشهور والمستفيض ] : سُمِّيَ بذلك لوُضوحِهِ، وهُوَ المُستفيضُ عَلى رأيِ جماعةٍ مِن أئمةِ الفقهاء، سُمِّيَ بذلك لانتشاره، مِن: فاضَ الماءُ يَفِيض فيضاً، ومِنْهُم مَنْ غَايَرَ بينَ المُسْتَفيضِ والمَشْهورِ، بأَنَّ المُسْتَفيضَ يكونُ في ابتدائه وانْتِهائِهِ سَواءً، والمَشْهورَ أعمُّ مِنْ ذلكَ. ومنهُمْ مَن غايَرَ على كيفيةٍ أُخْرى، وليسَ مِن مباحث هذا الفن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 [ أقسام المشهور ] : ثمَّ المَشْهورُ يُطلَق: 1- على مَا حُرِّر هُنا. 2- وعلى ما اشْتُهِرَ على الألْسِنةِ؛ فَيَشمل ما لَهُ إسنادٌ واحدٌ فصاعِداً، بل ما لا يوجد له إسنادٌ أصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [ تعريف العزيز ] : والثَّالِثُ: العَزِيز: وهُو أَنْ لا يَروِيَه أقلُّ مِن اثْنَيْنِ عنِ اثْنَيْنِ. وسُمِّيَ بذلك إِمَّا لقلةِ وجودِهِ، وإِمَّا لكونِهِ عَزَّ، أَيْ قَوِيَ بمَجيئِهِ مِن طريقٍ أُخْرى. ولَيْسَ شَرْطاً للصَّحيحِ، خِلافاً لمَنْ زَعَمَهُ، وهو أَبو عَليٍّ الجُبَّائِي مِن المُعْتزلةِ، وإِليهِ يومئُ كلامُ الحاكِمِ أَبي عبد اللهِ في علومِ الحديثِ، حيثُ قال: الصَّحيحُ أنْ يَرْوِيَهُ الصحابيُّ الزائلُ عنهُ اسمُ الجَهالة؛ بأَنْ يكونَ لهُ راوِيانِ، ثمَّ يتداوَلَهُ أَهلُ الحَديثِ إِلى وَقْتِنِا، كالشَّهادَةِ عَلى الشَّهادَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [ دعوى ابن العربي: بأن العزيز من شرط البخاري في صحيحه ] : وصَرَّحَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العربيِّ في شَرْحِ البُخَارِيّ بأَنَّ ذلك شرطُ البُخَارِيِّ، وأَجاب عمَّا أُوْرِدَ عليهِ مِن ذلك بجوابٍ فيهِ نظر؛ لأنه قال: فإن قيل: حديثُ: الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ فَرْدٌ؛ لم يَرْوِهِ عَنْ عُمر إلا علقمة؟ قال: قلنا: قد خَطَبَ به عُمرُ عَلى المِنْبَرِ بحَضْرةِ الصَّحابَةِ؛ فلولا أَنَّهُمْ يَعْرِفونَهُ لأنكروه. -كذا قال-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [ الرد على جواب ابن العربي ] : وتُعُقِّبَ بأنه لا يَلْزم من كونهم سكتوا عنه أن يَكُونوا سَمِعوهُ مِنْ غَيْرِهِ، وبأَنَّ هذا لو سُلِّمَ في عُمَرَ مُنِعَ في تَفَرُّدِ علقمةَ ثمَّ تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْراهيمَ بِه عَنْ عَلْقَمَةَ، ثُمَّ تَفَرُّدِ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ بهِ عن محمدٍ، عَلى ما هُو الصَّحيحُ المُعْروفُ عِنْدَ المُحَدِّثينَ، وقَدْ وردتْ لُهْم متابعاتٌ لا يُعْتَبَرُ بِها، وكذا لا يَسْلَمُ جوابُه في غيرِ حديثِ عُمرَ. قال ابن رُشَيْدٍ: ولَقَدْ كانَ يَكْفي القاضِيَ في بُطْلانِ ما ادّعَى أَنَّهُ شرطُ البُخَارِيِّ أولُ حديثٍ مَذكورٍ فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [ دعوى لابن حبان ] : وادّعَى ابنُ حِبّان نقيضَ دَعْواهُ، فقالَ: إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ لا توجد أصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [ الرد على ابن حبان ] : قلت: إن أراد أَنَّ رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ لا يُوجد أَصْلاً فَيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ، وأَمَّا صُورَةُ العَزيزِ الَّتي حَرَّرْناها فمَوْجودَةٌ بأنْ لا يرويَهُ أقلُّ من اثنين عن أقلَّ من اثنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [ مثال العزيز ] : مثالُهُ: ما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن حديثِ أَنَسٍ، والبخاريُّ مِن حديثِ أبي هريرة أَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ" الحديث. ورواه عَنْ أَنَسٍ قَتادَةُ وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، ورواهُ عَنْ قتادَةَ شعبةُ وسعيدٌ، ورواهُ عَنْ عبدِ العزيزِ إِسماعيلُ بنُ عُليَّة وعبدُ الوارِثِ ورواه عن كُلٍّ جماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [ تعريف الغريب ] : والرابع: الغريب: وهُو ما يتفرَّد بِروايَتِهِ شخصٌ واحِدٌ في أيِّ موضعٍ وَقَعَ التفردُ بِهِ مِنَ السَّنَدِ. على ما سنقسم إليه الغريب المطلق والغريب النسب. وكُلُّها أي الأَقْسَامُ الأربعةُ المذكورةُ سِوى الأوَّلِ -وهو المُتواتِرُ- آحادٌ، ويُقالُ لكلٍّ منها خَبَرُ واحدٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [ تعريف الآحاد وأقسامها وحكمها ] [تعريفها] : وَخَبَرُ الواحدِ في اللغة: ما يرويه شخصٌ واحدٌ. وفي الاصطلاح: ما لم يَجْمَعْ شروطَ التواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أقسام الآحاد من حيث القبول والرد ّ ... [أقسامها من حيث القبول والردّ] : وفيها، أي الآحاد: أ - المَقْبولُ: وهو ما يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ الجمهور. ب- وفيها المردود: وهو الذي لم يَرْجَحْ صِدْقُ المُخْبِرِ بِهِ؛ لتوقُّفِ الاستدلالِ بها عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ رواتِها، دُونَ الأوَّلِ، وهو المُتَوَاتِرُ، فكلُّهُ مقبولٌ؛ لإفادته القطعَ بصدْقِ مُخْبِرِهِ، بخلاف غيره من أخبار الآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 [صُورُ القبول والردّ وأساسهما] : لكنْ إِنَّما وَجَبَ العَمَلُ بالمَقْبولِ مِنها لأَنَّها إِمَّا: 1- أَنْ يُوْجَدَ فيها أصْلُ صِفَةِ القَبولِ، وهُو ثبوتُ صِدْقِ النَّاقِلِ. 2- أَوْ أصْلُ صِفَةِ الرَّدِّ، وهُو ثبوتُ كَذِبِ النَّاقِلِ. 3- أوْ لاَ. فالأول: يَغْلبُ على الظن صدقُ الخَبَرِ؛ لِثُبوتِ صدقِ ناقِلِهِ؛ فيؤخذُ بِهِ. والثاني: يَغْلبُ على الظن كذبُ الخَبَرِ؛ لثبوتِ كَذِبِ ناقِلِهِ؛ فَيُطْرَح. والثَّالِثُ: إنْ وُجِدَتْ قرينةٌ تُلْحِقه بأحدِ القِسْمَيْنِ الْتَحق، وإلا فَيُتَوَقَّفُ فيه، فإذا تُوُقِّف عَنِ العَمَلِ بهِ صارَ كالمَرْدودِ، لا لثبوتِ صفةِ الرَّدِّ، بل لكَوْنِه لمْ تُوجَدْ فيه صفةٌ توجب القبول، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 [ حكم أخبار الآحاد ] : وقد يَقعُ فيها-أي في أَخْبارِ الآحادِ المُنْقَسِمَة إِلى: مَشْهورٍ، وعَزيزٍ، وغَريبٍ- مَا يُفيدُ العلم النظريَّ بالقَرائِنِ عَلى المُختارِ، خِلافاً لِمَنْ أَبى ذلك. والخِلافُ في التَّحْقيقِ لفظيٌّ، لأنَّ مَنْ جَوَّزَ إطلاقَ العلمِ قَيّده بِكونِهِ نَظَريّاً، وهُو الحاصِلُ عن الاسْتِدلالِ، ومَن أَبَى الإطلاقَ خَصَّ لَفْظَ العلمِ بالمتواتر، وما عَدَاهُ عنده ظنيٌّ، لكنه، لا ينفي أنّ ما احْتَفَّ بالقرائن أرجحُ مما خلا عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 [أنواع الخبر المُحْتَفّ بالقرائن] : والخبرُ المُحْتَفُّ بالقرائن أنواعٌ: أ - مِنْها: مَا أَخْرَجَهُ الشيخانِ في صَحيحَيْهِما، ممَّا لم يبلغ التواتر، فإِنَّهُ احتفَّتْ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قرائنُ، منها: - جلالتهما في هذا الشأن. - وتقدُّمهما في تَمْييزِ الصَّحيحِ على غيرِهما. - وتلقِّي العلماء لكتابيهما بالقَبُولِ، وهذا التلقِّي وحدَهُ أَقوى في إِفادةِ العِلْم مِن مجردِ كثرةِ الطُّرُقِ القاصرةِ عَنِ التواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 [الشرط في تلقّي حديث الصحيحين بالقبول] : إلا أنّ هذا: 1- يختصُّ بما لم ينتقدْه أحدٌ مِنَ الحُفَّاظِ مِمَّا في الكِتابينِ. 2- وبِما لم يقع التّخالُفُ بينَ مَدْلولَيْهِ مِمَّا وَقَعَ في الكِتابينِ، حيثُ لا تَرْجيحَ؛ لاستحالةِ أَنْ يُفيدَ المتناقِضَان العلمَ بصِدْقِهِما من غيرِ ترجيحٍ لأحدِهِما على الآخرِ، وما عَدا ذلك فالإِجماعُ حاصلٌ على تَسْليمِ صحته. فإِنْ قِيلَ: إِنَّما اتَّفَقوا على وجوبِ العملِ به لا على صحته، منعناه، وسَنَدُ المنعِ: أَنَّهُمْ مُتَّفِقونَ عَلى وُجوبِ العَمَلِ بِكُلِّ مَا صَحَّ، ولوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخانِ؛ فلمْ يَبْقَ للصَّحيحينِ في هذا مزيةٌ، والإِجماعُ حاصلٌ على أنَّ لهُما مَزِيَّةً فيما يَرْجع إِلى نَفْسِ الصِّحَّةِ. ومِمَّن صَرَّحَ بإِفادَةِ مَا خَرّجه الشيخان العلمَ النظريَّ: 1- الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني. 2- ومِن أَئِمَّةِ الحَديثِ أَبو عبدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ. 3- وأبو الفضل بن طاهر، وغيرهما. ويُحْتمل أَنْ يُقالَ: المَزِيَّةُ المَذْكُورَةُ كونُ أَحادِيثِهِما أصحَّ الصحيح. ب- ومِنها: المَشْهورُ إِذا كانَتْ لهُ طرقٌ متباينةٌ سالمةٌ مِن ضَعْفِ الرُّواةِ والعِلَلِ، وممَّن صَرَّحَ بإِفادَتِهِ العلمَ النظريَّ الأستاذُ أَبو مَنْصورٍ البَغْدادِيُّ، والأسْتاذُ أبو بكر بن فُوْرَك، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 جـ- ومِنها: المسَلْسَلُ بالأئمةِ الحفاظِ المُتْقِنينَ، حيثُ لا يكونُ غَريباً، كالحَديثِ الَّذي يَرْويهِ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، مَثلاً، ويُشارِكُهُ فيهِ غَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ ويُشارِكُهُ فيهِ غيرُهُ عنْ مالِكِ بنِ أَنسٍ، فإنه يفيد العلمَ عند سامعِهِ بالاستدلال مِن جهةِ جَلالةِ رواتِهِ وأنَّ فيهِمْ مِن الصفاتِ اللائقةِ الموجِبةِ للقبولِ مَا يقومُ مَقامَ العَدَدِ الكَثيرِ مِن غَيْرِهِم، ولا يَتَشَكَّكُ مَنْ لَهُ أَدْنَى ممارسةٍ بالعِلْمِ وأَخْبارِ النَّاسِ أَنَّ مالِكاً، مَثلاً، لو شافَهَهُ بخبرٍ أنه صادقٌ فيه، فإذا انضاف إليه مَن هُو في تِلْكَ الدَّرَجَةِ ازْدَادَ قُوَّةً، وبَعُدَ ما يُخْشَى عليه مِن السهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 [ القرائن هذه إنما تفيد العلم بصدق الحديث عند المختصين ] : وهذه الأنْواعُ الَّتي ذكَرْناها لا يَحْصل العلمُ بصدقِ الخبرِ منها إِلاَّ للعالِمِ بالحديثِ المتبحرِ فيهِ العارفِ بأحوالِ الرواةِ، المطَّلِعِ عَلى العِلَلِ. وكونُ غيرِهِ لا يَحْصلُ لهُ العلمُ بصدْقِ ذلك -لقصوره عن الأوصاف المذكورة التي ذكرناها- لا يَنفي حصولَ العلمِ للمتبحّر المذكور. ومحصَّل الأنْواعِ الثَّلاَثَةِ الَّتي ذَكَرْناها أنَّ: الأوَّلَ: يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ. والثاني: بِما لَهُ طرقٌ مُتَعَدِّدَةٌ. والثَّالِثُ: بِما رواهُ الأئمَّةُ. ويُمْكن اجْتماعُ الثَّلاثةِ في حديثٍ واحد، ولا يَبْعُدُ حينئذ القطعُ بصدقه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 [ أقسام الغريب ] ثمَّ الغَرابَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ: 1- في أَصلِ السَّنَدِ: أي في الموضعِ الَّذي يَدورُ الإِسنادُ عليهِ ويَرْجِعُ، ولو تَعَدَّدَتِ الطُّرقُ إِليهِ، وهو طَرَفُهُ الذي فيه الصحابي. 2- أَوْ لاَ يَكونُ كَذلكَ، بأَنْ يَكونَ التَّفَرُّدُ في أثنائه، كأَنْ يرويَه عَنِ الصَّحابيِّ أكثرُ مِن واحدٍ، ثم ينْفَرِدَ بروايته عن واحدٍ منهم شخصٌ واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 [ الفرد المطلق وأمثلته ] : فالأول: الفرد المطْلَق: كَحديثِ النَّهْيِ عَنْ بيعِ الوَلاءِ وعَنْ هِبَتِهِ، تفرَّد بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عنِ ابنِ عمر، وقد يَنْفَرِدُ به راوٍ عن ذلك المنْفَرد، كحديث شُعَبِ الإيمان، تفرَّدَ بهِ أَبو صالحٍ عَنْ أَبي هُريرةَ، وتفرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عَنْ أَبي صالحٍ، وقدْ يَسْتَمِرُّ التفرُّدُ في جميعِ رواته أو أكثرهم. وفي مسند البزار والمعجم الأوسط للطبراني أمثلةٌ كثيرة لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [ الغريب النسبي والفرق بينه وبين الفرد ] : والثاني: الفرد النسبيّ: سُمِّيَ بذلك لكونِ التفرُّدِ فيهِ حَصَلَ بالنسبةِ إِلى شخصٍ مُعَيَّنٍ، وإن كان الحديث في نفسه مشهوراً، ويقِلُّ إطلاقُ الفردِيّةِ عليهِ، لأنَّ الغَريبَ والفَرْدَ مترادفان لغةً واصطلاحاً، إلا أن أهلَ الاصطِلاحِ غايَروا بينَهُما من حيثُ كثرةُ الاستِعمالِ وقِلَّتُه، فالفردُ أَكْثَرُ ما يُطْلقونه على الفَرْدِ المُطْلَقِ، والغَريبُ أَكثرُ ما يُطْلقونه عَلى الفَرْدِ النِّسْبيِّ، وهذا مِن حيثُ إِطلاقُ الاسمِ عليهِما، وأما مِن حيثُ استعمالُهم الفعل المشتق فلا يُفَرِّقون، فَيقولونَ في المُطْلَقِ والنِّسْبيِّ تفرَّد بِهِ فُلانٌ، أو أغرب به فلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [ الفرق بين المنقطع والمرسل ] وقريبٌ مِنْ هذا اختلافُهم في المنقطعِ والمرسَل هلْ هُما مُتغايِرانِ أَوْ لاَ؟ فأَكْثَرُ المُحَدِّثين على التَّغايُرِ، لكنَّهُ عندَ إطلاقِ الاسمِ، وأمَّا عندَ اسْتِعمَالِ الفِعْل المُشْتَقِّ فيستَعْمِلونَ الإِرسالَ فقَطْ، فيَقولونَ: أَرْسَلَهُ فلانٌ، سواءٌ كانَ ذلكَ مُرْسَلاً أم مُنْقَطِعاً، ومِن ثَمَّ أَطلق غيرُ واحدٍ مِمَّن لم يلاحِظ مواقعَ استعمالهم على كثيرٍ مِن المُحدِّثينَ أَنَّهُم لا يُغايِرونَ بينَ المُرْسَلِ والمُنْقَطِعِ، وليسَ كذلك؛ لِما حَرَّرناهُ، وقلَّ مَنْ نَبَّه على النُّكتة في ذلك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [ أقسام الخبر المقبول ] [ الصحيح لذاته ] : وخبرُ الآحادِ: بنقلِ عدلٍ تامٍّ الضبطِ، متصلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّل ولا شاذٍّ هو الصحيحُ لِذاته. وهذا أولُ تقسيمِ المقبول إِلى أربعةِ أنواعٍ؛ لأَنَّهُ إِمَّا أنْ يشتملَ مِن صفاتِ القَبولِ على: 1- أَعْلاها. 2- أوْ لاَ. الأول: الصحيحُ لذاته. والثَّاني: إنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ ذلكَ القُصور ككثرة الطرق، فهو الصحيح أَيضاً، لكنْ، لا لذاتِهِ. 3- وحيثُ لا جُبْرَانَ فهُو الحسنُ لذاتِهِ. 4- وإِنْ قامَتْ قرينةٌ ترجِّح جانبَ قبول ما يتوقف فيه فهو الحسن، أيضاً، لا لذاتِهِ. وقُدِّمَ الكَلامُ على الصَّحيحِ لذاتِهِ لعلو رتبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [ العدالة ] والمراد بالعدل: مَنْ لهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُه على مُلازَمة التَّقوى والمُروءةِ. والمُرادُ بالتَّقوى: اجْتِنابُ الأعمالِ السَّيِّئةِ مِن شِرْك أو فسقٍ أو بدعةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [ أقسام الضبط وتعريفها ] والضبط: أ - ضبطُ صَدْرٍ: وهُو أَنْ يُثْبِت ما سَمِعَهُ بحيثُ يتمكَّنُ من استحضاره متى شاء. ب- وضبطُ كتابٍ: وهُو صِيانَتُهُ لديهِ مُنذُ سمِعَ فيهِ وصحَّحَهُ إِلى أَنْ يُؤَدِّيَ منهُ. وقُيِّدُ بالتام إشارةً إلى الرتبةِ العُليا في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [ تعريف الحديث المتصل ] : والمُتَّصِلُ: ما سَلِم إسنادُه مِنْ سقوطٍ فيهِ، بحيثُ يكونُ كلٌّ مِنْ رِجاله سمعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ذلكَ المرويَّ مِن شيخِهِ. والسَّنَدُ تقدَّمَ تعريفُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 [ تعريف الحديث المعلل ] : والمُعَلَّل لُغةً: ما فِيهِ عِلَّةٌ، واصطِلاحاً: ما فيه عِلَّةٌ خَفَيّةٌ قادحةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 [ تعريف الحديث الشاذ ] : والشاذُّ لُغةً: المُنفَرِدُ، واصطِلاحًا: ما يُخالِفُ فيهِ الرَّاوي مَنْ هُو أرجحُ منهُ. ولهُ تفسيرٌ آخَرُ سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 تنبيه: [حول القيود في تعريف الصحيح لذاته] : أ - قوله: وخبر الآحاد: كالجنس، وباقي قُيودِهِ كالفصل. ب- وقولُهُ: بِنَقْلِ عَدْلٍ: احترازٌ عَمَّا يَنْقُلُهُ غيرُ عَدْلٍ. جـ- وقوله: هُو: يُسمى فَصْلاً يتَوَسَّطُ بينَ المُبتَدَإِ والخَبَرِ، يُؤْذِن بأَنَّ ما بَعْدَهُ خبرٌ عَمَّا قبله، وليس بنعتٍ له. د- وقوله: لذاته: يُخرِج ما يُسمى صحيحاً بأمرٍ خارجٍ عنهُ، كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 [ تفاوت مراتب الصحيح لتفاوت أوصاف الرواة ] وتتفاوت رُتَبُه، أي الصحيح، بسببِ تفاوُتِ هذه الأوصاف المقتضيةِ للتَّصحيحِ في القُوَّةِ، فإِنَّها لَمّا كانَتْ مُفيدةً لغلبةِ الظنِّ الَّذي عليهِ مدارُ الصِّحَّةِ = اقْتَضَتْ أنْ يكونَ لها درجاتٌ، بعضُها فَوْقَ بعضٍ، بحَسَبِ الأمورِ المقوِّية، وإِذا كانَ كذلك فما تكون رُوَاتُه في الدَّرجةِ العُليا مِن: العدالَةِ، والضَّبْطِ، وسائر الصفات التي توجب الترجيح = كان أصحَّ مما دونَه. فَمِن الرتبة العُلْيا في ذلك: ما أَطلق عليهِ بعضُ الأئمة أنه أصح الأسانيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 [ مراتب أصح الأسانيد وأمثلته ] : أ - كالزُّهْرِي، عن سالمٍ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، عن أَبيهِ. وكمحمَّدٍ بنِ سيرينَ، عن عَبِيدَةَ بن عمرو، عن علي. وكَإِبراهيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عن ابنِ مَسعودٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ب- ودُونَها في الرُّتبةِ: كرِوايةِ بُرَيْد بنِ عبدِ اللهِ بنِ أَبي بُرْدَةَ، عن جَدِّه، عن أبيه، أبي موسى. وكحماد بن سَلَمَة، عن ثابتٍ، عن أنس. جـ- ودُونَها في الرُّتْبَةِ: كسُهَيل بنِ أَبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة. وكالعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمن، عن أَبيهِ، عن أبي هريرة. فإن الجميع شَمَلَهم اسم "العدالة والضبط"، إلا أن المرتبة الأولى فيهم مِن الصِّفاتِ المرجِّحة ما يقتَضي تقديمَ رِوَايَتِهم على الَّتي تَليها، وفي الَّتي تليها مِن قوّةِ الضَّبْطِ ما يقتَضي تقدِيْمَهَا على الثالثة، وهي -أي الثالثة- مقدَّمةٌ على روايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ به حَسَناً: كمحمَّد بنِ إِسحاقَ، عن عاصمِ بنِ عمر، عن جابر. وعَمْرو بنِ شُعَيب، عنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وقِسْ على هذه المراتب ما يَشبهُها. والمرتبةُ الأُولى هِيَ الَّتي أَطلقَ عليها بعضُ الأئمَّةِ أَنَّها أصحُّ الأسانيدِ. والمعتَمدُ عدمُ الإطلاَقَ لترجمةٍ معيَّنةٍ منها. نعمْ يُسْتَفَاد مِن مجْموع ما أَطْلَق عليه الأئمة ذلك أَرْجَحِيَّتُهُ على ما لم يُطلقوه. ويَلْتحِقُ بهذا التفاضلِ ما اتَّفَقَ الشيخانِ على تَخريجِه بالنِّسبةِ إِلى ما انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُما، وما انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ بالنِّسبةِ إلى ما انْفَرَدَ بهِ مسلمٌ؛ لاتِّفاقِ العُلماءِ بعدِهِما على تلقِّي كتابيهما بالقبول، واختلافُ بعضهم في أيهما أرجحُ. فما اتَّفقا عليهِ أرجحُ مِنْ هذهِ الحيثيَّةِ مما لم يتفقا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 [ المفاضلة بين الصحيحين ] وقد صَرَّح الجمهورُ بتقديمِ صحيحِ البُخَارِيّ في الصحة، ولم يُوجَد عنْ أحدٍ التصريحُ بنقيضِهِ. وأَمّا ما نُقِلَ عَن أبي عليٍّ النَّيْسابوريِّ، أَنَّهُ قالَ: ما تحتَ أَديمِ السماءِ أصحُّ مِن كتابِ مسلمٍ، فلمْ يُصرِّحْ بكونِه أصحَّ مِن صحيحِ البُخَارِيِّ؛ لأَنَّهُ إِنَّما نَفَى وجودَ كتابٍ أَصحَّ مِن كتابٍ مسلمٍ؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّما هُو ما تقتضيه صيغةُ "أَفْعَلَ"، من زيادةِ صحةٍ في كتابٍ شاركَ كتابَ مسلمٍ في الصِّحَّةِ، يمتازُ بتلكَ الزِّيادَةِ عليه، ولم يَنْفِ المساواةَ. وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ المَغارِبَةِ أنه فَضّلَ صحيحَ مسلمٍ على صحيحِ البُخَارِيّ فذلكَ فيما يَرْجعُ إِلى حُسْن السياقِ، وجَوْدَةِ الوَضْعِ والتَّرتِيبِ، ولم يُفْصِحْ أحدٌ منهُم بأَنَّ ذلكَ راجعٌ إِلى الأصَحِّيَّة، ولو أَفْصَحوا به لردَّه عليهِمْ شاهدُ الوُجودِ. فالصفاتُ الَّتي تدورُ عليها الصحةُ في كتابِ البُخَارِيِّ أتمُّ منها في كتابِ مسلمٍ وأشدّ، وشَرْطُهُ فيها أقوى وأسدّ. أَمَّا رُجْحانه مِن حيثُ الاتصالُ: فلاشْتِراطِهِ أَنْ يكون الراوي قد ثبت له لِقَاءُ مَنْ روى عنهُ، ولو مَرَّةً، واكْتَفى مسلمٌ بمطْلَقِ المُعاصَرَةِ. وأَلزم البخاريَّ بأَنَّهُ يَحتاج أَنْ لا يَقبَل العنعنةَ أَصلاً، وما أَلْزَمَهُ به ليس بلازمٍ؛ لأن الراوي إِذا ثبتَ لهُ اللِّقاءُ مرَّةً لا يجْري في رواياته احتمالُ أن لا يكون سَمِع؛ لأنَّهُ يَلْزم مِن جَرَيَانِهِ أَنْ يكونَ مدلِّساً، والمسألة مفروضة في غير المدلِّس. وأَمَّا رُجْحانُه مِنْ حيثُ العدالةُ والضبطُ: فلأنَّ الرجالَ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ مسلمٍ أكثرُ عَدداً مِن الرِّجالِ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِنْ رجالِ البُخَارِيّ، معَ أَنَّ البخاريَّ لم يُكْثِرْ مِن إِخراجِ حَديثِهِمْ، بل غالبُهم مِن شيوخِهِ الذينَ أَخذ عنهُم، ومَارَسَ حَديثَهُم، بخلافِ مسلمٍ في الأمْرَينِ. وأَمَّا رُجحانُه مِن حيثُ عدمُ الشذوذِ والإعلالِ: فلأن ما انْتُقِدَ على البُخَارِيّ مِن الأحاديثِ أقلُّ عدداً مِمَّا انْتَقِدَ على مسلمٍ، هذا مع اتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البخاريَّ كانَ أجلَّ مِنْ مُسْلم في العُلومِ، وأعرفَ بصناعةِ الحَديثِ مِنهُ، وأَنَّ مُسلماً تِلْميذهُ وخِرِّيجُهُ ولم يَزَلْ يستفيدُ منه ويَتَّبع آثارَه، حتَّى لقد قالَ الدارقطنيُّ: "لولا البخاريُّ لما راحَ مسلمٌ ولا جاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 [مراتب الصحيح بحسب مصدره] ومِن ثَمَّ، أَيْ: ومِن هذه الحيثيَّةِ -وهي أَرجحيَّةُ شرْط البُخَارِيّ على غيره- قُدِّمَ صحيحُ البُخارِيّ على غيرِه من الكُتُبِ المصنَّفة في الحديثِ. ثم صحيحُ مسلمٍ، لمُشارَكَتِه للبُخَارِيّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تلقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ، أَيضاً، سِوى ما عُلِّل. ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ، مِن حيثُ الأَصَحِّيَّةُ، ما وافقَه شَرْطُهُما؛ لأن المراد به رواتهما معَ باقي شروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهُما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ، فهُمْ مقدَّمون على غيرِهم في رِواياتِهم، وهذا أصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ. فإِنْ كانَ الخبرُ على شرطهما معاً كان دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ أَو مثلَه. وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما فَيُقَدَّمُ شرطُ البُخَارِيّ وحدَه على شرطِ مسلمٍ وحْدَهُ تَبَعاً لأصلِ كلٍّ منهما. فخرج لنا مِن هذا ستةُ أقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصحة. وثَمّ قِسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً، وهذا التفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إلى الحيثية المذكورة. [قد يُقَدَّمَ الأدنَى على ما فَوقَه لأمور خارجية] : أَمَّا لو رَجَحَ قِسْمٌ على ما هو فوقه بأمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ؛ إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفُوقِ مَا يَجْعله فائقاً. كما لو كان الحديثُ عندَ مسلمٍ، مثلاً، وهُو مشهورٌ قاصرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ، حَفَّتْه قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ، فإِنَّه يُقَدَّم على الحديثِ الذي يُخرجُه البُخَارِيّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً. وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يخرِّجاه مِن ترجمةٍ وُصِفت بكونِها أصحَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 [ مراتب الصحيح بحسب مصدره ] ومِن ثَمَّ، أَيْ: ومِن هذه الحيثيَّةِ -وهي أَرجحيَّةُ شرْط البُخَارِيّ على غيره- قُدِّمَ صحيحُ البُخارِيّ على غيرِه من الكُتُبِ المصنَّفة في الحديثِ. ثم صحيحُ مسلمٍ، لمُشارَكَتِه للبُخَارِيّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تلقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ، أَيضاً، سِوى ما عُلِّل. ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ، مِن حيثُ الأَصَحِّيَّةُ، ما وافقَه شَرْطُهُما؛ لأن المراد به رواتهما معَ باقي شروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهُما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ، فهُمْ مقدَّمون على غيرِهم في رِواياتِهم، وهذا أصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ. فإِنْ كانَ الخبرُ على شرطهما معاً كان دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ أَو مثلَه. وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما فَيُقَدَّمُ شرطُ البُخَارِيّ وحدَه على شرطِ مسلمٍ وحْدَهُ تَبَعاً لأصلِ كلٍّ منهما. فخرج لنا مِن هذا ستةُ أقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصحة. وثَمّ قِسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً، وهذا التفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إلى الحيثية المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 [قد يُقَدَّمَ الأدنَى على ما فَوقَه لأمور خارجية] : أَمَّا لو رَجَحَ قِسْمٌ على ما هو فوقه بأمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ؛ إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفُوقِ مَا يَجْعله فائقاً. كما لو كان الحديثُ عندَ مسلمٍ، مثلاً، وهُو مشهورٌ قاصرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ، حَفَّتْه قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ، فإِنَّه يُقَدَّم على الحديثِ الذي يُخرجُه البُخَارِيّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً. وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يخرِّجاه مِن ترجمةٍ وُصِفت بكونِها أصحَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الأسانيدِ، كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ، فإِنه يُقدَّم على ما انفرَدَ بهِ أَحدُهُما، مثلاً، لا سيَّما إِذا كانَ في إِسنادِهِ مَنْ فيه مقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 [ الحسن لذاته ] فإنْ خَفَّ الضبطُ، أي قَلَّ -يُقال: خَفَّ القومُ خُفوفاً: قَلُّوا- والمُرادُ معَ بقيَّةِ الشُّروطِ المُتقدِّمَةِ في حدِّ الصَّحيحِ = فهُو الحسنُ لذاتِهِ، لا لشيء خارجٍ، وهو الذي يكون حُسْنُه بسببِ الاعتضاد، نحو حديثُ المستُور إِذا تعَدَّدَتْ طُرُقُه. وخَرَج باشتراطِ باقي الأوْصافِ الضعيفُ. وهذا القِسمُ مِنَ الْحَسَنِ مشاركٌ للصحيح في الاحتجاج به، وإِنْ كان دُونَهُ، ومشابِهٌ لهُ في انْقِسامِه إِلى مراتبَ بعضُها فوقَ بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 [ الصحيح لغيره ] وبكثرة طُرُقِه يُصَحَّحُ، وإنما نحكم لهُ بالصِّحَّةِ عندَ تعدُّدِ الطُّرُقِ، لأنَّ للصُّورةِ المجموعة قوّةً تَجْبرُ القدر الذي قَصُرَ به ضبط راوِي الحَسَنِ عن راوي الصحيحِ، ومِن ثَمَّ تُطْلَقُ الصحةُ على الإِسنادِ الَّذي يكونُ حسناً لذاتِه -لو تفرَّدَ- إِذا تَعَدَّدَ. وهذا حيثُ ينفردُ الوصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 [معنى قولهم: "حديث حسنٌ صحيحٌ"] : فإِنْ جُمِعا، أي الصحيحُ والحسنُ، في وصفٍ واحدٍ، كقولِ التِّرمذيِّ وغيرِه: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، فللتَّرَدُّدِ الحاصلِ مِن المُجتهدِ في النَّاقِلِ: هل اجتمعتْ فيهِ شُروطُ الصِّحَّةِ أَو قَصُرَ عَنْها، وهذا حَيْثُ يَحْصل منهُ التَّفرُّدُ بتلكَ الرِّوايةِ. وعُرِفَ بهذا جوابُ مَنِ استشكلَ الجمعَ بينَ الوصفينِ؛ فقالَ: الحَسَنُ قاصرٌ عنِ الصحيحِ؛ ففي الجمعِ بينَ الوَصفَيْنِ إثباتٌ لذلك القصورِ ونَفْيُهُ!. ومُحَصَّل الجواب: أنّ تردُّدَ أئمة الحديث في حالِ ناقلِهِ اقْتَضى للمُجتهدِ أَنْ لا يصفه بأحدِ الوصفين، فيُقال فيهِ: حَسَنٌ باعتبارِ وصْفِهِ عندَ قومٍ، صحيحٌ باعتبارِ وصْفِهِ عند قومٍ، وغايةُ ما فيهِ أَنَّه حُذِف منهُ حرفُ التردُّدِ؛ لأنَّ حقَّهُ أَنْ يقولَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 "حسنٌ أَو صحيحٌ"، وهذا كما حُذِفَ حَرْفَ العطف مِن الذي بَعْدَهُ. وعلى هذا فما قيلَ فيهِ: "حسنٌ صحيحٌ" دونَ ما قيلَ فيهِ صحيحٌ؛ لأنَّ الجزمَ أقوى مِن التردد، وهذا حيث التفرد. وإلا إِذا لم يَحْصُلِ التَّفرُّدُ فإِطلاقُ الوَصفَيْنِ معاً على الحديث يكون باعتبارِ إسنادين: أحدُهما صحيحٌ، والآخر حسنٌ. وعلى هذا فما قيلَ فيهِ: "حَسَنٌ صحيحٌ" فوقَ ما قيلَ فيهِ: "صحيحٌ" فقطْ -إذا كان فرداً- لأن كثرة الطرق تقوِّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 [ الحسن عند الترمذي ] فإن قيل: قد صرَّح التِّرمِذيُّ بأنَّ شَرْطَ الحَسَنِ أَنْ يُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ؛ فكيفَ يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: "حسنٌ غَريبٌ، لا نعرِفُه إِلاَّ مِن هذا الوجه"؟ ... فالجواب: أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقاً، وإنما عَرَّفَ نوعاً خاصاً منهُ وَقَعَ في كتابِه، وهُو ما يقولُ فيهِ: "حسنٌ"، مِن غيرِ صفةٍ أُخرى؛ وذلك أَنَّهُ: يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: "حسنٌ". وفي بعضِها: "صحيحٌ". وفي بعضِها: "غريبٌ". وفي بعضِها: "حسنٌ صحيحٌ". وفي بعضِها: "حسنٌ غريبٌ". وفي بعضها: "صحيحٌ غريبٌ". وفي بعضها: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ". وتعريفه إنما وقعَ على الأوَّلِ فقطْ، وعبارتُه تُرْشِدُ إِلى ذلك؛ حيثُ قال في آخِرِ كتابِه: وما قُلْنا في كتابِنا: "حديثٌ حَسَنٌ"، فإِنَّما أَرَدْنا به حُسْنَ إسناده عندنا: كُلُّ حديثٍ يُرْوَى، لا يكون راويه متَّهَماً بكَذِبٍ، ويُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ نحوُ ذلك، ولا يكونُ شاذّاً = فهو عندنا حديثٌ حسنٌ. فَعُرِفَ بهذا أَنَّهُ إِنَّما عَرَّفَ الَّذي يقولُ فيه: "حسنٌ"، فقطْ، أَمَّا ما يقولُ فيهِ: "حسنٌ صحيحٌ"، أو: "حسنٌ غريبٌ"، أو: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ"، فلم يُعَرِّجْ على تعريفِه، كما لم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقولُ فيهِ: "صحيحٌ"، فقط، أو: "غريبٌ"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فقط، وكأنه ترك ذلك استغناءً، لِشُهْرَتِه عندَ أَهلِ الفنِّ. واقْتصرَ على تعريفِ ما يقولُ فيهِ في كتابهِ: "حسنٌ"، فقط؛ إِمَّا لغموضه، وإمّا لأنه اصطلاحٌ جديدٌ؛ ولذلك قَيَّدَه بقوله: عندنا، ولم ينسِبْه إِلى أَهلِ الحديثِ كما فعل الخَطَّابيُّ. وبهذا التَّقريرِ يندفعُ كثيرٌ مِن الإِيراداتِ التي طالَ البحثُ فيها، ولمْ يُسْفِر وجْهُ توجيهِها، فللهِ الحمد على ما أَلْهَم وعَلَّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 زيادة الثقة و أقسامها أقسامها ... [زيادة الثقة وأقسامها] وزيادةُ راويهِما، أَيْ: الصَّحيحِ والحَسنِ، مقبولةٌ، مَا لمْ تَقَع مُنافِيَةً لروايةِ مَنْ هُو أَوْثَقُ ممَّن لم يَذْكر تلك الزِّيادةِ؛ لأنَّ الزِّيادةَ: 1- إِمَّا أَنْ تكونَ لا تَنافِيَ بينَها وبينَ روايةِ مَن لم يَذْكُرْها؛ فهذه تُقْبَلُ مُطْلقاً؛ لأنَّها في حُكْمِ الحديثِ المُستقلِّ الذي ينفرِدُ بهِ الثِّقةُ ولا يرويه عن شيخه غيرُه. 2- وإِمَّا أَنْ تكونَ مُنافِيةً، بحيثُ يَلْزم من قبولها ردُّ الرواية الأخرى؛ فهذه التي يَقَعُ التَّرجيحُ بينها وبينَ مُعارِضها؛ فَيُقْبَلُ الراجحُ ويُرَدُّ المرجُوحُ. واشْتُهِرَ عَنْ جمعٍ مِن العُلماءِ القولُ بقَبولِ الزِّيادةِ مُطْلقاً، مِن غيرِ تفصيلٍ، ولا يَتَأَتَّى ذلك على طريقِ المُحَدِّثينَ الَّذينَ يشتَرِطونَ في الصَّحيحِ أَنْ لا يكونَ شاذّاً، ثمَّ يُفسِّرون الشُّذوذَ بمُخالَفةِ الثِّقةِ مَن هو أوثقُ منهُ. والعَجَبُ مِمَّنْ أَغفل ذلك منهُم، معَ اعْتِرافِه باشْتِراطِ انتفاءِ الشُّذوذِ في حدِّ الحديثِ الصَّحيحِ، وكذا الحسن!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 [رأيُ الأئمةِ في قبول الزيادة المنافية لرواية الأوثق] : والمنقولُ عن أئمة الحديث المتقدمين: كعبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدي، ويحيى القطانِ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ، وعليِّ بنِ المدِيني، والبُخَارِيّ، وأبي زُرْعَة، وأَبي حاتمٍ، والنَّسائيِّ، والدَّارقطنيِّ، وغيرِهم، اعتبارُ التَّرجيحِ فيما يتعلقُ بالزِّيادةِ وغيرها، ولا يُعْرَفُ عن أحدٍ منهُم إطلاقُ قبولِ الزيادةِ. وأَعْجَبُ مِن ذلك إطلاقُ كثيرٍ مِن الشَّافعيَّةِ القولَ بقبولِ زيادةِ الثِّقةِ، معَ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 نَصَّ الشافعي يدل على غير ذلك، فإنه قال -في أثناء كلامه على ما يَعْتَبَرُ بهِ حالُ الرَّاوي في الضبط ما نصه-: ويكونَ إذا شَرِكَ أَحداً مِن الحُفَّاظِ لم يخالِفْه، فإنْ خالَفَهُ فَوُجِد حديثُه أَنقصَ كانَ في ذلك دليلٌ على صحَّةِ مَخْرَجِ حديثِهِ. ومتى خالَفَ ما وَصفتُ أضَرّ ذلك بحديثه، انتهى كلامه، ومُقتَضاهُ أَنَّهُ إِذا خَالَفَ فوُجِد حديثُهُ أَزْيَدَ أَضرَّ ذلك بحديثِه، فدلَّ على أَنَّ زيادةَ العَدْلِ عندَه لا يلزَمُ قَبولُها مُطْلقاً، وإِنَّما تُقبَلُ من الحفاظ، فإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يكونَ حديثُ هذا المُخالِفِ أنقصَ مِن حديثِ مَنْ خَالفه مِنَ الحُفّاظ، وجَعَلَ نقصانَ هذا الرَّاوي مِن الحديثِ دليلاً على صحته؛ لأنه يَدُلُّ على تَحَرِّيهِ، وجَعَلَ ما عَدا ذلك مُضِرّاً بحديثِه؛ فدخلتْ فيهِ الزِّيادةُ؛ فلو كانتْ عندَه مقبولةً مُطْلقاً لم تكنْ مضِرّةً بحديثِ صاحبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 [ المحفوظ والشاذ ] فإن خولف بأرجحَ منهُ: لِمَزِيد ضبطٍ، أَوْ كثرةِ عددٍ، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالرَّاجِحُ يقالُ لهُ: "المَحْفوظُ". ومقابِلُهُ، وهو المرجوحُ، يُقالُ لهُ: "الشَّاذُّ". مثالُ ذلك: ما رواهُ الترمذي، والنسائيّ، وابنُ ماجَة، مِن طريقِ ابنِ عُيَيْنَةَ، عن عَمْرو بن دينار، عن عَوْسَجَةَ، عن ابن عباس: "أن رجلاً تُوُفِّيَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، ولم يَدَعْ وارِثاً إِلاَّ مولىً هو أعتقه ... "، الحديث، وتابَعَ ابنَ عُيَيْنَةَ على وَصْلِهِ ابنُ جُرَيْجٍ وغيرُهُ، وخالفَهُم حمادُ بنُ زيدٍ؛ فرواهُ عَنْ عَمْرو بنِ دينارٍ، عَن عوسجةَ. ولم يَذْكر ابنَ عباسٍ. قال أبو حاتمٍ: المحفوظُ حديثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ. انتهى. فحمادُ بنُ زيدٍ مِن أَهلِ العدالةِ والضَّبطِ، ومعَ ذلك، رَجَّحَ أبو حاتمٍ روايةَ مَنْ هم أكثرُ عدداً منهُ. وعُرِفَ مِن هذا التقريرِ أَنَّ الشَّاذَّ: ما رواهُ المقْبولُ مُخالِفاً لِمَنْ هُو أَولى مِنهُ، وهذا هُو المُعْتَمَدُ في تعريف الشاذ، بحسَبِ الاصطلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 المعروف والمنكر تعريفه ... [المعروف والمنكر] وإنْ وقَعَتِ المخالفة معَ الضَّعْفِ؛ فالرَّاجِحُ يُقالُ لهُ: "المَعْروفُ"، ومقابلُهُ يقال له: "المنكَر". مثالُه: ما رواهُ ابنُ أَبي حاتمٍ مِن طريقِ حُبَيِّبِ بنِ حُبَيِّبٍ -وهو أَخو حَمزَةَ بنِ حُبَيِّبٍ الزَّيَّاتِ المقْرئ- عن أَبي إسحاقَ عَن العَيْزَار بنِ حُرَيْثٍ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلم قالَ: "مَن أَقامَ الصَّلاةَ، وآتى الزَّكاةَ، وحَجَّ، وصامَ، وقَرَى الضيفَ = دَخَلَ الجنَّةَ". قالَ أَبو حاتم: هو منكرٌ؛ لأَنَّ غيرَه مِن الثِّقاتِ رواهُ عن أبي إسحاقَ موقوفاً وهو المعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 [الفرقُ بين الشّاذ والمنكر] : وعُرِفَ بهذا أَنَّ بينَ الشَّاذِّ والمُنْكَرِ عُموماً وخُصوصاً مِن وجهٍ؛ لأنَّ بينَهُما اجْتِماعاً في اشْتِراطِ المُخالفَةِ، وافتراقاً في أن الشاذَّ روايةُ ثقةٍ، أَوْ صَدُوْقٍ، والمنكَر روايةُ ضعيفٍ. وقد غَفَلَ مَنْ سَوّى بينَهُما، واللهُ تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 المتابعة أقسامها ... [المتابعة] وَما تقدَّم ذِكْره مِن الفَرْدِ النِّسبي، إِنْ وُجِد -بعدَ ظَنِّ كونِه فَرْداً- قد وافَقَهُ غيرُهُ فهو المتابِع بكسر الموحَّدة. والمتابَعَةُ على مراتبَ: - إِنْ حَصَلَتْ للرَّاوي نفْسِهِ فهِي التَّامَّةُ. - وإِنْ حَصَلَتْ لشيخِهِ فَمَنْ فوقَهُ فهِيَ القاصِرةُ. ويُستفادُ منها التقويةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 [ أمثلة المتابعة التامة والقاصرة ] : مثال المتابعةِ: ما رواهُ الشَّافعيُّ في "الأمِّ"، عن مالِكٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمر، أَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "الشهرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تَصوموا حتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 تَروُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْه، فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثين". فهذا الحديث، بهذا اللفظ، ظن قوم أن الشافعي تفرَّدَ بهِ عن مالِكٍ، فعدَّوْهُ في غرائِبِه؛ لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسنادِ بلفظِ: "فإن غُمَّ علَيْكُم فاقْدُرُوا له". لكنْ وجَدْنا للشَّافعيَّ متابِعاً، وهو عبدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ، كذلك أَخرجَهُ البُخَارِيّ عنهُ، عن مالك، وهذه متابَعَةٌ تامة. ووَجَدْنا لهُ، أَيضاً، متابَعَةً قاصِرَةً في صحيحِ ابنِ خُزَيمَةَ مِن روايةِ عاصمِ بنِ محمدٍ، عن أبيه -محمد بن زيدٍ- عن جدِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، بلفظِ: "فكملوا ثلاثين"، وفي صحيح مسلم مِن روايةِ عُبَيْد اللهِ بنِ عُمَر، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ، بلفظِ: "فاقْدُرُوا ثلاثينَ". ولا اقْتِصارَ في هذه المُتَابَعَةِ -سواءٌ كانتْ تامَّةً أمْ قاصِرة- على اللَّفْظِ، بل لو جاءت بالمعنى كفى، لكنَّها مختصةٌ بكونِها مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 [ الشاهد ومثاله ] وإنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُرْوَى مِن حديثِ صحابيٍّ آخَرَ يَشْبَهُهُ في اللَّفظِ والمعنى، أَو في المعنى فقطْ = فهُو "الشَّاهِدُ". ومثالُه في الحديثِ الَّذي قدَّمناهُ: ما رواهُ النَّسائيُّ مِن روايةِ محمد بن حُنَين، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ فذَكَرَ مثلَ حديثِ عبد اللهِ بنِ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ سَواءٌ، فهذا باللَّفظِ. وأَمَّا بالمَعْنى فهو ما رواهُ البُخَارِيّ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ زيادٍ، عن أَبي هُريرةَ، بلفظِ: "فإن غُمِّيَ عليكم فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شعْبانَ ثلاثين". وخَصَّ قومٌ المتابعةَ بما حَصَلَ باللَّفظِ، سواءٌ كانَ مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ أَم لا، والشاهدَ بما حصلَ بالمَعنى كذلك. وقد تُطْلَقُ المتابعةُ على الشاهدِ، وبالعكسِ، والأمرُ فيهِ سهلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 [ الاعتبار ] واعْلم أَنَّ تَتَبُّعَ الطُرُقِ: مِن الجوامعِ، والمسانيدِ، والأَجْزَاءِ، لذلك الحديثِ الذي يُظَنُّ أَنَّه فَرْدٌ؛ ليُعْلَمَ: هل لهُ متابِعٌ أَم لا؟ هُو "الاعتبارُ". وقولُ ابن الصلاح: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد قد يُوهِم أَنَّ الاعتبارَ قَسِيمٌ لهُما، وليسَ كذلك، بل هُو هيئةُ التوصُّلِ إِليهِما. وجَميعُ ما تقدم من أقسام المقبولِ تَحْصُلُ فائدةُ تقسيمِهِ باعتبارِ مراتبه عند المعارضة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 [المُحْكَم] ثمَّ المقبولُ: ينقسِمُ، أَيضاً، إلى معمولٍ بهِ وغيرِ معمولٍ بهِ؛ لأنَّهُ إنْ سَلِم مِنَ المُعارَضَةِ، أَيْ: لم يأتِ خَبَرٌ يُضَادُّهُ، فهُوَ "المُحْكم"، وأَمثلتُه كثيرةٌ. وإنْ عُورِضَ فلا يَخْلو: إما أنْ يكونَ مُعارِضُه مقبولاً مثلَه، أَو يكونَ مَردوداً. فالثَّاني لا أثر له لأن القوي لا يؤثر فيه مخالفةُ الضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 مختلف الحديث، وطُرق دفَعِ التعارض بين الحديثين المتعارضين في الظاهر تعريفه ومثاله ... [مختلف الحديث، وطُرق دفَعِ التعارض بين الحديثين المتعارضين في الظاهر] وإن كانت المعارضة بمثله؛ فلا يَخْلو: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بين مدلولَيْهِما بغيرِ تعسُّفٍ، أو لا، فإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فهو النَّوعُ المسمَّى: مختَلِفَ الحديث. ومَثَّلَ لهُ ابنُ الصَّلاحِ بحديثِ: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ"، مع حديثِ: "فِرَّ مِنَ المَجْذُوم فِرارَكَ مِنَ الأسَدِ" وكلاهُما في الصَّحيحِ وظاهِرُهما التَّعارُضُ. ووجْه الجمعِ بينَهُما: أَنَّ هذهِ الأمراضَ لا تُعْدِي بطبعها، لكنّ الله سبحانه وتعالى جعلَ مخالَطَةَ المريضِ بها للصَّحيحِ سبباً لإعدائِهِ مَرَضَه، ثمَّ قد يتخلَّفُ ذلك عن سبَبِه كما في غيرِهِ من الأسبابِ. كذا جَمَعَ بينَهما ابنُ الصَّلاحِ، تَبَعاً لغيرِه. والأَولى في الجمع أنْ يُقال: إنَّ نَفْيَه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للعَْدوى باقٍ على عُمومه، وقد صحَّ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "لا يُعْدِي شيءٌ شَيئا"ً، وقولُهُ صلى الله عليه وسلَّمَ لِمَن عارَضَهُ بأَنَّ البعيرَ الأجربَ يكونُ في الإِبلِ الصَّحيحةِ فيخالِطها فتَجْربُ، حيثُ رَدَّ عليهِ بقولِه: "فَمَنْ أَعْدَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الأول؟! ". يعني أن الله سبحانه وتعالى ابتدأ بذلك في الثاني كما ابتدأه في الأول. وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمِن بابِ سدِّ الذَّرائعِ، لئلاَّ يَتَّفِقَ للشَّخْصِ الذي يخالِطه شيءٌ من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً، لا بالعَدْوى المَنْفِيَّة؛ فَيَظُنّ أَنَّ ذلك بسببِ مُخالطتِه؛ فَيَعْتَقِدَ صحةَ العدْوى؛ فيقعَ في الحرجِ؛ فأَمر بتجنُّبِه حَسْماً للمادَّةِ. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 [ الكتب المؤلفة في مختلف الحديث ] : وقد صَنَّفَ في هذا النوع الشافعيُّ كتابَ "اختِلافِ الحديثِ"، لكنَّهُ لم يَقْصِدِ استيعابه، وصَنَّفَ فيهِ بعدَهُ ابنُ قُتَيْبَةَ، والطّحاوِيُّ، وَغَيْرُهما. وإِنْ لم يُمْكن الجمع فلا يخْلو: إِمَّا أَنْ يُعْرَف التَّاريخُ، أوْ لاَ، فإنْ عُرِفَ وثَبَتَ المُتَأَخِّرُ -بهِ، أَو بأَصرحَ منه- فهو الناسخ، والآخَرُ المنسوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 النسخ وعلاماته تعريفه وعلاماته ... [النسخ وعلاماته] والنسخُ: رَفْعُ تَعَلُّقِ حُكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخرٍ عنه. والناسخ: ما دل على الرفع المذكور. وتسميته ناسخاً مجاز؛ لأنَّ النَّاسخَ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى. ويُعْرَفُ النسخُ بأُمورٍ: 1- أصْرَحُها ما ورَدَ في النَّصِّ، كحديثِ بُرَيْدَة في صحيحِ مسلمٍ: "كنتُ نَهيتُكم عن زيارة القبورِ، فَزُورُوها فإنها تُذَكِّرُ الآخرة". 2- ومِنها ما يَجْزِمُ الصَّحابيُّ بأَنَّه متَأَخِّرٌ، كقولِ جابرٍ: كانَ آخرُ الأَمْرين مِن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم: "تركَ الوضوءِ ممّا مَسَّتِ النَّار" ُ، أَخرَجَهُ أَصحابُ السُّننِ. 3- ومِنْها ما يُعْرَفُ بالتَّاريخِ، وهُو كَثيرٌ. - وليسَ مِنْها مَا يَرويهِ الصَّحابيُّ المتأخر الإسلام معارِضاً لمتقدمٍ عنه؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ سَمِعه مِن صحابيٍّ آخَرَ أقْدَمَ من المتقدم المذكور، أو مِثْلِه فأَرْسَلَهُ، لكنْ إِنْ وَقَعَ التَّصريحُ بسماعِه لهُ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيتَّجِهُ أَنْ يكونَ ناسِخاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 بشرطِ أنْ يكونَ لم يتحملْ عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ شَيْئاً قبلَ إِسلامِهِ. وأَمَّا الإِجماعُ فليسَ بناسخٍ، بل يَدُلّ على ذلكَ. وإِنْ لمْ يُعْرَف التاريخُ فلا يخلو: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ ترجيحُ أَحدِهِما على الآخَرِ، بوجهٍ مِن وجوهِ التَّرجيحِ المُتعلِّقَةِ بالمتْنِ، أَو بالإِسنادِ، أوْ لاَ. فإنْ أَمكن الترجيحُ تَعَيَّن المصيرُ إِليهِ، وإِلاَّ فلا. فصارَ ما ظاهِرُهُ التَّعارُضُ واقِعاً على هذا التَّرتيبِ: 1- الجَمْعُ إِنْ أَمكَنَ. 2- فاعْتبارُ النَّاسِخِ والمَنْسوخِ. 3- فالتَّرْجيحُ إنْ تَعَيّن. 4- ثمَّ التوقُّفُ عنِ العَمَلِ بأَحَدِ الحديثين. والتَّعبيرُ بالتوقُّفِ أَولى مِن التَّعبيرِ بالتَّساقُطِ؛ لأَنَّ خفاءَ ترجيحِ أحدِهما على الآخَرِ إِنَّما هُو بالنسبة لِلمُعْتَبِرِ في الحالةِ الرَّاهنةِ، معَ احتمالِ أَنْ يَظْهر لغيرِهِ ما خَفِيَ عليهِ. واللهُ أعلمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المردود وأقسامه موجب الرد ... [المردود وأقسامه] ثم المردود: ومُوجِبُ الردِّ: إِمَّا أَنْ يكونَ لسقطٍ مِن إسنادٍ، أو طعنٍ في راوٍ، على اختلافِ وُجوهِ الطَّعْنِ،، أعمُ مِن أَنْ يكونَ لأمرٍ يرجِعُ إِلى ديانةِ الراوي، أو إلى ضبطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 [ المردود للسقط ] فالسَّقْطُ إِمَّا أَنْ يَكونَ: 1- مِن مَبادئ السَّنَدِ مِن تَصَرُّفِ مُصَنِّفٍ. 2- أو مِن آخِرِهِ، أي الإِسنادِ، بعدَ التَّابعيِّ. 3- أو غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 [المُعَلّق] فالأول: المُعَلَّق، سواءٌ كان الساقطُ واحداً، أم أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 [ الفرق بين المعلق والمعضل ] : وَبَيْنَهُ وبين المُعْضَل، الآتي ذكْره، عمُومٌ وخصوصٌ مِن وجهٍ: فَمِن حيث تعريفُ المُعْضَل بأنه: سقط منهُ اثنانِ فصاعِداً؛ يجتَمِعُ معَ بعضِ صورِ المُعَلَّق، ومِن حيثُ تَقْييدُ المُعَلَّق بأَنَّه مِن تَصرُّف مصنِّفٍ مِن مبادئِ السَّنَدِ يَفْترقُ منهُ؛ إذ هو أعمُّ من ذلك. ومِن صُوَرِ المُعَلَّق: أَنْ يُحْذَفَ جميعُ السَّندِ ويُقالَ مثلاً: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم. ومنها: أن يَحْذِفَ إلا الصحابي، أو إلا التابعي والصحابي معاً. ومنها: أَنْ يَحْذِفَ مَنْ حَدَّثَه، ويُضِيفَه إلى مَن هو فَوْقه. فإِنْ كانَ مَنْ فوقَه شيخاً لذلك المصنِّف فقد اخْتُلِفَ فِيْهِ: هل يُسَمّى تعليقاً، أَوْ لاَ؟، والصَّحيحُ في هذا التفصيلُ: فإِنْ عُرِفَ بالنص أو الاستقراء أنَّ فاعلَ ذلك مُدَلِّسٌ قُضِيَ بهِ، وإِلاَّ فتعليقٌ. وإِنَّما ذُكِرَ التَّعليقُ في قِسْمِ المردودِ للجَهْلِ بحالِ المحذوفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 [قد يكون المعلقُ صحيحاً] : وقد يُحْكَمُ بصحَّتِهِ إنْ عُرِفَ، بأَنْ يجيءَ مُسَمّىً مِن وجهٍ آخَرَ. فإِنْ قالَ: جميعُ مَن أَحْذِفُهُ ثِقَاتٌ، جاءتْ مَسْأَلَةُ التَّعديلِ على الإِبهامِ، والجمهور: لا يُقْبَلُ حتَّى يُسَمَّى. لكنْ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ هنا: إِنْ وَقَعَ الحَذْفُ في كتابٍ اُلْتُزِمَتْ صِحَّتُه، كالبُخَارِيّ، فما أتَى فيه بالجَزْمِ دلَّ على أَنَّه ثَبتَ إسنادُه عِندَه، وإِنَّما حُذِفَ لغرضٍ مِنَ الأَغْراضِ، ومَا أَتى فيهِ بغيرِ الجَزْمِ ففيهِ مقالٌ، وقد أوضَحْتُ أمثلةَ ذلك في النُّكَتِ على ابن الصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 [المُرْسَل ومثاله] والثَّاني: وهو ما سَقَطَ مِن آخِرِهِ مَنْ بَعد التابعي، هو "المرسل". وصورتُهُ: أَنْ يقولَ التابعيُّ -سواءٌ كانَ كبيراً أم صغيراً-: قالَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 كذا، أو فعَلَ كذا، أو فُعِلَ بحضرتِه كذا، ونحو ذلك. وإنما ذُكِرَ في قِسْم المردود للجهل بحالِ المحذوفِ؛ لأَنَّه يُحتمل أَنْ يكونَ صحابيّاً، ويُحتمل أَنْ يكونَ تابعيّاً. وعلى الثَّاني يُحتمل أَنْ يكونَ ضَعيفاً، ويُحتمل أَنْ يكونَ ثقةً، وعلى الثَّاني يُحتمل أَنْ يكونَ حَمَل عن صحابيٍّ، ويُحتمل أَنْ يكونَ حَمَل عن تابعيٍّ آخَرَ، وعلى الثَّاني فيعودُ الاحتمالُ السابقُ، ويَتعدد. أَمَّا بالتَّجويزِ العقليِّ فإِلى ما لا نهايةَ لهُ، وأَمَّا بالاستقراءِ فإِلى ستةٍ أَو سبعةٍ، وهو أكثرُ ما وُجِدَ مِن روايةِ بعضِ التابعين عن بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 [ حكم المرسل ] : فإنْ عُرِفَ مِن عادةِ التَّابعيِّ أَنَّه لا يُرْسِل إلا عن ثقةٍ، فذهب جمهور المحُدِّثينَ إِلى التوقُّفِ؛ لبقاءِ الاحتمالِ، وهُو أحَدُ قَوْلَي أَحمدَ، وثانيهِما- وهُو قولُ المالكيِّين والكوفيِّينَ-: يُقْبَلُ مطلقاً، وقال الشافعي: يُقْبَلُ إِنِ اعْتَضَد بمجيئِهِ مِن وجهٍ آخرَ يُبايِنُ الطريقَ الأُولى، مسنَداً أو مرسَلاً، لِيَرْجَحَ احتمالُ كونِ المحذوفِ ثقةً في نفسِ الأمرِ. ونَقل أَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفيَّةِ، وأبو الوليدِ الباجِيُّ مِن المالِكيَّةِ: أَنَّ الرَّاويَ إِذا كانَ يُرْسِل عنِ الثِّقاتِ وغيرِهم لا يُقْبَلُ مُرْسَلُه اتّفاقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والقِسْمُ الثَّالِثُ مِن أَقسامِ السَّقْطِ مِن الإِسنادِ: [ المعضل ] إِنْ كانَ باثنَيْنِ فصاعِداً، مَعَ التَّوالي، فهو "المُعْضَل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 [ المنقطع ] وإلا، فإنْ كان الساقط باثنين غير متواليين، في موضعين مثلاً، فهُو المُنْقَطِعُ، وكذا إِنْ سَقَط واحدٌ، فقط، أو أكثر من اثنين، لكن، يُشْتَرَطُ عدم التوالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 [ أقسام السقط ] ثمَّ إِنَّ السَّقْط مِن الإِسنادِ قدْ: 1- يكونُ واضحاً يَحْصل الاشتراك في معرفَتِه، ككَوْنِ الرَّاوي، مثلاً، لم يعاصِرْ مَنْ رَوى عنهُ. 2- أَوْ يكونُ خَفِيّاً فلا يُدْرِكه إِلاَّ الأئمَّةُ الْحُذّاقُ المطَّلِعون على طرقِ الحديث وعِلل الأسانيدِ. فالأَوَّلُ: وهُو الواضحُ، يُدْرَكُ بعَدمِ التَّلاقي بينَ الرَّاوِي وشيخِه، بكونِه لمْ يُدْرِكْ عَصْرَه، أو أدركه لكن، لم يجْتَمِعا، وليستْ لهُ منهُ إجازةٌ، ولا وِجَادة. ومِنْ ثَم، احْتِيْجَ إِلى التَّاريخِ؛ لِتَضَمُّنِهِ تحريرَ مواليدِ الرواةِ ووفِيّاتِهم، وأوقاتِ طَلَبِهِم وارْتِحالِهم. وقد افْتَضَح أقوامٌ ادَّعَوْا الرِّوايةَ عن شيوخٍ ظهرَ بالتاريخ كذِبُ دعواهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 [المُدَلَّس] والقِسْم الثَّانِي: وهو الخَفِيُّ: المُدَلَّس -بفتحِ اللاَّمِ- سُمِّيَ بذلك لكونِ الرَّاوي لم يُسَمِّ مَنْ حَدَّثَهُ، وأَوْهَمَ سماعَه للحَديثِ ممَّنْ لم يحدِّثْه بهِ. واشتقاقُه مِن الدَّلَسِ بالتَّحريكِ، وهو اختلاطُ الظلام، سُمِّيَ بذلك لاشتراكهما في الخَفَاءِ. ويَرِدُ المُدَلَّسُ بصيغةٍ مِن صِيَغ الأداءِ تَحْتَمِلُ وقوع اللُّقيّ بين المُدلِّس ومَنْ أَسنَد عنه، ك‍ "عن"، وَكذا "قَاَلَ". ومتى وقَعَ بصيغةٍ صريحةٍ لا تَجَوُّزَ فيها كان كَذِباً. [حكم رواية المُدَلِّس] : وحُكم مَنْ ثبتَ عنهُ التَّدليسُ-إِذا كانَ عَدْلاً-: أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إِلاَّ ما صَرَّح فيه بالتحديث، على الأصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 [المُرْسَل الخفيّ] وكَذا المرسَلُ الخَفِيُّ، إِذا صَدَرَ مِنْ معاصرٍ لَمْ يَلْقَ مَنْ حدَّث عنهُ، بل بينَه وبينه واسطةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 [الفرق بين المُدَلَّس والمُرْسَل الخفي] والفَرْقُ بينَ المُدَلَّس والمُرْسَل الخفيِّ دقيقٌ، حَصَل تحريرُه بما ذُكِر هنا: وهو أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 التدليس يَختص بمن روى عمّن عُرِفَ لقاؤه إياه. فأَمَّا إِن عاصَرَهُ، ولم يُعْرَفْ أَنَّه لقِيَهُ، فَهُو المُرْسَل الخَفِيُّ. ومَنْ أَدْخَلَ في تعريفِ التَّدليسِ المعاصَرَةَ ولو بغيرِ لُقِيٍّ، لَزِمَهُ دخولُ المرسَل الخفيِّ في تعريفِهِ. والصَّوابُ التَّفرقةُ بينَهُما. ويَدل على أَنَّ اعتبارَ اللُّقِيّ في التَّدليسِ -دونَ المعاصرةِ وحْدَها- لابُدَّ منهُ إِطباقُ أَهلِ العلم بالحديث على أنّ روايةَ المُخَضْرَمين، كأَبي عُثمانَ النَّهْدِي، وقيسِ بنِ أَبي حازِمٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ مِن قَبِيلِ الإِرسالِ، لا مِن قَبيلِ التدليس، ولو كان مجرَّدُ المُعاصرةِ يُكْتَفى بهِ في التَّدليسِ لكانَ هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلَّمَ قطعاً، ولكنْ لمْ يُعرَف: هل لَقُوهُ أم لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 [ القائلون باشتراط اللقاء في التدليس ] : وممَّن قالَ باشتراطِ اللِّقاءِ في التَّدليسِ الإمامُ الشافعيُّ، وأَبو بكرٍ البزَّارُ، وكلامُ الخطيبِ في الكِفايةِ يقتَضيهِ، وهُو المُعْتَمَدُ. ويُعْرَفُ عدمُ المُلاقاةِ بإِخباره عنْ نفسِهِ بذلك، أَو بجزْم إمامٍ مُطَّلِعٍ. ولا يَكْفي أَنْ يَقَعَ في بعض الطرق زيادةُ راوٍ بينَهُما؛ لاحتمال أَنْ يكونَ مِن المزيدِ، ولا يُحْكم في هذه الصورة بحكمٍ كليٍّ، أيْ: جازمٍ؛ لِتَعارُضِ احتمالِ الاتصال والانقطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 [ المؤلفات في معرفة المرسل والمزيد في متصل الأسانيد ] : وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتابَ "التَّفصيلِ لِمُبْهَمِ المراسيل"، وكتابَ "المَزيد في مُتَّصِل الأسانيد". وانتهت هنا أقسامُ حكمُ الساقطِ من الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الطعن في الراوي و أسبابه أسبابه ... [الطعن في الراوي وأسبابه] ثم الطَّعْنُ يكون بِعَشَرَةِ أشياء بعضُها أشدُّ في القَدْحِ مِن بعضٍ: خمسةٌ منها تتعلَّقُ بالعدالَةِ، وخمسةٌ تتعلَّقُ بالضَّبْطِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ولم يَحْصل الاعتناءُ بتمييزِ أَحدِ القِسمينِ مِن الآخَرِ؛ لمصلحةٍ اقتضتْ ذلك، وهي ترتيبُها على الأشدِّ فالأشدِّ في موجبِ الردِّ على سَبيلِ التّدلِّي؛ لأنَّ الطَّعْنَ إِمَّا أَنْ يكونَ: 1- لِكَذِبِ الرَّاوِي في الحديثِ النبويِّ: بأَنْ يرويَ عنهُ صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْه، متعمِّداً لذلك. 2- أو تُهمتِهِ بذلكَ: بأَنْ لا يُرْوَى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكونَ مُخالِفاً للقواعِدِ المعلومةِ، وكذا مَن عُرِفَ بالكذبِ في كلامه، وإنْ لم يَظهر منهُ وقوعُ ذلك في الحَديثِ النبويِّ، وهذا دُونَ الأولِ. 3- أَو فُحْشِ غَلَطِهِ، أي: كَثْرَتِه. 4- أَو غفلتهِِ عن الإِتقان. 5- أَو فسقِهِ: أي: بالفعل أو القول، مما لم يَبْلُغ الكفر. وبينه وبين الأوَّلِ عموم، وإِنَّما أُفْرِدَ الأوَّلُ لكونِ القدْحِ بهِ أشدَّ في هذا الفن، وأما الفسق بالمعتقد فسيأتي بيانه. 6- أو وَهَمِهِ: بأَنْ يَرْوِي على سبيلِ التوهمِ. 7- أَو مخالفتِهِ، أي للثقات. 8- أو جهالتِهِ: بأن لا يُعْرَفَ فيه تعديلٌ ولا تَجْرِيحٌ مُعَيَّنٌ. 9- أَو بدعتِهِ: وهي اعتقادُ ما أُحْدِثَ على خِلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، لا بمعاندةٍ، بل بنوعِ شُبْهَةٍ. 10- أَو سوءِ حفظِهِ: وهي عبارةٌ عمن يكون غلطُهُ أقلَّ من إصابته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 [1- الموضوع ] فالقسمُ الأوَّلُ: -وهُو الطَّعْنُ بكَذِبِ الرَّاوي في الحَديثِ النبويِّ- هو المَوضوعُ. والحُكْمُ عليهِ بالوَضْعِ إنما هو بطريقِ الظنِّ الغالبِ، لا بالقطْع؛ إِذ قَدْ يَصْدق الكَذوبُ، لكنَّ، لأهلِ العلمِ بالحديث ملَكَةٌ قويّةٌ يُمَيِّزون بها ذلك، وإِنَّما يَقوم بذلك منهُم مَن يكونُ اطِّلاعه تامّاً، وذِهْنه ثاقِباً، وفهْمه قويّاً، ومعرِفتُهُ بالقرائن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الدَّالَّةِ على ذلك متمكِّنة. وقد يُعْرَف الوضعُ بإقرار واضعِهِ، قال ابن دقيق العيد: لكنْ لا يُقْطَع بذلك، لاحتمالِ أَنْ يكونَ كَذَب في ذلك الإقرار، انتهى. وفَهِم منه بعضُهم أنه لا يُعمل بذلك الإِقرارِ أَصلاً، وليسَ ذلكَ مُرادَه، وإِنَّما نَفْيُ القطعِ بذلك، ولا يلزَمُ مِن نَفْيِ القَطْعِ نَفْيَ الحكْمِ؛ لأنَّ الحُكْمَ يقعُ بالظَّنِّ الغالِبِ، وهُو هُنا كذلك، ولولا ذلك لَما ساغَ قَتْلُ الْمُقِرِّ بالقتلِ، ولا رَجْمُ المعترفِ بالزِّنى؛ لاحتمالِ أَنْ يكونا كاذبيْنِ فيما اعْتَرَفا به. ومِن القَرائنِ، الَّتي يُدرَكُ بها الوضعُ، ما يُؤخذُ مِن حالِ الرَّاوي. كما وقع للمأمون بنِ أَحمدَ أَنَّه ذُكِرَ بحضرَتِه الخلافُ في كون الحَسَن سَمِعَ مِن أَبي هُريرةَ أَوْ لاَ، فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَنَّهُ قالَ: سَمِعَ الحسنُ مِن أَبي هريرة. وكما وَقَع لغياث بن إبراهيم، حيث دخَلَ على المَهْدي فوجَدَهُ يلعبُ بالحَمَام؛ فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، أنه قال: "لا سَبَق إِلاَّ في نَصْلٍ أَو خُفٍّ أَو حافرٍ أَو جَناحٍ"، فزادَ في الحديثِ: "أَو جَناحٍ"؛ فَعَرف المهديُّ أَنَّه كذَب لأجلِهِ فأَمر بذَبْحِ الحَمَامِ. ومِنها ما يُؤخَذُ مِن حالِ المروي، كأنْ يكون مناقضاً لنصِّ القرآن، أَو السُّنَّةِ المُتواتِرَةِ، أَو الإِجماعِ القطعيِّ، أَو صريحِ العَقْلِ، حيثُ لا يَقْبلُ شيءٌ مِن ذلك التأويلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 [ طرق الوضع ] ثم المروي: 1- تارةً يخترعه الواضع. 2- وتارةً يأخذ كلامِ غيرِهِ: كبعضِ السَّلفِ الصَّالحِ، أَو قُدماءِ الحُكماءِ، أَو الإِسرائيليَّاتِ. 3- أَو يأْخُذُ حَديثاً ضعيفَ الإسنادِ فيركِّبَ له إسناداً صحيحاً لِيَرُوْجَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 [ دوافع الوضع ] والحامِلُ للواضِعِ على الوَضْعِ: 1- إِمَّا عدمُ الدِّينِ كالزَّنادقةِ. 2- أَو غلبةُ الجَهلِ كبعضِ المتعبِّدين. 3- أَو فَرْط العَصبيَّةِ، كبعضِ المقلِّدين. 4- أَو اتِّباع هوى بعضِ الرؤساءِ. 5- أو الإغرابُ لقصْدِ الاشتهارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [حكمُ الوضعِ] : وكلُّ ذلك حرامٌ بإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بهِ، إِلاَّ أَنَّ بعضَ الكِرّامية، وبعضَ المُتصوِّفةِ نُقِلَ عنهم إباحةُ الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأٌ مِن فاعلِهِ، نشأَ عَن جهلٍ، لأنَّ التَّرغيبَ والتَّرهيبَ مِن جُمْلة الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، واتَّفقوا على أَنَّ تعمُّدَ الكذبِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن الكَبائِرِ، وبالَغَ أَبو مُحمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فكَفَّرَ مَن تعمَّدَ الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [حكمُ رواية الموضوع] : واتَّفَقوا على تَحْريمِ روايةِ الموضوعِ إِلاَّ مقروناً ببيانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلَّمَ: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بحديثٍ يُرَى أَنَّهُ كذِبٌ فهو أحدُ الكاذِبَين، أخرجه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [2- المتروك ] وَالقسمُ الثَّاني مِن أَقسامِ المَردودِ: -وهو ما يكون بسببِ تُهمة الراوي بالكذب- هو المتروك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [3، 4، 5- المنكر ] والثَّالِثُ: المنكَر -على رأيِ مَنْ لا يَشترط في المنكَرِ قَيْدَ المُخالفةِ- وكذا الرَّابِعُ، والخَامِسُ، فَمَنْ فَحُشَ غلَطُهُ، أَو كَثُرَتْ غَفْلَتُهُ، أَو ظَهَرَ فِسْقُهُ، فحديثه منكَرٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [6- الوهم ] ثمَّ الوَهَمُ: -وهُو القِسْم السَّادسُ، وإِنَّما أُفْصِحَ بهِ لِطولِ الفَصْلِ- إِنِ اطُّلِعَ عَليهِ، أي الوَهَمِ، بِالقَرائِنِ الدَّالَّةِ على وهَم راويهِ -مِن وصْلِ مرسلٍ أَو منقطعٍ أَو إِدخالِ حديثٍ في حديثٍ، أَو نحوِ ذلك مِن الأشياءِ القادحة، وتَحْصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجَمْع الطرق- فهذا هو المعلّل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 [المعلَّل] وهو مِن أَغْمضِ أنواعِ علومِ الحديثِ وأدقِّها، ولا يقومُ بهِ إلاَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تعالى فهْماً ثاقِباً، وحِفْظاً واسِعاً، ومعرِفةً تامَّةً بمراتِبِ الرُّواةِ، وملَكَةً قويَّةً بالأسانيدِ والمُتونِ؛ ولهذا لم يَتكلم فيهِ إِلاَّ القليلُ مِن أَهلِ هذا الشأْنِ: كعليِّ ابن المَدينيِّ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ، والبُخَارِيّ، ويَعقوبَ بنِ أبي شَيْبةَ، وأَبي حاتمٍ، وأَبي زُرْعَةَ، والدَّارَقُطنيُّ. وقد تَقْصُرُ عبارةُ المعلِّلِ عَن إقامةِ الحجةِ على دَعْواهُ، كالصَّيْرَفيِّ في نَقْد الدِّينارِ والدِّرهَمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 [7- المخالفة ] ثم المخالفة، وهي القسم السابع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 [أ - المُدْرج] إن كانت واقعةً بسببِ: 1- تَغَيّرِ السياقِ، أَيْ: سياقِ الإسنادِ، فالواقعُ فيهِ ذلك التغيير هو مُدْرَجُ الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 [ أقسام المدرج باعتبار الإسناد ] : وهو أقسامٌ: الأوَّلُ: أَنْ يرويَ جماعةٌ الحديثَ بأَسانيدَ مُختلفةٍ، فيرويهِ عنهُم راوٍ فيَجمع الكُلَّ على إسنادٍ واحدٍ مِنْ تلكَ الأسانيدِ ولا يُبَيِّن الاختلافَ. الثَّاني: أَنْ يكونَ المتنُ عندَ راوٍ إِلاَّ طَرفاً منهُ فإِنَّه عندَه بإسنادٍ آخَرَ، فيرويهِ راوٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عنهُ تامّاً بالإِسنادِ الأوَّلِ. ومنهُ أَنْ يسمعَ الحديثَ مِن شيخه إلا طرفاً منه فيسمَعَهُ عَن شيخِهِ بواسطةٍ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تماماً بحذْفِ الواسِطةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ عندَ الرَّاوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفينِ، فيرويهِما راوٍ عنهُ مُقتَصِراً على أحدِ الإسنادين، أو يروي أحدَ الحديثين بإِسنادِهِ الخاصِّ بهِ، لكنْ، يَزيدُ فيهِ مِن المتن الآخَرِ ما ليس في الأول. الرابع: أن يسوقَ الإسناد فَيَعْرِض له عارض، فيقولَ كلاماً مِنْ قِبَل نفسِهِ، فَيَظن بعضُ مَن سَمِعه أَنَّ ذلكَ الكلامَ هُو متنُ ذلكَ الإسنادِ؛ فيَرويهِ عنهُ كذلك. هذهِ أَقسامُ مُدْرَج الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 [ أقسام المدرج باعتبار المتن ] : وأَمَّا مُدْرَج المَتْنِ: فهُو أَنْ يَقَعَ في المتنِ كلامٌ ليسَ منهُ. فتارةً يكونُ في أوّله، وتارةً في أثنائه، وتارةً في آخِرِهِ، وهو الأكثرُ؛ لأنَّهُ يقعُ بعطفِ جملةٍ على جُملةٍ، أو بدمْجِ موقوفٍ مِن كلامِ الصَّحابةِ، أَو مَنْ بَعْدَهم، بمرفوعٍ مِن كلامِ النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، مِن غيرِ فصلٍ، فهذا هُو مُدرج المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 [ما يُعرفُ به الإدراج] : ويُدْرَكُ الإِدراجُ بِوُرُوْدِ روايةٍ مُفَصِّلَةٍ للقَدْرِ المُدْرَج فيهِ. أَو بالتَّنصيصِ على ذلك مِن الرَّاوي، أَو مِنْ بعضِ الأئمَّةِ المُطَّلعينَ، أو باستحالةِ كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 [ المؤلفات في المدرج ] : وقد صَنَّفَ الخَطيبُ في المدْرَج كتاباً، ولَخَّصْتُهُ، وزدتُ عليهِ قدْرَ ما ذَكَر مرَّتينِ، أَو أكثر، ولله الحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 [ب- المقلوب ] 2- أَوْ إِنْ كانَتِ المخالفةُ بتقديمٍ أَو تأخيرٍ أي في الأسماء كمُرَّةَ بن كَعْبٍ، وكَعْبٍ بن مُرَّة؛ لأنَّ اسمَ أَحدِهِما اسمُ أَبي الآخَرِ، فهذا هو المقلوب، وللخطيب فيه كتابُ: "رافع الارتياب". وقد يقع القلب في المتن، أيضاً، كحديث أبي هريرة عند مسلمٍ في السبعة الذين يظلهم الله في عرشِهِ، ففيه: "ورجل تصدَّقَ بصدقةٍ أَخْفاها حتَّى لا تَعْلَمَ يمينُهُ ما تُنفِق شِمالُهُ". فهذا ممَّا انْقَلَبَ على أَحدِ الرُّواةِ، وإِنَّما هو: حتَّى لا تَعلم شِمالُه ما تُنْفِقُ يمينُهُ كما في الصَّحيحينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 [جـ- المزيد في الأسانيد ] 3- أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بزيادةِ راوٍ في أَثناءِ الإِسنادِ، ومَن لم يَزِدْها أَتقنُ ممَّن زادَها، فهذا هُو المَزيدُ في مُتَّصِلِ الأَسانِيدِ. وشرْطه أَنْ يقعَ التَّصريحُ بالسَّماعِ في موضعِ الزِّيادةِ، وإِلاَّ فمتى كانَ مُعَنْعَناً، مثلاً، تَرجَّحتِ الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 [د- المضطرب ] 4- أو كانت المخالفة بإبداله، أَيْ: الراوي، ولا مرجِّحَ لإحدى الروايتين على الأخرى، فهذا هو المُضْطَرِبُ. وهو يقعُ في الإِسنادِ غالباً. وقد يقعُ في المتْن. لكنْ قَلَّ أنْ يُحْكَمَ المحدِّث على الحديث باضطرابٍ بالنسبة إلى اختلافٍ في المَتْنِ دونَ الإِسنادِ. وقد يَقَعُ الإِبدالُ عَمْداً لمَن يُرادُ اختبارُ حفْظِهِ، امتحاناً مِن فاعِلِهِ، كما وَقَع للبُخَارِيّ، والعُقَيْلي، وغيرِهِما. وشرْطه أن لا يستمر عليه، بل ينتهي بانْتهاءِ الحاجةِ، فلو وَقَعَ الإِبدالُ عَمْداً، لا لمصلحةٍ، بل للإِغرابِ، مثلاً، فهو مِن أَقسامِ الموضوعِ، ولو وَقَعَ غَلَطاً فهُو من المقلوب، أو المُعَلَّلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 [هـ‍ - المصحَّف] 5- أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بتَغْييرِ حرْفٍ، أَو حروفٍ، مَعَ بقاءِ صورةِ الخَطِّ في السِّياقِ: فإنْ كانَ ذلك بالنِّسبةِ إِلى النَقْطِ فَالمُصَحَّفُ. وَإِنْ كانَ بالنِّسبةِ إلى الشَّكْلِ فالمُحَرَّفُ. ومعرفةُ هذا النَّوعِ مهمةٌ. وقد صَنَّفَ فيهِ العَسْكَريُّ، والدَّارَقُطنِيُّ، وغيرُهما. وأكثرُ ما يقعُ في المُتونِ، وقد يقعُ في الأسماءِ الَّتي في الأسانيدِ. ولا يَجُوزُ تعمُّد تغييرِ صورةِ المتنِ مُطلقاً، ولا الاختصارُ منه بالنقص، ولا إبدالُ اللفظ المرادِفِ باللفظِ المرادِفِ لهُ، إِلاَّ لعالمٍ بمَدْلولاتِ الألْفاظِ، وبِما يحيل المعاني، على الصحيح في المسألتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 [ اختصار الحديث ] أَمَّا اخْتِصارُ الحَديثِ: فالأكْثَرونَ على جَوازِهِ، بشرطِ أَنْ يكونَ الَّذي يَخْتَصِرُهُ عالِماً؛ لأنَّ العالِمَ لا يَنْقُص مِن الحديثِ إِلاَّ ما لا تَعَلُّقَ لهُ بما يُبْقيه منهُ، بحيثُ لا تختِلفُ الدِّلالةُ، ولا يختلُّ البَيانُ، حتَّى يكونَ المَذكورُ والمَحذوفُ بمنزِلَةِ خَبَرَيْنِ، أَو يَدُلُّ ما ذَكَرَهُ على ما حَذَفَهُ، بخِلافِ الجاهِلِ فإِنَّهُ قد يُنْقِص ما لَهُ تَعَلُّقٌ، كترك الاستثناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 [ الرواية بالمعنى ] وأما الرواية بالمعنى: فالخِلافُ فيها شهيرٌ: 1- والأكثرُ على الجَوازِ أَيضاً، ومِن أَقوى حُججهِم الإِجماعُ على جوازِ شرحِ الشَّريعةِ للعَجَمِ بلسانِهِم للعارِفِ بهِ، فإِذا جازَ الإِبدالُ بلغةٍ أُخرى فجوازُهُ باللُّغةِ العربيَّةِ أَولى. 2- وقيل إنما تجوز في المفردات دون المركَّبات. 3- وقيل إنما تجوز لمَن يَسْتَحْضِرُ اللفظَ؛ ليتَمَكَّنَ مِن التَّصرُّفِ فيه. 4- وقيل إنما تجوز لمَن كانَ يحفَظُ الحَديثَ فنَسِيَ لفظَهُ وبقيَ معناهُ مُرْتَسماً في ذِهنِه، فلهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بالمعنى لمصلحةِ تحصيل الحكم منه، بخلافِ مَن كانَ مُسْتَحْضِراً لِلَفْظِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وجَميعُ ما تقدَّمَ يتعلَّقُ بالجَوازِ وعَدَمِه، ولا شكَّ أَنَّ الأوْلى إِيرادُ الحَديثِ بأَلفاظِهِ، دُونَ التصرف فيه. 5- قال القاضي عياض: ينبغي سَدُّ بابِ الرواية بالمَعْنَى؛ لئلاَّ يَتَسلَّطَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ، ممَّن يَظُنّ أَنّهُ يُحْسِن، كما وقَعَ لكثيرٍ مِن الرُوَاةِ، قديماً وحديثاً. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 [ غريب الحديث ] فإنْ خَفِي المَعْنَى، بأَنْ كانَ اللَّفْظُ مستعمَلاً بِقِلَّةٍ، احْتيجَ إِلى الكتبِ المصنَّفةِ في شرْح الغريب. 1- ككتاب أبي عبيد القاسِمِ بنِ سلامٍ، وهو غيرُ مرتَّبٍ، وقد رتَّبه الشيخ موفق الدين بن قُدَامَة على الحُروفِ. 2- وأجمعُ منهُ كتابُ أَبي عُبيدٍ الهَرَوِيِّ، وقد اعتَنَى بهِ الحافظُ أَبو موسى المدين، فَنَقَّب عليهِ واسْتَدْرَكَ. 3- وللزَّمَخْشَرِيِّ كتابٌ اسمُهُ "الفائِقُ" حَسَنُ التَّرتيبِ. 4- ثمَّ جَمَعَ الجميعَ ابنُ الأثيرِ، في "النِّهايةِ"، وكتابُهُ أسهلُ الكُتُبِ تناوُلاً، مع إعْوَازٍ قليلٍ فيهِ. وإِنْ كانَ اللَّفْظُ مستعمَلاً بكثرةٍ، لكنَّ، في مَدلُولِهِ دِقَّةٌ، احْتِيجَ إلى الكُتُبِ المصنَّفة في شَرْحِ معاني الأخْبارِ، وبيانِ المشكل منها. وقد أَكْثَرَ الأَئِمَّةُ من التَّصانيفِ في ذلك كالطَّحاويِّ والخَطَّابيِّ وابنِ عبدِ البر وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 [8- الجهالة وسببها ] ثمَّ الجَهالةُ بالرَّاوِي: -وهِيَ السَّببُ الثَّامِنُ في الطعنِ- وسبَبُها أمران: أَحَدُهُما: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تكثُر نُعُوتُه: مِن اسمٍ، أو كُنيةٍ، أَو لَقَبٍ، أَو صِفةٍ، أَو حِرْفَةٍ، أَو نَسَبٍ، فَيُشْتَهَرُ بشيءٍ مِنها، فُيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِر بِهِ، لغرضٍ مِن الأغْراضِ فَيُظَنُّ أَنَّه آخَرُ، فَيَحْصُل الجهل بحاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وصنَّفُوا فِيهِ أي في هذا النَّوعِ "المُوضِح لأوهامِ الجمْعِ والتَّفريقِ"، أَجادَ فيهِ الخطيبُ، وسبَقَهُ إليه عبد الغني هو ابن سعيد المصري، وهو الأزدي، أيضاً، ثم الصوْريّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 [ الوحدان ] ومِن أَمثلتِهِ: محمَّدُ بنُ السَّائِبِ بنِ بِشْرِ الكلْبي، نَسَبَهُ بعضُهم إِلى جَدِّهِ، فقالَ: محمَّدُ بنُ بِشرٍ، وسَمَّاهُ بعضُهم حمادَ بنَ السَّائبِ، وكناه بعضُهم: أبا النضر، وبعضُهم: أَبا سعيدٍ، وبعضُهم: أَبا هِشامٍ؛ فصارَ يُظَنُّ أَنَّهُ جماعةٌ، وهو واحِدٌ، ومَن لا يَعْرِفُ حقيقةَ الأمرِ فيهِ لا يعرِفُ شيئاً مِن ذلك. وَالأمرُ الثَّاني: أَنَّ الرَّاويَ قد يكونُ مُقِلاًّ مِن الحديثِ؛ فلا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ. وَقد صَنَّفوا فِيهِ الوُحْدان، وهو مَن لم يروِ عنهُ إِلاَّ واحِدٌ، ولو سُمِّيَ. فَمِمَّنْ جَمَعَهُ: مسلمٌ، والحسن بن سفيان، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 [المُبْهَم] أوْ لاَ يُسَمَّى الرَّاوِي، اختِصَاراً مِن الرَّاوي عنهُ. كقولِه: أَخْبَرَني فلانٌ، أَو شيخٌ، أَو رجلٌ، أَو بعضُهم، أَو ابنُ فلانٍ. ويُستدل على معرفَةِ اسمِ المُبْهَم بوُرودِه مِن طريقٍ أخرى مسمَّىً. وصَنَّفوا فيه المُبْهَمات. ولا يُقْبَلُ حديثُ المُبْهَم، ما لم يُسَمَّ، لأن شرط قبول الخبر عدالة رواته، ومَنْ أُبْهِمَ اسْمُه لا يُعرفُ عَيْنهُ؛ فكيف عدالته. وكذا لا يُقْبَل خبره وَلَو أُبْهِمَ بلفظِ التَّعْديلِ، كأَنْ يقولَ الرَّاوي عنهُ: أَخْبَرَني الثِّقُة؛ لأنَّهُ قد يكونُ ثقةً عندَه مجروحاً عندَ غيرِه. وهذا عَلى الأصَحِّ في المسألة، ولهذه النكتة لم يُقْبَلِ المُرْسَلُ، ولو أَرسَلَهُ العدلُ جازِماً بهِ؛ لهذا الاحتمالِ بعينِه. وقيلَ: يُقْبَل تمسُّكاً بالظَّاهِرِ؛ إِذ الجَرْحُ على خلافِ الأصل، وقيل: إن كان القائل عالماً أجزأه ذلك في حق مَن يوافِقُهُ في مَذْهَبِهِ، وهذا ليسَ مِن مباحث علوم الحديث، والله تعالى الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 [ مجهول العين ] فإن سُمِّيَ الرَّاوي، وانْفَرَدَ راوٍ واحدٌ بالرِّوايةِ عنه، فهو مجهول العين، كالمبهم، إلا أن يوثقه غير مَن ينفرد به عنه على الأصح، وكذا مَن ينفرد عنه إذا كان متأهلاً لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 [ مجهول الحال ] أَوْ إنْ روى عنهُ اثنانِ فصاعِداً، ولم يُوَثَّقْ1 فهو مَجْهولُ الحالِ، وهُو المَسْتورُ. وقد قَبِلَ رِوَايَتَهُ جَمَاعَةٌ بغيرِ قيدٍ، وردَّها الجمهورُ. والتحقيقُ أَنَّ روايةَ المستورِ، ونحوِهِ، ممَّا فيهِ الاحتِمالُ؛ لا يُطْلَقُ القولُ بردِّها، ولا بِقَبولِها، بل يقال: هي موقوفةٌ إِلى اسْتِبانَةِ حالِه، كما جَزَمَ بهِ إِمامُ الحَرمينِ، ونحوُهُ قولُ ابنِ الصَّلاحِ فيمَن جُرِحَ بجَرْحٍ غيرِ مُفَسَّر.   1 ليس المراد أنه لم يَرِد فيه توثيق، وإنما المراد أنه لم يَرِد فيه جرحٌ أو تعديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 [9- البدعة ورواية المبتدع ] ثمَّ البِدْعَةُ: وهي السَّببُ التَّاسعُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ في الرَّاوي: وهي إِمَّا أَنْ تَكونَ بمكَفِّرٍ: 1- كأَنْ يَعتقد ما يَسْتلزم الكفرَ. 2- أو بمُفَسِّقٍ. فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صاحِبَهَا الجمهورُ. وقيلَ: يُقبل مُطلقاً. وقيلَ: إِنْ كانَ لا يَعْتقد حِلَّ الكَذِبِ لنُصرَةِ مقالَتِه قُبِلَ. والتحقيقُ أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكَفَّرٍ ببدعةٍ؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتدعةٌ، وقد تُبالغ فتكفِّر مخالفها، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطوائفِ. فالمعتمد أن الذي تُرَدُّ روايته مَن أَنكر أَمراً مُتواتِراً مِن الشَّرعِ معلوماً من الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بالضَّرورةِ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ، فأَمَّا مَن لم يَكُنْ بهذهِ الصِّفَةِ وانْضَمَّ إِلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يَرويهِ، مَعَ وَرَعِهِ وتَقْواهُ، فلا مانع مِن قبوله. والثاني: وهو مَنْ لا تَقْتَضي بدعتُهُ التكفيرَ أصلاً، وقد اختُلِف، أَيضاً، في قَبولِهِ وَرَدِّهِ: فقيلَ: يُرَدُّ مُطلَقاً. وهُو بَعيدٌ، وأَكثرُ مَا عُلِّلَ بهِ أَنَّ في الرِّوايةِ عنهُ تَرْويجاً لأمرِهِ وتَنْويهاً بذكره، وعلى هذا فيَنْبَغي أَنْ لا يُرْوَى عنْ مبتدعٍ شيءٌ يُشاركه فيهِ غيرُ مبتدعٍ. وقيلَ: يُقْبَل مُطْلقاً، إِلاَّ إن اعتقد حلَّ الكذب، كما تقدم. وقيلَ: يُقْبَلُ مَن لَمْ يكنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ؛ لأنَّ تزيينَ بِدعَتِه قد يَحْمِلُهُ على تحريفِ الرواياتِ وتَسويَتِها على ما يَقْتضيه مذهبُهُ، وهذا في الأصَحِّ. وأغربَ ابنُ حِبَّانَ؛ فادَّعى الاتفاقَ على قبولِ غيرِ الدَّاعيةِ، مِن غيرِ تفصيلٍ. نعمْ، الأكثرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ، إلا أنْ يَروي ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ، على المذهَبِ المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ الحافِظُ أَبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوزَجاني، شيخُ أَبي داودَ والنَّسائِيِّ، في كتابِه "معرفة الرِّجال"، فقالَ في وصْف الرُّواةِ: ومِنهُم زائغٌ عن الحَقِّ -أَيْ عنِ السُّنَّةِ- صادقُ اللَّهجَةِ؛ فليسَ فيهِ حيلةٌ إِلاَّ أَنْ يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكَراً، إذا لم يُقَوِّ به بدعته انتهى. وما قاله مُتَّجِهٌ؛ لأنَّ العلةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ واردةٌ فيما إذا كان ظاهرُ المرويِّ يوافِق مذهبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 [10- سوء الحفظ والشاذ والمختلط] ثمَّ سوءُ الحِفْظ: وهو السببُ العاشِرُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ، والمُرادُ بهِ: مَنْ لم يَرْجَحْ جانبُ إِصابتِه على جانِبِ خَطَئهِ، وهو على قِسْمَين: 1- إِنْ كانَ لازِماً للرَّاوي في جَميعِ حالاتِه فهُو الشاذُّ، على رأيِ بعضِ أَهلِ الحديث. 2- أَوْ إن كانَ سوءُ الحفظِ طارِئاً على الرَّاوي؛ إِمَّا لِكِبَره، أَو لذَهابِ بصرِه، أَوْ لاحتِراقِ كُتُبِه أَو عدَمِها، بأَنْ كانَ يعْتَمِدُها فَرَجَعَ إِلى حفظِهِ فساءَ فهذا هو المُخْتَلِطُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 سوء الحفظ والشاذ والمختلط ... والحُكْمُ فيهِ أَنَّ ما حَدَّث بهِ قَبْل الاختلاطِ إِذا تَمَيَّز قُبِل، وإِذا لم يَتَمَيَّزْ تُوُقِّفَ فيهِ، وكذا مِن اشتَبَهَ الأمرُ فيهِ، وإنما يُعرف ذلك باعتبارِ الآخذين عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 [ الحسن لغيره ] ومتى تُوبعَ السيءُ الحفظ بمُعْتَبَرٍ: كأَنْ يكونَ فَوْقَهُ، أَو مِثلَهُ، لا دُونَه، وكَذا المختلِط الَّذي لم يتميز، والمستور، والإِسنادُ المُرْسَلُ، وكذا المدلَّس إِذا لم يُعْرف المحذوفُ منهُ = صارَ حديثُهم حَسناً، لا لذاتِهِ، بل وصْفُهُ بذلك باعتبارِ المَجْموعِ، مِن المتابِع والمتابَع؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم احتمالُ أن تكون روايته صواباً، أو غير صوابٍ، على حدٍّ سواءٍ، فإِذا جاءَتْ مِنَ المُعْتَبَرِين روايةٌ موافِقةٌ لأحدِهِم رَجَحَ أحدُ الجانِبينِ من الاحتمالين المذكورين، وَدَلَّ ذلك على أَنَّ الحديثَ محفوظٌ؛ فارْتَقى مِن درَجَةِ التوقف إلى درجة القبول. ومعَ ارْتِقائِهِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ فهُو مُنحَطٌّ عنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ لذاتِه، ورُبَّما تَوقَّف بعضُهم عنْ إِطلاقِ اسمِ الحَسَنِ عليهِ. وقد انْقَضى ما يتعلق بالمتن من حيثُ القبولُ والردُّ. ثمَّ الإِسْنادُ: وهُو الطَّريقُ الموصِلةُ إِلى المتنِ. والمتنُ: هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 المرفوع تصريحاً أو حكماً تعريفه ... [المرفوع تصريحاً أو حكماً] وهُو: 1 إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلم ويقتضي لفظُهُ-: أ- إما تصريحاً. ب- أَوْ حُكْماً-أَنَّ المنقولَ بذلك الإسنادِ مِن قوله صلى الله عليه وسلَّمَ، أَوْ مِن فِعْله، أو مِن تَقريرِهِ. مثالُ المَرفوعِ مِن القولِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصحابي: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ كذا، أَو: حدَّثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بكذا، أو يقول، هو أو غيرُه: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كذا، أَو: عنْ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال كذا، ونحو ذلك. ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصَّحابيُّ: رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فَعَل كذا، أَو يقولَ، هُو أَو غيرُه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ يفعَلُّ كذا. ومِثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ تَصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ: فعلتُ بحضرَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كذا، أَو يقولَ، هو أَو غيرُه: فَعَل فلان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، ولا يَذْكر إنكاره لذلك. ومثال المرفوع مِن القول، حكماً لا تصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ -الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإِسرائيليَّاتِ- ما لا مجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، ولا لهُ تعلُّقٌ ببيانِ لغةٍ أَو شرحِ غريبٍ، كالإِخبار عن الأمور الماضية: مِن بَدْءِ الخلق، وأَخبارِ الأنبياء، أَو الآتيةِ: كالملاحمِ، والفِتَنِ، وأَحوالِ يومِ القيامةِ، وكذا الإخبارِ عمَّا يَحْصل بفِعْلِهِ ثوابٌ مخصوصٌ، أَو عقابٌ مَخْصوصٌ. وإِنَّما كانَ لهُ حُكْمُ المَرفوعِ؛ لأنَّ إِخْبَارَهُ بذلك يقتَضي مُخْبِراً لهُ، وما لا مَجالَ للاجتِهادِ فيهِ يَقتَضي موقِّفاً للقائلِ بهِ، ولا مُوَقِّفَ للصَّحابَةِ إِلاَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أَو بعضُ مَنْ يُخْبِرُ عَن الكُتبِ القديمةِ؛ فلهذا وَقَعَ الاحْتِرازُ عنِ القسمِ الثَّاني. فإذا كانَ كذلك، فلهُ حُكمُ ما لو قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهُو مرفوعٌ سواءٌ كانَ ممَّا سمِعَهُ منهُ، أو عنه بواسطة. ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ حُكماً: أَنْ يَفْعل ما لا مَجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، فَيُنَزَّلُ على أَنَّ ذلك عندَه عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، كما قال الشافعي في صلاة عَلِيٍّ في الكُسوفِ في كلِّ ركعةٍ أكثرَ مِن رُكوعَيْنِ. ومثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ حُكْماً: أَنْ يُخْبِرَ الصحابيُّ أَنَّهُم كانُوا يفْعَلونَ في زمانِ النبي صلى الله عليه وسلَّمَ كذا، فإِنَّهُ يكونُ لهُ حُكْم الرَّفعِ مِن جهةِ أنَّ الظاهر اطِّلاعُهُ صلى الله عليه وسلَّمَ على ذلك؛ لِتَوَفُّرِ دَواعِيهِم على سُؤالِهِ عن أمور دينهم، ولأن ذلك الزمانَ زمانُ نزولِ الوحي؛ فلا يقع من الصحابة فِعْل شيءٍ ويستمرُّونَ عليهِ إِلاَّ وهُو غيرُ ممنوعِ الفعل. وقد استدل جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما على جوازِ العَزْل بأَنَّهُم كانوا يفعَلونَه والقرآنُ يَنْزل، ولو كانَ ممَّا يُنْهَى عنه لَنَهَى عنه القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 [ الألفاظ الدالة على الرفع حكما ً] : 1- ويَلتحق بقوله "حُكْماً" ما وردَ بصيغةِ الكنايةِ في موضعِ الصِّيَغِ الصَّريحةِ بالنِّسبةِ إِليه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كقولِ التَّابعيِّ عنِ الصَّحابيِّ: يَرْفع الحَديثَ، أو يَرْويه، أو يَنْمِيه، أَو روايةً، أَو يَبْلُغُ بهِ، أَو رواهُ. 2- وقد يَقْتَصِرونَ على القول مع حَذْفِ القائلِ. ويُرِيْدُونَ بهِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كقولِ ابنِ سيرينَ عنْ أَبي هُريرةَ قالَ: قالَ: "تُقاتِلونَ قَوْماً ... "، الحديث، وفي كلامِ الخطيب أنه اصطلاحٌ خاصٌّ بأهل البصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 [قول الصحابيّ: "مِن السُّنَّةِ كذا"] : 3- ومِن الصِّيَغِ المحتَمَلَةِ قولُ الصَّحابيِّ: مِن السُّنَّة كذا: أ- فالأكثر أَنَّ ذلك مرفوعٌ، ونَقل ابنُ عبدِ البرِّ فيهِ الاتِّفاقَ، قالَ: وإِذا قالَها غيرُ الصَّحابيِّ فكذلك، ما لم يُضِفْها إِلى صاحِبِها، كسُنَّةِ العُمَرَيْن، وفي نقْل الاتِّفاقِ نظرٌ؛ فعَنِ الشَّافعيِّ في أصل المسألة قولان. ب-وذَهَبَ إِلى أَنَّهُ غيرُ مرفوعٍ أَبو بكرٍ الصَّيرفيُّ مِن الشَّافعيَّةِ، وأَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفية، وابن حزم مِن أَهلِ الظَّاهِرِ، واحتَجُّوا بأَنَّ السُّنَّةَ تتردَّدُ بين النبي صلى الله عليه وسلَّمَ وبينَ غيرِه. وأُجِيبوا: بأَنَّ احْتِمالَ إرادةِ غيرِ النبي صلى الله عليه وسلم بعيدٌ، وقد روى البُخَارِيّ في صحيحِه في حديثِ ابنِ شِهابٍ عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ في قصَّتِه معَ الْحَجَّاج حينَ قالَ لهُ: إِنْ كُنْتَ تُريدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بالصلاة قالَ ابنُ شِهابٍ: فقلتُ لسالمٍ: أَفَعَلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّمَ؟ فقالَ: وهل يَعْنون بذلك إِلاَّ سُنَّتَهُ؟!، فَنَقَلَ سالمٌ -وهو أحدُ الفُقهاءِ السَّبعَةِ مِن أهل المدينة، وأحدُ الحفَّاظِ مِن التَّابعينَ- عنِ الصَّحابةِ أَنَّهم إِذا أَطلقوا السُّنَّة لا يُريدونَ بذلك إِلاَّ سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وأما قول بعضهم: إنْ كانَ مرفوعاً فَلِمَ لا يقولونَ فيهِ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟. فجوابُهُ: إِنَّهُم تَرَكوا الجَزْمَ بذلك تورُّعاً واحتِياطاً، ومِن هذا قولُ أَبي قِلابة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أَنسٍ: "مِن السُّنَّة إِذا تزوجَ البكرَ على الثيب أقام عندها سبعاً" أخرجاه في الصحيح. قال أبو قِلابة: لو شئتُ لقلتُ: إِنَّ أَنساً رفَعَهُ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. أَيْ: لو قلتُ لمْ أَكذبْ؛ لأَنَّ قولَه: "مِن السُّنَّةِ" هذا معناه، لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابة أَولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 [قول الصحابي: "أُمِرنا أو نُهِينا عن كذا"] : 4- ومِنْ ذلك قولُ الصَّحابيِّ: "أُمِرنا بكَذا"، أَو "نُهِينا عنْ كذا"، فالخِلافُ فيهِ كالخلافِ في الَّذي قَبْلَهُ؛ لأنَّ مُطْلَق ذلك ينصَرِفُ بظاهِرِه إِلى مَنْ لهُ الأمرُ والنَّهْيُ، وهُو الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم. وخالف في ذلك طائفةٌ تَمَسّكوا باحتمالِ أَنْ يَكونَ المرادُ غيرُهُ، كأَمرِ القرآن، أو الإجماع، أو بعض الخلفاء، أَو الاستِنْباطِ؟ وأُجيبوا: بأَنَّ الأصلَ هو الأوَّلُ، وما عداهُ محتَمِلٌ، لكنَّهُ بالنسبةِ إليهِ مرجوحٌ، وأيضاً، فَمَن كان في طاعةِ رئيسٍ إِذا قالَ: أُمِرْتُ، لا يُفْهَمُ عنهُ أَنَّ آمِرَه إِلاَّ رئيسُهُ. وأَمَّا قولُ مَن قالَ: يُحْتمل أنْ يُظَنَّ ما ليسَ بأَمْرٍ أَمْراً، فلا اختصاصَ لهُ بهذهِ المسأَلَةِ، بل هُو مذكورٌ فيما لو صَرَّح؛ فقالَ: أَمرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّمَ بكذا، وهو احتمالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الصَّحابيَّ عدْلٌ عارفٌ باللِّسانِ؛ فلا يُطْلِقُ ذلك إِلاَّ بعد التحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 [ قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" ] : 5- ومِن ذلك قولُه: كنَّا نفعَلُ كذا، فلهُ حكم الرفع، أيضاً، كما تقدم. ومِن ذلك أن يَحْكم الصحابيُّ على فعلٍ مِن الأفعالِ بأَنَّه طاعةٌ للهِ، أو لرسوله، أَو معصيةٌ، كقولِ عمارٍ: " مَن صامَ اليومَ الَّذي يُشَكُّ فيهِ فقدْ عَصى أَبا القاسِمِ صلى الله عليه وسلم". فهذا حُكْمُهُ الرفعُ، أَيضاً؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذلك ممَّا تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 [ الموقوف ] 2 أو ينتهي غايةُ الإِسنادِ إلى الصَّحابِيِّ كَذلكَ، أَيْ: مِثْلُ ما تقدَّمَ في كونِ اللَّفْظِ يَقْتَضي التصريحَ بأنّ المنقولَ هُو مِن قولِ الصَّحابيِّ، أَو مِن فِعْلِهِ، أو مِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 تقريرِهِ، ولا يَجِيءُ فيهِ جميعُ ما تَقدمَ، بل معظمُهُ، والتَّشبيهُ لا تُشترط فيهِ المُساواةُ مِنْ كلِّ جهةٍ. ولَمَّا كان هذا المختصَر شاملاً لجميعِ أنواعِ علومِ الحَديثِ اسْتطردْتُ منهُ إِلى تَعريفِ الصَّحابيِّ ما هو فقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تعريف الصحابي تعريفه ... [تعريف الصحابي] وهو مَن لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تَخَلَّلتْ رِدَّةٌ في الأصح. والمرادُ باللِّقاءِ: ما هُو أعمُّ: مِن المُجالَسَةِ، والمُماشاةِ، ووصولِ أَحدِهِما إِلى الآخَرِ، وإِنْ لم يكالِمْهُ، ويَدْخُل فيهِ رؤيةُ أحدِهما الآخَرَ، سواءٌ كانَ ذلك بنفْسِهِ أم بغيرِهِ. والتعبير باللُّقيِّ أَولى مِن قولِ بعضِهم: الصحابيُّ مَنْ رأَى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يُخْرِج ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ونحوَه مِن العُمْيان، وهُمْ صحابةٌ بلا تردُّدٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 [ شرح التعريف ] : و"اللُّقِيُّ" في هذا التعريف كالجنس. 1- وقولي: "مؤمناً به" كالفصْلِ، يُخْرِجُ مَنْ حصَل لهُ اللِّقاءُ المذكورُ، لكنْ، في حالِ كونِه كافراً. 2- وقَوْلي: "بهِ". فصْلٌ ثانٍ يُخْرجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤمِناً، لكنْ، بغيره من الأنبياء. لكنْ، هل يُخْرِج مَنْ لَقِيَهُ مُؤمِناً بأَنَّهُ سيبعث ولم يُدْرِك البعثة؟. فيه نَظَرٌ. 3- وقَوْلي: "وماتَ على الإِسلامِ"، فصْلٌ ثالثٌ يُخْرِجُ مَن ارتدَّ، بعد أن لقيه مؤمناً، وماتَ على الرِّدَّةِ، كعُبَيْدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ، وابن خَطَلٍ. 4- وقَوْلي: "ولو تخلَّلت رِدَّةٌ"، أي: بينَ لُقِيِّهِ لهُ مُؤمِناً بهِ، وبينَ موتِه على الإِسلامِ، فإِنَّ اسمَ الصُحْبَةِ باقٍ لهُ، سواءٌ رجع إِلى الإسلامِ في حياتِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم، أم بعده، سواءٌ لقيه ثانياً أَمْ لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 5- وقَوْلي: "في الأصحِّ" إشارةٌ إِلى الخِلافِ في المسأَلةِ، ويدلُّ على رُجْحانِ الأوَّلِ قصةُ الأشعثِ بنِ قيسٍ؛ فإِنَّه كانَ ممَّنِ ارتدَّ، وأُتِيَ به إلى أبي بكر الصديق أسيراً؛ فعاد إلى الإسلام فقَبِلَ منه وزَوَّجه أُخْتَهُ، ولم يتخلَّفْ أحدٌ عنْ ذكْرِه في الصَّحابةِ، ولا عنْ تخريجِ أحاديثِهِ في المسانيد وغيرها. تنبيهان: لا خَفاءَ برجحانِ رتبةِ مَنْ لازَمَه صلَّى الله عليه وسلَّمَ وقاتَلَ معَهُ أَو قُتِلَ تحتَ رايتِه على مَنْ لم يلازمْه، أَو لم يَحْضر معه مَشْهَداً، وعلى مَن كلَّمَهُ يَسيراً، أَو ماشاهُ قَليلاً، أَو رآه على بُعْدٍ، أو في حال الطفولية، وإن كان شرفُ الصحبةِ حاصلاً للجميع. ومَنْ ليسَ لهُ مِنهُم سماعٌ منهُ فحديثُهُ مرسَلٌ مِن حيثُ الروايةُ، وهُم معَ ذلك معدودون في الصَّحابةِ؛ لما نالوهُ مِن شرفِ الرُّؤيةِ. ثانيهِما: يُعْرَفُ كَوْنُه صحابيّاً. 1- بالتَّواتُرِ. 2- أَو الاستفاضَةِ أَو الشُّهْرةِ. 3- أَو بإخبارِ بعضِ الصحابةِ. 4- أَو بعضِ ثقاتِ التَّابِعينَ. 5- أَو بإِخباره عنْ نفسِهِ بأنه صحابي، إذا كانت دعواهُ ذلكَ تدخُلُ تحتَ الإِمكانِ. وقد اسْتَشْكل هذا الأخيرَ جماعةٌ مِن حيثُ إِنَّ دعواهُ ذلك نظيرُ دَعْوى مَن قالَ: أَنا عدْلٌ، ويَحْتاج إلى تأمُّلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 [ التابعي ] 3 أَوْ تنتَهي غايةُ الإِسنادِ إِلى التَّابِعيَ. وهو مَن لَقِيَ الصَّحابِيَّ كذلكَ. وهذا متعلِّقٌ باللُّقِيِّ وما ذُكِر معهُ، إِلاَّ قيدُ الإِيمانِ بهِ، فذلك خاصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هُو المُختارُ، خلافاً لِمَن اشْتَرَطَ في التَّابعيِّ طولَ الملازمة، أو صحةَ السماعِ أو التمييز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 [المُخَضْرَمون] وبَقِيَ بين الصحابةِ والتابعين طبقةٌ أُخرى، اخْتُلِفَ في إِلحاقِهِم بأيِّ القِسمين، وهُم: المُخَضْرَمون الذين أدركوا الجَاهِليَّةَ والإِسلامَ، ولم يَرَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فعدَّهم ابنُ عبدِ البرِّ في الصَّحابةِ، وادَّعى عياضٌ، وغيرُهُ، أنَّ ابنَ عبدِ البرِّ يقولُ: إِنَّهُم صحابةٌ، وفيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّهُ أَفصح في خطبةِ كتابِهِ بأَنَّهُ إِنَّما أَورَدَهُم لِيَكونَ كتابُه جامِعاً مستوعِباً لأهل القَرْن الأول. والصحيح أنهم معدودون في كبار التابعين، سواءٌ عُرِف أَنَّ الواحِدَ منهُم كانَ مُسلماً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كالنجاشي أم لا، لكنْ، إنْ ثبتَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسْراءِ كُشِفَ لهُ عن جَميعِ مَنْ في الأرْضِ فرَآهُمْ؛ فيَنْبَغِي أنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مُؤمِناً بهِ في حياتِه إِذْ ذاكَ، وإنْ لمْ يُلاقِهِ، في الصَّحابةِ، لحُصولِ الرؤية في حياته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 [ تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع ... [تعريف المرفوع والموقوف والمقطوع] فالقِسم الأوَّلُ ممَّا تقدَّمَ ذِكْرُهُ، مِن الأقسامِ الثلاثةِ -وهو ما تنتهي إليه غايةُ الإِسنادِ- هُو المَرْفوعُ، سواءٌ كانَ ذلك الانتهاء بإسنادٍ متصل أم لا. والثاني المَوْقوفُ -وهو: ما انْتَهَى إلى الصَّحابيِّ-. والثَّالِثُ: المقطوع، وهو ما انتهى إلى التابعي. ومَنْ دون التابعي مِن أَتْباع التابعين، فَمَنْ بعدهم، فيهِ، أَيْ: في التَّسميةِ مثلُهُ، أَي: مثلُ ما ينتَهي إِلى التَّابعيِّ في تسميةِ جميعِ ذلك مَقطوعاً، وإِنْ شئتَ قلتَ: موقوفٌ على فلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 [الفرقُ بين المقطوع والمنقطع] فحصَلَت التفرقةُ في الاصطِلاحِ بين المَقطوعِ والمُنْقَطِعِ؛ فالمُنْقَطِعُ مِن مباحِثِ الإِسنادِ -كما تقدَّمَ- والمَقْطوعُ مِن مباحِثِ المَتْنِ، كما ترى، وقد أَطلقَ بعضُهم هذا في موضعِ هذا، وبالعكس، تجوُّزاً عن الاصطلاح. ويقال للأخيرين، أي الموقوف والمقطوع: الأثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 [ المسند ] والمُسْنَدُ في قولِ أَهلِ الحَديث: "هذا حديثٌ مسندٌ" هو: مرفوعُ صحابيٍ بسندٍ ظاهرُهُ الاتِّصالُ. فَقَوْلي: "مرفوعُ" كالجِنس. وَقَوْلي: "صحابيٍ" كالفصلِ، يَخْرج به ما رَفَعَهُ التابعيُّ؛ فإِنَّه مرسَلٌ، أَو مَنْ دونَه؛ فإِنَّه معضَلٌ، أو معلَّقٌ. وَقَوْلي: "ظاهرُهُ الاتصال"، يَخْرج به ما ظاهرُهُ الانقطاعُ، ويَدْخل ما فيه الاحتمالُ، وما يوجَدُ فيه حقيقةُ الاتصالِ، مِن بابِ الأَولى. ويُفْهَم مِن التَّقييدِ بالظُّهورِ أنَّ الانقطاعَ الخفيَّ، كعنعَنَةِ المدلِّس، والمعاصِرِ الذي لم يَثْبُتْ لُقِيُّه = لا يُخْرِجُ الحديثَ عن كونِه مسنَداً؛ لإِطباقِ الأئمَّةِ الَّذينَ خَرَّجُوا المسانيد على ذلك. وهذا التَّعريفُ موافِقٌ لقَولِ الحاكمِ: الْمُسْنَد: "ما رواهُ المحدِّث عن شيخٍ يَظْهر سماعُهُ منهُ، وكذا شيخه عن شيخه، متصِلاً إِلى صحابيٍ إِلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم". وأمَّا الخَطيبُ فقالَ: المسنَدُ: المُتَّصلُ. فعلى هذا: الموقوفُ إِذا جاءَ بسندٍ متصلٍ يسمَّى عندَه مسنَداً، لكنْ، قال: إنَّ ذلك قد يأْتي، لكنْ، بِقِلَّةٍ. وأَبْعَدَ ابنُ عبدِ البرِّ حيثُ قالَ: المسنَدُ المرفوعُ، ولم يَتعرض للإِسنادِ، فإِنَّهُ يَصْدق على المرسَل والمعضَل والمُنقطِعِ، إِذا كان المتن مرفوعاً، ولا قائل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 العالي تعريفه ... [العالي] فإنْ قلَّ عَدَدُهُ، أَيْ: عددُ رجالِ السندِ، فإِمَّا: 1- أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم بذلك العدد القليل بالنسبة إلى سندٍ آخَرَ، يَرِدُ به ذلك الحديثُ بعَيْنِهِ بعددٍ كثيرٍ. 2- أَوْ ينتهيَ إِلى إمامٍ مِنْ أَئمَّةِ الحَديثِ ذي صفةٍ عَلِيَّةٍ: كالحفظِ، والفقهِ، والضبطِ، والتصنيفِ، وغيرِ ذلك مِن الصِّفاتِ المُقتَضِيَةِ للتَّرجيحِ، كشعبةَ ومالكٍ، والثوريِّ، والشافعيِّ، والبُخَارِيّ، ومسلمٍ، ونحوِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 [ العلو المطلق ] فالأوَّلُ: -وهُو ما ينتَهي إِلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ-: العلوُّ المطْلَق، فإِن اتَّفَقَ أَنْ يكونَ سندُهُ صحيحاً كانَ الغايةَ القُصْوى، وإِلاَّ فصورةُ العلوِّ فيهِ موجودةٌ، ما لم يكُنْ موضوعاً؛ فهو كالعدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 [ العلو النسبي ] والثَّانِي: العلوُّ النِّسْبِيُّ، وهُو ما يَقِلُّ العَدد فيه إلى ذلك الإمام، ولو كان العدد مِن ذلك الإِمامِ إِلى مُنتهاهُ كَثيراً. وقد عَظُمَتْ رغبةُ المُتأَخِّرينَ فيهِ، حتَّى غَلب ذلك على كثيرٍ منهُم، بحيثُ أَهملوا الاشتِغالَ بما هُو أَهمُّ منهُ. وإِنَّما كانَ العلوُّ مَرغوباً فيهِ لكونِه أَقربَ إِلى الصحةِ وقلةِ الخطأِ؛ لأنَّهُ ما مِن راوٍ مِن رجالِ الإِسنادِ إِلاَّ والخطأُ جائزٌ عليهِ، فكلَّما كَثُرَت الوسائطُ وطالَ السندُ كَثُرَت مظانُّ التجويز، وكلَّما قلَّتْ قلَّتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 [قد يترجح النزولُ على العُلوِّ] : فإِنْ كانَ في النُّزولِ مَزِيَّةٌ ليستْ في العلوِّ: كأنْ تكونَ رجاله أوثقَ منهُ، أَو أحفظَ، أَو أفقَهَ، أَو الاتصالُ فيه أظهَرُ، فلا تردُّد أَنَّ النزولَ، حينئذٍ، أَولى. وأَمَّا مَن رجَّح النُّزولَ مُطلقاً واحتجَّ بأنَّ كَثرةَ البحثِ تقتَضي المشقةَ؛ فَيَعْظُمُ الأجْرُ، فذلك ترجيحٌ بأمرٍ أَجنبيٍّ عما يتعلق بالتصحيح والتضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 [أقسام العلوّ النسبيِّ ومعنى الموافقة والبدل والمساواة والمصافحة] : 1- وفيه، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ الموافَقَةُ، وهي: الوُصولُ إلى شيخِ أحدِ المصنِّفين مِن غيرِ طريقِهِ، أَي: الطَّريقِ التي تصل إلى ذلك المُصَنِّفِ المعَيَّنِ. مثالُه: روى البُخَارِيّ عن قُتيبةَ عن مالكٍ حديثاً، فلو رَوَيْناهُ مِن طريقِهِ كانَ بينَنا وبين قتيبةَ ثمانيةٌ، ولو رَوْينا ذلك الحديثَ، بعَيْنِهِ، مِن طريقِ أبي العباس السَرَّاج، عن قُتيبةَ، مثلاً، لكانَ بينَنا وبينَ قتيبةَ فيه سبعةٌ؛ فقد حَصَلَ لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الموافقةُ معَ البُخَارِيّ في شيخِهِ بعَيْنِهِ معَ عُلُوِّ الإسناد إليه. 2- وفيه، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ البَدَلُ: وهو الوُصولُ إِلى شيخِ شيخِهِ كذلك، كأنْ يَقَعَ لنا ذلك الإسنادُ، بعَيْنِهِ، مِن طريقٍ أُخرى إِلى القَعْنَبِي عن مالكٍ؛ فيكونُ القعنبيُّ بَدَلاً فيهِ مِن قتيبةَ. وأكثرُ ما يَعْتبرون الموافقةَ والبدَلَ إِذا قارَنَا العلوَّ، وإِلاَّ فاسمُ الموافقةِ والبدَلِ واقعٌ بدُونِه. 3- وفيهِ، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ المساواةُ: وهي استواءُ عددِ الإِِسنادِِ مِن الرَّاوي إِلى آخِرِهِ، أَي: الإِسنادِ مَعَ إسنادِ أحدِ المصنِّفِين. كأَنْ يَرْوِي النسائيُّ، مَثلاً، حَديثاً يقعُ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيهِ أحدَ عشرَ نفساً، فيقعُ لنا ذلك الحديثُ، بعَيْنِهِ، بإسنادٍ آخرَ إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم يَقَع بيننا وبينَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحدَ عشرَ نفساً؛ فَنُساوي النسائيَّ، مِن حيثُ العددُ، معَ قطْع النظرِ عن ملاحظةِ ذلك الإِسنادِ الخاصِّ. 4- وفيه، أَيْ: العلوِّ النسبيِّ، أَيضاً، الْمُصَافَحَةُ: وهي: الاستواءُ مَعَ تلميذِ ذلكَ المصنِّف، على الوجه المَشروحِ أوَّلاً، وسُمِّيت مُصافحةً لأنَّ العادةَ جَرَت، في الغالبِ، بالمُصافحةِ بينَ مَن تَلاقَيَا، ونحنُ في هذهِ الصُّورةِ كأَنَّا لَقِيْنَا النسائيَّ؛ فكأَنَّا صافحناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 [ النزول ] ويُقابِل العلوَّ، بأَقْسَامِهِ المَذكورةِ، النزولُ؛ فيكونُ كلُّ قِسْمٍ مِن أَقسامِ العلوِّ يُقابِله قِسْمٌ مِن أَقسام النُّزولِ، خِلافاً لِمَن زعمَ أَنَّ العلوَّ قد يقع غيرَ تابعٍ لنزولٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 [رواية الأقران والمدبَّج] فإنْ تَشارَكَ الرَّاوِي ومَنْ رَوى عَنْهُ، في أمرٍ مِن الأمورِ المتعلِّقَةِ بالرِّوايةِ: مثلَ السِّنِّ، واللقيّ، والأَخْذِ عن المشايخِ = فهُو النُّوعُ الَّذي يُقال لهُ: روايةُ الأَقْران؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ راوياً عن قَرِينِهِ. وإنْ رَوى كلٌّ مِنْهُما، أَي: القَرِينين، عن الآخر فهو المُدبَّج. وهو أَخصُّ مِن الأوَّلِ؛ فكلُّ مُدَبَّجٍ أَقرانٌ، وليسَ كلُّ أَقرانٍ مُدَبَّجاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقد صَنَّفَ الدَّارقطنيُّ في ذلك، وصَنَّفَ أَبو الشيخِ الأصبهانيُّ في الَّذي قبلَه. وإِذا روى الشَّيخُ عن تلميذِهِ صدَقَ أنَّ كلاًّ منهُما يَرْوِي عن الآخر؛ فهل يُسَمَّى مُدَبَّجاً؟ فيهِ بحثٌ، والظَّاهرُ: لا؛ لأنَّهُ مِن روايةِ الأكابِرِ عَنِ الأصاغِرِ، والتَّدبيجُ مأْخوذٌ مِن دِيباجَتَيْ الوجهِ؛ فَيَقْتَضِي أَن يكونَ ذلك مُستوِياً مِن الجانبَيْنِ؛ فلا يجيءُ فيهِ هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 رواية الأكابر عن الأصاغر تعريفه ... [رواية الأكابر عن الأصاغر] وإن روى الراوي عمن هو دونه في السنِّ، أَو في اللُّقِيِّ، أَو في المِقْدار = فهذا النَّوعُ هو روايةُ الأكابِرُ عَنِ الأصاغر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 [ الآباء عن الأبناء ] ومِنْهُ، أَيْ: مِن جُمْلةِ هذا النوعِ -وهو أَخَصُّ مِن مُطْلقِهِ- روايةُ الآباءُ عَنِ الأبْناءِ، والصحابةِ عنِ التَّابعينَ والشيخِ عن تلميذِهِ، ونحوِ ذلك. وفي عكسه كثرةٌ؛ لأنه هو الجادّةُ المسْلوكةُ الغالبةُ. ومِنْه مَن رَوى عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وفائدةُ معرفةِ ذلك التمييزُ بينَ مراتِبِهِم، وتنزيلُ الناسِ منازِلَهم. وقد صَنَّفَ الخطيب في روايةِ الآباءِ عنِ الأبناءِ تصنيفاً، وأَفرد جُزءاً لطيفاً في روايةِ الصَّحابةِ عن التَّابِعينَ. وجَمَع الحافظُ صلاح الدين العَلائيُّ، مِن المتأَخِّرينَ، مُجلَّداً كبيراً في معرفةِ مَن رَوى عن أَبيهِ، عن جدِّهِ، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ وقسَّمه أَقساماً: فَمِنْه ما يعودُ الضَّميرُ في قولِه عن جدِّهِ على الرَّاوي. ومنهُ ما يعودُ الضَّميرُ فيهِ على أَبيهِ. وبَيَّنَ ذلك وحقَّقَهُ، وخَرّج في كلِّ ترجمةٍ حديثاً مِن مَرْوِيِّهِ، وقد لخّصْتُ كتابَهُ المذكورَ وزِدْتُ عليهِ تَرَاجِمَ كثيرةً جِدّاً. وأَكثرُ ما وقعَ فيه ما تسلسلتْ فيه الرواية عن الآباء بأربعةَ عشرَ أباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 [ السابق واللاحق ] وإن اشْتَرَكَ اثْنَانِ عَنْ شيخٍ وتَقدَّم موتُ أحدِهما على الآخَرِ؛ فهُوَ السَّابِقُ واللاَّحِقُ. وأكثرُ ما وَقَفْنا عليهِ مِن ذلك ما بينَ الرَّاوْيَيْنِ فيه في الوفاة مائة وخَمْسونَ سنةً، وذلك أَنَّ الحافظَ السِّلَفِيَّ سَمِع منهُ أَبو عليٍّ البَرَدَاني-أحدُ مشايخِهِ- حَديثاً، ورواه عنه، ومات على رأس الخمسمائة، ثمَّ كانَ آخِرَ أصحابِ السِّلَفِيّ بالسماعِ سِبْطُهُ أبو القاسمِ عبدَ الرحمنِ بن مَكِّيٍّ، وكانتْ وفاتُهُ سنةَ خمسين وستمائة. ومِن قديمِ ذلك أَنَّ البُخَارِيّ حدَّث عن تلميذه أبي العباس السَّرَّاج أشياء، في التَّاريخِ وغيرِه، وماتَ سنةَ ستٍّ وخمسينَ ومائتين، وآخِرُ مَن حَدَّث عن السَّرَّاج، بالسَّماعِ، أَبو الحسين الْخَفَّاف، وماتَ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ وثلاثِ مئةٍ. وغالِبُ ما يقعُ مِن ذلك أَنَّ المسموعَ منه قد يتأخر بعد أحدِ الرَّاويينِ عنهُ زماناً؛ حتَّى يسمَعَ منهُ بعضُ الأحداث، ويعيش بعد السماع، دَهْراً طويلاً؛ فَيَحْصل مِن مجموعِ ذلك نحوُ هذه المدة. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 [الرواية عن مُتَّفِقي الاسم] وإنْ رَوى الرَّاوي عَنِ اثْنَيْنِ مُتَّفِقِي الاسْمِ، أَو معَ اسمِ الأبِ، أَو معَ اسمِ الجدِّ، أو مع النسبة، ولم يتميزا بما يَخُصُّ كلاً منهما = فإنْ كانا ثقتين لم يَضُرَّ. ومِن ذلك ما وقع في البُخَارِيّ في روايتِه عن أَحمدَ، غيرَ منسوبٍ، عن ابنِ وَهْبٍ؛ فإِنَّهُ إِمَّا أَحمدُ بنُ صالحٍ، أَو أَحمدُ بنُ عيسى. أَو عن محمدٍ، غيرَ منسوبٍ، عن أَهلِ العراقِ؛ فإِنَّهُ إِمَّا محمَّدُ بنُ سَلاَمٍ، أَو محمَّدُ بنُ يَحْيى الذُّهْلِي. وقدِ استوعبتُ ذلك في مقدِّمةِ شرحِ البُخَارِيّ. ومَن أراد لذلك ضابطاً كُلِّياً يمتاز أَحدُهما عنِ الآخَرِ فباختصاصِهِ، أَي الشيخِ المرويِّ عنه، بأَحَدِهِما يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ، ومتى لم يتَبَيَّنْ ذلك، أَو كانَ مختَصّاً بهما معاً، فإِشكاله شديدٌ؛ فَيُرْجَع فيه إلى القرائنِ والنظرِ الغالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 [ إنكار الراوي لحديثه ] وإنْ رَوى عن شيخٍ حَديثاً فَجَحَد الشيخُ مَرْوِيَّهُ: فإنْ كانَ جزْماً: كأَنْ يقولَ: كذِبٌ عليَّ، أَو: ما رويتُ هذا، أَو نحوَ ذلك، فإنْ وَقَع منه ذلك رُدَّ ذلك الخبرُ لِكَذِب واحدٍ منهما، لا بِعَيْنِه، ولا يكونُ ذلك قادِحاً في واحدٍ منهُما؛ للتَّعارُضِ. أَوْ كانَ جحْدُه احْتِمالاً، كأنْ يقولَ: ما أَذكر هذا، أَو لا أعرفه = قُبِلَ ذلك الحديثُ في الأصَحِّ؛ لأَنَّ ذلك يُحْمَل على نِسيانِ الشَّيخِ، وقيلَ: لا يُقْبل؛ لأنَّ الفرعَ تبعٌ للأَصل في إِثباتِ الحَديثِ، بحيث إذا أَثْبَتَ الأصلُ الحديثَ ثَبتَتْ روايةُ الفرع، وكذلك ينْبَغي أَنْ يكونَ فرعاً عليهِ، وتَبَعاً لهُ -في التحقيق-في النفي. وهذا مُتَعَقَّبٌ فإن عدالَةَ الفرعِ تقتَضي صِدْقَهُ، وعدمُ عِلْمِ الأصلِ لا يُنافيهِ، فالمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النَّافي. وأَمَّا قياسُ ذلك بالشَّهادةِ ففاسدٌ؛ لأنَّ شهادةَ الفرعِ لا تُسْمَع معَ القُدرةِ على شَهادةِ الأَصلِ، بخلاف الرواية؛ فافترقا. وفيه، أي: في هذا النَّوعِ، صَنَّفَ الدَّارقطني كتابَ: "مَنْ حَدَّث ونَسِيَ"، وفيه ما يدلُّ على تَقْوِيَةِ المذهب الصَّحيحِ؛ لكونِ كثيرٍ مِنهُم حدَّثوا بأَحاديثَ فلما عُرِضَتْ عليهم لم يتذكروها، لكنَّهُم؛ لاعْتِمادِهم على الرُّواةِ عنهُم، صارُوا يَرْوونها عنِ الَّذينَ رَوَوْها عنهُم، عن أَنْفُسِهِم، كحَديثِ سُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ مرفوعاً في قِصَّةِ الشَّاهِدِ واليَمينِ، قالَ عبدُ العزيزِ بنُ محمَّدٍ الدَّراوَرْدِي: حدَّثني بهِ ربيعةُ بنُ أَبي عبدِ الرحمنِ عن سهيل، فلقيتُ سُهيلاً فسأَلتُه عنهُ فلم يَعْرِفْهُ، فقلتُ: إنَّ ربيعةَ حدَّثني عنكَ بكذا، فكانَ سُهَيْلٌ بعد ذلك يقول: حدثني ربيعةُ عَنِّي أَنِّي حدَّثتُه عن أَبِي بهِ. ونظائرُهُ كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 [المُسَلْسَل] وإن اتفق الرَّواةُ في إسنادٍ مِن الأسانيدِ في صِيِغِ الأداء: كسمعت فلاناً، قالَ: سمعتُ فُلاناً، أَوْ: حدَّثنا فُلانٌ، قال: حدثنا فلان، وغير ذلك من الصِّيَغِ، أَوْ غَيْرِها مِن الحالاتِ القولية، كسمعت فلاناً يقول: "أشهد بالله لقد حدثني فلان ... "، إلى آخره، أَو الفِعليَّةِ كقولِه: دَخَلْنا على فُلانٍ فأَطْعَمَنا تمراً إلى آخره، أو القولية والفعلية معاً كقوله: "حدثني فلان وهو آخذ بلحيته قال: آمنتُ بالقَدَر ... "، إلى آخره = فهو المسَلْسَلُ. وهو مِن صفات الإِسنادِ، وقد يقعُ التَّسلسُلُ في مُعْظم الإِسنادِ، كحديثِ المسلسَل بالأوَّلية، فإِنَّ السَّلْسَلَةَ تنْتَهي فيهِ إِلى سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ فقط، ومَنْ رواهُ مسلسلاً إلى منتهاه فقد وَهِمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 صيغ الأداء و مراتبه ا مراتبه ... [صيغ الأداء ومراتبها] وصِيغ الأداء المشار إليه على ثمانية مراتِبَ: الأولى: سمعتُ وحَدَّثَني. ثمَّ أخْبَرَني وقرأتُ عليهِ وهي المرتبةُ الثَّانيةُ. ثمَّ قُرِئ عَلَيْهِ وأَنا أَسْمَعُ وهي الثالثةُ. ثمَّ أَنْبَأَني وهي الرَّابعةُ. ثمَّ ناوَلَني وهي الخامسةُ. ثمَّ شافَهَني أَيْ بالإِجازةِ وهي السَّادسةُ. ثمَّ كَتَبَ إليَّ أَيْ بالإجازة وهي السابعة. ثم "عن"، ونحوها: مِن الصِّيَغ المحتَمِلَةِ للسَّماعِ والإِجازةِ، ولِعدمِ السَّماعِ أَيضاً، وهذا مثل: قال وذَكر ورَوَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 [محل استعمال تلك الصِيَغِ] واللفظان الأَوَّلان مِن صِيَغ الأداءِ، وهُما: سمعتُ وحدَّثني صالِحانِ لِمَنْ سَمِع وَحْدَهُ مِن لَفْظِ الشَّيْخِ. وتخصيصُ التحديث بما سُمِع من لفظ الشيخ هو الشَّائعُ بينَ أَهلِ الحَديثِ اصطِلاحاً، ولا فرقَ بينَ التَّحديثِ والإِخبارِ مِن حيثُ اللُّغةُ، وفي ادِّعاءِ الفرقِ بينَهما تكلُّفٌ شديدٌ، لكنْ، لما تقرَّر الاصطلاحُ صارَ ذلك حقيقةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عُرفِيةً فَتُقَدَّمُ على الحقيقةِ اللُّغويةِ، معَ أَنَّ هذا الاصطلاحَ إِنَّما شاعَ عندَ المَشارِقة ومَنْ تَبِعَهُم، وأَمَّا غالِبُ المَغارِبَةِ فلمْ يستَعْمِلوا هذا الاصطلاح، بل الإخبارُ والتحديثُ عندَهُم بمعنىً واحدٍ. فإنْ جَمع، الرَّاوي أَيْ: أَتى بصيغةِ الجَمْعِ في الصِّيغةِ الأولى، كأنْ يقولَ: حدَّثَنا فلانٌ، أَو: سَمِعْنا فلاناً يقولُ = فهُو دليلٌ على أَنَّه سَمِعَ منهُ مَعَ غَيْرِهِ، وقد تكونُ النُّونُ للعظمة، لكن، بِقِلِّةٍ. وأَوَّلُها، أَيْ: المراتِبِ أَصْرَحُها، أَيْ: أصرحُ صِيِغِ الأَداءِ في سماع قائلها؛ لأنها لا تحتمل الواسطة، لكن، "حدثني" قد تُطلق في الإِجازةِ تدليساً. وأرفَعُها مِقداراً ما يقعُ في الإِمْلاءِ؛ لِمَا فيهِ مِن التثبُّتِ والتحفُّظِ. والثالث: وهو أخبرني، والرابع: وهو قرأت = لمن قرأ بنفسه على الشيخ، فإن جَمَع كأنْ يقولَ: أخبرنا، أو: قرأنا عليه، فهو كالخامس، وهو: قُرِئَ عليهِ وأَنا أَسمعُ. وَعُرِفَ مِن هذا أَنَّ التعبيرَ "بِقَرَأْتُ" لِمَن قرأَ خيرٌ مِن التَّعبيرِ بالإِخبارِ؛ لأنَّهُ أَفصحُ بصورةِ الحالِ. تنبيهٌ: القراءةُ على الشَّيخِ أَحَدُ وجوهِ التحمُّلِ عندَ الجُمهورِ، وأَبْعَدَ مَنْ أَبى ذلك مِن أَهلِ العِراقِ، وقد اشتدَّ إنكارُ الإِمامِ مالكٍ، وغيرِهِ مِن المدنيِّينَ، عليهِم في ذلك، حتى بالغَ بعضُهُم فرجَّحها على السَّماعِ مِن لفظِ الشَّيخِ، وذهَبَ جَمْعٌ جَمٌّ، منهُم البُخَارِيّ -وحكاهُ في أَوائلِ صحيحِهِ عن جماعةٍ مِن الأئمَّةِ- إِلى أَنَّ السماعَ مِن لفظِ الشيخِ والقراءةَ عليهِ -يعني في الصِّحَّةِ والقُوَّةِ- سواءً، واللهُ أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 [مفهوم الإنباءِ لغةً واصطلاحاً] والإنباءُ مِن حيثُ اللغةُ واصطلاحُ المتقدِّمينَ بمعْنَى الإخبارِ، إِلاَّ في عُرْف المُتَأَخِّرينَ فهُو للإِجازَةِ كـ"عن"، لأنها في عرف المتأخرين للإجازة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 [ المعنعن وحكمه ] وعَنْعَنَةُ المعاصِرِ محمولةٌ عَلى السَّماعِ، بخلافِ غيرِ المُعاصِرِ فإِنَّها تكونُ مرسَلةً أَو مُنقطِعَةً، فشرْطُ حملها على السماع ثبوت المعاصَرَةِ، إلا مِن المَدّلِّس فإنها ليست محمولةً على السماع. وقيلَ: يُشْترط في حملِ عنعنةِ المعاصِرِ على السماع ثبوتُ لقائهما، أَيْ: الشيخ والراوي عنه، ولو مرةً واحدةً؛ لِيَحْصل الأمنُ مِن باقي مَعُنْعَنِهِ عن كونِهِ من المرسَل الخفيِّ، وهُو المُخْتارُ، تبعاً لعليِّ بنِ المَدينيِّ، والبُخَارِيّ، وغيرهما من النُّقَّاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 [ أحكام طرق التحمل والأداء ] وأَطْلَقُوا المشافهةَ في الإِجازَةِ المتلفَّظ بِها تجوُّزاً، وَكذا الْمُكاتَبَةُ في الإِجازَةِ المكتوبُ بِها: وهُو موجودٌ في عبارةِ كثيرٍ مِن المُتأَخِّرينَ، بخلافِ المتقدمين؛ فإنهم إنما يطلقونها فيما كَتب بهِ الشَّيخُ مِن الحديثِ إِلى الطَّالبِ، سواءٌ أَذِن لهُ في رِوايتِه أَم لا، لا فيما إذا كَتَب إليه بالإجازة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 [ شرط الرواية بالمناولة ] واشْتَرَطُوا في صِحَّةِ الرِّوايةِ بالمُناوَلَةِ اقترانَها بالإِذْنِ بالرِّوايةِ، وهِيَ إذا حَصَل هذا الشَّرطُ أرفعُ أنواعِ الإِجازَةِ؛ لِما فيها مِن التَّعيينِ والتَّشخيصِ. وصُوْرَتُها: أَنْ يَدفع الشيخُ أصلَهُ، أَو ما قامَ مقامَهُ للطَّالِبِ، أَو: يُحْضِر الطالبُ الأصلَ للشيخ، ويقول له في الصورتين: هذا روايتي عن فلان فارْوِهِ عَنِّي، وشرْطه، أَيضاً، أَنْ يُمَكِّنَهُ منهُ: إِمَّا بالتَّمليكِ، وإِمَّا بالعاريَّةِ؛ لِيَنْقُلَ منهُ ويقابلَ عليهِ، وإِلاَّ إنْ ناولَهُ واستردَّ في الحال فلا يتبين لها زيادةُ مزيةٍ على الإِجازةِ المعَيَّنة، وهيَ: أن يُجِيزه الشيخُ بروايةِ كتابٍ معَيَّنٍ ويُعَيِّن لهُ كيفيَّةَ روايتِهِ لهُ. وإِذا خَلَت المُناولَةُ عن الإِذنِ لم يُعْتَبَرْ بها عندَ الجُمهورِ، وجَنَح مَن اعْتَبَرَها إِلى أنَّ مُناولَتَهُ إِيَّاهُ تقومُ مقامَ إرسالِهِ إليهِ بالكتابِ مِن بلدٍ إلى بلد. وقد ذهب إلى صحةِ الرواية بالكتابة المجرَّدةِ جماعةٌ مِن الأئمة، ولو لم يُقْرَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ذلك بالإِذنِ بالرِّوايةِ، كأَنَّهُم اكْتَفَوْا في ذلك بالقرينةِ، ولمْ يَظْهر لي فرقٌ قويٌّ بينَ مناولةِ الشيخ مِن يده للطالب، وبينَ إِرسالِهِ إِليهِ بالكتابِ مِن موضعٍ إِلى آخَرَ، إِذا خَلا كلٌّ منهُما عن الإِذنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 [شرط الوِجَادة والوصيّة بالكتاب والإعلام] وكَذا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الوِجَادة: وهي: أَنْ يَجِدَ بخطٍّ يعْرِفُ كاتِبَهُ فيقولُ: وجَدْتُ بخطِّ فلانٍ، ولا يَسُوغُ فيهِ إِطلاقُ أَخْبَرَني بمجرَّدِ ذلك، إِلاَّ إِنْ كانَ لهُ مِنه إذْنٌ بالرواية عنه، وأَطْلَقَ قومٌ ذلك فَغُلِّطوا. وكذا الوصية بالكتاب: وهو: أن يوصي عندَ موتِه، أَو سفرِهِ، لشخصٍ مُعَيَّنٍ، بأَصلِه، أَو بأُصولِهِ، فقد قالَ قومٌ مِن الأئمَّةِ المتقدمين: يجوز له أَنْ يروِيَ تلكَ الأصولَ عنهُ بمجرَّدِ هذه الوصيَّةِ، وأَبَى ذلك الجُمهورُ، إِلاَّ إنْ كانَ له منه إجازةٌ. وكذا اشترطوا الإذن بالرواية في الإِعْلامِ: وهُو: أَنْ يُعْلِمَ الشيخُ أحدَ الطَّلبةِ بأَنَّني أَروي الكِتابَ الفُلانيَّ عن فُلانٍ، فإِنْ كانَ لهُ منهُ إجازةٌ اعْتُبِرَ، وإِلاَّ فلا عِبْرَةَ بذلك. كالإِجَازَةِ العَامَّةِ في الْمُجَازِ لهُ، لا في المُجازِ بهِ، كأَنْ يقولَ: أجزت لجَميعِ المُسلمينَ، أَو لِمَن أَدرك حَياتِي، أَو لأهل الإقليم الفلاني، أو لأهل البلد الفُلانيَّةِ، وهُو أَقربُ إِلى الصِّحَّةِ؛ لقُرْبِ الانحصارِ. وكذا الإِجازةُ للمَجْهُولِ، كأَنْ يَكونَ مُبْهَماً أَوْ مُهْمَلاً. وكذا الإِجازةُ للمَعْدومِ كأنْ يقولَ: أجَزْتُ لِمَنْ سَيولَدُ لفلان، وقد قيل: إنْ عَطَفَه على موجودٍ صحّ، وكأنْ يقول: أجزت لك ولِمَن سيولد لك، وقد قيل: الأقرب عدمُ الصحة، أيضاً، وكذلك الإِجازةُ لموجودٍ، أَو معدومٍ، عُلِّقَتْ بشرطِ مشيئةِ الغيرِ، كأنْ يقولَ: أجزتُ لكَ إِنْ شاءَ فلانٌ، أَو أجزتُ لِمَن شاءَ فُلانٌ، لا أَنْ يقولَ: أَجزْتُ لك إِنْ شئْتَ. وهذا في الأصح في جميع ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقد جَوَّز الرِّوايةَ بجَميعِ ذلك -سِوى المَجْهولِ، ما لم يَتَبَيَّنِ المُرادُ منهُ- الخطيبُ، وحَكاهُ عن جماعةٍ مِن مشايخِهِ، واستعمَلَ الإجازةَ للمَعدومِ مِن القُدماءِ أَبو بكرِ بنُ أَبي دَاودَ، وأبو عبدِ اللهِ بنُ مَنْدَه، واستَعْمَلَ المعلَّقةَ منهُم، أَيضاً، أَبو بكرِ بنُ أَبي خَيْثَمَة، ورَوى بالإجازة العامَّةِ جَمْعٌ كَثيرٌ جَمَعَهُمْ بعضُ الحُفّاظ في كتَاب، ورتَّبهم على حُروف المعجَمِ لكَثْرَتِهم. وكلُّ ذلك، كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ، توسُّعٌ غيرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ الإِجازةَ الخاصَّةَ المُعَيَّنَةَ مُخْتَلَفٌ في صحَّتِها اختِلافاً قويّاً عندَ القُدماءِ، وإِنْ كانَ العملُ استقرَّ على اعْتبارِها عندَ المتأَخِّرينَ، فهِيَ دونَ السماع بالاتِّفاقِ، فكيفَ إِذا حَصَل فيها الاسترسالُ المَذكورُ! فإِنَّها تَزدادُ ضَعفاً، لكنَّها، في الجُملةِ، خيرٌ مِن إِيرادِ الحَديثِ مُعْضَلاً. واللهُ تعالى أَعلمُ. وإلى هُنا انْتَهى الكلامُ في أَقسامِ صِيَغِ الأداءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 [المُتَّفِقُ والمُفْتَرِقُ] ثمَّ الرُّواةُ: 1- إِنِ اتفقتْ أَسماؤهم وأَسْماءُ آبائِهِمْ فَصاعِداً، واختلفتْ أَشْخَاصُهُمْ، سواءٌ اتَّفَقَ في ذلك اثنان منهم أو أكثر، وكذلك إذا اتفق اثْنانِ فصاعِداً في الكُنيةِ والنِّسبةِ = فهُو النَّوعُ الذي يُقالُ لهُ: المُتَّفِقُ والْمُفْتَرِقُ. وفائدةُ معرفَتِه: خشيةُ أَنْ يُظَنَّ الشخصانِ شَخْصاً واحِداً، وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً حافِلاً، وقد لَخَّصتُه وزدتُ عليه شيئاً كثيراً. وهذا عَكسُ ما تقدَّمَ مِن النَّوعِ المسمَّى بالمُهْمَلِ؛ لأنَّهُ يُخشى منهُ أَن يُظَنَّ الواحِدُ اثنَيْنِ، وهذا يُخشى منهُ أَنْ يُظَنَّ الاثنانِ واحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 [المُؤتَلِفُ والمُخْتَلِفُ] 2- وإِنِ اتَّفَقَتِ الأَسْماءُ خَطّاً واخْتَلَفَتْ نُطْقاً سواءٌ كان مرجع الاختلاف النَّقْط أم الشَّكْل فهُو الْمُؤْتَلِفُ والْمُخْتَلِفُ. ومعرِفَتُه مِن مهمَّات هذا الفنِّ حتَّى قالَ عليُّ بنُ المَدينيِّ: أشدُّ التَّصحيفِ ما يقعُ في الأسماءِ. ووجَّهَهُ بعضُهم بأنه شيء لا يَدْخله القياسُ، ولا قَبْله شيءٌ يَدُلُّ عليهِ، ولا بَعْدَهُ، وقد صَنَّفَ فيهِ أَبو أَحمدَ العسكريُّ، لكنَّه، أضافه إلى كتابِ التَّصحيفِ له، ثمَّ أَفرَدَهُ بالتَّأْليفِ عبدُ الغنيِّ بن سعيد فَجَمع فيه كتابين: كتاب في مُشْتَبَهِ الأسماء، وكتاب في مُشْتَبَهِ النِّسبةِ، وجَمَع شيخُهُ الدَّارقطنيُّ في ذلك كتاباً حافلاً ثم جَمَع الخَطيبُ ذَيلاً. ثمَّ جَمَع الجميعَ أَبو نصر بن ماكولا في كتابه "الإكمال"، واسْتَدْرَكَ عليهِم في كتابٍ آخرَ جَمَع فيهِ أَوهامَهُمْ وبَيَّنها، وكتابُه مِنْ أجمعِ ما جُمِعَ في ذلك، وهُو عمدُة كلِّ محدِّثٍ بعدَه. وقد استَدْرَكَ عليهِ أَبو بكرٍ بنُ نقطةَ ما فاتَه، أو تَجدَّد بعدَه في مجلدٍ ضَخْمٍ، ثمَّ ذَيّل عليهِ منصورُ بنُ سَليم -بفتحِ السَّينِ- في مجلدٍ لطيفٍ، وكذلك، أَبو حامد بن الصَّابونيِّ، وجَمَع الذهبيُّ في ذلكَ كِتاباً مختصَراً جِدّاً اعتَمَدَ فيهِ على الضَّبْطِ بالقَلَمِ؛ فَكَثُرَ فيهِ الغَلَطُ والتَّصحيفُ الْمُبَايِنُ لموضوعِ الكِتابِ. وقد يَسَّر الله تعالى بتوضيحه في كتاب سَمَّيتُه "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه"، وهو مجلدٌ واحدٌ؛ فضبطتُه بالحُروفِ على الطَّريقةِ المرْضِيَّة، وزدتُ عليهِ شيئاً كثيراً ممَّا أَهْمَلَهُ، أَو لَمْ يَقِفْ عليهِ، وللهِ الحمدُ على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 شُيوخِ البُخَارِيّ = فهُو النَّوعُ الَّذي يُقالُ لهُ: المُتشابِهُ. وكَذا إنْ وَقَعَ ذلك الاتِّفَاقُ في الاسمِ واسمِ الأبِ، والاختلافُ في النِّسبَةِ، وقد صَنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً جَليلاً سَمَّاهُ "تَلخيصَ المتشابه" ثم ذيّل عليهِ أَيضاً بما فاته أَوَّلاً وهُو كثيرُ الفائدةِ. ويَتَرَكَّبُ مِنْهُ ومِمَّا قَبْلَهُ أَنْواعٌ: مِنها: أَنْ يَحْصل الاتِّفاقُ أو الاشتِباهُ في الاسمِ واسمِ الأبِ، مثلاً، إلاَّ في حرفٍ أَو حَرْفَيْنِ، فأكثرَ، مِن أَحدِهِما، أو مِنهُما. وهُو على قسمين: أ- إما بأن يكونَ الاخْتِلافُ بالتَّغييرِ، معَ أَنَّ عدَدَ الحُروفِ ثابتةٌ في الجهتين. ب- أو يكون الاختلاف بالتغيير مع نقصانِ بعضِ الأسماءِ عن بعضٍ. فَمِن أَمثِلَةِ الأول: محمد بن سِنان -بكسر المُهمَلَةِ ونونينِ بينَهُما أَلِفٌ- وهُمْ جماعةٌ، منهُم العَوَقِيّ -بفتح العين والواو ثم القافِ- شيخُ البُخَارِيّ، ومحمَّدُ بنُ سَيَّار -بفتحِ المهملة وتشديد الياء التحتانية وبعد الألف راء- وهُمْ أيضاً جماعةٌ، منهم: اليماني شيخُ عُمرَ بنِ يونُسَ. ومنها: محمَّدُ بنُ حُنَين -بضم المُهمَلَةِ ونونينِ الأولى مفتوحةٌ بينَهما ياءٌ تحتانيَّةٌ- تابعيٌّ يَروي عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه، ومحمَّدُ بنُ جُبَيْر -بالجيم بعدها موحدة وآخره راء- وهو محمد بن جُبَيْر من مُطْعِم، تابعيٌّ مشهورٌ، أَيضاً. ومِن ذلك: مُعَرِّف بنُ واصِلٍ كوفِيٌّ مشهورٌ، ومُطَرِّفُ بنُ واصِلٍ -بالطَّاءِ بدلَ العينِ- شيخٌ آخرُ يروي عنهُ أَبو حُذيفَةَ النَّهْدِي. ومنهُ، أَيضاً: أَحمدُ بنُ الحسين صاحب إبراهيم بن سعد، وآخرون، وأَحْيَدُ ابن الحُسينِ، مثلُهُ، لكِنْ، بدلَ الميمِ ياءٌ تحتانيَّةٌ، وهو شيخٌ بخاريٌّ يروي عنهُ عبدُ اللهِ بن محمد البِيكَنْدِي. ومِن ذلك، أَيضاً: حفْصُ بنُ مَيْسَرَةَ، شيخٌ مشهور من طبقة مالك، وجعفر ابن مَيْسَرَةَ شيخٌ لعُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوسى الكُوفيِّ، الأوَّلُ بالحاءِ المُهْمَلَةِ والفاءِ بعدَها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 صاد مهملة، والثاني بالجيم والعين المُهْمَلَةِ بعدَها فاءٌ ثمَّ راءٌ. ومِن أَمثلَةِ الثاني: عبد الله بن زيد، وهُم جماعةٌ: منهُم في الصَّحابةِ: - صاحِبُ الأذانِ، واسمُ جدِّهِ عبدُ ربِّهِ. - وراوِي حديثِ الوُضوءِ، واسمُ جده عاصم. وهما أَنصاريَّانِ. وعبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ، بزيادةِ ياءٍ في أَوَّلِ اسمِ الأبِ والزَّايُ مكسورةٌ، وهُم أيضاً جَماعةٌ: منهُم في الصَّحابةِ: -الخَطْمِي يُكْنَى أبا موسى وحديثه في الصحيحين. - والقارئ، له ذكْرٌ في حديث عائشة. وقد زعَمَ بعضُهم أَنَّه الخطْمِيُّ. وفيهِ نظرٌ. ومنها: عبد الله بن يحيى، وهم جماعةٌ، وعبد اللهِ بنُ نُجَيّ -بضمِّ النُّونِ وفتحِ الجيمِ وتشديدِ الياءِ- تابعيٌّ معروفٌ يَرْوِي عن عليٍّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 [المتشابه من الرُّواة] 3- وإن اتفقت الأسماء: خَطّاً ونُطْقاً، واختلف الآباء نُطْقاً، مع اختلافهما خَطّاً: كمحمَّدِ بنِ عَقيل -بفتحِ العينِ- ومحمَّدِ بن عُقَيْل -بضمها-: الأول نيسابوريٌّ، والثاني فِرْيابيّ، وهما مشهوران وطبقتُهُما متقاربة. أو بالعكس: كأنْ تختلف الأسماء: نُطْقاً، وتَأْتَلِف خَطّاً، وتتَّفقَ الآباءُ: خَطّاً ونُطْقاً: كشُرَيْح بنِ النُّعمانِ، وسُرَيْج بنِ النُّعمانِ، الأوَّلُ بالشِّينِ المُعجمةِ والحاءِ المُهملةِ وهو تابعيٌّ يروي عن علي رضي الله عنهُ، والثَّاني بالسِّينِ المُهمَلَةِ والجيمِ وهُو مِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 [ المتشابه والمقلوب ] 4- أَوْ يَحْصُلُ الاتفاقُ في الخَطِّ والنُّطْقِ، لكنْ، يحصل الاختلاف أو الاشتباه بالتقديم والتَّأْخيرِ: إِمَّا في الاسمينَ جُملةً، أَو نَحْوَ ذلكَ، كأَنْ يقَعَ التقديمُ والتأخيرُ في الاسمِ الواحِدِ في بعضِ حُروفِهِ بالنِّسبةِ إِلى ما يشتَبِهُ بهِ. مثالُ الأوَّلِ: الأسودُ بنُ يزيدَ، ويزيدُ بنُ الأسوَدِ وهُو ظاهِرٌ، ومنهُ عبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ. ومثالُ الثَّانِي: أَيُّوبُ بنُ سَيّار، وأَيُّوبُ بنُ يَسار، الأوَّلُ مدَنيُّ مشهورٌ ليسَ بالقويِّ، والآخَرُ مجهول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 خاتِمَةٌ ومِن المهم عند المحدثين معرفةُ طبقاتِ الرواة. [ طبقات الرواة ] وفائدته: الأمْنُ مِن تَداخُلِ المُشتَبِهينَ. وإِمكانُ الاطِّلاعِ على تبيين المدلِّسين. والوقوفُ على حَقيقةِ المُرادِ مِن العَنْعَنَةِ. والطَّبَقَةُ في اصْطِلاحِهِم: عبارةٌ عنْ جماعةٍ اشْتَركوا في السِّنِّ ولقاءِ المشايخِ. وقد يكونُ الشَّخصُ الواحِدُ مِن طبَقَتَيْنِ باعْتِبارينِ، كأَنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه، فإنه من حيثُ ثبوتُ صحبتِهِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُعَدُّ في طبقةِ العشرةِ، مثلاً، ومِن حيثُ صِغَرُ السِّنِّ يُعَدُّ في طبقةٍ بعدَهُم، فمَنْ نَظَرَ إِلى الصَّحابةِ باعْتِبارِ الصُّحبَةِ جَعَلَ الجميعَ طبقةً واحِدَةً، كما صَنَعَ ابنُ حِبّان، وغيرُه، ومَنْ نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ قدرٍ زائدٍ، كالسَّبْقِ إِلى الإِسلامِ، أَو شهودِ المَشاهِدِ الفاضِلَةِ، جعَلهم طبقاتٍ، وإِلى ذلك جَنَح صاحِبُ الطَّبقاتِ أَبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ سعدٍ البَغداديُّ، وكتابُه أجمعُ ما جُمِعَ في ذلك. وكذلك مَن جاءَ بعدَ الصَّحابةِ، وهُم التَّابعونَ: مَن نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ الأخذِ عن بعضِ الصحابةِ = فقد جعَل الجميعَ طبقةً واحِدَةً، كما صَنَعَ ابنُ حبان، أيضاً، ومَن نَظر إِليهِم باعتبارِ اللِّقاءِ قسَّمهم، كما فعَلَ محمَّدُ بنُ سعدٍ، ولكلٍ منهُما وجْهٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 [ التاريخ ] ومِن المهم، أيضاً، معرفة مواليدهم، ووفياتهم. لأنَّ بمعرفتِها يَحْصل الأمْنُ مِنْ دَعوى المدِّعي لِلِقاءِ بعضِهِم، وهو في نفس الأمر ليس كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 [ أوطان الرواة ] وَمِن المُهمِّ، أَيضاً، معرفةُ بُلْدانهم وأَوطانِهم، وفائدتُهُ الأمنُ مِن تداخل الاسمين إذا اتَّفقا، لكن، افترقا بالنسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 معرفة الثقات والضعفاء أهميته ... [معرفة الثقات والضعفاء] ومِن المُهِمِّ، أَيضاً، معرفةُ أَحْوالِهِمْ: تَعْديلاً وتَجْريحاً، وجَهالةً؛ لأنَّ الرَّاويَ إِمَّا أَنْ تُعرَفَ عدالتُهُ، أو يُعرَفَ فِسْقُهُ، أوْ لا يُعرَف فيه شيءٌ مِن ذلك. ومِن أهم ذلك، بعدَ الاطِّلاعِ، معرفة ُ مراتبِ الجَرْحِ والتَّعديلِ. لأنَّهُم قد يَجْرحون الشخصَ بما لا يستَلْزِمُ رَدَّ حديثِه كلِّهِ، وقد بَيَّنَّا أسبابَ ذلك فيما مَضى، وحَصَرْناها في عشرةٍ، وتقدَّم شرحُها مُفَصَّلاً. والغرضُ هُنا ذِكْرُ الألفاظِ الدَّالَّةِ في اصطلاحهم على تلك المراتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 [ مراتب الجرح ] وللجرح مراتب: أسوأُها الوَصْفُ بما دلَّ على المُبالَغَةِ فيهِ، وأصرح ذلك التعبير بأَفْعَلَ، كأكذب النَّاسِ، وكذا قولُهم: إِليهِ المُنْتَهى في الوضعِ، أو رُكْن الكذبِ، ونحوُ ذلك. ثمَّ: دجَّالٌ، أو وَضّاع، أو كَذَّابٌ؛ لأنَّها وإِنْ كانَ فيها نوعُ مبالغةٍ، لكنها دون التي قبلها. وأَسْهَلُها، أَي: الألفاظِ الدَّالَّةِ على الجَرْح = قولُهم: فلانٌ لَيِّنٌ، أو سَيِّءُ الحفظ، أو: فيه أدنى مقالٍ. وبَيْنَ أسوأِ الجرح وأسهلِهِ مراتبُ لا تخفى. قولهم: متروكٌ، أو ساقطٌ، أَو فاحشُ الغلطِ، أَو منكرُ الحديثِ، أشدُّ مِن قولهم: ضعيفٌ، أَو ليسَ بالقويِّ، أَو فيهِ مقالٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 [ مراتب التعديل ] ومِن المهمِّ، أَيضاً: معرِفةُ مراتِبِ التَّعديلِ: وأَرْفَعُها الوَصْفُ، أَيضاً، بما دَلَّ على المُبالغةِ فيهِ، وأصْرَحُ ذلك: التعبيرُ بأفعلَ، كأوثقِ النَّاسِ، أَو أثبتِ النَّاس، أَو إِليهِ المُنْتَهى في الثبتِ. ثمَّ ما تَأَكَّدَ بصفةٍ مِن الصِّفاتِ الدَّالَّةِ على التعديل، أو وصفين: كثقةٍ ثقةٍ، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ثبتٍ ثبتٍ، أَوْ ثقةٍ حافظٍ، أَو عدلٍ ضابطٍ، أو نحو ذلك. وأدناها ما أَشْعَر بالقربِ من أسهل التجريح: كشيخٍ، وَيُرْوَى حديثه، ويُعْتَبَرْ بهِ، ونحوِ ذلك. وبَيْنَ ذلك مراتبُ لا تَخْفَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 [ أحكام الجرح والتعديل ] وهذه أحكامٌ تتعلق بذلك، ذُكِرَتْ ها هُنا لتكملةِ الفائدةِ، فأَقولُ: تُقبَل التزكيةُ مِن عارفٍ بأسبابها، لا مِن غير عارفٍ؛ لئلا يُزَكِّيَ بمجردِ ما ظهر له ابتداءً، مِن غير ممارسةٍ واختبارٍ، ولو كانت التزكية صادرةً من مُزَكٍّ واحدٍ، عَلى الأصَحِّ، خلافاً لِمَن شرَط أَنَّها لا تُقبَل إِلاَّ مِن اثْنَيْنِ؛ إِلْحاقاً لها بالشَّهادَةِ، في الأصحِّ، أَيضاً. والفَرْقُ بينَهُما: أَنَّ التزكيةَ تُنَزَّلُ منزلةَ الْحُكْم؛ فلا يُشتَرَط فيها العدد، والشهادةُ تقع مِن الشاهد عندَ الحاكِمِ؛ فافْتَرقا. ولَوْ قيلَ: يُفَصَّلُ بينَ ما إِذا كانتِ التَّزكيةُ في الرَّاوي مُستَنِدَةً مِن المزكِّي إِلى اجْتِهادِهِ، أَو إِلى النَّقْل عنْ غيرِه لكان مُتَّجِهاً؛ فإنه إنْ كان الأولَ، فلا يُشترط العَدَدُ أَصلاً؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ بمنزلةِ الحاكمِ، وإن كان الثانِيَ، فَيَجْرِي فيه الخلافُ. وتبيّنَ أنه، أيضاً، لا يُشترط العدد؛ لأنَّ أَصلَ النَّقلِ لا يُشترط فيهِ العددُ؛ فكذا ما تَفرَّع عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 [ليس كل جرح جارحٍ يُقْبَل] وينبغي أَنْ لا يُقْبل الجَرْحُ والتَّعْديلُ إِلاَّ مِن عدلٍ مُتَيَقِّظٍ؛ فلا يُقْبل جرحُ مَن أَفْرَطَ فيه؛ فَجَرَحَ بما لا يقتضي ردَّ حديث المحدِّث، كما لا تُقبل تزكيةُ مَن أَخذ بمجرَّدِ الظَّاهِرِ؛ فأَطلق التزكيةَ. وقال الذهبي -وهو مِن أَهْلِ الاستِقراءِ التَّامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ-: لمْ يَجتمع اثْنانِ مِن عُلماءِ هذا الشَّأنِ قطُّ على توثيقِ ضعيفٍ، ولا على تضعيفِ ثقةٍ انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يُترَكُ حديثُ الرجلِ حتَّى يجتمعَ الجميعُ على تَرْكِهِ. وَلْيَحْذَر المتكلمُ في هذا الفنِّ مِن التَّساهُلِ في الجَرْحِ والتَّعديلِ؛ فإِنَّهُ إنْ عدّلَ بغيرِ تثبتٍ كانَ كالمُثْبِتِ حُكْماً ليسَ بثابتٍ، فَيُخْشَى عليهِ أَنْ يَدْخل في زُمرةِ مَن روى حَديثاً وهُو يُظَن أَنَّهُ كَذِبٌ، وإِنْ جَرَحَ بغيرِ تحرزٍ أَقدَمَ على الطَّعنِ في مسلمٍ بريءٍ مِن ذلك، ووَسَمه بِمِيْسَمِ سوءٍ يَبْقى عليهِ عارُهُ أَبداً. والآفةُ تَدْخل في هذا تارةً مِن الهَوى والغرضِ الفاسدِ. وكلامُ المتقدِّمينَ سالِمٌ مِن هذا، غالباً. وتارةً مِن المخالفةِ في العَقائدِ، وهُو موجود كثيراً، قديماً وحَديثاً. ولا ينْبَغي إِطلاقُ الجَرْحِ بذلك، فقد قدَّمنا تحقيقَ الحالِ في العملِ بروايةِ المبتدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 [ تقديم الجرح على التعديل ] والجَرْحُ مقدَّمُ عَلى التَّعْديلِ، وأَطلقَ ذلك جماعةٌ، ولكنَّ، محلُّهُ إنْ صَدَرَ مُبَيَّناً مِن عارفٍ بأسبابه؛ لأنَّه إِنْ كانَ غيرَ مُفَسَّرٍ لم يَقدح فيمن ثبتت عدالتُهُ، وإنِ صدَرَ مِن غيرِ عارفٍ بالأسبابِ لم يُعتبر بهِ، أيضاً. فإنْ خَلا المَجْروحُ عَنِ تعديلٍ قُبِلَ الجرحُ فيهِ مُجمَلاً غيرَ مُبَيَّنِ السَّببِ، إذا صدَر مِن عارفٍ على المختار، لأنه إذا لم يكُنْ فيهِ تعديلٌ فهو في حَيِّزِ المَجهولِ، وإعمالُ قولِ المجرِّح أَوْلى مِن إِهمالِه. ومالَ ابنُ الصَّلاحِ في مثلِ هذا إلى التوقُّفِ فيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الأسماء والكنى أهميته ... فصل: [الأسماء والكنى] ومِن المُهِمَّ، في هذا الفنِّ: معرفُةُ كُنى المسمَّيْنَ ممَّن اشْتُهِرَ باسمِهِ ولهُ كُنيةٌ لا يُؤْمَن أن يأتي في بعض الروايات مَكْنِيّاً؛ لئلاَّ يُظَنَّ أَنّه آخَرُ. وَمعرفةُ أَسْمَاءِ المُكَنيّن، وهو عكس الذي قبله. وَمعرِفةُ مَن اسمُهُ كُنْيَتُهُ، وهُمْ قليلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وَمعرِفةُ مَن اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ، وهُمْ كثيرٌ. ومعرفةُ مَنْ كَثَُرتْ كُناه، كابنِ جُرَيْج، لهُ كُنيتانِ: أَبو الوليدِ، وأبو خالدٍ، أَوْ كثُرت نعوته وأَلقابُه. وَمعرِفةُ مَن وافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسمَ أَبيهِ، كأَبي إِسحاقَ إبراهيمَ بنِ إِسحاقَ المَدنيِّ، أَحدِ أَتْباعِ التابعين، وفائدةُ معرِفَتِه نَفْيُ الغَلَطِ عمَّن نَسَبَهُ إِلى أَبيهِ فقالَ: أَخبرنا ابنُ إِسحاقَ؛ فَنُسِبَ إِلى التصحيف، وأن الصواب: أنا أَبو إِسحاقَ. أَو بالعَكْسِ: كإِسحاقَ بنِ أَبي إسحاق السَّبِيعي. أَوْ وافقتْ كُنيتُهُ كنيةَ زَوْجَتِهِ، كأَبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ، وأُم أَيُّوبَ، صحابيَّانِ مشهورانِ. أَو وافقَ اسمُ شيخِهِ اسمَ أَبيِه، كالرَّبيعِ بنِ أَنسٍ، عن أَنسٍ، هكذا يأْتي في الرِّوايات فَيُظن أنه يروي عن أبيه، كما وقعَ في الصَّحيحِ عن عامرِ بنِ سعدٍ، عن سعدٍ، وهو أبوهُ، وليسَ أنسٌ -شيخُ الرَّبيعِ-والدَه، بل أَبوهُ بكريٌّ، وشيخُهُ أنصاريٌّ، وهو أنس بنُ مالكٍ الصَّحابيُّ المشهورُ، وليسَ الربيعُ المذكورُ مِن أولاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 [ المنسوبون لغير آبائهم ] وَمعرِفةُ مَنْ نُسِبَ إِلى غَيْرِ أَبيهِ: كالمِقدادِ بنِ الأسودِ نُسِبَ إلى الأسودِ الزُّهْرِيِّ لكونِه تبناه، وإنما هو المقداد ابن عمرو. أو إِلى أُمِّهِ، كابنِ عُلَيّة، هُو إِسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ مِقْسَمٍ، أحدُ الثِّقاتِ، وعُلَيَّةُ اسمُ أُمِّهِ، اشتُهِرَ بها، وكانَ لا يُحِبُّ أَنْ يُقالَ لهُ: ابنُ عُلَيَّة؛ ولهذا كانَ يَقولُ الشَّافِعيُّ: أَخْبَرَنا إِسْماعِيلُ الَّذي يُقالُ لَهُ: ابنُ عُلَيَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 [ نسب على خلاف ظاهرها ] أَوْ نُسِبَ إِلى غَيْرِ مَا يَسبق إِلى الفهم: كالحَذَّاء، ظاهرُهُ أَنّه منسوبٌ إِلى صِناعتها أو بَيْعِها، وليس كذلك، وإِنما كانَ يجالِسُهم؛ فَنُسِب إليهِم. وكسُليمانَ التَّيميِّ، لم يكنْ مِن بَني التيم، ولكنْ، نَزَل فيهِم. وكَذا مَن نُسِب إِلى جده؛ فلا يُؤْمَن التباسه، كَمَن وافق اسْمُهُ واسمُ أبيهِ اسمَ الجد المذكور. وَمعرِفةُ مَن اتَّفَقَ اسمُهُ، واسمُ أَبيهِ، وجَدِّهِ، كالحسنِ بنِ الحسنِ بنِ الحسنِ بنِ عليِّ بن أبي طالب، وقد يَقَعُ أكثرُ مِن ذلك. وهُو مِن فُروعِ المسَلسَل. وقد يتَّفِقُ الاسمُ واسمُ الأبِ مع الاسمِ واسمِ الأبِ فصاعداً، كأبي اليمن الكِنْدي هُو زيدُ بنُ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسن بن زيد بن الحسن. أو يتفق اسمُ الرَّاوي واسمُ شيخِهِ، وشَيْخِ شَيْخِهِ، فصاعِداً: كعمران عن عمران عن عمران، الأول: يُعْرف بالقَصِيرِ، والثَّاني: أبو رَجاءٍ العُطَارِديّ، والثَّالثُ: ابنُ حُصَين الصحابي، وكسُليمانَ عن سُليمانَ عن سُليمانَ، الأوَّلُ: ابنُ أحمدَ بنِ أيوبَ الطَّبرانيُّ، والثَّاني: ابنُ أَحمدَ الواسطيُّ، والثَّالثُ: ابنُ عبد الرحمنِ الدِّمشقيُّ المعروفُ بابنِ بنتِ شُرَحْبيل. وقد يقعُ ذلك للرَّاوي ولشيخه معاً، كأبي العلاء الهَمَدَاني العطّار، مشهور بالرِّوايةِ عن أَبي عليٍّ الأصبهانيِّ الحدَّادِ، وكلٌّ منهُما اسمُه الحسنُ بنُ أَحمدَ بنِ الحَسنِ بنِ أَحمدَ بن الحسن بن أحمد فاتَّفقا في ذلك، وافْتَرقا في الكُنيةِ والنِّسْبَةِ إِلى البلد والصناعة. وصَنَّفَ فيه أبو موسى المديني جزءاً حافلاً. وَمعرفةُ مَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ والرَّاوِي عَنْهُ، وهو نوعٌ لطيفٌ، لم يتعرَّضْ لهُ ابنُ الصَّلاحِ، وفائدتُه رَفْع اللَّبْسِ عمَّن يُظُنُّ أَنَّ فيهِ تَكراراً أو انقلاباً. فَمِن أَمثلتِه: البُخَارِيّ، روى عَن مُسْلمٍ وروى عنهُ مُسلمٌ، فشيخُهُ مسلمُ بن إبراهيم الفَرادِيسي البصري، والراوي عنه مسلم بن الحجَّاج القُشَيري صاحِبُ الصَّحيحِ. وكذا وقعَ ذلك لعَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ، أيضاً: روى عن مُسلمِ بنِ إبراهيم، وروى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 عنهُ مُسلمُ بنُ الحجَّاجِ في صحيحِه حديثاً بهذه التَّرجمةِ بعينها. ومنها: يحيى بنُ أَبي كَثيرٍ: روى عن هِشامٍ، وروى عنهُ هِشامٌ: فشيخُهُ هشام ابن عُروةَ، وهو مِنْ أَقرانِهِ، والرَّاوي عنهُ هِشامٌ بن أبي عبد الله الدستوائي. ومنها: ابنُ جُريْجٍ روى عن هشامٍ، وروى عنهُ هِشامٌ، فالأعْلى ابنُ عُروةَ، والأدْنى ابنُ يوسف الصنعاني. ومنها: الحَكَم بن عُتَيْبةَ يروي عن ابن أبي ليلى، وعنه ابنُ أبي لَيْلى، فالأعْلى عبدُ الرَّحمنِ، والأدْنى محمد بن عبد الرحمن المذكور، وأمثلته كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 [ الثقات والضعفاء ] وَمِن المهمِّ، في هذا الفنِّ: مَعْرِفَةِ الأَسْماءِ المجرَّدة، وقد جَمَعَها جماعةٌ مِن الأئمَّةِ. فمنهُم مَنْ جَمَعَها بغيرِ قيدٍ، كابنِ سعدٍ في الطبقات، وابن أبي خَيْثَمَةَ، والبُخَارِيّ في تاريخهما، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. ومنهم مَنْ أفرد الثقات، كالعِجْلي، وابنِ حِبَّانَ، وابنِ شاهينَ. ومنهُم مَنْ أَفْرَدَ المَجْروحينَ، كابنِ عَدِيّ، وابنِ حِبّانَ، أَيضاً. ومنهم مَنْ تَقَيَّدَ بكتابٍ مخصوصٍ، كرجالِ البُخَارِيّ، لأبي نصرٍ الكلاباذي، ورجالِ مسلم، لأبي بكرِ بنِ مَنْجَوَيْهِ، ورجالِهما معاً لأَبي الفضل ابن طاهر، ورجالِ أبي داودَ، لأبي عليٍّ الجِيَانيّ، وكذا رجالُ التِّرمذي، ورجالُ النِّسائي، لجماعةٍ مِن المَغاربةِ، ورجالِ السِّتَّةِ: الصَّحيحينِ، وأَبي داودَ، والتِّرمذيِّ، والنَّسائيِّ، وابنِ ماجة، لعبدِ الغنيِّ المقدِسيِّ في كتابِه "الكمالِ"، ثمَّ هذَّبه المِزِّيُّ في "تهذيبِ الكَمالِ"، وقد لَخّصتُه، وزِدتُ عليهِ أشياءَ كثيرةً وسمَّيْتُه "تهذيب التَّهذيب"، وجاءَ معَ ما اشتَمَلَ عليهِ مِن الزِّياداتِ، قَدْرَ ثلثِ الأصلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 [ الأسماء المفردة ] ومِن المُهمِّ، أَيضاً، معرِفةُ الأسماءِ المُفْرَدَةِ. وقد صَنَّفَ فيها الحافظُ أَبو بكرٍ أَحمدُ بنُ هارون البَرْديجي، فذكر أشياء تَعَقَّبُوا عليه بعضَها: مِن ذلك قولُه: صُغْدِيُّ بنُ سِنانٍ، أحدُ الضعفاء، وهو بضم المُهملةِ، وقد تُبْدَلُ سِيناً مُهملة، وسكونِ الغينِ المُعجمةِ بعدها دالٌ مهمَلة ثمَّ ياءٌ كياءِ النسب، وهو اسمُ عَلَمٍ بلفظِ النَّسبِ، وليسَ هُو فرداً؛ ففي "الجَرحِ والتَّعديلِ"، لابنِ أَبي حاتمٍ: صُغْدِي الكوفيُّ، وثَّقَهُ ابنُ مَعينٍ، وفرَّق بينَه وبينَ الَّذي قبلَه فضعفه، وفي تاريخِ العُقَيْلي: صُغْدِي بنُ عبدِ اللهِ يروي عن قَتادةَ: قال العُقيلي: حَديثُهُ غيرُ محفوظ. انتهى. وأَظنُّهُ هُو الَّذي ذكرَهُ ابنُ أَبي حاتمٍ، وأَمَّا كونُ العُقَيْليِّ ذكرَه في "الضُّعفاءِ" فإِنَّما هُو للحديثِ الذي ذكَرَهُ، وليستِ الآفةُ منهُ، بل هِيَ مِن الرَّاوي عنهُ: عَنْبَسَةُ بنُ عبدِ الرحمن. والله أعلم. ومِن ذلك: سَنْدَر -بالمهملة والنون- بوزن جَعْفَر، وهو مولى زِنْباع الجُذَاميّ، له صحبة ورواية، والمشهور أَنَّه يُكْنَى أَبا عبدِ اللهِ، وهُو اسمُ فردٍ لم يَتَسَمَّ بهِ غيرُهُ، فيما نعلمُ. لكنْ ذَكَر أَبو موسى، في "الذَّيْلِ على معرفةِ الصَّحابةِ"، لابنِ منده: سَنْدَر أَبو الأسودِ، وروى لهُ حديثاً، وتُعُقِّب عليهِ ذلك، فإِنَّه هُو الذي ذكَرَهُ ابنُ منده، وقد ذَكَرَ الحديثَ المذكورَ محمدُ ابن الربيع الجيزيّ، في "تاريخِ الصَّحابةِ الَّذين نَزلوا مِصرَ"، في ترجمةِ سَنْدَرٍ مولى زِنْباع، وقد حَرَّرْتُ ذلك في كتابي في الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 [ الألقاب ] وكذا معرفة الكنى المجردة والألقاب وهي تارةً تكون بلفظِ الاسم، وتارةً تكون بلفظ الكُنْية، وتقع نسبةً إلى عاهةٍ أو حِرْفَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 [ الأنساب ] وكذا الأنساب وهي تارةً تقع إلى القبائل، وهو في المتقدمين أكثريٌّ، بالنسبة إلى المتأَخِّرينَ، وَتارةً إِلى الأوْطانِ، وهذا في المتأَخِّرينَ أكثريٌّ، بالنِّسبةِ إِلى المتقدِّمين، والنِّسبةُ إِلى الوطنِ أعمُّ مِن أن تكون بلاداً أو ضِياعاً أو سِكَكاً أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مجاوَرَةً، وتقع إِلى الصَّنائعِ، كالخَيَّاطِ، والحِرَفِ كالبَزَّازِ. ويقع فيه الاتِّفاقُ والاشتباهُ كالأسماءِ. وقد تَقعُ الأنْسابُ أَلقاباً، كخالِدِ بنِ مَخلَدٍ القَطَوَانيِّ، كانَ كوفيّاً ويُلَقَّبُ القَطَوانيِّ، وكان يَغضب منها. ومِن المُهمِّ، أَيضاً، معرفةُ أسباب ذلك، أَيْ: الألقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 [ الموالي ] ومعرفة الموالي مِن أعلى أو أسفل، بالرِّق وبالحِلْفِ، أو بالإِسلامِ؛ لأنَّ كلَّ ذلك يُطلَق عليهِ مَوْلَى، ولا يُعرَف تمييزُ ذلك إِلاَّ بالتَّنْصيصِ عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 [ الأخوة ] ومعرفةُ الإخوةِ والأخواتِ: وقد صَنَّفَ فيهِ القُدماءُ، كعليِّ بنِ المديني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 [ آداب الشيخ والطالب ] ومِن المهمِّ، أَيضاً، معرفةُ آدابِ الشَّيْخِ والطَّالِبِ. ويشتركان في تصحيح النية، والتّطهر مِن أَعراضِ الدُّنْيا، وتَحسينِ الخُلُقِ. وينفَرِدُ الشَّيخُ بأَنْ يُسْمِع إِذا احْتِيج إِليهِ، ولا يحدِّثَ ببلدٍ فيه أَوْلى منهُ، بل يُرْشِد إِليهِ، ولا يَتْرُك إسماعَ أحدٍ لنيةٍ فاسدةٍ، وأَنْ يتطهرَ ويجلسَ بوقارٍ، ولا يُحَدِّث قائماً، ولا عَجِلاً، ولا في الطَّريقِ إِلاَّ إِنِ اضطُرَّ إِلى ذلك، وأن يُمْسِكَ عنِ التَّحديثِ إِذا خَشِيَ التَّغَيُّرَ، أَو النسيان؛ لِمَرَضٍ أو هَرَمٍ. وإِذا اتَّخَذَ مجلسَ الإملاءِ أَنْ يكونَ لهُ مُسْتَمْلٍ يَقِظٍ. وينفرد الطالب بأَنْ يُوَقِّر الشيخَ، ولا يُضْجِرَه، ويُرشدُ غَيْرَهُ لِمَا سَمِعَهُ، ولا يَدَع الاستفادَةَ لحياءٍ أَو تَكَبُّرٍ، ويَكتبُ ما سمِعَهُ تامّاً، ويُعْتَنِي بالتَّقييدِ والضبط، ويُذَاكِر بمحفوظِهِ؛ لِيَرْسَخَ في ذهنه. ومِن المهم: معرِفةُ سِنِّ التحمُّل والأداءِ. والأصحُّ اعتبارُ سِنِّ التحمُّل بالتَّمييزِ، هذا في السَّماعِ، وقد جَرَتْ عادة المحدثين بإحضارهم الأطفالَ مجالسَ الحديث، ويكتبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 لهم أنهم حضروا، ولابد في مثلِ ذلك مِن إجازةِ الْمُسْمِع. والأصحُّ في سن الطلب بنفسه أن يتأهل لذلك. ويَصِحُّ تحمُّلُ الكافِرِ، أَيضاً، إِذا أَدّاه بعدَ إسلامه، وكذا الفاسق مِن باب الأَوْلى، إِذا أَدَّاهُ بعدَ توبتِه وثبوتِ عدالَتِه. وأَمَّا الأداءُ: فقد تَقدم أَنَّه لا اختصاصَ له بزمنٍ معَيَّنٍ، بل يُقيَّد بالاحتياجِ والتأَهُّلِ لذلك، وهُو مختلِفٌ باخْتِلافِ الأشخاصِ. وقالَ ابنُ خُلاَّدٍ: إِذا بلَغَ الخَمسينَ، ولا يُنْكَر عندَ الأربعينَ، وتُعُقِّبَ بِمَن حدَّث قبلها، كمالكٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 كتابة الحديث صفة كتابة الحديث ... [كتابة الحديث] ومِن المهمِّ: معرفةُ صفةِ كتابةِ الحديثِ: وهو أَنْ يكتُبَهُ مُبَيَّناً مفسَّراً، ويَشْكُلَ الْمُشْكِلَ منهُ ويَنْقُطَهُ، ويكتبَ الساقطَ في الحاشيةِ اليُمنى، ما دامَ في السَّطرِ بقيَّةٌ، وإِلاَّ ففي اليُسرى. وصفةِ عَرْضِه وهُو مُقابَلتُهُ معَ الشَّيخِ المسمِع، أَو معَ ثقةٍ غيرِه، أَو معَ نفسِه شيئاً فشيئاً. وصفةِ سَمَاعِهِ بأن لا يتشاغلُ بما يُخِلُّ به: مِن نَسْخٍ أو حديثٍ أو نُعاسٍ. وصفةِ إسماعه، كذلك، وأن يكون ذلك مِن أصله الذي سَمِع فيه، أَو مِن فرعٍ قُوبِلَ على أَصلِه، فإنْ تعذَّر فَلْيَجْبُرْه بالإِجازةِ لِما خالَفَ، إِنْ خالَفَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الرحلة للحديث صفة الرحلة ... [الرحلة للحديث] وصفةِ الرِّحْلةِ فيهِ، حيثُ يَبْتَدِئُ بحديثِ أَهلِ بلدِهِ، فيستوْعِبُهُ، ثمَّ يرحلُ، فيحصِّل في الرِّحلةِ ما ليس عنده، ويكون اعتناؤه بتكثيرِ المَسموعِ أَوْلى مِن اعتنائِهِ بتكثيرِ الشُّيوخِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 و صفةِ تصنيفه. وذلك: إما على المسانيد بأن يَجْمع مسندَ كلِّ صحابيٍّ على حِدَةٍ، فإنْ شاءَ رتَّبه على سوابِقِهِم، وإِنْ شاءَ رتَّبه على حُروفِ المُعْجَمِ، وهو أَسهَلُ تناوُلاً. أَوْ تصنيفِه على الأبواب الفِقهيَّةِ، أَو غيرِها، بأَنْ يَجْمع في كلِّ بابٍ ما ورَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فيهِ ممَّا يدلُّ على حُكمِه، إِثْباتاً أَو نفياً، والأَوْلى أن يَقْصُرَ على ما صَحَّ أَو حَسُنَ، فإنْ جَمع الجميعَ فَلْيُبَيِّنْ عِلَّةَ الضعيف. أَوْ تصنيفِه على العِلَلِ، فَيَذْكر المتنَ وطُرُقَهُ، وبيانَ اختلافِ نَقَلَتِه، والأَحسنُ أنْ يُرَتِّبها على الأبوابِ؛ لِيَسْهل تناوُلُها. أَوْ يجمَعُهُ على الأطْرافِ، فَيَذْكُر طرفَ الحديثِ الدَّالَّ على بقيَّتِه، ويجْمَعُ أَسانيدَه، إِمَّا مستوعِباً، وإِمَّا متقيِّداً بكُتُبٍ مخصوصةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 [ أسباب الحديث ] ومِن المهم: معرفةُ سببِ الحديثِ. وقَدْ صَنَّفَ فيهِ بَعْضُ شُيوخِ القَاضي أَبي يَعْلى بنِ الفَرَّاءِ الحنبليِّ، وهو أبو حفص العُكْبُري. قد ذَكر الشيخ تقيّ الدِّين ابن دَقيقِ العيدِ أَنَّ بعضَ أَهلِ عصرِه شرعَ في جمع ذلك، وكأنه ما رأى تصنيفَ العُكْبري المذكور. وصَنَّفوا في غالبِ هذهِ الأنْواعِ، على ما أَشَرْنا إِليهِ غالباً، وهي أَيْ: هذه الأنواع المذكورة في هذه الخاتمة نقْلٌ مَحْضٌ، ظاهرةُ التَّعْريفِ، مستغنيةٌ عنِ التَّمْثيلِ، وحصْرها متعسِّرٌ، فَلْتُراجَع لَها مَبْسوطاتُها؛ لِيَحْصُل الوقوفُ على حقائقها. والله الموفق والهادي، لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أُنيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الباب الثالث: مواضع الاستدراكات على "نزهة النظر" وبعض التوضيحات مواضع الاستدراكات على "نزهة النظر" ... مواضع الاستدراكات على "نزهة النظر" وبعض التوضيحات لقد كانت هناك تعليقات علَّقتُها على مواضع مختلفة مِن النزهة، بعضها كان استدراكاً على بعض الآراء للحافظ ابن حجر، وترجيحاً لغير ما رآه أو رجَّحه، وبعضها كان توضيحاً لبعض الألفاظ والمصطلحات؛ ونظراً لأهمية بعض ذلك رأيت أنْ أَذكرها هنا في بيانٍ؛ للرجوع إليها، أو تتبُّعِها، وها هي-دون استقصاءٍ لها-: الاستدراك أو التوضيح ... الصفحة قوله: "الجامع لآداب الشيخ والسامع" ... 32 قوله: "وما تخلَّفتْ إِفَادَةُ العِلْمِ عنهُ كانَ مَشْهوراً فقط" ... 39-41 قوله: "وهو المفيد للعلم اليقيني" ... 41 قوله: "أَنْ لا يَرْويَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عنِ اثنين" ... 5-51 قوله: "على ما سنقسم إليه الغريب المطلق والغريب النسبي" ... 54 قوله: "ما يفيد العلم النظري بالقرائن" ... 58 قوله: "والخلاف في التحقيق لفظيٌّ" ... 59 قوله: "ومَنْ أَبى الإِطلاقَ خَصَّ لَفْظ العِلْمِ بالمُتواتِرِ" ... 59 قوله: "لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلمَ بصدقهما" ... 61 قوله: "كأَنْ يَرْوِيَه عَنِ الصَّحابيِّ أَكثَرُ مِنْ واحِدٍ، ينفرد بروايته عن واحد منهم شخصٌ واحد" ... 64-65 قوله: "ما يُخالِفُ فيهِ الرَّاوي مَن هُو أَرْجَحُ منه" ... 70 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 قوله: "وهذا أَصلٌ لا يُخرج عنهُ إِلاَّ بدليلٍ" ... 76 قوله: "مَن فيه مقال" ... 77-78 قوله: "حديث المستور إذا تعددت طرقُه" ... 78 قوله: "أن الشاذ رواية ثقةٍ أو صدوقٍ" ... 87 قوله في المتابعة: "ويُستفاد منها التقوية" ... 87-88 قوله: "وجميع ما تقدم من أقسام المقبولِ تَحْصُلُ فائدةُ تقسيمِهِ باعتبارِ مراتبه عند المعارضة" ... 91 عدة استدراكات على الكلام على حديث لا عدوى ولا طِيَرة، وحديث فرّ من المجذوم فرارك من الأسد ... 92-94 قوله: "فإنْ عُرِفَ وثَبَتَ المُتَأَخِّرُ -بهِ، أَو بأَصرحَ منه- فهو الناسخ، والآخَرُ المنسوخ" ... 95 قوله: "ومَا أَتى فيهِ بغيرِ الجَزْمِ ففيهِ مقالٌ" ... 100 قوله: "وكَذا المرسَلُ الخَفِيُّ، إِذا صَدَرَ مِنْ معاصرٍ" ... 104 قوله: "والحُكْمُ عليهِ بالوَضْعِ إِنَّما هُو بطريقِ الظنِّ الغالبِ، لا بالقطْع" ... 107-108 قوله في حديث: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بحديثٍ يُرَى أَنَّهُ كذِبٌ ... : أخرجه مسلم" ... 112 قوله: "وقد تَقْصُرُ عبارةُ المعلِّلِ عَن إقامةِ الحجةِ على دَعْواهُ، كالصَّيْرَفيِّ في نَقْد الدِّينارِ والدِّرهَمِ" ... 114 قوله: "وما قاله مُتَّجِهٌ؛ لأنَّ العلةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ واردةٌ فيما إذا كان ظاهرُ المرويِّ يوافِق مذهبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً" ... 128 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قوله: "ومتى تُوبعَ السيءُ الحفظ بمُعْتَبَرٍ ... " ... 129 قوله: "ومثال المرفوع مِن القول، حكماً لا تصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ -الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإسرائيليات- ما لا مجال للاجتهاد فيه" ... 132-134 قوله: "فجوابُهُ: إِنَّهُم تَرَكوا الجَزْمَ بذلك تورُّعاً واحتِياطاً" ... 137 قوله: "ومن ذلك أن يحكم الصحابي على فِعلٍ مِن الأفعالِ بأَنَّه طاعةٌ للهِ ... فهذا حكمه الرفع" ... 138-139 قوله: "لأن الظاهر أن ذلك مما تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم" ... 139 قوله: "أو في حال الطفولية" ... 142 قوله: "وقد اسْتَشْكل هذا الأخيرَ جماعةٌ مِن حيثُ إِنَّ دعواهُ ذلك نظيرُ دَعْوى مَن قالَ: أنا عدْلٌ، ويَحْتاج إلى تأمُّلٍ" ... 143 قوله: "خلافاً لِمَن اشْتَرَطَ في التَّابعيِّ طولَ المُلازمةِ، أو صحةَ السماعِ أو التمييز" ... 143-144 قوله: "فيَنْبَغِي أنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مُؤمِناً بهِ في حياتِه إِذْ ذاكَ، وإنْ لمْ يُلاقِهِ، في الصحابة، لحصول الرؤية في حياته صلى الله عليه وسلم" ... 144 قوله: "وللجرح مراتب" ... 173 قوله: "وقال الذهبي -وهو مِن أَهْلِ الاستِقراءِ التَّامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ-" ... 178 قوله: "والجرح مقدم على التعديل" ... 179 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الباب الرابع: متن نخبة الفكر متن نخبة الفكر ... متن نخبة الفكر قال الإمام الحافظ: أحمد ابن علي بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: الحَمْد لله الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَالِماً قَديراً، وصلَّى اللهُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي أرْسَلَهُ إِلى النَّاس كافَّةً بَشِيراً وَنَذِيراً، وعلى آلِ مُحَمَّدٍ وصَحْبهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً. أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ التَّصَانِيفَ في اصْطلاحِ أهْلِ الحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ، وبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ، فَسَأَلَنِي بعْضُ الإِخْوَانِ أَنْ أُلخِّصَ لَهَ المهمَّ مِنْ ذلِكَ، فَأَجَبْتُهُ إلَى سُؤَالِهِ رَجَاءَ الانْدِرَاجِ فِي تِلْكَ المَسَالِكِ فأقولُ: الخَبَرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: 1- طُرُقٌ بلا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ. 2- أَوْ مَعَ حَصْرٍ بِمَا فَوْقَ الاثْنَيْنِ. 3- أوْ بِهِمَا. 4- أَوْ بِوَاحِدٍ. فالأَوَّلُ: المُتَوَاتِرُ المُفيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينيّ بِشُرُوطِهِ. والثَّانِي: المَشْهُورُ وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيٍ. والثَّالِثُ: الْعَزِيزُ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ، خِلافاً لِمَنْ زَعَمَهُ. والرَّابِعُ: الغَرِيبُ. وَكُلُّها -سِوَى الأوَّلِ- آحَادٌ، وفيها الْمَقْبُولُ والْمَرْدُودُ، لِتَوَقُّفِ الاسْتدْلالِ بها عَلى البَحْث عنْ أَحْوالِ رُوَاتِها، دُونَ الأوَّل، وَقَدْ يَقَع فيها مَا يُفيدُ العِلمَ النَّظَرِيَّ بالقرائنِ على الْمُخْتَار. ثمَّ الغَرابَةُ: إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَصْلِ السَّنَدِ، أَوْ لا. فالأَوَّلُ: الفَرْدُ المُطْلَقُ. والثاني: الْفَرْدُ النّسْبِيُّ، ويَقِلُّ إطْلاقُ الفَرْدِيّةِ عَليهِ. وَخَبَرُ الآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، متَّصِلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّلٍ وَلا شَاذٍّ: هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِه. وتَتَفَاوتُ رُتبُهُ بِتَفَاوُتِ هذِهِ الأوْصَافِ. وَمِنْ ثمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ البُخَارِيّ، ثُمَّ مُسْلمٍ، ثُمَّ شَرْطُهُمَا. فإنَّ خَفَّ الضَّبْطُ: فالحَسَنُ لِذَاتِهِ، وبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فإنْ جُمِعَا فلِلتَّرَدُّدِ في النّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وإلا فباعْتِبارِ إسْنَادَيْنِ. وزِيَادَةُ رَاويهمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ. فإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ، وَمَعَ الضَّعْفِ فالرَّاجِحُ المَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ. وَالْفَرْدُ النِّسْبِيّ: إنْ وَافَقَه غيره فَهُوَ المُتَابِعُ. وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يَشْبَهُهُ فَهُوَ الشَّاهِدُ. وتَتبُّعُ الطّرُقِ لذلك هو الاعتبار. ثم المقبول: إِنْ سَلِمَ مِنَ المعارضة فهو المُحْكَمَ، وإنْ عُورض بِمثْلِهِ: فإنْ أمْكَنَ الْجَمْعُ فمُخْتَلِفُ الْحَدِيث. أو لا، وثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ فهُوَ النَّاسِخُ، والآخَرُ الْمَنْسُوخُ. وإلاَّ فَالتّرْجِيحُ، ثمَّ التَّوَقُّفُ. ثم المردود: إمّا أن يكونَ لِسقْطٍ أو طَعْنٍ. فالسَّقْطُ: إمَّا أنْ يكونَ مِنْ مَبَادِيءِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعدَ التَّابِعيّ، أَوْ غيْر ذَلِكَ. فالأوَّلُ: المُعَلَّقُ. والثَّانِي: المُرْسَلُ. والثَّالِثُ: إنْ كانَ باْثنَيْن فَصَاعِداً مَعَ التَّوَالي، فُهو الْمُعْضَلُ، وَإِلاَّ فالْمُنْقَطِعُ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ واضِحاً أَوْ خَفِيّاً. فالأوَّلُ: يُدْرَكُ بعَدَمِ التَّلاقي، وَمِنْ ثمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّأريخِ. وَالثَّانِي: الْمُدَلَّسُ، وَيَرِدُ بِصِيغَةٍ تَحْتَمِلُ اللُّقِيَّ: كَعَنْ، وَقَالَ، وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ مِنْ مُعَاصِرٍ لمْ يَلْقَ. ثم الطعن: إمَّا أنْ يَكُونَ: 1- لِكَذِبِ الرَّاوِي. 2- أَوْ تُهْمَتِهِ بِذلِكَ. 3- أوْ فُحْشِ غَلَطِهِ. 4- أَوْ غَفْلَتِهِ. 5- أَوْ فِسْقِهِ. 6- أَوْ وَهْمِهِ. 7- أَوْ مُخَالَفَتِه. 8- أَوْ جَهَالَتِه. 9- أَوْ بِدْعَتِهِ. 10- أو سُوءِ حِفْظِهِ. فالأوَّلُ: الْمَوْضُوعُ، والثَّانِي: الْمَتْرُوكُ. والثَّالِثُ: المُنْكَرُ، عَلَى رَأْيٍ. وكَذَا الرَّابِعُ والخَامِسُ. ثمَّ الْوَهْمُ: إِنِ اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالقَرَائِنِ وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمعَلَّلُ. ثمَّ الْمُخَالَفَةُ: إنْ كانَتْ بِتَغْييرِ السِّيَاقِ: فَمُدْرَجُ الإسْنَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أَوْ بِدَمْجِ مَوْقوفٍ بِمرْفوعٍ: فَمُدْرَجُ الْمَتْن. أَوْ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ: فَالْمَقلُوبُ. أَوْ بِزيَادَةِ رَاوٍ: فَالْمَزِيدُ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ. أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلا مُرَجِّحَ: فَالْمُضْطَرِبُ -وَقَدْ يقَعُ الإِبْدَالُ عَمْداً امْتِحَاناً-. أَوْ بِتَغْييرٍ حَرْفٍ، أو حروفٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ: فَالْمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ. وَلا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْييرِ الْمَتْنِ بِالنَّقْصِ وَالمُرَادِفِ إلاَّ لِعَالِمٍ بِمَا يُحيلُ الْمَعَانِي. فإِن خَفِيَ الْمَعْنَى احْتِيجَ إِلَى شَرْحِ الْغَرِيبِ وبَيَانِ الْمُشْكِلِ. ثمَّ الجَهَالَةُ: وَسَبَبُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتَهَرَ بِهِ لِغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فيهِ الْمُوْضِحَ. وقَدْ يَكُونُ مُقِلاًّ فَلاَ يَكْثُر الأخْذُ عَنْهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الوُحْدَانَ. أَوْ لا يُسَمَّى اخْتِصَاراً، وفيهِ المُبْهَمَاتُ. وَلا يُقْبَلُ الْمُبْهمُ، وَلوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ، عَلَى الأصَحِّ. فإِنْ سُمِّيَ وانفَرَدَ وَاحدٌ عَنْهُ فَمَجْهولُ الْعَيْنِ، أَو اثنَانِ فَصَاعِداً وَلَمْ يُوَثَّقْ1: فمجهولُ الحال، وهُوَ الْمَسْتُورُ. ثمَّ البِدْعَةُ: إمَّا بمُكَفِّرٍ، أو بِمُفَسِّقٍ. فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صَاحِبَها الجمهُورُ. والثَّاني: يُقْبَلُ مَنْ لَم يكُنْ دَاعِيةً، في الأصَحّ، إلاَّ إِنْ رَوَى مَا يُقَوِّي بدْعَتُهُ فَيُرَدُّ، عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الجوزجانيُّ شَيْخُ النَّسَائِي. ثمَّ سُوءُ الحِفْظِ: إنْ كانَ لازماً فَهُوَ الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ طارِئاً فالمُخْتَلِطُ. وَمَتَى تُوبِعَ سَيِّءُ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ، وَالْمُرْسَلُ، وَالْمُدَلَّسُ: صَارَ حَدِيثُهُمْ حَسَناً لا لِذَاتِهِ، بَلْ بالْمَجْمُوع. ثم الإسناد: إمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبِي صلَّى اللهُ عليه وسلم تَصْرِيحاً، أَوْ حُكْماً: مِنْ قَوْلِه، أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ تقْرِيرِه. أَوْ إِلَى الصَّحَابيِّ كَذلِك: وَهُوَ: مَنْ لَقِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، مُؤمِناً بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإسْلامِ: وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ، في الأصَحِّ.   1 ليس المراد أنه لم يَرِد فيه توثيق، وإنما المراد أنه لم يَرِد فيه جرحٌ أو تعديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 أَوْ إِلى التَّابِعِيِّ: وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ كَذَلِكَ. فَالأوَّل: الْمَرفوعُ، والثَّانِي: الْمَوْقُوفُ، والثَّالِثُ: الْمَقْطوعُ، وَمَنْ دَونَ التَّابِعِيّ فيه مِثْلُهُ. وَيُقَالُ للأخِيرَيْنِ: الأثَرُ. والمسنَدُ: مرفوع صحَابيٍّ بسَنَدٍ ظَاهِره الاتّصَال. فإن قَلَّ عَدَدُهُ: فإمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، أَوْ إلى إِمَامٍ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كشُعْبَة. فالأوَّلُ: العُلُوُّ الْمُطْلَقُ. والثَّاني: النِّسْبِيُّ. وَفِيهِ الْمُوافَقَةُ: وَهِيَ الْوُصُولُ إلى شَيْخِ أَحَدِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ. وفيهِ الْبَدَلُ: وَهُوَ الْوُصُولُ إِلى شَيْخِ شَيْخِهِ كَذلِك. وَفيهِ الْمُسَاوَاةُ: وَهِيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الإِسْنَادِ مِنَ الرَّاوِي إلى آخِرِهِ مَعَ إِسْنَادِ أَحَدِ الْمُصَنِّفِينَ. وفيهِ الْمُصَافَحَةُ: وهِيَ الاسْتِوَاءُ مَعَ تِلْمِيذِ ذَلِكَ المُصَنِّفِ، وَيُقَابِلُ الْعُلوَّ بِأقْسَامِهِ النُّزُولُ، فإنْ تَشَارَكَ الرَّاوي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ في السِّنِّ واللُّقيِّ فهو الأقْرَانُ. وَإِنْ رَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا عنِ الآخَرِ: فَالْمُدَبَّجُ، وَإنْ رَوَى عَمَّنْ دُونَه: فالأكابِرُ عن الأَصَاغِرِ، وَمِنْه الآباءُ عَن الأبْنَاء، وفي عَكْسِهِ كثْرَةٌ، وَمِنْهُ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. وإِنِ اشْتَرَكَ اثنَانِ عَنْ شَيْخٍ، وَتَقَدَّمَ مَوْتُ أَحَدِهِما، فَهُوَ: السَّابِقُ واللاَّحِقُ. وإنْ رَوَى عَن اثنَيْنِ مُتَّفِقي الاسْمِ وَلَمْ يَتَمَيَّزَا، فباخْتِصَاصِه بِأَحدِهِمَا يَتَبَيَّنُ الْمُهْمَلُ. وإن جَحَدَ مَرْوِيَّهُ جَزْماً: رُدَّ، أَوِ احْتمالاً: قُبِلَ، في الأصحِّ. وفيه: "مَنْ حَدَّث وَنَسِيَ". وإن اتفقَ الرُّواةُ في صِيَعِ الأدَاءِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْحَالاتِ، فَهُو الْمُسَلْسَلُ. وصيغ الأداء: 1- سُمِعْتُ وَحَدَّثَنِي. 2- ثمَّ أَخْبَرَنِي، وَقَرَأْتُ عَلَيْه. 3- ثمَّ قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ. 4- ثمَّ أَنْبَأَنِي. 5- ثمَّ نَاوَلَنِي. 6- ثمَّ شَافَهَنِي. 7- ثمَّ كَتَبَ إِلَيَّ. 8- ثمَّ عَنْ، وَنَحْوُهَا. فَالأوّلانِ: لِمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، فَإِنْ جَمَعَ فمعَ غَيْرِهِ. وأَوَّلُهَا: أصْرحُها وَأَرْفعُها فِي الإمْلاءِ. والثَّالِثُ، والرَّابِعُ: لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ، فإنْ جَمَعَ: فَكَالْخَامِسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والإنْبَاءُ: بمَعْنَى الإِخْبَارِ، إِلاَّ في عُرْفِ الْمُتَأَخِّرينَ فَهُوَ للإجَازَةِ كَعَنْ. وَعَنْعَنَةُ الْمُعَاصِر مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ إلاَّ مِنْ المدَلِّسٍ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ لِقَائِهِمَا وَلَوْ مَرَّةً، وهُوَ الْمُخْتَارُ. وأَطْلَقُوا الْمُشَافَهَةَ في الإِجَازَةِ الْمُتَلَفَّظِ بِهَا، وَالْمُكَاتَبَةَ في الإجَازَةِ الْمَكْتُوبِ بِها، واشْتَرَطُوا في صِحَّةِ الْمُنَاوَلَةِ اقتِرَانَها بالإذْنِ بِالرِّوَايَةِ، وَهِيَ أَرْفَعُ أَنْوَاع الإجَازَةِ. وَكَذَا اشْتَرَطُوا الإذْنَ في الوِجَادةِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْكِتَابِ، وَفِي الإِعْلامِ، وَإِلاَّ فَلاَ عِبْرَةَ بذلِكَ، كالإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، وَلِلْمَجْهُولِ وَلِلْمَعْدُومِ، عَلَى الأَصَحِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. ثمَّ الرُّواةُ: إِنِ اتفَقَتْ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آبائِهِمْ فَصَاعِداً، واخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُهُمْ: فَهُوَ الْمُتَّفِقُ وَالْمُفْتَرِقُ، وإن اتّفَقَتِ الأَسْمَاءُ خَطّاً واخْتَلَفَتْ نُطْقاً: فهُوَ الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ. وإِنِ اتفَقَتِ الأَسْمَاءُ واخْتَلَفَتِ الآبَاءُ، أَوْ بِالَعكْسِ: فهُوَ الْمُتَشَابِهُ، وَكَذَا إنْ وَقعَ الاتفَاقُ في الاسْمِ واسْمِ الأَبِ، والاخْتِلاَفُ فِي النِّسْبَةِ، وَيَتَرَكَّبُ مِنْهُ وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنْوَاعٌ: مِنْها أَنْ يَحْصُلَ الاتِّفَاقُ أَوْ الاشْتِبَاهُ إلاّ في حَرْفٍ أَوْ حَرْفَينِ. أو بالتَّقْدِيمِ وَالتَّأخِيرِ أو نَحْوِ ذَلِكَ. خاتمة وَمِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ، وَوَفَيَاتِهِمْ، وبُلْدَانِهمْ، وأَحْوَالِهِمْ: تَعْدِيلاً وَتَجْرِيحاً وَجَهَالَةً. ومَرَاتِبُ الْجَرْحِ: وأَسْوَأُهَا الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ، كأَكْذَب النَّاسِ، ثمَّ دَجَّالٌ، أَوْ وَضَّاعٌ، أَوْ كَذَّابٌ. وَأَسْهَلُهَا: ليِّنٌ، أَوْ سَيِّيءٌ الْحِفْظِ، أو فيه مَقَالٌ. ومراتب التعديل: وأرفعها الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ: كَأَوْثَق النَّاسِ، ثُمَّ مَا تَأكَّدَ بِصِفَةٍ أَوْ صِفَتَيْنِ، كثِقَة ثِقَة، أَوْ ثِقَةٌ حافِظٌ. وَأَدْنَاهَا مَا أَشْعَرَ بِالقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ، كَـ: شَيْخٌ. وَتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عَارِفٍ بِأَسْبَابِها، ولو من واحدٍ، على الأصَحّ. والْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْتَّعْدِيلِ إنْ صَدَرَ مُبيَّناً مِنْ عَارِفٍ بِأَسْبَابِه، فَإِنْ خَلاَ عَن التَّعْدِيلِ: قُبِلَ مُجْمَلاً، عَلَى الْمُخْتَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فصل وَمِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى الْمُسَمَّيْنَ، وأَسْمَاءِ الْمُكَنَّيْنَ، وَمَن اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، ومنِ اخْتُلِفَ في كُنْيَتِه، ومن كَثُرَتْ كنَاهُ أو نُعُوتُهُ، وَمَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ، أوْ بِالعَكْسِ، أوْ كُنْيَتُهُ كُنْيَةَ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أوْ إلى أمِّهِ، أوْ إلى غير ما يَسْبِقُ إلى الفَهْمِ، ومن اتَّفَقَ اسْمُهُ واسْمُ أَبِيهِ وجَدِّه، أو اسْمُ شَيْخِهِ وشَيْخِ شَيْخِه فَصَاعِداً. ومَن اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِه والرَّاوي عنهُ. ومَعْرِفةُ الأَسْمَاءِ الْمُجَرَّدِةِ والْمُفْرَدَةِ، وَالْكُنَى، وَالأَلْقَابِ، والأَنْسَابِ، وَتَقَعُ إِلَى الْقَبَائِلِ وَالأوْطَانِ: بِلاداً، أَوْ ضِيَاعاً، أَوْ سِكَكاً، أَوْ مُجَاوَرَةً، وَإِلَى الصَّنَائِعِ والحِرفِ: وَيَقَعُ فيهَا الاتّفاقُ والاشْتِبَاهُ كالأسْمَاءِ، وقد تَقَعُ ألْقَاباً. وَمَعْرِفَةُ أَسْبَابِ ذَلِكَ، ومعرفِة الْمَوَالِي مِنْ أَعْلَى وَمِنْ أَسْفَلَ: بالرِّقِّ، أَوْ بِالْحِلْفِ، وَمَعْرِفَةُ الإِخْوَةِ والأَخَوَاتِ. وَمَعرِفَةُ آدَابِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ، وَسنِّ التَّحمُّلِ والأدَاءِ، وصِفَةِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَعَرْضِهِ، وسَمَاعِهِ، وإسْمَاعِه، والرِّحْلَةِ فِيهِ، وتَصْنِيفِه: إمَّا عَلَى الْمَسانِيد، أو الأبْوَابِ، أو الْعِلَلِ، أَوِ الأطْرَافِ. ومعْرفة سَبَبِ الْحَدِيث: وَقَدْ صَنَّفَ فيهِ بَعْض شُيوخِ القاضِي أَبي يَعْلَى بن الْفَرَّاءِ، وصَنَّفُوا في غَالِب هذِه الأنْوَاعِ. وهِيَ نَقْلٌ مَحْضٌ، ظاهِرَةُ التَّعْرِيفِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عنِ التَّمْثِيِلِ، وَحَصْرُها مُتَعَسِّرٌ: فَلْتُرَاجَعْ لها مَبْسُوطاتُها، والله الْمُوَفِّقُ والهَادِي، لا إله إلاَّ هُوَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 مصادر ومراجع ... فهْرسُ مصادرِ التحقيقِ ومراجِعِهِ - الأم، الإمام الشافعي، بيروت، دار المعرفة، ط.2، 1393هـ-1973م. - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، القاضي عياض، بتحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث بالقاهرة، والمكتبة العتيقة بتونس، الطبعة الأولى1389هـ- 1970م. - الابتهاج في تخريج أحاديث المنهاج، عبد الله بن محمد الغماري، بيروت، عالم الكتب، ط.1، 1405هـ-1985م. - اختلاف الحديث، الإمام الشافعي ت204هـ، برواية ربيع بن سليمان المرادي ت270هـ، تحقيق: عامر أحمد حيدر، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، ط.1، 1405هـ-1985م. - الاستقامة، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الرياض، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط.1، 1403هـ-1983م. - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد شاكر، القاهرة، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، ط.3، بدون تاريخ. - تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، بيروت، دار الكتاب العربي، بدون تاريخ. - تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بمراتب التدليس، ابن حجر العسقلاني، 773-852هـ، تحقيق د. أحمد بن سير المباركي، الرياض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ط. الأولى، 1413هـ-1993م. - تدريب الراوي، السيوطي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، المدينة المنورة، المكتبة العلمية، ط.2، 1392هـ-1972م. - ترتيب مسند الشافعي، نشر وتصحيح: السيد يوسف على الحسني، والسيد عزت العطار، 1370هـ-1951م، ط. مصورة، بيروت، دار الكتب العلمية. - تسهيل شرح نخبة الفِكَر، محمد أنور البدخشاني، كراتشي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، ط.1، 1414هـ. - تعليقات د. نور الدين عتر على طبعته لنزهة النظر، بيروت، ط.2، 1414هـ-1993م. - التقييد في رواة السنن والمسانيد، الحافظ ابن نقطة، بيروت، دار الحديث، 1407هـ-1986م - التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، ت806هـ، بيروت، دار الحديث، ط.2، 1405هـ-1984م. - التنكيل، عبد الرحمن المعلمي، بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الباكستان، فيصل آباد، حديث أكادمي نشاط آباد، 1401هـ-1981م: 1/42-52. - تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، بيروت، مؤسسة الرسالة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 1416هـ-1996م. - جامع الأصول في أحاديث الرسول، مجد الدين ابن الأثير الجزري، 544-606هـ، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، 1389هـ-1969م فما بعدها. - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، 392-463هـ، تحقيق: د. محمود الطحان، الرياض، مكتبة المعارف، 1403هـ-1982م. - الجرح والتعديل، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، ت327هـ، حيدرآباد، الدكن - الهند، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، ط.1، 1371هـ-1952م. - نظم المتناثرمن الحديث المتواتر، أبو الفيض جعفر الحسنيَّ الإدريسي الكتاني، بيروت، دار الكتب العلمية، 1400هـ-1980م، مصوَّرة عن طبعة بمطبعة المولوية بفاس العلية، 1328هـ- - الرسالة، الإمام الشافعي، 150-204هـ، تحقيق: أحمد شاكر، 1309هـ - السنن، أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، ط. الأولى، لبنان، دار الجنان، 1409هـ - 1988م، فهرسة كمال يوسف الحوت. - السنن، ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، ط. عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1972م، بتحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. - السنن، الدارمي، أَبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن، ط. الأُولى، دمشق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 دار القلم1412هـ-1991م. - السنن الترمذيّ، أبو عيسي محمد بن عيسى بن سورة، ط. الأولى، لبنان، دار الكتب العلمية، 1408هـ-1987م. - سنن الدارقطني: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، 306-385هـ، بتصحيح: عبد الله هاشم يماني المدني، المدينة المنورة، 1386هـ-1966م. - السنن، النسائي، أحمد بن شعيب، ط. الثالثة، لبنان، دار البشائر الإسلامية، 1409هـ - 1988م. - شرح علل الترمذيّ = انظر: العلل الترمذيّ. - شرح مشكل الآثار، أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، 229-321هـ، في 16 مجلداً، بالفهارس، بتحقيق شعيب الأرنؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط. الأُولى، 1415هـ-1994م. - شرح معاني الآثار، أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، 229-321هـ، تحقيق: محمد زهري النجار، القاهرة، مطبعة الأنوار المحمديّة، بدون تاريخ. - صحيح ابن خزيمة، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي، ط. الأُولى، 1395هـ-1975م. - صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ط. الرابعة، دمشق، دار ابن كثير، 1410هـ-1990م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 - صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القُشيري النيسابوري، ط. الأولى، لبنان، دار إحياء التراث العربي، 1375هـ - 1955م، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، السخاوي، بيروت، نشر دار مكتبة الحياة. - طبقات الشافعية، تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، 727-771هـ، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود الطناحي، ط.1، عيسى البابي الحلبي وشركاه. - العلل، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، 240-327هـ، القاهرة، مكتبة المثنى ببغداد، 1343هـ. - العلل، للترمذي، نسخة: شرح علل الترمذيّ، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبليّ، 736-795هـ، تحقيق نور الدين عتر، ط. الأولى، 1398هـ-1978م. - علوم الحديث، ابن الصلاح، بتحقيق: نور الدين عتر، المدينة المنورة، المكتبة العلمية، ط.2، 1972م. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الحافظ ابن حجر العسقلاني 773-852هـ، القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها. - الكامل في ضُعَفَاء الرّجَال، الإمام الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، 277-365هـ، بيروت، دار الفكر، ط.1، 1404هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 -1984م. - الكفاية في علم الرواية، الإمام أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، 392-463هـ، مطبعة السعادة، ط.1، 1972م. - مجمع البحار في معاني الأحاديث والآثار، ملك المحدِّثين محمد طاهر الصديقي الهندي، ت986هـ-1578م، الهند، حيدر آباد الدكن، دائرة المعارف العثمانية، 1391هـ-1971م. - مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ-1995م. - محاسن الاصطلاح، البلقيني، بتحقيق: د. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطي، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مركز تحقيق التراث، مطبعة دار الكتب، 1974م. - المحدِّث الفاصل بين الراوي والواعي، القاضي الرامهرمزي، تحقيق د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1404هـ-1984م - المستدرَك على الصحيحين، محمد بن عبد الله بن البيّع 321-405هـ، نشر مكتبة النصر الحديثة، الرياض. - المسند، الإمام أحمد بن حنبل، بتحقيق شعيب الأرناؤوط، وآخرين، بيروت، الرسالة، ط. الأولى، 1419-1421هـ. - مشكل الحديث وبيانه، أبو بكر محمد بن الحسن بن فُورَك ت406هـ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 بيروت، دار الكتب العلمية، 1400هـ-1980م. - مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها، عبد الله بن علي النجدي القصيمي، تحقيق: الشيخ خليل الميس، بيروت، دار القلم، ط.1، 1405هـ-1985م. - مصطلح التاريخ، د. أسد رستم، لبنان، المكتبة البُولِسيِّة، ط. الرابعة، 1984م. - المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، 260-360هـ، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط.2، بدون تاريخ. - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، السخاوي، مكتبة الخانجي، ومكتبة المثنى، 1375هـ. - مقدمة ابن الصلاح = انظر: علوم الحديث. - مقدمة في أصول التفسير، ابن تيمية، بتحقيق د. عدنان زرزور، الكويت - بيروت، دار القرآن الكريم ومؤسسة الرسالة، ط. الثانية، 1392هـ-1972م. - مقدمة نور الدين عتر في تحقيقه لـ"نزهة النظر ... "، بيروت، ط.2، 1414هـ-1993م. - مقدّمة تحقيق رسالة: "مَن تُكُلِّمَ فيه وهو مُوَثَّقٌ أو صالِحُ الحديثِ"، للإمام الذهبي، عبد الله الرحيلي، تحت الطباعة. - الموضح لأوهام الجمع والتفريق، الخطيب البغدادي، تحقيق عبد الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ابن يحيى المعلمي، دار الفكر الإسلامي، ط. الثانية، 1405هـ-1985م. - الموطأ، للإمام مالك بن أنس، صححه ورقّمه وخرّج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي. - نزهة الألباب في الألقاب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد العزيز بن محمد السديري، الرياض، مكتبة الرشد، ط. الأولى، 1409هـ-1989م. - نزهة النظر شرح نخبة الفكر، ابن حجر، المدينة المنورة، المكتبة العلمية، ودار مصر للطباعة، ط. 3. - النكت على ابن الصلاح، ابن حجر العسقلاني 773-852هـ، تحقيق: د. ربيع بن هادي عمير، المدينة المنورة، الجامعة الإسلامية، ط.1، 1404هـ-1984م. - هدْي الساري مقدمة فتح الباري، الحافظ ابن حجر، مصر، المطبعة السلفية ومكتبتها، والطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى المنيرية سنة 1301هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288