الكتاب: من هدي السلف في طلب العلم المؤلف: أبو ياسر محمد بن مطر بن عثمان آل مطر الزهراني (المتوفى: 1427هـ) المحقق: - الناشر: دار طيببة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1421هـ/2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- من هدي السلف في طلب العلم محمد بن مطر الزهراني الكتاب: من هدي السلف في طلب العلم المؤلف: أبو ياسر محمد بن مطر بن عثمان آل مطر الزهراني (المتوفى: 1427هـ) المحقق: - الناشر: دار طيببة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1421هـ/2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] من هدي السلف في طلب العلم جمع وترتيب: د. محمد بن مطر الزهراني بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة الحمد لله البرّ الرحيم، الواسع العليم ذي الفضل العظيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الكريم، أما بعد: فإن من أهم ما يبادر به اللبيب شرَخَ شبابه، ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة، وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة أهل العلم الذين حلوا به ذرا المجد والسناء، وأحرزوا به قصب السبق إلى وراثة الأنبياء، لعملهم بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآدابه، وحسن سيرة الأئمة الأطهار من أهل بيته وأصحابه، وبما كان عليه أئمة علماء السلف، واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف 1. وبعد، فهذه وُريقات جمعت فيها بعض ما وقفت عليه من هدي السلف الصالح - رحمهم الله ورضي عنهم - في طلب العلم، وقد اقتصرت فيها على ما يتعلق بهدي الطالب وبرنامجه في أثناء طلبه للعلم، وقد اكتفيت فيها بجمع المتفرق وترتيب المختلط، محاولاً الانتقاء من النصوص أجمعها وعلى المعنى المراد أدلها مع بعض التعليقات اليسيرة، وهذا أحد أقسام التأليف كما ذكرها صاحب "كشف الظنون" في مقدمته 2. وكان السبب الحامل على هذا العمل ثلاثة أمور: الأول: إلحاح كثير من إخواننا الطلبة، ورغبتهم في معرفة منهج السلف في طلب العلم وهديهم وسمْتهم في ذلك، مع تقاصر همم هؤلاء الطلبة عن تحصيل ذلك من منبعه الأصل؛ كتب السلف أنفسهم، وهي كثيرة ومتوفرة. الثاني: ما لاحظته من الفوضى في طلب العلم المنتشرة بين كثير من الطلبة   1 اقتباس من مقدمة ابن جماعة لكتابه تذكرة السامع والمتكلم، لمناسبته لموضوع البحث. 2 انظر كشف الظنون (1/35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 اليوم الذين افتقدوا أول ما افتقدوا من هدي السلف: آداب الطلب، وأخلاق طالب العلم، ثم هدي وسمت العلماء في العلم والعمل فتزبّبوا قبل أن يتحصرموا، لأنهم لم يسلكوا طريق السلف في التدرج في طلب العلم وفق منهج علمي صحيح واضح، كما ابتلوا أيضاً بالعجلة والتسرع وقلة الفهم، فنتج عن ذلك سرعة الملل والضجر. الثالث: أنني رأيت المصنفات في هذا الموضوع حديثاً، اقتصرتْ على الآداب العامة لطلب العلم، وخلت من ذكر برنامج عملي للطالب في أثناء تعلمه، هذا فيما وقفت عليه منها. وقد سميته "من هدي السلف في طلب العلم" وذلك أن منهجهم وهديهم في ذلك أكبر وأوسع مما جمعت، وهذا بعضه، لأنني قصرتُ ما جمعت على ما رأيت الحاجة ماسّة إليه الآن لإخواني من طلبة العلم، وجعلته في ثلاثة فصول: الأول: في أُسس هديهم ومنهجهم في طلب العلم. والثاني: في العلم المراد تعلّمه. والثالث: برنامج عملي لطالب العلم أثناء طلبه العلم. وقدمت بين يدي تلك الفصول بتمهيد حول اهتمام السلف بآداب الطلب ووسائل تثبيت العلم والتثبّت فيه، وختمته بمُلحقين: الأول: حول طريقة تعليم المتعلم وإرشاد المعلّم في تعليمه كما يراها ابن خلدون، وعبد القادر بن بدران، وابن باديس. والثاني: أرجوزة في آداب التعلّم والتفقّه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله الصادق الآمين. وكتبه: د. محمد بن مطر الزهراني في تاسع ذي الحجة من عام سبعة عشر بعد الأربعمائة وألف بالمدينة النبوية حرسها الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تمهيد هذه تنبيهات أقدمها بين يدي هذا البحث تتمة للفائدة: الأول: أن السلف - رحمهم الله - قد اهتموا بموضوع أدب الطلب وآداب الطالب وبرنامج التعلُّم والتعليم من وقت مبكر كما اهتموا بغيرها من الفنون والموضوعات، ويدل على ذلك أمران: 1 - تلك النصوص الكثيرة التي رُويت عنهم في توجيه الطلاب، وبيان المنهج والهدي الذي ينبغي أن يسلكه المعلم والمتعلم، وقد رُوي الكثير من هذه النصوص عن الصحابة والتابعين وأتباعهم 1. 2 - تلك المؤلفات في هذا الفن، التي ظهرت من وقت مبكر، ككتاب العلم 2 لأبي خيثمة زهير بن حرب المتوفى (234هـ‍.) ، وكتاب آداب المعلمين والمتعلمين 3 لمحمد بن سحنون المتوفى سنة (256هـ‍.) ، ثم تتابع التأليف في ذلك إلى أن جاء حافظا المشرق والمغرب، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، وأبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي - توفي كلاهما سنة (463هـ‍.) - ألف الأول كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وألف الثاني كتاب جامع بيان العلم وفضله، وقد طُبعا مراراً، وهما من أجمع وأوسع وأشمل ما أُلف في موضوعهما.   1 بل قد ورد كثير من هذه النصوص في السنة المطهرة، وعن ذلك كله انظر: مقدمة سنن الدارمي، ومقدمة سنن ابن ماجه، ومقدمة صحيح الإمام مسلم، والجامع للخطيب، وجامع ابن عبد البر. 2 طبع بتعليق وتخريج الشيخ ناصر الدين الألباني. 3 نشره حسن حسني عبد الوهاب في تونس عام 1931م، وقد قدَّم له بدراسة جيدة الأستاذُ عبد الرحمن بن عثمان حجازي في كتابه المذهب التربوي عند ابن سحنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وسلم إذا جلسوا مجلساً كان حديثهم الفقه إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا رجلاً أن يقرأ سورة" 1. وقال ابن القيم (ت 751هـ‍.) : "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم على عبده، ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلّ منهما. بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد مقصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل ... " 2. 4- الحرص على تثبيت العلم والتثبت فيه: ووسائل التثبت فيه عندهم من أهمها: أ - التلقي على الشيوخ مع انتقاء الذين يُتلقى عليهم العلم، فلا يتلقون على مبتدع، ولا صاحب هوى، ولا من غير الثقة. قال الإمام محمد بن سيرين (ت 110هـ‍.) : "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". وقال أيضاً: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" 3. وقال الإمام مالك (ت 179هـ‍.) : "لا يؤخذ العلم من أربعة: معلن السفه،   1 رواه البيهقي في المدخل رقم 419. 2 أعلام الموقعين (1/87) . 3 مقدمة صحيح مسلم (14، 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وصاحب هوىً يدعو الناس إليه، ورجل معروف بالكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا رجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به" 1. ب - تمييز الصحيح من السقيم وحديث الثقة من غير الثقة، والحافظ من سيئ الحفظ. قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ‍.) : "لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يتعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم" 2. وقال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه 3: "واعلم وفقك الله تعالى، أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهمة والمعاندين من أهل البدع". وأما وسائل تثبيت العلم فمن أهما: أ - حسن الفهم: وقد سبقت الإشارة إلى اهتمام السلف به. ب - حفظه والعمل به: قال عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103هـ‍.) : "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل، ونستعين على طلبه بالصوم" 4. وقد أُثِر عن غير واحد من السلف واشتهر عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل قوله: "ما بلغني حديث إلا عملت به، وما عملت به إلا حفظته". وقال وكيع بن   1 جامع بيان العلم (2/48) . 2 الجامع للخطيب (2/90) . 3 صحيح مسلم (1/8) . 4 جامع بيان العلم (2/11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الجراح (ت 197هـ‍.) : "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به" 1. ج - مذاكرته مع الشيوخ والأقران: لم يكتف السلف رحمهم الله بالحث على المذاكرة وبيان أهميتها وأوقاتها المناسبة، بل تجاوزوا ذلك إلى التطبيق العملي، فمارسوا مذاكرة العلم بشتى الصور مع الشيوخ والأقران. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه" 2. وقال الخطيب: "وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح" 3. د - الصبر والمثابرة والدأب في التحصيل: ولا أدَلّ على ذلك من تلك الرحلات إلى البلدان المختلفة وتحمّل المشاق في سبيل تحصيل العلم، وقد بدأها الصحابة الكرام رضي الله عنهم حيث كان أحدهم يرحل في الحديث الواحد مسيرة شهر 4. قال سعيد بن المسيب (ت 94هـ‍.) : "إن كنت لأَسيرُ في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام" 5.   1 علوم الحديث لابن الصلاح (ص 223) . 2 الجامع للخطيب (1/236) . 3 تذكرة السامع والمتكلم (ص 144) . 4 انظر في ذلك كتاب الرحلة للخطيب البغدادي وقد خصصه لرحلات من رحل لحديث واحد. 5 طبقات ابن سعد (5/120) ؛ المعرفة والتاريخ (1/468) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 التنبيه الثاني: أن الحافظ بدر الدين بن جماعة المتوفى سنة (733هـ‍.) لما وَقف على تلك المصنفات الكثيرة في هذا الفن، وما كتب من ذلك في أبواب أو فصول ضمن كتب أخرى ككتب المصطلح وغيرها، جمع كل ذلك وأعاد تصنيفه وترتيبه في أبواب وفصول وأنواع، مختصراً مطوله ومسدداً خلل مختصره، وذلك في كتابه تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم 1. فجاء كتابه في هذا الموضوع جامعاً وبالفوائد والفرائد حافلاً. وقد وقع كتابه في خمسة أبواب فيها ثمانية فصول اشتملت على ستة وتسعين نوعاً، خصص الباب الثاني لآداب العالم، والباب الثالث لآداب المتعلم. فرسم في هذين البابين برنامجاً علمياً للمُعلم مع نفسه، ثم مع درسه، ثم مع طلبته، وبرنامجاً عملياً للمتعلم في نفسه، ومع شيخه، وفي درسه. ومن أهم مصادره فيما ظهر لي ما كتبه كل من: محمد بن سحنون، ثم الخطيب البغدادي، والحافظ أبو عمر ابن عبد البر، وكذلك ابن الصلاح والنووي 2 وغيرهم - رحمهم الله جميعاً. وقد تميّز عمن سبقه بذكر هذا البرنامج العملي للعالم والمتعلم بصورة واضحة ودقيقة، ويمكن أن يستفيد منها - غالباً - كل عالم ومتعلم في كل عصر، ولذلك اعتمدتُُ على كتابه كثيراً في بحثي هذا وبخاصة في فصل البرنامج العملي للطالب في أثناء تعلُّمه.   1 طبع في الهند بتحقيق وتعليق محمد هاشم الندوي ثم أعيد تصويره في بيروت. وقد أعدَّ الدكتور حسن بن إبراهيم بن عبد العال عنه دراسة تحليلية واسعة في كتابه فن التعليم عند بدر الدين ابن جماعة، نشرها مكتب التربية العربي لدول الخليج. 2 في النوع السابع والعشرين والثامن والعشرين من علوم الحديث لابن الصلاح، وفي مقدمة المجموع للنووي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 التنبيه الثالث: من خلال مطالعتي وبحثي فيما كتبه السلف - رحمهم الله - وخاصة المتقدم منها، ألفيتُ أن للسلف منهجاً علمياً وهدياً وسمتاً عملياً في طلب العلم، ولعل من أهم معالمه ما يأتي: 1- إخلاص النية في طلب العلم لوجه الله عز وجل، فلا يبتغون بذلك منصباً ولا جاهاً عند أحد كائناً من كان، ولا تكثّراً من الأموال، ورائدهم في ذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من تعلَّم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عَرَضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" 1. 2- التدرج في طلب العلم وفق برنامج علمي وعملي، فكانوا يبدؤون بالتأدب والتعبد أولاً - ويحفظ الطالب أثناء ذلك كتاب الله العزيز - ثم يشرع بعد ذلك في طلب العلم على أهله المعروفين. قال سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ‍.) : "ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة" 2. وقال عبد الله بن المبارك (ت 181هـ‍.) : "كانوا يطلبون الأدب ثم العلم" 3. وأول ما يبدأ به الطالب تعلم فروض الأعيان حتى يعرف العلم والعمل بها ثم يتدرج بعد ذلك في فروض الكفاية وجزئيات العلم. وليكن ابتداؤه بعلوم الغاية، وهي العقيدة والفقه المبنيان على الأدلة من   1 انظر تخريجه في أول الفصل الأول من هذا البحث. 2 انظر حلية الأولياء لأبي نعيم (6/361) . 3 انظر غاية النهاية في طبقات القراء (1/446) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، ثم علوم الوسائل ثانياً، كأصول التفسير، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، وأصول الفقه ونحو ذلك، ولا يجوز تقديم علوم الوسائل على علوم الغاية. قال ابن خلدون (ت 808هـ‍.) : اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات، من التفسير، والحديث، والفقه ... ، وعلوم هي وسيلة آليّة لهذه العلوم، كالعربية، والحساب وغيرهما ... فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار ... وأما العلوم التي هي آلة لغيرها، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسع فيها الكلام، ولا تفرع المسائل، لأن ذلك مخرج لها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. اه‍. ملخصاً 1. 3- الحرص على الفهم الصحيح، فقد نصّ كثير من السلف على أن أُسس طلب العلم حسن الفهم. قال الخطيب البغدادي: "العلم هو الفهم والدراية، وليس الإكثار والتوسع في الرواية" 2. وقال ابن عبد البر: "والذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر" 3. وقال أبو سعيد الخدري: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله   1 مقدمة ابن خلدون، 536، الفصل الثلاثون. 2 الجامع (2/174) . 3 جامع بيان العلم (2/124) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وكان كثير من السلف يوصي تلاميذه بالصبر والتحمل وعدم التعجل. قال يونس بن يزيد: "قال لي الزهري: لا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي" 1. وفي رواية معمر عن الزهري: "من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان" 2. 5 - الورع مع الحرص على نشر العلم وإخفاء العمل: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار ما فيهم من أحد يسأل عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه، ولا يحدث حديثاً إلا ودّ أن أخاه كفاه" 3. وعن مطرّف بن عبد الله بن الشخير قال: "فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" 4. وفي باب (كيف يُقبض العلم) من كتاب العلم من صحيح البخاري: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولتُفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً".   1 جامع بيان العلم (1/104) . 2 الجامع للخطيب (1/232) . 3 كتاب العلم لأبي خيثمة (ص 10 ح 21) . 4 كتاب العلم لأبي خيثمة (ص 8 ح 13) . قال محققه الشيخ ناصر الدين الألباني: ثبت هذا مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رواه الطبراني عن ابن عمر، وحذيفة، وحسن إسناده المنذري. رواه الحاكم عن سعد بن أبي وقاص، وصححه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقال بشر بن الحارث: "إنما يراد من العلم العمل، اسمع وتعلم واعلم وعلّم واهرب، ألم تر إلى سفيان الثوري كيف طلب العلم، فعلِم وعلّم وهرب، وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها" 1. 6 - ومن تلك المعالم أيضاً ترك الجدل والمماراة في العلم والبعد عن مجادلة ومجالسة أهل الأهواء، وقد أكثر السلف رحمة الله عليهم من ذم أصحاب الأهواء والتحذير من مجالستهم، أو مجادلتهم، أو الاشتغال بالرد عليهم. وقد أورد أبو عبد الله بن بطة العُكبرى (ت 387هـ‍.) في كتاب "الإبانة الكبرى" عن ذلك أكثر من ثلاثمائة وأربعين نصاً ثم عقب على ذلك بقوله: "فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حُكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهوٌ يُتعلم ودراية يُتفكه بها، ولذة يُستراح إليها، ومهارشة العقول وتذريب اللسان بمحق الأديان، وضراوة على التغالب واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر، ومغالطة في القياس، وبُهت في المقالة، وتكذيب الآثار، ومكابرة لنص التنزيل، وتهاون بما قال الرسول، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة وضرواة السلاطة وتوغير للقلب، وتوليد للشحناء في النفوس عصمنا الله وإياكم وأعاذنا من مجالسة أهله" 2.   1 جامع بيان العلم (2/8) . 2 انظر الإبانة لابن بطة (2/531) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الفصل الأول: أُسس منهج طلب العلم عند السلف ... أسس منهج طلب العلم عند السلف أولاً: أول العلم النية قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1. وقال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} 2. وقال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} 3. وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ‍.) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 4. وروى الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ‍.) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "إن أول من تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة ثلاثة، فذكرهم وذكر منهم رجلاً تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلّمتُ العلمَ وعلَّمتُه وقرأتُ فيك القرآن. قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلمَ ليقال: عالم، وقرأتَ القرآنَ ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أُمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار ... " الحديث 5.   1 سورة البينة، آية رقم 5. 2 سورة الشورى، آية رقم 20. 3 سورة الإسراء، آية رقم 18. 4 رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي، الحديث الأول. ورواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب "إنما الأعمال بالنيات" (3/1515 ح 155) . 5 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (3/1514 ح 152) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وروى الحافظ أبو عبد الله بن ماجه في مقدمة سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من تعلّم العلم مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عَرَضاً من الدنيا، لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها 1. وأخرج بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا تتعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار" 2. وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463هـ‍.) : "يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه وتعالى". وقال أيضاً: "وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه، ... ". ثم قال: "وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه". وقال أيضاً: "وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل   1 سنن ابن ماجه، باب الانتفاع بالعلم والعمل به (1/92 ح 252) . ورواه الإمام أحمد في مسنده (2/338) ، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله (4/71 ح 3464) . وإسناده صحيح. 2 سنن ابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به (1/93 ح 254) . قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. ورواه ابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن ص 51 ح 90، باب النية في طلب العلم) ؛ والحاكم في مستدركه (1/85-86) أول كتاب العلم مرفوعاً وموقوفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 للحديث ليس معه منه شيء ... "، ثم ذكر عن الحسن البصري (ت 110هـ‍.) قوله: "همة العلماء الرعاية وهمة السفهاء الرواية" 1. قال بدر الدين بن جماعة (ت 733هـ‍.) : "يجب أن يقصد المعلم بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحق وخمول الباطل، واغتنام ثوابهم وثواب من ينتهي إليه علمه، وبركة دعائهم له وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبينهم، وعداده في جملة مبلَّغي وحي الله وأحكامه، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الله تعالى وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جُحرها يصلون على معلم الناس الخير" 2. وقال رحمه الله: "كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى؛ فإنه لا يتصل شيء من عمله إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وإذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم" اه‍. ملخصاً 3.   1 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/81-85، باب النية في طلب الحديث) . وكلام الحسن في (ص 91) ، وهو أيضا في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/6) . 2 انظر تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم (ص 47) . والحديث أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي عن أبي أمامة الباهلي في كتاب العلم من جامعه، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب" كما في تحفة الأشراف للحافظ المزي (4/177؛ وتحفة الأحوذي للمباركفوري 3/382) . 3 المصدر السابق (ص 63) ، والحديث رواه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (3/1255 ح 14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقال أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (ت 643هـ‍.) : "علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وينافر مساوئ الأخلاق ومشاني الشيم، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه، فليقدم تصحيح النية وإخلاصها، وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها، وليحذر بلية حب الرئاسة ورعوناتها" 1. وقال الشيخ عبد الحميد بن باديس: "غاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره، أما أكثر الطلاب فمنهم من تكون غايتهم الوظيفة، فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم، ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم، فهو مثل الأول، فأما الغاية الحقيقية التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم، ولا اهتمام بها من المعلمين. وحق على كل طالب أن تكون هي غايته، وهو مع ذلك نائل العلم ونائل ما يؤهله للوظيفة إن أبى إلا أن تكون الوظيفة من قصده، ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملاً في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه، ويكون مصدر هداية الناس في المستقبل، لكن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون بهذه الغاية، ويعملون لها، ويوجهون تلامذتهم لها. وما أعز هذا الصنف من الشيوخ" 2.   1 علوم الحديث، النوع السابع والعشرون (ص 213) . 2 ابن باديس لعمار الطالبي (4/203-204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ثانياً: منازل العلم (*) أخرج أبو عمر بن عبد البر النمري القرطبي (ت 463هـ‍.) بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك (ت 181هـ‍.) يقول: "أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر" 1. وبسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي عن محمد بن النضر الحارثي قال: "أول العلم الاستماع، قيل ثم ماذا؟ قال: الحفظ، قيل ثم ماذا؟ قال: العمل، قيل ثم ماذا؟ قال: النشر" 2. وبسنده أيضاً إلى سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ‍.) قال: "كان يُقال: أول العلم الصمت، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم نشره وتعليمه" 3. وأخرج أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ‍.) بسنده إلى سفيان الثوري قال: "ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم" 4. وعن عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216هـ‍. أو بعدها) قال: "أول العلم الصمت، والثاني: حسن الاستماع، والثالث: جودة الحفظ، والرابع: احتواء العلم، والخامس: إذاعته ونشره". وعن الضحاك بن مزاحم (ت 106هـ‍.) قال: "أول باب من العلم: الصمت، والثاني استماعه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه" 5.   (*) هذا العنوان مقتبس بنصه من كتاب جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر (1/118) ، ومعظم فقراته منقول منه كما في الحواشي الآتية. 1 انظر جامع بيان العلم وفضله (1/118) . 2 المصدر السابق (1/118) ؛ وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب (1/194) . 3 جامع بيان العلم (1/118) ؛ حلية الأولياء لأبي نعيم (6/362-363) . 4 حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (6/362-363) . 5 الجامع للخطيب البغدادي (1/194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ‍.) رحمه الله في مطلع رسالة الأصول الثلاثة: "اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم، وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه. والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسانَ لَفِي خُسرٍ إِلاَّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواَصَواْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِالصَّبْرِ} " 1. قال ابن القيم رحمه الله (ت 751هـ‍.) : " ... والعلم ست مراتب: أولها: حسن السؤال. الثانية: حسن الإنصات والاستماع. الثالثة: حسن الفهم. الرابعة: الحفظ. الخامسة: التعليم. السادسة: وهي ثمرته، وهي العمل به، ومراعاة حدوده. فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم إليه منه، كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذا حال كثير من الجهال المتعلمين. ومن الناس من يحرمه لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعه علماً كثيراً، ولو كان حَسَنَ الفهم. ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: من كان حَسَنَ الفهم، رديئَ الاستماع لم يقم خيره بشره. وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب العلل له قال: كان عروة بن الزبير يحب مماراة ابن عباس، فكان يخزن علمه عنه، وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزاً" اه‍. 2.   1 وانظر زاد المعاد لابن القيم (3/10) ، فقد فصل القول في هذه المسائل الأربع. 2 مفتاح دار السعادة (1/202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ثالثاً: الأدب قبل الطلب اشتهر عند السلف إرسال الصبيان عند بلوغهم سنّ التمييز إلى مؤدب، يُحفّظهم القرآن ويُعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة ويشرف على تأديبهم وتربيتهم وتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن، فإذا بلغوا سنَّ التكليف أحضرهم مجالس بعض العلماء ليقتدوا بهم في السمت والهدي والعبادة والعمل، ثم بعد ذلك يخرجهم إلى حلقات العلم. وقد أُطلق لقب "مؤدب" على جماعة ممن تفرغ لتأديب الصبيان، وعُرف بذلك. قال أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ‍.) : "كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة" 1. وقال عبد الله بن المبارك (ت 181هـ‍.) : "طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم" 2. وقال أيضاً: "كاد الأدب يكون ثلثي العلم" 3. وأخرج الخطيب في الجامع بسنده إلى مالك بن أنس قال: قال محمد بن سيرين (ت 110هـ‍.) : "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" 4. وبسنده إلى إبراهيم بن حبيب الشهيد (ت 203هـ‍.) قال: قال لي أبي: "يا بُني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم وخُذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن   1 انظر حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (6/316) . 2 غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (1/446) . 3 صفة الصفوة لابن الجوزي (4/120) . 4 الجامع لأخلاق الراوي آداب السامع (1/79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث" 1. وبسنده أيضاً إلى عبد الله بن المبارك قال: قال لي مخلد بن الحسين (ت 191هـ‍.) : "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث" 2. وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري (ت 344هـ‍.) قال: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسم بلا روح" 3. وعن عيسى بن حماد زغبة (ت 248هـ‍.) قال: سمعت الليث بن سعد (ت 175هـ‍.) يقول - وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئاً -: "ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم" 4. وقال سفيان بن عيينة (ت 198هـ‍.) : نظر عبيد الله بن عمر (ت 147هـ‍.) إلى أصحاب الحديث وزحامهم فقال: "شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أَدْركَنا وإياكم عمرُ بن الخطاب لأوْجَعَنا ضرباً" 5. وعن محمد بن عيسى الزجاج قال: "سمعت أبا عاصم يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس" 6. قال الخطيب البغدادي: "وقد رأيت خلقاً من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويَعُدُّون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يَدّعون، وأقلُّهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عدداً قليلاً من   1 المصدر السابق (1/80) . 2 المصدر السابق (1/80) . 3 انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/80) ؛ وأدب الإملاء للسمعاني (ص 2) . 4 انظر شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص 122) . 5 المصدر السابق (ص 123) . 6 انظر الجامع للخطيب (1/78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، أنه صاحب حديث على الإطلاق، ولمّا يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقتْهُ مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه". وقال: "وهم مع قلة كَتْبِهم له وعدم معرفتهم به، أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيهاً وعُجْباً، ولا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالب ذمة، يخْرقون - يجهلون - بالراوين ويعنّفون على المتعلمين، خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه ... " اه‍. ملخصاً 1. هذا كلام الخطيب البغدادي الذي عاش ما بين عامي 392هـ‍. و463هـ‍. في بعض محدثي أهل زمانه فماذا سيقول لو أدرك زماننا اليوم مطلع القرن الخامس عشر الهجري، كم من منتسب للعلم اليوم وليس من أهله ومتصدر للتدريس والفتوى وهو ليس من أهل ذلك الشأن، وكم من سالٍّ لسانه وقلمه ولمّا يحط علمه ببعض مسائل العلم فضلاً عن كثير منها، فادعى علم ما لم يعلم وإحسان ما لم يحسن، ورمى غيره بما هو أولى به منه، فإلى الله المشتكى وعند الله تجتمع الخصوم. رابعاً: اقتران العلم بالعمل قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} 2. وفي صحيح الإمام مسلم 3 عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق   1 الجامع (1/75، 77) . 2 سورة الصف، آية 2، 3. 3 كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يأتيه ... (4/2290 ح 51) ، وهو في البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار (الفتح 6/331 ح 3267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرَّحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه". وأخرج الخطيب البغدادي بسنده عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمُره فيمَ أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه" 1. وأخرج أبو محمد الدارمي (ت 255هـ‍.) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ يهرم فيها الكبير، ويربوا فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة؟ قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثُر قرَّاؤُكم وقلّت فقهاؤُكم، كثُرت أُمراؤكم وقلّت أُمناؤُكم، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة" 2. وقال الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 125هـ‍.) : "إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو شر غوائله" 3. وقال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103هـ‍.) : "كنا نستعين على حفظ   1 انظر اقتضاء العلم العمل (ص 16 ح 1) . والحديث أخرجه الترمذي في كتاب القيامة، الباب الأول، (4/611 ح 2417) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً الحافظ أبو محمد الدارمي في مقدمة سننه (ص 110 ح 543) . 2 سنن الدارمي، المقدمة باب تغيير الزمان وما يحدث فيه (ص 58 ح 91، 92) . وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/188) . 3 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/107-108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم" 1. وعن أبي قِلابَة عبد الله بن زيد الجَرْمي (ت 104هـ‍.) قال: "يا أيوب - يعني ابن أبي تميمة السختياني (ت 131هـ‍.) - إذا أحدث الله لك علماً فأَحْدِث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدّث به" 2. وعن الحسن البصري (ت 110هـ‍.) قال: "كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه ولسانه ويده" 3. وقال سفيان الثوري (ت 161هـ‍.) : "يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل" 4. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن المبارك: سُئل سفيان الثوري: طلب العلم أحب إليه أو العمل؟ فقال: "إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم" 5. وعن المرُّوذي، قال: قال لي أحمد: "ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا وقد عملت به، حتى مرّ بي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجّام ديناراً، فاحتجمتُ وأعطيتُ الحجّام ديناراً" 6.   1 المصدر السابق (2/11) . وورد نحوه عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع. انظر الجامع للخطيب (2/258-259) . 2 المصدر السابق (1/188؛ 2/10) ؛ واقتضاء العلم العمل للخطيب (ص 34-35 رقم 38) . 3 الزهد لعبد الله بن المبارك (ص 26 رقم 79) ؛ وسنن الدارمي (1/89 رقم 391) ؛ وجامع بيان العلم لابن عبد البر (1/60، 127) . وزاد الدارمي وابن عبد البر: " ... وصلاته وزهده". 4 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/10) ؛ اقتضاء العلم العمل (35-36 رقم 40، 41) لكنه عزاه فيه إلى علي بن أبي طالب، وابن المنكدر. 5 حلية الأولياء (7/12) . وعزاه في اقتضاء العلم العمل (ص 37 رقم 44) إلى الفضيل بن عياض. 6 الجامع للخطيب (1/144 رقم 184) ؛ وسير أعلام النبلاء (11/213) ؛ وشرح التبصرة للعراقي (2/228) ؛ وفتح المغيث للسخاوي (3/284) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 قال الحافظ ابن الصلاح (ت 643هـ‍.) : ورُوينا عن وكيع قال: "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به" 1. وأخرج ابن عبد البر بسنده إلى سفيان الثوري قال: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغِلو، فإذا شُغِلوا فُقِدوا، فإذا فُقِدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هربوا" 2. وعن حبيب بن حجر القيسي قال: "كان يُقال: ما أحسن الإيمان ويزينه العلم، وما أحسن العلم ويزينه العمل، وما أحسن العمل ويزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم" 3. وأخرج ابن عبد البر بسنده إلى علقمة عن ابن مسعود قال: "ما استغنى أحد بالله إلا احتاج إليه الناس، وما عمل أحد بما علّمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده" 4. وقال عمرو بن قيس الملائي (ت بعد 140هـ‍.) : "إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله" 5. وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال: "بتُّ ليلة عند الإمام أحمد،   1 علوم الحديث (ص 223) . 2 جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/8) . ثم عقب على كلام الثوري بقول بشر بن الحارث: "إنما يراد من العلم العمل. اسمع، وتعلّم، وعلّم واهرب. ألم تر إلى سفيان كيف طلب العلمَ فعلِم وعلَّم وهرب. وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها". 3 انظر: المعرفة والتاريخ للفسوي (3/505) ؛ والجامع للخطيب (1/94) ، وجامع ابن عبد البر (1/126) . 4 جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/10) . 5 الحلية لأبي نعيم الأصبهاني (5/102) ؛ الجامع للخطيب (1/144) ، وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص 123) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له وِرد بالليل" 1. وقال الخطيب البغدادي: "ينبغي لطالب العلم والحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنة على نفسه، فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 2" 3. هكذا كان هدي السلف الصالح ومنهجهم في طلب العلم: إنما هو لبلوغ رضوان الله بامتثال أمره واجتناب نهيه. لذلك كان لا يلبث الرجل منهم إذا طلب العلم أن يُرى أثر ذلك في هديه وسمته وتخشعه وعبادته. وكانوا سريعي الاستجابة، حريصين على الامتثال. فعندما يبلغ أحدهم سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُبادر إلى العمل والالتزام بها؛ كما كانوا حريصين على الفقه في الدين والاستزادة من العلم النافع والعمل الصالح في كل يوم وكل لحظة. وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي كان من دعائه في جوف الليل: "اللهم انفعني بما علّمتَني وعلِّمني ما ينفعني وزدني علماً" 4. قال إبراهيم الحربي: "لقد صحِبتُ أحمد بن حنبل عشرين سنة: صيفاً وشتاءً، حراًّ وبرداً، ليلاً ونهاراً فما لقيته لَقَاةً في يوم إلا هو زائد عليه بالأمس" 5.   1 المدخل للبيهقي (ص 330) ؛ الجامع للخطيب (1/143) ؛ سير أعلام النبلاء (11/298) . 2 سورة الأحزاب، أية 21. 3 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/142) . 4 رواه الترمذي من حديث أبي هريرة في الزهد، باب في العفو والعافية، رقم 3599. وهو في المستدرك عن أنس (1/510) بنحوه. 5 طبقات الحنابلة (1/92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ولم يكن من هديهم طلب العلم للتصدر والتحدث به في المجالس، بل كان همهم العبادة لله، والدعوة إلى دين الله على هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه. وهذا بخلاف ما عليه كثير ممن ينتسب إلى طلب العلم اليوم، إذ همُّ أكثرهم التصدر والتحدث في المجالس، لجذب الأنظار إلى شخصه، نسأل الله العافية!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الفصل الثاني: ما هو العلم المراد تعلمه ... ما هو العلم المراد تعلمه؟ أولاً: أنوع العلوم: قال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر (ت 463هـ‍.) : " ... وحدُّ العلم عند العلماء هو ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئاً وتبينه فقد علمه". ثم قال: "والعلوم تنقسم إلى قسمين: 1 - ضروري، 2 - ومكتسب. فحد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه، ولا يدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل. وأما العلم المكتسب فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر، وفيه الخفي والجلي، فما قرب من العلوم الضرورية كان أجلى، وما بعُد منها كان أخفى. والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: ـ 1 - علم أعلى2 - علم أوسط 3- علم أسفل. فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزله الله في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم. والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي تكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، ويستدل عليه بنظيره وبجنسه ونوعه، كعلم الطب والهندسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 والعلم الأسفل إحكام الصناعات ودروب الأعمال مثل السباحة، والفروسية، والرمي وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف، وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها 1. فالعلم الأول: علم الأديان، والثاني: علم الأبدان، والثالث: ما دربت على عمله الجوارح. واتفق أهل الأديان أن الأعلى هو علم الدين 2. وقال أبو إسحاق الحربي 3: "العلوم ثلاثة: علم دنياوي، وعلم دنياوي وأخراوي، وعلم لا للدنيا ولا للآخرة. العلم الذي للدنيا علم الطب والنجوم وما أشبه ذلك، والعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم الذي ليس للدنيا ولا للآخرة علم الشعر والشغل به" 4. وقال الحافظ ابن رجب (ت 795هـ‍.) : "قد ذكر الله تعالى في كتابه العلم تارة في مقام الحمد، وهو العلم النافع، وتارة في مقام الذم، وهو العلم الذي لا ينفع ... "، ثم قال: "ولهذا جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وإلى غير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، وسؤال الله العلم النافع. "ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" 5.   1 انظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/36-40) . 2 جامع بيان العلم وفضله (2/39) . 3 في الطبعة المنيرية "الحوفي" بالواو والفاء، والتصويب من طبعة دار ابن الجوزي تحقيق الزهيري. 4 انظر المصدر السابق (2/40) . 5 انظر صحيح الإمام مسلم، كتاب الذكر والدعاء (4/2088 ح 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وفي سنن ابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "سلوا الله علماً نافعاً، وتعوّذوا بالله من علم لا ينفع" 1" 2. وقال رحمه الله: "فالعلم - كما قال الحسن البصري - علمان: علم اللسان، فذاك حجة على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النافع، ثم قال: فالعلم النافع هو ما باشر القلب، فأوقر فيه معرفة الله، وعظمته، وخشيته، وإجلاله، وتعظيمه، ومحبته، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح تبعاً له" 3. ثانياً: معرفة الدين على أقسام ورتب قال أبو عمر بن عبد البر 4: "واتفق أهل الإسلام على أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام: أولها: معرفة خاصة الإيمان والإسلام، وذلك معرفة التوحيد والإخلاص، ولا يُوصل إلى علم ذلك إلا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو المؤدي عن الله، والمُبَيِّنُ لمراده، وبما في القرآن من الأمر بالاعتبار في خلق الله بالدلائل من آثار صبغته في بريته على توحيده وأزليته سبحانه والإقرار والتصديق بكل ما في القرآن بملائكة الله وكتبه ورسله". وقال الحافظ ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم: "فأفضل العلم العلم بالله، وهو العلم بأسمائه، وصفاته، وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته والتبتل إليه   1 سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء (2/1263 ح 3843) . وفي الزوائد: إسناده صحيح. 2 انظر فضل علم السلف على علم الخلف (ص 19-24) . 3 انظر شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم لابن رجب (ص 19) . 4 جامع بيان العلم وفضله (2/39-40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والتوكل عليه ... ويتبع ذلك العلم بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وتفاصيل ذلك، والعلم بأوامر الله، ونواهيه، وشرائعه، وأحكامه، وما يحبه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. "ومن جمع هذه العلوم من العلماء الربانيين، العلماء بالله العلماء بأمره، وهم أكمل ممن قصر علمه على العلم بالله دون العلم بأمره وبالعكس. وشاهد هذا النظر في حال الحسن، وابن المسيب، والثوري، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وحال مالك بن دينار، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي وغيرهم من العارفين، فمن قايس الحالين عرف فضل العلماء بالله بأمره على العلماء بالله فقط، فما الظن بتفضيل العلماء بالله وبأمره على العلماء بأمره فقط، فإن هذا واضح لا خفاء فيه" 1. والقسم الثاني:2 معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه، وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي شرح الله الدين على لسانه ويده، ومعرفة أصحابه الذين أدّوا ذلك عنه، ومعرفة الرجال الذين حملوا ذلك عنهم، وطبقاتهم، ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر لتواتره وظهوره. والثالث: معرفة السنن وواجبها وأدبها وعلم الأحكام، وفي ذلك يدخل خبر الخاصة والعدول، ومعرفته، ومعرفة الفريضة من النافلة، ومخارج الحقوق، والتداعي، ومعرفة الإجماع والشذوذ. قالوا: ولا يوصل إلى الفقه إلا بمعرفة ذلك، وبالله تعالى التوفيق" اه‍. ملخصاً.   1 - شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم لابن رجب، ص 41. 2 - هذا يتبع لتقسيم ابن عبد البر السابق ذكره قبل كلام ابن رجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقال الخطيب البغدادي: "فواجب على كل أحد طلب ما تلزمه معرفته مما فرض الله عليه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه، وكل مسلم بالغ عاقل من ذكر وأنثى حر وعبد تلزمه الطهارة، والصلاة، والصيام فرضاً. فيجب على كل مسلم تعرّف علم ذلك. وهكذا يجب على كل مسلم أن يعرف ما يحل له وما يحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس، والفروج، والأموال، والدماء، فجميع هذا لا يسع أحداً جهلُه، وفرضٌ عليهم أن يأخذوا في تعلّم ذلك حتى يبلغوا الحلم وهم مسلمون، أو حين يسلمون بعد بلوغ الحلم. ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الإماء على تعليمهن ما ذكرنا، وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك ويرتب أقواماً لتعليم الجهّال، ويفرض لهم الرزق في بيت المال، ويجب على العلماء تعليم الجاهل ليتميز له الحق من الباطل" 1. أخرج الخطيب البغدادي في الجامع عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي (ت 227هـ‍.) قال: "بينا أنا عند شعبة ذات يوم إذ جاءه رجل غريب، فقال: يا أبا بسطام حدثني بحديث حماد عن إبراهيم أنه قال: لأن يلبس الرجل في طلب العلم النعلين زمامهما من حديد، فلم يحدثه شعبة به. فقال: يا أبا بسطام أنا رجل من أهل المغرب، أتيتك لهذا الحديث من مسيرة ستة أشهر. فقال: ألا تعجبون من هذا جاء من مسيرة ستة أشهر يسألني عن حديث لا يُحل حراماً ولا يُحرِّم حلالاً!! اكتبوا: حدثني قتادة، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" ثم قال له: إذا سألت يا أخا أهل المغرب فَسَلْ عن مثل هذا، وإلا فقد ذهبت رحلتك باطلاً" 2.   1 الفقيه والمتفقه (1/46) . 2 2/226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وأخرج أيضاً في تاريخه 1 عن ابن جريج قال: "أتيت عطاءً وأنا أريد هذا الشأن، وعنده عبد الله بن عبيد بن عمير. فقال لي عبد الله بن عبيد: قرأت القرآن؟ قلت: لا. قال: فاذهب فاقرأِ القرآن ثم اطلب العلم. قال: فذهبت فغبرت زماناً حتى قرأت القرآن، ثم جئت إلى عطاء، وعنده عبيد الله بن عبيد فقال: تعلمت القرآن - أو قرأت القرآن -؟ قلت: نعم. قال تعلمت الفريضة؟ قلت: لا. قال: تعلم الفريضة ثم اطلب العلم. قال: فطلبت الفريضة ثم جئت فقال: تعلمت الفريضة؟ قلت: نعم. قال: الآن اطلب العلم. قال فلزمت عطاءً سبع عشرة سنة". وعن أحمد بن حبان المعروف بشامط قال: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ فقال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الورد؟ قل ما أحب ذلك. فقمتُ فتعلّق بثوبي ثم قال: أَيْشٍ تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكتُّ. فقال: أَيْشٍ تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكتُّ. فقال: اذهب فتعلّمْ هذا" 2. ثم قال ابن عبد البر - في باب رتب طلب العلم 3: "طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعدّيها، ومن تعدّاها جملة فقد تعدّى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدّى سبيلهم عامداً ضلّ، ومن تعدّاه مجتهداً زلّ. فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهُّمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه. ولا أقول إن حفظه كله فرض، لكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً، وليس من باب الفرض".   1 تاريخ بغداد (10/401-402) ؛ تهذيب الكمال (18/346) . 2 طبقات الحنابلة (1/41) . 3 انظر جامع بيان العلم وفضله (2/166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وذكر بإسناده إلى الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ} 1 قال: "حق على كل من تعلّم القرآن أن يكون فقيهاً" 2. وقال ابن جرير الطبري رحمه الله (ت 310هـ‍.) بعد ذكره لأقوال السلف في تفسير هذه الآية: "فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: هم فوق الأحبار، لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم والفقه والبصر بالسياسة والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دينهم ودنياهم" 3. وقال ابن عبد البر: "فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان له ذلك عوناً كبيراً على مراده منه ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه، ويقف على اختلاف العلماء في ذلك، وهو أمر قريب على من قرّبه الله عليه. ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً، وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تنبيه على كثير من الناسخ والمنسوخ في السنن. "ومن طلب السنن فليكن معوله على حديث الأئمة الثقات الحفاظ الذين جعلهم الله خزائن العلم وأمناء سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كمالك بن أنس ومن جرى مجراه من ثقات علماء الحجاز، والعراق، والشام كشعبة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، ومعمر وسائر الأئمة رحمهم الله جميعاً".   1 سورة آل عمران، آية 79. 2 انظر تفسير ابن كثير (2/55) . 3 تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر (6/543-544) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقال رحمه الله: "ويلزم صاحب الحديث أن يعرف الصحابة الذين نقلوا الدين عن نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ويُعنى بسيرهم وفضائلهم، ويعرف أحوال الناقلين عنهم وأخبارهم حتى يقف على معرفة العدول منهم من غير العدول، وهو أمر قريب كله على من اجتهد" 1. وقال أيضاً: "فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عُنِيَ بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء فجعلها عوناً له على اجتهاده ومفتاحاً لطرائق النظر، وتفسيراً لجمل السنن المحتمل للمعاني، ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم، ومن أعفى نفسه من النظر وأضرب عما ذكرنا وعارض السنن برأيه ورام أن يردها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضلّ، ومن جهل ذلك كله أيضاً وتقحم في الفتوى بلا علم فهو أشر عمى وأضل سبيلاً" 2. وقال الحافظ ابن رجب (ت 795هـ‍.) رحمه الله: "واعلم أن علم الحلال والحرام علم شريف ومنه ما تعلُّمه فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية. وقد نصّ العلماء على أن تعلّم - يعني فرض الكفاية - أفضل من نوافل الطاعات، منهم أحمد، وإسحاق بن راهويه. وكان أئمة السلف يتوقَّون الكلام فيه تورعاً، لأن المتكلم فيه مخبر عن الله بأمره ونهيه، ومبلّغ عنه شرعه ودينه. كان ابن سيرين إذا سُئل عن شيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.   1 جامع بيان العلم وفضله (2/169) . 2 المصدر نفسه (2/172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قال عطاء بن السائب: أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليُسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد. كان الإمام أحمد شديد التورع في إطلاق الحلال والحرام ودعوى النسخ ونحو ذلك مما يجسر عليه غيره كثيراً" 1.   1 شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم (ص 24-25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفصل الثالث: البرنامج العملي للطالب أثناء تعلمه ... البرنامج العملي للطالب أثناء تعلمه هذا البرنامج ذكره الحافظ بدر الدين بن جماعة (ت 733هـ‍.) في الباب الثالث من كتابه القيّم تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم 1، وذلك جمعاً وتلخيصاً من أقوال وكتب الأئمة السابقين له، كالخطيب البغدادي (ت 463هـ‍.) 2، والحافظ أبي عمر بن عبد البر (ت 463هـ‍.) 3، والإمام النووي (ت 676هـ‍.) 4 وغيرهم، مضيفاً إلى ذلك ما توصل إليه اجتهاده وخبراته في طلب العلم والتعليم. وقد خصص رحمه الله هذا الباب لآداب الطالب: أولاً: في نفسه، ثانياً: مع شيخه، ثالثاً: في درسه. واقتصرت هنا على أهم تلك الآداب التي نقلها عن السلف، مما له تعلق بالبرنامج العملي لطالب العلم، ومما يحتاجه طالب العلم اليوم، مضيفاً إليه ما وجدته في هذا الباب عند غيره مما له تعلق به.   1 انظر الباب الثالث منه (ص 67-163) . 2 للخطيب البغدادي في هذا الفن ثلاثة كتب: 1- اقتضاء العلم العمل. 2- الفقيه والمتفقه. 3- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. 3 لابن عبد البر في هذا الفن كتاب قيم ومهم، وهو جامع بيان العلم وفضله. 4 للنووي في هذا المجال كتابة مطولة ومفيدة جداً، وذلك في مقدمة كتابه المجموع شرح المهذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أولاً: آداب الطالب في نفسه 1 - تطهير القلب من كل غش وغل وحسد وسوء معتقد أو خلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه. 2 - حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به، وإحياء السنة، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه. قال سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي" 1. وقال أبو يوسف القاضي رحمه الله: "يا قوم أريدوا بعلمكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلاّ لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح. والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب" 2. 3 - المبادرة إلى تحصيل العلم في وقت الشباب، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض. ويقطع ما يقدر على قطعه من العلائق الشاغلة والمانعة من تمام الطلب، وبذلك الاجتهاد والجد في التحصيل، ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن أثناء الطلب. وما أكثر الذين غرتهم خدع التسويف والتأميل من الطلبة اليوم، فتجد الطالب منهم في مرحلة الدارسة يؤجل كثيراً من الأمور المهمة كحفظ كتاب الله، وحفظ المتون، والتدرج في أساسيات العلم وغير ذلك، وذلك بحجة أنه بعد التخرج سيتفرغ لكل هذه الأمور وغيرها، ثم يفاجأ بعد التخرج من الدراسة   1 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 68) . 2 المصدر نفسه (ص 69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 بكثير من الأعمال والمشاغل التي ما كانت تلزمه وهو طالب، إذ بعد تخرجه يصبح مدرساً، أو موظفاً ورب أسرة، وكل ذلك له مسؤولياته. ومن المقطوع به أن الشاب في مرحلة الطلب أفرغ ما يكون حيث لا علائق ولا مشكلات - في الغالب - لكن كثيراً من الطلبة يهدرون أوقاتهم في الأكل والنوم والجدل والخصومات، والاشتغال بما لا يلزمهم الاشتغال به في هذه المرحلة، عكس ما كان عليه السلف رحمهم الله، من الجد والمثابرة والحرص على التحصيل، واغتنام الفرص والأوقات في مرحلة الطلب لحفظ العلم والتفقه فيه والعمل به. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" 1. 4 - أن يقنع من القوت بما تيَسَّر ومن اللباس بما يستر مثله، وإن كان خَلِقاً، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم ويجمع شمل القلب من مفترقات الآمال. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "لا ينال أحد هذا العلم بالمال وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح" 2. 5 - أن يقسّم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة له، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الإبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل. قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط   1 رواه الحاكم في المستدرك (4/306) ، والخطيب في اقتضاء العلم العمل حديث رقم 170. وصححه الشيخ ناصر الألباني كما في حاشية الاقتضاء، وانظر صحيح الجامع ح رقم 1088. 2 شرح التبصرة والتذكرة للعراقي (2/224) ؛ وجامع بيان العلم وفضله (1/98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 النهار ثم الغداة، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود أماكن الحفظ الغرف، وكل موضع بعيد عن الملهيات. وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات، لأنها تمنع من خلو القلب غالباً" 1. 6 - أن يقلل من نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عن ثمان ساعات، وهي ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل. ولا بأس أن يريح نفسه، وقلبه، وبصره إذا كلّ شيء من ذلك، أو ضعف بتنزه في المتنزهات، بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه، ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به، فقد قيل إنه ينعش الحرارة ويذيب فضول الأخلاط وينشط البدن. 7 - من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال بالعلم والفهم وعدم الملال أكل القدر اليسير من الحلال. وسبب ذلك أن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم والبلادة وقصور الذهن والفتور الحواس، وكسل الجسم، هذا مع ما فيه من الكراهية الشرعية والتعرض لخطر الأسقام البدنية، ولم يوصف أحد من الأولياء والأئمة العلماء بكثرة الأكل، ولا حُمِدَ به، وإنما يُحمد كثرة الأكل من الدواب التي لا تعقل.   1 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 73) ، وانظر الفقيه والمتفقه للخطيب (2/103-104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قال أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في نونيته: لا تحشُ بطنَك بالطعام تَسَمُّناً ... فَجُسُومُ أهلِ العلمِ غيرُ سِمانِ أقلِلْ طعامَك ما استطعتَ فإنهُ ... نَفعُ الجُسومِ وصحَّةُ الأَبْدانِ واملِكْ هواك بضبطِ بَطنِكَ ... إنهُ شرُّ الرِّجالِ العاجزُ البَطنَانِ والأولى أن أكثر ما يأخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما ملأ ابن آدم وِعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامِه، وثلثٌ لشرابه، وثلث لنفَسِهِ" 1. 8 - أن يقلل استعمال المطاعم التي هي من أسباب البلادة وضعف الحواس كالتفاح الحامض، والباقلاء، وشرب الخل وكذلك استعمال ما يسبب البلغم المبلد للذهن، المثقل للبدن، ككثرة الألبان، والسمك وأشباه ذلك. وينبغي أن يستعمل ما جعله الله تعالى سبباً لجودة الذهن كمضغ اللبان، والمصطكى حسب العادة، وأكل الزبيب بكرة، ولعق العسل ونحو ذلك. كان الإمام الزهري (ت 124هـ‍.) يحث تلاميذه على حفظ الحديث، ويقول: "من أحب أن يحفظ الحديث فليأكل الزبيب"، وكان رحمه الله يتصبح بلعق العسل 2. 9 - أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه، وشرابه، ولباسه، ومسكنه، وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله ليستنير قلبه   1 رواه الإمام أحمد في المسند (4/132) من حديث المقدام بن معدي كرب، والترمذي في كتاب الزهد من جامعه، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، وقال: هذا حديث حسن صحيح (4/590 ح 2380) . 2 انظر الجامع للخطيب (2/262) ؛ وسير أعلام النبلاء (5/335، 347) من ترجمة الزهري؛ وزاد المعاد (4/319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ويصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به، ولا يقنع لنفسه بظاهر الحل شرعاً مهما أمكنه التورع، ولم تلجئه حاجة، أو يجعل حظه الجواز بل يطلب الرتبة العالية، ويقتدي بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون بجوازه. قال أبو الدرداء: "تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيَه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يُرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً، حجاباً بينه وبين الحرام". وعن ابن عمر قال: "إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها" 1. وعن ميمون بن مهران: "لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال" 2. وعن سفيان بن عيينة: "لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال" 3. وأحق من يقتدى به في ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ومن نظم عبد الله بن المبارك 4: يا طالبَ العلمِ بادِرِ الورعاَ ... وهاجرِ النومَ واهجُرِ الشبعا 10 - ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه، فإن تسرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه ولا يفيده ولا يستفيد منه، ولا يعينه على   1 جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/209) . 2 الحلية لأبي نعيم (4/84) . 3 الحلية (7/288) . 4 جامع بيان العلم وفضله (1/192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ما هو بصدده فليتلطف في قطع عشرته من أول الأمر قبل تمكنها، فإن الأمور إن تمكنت عسُرت إزالتُها. فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صاحباً صالحاً ديِّناً تقياً ورِعاً ذكياً 1، كثير الخير قليل الشر، حسن المداراة قليل المماراة، إن نسي ذكَره، وإن ذكر أعانه وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبّره. قال الزرنوجي: "وأما اختيار الشريك فينبغي أن يختار المُجد الورع، وصاحب الطبع المستقيم والمتفهم، ويفر من الكسلان والمعطل والمكثار والمفسد والفتان 2" 3.   1 قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة". رواه البخاري في الذبائح، باب المسك، ح 5534. 2 انظر تعليم المتعلم للزرنوجي (ص 8) . 3 هذه التوجيهات سديدة ونصائح مفيدة لطالب العلم ليتجنب مصاحبة مَنْ هذه صفاته، وما أكثر الذين يتصفون بهذه الصفات من الشباب في كل عصر، حتى أصبح الأصل في كثير منهم الكسل، والبطالة، وكثرة الهرج، فضلاً عن خوضهم في الفتن واستشرافهم لها. فعلى الطالب أن لا يصاحب إلا صاحب التقى والورع والعبادة، الذي يزداد بصحبته إيماناً، وبقربه قرباً من الله عز وجل. وليحذر أشد الحذر من المتحذلق عليم اللسان، المتظاهر بالورع المتكلف في العبادة، وهو أضعف الناس عبادة وأقلهم ورعاً. إذا خاصم فجر، وإذا حدّث كذب، يضمر في قلبه خلاف ما لاكه لسانه. وفي الحلية لأبي نعيم (7/46) : "قيل لسفيان: من نجالس؟ قال: من تذكركم بالله رؤيتُه، ويرغبكم في الآخرة عملُه، ويزد في علمكم منطقُه". وفي الإبانة للحافظ ابن بطة (1/205 رقم 44) قال الحافظ عمرو بن قيس الملائي: "إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشؤه". وفيه برقم 43 عن عبد الله بن شوذب قال: "إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها". وفي الإبانة أيضاً (2/479-480) عن يوسف بن عطية عن قتادة قال: "إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله، فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم". وفيه رقم 512 عن مالك بن دينار قال: "الناس أجناس كأجناس الطير: الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، والصعو - نوع من الطيور - مع الصعو، وكل إنسان مع شكله". ثم قال ابن بطة: "فانظروا رحمكم الله من تصحبون وإلى من تجلسون واعرفوا كل إنسان بخدنه وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال وعافية من قبح الأفعال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 11 - قال الخطيب البغدادي: "يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذل في المجالس بالسخف والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح، والإكثار منه. وإنما يستجاز من المزاح يسيره ونادره، وطريفه الذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم. فأما متصله، وفاحشه، وسخيفه، وما أوغر منه الصدور، وجلب الشر فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر ويزيل المروءة" 1. ثانياً: آداب الطالب مع شيخه 2 1 - ينبغي للطالب أن يقدم النظر، ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته وتحققت شفقته، وظهرت مروءته، وعُرفت عفّته، واشتهرت صيانته، وكان أحسن تعليماً وأجود تفهيماً، ولا يرغب الطالب في زيادة علم مع نقص في ورع، أو دين، أو عدم خلق جميل. فقد رُوي عن كثير من السلف قولهم: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" 3. قال الخطيب: "ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة وعُرف   1 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/156) . 2 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 85) . 3 انظر هذا الأثر عن ابن سيرين في مقدمة صحيح الإمام مسلم (1/24) ، وقد رُوي عن غيره أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بالستر والصيانة، قد رسم نفسه بآداب العلم من استعمال الصبر والحلم، والتواضع للطالبين، والرفق بالمتعلمين، ولين الجانب، ومداراة الصاحب وقول الحق، والنصيحة للخلق وغير ذلك من الأوصاف الحميدة ... " 1. قال بدر الدين بن جماعة:"إذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفع يحصل غالباً والفلاح يدرك طالباً إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وعلى شفقته ونصحه للطلبة دليل ظاهر، وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى والأزهد أوفر، والفلاح بالاشتغال به أكثر" 2. ولا يأخذ ممن أخذ علمه من بطون الأوراق، ولم يُعرف بصحبة المشايخ الحذاق. وقال بعضهم: "من أعظم البلية تشييخ الصُّحُفِيَّة - أي الذين تعلموا من الصحف". وقال ثور بن يزيد: "لا يفتى الناس الصحفيون". وقال أبو زرعة: "لا يفتى الناس صحفي ولا يقرئهم مصحفي" 3. 2 - تقديره وتواضعه وإجلاله لشيخه، وبذل الجهد في خدمته وعدم التقدم بين يديه. قال الإمام شعبة بن الحجاج الواسطي (ت 160هـ‍.) : "كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنتُ له عبداً ما حيي" 4.   1 الفقيه والمتفقه (2/96) . 2 في مقدمة التمهيد للحافظ ابن عبد البر (1/86) : قيل للإمام مالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله. فقال: "لتعلمُنَّ إنه لا يرتفع من هذا إلا ما أُريد به وجه الله". قال الراوي: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سُمع لشيء منها بعد ذلك بذكر. اه‍. 3 الفقيه والمتفقه للخطيب (2/97) . 4 جامع بيان العلم وفضله (1/127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ويعظم حرمته، ويرد غيبته، ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس. وينبغي أن يدعوا له، وأن يرعى له حقه في ذريته وأقاربه من بعده 1. وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "وينبغي للمتعلم أن يحسن الأدب مع معلمه، ويحمد الله إذ يسر له من يعلمه من جهله، ويحييه من موته، ويوقظه من سِنَتِه، وينتهز الفرصة كل وقت في الأخذ عنه، ويكثر الدعاء له حاضراً وغائباً ... " 2. 3 - ملازمته لشيخه للاستفادة من أدبه وأخلاقه وسمته. قال أبو الدرداء: "مِن فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم" 3. وقال إبراهيم النخعي (ت 96هـ‍.) : "كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودلِّه". وعن ابن وهب قال: "ما تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه". ولقد أحسن عبد الله بن المبارك حيث يقول 4: أيُّها الطالب عِلماً ... ائتِ حمادَ بنَ زَيْدِ فَالْتَمِسْ حِلْماً وعِلْماً ... ثمَّ قيِّدْهُ بِقَيْدِ 4 - أن يتأدب في الجلوس بين يديه ويشد ذهنه إليه ويُحضر له كامل حواسه، ولا يقصر في الإصغاء فيتشاغل بفكر، أو حديث أو نحو ذلك. وعن الحسن بن   1 تذكر السامع والمتكلم (ص 90) . 2 الفتاوى السعدية (ص 101-102) . 3 جامع بيان العلم وفضله (1/127) . 4 المصدر السابق في الموضع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 علي رضي الله عنهما قال لابنه: "يا بُنيّ! إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يمسك" 1. 5 - أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته، وحسن عقيدته، ويحمل أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن محمل، ويتأولها على أحسن تأويل، والتماس العذر له 2. عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "إن من حق العالم ألا تُكثر عليه بالسؤال، ولا تُعنته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سراً، ولاتغتابنّ عنده أحداً، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقره، وتعظمه لله، ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلسنّ أمامه، وإن كانت له حاجة سبقتَ القوم إلى خدمته" 3. 6 - إذا سمع من شيخه شيئاً قد سمعه أو يحسنه فليصغ إليه إصغاء من يسمع ذلك لأول مرة. قال عطاء بن أبي رباح (ت 114هـ‍.) : "إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأُريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً" 4. وقال أيضاً: "وإني لأسمع الشاب ليتحدث بالحديث فأسمع له كأني لم أسمع به، ولقد سمعته قبل أن يُولد" 5.   1 المصدر نفسه (1/130) . 2 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 91) . 3 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/129) . 4 في الحلية لأبي نعيم (3/311) ترجمة عطاء بن أبي رباح: "عن معاذ بن سعد الأعور قال: كنت جالساً عند عطاء بن أبي رباح فحدث بحديث فعرض رجل من القوم في حديث، فغضب وقال: ما هذه الأخلاق؟ وما هذه الطبائع؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به ... ". 5 ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة عطاء في سير أعلام النبلاء (5/86) عن ابن جريج، عن عطاء ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ولا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة، أو جواب سؤال منه، أو من غيره، ولا يساوقه فيه" 1. 7 - أن لا يستحي من السؤال عما أشكل عليه فهمه بتلطف وحسن خطاب وحسن أدب، ولا يسأل عن شيء في غير موضعه، وإذا سكت الشيخ عن الجواب لم يلح عليه، وإن أخطأ في الجواب تلطف في التصحيح 2. 8 - قال عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216هـ‍.) : "إذا كانت في العالم خصال أربع، وفي المتعلم خصال أربع، اتفق أمرهما وتمَّ، فإن نقصت من واحد منها خصلةٌ لم يتِمَّ أمرهما. أما اللاتي في العالم: فالعقل، والصبر، والرفق، والبذل. وأما اللاتي في المتعلم: فالحرص، والفراغ، والحفظ، والعقل؛ لأن العالم إن لم يحسن تدبير المتعلم بعقله خلط عليه أمره، وإن لم يكن له صبر عليه ملَّهُ، وإن لم يرفق به بغّض إليه العلم، وإن لم يبذل له علمه لم ينتفع به. وأما المتعلم فإن لم يكن له عقل لم يفهم، وإن لم يكن له حرص لم يتعلم، وإن لم يفرِّغ للعلم قلبه لم يعقل عن معلمه، وساء حفظه، وإذا ساء حفظه كان ما يكون بينهما مثل الكتاب على الماء" 3. ثالثاً: آداب الطالب في درسه وبرنامجه فيه 1 - قال أبو عمر بن عبد البر (ت 463هـ‍.) : "طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعدّيها، ومن تعدّاها جملة فقد تعدّى سبيل السلف - رحمهم   1 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 106) وفيه (ص 107) : "وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ من كلامه، ثم يتكلم، ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه أو مع عامة المجلس ... ". 2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 104) . 3 الجامع للخطيب (1/343) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الله - ومن تعدّى سبيلهم عامداً ضلّ، ومن تعدّاه مجتهداً زلّ. فأول العلم حفظ كتاب الله جلّ وعزّ، وتفهّمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه، ولا أقول إن حفظه كله فرض، ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً، ليس من باب الفرض" 1. وقال الحافظ ابن جماعة (ت 733هـ‍.) : "يبتدئ أولاً بكتاب الله عز وجل فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها" 2. وقال الخطيب البغدادي (ت 463هـ‍.) : "ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل، إذ كان أجلّ العلوم وأولاها بالسبق والتقديم" 3. 2 - ثم يحفظ من كل فنٍّ مختصراً يجمع فيه بين طرفي الحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والنحو والتصريف، ولا يشغله ذلك عن مدارسة القرآن وتعهده وملازمته وِرده من كل يوم أو أيامٍ أو جمعةٍ، وليحذر من نسيانه بعد حفظه، فقد ورد فيه أحاديث تزجر عنه 4. 3 - ثم يشتغل بشرح تلك المختصرات على المشايخ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب أبداً، بل يعتمد في كل فن من هو أحسن تعليماً له، وأكثر تحقيقاً فيه وتحصيلاً منه، وأخبرهم بالكتاب الذي قرأه، بعد مراعاة الصفات التي تقدم ذكرها من الصلاح، والاستقامة، وحسن المعتقد، الورع ونحو ذلك 5.   1 جامع بيان العلم وفضله (2/166) . 2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 112-113) . 3 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/106) . 4 تذكرة السامع والمتكلم (ص 113) . 5 تذكرة السامع والمتكلم (ص 113-114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 4 - وليأخذ من الحفظ والشرح ما يمكنه ويطيقه حاله من غير إكثار يُملّ، ولا تقصير يُخلّ بجودة التحصيل. قال الخطيب البغدادي: "ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يطيقه، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويُحكم حفظه ويُتقنه". ثم ذكر بإسناده إلى إسماعيل بن علية قال: "كنت أسمع من أيوب خمسة أحاديث، ولو حدثني بأكثر من ذلك ما أردت". وعن سفيان الثوري قال: "كنت آتي الأعمش ومنصوراً فأسمع أربعة أحاديث، خمسة، ثم أنصرف كراهة أن تكثر وتفلت". وفي ترجمة سفيان الثوري في الحلية لأبي نعيم الأصبهاني: عن زيد بن الحُباب قال: "سمعت الثوري وسأله شيخ عن حديث فأجابه، ثم عن آخر فأجابه، ثم عن ثالث فأجابه، ثم سأله في الرابعة، فقال: إنما كنت أقرأ على الشيوخ الحديثيْن والثلاثة، لا أزيد حتى أعرف العلم والعمل بها. فألح الشيخ عليه فلم يجبه. فجلس الشيخ يبكي، فقال له سفيان: يا هذا تريد ما أخذتُه في أربعين سنة تأخذه أنت في يوم واحد؟ ". وعن شعبة أيضاً قال: "كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثيْن، فيحدثني، ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا، حتى أحفظهما وأُتقنهما" 1. وعن يونس بن يزيد قال: قال لي ابن شهاب: "يا يونس، لا تكابر العلم، فإن العلم أودية بأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي. ولا تأخذِ العلم جملةً، فإن من رام أَخْذَه جملةً ذهب عنه جملةً، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي" 2.   1 انظر هذه النصوص وغيرها في الجامع للخطيب (1/231-232) . 2 جامع بيان العلم وفضله (1/104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وعن عبد الرزاق عن معمر قال: سمعت الزهري يقول: "من طلب العلم جُملةً فاتَه جملةً، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان" 1. وعن أبي عمرو الأوزاعي قال: "عرضنا على مالك "الموطأ" في أربعين يوماً، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً! قلما تفقهون فيه" 2. 5 - إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات، انتقل إلى بحث المبسوطات 3 مع المطالعة الدائمة وتعليق ما يمر به، أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة. ولا يستقلُّ فائدة يسمعها، أو يتهاون بقاعدة يضبط بها، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها. ولتكن همته في طلب العلم عالية، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيره، ولا يقتنع من إرث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بيسيره، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه، وزمن عافيته، وشرخ شبابه، ونباهة خاطره، وقلة شواغله قبل عوارض البطالة، أو موانع الرياسة 4. قال عمر رضي الله عنه: "تفقهوا قبل أن تسودوا" 5.   1 الجامع للخطيب (1/232) . 2 التمهيد (1/77) . 3 هكذا يكون التدرج في طلب العلم: يبدأ المتعلم بحفظ كتاب الله عز وجل، ثم يحفظ من كل فنٍّ متناً مختصراً، ثم يطلب شرح تلك المختصرات على الشيوخ المتخصصين، ثم ينتقل بعد التأهيل إلى المطالعة والبحث في المبسوطات. أما حال كثير من المتعلمين اليوم فهو عكس ذلك، حيث تجد كثيراً منهم لم يثن ركبه عند شيخ ولا أنهى حفظ متن من أساسيات العلم، ومع ذلك فهو لا يطالع ويقرأ أو يبحث إلا في المطولات والمبسوطات، كالمغني لابن قدامة، أو مجموع الفتاوى لابن تيمية، أو فتح الباري، والمحلى، ونيل الأوطار ونحو ذلك. ثم فجأة يتصدر للتأليف والفتوى، فيأتي بالعجائب والغرائب. 4 تذكرة السامع والمتكلم (133-134) . 5 الدارمي، المقدمة (1/69) ؛ الفقيه والمتفقه (2/78-79) . وانظر جامع بيان العلم وفضله (1/86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال الشافعي: "تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه" 1. 6 - أن يرغّب بقية الطلبة في التحصيل ويدلهم على مظانه ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه، ويهون عليهم مؤنته ويذاكرهم بما حصله من الفوائد والقواعد والضوابط، وينصحهم في الدين، فبذلك يستنير قلبه، ويزكو عمله، ومن بخل عليهم بعلمه لم يثبت عمله، وإن ثبت لم يثمر، ولا يفخر على بقية الطلبة أو يعجب بجودة ذهنه، بل يحمد الله تعالى على ذلك، ويستزيده منه بدوام شكره 2. 7 - التبكير بسماع الحديث، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه، ويعتني بالصحيحين، ثم السنن، والموطأ، والمسانيد، وبقية كتب الحديث، ويعتني بمعرفة صحيح الحديث، وحسنه، وضعيفه، ومسنده، ومرسله، وسائر أنواعه، فإنه أحد جناحي العالم بالشريعة، والآخر هو القرآن. ولا يكتفي بمجرد السماع، بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية. قال الخطيب البغدادي: "من أول ما ينبغي أن يستعمله الطالب شدّة الحرص على السماع، والمسارعة إليه والملازمة للشيوخ ... " ثم قال: "ويبتدئ بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة للسُّنن، وأحقها بالتقديم كتاب "الجامع" والمسند الصحيحان لمحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري. ومما يتلو الصحيحين سنن أبي داود، وأبي عبد الرحمن النسائي، وأبي عيسى الترمذي، وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، الذي شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.   1 الفقيه والمتفقه (2/78) ؛ تذكرة السامع والمتكلم (ص 134) . 2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 162-163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ثم كتب المسانيد الكبار، كمسند الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وأبي يعقوب إسحاق بن راهويه، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حُميد الكشي وغيرهما ... " إلى أن قال: "وأما موطأ الإمام مالك بن أنس فهو المقدم في هذا النوع، ويجب أن يبتدئ بذكره على كل كتاب غيره، ثم الكتب المتعلقة بعلل الحديث، منها: كتب أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبي حاتم الرازي، وأبي علي الحافظ النيسابوري، وأبي الحسن الدارقطني، وكتاب "التمييز" لمسلم بن الحجاج. ثم تواريخ المحدثين وكلامهم في أحوال الرواة، مثل كتاب ابن معين، الذي يرويه عنه عباس الدوري، وكتاب خليفة بن خياط العصفري، ويعقوب بن سفيان الفسوي، وأبي خيثمة النسائي، وأبي زرعة الدمشقي، وحنبل بن إسحاق الشيباني، ومحمد بن إسحاق النيسابوري، وكتاب "الجرح والتعديل" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ويُربي على هذه الكتب كلها "تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري" فإذا أحرز صدراً مما ذكرناه فلا عليه أن يشتغل بالسماع والكَتْبِ للفوائد المنثورة غير المدونة المجموعة، يَعْمد إلى استيعابها دون انتخابها" اه‍. ملخصاً 1. وقال الحافظ ابن عبد البر: "واعلم - رحمك الله - أن طلب العلم في زماننا هذا، وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم، وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم. فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه، قد رضيت بالدؤوب في جمع ما لا تفهم، وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم، فجمعوا الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والحق والكذب في كتاب واحد، وربما في ورقة واحدة. ويدينون بالشيء وضده، ولا يعرفون ما في ذلك عليهم. قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار   1 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/182-187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عن التدبر والاعتبار، فألسنتهم تروي العلم، وقلوبهم قد خلت من الفهم، غاية أحدهم معرفة الكتب الغريبة، والاسم الغريب، والحديث المنكر. وتجده قد جهل ما لا يكاد يسع أحداً جهلُه من علم صلاته، وحجه، وصيامه، وزكاته. وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشد، لم يُعْنَوا بحفظ سُنَّة ولا الوقف على معانيها، ولا بأصل من القرآن ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل، فحفظوا تنزيله، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه، قد اطّرحوا علم السنن والآثار، وزهدوا فيها، وأضربوا عنها فلم يعرفوا الاجتماع من الاختلاف، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف، بل عوّلوا على حفظ ما دُوّن لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم من الفتوى فيه، ويودُّن أن حظهم السلامة فيه ... " اه‍. مختصراً 1. وعن عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس قال: "إن العلم ليس بكثرة الرواية، إنما العلم نور يجعله الله في القلب" 2. وقال الخطيب البغدادي: "العلم هو الفهم والدراية، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية" 3. وقال أيضاً: "وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل. ورب حاضر كالغائب، وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطِّراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه" 4.   1 جامع بيان العلم وفضله (2/169-170) ، باب رتب الطلب، والنصيحة في المذهب. 2 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/174) . 3 المصدر نفسه. 4 الجامع (1/87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وروى بإسناده إلى الحسن البصري (ت 110هـ‍.) - رحمه الله - قال: "تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يجازيكم الله على العلم حتى تعملوا، فإن السفهاء همتهم الرواية، وإن العلماء همتهم الرعاية" 1. وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر (ت 463هـ‍.) : " ... أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه، فمكروه عند جماعة أهل العلم" 2. وقال أيضاً: "الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر، والمكثر لا يأمن مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لروايته عمن يؤمن وعمن لا يؤمن" ثم ذكر بإسناده إلى ابن شبرمة قال: "أقلل الرواية وتفقه" 3. وقال الحافظ ابن القيم (ت 751هـ‍.) : "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطيَ عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل، ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل ... ، ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى" 4.   1 المصدر نفسه (1/91) . 2 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/127) . 3 المصدر نفسه (2/127) . 4 أعلام الموقعين (1/87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 8 - ينبغي أن يتذاكر مع زملائه ما وقع في مجلس الشيخ من الفوائد والقواعد والضوابط وغير ذلك، وأن يعيدوا ما سمعوه بينهم، فإن في المذاكرة نفعاً عظيماً. قال الخطيب البغدادي: "وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح" 1. "فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه، فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء بسواء، وقل ما يفلح من يقتصر على حضور الفكر والعقل في مجلس الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده بالمذاكرة" 2. وقال رحمه الله: "وإذا لم يجد الطالب من يذاكره، أدام ذكر الحديث مع نفسه وكرره على قلبه" 3.   1 ذكر الخطيب نماذج في ذلك وأقوالهم فيه منها: عن مجاهد قال: "لا بأس بالسمر في الفقه". (الفقيه والمتفقه 2/128) . وعن محمد بن فضيل عن أبيه قال: "كان ابن شبرمة، والمغيرة، والحارث العكلي، والقعقاع بن يزيد وغيرهم يسمرون في الفقه" وفي رواية: " ... يصلون العشاء الآخرة، ثم يجلسون فيتطارحون الفقه، وربما أذن المؤذن الفجر ولم يتفرقوا". (المصدر السابق 2/129؛ وكتاب العلم لأبي خيثمة ص 27 ح 108) . وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: "كنت مع عبد الله بن المبارك في المسجد في ليلة شتوية باردة، فقمنا لنخرج، فلما كان عند باب المسجد ذاكرني بحديث أو ذاكرته بحديث، فما زال يذاكرني وأذاكره حتى جاء المؤذن فأذّن لصلاة الصبح". (الجامع 2/276) . 2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 144) . ويراجع الملحق الأول في آخر هذا البحث، وبخاصة كلام ابن بدران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومما ورد عن السلف في المذاكرة وبيان أهميتها ما يأتي: - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه" 1. - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يَدرُس" 2. - وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا سمعتم مني حديثاً فتذاكروه بينكم" 3. - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "تحدثوا وتذاكروا، فإن الحديث يذكر بعضُه بعضاً" 4. - وعن ابن أبي ليلى عن عطاء قال: "كنا نكون عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيحدثنا، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه" قال: "فكان أبو الزبير أحفظنا للحديث" 5. - قال أبو هريرة رضي الله عنه: "جزأت الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً أصلي، وثلثاً أنام، وثلثاً أذاكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم" 6. - وعن ابن جرير: "كان عمرو بن دينار يُجزى الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً ينام، وثلثاً يصلي، وثلثاً يذاكر فيه الحديث" 7. وقال عبد الله بن المعتز " من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم، واستفاد مالم يعلم".   1 انظر الجامع للخطيب (1/236-238) ، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/101-104) . 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق. 5 المصدر السابق. 6 الجامع للخطيب (2/264) . 7 الجامع للخطيب (2/264) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 - وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: قال لي أبي:"كان الناس فيما مضى من الزمان الأول إذا لقي الرجل من هو أعلم منه قال: اليوم يوم غُنمي، فيتعلم منه، وإذا لقي من هو مثله قال: اليوم يوم مذاكرتي فيذاكره، وإذا لقي من هو دونه علّمه ولم يَزْهُ عليه" قال: "حتى صار هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى لا يرى الناسُ أن له إليه حاجة، وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره، فهلك الناس عند ذلك" 1. هناك محاذير يجب على الطالب تجنبها 2 منها: أ - يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال بالخلافيات بين العلماء أو بين الناس مطلقاً في السمعيات أو العقليات، فإنه يحير الذهن، ويدهش العقل، بل عليه أن يتقن أولا كتاباً واحداً في فن واحد، أو كتباً في فنون إن كان يحتمل ذلك على طريقة يرتضيها له شيخه. ب - يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه، ويفرق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرؤه أو الفن الذي يأخذه كليّته حتى يتقنه. ج - وكذلك يحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب، أو من شيخ إلى شيخ من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح. أما إذا تحققت أهليته، وتأكدت معرفته فأولى أن لا يدع فناً من علوم الشريعة   1 الجامع للخطيب (2/276) . هذا كلام أبي حازم سلمة بن دينار الأعرج الذي توفي في خلافة أبي جعفر المنصور، عن أهل زمانه، فكيف لو رأى أهل زماننا؟ ماذا سيقول رحمه الله؟ وعن صفة مذاكرة السلف ونماذج منها راجع حواشي تذكرة السامع والمتكلم (ص 143-146) . 2 عن هذه المحاذير وغيرها راجع تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 116-120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 إلا نظر فيه، فإن ساعده القدر وطول العمر على التبحر فيه فذاك، وإلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العلم. د - يحذر من تقديم المهِمّ على الأهمّ بل الأهمّ ثم المهِمّ. هـ‍ - يحذر من الغفلة عن العمل الذي هو المقصود بالعلم. و وليحذر من النظر إلى نفسه بعين الكمال والاستغناء عن المشايخ، فإن ذلك عين الجهل، وقلة المعرفة، وما يفوته أكثر مما حصله. وقد قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم، فإذا ترك التعلّم وظن أنه قد استغنى فهو أجهل ما يكون". وقال ابن جماعة: "لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم. قال الحُميدي - وهو تلميذ الشافعي -: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد من المسائل، وكان يستفيد مني الحديث. وصح رواية جماعة من الصحابة عن التابعين" 1. وعن وكيع، وسفيان بن عيينة، وأبي عبد الله البخاري قالوا: "لا يكون المحدث كاملاً أو الرجل عالماً حتى يحدث عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه" 2. ز - وليحذر الاشتغال بالغرائب والشواذ من العلم. قال عبد الرحمن بن مهدي: "لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم" 3.   1 التذكرة (ص 28-29) . 2 الجامع للخطيب (2/218) ؛ هدي الساري (ص 479) . 3 التمهيد (1/64) ؛ شرح علل الترمذي (1/411) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقال أحمد بن حنبل: "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها، ولا يعتمد عليها" 1. متى يتصدَّر للتصنيف والتأليف: قال ابن جماعة (ت 73هـ‍.) : "فإذا كملت أهليته، وظهرت فضيلته، ومرّ على أكثر كتب الفن، أو المشهور منها بحثاً، ومراجعة، ومطالعة، اشتغل بالتصنيف وبالنظر في المذاهب، سالكاً الإنصاف فيما يقع له من الخلاف" 2. وقال أيضاً: "والأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يسبق إلى تصنيفه متحرياً إيضاح العبارة في تأليفه، معرضاً عن التطويل الممل، والإيجاز المخل مع إعطاء كل مصنف ما يليق به" 3. وقال الخطيب البغدادي (ت 463هـ‍.) : "ينبغي أن يُفرِّغ المصنف للتصنيف قلبه، ويجمع له همَّه، ويصرف إليه شغله، ويقطع به وقته ... ". ثم قال: "ولا يضع من يده شيئاً من تصانيفه إلا بعد تهذيبه وتحريره، وإعادة تدبره وتكريره" 4. وقال أيضاً: "قلَّ ما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستثير الخفي من فوائده، إلا من جمع متفرقه، وألف مشتته، وضم بعضه إلى بعض، واشتغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه، فإن ذلك الفعل مما يقوّي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان،   1 شرح علل الترمذي (1/408) . 2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 135) . 3 المصدر نفسه (ص 30) . 4 الجامع للخطيب (2/282، 283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ويكشف المتشبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضاً جميل الذكر وتخليده إلى آخر الدهر" 1. وقال ابن جماعة: "الاشتغال بالتصنيف والجمع والتأليف - لكن مع تمام الفضيلة وكمال الأهلية - يُطلع على حقائق الفنون، ودقائق العلوم للاحتياج إلى كثرة التفتيش، والمطالعة، والتنقيب، والمراجعة، وهو كما قال الخطيب البغدادي: يثبت الحفظ، ويذكي القلب، يشحذ الطبع، ويجيد البيان، ويكسب جميل الذكر وجزيل الأجر، ويخلده إلى آخر الدهر" 2.   1 المصدر نفسه (2/280) . 2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 29-30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الملحق الأول: طريقة تعليم المتعلم، وإرشاد المعلم في تعليمه (كما يراها ابن خلدون، وابن بدران، وابن باديس) أولاً: طريقة تعليم المتعلم 1- قال عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت 808هـ‍.) : "اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً. يُلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأتها لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، وإلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدَّ فلا يترك عويصاً ولا مهماً ولا مغلقاً إلا وضّحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته" 1 ثم قال: "هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في   1 في كتاب المدخل إلى مذهب الإمام أحمد في العقد السابع في ذكر الكتب المشهورة في المذهب قال المؤلف رحمه الله (ص 233) : "وذلك أن موفق الدين ابن قدامة (ت 620هـ‍.) راعى في مؤلفاته أربع طبقات: فصنف "العمدة" للمبتدئين، ثم ألف "المقنع" لمن ارتقى عن درجتهم ولم يصل إلى درجة المتوسطين، فلذلك جعله عرياً عن الدليل والتعليل، غير أنه يذكر الروايات عن الإمام ليجعل لقارئه مجالاً إلى كد ذهنه ليتمرن على التصحيح. ثم صنف للمتوسطين "الكافي"، وذكر فيه كثيراً من الأدلة لتسمو نفس قارئه إلى درجة الاجتهاد في المذهب حينما يرى الأدلة وترتفع نفسه إلى مناقشتها، ولم يجعلها قضية مسلمة. ثم ألف "المغني" لمن ارتقى درجة عن المتوسطين، وهناك يطلع قارئه على الروايات وعلى خلاف الأئمة وعلى كثير من أدلتهم، على ما لهم وما عليهم من الأخذ والرد، فمن كان فقيه النفس حينئذٍ مرّن نفسه على السمو إلى الاجتهاد المطلق إن كان أهلاً لذلك وتوفرت فيه شروطه ... ، فهذه هي مقاصد ذلك الإمام في مؤلفاته الأربع، وذلك ظاهر من مسالكه لمن تدبرها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك" 1. 2 - قال عبد القادر بن أحمد بن بدران (ت 1346هـ‍.) : "واعلم أن للمطالعة وللتعليم طرقاً ذكرها العلماء، وإننا نثبت هنا ما أخذناه بالتجربة، ثم نذكر بعضاً من طرقهم لئلا يخلو كتابنا هذا من هذه الفوائد. إذا تمهد هذا فاعلم أننا اهتدينا بفضله تعالى أثناء الطلب إلى قاعدة، وهي أننا كنا نأتي إلى المتن أولاً، فنأخذ منه جملة كافية للدرس، ثم نشتغل بحل تلك الجملة من غير نظر إلى شرحها، ونزاولها حتى نظن أننا فهمناها، ثم نقبل على الشرح فنطالعه المطالعة الأولى امتحاناً لفهمنا، فإن وجدنا فيما فهمناه غلطاً صححناه، ثم أقبلنا على تفهّم الشرح على نمط ما فعلناه في المتن، ثم إذا ظننا أننا فهمناه راجعنا حاشيته إن كان له حاشية مراجعة امتحان لفكرنا، فإذا علمنا أننا فهمنا الدرس تركنا الكتاب واشتغلنا بتصوير مسائله في ذهننا فحفظناه حفظ فهم وتصور، لا حفظ تراكيب وألفاظ. ثم نجتهد على أداء معناه بعبارات من عندنا غير ملتزمين تراكيب المؤلف، ثم نذهب إلى الأستاذ للقراءة. وهناك نمتحن فكرنا في حل الدرس، نقوّم ما عساه أن يكون من اعوجاج، ونوفر الهمة على ما يورده الأستاذ مما هو زائد على المتن والشرح. وكنا نرى أن من قرأ كتاباً واحداً من فن على هذه الطريقة سَهُلَ عليه جميع كتب هذا الفن مختصراتها ومطولاتها، وثبتت قواعده في ذهنه" 2.   1 مقدمة ابن خلدون، الفصل التاسع والعشرون (ص 533) . 2 المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (267-268) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 3 - قال الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ‍.) : "فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها، هذا هو المقصود من الدرس على الشيوخ، فأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير. ثم إن الدروس إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقي فنون كثيرة من فنون العلم يصل إليها الطالب بمطالعته بنفسه وحده، أو مع بعض رفاقه، فلا ينتهي من مدة دراسته العلمية في الدروس إلا وقد اتسع نطاق معلوماته بفنون كثيرة. ونرى الطلاب اليوم في أكبر المعاهد - كالزيتونة - لا يخرج الطالب عن كتبه الدراسية إلى مطالعة شيء بنفسه مما يكسبه علماً أو خبرةً بالحياة، فيخرج الطالب بعد تحصيل الشهادة وهو غريب عن الحياة. فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي، والتحصيل النفسي ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم، ويوسعوا نطاق التفكير" 1. ثانياً: إرشاد المعلم في تعليمه: 1- عن ذلك يقول ابن خلدون: "وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين في هذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويُحْضِرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويَخلِطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها. فإن قبول العلم والاستعداد لفهمه تنشأ تدريجياً، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذٍ عاجز عن الفهم والوعي،   1 ابن باديس، حياته وآثاره، للدكتور عمار الطالبي (4/203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وبعيد عن الاستعداد له كَلَّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم" 1. 2 - ويرى الشيخ عبد القادر بن بدران أن من أسباب تنفير الطالب من العلم: الجهل بطرق التعليم فيقول: "وهذا وقع فيه غالب المعلّمين، فتراهم يأتي إليهم الطالب المبتدئ ليتعلم النحو مثلاً فيشغلونه بالكلام على البسملة، ثم على الحمدلة أياماً بل شهوراً ليوهموه سعة مداركهم، وغزارة علمهم. ثم إذا قدر له الخلاص من ذلك أخذوا يلقنونه متناً أو شرحاً بحواشيه وحواشي حواشيه. ويحشرون له خلاف العلماء، ويشغلونه بكلام من رد على القائل، وما أجيب به عن الرد، ولا يزالون يضربون له على ذلك الوَتَر حتى يرتكز في ذهنه أن نوال هذا الفن من قبيل الصعب الذي لا يوصل إليه" 2. ثم ذكر صنفاً آخر من المعلمين على عكس الصنف السابق، وهم من أنزل نفسه منزلة العلماء المحققين وجلس للتعليم، فيأتيه الطالب بكتاب مطول أو مختصر، فيتلقاه منه سرداً لا يفتح له منه مغلقاً ولا يحل له طلسماً فإذا سأله ذلك الطالب المسكين عن مشكل انتفخ أنفُه وورم، وقابله بالسب والشتم، وأشاع عنه أنه يطلب الاجتهاد. ثم قال: "ومن هؤلاء من يقول: إنما نقرأ الكتب للتبرك بمصنفيها!! ... " 3. 3 - قال ابن خلدون أيضاً: "ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه   1 انظر: الفصل التاسع والعشرين من مقدمة ابن خلدون (ص 533-534) . 2 انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص 265) . 3 المصدر السابق (ص 265) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الذي أكبَّ على التعلم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم، مبتدئاً كان أو منتهياً. ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره، ويحصِّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره، لأن المتعلم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم. وإذا خُلِطَ عليه الأمر عجز عن الفهم، وأدركه الكلال، وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم، والله يهدي من يشاء". ثم قال: "وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس، وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها ... ، ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يُخلَط على المتعلم علمان معاً، فإنه قلّ أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معاً ... وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجد لتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب" 1. 4 - يرى الشيخ عبد القادر بن بدران أن الواجب على المعلم إذا أراد إقراء المبتدئين أن يقرئهم متناً مختصراً، ويشرح لهم ذلك المتن بلا زيادة ولا نقصان، بحيث يفهم ما اشتمل عليه، وأن يصور مسائله في ذهنه، ولا يشغله بما زاد على ذلك. ثم ذكر عن شيخه محمد بن عثمان الحنبلي المعروف بخطيب دوما (ت 1308هـ‍.) أنه قال: "لا ينبغي لمن يقرأ كتاباً أن يتصور أنه يريد قراءته مرة ثانية،   1 انظر: مقدمة ابن خلدون (ص 534) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 لأن هذا التصور يمنعه عن فهم جميع الكتاب، بل يتصور أنه لا يعود إليه مرة ثانية أبداً". وكان يقول: "كل كتاب يشتمل على مسائل ما دونه وزيادة فحقق مسائل ما دونه لتوفر جدك على فهم الزيادة" اه‍. ثم قال: "ولما أخذت نصيحته مأخذ القبول لم أحتج في القراءة على الأساتذة في العلوم والفنون إلى أكثر من ست سنين، فجزاه الله خيراً ... " 1. 5 - وقال رحمه الله: "ثم إن الأولى في تعليم المبتدئ أن يجنبه أستاذه عن إقرائه الكتب الشديدة الاختصار العسِرة على الفهم ك- "مختصر الأصول" لابن الحاجب، و"الكافية" له في النحو، لأن الاشتغال بمثل هذين الكتابين المختصرين إخلال بالتحصيل لما فيهما وفي أمثالهما من التخليط على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ... ". ثم قال: "وحاصل الأمر أن الأستاذ ينبغي أن يكون حكيماً يتصرف في طرق التعليم بحسب ما يراه موافقاً لاستعداد المتعلم، وإلا ضاع الوقت بقليل من الفائدة، وربما لم توجد الفائدة أصلاً. وطرق التعليم أمر ذوقي، وأمانة مودعة عند الأساتذة، فمن أداها أثيب على أدائها، ومن جحدها كان مطالباً بها" 2. 6 - قال الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ‍.) : "أغلب المعلمين في   1 انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص 266) . 2 المصدر السابق (ص 268-269) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر لا يتصلون بتلامذتهم، إلا اتصالاً عاماً لا يتجاوز أوقات التعليم، فيتخرج التلامذة في العلوم والفنون، لكن بدون تلك الروح الخاصة التي ينفخها المعلم في تلميذه - إذا كان للمعلم روح - ويكون لها الأثر البارز في أعماله العلمية في سائر حياته. فعلى المعلم الذي يريد أن يكوّن من تلامذته رجالاً أن يشعرهم - واحداً واحداً - أنه متصل بكل واحد منهم اتصالاً خاصاً زيادة على الاتصال العام، وأن يصدق لهم هذا بعنايته خارج الدرس بكل واحد منهم عناية خاصة في سائر نواحي حياته حتى يشعر كل واحد منهم أنه في طور تربية وتعليم، في كفالة أب روحي يعطف عليه ويُعنى به مثل أبيه أو أكثر" 1.   1 ابن باديس، حياته وآثاره، للدكتور عمار الطالبي (4/202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الملحق الثاني قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: "وأحسن ما رأيت في آداب التعلم والتفقه من النظم ما ينسب إلى اللؤلؤي من الرجز، وبعضهم ينسبه إلى المأمون، وقد رأيت إيراد ما ذكر من ذلك لحسنه، ولما رجوت من النفع به لمن طالع كتابي هذا، نفعنا الله وإياه به: قال: واعلَمْ بأنَّ العلمَ بالتَّعلُّمِ ... والحفظِ والإتقانِ والتفهُّمِ والعلمُ قد يُرزَقه الصغيرُ ... في سنِّه ويُحرَمُ الكبير وإنَّما المرءُ بأَصْغَريْهِ ... ليس برجليْه ولا يديْهِ لسانُه وقلبُه المركَّبُ ... في صدرِهِ وذاك خَلْقٌ عَجَبُ والعلمُ بالفهمِ وبالمذاكرَهْ ... والدرسِ والفكرةِ والمناظرَه فربَّ إنسانٍ يَنال الحِفْظَا ... ويُوردُ النصَّ ويَحكي اللَّفْظاَ وما له في غيرِهِ نصيبُ ... مِمّا حواه العالمُ الأديبُ وربّ ذي حرصٍ شديد الحبِّ ... للعلمِ والذَكر بليدِ القلبِ معجز في الحفظِ والروايهْ ... ليستْ له عمَّن رَوَى حِكايهْ وآخَرُ يُعطى بلا اجْتهادِ ... حفظاً لما قد جاء في الإسنادِ يهذّه بالقلب لا بناظرهْ ... ليس بمضطرٍ إلى قَماطِرهْ فالتمسِ العلمَ وأَجْمِل في الطلَبْ ... والعلم لا يَحسنُ إلا بالأَدَبْ والأدبُ النافعُ حسنُ الصمتِ ... وفي كثير القولِ بعضُ المقتِ فكُن لحسن الصمت ما حَيِيتَا ... مقارفاً تُحمد ما بقيتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وإنْ بدت بين أناسٍ مسألهْ ... معروفةٌ في العلمِ أو مُفتعَلهْ فلا تكن إلى الجوابِ سابقا ... حتى تَرَى غيرَك فيها ناطقا فكم رأيتُ من عجولٍ سابقِ ... من غير فهمٍ بالخطأ ناطقِ أزرى بهِ ذلك في المجالسِ ... عند ذوي الألبابِ والتنافسِ وقُلْ إذا أعياكَ ذاك الأمرُ ... ما لي بما تسأل عنه خُبْرُ فذاك شطرُ العلمِ عند العلما ... كذاك ما زالتْ تقول الحُكما والصمت فاعلم بك حقاً أزينُ ... إنْ لم يكن عندك علمٌ متقنُ إياك والعُجبَ بفضلِ رأيِكا ... واحذر جوابَ القولِ من خطائكا كم من جوابٍ أعقبَ الندامهْ ... فاغتَنِمِ الصمتَ مع السَّلامهْ العلم بحرٌ منتهاه يبعدُ ... ليس له أحدٌ إليه يقصدُ وليس كلُّ العلمِ قد حويتَه ... أجَل ولا العُشر ولو أحصيتَه وما بَقِي عليكَ منه أكثرُ ... مما علِمتَ والجوادُ يَعْثُرُ فكُنْ لما سمعتَهُ مستفهِما ... إن أنتَ لم تفهمْ منه الكلِما القولُ قولانِ: فقولٌ تعقِلُهْ ... وآخرُ تسمعُهُ فتجهَلُهْ وكلُّ قولٍ فلهُ جوابُ ... يجمعُهُ الباطلُ والصواب وللكلامِ أولٌ وآخِر ... فافهمهما والذهنُ منك حاضرُ فربما أَعْيا ذوي الفضائلِ ... جوابُ ما يُلقى من المسائل فيُمسكوا بالصمتِ عن جوابه ... عند اعتراضِ الشكِّ في صوابه ولو يكون القولُ في القياسِ ... من فضَّةٍ بيضاءَ عند الناسِ إذا لكان الصمت من خير الذهب ... فافهم هداك الله آداب الطلبْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 مصادر ومراجع ... فهرس المصادر 1- الإبانة عن شربعة الفرقة الناجية عبد الله بن بطة دار الراية بالرياض، تحقيق رضا نعسان 2 - ابن باديس حياته وآثاره د. عمار الطالبي 3 - الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب دار الإفتاء بالرياض 4 - أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم مكتبة الكليات الأزهرية تحقيق طه بن عبد الرؤوف سعد 5 - اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي المكتب الإسلامي بيروت 6 - تحفة الأحوذي للمباركفوري ضياء السنة فيصل آباد باكستان 7 تحفة الأشراف للحافظ جمال الدين المزي الهند الطبعة الأولى، تحقيق عبد الصمد شرف الدين 8 - تذكرة السامع والمتكلم لبدر الدين ابن جماعة دار الكتب العلمية بيروت تحقيق محمد هاشم الندوي 9 - تفسير ابن كثير للحافظ أبي الفداء ابن كثير مطبعة الشعب 10 - التمهيد لأبي عمر ابن عبد البر وزارة الأوقاف بالمغرب العربي 11 - جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر ابن عبد البر دار الكتب العلمية بيروت 12 - جامع الترمذي لأبي عيسى الترمذي طبعة الشيخ أحمد شاكر 13 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي دار المعارف بالرياض، تحقيق د. محمود الطحان 14 - جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب مكتبة الحلبي بالقاهرة عام 1393هـ‍. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 15 - الحلية للحافظ أبي نعيم الأصبهاني دار السعادة بالقاهرة 16 - زاد المعاد للحافظ ابن القيم الجوزية مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى بيروت 17 - الزهد للإمام عبد الله بن المبارك دار الكتب العلمية بيروت 18 - سنن الدارمي للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي طبعة عبد الله هاشم اليماني بالمدينة المنورة 19 - سنن أبي داود لأبي داود سليمان بن الأشعث طبعة الدعاس 20 - سنن ابن ماجه لأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه طبعة محمد فؤاد عبد الباقي 21 - سير أعلام النبلاء لأبي عبد الله الذهبي مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الأولى 22 - شرح التبصرة والتذكرة لزين الدين العراقي دار الكتب العلمية بيروت 23 - شرح حديث أبي الدرداء للحافظ ابن رجب الخافقين بدمشق، تحقيق محمد الخيمي 24 - شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي نشر دار إحياء السنة، تحقيق محمد سعيد خطيب 25 - شرح علل الترمذي لابن رجب تحقيق نور الدين عتر 26 - صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري تصوير دار إحياء التراث العربي بيروت 27 - صحيح الإمام مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج تحقيق وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي 28 - صفة الصفوة للحافظ ابن الجوزي دار المعرفة بيروت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 29 - العلم لأبي خيثمة زهير بن حرب النسائي المكتب الإسلامي، بيروت، تحقيق الشيخ ناصر الألباني 30 - علوم الحديث لابن الصلاح المكتبة العلمية بالمدينة المنورة تحقيق نور الدين عتر 31 - غاية النهاية لابن الأثير الجزري دار الكتب العلمية بيروت 32 - فتح المغيث للحافظ السخاوي دار البحوث الإسلامية بنارس، تحقيق علي حسين علي 33 - فضل علم السلف للحافظ ابن رجب دار البشائر الإسلامية، تحقيق يحيى غزاوي 34 - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي دار الكتب العلمية بيروت، تحقيق إسماعيل الأنصاري 35 - كشف الظنون حاجي خليفة مكتبة المثنى بيروت 36 - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية دار الإفتاء بالرياض، جمع ابن قاسم 37 - المحدث الفاصل لابن خلاد الرامهرمزي دار الفكر بيروت 38 - المدخل للحافظ البيهقي دار الخلفاء بالكويت، تحقيق محمد ضياء الأعظمي 39 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لعبد القادر بن بدران دار الكتب العلمية بيروت 40 - المستدرك لأبي عبد الله الحاكم دار الكتاب العلمية بيروت 41 - المسند للإمام أحمد بن حنبل المكتب الإسلامي بيروت 42 - المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان الفسوي مكتبة الدار بالمدينة المنورة، تحقيق د. أكرم العُمري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 43 - مفتاح دار السعادة لابن القيم دار زمزم بالرياض 44 - مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمن بن خلدون مؤسسة الأعلمي بيروت 45 - موارد الظمآن للهيثمي دار الكتب العلمية بيروت 46 - هدي الساري للحافظ ابن حجر المكتبة السلفية بالقاهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86