الكتاب: معالم في السلوك وتزكية النفوس المؤلف: عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف الناشر: دار الوطن الطبعة: الأولى 1414هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- معالم في السلوك وتزكية النفوس عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف الكتاب: معالم في السلوك وتزكية النفوس المؤلف: عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف الناشر: دار الوطن الطبعة: الأولى 1414هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن السلوك الصحيح وتزكية النفوس من أعظم أمور الدين، وأجل خصاله، حيث اهتم سلفنا الصالح بالسلوك الشرعي علماً وعملاً، فالسلوك الظاهر ملازم للإيمان الباطن، وصلاح الظاهر ناشئ عن صلاح الباطن، وكذا العكس. ومع شدة الحاجة إلى فقه السلوك علماً وعملاً، فإننا قد لا نجد كتابات معاصرة تعالج الجانب السلوكي من خلال منهج أهل السنة، إضافة إلى كثرة المخالفات والانحرافات للسلوك السوي من قبل أعداد كبيرة من أهل السنة، فضلاً عن غيرهم. ولأجل ذلك رغبت أن أسهم في خدمة هذا الجانب، فيسر الله تعالى بمنه وتوفيقه جمع هذا الكتاب وإعداده. ويتضمن هذا الكتاب قسمين، أحدهما: معالم في السلوك وتزكية النفوس، وهو عبارة عن لمحات في منهج السلف في تقرير السلوك. ولما كان السلوك – عند السلف – يعد إيماناً وديناً، فإننا نراهم يفردونه بكتب مستقلة، بل ويوردون الجوانب السلوكية ضمن كتب العقيدة، لأن السلوك وما يتعلق بالصفات الأخلاقية من شعب الإيمان وخصاله، فلا نتفك عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 لقد كان للنزعة الإرجائية الكلامية أثر ظاهر في إهمال موضوعات السلوك والأخلاق، فلما كان الإيمان – عندهم – تصديقاً فحسب، أهملوا أعمال القلوب والجوارح. ولما كان توحيدهم – فقط – هو توحيد اعتقاد الربوبية لله تعالى، أعرضوا عن توحيد العبادة والإرادة والطلب، ما يتبعه من الجوانب السلوكية والأخلاقية. وأما القسم الآخر فهو نماذج مختارة لموضوعات سلوكية، وقد اقتصرت على خمسة موضوعات، وهي: أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، وتزكية النفوس، وأعمال القلوب، ومكايد الشيطان، والإخلاص والعجب. وقد حرصت على الاختصار، مع التفصيل – أحياناً – لبعض المسائل التي قد تخفى على الكثير وأوردت في تلك الموضوعات أمثلة عملية وأقوالاً مأثورة من حياة السلف الصالح، وما كان عليه من سلوك صحيح، وإخلاص لله تعالى، وتحقيق العبودية التامة لله وحده لا شريك له 1 وعندما نورد تلك الأمثلة الواقعية من حياة السلف الصالح، فإننا ((نستغفر الله ن الكلام فيما لسنا بأهل له)) . (1) وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – يسئل عن أخلاق الورعين، فيقول: ((أسأل الله أن لا يمقتنا)) . (2) فكيف بحالنا نحن الضعفاء المذنبين؟ لا تعرضن َّ لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعدِ إن الكاتب في مثل تلك الموضوعات السلوكية قد يجد شيئاً من التردد والإحجام، ويخشى أن يُلبّس عليه الشيطان من خلال هذا الباب، فإن من كيد إبليس على المشتغلين والمتكلمين في الزهد والسلوك أن يلبِّس عليهم أنكم من جملة   (1) قالها ابن القيم في طريق الهجرتين ص 333. (2) سير أعلام النبلاء 11/ 226 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الموصوفين بذلك، لأنك لم تقدر على الوصف حتى عرفتَ ما تصف وسلكت الطريق (1) . ومع ذلك فلا يلزم - ضرورة – أن من وضح السلوك الصحيح أن يكون عاملاً به، لكن قد يكون وصفه وبيانه للسلوك الصحيح – وإن كان مقصراً في العمل – سبباً في الاستقامة على هذا السلوك، والاستحياء من الله عز وجل فإن المتعين على الدعاة أن يبينوا الحق، ويدلوا الناس على السلوك الشرعي، وإن لم يحققوه عملاً، وكما قال سعيد بن جبير – رحمه الله -: ((لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ، ما أمر أحد بالمعروف، ولا نهى عن منكر)) (2) . أسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يجعل عملنا خالصاً صواباً، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.   (1) انظر تلبيس إبليس ص 136. (2) ذكر العلماء أنه ليس من شرط لآمر بالمعروف والناهي عن المنكر العصمة من الذنوب.. انظر: تفسير ابن كثير 1 / 82، الإحياء للغزالي 2 / 172، تفسير القرطبي 1 / 366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أهمية الموضوع: تتجلى أهمية هذا الموضوع من خلال الأمور التالية: 1- اهتم السلف الصالح بتزكية النفوس، واعتنوا بالجانب السلوكي والأخلاقي علماً وفقهاً، كما حققوه عملاً وهدياً، فأفردوا كتباً مستقلة في الزهد والرقائق ونحوهما بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة في ثنايا كتب العقيدة. كما قال الإسماعيلي (ت 271هـ) في اعتقاد أهل السنة: ((ويرون مجانبة البدعة والآثام، والفخر ن والتكبر، والعجب، والخيانة، والدغل، والاغتيال، والسعاية. ويرون كف الأذى، وترك الغيبة، إلا لمن أظهر بدعة وهوى يدعو إليهما، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم)) (1) وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني (ت 449هـ) في عقيدة السلف: ((ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتويات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه ويتقون الجدال في الله، والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات)) (2) .   (1) اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي ص 53. (2) عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص 97 – 99 باختصار يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقال قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصفهاني (ت 535هـ) : ((ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح، والتحرر من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحابّ في الله عز وجل، واتقاء الجدال والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم، والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات، وترك الزور، وقذف المحصنات، وإمساك اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم الغيظ والصفح عن زلل الإخوان، ومواساة الضعفاء، والنصيحة في الله والشفقة على خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة لقرآن، والبدار إلى أداء الصلوات)) (1) . وذكر ابن تيمية – رحمه الله – جملة من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة، ومن ذلك قوله: ((يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (2) ، ويندبون أن 1تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن لجوار والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفا سفها)) (3) .   (1) الحجة في بيان الحجة 2 / 528. (2) أخرجه أحمد 2 / 472، والترمذي، ح (1162) . (3) العقيدة الواسطية (شرح محمد هراس) ص 172، 173. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 2- هناك تلازم بين السلوك والاعتقاد، فالسلوك الظاهر مرتبط بالاعتقاد الباطن، ومن ثم فإن الانحراف الواقع في سلوكنا وأخلاقنا الظاهرة إنما هو ناشئ عن نقص في إيماننا الباطن. يقول ابن تيمية موضحا ً هذا التلازم: ((إذا انقضت الأعمال الظاهرة الواجبة، كان ذلك نقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما لزم من نقص هذا نقص هذا، إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع)) (1) . ويقول أيضاً: ((وإذا قام بالقلب التصديق به ن والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الباطنة، فما يظهر على البدن من الأقوال والعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه)) (2) . ويقول الشاطبي في هذه المسألة: ((الأعمال الظاهرة في الشرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً، حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه، وسائر الأحكام العاديات، والتجريبيات، بل الالتفات إليهما من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً)) . (3) .   (1) مجموع الفتاوي582/7،وأنظر 616/7،وشرح الأصفهانية ص142. (2) مجموع الفتاوي 541/7. (3) الموافقات233/1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 إضافة إلى ذلك، فإن الإيمان إذا جاء مطلقاً مجرداً ن فإنه يندرج فيه السلوك والأخلاق وسائر الأعمال الصالحة، كما في حديث الإيمان – مثلا – حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (1) . وكما يقول ابن تيمية: ((اسم الإيمان يستعمل مطلقاً، ويستعمل مقيداً، وإذا استعمل مطلقاً فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال لعبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً ... ودخل في ذلك ما قد يسمى مقاماً وحالاً، مثل الصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا، والخشية، والإنابة، والإخلاص، والتوحيد وغير ذلك)) (2) 1. 3 - يترتب على تحقيق الجانب الخلقي السلوكي الأجر الكثير والثواب الجزيل، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية. فقد عد الله تعالى في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى، بل بدأ بذلك في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران، آية 133، 134) . وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الخلق أكمل خصال الإيمان فقال: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (3) .   (1) أخرجه البخاري، ك الإيمان، ح (9) ،ومسلم، ك الإيمان، ح (3) (2) مجموع الفتاوى 7/642، وانظر 7/515. (3) أخرجه أحمد 2/472، وأبو داود، ح (4682) ، والترمذي ح (1162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم القائم فقال: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم)) (1) . وجاء في أحاديث أخرى أن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان ن وأن صاحبه أحب الناس إلى الله وأقربهم من النبيين مجلساً. فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من شئ يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق)) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ قالو ا: بلى: قال: أحسنكم خلقاً (3)) ) (4) . قال ابن القيم رحمه الله: ((الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين)) (5) . 1 وقال ابن رجب رحمه الله - عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وخالق الناس بخلق حسن) (6) . ((هذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما إفراده بالذكر الحاجة إلى بيانه، فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده ن فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكلية او التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً   (1) أخرجه أحمد 6/94، وأبو داود ح (4798) . (2) أخرجه احمد 6/442،وأبو داود ح (4799) ، والترمذي ح (2..4) وقال:حسن صحيح. (3) أخرجه ابن حبان ح (478) . (4) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/454 – 456) ، ومدارج السالكين (2/3.4 – 3.7) . (5) مدارج السالكين 2/3.7. (6) جزء من حديث أخرجه أحمد (5/153) ، والترمذي ح (1987) ، والدا رمي (2/323) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين)) (1) . 4- وإذا كان سلفنا الصالح قد اعتنوا كثيراً بالسلوك علماً وعملاً، لأهميته وقيام التلازم بين السلوك الظاهر والإيمان الباطن، إضافة إلى الوعد الكريم والأجر الكبير لأصحاب السلوك الشرعي. مع ذلك كله فإن الناظر إلى واقع الكثير منا – معشر المنتسبين لأهل السنة – يرى تقصيراً وتهاوناً في هذا المجال، فأنت تشاهد تفرقاً وخصومة ن وجدلاً ومراءً، وأهواء وشهوات ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 معالم في منهج السلوك مصدر تلقي السلوك هو الكتاب والسنة ... من خلال استقراء جملة من كتب السلف الصالح في السلوك والرقائق يمكن أن تستخلص المعالم التالي: 1- إن مصدر تلقي السلوك (1) والأخلاق عند السلف الصالح هو الكتاب والسنة، فإنهم أهل أتباع، وأرباب طريقة أثرية 0 قال تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} (النحل، آية 99) وقال سبحانه: {يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (النساء، آية 59) وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علماً)) (2)   (1) السلوك: لغة: مصدر سلك أي دخل،ويقال: سلكت الخيط في المخيط أي أدخلته فيه والمسلك: الطريق، وأمرهم سلكي: على طريقة واحدة (انظر: لسان العرب 10/ 442، 443 = باختصار) ،ويطلق السلوك على سيرة الإنسان ومذهبه واتجاه (انظر المعجم الوسيط 1/447) وأما تعريف السالك – عند الصوفية فهو السائر إلى الله، المتوسط بين المربد والمنتهي (انظر اصطلاحات الصوفية للكاشاني ص 155، والتعريفات للجرجاني ص116، والمقصود بالسلوك – ها هنا –ما يتعلق بالجانب العلمي من الأمور التعبدية والأخلاقية، والمقيدة بالهدي النبوي والسمت الشرعي – كما هو موضح في الصفحات التالية (2) أخرجه أحمد 5/153 0 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يقول ابن تيمية: ((إن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لا بد للمؤمن منه. ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة. وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، ((فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة)) (1) . 1 ويقول أيضاً: ((المعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ن فمن بنى الكلام في العلم – الأصول والفروع – على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البد نية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريقة أئمة الهدى)) (2) . وعندما ذكر الإمام الذهبي السلوك الصحيح، نجده لا يورد إلا ما دل عليه الدليل، كما هو ظاهر مقالته الآتية ((السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في النطق، وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة وكثرة البشر والإنفاق   (1) مجموع الفتاوى 19/273، 274- باختصار. (2) مجموع الفتاوى 1./362، 363 – باختصار يسير، وانظر 1. / 486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالمعروف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين، أماتنا الله على محبتهم)) (1) . ويقرر ابن القيم أن السلوك وتزكية النفوس لا يكون إلا عن طريق الرسل عليهم السلام فيقول: ((وتزكية النفوس مسلم إلى الرسل)) ، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليماً، وبياناً، فهم المبعثون لعلاج نفوس الأمم. قال الله تعالى} هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتهِ ويزكيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين { (الجمعة آية 2) . وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد، والتسليم لهم، والله المستعان)) (2) . 1 وهذا السلوك الشرعي على مرتبتين كما قرره ابن تيمية بقوله: ((والسلوك سلوكان: سلوك الأبرار أهل اليمن، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهراً)) . والثاني: سلوك المقربين السابقين وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا نهيتكم عن شئ   (1) سير أعلام النبلاء90/12،91 (2) مدا رج السالكين 2/315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (1) (2) وإذا كان عامة من ضل في باب الاعتقاد بسبب الإعراض عن ما جاء به الرسول. (3) ، فكذلك الضلال في باب السلوك، إنما كان ناشئاً – في الجملة – بسبب الإعراض عن نصوص الوحيين، كما هو ظاهر في متأخري الصوفية، وأرباب الطرق المحدثة (4) . قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى * ومن اعرض َ عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آيتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (طه: آية 123 – 126) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل به، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية)) . (5) بل إن البدع في باب السلوك أكثر من البدع الاعتقادية، كما بين ذلك ابن تيمية بقوله: ((ولا ريب أن البدع كثرت في باب العبادة والإرادة أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول، لأن الإرادة يشترك الناس فيها أكثر مما يشتركون في القول، فإن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان، وأما جنس الإرادة   (1) أخرجه البخاري ح (7288) ، ومسلم ح (1337) . (2) مجموع الفتاوى 1./463. (3) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/54، 166،2.9، وجموع الفتاوى 3/314، وشرح الطحاوية 1/8. (4) مما يجدر ذكره أن المتقدمين من أرباب الزهد والتعبد كالفضيل، وإبراهيم بن أدهم، والجنيد، وسهل التستري، وسليمان الداراني وأمثالهم، كانوا من أحرص الناس على لزوم السنة والأتباع، والاعتصام 1/199 – 132، ومدا رج السالكين 2/464 – 468، 348. (5) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/381، وصححه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فهو مما يتصف به كل الحيوان فما من حيوان إلا وله إرادة)) (1) . لقد صنف متأخرو الصوفية كتبًا كثيرة في السلوك، وغلب على تلك الكتب قلة العلم بالسنن والآثار، وكثرة الموضوعات، والتعويل على أخبار متأخري الزهاد، ومع ذلك فلا تخلو تلك الكتب من حق وصواب 1 (2) . وسمى أرباب الطرق الصوفية ما أحدثوه من البدع ((حقيقة)) ، فطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه (3) ، بل قدموا أذواقهم ومواجيدهم وكشوفاتهم الباطلة على نصوص الوحيين (4) . يقول ابن تيمية في هذا الصدد: ((من عارض كتاب الله وجادل فيه بما يسميه معقولات وبراهين وأقيسة، أو ما يسميه مكاشفات ومواجيد وأذواق، من غير أن يأتي على ما يقوله بكتاب منزل فقد جادل في آيات الله بغير سلطان، هذا حال الكفار الذين قال فيهم:} ايجادل في آيات الله إلا الذين كفروا { (غافر آية 4) فهذه حال من يجادل في آيات الله مطلقاً (5) . وقال ابن القيم – مبيناً خطورة الابتداع في السلوك: ((وعامة من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم، وسيره على جادة الذوق والوجد، ذاهبة به الطريق كل مذهب فهذه فتنته ن والفتنة به شديدة)) (6) .   (1) مجموع الفتاوي 274/19،275. (2) انظر: تلبيس إبيلس لابن الجوزي ص 184 – 186، ومجموع الفتاوى 1./367، 551، 6.8،681،579،58. . (3) انظر: مجموع الفتاوى 1./169. (4) انظر: تفصيل ذلك في: مدا رج السالكين 2/7.،334،494 – 496، والصواعق المرسلة 3/1.51، وشرح الطحاوية 1/235. (5) الاستقامة 1/22. (6) مدا رج السالكين 1/158، وانظر إغاثة اللهفان 1/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وليس هذا فحسب، بل أغلوا في الانحراف والإعراض عن هدي الله تعالى، حتى قال قائلهم: حدثني قلبي عن ربي وقال بعضهم: نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت وأنتم تأخذونه من حي يموت، وقال الآخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل، وقال رابعهم: إذا رأيت الصوفي يشتغل بـ ((أخبرنا)) و ((حدثنا)) فأغسل يدك منه!! . قال أبو الوفاء ابن عقيل (ت 513هـ) في نقد تلك الأقاويل: (. فإذا قالوا (أي الصوفية) عن أصحاب الحديث قالوا: أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، فقد طعنوا في النبوات، وعولوا على الواقع، ومتى أزري على طريق، سقط الأخذ به ومن قال: حدثني قلبي عن ربي فقد صرح أنه غني عن الرسول، ومن صرح بذلك فقد كفر، فهذه كلمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ومن رأيناه يزري أن يكون من إلقاء الشياطين ن فقد قال الله عز وجل: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} (الأنعام آية 121) . وهذا هو الظاهر، لأنه ترك الدليل المعصوم وعول على ما يلقى في قلبه الذي لم تثبت حراسته من الوساوس)) (1) 1. وقال ابن القيم معلقاً على تلك العبارات: ((ومن أحالك على غير ((اخبرنا)) و ((حدثنا)) فقد أحالك إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي، فليس بعد القرآن و ((ـخبرنا)) و ((حدثنا)) إلا شبهات المتكلمين، وآراء المنحرفين، وخيالات المتصوفين، وقياس المتفلسفين، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي طريق الجحيم والشيطان الرجيم)) (2) .   (1) تلبيس إبيلس لابن الجوزي ص 423، 424، وانظر الصواعق المرسلة 4/1342 – 135. . (2) مدا رج السالكين 2/468، 469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فلما أعرض أهل التصوف عن الطريقة النبوية السلفية، تلاعب بهم الشيطان، فأوقعهم في الإفراط والتفريط، فتراهم أصحاب تشدد وتنطع ورهبانية محدثة، وحديث عن الدقائق من ((الوساوس)) و ((الخطرات)) (1) . ثم في المقابل تجدهم أهل سماع بدعي، وأرباب رقص وغناء، ومصاحبة للأحداث، وعشق للصور المحرمة (2) قال ابن رجب - في بيان حال القوم:- ((ومما أحدث من العلوم، الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك، بمجرد الرأي والذوق أو الكشف، وفيه خطر عظيم وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره.   (1) سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون وإنما ذم الإمام أحمد المتكلمين على الوساوس والخطرات حيث كان كلامهم لا يستند إلى دليل شرعي، بل إلى مجرد رأي وذوق (انظر: مسائل الإمام أحمد. جمع الأحمدي 2/279،وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص186، وجامع العلوم والحكم 2/1.4، والآداب الشرعية 2/88) ، وسئل أبو زرعة عن الحارث المحاسبي وكتبه،فقال للسائل: إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب.قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال:من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري، والاوزاعي، والأئمة المتقدمين، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء، هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتون مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع. (انظر: تاريخ بغداد 8/215،وتلبيس إبليس ص 186) . وسئل ذو النون عن الخطرات والوساوس، فقال: أنا لا أتكلم في شئ من هذا محدث (انظر تلبيس إبيلس ص27) . (2) ومما يجدر ذكره هاهنا ما قاله ابن تيمية: ((ولقد حدثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس، قال لشيخ رآه قد جمع الناس على مثل هذا الاجتماع (رقص وغناء..) : يا شيخ إن كان هذا هو طريق الجنة، فأين طريق النار؟)) الاستقامة 1/317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقد اتسع الخرق في هذا الباب، ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة والنفاق، ودعوى أن أولياء الله أفضل من الأنبياء، أو أنهم مستغنون عنهم ... وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شئ، فبعضها زعموا أنه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص، وبعضها زعموا أنه يراد لرياضة النفوس كعشق الصور المحرمة ونظرها، وبعضها زعموا أنه لكسر النفوس والتواضع كشهرة اللباس وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة، وبعضه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة والغناء والنظر المحرم، وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً) (1) 1. إذا تقرر ما سبق، وعرفنا اعتماد السلف الصالح على الكتاب والسنة، وأن طريقهتم في السلوك في غاية الإتباع، وأما أرباب الطرق الصوفية ففي منتهى الإحداث والابتداع. فها هنا سؤال يفرض نفسه وهو إذا لم يتيسر المسلك الشرعي الخالص إلا بنوع من الابتداع فما العمل؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – مجيبًا عن هذا السؤال: ((وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطرق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية..)) (2) .   (1) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص 149، 15. = باختصار، انظر جامع العلوم والحكم 2/133. (2) مجموع الفتاوى 1./364، وله كلام نفيس في مثل هذا المبحث – في اقتضاء الصراط المستقيم 2/616 – الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 1- الوسطية : من المعلوم أن أهل السنة والجماعة هو الوسط في فرق الأمة، فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية، وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، كما أنهم وسط في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج (1) . فإذا كان أهل السنة وسطاً في باب الاعتقاد، فكذلك هم وسط في باب السلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فدين اله بين الغالي فيه والجافي عنه. إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية والوسطية بين الفرق، وكما قال ابن تيمية: ((وكذلك (أهل السنة) في سائر أبواب السنة هم وسط، لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون والأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)) (2) ويقرر الشاطبي مفهوم الوسطية في هذا الدين فيقول: ((الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال.. فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى احد الطرفين، كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعدال فيه.. إلى أن قال:- فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد – وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر – يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين. وطرف التخفيف – وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص – يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يرجع إليه. وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المتبرعين في الدين من مال عن التوسط، فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى، وعليه يجري النظر في الورع والزهد، وأشباههما، وما قابلهما)) (1) . 1 والآن نورد أمثلة على وسطية أهل السنة في السلوك على النحو التالي:- أ- أهل السنة والجماعة وسط في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الوعيدية والمرجئة، فالوعيدية من الخوارج والمعتزلة قد ينكرون المنكر، لكن بنوع من التعدي والإفراط، فجوزوا الخروج على أئمة الجور وقتالهم، مما ترتب عليه أنواع من الفساد والمنكرات أكثر مما أزالوه..   (1) الموافقات 2/163 -168 =باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وأما المرجئة فقد تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طناً أن ذلك من باب ترك الفتنة (1) . فأهل السنة يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، مع مراعاة مقاصد الشريعة، والحرص على لزوم الجماعة والائتلاف، والبعد عن الفرقةوالاختلاف. يقول ابن تيمية: ((أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتال أئمة الجور، والخروج عليهم إذا فعلوا ماهو ظلم، أو ماظنوه هم ظلماً، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظناً أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك، ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي (2) .1 المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان)) (3) . ويقول في موضع آخر: ((الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق   (1) يقول ابن تيمية عن هذا الصنف: ((وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا، وهم قد سقوط في الفتنة.. وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه)) . انتهى ملخصاً. انظر مجموع الفتاوى 28/167. (2) يظهر من مقالة أبي منصور الماتريدي – في تعريف الإيمان – نزعة إرجائية، حيث يقول: إن الإيمان هو ما في القلب، والقول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/51.، وشرح الطحاوية 2/459. ورسالة ((الماتريدية)) لأحمد الحربي ص 453. (3) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 177. (1) مجموع الفتاوى 28/5.8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الجهاد، كهؤلاء القوم المسئول عنهم ((التتار)) ، مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم، إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك، واجتناب إعانة الطائفة التي تغزو معها على كل شئ من معاصي الله، بل يطيعهم في طاعة الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديماً وحديثاً، وهي واجبة على كل مكلف، وهي متوسطة بين طرفي الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم، وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقاً وإن لم يكونوا أبراراً)) (1) . ب- أهل السنة والجماعة وسط في باب الإخلاص بين المرائين والملامية. فالمراؤن يعملون الصالحات بقصد رؤية الناس وطلب مدحهم وثنائهم، وأما الملامية فعلى النقيض من ذلك، فهم يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون نحن متبعون في الباطن (2) . فأهل السنة يعملون الطاعات ابتغاء وجه الله تعالى، فإذا ألقى الله لهم الثناء الحسن في قلوب الناس بذلك، فتلك عاجل بشرى المؤمن، فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه، فقال ((تلك عاجل بشرى للمؤمن)) (3) لقد جمع أهل السنة بين صحة اقصد والإرادة، وصلاح العمل وموافقته للشرع، تحقيقاً لقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً   (1) مجموع الفتاوى 28/5.8. (2) انظر لمعرفة حال ((الملامية)) : تلبيس إبليس ص41.، ومجموع فتاوى ابن تيمية 35/164. ومدا رج السالكين 3/177، 178، وإغاثة اللهفان 1/178. (3) أخرجه مسلم ح (2642) ، وأحمد 5/156، وانظر تفصيل مسألة: سرور الإنسان بمعرفة طاعته في كل من: تفسير ابن كثير 4/559 الآداب الشرعية لابن مفلح 1/148، وجامع العلوم والحكم 1/ 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (الكهف، آية 11.) . ج – أهل السنة والجماعة وسط بين المشتغلين بالعبادات القلبية فقط – كالصوفية -، والمشتغلين بالعبادات الظاهرة فحسب – مثل بعض الفقهاء – فقام أهل السنة بالعبادات الظاهرة والباطنة معاً (1) . 1 يقول ابن تيمية: ((كثر في المتفقهة من ينحرف عن طاعات القلب وعباداته، من الإخلاص لله، والتوكل عليه، والمحبة له، والخشية منه، ونحو ذلك. وكثر في المتفقرة والمتصوفة من ينحرف عن الطاعات الشرعية، فلا يسألوا إذا حصل لهم توحيد القلب وتأهله أن يكون ما أوجبه الله من الصلوات، وشرعه من أواع القراءة والذكر والدعوات أن يتناولوا ما حرم اله من المطاعم، وأن يتعبدوا بالعبادات البدعية من الرهبانية ونحوها، ويعتاضوا بسماع المكاء والتصدية عن سماع القرآن)) (2) . ويقول ابن القيم: ((إن لله على العبد عبوديتين: عبودية باطنة، وعبودية ظاهرة فله على قلبه عبودية، وعلى لسانه وجوارحه عبودية، فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه، ولا يوجد له الثواب وقبول عمله. ولما رأى بعض أرباب القلوب طريقة هؤلاء (الفقهاء) ، انحرف عنها هو إلى أن صرف همه إلى عبودية القلب، وعطل عبودية الجوارح، وقال المقصود (1) ففي العبادات الباطنة – مثلاً – نراهم قد قاموا بها جميعاً خلافاً للمبتدعة. وكما قال مكحول الدمشقي – رحمه الله: - ((من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد. (2) مجموع الفتاوى 2./72،73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قيام القلب بحقيقة الخدمة والجوارح تبع. والطائفتان متقابلتان أعظم تقابل، هؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم، ففسدت عبودية جوارحهم ن والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهراً وباطناً، وقدموا قلوبهم في الخدمة، وجعلوا الأعضاء تبعاً لها، فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود، وهذا هو حقيقة العبودية) (1) . د- أهل السنة وسط بين من يريد من الله ولا يريد الله، وبين من يريد الله ولا يريد منه، فأهل السنة يريدون الله تعالى، ويريدون من الله خلقه، قال تعالى: {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكن أجراً عظيماً} (الأحزاب آية 33) وأما الذين يريدون من الله ولا يريدون الله، فهؤلاء ليس في قلوبهم غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، كحال أكثر المتكلمين، المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر على وجهه في الآخرة، وهم عبيد الأجرة المحضة ن فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس، زمنهم من يصرح بأن إرادة الله تعالى محال (2) . وأما الذين يريدون الله ولا يريدون منه، فكحال الصوفية.. ومنشأ اشتباه واضطراب كلا الفريقين أنهم ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس ... ثم صاروا فريقين، أحدهما: أنكروا رؤية المؤمنين لربهم كالمتكلمين من المعتزلة والجهمية ونحوهم، والفريق الآخر أثبتوا الرؤية، لكن اخطؤا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجاً عن الجنة، فاسقطوا حرمة اسم الجنة (3)   (1) بدائع الفوائد 3 / 229، 23.، وانظر إغاثة اللهفان 1 / 187. (2) انظر تفصيل ذلك في مدا رج السالكين 2 /82. (3) انظر تفصيل ذلك في: مجموع الفتاوى لابن تيمية 1./694- 7..، ومدا رج السالكين 2/ 82، 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 هـ- أهل السنة وسط بين أهل الفجور والفواحش، وأصحاب الرهبانية والتشدد. فأهل الفجور هم المترفون المنعمون، ممن أسرفوا على أنفسهم، فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأما المترهبون فأوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم، فحرموا ما أحل الله من الطيبات. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المتعدين} (المائدة، آية 87) . فنهى سبحانه عن تحريم ما أحل الله من الطيبات، وعن الاعتداء في تناولها وهو مجاوزة الحد، وقد فسر الاعتداء في الزهد والعبادة، بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم، فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا، وقيل: لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس (1) .   (1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/457 * 46.، 1./623. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 3- من معالم أهل السنة في السلوك: موافقة النصوص الشرعية لفظاً ومعنى (2) . فيتأدبون مع المصطلحات الشرعية الدينية، ويستمسكون بألفاظها ومعانيها، ويحققون حدودها وتعريفاتها علماً وعملاً. وسنتحدث عن هذه المسألة من خلال ما يلي: أ- أثنى الله على من عرف حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله، وذم من جهلها فقال سبحانه: {الأعرابُ أشد كفراً ونفاقاً وأجدَرُ أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (التوبة، آية 97) .   (2) أهل السنة وافقوا تلك النصوص لفظاً ومعنى، وهناك من وافق النصوص في المعنى دون اللفظ كمن يتكل في المعاني كالباطنية، وصنف رابع خالف النصوص لفظاً ومعنى كا لملا حدة والكفار. انظر ك منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان حسن 2/692. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 يقول ابن القيم: "معرفة منازل العبودية ومراتبها من تمام معرفة حدود ما انزل الله على رسوله، وقد وصف الله تعالى من لم يعرفها بالجهل والنفاق، فقال تعالى: {الأعرابُ أشد كفراً ونفاقاً وأجدَرُ أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (التوبة، آية 97) . فبمعرفة حدودها دراية والقيام بها رعاية، يستكمل العبد الإيمان ويكون من أهل {إياك نعبد وإياك نستعين} (1) . ويقول أيضاً: " فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها ... واعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلاً" (2) 1. ب – يقرر ابن تيمية الواجب نحو الألفاظ الشرعية فيقول: " الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه، مثل لفظ الإيمان، والبر، والتقوى والصدق، والعدل، والإحسان والصبر، والشكر، والتوكل، والخوف، والرجاء، والحب لله، والطاعة لله وللرسول، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن، فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله، مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله كالكفر والنفاق والكذب، والإثم والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك، فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله، وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه، هذا هو طريق الله وسبيله   (1) مد ارج السالكين 1/140.- بتصرف يسير. (2) الفوائد ص 133= باختصار يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ودينه الصراط المستقيم) (1) . ويقول أيضاَ: " الألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته، ونفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما اخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر.. " (2) . ج- عن تحقيق معنى الأمور السلوكية، والعلم بحدودها وضوابطها الشرعية هو السبب في تمييز تلك الأمور المشروعة من غيرها. فكثيراً ما يشتبه الزهد الشرعي – مثلاً –بالكسل والعجز والبطالة عن الأوامر الشرعية ن وكثيراً ما تشتبه الرغبة الشرعية بالحرص والطمع والعمل الذي ضلّ سعي صاحبه (3) .وكثيراً ما يشتبه التوكل بالإضاعة، فيضيع العبد حظه، طنَّا منه أن ذلك تفويض وتوكل، وإنما هو تضيع (4) . د- إن كان ثمت ألفاظ مجملة (5) في باب الاعتقاد، كالحيز والجوهر والجسم.. الخ، فذلك في باب السلوك توجد ألفاظ مجملة كالتصوف والفناء والفقر ونحوه. وقد تقرر أن موقف السلف الصالح من الألفاظ المجملة في الاعتقاد هو التفصيل، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها، فهو ثابت، وما نُفي بها، فهو منفي، فهم ينظرون في مقصود قائلها فإن كان معنى صحيحاً قُبِل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص الشرعية دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة ن مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم   (1) مجموع الفتاوى 11/25. (2) مجموع الفتاوى 12/133، 114. (3) انظر تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى 1. /617. (4) انظر تفصيل ذلك في مدا رج السالكين 2/123. (5) المقصود بالألفاظ المجملة هي الألفاظ التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة بنفي ولا إثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المقصود معه إن لم يخاطب بها (1) . يقول ابن تيمية – موضحاً الموقف الصحيح من هذه الألفاظ: " وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها، فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول اقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره. ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة" (2) 1. وإذا كان أهل الكلام أحدثوا ألفاظاً مجملة في السلوك، هذه الألفاظ عموماً لا تخلو من مخالفات للكتاب والسنة، إضافة إلى ما فيها من التكلف الشديد، والتعقيد في الألفاظ والمعاني، فوعروا – أي المتكلمون والمتصوفة – الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل، فيطول عليك الطريق، ويوسع لك العبارة، ويأتي بكل لفظ غريب ومعنى أغرب من اللفظ، فإذا وصلت لم تجد معك حاصلاً طائلاً، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنًا (3) . ومع ذلك كله فإن الموقف الصحيح من تلك الألفاظ المجملة في السلوك هو التفصيل، فلا تنفى بإطلاق، كما تثبت بإطلاق، وإنما يستفسر عن مقصود   (1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/3.7، 3.8، 5/299، 3.2، وشرح الطحاوية 1/26.، 261. (2) مجموع الفتاوى 12/114. (3) انظر مدا رج السالكين 3/437.، وشرح الطحاوية 1/238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قائلها، فإن قصد معنى صحيحاً قُبل مع مراعاة التعبير عنه بألفاظ النصوص الشرعية، وإن قصد معنى فاسداً ردَّ. وإليك أقوال بعض الأئمة في هذه المسألة: يقول ابن تيمية: " لفظ الفقر (1) والتصوف قد أُدخل فيها أمور يحبها الله ورسوله، فتلك يؤمر بها وإن سميت فقراً أو تصوفاً، لأن الكتاب والسنة إذا دلّ على استحبابها لم يخرج عن ذلك بأن تسمى باسم آخر، كما يدخل في ذلك أعمال القلوب كالتوبة والصبر والشكر والرضا..، وقد أدخل فيها أمور يكرهها الله ورسوله ن كما يدخل فيه بعضهم نوعاً من الحلول والاتحاد، وآخرون نوعاً من الرهبانية المبتدعة في الإسلام.. فهذا وأمثاله من البدع والضلالات يوجد في المنتسبين إلى طريق الفقر كما يوجد في المنتسبين إلى العلم أنواع من البدع في الاعتقاد والكلام المخالف للكتاب والسنة والتقيد بألفاظ واصطلاحات لا أصل لها في الشريعة والمؤمن الكيس يوافق كل قوم فيما وافقوا فيه الكتاب والسنة وأطاعوا فيه الله ورسوله، ولا يوافقهم فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة ن أو عصوا فيه الله ورسوله.. " (2) . ويقول ابن القيم: " أعلم أن في لسان القوم (31) من الاستعارات، وإطلاق العام وإرادة الخاص، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم، ولهذا يقولون نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة، وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد، ويريدون بها معنى لا فساد فيه،   (1) الفقر – في الكتاب والسنة – ما يقابل الغنى، والمراد به هاهنا الزهد والتصوف. انظر: مجموع الفتاوى 11 / 2.، 21، 27، ومد ارج السالكين 2/ 438 (2) مجموع الفتاوى 11/28، 29 –باختصار. (3) يعني أرباب السلوك والإدارة والتصوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وصار هذا سبباً لفتنة طائفتين تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم، فبدعوهم وضللوهم، وطائفة نظروا إلى مقاصدهم ومغزاهم، فصوبوا تلك العبارات، وصححوا تلك الإشارات، فطالب الحق يقبله ممن كان، ويرد ما خلفه على من كان " (1) . ويقول الشاطبي: " وأما الكلام في دقائق التصوف، فليس ببدعة بإطلاق، ولا هو مما صح بالدليل بإطلاق، بل الأمر ينقسم. ولفظ التصوف لابد من شرحه أولاً، حتى يقع الحكم على أمر مفهوم، لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين " (2) . ثم ذكر – رحمه الله - المعاني الصحيحة والفاسدة للتصوف (3) (4) .   (1) مدا رج السالكين 3/33.، 331 – باختصار يسير، انظر 3/117، 151، 316، 377، 378، وعدة الصابرين ص 151، ومفتاح دار السعادة 1/141. (2) الاعتصام 1/ 265. (3) انظر الاعتصام 1/265-269. (4) مما تجدر الإشارة إليه أن بعض الأئمة أنكروا الألفاظ المجملة سواء في الاعتقاد أو السلوك كالذهبي – رحمه الله (انظر سير أعلام النبلاء 6/86، 2./85، 86 ومختصر العلو ص179) ، بل إن الذهبي أنكر بعض الألفاظ التي استعملها السلف الصالح من باب التوضيح والرد على المخالف مثل: (بذاته) و (حقيقة) (انظر كتاب مختصر العلو للذهبي ص 18، 19، ص 263، 26.، وانظر معجم المناهي اللفظية لبكر أبي زيد ص 179. 258) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 مراعات أحوال المكلفين، وتحقيق الجانب الواقعي العملي ... 4- من المعالم المهمة في باب السلوك: مراعاة أحوال المكلفين، وتحقيق الجانب الواقعي الإيجابي، والابتعاد عن المثالية والسلبية، والاعتناء بالجوانب العملية بعيداً عن الاشتغال فيما لا تحته عمل (5) .   (5) هذا المعلم وثيق الصلة بالوسطية وبينهما تداخل ن لكن لأهميته أفردت له مبحثاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وإليك بيان هذا المعلم من خلال ما يأتي: أ - من سمات السلوك الشرعي: مراعاة أحوال المكلفين وقدراتهم وطبائعهم، والاهتمام بالجانب الواقعي الإيجابي وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشئ من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا " (1) . يقول الحافظ ابن حجر: " قوله: -سددوا) معناه: اقصدوا السداد أي الصواب، وقوله "وقاربوا " أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا " (2) . 1 إن من مزايا هذا الدين وخصائصه: مراعاة أحوال المكلفين، وملائمة طبيعة الإنسان ن بقوته وضعفه، ونوازعه ومشاعره. وقد أشار ابن القيم إلى هذه (الواقعية) بقوله: " لما كان العبد لا ينفك عن الهوى مادام حياً، فإن هواه لازم له، كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، لكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهلكة إلى مواطن الأمن والسلامة، مثاله أن الله سبحانه وتعالى لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة، بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة على أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل على محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً، وكذلك هوى الظفر والغلبة والقهر، لم يأمر بالخروج عنه، بل أمر بصرفه إلى الظفر والقهر والغلبة للباطل وحزبه، وشرع له من أنواع المغالبات بالسباق وغيره مما يمرنه ويعده للظفر " (3) .   (1) أخرجه البخاري ح (6463) . (2) فتح الباري 11/ 297، 298- باختصار. (3) روضة المحبين ص11، وانظر الاستقامة لابن تيمية 2/156، والاعتصام للشاطبي 1/273،274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ولقد كان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – مدركًا لهذا الأمر، فلما قال له ابنه عبد الملك: يا أبة ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل فوالله ما كنت أبالي ولو غلت بي وبك القدور في ذلك. فقال عمر: يا بني إنما أنا أروض الناس رياضة الصعب. إني لأريد أن احيي الأمر من العدل فأوخره حتى اخرج معه طمعاً من الدنيا فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه) (1) . وللحسن البصري مقالة نفسية في هذا المقام، نوردها بتمامها حيث يقول رحمه الله: "إن هذا الدين دين واصب، وأنه من لا يصبر عليه يدعه، وإن الحق ثقيل، وإن الإنسان ضعيف، وكان يقال: ليأخذ أحدكم من العمل ما يطيق، فإنه لا يدري ما قدر أجله، وإن العبد ركب بنفسه العنف، وكلف نفسه ما لا يطيق أوشك أن يسيِّب ذلك كله، حتى لعله لا يقيم الفريضة، وإذا ركب نفسه التيسير والتخفيف وكلف نفسه ما تطيق كان أكيس وأمنعها من هذا العدو، وكان يقال شر السير الحقحقة (2) " (3) . وهذا أبو حازم سلمة بن دينار – رحمه الله – يقر هذه "الواقعية" فيجمع بين موافقة الفطرة وملائمة نوازع الإنسان، مع الاعتناء بترويض النفس وتهذيبها على طاعة الله تعالى " فلما جاء رجل لأبي حازم وقال: إني لأجد شيئاً يحزنني. قال أبو حازم: وما هو يا ابن أخي؟ قال: حبي الدنيا. فقال لي: اعلم يا ابن أخي إن هذا الشئ ما أعاتب نفسي على حب شئ حببه الله تعالى إلي، لأن الله عز وجل قد حبب هذه الدنيا إلينا ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا،   (1) الزهد للإمام أحمد ص 3.. والحليلة 5/ 281، 283، 354، وانظر الموافقات للشاطبي 2/94. (2) الحقحقة: المتعب من السير. (3) الزهد لابن المبارك ص 468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أن لا يدعونا حبها إلى أن نأخذ شيئاً من شئ يكرهه الله، ولا أن نمنع شيئاً من شئ أحبه الله، فإذا نحن فعلنا ذلك لا يضرنا حبنا إياها " (1) . 1 وقد أعرض طائفة من الصوفية عن تلك الواقعية في الإنسان، فلم يلتفوا إلى نوازع الإنسان وغرائزه، وخالفوا الفطرة السوية، ولذا تعذر عليهم قمع تلك الغرائز، ثم انتكسوا إلى الإغراق في الشهوات والإباحة. ولقد تحدث ابن الجوزي عن هذا الصنف مبيناً سبب انحرافهم فقال: " إن قوماً منهم وقع لهم أن المراد رياضة النفوس لتخلص من اكدارها المردية، فلما راضوها مدة ورأوا تعذر الصفاء، قالوا: مالنا نتعب أنفسنا في أمر لا يحصل لبشر، فتركوا العمل. وكشف هذا التلبيس أنهم ظنوا أن المراد قمع ما في البواطن من الصفات البشرية مثل قمع الشهوة والغضب وغير ذلك، وليس هذا مراد الشرع، ولا يتصور إزالة ما في الطبع بالرياضة، وإنما خُلقت الشهوات لفائدة، إذ لولا شهوة الطعام هلك الناس، ولولا شهوة النكاح انقطع النسل، ولولا الغضب لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يؤذيه، وإنما المراد من الرياضة كف النفس ما يؤذيه، وإنما المراد الرياضة كف النفس عن الهوى، وإنما تنتهي عما تطلبه، ولو كان طلبه قد زال عن طبعها ما احتاج الإنسان إلى نهيها، وقد قال الله عز وجل: {والكاظمين الغيظ} (آل عمران، آية 134) . وما قال: والفاقدين الغيظ، والكظم رد الغيظ.. " (2) . إضافة إلى ذلك فإن بعض أرباب الزهد والسلوك قد أهملوا هذا الجانب لواقعي، وحملوا أنفسهم ما لاقبل لهم به، حيث قالوا كلمات لم يفكروا في عواقبها وآثارها.   (1) الحلية لأبي نعيم 3/ 244، وانظر الرعاية للمحاسبي ص249. (2) تلبيس إبليس ص 415، وانظر ص 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 كما يُذكر عن سمنون المحب أنه كان يقول: وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فاختبرني فأخذ الأسْر من ساعته، أي حُصِر بوله، فكان يدور على المكاتب ويفرِّق الجوز على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمكم الكذّّاب. وفي رواية أنه قال: يارب قد رضيت بكل ما تقضيه علي، فاحتُبس بوله أربعة عشر يوماً، فكان يتلوى كما تتلوى الحية على الرمل، يتلوى يميناً شمالاً، فلما أطلق بوله قال: يا رب تبت إليك (1) . يقول ابن تيمية معلقاً على هذه الحكاية وأمثالها: "وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلاً، ولكن قد يُستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة ونحو ذلك، وما معه من لتقصير في معرفة حقوق الطريق.. والرسل صلوات الله عليهم أعلم بطريق سبيل الله وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصاً مخطئاً محروماً. ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال: هل كنت دعوت الله بشئ؟ فقال: سبحان الله لا تستطيعه – أو لا تطيقه – هلاّ قَلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (2") (3) 1 ". حرص السلف الصالح على ما ينفع، فاشتغلوا فيما تحته عمل، واجتهدوا في طاعة الله تعالى والإتباع، وانقادوا لشرع الله وحكمه، دون الخوض في   (1) انظر حلية الأولياء 1./ 3.9، 31.. ومجموع الفتاوى لابن تيمية 1./ 241، (2) أخرجه مسلم، ك الذكر، ح (2688) . (3) الاستقامة 2/ 92، وانظر مد ارج السالكين 2/ 311 – 313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إشارات صوفية، أو مسالك كلامية. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه " (1) . " دخل الحسن البصري – رحمه الله – المسجد فقعد إلى جنب حلقة يتكلمون، فأنصت لحديثهم، ثم قال: هؤلاء قوم ملوا العبادة، ووجدوا الكلام أهون عليهم، وقلّ ورعهم فتكلموا " (2". " وقال الأوزاعي – رحمه الله -:عن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً، وإن المنافق يقول كثيراً ويعمل قليلاً " (3) . " وكان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه.. ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل , لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل " (4) " ولما سئل الإمام مالك عن طلب العلم، قال: حسن جميل، لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه " (5) . " وتحقيقاً للاشتغال بما هو أنفع كره الإمام احمد بن حنبل – رحمه الله – توسعة الكلام في دقائق أعمال القلوب والتي تنقل عن الصحابة والتابعين (6) إضافة إلى أن الاشتغال بتلك الدقائق والآفات الخفية ربما أوقع فيما هو أشك منها كما نبه على ذلك الإمام ابن القيم – رحمه الله – فقال:   (1) أخرجه البخاري: ك الرقاق باب القصد والمداومة على العم (6462) . (2) حلية الأولياء 2/ 157 = باختصار يسير. (3) المرجع السابق 6/ 142، وسير أعلام النبلاء 7/125. (4) جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/95. (5) حلية الأولياء 6/319، وسير أعلام النبلاء 8 / 96. (6) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 "فلا إله إلا الله. كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه؟ فبين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب .... ثم بين القلب وبين الرب مسافة، وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه، من كبر وإعجاب، ورؤية العمل، ونسيان المنة، وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأي العجب، ومن رحمة الله تعالى سترها على أكثر العمال، إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها، من اليأس والقنوط والاستسحار، وترك العمل، وخمود العزم، وفتور الهمة، ولهذا لما ظهرت " رعاية " (1) 1 أبي عبد الله بن الحارث بن أسد المحاسبي، واشتغل بها العباد، عطلت منهم مساجد كانوا يعمرونها، بالعبادة، والطبيب الحاذق يعلم كيف يطبّ النفوس، فلا يعمر قصراً ويهدم مصراً (2") (3) ويقول في موضع آخر: " وسألت يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه المسألة (تهذيب) الأخلاق وترويضها " وقطع الآفات، والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها؟ فقال لي جملة كلام: النفس مثل الباطوس – وهو جبّ القذر – كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه، وتعبره وتجوزه، فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإن لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئاً ظهر غيره. فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها،   (1) يعني كتاب (الرعاية لحقوق الله) للحارث المحاسبي. (2) مدا رج السالكين 1/ 439 = باختصار. (3) ومن هذا القبيل ما ذكره الغزالي في ((الإحياء)) أنه كان يجتاز الإنسان في سكك البصرة عند الصبح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 والاشتغال بقتلها انقطع، ول يمنه السفر قط، ولتكن همتك المسير، والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جداً، وأثنى على قائله " (1) . كما أن الاشتغال بتلك الدقائق ينبغي أن يكون مسبوقاً بما هو آكد فرضاً من فعل الواجبات الظاهرة وترك المحرمات الظاهرة. ولذا يقول ابن رجب – رحمه الله:- " وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شئ من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل يُنكر عليه، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألوني عن دم العوض، وقد قتلوا الحسين " (2)   (1) مدا رج السالكين 2/ 313، 314. (2) جامع العلوم والحكم 1/283. (3) سير أعلام النبلاء 8/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مراعات قدرات الناس في فعل الطاعات ... 5- ومن معالم السلوك الشرعي: مراعاة تفاوت قدرات الناس في فعل الطالعات، وذلك بسبب اختلاف استعداداتهم، وتنوع مواهبهم وميولهم. وقد قرر الإمام مالك بن انس – رحمه الله – هذا المعْلَم وذلك لما كتب عبد الله العُمري العابد إلى مالك يحضّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشْر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر (3) .   (3) سير أعلام النبلاء 8/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ولما سئل ابن تيمية – رحمه الله – عن الأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل.. هل يبدأ بالزهد؟ أو بالعلم؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته؟ أجاب بقوله: " الناس يتفاضلون في هذا الباب، فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه ن ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن، آية 16) . وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقاً، إذا كان متعذراً في حقه أو متعسراً يفوته ما هو أفضل له وأنفع كمن يقرأ القرآن فيتدبره وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه، ولا ينتفع منها بعمل أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة، فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، يفوته ما هو أنفع له " (1) . وقال – في موضع آخر:- "وأما ما سألت عنه أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد ..... " (2) . وتحدث ابن القيم عن هذا المعلم فكان مما قاله: " والمقصود أن الطريق إلى الله واحد، فإنه الحق المبين، والحق واحد، مرجعه على واحد. وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق   (1) مجموع الفتاوى 7/ 651، 652. (2) مجموع الفتاوى 1./66.، وانظر مجموع الفتاوى 24/246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 إلى الباطل فهو باطل. فالباطل متعدد، وطرقه متعددة، وأما ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق على الله متعددة متنوعة، جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلاً , فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من حدة الطريق. وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي الله، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، كلها طرق مرضاته، فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جداً لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم. وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، وقد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك إلى الله، ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته ... ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى انه قد غبن وخسر. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها ومضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره. ومن الناس من يكون كريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله تعالى في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة ونصب عينه يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك، إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين..يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربُها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت " (1) .1 وهذا الصنف الأخير- الذي ذكره ابن القيم آنفاً. هم الصد يقون. سلكوا كل أبواب الخير، وحققوا جميع خصال البر وأعماله (2) ، كما قال تعالى: {ليس البر أن تولّوا وجوهكم قِبلَ المشرقِ والمغربِ ولكنّ البرَّ من آمن بالله واليوم الآخرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيين وآتى المالَ على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيلِ والسائلين وفي الرقابِ وأقام الصلاة َ وآتى الزكاةَ والموفونَ بعهدِهم إذا عاهدوا والصابرين في البأسِ والضراءِ وحين البأسِ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة، آية 177) . وخير مثال على الصديقين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه والذي كان له السبق في جميع القربات والصالحات. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم اليوم صائماً: قال أبو بكر رضي اله عنه: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟. قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟   (1) طريق الهجرتين ص 178، 179 – باختصار، وانظر مدا رج السالكين 3/17، والفوائد ص 38. (2) انظر تفصيل ذلك في مدا رج السالكين 2/275، ومقدمة المجموع للنووي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة " (1) . 1 كما أن هذا الصنف الكريم هم أصحاب التعبد المطلق ن فليس لهم غرض في تعبد بعينه يؤثر على غيره، بل غرضهم تتبع مرضاة الرب تعالى في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته (2) . هذا ما تيسر جمعه والإطلاع عليه من تلك المعالم والله المستعان.   (1) أخرجه مسلم ك الزكاة 2/713 ح (1.28) . (2) انظر توضيح ذلك في مدا رج السالكين 1/88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 موضوعات سلوكية أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق ... وضوعات سلوكية يتضمن هذا القسم نماذج مختصرة لموضوعات سلوكية صفات أخلاقية لأهل السنة، وإذا كان القسم الأول يعدّ تنظيراً وعلماً، فإن هذا القسم يعدّ تطبيقاً وعملاً، ولذا سنورد في هذا القسم أمثلة واقعية وأحداثاً عملية من حياة السلف الصالح، كما نذكر ما أثر عنهم من مقولات جامعة ونافعة في بعض جوانب السلوك، لعل الله تعالى أن يجعل ذلك حافزاً على التأسي بهم والسير على نهجهم، وكما قال حمدون القصار: ((من نظر سيرة السلف عرف تقصيره وتخلُّفه عن درجات الرجال)) (1) 1. ((وذكر عند مخلد بن الحسين أخلاق الصالحين)) فقال: لا تعرضنَّ لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد (2)   (1) صفة الصفوة 4/ 122. (2) المرجع السابق 4/ 266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق من الصفات السلوكية المهمة لأهل السنة أنهم يعلمون الحق ويرحمون الخلق، فإنهم أصحاب هدي وأتباع، وأرباب عمل وإقتداء، ومن ثم كانوا أعلم الناس بالحق – حيث يقبلون الحق حيث كان ومع من كان – وأحرص الناس على تبليغ الدين والدعوة إليه، ومنابذة أهل الأهواء والبدع،وفي نفس الوقت فإنهم يرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى، ولذا كانوا أوسع الناس رحمةً وأعظمهم شفقة، وأصدقهم نصحاً. يقول ابن تيمية في هذا المقام: " وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق" (11) . ويقول ابن رجب في هذا الصدد: "كان خلفاء الرسل وأتباعهم من أمراء العدل وأتباعهم وقضاتهم لا يدعون   (1) الرد على البكري ص 256، 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله وحده وإفراده بالعبودية والإلهية ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده. وكانت الرسل وأتباعهم يصبرون على الأذى في الدعوة إلى الله ويتحملون في تنفيذ أوامر الله من الخلق غاية المشقة وهم صابرون بل راضون بذلك، كما كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لأبيه في خلافته: إذا حرص على تنفيذ الحق وإقامة العدل يا أبت لوددت ُ أني غلت بي وبك القدور في الله عز وجل، وقال بعض الصالحين (1) .: وددت أن جسمي قُرِض بالمقاريض وأن هذا الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل " ومعنى هذا أن صاحب هذا القول قد يكون لحظ نصح الخلق والشفقة عليهم من عذاب الله بأذى نفسه، وقد يكون لحظ جلال الله وعظمته وما يستحقه من الإجلال والإكرام والطاعة والمحبة، فود أن الخلق كلهم قاموا بذلك وإن حصل له في نفسه غاية الضرر " (2) . إن التزام أهل السنة بالعلم والعدل أورثهم هذه الخصلة الرفيعة، فمسلك أهل السنة قائم على العلم والعدل لا الجهل والظلم، حتى كان أهل السنة لكل طائفة من المبتدعة خير من بعضهم لبعض " بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض. وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون أنتم تنصفونا ما لا ينصف بعضنا بعضاً" (3) . لقد تلقي أهل السنة هذه الصفة الحميدة من صاحب الخلق العظيم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالحق وأعظم الناس رحمةً ورأفة، فمن أجل إظهار الحق بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق   (1) هو زهير بن عبد الرحمن البابي،وانظر حلية الأولياء 1./15. . (2) شرح حديث ((ما ذئبان جائعان)) ص19، وانظر جامع العلوم والحكم 2/255. (3) منهاج السنة النبوي في نقض كلام الشيعة والقدرية 5/ 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 جهاده، ومن أجل نصرة الحق نجده صلى الله عليه وسلم يغضب أشد الغضب فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، وكذلك حين رأى بعض أصحابه – رضي الله عنهم – يتخاصمون قي القدر، ثم قال: " مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضاً، وإنما نزل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه " (1) 1. ومع ذلك كله فقد كان صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، قال تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خير رسول الله صلى اله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثماً، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها (2) . وتأمل – أخي القارئ – ما لقيه صلى الله عليه وسلم من أنواع الأذى في سبيل دعوته ونصحه للخلق، ولما سألته عائشة رضي الله عنها قائلة: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد، فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق   (1) أخرجه أحمد 2/ 181، 195، وابن ماجه ح (85) . (2) أخرجه البخاري، ك المناقب ح (356.) ، ومسلم، ك الفضائل 5ح (2327) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا " (1) . بل إن الرحمة بالخلق والتمسك بالحق خصلة من خصال الأنبياء كما هو ظاهر في قصصهم عليهم السلام، ومثال ذلك ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من أنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (2) . ولقد سار سلف الأمة على ذلك، فهذا أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول الحق ويرحم الخلق ن فإنه لما رأى سبعين رأساً من الخوارج وقد جزت تلك الرؤوس ونُصبت على درج دمشق، فقال رضي الله عنه إعلاماً بالحق: سبحان الله، ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء. ثم بكى قائلاً: بكيت ُ رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام (3) . 1 وكان أويس القرني – رحمه الله – إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضْل من الطعام والشراب، ثم يقول: اللهم من مات جوعاً فلا تؤخذني به، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به (4) . وكان عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – يقول: يا ليتني عملتُ فيكم بكتاب الله وعملتم به ن فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو حتى يكون آخر شئ منها خروج نفسي (5) .   (1) أخرجه البخاري،ك بدء الخلق، ح (3231) ، ومسلم ن ك الجهاد ح (1795) . (2) أخرجه البخاري ك بدء الخلق،ح (3231) ، ومسلم، ك الجهاد ح (1795) .د (3) أنظر تفصيل ك أحاديث الأنبياء (3477) ، ومسلم ح (1792) (4) صفة الصفوة 3/ 54. (5) انظر جامع العلوم والحكم 1/ 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: إني لأستحي من الله أن أشبع حتى أرى العدل قد بسط، وأرى الحق قد قام (1) . وهذا الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل – رحمه الله – يثبت على كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، فيقول بكل يقين: القرآن كلا الله غير مخلوق، ويصبر الإمام على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة – آنذاك – ومن تبعهم من خلفاء كالمأمون والمعتصم والواثق. " ولما جاءه أحدهم وهو في السجن فقال: الإمام أحمد: عن كان هذا عقلك فقد استرحت " (1) . ومما قاله الإمام الذهبي – رحمه الله – في شأن محنة الإمام احمد: " الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به ن والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن بهما كاملاً، فهو صديق، ومن ضَعُف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله " (2) . وبقد كان الإمام أحمد بن حنبل رجلاً ليناً، لكن رأى الناس يجيبون ويعرضون عن الحق، عندئذ ذهب اللين، وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه (3) . ومع ذلك البطش والجلد والسجن ففي حل إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق – يعني المعتصم – في حل، ورأيت لله يقول: {وليعفو اويصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله   (1) حلية الأولياء 8 / 1.8. (2) سير أعلام النبلاء 9 / 234. (3) المرجع السابق 9 / 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 لكم} وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح، - ثم قال – وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك؟ " (1) . وهناك مثالاً لآخر لأئمة أهل السنة، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر عقيدة السلف الصالح، ويجاهد بلسانه وسنانه طوائف الزيغ والانحراف، فيرد على أهل الكتاب، ويقمع أكاذيب الباطنية، ويناظر الصوفية وأهل الكلام .... وكل ذلك من أجل بيان الحق وتبليغه. وفي نفس الوقت فقد كان رحمه الله من أعظم الناس شفقة وإحساناً، وإليك المشاهد الدالة على ذلك: يقول تلميذه البار ابن القيم: " جئت يوماً مبشراً له (أي لابن تيمية) بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له " (12) . ولما مرض ابن تيمية – مرض الوفاة – دخل عليه أحدهم فاعتذر له، والتمس منه أن يحلله فأجابه الشيخ: ((إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق. وإني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، كونه فعل ذلك مقلداً غيره.." (3) . وقال أحد خصومه – ابن مخلوف -:" ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا " (4) . أخيراً أدعو إخواني إلى ضرورة معرفة الحق ورحمة الخلق، وأن نهتم بتحقيق العلم والعدل في هذا الشأن، وأن نسعى جادين صادقين إلى تحقيق منهج أهل السنة عقيدة وسلوكاً والله المستعان.   (1) المرجع السابق 9 /261، وانظر مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 221 (2) مدا رج السالكين 2/ 345. (3) الأعلام العلية ص 82. (4) البداية والنهاية 14 / 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 2- تزكية النفوس في خضم شؤون الحياة المعاصرة، وكثرة مشاغلها وتعدد متطلباتها، قد ننسى أن نتعاهد أنفسنا بالتربية والتزكية، ومن ثم تقسو القلوب، ونتثاقل عن الباقيات الصالحات، ونركن إلى متاع الدنيا وزخرفها. ولأجل ذلك نتحدث عن تزكية النفوس من خلال ما يلي: أ - أهمية الموضوع: مما يوضح أهمية هذا الموضوع أن الله تعالى أقسم أقساما كثيرة ومتوالية على أن صلاح العبد وفلاحه منوط بتزكية نفسه، فقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس، آية 7-1.) . وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى، آية 14 -15) . وكان الأنبياء عليهم السلام يدعون إلى تزكية النفوس، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات، آية 18، 19) . وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة، آية 2) وتزكية النفس سبب الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، كما قال عز وجل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه، آية 75، 76) . أي طهّر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب (11) . وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم آت نفسي تقواها. وزكِّها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها " (2) . أ - معنى التزكية: التزكية لغة: الطهارة والنماء والزيادة. والمراد بها ها هنا: إصلاح النفوس وتطهيرها، عن طريق العلم النافع. والعمل الصالح، وفعل المأمورات وترك المحظورات. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى تزكية النفس بقوله:" أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان ". ونسوق الحديث بتمامه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان. من عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم، فإن الله عز وجل لم يسألكم خيرها، ولم يأمركم بشرها،وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان " (3) 2. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى الخصال الموجبة لذوق طعم الإيمان،   (1) انظر تفسير ابن كثير 3/ 156. (2) أخرجه مسلم. ك الذكر والدعاء ح (2722) . (3) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير 1/ 2.1، والبيهقي في السنن 4 /95، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) ح (1.46) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57